والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ". (1) .
فينبغي للداعية أن يبين للناس ذلك بيانا واضحا، ويحثهم على هجر المعاصي والسيئات أيضا؛ لأن هجر المعاصي من أكمل الهجرة إلى الله عز وجل، وخاصة في هذه الأزمان التي قد كثرت فيها الذنوب والموبقات؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (2) وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أكمل الناس في الهجرة، والجهاد، والإِيمان والإِسلام فقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب» (3) .
ثامنا: من صفات الداعية: الحرص على التثبت في طلب الحديث: دل هذان الحديثان على حرص السلف الصالح على التثبت في نقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا روى أبو عثمان النهدي هذا الحديث عن مجاشع بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لقي أبو عثمان النهدي أبا معبد أخا مجاشع فسأله عن هذا الحديث؛ لأنه حضر مع أخيه عند النبي صلى الله عليه وسلم. فقال أبو معبد: " صدق مجاشع " وهذا من حرص أبي عثمان على التأكد والتثبت وزيادة اليقين؛ فينبغي للداعية أن يتثبت في نقل الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) .
تاسعا: من صفات الداعية: الصدق: إن الصدق في القول والفعل، والنية من صفات الداعية المخلص؛ ولهذا
_________
(1) سمعته من سماحته أثناء شرحه للأحاديث رقم 4305- 4312 من صحيح البخاري، في يوم الخميس الموافق 14 / 7 / 1416 هـ بالجامع الكبير بالرياض.
(2) متفق عليه؛ من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، البخاري واللفظ له، كتاب الإِيمان، باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، 1 / 10، برقم 10، ومسلم، كتاب الإِيمان، باب تفاضل الإِسلام وأي أموره أفضل، 1 / 65، برقم 40.
(3) أحمد في المسند 6 / 21 من حديث فضالة بن عبيد الله رضي الله عنه. قال العلامة الألباني في إسناد الإِمام أحمد " وهذا إسناد صحيح " رجاله كلهم ثقات. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة له، 2 / 81، برقم 549.
(4) انظر: الحديث رقم 21، الدرس العاشر.(1/576)
صَدَقَ مجَاشِع بن مسعود رضي الله عنه حينما حدث أبا عثمان النهدي أنه جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الهجرة، فلم يبايعه صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال: «لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإِسلام» فأراد أبو عثمان التثبت عن صدق مجاشع فسأل أخاه عن حقيقة القصة فقال: صدق مجاشع.
وهذا يعطي الداعية قوة العزيمة في الرغبة في الصدق؛ لأن المخلصين من المدعوين يتثبتون فيما يسمعون منه، فليكن على حذر، طاعة لله عز وجل، حتى يكون ثقة عند المدعوين وينفع الله بعلمه. والله أعلم (1) .
عاشرا: من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة الفتح: ظهر ذكر غزوة الفتح في هذين الحديثين؛ لقول مجاشع رضي الله عنه: " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بأخي بعد الفتح فقلت: يا رسول الله جئتك بأخي تبايعه على الهجرة. . . " وهذا يؤكد أهمية ذكر تاريخ الدعوة، والله أعلم (2) .
[باب عزم الإمام على الناس فيما يطيقون]
[حديث عبد الله بن مسثعود لم يكن النبي يعزم علينا في أمر إلا مرة حتى] نفعله
_________
(1) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث، ورقم 9، الدرس الرابع.
(2) انظر: الحديث رقم 171، الدرس الثاني.(1/577)
111 - باب عزمِ الإمام على الناسِ فِيمَا يطِيقون 102 [ص:2964] حَدَّثَنَا عثْمَان بْن أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا جَرِير، عَنْ مَنْصورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ عَبْد اللهِ (1) رضي الله عنه: " لَقَدْ أتانِي اليَوْمَ رَجل فَسَألنِي عَنْ أَمرٍ مَا دَرَيْت مَا أَردّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجلا مؤدِيا نَشِيطا يَخْرج مَعَ أمَرَائِنَا فِي الْمَغَازِي، فيَعْزِم عَلَيْنَا فِي أَشْيَاءَ لاَ نحْصِيها؟ فَقلْت لَه: وَاللهِ مَا أدْرِي مَا أقول لَكَ: إِلاَّ أنا كنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَسَى أَنْ لاَ يَعْزِمَ عَلَيْنَا فِي أَمْرٍ إِلاَّ مَرَّة حَتَّى نَفْعَلَه، وإِنَّ أَحَدَكمْ لَنْ يَزَالَ بِخَيْرٍ مَا اتَّقى اللهَ. وَإِذَا شَكَّ فِي نَفْسِهِ شَيء سَأَلَ رِجلا فَشَفَاه مِنْه، وَأوْشَكَ أَنْ لاَ تَجِدوه. وَالَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هوَ، مَا أَذْكر مَا غبَرَ مِنَ الدّنْيَا إِلاَّ كَالثَّغبِ شرِبَ صَفْوه، وَتقِيَ كَدَره ".
_________
(1) عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب، الإِمام الحبر، فقيه الأمة، أبو عبد الرحمن الهذلي، المكي، المهاجري، البدري، الكوفي رضي الله عنه، كان من السابقين الأولين، ومن النجباء العالمين، شهد بدرا، وهاجر الهجرتين، وكان سادس من أسلم من السابقين وهو أول من جهر بالقرآن في مكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد جميع المشاهد كلها، وشهد اليرموك، وهو الذي أجهز على أبي جهل بوم بدر، وهو صاحب نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان كثير الدخول عليه والخدمة له، روى علما كثيرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منه: ثمانمائة وثمانية وأربعون حديثا، اتفق البخاري ومسلم على أربعة وستين منها وانفرد البخاري بواحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين، وكان أعلم الناس بالقرآن قال رضي الله عنه: " والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فِيمَن أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه " [البخاري برقم 5002، ومسلم برقم 2463، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " استقرئوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبَي بن كعب، ومعاذ بن جبل " [البخاري برقم 3760، ومسلم برقم 2464] .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقرأ علي القرآن " قال فقلت: " أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: " إني أشتهي أن أسمعه من غيري " قال: فقرأت النساء حتى إذا بلغت (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤلَاءِ شَهِيدا) [النساء: 41] ، رفعت رأسي- أو غمزني رجل في جنبي فرفعت رأسي- فرأيت دموعه تسيل. [البخاري برقم 5055 و 5056، ومسلم برقم 800] ، وقال عنه صلى الله عليه وسلم: " لرجل عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد " [الحاكم 1 / 114، وأحمد 1 / 114، 420] وقد بعثه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الكوفة وقال: " إنني قد بعثت إليكم عمارا أميرا، وابن مسعود معلما ووزيرا، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أهل بدر، فاسمعوا لهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي " [الحاكم وصححه ووافقه الذهبي 3 / 388] . وكان يقول صلى الله عليه وسلم: " من أراد الآخرة أضر بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة، يا قوم فاضروا بالفاني على الباقي " نزل الكوفة وتوفي بها سنة ثنتين وثلاثين، وقيل سنة ثلاث وثلاثين، وقيل عاد إلى المدينة وتوفي بها ودفن في البقيع، واتفقوا على أنه توفي وهو ابن بضع وستين سنة رضي الله عنه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1 / 288، وسير أعلام النبلاء للذهبي 1 / 461- 500. والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 369.(1/578)
* شرح غريب الحديث: * " مؤْدِيا " أي تام السلاح كامل أداة الحرب. (1) .
* " فشفاه " الشفاء هنا شفاء القلب والنفس بالسؤال والحصول على الجواب الصحيح الذي يزيل مرض الشك والتردد (2) .
* " ما غَبَرَ من الدنيا " يصلح لما مضى ولما بقي (3) .
* " كالثغب " الثَّغْب: الموضع المطمئن في أعلى الجبل يستنقع فيه ماء المطر، وقيل: هو غدير في غِلَظٍ من الأرض، أو على صخرة ويكون قليلا. (4) .
* " لا نحصيها " أي: لا نطيقها، من قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20] أي: لن تطيقوا قيام الليل (5) .
* " صفوه " يقال: صفا، يصفو صفوا وصفاء: خلص من الكدر (6) .
* " كدره " يقال: كَدِرَ الماء، نقيض صفا فهو كَدِر (7) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أهمية إخبار الداعية أصحابه بما ينفعهم.
2 - الأخذ بالأسباب: لا ينافي التوكل.
3 - من صفات الداعية: النشاط.
_________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الهمزة مع الدال، مادة: " أدا " 1 / 32، وانظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 67.
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الشين مع الفاء، مادة: " شفا " 2 / 488، وانظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 201.
(3) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 67.
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الثاء مع الغين، مادة: " ثغب " 1 / 213.
(5) انظر: الإفصاح عن معاني الصحاح، لابن هبيرة، 2 / 92، والآية 20 من سورة المزمل.
(6) انظر: المعجم الوسيط، معجم اللغة العربية، مادة: " صفا " 1 / 517.
(7) انظر: المرجع السابق، مادة: " كدر " 2 / 779.(1/579)
4 - من صفات الداعية: الحرص على الدعوة والجهاد.
5 - من صفات الداعية: التيسير على المدعوين.
6 - من صفات الداعية: الورع والتوقف في الفتوى عند الإِشكال.
7 - من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم.
8 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
9 - أهمية: طاعة ولاة أمر المسلمين بالمعروف.
10 - من صفات الداعية: التقوى.
11 - من صفات الداعية: اليقين.
12 - أهمية السؤال في تحصيل العلم.
13 - من أساليب الدعوة: التشبيه.
14 - من صفات الداعية؛ الزهد.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: أهمية إخبار الداعية أصحابه بما ينفعهم: دل هذا الحديث على أهمية إخبار الداعية أصحابه وأتباعه بما ينفعهم؛ ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لأتباعه وأصحابه: " لقد أتاني اليوم رجل فسألني عن أمر ما دريت ما أرد عليه. . . " ثم أخبرهم بما قال الرجل وبما أفتاه، وأرشده إلى حسن الاقتداء بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فينبغي للداعية أن يخبر أصحابه وأتباعه بالفوائد التي سئل عنها، ولم يسمعوها على حسب الحاجة والفائدة المرجوة، حتى تعم الفوائد وينتشر العلم (1) .
ثانيا: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: إن الأخذ بالأسباب من التوكل ولا ينافيه؛ ولهذا جاء إلى ابن مسعود رضي الله عنه هذا الرجل وقال: " أرأيت مؤديا " أي كامل أداة الحرب، فقد أخذ بالأسباب
_________
(1) انظر: فنح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر 6 / 119، وعمدة القاري للعيني 14 / 226.(1/580)
الظاهرة؛ لعلمه بأنها من التوكل، ولم ينكر عليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ما صنع (1) .
ثالثا: من صفات الداعية: النشاط: لا شك أن النشاط يبعث على الهمم العالية؛ ولهذا جاء هذا الرجل إلى ابن مسعود - وهو نشيط- متأهبا لما يوجِّهه عبد الله رضي الله عنه إليه، وقال: " أرأيت رجلا مؤديا نشيطا " فذكر صفة النشاط لهذا الرجل الخارج في سبيل الله عز وجل، وهذا يؤكد على أهمية النشاط وعدم الكسل والخمول، والله المستعان (2) .
رابعا: من صفات الداعية: الحرص على الدعوة والجهاد: ظهر في هذا الحديث أهمية الحرص على الدعوة والجهاد في سبيل الله عز وجل ولهذا الحرص جاء هذا الرجل يسأل بقوله: " أرأيت رجلا مؤديا نشيطا يخرج مع أمرائنا في المغازي " وهذا يدل على نشاط هذا الخارج واستعداده، وحرصه على الجهاد والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
فينبغي للداعية أن يكون حريصا على دعوة الناس إلى الخير (3) .
خامسا: من صفات الداعية: التيسير على المدعوين: دل هذا الحديث على أنه ينبغي لكل من تولىَّ أمرا من أمور المسلمين أن لا يشق عليهم، ولا يشدد عليهم، ولا يأمرهم بما لا يطيقون؛ ولهذا جاء في هذا الحديث: " فيعزم علينا في أشياء لا نحصيها "، والمعنى أن الأمير يشدد علينا في أشياء لا نطيقها؛ قال الإِمام ابن هبيرة رحمه الله: " يستحب لأمراء الجيش أن لا يكثروا العزمات على المجاهدين، فيعرضوهم لبعض المخالفة، بل ليخففوا عنهم ما استطاعوا، وليشاوروهم في الأمور، ويعرِّفوهم مطالع الأحوال التي عليها تبنى وجوه التدبير للحرب " (4) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 30، الدرس الخامس.
(2) انظر: الحديث رقم 14، الدرس الرابع، وحديث رقم 29، الدرس الثالث.
(3) انظر: الحديث رقم 1، الدرس الأول، ورقم 36، الدرس الرابع.
(4) الإفصاح عن معاني الصحاح 2 / 92، وانظر: إرشاد الساري للقسطلاني، 5 / 122، وعمدة القاري للعيني 14 / 226.(1/581)
فينبغي للداعية أن لا يشدد ولا يشق على الناس؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم محذرا عن التشديد على أمته: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به» (1) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث من أصحابه في بعض أموره قال: «بشروا ولا تنفروا، ويسرِّوا ولا تعسرِّوا» (2) .
سادسا: من صفات الداعية: الورع والتوقف في الفتوى عند الإشكال: ظهر في هذا الحديث أن من الصفات الحميدة: الورع؛ ولهذا توقف عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه في الإِفتاء عندما أشكل عليه الأمر؛ قال الإِمام ابن هبيرة رحمه الله: " في هذا الحديث ورع ابن مسعود وترفعه عندما لم يعلم " (3) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ويستفاد منه التوقف في الإِفتاء فيما أشكل من الأمر، كما لو أن بعض الأجناد استفتى أن السلطان عينه في أمر مخوف بمجرد التشهِّي وكلفه من ذلك ما لا يطيق فإن أجابه بوجوب طاعة الإِمام أشكل الأمر لما وقع من الفساد، وإن أجابه بجواز الامتناع أشكل الأمر؛ لما قد يفضي به ذلك إلى الفتنة، فالصواب التوقف عن الجواب في مثل ذلك وأمثاله، والله الهادي إلى الصواب " (4) والله المستعان والموفق (5) .
سابعا: من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم: إن أسلوب التأكيد بالقسم له تأثير بليغ في الدعوة إلى الله عز وجل ولهذا استخدمه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في هذا الأثر فقال للسائل: " والله ما أدري ما أقول لك. . . " وقال في آخر الحديث: " والذي لا إله غيره ما أذكر ما غبر من الدنيا إلا كالثغب. . " والقسم يستخدم عند الحاجة إليه في الدعوة إلى الله
_________
(1) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب فضيلة الإِمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم، 3 / 1458، برقم 1828 عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
(2) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الأمر بالتيسير، وترك التنفير، 3 / 1358 برقم 1732، عن أبي موسى رضي الله عنه.
(3) الإفصاح عن معاني الصحاح، 2 / 92، وانظر: عمدة القاري للعيني 14 / 226.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 120، وانظر: إرشاد الساري للقسطلاني 5 / 121.
(5) انظر: الحديث رقم 38، الدرس الأول.(1/582)
عز وجل؛ لجذب قلوب المدعوين إلى التصديق واليقين (1) .
ثامنا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: إن القدوة الحسنة من أهم وسائل الدعوة إلى الله عز وجل ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه للسائل الذي سأله عن تشديد الأمراء عليه: «والله ما أدري ما أقول لك إلا أنا كنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم فعسى أن لا يعزم علينا في أمر إلا مرة حتى نفعله» وفي هذا إشارة إلى السائل للاقتداء بالصحابة في حسن الطاعة، وفيه إشارة إلى الأمراء للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وعدم مشقته على أصحابه، وإنما كان سمحا سهلا، رفيقا، رحيما (2) .
تاسعا: أهمية طاعة ولاة أمر المسلمين بالمعروف: ظهر في كلام ابن مسعود رضي الله عنه الإِيحاء بطاعة ولي الأمر؛ ولهذا قال العلامة القسطلاني رحمه الله: " الظاهر أن ابن مسعود بعد أن توقف أفتاه بوجوب الطاعة بشرط أن يكون المأمور به موافقا للتقوى كما علِمَ ذلك من قوله: «إنا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فعسى أن لا يعزم علينا في الأمر إلا مرة» إذ لولا صحة الاستثناء لما أوجبه الرسول صلى الله عليه وسلم «حتى نفعله» غاية لقوله: «لا يعزم» أو للعزم الذي يتعلق به المستثنى وهو مرة " (3) وقد استنبط طاعة الأمراء في المعروف من كلام ابن مسعود رضي الله عنه الإِمام ابن هبيرة فقال رحمه الله: " ويستحب. . للمجاهدين مع الأمراء إذا عزموا عليهم عزمة أن يقابلوها بالإِمساك، ولا يحوجوهم إلى تكدير (4) الأمر بها، ويكون الأمراء، والمأمورون في هذا يعاملون الله عز وجل بذلك " (5) .
وهذا الحديث يدل على طاعة الإمام ومن يستعمله (6) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 10، الدرس الخامس، ورقم 14، الدرس الخامس.
(2) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث، ورقم 8، الدرس الخامس، ورقم 9، الدرس الثالث عشر.
(3) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، 5 / 122، وانظر: عمدة القاري، للعيني 14 / 227.
(4) هكذا في الأصل، ولعل الصواب " إلى تكرير " والله أعلم.
(5) الإفصاح عن معاني الصحاح، 2 / 92، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 120.
(6) انظر الحديث رقم 95، الدرس الأول، ورقم 96، الدرس الثاني.(1/583)
عاشرا: من صفات الداعية: التقوى: دل كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على أن التقوى من الصفات العظيمة التي ينبغي أن يلتزمها كل مسلم، وخاصة الدعاة إلى الله عز وجل؛ ولهذا قال رضي الله عنه: " وإن أحدكم لا يزال بخير ما اتقى الله " وقد أمر الله بالتقوى في آيات كثيرة في كتابه العظيم؛ ومنها قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] (1) قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله عز وجل: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر (2) .
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] (3) وقال سبحانه وتعالِى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2 - 3] (4) وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الدعاة إلى الله عز وجل بالتقوى فقال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» (5) وحقيقة التقوى كما قال طلق بن حبيب رحمه الله: " التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله " (6) وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه: من غضبه، وسخطه، وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه، والتقوى الكاملة: فعل الواجبات، وترك المحرمات والشبهات،
_________
(1) سورة آل عمران، الآية: 102.
(2) الطبراني في المعجم الكبير، 9 / 92، برقم 8502، والحاكم في المستدرك، 2 / 294، وانظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب، 1 / 401.
(3) سورة الأحزاب، الآيتان 70-71.
(4) سورة الطلاق، الآيتان 2-3.
(5) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معاشرة الناس، 4 / 355، برقم 1987، وقال: " هذا حديث حسن صحيح "، وأحمد في المسند، 5 / 153، والحاكم 1 / 54 وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
(6) جامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجب، 1 / 405.(1/584)
وربما دخل فيها بعد ذلك فعل المندوبات وترك المكروهات (1) .
فينبغي للداعية أن يكون من أعظم الناس تقوى لله عز وجل، لأنه أسوة لغيره من الناس، والله المستعان.
الحادي عشر: من صفات الداعية: اليقين: من المعلوم يقينا أن من الصفات العظيمة اليقين المنافي للشك وهذا لا يحصل إلا بالعلم النافع؛ ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: " وإذا شك في نفسه شيء سأل رجلا فشفاه منه ". قال الإِمام ابن هبيرة رحمه الله: " وفيه. . . . أن الإنسان إذا شك في شيء لم ينفذ فيه حكما على شك بل يسأل عنه، ويبحث، ويستضيء بنور العلم من أهله إن وجد، وإلا عمل فيه على أصول الشرع وقاس واجتهد " (2) .
وقال ابن حجر رحمه الله: " من تقوى الله أن لا يقدم المرء على ما يشك فيه حتى يسأل من عنده علم فيدله على ما فيه شفاؤه، وقوله: " شك في نفسه شيء " من المقلوب. إذا التقدير: وإذا شك نفسه في شيء، أو ضمن شك معنى: لصق، والمراد بالشيء ما يتردد في جوازه وعدمه " (3) .
فينبغي للداعية أن يتصف باليقين (4) .
الثاني عشر: أهمية السؤال في تحصيل العلم: ظهر في هذا الحديث أهمية السؤال في تحصيل العلم؛ لقول ابن مسعود رضي الله عنه: " وإذا شك في نفسه شيء سأل رجلا فشفاه، وأوشك أن لا تجدوه " وهذا فيه تأكيد على أهمية هذا الأسلوب؛ لأنه يشفي القلوب والنفوس؛ لأن السائل إذا سأل أهل العلم أجابوه، وأزالوا عنه مرض التردد؛ لأنه يحصل على
_________
(1) جامع العلوم والحكم لابن رجب، 1 / 398، 399.
(2) الإِفصاح عن معاني الصحاح، 2 / 92.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 119.
(4) انظر: الحديث رقم 28، الدرس الرابع.(1/585)
الإِجابة بالحق، فيضمحل الشك والتردد، ويثبت اليقين (1) والله المستعان. (2) .
الثالث عشر: من أساليب الدعوة: التشبيه: لا شك أن هذا الحديث دل على أسلوب التشبيه في قول ابن مسعود رضي الله عنه: " والذي لا إله إلا هو ما أذكر ما غبر من الدنيا إلا كالثغب شرِبَ صفوه وبقي كدره " ومال ابن حجر إلى أن قول: " ما غبر " أي مضى من الدنيا؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " ما أذكر ما غبر " وهو من الأضداد يطلق على ما مضى وعلى ما بقي وهو هنا محتمل للأمرين (3) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " فشبه ما مضى من الدنيا بما شرب من صفوه، وما بقي منها بما تأخر من كدره " (4) وقال العلامة العيني رحمه الله على الاحتمال الثاني: " شبَّهَ بقاء الدنيا ببقاء غدير ذهب صفوه وبقي كدره " (5) والله المستعان. (6) .
الرابع عشر: من صفات الداعية: الزهد: ظهر في قول ابن مسعود رضي الله عنه: أن ما مضى من الدنيا ما هو إلا كماء قليل في نقرة في صخرة، وقد ذهب صفو هذا الماء القليل وبقي كدره، وعلى الاحتمال الثاني: شبه ما بقي من الدنيا ببقاء غدير ذهب صفوه وبقي كدره، وهذا يدل على أنه ينبغي للداعية الزهد فيها والإِكثار من الطاعات؛ ولهذا قال الإِمام ابن هبيرة رحمه الله: " قوله: " ما غبر من الدنيا " أي ما فَنِيَ، والثغب: هو الماء المستنقع في الموضع المطمئن، وإذا كان عبد الله يقول هذا في زمانه فكيف في زماننا؛ إلا أنه لابد من المقاربة والتسديد، والاستعانة بالله عز وجل على عبادته " (7)
_________
(1) انظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري، 12 / 201.
(2) انظر: الحديث رقم 19، الدرس الرابع، ورقم 30، الدرس الرابع، ورقم 92 الدرس الرابع.
(3) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 120.
(4) المرجع السابق 6 / 120.
(5) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 14 / 227.
(6) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الرابع، ورقم 19، الدرس الخامس.
(7) الإفصاح عن معاني الصحاح 2 / 92، قلت: وإذا كان هذا كلام ابن هبيرة رحمه الله ثمان مائة وثمان وخمسين سنة، فكيف بزماننا هذا؛ والله المستعان. .(1/586)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وإذا كان هذا في زمان ابن مسعود وقد مات قبل مقتل عثمان، ووجود تلك الفتن العظيمة فماذا يكون اعتقاده فيما جاء بعد ذلك وهلم جرّا؟ " (1) .
فينبغي للداعية أن يزهد في الدنيا، ولا يتخذها وطنا؛ لأنها هينة عند الله عز وجل وقد «دخل النبي صلى الله عليه وسلم السوق يوما فمر بجدي صغير الأذنين ميت فأخذه بأذنه ثم قال للصحابة رضي الله عنهم: " أيكم يحب أن هذا له بدرهَم؟ " قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ قال: " أتحبونه لكم؟ " قالوا: والله لو كان حيا كان عيبا فيه؛ لأنه أسك (2) فكيف وهو ميت؛ فقال: " فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم» (3) والله المستعان (4) .
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 120.
(2) أسك: أي مصطلم الأذنين مقطوعهما. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع الكاف، مادة " سكك "، 2 / 384.
(3) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، 4 / 2272، برقم 2957، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(4) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الأول، وحديث رقم 15، الدرس الأول.(1/587)
[باب ما قيل في لواء النبي صلى الله عليه وسلم]
[حديث قيس بن سعد صاحب لواء رسول الله أراد الحج فرجل]
121 - باب ما قِيل في لِوَاءِ النبي صلى الله عليه وسلم 103 [ص:2974] حَدَّثَنَا سَعِيد بْن أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَيْث قَالَ: أَخْبَرني عقَيْل، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَني ثَعْلَبَة بْن أَبِي مَالِكٍ القرَظِيّ: " أَنَّ قَيْسَ بْنِ سَعْدٍ الأنصَارِيَّ (1) رضي الله عنه- وَكَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم- أَرَادَ الحَجَّ فرَجَّلَ ".
* شرح غريب الحديث: * " لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللواء: الراية، ولا يمسكها إلا صاحب الجيش، واللواء أو الراية: ثوب يجعل في طرف الرمح، ويخلى كهيئته تصفقه الرياح (2) .
* " فرجل " الترجل والترجيل: تسريح الشعر، وتنظيفه وتحسينه (3) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أهمية اللواء والراية للمجاهدين في سبيل الله عز وجل.
_________
(1) قيس بن سعد بن عبادة بن دليم الأنصاري الساعدي، المدني الصحابي رضي الله عنه جواد ابن جواد مشهور هو وأبوه بالكرم والجود، وكان يحمل راية الأنصار مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من فضلاء الصحابة وأحد دهاة العرب، وذوي الرأي الصائب، والمكيدة في الحرب والنجدة، والشجاعة، وكان شريف قومه غير مدافع، وكان أبوه وجده كذلك، ومن كرمه أن رجلا اقترض منه ثلاثين ألفا فلما ردها عليه أبى أن يقبلها، وله في جوده وكرمه أخبار مشهورة، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح من أبيه ودفعها إليه، وصحب قيس علي بن أبي طالب رضي الله عنه في خلافته، وأقره على مصر، وكان معه في حروبه، وقد خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وكان ليس له لحية، فكانت الأنصار تقول: وددنا أن نشتري لقيس لحية بأموالنا، وكان رضي الله عنه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة الشرطي من الأمير- يعني يلي أموره- روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر حديثا. وتوفي رضي الله عنه في آخر خلافة معاوية رضي الله عنه على الصواب سنة ستين، وقيل: تسع وخمسين. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 61، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 3 / 102-112، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 3 / 249.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب اللام مع الواو، مادة: " لوا " 4 / 279، وانظر: عمدة القاري للعيني 14 / 232، وإرشاد الساري للقسطلاني، 5 / 128.
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الجيم، مادة: " رجل " 2 / 203، وانظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 108.(1/588)
2 - من وسائل الدعوة وأسباب النصر: إظهار القوة والنشاط.
3 - من صفات الداعية: النظافة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: أهمية اللواء والراية للمجاهدين في سبيل الله عز وجل: إن اللواء والراية من الأمور المهمة في الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بذلك؛ وقد جاء في هذا الحديث أن قيس بن سعد الأنصاري رضي الله عنه " كان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم ". قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في هذا اللواء: " أي الذي يختص بالخزرج من الأنصار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مغازيه يدفع إلى رأس كل قبيلة لواء يقاتلون تحته " (1) .
وهذا يدل على أهمية اللواء؛ لأن المجاهدين يعرفون قائدهم بهذا اللواء، وينضمون إليه، والله أعلم.
ثانيا: من وسائل الدعوة وأسباب النصر: إظهار القوة والنشاط: دل هذا الحديث على أن من وسائل الدعوة إظهار القوة والنشاط؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم اللواء والراية في الحرب، وهذا فيه إظهار للقوة والتعاون بين المجاهدين؛ لأن القائد يعرف بحمل اللواء أو الراية فينضم إليه أصحابه، ويدخل الرعب في قلوب الأعداء بإذن الله عز وجل (2) .
وقد قيل بأن اللواء هو الراية فهما مترادفان، وقيل: اللواء أبيض، وربما جعل فيها الأسود، والراية بيضاء، وربما كانت صفراء (3) .
قال القسطلاني رحمه الله: " والذي صرح به غير واحد من أهل اللغة ترادفهما،
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 127.
(2) انظر: أخلاق النبي وآدابه، لأبي محمد جعفر بن حيان الأصبهاني المعروف بأبي الشيخ ص 153، وزاد المعاد لابن القيم، 1 / 131، وإرشاد الساري للقسطلاني 5 / 128.
(3) انظر: زاد المعاد لابن القيم 1 / 131- 132، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 128.(1/589)
فلعل التفرقة بينهما عرفية، وقد كانت الراية يمسكها رئيس الجيش ثم صارت تحمل على رأسه، وأما العلم فعلامة لمحل الأمير تدور معه حيث دار " (1) .
ثالثا: من صفات الداعية: النظافة: ظهر في هذا الحديث أن النظافة من صفات الداعية؛ ولهذا عندما أراد الحج قيس بن سعد رَجَّل رأسه رضي الله عنه؛ من أجل النظافة والاستعداد للإِحرام؛ قال الإِمام ابن الأثير رحمه الله: " الترجل والترجيل: تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه " (2) .
فينبغي أن يكون الداعية نظيفا منظما لأموره.
_________
(1) إرشاد الساري بشرح صحيح البخاري، 5 / 128، وانظر: عمدة القاري للعيني 14 / 232.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الجيم، مادة: " رجل " 2 / 203.(1/590)
[حديث ليأخذن غدا رجل يحبه الله ورسوله]
104 [ص:2975] حَدَّثَنَا قتَيْبَة: حَدَّثَنَا حَاتِم بْن إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوع (1) رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ عَليّ (2) رضي الله عنه تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي خَيْبَرَ، وَكَانَ بِهِ رَمَد، فَقَالَ: آَنا أَتَخَلَّف عَنْ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَخَرَجَ عَلِي فَلَحِقَ بالنَبِي صلى الله عليه وسلم. فَلَما كَانَ مَسَاء اللَّيْلَةِ الَّتِي فَتَحَهَا فِي صَبَاحِهَا، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ- أَوْ قَالَ: لَيأخذَنَّ- غَدا رَجل يحِبّه الله وَرَسوله، أَوْ قَالَ: يحِبّ اللهَ وَرَسولَه، يَفتح الله عَلَيْهِ ". فَإِذَا نَحْن بعَلِيٍّ وَمَا نَرْجوه. فَقَالوا: هَذَا عَلِيّ، فَأَعْطَاه رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فَفَتَحَ الله عَلَيْهِ» . (3) .
* شرح غريب الحديث: * " الراية " الراية هنا: العلم، يقال: ريَّيْت الراية: أي ركزتها (4) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من أساليب الدعوة: الاستفهام الإِنكاري.
2 - من صفات الداعية: الصبر على البلاء.
3 - من أساليب الدعوة: الثناء على الداعية المخلص ليتأسَّى به.
4 - من صفات الداعية: محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
5 - أهمية الراية في الجهاد في سبيل الله عز وجل.
6 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث.
7 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإِخبار بالمغيبات.
8 - من صفات الداعية: الشجاعة (5) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 74.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 78.
(3) [الحديث 2975] طرفاه في: كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن رضي الله عنه، 4 / 247، برقم 3702. وكتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 5 / 90، برقم 4209. وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، 4 / 1872، برقم 2407.
(4) انظر: غريب الحديث رقم 92، ص 534.
(5) تقدم هذا الحديث عينه في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه برقم 92، وأعاده البخاري هنا في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، وقد ذكرت جميع روايات حديث سهل بن سعد رضي الله عنه هناك فأغنى عن الكلام بالتفصيل عن الدروس الدعوية هنا.(1/591)
[حديث هاهنا أمرك النبي أن تركز الراية]
105 [ص:2976] حَدَّثَنَا محَمَّد بْن الْعَلاَءِ: حَدَّثَنَا أَبو أسَامَةَ، عَنْ هِشَام بْنِ عرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَافِع بْنِ جبَيْرٍ قَالَ: «سَمِعْت العَبَّاسَ (1) يَقول لِلزّبَيْرِ (2) رضي الله عنهما: هاهنا أَمرَكَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن تَرْكزَ الراية» (3) وفي رواية: حَدَّثَنَا عبَيْد بْن إِسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنَا أَبو أسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ قالَ: «لَمَّا سَارَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ فَبَلَغَ ذَلِكَ قرَيْشا، خَرَجَ أَبو سفْيَانَ بْن حرْبٍ (4) وَحَكِيم بْن حِزَامٍ (5) وَبدَيْل بْن وَرْقَاء، يَلْتَمِسونَ الْخَبَرَ عَنْ رَسولِ
_________
(1) العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أبو الفضل القرشي عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين، وقيل: ثلاث، وضاع وهو صغير فنذرت أمه إن وجدته أن تكسوَ الكعبة الحرير فوجدته ففعلت، فهي أول عربية كست الكعبة الحرير، وكان العباس رئيسا جليلا في قريش قبل الإسلام، وكان إليه عمارة المسجد الحرام، والسقاية، وحضر بيعة العقبة مع الأنصار، وشدد العقد مع الأنَصار وأكده، وذلك قبل أن يسلم، وقيل: إنه أسلم قبل الهجرة، وخرج مع قومه إلى بدر مكرها، وأسر وفدى نفسه، ورجع إلى مكة، وقيل: إنه أسلم عقب رجوعه إلى مكة وكتم قومه ذلك، وكان يكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار المشركين، وكان عونا للمستضعفين المسلمين بمكة، ثم هاجر قبل الفتح بقليل، وشهد الفتح، وحنينا وثبت فيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينادي في الناس بالرجوع وكان صيتا فأقبلوا عليه وحملوا على المشركين وهزموهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظمه ويكرمه، ويبجله، وكان وصولا لأرحام قريش محسنا إليهم، ذا رأي وكمال، وعقل، وكان جوادا أعتق سبعين عبدا، وكانت الصحابة تكرمه وتعظمه، وتأخذ برأيه، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وثلاثون حديثا، اتفق البخاري ومسلم على حديث، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بثلاثة، وتوفي رضي الله عنه بالمدينة يوم الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من رجب وقيل: من رمضان سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: أربع وثلاثين، وهو ابن نحو ثمان وثمانين سنة. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1 / 257، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 2 / 78- 100، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 271.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 52.
(3) [الحديث 2976] طرفه في كتاب المغازي، باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح؟ 5 / 107، برقم، 4280.
(4) أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، رأس قريش، الأموي المكي أسلم يوم الفتح، كان له أمور صعبة، فمن الله عليه وتداركه بالإِسلام، لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق فأسلم قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا، وكان من دهاة العرب ومن أهل الرأي والشرف فيهم، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حنينا، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم مائة بعير وأربعين أوقية من الدراهم يتألفه بذلك، وشهد قتال الطائف وفقئت عينه يومئذ، وشهد اليرموك وقلعت عينه الأخرى في هذه المعركة، وكان تحت راية يزيد في هذه المعركة وينادي بنصر الله عز وجل، ونزل المدينة بعد ذلك، وهو أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنين، وتوفي رضي الله عنه بالمدينة سنة إحدى وثلاثين، وقيل: أربع وثلاثين، وقيل: عاش ثلاثا وتسعين سنة. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 2 / 239، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 2 / 2 / 105- 106، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 179.
(5) حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى الأسدي، ابن أخي خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أسلم يوم فتح مكة، سنة ثمان، وقد شهد بدرا مع المشركين، وكان إذا اجتهد في يمينه يقول: والذي نجاني أن أكون قتيلا يوم بدر، ولد قبل عام الفيل بثلاث عثرة سنة، وكان يفعل المعروف في الجاهلية، فلما أسلم سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشياء كنت أفعلها في الجاهلية ألي فيها أجر؟ قال: " أسلمت على ما سلف لك من خير " [البخاري برقم 1436، 2220، 2538، 5992] وكان كريما جوادا، وكانت دار الندوة بيده فباعها بعد من معاوية رضي الله عنه بمائة ألف درهم، فلامه ابن الزبير رضي الله عنه فقال: يا ابن أخي اشتريت بها دارا في الجنة فتصدق بالدراهم كلها، وكان من أشرات قريش ووجوهها في الجاهلية والإسلام، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين مائة بعير، ولم يصنع من المعروف شيئا في الجاهلية إلا صنع في الإسلام مثله، وقيل له عندما باع دار الندوة وتصدق بثمنها: بعت مكرمة قريش، فقال: ذهبت المكارم إلا بالتقوى، وأهدى في حجه مائة بدنة، وأعتق مائة عبد، وأهدى ألف شاة، وقال رضي الله عنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: " يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى " قال حكيم فقلت: والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، وكان أبو بكر يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا، ثم دعاه عمر ليعطيه فأبى أن يقبله، فقال: يا معشر المسلمين أشهدكم على حكيم أني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأْ حكيم أحدا من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، حتى توفي رضي الله عنه [البخاري برقم 2750] سنة خمسين، وقيل: أربع وخمسين، وقيل: ثمان وخمسين، وقيل: سنة سنين، وهو ممن عاش ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام، فكمل عند موته: مائة وعشرين سنة. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 166، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1 / 349.(1/592)
الله صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلوا يَسِيرونَ حَتَّى أتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ، فَإِذَا همْ بِنِيرَانٍ كأنهَا نِيرَان عَرَفةَ، فقَالَ أَبو سفْيَانَ: مَا هَذِهِ؟ لَكأَنهَا نِيرَان عَرَفَةَ؟ فَقَالَ بدَيْل بْن وَرْقَاءَ (1) نِيرَان بَنِي عَمْرو، فَقَاَلَ أَبو سفْيَانَ: عَمْرو أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ، فَرَآهمْ نَاس مِنْ حَرَسِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَدْرَكوهمْ فَأَخَذوهمْ فَأتوا بهِمْ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمَ أَبو سفْيَانَ، فَلَمَّا سَارَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ: " احْبِسْ أَبَا سفْيَانَ عِنْدَ حطم الْخَيْلِ حَتَّى يَنْظرَ إِلَى الْمسلِمِينَ " فحَبَسَه العباس فَجَعَلَتِ الْقَبَائِل تَمرّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كتِيبَة كَتِيبةَ، عَلَى أَبِي سفْيَانَ فَمَرَّتْ كَتِيبَة فَقَالَ: يَا عَبَّاس مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَذِهِ غِفَار. قَالَ: مَا لِي وَلِغفَارٍ؛ ثمَّ مَرَّتْ جهَيْنَة، قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثمَّ مَرَّتْ سَعْد بن هذَيْمٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمَرَّتْ سلَيْم فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى أقْبَلَتْ كَتيبَة لَمْ يَرَ مِثْلَهَا، قالَ مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَؤلاَءِ الأنصَار عَلَيْهِمْ سَعْد بْن عبَادَةَ مَعَه الرَّايَة، فَقَالَ سَعْد بْن عبَادَةَ: يَا أَبَا سفْيَانَ
_________
(1) بديل بن ورقاء بن عمرو بن ربيعة بن عبد العزى، أسلم يوم فتح مكة وقيل: قبل الفتح، وقيل: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يحبس السبايا والأموال بالجعرانة حتى يقدم عليه ففعل [قال الحافظ ابن حجر إسناده حسن] رضي الله عنه. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1 / 141.(1/593)
الْيَوْم يَوْم الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تسْتَحَلّ الْكَعْبَة، فَقَالَ أَبو سفْيَانَ: يَا عَبَّاس حَبَّذا يوْم الذِّمَارِ، ثم جَاءَتْ كَتِيبَة وَهْيَ أَقَلّ الْكَتَائِبِ فِيْهِمْ رَسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصحابه ورَايَة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامٍ، فَلمَّا مَرَّ رَسول الله صلى الله عليه وسلم بِأَبِي سفْيَانَ قال: ألَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْد بْن عبَادَةَ؟ قَال: " مَا قَالَ؟ " قَالَ؛ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: " كَذَبَ سَعْد، وَلَكِنْ هَذَا يَوْم يعَظِّم الله فِيهِ الْكَعْبةَ وَيَوْم تكسَى فِيهِ الْكَعبة " قَالَ: وأَمَرَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ ترْكَزَ رَايَته بِالْحَجونِ. قَالَ عرْوَة: وأَخْبَرني نَافِع بْن جبَيْرِ بْنِ مطْعِمٍ، قَالَ: سَمِعْت الْعَبَّاسَ يَقول لِلزّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ: يَا أَبَا عبد الله هاهنَا أَمَرَكَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ تَرْكز الرَّايَةَ، قَالَ: وَأَمر رَسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ خالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أنْ يَدْخلَ مِنْ أعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ، وَدَخَلَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ كدى فَقتِل مِنْ خَيْلِ خَالِدٍ يَوْمَئِذٍ رَجلاَنِ: حبَيْش بْن الأَشْعَرِ وَكرْز بْن جَابِرٍ الفِهْرِيّ» (1) .
* شرح غريب الحديث: * " مَرَّ الظهران " ويقال: " مر ظهران " أيضا: بقعة وموضع يبعد عن مكة بريدا، وقيل: أحدا وعشرين ميلا، وقيل ستة عشر ميلا (2) .
* " عند حطم الخيل " الموضع المتضايق الذي تتحطَّم فيه الخيل: أي يدوس بعضها بعضا، ويزحم بعضها بعضا، فيراها جميعها وتكثر في عينه بمرورها في ذلك الموضع الضيق. وفي رواية: " خطم الجبل " وهو أنفه البارز عند مضيق الجبل، حين يحطم بعضها بعضا، ليرى جميعها (3) .
* " يوم الملحمة " الملحمة: الحرب والقتال الذي لا مخلص منه، والجمع الملاحم، مأخوذ من اشتباك الناس واختلاطهم فيها كاشتباك لحمة الثوب بالسدى، وقيل: هو من اللّحم؛ لكثرة لحوم القتلى فيها، ويقال: ألحم
_________
(1) طرف الحديث رقم 4280.
(2) انظر: مشارق الأنوار للقاضي عياض، حرف الظاء مع الميم، 1 / 332.
(3) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الطاء، مادة: " حطم " 1 / 404، وانظر: غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 378.(1/594)
الرجل في الحرب واستلحم: إذا تشبث فيها، فلم يجد مخلصا (1) * " يوم الذمار " الذمار: ما لزمك حفظه مما وراءك وتعلق بك، وقول أبي سفيان: " حبذا يوم الذمار " يريد الحرب؛ لأن الإِنسان يقاتل على ما يلزمه حفظه (2) .
* " الكتائب " العساكر المرتبة؛ واحدها كتيبة، وهي القطعة العظيمة من الجيش (3) .
* " كَدَاء " بفتح الكاف والمد: من أعلى مكة التي من سلكها دخل من باب بني شيبة.
* " كدى " بضم الكاف والقصر من أسفل مكة (4) .
* " الحجون " الجبل المشرف حذاء مسجد العقبة عند المحصب، عند مقبرة أهل مكة (5) .
* " الراية " اللواء، وقيل: العلم (6) .
* " كذب سعد " أي: أخطأ (7) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من وسائل الدعوة: رفع اللواء والراية في الجهاد في سبيل الله عز وجل.
2 - من وسائل الدعوة: الخروج للجهاد في سبيل الله عز وجل.
3 - أهمية الحراسة في الأمور المهمة.
4 - من صفات الداعية: العفو والصفح ومقابلة السيئة بالحسنة.
_________
(1) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 378، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب اللام مع الحاء، مادة: " لحم " 4 / 239.
(2) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 378، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب الذال مع الميم، مادة: " ذمر " 2 / 167.
(3) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 378، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الكاف مع التاء، مادة: " كتب " 4 / 148.
(4) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 379.
(5) انظر: مشارق الأنوار للقاضي عياض، حرف الجيم مع النون، 1 / 221.
(6) انظر: تفسير غريب الحديث رقم 92، ص 534، وغريب الحديث رقم 103، ص 588.
(7) مشارق الأنوار على صحاح الآثار، للقاضي عياض، 1 / 337، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 8 / 9.(1/595)
5 - من وسائل الدعوة وأسباب النصر: إظهار القوة والنشاط أمام الأعداء.
6 - من صفات الداعية: حسن الخلق.
7 - من أصناف المدعوين: المشركون.
8 - من موضوعات الدعوة: تعظيم الكعبة وبيت الله الحرام.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من وسائل الدعوة: رفع اللواء والراية في الجهاد في سبيل الله عز وجل: ظهر في هذا الحديث أن الراية من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيها أمير الجيش في القتال؛ ليرفعها فيعرف بها وينضم إليه أصحابه، وفي ذلك إظهار القوة أمام الأعداء؛ ولهذا كانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون، وهذا يؤكد أهمية الراية واللواء في الجهاد (1) .
ثانيا: من وسائل الدعوة: الخروج للجهاد في سبيل الله عز وجل: إن الخروج للجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى لإِعلاء كلمة الله عز وجل من أهم وسائل الدعوة؛ ولهذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكة؛ ليفتحها ويطهِّرها من آثار الشرك؛ ولإِعلاء كلمة الله عز وجل أمر سبحانه بالنفير فقال: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] (2) .
وفي هذا دلالة على عظم هذه الوسيلة ومكانتها في الإِسلام.
ثالثا: أهمية الحراسة في الأمور المهمة: إن الحراسة في الأمور المهمة من أعظم المهمات وآكد الوظائف التي ينبغي أن يعتني بها المجاهدون في سبيل الله عز وجل؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بذلك
_________
(1) انظر: الحديث رقم 103، الدرس الأول، والحديث رقم 104، الدرس الخامس.
(2) سورة التوبة، الآية 41.(1/596)
في حراسة الجيش والمجاهدين أثناء النوم أو الراحة، والصلاة؛ ولهذا شرعت صلاة الخوف، ومن أنواعها أن طائفة تصلي مع الإِمام والطائفة الأخرى وجاه العدو. وفي هذا الحديث أن حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح رأوا أبا سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء " فأدركوهم فأخذوه فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان "، وهذا يدل على أهمية الحراسة وقد أمر الله عز وجل بأخذ الحذر فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71] (1) .
ولأهمية الحراسة فقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم فيها وجعل ثواب من بات يحرس في سبيل الله الجنة والنجاة من النار، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله» (2) .
رابعا: من صفات الداعية: العفو والصفح ومقابلة السيئة بالحسنة: ظهر في هذا الحديث أهمية العفو والصفح، وتأثيره في نفوس المدعوين؛ ولهذا عفا صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء فلم يقتلهم، وقد حصل من أبي سفيان رضي الله عنه ما لا يخفى في المعارك الكبرى: بدر، وأحد، وغزوة الأحزاب، ومع ذلك قابله النبي صلى الله عليه وسلم بالعفو والصفح، وعفا أيضا عن جميع أهل مكة يوم الفتح إلا مجموعة أهدر دمهم لمعاداتهم العظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته ومع ذلك فقد نجا بعضهم وأنقذه الله بالإِسلام فعفا عنهم صلى الله عليه وسلم بعد أن أهدر دماءهم؛ لإِسلامهم، كعكرمة بن أبي جهل، وهبار بن الأسود، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان، وعبد الله بن أبي السرح، وكعب بن زهير، ووحشي بن حرب، وأما غيرهم ممن أهدر دمه ولم يسلم، فقد قتل من عثِر عليه منهم (3) .
_________
(1) سورة النساء، الآية 71.
(2) الترمذي، وحسنه، في كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الحراسة في سبيل الله، 4 / 175، برقم 1639، وصححه الألباني لشواهده، في مشكاة المصابيح 2 / 1125، وفي صحيح سنن الترمذي 2 / 127.
(3) انظر: فتح الباري لابن حجر، 8 / 11، وقد ذكر أن عدد من أهدر دمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية رجال وست نسوة، أسلم بعضهم فعفا عنه صلى الله عليه وسلم.(1/597)
وهذا يدل على عفوه صلى الله عليه وسلم العظيم وصفحه؛ فإن بعض هؤلاء قد أوقع بالمسلمين الوقائع ومَثَّلَ بهم في المعارك، فأدركه الله برحمته ومنَّ عليه بالإِسلام، ثم عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
خامسا: من وسائل الدعوة وأسباب النصر: إظهار القوة والنشاط أمام الأعداء: إن من وسائل الدعوة وأسباب النصر إظهار القوة والنشاط أمام أعداء الإِسلام؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم العباس فقال: «احبس أبا سفيان عند حطم الخيل حتى ينظر إلى المسلمين» فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان كتيبة كتيبة، حتى استعظم ذلك أبو سفيان ورأى كثرتهم العظيمة، ومن حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أن أمر بحبسه عند المكان المتضايق الذي تتحطم فيه الخيل ويدوس بعضها بعضا، ويزحم بعضها بعضا، فيراها أبو سفيان جميعا؛ لتكثر في عينه بمرورها في ذلك الموضع الضيق (2) .
وهذا العمل المبارك من أعظم وسائل الدعوة، ومن أسباب النصر؛ لما يحدث في قلوب الأعداء من الخوف والجزع؛ ولهذا قال الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] (3) .
سادسا: من صفات الداعية: حسن الخلق: لا ريب أن حسن الخلق من الصفات العظيمة التي ينبغي لأهل العلم والإِيمان الاتصاف بها؛ ولهذا كان قدوة الدعاة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا. وفي هذا الحديث ما يؤكد ذلك، وذلك أن سعد بن عبادة رضي الله عنه عندما مر بأبي سفيان قال: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فأفزع ذلك أبا سفيان فانتظر، وعندما مر النبي صلى الله عليه وسلم وكتيبته قال أبو سفيان: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: " ما قال؟ " قال: قال: كذا وكذا فقال رسول الله
_________
(1) انظر: الحديث رقم 80، الدرس الثالث.
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب الحاء مع الطاء، مادة: " حطم " 1 / 404، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 7، وعمدة القاري للعيني 17 / 278، وإرشاد الساري، للقسطلاني 6 / 390.
(3) سورة الأنفال، الآية 60.(1/598)
صلى الله عليه وسلم: " كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة ".
وهذا يدل على حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه لبيت الله الحرام، ونسبته التعظيم لله عز وجل بقوله: " هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة " (1) وهذا يؤكد أدبه صلى الله عليه وسلم مع ربه عز وجل.
سابعا: من أصناف المدعوين: المشركون: دل هذا الحديث على أن المشركين من أصناف المدعوين؛ ولهذا غزاهم النبي يوم الفتح، بعد أن قاتلهم في بدر وأحد، وغزوة الأحزاب، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم قد بلَّغهم قبل هذه المعارك والغزوات ما يجب عليهم من إفراد الله عز وجل بالعبادة وحده لا شريك له، ولكنهم أبوا واستكبروا وعتو عتوا كبيرا، فكان آخر الطب الكي (2) .
ثامنا: من موضوعات الدعوة: تعظيم الكعبة وبيت الله الحرام: ظهر في هذا الحديث أهمية إبلاغ الناس بعظم بيت الله العتيق؛ لأن الله عز وجل عظمه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «هذا يوم يعظم الله الكعبة، وتكسى فيه الكعبة» ؛ ولعظم حرمة الكعبة قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57] (3) وقال سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67] (4) .
ومن تعظيم الله الكعبة أن طهرها من أوثان الجاهلية، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] (5) {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49] » (6) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 14، الدرس الأول، ورقم 21، الدرس الثاني.
(2) انظر: الحديث رقم 91، الدرس الثامن.
(3) سورة القصص، الآية 57.
(4) سورة العنكبوت، الآية 67.
(5) سورة الإسراء، الآية 81.
(6) متفق عليه: البخاري، كتاب المغازي، باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح 8 / 5، برقم 4287 ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب إزالة الأصنام من حول الكعبة 3 / 1408، برقم 1781والآية 49 من سورة سبأ.(1/599)
ومن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لبيت الله الحرام أنه دخله من أعلاه؛ لأنه يأتي من قبل وجه الكعبة، أما ما جاء في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم " أمر خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كَدَاءٍ، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كدى " فقال الحافظ ابن حجر رحمه الله عن هذا: " وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة الآتية أن خالدا دخل من أسفل مكة، والنبي صلى الله عليه وسلم من أعلاها " (1) وقد جاءت الأحاديث الكثيرة تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح من أعلاها، فعن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح من كداء التي بأعلى مكة» (2) .
ومن حرمة مكة ما قاله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا، فإن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه (3) ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها (4) "، وقال العباس إلا الإِذخر (5) فإنه لقينهم (6) وبيوتهم، فقال: " إلا الإِذخر» (7) .
فينبغي العناية بحرمة مكة وتعظيمها، وتنبيه الناس إلى ذلك وحثهم عليه.
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8 / 10.
(2) متفق عليه: البخاري، كتاب المغازي، باب دخول النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى مكة، 5 / 110 برقم 4290، ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها من الثنية السفلى، 2 / 918، برقم 1258. وانظر: بقية الأحاديث عن ابن عمر، وعروة، وعائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري، كتاب الحج، باب من أين يدخل مكة 2 / 188 برقم 1575، وباب من أين يخرج من مكة 2 / 189، برقم 1577 - 1581، وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها من الثنية السفلى، 2 / 918، برقم 257- 1260.
(3) لا يعضد شوكه: لا يقطع. شرح النووي على صحيح مسلم 9 / 134.
(4) الخلاء: هو الكلأ والعشب الرطب. انظر. المرجع السابق 9 / 134.
(5) الإذخر: نبت طيب الرائحة. المرجع السابق 9 / 134.
(6) قينهم: الحداد والصانع، يحتاج إليه في وقود النار. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 9 / 136.
(7) متفق عليه: البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب لا يحل القتال بمكة، 2 / 260، برقم 1833، ومسلم، كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، 2 / 986، برقم 1353.(1/600)
[باب قول النبي نصرت بالرعب مسيرة شهر]
[حديث بعثت بجوامع الكلم ونصرت بالرعب]
122 - باب قوْل النّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «نصرت بِالرّعبِ مَسيرة شهْر» وقَولِهِ عز وجل: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} [آل عمران: 151] (1) .
قَالَه جَابِر عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم.
106 [ص:2977] حَدَّثَنَا يَحْيى بْن بكَيْرٍ: حَدَّثَنَا اللَّيث، عَنْ عقَيْلٍ، عَن ابنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هرَيْرَة (2) رضي الله عنه أَنَّ رَسولَ اللهِ قَالَ: «بعِثْت بِجَوَامِعِ الكَلِم، وَنصِرْت بِالرعْبِ. فبينا أَنَا نَائم أوتيت مَفَاتِيحَ خزَائِنِ الأَرْضِ فَوضِعتْ فِي يَدي» . قَالَ أَبو هرَيرَةَ: وَقد ذَهَبَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وأنتمْ تنتثلونها (3) .
وفي رواية: «أعْطِيت مَفَاتِيحَ الْكَلمِ، وَنصرت بِالرعْبِ، وَبينا أَنَا نَائِم البارِحَةَ إِذْ أتِيت بِمَفاتيحَ خَزَائِنِ الأرْضِ حتَّى وضِعَتْ فِي يَدِي» ، قَالَ أَبو هرَيْرَةَ: فذَهَبَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأَنتمْ تَنْتَقِلونَهَا (4) .
وفي رواية: " وأَنتمْ تَلْغَثونَهَا، أَوْ تَرْغَثونَهَا، أوْ كَلِمة تشْبِههَا " (5) .
وفي رواية: " قَالَ أَبو عبد الله: وَبَلَغَنِي أَنَّ جَوامِعَ الْكَلِم أَنَّ اللهَ يَجْمَع الأمورَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي كَانَتْ تكْتَب فِي الْكتبِ قَبْلَه فِي الأَمْرِ الْوَاحِدِ وَالأَمْرَيْنِ، أو نَحْوَ ذَلِكَ ". (6) .
* شرح غريب الحديث: * " تنتثلونها " أي تستخرجون وتأخذون الأموال وما فتح عليكم من زهرة الدنيا (7) .
_________
(1) سورة آل عمران، الآية 151.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 7.
(3) [الحديث 2977] أطرافه في: كتاب التعبير، باب رؤيا الليل، 8 / 92، برقم 6998. وكتاب التعبير، باب المفاتيح في اليد، 8 / 97، برقم 7013. وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " بعثت بجوامع الكلم "، 8 / 176، برقم 7273. وأخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 1 / 371، برقم 523.
(4) الطرف رقم 6998.
(5) الطرف رقم 7273.
(6) الطرف رقم 7013.
(7) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب النون مع الثاء، مادة: " نثل " 5 / 16.(1/601)
* " تلغثونها " أي تأكلونها من اللغيث: وهو طعام يغلث بالشعير: أي يخلط بالشعير (1) .
* " ترغثونها " يعني الدنيا: ترضعونها، من رغث الجدي أمَه: إذا رَضَعَها (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: بيان خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
2 - من صفات الداعية: الإِيجاز في اللفظ واتساع المعاني.
3 - من موضوعات الدعوة: الحث على حسن التفهم لمعاني جوامع الكلم.
4 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإِخبار بالمغيبات.
5 - من صفات الداعية: التحدث بنعم الله عز وجل وتعديدها.
6 - أهمية إلقاء العلم قبل السؤال.
7 - من أساليب الدعوة: التشبيه.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: بيان خصائص النبي صلى الله عليه وسلم: إن من الموضوعات المهمة التي ينبغي أن يبينها الدعاة للناس خصائص النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه الخصائص تدل على يسْرِ دين الإِسلام وسماحته وتفضيله على سائر الأديان السابقة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: " بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، فبينا أنا نائم أوتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي " وهذا يؤكد ما أعطاه الله عز وجل من الخصائص العظيمة؛ فإن القرآن الكريم جمع الله سبحانه وتعالى في الألفاظ اليسيرة منه المعاني الكثيرة، وكلامه صلى الله عليه وسلم كان بجوامع الكلم: قليل اللفظ كثير المعاني والأحكام والفوائد النافعة (3) ونصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالرعب، فجعل في قلوب أعدائه الفزع والخوف والهيبة
_________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب اللام مع الغين، مادة: " لغث " 4 / 256.
(2) المرجع السابق، باب الراء مع الغين، مادة: " رغث " 2 / 238.
(3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5 / 7، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 13 / 3، 24 / 108، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 128.(1/602)
على بعد مسيرة شهر بينه وبينهم (1) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وظهر لي أن الحكمة في الاقتصار على الشهر أنه لم يكن بينه وبين الممالك الكبار التي حوله أكثر من ذلك: الشام والعراق، واليمن، ومصر، ليس بين المدينة النبوية للواحدة منها إلا شهر فما دونه " (2) وهذا تحقق له صلى الله عليه وسلم، وأعطي صلى الله عليه وسلم مفاتيح خزائن الأرض، التي هي مفاتيح لأمته من بعده من الفتوح العظيمة، فغنموا أموال أعدائهم، وأخذوا خزائن ملوكهم المدخرة: كخزائن كسرى وقيصر، وغيرهما من الملوك، ويحتمل أن يكون المراد به معادن الأرض: من الذهب والفضة (3) وقد يدخل في هذا ما وجد من خزائن النفط في باطن الأرض والله عز وجل أعلم.
وخصائص النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة منها ما جاء في حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان الرجل يبعث في قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» (4) .
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة» . . . " (5) وذكر خصلة الأرض، وخصلة مبهمة بينها ابن خزيمة في صحيحه، وهي: «وأوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة، من بيت كنز تحت العرش لم يعط منه أحد قبلي» . . . " (6) وفي رواية لأبي هريرة عند مسلم: «فضلت على الأنبياء بست» ذكر منها: ". . . «وختِمَ بي النبيّون» (7) وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله خصائص النبي صلى الله عليه وسلم فيما اطلع عليه
_________
(1) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 11 / 3635.
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري 6 / 128، وانظر: 1 / 437 -439.
(3) انظر: أعلام الحديث للخطابي 2 / 1422، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 128.
(4) متفق عليه: البخاري، كتاب التيمم، باب؛ حدثنا عبد الله بن يوسف، 1 / 100 برقم 335، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 1 / 370، برقم 521.
(5) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 1 / 371، برقم 522.
(6) صحيح ابن خزيمة 1 / 133، برقم 264، وانظر: تلخيص الحبير، لابن حجر، 1 / 148.
(7) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 1 / 371، برقم 523.(1/603)
من الروايات ثم قال: " فينتظم بهذا سبع عشرة خصلة ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع " (1) .
قال ابن حجر رحمه الله في الجمع بين هذه الخصائص: " وطريق الجمع أن يقال: لعله اطلع أولا على بعض ما اختص به ثم اطلع على الباقي، ومن لا يرى مفهوم العدد حجة يدفع هذا الإِشكال من أصله " (2) . قال الإِمام القرطبي رحمه الله: " لا يظنّ القاصد أن هذا تعارض، وإنما يظن هذا من توهم أن ذكر الأعداد يدل على الحصر، وأنها لها دليل خطاب، وكل ذلك باطل؛ فإن القائل عندي خمسة دنانير- مثلا- لا يدل هذا اللفظ على أنه ليس عنده غيرها، ويجوز له أن يقول تارة أخرى: عندي عشرون، وتارة أخرى: عندي ثلاثون، فإن من عنده ثلاثون صدق عليه أن عنده عشرين، وعشرة، فلا تناقض ولا تعارض. ويجوز أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم أعلم في وقت بالثلاث، وفي وقت بالخمس، وفي وقت بالست، والله أعلم " (3) .
فينبغي للداعية أن يعلم خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة، ثم ينشرها بين الناس.
ثانيا: من صفات الداعية: الإيجاز في اللفظ واتساع المعاني: إن من الصفات الحميدة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها الإِيجاز في الألفاظ والاتساع في المعاني؛ لأن من درب عقله ولسانه على اختيار الألفاظ المشتملة على المعاني الكثيرة تعوَّد على ذلك ونفع الناس؛ ولهذا أعطي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم؛ وقد جمع كثير من علماء الإِسلام بعض الأحاديث قليلة الألفاظ كثيرة المعاني والأحكام والفوائد (4) .
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 1 / 439.
(2) المرجع السابق 1 / 436.
(3) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 2 / 115.
(4) مثل: كتاب الأربعين النووية فيه اثنان وأربعون حديثا من جوامع الكلم، ثم زاد عليها الحافظ ابن رجب ثمانية أحاديث وشرح جميعها، وسمى كتابه " جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم " ومن ذلك كتاب " بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخبار في شرح جوامع الأخبار " للعلامة عبد الرحمن السعدي، جمع فيه مائة حديث وشرحها. وغير ذلك. وانظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب 1 / 56.(1/604)
فينبغي للداعية أن يحفظ هذه الأحاديث، أو ما تيسر منها، ويعتني بشروحها مع العناية التامة بكتاب الله عز وجل؛ لأنه في الحقيقة قليل الألفاظ كثير المعاني والفوائد والأحكام؛ قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: " فجوامع الكلم التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم نوعان:
أحدهما: ما هو في القرآن، كقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] (1) .
الثاني: ما هو في كلامه صلى الله عليه وسلم، وهو منشور موجود في السنن المأثورة عنه صلى الله عليه وسلم " (2) .
ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحث على حسن التفهم لمعاني جوامع الكلم: إن من أهم الموضوعات في الدعوة إلى الله عز وجل أن يحث الداعية المدعوين على الفهم الدقيق لمعاني جوامع الكلم " لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت بجوامع الكلم» وهذا يؤكد أهمية العناية التامة بفهم كتاب الله عز وجل وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ قال الإِمام الخطابي عند ذكره لبعض فوائد هذا الحديث: " وفيه الحض على حسن التفهم، والحث على الاستنباط لاستخراج تلك المعاني، ونبش تلك الدفائن المودعة فيها " (3) والله عز وجل لم ينزل القرآن الكريم إلا للتدبر والتفهم والعمل؛ قال سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] (4) .
رابعا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإِخبار بالمغيبات: لا ريب أن من المعجزات الباهرة ما أعلم الله به نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى ومن هذه الأمور قوله
_________
(1) سورة النحل، الآية 90.
(2) انظر: جامع العلوم والحكم، 1 / 55، وشرح النووي على صحيح مسلم، 5 / 7، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 128، 13 / 247، وعمدة القاري للعيني، 14 / 235، 25 / 24، وإرشاد الساري للقسطلاني، 5 / 129، ومرقاة المفاتيح لملا علي القاري 1 / 14.
(3) أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري 2 / 1422، وانظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري 3 / 3، وعمدة القاري للعيني 14 / 235.
(4) سورة ص، الآية 29.(1/605)
صلى الله عليه وسلم: «أوتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي» قال الإِمام النووي رحمه الله: " هذا من أعلام نبوته؛ فإنه إخبار بفتح هذه البلاد لأمته، ووقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم، ولله الحمد والمنة " (1) .
وهذا من دلائل صدق نبوته صلى الله عليه وسلم، وأنه عبد الله ورسوله (2) .
خامسا: من صفات الداعية: التحدث بنعم الله عز وجل وتعديدها: ظهر في هذا الحديث أن التحدث بنعم الله عز وجل من أجمل الصفات، التي ينبغي للداعية أن يأخذ منها بأوفر الحظ والنصيب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بعثت بجوامع الكلم» . . . " وذكر صلى الله عليه وسلم كثيرا من خصائصه؛ لبيان فضل الله عليه وإحسانه؛ ولبيان ما أمره الله بتبليغه من خصائصه، والتحدث بنعم الله عز وجل، وقد قال سبحانه: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] (3) .
فينبغي للداعية أن يشكر الله على نعمه، وأن يتحدث بها، وينسبها إلى الله، ولا شك أنه لن يستطيع حصرها كما قال عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] (4) ولكن ينبغي التسديد والمقاربة، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي حديث الباب من الفوائد غير ما تقدم: مشروعية تعديد نعم الله " (5) والله المستعان (6) .
سادسا: أهمية إلقاء العلم قبل السؤال: دل هذا الحديث على أنه ينبغي للداعية ومعلم الناس الخير أن يبدأهم بالتعليم والتوجيه، ولا ينتظر حتى يسأَل؛ فإن كثيرا من الناس لا يهتمون بالسؤال عن
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم، 5 / 8.
(2) انظر: دلائل النبوة، لأبي بكر جعفر بن محمد الفريابي، ص 41 رقم 25، ودلائل النبوة للحافظ أبي نعيم الأصبهاني 2 / 537، ودلائل النبوة لإِسماعيل بن محمد بن فضل التيمي الأصبهاني، ص 90- 91، والشفاء بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض 1 / 470، وانظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع.
(3) سورة الضحى، الآية 11.
(4) سورة إبراهيم، الآية 34.
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 1 / 439.
(6) انظر: الحديث رقم 46، الدرس السادس عشر.(1/606)
العلم؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ كثيرا بإلقاء العلم على الناس ونشره بينهم، ولو لم يسألوا؛ وقد بدأهم بقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: " أعطيت مفاتيح الكلم ونصرت بالرعب. . . " (1) .
سابعا: من أساليب الدعوة: التشبيه: إن التشبيه من أساليب الدعوة التي ينبغي استخدامها عند الحاجة في تعليم الناس الخير، وقد ظهر هذا الأسلوب في هذا الحديث قال صلى الله عليه وسلم؛ «أوتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي» وقال في رواية الحديث الأخرى: «أعطيت مفاتيح الكلم» . قال الإِمام الكرماني رحمه الله: " أي لفظ قليل يفيد معاني كثيرة، وهذا غاية البلاغة، وشبه ذلك القليل بمفاتيح الخزائن التي هي آلة للوصول إلى مخزونات متكاثرة ". (2) .
فينبغي العناية بهذا الأسلوب عند الحاجة إليه (3) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 58، الدرس الخامس.
(2) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 24 / 108.
(3) انظر الحديث رقم 18، الدرس الرابع.(1/607)
[باب حمل الزاد في الغزو]
[حديث أسماء صنعت سفرة رسول الله في بيت أبي بكر حين أراد أن يهاجر]
123 - باب حمل الزّاد في الغزْو وقولِ الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] (1) .
107 [ص:2979] حَدَّثَنَا عبَيْد بْن إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبو أسَامَةَ، عَنْ هشام قَالَ: أَخْبَرَني أَبِي: - وَحَدَّثَتْنِي أَيْضا فَاطِمَة - عَنْ أَسْمَاءَ (2) رضي الله عنها قَالَتْ: " صَنَعْت سفْرةَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ أَرَادَ أَنْ يهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَة. قَالَتْ: فَلَمْ نَجِدْ لِسفْرَتِهِ وَلاَ لِسِقَائِهِ مَا نَرْبِطهمَا بِهِ، فَقلْت لأَبِي بَكْرٍ: وَاللهِ مَا أجِد شَيْئا أَرْبِط بِهِ إِلاَّ نِطَاقِي. قَالَ: فَشقِّيهِ بِاثْنَيْنِ فَارْبِطِيهِ: بِوَاحِدٍ السِّقَاءَ، وبِالَآخَرِ السّفْرَةَ، فَفَعَلَتْ، فلذَلِكَ سمِّيت ذاتَ النِّطاقَين " (3) .
وفي رواية: " عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: " كَانَ أَهْل الشَّامِ يعَيِّرونَ ابْنَ الزّبَيْرِ يَقولونَ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ فَقَالَتْ لَه أَسْمَاء:
_________
(1) سورة البقرة، الآية 197.
(2) أسماء بنت أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة عثمان أم عبد الله رضي الله عنهم، القرشية، التيمية، المكية ثم المدنية. والدة عبد الله بن الزبير، وعروة رضي الله عنهم، وأخت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وآخر المهاجرات وفاة، أسلمت قديما بعد سبعة عشر إنسانا، وكانت أسن من عائشة ببضع عشرة سنة، حيث ولدت قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة، وهي زوجة الزبير بن العوام رضي الله عنه، سميت ذات النطاقين؛ لأنها صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم ولأبيها سفرة لما هاجرا فلم تجد ما تشدها به فشقت نطاقها نصفين وشدت بنصفه السفرة، والنصف الآخر أوكت به القربة. وهاجرت إلى المدينة وهي حامل بعبد الله بن الزبير فولدته بعد الهجرة فكان أول مولود ولد في الإِسلام بعد الهجرة. روي لها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وخمسون حديثا، اتفق الشيخان على ثلاثة وعشرين منها، وانفرد البخاري بخمسة أحاديث، ومسلم بأربعة، وعمرت رضي الله عنها طويلا قال ابنها عروة بن الزبير: بلغت أسماء مائة سنة لم يسقط لها سنّ ولم ينكر من عقلها شيء، وكانت رضي الله عنها إذا أصابها صداع في رأسها وضعت يدها عليه وقالت: " بذنبي وما يغفره الله أكثر " وشهدت غزوة اليرموك مع زوجها الزبير بن العوام رضي الله عنه وكانت جوادة كريمة، لا تدخر شيئا إلى غد، وإذا مرضت أعتقت كل مملوك لها. وقد قتل ابنها عبد الله بن الزبير فصبرت واحتسبت، ولها منقبة عظيمة، وهي أنها، وابنها، وأباها، وجدها أربعة صحابيون، لا يعرف لغيرهم إلا لمحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة وتوفيت في مكة في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين بعد قتل ابنها عبد الله بيسير قيل: بعشرين يوما وقيل: أقل من ذلك رضي الله عنها. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 2 / 328، وسير أعلام النبلاء للذهبي 2 / 287 -296، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 4 / 229.
(3) [الحديث 2979] طرفاه في: كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، 4 / 311 و 312، برقم 3907. وكتاب الأطعمة، باب الخبز المرقق، والأكل على الخوان والسفرة، 6 / 244، برقم 5388.(1/608)
يَا بنَيَّ إِنَّهم يعَيِّرونَكَ بِالنِّطَاقَيْنِ، وَهَلْ تَدْري مَا كَانَ النِّطَاقَانِ؟ إِنَّمَا كَانَ نِطَاقِي شَقَقْته نِصْفيْنِ، فَأَوْكَيْت قِرْبةَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِأَحَدِهِمَا، وَجَعَلْت فِي سفْرَتِهِ آخَرَ. قَالَ: فَكَانَ أَهْل الشَّام إِذَا عَيّروه بِالنِّطَاقَيْنِ يَقول: إِيها وَالإِلَه " تِلْكَ شَكَاة ظَاهِر عَنْكَ عَارهَا " (1) .
* شرح غريب الحديث: * " السفرة " طعام يتخذه المسافر، وأكثر ما يحمل في جلد مستدير، فنقل اسم الطعام إلى الجلد وسمّي به (2) .
* " نطاقي " نطاق: جمعه مناطق. وهو أن تلبس المرأة ثوبها، ثم تشدّ وسَطَها بشيء: بحبل أو نحوه، وترفع وسط ثوبها، وتنزله على الأسفل عند معاناة الأشغال؛ لئلا تعثر في ذيلها، وبه سميت أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين (3) .
* " فأوكيت " الوِكاء: الخيط الذي تشدّ به الصرة، والكيس، وفم القربة، ونحو ذلك (4) .
* " إيها والإِله ": " إيهِ " هذه كلمة يراد بها الاستزادة وهي مبنية على الكسر فإذا وَصَلْتَ نَوَّنْتَ فقلت: " إيهٍ حدثنا " وإذا قلت: إيها بالنصب فإنما تأمره بالسكوت. ومنه حديث ابن الزبير: " إيها والإِله " أي صدقتَ ورضيت بذلك، وَيرْوى " إيهِ " بالكسر: أي زدني من هذه المنقبة (5) .
* " شكاة " تلك شكاة ظاهر عنك عارها: الشكاة الذم والعيب، وهي في غير هذا المرض (6) .
_________
(1) الطرف رقم 5388.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع الفاء، مادة: " سفر " 2 / 273.
(3) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 550، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب النون مع الطاء، مادة: " نطق " 5 / 75.
(4) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع الكاف، مادة: " وكا " 5 / 222.
(5) انظر: المرجع السابق، باب الهمزة مع الياء، مادة: " إيهِ " 1 / 87.
(6) المرجع السابق، باب الشين مع الكاف، مادة: " شكا " 2 / 497.(1/609)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحض على إعانة العلماء والدعاة والشد من أزرهم.
2 - من صفات الداعية: النشاط:
3 - الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل.
4 - من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والأذى.
5 - من صفات الداعية: الاعتزاز بطاعة الله عز وجل.
6 - أهمية أدب المدعو مع الدعاة والعلماء.
7 - جهود نساء الصحابة رضي الله عنهن في الجهاد والدعوة.
8 - من تاريخ الدعوة: ذكر الهجرة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحض على إعانة العلماء والدعاة والشد من أزرهم: ظهر في هذا الحديث أن الحث على إعانة العلماء والدعاة من أهم موضوعات الدعوة التي ينبغي للدعاة حث الناس عليها؛ لأن العالم أو الداعية إذا لم يجد التعاون من قبل المدعوين لا يستطيع في الغالب أن يؤدي دعوته على الوجه الأكمل؛ ولهذا أعانت أسماء رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم ورفيقه، بالقيام بتجهيز أهبة السفر من الطعام والقربة وشدت السفرة بنصف نطاقها، وأوكت القربة بالنصف الآخر، رضي الله عنها. وهذا العمل فيه حث على إعانة العلماء والدعاة، والله المستعان (1) .
ثانيا: من صفات الداعية: النشاط: ظهر في هذا الحديث أن النشاط مهم في حياة الداعية إلى الله عز وجل؛ ولهذا اتخذت أسماء رضي الله عنها نطاقا تشد به وسطها أثناء العمل، لئلا تعثر في ذيل ثوبها أثناء أعمالها الشاقة (2) .
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر 6 / 129، 7 / 240، 9 / 530، وعمدة القاري للعيني 4 / 237، وإرشاد الساري للقسطلاني 5 / 130.
(2) انظر: عمدة القاري للعيني، 14 / 237.(1/610)
فينبغي للداعية أن يكون نشيطا كيسا. (1) .
ثالثا: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: دل هذا الحديث على أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل؛ لأن التوكل يقوم على اعتماد القلب على الله مع العمل بالأسباب؛ ولهذا أمر أبو بكر رضي الله عنه أسماء أن تشق نطاقها نصفين، وتشد به السفرة، والقربة، وهذا من العمل بالأسباب وأخذ أهبة السفر: من الزاد والمتاع (2) .
وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " السفر بدون زاد يسبب الهلكة، فيجب الاستعداد للسفر " (3) وهذا يؤكد الأخذ بالأسباب مع اعتماد القلب على الله عز وجل (4) .
رابعا: من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والأذى: دل هذا الحديث على أنه ينبغي للداعية أن يصبر على الابتلاء والأذى، وذلك من وجهين:
1 - صبر الصحابة رضي الله عنهم على قلة ما في اليد من المال؛ ولشدة ذلك لم تجد أسماء ما تربط به سفرة النبي صلى الله عليه وسلم وسقاءه عندما أراد الهجرة هو وأبو بكر رضي الله عنه قالت رضي الله عنها: " والله ما أجد شيئا أربط به إلا نطاقي " فقال أبو بكر رضي الله عنه: " فشقيه باثنين فاربطيه: بواحد السقاء، وبالآخر السفرة " ففعلت رضي الله عنها.
2 - صبر عبد الله بن الزبير رضي الله عنه على ما ناله من الأذى من أهل الشام بقولهم له؛ " يا ابن ذات النطاقين " يعيرونه بذلك فصبر على أذاهم (5) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 14، الدرس الرابع، ورقم 29، الدرس الثالث.
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر، 7 / 248.
(3) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 2929 من صحيح البخاري.
(4) انظر: الحديث رقم 30، الدرس الخامس.
(5) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 129، و 9 / 533.(1/611)
فينبغي للداعية أن يصبر على الابتلاء والأذى، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة (1) .
خامسا: من صفات الداعية: الاعتزاز بطاعة الله عز وجل: دل فعل عبد الله بن الزبير وقوله رضي الله عنه على اعتزازه وسروره بطاعة الله عز وجل، وذلك أن أهل الشام كانوا يعيِّرونه بقولهم: " يا ابن ذات النطاقين " فقالت له أسماء: " يا بني إنهم يعيرونك بالنطاقين. وهل تدري ما كان النطاقان؟ إنما كان نطاقي شققته نصفين فأوكيت قربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحدهما، وجعلت في سفرته آخر " فكان أهل الشام إذا عيروه بالنطاقين يقول: " إيها والإِله تلك شكاة ظاهر عنك عارها ". وهذا يبين اعتزازه رضي الله عنه بذلك؛ لأن خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجهيزه في سفره من أعظم الطاعات، وأعلى القربات؛ ولهذا استزادهم من قولهم كما قال ذلك الحافظ ابن حجر (2) رحمه الله فإن كلمة " إيهِ " يراد بها الاستزادة، وأما كلمة: " إيها " فهي أمر بالسكوت وقطع الكلام. وذكر ابن حجر رحمه الله أن بعض علماء اللغة حَرَّروا، أن كلمة " إيها " بالتنوين للاستزادة، وبغير التنوين " إيها " لقطع الكلام، فصار معنى " إيها " مثل " إيهِ " للاستزادة (3) وهذا مقصود عبد الله بن الزبير؛ لأنه رغب في الاستزادة؛ لشرف خدمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقد مدح الله المعتزين بدينهم الإِسلام فقال عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] (4) فقوله: {إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] فيه اعتزاز وفخر بالإِسلام.
سادسا: أهمية أدب المدعو مع الدعاة والعلماء: ظهر في هذا الحديث أن أهل الشام أساءوا الأدب مع عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وعيَّروه بعمل أمه المبارك في خدمة رسول الله ذ وتجهيزه للهجرة؛ ولهذا قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: " تلك شكاة ظاهر عنك عارها " والشكاة: " رفع
_________
(1) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 66، الدرس الأول.
(2) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 9 / 533.
(3) انظر: المرجع السابق، 9 / 533.
(4) سورة فصلت، الآية 33.(1/612)
الصوت بالقول القبيح " (1) فينبغي للمدعو أن يلتزم الأدب مع الدعاة والعلماء، حتى يحصل على الثواب من الله عز وجل، ويستفيد من علمهم، والله المستعان (2) .
سابعا: جهود نساء الصحابة رضي الله عنهن في الجهاد والدعوة: إن الناظر والمتأمل في حياة الصحابيات رضي الله عنهن يجد أنهن يبذلن الجهود العظيمة في الجهاد والدعوة، وخدمة المجاهدين، ومن ذلك ما فعلته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها من تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإعداد ما يحتاجه في سفره، وفي هجرته إلى المدينة، وهكذا الصحابيات غيرها اللواتي شاركن في الجهاد بخدمة المجاهدين، وعلاج المرضى والجرحى مع التزامهن بأمور الشرع وآدابه. رضي الله عنهن. (3) .
ثامنا: من تاريخ الدعوة: ذكر الهجرة: ظهر في هذا الحديث أن من تاريخ الدعوة ذكر الهجرة؛ لقول أسماء رضي الله عنها في هذا الحديث: " صنعت سفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر حين أراد أن يهاجر إلى المدينة "، وقد كانت تلك الهجرة بعد البعثة بثلاث عشرة سنة أمضاها النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى كلمة الإِخلاص، والترغيب والترهيب، ثم هاجر إلى المدينة صلى الله عليه وسلم (4) .
_________
(1) فتح الباري لابن حجر، 9 / 533.
(2) انظر: الحديث رقم 14، الدرس الثالث، ورقم 21، الدرس الأول.
(3) انظر: الحديث رقم 63، الدرس السادس، ورقم 64، الدرس الرابع، ورقم 65، الدرس الأول.
(4) انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، 3 / 53.(1/613)
[باب الردف على الحمار]
[حديث ركب النبي على حمار على إكاف عليه قطيفة وأردف أسامة وراءه]
127 - باب الرّدف على الحمَارِ 108 [ص:2987] حَدَّثَنَا قتَيْبَة: حَدَّثَنَا أَبو صفْوانَ، عَنْ يونسَ بْنِ يَزيدَ، عنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عرْوَةَ عَنْ أسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ (1) رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ركِبَ علَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَيْهِ قَطِيفَة، وأَرْدَفَ أسَامَةَ وَرَاءَه» (2) .
وفي رواية: «أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ قَطِيفَة فَدَكِيَّة، وأسَامَة ورَاءَه يَعود سَعْدَ بْنَ عبَادَةَ فِي بَنِي حَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَة بَدْرٍ، فَسَارَا حَتَّى مرَّا بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْد اللهِ بْن أبَيٍّ ابْن سَلولَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يسْلِمَ عَبْد الله بْن أبَيٍّ فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلاَط مِنَ الْمسْلِمِينَ، وَالْمشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيهودِ، وَفِي المسلمينَ عَبْد الله بْن رَوَاحَة (3) فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَة الدَّابَّة،
_________
(1) أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل، الصحابي الجليل، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن مولاه، وحبه وابن حبه، الأمير العظيم، رضي الله عنه، ولد في الإسلام ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وله ثماني عشرة سنة، وقيل عشرون سنة، أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش عظيم؛ لغزو الروم، وفي الجيش عمر والكبار من الصحابة، فلم يسر حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبادر الصديق، نفاذ جيش أسامة رضي الله عنه، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة وثمانية وعشرون حديثا، اتفق البخاري ومسلم على خمسة منها، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بحديثين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويحب أباه، فهما من أحب الناس إليه، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجله ويكرمه، ويفضله في العطاء على ولده عبد الله، وكان إذا لقيه بقول: " السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت عليَّ أمير " واعتزل أسامة الفتن والحروب التي وقعت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وسكن أسامة المزة، ثم رجع وسكن وادي القرى، ثم نزل إلى المدينة فمات بها سنة أربع وخمسين على الصحيح. رضي الله عنه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 113، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 2 / 496 -507، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1 / 31.
(2) [الحديث 2987] أطراف في: كتاب تفسير القرآن، 3- سورة آل عمران، باب " وَلَتَسْمَعنَّ مِنَ الَّذِينَ أوتوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكوا أَذى كَثِيرا "، 5 / 204، برقم 4566. وكتاب المرضى، باب عيادة المريض راكبا وماشيا وردفا على الحمار، 7 / 9، برقم 5663. وكتاب اللباس، باب الارتداف على الدابة، 7 / 88، برقم 5964. وكتاب الأدب، باب كنية المشرك، 7 / 155، برقم 6207. وكتاب الاستئذان، باب التسليم في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين، 7 / 171، برقم 6254. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسبر، باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على أذى المنافقين، 3 / 1422، برقم 1798.
(3) عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس، الأنصاري الخزرجي، الأمير الشاعر المشهور، شهد العقبة فهو من السابقين الأولين من الأنصار، وكان نقيبا ليلة العقبة على بني الحارث بن الخزرج، وشهد بدرا وجيمع المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الفتح وما بعدها؛ فإنه توفي يوم مؤتة وهو أحد الأمراء في غزوة مؤتة، وكان أول خارج إلى الغزوات وآخر قادم، وكان أحد الشعراء المحسنين الذين يردون الأذى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الإسلام والمسلمين، ومن شعره رضي الله عنه ما ثبت عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء، وعبد الله بن رواحة بين يديه يمشي وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا بزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " خل عنه يا عمر، فَلَهيَ أسرع فيهم من نضح النبل " [أخرجه الترمذي برقم 2847 وقال: حديث حسن صحيح. وصححه الألبانَي في صحيح سنن الترمذي 2 / 374، وفي مختصر الشمائل المحمدية برقم 210، وانظر: سيرة بن هشام 3 / 427.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان، واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: " إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة، وكانوا ثلاثة آلاف، وساروا في طريقهم، وقابلوا الروم وهم مائتا ألف؛ مائة ألف من الروم، ومائة ألف من المستعربة، فقاتلوهم، فقتل زيد وحمل اللواء جعفر بن أبي طالب، ثم قتل، فحمل اللواء عبد الله بن رواحة وقال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه ... لتنزلن أو لتكرَهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه ... مالي أراكِ تكرهين الجنة
قد طالما قد كنت مطمئنة ... هل أنت إلا نطفة في شنه
وقال أيضا:
يا نفس إلا تقتلي تموتي ... هذا حِمَام الموت قد صليتِ
وما تمنيتِ فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديتِ
[سيرة ابن هشام 3 / 434، ثم قاتل حتى قتل شهيدا رضي الله عنه بعد أن حرض الناس على القتال ورغبهم في الشهادة رضي الله عنه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1 / 265، وسير أعلام النبلاء للذهبي 1 / 230- 240، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 306.(1/614)
خَمَّرَ ابْن أبَي أَنفَه بِرِدَائِهِ وَقَالَ: لَا تغَبِّروا عَلَيْنَا، فَسَلَّمَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِم ثمَّ وَقَفَ، فنَزَلَ فَدَعَاهمْ إِلَى اللهِ وَقَرَأَ عَلَيْهم الْقرْآنَ فَقَالَ لَه عَبْد اللهِ بْن أبَي ابْن سَلولَ (1) أَيّهَا الْمَرْء لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقول إِنْ كَانَ حَقّا فَلاَ تؤذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصصْ عَلَيهِ، قَالَ عَبْد الله بْن رَوَاحَةَ: بَلَى يَا رَسولَ الله فاغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا، فَإنَا نحِبّ ذَلِكَ فَاسْتَبَّ الْمسْلِمونَ وَالْمشْرِكونَ وَالْيَهود، حَتَّى كَادوا يَتَثاوَرونَ، فَلَمْ يَزَلْ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يخَفِّضهمْ حَتَّى سَكَتوا، ثمَّ رَكِبَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم دابَّتَه فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عبَادَةَ (2) فَقَال رَسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَيْ سَعْد أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبو حبَابٍ "؟ يريد عَبْدَ اللهِ بْنَ أبَيٍّ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ سَعْد
_________
(1) عبد الله بن أبي ابن سلوَل، وسلول أمه، كان رأس المنافقبن، ونزل في ذمه آيات كثيرة، وتوفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه إكراما لابنه عبد الله الصحابي الجليل الصالح، وكفنه في قميصه إكراما لهذا الصحابي المسدد، ثم نهى الله عن الصلاة على المنافقين وعدم القيام على قبورهم أبدا. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 260.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 8.(1/615)
ابْن عبَادَةَ: أَيْ رَسولَ الله بِأَبِي أنتَ اعْف عَنْه وَاصْفَحْ، فَوَالَّذِي أنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَقَدْ جَاءَ الله بِالْحَقِّ الَّذِي أنزِلَ عَلَيكَ، وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْل هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يتَوِّجوه وَيعصبوه بِالْعِصَابَة، فَلَمَّا رَدَّ الله ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شرِق بذَلِكَ فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ فَعَفَا عَنْه رَسول الله صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابه يَعْفونَ عَنِ الْمشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا أَمَرَهم الله وَيَصْبِرونَ علَى الأذى قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186] (1) الآية، وَقَالَ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109] (2) فَكَانَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَأَوَّل فِي الْعَفْوِ عَنْهمْ مَا أَمَرَه الله بِهِ حَتَّى أَذِنَ لَه فِيهِمْ، فَلَمَّا غَزَا رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم بَدْرا فَقَتَلَ الله بِهَا مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ الْكفَّارِ وَسَادَةِ قرَيْشٍ، فَقَفَلَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه مَنْصورِينَ غَانِمينَ مَعَهمْ أسَارى مِنْ صَنَادِيدِ الْكفَّارِ وَسَادَةِ قرَيْشٍ قَالَ ابْن أبَيٍّ ابْن سَلولَ وَمَنْ مَعَه مِنَ الْمشْرِكِينَ عَبَدَة الأَوْثَانِ: هَذَا أَمْر قَدْ تَوَجَّه، فَبَايَعوا رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الإِسْلاَمِ فَأَسْلَموا» (3) .
وفي رواية: «فَقَالَ لَه عَبْد اللهِ بْن أبَيٍّ: يَا أَيّهَا الْمَرء إِنَّه لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقول إن كَانَ حَقا فَلاَ تؤذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا وارْجِعْ إلَى رَحْلِكَ. .» . (4) .
* شرح غريب الحديث: * " إكاف " الإكاف للحمار كالقتب للجمل، والرحل للناقة، والسرج للفرس، وجمع الإِكاف: أكف، وأكفت الحمار: أي وضعت عليه إكافه (5) .
* " قطيفة " القطيفة: كساء له خمل (6) .
_________
(1) سورة آل عمران، الآية 186.
(2) سورة البقرة، الآية 109.
(3) طرف الحديث رقم 6207.
(4) من الطرف رقم 5663.
(5) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 383.
(6) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع الطاء، مادة: " قطف " 9414، وانظر: شرع غريب الحديث رقم 68، ص 408.(1/616)
* " عجاجة الدابة " العجاج: الغبار (1) .
* " خَمَّر أنفه بردائه " أي غطَّى، والتخمير التغطية (2) .
* " فاغشنا في مجالسنا " يقال: غشيه يغشاه غِشيانا: إذا جاءه (3) .
* " يتثاورون " يثور بعضهم على بعضٍ بقتال أو مشاجرة، ويقال: ثار يثور ثورا: أي قام بسرعة وانزعاج. (4) .
* " يخفِّضهم " يسَكِّنهمْ (5) .
* " البحرة " البلدة، وتصغيرها بحيرة، ويقال: هذه بحيرتنا: أي بلدتنا (6) .
* " يعصبوه بالعصابة " العصابة ما يعصب بها الرأس: أي يشد بها لرئاسة أو مرض (7) .
* " شرِق بذلك " يقال: شَرق بالماء يشرق، شَرَقا: إذا غص به، شبه ما أصابه من فوات الرِّيَاسة بالغصص (8) .
* " صناديد قريش " الصناديد الأشراف وأكابر الناس (9) .
* " قفل " رجع والقفول: الرجوع من السفر (10) .
* " هذا أمر قد توجه " أي قد استمر فلا طمع في إزالته وتغييره (11) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها.
1 - من موضوعات الدعوة: الحض على مكارم الأخلاق.
_________
(1) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 383.
(2) المرجع السابق ص 383.
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الغين مع الشين. مادة: " غشا " 3 / 369.
(4) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 383.
(5) المرجع السابق ص 383.
(6) المرجع السابق ص 383.
(7) المرجع السابق ص 383.
(8) المرجع السابق ص 383.
(9) المرجع السابق ص 383.
(10) المرجع السابق ص 383، وانظر: شرح غريب الحديث رقم 80، ص 483.
(11) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 383.(1/617)
2 - من صفات الداعية: التواضع.
3 - من وسائل الدعوة: الزيارة والعيادة.
4 - من آداب الداعية: إفشاء السلام.
5 - من صفات الداعية: الحلم.
6 - أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة.
7 - من أعظم أساليب الدعوة: التذكير بالقرآن والسنة في المجامع المشتركة وغيرها.
8 - من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والأذى.
9 - من وظائف الداعية: إطفاء نار الفتن.
10 - من أصناف المدعوين: المشركون.
11 - من أصناف المدعوين: اليهود.
12 - من أصناف المدعوين: المسلمون.
13 - من صفات الداعية: العناية الدائمة بالدعوة إلى الله عز وجل.
14 - أهمية استشارة الداعية لأصحابه.
15 - من وظائف المدعو: الدفاع عن العلماء والدعاة المخلصين.
16 - من صفات الداعية: العفو والصفح.
17 - من أساليب الدعوة: التأليف بالنداء بالكنى.
18 - من أسباب إعراض المدعوين: الحسد وحب الرياسة والجاه.
19 - من وسائل الدعوة: استخدام القوة عند الحاجة.
20 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
21 - إخفاء المنافقين نفاقهم دليل على قوة المسلمين.
22 - من أساليب الدعوة: التشبيه.
23 - من ميادين الدعوة المجالس العامة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحض على مكارم الأخلاق: دل هذا الحديث على أن مكارم الأخلاق من موضوعات الدعوة؛ لأن(1/618)
النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس بفعله في هذا الحديث إلى التواضع، والحلم، والصبر، وتحمل الأذى، وإفشاء السلام، وإطفاء الفتن، والعفو والصفح، والحرص على الدعوة إلى الله عز وجل (1) وهذا يؤكد على الدعاة إلى الله رحمه الله العناية بتعليم الناس وحضهم على مكارم الأخلاق؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (2) وقد دعا الناس إلى هذه المكارم بقوله وفعله صلى الله عليه وسلم (3) .
ثانيا: من صفات الداعية: التواضع: دل هذا الحديث على صفة التواضع من عدة وجوه: ركوب النبي صلى الله عليه وسلم الحمار، وركوبه على قطيفة، وإردافه الغلام، وزيارته صلى الله عليه وسلم لسعد بن عبادة؛ فإن زيارة الكبير للصغير من التواضع (4) .
فينبغي للداعية أن يكون متواضعا اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم (5) .
ثالثا: من وسائل الدعوة: الزيارة والعيادة: إن من وسائل الدعوة المؤثرة في حياة المدعو: الزيارة وعيادة المرضى، وقد دلَّ فعل النبي صلى الله عليه وسلم بزيارته لسعد بن عبادة في هذا الحديث على ذلك؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " فيه عيادة الكبير بعض أتباعه في داره " (6) .
فينبغي للداعية أن يعتني بهذه الوسيلة عناية خاصة؛ ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل الزيارة في الله عز وجل وعيادة المرضى، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «جاء أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: يعود الحسن بن علي رضي الله عنهما، فقال له عليّ رضي الله عنه: أجئت عائدا أم شامتا؟ فقال: بل جئت عائدا، فقال علي: إن جئت عائدا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أتى أخاه المسلم عائدا مشى في خرافة
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 401.
(2) البيهقي، 10 / 192، وأحمد، 2 / 381، والحاكم، 2 / 613، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 14، الدرس الأول، ص 139.
(3) انظر: الحديث رقم 14، الدرس الأول، ورقم 35، الدرس التاسع.
(4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 405، وعمدة القاري للعيني، 14 / 240، 18 / 55.
(5) انظر: الحديث رقم 33، الدرس الحادي عشر، ورقم 62، الدرس الثالث.
(6) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8 / 231.(1/619)
الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح» (1) وعن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع» «وفي رواية؛ قيل: يا رسول الله، وما خرفة الجنة؟ قال: جناها» (2) .
والزيارة في الله عز وجل- ولو لم يكن المسلم مريضا- من وسائل الدعوة ومن أعظم القربات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله. (3) له على مدرجته ملكا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال؛ هل لك عليه من نِعْمَة تَربهّا (4) ؟ قال: لا غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك، بأن الله قد أحبَّك كما أحببته فيه» (5) وعنه صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي (6) اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» (7) .
فينبغي للداعية أن يعتني بزيارة المدعوين وخاصة الأحبة في الله عز وجل، ويعتني بزيارة المرضى؛ فإن لذلك الأثر العظيم في نفوسهم، والثواب الجزيل عند الله عز وجل؛ ولهذا وجبت محبة الله عز وجل للمتحابين فيه، والمتزاورين فيه، والمتباذلين فيه، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في،
_________
(1) أبو داود، بنحوه، كتاب الجنائز، باب فضل العيادة، 3 / 185، برقم 3089، 3099، وابن ماجه بلفظه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في ثواب من عاد مريضا، 1 / 463، برقم 1442، والحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي 1 / 349، والبيهقي في السنن الكبرى، 3 / 380، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 3 / 353، وصحيح الجامع الصغير، 5 / 180.
(2) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، والآداب، باب فضل عيادة المريض، 4 / 1989، برقم 2568.
(3) . فأرصد: أي أقعده يرقبه، والمدرجة: الطريق، سميت بذلك؛ لأن الناس يدرجون عليها: أي يمضون. شرح النووي 16 / 360.
(4) تربها: أي تقوم بإصلاحها، وتنهض إليه بسبب ذلك، المرجع السابق 16 / 360.
(5) مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل الحب في الله، 4 / 1988، برقم 2567.
(6) المتحابون بجلالي: أي بعظمتي وطاعتي لا للدنيا. شرح النووي على صحيح مسلم 15 / 359.
(7) مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل الحب في الله، 4 / 988، برقم 2566.(1/620)
والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ» (1) وعن معاذ رضي الله عنه أيضا، قال؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل؛ المتحابّون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء» (2) .
رابعا: من آداب الداعية: إفشاء السلام: إن من الآداب الإِسلامية إفشاء السلام على كل مسلم، ولو كان معه غيره؛ ولهذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين، والمشركين، واليهود كما في حديث أسامة هذا؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " يؤخذ منه جواز السلام على المسلمين إذا كان معهم كفار، وينوي حينئذٍ بالسلام المسلمين " (3) وقال الإِمام النووي رحمه الله: " وفيه جواز الابتداء بالسلام على قوم فيهم مسلمون وكفار وهذا مجمع عليه " (4) .
فينبغي للداعية أن يعتني بإفشاء السلام، ولهذا أجاب صلى الله عليه وسلم رجلا سأله: «أي الإِسلام خير؟ قال؛ " تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» (5) وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؛ أفشوا السلام بينكم» (6) وقال عمار بن ياسر رضي الله عنه: " ثلاث من جمعهن فقد جمع الإِيمان: الإِنصاف من نفسك، وبذل السلام لِلْعَالَم، والإِنفاق من الإِقتار " (7) وهذا كله يبين أهمية السلام
_________
(1) أخرجه الإِمام مالك في الموطأ، كتاب الشعر، باب ما جاء في المتحابين في الله، 2 / 954، والحاكم وصححه علي شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، 4 / 169، وانظر: الاستذكار لابن عبد البر، 27 / 110، والتمهيد له، 2 / 124.
(2) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الحب في الله، 4 / 598، برقم 2390، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2 / 284.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8 / 232.
(4) شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 400، وانظر؛ عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي لابن العربي، 5 / 361، وعمدة القاري للعيني 18 / 156.
(5) متفق عليه: البخاري برقم، 12، ومسلم برقم 39، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 19، الدرس الثالث، ص 168.
(6) مسلم، كتاب الإِيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وأن محبة المؤمنين من الإِيمان، وأن إفشاء السلام سبب لحصولها، 1 / 74، برقم 54 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) البخاري، كتاب الإِيمان، باب السلام من الإِسلام، 1 / 15.(1/621)
وأنه من أعظم الآداب التي ينبغي للداعية أن يتخلق بها (1) .
خامسا: من صفات الداعية؛ الحلم: ظهر في هذا الحديث حلم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ضبط نفسه عن هيجان الغضب فلم يغضب عندما صدر الأذى من زعيم المنافقين بقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تغبروا علينا " وخمر أنفه بردائه، وأساء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: " أيها المرء لا أحسن مما تقول، إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا، فمن جاءك فاقصص عليه " وقابل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام القبيح بالحلم فلم يغضب، فدل ذلك على الحلم العظيم والخلق الكريم.
فينبغي لكل مسلم، وخاصة الداعية إلى الله، أن يقتدي بهذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم (2) .
سادسا: أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة: لا ريب أن من أهم المهمات وأعظم القربات الخلق الحسن، والأدب الجميل وخاصة مع العلماء والدعاة، وقد ظهر في هذا الحديث سوء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المنافق عبد الله بن أبيّ قَلَّ حياؤه وساء أدبه فخمّر أنفه بردائه وقال: لا تغبروا علينا، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم عندما سمع قراءته للقرآن: " أيها المرء لا أحسن مما تقول، إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا فمن جاءك فاقصص عليه " وكان يجب عليه أن يستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يؤذيه، ولا يرد دعوته، ولا يناديه بنداء الاستخفاف كقوله: " أيها المرء " بل كان يلزمه: أن يسلم، ويخلص، ويقول: يا رسول الله، رضينا بالله ربا وبالإِسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا.
فينبغي لجميع المدعوين أن يلزموا الأدب مع العلماء والدعاة، ويقبلوا دعوتهم، والله المستعان. (3) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 89، الدرس الثالث.
(2) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الثاني، ورقم 89، الدرس الخامس.
(3) انظر: الحديث رقم 14، الدرس الثالث، ورقم 21، الدرس الأول، ورقم 35، الدرس الأول.(1/622)
سابعا: من أعظم أساليب الدعوة: التذكير بالقرآن والسنة في المجامع المشتركة وغيرها: دل هذا الحديث على أهمية أسلوب التذكير بالقرآن الكريم؛ ولهذا عندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى مجلس فيه أخلاط من المشركين واليهود والمسلمين، سلم ثم وقف ونزل ودعاهم إلى الله عز وجل وقرأ عليهم القرآن. وهذا يؤكد العناية بالقرآن الكريم، وتذكير الناس به وقراءته عليهم؛ لأنه أبلغ الكلام وأعظمه تأثيرا في القلوب؛ قال الله عز وجل: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] (1) وقال سبحانه وتعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] (2) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] (3) وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا - وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء: 9 - 10] (4) .
وقال عز وجل: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] (5) وقال عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82] (6) .
وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44] (7) .
ومما يدل على تأثير القرآن العظيم في القلوب ما قاله جبير بن مطعم رضي الله عنه: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ - أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ - أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور: 35 - 37] (8)
_________
(1) سورة الحشر، الآية 21.
(2) سورة ق، الآية 45.
(3) سورة يونس، الآية 57.
(4) سورة الإسراء، الآيتان 9-10.
(5) سورة الإسراء، الآية 88.
(6) سورة الإسراء، الآية 82.
(7) سورة فصلت، الآية 44.
(8) سورة الطور، الآيات35-37.(1/623)
كاد قلبي أن يطير [وذلك أول ما وقر الإِيمان في قلبي] » (1) وهذا يدل على تأثير القرآن الكريم في القلوب، وكذلك ينبغي للداعية أن يذَكِّر بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها الوحي الثاني ولها تأثير في القلوب أيضا ومما يدل على تأثير كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في القلوب قصة ضماد رضي الله عنه عندما قدم مكة وكان يرقي من الجن فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون إن محمدا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يديَّ، فلقيه فقال: «يا محمد إني أرقي من هذه الريح (2) وإن الله يشفي على يديَّ من شاء، فهل لك (3) ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد " فقال: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات. فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بَلَغْنَ ناعوس البحر (4) فقال؛ هات يدك أبَايعْكَ على الإِسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وعلى قومك؟ " قال: وعلى قومي» (5) . وهكذا ما جاء عن الطفيل بن عمرو رضي الله عنه أنه كان شاعرا وسيدا في قومه فقدم مكة فحذرته قريش من مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن كلامه كالسحر فاحذره أن يدخل عليك وعلى قومك ما أدخل علينا؛ فإنه يفرق بين المرء وزوجه، وبين المرء وابنه، فما زالوا يحذرونه، حتى حلف أن لا يدخل المسجد إلا وقد سد أذنيه، فسد أذنيه بقطن، ثم دخل المسجد، فأعجبه فقال في نفسه: إني امرؤ ثبت ما تخفى عليَّ الأمور: حسنها
_________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة الطور، باب: حدثنا عبد الله بن يوسف، 6 / 68 برقم 4854، وما بين المعكوفين من الطرف رقم 4023 من كتاب المغازي 5 / 25، وأخرجه مسلم بنحوه في كتاب الصلاة باب القراءة في الصبح، 1 / 338، برقم 463.
(2) المراد بالريح هنا: الجنون ومس الجن. شرح النووي على صحيح مسلم 6 / 406.
(3) أي فهل لك رغبة في رقيتي وهل تميل إليها. انظر: المرجع السابق 6 / 406.
(4) قيل: ناعوس البحر، وقيل: قاموس البحر، وهو وسطه، ولجته، أو قعره. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 6 / 407.
(5) مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، 2 / 593، برقم 868.(1/624)
وقبحها، والله لأسمعن منه فإن كان أمره رشدا أخذته منه وإلا اجتنبته، فنزع القطن فلم يسمع كلاما أحسن من كلامه، فلحقه إلى بيته ودخل معه وأخبره الخبر، وقال: اعرض عليَّ دينك؛ فعرض عليه الإِسلام فأسلم (1) .
فينبغي للدعاة إلى الله عز وجل أن يعتنوا بتذكير الناس بالقرآن الكريم، وبسنة محمد صلى الله عليه وسلم. والله المستعان.
ثامنا: من صفات الداعية: الصبر على الأذى والابتلاء: دل هذا الحديث على أهمية الصبر على الأذى والابتلاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صبر الأذى والابتلاء كما في هذا الحديث حيث صدر الأذى من المنافق عبد الله بن أبيِّ بن سلول، بالتأفف وقوله: " لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به. . . " ومما يدل على ذلك ما جاء في هذا الحديث أيضا: " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى قال الله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186] (2) .
وقال عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109] (3) .
وهذا يبين للدعاة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر على الأذى والابتلاء (4) فينبغي الاقتداء به صلى الله عليه وسلم (5) .
تاسعا: من وظائف الداعية: إطفاء نار الفتن: إن من الوظائف المهمة للداعية إطفاء نار الفتن وإخمادها، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن المسلمين استبوا والمشركين واليهود حينما قال عبد الله بن رواحة
_________
(1) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 1 / 345.
(2) سورة آل عمران، الآية 186.
(3) سورة البقرة، الآية 109.
(4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 401، وإكمال إكمال المعلم للأبي، 6 / 444.
(5) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 66، الدرس الأول.(1/625)
رضي الله عنه: " بلى يا رسول الله فاغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك " وعبد الله بن أبيٍّ يقول: " إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا " فاستمر السباب حتى كاد بعضهم يثور على بعض بالقتال والمشاجرة. فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسكنهم حتى سكتوا ثم ركب دابته بعد أن أطفأ الفتنة وسار، وهذا فيه حكمة أخرى، وهو أنه فارق ذلك المجلس؛ لئلا تعود المشاجرة والمسابة مرة أخرى.
فينبغي للداعية أن يكون مفتاحا للخير والصلح والسلامة، والله الموفق. (1) .
عاشرا: من أصناف المدعوين: المشركون: دل هذا الحديث على أن من أصناف المدعوين المشركون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عم بالدعوة المشركين الذين في مجلس عبد الله بن أبيٍّ وقرأ على الجميع القرآن الكريم ودعاهم إلى الله عز وجل.
فينبغي للداعية أن يعتني بدعوة المشركين على حسب الطرق الحكيمة في دعوتهم إلى الله عز وجل (2) .
الحادي عشر: من أصناف المدعوين: اليهود: ظهر في هذا الحديث أن اليهود من أصناف المدعوين؛ ولهذا عم النبي صلى الله عليه وسلم اليهود الذين في مجلس عبد الله بن أبي بدعوته وقرأ عليهم القرآن، وذكرهم. ولا شك أن اليهود قلوبهم قاسية كالحجارة أو أشد قسوة إلا من هدى الله منهم للإِسلام، ولكن ينبغي مع ذلك دعوتهم إلى الإِسلام وإقامة الحجة عليهم حسب الطرق الحكيمة في دعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى (3) .
الثاني عشر: من أصناف المدعوين: المسلمون: دل هذا الحديث على أن المسلمين من أصناف المدعوين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شملهم بالدعوة والتذكير وقراءة القرآن في مجلس عبد الله بن أبيٍّ؛ ولكن
_________
(1) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 8 / 232.
(2) انظر: الحديث رقم 91، الدرس الثامن.
(3) انظر: الحديث رقم 89، الدرس العاشر.(1/626)
ينبغي للداعية أن يراعي أحوالهم والطرق الحكيمة في دعوة المسلمين؛ لأن المسلمين ينقسمون إلى قسمين: قسم ينقادون للحق ولا يعاندون فهؤلاء يكفي في دعوتهم أن يبين لهم الحق علما وعملا واعتقادا، وحينئذ ينقادون لذلك. وقسم من المسلمين عندهم: غفلة وشهوات، وأهواء، وهم عصاة المسلمين، فهؤلاء تكون دعوتهم عن طريق ثلاثة مسالك:
1 - الموعظة الحسنة: وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، والقول الحق الذي يلين القلوب، ويؤثر في النفوس، ويكبح جماح النفوس المتمردة، ويزيد النفوس المهذبة إيمانا وهداية (1) قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] (2) .
والوعظ في الحقيقة ينبغي أن يكون على نوعين:
(أ) وعظ التعليم: ويكون ببيان عقائد التوحيد، وبيان الأحكام الشرعية الخمسة: من الواجب، والحرام، والمسنون، والمكروه، والمباح، مع مراعاة ما يناسب كل طبقة. وينبغي أن تساق هذه الأحكام مساق الوعظ، ولا تسرد سردا خاليا من وسائل وأساليب التأثير، وأسلوب القرآن على هذا، يبين الحكم مقرونا بالترغيب، أو الترهيب، أو الجمع بين الأمرين؛ ولهذا يأخذ بمجامع القلوب، وحينئذ تستقبل العقائد والأحكام برغبة واشتياق للعمل والتطبيق.
(ب) وعظ التأديب: ويكون بتحديد الأخلاق الحسنة: كالحلم والأناة، والصبر والكرم، والوفاء، والأمانة. . . وبيان آثارها ومنا فعها في المجتمع، والحث على التخلق بها والتزامها، وتحديد وتعريف الأخلاق السيئة: كالغضب، والعجلة، والغدر، والجزع، والجبن، والبخل، والتحذير من الاتصاف بها من طريقي: الترغيب والترهيب. ويكون ذلك مقرونا بالأدلة من الكتاب والسنة (3) .
_________
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 19 / 164، ومفتاح دار السعادة لابن القيم 1 / 474.
(2) سورة النساء، الآية 66.
(3) انظر: تفسير ابن كثير، 1 / 266، 462، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي، 1 / 278، 2 / 35، وهداية المرشدين لعلي بن محفوظ ص 143 -145 وص 192 وص 241- 244.(1/627)
2 - الترغيب والترهيب: ويكون بالترغيب في جنس الطاعات وأنواعها، والترهيب بذكر الوعيد بالعذاب والعقوبات على جنس المعاصي والذنوب، وعلى أنواع الذنوب وآحادها (1) .
3 - استخدام الأساليب التصويرية التي تدخل على القلوب مباشرة وتشد أذهان المستمعين: كالقصص من القرآن الكريم والسنة النبوية، وضرب الأمثال، ولفت الأنظار إلى الأوصاف الحميدة المعنوية، وبيان آثارها العملية التي تحصل بسبب تطبيقها والعمل بها، ومن ذلك ذكر أوصاف المؤمنين، ومن الأساليب التصويرية: لفت الأنظار إلى الآثار المحسوسة، كلفت أنظار المدعوين إلى آثار الأمم الماضية، والأفراد والجماعات الظالمة، والقرى والأمصار المكذبة، وقد تكون الآثار في الأزمان القريبة أو الأماكن والأزمان المعاصرة؛ فإن في النظر فيما حل بهم من الهلاك والدمار والزلازل، والمحن، والأمراض أعظم العبر لمن اعتبر وتفكر، ونظر واتعظ، والنظر في مساكنهم وديارهم، وكيف أبادهم وأذلهم، وأهلكهم الملك الجبار، وجعل أخبارهم عبرة لأولي الأبصار (2) .
ولا شك أن الله عز وجل قد بين مراتب الدعوة وكانت بحسب مراتب البشر فقال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (3) .
قال الإِمام ابن القيم رحمه الله: " جعل الله سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة، والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة، وهي الأمر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة، والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن، وهذا هو الصحيح في معنى هذه الآية " (4) .
_________
(1) انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم، 1 / 474، وهداية المرشدين لعلي محفوظ ص 192 -219.
(2) انظر: تفسبر ابن كثير، 2 / 125، 3 / 563، 428، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي، 2 / 377، 6 / 114، 135، 330، 519، 554، 7 / 68، وهداية المرشدين لعلي بن محفوظ، ص 219- 240.
(3) سورة النحل، الآية 125.
(4) مفتاح دار السعادة، 1 / 474.(1/628)
فإن ظلم المعاند ولم يرجعِ إلى الحق انتقِل معه إلى مرتبة استخدامِ القوة (1) قال الله عز وجل: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] (2) .
واستخدام القوة بالكلام والتأديب لمن له سلطة وقوة مشروعة، وبالجهاد في سبيل الله تحت لواء ولي أمر المسلمين بالشروط التي دل عليها الكتاب والسنة، وهذا ما يقتضيه مفهوم الحكمة الصحيح؛ لأنها وضع الشيء في موضعه بإحكام، وإتقان، وإصابة (3) .
الثالث عشر: من صفات الداعية: العناية الدائمة بالدعوة إلى الله عز وجل: إن من الصفات الحميدة والأعمال الجليلة: العناية الفائقة الدائمة بالدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا كان أعظم الناس فيها حظا ونصيبا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم سار في طريقه إلى جموع مختلطة من المشركين عبدة الأوثان، واليهود، والمسلمين، فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، ثم عمل عملا دعويا آخر وهو الإِصلاح بين هؤلاء حينما كادت الجموع أن يثور بعضها على بعض فسكنهم حتى أطفأ الفتنة صلى الله عليه وسلم، ثم قام وسار في عملٍ دعوي آخر وهو زيارته لسعد بن عبادة رضي الله عنه، وهذا يدل على أن عمله كله دائم في الدعوة والعبادة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل» (4) قال النووي رحمه الله: " وفي هذا الحديث بيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من: الحلم، والصفح، والصبر على الأذى في الله تعالى، ودوام الدعاء إلى الله تعالى، وتألف القلوب والله أعلم " (5) .
_________
(1) انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم، 1 / 517.
(2) سورة العنكبوت، الآية 46.
(3) انظر: فتاوى ابن تبمية، 2 / 44، 45، 15 / 243، 19 / 164، والتفسير القيم لابن القيم، ص 344، ومفتاح دار السعادة، لابن القيم 1 / 474، 517، وتفسير ابن كثير 3 / 416 و 4 / 315، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، لمحمد الأمين بن المختار الشنقيطي، 2 / 174-175، وفتاوى محمد بن إبراهيم آل الشيخ، 1 / 90.
(4) متفق عليه: البخاري، برقم 1970، ومسلم برقم 782، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 18، الدرس السادس، ص 163.
(5) شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 401.(1/629)
فينبغي للداعية أن تكون دعوته دائمة على حسب الأحوال، وحاجة الناس إلى الدعوة، ولكن ينبغي اختيار الأوقات والموضوعات المناسبة، لكل فئة.
الرابع عشر: أهمية استشارة الداعية لأصحابه: دل هذا الحديث على أن الداعية ربما يستشير أصحابه وأتباعه وهذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه فقال: «أي سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب» ؟ " فأشار عليه رضي الله عنه بقوله: " أي رسول الله بأبي أنت اعف عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت " فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا يبين أهمية الشورى ومشاورة الداعية أصحابه، وما فيها من الفوائد (1) .
الخامس عشر: من وظائف المدعو: الدفاع عن العلماء والدعاة المخلصين: يظهر في هذا الحديث أن من وظائف المدعو المخلص الصالح الدفاع عن العلماء والدعاة المخلصين؛ ولهذا دافع عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في مجلس عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول فقال عندما حصل النقاش: " بلى يا رسول الله فاغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك " وهذا رد على قول عبد الله بن أبي حيث قال: " فلا تؤذنا في مجالسنا ".
فينبغي الدفاع عن علماء الإِسلام بالحق في حياتهم وبعد مماتهم، والله المستعان (2) .
السادس عشر: من صفات الداعية: العفو والصفح: ظهر عفو النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن عبد الله بن أبي، حيث لما يعاقبه صلى الله عليه وسلم، ولم يقاتله، ولم يأمر أصحابه باغتياله؛ وإنما عفا عنه وصفح؛
_________
(1) انظر: الحديث رقم 64، الدرس الثالث.
(2) انظر: الحديث رقم 4، الدرس الثالث، ورقم 63، الدرس الأول.(1/630)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " عفوه صلى الله عليه وسلم عن كثير من المشركين واليهود، بالمنِّ والفداء، وصفحه عن المنافقين مشهور في الأحاديث والسير " (1) .
فينبغي للداعية أن يعفو ويصفح اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. (2) .
السابع عشر: من أساليب الدعوة: التأليف بالنداء بالكنى: إن التأليف بالنداء بالكنى من أساليب الدعوة النافعة؛ ولهذا والله أعلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد: «ألم تسمع ما قال أبو الحباب» ؟ " يعني عبد الله بن أبيٍّ! قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " كناه النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة؛ لكونه كان مشهورا بها أو لمصلحة التأليف " (3) ونقل رحمه الله عن ابن بطال أنه قال: " فيه جواز تكنية المشركين على وجه التأليف، إما رجاء إسلامهم، أو لتحصيل منفعة منهم " (4) ثم رجح ابن حجر رحمه الله جواز تكنية الكافر للتأليف أو خشية الفتنة (5) والله المستعان (6) .
الثامن عشر: من أسباب إعراض المدعوين: الحسد، وحب الرئاسة والجاه: لا شك أن من أسباب إعراض المدعوين عن قبول الدعوة والانقياد لدين الله عز وجل: الحسد، والحقد، وحب الرئاسة والجاه، ولهذا قال سعد بن عبادة رضي الله عنه للنبي في شأن عبد الله بن أبيٍّ: " ولقد اصطلح أهل هذه البحرة على أن يتوِّجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شِرق بذلك، فلذلك فعل به ما رأيت " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله على قوله: " شرق بذلك " أي غصَّ به، وهو كناية عن الحسد، يقال: " غص بالطعام، وشَجيَ بالعظم، وشرق بالماء إذا اعترض شيء من ذلك في الحلق فمنعه الإساغةَ " (7) وعلاج
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8 / 233، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 2 / 101.
(2) انظر: الحديث رقم 80، الدرس الثالث، ورقم 105، الدرس الرابع.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8 / 232.
(4) نقلا عن فتح الباري 8 / 232؛ لعدم وقوفي على شرح ابن بطال.
(5) انظر: فتح الباري بشرح صحح البخاري، 10 / 593.
(6) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الحادي عشر.
(7) فتح الباري، بشرح صحيح البخاري 8 / 232، وانظر. أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري للخطابي 3 / 1830.(1/631)
هذا الإِعراض بالدعوة الصادقة، فإن لم تجْدِ فالجهاد في سبيل الله عز وجل.
التاسع عشر: من وسائل الدعوة: استخدام القوة عند الحاجة: دل هذا الحديث على أن من وسائل الدعوة النافعة استخدام القوة عند الحاجة إذا لم ينفع الرفق واللين؛ وقد جاء في هذا الحديث: «فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأوَّل في العفوِ ما أمره الله به حتى أذن له فيهم، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا فقتل الله بها من قتل من صناديد الكفار وسادة قريش قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منصورين غانمين معهم أسارى من صناديد الكفار وسادة قريش» ، وهذا فيه دلالة على أن القوة عند الحاجة إليها من أعظم وسائل الدعوة إلى الله عز وجل، فإذا لم يؤثر الرفق واللين، والعفو والصفح، في أصناف المدعوين: من الملحدين، والمشركين، وأهل الكتاب، ولم يستفيدوا من الأدلة والبراهين العقلية والنقلية، والمعجزات الحسية، ولم ينقادوا للجدال بالتي هي أحسن، وأعرضوا وكذبوا، فحينئذٍ يكون آخر الطب الكي: وهو استخدام القوة تحت لواءِ ولي أمر المسلمين؛ فإن لذلك الأثر العظيم في نشر الدعوة، وقمع الباطل وأهله، ونصر الحق وأهله؛ قال الله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] (1) ولقد أحسن القائل:
وما هوَ إلّا الوحْي أوحَدّ مرْهَفٍ (2) ... تميل ظبَاه (3) أخَدعَي كلِّ مائِلِ
فَهَذا دَوَاء الدَّاءِ مِنْ كلِّ عَالمٍ ... وَهذا دَواء الدَّاءِ من كلِّ جاهل
هَوَ الحَقّ إنْ تَسْتَيقظوا فيه تَغْنَموا ... وإِنْ تَغْفلوا فالسَّيف لَيْسَ بِغَافِلِ (4)
_________
(1) سورة الحديد، الآية 25.
(2) المرهف السيف المحدد المسنون، يقال؛ رهف سيفه: رققه وحدده. انظر: المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية، مادة: " رهف " 1 / 377.
(3) الظبة: حد السيف والسنان والخنجر، وما أشبهها، والجمع ظبا وظبات. انظر: المرجع السابق، مادة: " الظبة " 2 / 575.
(4) ديوان أبي تمام، بشرح الخطيب التبريزي، 3 / 86 -87.(1/632)
وقال آخر: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قَالوا غَزَوْتَ وَرسل اللهِ مَا بعثوا ... لِقتلِ نَفْسٍ ولا جاءوا لسَفْكِ دَم
جَهْل وتَضليل أَحْلامٍ وسَفْسطةَ (1) ... فَتَحتَ بِالسَّيْفِ بعد الفتح بالقلمَ
لمَا أتى لك عفوا كلّ ذي حَسَبِ ... تكفَّلَ السيف بِالجهالِ والَعَمَمِ (2)
وما أحكم ما قال الآخر:
دعا المصطفى دهرا بمكة لم يجب ... وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف صلت بكفه ... له أسلموا واستسلموا وأنابوا (3)
فالعاقل ذو الفطرة السليمة ينتفع بالبينة والبرهان، ويقبل الحق بدليله، أما الظالم المتبع لهواه فلا يرده إلا السيف، وأنواع القوة والسلاح (4) .
العشرون: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: ظهر في هذا الحديث أن القدوة الحسنة من وسائل الدعوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مع عظم مكانته عند الله عز وجل لم يكن يرفع نفسه عن الإِرداف على الدابة؛ قال العلامة العيني رحمه الله: " وكان يردف لتتأسَّى به في ذلك أمته فلا يأنفوا مما لم يكن يأنف منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يستنكف منه مما لم يستنكف " (5) .
فينبغي الاقتداء به صلى الله عليه وسلم (6) .
الحادي والعشرون: إخفاء المنافقين نفاقهم دليل علي قوة المسلمين: دل هذا الحديث على أن المنافقين يختفون بشرهم عند ظهور قوة المسلمين،
_________
(1) يقال: سفسط: غالط وأنى بحكمة مضللة " من اليونانية " انظر: المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية مادة: " سفسط " 1 / 433.
(2) العمم: اسم جمع للعامة من الناس بخلاف الخاصة، انظر: المرجع السابق، مادة. " عم " 2 / 629، والبيت من شعر أحمد شوقي: الشوقيات 1 / 201.
(3) انظر: فتاوى سماحة العلامة عبد العزبز بن عبد الله ابن باز 3 / 184 و204، وقال، هذا الشعر يروى لحسان بن ثابت رضي الله عنه.
(4) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 28 / 37 و 264، وتفسير ابن كثير 3 / 416، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي، 7 / 301.
(5) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 14 / 240.
(6) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث، ورقم 8، الدرس الخامس.(1/633)
ويظهرون نفاقهم وشرهم وأذاهم للإِسلام والمسلمين عند ضعف المسلمين؛ ولهذا جاء في هذا الحديث: «فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منصورين غانمين معهم أسارى من صناديد الكفار وسادة قريش قال ابن أبيِّ بن سلول ومن معه من المشركين عبدة الأوثان " هذا أمر قد توجه، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإِسلام فأسلموا» وهذا؛ لخوفهم وجزعهم، وإلا فابن أبيٍّ لا زال على عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى مات منافقا. أسأل الله العافية لي ولجميع المسلمين.
الثاني والعشرون: من أساليب الدعوة: التشبيه: ظهر في هذا الحديث أسلوب التشبيه؛ لأن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال في شأن عبد الله بن أبيِّ ابن سلول " شرق بذلك " قال الحميدي رحمه الله: " شرق بذلك، يقال شرق بالماء يشرق شرقا، إذا غص، شبه ما أصابه من فوات الرئاسة بالغصص " (1) والله المستعان (2) .
الثالث والعشرون: من ميادين الدعوة: المجالس العامة: لا شك أن من الميادين المهمة للدعوة إلى الله عز وجل المجالس العامة التي يجتمع الناس فيها؛ ولهذا عندما مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بمجلس عبد الله بن أبيِّ بن سلول ورأى فيه أخلاطا من المسلمين، والمشركين، واليهود، نزل صلى الله عليه وسلم ووقف فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن. وهذا يؤكد أهمية استخدام المجالس العامة ميدانا للدعوة إلى الله، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
_________
(1) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 383.
(2) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الرابع ورقم 19، الدرس الخامس.(1/634)
[باب كراهية السفر بالمصحف إلى أرض العدو]
[حديث سافر النبي وأصحابه في أرض العدو وهم يعلمون القرآن]
129 - باب كراهية السفر بالمصحف إلى أرض العدو وَكَذَلِكَ يرْوَى عَنْ محَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ عبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عمَرَ، عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَتَابَعَه ابْن إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
«وَقَدْ سَافَرَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأَصْحَابه فِي أَرْضِ العَدوِّ وَهمْ يَعْلَمونَ الْقرْآنَ» .
109 [ص:2990] حَدَّثَنَا عَبْد اللهِ بْن مَسْلَمةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِع، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن عمَرَ (1) رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يسَافَرَ بالْقرآنِ إِلَى أَرْضِ العَدوِّ» (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحض على تعظيم القرآن الكريم.
2 - من صفات الداعية: الحرص على إكرام وتعظيم القرآن الكريم.
3 - شدة عداوة أعداء الدين وخطرهم على الإِسلام وأهله.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحض على تعظيم القرآن الكريم: إن هذا الحديث يدل على أن من الموضوعات المهمة في الدعوة إلى الله عز وجل الحض على العناية بالقرآن الكريم وتعظيمه؛ ولهذا " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوِّ "؛ قال الإِمام ابن عبد البر رحمه الله: " أجمع الفقهاء أن لا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه، واختلفوا في جواز ذلك في العسكر المأمون الكبير. . " (3) وفي رواية
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 1.
(2) وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه بأيديهم، 3 / 1490، برقم 1869.
(3) الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار، 14 / 51.(1/635)
لمسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوِّ مخافة أن يناله العدوّ» (1) وفي رواية: «لا تسافروا بالقرآن فإني لا آمن أن يناله العدوّ» (2) قال الإمام النووي رحمه الله: " فيه النهي عن المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار للعلة المذكورة في الحديث، وهي خوف أن ينالوه فينتهكوا حرمته، فإن أمنت هذه العلة، بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهرين عليهم فلا كراهة ولا منع منه حينئذ هذا هو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة والبخاري وآخرون " (3) .
وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول في النهي عن السفر بالقرآن إلى بلاد العدوّ: " وهذا إذا كان يخشى عليه أن يمتهنوه، أما إذا لم يخشَ عليه فلا حرج، والخطر على ما في المصاحف أما ما في الصدور فيحمل ويدعى به، وحمل المصحف إلى بلاد الكفار منهي عنه: سواء كانوا حربيين أو غير ذلك إذا خشي عليه " (4) .
فينبغي للدعاة إلى الله عز وجل أن يحضوا الناس على تعظيم القرآن الكريم وإكرامه، وعدم السفر به إلى بلاد الكفار إذا خشي عليه الإِهانة والامتهان.
ثانيا: من صفات الداعية: الحرص على إكرام وتعظيم القرآن الحكيم: ظهر في هذا الحديث حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعظيم القرآن الكريم وإكرامه؛ ولهذا نهى عن السفر به إلى بلاد العدوِّ؛ لئلا يهان؛ لأن المشركين واليهود والنصارى أعداء الإِسلام وخاصة إذا كانوا حربيين؛ قال الله عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] (5) والقرآن الكريم لا يمسه إلا طاهر، وهؤلاء خبثاء نَجَس، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] (6)
_________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإِمارة، باب النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه بأيديهم، 3 / 1491 برقم 1869.
(2) المرجع السابق، في الكتاب والباب المشار إليهما، 3 / 1491.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم، 13 / 16، وانظر: إكمال إكمال المعلم للأبي، 6 / 590، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 133، وعمدة القاري للعيني، 14 / 242، وشرح الزرقاني على موطأ مالك، 3 / 13.
(4) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 2990، من صحيح البخاري.
(5) سورة البقرة، الآية 120.
(6) سورة التوبة، الآية 28.(1/636)
وفي الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: «لا يمس القرآن إلا طاهر» (1) وهذا يؤكد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعظيم القرآن الكريم وإكرامه.
فينبغي للداعية أن يكون حريصا على تعظيم القرآن العزيز وإكرامه، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: شدة عداوة أعداء الدين وخطرهم على الإسلام وأهله: إن أعداء الإِسلام: من الملحدين، والمشركين وأهل الكتاب لهم غدرات، وعداوة شديدة للإِسلام وأهله؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السفر بالقرآن إلى أرضهم، خشية أن يمتهنوا هذا القرآن العظيم.
فينبغي للمسلمين أخذ الحذر؛ لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] (2) وقال سبحانه وتعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 119] (3) .
_________
(1) موطأ الإِمام مالك، كتاب القرآن، باب الأمر بالوضوء لمن مس القرآن، 1 / 199، والدارقطني في سننه، كتاب الطهارة، باب في نهي المحدث عن مس القرآن، 1 / 122، وله شاهد من حديث ابن عمر عند الدارقطني في الكتاب والباب السابق 1 / 121، والطبراني في الكبير، 12 / 213 برقم 13217، والأوسط والصغير [مجمع البحرين 1 / 346 برقم 431] والبيهقي في السنن الكبرى 1 / 88، وله شاهد آخر من حديث حكيم بن حزام، عند الدارقطني في سننه، 1 / 122، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 3 / 485، والطبراني في المعجم الأوسط والصغير، [مجمع البحرين، 1 / 347، برقم 432] وفي المعجم الكبير، 3 / 205، برقم 3135. وقال ابن عبد البر " وكتاب عمرو بن حزم هذا قد تلقاه العلماء بالقبول والعمل، وهو عندهم أشهر وأظهر من الإِسناد الواحد ": الاستذكار 1 / 10 وصححه الألباني في إرواء الغليل، لشواهده وطرقه 1 / 158، وانظر: تلخيص الحبير، لابن حجر 1 / 131.
(2) سورة النساء، الآية71.
(3) سورة آل عمران، الآية 119.(1/637)
[باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير]
[حديث أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا]
131 - باب مَا يكره مِنْ رفع الصوت في التكبير 110 [ص:2992] حَدَّثَنَا محَمَّد بْن يوسفَ: حَدَّثَنَا سفْيَان، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عثْمَانَ، عَنْ أَبِي موسَى الأشعري (1) رضي الله عنه، قَالَ: «كنَّا مَعَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَكنَا إِذَا أشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرنَا، ارْتَفَعَتْ أصوَاتنَا. فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: يَا أيهَا النَّاس، ارْبَعوا عَلَى أَنْفسِكمْ، فَإِنَكمْ لَا تَدْعونَ أَصَمَّ، وَلَا غَائِبا، إِنَّه مَعَكمْ، إِنَّه سَمِيع قَرِيب، تَبَارَكَ اسْمه، وَتَعَالَى جَدّه» (2) .
وفي رواية: «لَمَّا غَزَا رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ- أَوْ قَالَ: لَمَّا تَوَجهَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم- أَشْرَفَ النَّاس عَلَى وَادٍ فَرَفَعوا أَصْوَاتَهمْ بالتَّكْبيرِ: الله أَكْبَر، الله أَكْبَر، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله. فَقَالَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: " ارْبَعوا علَى أنفسِكم، إِنَكم لَا تدْعونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبا، إِنَكم تَدْعون: سَمِيعا، قَرِيبا، وَهوَ مَعَكمْ " وَأنا خَلْفَ دَابَّةِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعَنِي وَأنا أَقول: لاَ حَوْلَ وَلاَ قوةَ إِلاَّ بِاللهِ. فَقَالَ لِي: " يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ " قلْت لَبَّيْكَ رَسولَ اللهِ. قَالَ: " أَلَا أَدلكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزٍ مِنْ كنوزِ الْجَنَّةِ؟ " قلْت: بَلَى يَا رَسولَ اللهِ فِدَاكَ أَبِي وأمِّي. قَالَ: " لَا حَوْلَ وَلا قوَّةَ إِلّا باللهِ» (3) .
وفِي رواية: «أَخَذَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي عَقَبَةٍ - أَوْ قَالَ في ثَنِيةٍ - قَالَ: فَلَمَّا عَلاَ عَلَيْهَا رَجل نَادَى فرَفعَ صَوْتَه: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهِ، وَالله أَكْبَر، قَالَ: وَرَسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ.» (4) .
وفي رواية: «كنَّا مَعَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ فَجَعَلْنَا لاَ نَصْعَد شَرَفا، وَلاَ نَعْلو شَرَفا، وَلاَ نَهْبِط فِي وَادٍ إِلاَّ رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ، قَالَ: فَدَنَا مِنّا رَسول اللهِ
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 66.
(2) [الحديث 2992] أطرافه في: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 5 / 89، برقم 4205. وكتاب الدعوات، باب الدعاء إذا علا عقبة، 7 / 209، برقم 6384. وكتاب الدعوات، باب قول لا حول ولا قوة إلا بالله، 7 / 217، برقم 6409. وكتاب القدر، باب لا حول ولا قوة إلا بالله، 7 / 271، برقم 6610. وكتاب التوحيد، باب (وكَاَنَ الله سميعا بَصِيرا) ، 8 / 212، برقم 7386. وأخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، 4 / 2076، برقم 2704.
(3) الطرف رقم: 4205.
(4) الطرف رقم: 6409.(1/638)
صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " يَا أَيّهَا النَّاس ارْبَعوا عَلَى أَنْفسِكمْ فَإِنَّكمْ لَا تَدْعونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبا، إِنَّمَا تَدْعونَ سَمِيعا بَصِيرا.» (1) .
وفي رواية: «سَمِيعا بَصِيرا، قَريبا " ثمَّ أَتَى علَيَّ وأَنا أَقول فِي نَفْسِي: لَا حَوْلَ وَلَا قوَّةَ إِلَّا باللهِ، فَقَالَ: " يَا عَبْدَ اللهِ بنَ قَيْسٍ، قلْ: لَا حَوْلَ وَلَا قوَّةَ إِلَّا بِاللهِ؛ فإِنَّهَا كَنْز مِنْ كنوزِ الْجَنَّةِ " أَوْ قَالَ: " أَلَا أَدلكَ عَلَى كَلِمَةٍ هِيَ كَنْز مِنْ كنوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قوَّةَ إِلَّا بِاللهِ» (2) .
* شرح غريب الحديث: * " اربعوا على أنفسكم " أي ارفقوا بها واخفضوا أصواتكم. (3) .
* " عقبة " والعقبة المرقى الصعب في الجبال (4) .
* " أو ثنية " الثنية في الأرض: طريق بين جبلين، وقيل: الثنية في الجبل: كالعقبة فيه، وقيل: هو الطريق العالي فيه، وقيل أعلى السيل في رأسه (5) .
* " لا نصعد شرفا " الشرف من الأرض العالي، ومشارف الأرض أعاليها، وشَرَف كلّ شيءٍ أعلاه (6) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - حرص الصحابة رضي الله عنهم على ذكر الله عز وجل.
2 - من موضوعات الدعوة: بيان صفات الله عز وجل.
_________
(1) الطرف رقم: 6610.
(2) الطرف رقم: 7386.
(3) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 81، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الباء، مادة: " ربع " 2 / 187، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 23 / 81.
(4) المعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية، مادة: " عقب " 2 / 613.
(5) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 192، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الثاء مع النون، مادة: " ثنا " 1 / 226.
(6) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 192.(1/639)
3 - محبة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 - من أساليب الدعوة: السؤال والجواب.
5 - من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: إخباره بالأمور الغيبية.
6 - من صفات الداعية: الحرص على زيادة الخير للمدعو.
7 - من موضوعات الدعوة: الحث على ذكر الله عز وجل.
8 - من موضوعات الدعوة: الحض على خفض الصوت بالذكر إلا ما شرع الجهر به.
9 - من صفات الداعية: الاستسلام لله وتفويض الأمور إليه عز وجل.
10 - من صفات الداعية: التواضع.
11 - من أساليب الدعوة: التشبيه.
12 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
13 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: حرص الصحابة رضي الله عنهم على ذكر الله عز وجل: دل هذا الحديث على حرص الصحابة رضي الله عنهم على ذكر الله عز وجل ولهذا قال أبو موسى رضي الله عنه: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنا إذا أشرفنا على وادٍ هللنا وكبَّرنا ارتفعت أصواتنا " ومما يدل على حرصهم رضي الله عنهم أيضا، ما كان يقوله أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن نفسه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى عليه وهو يقول في نفسه: " لا حول ولا قوة إلا بالله. . . ".
فينبغي للمسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل أن يكون حريصا على ذكر الله عز وجل في كل أحواله؛ في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، وفي السفر والحضر، حتى يحصل على الثواب العظيم، ويكون قدوة لغيره؛ وقد مدح الله أصحاب العقول السليمة وبين أن من صفاتهمِ ذكر الله عز وجل في كل أحوالهم، قال الله عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ - الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190 - 191] (1) .
_________
(1) سورة آل عمران، الآيات 190-191.(1/640)
وهذا يؤكد حرصهم على ذكر الله سبحانه وتعالى في كل أحوالهم (1) .
ثانيا: من موضوعات الدعوة: بيان صفات الله عز وجل: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة، بيان صفات الرب عز وجل من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبا إنه سميع قريب تبارك اسمه وتعالى جده» وفي الرواية الأخرى: «وهو معكم» وفي الرواية الثالثة: «سميعا بصيرا» وهذا يؤكد على أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى إثبات صفات الكمال لله عز وجل، ولا ريب أنه ينبغي للداعية أن يبين للمدعوين صفات الكمال، فيحث المدعوين على أن يثبتوا ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفوا ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن صفات الكمال التي وردت في هذا الحديث: السمع، والبصر، والمعية، والقرب، وقد أثبت الله ذلك لنفسه فقال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] (2) .
فله سبحانه وتعالى سمع وبصر يليق بجلاله، لا كسمع خلقه ولا بصرهم بل أحاط سمعه بجميع المسموعات وبصره بجميع المخلوقات؛ فهو يسمع ويبصر كل شيء وإن خفي ظاهرا وباطنا (3) وقوله صلى الله عليه وسلم: «وهو معكم» المعية المعيتان: معية عامة لجميع المخلوقات، وهذه المعية من صفات الله الذاتية التي لا تنفك عن الله عز وجل، ومقتضى هذه المعية العلم والإحاطة والاطلاع لقول الله عز وجل: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] (4) .
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 17 / 28، وفتح الباري لابن حجر 6 / 135، وعمدة القاري للعيني 14 / 244، والمنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود، لمحمود محمد خطاب السبكي 8 / 189.
(2) سورة الشورى، الآية 11.
(3) انظر فتاوى ابن تيمية، 3 / 134، وتوضيح الكافية الشافية، للسعدي ص 117، وشرح العقيدة الواسطية، لمحمد بن عثيمين 1 / 206.
(4) سورة الحديد، الآية 4.(1/641)
ومعية خاصة لأهل الإِيمان والتقوى، ومقتضاها: الحفظ، والعناية، والنصرة، والتوفيق، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] (1) وقوله {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] (2) والمعية الخاصة من الصفات الفعلية (3) وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنه سميع قريب» قال الله عز وجل: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61] (4) .
فمن أسماء الله سبحانه وتعالى " القريب "، ومن صفاته القرب، وقربه عز وجل نوعان: قرب عام، وهو إحاطة علمه بجميع الأشياء، وهو أقرب للإِنسان من حبل الوريد، وهو بمعنى المعية العامة. وقرب خاص بالداعين، والعابدين، والمحبين، وهو قرب يقتضي المحبة والنصرة، والتأييد في الحركات والسكنات، والإِجابة للداعين، والقبول والإِثابة للعابدين (5) قال الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] (6) .
وإذا فهم القرب بهذا المعنى في العموم والخصوص لم يكن هناك تعارض أصلا بينه وبين ما هو معلوم من وجوده تعالى فوق عرشه، فسبحان من هو عليّ في دنوّه قريب في علوِّه (7) .
فينبغي للداعية أن يوضح هذه العقيدة للمدعوين والله ولي التوفيق (8) .
ثالثا: محبة الصحابة لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: إن الصحابة رَضِيَ اللَّه عَنْهم يحبون رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أكثر من أنفسهم، وأولادهم،
_________
(1) سورة النحل، الآية 128.
(2) سورة البقرة، الآية 249.
(3) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 5 / 103-104.
(4) سورة هود، الآية 61.
(5) انظر: الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية للسعدي ص 64، وشرح العقيدة الواسطية لابن عثيّمين 1 / 400.
(6) سورة البقرة، الآية 186.
(7) انظر: شرح القصيدة النونية لابن القيم، للدكتور محمد خليل الهراس 2 / 92، وتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد، شرح قصيدة ابن القيم، لأحمد بن إبراهيم بن عيسى 2 / 229.
(8) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 5 / 5- 121 [الفتوى الحموية الكبرى] و 3 / 129-159 [العقيدة الواسطية] وانظر: الحديث رقم 39، الدرس الأول.(1/642)
ووالديهم، والناس أجمعين؛ ولهذا قال عبد الله بن قيس للنبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عندما ناداه: " لبيك رسول الله " وقال للنبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ". . . يا رسول الله فداك أبي وأمي ".
فينبغي الاقتداء بالصحابة رَضِيَ اللَّه عَنْهم في حب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. (1) .
رابعا: من أساليب الدعوة: السؤال والجواب: لا ريب أن السؤال والجواب من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل؛ وقد سأل النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عبد الله بن قيس في هذا الحديث ثم أجابه، فقال: «يا عبد الله بن قيس» فقال عبد الله رَضِيَ اللَّه عَنْه: لبيك رسولَ الله. فقال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: «ألا أدلك على كلمة من كنز من كنوز الجنة» ؟ " فقال عبد الله رَضِيَ اللَّه عَنْه: بلى يا رسول الله فداك أبي وأمي. فقال صلى الله عليه وسلم: «لا حول ولا قوة إلا بالله» وهذا يدل على أهمية سؤال الداعية للمدعو؛ ليشد انتباهه ويلقي سمعه، ثم يجيبه على السؤال.
فينبغي العناية بالسؤال والجواب عند الحاجة إليه (2) .
خامسا: من معجزات الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إخباره بالأمور الغيبية: ظهر في هذا الحديث أن عبد الله بن قيس رَضِيَ اللَّه عَنْه بين أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أتى عليه وهو يقول في نفسه: " لا حول ولا قوة إلا بالله " فقال: «يا عبد الله بن قيس: " قل: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها كنز من كنوز الجنة» وظاهره يدل على أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أطلعه الله على ما أخفاه عبد الله من الذكر وكشفه له فأخبره صلى الله عليه وسلم بفضل هذا الذكر (3) والله أعلم (4) .
سادسا: من صفات الداعية: الحرص على زيادة الخير للمدعو: إن من صفات الداعية الحرص على زيادة الخير للمدعو؛ ولهذا عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يرفعون أصواتهم بالتكبير، زادهم صلى الله عليه وسلم علما وخيرا، وهو إخبارهم بأن الله يسمع ذكرهم، وهو معهم وقريب منهم، وهذا يفيد الداعي
_________
(1) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثامن، وحديث رقم 63، الدرس الثامن.
(2) انظر: الحديث رقم 58، الدرس الرابع.
(3) انظر: مرقاة المفاتيح للملا علي القاري 5 / 132.
(4) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع.(1/643)
والذاكر استحضار عظمة الله ومراقبته، فيحصل بذلك الإِخلاص والخشوع (1) وزادهم صلى الله عليه وسلم ذكرا آخر هو كنز من كنوز الجنة: «لا حول ولا قوة إلا بالله» ؛ ولهذا نقل ابن حجر رحمه الله عن ابن بطال رحمه الله أنه قال: " كان عليه السلام معلما لأمته، فلا يراهم على حالة من الخير إلا أحب لهم الزيادة، فأحب للذين رفعوا أصواتهم بكلمة الإِخلاص والتكبير أن يضيفوا إليها التبري من الحول والقوة، فيجمعوا بين التوحيد والإِيمان بالقدر " (2) .
سابعا: من موضوعات الدعوة: الحث على ذكر الله عز وجل: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة الحث على ذكر الله عز وجل، وتعليم الناس الأذكار النافعة، والدعوات الجامعة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لعبد الله بن قيس رضي الله عنه «ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله» وقد أمر الله عز وجل بذكره فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا - وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41 - 42] (3) وقال عز وجل: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205] (4) .
فينبغي للداعية أن يحض الناس على ذكر الله عز وجل، ويرغبهم في ذلك؛ ليحصلوا على الثواب العظيم والأجر الجزيل.
ثامنا: من موضوعات الدعوة: الحض على خفض الصوت بالذكر إلا ما شرع الجهر به: ظهر في هذا الحديث أن الحض على خفض الصوت بالذكر من موضوعات الدعوة إلى الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبا إنه معكم، إنه سميع قريب تبارك اسمه وتعالى جدّه» وهذا فيه حث على خفض الصوت بالذكر؛ لأن الله عز وجل سميع قريب مجيب لا تخفى عليه خافية؛ وقد جاء في رواية لمسلم لحديث
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 17 / 29.
(2) نقلا عن فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 11 / 501.
(3) سورة الأحزاب، الآيتان 41-42.
(4) سورة الأعراف، الآية 205.(1/644)
الباب: «والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم» (1) .
وقد أمر الله عز وجل بإخفاء الصوت بالدعاء فقال عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] (2) فينبغي للداعية أن يحث الناس على خفض الصوت بالذكر إلا ما ورد الشرع برفعه والجهر به: كالتلبية في إحرام الحج والعمرة؛ والذكر أدبار الصلوات، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير» وفي لفظ: «أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة، كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته» (3) وكذلك ما ورد من الجهر بالذكر في التلبية وغيرها مما شرع الرفع به (4) قال النووي رحمه الله في فوائد حديث عبد الله بن قيس رضي الله عنه: ". . . . فيه الندب إلى خفض الصوت بالذكر إذا لم تدع الحاجة إلى رفعه؛ فإنه إذا خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه، فإن دعت الحاجة إلى الرفع رفع كما جاءت به الأحاديث ". (5) .
تاسعا: من صفات الداعية: الاستسلام لله وتفويض الأمور إليه: دل الحديث على أنه ينبغي لكل مسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل أن يستسلم لله ويفوض أموره إليه عز وجل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن قيس: «قل لا حول ولا قوة إلا بالله» قال الإِمام النووي رحمه الله: " الحول: الحركة والحيلة: أي لا حركة ولا استطاعة، ولا حيلة إلا بمشيئة الله تعالى، وقيل معناه: لا حول في رفع شر، ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل: لا حول عن معصية الله إلا بعصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته، وحكِيَ هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه، وكله
_________
(1) مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر إلا في المواضع التي ورد الشرع برفعه فيها كالتلبية وغيرها، 4 / 2077 برقم 2704.
(2) سورة الأعراف، الآية 55.
(3) متفق عليه: البخاري، كتاب الآذان، باب الذكر بعد الصلاة، 1 / 229، برقم 841، 842، ومسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الذكر بعد الصلاة، 1 / 410، برقم 583.
(4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم: 17 / 29، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 135.
(5) شرح النووي على صحيح مسلم 17 / 29، وانظر: تحقيق الكلام في مشروعية الجهر بالذكر بعد السلام، لسليمان بن سحمان ص 13- 34.(1/645)
متقارب " (1) وقال الكرماني رحمه الله: " لا حول ولا قوة إلا بالله: كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى، ومعناه؛ لا حيلة في رفع شر، ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله ". (2) .
فينبغي للعبد أن يتبرأ من كل حول ومن كل قوة، ومن أي استطاعة، إلا أن يكون المعين هو الله عز وجل، فهو صاحب الحول الكامل وصاحب الطول والقوة، ولا شك أن العبد له إرادة وقدرة وفعل، ولكن ذلك لا يخرج عن إرادة الله عز وجل ومشيئته، فالله سبحانه وتعالى يطلب من عبده العمل الصالح، والعبد يريده ويعمله ويسأل الله الإِعانة عليه، ويتبرأ من حوله وقوته، ويسلم الأمور إلى الله عز وجل لا معطي لما منع ولا مانع لما أعطي، لا إله غيره ولا رب سواه، ولا حول ولا قوة إلا به سبحانه وتعالى (3) .
عاشرا: من صفات الداعية: التواضع: لا شك أن هذا الحديث دل على صفة التواضع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب على بغلة، وهو أفضل الخلق ومع ما أعطاه الله من الفضل والمكانة العالية لم يترفع عن ركوبها، وإلا فقد كان عنده من الخيل والإِبل ما يركب عليه، ولهذا قال عبد الله بن قيس رضي الله عنه: «نادى رجل فرفع صوته: لا إله إلا الله والله أكبر، قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته. . .» . فينبغي للداعية أن يكون متواضعا اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم (4) .
الحادي عشر: من أساليب الدعوة: التشبيه: ظهر في هذا الحديث أسلوب التشبيه في قوله صلى الله عليه وسلم: «قل لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها كنز من كنوز الجنة» وذكر الطيبي رحمه الله أن المشبه الحوقلة " لا حول ولا قوة إلا بالله " والمشبه به الكنز، " فإنها كنز من كنوز الجنة " (5) وقال الكرماني رحمه الله: " كنز: أي كالكنز في كونه أمرا نفيسا مدخرا مكنونا عن أعين الناس " (6) .
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم، 17 / 31، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 11 / 501.
(2) شرح صحيح البخاري 22 / 171، وانظر: المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود، للسبكي 8 / 188.
(3) انظر: سبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني 4 / 1627، وتوضيح الأحكام من بلوغ المرام، للبسام، 6 / 415.
(4) انظر: الحديث رقم 33، الدرس الحادي عشر، ورقم 62، الدرس الثالث.
(5) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 6 / 1824، وانظر: شرح السندي على سنن ابن ماجه 4 / 259.
(6) شرح صحيح البخاري للكرماني، 22 / 171، وانظر: 22 / 189، 23 / 82.(1/646)
وهذا يدل على أهمية التشبيه، وأنه أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل يستخدم عند الحاجة إليه (1) .
الثاني عشر: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب؛ لترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في الحوقلة وفضلها وأنها كنز من كنوز الجنة، قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن قيس: «قل لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة» قال النووي رحمه الله: " قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام، وتفويض إلى الله تعالى، واعتراف بالإِذعان له، وأنه لا صانع غيره، ولا راد لأمره، وأن العبد لا يملك شيئَاَ من الأمر، ومعنى الكنز هنا أنه ثواب مدخر في الجنة، وهو ثواب نفيس، كما أن الكنز أنفس أموالكم " (2) .
وهذا يؤكد أهمية الترغيب في الدعوة إلى الله عز وجل (3) .
الثالث عشر: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث: دل هذا الحديث على أن الحرص على الدقة في نقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصفات الجميلة والأعمال الجليلة؛ لأن الراوي قال: «أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في عقبة أو قال ثنية» قال الكرماني رحمه الله: " شك الراوي في اللفظ على مذهب من يحتاط ويريد نقل اللفظ بعينه " (4) وثبت في هذا الحديث أيضا: «يا عبد الله بن قيس قل: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها كنز من كنوز الجنة "، أو قال: " ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة؛ لا حول ولا قوة إلا بالله» ، فقول الراوي: أو قال: يدل على حرصه عل الدقة في نقل الحديث.
وهذا يؤكد على أهمية الاتصاف بالحرص على الدقة في نقل الحديث (5) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الرابع، ورقم 19، الدرس الخامس.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم، 17 / 30، وانظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري، 23 / 82، وفتح الباري لابن حجر، 11 / 188، 501.
(3) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر.
(4) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 22 / 188، 25 / 108، وانظر: عمدة القاري للعيني 23 / 29.
(5) انظر: الحديث رقم 21، الدرس العاشر.(1/647)
[باب التسبيح إذا هبط واديا]
[حديث كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا]
132 - باب التسبِيح إذا هَبط وَاديا 111 [ص:2993] حَدّثنا محَمَّد بْن يوسفَ: حَدَثَنَا سفيَان، عَنْ حصَيْنِ بْنِ عَبْد الرَّحْمنِ، عَنْ سَالمِ بْنِ أِبي الجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (1) رضي الله عنهما، قَالَ: «كنَا إِذَا صَعِدْنَا كَبرنَا، وَإذَا نَزَلنا سَبَّحْنَا» (2) .
وفي رواية: «كنّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرنَا، وإِذَا تصوَّبْنَا سَبّحْنَا» (3) .
* شرح غريب الحديث: * " تصوَّبنا " أي انخفضنا ونزلنا (4) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - حرص الصحابة رضي الله عنهم على ذكر الله عز وجل.
2 - من صفات الداعية: تعظيم الله عز وجل.
3 - من صفات الداعية: تنزيه الله عز وجل.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: حرص الصحابة رضي الله عنهم على ذكر الله عز وجل: دل هذا الحديث على حرص الصحابة رضي الله عنهم على ذكر الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا كانوا رضي الله عنهم إذا صعدوا على عقبة أو جبل، أو مكان مرتفع قالوا: " الله أكبر " وفي حديث عبد الله بن قيس رضي الله عنه: «لا إله إلا الله والله أكبر» (5) وإذا نزلوا واديا أو مكانا منخفضا قالوا: " سبحان الله " كما قال جابر رضي الله عنه: " كنَّا
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 32.
(2) [الحديث 2993] طرفه في: كتاب الجهاد والسير، باب التكبير إذا علا شرفاَ، 4 / 20، برقم 2994.
(3) الطرف رقم 2994.
(4) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الصاد مع الواو، مادة. " صوب " 3 / 57، وشرح الكرماني على صحيح البخاري 13 / 12، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 136.
(5) تقدم تخريجه في الحديث السابق رقم 110-2992.(1/648)
إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا " (1) .
ثانيا: من صفات الداعية: تعظيم الله عز وجل: لا ريب أن تعظيم الله سبحانه وتعالى من أهم الواجبات على كل مسلم ومسلمة وخاصة الدعاة إلى الله عز وجل؛ ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظمون الله عز وجل ويكبرونه، وخاصة إذا كانوا على مكان مرتفع؛ لاستشعارهم عظمة الله عز وجل، وعلوَّه واستواءه على عرشه استواء يليق بجلاله، وكبريائه؛ ولأن الإِنسان إذا صعد على مكان مرتفع تقع عينه على عظيم خلق الله عز وجل فيتذكر أن الله أكبر وأعظم من كل شيء؛ ولهذا قال جابر رضي الله عنه: " كنا إذا صعدنا كبرنا ".
قال الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62] (2) وقال سبحانه وتعالى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] (3) .
فينبغي لكل مسلم تعظيم الله عز وجل، ومن المناسب إذا صعد على شيء كبر الله تعظيما لشأنه عز وجل (4) .
ثالثا: من صفات الداعية: تنزيه الله عز وجل: إن تنزيه الله عز وجل عما لا يليق به من النقائص والعيوب من أهم المهمات وأعظم القربات؛ ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يسبحون الله وينزهونه، وخاصة إذا هبطوا واديا أو نزلوا وانخفضوا إلى مكان منحدر؛ لاستشعارهم تنزيه الله عز وجل عن الانخفاض، قال ابن حجر رحمه الله: " وقيل: مناسبة التسبيح في الأماكن المنخفضة من جهة أن التسبيح هو التنزيه، فناسب تنزيه الله عن صفات الانخفاض كما ناسب تكبيره عند الأماكن المرتفعة " (5) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 110، الدرس الأول.
(2) سورة الحج، الآية 62.
(3) سورة البقرة، الآية 255.
(4) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 136، ومرقاة المفاتيح لملا علي القاري، 5 / 309.
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 136.(1/649)
وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " النزول فيه السفول فناسب التسبيح؛ لأن الله في العلوِّ، والصعود فيه ارتفاع فناسب التكبير؛ لأن الله فوق العرش " (1) ولا مانع مع ذلك أن يستشعر المسلم عفو الله وقدرته عليه في بطون الأودية وغيرها، فيسبح الله لتعظيمه وعلوِّه وتنزيهه عن النقائص؛ ولينجيه كما أنجى يونس من الظلمات وبطن الحوت (2) .
قال الله عز وجل: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ - لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144] (3) .
فينبغي للداعية أن يكون منزِّها لله مسبحا؛ فإن الله عز وجل يسبحه كل شيء كما قال سبحانه وتعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44] (4) ولمكانة التنزيه لله عز وجل جعل الله الثواب العظيم على ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» (5) وعن مصعب بن سعد، عن أبيه رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ " فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: " يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة» (6) وهذا يؤكد على الداعية الصادق أن يعتني بالتسبيح؛ لعظمته ومكانته عند الله، ولثوابه الكبير.
_________
(1) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 2993، ورقم 2994 من صحيح البخاري.
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 136.
(3) سورة الصافات، الآيتان 143-144.
(4) سورة الإسراء، الآية 44.
(5) متفق عليه: البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح، 7 / 215، برقم 6405، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، 4 / 2071، برقم 2691.
(6) مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح، والدعاء، 4 / 2073، برقم 2698.(1/650)
[باب يكتب للمسافر ما كان يعمل في الإقامة]
[حديث إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا]
135 - باب يكتب للمسافر ما كان يعمل في الإقامة 112 [ص:2996] حدثنا مطر بن الفضل: حدثنا يزيد بن هارون: حدثنا العوام: حدثنا إبراهيم أبو إسماعيل السكسكي قال: سمعت أبا بردة واصطحب هو ويزيد بن أبي كبشة في سفر فكان يزيد (1) يصوم في السفر، فقال له أبو بردة (2) سمعت أبا موسى (3) مرارًا يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا»
الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحض على النية الصالحة.
2 - من صفات الداعية: النية الخالصة.
3 - من صفات الداعية: الحرص على الخير.
4 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولًا: من موضوعات الدعوة: الحض على النية الصالحة: إن الحث على النية الصالحة من أهم موضوعات الدعوة؛ لأن الأعمال
_________
(1) يزيد بن أبي كبشة بن جبريل بن يسار بن عد في التابعين، وهو من كبار الأئمة، كان صاحب شرطة عبد الملك، وولي على الغزاة ثم ولي إمرة العراقيين للوليد، فلما استخلف سليمان ولاه خراج السند، فأدركه الأجل قبل سنة مائة للهجرة. وورد أنه كان يصوم في السفر، وكان كبير الشأن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 4 / 443.
(2) أبو بردة بن قيس الأشعري أخو أبي موسى الأشعري، مشهور بكنيته كأخيه، قال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خرجنا من اليمن في بضع وخمسين رجلا من قومنا ونحن ثلاثة إخوة: أبو موسى، وأبو بردة، وأبو رهم فأخرجتنا سفينتنا إلى النجاشي بأرض الحبشة، وعنده جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فأقبلنا جميعا في سفينتنا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم حين افتتح خيبر. انظر: الاستيعاب لابن عبد البر، 4 / 18، والإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر 4 / 18، وتعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة، لابن حجر، 2 / 416.
(3) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 66.(1/651)
بالنيات؛ ولهذا حض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم أمته على إصلاح النية بقوله في هذا الحديث: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا»
. فينبغي للداعية أن يحث الناس على النية الصالحة؛ قال العلامة محمد بن صالح العثيمين حفظه الله: "وفي هذا تنبيه على أنه ينبغي للعاقل ما دام في حال الصحة والفراغ أن يحرص على الأعمال الصالحة، حتى إذا عجز عنها لمرض أو شغل كتبت له كاملة" (1) وهذا يؤكد على الدعاة أن يحثوا الناس على الأعمال الصالحة حتى يغتنموها في حال الفراغ والصحة، وتكتب لهم عند العجز والمرض والهرم (2) .
ثانيًا: من صفات الداعية: النية الخالصة: يظهر في هذا الحديث أنه ينبغي للمسلم، وخاصة الداعية إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، أن يتصف بالنية الصالحة؛ لأنها من أهم أعمال القلوب المخلصة؛ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا» وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
. فينبغي للداعية أن يغتنم الفرص، والفراغ، والصحة، والشباب، والغنى قبل حصول ما يضاد هذه النعم؛ فإنه إذا اغتنمها كتب الله له أعماله عند مفارقة هذه النعم، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» (3) وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» (4) . وهذا يبين أهمية
_________
(1) شرح رياض الصالحين، 3 / 277.
(2) انظر: الحديث رقم 73، الدرس السابع.
(3) البخاري، كتاب الرقاق، باب ما جاء في الصحة والفراغ، ولا عيش إلا عيش الآخرة، 7 / 218، برقم 6412.
(4) الحاكم وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، 4 / 306 ورواه ابن المبارك في الزهد، 1 / 104، برقم 2، من حديث عمرو بن ميمون مرسلًا، وقال ابن حجر في فتح الباري 11 / 235: بسند صحيح من مرسل عمرو بن ميمون. فمرسل عمرو بن ميمون شاهد لرواية الحاكم. وصحح الحديث الألباني في صحيح الجامع الصغير 2 / 355 برقم 1088.(1/652)
اتصاف المسلم بحسن النية والعمل في حال الصحة والفراغ والإقامة (1) .
ثالثًا: من صفات الداعية: الحرص على الخير: ظهر في إسناد هذا الحديث حرص التابعي الجليل: يزيد بن أبي كبشة على الأعمال الصالحة في السفر رغبة وحرصًا على الثواب والخير؛ ولهذا كان يصوم في السفر، فبين له الصحابي الجليل أبو بردة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا»
. فينبغي للداعية أن يكون حريصًا على فعل الخير، ولكن عليه أن يراعي في ذلك هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله المستعان (2) . رابعًا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على أن الترغيب من أساليب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ وقد رغب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأعمال الصالحة والمداومة عليها في الصحة والإقامة؛ ليكتب للعبد ما كان يعمل إذا مرض أو سافر؛ ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا»
. فينبغي للداعية أن يرغب الناس في الأعمال والمداومة عليها حتى يكتب لهم إذا سافروا أو مرضوا ما كانوا يعملون في صحتهم وإقامتهم (3) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 22، الدرس السادس.
(2) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الخامس عشر. ورقم 18، الدرس السادس.
(3) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر. ورقم 8، الدرس الرابع.(1/653)
[باب السير وحده]
[حديث لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده]
135 - باب السير وحده 113 [ص:2998] حدثنا أبو الوليد: حدثنا عاصم بن محمد قال: حدثني أبي عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حدثنا أبو نعيم: حدثنا عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن ابن عمر (1) عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده»
الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: بيان آداب السفر.
2 - من صفات الداعية: الرحمة والشفقة على مصلحة المدعو.
3 - الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل.
4 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولًا: من موضوعات الدعوة: بيان آداب السفر: إن من الموضوعات المهمة في الدعوة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ أن يبين الداعية للمدعوين آداب السفر، ويحثهم على الالتزام بها؛ لما فيها من المصالح والثواب باتباع السنة؛ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث: «لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده» وهذا فيه إرشاد من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته، ولا شك أن التحذير من السفر منفردًا يشمل الماشي على الأقدام أيضًا؛ قال الكرماني رحمه الله: "وهذا من قبيل الغالب وإلا فالراجل أيضًا كذلك" (2) والسفر منفردًا فيه مضار كثيرة: منها الضرر الديني؛ لأن المسافر وحده لا يجد
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 1.
(2) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 13 / 14.(1/654)
من يصلي معه جماعة، ودنيوي؛ لأنه لا يجد المعين في الطريق، وقيد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السير بالليل: «ما سار راكب بليل وحده» ؛ لأن احتمال الضرر في الليل أكبر، وإلا فالمشروع أن لا يسافر المسلم وحده بليل ولا نهار إلا لضرورة أو مصلحة لا تنتظم إلا بالانفراد، كإرسال الجاسوس، والطليعة (1) .
قال ابن حجر رحمه الله: "ويحتمل أن تكون حالة الجواز مقيدة بالحاجة عند الأمن، وحالة المنع مقيدة بالخوف حيث لا ضرورة" (2) قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب» (3) . قال الإمام الخطابي رحمه الله؛ "معناه والله أعلم: أن التفرد والذهاب وحده في الأرض من فعل الشيطان، أو هو شيء يحمله عليه الشيطان ويدعوه إليه، فقيل على هذا: إن فاعله شيطان. ويقال: إن اسم الشيطان مشتق من الشطون: وهو البعد والنزوح، ويقال: بئر شطون: إذا كانت بعيدة المهوى، فيحتمل على هذا أن يكون المراد أن الممعن في الأرض وحده مضاهئًا للشيطان في فعله، وشبه اسمه، وكذلك الاثنان ليس معهما ثالث، فإذا صاروا ثلاثة فهم ركب: أي جماعة وصحب" (4) ويوضح معنى الحديث ما رواه سعيد بن المسيب مرسلًا، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشيطان يهم بالواحد، والاثنين، فإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم» (5) . قال الإمام ابن عبد البر: "كان مالكًا رحمه الله يجعل الحديث الثاني في هذا
_________
(1) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 8 / 2678، وفيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي 5 / 336، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 238، وعمدة القاري للعيني 14 / 248.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 238، وانظر: عارضة الأحوذي بشرح سنن الترمذي، لابن العربي، 4 / 145.
(3) أبو داود، كتاب الجهاد، باب الرجل يسافر وحده، 3 / 36، برقم 2607، والترمذي، وحسنه، في كتاب الجهاد، باب ما جاء في كراهية أن يسافر الرجل وحده، 4 / 193، برقم 1674، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 2 / 102، وأحمد في المسند 2 / 186، والبغوي في شرح السنة وحسنه 11 / 21 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(4) معالم السنن للخطابي 3 / 413.
(5) مالك في الموطأ، كتاب الاستئذان، باب ما جاء في الوحدة في السفر للرجال والنساء، 2 / 978، وقال ابن عبد البر: وقد روى عبد الرحمن بن أبي الزناد هذا الحديث عن عبد الرحمن بن حرملة وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوصله وأسنده. الاستذكار 27 / 267 برقم 41086، وقد ذكر إسناده في التمهيد 20 8.(1/655)
الباب مفسرًا للأول، والمعنى أن الجماعة - وأقلها ثلاثة - لا يهم بهم الشيطان، ويبعد عنهم، وإنما سمي الواحد شيطانًا؛ لأن الشيطان في أصل اللغة: هو البعيد من الخير، من قولهم: نوى شطون: أي بائنة بعيدة، فالمسافر وحده بعيد عن خير الرفيق وعونه، والأنس به، وتمريضه، ودفع وسوسة النفس بحديثه، ولا يؤمن على المسافر وحده أن يضطر إلى المشي بالليل فتتعرضه الشياطين المردة: هازلين، ومتلاعبين، ومفزعين" (1) . وقال الخطابي رحمه الله: "المنفرد وحده في السفر إن مات لم يكن بحضرته من يقوم بغسله ودفنه وتجهيزه، ولا عنده من يوصي إليه في ماله، ولا يحمل تركته إلى أهله ويورد خبره عليهم، ولا معه في سفره من يعينه على الحمولة، فإذا كانوا ثلاثة تعاونوا، وتناوبوا المهنة والحراسة، وصلوا الجماعة وأحرزوا الحظ منها" (2) . وعن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: خطبنا عمر بالجابية فقال: "أيها الناس إني قمت فيكم كما قام رسول الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فينا فقال: «أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف، ويشهد الشاهد ولا يستشهد، ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن» (3) . فينبغي للداعية أن يحض الناس على أن لا يسافر الإنسان وحده، بل ثلاثة فأكثر إلا لضرورة، ويحثهم على العمل بآداب السفر؛ ليقتدوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك (4) .
_________
(1) الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار، 27 / 266.
(2) معالم السنن 3 / 413، وانظر: شرح السنة للبغوي 11 / 22.
(3) الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة، 4 / 465، برقم 2165، وقال. "هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه مختصرًا، كتاب الأحكام، باب كراهية الشهادة لمن لم يشهد، 2 / 791، وأحمد في المسند، 1 / 18، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 1 / 114 وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2 / 232 وقال أحمد محمد شاكر في ترقيمه للمسند 1 / 204 برقم 114: "إسناده صحيح ".
(4) انظر: آداب السفر في جامع الأصول من أحاديث الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد ذكر أربعين حديثًا 5 / 15 - 36 من حديث رقم 2991 - 3031، ومشكاة المصابيح للتبريزي، فقد ذكر أربعة وثلاثين حديثًا، 2 / 1142- 1148 من حديث رقم 3892-3925. والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 453- 460.(1/656)
ثانيًا: من صفات الداعية: الرحمة والشفقة على مصلحة المدعو: إن الداعية الصادق مع الله عَزَّ وَجَلَّ يحب للناس ما يحبه لنفسه، فيرحمهم، ويعطف عليهم، ويشفق على مصالحهم فيعلمهم ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، ولهذه الرحمة قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده» فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمؤمنين رحيما (1) فوجههم إلى ما يجلب لهم الخير ويدفع عنهم السوء والشر (2) .
ثالثًا: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: إن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأن التوكل يقوم على أصلين: اعتماد القلب على الله عَزَّ وَجَلَّ، والعمل بالأسباب التي يقتضيها التوكل على الله سبحانه وتعالى، ففي قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده» دلالة على أهمية الرفيق في السفر، وقد بينت الأحاديث الأخرى أن أقل المسافرين ثلاثة؛ لما يحصل بينهم من التعاون في أمور الدين والدنيا، وهذا لا ينافي التوكل، بل هو من التوكل على الله عَزَّ وَجَلَّ (3) .
رابعًا: من أساليب الدعوة: الترهيب: ظهر في هذا الحديث أسلوب الترهيب؛ في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده» وهذا فيه تخويف من سفر المسلم منفردًا؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم أضرارًا لا يعلمها الناس، وقد بين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للناس ذلك، وهذا يؤكد على أهمية أسلوب الترهيب في الدعوة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ (4) .
[باب الجهاد بإذن الأبوين]
[حديث جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال] أحي والداك
_________
(1) انظر: بهجة النفوس لابن أبي جمرة، 3 / 143، وشرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 8 / 2678 ومرقاة المفاتيح للملا علي القاري 7 / 445.
(2) انظر: الحديث رقم 5، الدرس الأول. ورقم 50، الدرس الرابع.
(3) انظر: الحديث رقم 30، الدرس الخامس.
(4) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر، ورقم 12، الدرس الثالث.(1/657)
138 - باب الجهاد بإذن الأبوين 114 -[3004] حدثنا آدم: حدثنا شعبة: حدثنا حبيب بن أبي ثابت قال: "سمعت أبا العباس الشاعر - وكان لا يتهم في حديثه - قال: سمعت عبد الله بن عمرو (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقول: «جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستأذنه في الجهاد فقال: "أحي والداك؟ " قال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد» (2) . وفي رواية: ". . «قال رجل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أجاهد؛ قال: "ألك أبوان؟ " قال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد» (3) .
الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أهمية الشورى مع الإمام أو العلماء والدعاة.
2 - حرص الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم على الجهاد في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ.
_________
(1) عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل، الإمام الحبر العالم، صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن صاحبه، قيل: أسلم قبل أبيه، وقيل: كان اسمه العاص، فلما أسلم غيره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعبد الله، وقد حمل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علما جمًا، روى أحاديث كثيرة، وأسند منها سبعمائة حديث، اتفق البخاري ومسلم على إخراج سبعة منها، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين، وعدد أحاديثه في المسند ستمائة وستة وعشرون حديثًا (626) انظر: المسند 2 / 158، وكان رجلا عابدا داعيا إلى الله تعالى، وذلك بنقل أحاديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتبليغها للناس، وكان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قدوة حسنة لمن رآه أو سمع عنه من المسلمين، فكان يصوم يوما ويفطر يومًا، ويقرأ القرآن في كل سبع، وقيل في كل ثلاث، وكان يقوم الليل، وغير ذلك من الأعمال المباركة التي كان فيها أسوة حسنة لمن سمع به أو رآه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وكان بينه وبين أبيه في السن اثنتا عشرة سنة، وقيل: إحدى عشرة، وكان أكثر الناس أخذا للحديث والعلم عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولهذا قال أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "ما كان أحد أكثر حديثًا مني عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب"، وإنما قلت الرواية عنه مع كثرة ما حمل؛ لأنه سكن مصر وكان الواردون إليها قليلا، بخلاف أبي هريرة؛ فإنه استوطن المدينة، وهي مقصد المسلمين من كل جهة، مات رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سنة ثلاث وستين، وقيل: خمس وستين، وقيل: ثمان وستين، وقيل: تسع وستين، عن عمر بلغ اثنتين وسبعين سنة. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 281، وسير أعلام النبلاء للذهبي 3 / 79 -95، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 351.
(2) [الحديث 3004، طرفه في كتاب الأدب، باب لا يجاهد إلا بإذن الأبوين، 7 / 92، برقم 5972. وأخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، 4 / 1975، برقم 2549.
(3) الطرف رقم 5972.(1/658)
3 - أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه.
4 - من أساليب الدعوة: السؤال والجواب.
5 - من موضوعات الدعوة: الحض على بر الوالدين.
6 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولًا: أهمية الشورى مع الإمام أو العلماء والدعاة: إن الشورى لها أهمية بالغة؛ لما لها من المنافع والفوائد الدينية والدنيوية، ومما يوضح أهمية ذلك ما فعله هذا الرجل الذي جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستأذنه في الجهاد، ويستشيره في ذلك، قال عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: «جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستأذنه في الجهاد فقال: "أحي والداك؟» وفي رواية: «قال رجل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أجاهد؟ قال: "لك أبوان؟ " قال: نعم، قال: "ففيهما فجاهد» فدل ذلك على أهمية الشورى وعظم مكانتها، وأن المستشار مؤتمن، فيتأكد عليه أن يشير بالنصيحة الخالصة (1) .
فينبغي للداعية أن يعتني بالشورى عناية فائقة؛ لما فيها من جلب المنافع ودفع المضار وزيادة الأجر؛ ولهذا حصل لهذا السائل بالشورى أفضل من جهاد التطوع الذي جاء في طلبه (2) وهذا يؤكد أهميتها (3) وأن الإنسان العاقل لا يستبد برأي نفسه في الأمور المهمة حتى يستشير من هو أعرف منه بهذا الأمر (4) .
ولا شك أن الداعية أو غيره ممن يستشار يتأكد عليه أن يتأنى ويتعرف على أحوال المستشير؛ ليقدم إليه الشورى السديدة؛ قال الإمام ابن أبي جمرة رحمه الله: "فيه دليل على أن المستشار يسأل عن أحوال المستشير حتى يعلمها وحينئذ يشير عليه بما هو الأصلح في حقه؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما استشاره هذا الصحابي هل يخرج للجهاد أم لا؟ سأل عن حاله في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أحي والداك؟» حتى علم
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 16 / 339، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 141.
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 141.
(3) انظر: الحديث رقم 11، الدرس الرابع، ورقم 64، الدرس الثالث، ورقم 108، الدرس الرابع عشر.
(4) انظر: بهجة النفوس، لعبد الله بن أبي جمرة 3 / 146.(1/659)
ما هو الأقرب في حقه بالنسبة إلى حاله، فأرشده إليه" (1) .
ثانيًا: حرص الصحابي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على الجهاد في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ: إن الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم أفضل الناس وأحرص الخلق على الخير والرغبة فيما عند الله عَزَّ وَجَلَّ؛ ولهذا جاء هذا الرجل يستأذن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجهاد، فقال: «أجاهد؟» فسأله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أحي والداك؟» قال: نعم، فدله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أفضل من جهاد التطوع فقال: «ففيهما فجاهد» أي خصصهما بجهاد النفس في رضاهما (2) .
وهذا كله يدل على حرص هذا الصحابي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على الأفضل؛ وقد بين ابن حجر رحمه الله: أن هذا الرجل استفصل ". . . عن الأفضل في أعمال الطاعات ليعمل به؛ لأنه سمع فضل الجهاد فبادر إليه، ثم لم يقنع حتى استأذن فيه فدل على ما هو أفضل منه في حقه" (3) . فينبغي لكل مسلم وخاصة الداعية إلى الله عَزَّ وَجَلَّ أن يكون حريصا على فعل الطاعات دائما حتى يأتيه اليقين، والله المستعان وعليه التكلان.
ثالثًا: أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه: إن السؤال عما أشكل من أمور الدين أمر مهم؛ لأنه يفتح للإنسان باب العلم والمعرفة؛ وقد ظهر في هذا الحديث أن رجلًا جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله بقوله: "أجاهد؟ " ثم أرشده النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الجهاد في بر والديه؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ولولا السؤال ما حصل له العلم بذلك " (4) . فينبغي للمسلم أن يسأل عما أشكل عليه حتى يحصل له العلم النافع، ويرتفع عنه الجهل (5) .
_________
(1) بهجة النفوس، 3 / 146.
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 140.
(3) المرجع السابق 6 / 140.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 140.
(5) انظر: الحديث رقم 8، الدرس الأول، ورقم 19، الدرس الرابع، ورقم 30، الدرس الرابع.(1/660)
رابعًا: من أساليب الدعوة: السؤال والجواب: لا ريب أن من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ أسلوب السؤال والجواب؛ وقد سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الرجل في هذا الحديث فقال: «أحي والداك» ؟ " فلما أجابه الرجل بنعم قال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ففيهما فجاهد» .
فينبغي للداعية أن يسأل بعض المدعوين ليختبر ما عندهم ثم يجيبهم بالجواب الصحيح كما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل مع بعض المدعوين (1) .
خامسًا: من موضوعات الدعوة: الحض على بر الوالدين: إن الحث على بر الوالدين من أهم المهمات، وأعظم القربات، ولهذه الأهمية العظيمة قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن استأذنه في الجهاد: «أحي والداك؟» قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد» قال ابن حجر رحمه الله: "أي إن كان لك أبوان فبالغ جهدك في برهما والإحسان إليهما؛ فإن ذلك يقوم مقام الجهاد" (2) ؛ لأن المراد بالجهاد في الوالدين: بذل الجهد والوسع والطاقة في برهما؛ ولأهمية ذلك بينً العلماء أنه لا يجوز الخروج للجهاد إلا بإذن الأبوين بشرط أن يكونا مسلمين؛ لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية، فإن تعين الجهاد وكان فرض عين فلا إذن؛ لأن الجهاد أصبح فرضا على الجميع: إما باستنفار الإمام، أو هجوم العدو على البلاد، أو حضور الصف (3) .
وبر الوالدين ملزم به كل مسلم ومسلمة، وهو من أعظم الطاعات وأوجب الواجبات لعدة أدلة منها:
1 - قرن الله حق الوالدين والإحسان إليهما بعبادته سبحانه وتعالى كما قرن شكرهما بشكره؛ لأنه الخالق وحده، وقد جعل الوالدين السبب الظاهر
_________
(1) انظر: الحديث رقم 58، الدرس الثالث، ورقم 110، الدرس الرابع.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10 / 4. 3.
(3) وانظر: شرح مشكل الآثار للطحاوي 5 / 563، ومعالم السنن للخطابي، 3 / 378، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي 6 / 509.(1/661)
في وجود الولد، وهذا يدل على شدة تأكد حقهما والإحسان إليهما قولًا وفعلًا؛ لأن لهما من المحبة للولد والإحسان إليه في حال صغره وضعفه ما يقتضي تأكد الحق ووجوب البر.، وتحريم أدنى مراتب الأذى: وهو التضجر أو التأفف من خدمتهما، وزجرهما بالكلمة العالية، أو نفض اليد عليهما، وقد جاء حق الوالدين مقرونة بعبادة الله عَزَّ وَجَلَّ في آيات كثيرة (1) منها قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36] (2) . وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151] (3) . وقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] (4) وقال عَزَّ وَجَلَّ: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] (5) .
2 - بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر بذلك ورتبه بثم التي تعطي الترتيب والمهلة (6) فعن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال «سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي العمل أفضل؛ قال: "الصلاة لوقتها" قال: قلت: ثم أي؟ قال: "ثم بر الوالدين" قال: قلت: ثم أي؟ قال: "ثم الجهاد في سبيل الله» (7) .
3 - بر الوالدين يرضي الرب عَزَّ وَجَلَّ، فعن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد» (8) .
4 - بر الوالدين يدخل الجنة، فعن أبي الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال سمعت رسول
_________
(1) انظر: تفسير ابن كثير، 3 / 35، وفتح القدير للشوكاني، 3 / 218، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي، 4 / 275، وأضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 3 / 497.
(2) سورة النساء، الآية: 36.
(3) سورة الأنعام، الآية: 151.
(4) سورة الإسراء، الآية: 23.
(5) سورة لقمان، الآية: 14.
(6) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 10 / 243.
(7) متفق عليه: البخاري برقم، 527، ومسلم برقم 85، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 19، الدرس الثالث، ص 168.
(8) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء من الفضل في رضى الوالدين، 4 / 310 برقم 1899، والحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي 4 / 152، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2 / 29، برقم 516، وفي صحيح الأدب المفرد ص 33، برقم 2.(1/662)
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه» (1) وعن معاوية بن جاهمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما «أن جاهمة جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا رسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هل لك من أم؟ " قال؛ نعم. قال: "فالزمها فإن الجنة تحت (2) رجليها» (3) .
5 - دعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من لم يبر والديه عند الكبر، فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رغم أنفه (4) ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه" قيل: من يا رسول الله؟ قال: "من أدرك والديه عند الكبر: أحدهما، أو كليهما ثم لم يدخل الجنة» (5) قال الإمام القرطبي رحمه الله: "وهذا دعاء مؤكد على من قصر في بر أبويه، ويحتمل وجهين: أحدهما أن يكون معناه: صرعه الله لأنفه فأهلكه، وهذا إنما يكون في حق من لم يقم بما يجب عليه من برهما. وثانيهما أن يكون معناه: أذله الله؛ لأن من ألصق أنفه - الذي هو أشرف أعضاء الوجه - بالتراب - الذي هو موطئ الأقدام وأخس الأشياء - فقد انتهى من الذل إلى الغاية القصوى، وهذا يصلح أن يدعى به على من فرط في متأكدات المندوبات، ويصلح لمن فرط في الواجبات، وهو الظاهر، وتخصيصه عند الكبر بالذكر - وإن كان برهما واجبًا على كل حال - إنما كان ذلك لشدة حاجتهما إليه؛ ولضعفهما عن القيام بكثير من مصالحهما، فيبادر الولد اغتنام فرصة برهما؛ لئلا تفوته بموتهما فيندم على ذلك" (6) .
_________
(1) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء من الفضل في رضى الوالدين، وقال؛ هذا حديث صحيح 4 / 311، برقم 1900، وقال عبد القادر الأرنؤوط وهو كما قال. انظر: تحقيقه لجامع الأصول، 1 / 404.
(2) أي نصيبك من الجنة لا يصل إليك إلا برضاها، وكأنه لها وهي قاعدة عليه فلا يصل إليك إلا من جهتها. انظر: حاشية السندي على سنن النسائي، 6 / 11.
(3) النسائي، كتاب الجهاد، باب الرخصة في التخلف لمن له والدة، 6 / 11، برقم 3104، وأحمد في المسند، 3 / 429، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 4 / 151، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8 / 138: (رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات" وحسنه عبد القادر الأرنؤوط في جامع الأصول، 1 / 453.
(4) رغم أنفه: أي لصق أنفه بالرغام وهو التراب المختلط برمل شرح النووي على صحيح مسلم 16 / 344.
(5) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، باب رغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر فلم يدخل الجنة، 4 / 1978، برقم 2551.
(6) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 6 / 518.(1/663)
وقد خص الله حالة الكبر للوالدين بمزيد من الأمر بالإحسان، والبر، والعطف، والشفقة والرحمة؛ لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره؛ لتغير الحال عليهما بالضعف، والكبر، فألزم سبحانه وتعالى في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل؛ لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلا عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه؛ ولهذا خص هذه الحالة بالذكر، وأيضًا فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة، ويحصل الملل، ويكثر الضجر، فيظهر غضبه على أبويه، وتنتفخ لهما أوداجه، ويستطيل عليهما لقلة دينه وضعف بصيرته، وأقل المكروه ما يظهر بتنفسه المتردد من الضجر، وقد أمر الله أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة وهو السالم عن كل عيب (1) فقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] (2) وأمره الله عَزَّ وَجَلَّ أن يتواضع لهما ويخفض لهما جناح الذل من الرحمة احتسابا للأجر لا للخوف منهما، وأمره عَزَّ وَجَلَّ أن يدعو لهما بالرحمة أحياءً وأمواتا، جزاءً على تربيتهم وإحسانهم، فقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] (3) 6 - بين رسول الله عَزَّ وَجَلَّ بما يجزي الولد والده، فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يجزي ولد والدًا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» (4) . وعن أبي بردة أنه شهد: «ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، ورجل يماني يطوف بالبيت، حمل أمه وراء ظهره يقول:
إني لها بعيرها المذلل ... إن أذعرت ركابها لم أذعر
ثم قال: يا ابن عمر، أتراني جزيتها؛ قال: "لا، ولا بزفرة واحدة» (5) .
_________
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 10 / 246.
(2) سورة الإسراء، الآية: 23.
(3) سورة الإسراء، الآية: 24.
(4) مسلم، كتاب العتق، باب فضل عتق الوالد، 2 / 1148، برقم 1510.
(5) الأدب المفرد للبخاري، 1 / 62 برقم 11، وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد 1 / 36: "صحيح الإسناد".(1/664)
7 - من بر الوالدين والإحسان إليهما أن لا يتعرض لسبهما، ولا يعقهما ولا يكون سببا في شتمهما، فعن عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا يا رسول الله، هل يشتم الرجل والديه؟ قال: "نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه» (1) وعن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثا (2) ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير منار الأرض» (3) .
8 - بر الوالدين وإن كان فرضًا فإنه يتفاوت في الأحقية، فالأم عانت صعوبة الحمل، وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع والتربية، فهذه ثلاث منازل تمتاز بها الأم (4) «فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ (5) قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك» (6) وفي رواية لمسلم: «أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك أدناك» (7) .
9 - من تمام البر صلة أهل ود الوالدين، فعن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أن رجلًا من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقال عبد الله بن دينار: أصلحك الله إنهم الأعراب وإنهم يرضون باليسير، فقال عبد الله: إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن أبر
_________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه، 7 / 92، برقم 5973، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، 1 / 92، برقم 90، ولفظ البخاري "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه" الحديث.
(2) المحدث من يأتي بفساد في الأرض، ومنار الأرض: علامات حدودها، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 13 / 150.
(3) صحيح مسلم، كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله، 3 / 1567، برقم 1978.
(4) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 15 / 244.
(5) صحابتي هنا بمعنى: الصحبة. انظر "شرح النووى على صحيح مسلم 16 / 337.
(6) متفق علبه: البخاري، كتاب الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة، 7 / 91، برقم 5971، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، 4 / 1974، برقم 2548.
(7) رواية للحديث السابق عند مسلم، في الكتاب والباب السابقين، 4 / 1974.(1/665)
البر صلة الولد أهل ود أبيه " (1) ومن الأعمال الطيبة المباركة التي يوصل بها الوالدان بعد موتهما: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما (2) .
10 - بر الوالدين لا يختص بأن يكونا مسلمين، بل حتى ولو كانا كافرين، يبرهما ويحسن إليهما قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] (3) . «وعن أسماء بنت أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا قالت: أتتني أمي راغبة (4) في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أأصلها؟ قال: "نعم» قال ابن عيينة فأنزل الله تعالى فيها: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] (5) . ومن أعظم البر دعوتهما إلى الله عَزَّ وَجَلَّ وتعليمهما ما ينفعهما؛ لأنهما أحق الناس بالتوجيه مع الرفق والرحمة.
11 - من عظم حقهما قرن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عقوقهما بالشرك بالله عَزَّ وَجَلَّ، فعن أبي بكرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " ثلاثًا. قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين" وجلس وكان متكئا فقال: "ألا وقول الزور" فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت» (6) وعن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الكبائر قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور» (7) .
_________
(1) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل صلة أصدقاء الأب والأم ونحوهما، 4 / 1979، برقم 2552.
(2) انظر: الحديث رقم 8، الدرس الرابع.
(3) سورة لقمان، الآية: 15.
(4) راغبة: أي طامعة تسأل. انظر: جامع الأصول لابن الأثير، 1 / 406.
(5) متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب، باب صلة الوالد المشرك، 7 / 94، برقم 5978، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل النفقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين، 2 / 996، برقم 1503، والآية من سورة الممتحنة: 8.
(6) متفق عليه: البخاري، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، 2 / 254، برقم 2654، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الكبائر وأكبرها، 1 / 91، برقم 87.
(7) متفق عليه: البخاري، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، 3 / 204، برقم 2653، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الكبائر وأكبرها، 1 / 91، برقم 88.(1/666)
12 - دعوة الوالدين مستجابة؛ ففي حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رجلًا عابدًا، وكان في صومعة له، فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج أنا أمك كلمني، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، وفي اليوم الثاني كذلك فأقبل على صلاته، وفي اليوم الثالث أتته، فقال: رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته، قالت: "اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات" فاستجاب الله دعاءها فبهتته بغي من بني إسرائيل حامل من الزنا، وقالت: هو الذي فعل بها، فعذب وهدمت صومعته، وأخيرًا أنجاه الله بعد العقوبة العاجلة (1) .
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم " (2) .
13 - ولعظم حقهما أكرم الله من برهما بإجابة دعواته، ومن ذلك حديث الثلاثة الذين انحدرت عليهم صخرة عظيمة فأغلقت عليهم باب الغار؛ فإن منهم رجلًا كان برًا بوالديه، فتوسل بذلك العمل الصالح فاستجاب الله دعاءه (3) ومن ذلك إخبار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أفضل التابعين وأنه لو أقسم على الله لأبره، والسبب أن له والدة هو بها بر (4) .
فينبغي للداعية أن يحض الناس ويحثهم على بر الوالدين، ويحذرهم من العقوق والقطيعة؛ فإن تعليم الناس ما ينفعهم مما أوجب الله عليهم من أهم الواجبات والله المستعان.
_________
(1) انظر: صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا) 4 / 168، برقم 3436، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها، 4 / 1976، برقم 2550.
(2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء بظهر الغيب، 2 / 89، برقم 1536، والترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في دعوة الوالدين، 4 / 314، برقم 1905، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب دعوة الوالد ودعوة المظلوم، 2 / 1270، برقم 3862 وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد للبخاري ص 43، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 2 / 147، برقم 596.
(3) متفق عليه: انظر: البخاري، كتاب البيوع، باب إذا اشترى شيئًا لغيره بدون إذنه فرضي، 3 / 50، برقم 2215، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، والتوبة والاستغفار، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال، 4 / 2099 برقم 2743.
(4) مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أويس القرني، 4 / 1968 برقم 2542.(1/667)
سادسًا: من أساليب الدعوة: الترغيب: إن الترغيب من الأساليب المهمة التي تجذب قلوب المدعوين؛ وقد ظهر هذا الأسلوب في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «للرجل الذي يستأذن في الجهاد: " أحي والداك؟ " قال: نعم. قال: " ففيهما فجاهد» فدل ذلك على فضل بر الوالدين وأنه أفضل من جهاد التطوع في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي هذا الحديث فضل بر الوالدين، وتعظيم حقهما، وكثرة الثواب على برهما" (1) وهذا يوضح للداعية إلى الله عَزَّ وَجَلَّ أهمية الترغيب وأثره (2) .
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 141.
(2) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 8، الدرس الرابع.(1/668)
[باب ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الإبل]
[حديث لا تبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت]
239 - باب ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الإبل 115 [ص:3005] حدثنا عبد الله بن يوسف: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عباد بن تميم: أن أبا بشير الأنصاري (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أخبر أنه كان مع رسول الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في بعض أسفاره، قال عبد الله: حسبت أنه قال: والناس في مبيتهم، فأرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولًا: «لا تبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت» (2) .
شرح غريب الحديث: " قلادة من وتر " قيل: أراد بالأوتار: جمع: وتر القوس، أي: لا تجعلوا في أعناقها الأوتار فتختنق؛ لأن الخيل ربما رعت الأشجار فنشبت الأوتار ببعض شعبها فخنقتها. وقيل: إنما نهاهم عنها؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن تقليد الخيل بالأوتار يدفع عنها العين والأذى، فتكون كالعوذة لها، فنهاهم وأعلمهم أنها لا تدفع ضررا ولا تصرف حذرًا، ولا ترد من أمر الله شيئًا (3) .
الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1- من ميادين الدعوة: السفر وطرق السير.
_________
(1) أبو بشير الأنصاري الساعدي، ويقال: المازني، ويقال: الحارثي، المدني، مخرج حديثه في الصحيحين من طريق عباد بن تميم، وروى عنه أيضًا ضمرة بن سعيد، وسعيد بن نافع، قيل: اسمه قيس بن عبيد، قال ابن عبد البر: ولا يصح ولا يوقف له على اسم صحيح، وليس في الصحابة أبو بشير غيره، قيل: شهد أحدا وهو غلام، وقيل: شهد الخندق، وقيل: مات سنة الحرة بعد أن عمر طويلًا، وقيل. مات سنة أربعين، قال ابن حجر والصحيح الأول، وأنه مات بعد سنة ستين من أثر جرح بالحرة. انظر. الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 4 / 20، وتهذيب التهذيب له، 12 / 24، وفتح الباري له 6 / 141.
(2) وأخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب كراهة قلادة الوتر في رقبة البعير، 3 / 1672، برقم 2115.
(3) انظر: تفسير غريب مما في الصحيحين للحميدي ص 125، ومشارق الأنوار للقاضي عياض، حرف الواو مع التاء، مادة: "وتر" 2 / 278، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع اللام، مادة: "قلد" 4 / 99، وباب الواو مع التاء، مادة: "وتر" 5 / 149".(1/669)
2 - من وسائل الدعوة: إرسال الرسل.
3 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الشرك ووسائله.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولًا: من ميادين الدعوة: السفر وطرق السير: إن السفر وطرق السير من ميادين الدعوة التي استخدمها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعوته؛ ولهذا جاء في هذا الحديث عن عباد بن تميم أن أبا بشير الأنصاري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أخبره أنه كان مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض أسفاره، فأرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولًا: «لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة إلا قطعت» فظهر أن السفر من ميادين الدعوة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ.
فينبغي للداعية أن يعتني بالدعوة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ في السفر كما يعتني بها في غيره (1) .
ثانيًا: من وسائل الدعوة: إرسال الرسل: لا شك أن إرسال الرسل والدعاة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ من أهم وسائل الدعوة خارج البلاد أو في الأماكن البعيدة منها التي لا يصل إليها الدعاة في الغالب، أو في الجمع الكبير الذين لا يسمعون صوت الداعية؛ ولهذا أرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولًا يبلغ الناس أن: «لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت» وذكر الإمام ابن عبد البر رحمه الله: "أن الرسول الذي أرسله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث هو: زيد بن حارثة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (2) وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرسل الرسل، ويبعث البعوث للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. فينبغي العناية بهذه الوسيلة؛ لأهميتها (3) .
ثالثًا: من موضوعات الدعوة: التحذير من الشرك ووسائله: ظهر في هذا الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بقطع القلائد من الأوتار وغيرها سدًا
_________
(1) انظر: الحديث رقم 47، الدرس الثالث.
(2) انظر: الاستذكار، لابن عبد البر، 26 / 362، برقم 39962، والتمهيد له، 17 / 159.
(3) انظر: الحديث رقم 66، الدرس الثالث، ورقم 90، الدرس الثاني.(1/670)
لأبواب الشرك وقطعا لوسائله؛ ولهذا قال: «لا تبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت» قوله: "أو قلادة" قيل: للتنويع (1) وقيل: للشك (2) ووقع في رواية أبي داود: «لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر ولا قلادة إلا قطعت» (3) فدل ذلك على أنه من عطف العام على الخاص (4) وقد اختلف أهل العلم في المقصود بالأوتار: فقيل: إنهم كانوا يقلدون الإبل أوتار القسي؛ لئلا تصيبها العين، الواحد منه "وتر القوس" (5) فأمروا بقطعها إعلاما بأن الأوتار لا ترد من أمر الله شيئا. وقيل: نهاهم عن ذلك لئلا تختنق الدابة بها عند الركض أو عند الرعي في الأشجار. وقيل: نهاهم عن ذلك، لأنهم كانوا يعلقون فيها الأجراس؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس» (6) ؛ ولحديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الآخر: «الجرس مزامير الشيطان» (7) وقيل: إن الأوتار في هذا الحديث بمعنى طلب الدم والثأر، أي: لا تطلبوا بها ذحول الجاهلية (8) وأنكر الإمام القرطبي وغيره هذا القول الرابع فقال: "يعني بالوتر: وتر القوس ولا معنى لقول من قال: إنه يعني بذلك: الوتر الذي هو الذحل: وهو طلب الثأر؛ لبعده لفظا ومعنى" (9) قلت: والصواب ما قاله الإمام مالك رحمه الله أنهم كانوا يقلدون الإبل أوتار القسي؛ لئلا تصيبها العين، وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "والصواب أن ذلك النهي في باب الاعتقاد، وخشية العين،
_________
(1) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 5 / 436، وفتح الباري، لابن حجر، 6 / 341.
(2) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 5 / 436، وشرح النووي على صحيح مسلم 14 / 341.
(3) سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب في تقليد الخيل بالأوتار، 3 / 24، برقم 2552.
(4) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 6 / 141.
(5) انظر: موطأ الإمام مالك، 2 / 937، وصحيح مسلم برقم 2115.
(6) صحيح مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب كراهية الكلب والجرس في السفر، 3 / 1672، برقم 2113.
(7) المرجع السابق في الكتاب والباب المشار إليهما، 3 / 1672 برقم 2114.
(8) انظر: أعلام الحديث للخطابي 2 / 1425، والاستذكار لابن عبد البر، 26 / 362 - 365، وتفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 125، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، 4 / 99، وشرح النووي على صحيح مسلم، 1 / 341، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 141، وعمدة القاري للعيني 14 / 252، وشرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك 4 / 405.
(9) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5 / 435.(1/671)
أو المرض، أو الجن، أو غير ذلك من اعتقادات الجاهلية والقلادة من الأوتار: كالتمائم، سواء كانت على الإبل أو الخيل، أما للزينة فلا بأس بها" (1) . فينبغي للداعية أن يحذر الناس من الشرك ووسائله؛ قال الله عَزَّ وجَلَّ: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] (2) . وقال عَزَّ وجَلَّ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] (3) . وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا: «من تعلق شيئًا وكل إليه» (4) وعن عقبة بن عامر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مرفوعًا: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة (5) فلا ودع الله له» (6) وفي رواية: «من تعلق تميمة فقد أشرك» (7) . فينبغي للداعية أن يبين للناس أن تعليق القلائد من الوتر وغيرها من الخيوط والتمائم من وسائل الشرك؛ لأن بعض الناس يظنون أن تعليق ذلك من أسباب السلامة، ولا بد للعبد أن يعرف في الأسباب ثلاثة أمور:
1 - لا يجعل من الأسباب سببا إلا ما ثبت أنه من الأسباب المشروعة.
2 - لا يعتمد على الأسباب بل يعتمد على مسببها ومقدرها مع قيام العبد بالمشروع منها وحرصه على النافع منها.
_________
(1) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3005 من صحيح البخاري.
(2) سورة الزمر، الآية: 38.
(3) سورة يوسف، الآية: 106.
(4) الترمذي، كتاب الطب، باب ما جاء في كراهية التعليق، 4 / 403، برقم 3072، والحاكم 4 / 216، وأحمد في المسند 4 / 310، والبيهقي في السنن الكبرى، 9 / 351، وحسنه الألباني في غاية المرام تخريج أحاديث الحلال والحرام ص 181 برقم 297 لشاهده عن الحسن البصري، وأطال في تخريجه وذكر طرقه: الشيخ فريح بن صالح البهلال، في كتاب تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد لابن عبد الوهاب، وأقره العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز على التخريج وقدم له. انظر: ص 25.
(5) الودع: جمع ودعة، وهي شيء أبيض يجلب من البحر يعلقه المشركون في حلوق الصبيان وغيرهم مخافة العين. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع الدال، مادة: "ودع" 5 / 168.
(6) أحمد في المسند، 4 / 154، وأبو يعلى في المسند، 3 / 296، برقم 1759، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 4 / 417، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 5 / 103: "رواه أحمد والطبراني وأبو يعلى ورجالهم ثقات ".
(7) أحمد في المسند، 4 / 156، والحاكم، 4 / 219 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 5 / 103: "رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات".(1/672)
3 - يعلم أن الأسباب مهما عظمت وقويت فإنها مرتبطة بقضاء الله وقدره ولا خروج لها عنه، والله يتصرف فيها كيف يشاء إن شاء أبقى سببيتها جارية على مقتضى حكمته؛ ليقوم بها العباد ويعرفوا بذلك مقتضى حكمته حيث ربط المسببات بأسبابها والمعلولات بعللها، وإن شاء غيرها كيف شاء، لئلا يعتمد عليها العباد؛ وليعلموا كمال قدرته.
إذا علم ذلك فمن علق شيئًا أو لبس حلقة أو خيط أو نحو ذلك، قاصدًا بها رفع البلاء بعد نزوله أو دفعه قبل نزوله فقد أشرك شركًا أكبر إذا اعتقد أنها هي الدافعة الرافعة للبلاء. أما إذا اعتقد أن الله هو الدافع الرافع وحده ولكن اعتقدها سببا، يستدفع بها البلاء فقد جعل ما ليس سببا شرعيًا سببا وهذا كذب على الشرع والقدر: فأما الكذب على الشرع؛ فلأن الشرع نهى عن ذلك أشد النهي وما نهى عنه فليس من الأسباب النافعة، وأما القدر؛ فلأن هذا ليس من الأسباب المعهودة ولا غير المعهودة التي يحصل بها المقصود ولا من الأدوية المباحة النافعة، وهو من جملة وسائل الشرك؛ لأن قلبه لا بد أن يتعلق بها، وذلك نوع شرك ووسيلة إليه (1) وهذا كله يؤكد تعليم الناس التوحيد وتحذيرهم من الشرك ووسائله.
_________
(1) انظر: القول السديد في مقاصد التوحيد، حاشية على كتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب، للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي ص 43.(1/673)
[باب الجاسوس]
[حديث انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها]
141 - بَابُ الجَاسُوسِ وقول الله عَزَّ وجَلَّ: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ} [الممتحنة: 1] (1) . التجسس: التبحث.
116 [ص:3007] حدثنا علي بن عبد الله: حدثنا سفيان: حدثنا عمرو بن دينار سمعت منه مرتين قال: أخبرني حسن بن محمد قال: أخبرني عبيد الله بن أبي رافع قال: «سمعت عليا " (2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقول: "بعثني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا والزبير (3) والمقداد (4) وقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينةً ومعها كتاب فخذوه منها". فانطلقنا تعادى بنا خيلنا، حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب. فقالت: ما معي من كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب. فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة (5) إلى أناس من المشركين من أهل مكة
_________
(1) سورة الممتحنة، الآية: 1.
(2) علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تقدمت ترجمته في الحديث رقم 78.
(3) الزبير بن العوام تقدمت ترجمته في الحديث رقم 52.
(4) المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك القضاعي، الكندي البهراني، وقيل: الحضرمي، صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أصاب عمرو بن ثعلبة دما في قومه في بهراء فلحق بحضر موت فحالف كندة، وتزوج هناك فولد له المقداد، فلما كبر المقداد أصاب دمًا فهرب إلى مكة فحالف الأسود بن عبد يغوث الزهري وكتب إلى أبيه فقدم عليه، وتبناه الأسود فنسب إليه، وهو من السابقين الأولين؛ لأنه من السبعة الذين سبقوا إلى إظهار إسلامهم، وهاجر إلى الحبشة، ثم عاد إلى المدينة، وشهد مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدرًا وسائر المشاهد، وقيل: لم يثبت أنه شهد بدرًا فارس مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غير المقداد، وقيل: كان الزبير فارسا أيضا. روي له عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثنان وأربعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على حديث واحد، ولمسلم ثلاثة ومن حكمته وشجاعته أنه قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر: يا رسول الله إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة: 24] ، ولكن امض ونحن معك "فكأنه سري عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مات رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سنة ثلاث وثلاثين بالمدينة وهو ابن سبعين سنة وصلى عليه عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 111، وسير أعلام النبلاء للذهبي 1 / 385، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 3 / 454، وتقريب التهذيب له، ص 968.
(5) حاطب بن أبي بلتعة بن عمرو بن عمير اللخمي حليف بني أسد، قيل: كان مولى عبيد الله بن حميد بن زهير فكاتبه فأدى كتابته، شهد بدرا والحديبية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقيل: كان حليفا للزبير وهو من أهل اليمن، قيل: وأرسله رسول الله إلى المقوقس صاحب الإسكندرية سنة ست من الهجرة، وبعث معه مارية القبطية، وأختها سيرين وجارية أخرى. مات حاطب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سنة ثلاثين في خلافة عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وكان عمره خمسا وستين سنة. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 151، والإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر 1 / 300.(1/674)
يخبرهم ببعض أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا حاطب ما هذا؟ " قال: يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرأً ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفرًا ولا ارتدادًا ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لقد صدقكم". فقال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق. قال: "إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» . قال سفيان: وأي إسناد هذا؟ (1) .
وفي رواية: حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا أبو عوانة، عن حصين، عن فلان قال: تنازع أبو عبد الرحمن، وحبان بن عطية فقال أبو عبد الرحمن لحبان: لقد علمت الذي (2) جرأ صاحبك على الدماء - يعني عليا - قال: ما هو لا أبا لك؟ قال شيء سمعته يقوله: قال: ما هو؟ قال: بعثني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والزبير وأبا مرثد (3) وكلنا فارس قال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة
_________
(1) [الحديث 3007] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة، والمؤمنات إذا عصين الله وتجريدهن، 4 / 48، برقم 3081. وكتاب المغازي، باب فضل من شهد بدرا، 5 / 13، برقم 3983. وكتاب المغازي، باب غزوة الفتح وما بعث به حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة يخبرهم بغزو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، 5 / 105، برقم 4274. وكتاب تفسير القرآن، 60 سورة الممتحنة، باب لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ 6 / 71، برقم 4890. وكتاب الاستئذان، باب من نظر في كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره، 7 / 173، برقم 6259. وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب ما جاء في المتأولين، 8 / 69، برقم 6939. وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، وقصة حاطب بن أبي بلتعة، 4 / 1941، برقم 2494.
(2) في نسخة البخاري مع الفتح الطبعة السلفية 12 / 306 "لقد علمت ما الذي جرأ" قال الحافظ ابن حجر: "كذا للكشميهني وكذا في أكثر الطرق".
(3) أبو مرثد الغنوي: قيل اسمه: كناز بن الحصين، وقيل: حصين بن كناز، قيل: والمشهور الأول، شهد بدرا، وذكر في إسناد هذا الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه إلى الظعينة مع علي والزبير، وفي الروايات السابقة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث علي بن أبي طالب والزبير والمقداد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، قال الكرماني رحمه الله: "ذكر القليل لا ينافي الكثير" وقال: "ولا منافاة بينهما بل بعث الأربعة" شرح الكرماني على صحيح البخاري 13 / 19، 24 / 58، وسكن الشام. روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديث: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" [مسلم برقم 197] انظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري، 24 / 58، والإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر 4 / 177.(1/675)
حاج (1) " قال أبو سلمة: هكذا قال أبو عوانة حاج "فإن فيها امرأةً معها صحيفة من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين فائتوني بها" فانطلقنا على أفراسنا حتى أدركناها حيث قال لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسير على بعير لها وكان كتب إلى أهل مكة بمسير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم فقلنا: أين الكتاب الذي معك؟ قالت: ما معي كتاب، فأنخنا بها بعيرها فابتغينا في رحلها فما وجدنا شيئًا فقال صاحبي (2) ما نرى معها كتابا قال: فقلت: لقد علمنا ما كذب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم حلف علي: والذي يحلف به لتخرجن الكتاب أو لأجردنك، فأهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء، فأخرجت الصحيفة، فأتوا بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين دعني فأضرب عنقه، فقال رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا حاطب ما حملك على ما صنعت؟ " قال: يا رسول الله ما لي أن لا أكون مؤمنًا بالله ورسوله، ولكني أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع بها عن أهلي ومالي، وليس من أصحابك أحد إلا له هنالك من قومه من يدفع الله به عن أهله وماله. قال: "صدق لا تقولوا له إلا خيرًا" قال: فعاد عمر فقال: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين دعني فلأضرب عنقه، قال: "أوليس من أهل بدر؟ وما يدريك لعل الله اطلع عليهم فقال: اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنة" فاغرورقت عيناه فقال: الله ورسوله أعلم. قال أبو عبد الله: خاخ أصح، ولكن كذلك قال أبو عوانة: حاج وحاج تصحيف، وهو موضع وهشيم يقول: خاخ» (3) .
وفي رواية: «ما حملك يا حاطب على ما صنعت؟ " قال: ما بي إلا أن أكون
_________
(1) هكذا في نسخة الفتح 12 / 306، ونسخة استانبول 8 / 54، قال الحافظ: "بمهملة ثم جيم" وفي النسخة المعتمدة بالخاء المكررة، والصواب ما قرره البخاري في آخر هذه الرواية "خاخ ".
(2) في نسخة البخاري المطبوعة مع فتح الباري 12 / 304 "صاحباي" قال الكرماني 24 / 58 "في بعضها صاحبي وهو بلفظ المفرد ظاهر، وبالمثنى صحيح على مذهب من يقلب الألف ياء".
(3) الطرف رقم 6939.(1/676)
مؤمنا بالله ورسوله، وما غيرت ولا بدلت» . . . " (1) .
وفي رواية: ". . . «فأنزل الله السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1] إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] » (2) . وفي رواية: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها امرأةً من المشركين معها كتاب من حاطب» . . . " (3) . وفي رواية: «ما هذا يا حاطب؟ " قال: لا تعجل علي يا رسول الله إني كنت امرأً من قريش» . . . " (4) .
شرح غريب الحديث: * " روضة خاخ " هي بخاءين معجمتين: موضع بين مكة والمدينة (5) .
* " ظعينة " جمعها: ظعن، وأصل الظعينة؛ الراحلة التي يرحل ويظعن عليها، أي: يسار عليها، وقيل للمرأة ظعينة؛ لأنها تظعن مع الزوج حيثما ظعن (6) .
* " عقاصها " ضفائرها، وقيل: هو الخيط الذي تعقص به أطراف الذوائب ويقال: عقص الشعر: ضفره وفتله، وأصل العقص اللي والعقد (7) .
* " حجزتها " أصل الحجزة موضع شد الإزار ومعقده في الوسط عند السرة، ثم قيل للإزار: حجزة للمجاورة (8) .
_________
(1) من الطرف رقم 6259.
(2) من الطرف رقم 4274.
(3) من الطرف رقم 3983.
(4) من الطرف رقم 4890.
(5) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الخاء مع الواو، مادة: "خوخ" 2 / 86.
(6) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 54، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير "باب الظاء مع العين، مادة: "ظعن" 3 / 157.
(7) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 54، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير "باب العين مع القاف، مادة: "عقص" 3 / 276.
(8) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 99، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الجيم، مادة: "حجز، 1 / 344.(1/677)
* " ملصقا في قريش " الملصق. هو الرجل المقيم في الحي وليس منهم بنسب (1) .
الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من وسائل الدعوة: إرسال الرسل وبعث البعوث.
2 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الخيانة لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3 - من صفات الداعية: المسارعة في الاستجابة لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
4 - من صفات الداعية: الشجاعة.
5 - من صفات الداعية: الأناة والتثبت.
6 - من معجزات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإخبار بالأمور الغيبية.
7 - أهمية هتك أستار الجواسيس والمفسدين.
8 - أهمية الشورى مع الإمام والعالم والحاكم.
9 - من صفات الداعية: اليقين بصدق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
10 - من أساليب الدعوة: الشدة على بعض أهل المعاصي بالقول والفعل عند الحاجة تأديبًا.
11 - أهمية صدق المدعو.
12 - أهمية قول الداعية لما لا يعلمه: الله أعلم.
13 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
14 - من صفات الداعية: العفو والصفح.
15 - من موضوعات الدعوة: الولاء والبراء.
16 - من أساليب الدعوة: الحوار.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولًا: من وسائل الدعوة: إرسال الرسل وبعث البعوث. دل هذا الحديث على أهمية وسيلة إرسال الرسل، ولهذا بعث صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي بن
_________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب اللام مع الصاد، مادة "لصق" 4 / 249.(1/678)
أبي طالب والزبير بن العوام، والمقداد، وفي رواية وأبا مرثد الغنوي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم وقال لهم: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها» وهذا يؤكد أهمية إرسال الرسل وبعثهم لنصرة الإسلام والدعوة إليه (1) .
ثانيًا: من موضوعات الدعوة: التحذير من الخيانة لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ظهر في مفهوم هذا الحديث أن من موضوعات الدعوة تحذير الناس من الخيانة لله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن حاطب بن أبي بلتعة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أرسل كتابًا إلى قريش يخبرهم فيه بغزو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر ابن حجر رحمه الله أن لفظ الكتاب: "أما بعد يا معشر قريش؛ فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاءكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم، والسلام" (2) . وهذا فيه إفشاء سر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخيانته، وقد حذر الله عَزَّ وجَلَّ من الخيانة لله ورسوله فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27 - 28] (3) . فينبغي للداعية أن يحذر الناس من الخيانة عامة، وخاصة من خيانة الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثالثًا: من صفات الداعية: المسارعة في الاستجابة لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دل هذا الحديث على أن المسارعة في الاستجابة لله ورسوله من أهم المهمات، وأعظم القربات؛ ولهذا سارع هؤلاء الأربعة: علي، والزبير، والمقداد، وأبو مرثد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، في الاستجابة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ". . . فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة فإذا نحن بالظعينة. . . " وهذا فيه دلالة ظاهرة على استجابتهم لله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسارعة في ذلك، قال الله عَزَّ وجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24] (4) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 66، الدرس الثالث، ورقم 95، الدرس الثاني.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7 / 521.
(3) سورة الأنفال، الآيتان: 27-28.
(4) سورة الأنفال، الآية: 24.(1/679)
فينبغي لكل مسلم وخاصة الداعية إلى الله أن يكون مسارعًا في الاستجابة لله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
رابعًا: من صفات الداعية: الشجاعة: إن الشجاعة القلبية والعقلية من أهم الصفات التي يتأكد على الداعية أن يتصف بها؛ لأنها من أجمل وأكمل الصفات الحميدة، وقد ظهرت صفة الشجاعة في هذا الحديث في قول علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ للظعينة: "أخرجي الكتاب" فقالت: ما معي من كتاب. فقال: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب فأخرجته من عقاصها" وفي رواية: "فأهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجت الصحيفة. . . " وقد جمع العلماء رحمهم الله بين هذين اللفظين؛ قال الإمام الكرماني رحمه الله: "لعلها أخرجتها من حجزتها أولًا وأخفتها في الشعر ثم اضطرت إلى الإخراج منها أو بالعكس" (2) وذكر الحافظ ابن حجر هذا الجمع ثم قال: "أو بأن تكون عقيصتها طويلة بحيث تصل إلى حجزتها فربطته في عقيصتها وغرزته حجزتها وهذا الاحتمال أرجح" (3) وعلى كل حال فقد وفق الله عَزَّ وجَلَّ عليًا وأصحابه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم للشجاعة العقلية والحكمة فاستخرجوا الكتاب وجاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (4) .
خامسًا: من صفات الداعية: الأناة والتثبت: دل فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله مع حاطب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى أهمية التثبت وعدم العجلة؛ ولهذا لم يبادر إلى قتله، بل سأله عن مقصده وعمله فقال: «يا حاطب ما هذا؟ " قال: يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرأً ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها» . . . " ثم ذكر عذره للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقبله ولم يعاقبه.
فينبغي للداعية التثبت والتأني، والله المستعان (5) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 45، الدرس التاسع عشر.
(2) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 24 / 59.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 191.
(4) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الخامس، ورقم 61، الدرس الثاني.
(5) انظر: الحديث رقم 91، الدرس الثاني، ورقم 92، الدرس الخامس.(1/680)
سادسًا: من معجزات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإخبار بالأمور الغيبية: ظهر في هذا الحديث معجزة عظيمة تدل على صدق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن الله عَزَّ وجَلَّ أرسله؛ ولهذا قال العلامة العيني رحمه الله: "وفيه البيان عن بعض أعلام النبوة، وذلك إعلام الله تعالى نبيه بخبر المرأة، الحاملة كتاب حاطب إلى قريش ومكانها الذي هي به، وذلك كله بالوحي" (1) وهذا يؤكد على الدعاة أن يبينوا للناس أعلام نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الحاجة لذل (2) .
سابعًا: أهمية هتك أستار الجواسيس والمفسدين: إن الستر الذي رغب الشرع فيه هو الذي لا يترتب عليه مفسدة، ولا يفوت به مصلحة؛ ولهذا لم يستر على المرأة حاملة كتاب حاطب ولم يستر أيضًا على حاطب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بل وبخ وأدب بالكلام القوي؛ ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا حاطب ما هذا؟» وفي رواية: «يا حاطب ما حملك على ما صنعت؟» وقال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأصحابه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم للمرأة: "لتخرجن الكتاب أو لأجردنك"؛ قال الإمام النووي رحمه الله: "وفيه هتك أستار الجواسيس بقراءة كتبهم سواء كان رجلًا أو امرأة، وفيه هتك ستر المفسدة إذا كان فيه مصلحة، أو كان في الستر مفسدة، وإنما يندب الستر إذا لم يكن فيه مفسدة ولا يفوت به مصلحة، وعلى هذا تحمل الأحاديث الواردة في الندب إلى الستر" (3) وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "هذا الحديث عظيم وفيه مسألتان: 1- جواز التجسس إذا كان فيه نفع للمسلمين، كما فعل علي والزبير والمقداد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم.
2 - تحريم التجسس إذا كان فيه ضرر للمسلمين، أو لم يكن فيه مصلحة للمسلمين، والتجسس فيما يضر المسلمين يوجب القتل، لكن هذا الرجل له شبهة؛ ولهذا قبل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عذره؛ لأمرين؛ كونه شبه عليه الأمر، [و] كونه
_________
(1) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 14 / 257.
(2) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم، 16 / 288، وانظر: عمدة القاري للعيني 14 / 257.(1/681)
من أهل بدر، أما من فعل ذلك من المسلمين. . . فيقتل لأن هذا ردة" (1) "إلا في حق حاطب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ" (2) .
ثامنًا: أهمية الشورى. مع الإمام، والعالم، والحاكم: ظهر في هذا الحديث أن الشورى من الأمور المهمة مع الإمام أو العالم أو الحاكم في الأمور العظيمة؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق» وفي رواية قال: «يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين دعني فلأضرب عنقه» قال الإمام النووي رحمه الله: "وفيه إشارة جلساء الإمام والحاكم بما يرونه، كما أشار عمر بضرب عنق حاطب " (3) وهذا يبين أهمية الشورى ومكانتها؛ لأن عمر لم يقدم على قتل حاطب بل استشار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمنعه من ذل (4) .
تاسعًا: من صفات الداعية: اليقين بصدق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن من الصفات العظيمة للداعية أن يتيقن صدق النبي فيما صح عنه مما أخبر به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولهذا اليقين قال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ للمرأة حينما أنكرت أن يكون معها كتاب حاطب: «لقد علمنا ما كذب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم حلف علي: والذي يحلف به لتخرجن الكتاب أو لأجردنك فأهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجت الصحيفة» وهذا يدل على أهمية اليقين الصادق بصدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل ما صح عنه مما أخبر ب (5) .
عاشرًا: من أساليب الدعوة: الشدة على بعض أهل المعاصي بالقول والفعل عند الحاجة: دل هذا الحديث على أن من أساليب الدعوة: الشدة على بعض المدعوين
_________
(1) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3007، و4274 من صحيع البخاري.
(2) سمعت ذلك من العلامة السابق أثناء شرحه لحديث رقم 4890 من صحيح البخاري.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم، 16 / 289.
(4) انظر: الحديث رقم 11، الدرس الرابع، و 64، الدرس الثالث.
(5) انظر: الحديث رقم 73، الدرس التاسع.(1/682)
العصاة بالقول، والفعل عند الحاجة إلى ذلك؛ ولهذا قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في شأن حاطب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين دعني فلأضرب عنقه» فأقره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على توبيخه وتأديبه لحاطب بهذا القول القوي، ولم يوافقه على قتله؛ قال الإمام الْأُبِّيّ رحمه الله: "وفيه الشدة على أهل المعاصي بالقول والفعل، وبالسب تأديبا لهم" (1) .
الحادي عشر: أهمية صدق المدعو: إن الصدق يهدي إلى البر، ولا يأتي إلا بخير، فإذا صدق العبد دل ذلك على إيمانه ونجاه الله بالصدق، وقد دل هذا الحديث على أهمية صدق المدعو وأن نجاته بذلك؛ ولهذا أنجى الله حاطبًا؛ ولأنه من أهل بدر. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا حاطب ما حملك على ما صنعت؟ " قل يا رسول الله ما بي أن لا أكون مؤمنًا بالله ورسوله ولكني أردت أن يكون لي عند القوم يدًا يدفع الله بها عن أهلي ومالي» وفي الرواية الأخرى: «وما فعلت كفرًا ولا ارتدادًا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام" فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لقد صدقكم» ؛ قال الإمام ابن هبيرة رحمه الله: "وفيه أن المؤمن إذا أخطأ واستبان له الخطأ أن لا يتبع خطأه بأن يجحده ويناكر عليه بل يعترف بذلك ولا يجمع بين معصيتين: في الخطأ، والجحد، كما أنه يتعين على كل مخطئ إذا تيقن خطأه في شيء أن يقلع عنه حالة تيقنه ذلك، فإن الله يغفر له خطأه إذا رجع إلى الصواب، إن شاء الله تعالى" (2) .
فينبغي لكل مسلم أن يقول الحق ولو على نفسه إلا فيما شرع الله الستر فيه مع التوبة ورد المظالم لأهله (3) .
الثاني عشر: أهمية قول الداعية لما لا يعلمه: الله أعلم: دل هذا الحديث على أنه ينبغي للداعية إذا لم يعلم شيئًا مما حصل النقاش أو الحوار فيه والأسئلة أن يقول: الله أعلم؛ ولهذا قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عندما عفا
_________
(1) إكمال إكمال المعلم للأبي، 8 / 415.
(2) الإفصاح عن معاني الصحاح، 1 / 211، وانظر: 1 / 250.
(3) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الرابع.(1/683)
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حاطب ولم يوافقه على قتله: "الله ورسوله أعلم" وانتهى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن المراجعة واغرورقت عيناه رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (1) .
الثالث عشر: من أساليب الدعوة: الترغيب: إن في هذا الحديث الدلالة على أن من أساليب الدعوة الترغيب؛ ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في قصة حاطب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إنه قد شهد بدرًا وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وفي لفظ: "أوليس من أهل بدر؟ وما يدريك لعل الله اطلع عليهم فقال: اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنة" قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قال العلماء إن الترجي في كلام الله وكلام رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للوقوع" (2) وقال رحمه الله: "واتفقوا على أن البشارة المذكورة فيما يتعلق بأحكام الآخرة، لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود وغيرها" (3) .
وقال الإمام القرطبي رحمه الله: "إن الله تعالى أظهر صدق رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعيان في كل من أخبر عنه بشيء من ذلك؛ فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة من أمور الدين ومراعاة أحواله والتمسك بأعمال البر والخير إلى أن توفوا على ذلك، ومن وقع منهم في معصية أو مخالفة لجأ إلى التوبة ولازمها حتى لقي الله تعالى عليها، يعلم ذلك قطعًا من أحوالهم من طالع سيرهم وأخبارهم" (4) .
وهذا يبين أهمية ترغيب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل خير وأنه واقع لا محال (5) .
الرابع عشر: من صفات الداعية: العفو والصفح: لا ريب أن العفو والصفح من الأخلاق الكريمة التي ينبغي لكل مسلم أن يتخلق بها، ولكن لا بد أن يكون العفو في محله، ولا يحصل به مفسدة، ولا يفوت
_________
(1) انظر: الحديث رقم 8، الدرس الثامن عشر، ورقم 58، الدرس الحادي عشر.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7 / 305، 8 / 635.
(3) المرجع السابق 5 / 356، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم 16 / 289.
(4) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 6 / 442، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 8 / 635.
(5) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 8، الدرس الرابع.(1/684)
به مصلحة أعظم؛ ولهذا عفا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حاطب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وصفح، وبين أن أهل بدر قد أوجب الله لهم الجنة. فينبغي أن يكون عفو الداعية عن حكمة، ومؤاخذته عن حكمة كحال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (1) .
الخامس عشر: من موضوعات الدعوة: الولاء والبراء: لا شك أن الولاء والبراء من موضوعات الدعوة، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث بعد ذكر قصة حاطب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "فأنزل الله السورة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1] إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] (2) وقد أمر الله المؤمنين بموالاة الله ورسوله والمؤمنين، ونهاهم عن موالاة أعداء الله ورسوله، قال عَزَّ وجَلَّ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] (3) .
وقال الله سبحانه وتعالى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ - وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 55 - 57] (4) .
وقد بين العلماء رحمهم الله حقيقة الولاية والعداوة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الولاية ضد العداوة، وأصل الولاية: المحبة والقرب، وأصل العداوة: البغض والبعد" (5) ؛ ولأهمية الولاء والبراء ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال، «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان» (6)
_________
(1) انظر الحديث رقم 85، الدرس الثالث، ورقم 155، الدرس الرابع.
(2) من الطرف رقم 4274، وتقدم تخريجه في أصل الحديث، والآية من سورة الممتحنة الآية: 1.
(3) سورة المجادلة، الآية: 22.
(4) سورة المائدة، الآيات: 55-57.
(5) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ص 53.
(6) أبو داود، 4 / 220، برقم 4681، والترمذي، 4 / 670، برقم 2521، وأحمد في المسند، 3 / 438، 440، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 68، الدرس الرابع، ص 413.(1/685)
وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يرفعه: «أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله» وله شواهد منها حديث عبد الله بن مسعود والبراء (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما ومن أعظم الأحاديث في الولاء حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله قال من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب» . . . " (2) وقد بين الله عَزَّ وجَلَّ أولياءه الكمل فقال: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ - لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62 - 64] (3) وأولياء الله درجات في الكمال الإيماني قال الله عَزَّ وجَلَّ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32] (4) .
ولا شك أن الولاء والبراء مبنيان على قاعدة: الحب والبغض، فينبغي للداعية أن يوضح للناس ويحضهم على الموالاة والمعاداة وتكون على ثلاثة أوجه: 1- من يحب محبة كاملة: وهذه المحبة للمؤمنين المتقين: من الأنبياء والمرسلين وعباد الله المحسنين القائمين بجميع ما أمر الله به، المبتعدين عن جميع ما نهى الله عنه.
2 - من يحب من وجه ويكره من وجه؛ لأنه قد يجتمع في المؤمن ولاية من وجه وعداوة من وجه آخر وهذا هو المسلم الذي خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا فيحب ويوالى على قدر ما معه من الخير، ويبغض ويعادى على قدر ما معه من الشر.
_________
(1) أما حديث ابن عباس فأخرجه الطبراني في المعجم الكبير، 11 / 215، برقم 1157، وأما حديث عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فأخرجه الطبراني أيضًا في المعجم الكبير، 10 / 171، برقم 10357 و10 / 220، برقم 10531، والحاكم 2 / 480، وأما حديث البراء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فأخرجه أحمد في المسند، 4 / 286، وقال الألباني "قلت: فالحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن على الأقل، والله أعلم" انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4 / 307، برقم 728، و 2 / 734. برقم 998.
(2) البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، 7 / 243، برقم 6502.
(3) سورة يونس، الآيات: 62-63.
(4) سورة فاطر، الآية: 32.(1/686)
3 - من يبغض من كل وجه: وهو من كفر بالله عَزَّ وجَلَّ، فيجب بغضه بالقلب كاملًا لازمًا لا نقص فيه، أما بالبدن والأعمال فعلى حسب القدرة ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة لا نقص فيها، وفعل العبد معها بحسب قدرته فإنه يعطى ثواب الفعل الكامل إن شاء الله تعال (1) .
السادس عشر: من أساليب الدعوة: الحوار: ظهر أسلوب الحوار في هذا الحديث؛ لما دار فيه من الحوار بين حبان بن عطية وأبي عبد الرحمن في شأن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (2) .
_________
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 10 / 752 - 754، و 11 / 159، و 28 / 208 - 210، والفرقان ببن أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، لابن تيمية، ص 50 - 250، ومختصر الفتاوى المصرية، لابن تيمية ص 509، وجامع الرسائل لابن تيمية المجموعة الثانية ص 193، وشرح العقيدة الطحاوية لعلي بن أبي العز، ص 404، والفتاوى السعدية لعبد الرحمن بن ناصر السعدي ص 98، وأوثق عرى الإيمان لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص 28 - 40.
(2) انظر: الحديث رقم 29، الدرس السادس، ورقم 77، الدرس السابع.(1/687)
[باب الأسارى في السلاسل]
[حديث عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل]
144 - بَابُ الأُسَارَى فِي السَّلَاسِلِ 117 [ص:3010] حدثنا محمد بن بشار: حدثنا غندر: حدثنا شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل» (2) .
وفي رواية: "عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] (3) قال: خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام" (4) .
الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: إثبات صفات الكمال لله عَزَّ وجَلَّ.
2 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
3 - من وظائف الداعية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4 - من وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ.
5 - شدة إعراض بعض المدعوين حتى لا ينفع معهم إلا القوة.
6 - من خصائص أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الخيرية.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولًا: من موضوعات الدعوة: إثبات صفات الكمال لله عَزَّ وجَلَّ: إن إثبات صفات الكمال لله عَزَّ وجَلَّ من أهم الموضوعات التي يلزم الداعية بيانها للناس؛ لأن عقيدة أهل السنة والجماعة: إثبات ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تمثيل، ولا تكييف (5) وقد ظهر في هذا الحديث إثبات
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 7.
(2) [الحديث 3010] طرفه في: كتاب تفسير القرآن، 3 سورة آل عمران، باب (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) 5 / 201، برقم 4557.
(3) سورة آل عمران، الآية: 110.
(4) الطرف رقم 4557.
(5) انظر: الرد على الجهمية للإمام الحافظ ابن منده، ص 35 - 102.(1/688)
صفة العجب لله عَزَّ وجَلَّ على ما يليق بجلاله وعظمته، ولا يشبه في ذلك شيئًا من خلقه (1) لأن صفاته لا تشبه الصفات، كما أن ذاته لا تشبه الذوا (2) .
ثانيًا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يدخلون الجنة في السلاسل» ولقوله عَزَّ وجَلَّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]
. وهذا يبين أهمية الترغيب في الدعوة إلى الله سبحانه وتعال (3) .
ثالثًا: من وظائف الداعية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إن من أهم وظائف الداعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولهذا ورد في أثناء هذا الحديث قول الله عَزَّ وجَلَّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]
. ولا ريب أن الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله على حسب الحاجة، والحال، والقدرة، على كل مسلم بحسبه (4) ؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] (5) .
ومدح الله أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] (6) .
وقال عَزَّ وجَلَّ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71] (7) .
وقد أوضح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ درجات إنكار المنكر فقال: «من رأى منكم منكرًا
_________
(1) انظر: كتاب الصفدية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص 5.
(2) انظر: الحديث رقم 39، الدرس الأول، ورقم 110، الدرس الثاني.
(3) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 8، الدرس الرابع.
(4) انظر: الحسبة في الإسلام، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص 40 - 42، 46، وهذه الرسالة ضمن فتاواه 28 / 60- 120، وفصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفتاوى أيضًا، 2 / 121 - 179.
(5) سورة آل عمران، الآية: 104.
(6) سورة آل عمران، الآية: 110.
(7) سورة التوبة، الآية: 71.(1/689)
فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (1) .
وولي أمر المسلمين ينفع الله به في ذلك نفعًا عظيمًا؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية؛ فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، في إقامة الحدود وغيرها، وفي التعزير وهو أنواع: منه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، ومنه ما يكون بالنفي عن الوطن، ومنه ما يكون بالضرب، واختلف العلماء في أكثر التعزير، فقيل عشر جلدات، وقيل: أكثره دون أقل الحدود، وقيل: لا حد لأكثره لكن إذا كان التعزير فيما فيه مقدر لم يبلغ به ذلك المقدر. قال ابن تيمية رحمه الله: "وهذا القول أعدل الأقوال وعليه دلت سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسنة خلفائه الراشدين (2) ومن لم يندفع فساده في الأرض إلا بالقتل قتل. وهذا كله من وظائف الإمام الأعظم للمسلمين (3) ولا بد للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من أمور ثلاثة: العلم، والرفق، والصبر: العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعد (4) .
فينبغي للداعية أن يكون أمره بالمعروف معروفا ونهيه عن المنكر غير منكر (5) قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "إنكار المنكر أربع درجات: الأولى أن يزول ويخلفه ضده، والثانية أن يقل وإن لم يزل بجملته، الثالثة أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة أن يخلفه ما هو شر منه، فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد والرابعة محرمة" (6) .
فينبغي للداعية أن يراعي هذه القواعد الدعوية حتى ينفع الله بأمره ونهيه والله المستعان.
رابعًا: من وسائل الدعوة الجهاد في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ: إن من الوسائل النافعة في الدعوة إلى الله ودخول الناس في الإسلام: الجهاد
_________
(1) صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، 1 / 19، برقم 49.
(2) الحسبة في الإسلام ص 30، وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 28 / 107، 126، 134.
(3) انظر: الحسبة في الإسلام لابن تيمية، ص 31.
(4) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28 / 137.
(5) انظر: المرجع السابق 28 / 126.
(6) أعلام الموقعين عن رب العالمين، 3 / 16.(1/690)
في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ؛ لأن من البشر من لا ينفع فيهم إلا القوة؛ ولهذا جاء في خبر أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] "خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام " قال الإمام الكرماني رحمه الله على قوله: "خير الناس للناس": "أي خير بعض الناس لبعضهم وأنفعهم لهم من يأتي بأسير مقيد في السلسلة إلى دار الإسلام؛ ليسلم؛ وإنما كان خيرًا؛ لأنه بسببه صار مسلمًا وحصل أصل جميع السعادات الدنيوية والأخروية" (1) فينبغي للمسلمين العناية بهذه الوسيلة العظيمة. والله المستعا (2) .
خامسًا: شدة إعراض بعض المدعوين حتى لا ينفع فيهم إلا القوة: دل هذا الحديث على شدة إعراض بعض المدعوين؛ ولهذا قال أبو هريرة: "تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم" وقد عجب الله عَزَّ وجَلَّ من شأنهم وعنادهم، ثم دخولهم الجنة بسبب أسرهم في السلاسل ثم إسلامهم؛ ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول الحديث: «عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل» ومن حكمته وعظمته عَزَّ وجَلَّ أن جعل لكل داء دواءً، فشرع استخدام القوة مع المعاندين المعرضين، وأذن في ذلك وأمر به فسبحانه ما أعظم شأنه وما أحكمه عَزَّ وجَلّ (3) .
سادسًا: من خصائص أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الخيرية: دل هذا الحديث والآية التي في سياقه أن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير الأمم، كما قال أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في قول الله عَزَّ وجَلَّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قال: "خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام" فالأمة الإسلامية خير الأمم؛ لأنها تخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، حتى لو كان ذلك بالجهاد في سبيل الله عَزَّ وجَل (4)
_________
(1) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 17 / 59، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 8 / 225، وعمدة القاري للعيني 18 / 148.
(2) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الثالث.
(3) انظر: الحديث رقم 108، الدرس التاسع عشر.
(4) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 4 / 178- 180.(1/691)
[باب أهل الدار يبيتون فيصاب الولدان والذراري]
[حديث حمى إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم]
146 - بَابُ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ، فَيُصَاُب الوِلْدَانُ وَالذَّرَارِيُّ {بَيَاتًا} [الأعراف: 4] (1) ليلًا. {لَنُبَيِّتَنَّهُ} [النمل: 49] (2) ليلًا. {بَيَّتَ} [النساء: 81] (3) ليلًا.
118 [ص:3012] حدثنا علي بن عبد الله: حدثنا سفيان: حدثنا الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس «عن الصعب بن جثامة (4) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: مر بي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأبواء - أو بودان - وسئل (5) عن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم، قال: "هم منهم ".» وسمعته يقول: «لا حمى إلا لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (6) .
شرح غريب الحديث: * " يبيتون " أي يصابون ليلًا، وتبييت العدو: هو أن يقصد في الليل من غير أن يعلم فيؤخذ بغتةً، وهو البيات (7) .
* " حمى " الحمى: خلاف المباح: وهو الممنوع، وحمى الله: محارمه التي حرمها ومنع منها، والحمى الذي حماه عمر مرعى الخيل التي كان يعدها للجهاد. وقيل: كان الشريف في الجاهلية إذا نزل أرضًا استعوى كلبا فحمى مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره، وهو شريك القوم في سائر ما يرعون فيه، فنهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، وأضاف الحمى إلى الله ورسوله: أي إلا ما يحمى للخيل التي ترصد للجهاد، والإبل التي يحمل عليها في سبيل الله، وإبل الزكاة، وغيرها، كما
_________
(1) سورة الأعراف، الآية: 4، والآية: 97.
(2) سورة النمل، الآية: 49.
(3) سورة النساء، الآية 81.
(4) الصعب بن جثامة بن قيس الليثي الحجازي حليف قريش، قيل: توفي في خلافة أبي بكر، وقيل: بل مات في خلافة عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقد شهد فتح إصطخر، وفتح فارس، ولم يرجح ابن حجر ولا النووي شيئًا من ذلك، والله أعلم. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 249، والكاشف للذهبي 2 / 28، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 184.
(5) في نسخة فتح الباري "فسئل" 6 / 146.
(6) وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد، 3 / 1364، برقم 1745.
(7) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الباء مع الياء، مادة: "بيت" 1 / 170.(1/692)
حمى عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النقيع لنعم الصدقة والخيل المعدة في سبيل الله (1) .
* " الأبواء " قرية من عمل الفرع من عمل المدينة بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلًا (2) .
* " ودان " بفتح الواو وتشديد الدال المهملة: قرية جامعة من عمل الفرع بينها وبين هرشى نحو ستة أميال، وبينها وبين الأبواء نحو ثمانية أميال قريب من الجحفة (3) .
الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه.
2 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث.
3 - من القواعد الدعوية: عمل الداعية بالعام حتى يرد الخاص.
4 - من وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ.
5 - من موضوعات الدعوة: الحض على إبطال عادات الجاهلية.
6 - أهمية رعاية مصالح المسلمين.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولًا: أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه: إن سؤال المدعو عن الأمور التي تشكل عليه من أهم الوسائل لتحصيل العلم؛ ولهذه الأهمية سأل بعض الصحابة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هم منهم" أي لا بأس بقتلهم إذا اختلطوا بآبائهم (4) .
_________
(1) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 49، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الميم مادة: "حمى" 1 / 447.
(2) مشارق الأنوار للقاضي عياض، حرف الألف مع الباء، 1 / 57.
(3) المرجع السابق، حرف الواو مع الدال، 2 / 302.
(4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 294، وانظر: الدرس الثالث من هذا الحديث.(1/693)
فينبغي العناية بالسؤال عن كل ما يشكل، حتى يحصل العلم والبصيرة. (1) .
ثانيًا: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث: لا شك أن الحرص على الدقة في نقل الحديث من صفات أهل العقول السليمة؛ لأنهم يخشون الوقوع في الكذب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولهذا الحرص جاء في هذا الحديث: «مر بي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأبواء أو بودان» فقد شك الراوي هل قال الصعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بالأبواء، أو قال: بودان. قال العلامة العيني رحمه الله: "شك من الراوي" (2) .
وهذا يبين أهمية الحرص على الدقة والتثبت في نقل الحديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (3) .
ثالثًا: من القواعد الدعوية: عمل الداعية بالعام حتى يرد الخاص: دل هذا الحديث على أنه إذا ثبت الدليل في العمل بأمر عام فإنه يعمل بالعام حتى يثبت الخاص؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "وفي هذا الحديث دليل على جواز العمل بالعام حتى يرد الخاص؛ لأن الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تمسكوا بالعمومات الدالة على قتل أهل الشرك، ثم نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل النساء والصبيان فخص ذلك العموم، ويحتمل أن يستدل به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة" (4) ؛ ولهذا ثبت عن عبد الله ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقتولة فأنكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل النساء والصبيان» (5) قال النووي رحمه الله: "أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا، فإن
_________
(1) انظر: حديث رقم 19، الدرس الرابع، ورقم 30، الدرس الرابع أيضا.
(2) عمدة القاري، 14 / 260.
(3) انظر: الحديث رقم 21، الدرس العاشر.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 148.
(5) البخاري، برقم 3014، ومسلم برقم 1744، ويأتي تخريجه كاملا في الحديث الذي بعد هذا الحديث برقم 119 -[3014] ، وانظر: رواياته وألفاظها في تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف للحافظ المزي 3 / 86.(1/694)
قاتلوا، قال جماهير العلماء: يقتلون" (1) أما إذا اختلط النساء والأطفال أو الصبيان بأهل الشرك فلم يميز المسلمون بينهم فلا حرج في قتلهم معهم؛ قال الإمام الخطابي رحمه الله في ذكره لفوائد حديث الصعب بن جثامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "وفيه بيان أن قتلهم في البيات وفي الحروب إذا لم يتميزوا وإذا لم يتوصل إلى الكبار إلا بالإتيان عليهم جائز، وأن النهي عن قتلهم منصرف إلى حال التميز والتفرق" (2) .
رابعًا: من وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ: إن من وسائل الدعوة العظيمة: الجهاد في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ؛ ولهذا بذل الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم الجهود البارزة في جهاد أعداء الإسلام، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث؛ ولهذا سأل بعضهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم، قال: "هم منهم" (3) .
خامسًا: من موضوعات الدعوة: الحض على إبطال عادات الجاهلية: لا ريب أن حض الناس على إبطال عادات الجاهلية من أهم الموضوعات التي ينبغي للداعية أن يعتني بها عناية حكيمة مسددة؛ ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث؛ «لا حمى إلا لله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» قال الإمام الخطابي رحمه الله: "وفيه إبطال ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من ذلك، وكان الرجل العزيز منهم إذا [نزل] بلدًا مخصبا أوفى بكلب على جبل ووقف من يسمع منتهى صوته بالعواء، فحيث انتهى صوته حماه من كل ناحية لنفسه ومنع الناس منه" (4) وهو شريك قومه في سائر ما يرعون فنهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك وأضاف الحمى إلى الله ورسوله، وأبطل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الظلم الذي هو من عادات الجاهلية قال الله عَزَّ وجَلَّ لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ - إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18 - 19] (5) .
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 292.
(2) معالم السنن، 4 / 14- 15.
(3) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الثالث.
(4) معالم السنن 4 / 270.
(5) سورة الجاثية، الآيتان: 18-19.(1/695)
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "ثم جعل محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على شريعة شرعها له، وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته" (1) ؛ ولهذا امتثل أمر ربه وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة» . . . " (2) وهذا يوضح للداعية أهمية إبطال عادات الجاهلية السيئة.
فينبغي له أن يوجه الناس إلى ما أمر به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى ترك ما نهى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عادات الجاهلية.
سادسًا: أهمية رعاية مصالح المسلمين: إن رعاية مصالح المسلمين والنظر فيما يعود عليهم بالنفع والخير في الدنيا والآخرة من أعظم القربات؛ ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا حمى إلا لله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» قال الإمام الخطابي رحمه الله: "معناه لا حمى إلا على الوجه الذي أذن الله ورسوله فيه، وذلك على قدر الحاجة ووجه المصلحة من غير منع حق المسلم؛ فإن المسلمين شركاء في الماء والكلأ" (3) ؛ وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ، والماء، والنار» (4) قال ابن الأثير رحمه الله: "وأضاف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الحمى إلى الله ورسوله: أي إلا ما يحمى للخيل التي ترصد للجهاد، والإبل التي يحمل عليها في سبيل الله، وإبل الزكاة وغيرها كما حمى عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النقيع (5) لنعم
_________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، 1 / 84.
(2) صحيح مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، 2 / 889، برقم 218، من حديث جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(3) أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، 2 / 1428.
(4) سنن أبي داود، كتاب البيوع، باب في منع الماء، 3 / 278، برقم 3477، عن رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجهالة الصحابي لا تضر، وصححه الألباني، في صحيح سنن أو داود، 2 / 665، وإرواء الغليل 6 / 7.
(5) النقيع موضع حماه عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لخيل المسلمين وهو من أودية الحجاز على نحو عشرين فرسخا من المدينة. انظر؛ معجم البلدان، لياقوت الحموي، 5 / 301، وطبقات ابن سعد 5 / 8، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 5 / 108، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "النقيع هو على عشرين فرسخًا من المدينة، وقدره: ميل في ثمانية أميال" فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 5 / 45.(1/696)
الصدقة والخيل المعدة في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ" (1) .
وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: وأما قوله: «لا حمى إلا لله ورسوله» : فمعناه: لا يجوز لأحد أن يحمي الكلأ إلا لله ورسوله: أي يكون ذلك في مصلحة المسلمين، وولي الأمر يقوم مقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا دعت الحاجة لمصلحة المسلمين عامة لا لمصلحة خاصة، وبشرط أن لا يضر المسلمين" (2) .
وقد تعين في بعض الطرق لحديث الصعب بن جثامة ما حماه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم ما حماه عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لمصلحة المسلمين، فعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أن الصعب بن جثامة قال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا حمى إلا لله ورسوله» وقال: "بلغنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمى النقيع، وأن عمر حمى الشرف (3) والربذة (4) " (5)
_________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر، باب الحاء مع الميم، مادة: "حمى" 11 / 447.
(2) سمعت ذلك منه أثناء شرحه لحديث رقم 2370، ورقم 3012 من صحيح البخاري.
(3) الشرف من الأرض: العالي، ومشارف الأرض أعاليها، وشرف كل شيء: أعلاه، والمشارف من قرى العرب: ما دنا من الريف، وبيداء المدينة: هي الشرف الذي أمام ذي الحليفة. انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 192، ومشارق الأنوار للقاضي عياض، حرف الشين مع الراء، 2 / 262، وحرف السين مع الراء، 2 / 233، وحرف الباء مع الياء، 1 / 116، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الشين مع الراء، مادة: "شرف" 2 / 463.
(4) الربذة: بفتح الراء والباء والذال المعجمة: موضع خارج المدينة بينه وبينها ثلاث مراحل، وهي قريب من ذات عرق. مشارق الأنوار للقاضي عياض 1 / 305.
(5) البخاري، كتاب المساقاة، باب لا حمى إلا لله ورسوله، 3 / 109، برقم 2370، وقوله "بلغنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمى النقيع وأن عمر حمى الشرف والربذة" هذا بلاغ لابن شهاب الزهري وليس من حديث ابن عباس رضي لله عنهما عن الصعب، وقد تكلم الحافظ ابن حجر رحمه الله على ذلك كلاما وافيا، انظر: فتح الباري 5 / 45.(1/697)
[باب قتل الصبيان في الحرب]
[حديث إنكار النبي صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان]
147 - بَابُ قَتْلِ الصِّبْيَانِ فِي الْحَرْبِ 119 [ص:3014] حدثنا أحمد بن يونس: أخبرنا الليث، عن نافع: أن عبد الله (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أخبره: «أن امرأةً وجدت في بعض مغازي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقتولةً، فأنكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل النساء والصبيان» (2) .
وفي رواية: «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل النساء والصبيان» (3) .
الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: تحذير المجاهدين في سبيل الله عن قتل النساء والصبيان.
2 - من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين.
3 - من صفات الداعية: الرحمة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولًا: من موضوعات الدعوة: تحذير المجاهدين في سبيل الله عن قتل النساء والصبيان: إن الإسلام دين العدالة، والرحمة والرعاية لمصالح الناس؛ وقد أنكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث قتل النساء والصبيان في الجهاد في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ ونهى عن ذلك، وهذا يؤكد على أن ذلك من موضوعات الدعوة التي ينبغي أن يبينها الداعية للمجاهدين ويحذرهم من قتل النساء والصبيان إلا إذا شاركوا في المعارك الحربية، أو اختلطوا أثناء المعارك بالكفار ولا يستطيع المسلمون التمييز؛ فإنهم حينئذ يقتلون تبعًا لا قصدًا، لعدم التمييز (4) ؛ ولهذا ثبت عن بريدة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال: «كان رسول الله" إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه
_________
(1) عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، تقدمت ترجمته في الحديث رقم 1.
(2) [الحديث 3014] طرفه في: كتاب الجهاد والسير، باب قتل النساء في الحرب، 4 / 26، برقم 3015. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب، 3 / 1364، برقم 1744.
(3) الطرف رقم 3051.
(4) انظر: الحديث رقم 118، الدرس الثالث.(1/698)
بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: "اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال. . . " ثم بين هذه الخصال: الإسلام والهجرة، أو الإسلام دون الهجرة ويكونون كأعراب المسلمين، فإن أبوا الإسلام دعاهم إلى بذل الجزية، فإن امتنعوا عن ذلك استعان بالله وقاتلهم» (1) .
وهذا يؤكد على أن الهدف من الجهاد هو إعلاء كلمة الله عَزَّ وجَلَّ (2) .
ثانيا: من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين: ظهر في هذا الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يراعي أحوال المدعوين؛ ولهذا أنكر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل النساء والصبيان في الجهاد، ونهى عن ذلك؛ لأن هؤلاء ليسوا من أهل القتال، وهم من جملة غنائم المسلمين (3) ولكن إذا شاركوا في القتال أو اختلطوا بالمقاتلين الكفار قتلوا معهم، قال الله عَزَّ وجَلَّ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] (4) .
فقتال المجاهدين يكون لمن نصب الحرب للمسلمين أو أعان على ذلك معهم (5) وهذا يؤكد على أهمية مراعاة أحوال المدعوين (6) .
ثالثًا: من صفات الداعية: الرحمة: لا شك أن من الصفات الحميدة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها الرحمة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن قتل النساء والصبيان رحمة بهم، وأنكر قتل هؤلاء (7) .
_________
(1) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها، 3 / 1356، برقم 1731.
(2) انظر: الاستذكار لابن عبد البر، 14 / 54 - 82، والمنهل العذب الفرات، لعبد العال أحمد 3 / 243.
(3) انظر: الإفصاح عن معاني الصحاح للوزير ابن هبيرة 4 / 196، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 3 / 527.
(4) سورة البقرة، الآية: 190.
(5) انظر: الاستذكار لابن عبد البر، 14 / 63.
(6) انظر: الحديث رقم 19، الدرس الثالث.
(7) انظر: الحديث رقم 5، الدرس الأول، ورقم 15، الدرس الأول، ورقم 50، الدرس الرابع.(1/699)
[باب لا يعذب بعذاب الله]
[حديث لا تعذبوا بعذاب الله]
149 - باب لا يعذب بعذاب الله 120 [ص:3017] حدثنا علي بن عبد الله: حدثنا سفيان، عن أيوب، عن عكرمة: أن عليا (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حرق قومًا، فبلغ ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تعذبوا بعذاب الله» ، ولقتلتهم كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من بدل دينه فاقتلوه» (2) .
وفي رواية: "أتي علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لنهي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. «لا تعذبوا بعذاب الله» ؛ ولقتلتهم؛ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من بدل دينه فاقتلوه» (3) .
شرح غريب الحديث: * " الزنديق ": المشهور على ألسنة الناس أن الزنديق هو الذي لا يتمسك بشريعة، ويقول بدوام الدهر، والعرب تعبر عن هذا بقولهم: ملحد: أي طاعن في الأديان (4) وقيل: الزنديق: من الثنوية، أو القائل بالنور والظلمة، أو من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية، أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان (5) .
وقيل: الزنديق: هو كل من ليس على ملة من الملل المعروفة، ثم استعمل في كل معطل، وفي من أظهر الإسلام وأسر غيره (6) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الزنديق في عرف الفقهاء: هو المنافق الذي كان على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره، سواء أبطن
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 78.
(2) [الحديث 3017] طرفه في: كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة، 8 / 64، برقم 6922.
(3) الطرف رقم 6922.
(4) المصباح المنير، للفيومي، كتاب الزاي، مادة: "الزنديق" 1 / 256.
(5) القاموس المحيط، للفيروز آبادي، فصل الزاي، باب القاف، ص 1151.
(6) مشارق الأنوار للقاضي عياض، حرف الزاي مع النون، 1 / 311.(1/700)
دينًا من الأديان: كدين اليهود والنصارى، أو غيرهم، أو كان معطلًا جاحدًا للصانع والمعاد، والأعمال الصالحة" (1) .
الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1- من موضوعات الدعوة: التحذير من التعذيب بعذاب الله عَزَّ وجَلَّ.
2 - أهمية ذكر الدليل عند الفتوى لرفع الإلباس.
3 - من أصناف المدعوين: الزنادقة الملحدون.
4 - من وظائف الإمام المسلم: قتل المرتدين بعد استتابتهم.
5 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولًا: من موضوعات الدعوة: التحذير من التعذيب بعذاب الله عَزَّ وجَلَّ: إن هذا الحديث فيه دلالة واضحة على أن التحذير من التعذيب بعذاب الله من موضوعات الدعوة التي ينبغي للداعية أن يحذر الناس من فعلها؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تعذبوا بعذاب الله» وهذا يعم تعذيب الإنسان والحيوان، أما ما فعله علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فلأنه لم يبلغه نهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التعذيب بالنار؛ قال الكرماني رحمه الله: "كان ذلك من علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بالرأي والاجتهاد" (2) والمجتهد المصيب له أجران، وغيره له أجر على اجتهاده (3) .
ثانيًا: أهمية ذكر الدليل عند الفتوى لرفع الإلباس: إن من الأمور المهمة للداعية أن يذكر الدليل على ما يقول أو يفتي به؛ لأن الدليل يرفع الإلباس، ويقوي اليقين، ويزيل الشك؛ ولهذا قال ابن عباس
_________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 7 / 471.
(2) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 13 / 27.
(3) انظر: الحديث رقم 94، الدرس الثاني.(1/701)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما في هذا الحديث: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تعذبوا بعذاب الله» ولقتلتهم كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من بدل دينه فاقتلوه» .
وهذا يبين أهمية ذكر الدليل والعناية به (1) .
ثالثًا: من أصناف المدعوين: الزنادقة الملحدون: ظهر في هذا الحديث أن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حرق الزنادقة، فدل ذلك على أنهم من أصناف المدعوين الذين يدعون إلى الله عَزَّ وجَلَّ.
فينبغي للداعية أن يسلك معهم أربعة مسالك: 1- بيان الأدلة الفطرية على وجود الله عَزَّ وجَلَّ وربوبيته؛ لأن الفطرة: الخلقة التي خلق عليها كل موجود أول خلقه (2) والخلقة التي خلق عليها المولود في بطن أمه، والدين (3) قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه أو يمجسانه» (4) واستدل أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بعد سياقه للحديث بقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] (5) .
فينبغي للداعية أن يوضح للملحدين أن كل مولود يولد على نوع من الجبلة والطبع المتهيئ لقبول الدين فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يعدل عنها من يعدل لآفة من آفات البشر والتقليد، وكل مولود يولد على معرفة الله والإقرار به، فلا تجد أحدًا إلا وهو يقر بأن له صانعًا، وإن سماه بغير اسمه، أو عبد معه غيره (6) وإذا نظر العاقل ورجع إلى نفسه وعقله أدنى رجوع عرف افتقاره إلى الخالق عَزَّ وجَلَّ: في تكوينه، وبقائه، وتقلبه في
_________
(1) انظر: حديث رقم 94، الدرس الثامن.
(2) انظر: المعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية، مادة: "فطر" 2 / 694.
(3) القاموس المحيط للفيروز آبادي؛ فصل الفاء، باب الراء، ص 587.
(4) متفق عليه من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؛ وهل يعرض على الصبي الإسلام؛ 2 / 119 برقم 1358، ومسلم، في كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة: حكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، 4 / 2047 برقم 2658.
(5) سورة الروم، الآية: 30.
(6) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، 3 / 457، وفتاوى ابن تيمية، 4 / 245، ودرء تعارض العقل والنقل له، 9 / 375، وفتح الباري لابن حجر، 3 / 248،.(1/702)
أحواله (1) وإذا نظر إلى الخلائق علم فقرهم كلهم إلى الخالق في كل شيء: فقراء إليه في الخلق والإيجاد، وفي البقاء والرزق والإمداد، وفقراء إليه في جلب المنافع ودفع المضار، فانظر إلى حالة الناس إذا كربتهم الشدائد ووقعوا في المهالك، وأشرفوا على الأخطار، أو شاهدوا شيئًا من الحوادث المتجددة: كالصواعق أو الرعد، والبرق والزلازل، والبراكين المتفجرة الثائرة، والريح الشديدة، وانهمار الأمطار الغزيرة، واضطراب أمواج البحار، وفيضانات الأنهار؛ فإنهم إذا حصلت هذه المشاهد العظيمة يلجئون إلى الله، وترتفع أصواتهم بالدعاء، وقلوبهم تنظر إلى إغاثة الخالق عَزَّ وجَلَّ، ولو لم يكن إلا خلق الإنسان؛ فإنه من أعظم الآيات، فكل يعلم أنه لم يحدث نفسه، ولا أبواه أحدثاه، ولا أحد من البشر أحدثه، ويعلم أنه لا بد له من خالق خلقه، وأن هذا الخالق موجود، حي، عليم، قدير، سميع، بصير، حكيم، حفيظ (2) قال الله عَزَّ وجَلَّ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] (3) .
2 - بيان البراهين والأدلة العقلية؛ فإن هذه الأدلة لها التأثير البليغ في دعوة هؤلاء إلى الله عَزَّ وجَلَّ، فيقال لهؤلاء الذين ينكرون وجود الله عَزَّ وجَلَّ: الأمور الممكن تقسيمها في العقل ثلاثة لا رابع لها: (أ) إما أن توجد هذه المخلوقات بنفسها صدفة من غير محدث ولا خالق خلقها، فهذا محال ممتنع تجزم العقول ببطلانه ضرورة ويعلم يقينًا أن من ظن ذلك فهو إلى الجنون أقرب منه إلى العقل؛ لأن كل من له عقل يعرف أنه لا يمكن أن يوجد شيء من غير موجد ولا محدث، فلا بد لكل حادث من محدث ولا سبيل إلى إنكار ذلك؛ فإن وجود الشيء من غير موجد محال وباطل، بالمشاهدة والحس والفطرة السليمة.
(ب) وإما أن تكون هذه المخلوقات الباهرة هي المحدثة الخالقة لنفسها،
_________
(1) انظر: كتاب الداعي إلى الإسلام، لعبد الرحمن الأنباري ص211، ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 3 / 113.
(2) انظر: درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية 3 / 122، 129، 131، 137، 8 / 487 والرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة للسعدي، ص 251 - 252، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي، 2 / 237.
(3) سورة الذاريات، الآية: 21.(1/703)
فهذا أيضًا محال ممتنع بضرورة العقل، وكل عاقل يجزم أن الشيء لا يحدث نفسه ولا يخلقها؛ لأنه قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقا؟! فإذا بطل هذان القسمان عقلًا وفطرة، وبان استحالتهما تعين القسم الثالث: (ج) وهو أن هذه المخلوقات بأجمعها علويها وسفليها، وهذه الحوادث لا بد لها من خالق ينتهي إليه الخلق، والملك، والتدبير، وهو الله العظيم الخالق لكل شيء المتصرف في كل شيء، المدبر للأمور كلها (1) ؛ ولهذا الدليل العقلي والبرهان القطعي قال الله عَزَّ وجَلَّ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ - أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ - أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور: 35 - 37] (2) .
وهذا يوضح أن العدم لا يخلق شيئا، والطبيعة لا تملك قدرة، والصدفة العمياء لا توجد حياة.
3 - ذكر الأدلة الحسية المشاهدة التي تدل على وجود الله، وربوبيته، وأنه الخالق لكل شيء المستحق للعبادة، وهذه الأدلة على نوعين: (أ) النوع الأول: إجابة الله عَزَّ وجَلَّ للدعوات في جميع الأوقات، فلا يحصي الخلق ما يعطيه الله للسائلين وما يجيب به أدعية الداعين، ويرفع به كرب المكروبين فتحصل المطالب الكثيرة بأسباب دعاء بعض العباد لربهم، والطمع في فضله والرجاء لرحمته، وهذا برهان مشاهد محسوس، لا ينكره إلا مكابر (3) قال الله عَزَّ وجَلَّ: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] (4) .
(ب) - النوع الثاني: معجزات الأنبياء وهي آيات يشاهدها الناس أو يسمعونها وهي من أعظم البراهين القاطعة على وجود مرسلهم؛ لأنها أمور خارجة عن نطاق البشر يجريها الله عَزَّ وجَلَّ تأييدًا لرسله ونصرًا لهم عليهم
_________
(1) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 1 / 66، ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 3 / 113، والرياض الناضرة للسعدي ص 247، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي، 7 / 195، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي، 4 / 368.
(2) سورة الطور، الآيات: 35-37.
(3) انظر: الرياض الناضرة للسعدي ص 253.
(4) سورة النمل، الآية: 62.(1/704)
الصلاة والسلام (1) ومن ذلك قوله عْزَّ وجْلّ: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] (2) إلى غير ذلك من الآيات العظيمة (3) 4 - ذكر الأدلة الشرعية: وهي طريق الهداية الكاملة، وهي ما جاء عن الله عَزَّ وجَلَّ وعن رسله عليهم الصلاة والسلام، وهي تجمع بين الأدلة العقلية والنقلية، فالكتب السماوية كلها تنطق بأن الله الخالق لكل شيء المستحق للعبادة، وما جاءت به من مصالح العباد دليل على أنها من رب حكيم عليم بمصالح خلقه، وما جاءت به من الأخبار الكونية التي شهد الواقع بصدقها دليل على أنها من رب قادر على إيجاد ما أخبر به (4) .
رابعًا: من وظائف الإمام المسلم: قتل المرتدين بعد استتابتهم: لا ريب أن من الوظائف العظيمة والأمور المهمة قتل إمام المسلمين للمرتدين عن دين الإسلام بعد استتابتهم وامتناعهم عن الرجوع إلى دين الإسلام؛ ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث: «من بدل دينه فاقتلوه» وقد بين الله عَزَّ وجَلَّ عظم جريمة المرتدين فقال: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] (5) .
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: "وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتدين" (6) فإذا كان المرتد عن دين الإسلام بالغًا، عاقلًا،، دعاه الإمام أو نائبه إلى الإسلام ثلاثة أيام فإن رجع وإلا قتل (7) .
_________
(1) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسح لابن تيمية 6 / 361.
(2) سورة الشعراء، الآية: 63.
(3) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 6 / 55- 481.
(4) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 1 / 172- 180، 7 / 39، ومجموع الفتاوى له، 6 / 71، وشرح أصول الإيمان لمحمد بن صالح العثيمين ص 17.
(5) سورة البقرة، الآية: 217.
(6) المغني، 264 / 12.
(7) انظر: عارضة الأحوذي بشرح سنن الترمذي لابن العربي 3 / 424، والمغني لابن قدامة، 12 / 264.(1/705)
خامسًا: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترهيب؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من بدل دينه فاقتلوه» ؛ فإن فيه الترهيب من الردة؛ لأن من ارتد عن الإسلام قتل، وأسأل الله العفو والعافية لي ولجميع المسلمين (1) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر.(1/706)
[باب النهي عن قتل النمل]
[حديث أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح الله]
153 - بَابٌ / 121 [ص:3019] حدثنا يحيى بن بكير: حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة: أن أبا هريرة (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «قرصت نملة نبيا من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه أن قرصتك نملة أحرقت أمةً من الأمم تسبح الله» ! " (2) .
وفي رواية: «نزل نبيّ من الأنبياء تحت شجرة فلدغته نملة فأمر بجهازه فأخرج من تحتها، ثم أمر ببيتها فأحرق بالنار، فأوحى الله إليه: فهلا نملةً واحدةً» ! " (3) .
شرح غريب الحديث: * " فأمر بجهازه " الجهاز: جهاز السفر وما يحتاج إليه فيه (4) .
* "قرية النمل" هي مساكنها وبيتها، والجمع قرى، والقرية من المساكن والأبنية: الضياع وقد تطلق على المدن. (5) .
الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1- من أساليب الدعوة: القصص.
2 - من موضوعات الدعوة: التحذير من مؤاخذة أحد بذنب غيره.
3 - من صفات الداعية: الصبر على الأذى.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 7.
(2) [الحديث 3519] طرفه في: كتاب بدء الخلق، باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، وخمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم، 4 / 120، برقم 3319، ومسلم، في كتاب السلام، باب النهي عن قتل النمل، 4 / 1759، برقم 2241.
(3) طرف رقم 3319.
(4) انظر: مشارق الأنوار للقاضي عياض، حرف الجيم مع الهاء، 1 / 161، والمصباح المنير، للفيومي، 1 / 113.
(5) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع الراء، مادة: " قرا" 4 / 56.(1/707)
أولًا: من أساليب الدعوة: القصص: إن أسلوب القصص في الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ من الأمور المهمة التي ينبغي للداعية أن يعتني بها عناية خاصة؛ لما للقصص من تأثير على المدعو؛ لأنه يشد الأذهان ويقرب الفهم للسامعين؛ وقد قص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا قصة هذا النبي الكريم مع النملة وإحراقه لقرية النمل، وعتاب الله له على قتله لجميع النمل. فقال: «فهلا نملة واحدة» (1) .
ثانيًا: من موضوعات الدعوة: التحذير من مؤاخذة أحد بذنب غيره: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة: الحض على عدم مؤاخذة أحد بذنب غيره؛ ولهذا عاتب الله عَزَّ وجَلَّ هذا النبي الذي أحرق قرية النمل من أجل نملة واحدة: "فأوحى الله إليه أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح الله؟ " وقد قال الله عَزَّ وجَلَّ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] (2) .
وهذا يؤكد على أنه لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، قال الإمام النووي رحمه الله: "قال العلماء: وهذا الحديث محمول على أن شرع ذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان فيه جواز قتل النمل، وجواز الإحراق بالنار، ولم يعتب عليه في أصل القتل والإحراق، بل في الزيادة على نملة واحدة، وقوله تعالى: «فهلا نملة واحدة» أي فهلا عاقبت نملة واحدة هي التي قرصتك؛ لأنها الجانية، وأما غيرها فليس لها جناية، وأما في شرعنا فلا يجوز الإحراق بالنار للحيوان (3) إلا إذا حرق إنسان فمات بالإحراق فلوليه الاقتصاص بإحراق الجاني. . " (4) وأما قتل النمل في شريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمنهي عنه، فعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قال: «إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد» (5) (6) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 17، الدرس الثالث، ورقم 28، الدرس الثامن، ورقم 34، الدرس الثالث.
(2) سورة فاطر، الآية: 18.
(3) انظر: الحديث رقم 94، الدرس الثاني، ورقم 120، الدرس الأول.
(4) شرح النووي على صحيح مسلم، 14 / 489، وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 5 / 542، وفتح الباري، لابن حجر، 6 / 358.
(5) الصرد: طائر ضخم الرأس والمنقار، له ريش عظيم، نصفه أبيض ونصفه أسود. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الصاد مع الراء، مادة: "صرد" 3 / 21.
(6) أبو داود، كتاب الأدب، باب في قتل الذر، 4 / 367، برقم 5267، وابن ماجة، كتاب الصيد، باب ما ينهى عن قتله، 2 / 1074، برقم 3224، وصححه النووي على شرط البخاري ومسلم، انظر: شرح صحيح مسلم، 14 / 490، والألباني في إرواء الغليل، 8 / 142 برقم 2490.(1/708)
قال الإمام الخطابي رحمه الله: "إن النهي إنما جاء في قتل النمل في نوع منه خاص. وهو الكبار منها، ذوات الأرجل الطوال وذلك: أنها قليلة الأذى والضرر، ونهى عن قتل النحلة؛ لما فيها من المنفعة، فأما الهدهد والصرد فنهيه في قتلهما يدل على تحريم لحومهما، وذلك أن الحيوان إذا نهي عن قتله، ولم يكن ذلك لحرمته ولا لضرر فيه كان ذلك لتحريم لحمه. . . " (1) وقال الإمام النووي رحمه الله: "وأما قتل النمل فمذهبنا أنه لا يجوز واحتج أصحابنا فيه بحديث ابن عباس. . . " (2) .
وهذا يبين للداعية أنه ينبغي له أن يحذر الناس من أخذ بعض الناس ومعاقبتهم بذنوب غيرهم أو جناية غيرهم، والله المستعان.
ثالثًا: من صفات الداعية: الصبر على الأذى: لا ريب أن الصبر على الأذى في ذات الله عَزَّ وجَلَّ من الصفات الحميدة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها؛ ولهذا عوتب هذا النبي الكريم في هذا الحديث؛ لأنه قتل أمةً من النمل من أجل واحدة، قال الإمام القرطبي رحمه الله: "وظاهر هذا الحديث أن هذا النبي إنما عاتبه الله تعالى، حيث انتقم لنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد منه، وكان الأولى به الصبر والصفح، لكن وقع للنبي: أن هذا النوع مؤذ لبني آدم، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان غير الناطق، فلو انفرد له هذا النظر، وينضم إليه التشفي الطبيعي يعاتب، والله تعالى أعلم.
لكن لما انضاف إليه التشفي الذي دل عليه سياق الحديث عوتب عليه، والذي يؤيد ما ذكرنا: التمسك بأصل عصمة الأنبياء، وأنهم أعلم الناس بالله، وبأحكامه، وأشدهم له خشية" (3) رحم الله الإمام القرطبي فقد أجاد وأفاد (4) .
_________
(1) معالم السنن، 8 / 113.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم، 14 / 490، وانظر. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 5 / 542.
(3) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5 / 542، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 359.
(4) انظر: الحديث رقم 27، الدرس الأول، ورقم 66، الدرس الأول.(1/709)
[باب حرق الدور والنخيل]
[حديث ألا تريحني من ذي الخلصة]
154 - باب حرق الدور والنخيل 122 [ص:3020] حدثنا مسدد: حدثنا يحيى، عن إسماعيل قال: حدثني قيس بن أبي حازم قال: قال لي جرير (1) قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا تريحني من ذي الخلصة؟» - وكان بيتًا في خثعم يسمى كعبة اليمانية - قال فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل، قال: وكنت لا أثبت على الخيل، فضرب في صدري حتى رأيت أثر أصابعه في صدري وقال: «اللهم ثبته واجعله هاديًا مهديًّا» . فانطلق إليها فكسرها وحرقها. ثم بعث إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبره فقال رسول جرير: والذي بعثك بالحق ما جئتك حتى تركتها كأنها جمل أجوف أو أجرب. قال: "فبارك في خيل أحمس ورجالها خمس مرات" (2) .
وفي رواية: «ألا تريحني من ذي الخلصة؛» فقلت: بلى، فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضرب يده على صدري حتى رأيت أثر يده في صدري فقال: «اللهم ثبته واجعله هاديًا مهديًّا» قال: فما وقعت عن فرس بعد، قال وكان ذو الخلصة بيتًا باليمن لخثعم وبجيلة، فيه نصب يعبد يقال له: الكعبة، قال: فأتاها فحرقها بالنار وكسرها، قال: ولما قدم جرير اليمن كان بها رجل يستقسم بالأزلام فقيل له إن رسول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ها هنا فإن قدر عليك ضرب عنقك قال: فبينما هو يضرب بها إذ وقف عليه جرير، فقال: لتكسرنها ولتشهدن أن لا إله إلا الله، أو لأضربن عنقك، قال: فكسرها
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 69.
(2) [الحديث 3020] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب من لا يثبت على الخيل، 4 / 32، برقم 3036. وكتاب الجهاد والسير، باب البشارة في الفتوح، 4 / 47، برقم 3076. وكتاب مناقب الأنصار، باب ذكر جرير بن عبد الله البجلي، 4 / 280، برقم 3823. وكتاب المغازي، باب غزوة ذي الخلصة، 5 / 131، برقم 4355 و 4356 و 4357 وكتاب الأدب، باب التبسم والضحك، 7 / 123، برقم 6089. وكتاب الدعوات، باب قول الله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ومن خص أخاه بالدعاء دون نفسه، 7 / 196، برقم 6333. وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل جرير بن عبد الله، رضي الله تعالى عنه، 4 / 1925، برقم 2475.(1/710)
وشهد، ثم بعث جرير رجلًا من أحمس يكنى أبا أرطاة (1) إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبشره بذلك فلما أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب. قال: فبرك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خيل أحمس ورجالها خمس مرات (2) .
وفي رواية: "ما حجبني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي" (3) .
شرح غريب الحديث: * " ذو الخلصة" بيت كان فيه صنم لدوس وخثعم، وبجيلة، وغيرهم، وقيل: ذو الخلصة الكعبة اليمانية التي كانت باليمن (4) .
* "أحمس" أحمس طائفة من بجيلة، منهم أبو أرطاة: حصين بن ربيعة الأحمسي (5) .
الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: راحة القلب بالتوحيد ونشره بين الناس.
2 - من موضوعات الدعوة: الحض على إزالة الشركيات.
3 - من وسائل الدعوة: بعث البعوث وإرسال الدعاة.
4 - أهمية سرعة استجابة المدعو.
5 - من صفات الداعية: التواضع.
_________
(1) أبو أرطاة: هو حصين بن ربيعة بن عامر بن الأزور الأحمسي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وهو مشهور بكنيته، وأرسله جرير بن عبد الله يبشر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإحراق ذي الخلصة. انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر، 2 / 331، والإصابة في تمييز الصحابة له، 3 / 337.
(2) طرف الحديث رقم 4357.
(3) طرف الحديث رقم 6089.
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الخاء مع اللام، مادة: "خلص" 1 / 62. وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله أثناء شرحه لحديث رقم 4355 من صحيح البخاري، يقول: "ذو الخلصة: الصنم المعروف في أطراف بيشة، وقد أعيدت، وهدمها المسلمون في عهد الإمام محمد بن سعود رحمه الله.
(5) اللباب في تهذيب الأنساب، لابن الأثير، 1 / 32.(1/711)
6 - من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء.
7 - من وسائل الدعوة: إزالة كل ما يفتن به الناس من بناء وغيره.
8 - أهمية البشارة وأثرها في النفوس.
9 - أهمية التأكيد بالقسم.
10 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار.
11 - من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: استجابة دعواته.
12 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
13 - من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين.
14 - من صفات الداعية: حسن الخلق.
15 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث.
16 - من وسائل الدعوة: استمالة قلب من له شأن في قومه.
17 - من وسائل الدعوة: تعليم المجاهدين وتدريبهم استعدادًا للجهاد.
18 - أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولًا: من صفات الداعية؛ راحة القلب بالتوحيد ونشره بين الناس: إن الداعية الصادق في دعوته هو الذي يرتاح قلبه بنشر التوحيد بين الناس، وإذا انتشر الشرك أتعب ذلك قلبه وأقلقه؛ ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجرير بن عبد الله: «ألا تريحني من ذي الخلصة؟» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "المراد بالراحة راحة القلب؛ وما كان شيء أتعب لقلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بقاء ما يشرك به من دون الله تعالى" (1) .
فينبغي للداعية أن يتصف بهذه الصفة الكريمة فيسر ويفرح بانتشار التوحيد بين الناس، ويعلمهم ذلك.
ثانيًا: من موضوعات الدعوة: الحض على إزالة الشركيات: لا ريب أن من أهم الموضوعات حض الناس وحثهم على إزالة كل ما يكون
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8 / 72.(1/712)
وسيلة للشرك: من مشاهد، وآثار، وأشجار، وأماكن شركية؛ ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجرير بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «ألا تريحني من ذي الخلصة؟» وعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفا إلا سويته" (1) .
فينبغي للداعية أن يحض الناس على هدم الأشياء الشركية، ووسائل الشرك؛ لأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك.
ثالثًا: من وسائل الدعوة: بعث البعوث وإرسال الدعاة: إن من وسائل الدعوة التي لها أهمية بالغة: بعث البعوث وإرسال الرسل والدعاة إلى الله عَزَّ وجَلَّ؛ لتعليم الناس الخير والقضاء على الشرك ووسائله؛ ولهذا عرض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جرير بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ ليرسله إلى هدم ذي الخلصة، فقال: «ألا تريحني من ذي الخلصة؟» فانطلق جرير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في خمسين ومائة فارس من قومه، فهدم ذا الخلصة وكسرها وأحرقها. وقد اعتنى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الوسيلة، فكان يرسل الدعاة ويبعث البعوث والسرايا للدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ (2) .
رابعًا: أهمية سرعة استجابة المدعو: المدعو ينبغي له الإسراع في الاستجابة لله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن ذلك من أهم المهمات وأعظم القربات له عَزَّ وجَلَّ؛ ولهذا أسرع جرير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في الاستجابة لله عَزَّ وجَلَّ ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانطلق بمائة وخمسين فارسًا على خيلهم حتى كسر الصنم المعروف: بذي الخلصة وحرقه (3) .
خامسًا: من صفات الداعية: التواضع: دل هذا الحديث على تواضع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه ضرب في صدر جرير بن عبد الله
_________
(1) صحيح مسلم كتاب الجنائز باب تسوية القبر، 2 / 666، برقم 969.
(2) انظر: الحديث رقم 66، الدرس الثالث، ورقم 90، الدرس الثاني.
(3) انظر: الحديث رقم 45، الدرس التاسع عشر، ورقم 52، الدرس الخامس.(1/713)
ودعا له؛ قال العلامة العيني رحمه الله: "فيه أنه لا بأس للإمام أو العالم إذا أشار إليه إنسان في مخاطبة أو غيرها أن يضع عليه يده، ويضرب بعض جسده، وذلك من التواضع واستمالة النفوس" (1) فينبغي للداعية الاقتداء بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تواضعه وغيره، مما لا يكون من خصائصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
سادسًا: من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء: ظهر في هذا الحديث أن الدعاء من أساليب الدعوة، التي ينبغي للداعية العناية بها؛ لأهميتها في استمالة القلوب؛ قال ابن حجر رحمه الله: "وفيه استمالة نفوس القوم بتأمير من هو منهم، والاستمالة بالدعاء والثناء. . " (3) .
وهذا يؤكد أهمية العناية بالدعاء للمدعوين؛ لاستمالة قلوبهم (4) .
سابعًا: من وسائل الدعوة: إزالة كل ما يفتتن به الناس من بناء وغيره: إن من سائل الدعوة إزالة ما يفتتن به الناس من الشرك ووسائله؛ ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجرير بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «ألا تريحني من ذي الخلصة؟» فانطلق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في خمسين ومائة فارس فكسرها وحرقها؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث مشروعية إزالة ما يفتتن به الناس من بناء وغيره، سواء كان إنسانًا، أو حيوانًا، أو جمادًا. . " (5) وهذا يؤكد أهمية إزالة كل ما يفتتن به الناس. (6) .
ثامنًا: أهمية البشارة وأثرها في النفوس: لا ريب أن البشارة بما يسر الإنسان من الأمور المهمة في الدعوة إلى الله عز وجل؛ لما في ذلك من تأليف القلوب واستمالتها؛ ولهذا أرسل جرير بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
_________
(1) عمدة القاري، شرح صحيح البخاري، 14 / 280.
(2) انظر: الحديث رقم 33، الدرس الحادي عشر، ورقم 62، الدرس الثالث.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8 / 73.
(4) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الخامس، ورقم 45، الدرس الثامن.
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8 / 73.
(6) انظر: الحديث رقم 97، الدرس الأول.(1/714)
حصين بن ربيعة أبا أرطاة؛ ليبشر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتكسير وتحريق صنم خثعم المعروف بذي الخلصة؛ ليدخل السرور على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أتى البشير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب، فسر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فبارك على خيل أحمس ورجالاتها خمس مرات. وهذا يدل على سروره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العظيم بذلك، ويدل على مكانة البشارة في النفوس (1) ؛ قال النووي رحمه الله: "وفي هذا الحديث استحباب إرسال البشير بالفتوح ونحوها" (2) .
تاسعًا: أهمية التأكيد بالقسم: ظهر أسلوب القسم في هذا الحديث؛ لقول أبي أرطاة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب. ولا ريب أن التأكيد بالقسم من الأمور المهمة؛ لتأكيد ما يقوله الإنسان، وهذا يؤكد أهمية هذا الأسلوب عند الحاجة (3) .
عاشرًا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار: ظهر في هذا الحديث أسلوب التكرار، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برك في خيل أحمس ورجالها خمس مرات؛ وقد ذكر (4) رحمه الله الحكمة من ذلك، فقال: "قيل: مبالغة واقتصارًا على الوتر؛ لأنه مطلوب، ثم ظهر لي احتمال أن يكون دعا للخيل والرجال أولهما معًا، ثم أراد التأكيد في تكرير الدعاء ثلاثا، فدعا للرجال مرتين أخريين، وللخيل مرتين أخريين؛ ليكمل لكل من الصنفين ثلاثا، فكان مجموع ذلك خمس مرات" (5) .
وهذا يدل على أهمية أسلوب التكرار (6) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 9، الدرس التاسع، ورقم 83، الدرس الأول، ورقم 89، الرابع.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم: 16 / 268، وانظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري 13 / 29.
(3) انظر: الحديث رقم 10، الدرس الخامس، ورقم 14، الدرس الخامس.
(4) ابن حجر.
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8 / 73.
(6) انظر: الحديث رقم 4، الدرس الخامس، ورقم 7، الدرس الثاني عشر.(1/715)
الحادي عشر: من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: استجابة دعواته: دل هذا الحديث على أن من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إجابة دعواته؛ ولهذا دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجرير بعد أن اشتكى إليه عدم ثبوته على الخيل فضرب صدره وقال: «اللهم ثبته واجعله هاديًا مهديًّا» قال الإمام القرطبي رحمه الله: "فدعا له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأكثر مما طلب بالثبوت (1) مطلقا، وبأن يجعله هاديًا لغيره، مهديًّا لنفسه، فكان كل ذلك، وظهر عليه جميع ما دعا له به، وأول ذلك أنه نفر في خمسين ومائة فارس لذي الخلصة فحرقها، وعمل فيها جميلًا لا يعمله خمسة آلاف" (2) وسمعت العًلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "وفيه علم من أعلام النبوة؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرب صدره فثبت على الراحلة" (3) .
وهذا يدل على صدقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه عبد الله ورسوله (4) .
الثاني عشر: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترهيب؛ لأن جرير بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عندما قدم إلى اليمن كان بها رجل يستقسم بالأزلام، فقيل له: إن رسول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ها هنا، فإن قدر عليك ضرب عنقك، فبينما هو يضرب بها إذ وقف عليه جرير فقال: "لتكسرنها ولتشهدن أن لا إله إلا الله أو لأضربن عنقك، فكسرها وشهد. . . ". وهذا يبين أهمية أسلوب الترهيب في الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ. (5) .
الثالث عشر: من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين: ظهر في هذا الحديث أن من الصفات الحميدة الحكيمة؛ مراعاة أحوال المدعوين؛ ولهذا ما حجب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جرير بن عبد الله منذ أسلم، والمقصود أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما يعلم استئذان جرير يترك كل شيء ويأذن له فورًا، مبادرًا لذلك،
_________
(1) هكذا في الأصل، ولعله "بالثبات".
(2) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 6 / 404.
(3) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3076 من صحيح البخاري.
(4) انظر: الحديث رقم 91، الدرس التاسع.
(5) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر، ورقم 12، الدرس الثالث.(1/716)
مبالغة في إكرامه (1) قال الإمام القرطبي على قول جرير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "ما حجبني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منذ أسلمت": "ولا يفهم من هذا أن جريرًا كان يدخل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيته من غير إذن، فإن ذلك لا يصلح؛ لحرمة بيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولما يفضي ذلك إليه من الاطلاع على ما لا يجوز من عورات البيوت" (2) .
وهذا يدل على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راعى حال جرير بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لمكانته في قومه، فلم يحجبه ويمنعه من الدخول عليه كما يحجب بعض الناس في أوقات خاصة بل كان يبادر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإذن له بالدخول، وهذا يؤكد على الدعاة مراعاة أحوال المدعوين (3) .
الرابع عشر: من صفات الداعية: حسن الخلق: ظهر في هذا الحديث أن حسن الخلق من الصفات العظيمة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها؛ ولهذا الخلق قال جرير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ولا رآني إلا تبسم في وجهي" قال الإمام القرطبي رحمه الله: "هذا منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرح به، وبشاشة للقائه، وإعجاب برؤيته؛ فإنه من كملة الرجال: خَلْقًا وَخُلُقًا" (4) وقال النووي رحمه الله: "وفعل ذلك إكرامًا، ولطفًا، وبشاشةً، ففيه استحباب هذا اللطف للوارد، وفيه فضيلة ظاهرة لجرير " (5) وقال العلامة العيني رحمه الله: "فيه أن لقاء الناس بالتبسم، وطلاقة الوجه من أخلاق النبوة، وهو مناف للتكبر، وجالب للمودة". (6) وهذا يؤكد على الداعية التزامه بحسن الخلق (7) .
الخامس عشر: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث: ظهر في الحديث أن الدقة في نقل الحديث من الصفات الحميدة؛ لأن رسول جرير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذي الخلصة: "ما جئتك حتى تركتها كأنها
_________
(1) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 6 / 403.
(2) المرجع السابق 6 / 403.
(3) انظر: الحديث رقم 19، الدرس الثالث.
(4) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 6 / 403.
(5) شرح النووي على صحيح مسلم، 16 / 268.
(6) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 14 / 280، وانظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري، 15 / 59.
(7) انظر: الحديث رقم 14، الدرس الأول، ورقم 21، الدرس الثاني.(1/717)
جمل أجوف أو أجرب"، فالراوي شك هل قال: أجوف، أو قال: أجرب (1) .
وهذا يؤكد حرص السلف الصالح على العناية بنقل الحديث (2) .
السادس عشر: من وسائل الدعوة: استمالة قلب من له شأن في قومه: إن من الوسائل المهمة في الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ استمالة قلب من له شأن في قومه؛ ليتألف؛ ولهذا ما رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جرير بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلا تبسم في وجهه، قال الإمام الأبي رحمه الله: "فيه بر أشراف الناس وحسن لقائهم؛ لأنه كان كبير قومه" (3) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "وهذا يدل على التأليف وتقدير أهل الفضل، ومن كان له شأن في قومه" (4) .
وعن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يرفعه: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» (5) وعن جابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يرفعه: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإذا أتاه كريم قوم فليكرمه» (6) وهذا يؤكد أهمية العناية بكبير القوم وإكرامه، تأليفًا له واستمالةً لقلبه؛ لأن له الأثر الكبير في قومه، فإذا وافق على شيء وافقوا عليه أو فعل شيئًا فعلوه.
فينبغي العناية بهذه الوسيلة لأهميتها في الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ.
السابع عشر: من وسائل الدعوة: تعليم المجاهدين وتدريبهم استعدادًا للجهاد: ظهر في هذا الحديث أن من الوسائل المهمة في الدعوة إلى الله تعليم المجاهدين وتدريبهم على وسائل الجهاد؛ وقد اعتنى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك فدعا لجرير بن
_________
(1) انظر: عمدة القاري للعيني 14 / 270.
(2) انظر: الحديث رقم 21، الدرس العاشر.
(3) إكمال إكمال المعلم، 8 / 371.
(4) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3822، من صحيح البخاري.
(5) سنن ابن ماجه، كتاب الأدب، باب إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه، 2 / 1223، برقم 3712، وحسنه الألباني؛ لشواهده الكثيرة في صحيح سنن ابن ماجه 2 / 303.
(6) الحاكم وصحح إسناده، 4 / 291-292، وذكر له الألباني ثمانية شواهد في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3 / 305، برقم 1205.(1/718)
عبد الله أن يثبت على الخيل فقال: «اللهم ثبته واجعله هاديًا مهديًّا» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث. . . فضل ركوب الخيل في الحرب" (1) وقال العلامة العيني رحمه الله: "وفيه فضل الفروسية، وأحكام ركوب الخيل؛ فإن ذلك مما ينبغي أن يتعلمه الرجل الشريف والرئيس" (2) .
فينبغي العناية بهذه الوسيلة عناية خاصة؛ لأهميتها في الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ (3) .
الثامن عشر: أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه: ظهر في هذا الحديث أن جرير بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شكا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لا يثبت على الخيل، فدعا له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما سقط عنها قط، وهذا يؤكد أهمية السؤال؛ فإنه استفاد من هذا السؤال استفادة عظيمة فثبت على الخيل بدعوة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8 / 73 بتصرف يسير جدًا.
(2) عمدة القاري، شرح صحيح البخاري، 14 / 280.
(3) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الثاني، ورقم 78، الدرس الأول.
(4) انظر: الحديث رقم 19، الدرس الرابع، ورقم 30، الدرس الرابع.(1/719)
[باب قتل النائم المشرك]
[حديث بعث الرسول صلى الله عليه وسلم رهطا من الأنصار إلى أبي رافع]
155 - بَابُ قَتْلِ النَّائِمِ المُشْرِكِ 123 [ص:3022] حدثنا علي بن مسلم: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال: حدثني أبي، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رهطا من الأنصار إلى أبي رافع؛ ليقتلوه، فانطلق رجل منهم فدخل حصنهم، قال: فدخلت في مربط دواب لهم، قال: وأغلقوا باب الحصن، ثم إنهم فقدوا حمارًا لهم فخرجوا يطلبونه، فخرجت فيمن خرج أريهم أنني أطلبه معهم، فوجدوا الحمار، فدخلوا ودخلت، وأغلقوا باب الحصن ليلًا، فوضعوا المفاتيح في كوة حيث أراها، فلما ناموا أخذت المفاتيح ففتحت باب الحصن، ثم دخلت عليه فقلت: يا أبا رافع، فأجابني، فتعمدت الصوت فضربته، فصاح، فخرجت، ثم جئت ثم رجعت كأني مغيث، فقلت يا أبا رافع -وغيرت صوتي- فقال: ما لك لأمك الويل، قلت: ما شأنك؟ قال: لا أدري من دخل علي فضربني، قال: فوضعت سيفي في بطنه، ثم تحاملت عليه حتى قرع العظم، ثم خرجت وأنا دهش، فأتيت سلما لهم لأنزل منه فوقعت، فوثئت رجلي، فخرجت إلى أصحابي فقلت: ما أنا ببارح، حتى أسمع الناعية، فما برحت حتى سمعت نعايا أبي رافع تاجر أهل الحجاز. قال: فقمت وما بي قلبة، حتى أتينا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرناه» (2) .
وفي رواية: «بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبي رافع اليهودي رجالًا من الأنصار فأمر عليهم عبد الله بن عتيك (3) وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 30.
(2) [الحديث 3022] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب قتل النائم المشرك، 4 / 29، برقم 3023. وكتاب المغازي، باب قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق، 5 / 31-33، برقم 4038 و 4039 و 4040.
(3) عبد الله بن عتيك بن قيس بن الأسود الأنصاري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لا خلاف في أنه شهد أحدا وما بعدها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل: شهد بدرا، وقيل: إنه قتل يوم اليمامة شهيدًا في خلافة أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، سنة ثنتي عشرة. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، 2 / 341.(1/720)
بسرحهم، فقال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإني منطلق ومتلطف للبواب، لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجةً، وقد دخل الناس فهتف به البواب يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب، فدخلت فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على وتد قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه فجعلت كلما فتخت بابا أغلقت علي من داخل قلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت؟ فقلت: أبا رافع، فقال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربةً بالسيف وأنا دهش فما أغنيت شيئًا، وصاح فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل إن رجلًا في البيت ضربني قبل بالسيف، قال فأضربه ضربةً أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ظبة السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة له فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة ثم انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته فلما صاح الديك قام الناعي على السور، فقال: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز فانطلقت إلى أصحابي فقلت النجاء فقد قتل الله أبا رافع فانتهيت إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحدثته فقال لي: "ابسط رجلك" فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم أشتكها قط» . (1) .
وفي رواية: «بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبى رافع عبد الله بن عتيك وعبد الله بن عتبة في ناس معهم فانطلقوا حتى دنوا من الحصن فقال لهم عبد الله بن عتيك:
_________
(1) الطرف رقم 4039.(1/721)
امكثوا أنتم حتى أنطلق فأنظر قال: فتلطفت أن أدخل الحصن ففقدوا حمارًا لهم، قال: فخرجوا بقبس يطلبونه قال: فخشيت أن أعرف فغطيت رأسي ورجلي كأني أقضي حاجةً، ثم نادى صاحب الباب من أراد أن يدخل فليدخل قبل أن أغلقه، فدخلت ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن، فتعشوا عند أبي رافع وتحدثوا حتى ذهبت ساعة من الليل، ثم رجعوا إلى بيوتهم، فلما هدأت الأصوات ولا أسمع حركةً خرجت قال: ورأيت صاحب الباب حيث وضع مفتاح الحصن في كوة فأخذته ففتحت به باب الحصن، قال: قلت إن نذر بي القوم انطلقت على مهل، ثم عمدت إلى أبواب بيوتهم فغلقتها عليهم من ظاهر، ثم صعدت إلى أبي رافع في سلم فإذا البيت مظلم قد طفئ سراجه فلم أدر أين الرجل؟ فقلت: يا أبا رافع، قال: من هذا؟ قال: فعمدت نحو الصوت فأضربه وصاح فلم تغن شيئًا؟ قال: ثم جئت كأني أغيثه فقلت: ما لك يا أبا رافع؟ وغيرت صوتي، فقال: ألا أعجبك لأمك الويل؟ دخل علي رجل فضربني بالسيف، قال: فعمدت له أيضًا فأضربه أخرى فلم تغن شيئًا فصاح وقام أهله، قال: ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المغيث، فإذا هو مستلق على ظهره فأضع السيف في بطنه أنكفئ عليه حتى سمعت صوت العظم، ثم خرجت دهشا حتى أتيت السلم أريد أن أنزل فأسقط منه فانخلعت رجلي فعصبتها ثم أتيت أصحابي أحجل، فقلت لهم: انطلقوا فبشروا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية، فلما كان في وجه الصبح صعد الناعية فقال: أنعى أبا رافع، قال: فقمت أمشي ما بي قلبة، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبشرته» . (1) .
*شرح غريب الحديث: * " الرهط " الجماعة من الناس دون العشرة (2) .
_________
(1) الطرف رقم 4040.
(2) انظر: جامع الأصول من أحاديث الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن الأثير، 8 / 233.(1/722)
* " الكوة " ثقب في جدار البيت أو الثقبة النافذة في الحائط (1) .
* " فوثئت " فوثئت رجلي: أصابها وهن وألم دون الخلع والكسر (2) .
* " الناعية " أي النائحة، والنعاة: المخبرون بموت من مات. (3) .
* " قلبة " ما به قلبة: أي ليست به علة يقلب بها فينظر إليه (4) .
* " سرحهم " السرح، والسارحة، والسارح سواء: الماشية (5) .
* " الأقاليد " المفاتيح (6) .
* " الأغاليق " هي المفاتيح واحدها إغليق (7) .
* " علالي " الغرفة في الطبقة الثانية من الدار وما فوقها (8) .
* " أثخنته " أي بالغت فيه يقال: أثخنته الجراحة: أي بالغت فيه (9) .
* " ظبة " وضعت ظبة السيف في بطنه: أي طرف السيف (10) .
* " النجاء " مصدر منصوب: أي انجوا النجاء، تكراره للتأكيد: النجاء، النجاء: أي انجوا بأنفسكم، والنجاء: السرعة: يقال: نجا ينجو نجاءً إذا أسرع (11) .
* " نذروا بي أي علموا بي (12) .
* " دهش " يقال: دهش ودهش: إذا بهت، وأنا داهش: أي باهت (13) .
_________
(1) انظر: مختار الصحاح، للرازي، باب الكاف، مادة: "كوى" ص 243، وجامع الأصول لابن الأثير 8 / 233.
(2) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص130، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع الثاء، مادة: "وثا" 5 / 150.
(3) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص130.
(4) المرجع السابق، ص130.
(5) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع الراء، مادة: "سرح" 2 / 358.
(6) تفسير غريب ما في الصحيحين، ص 130.
(7) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الغين مع اللام، مادة: "غلق" 3 / 380.
(8) المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية، مادة: "علا" 2 / 625.
(9) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 130.
(10) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الظاء مع الباء، مادة: "ظبب" 3 / 155.
(11) انظر؛ المرجع السابق، باب النون مع الجيم، مادة: "نجا" 5 / 25.
(12) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 130، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب النون مع الذال، مادة: "نذر" 5 / 39.
(13) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 130.(1/723)
* " أحجل " يحجل في مشيه إذا قارب الخطو، والحجل أن يرفع رجلًا ويقفز على الأخرى (1) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من وسائل الدعوة: بعث البعوث.
2 - من صفات الداعية: الفطنة والذكاء.
3 - من صفات الداعية: الشجاعة.
4 - من وسائل الدعوة: قتل الإمام كل من آذى الله ورسوله.
5 - الابتلاء والامتحان لأولياء الله عَزَّ وجَلَّ.
6 - الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل.
7 - أهمية الحرص على الأخذ باليقين في الأمور كلها.
8 - من صفات الداعية: إثبات النعم لله والثناء عليه بها.
9 - من معجزات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شفاء المرضى بإذن الله عَزَّ وجَلَّ.
10 - أهمية البشارة في الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولًا: من وسائل الدعوة: بعث البعوث: لا ريب أن بعث البعوث للدعوة والجهاد من أهم وسائل الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ؛ ولهذا اعتنى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببعث البعوث ومن ذلك ما جاء في هذا الحديث: «بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رهطًا من الأنصار إلى أبي رافع؛ ليقتلوه» .
فينبغي العناية بهذه الوسيلة؛ لأهميتها في الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ (2) .
ثانيًا: من صفات الداعية: الفطنة والذكاء: ظهر في هذا الحديث أهمية الفطنة والذكاء، وأن الداعية ينبغي له أن يتصف
_________
(1) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي، ص 129.
(2) انظر: الحديث رقم 66، الدرس الثالث، ورقم 92، الدرس الحادي عشر.(1/724)
بهذه الصفة الحميدة؛ ولهذه الصفة عمل عبد الله بن عتيك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أمورًا تدل على ذكائه وفطنته: منها: دخوله في مربط الدواب؛ ليتمكن من دخول الحصن، وخروجه مع من يخرج يبحث معهم عن الحمار؛ ليظهر لهم أنه يطلبه معهم، وانتباهه لمكان المفاتيح؛ ليتمكن من قبضها، وتقنعه بثوبه كأنه يقضي حاجته حتى لا يفطن له، وأخذه المفاتيح وإغلاقه أبواب بيوتهم عليهم من ظاهر وإغلاقه الأبواب على نفسه من داخل حتى لا يستطيعوا الوصول إليه إذا علموا به، ونداؤه لأبي رافع عندما لم يستطع الحصول على مكانه في البيت المظلم، وتغييره لصوته ونداؤه مرة أخرى لأبي رافع؛ ليعرف مكانه ثم يجهز عليه فيتحقق من قتله، وهذه أمور تدل على ذكاء عبد الله بن عتيك وفطنته رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فينبغي للداعية أن يكون ذكيا فطنًا منتبها. والله المستعان (1) .
ثالثًا: من صفات الداعية: الشجاعة: ظهرت صفة الشجاعة في هذا الحديث من فعل عبد الله بن عتيك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لأنه عمل أعمالًا تدل على شجاعته وقوة قلبه وعقله؛ حيث دخل في حصن أبي رافع بن أبي الحقيق، وكان متسترًا في تلك الجموع الكثيرة: من الحراس، والضيوف وغيرهم، فتجسس على هذا الطاغية حتى قتله؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي هذا الحديث جواز اغتيال المشرك الذي بلغته الدعوة وأصر (2) وجواز التجسس على أهل الحرب وتطلب غرتهم، والأخذ بالشدة في محاربة المشركين، وجواز إبهام القول للمصلحة. . . " (3) .
فينبغي للداعية أن يكون شجاعًا عقليًّا وقلبيًّا في أموره كلها، والله الموفق (4) .
رابعًا: من وسائل الدعوة: قتل الإمام كل من آذى الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دل هذا الحديث على أن من وسائل الدعوة قتل كل من صدر منه أذىً لله أو
_________
(1) انظر: الحديث رقم 29، الدرس الأول.
(2) وأصر: أي استمر على كفره ومحاربته الإسلام والمسلمين. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الصاد مع الراء، مادة "صرر" 3 / 22.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7 / 345، بتصرف يسير.
(4) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الخامس، ورقم 61، الدرس الثاني.(1/725)
لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولهذا «بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رهطًا إلى أبي رافع ليقتلوه» ؛ لأنه كان يؤذي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويعاديه، ويؤلب عليه الناس (1) ؛ قال ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث من الفوائد جواز. . . قتل من أعان على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بيده، أو ماله، أو لسانه" (2) وهذا يؤكد أهمية قتل من آذى الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (3) وهو من أهم وسائل الدعوة؛ لأنه يزيل العوائق التي في طريقها، وفيه نصرة لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك قتل الإمام للمرتدين بعد استتابتهم، وإقامة القصاص في قتل العمد، وتنفيذ الحدود، كل هذه الأمور من الوسائل الدعوية المهمة (4) .
خامسًا: الابتلاء والامتحان لأولياء الله عَزَّ وجَلَّ: ظهر في هذا الحديث أن من سنة الله عَزَّ وجَلَّ أن يبتلي عباده بالسراء والضراء؛ وقد حصل لعبد الله بن عتيك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ من ذلك بعض الابتلاء، فانكسرت ساقه بعد أن قتل صاحب الأذية البالغة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أبا رافع: عبد الله بن أبي الحقيق، ويقال: سلام بن أبي الحقيق اليهودي " (5) وهذا يؤكد على الدعاة إلى الله عَزَّ وجَلَّ أن يعلموا أن الله عز وجل يبتلي عباده بالسراء والضراء، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط، أسأل الله لي ولجميع المسلمين العافية في الدنيا والآخرة (6) .
سادسًا: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: دل هذا الحديث على أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل؛ ولهذا أخذ عبد الله بن عتيك بالأسباب في عدة أمور منها: أنه اختفى من الحرس وأهل الحصن، وعمل بالمكر لهم، وأغلق عليهم الأبواب، وأغلق على نفسه من
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 7 / 345.
(2) المرجع السابق 7 / 345 ببعض التصرف اليسير.
(3) انظر: الحديث رقم 94، الدرس الرابع.
(4) انظر: الحديث رقم 89، الدرس الثامن، والحديث رقم 94، الدرس الرابع.
(5) انظر: فتح الباري لابن حجر، 7 / 342.
(6) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 66، الدرس الأول.(1/726)
الداخل، وعصب رجله عندما انكسرت، وغير ذلك، وهذا يؤكد أهمية الأخذ بالأسباب مع اعتماد القلب على الله وحده سبحانه وتعالى (1) .
سابعًا: أهمية الحرص على الأخذ باليقين في الأمور كلها: إن طرح الشك والأخذ باليقين من أهم القواعد الدعوية التي ينبغي للداعية أن يعمل بها في كل شيء من أمور حياته؛ ولهذه الأهمية عمل عبد الله بن عتيك في هذا الحديث بهذه القاعدة، فعندما ضرب أبا رافع بالسيف شك هل قتله أم لا، فرجع وغير صوته وقال: ما هذا الصوت يا أبا رافع فتأكد أنه لم يمت فوضع ظبة السيف في بطنه حتى سمع صوت العظم، وهذا يدل على رغبة عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في اليقين؛ ولهذا أراد أن يزداد يقينه فقال لأصحابه: ما أنا ببارح حتى أسمع الناعية، فبقي حتى صاح الديك فقام الناعي على السور فقال: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فعندما تيقن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رجع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا يؤكد أهمية العمل باليقين وطرح الشك (2) .
ثامنًا: من صفات الداعية: إثبات النعم لله والثناء عليه بها: لا شك أن من الأدب إثبات النعم لله ونسبتها إليه، والثناء عليه بها؛ لأنه سبحانه الذي أعطى النعم؛ ولهذا قال الله عَزَّ وجَلَّ: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53] (3) .
وقد ظهرت تلك الصفة في قول عبد الله بن عتيك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء فقد قتل الله أبا رافع " وهذا يدل على صدقه وإخلاصه لله، وأدبه الكامل؛ لأنه لم يقل: قتلت وإنما قال: قتل الله، فنسب هذه النعمة لله عَزَّ وجَلَّ.
فينبغي للداعية أن ينسب جميع النعم لله ويثني عليه بها (4) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 30، الدرس الخامس.
(2) انظر: الحديث رقم 28، الدرس الرابع.
(3) سورة النحل، الآية 53.
(4) انظر: الحديث رقم 46، الدرس السادس عشر، ورقم 106، الدرس الخامس.(1/727)
تاسعًا: من معجزات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شفاء المرضى بإذن الله عَزَّ وجَلَّ: إن من دلائل النبوة الحسية التي تدل على صدق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما جعل الله على يد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شفاء بعض المرضى، ومن ذلك ما فعله مع عبد الله بن عتيك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عندما انكسرت ساقه، قال عبد الله بن عتيك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فانتهيت إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحدثته فقال: "ابسط رجلك" فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم أشتكها قط» وقد حصل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل ذلك في وقائع كثيرة (1) .
عاشرًا: أهمية البشارة في الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ: إن البشارة لها أهمية بالغة في الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ؛ لما لها من إدخال السرور والفرح المحمود على المسلم؛ ولهذا رغب عبد الله بن عتيك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في أن يكون هو الذي يبشر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل أبي رافع، فقال لأصحابه: "انطلقوا فبشروا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية، فلما كان في وجه الصبح صعد الناعية فقال: أنعى أبا رافع، قال فقمت أمشي ما بي قلبه فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبشرته". وهذا يدل على رغبة عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في أن يكون هو الذي يبشر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويدخل السرور عليه (2) .
_________
(1) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 6 / 201-208، وانظر: الحديث رقم 92، الدرس الأول.
(2) انظر: الحديث رقم 9، الدرس التاسع، ورقم 83، الدرس الأول، ورقم 89، الدرس الرابع.(1/728)
[باب لا تمنوا لقاء العدو]
[حديث لا تمنوا لقاء العدو]
156 - باب لا تمنوا لقاء العدو 124 [ص:3026] وقال أبو عامر: حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا» (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحث على سلوك الأدب.
2 - من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد.
3 - من صفات الداعية: الصبر.
4 - من صفات الداعية: التواضع (3) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 7.
(2) وأخرجه مسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء، 3 / 1362، برقم 1741.
(3) تقدمت جميع هذه الفوائد في الحديث رقم 33، من حديث عبد الله بن أبي أوفى، والحديث رقم 88.(1/729)
[باب تسمية الحرب خدعة]
[حديث هلك كسرى ثم لا يكون كسرى بعده]
157 - باب الحرب خدعة 125 [ص:3027] حدثنا عبد الله بن محمد: حدثنا عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «هلك كسرى، ثم لا يكون كسرى بعده. وقيصر ليهلكن، ثم لا يكون قيصر بعده. ولتقسمن كنوزهما في سبيل الله» (2) .
[حديث تسمية النبي صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة]
126 -[3028] ، «وسمى الحرب خدعةً» (3) .
وفي رواية: حدثنا أبو بكر بن أصرم: أخبرنا عبد الله: أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «سمى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحرب خدعة» (4) .
وفي رواية: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله» (5) .
وفي رواية: ". . «والذي نفس محمد بيده» . . " (6) .
[حديث الحرب خدعة]
127 [ص:3030] حدثنا صدقة بن الفضل: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو: سمع جابر بن عبد الله (7) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الحرب خدعة» (8) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 7.
(2) [الحديث 3027] أطرافه في: كتاب فرض الخمس، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أحلت لكم الغنائم"، 4 / 60، برقم 3120. وكتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 4 / 219، برقم 3618. وكتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، 7 / 277، برقم 6630. وأخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب "لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء"، 4 / 2236، برقم 2918.
(3) [الحديث 3028] ، طرفه في كتاب الجهاد والسير، باب الحرب خدعة، 4 / 30، برقم 3029. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب جواز الخداع في الحرب، 3 / 1362، برقم 1740.
(4) الطرف رقم 3029.
(5) الطرف رقم 3618.
(6) الطرف رقم 6630.
(7) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 32.
(8) وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب جواز الخداع في الحرب، 3 / 1361، برقم 1739.(1/730)
* شرح غريب الأحاديث: * " كسرى " لقب لكل من ملك الفرس (1) .
* " قيصر " لقب لكل من ملك الروم (2) .
* " خدعة " يروى بفتح الخاء وضمها مع سكون الدال: "خدعة" و "خدعة" وبضم الخاء مع فتح الدال: "خدعة" فالمعنى الأول: أن الحرب ينقضي أمرها بخدعة واحدة، من الخداع، أي أن المقاتل إذا خدع مرة واحدة لم تكن لها إقالة، وهي أفصح الروايات وأصحها. ومعنى الثاني: هو الاسم من الخداع، ومعنى الثالث: أن الحرب تخدع الرجال وتمنيهم ولا تفي لهم، كما يقال: فلان رجل لعبة وضحكة: أي كثير اللعب والضحك (3) .
*الدراسة الدعوية للأحاديث: في هذه الأحاديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: التحريض على خداع الكفار في الحرب.
2 - من وظائف الإمام المسلم: التدبير ووضع الخطط والحيل الحربية.
3 - من موضوعات الدعوة: الحث على أخذ الحذر والحيطة في الحروب.
4 - حرص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على انتصار أمته على أعداء الإسلام.
5 - من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تحقق وقوع ما أخبر به.
6 - من أساليب الدعوة: البشارة.
7 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولًا: من موضوعات الدعوة: التحريض على خداع الكفار في الحرب: إن من الموضوعات المهمة التي ينبغي العناية بها: التحريض على خداع
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 355.
(2) انظر: المرجع السابق، 12 / 346، و 12 / 355، وشرح الكرماني على صحيح البخاري 13 / 32.
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الخاء مع الدال، مادة: "خدع" 2 / 14، وانظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 55.(1/731)
الكفار في الحرب؛ لما في ذلك من أسباب النصر وهزيمة الأعداء؛ ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث: «الحرب خدعة» وفي حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث" بمثل ما جعله يونس من قول ابن شهاب. ونص قول ابن شهاب: "ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها" (1) .
وهذا يؤكد العناية بخداع الكفار في الحرب؛ قالي الإمام القرطبي رحمه الله: ". . . وأما كذبة تنجي ميِّتًا، أو وليًّا، أو أممًا، أو مظلومًا ممن يريد ظلمه، فذلك لا تختلف في وجوبه أمة من الأمم: لا العرب، ولا العجم" (2) وقال الإمام النووي رحمه الله: "واتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب، وكيف أمكن الخداع إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل" (3) .
ثانيًا: من وظائف الإمام المسلم: التدبير ووضع الخطط والحيل الحربية: إن من وظائف الإمام التدبير ووضع الخطط؛ لأن الحرب تدبير، واحتيال، وكثيرًا ما كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع اعتماده على الله وتوكله عليه- يجتهد في وضع الخطط العسكرية والحيل الحربية، واستعمال الرأي والمشورة في الحرب (4) ؛ ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث: «الحرب خدعة» وهذا يدل على أهمية التدبير ووضع الخطط في المعارك؛ للفوز بالنصر وتجنب الزلل؛ ولأن ذلك يشحذ الفكر، ويقوي العزيمة؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث إشارة إلى استعمال الرأي في الحرب: بل الاحتياج إليه أكبر من الشجاعة" (5) ؛ قال كعب بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «ولم يكن
_________
(1) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الكذب وبيان المباح منه، 4 / 2011، 2012، برقم 2605.
(2) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 6 / 592.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 289، وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 3 / 522، والأذكار للنووي ص 324، وانظر: قصة محمد بن مسلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في قتله لكعب بن الأشرف، بعد أن استأذن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكذب على كعب، فاحتال علبه بالكذب حتى قتله. البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الكذب في الحرب، 4 / 31، برقم 3032، وباب الفتك بأهل الحرب، برقم 3032.
(4) انظر: منار القاري في شرح مختصر صحيح البخاري، لحمزة محمد قاسم، 4 / 121، والمنهل العذب الفرات، لعبد العال أحمد، 3 / 246.
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 158.(1/732)
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد غزوة إلا ورى (1) بغيرها. . .» (2) قال الإمام ابن العربي رحمه الله: "الخديعة في الحرب تكون بالتورية، وتكون بالكمين (3) يعده الجيش، وتكون بخلف الوعد، وذلك كذب من المستثنى الجائز من المحرم " (4) .
ثالثًا: من موضوعات الدعوة: الحث على أخذ الحذر والحيطة في الحرب: لا شك أن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الحرب خدعة» يحث على أخذ الحذر والحيطة في الحروب القائمة بالجهاد في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ، وهذا يؤكد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطي جوامع الكلم، فهو يتكلم بالكلمة الواحدة التي تشمل المعاني والفوائد الكثيرة (5) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد حديث الباب: "فيه التحريض على أخذ الحذر في الحرب، والندب إلى خداع الكفار في الحرب، وأن من لم يتيقظ لذلك لم يأمن أن ينعكس الأمر عليه" (6) ؛ قال الله عَزَّ وجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] (7) .
وهذا يؤكد على الدعاة إلى الله عَزَّ وجَلَّ أن يحضوا المسلمين وخاصة المجاهدين على أخذ الحذر والحيطة، والعمل بأسباب النجاة وعوامل النصر، والله المستعان (8) .
رابعًا: حرص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على انتصار أمته على أعداء الإسلام: دل هذا الحديث على حرص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على انتصار أمته على أعداء الإسلام؛ لأنه قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الحرب خدعة» وهذا فيه توجيه منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته؛ لتأخذ بأسباب النصر والتمكين وخداع أعداء الدين في المعارك، وقد بين الله حرص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما يعود على أمته بالخير والصلاح فقال عَزَّ وجَلَّ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] (9) .
_________
(1) ورى بغيرها: التورية في الشيء: أن تستر الذي تريده وتظهر غيره. أعلام الحديث للخطابي، 2 / 1411.
(2) متفق عليه. البخاري، برقم 4418، ومسلم، برقم 2769، وتقدم تخريجه في أصل الحديث رقم 9، ص 94.
(3) الكمين في الحرب: وهو أن يستخفوا في مكمن بحيث لا يفطن بهم ثم ينهضوا على العدو على غفلة. المصباح المنير، للفيومي، باب الكاف، مادة: "كمن" 2 / 541.
(4) عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 4 / 146.
(5) انظر: الحديث رقم 106: الدرس الأول والدرس الثاني.
(6) فتح الباري بشرح صحصح البخاري، 6 / 158.
(7) سورة النساء، الآية: 71.
(8) انظر: المنهل العذب الفرات لعبد العال أحمد 3 / 246.
(9) سورة التوبة، الآية: 128.(1/733)
فينبغي للداعية أن يكون حريصًا على انتصار أمة الإسلام اقتداء بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
خامسًا: من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تحقق وقوع ما أخبر به: دل الحديث على معجزة ظاهرة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تدل على صدقه وأنه رسول الله حقًّا؛ لأنه قال: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله» فقد وقع ذلك كله فافتتح المسلمون بلادهما، واستقرت لهم، واقتسموا كنوزهما (2) ولا شك أن هذا من أعلام نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
سادسًا: من أساليب الدعوة: البشارة: بشر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلمين بأن ملك كسرى وقيصر سيزول، وأن كنوزهما ستنفق في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ، ووقعت البشارة وتحققت للمسلمين والحمد لله (4) وهذا يؤكد على أهمية البشارة وأنها من الأساليب النافعة في الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ؛ لما لها من التأثير المباشر في القلوب. فينبغي العناية بهذا الأسلوب عناية فائقة، والله المستعان (5) .
سابعًا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: ظهر في هذا الحديث أسلوب التأكيد بالقسم في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله» . وهذا يؤكد أهمية القسم للتأكيد في الأمور المهمة عند الحاجة لذلك كما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (6) .
[باب من لا يثبت على الخيل]
[حديث ما حجبني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم] في وجهي
_________
(1) انظر: المنهل العذب الفرات، لعبد العال أحمد 3 / 246.
(2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 18 / 255، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 13 / 33، 23 / 96.
(3) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع.
(4) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 626، ومنار القاري، لحمزة محمد قاسم، 4 / 120- 121.
(5) انظر: الحديث رقم 9، الدرس التاسع، ورقم 83، الدرس الأول، ورقم 89، الدرس الرابع.
(6) انظر: الحديث رقم 10، الدرس الخامس، ورقم 14، الدرس الخامس.(1/734)
162 - باب من لا يثبت على الخيل 128 [ص:3035] حدثني محمد بن عبد الله بن نمير: حدثنا ابن إدريس، عن إسماعيل، عن قيس، عن جرير (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «ما حجبني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي» (2) .
وفي رواية: ". . «ولا رآني إ لا ضحك» (3) .
وفي رواية: «ولقد شكوت إليه أني لا أثبت على الخيل، فضرب بيده في صدري وقال: "اللهم ثبته واجعله هاديًا مهديًّا» (4) .
*الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين.
2 - من صفات الداعية: حسن الخلق.
3 - من صفات الداعية: التواضع.
4 - من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء.
5 - من وسائل الدعوة: استمالة قلب من له شأن في قومه.
6 - من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: استجابة دعواته.
7 - من وسائل الدعوة: تعليم المجاهدين وتدريبهم استعدادًا للجهاد.
8 - أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه (5) .
[باب ما يكر من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه]
[حديث جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد عبد الله بن] جبير
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 69.
(2) [الحديث 3035] ، طرفاه في: كتاب مناقب الأنصار، باب ذكر جرير بن عبد الله البجلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، 4 / 280، برقم 3822. وكتاب الأدب، باب التبسم والضحك، 7 / 123، برقم 6089. وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل جرير بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، 4 / 1925، برقم 2475.
(3) الطرف رقم 3822.
(4) الطرف رقم 6090.
(5) تقدمت هذه الفوائد في الحديث رقم 122- 3020، فأغنى عن إعادة شرحها هنا.(1/735)
164 - باب ما يكر من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه قال الله عَزَّ وجَلَّ: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] (1) .
وقال قتادة: الريح الحرب.
129 -[3039] حدثنا عمرو بن خالد: حدثنا زهير: حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب (2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما يحدث قال: «جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الرجالة يوم أحد -وكانوا خمسين رجلًا- عبد الله بن جبير (3) فقال: "إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم". فهزموهم. قال: فأنا والله رأيت النساء يشددن، قد بدت خلاخلهن وأسوقهن، رافعات ثيابهن. فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير: نسيتم ما قال لكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير اثني عشر رجلًا، فأصابوا منا سبعين، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائةً وسبعين أسيرًا وسبعين قتيلا (4) فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات. فنهاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجيبوه. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاث مرات. ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاث مرات ثم رجع إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فما ملك عمر نفسه فقال: كذبت والله يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوءك.
_________
(1) سورة الأنفال، الآية: 46.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 30.
(3) عبد الله بن جبير بن النعمان، الأنصاري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، شهد العقبة مع السبعين، وبدرا وأحدا، واستعمله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أميرًا على الرماة يوم أحد، وهم خمسون رجلا، فلما انهزم المشركون ذهب الرماة؛ ليحضروا الغنيمة، فنهاهم عبد الله بن جبير فمضوا وتركوه، وقتل يومئذ شهيدا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. انظر. سير أعلام النبلاء للذهبي 2 / 331، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 286.
(4) هكذا في النسخة المعتمدة، وفي نسخة فتح الباري، وثبت في رواية للبخاري ". . أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيرا وسبعين قتيلًا" انظر: الطرف رقم 3986، وهذا هو الصواب والله أعلم.(1/736)
قال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال. إنكم ستجدون في القوم مثلةً لم آمر بها ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز: أُعْلُ هُبَلْ، أُعْلُ هُبَلْ. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا تجيبونه؟ " قالوا: يا رسول الله ما نقول؛ قال: "قولوا: الله أعلى وأجل". قال: إن لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا تجيبونه؟ " قال: قالوا يا رسول الله ما نقول؟ قال: "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم» (1) .
وفي رواية: «جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الرماة يوم أحد عبد الله بن جبير» . . " (2) .
وفي رواية: «. . وأجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيشًا من الرماة، وأَمَّرَ عليهم عبد الله، وقال: "لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا. .» (3) .
وفي رواية: «. . . وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيرًا، وسبعين قتيلًا» (4) .
* شرح غريب الحديث: * " الرجالة " جمع راجل: أي ماش (5) .
* " وأوطأناهم " أي غلبناهم وقهرناهم (6) .
* " الخلخال " حلية كالسوار تلبسها النساء في أرجلهن (7) .
_________
(1) [الحديث 3039] ، أطرافه في: كتاب المغازي، باب، 5 / 14، برقم 3986. وكتاب المغازي، باب غزوة أحد، 5 / 35، برقم 4043. وكتاب المغازي، باب إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، 5 / 41، برقم 4067. وكتاب تفسير القرآن، 3 سورة آل عمران، باب قوله: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ، 5 / 202، برقم 4561.
(2) من الطرف رقم 3986.
(3) من الطرف رقم 4043.
(4) من الطرف رقم 3986.
(5) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الجيم، مادة: "رجل" 2 / 204.
(6) انظر: المرجع السابق، باب الواو مع الطاء، مادة: "وطأ" 5 / 201.
(7) انظر: القاموس المحيط للفيروز آبادي، باب اللام، فصل الخاء، ص 1286، والمعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية، مادة: "خلخل" 1 / 249.(1/737)
* " أسوقهن " الساق ما بين الكعب والركبة: جمعه سوق، وسيقان، وأسؤق (1) .
* " يرتجز " الرجز: بحر من بحور الشعر ونوع من أنواعه، ويسمى قائله راجزًا، كما يسمى. قائل بحور الشعر شاعرًا، وقد قيل لفرس في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "المرتجز" سمي به لحسن صهيله (2) .
* " الحرب سجال " أي تكون مرة على هؤلاء ومرة على هؤلاء، أي تصيبون منا مرة ونصيب منكم أخرى. مأخوذ من السجل: وهو الدلو الذي يستقى به؛ لأن الواردين على الماء لكل واحد منهم سجل: أي لكل واحد منهم نوبة فالسقي بالدلو تكون له بعد صاحبه أو قبله على حسب الاتفاق. (3) .
* " مثلة " المثلة: الخروج بالعقوبات عن رسوم الشريعة، يقال: مثلت بالقتيل: إذا جدعت أنفه، أو مذاكيره، أو شيئًا من أطرافه، والاسم: المثلة: فأما مثل بالتشديد فهو للمبالغة (4) .
* " هبل " صنم للمشركين كانوا يعبدونه في مكة (5) .
* " العزى " صنم لأهل الجاهلية كانوا يحلفون به تعظيمًا له (6) .
*الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1- من وظائف الإمام: التخطيط والتدبير في القتال.
2 - من موضوعات الدعوة: التحذير من معصية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيان خطرها.
_________
(1) القاموس المحيط للفيروزآبادي، باب القاف، فصل السين، ص 1156.
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الجيم، مادة: "رجز" 2 / 199.
(3) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 130 و 412، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع الجيم، مادة: "سجل" 2 / 344.
(4) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 118، والنهابة في غريب الحديث، والأثر، لابن الأثبر، باب الميم مع الثاء، مادة: "مثل" 4 / 294.
(5) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الهاء مع الباء، مادة: "هبل" 5 / 240.
(6) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 311.(1/738)
3 - من صفات الداعية: تذكر النعم والاعتراف بالتقصير.
4 - من أساليب الدعوة: الجدل.
5 - من سنن الله عَزَّ وجَلَّ: ابتلاء الأنبياء وأتباعهم.
6 - من أصناف المدعوين: المشركون.
7 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
8 - من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة أحد.
9 - خطر حب الدنيا وزينتها على قلب الإنسان.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من وظائف الإمام: التخطيط والتدبير في القتال: إن فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد يدل على حكمته ومعرفته العظيمة بالتخطيط والتدبير في الحرب؛ ولهذا أمر خمسين من أصحابه الرماة أن يجلسوا في الجبل وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير، وأمرهم أن لا يفارقوا مكانهم حتى يرسل إليهم، ولو أراد الله عَزَّ وجَلَّ بقاءهم كما أمرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تحصل هزيمة المسلمين؛ لأن هؤلاء الرماة سيحمون المجاهدين من التفاف المشركين على الجبل ولكن الله له الحكمة البالغة والحجة الدامغة. وهذا يبين أهمية التخطيط في الحرب.
ثانيا: من موضوعات الدعوة: التحذير من معصية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيان خطرها: لا ريب أن التحذير من معصية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهم الموضوعات التي ينبغي للداعية أن يعتني بها؛ لأن معصية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أسباب الخذلان والهزيمة؛ ولهذا عندما خالف الرماة يوم أحد أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هزم المسلمون بسبب تلك المعصية، فقد قال لهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم» فهزم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه المشركين فولوا مدبرين مخذولين، فقال الرماة لأميرهم عبد الله بن جبير: الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون؛ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالوا: والله لنأتين(1/739)
الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فانقلبوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم فلم يبق مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا اثنا عشر رجلًا، فقتل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبعون شهيدًا. قال الكرماني رحمه الله: "صرف وجوههم عقوبة لمعصية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" (1) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "الهزيمة وقعت بسبب مخالفة الرماة" (2) وقال أيضًا: "وفيه شؤم ارتكاب النهي وأنه يعم ضرره من لم يقع منه، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] (3) .
وأن من آثر دنياه أضر بآخرته ولم تحصل له دنياه" (4) قال الله عَزَّ وجَلَّ عن المخالفة التي وقعت في يوم أحد: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ - إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 152 - 153] (5) وقال عَزَّ وجَلَّ {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] (6) .
ولا شك أن من أسباب النصر والتمكين في الأرض: طاعة الله ورسوله.
فينبغي لكل مسلم أن يحذر معصية الله ورسوله، ويلزم طاعة الله ورسوله؛ فإن هذا من أسباب التوفيق والتسديد والإعانة (7) .
_________
(1) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 15 / 219.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 163.
(3) سورة الأنفال، الآية: 25.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7 / 353.
(5) سورة آل عمران، الآيتان: 152-153.
(6) سورة آل عمران، الآية: 165.
(7) انظر: الحديث رقم 96، الدرس الأول.(1/740)
ثالثا: من صفات الداعية: تذكر النعم والاعتراف بالتقصير: ظهر في هذا الحديث أن تذكّر النعم والاعتراف بالتقصير من الصفات الحميدة؛ ولهذا قال البراء رضي الله عنه: " فأصابوا منا سبعين وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيرا وسبعين قتيلا " ففي هذا الحديث اعتراف الصحابة - رضي الله عنهم - بالتقصير يوم أحد، وتذكرهم لنعمة الله عليهم يوم بدر، وما منَّ الله به عليهم من النصر والتأييد والإِعانة على عدوِّهم حتى قتلوا منهم سبعين رجلا، وأسروا سبعين؛ قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله: " وفي هذا الحديث. . . أنه ينبغي للمرء أن يتذكر نعمة الله ويعترف بالتقصير عن أداء شكرها " (1) فينبغي للداعية أن يتذكر نعمة الله عليه ويشكره عليها، ويعترف بالتقصير عن أداء شكرها.
رابعا: من أساليب الدعوة: الجدل: لا ريب أن الجدل في اللغة مأخوذ من شدة الفتل، يقال: جدلتُ الحبل أجدله جدلًا إذا شددت فتله، وفتلته فتلا محكما (2) وهو في الحقيقة: دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة أو شبهة، ويقصد به تصحيح كلامه (3) ويكون في مقابلة الأدلة لظهور أرجحها، وإظهار الحق، وإلزام الخصم (4) وقد ظهر هذا الأسلوب في هذا الحديث عندما دار الجدل بين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأبي سفيان - رضي الله عنه - في يوم أحد، ومن ذلك قول أبي سفيان: " اعل هبل " فقال عمر: " الله أعلى وأجل " فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال عمر: الله مولانا ولا مولى لكم. إلى غير ذلك من جدل عمر - رضي الله عنه - لأبي سفيان.
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 753 بتصرف يسير جدا.
(2) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب اللام فصل الجيم، 11 / 103.
(3) انظر: التعريفات للجرجاني ص 106، والجدل نوعان: الجدل الممدوح: وهو كل جدل أيد الحق وأوصل إليه بنية صالحة وطريقة سليمة، أما الجدال المذموم: فهو كل جدال أيد الباطل وأوصل إليه. انظر: كتاب استخراج الجدل من القرآن الكريم، لعبد الرحمن بن نجم الحنبلي ص 51، ومناهج الجدل في القرآن الكريم، للدكتور زاهر بن عواض الألمعي ص 50 وص 62.
(4) انظر: المصباح المنبر للفيومي 1 / 36، والحوار آدابه وضوابطه في الكتاب والسنة ليحيى محمد زمزمي ص 23-24.(1/741)
فينبغي للداعية أن يستخدم الجدل عند الحاجة إليه، ويقصد بذلك إظهار الحق وإبطال الباطل بالأدلة العقلية والنقلية (1) امتثالًا لأمر الله - عز وجل - بذلك: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (2) .
خامسا: من سنن الله - عز وجل: ابتلاء الأنبياء وأتباعهم: إنما حصل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - يوم أحد من الابتلاء والامتحان ما هو إلا سنة من سنن الله - عز وجل - كما قال - عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] (3) وقال - عز وجل - عن ابتلاء الصحابة وما أصابهم يوم أحد: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ - وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 166 - 167] (4) .
وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول في ذكره لبعض فوائد حديث البراء - رضي الله عنه: " وهذا ابتلاء وامتحان، فلو كان المسلمون لا يصيبهم شيء ما بقي على الكفر أحد، فهو سبحانه يبتلي هؤلاء بهؤلاء، وهؤلاء بهؤلاء، ولكن العاقبة تكون للمتقين " (5) ؛ قال الله - عز وجل:
_________
(1) قد شاع بين الناس ألفاظ قريب بعضها من بعض: الجدل، والمناظرة، والحوار أو المحاورة، والمحاجة، والمناقشة. ويظهر بعض الفروق بين هذه الألفاظ: وهو أن المجادلة يظهر فيها أسلوب القوة، والحوار ورد في القرآن الكريم بمعنى المجادلة، ولكن يظهر في الحوار الهدوء والبعد عن الخصومة، وهو نوع من أنواع الأدب الرفيع وأسلوب من أساليبه، أما المناظرة، فقال الجرجاني في التعريفات ص 287: " المناظرة: لغة من النظير أو من النظر بالبصيرة، واصطلاحا النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهارا للصواب " وتمتاز بدلالتها على النظر والتفكر. فهذه الألفاظ كلها: " الجدل، الحوار، المناظرة، المناقشة، المحاجة " تشترك في أنها مراجعة في الكلام ومداولة له بين طرفين. انظر: التعريفات للجرجاني ص106، وص287، ولسان العرب لابن منظور، باب اللام، فصل الجيم، 11 / 103-106، وباب الراء فصل الحاء، 4 / 218-219، وباب الراء، فصل النون، 5 / 218-220، والحوار. آدابه وضوابطه، ليحيى بن محمد، ص 31.
(2) سورة النحل، الآية: 125.
(3) سورة محمد، الآية: 31.
(4) سورة آل عمران، الآيتان: 166 - 167.
(5) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 4043 من صحيح البخاري.(1/742)
{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ - وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ - أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 140 - 142] (1) وقال - عز وجل: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] (2) ولا شك أن الصحابة - رضي الله عنهم - استفادوا من هذا الابتلاء والامتحان، فلم يعودوا إلى مثل ما فعلوه في معركة أحد؛ وبالغوا في طاعة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ، وأخذوا الحذر من عدوِّهم، وعرفوا المنافقين من الصادقين - رضي الله عنهم (3) ؛ ولهذا مدحهمِ الله - عز وجل - فقال: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ - الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ - فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 172 - 174] (4) .
وذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - عندما رجع من أحد إلى المدينة أمر من حضر الجهاد في أحد أن يخرجوا معه على ما بهم من الجراح فاستجابوا لله ورسوله ووصلوا إلى حمراء الأسد، وجاءهم الخبر بأن أبا سفيان قد جمع لهم جموع الناس " فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " (5) وهذا يدل على صبرهم - رضي الله عنهم - الكامل على الابتلاء، ويدل على كمال إيمانهم - رضي الله عنهم - (6) .
سادسا: من أصناف المدعوين: المشركون: دل هذا الحديث على أن من أصناف المدعوين: المشركون؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - دعاهم إلى الله، وقاتلهم؛ لعدم استجابتهم لله وعدم دخولهم في الإِسلام،
_________
(1) سورة آل عمران، الآيات: 140 - 142.
(2) سورة آل عمران، الآية: 179.
(3) انظر: فتح الباري لابن حجر، 7 / 352-353.
(4) سورة آل عمران، الآيات: 172 - 174.
(5) انظر: تفسير الطبري " جامع البيان عن تأويل آَي القرآن " 7 / 400، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي 1 / 456.
(6) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 66، الدرس الأول.(1/743)
ولا شك أن دعوة المشركين لها أساليب ومناهج بينها الله في كتابه وبينها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - بسيرته وسنته. فينبغي السير على ضوئها، والله المستعان (1) .
سابعا: من أساليب الدعوة: الترهيب: ظهر أسلوب الترهيب في هذا الحديث في قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأبي سفيان: " كذبت والله يا عدوّ الله إن الذين عددت لأحياءٌ كلهم، وقد بقي لك ما يسوءك " وهذا فيه تخويف للأعداء، وإظهار للقوة، وأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - الذين عدهم أبو سفيان لا يزالون على قيد الحياة وهم مستعدون لقتال أعداء الله؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي هذا الحديث منزلة أبي بكر وعمر من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ، وخصوصيتهما به حيث كان أعداؤه لا يعرفون بذلك غيرهما إذ لم يسأل أبو سفيان عن غيرهما " (2) فرد عليه عمر رضي الله عنه، ليدخل الرعب في قلبه ويخوفه، وهذا أسلوب من أساليب الدعوة.
فينبغي للداعية أن يعتني بأسلوب الترهيب عند الحاجة إليه (3) .
ثامنا: من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة أحد: لا شك أن من تاريخ الدعوة ذكر غزوة أحد وزمنها؛ لقول البراء بن عازب رضي الله عنه: " جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - على الرجالة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلا - عبد الله بن جبير "، وقد كانت في شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة، وأتم التسليم (4) .
تاسعا: خطر حب الدنيا وزينتها على قلب الإِنسان: إن الحرص على الدنيا وزينتها من أخطر الأشياء على قلوب البشر، وقد ظهر هذا الحرص في قلوب بعض أصحاب عبد الله بن جبير رضي الله عنه، حيث خالفوا
_________
(1) انظر: الحديث رقم 91، الدرس الثامن.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7 / 353.
(3) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر، ورقم 12، الدرس الثالث.
(4) انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، 3 / 192.(1/744)
أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - وهو قوله لهم: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم» ، فهزم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - والمسلمون المشركين، فقال أصحاب الجبل " الرماة ": الغنيمة الغنيمة، ونزلوا من الجبل فَهُزِمَ المسلمون بسبب حب الدنيا وزينتها، قال الله - عز وجل: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152] (1) .
فينبغي لكل مسلم أن يحذر من الحرص على حب الدنيا وزينتها؛ فإنها زائلة وفانية، قال الله - عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60] (2) والله المستعان (3) .
_________
(1) سورة آل عمران، الآية: 152.
(2) سورة القصص، الآية: 60.
(3) انظر: الحديث رقم 61، الدرس السادس.(1/745)
[باب من رأى العدو فنادى بأعلى صوته يا صباحاه حتى يسمع الناس]
[حديث أخذ لقاح النبي صلى الله عليه وسلم]
166 - باب من رأى العدو فنادى بأعلى صوته: يا صباحاه, حتى يسمع الناس 130 -[3041] حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمة (1) أنَّهُ أَخْبَرَهُ قَالَ: «خَرَجْتُ مِن الْمَدينةِ ذَاهِبا نَحْوَ الْغَابَة، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِثَنِيّهِ الْغَابة لَقيَنِي غُلام لِعبد الرَحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. قُلْتُ: وَيْحَكَ، مَا بِكَ؟ قَالَ: أُخِذَتْ لِقَاحُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ. قُلْتُ: مَنْ أَخَذَهَا؟ قَالَ: غَطَفانُ وَفَزَارَةُ. فَصَرَخْتُ ثَلاث صَرَخَاتٍ أَسْمَعتُ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا: يَا صَبَاحَاهُ، يَا صَبَاحَاهُ. ثُمَّ انْدَفَعْتُ حَتَّى أَلْقَاهُم وَقَدْ أَخَذُوهَا، فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ وأَقُولُ: أَنا ابْنُ الأَكْوَعِ، وَالْيَومُ يَوْمُ الرُّضَّعِ. فَاسْتَنْقذْتُهَا منْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبوا، فَأَقْبَلْتُ بِهَا أَسُوقُهَا، فَلَقيَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - فقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! إِنَّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ، وَإِنِّي. أَعْجَلْتُهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا سِقيَهُم، فَابْعَثْ فِي إِثرِهِمْ. فَقَالَ: " يَا ابْنَ الأكوَعِ مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ، إِنَّ الْقَوْمَ يُقْرَوْنَ فِي قَوْمهمْ» (2) .
وفي رواية: ". . «ثُمَّ انْدَفَعْتُ عَلَى وَجْهِي حَتَّى أَدْرَكْتُهُمْ وَقَدْ أَخَذُوا يَسْتَقُونَ الْمَاءَ فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ بِنبلِي -وَكُنْتُ رَامِيا - وَأَقُولُ: أَنا ابْنُ الأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَومُ الرُّضعِ، وَأَرْتَجزُ حَتَّى اسْتَنْقَذْتُ اللِّقاحَ مِنْهُمْ، وَاسْتَلَبْتُ مِنْهُمْ ثَلاثِينَ بُرْدَة، قَالَ وَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - وَالنَّاسُ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله قَدْ حَمَيْتُ الْقَوْمَ المَاءَ وَهُمْ عِطَاش فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ السَّاعَةَ. فَقَالَ: " يَا ابْنَ الأَكْوَعِ مَلَكْتَ فَأسْجِحْ " قَالَ؛ ثُمَّ رَجَعْنَا وَيُرْدِفُني رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - علَى نَاقَتِهِ حَتَّى دَخَلْنَا المَدِينَةَ» (3) .
* شرح غريب الحديث: * " الغابة " الغابة قرب المدينة من عواليها، والغابة: الأجمة ذات الشجر المتكاثف؛ لأنها تُغيِّب ما فيها، وجمعها: غابات (4) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 74.
(2) [الحديث 3041] طرفه في: كتاب المغازي، باب غزوة ذات قرد، 5 / 85، برقم 4194. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها، 3 / 1432، برقم 1806.
(3) من الطرف رقم 4194.
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الغين مع الهمزة، مادة: " غيب " 3 / 399.(1/746)
* " لقاح " اللَّقاح من النوق: الحوامل، واحدها: لَقُوح ولواقح. وقيل: اللّوَاقح: الحَوَامِل، واللِّقاح: ذوات الألبان (1) .
* " اليوم يوم الرضع " أي: هذا يوم هلاك اللئام، والرضع جمع راضع: وهو اللئيم، وسُمِّي به؛ لأنه لِلُؤمِهِ يرضع إبله أو غنمه ليلا؛ لئلا يسمع صوت حلبه. (2) .
وقيل صنع ذلك؛ لئلا يتبدَّد من اللبن شيء إذا حلب في الإِناء (3) وقيل: هو الذي رضع اللؤم من ثدي أمه (4) * " ما بين لابتيها " أي ما بين جانبيها، واللاَّبة: الحرة، وهي حجارة سود قد أحاطت بالمدينة (5) .
* " ملكت فأسْجحْ " أي قدرْتَ فسهِّل الأمر وأحسن العفو، وَهُوَ مَثَلٌ سائر. والسُّجُح: السَّهلة، والسَّجحاء: تأَنيث الأسجح: وهو السَّهْل (6)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: الصوت الجهوري.
2 - من صفات الداعية: الشجاعة.
3 - من موضوعات الدعوة: الحث على العفو والرفق وتسهيل الأمور.
4 - من أساليب الدعوة: تعريف الداعية بنفسه عند الحاجة.
5 - من أساليب الدعوة: الرجز.
_________
(1) انظر: أعلام الحديث للخطابي ص 1434، وتفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 142، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب اللام مع القاف، مادة: " لقح " 4 / 362، وجامع الأصول من أحاديث الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - لابن الأثير، 8 / 335.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الضاد، مادة: " رضع " 2 / 230.
(3) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 3 / 673، وشرح صحيح مسلم للنووي 12 / 415-416، وفتح الباري لابن حجر، 7 / 462.
(4) أعلام الحديث للخطابي، 2 / 1434، وانظر: شرح غريب الحديث رقم 61، ص375.
(5) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 142.
(6) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع الجيم، مادة: "سجح" 2 / 242، وجامع الأصول في أحاديث الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - له، 8 / 335.(1/747)
6 - من أساليب الدعوة: قول الداعية عند الحاجة: أنا ابن فلان.
7 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار.
8 - من أساليب الدعوة: التأليف بالثناء عند أمْنِ الفتنة.
9 - من وسائل الدعوة: الإِعداد للجهاد بالتدريب على الرمي وغيره.
10 - من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ: الإِخبار بالمغيبات.
11 - من صفات الداعية: التواضع.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآَتي:
أولا: من صفات الداعية: الصوت الجهوري: إن الصوت الجهوري من الصفات التي يُفَضَّلُ أن يتصف بها الداعية؛ لأن ذلك يُسمع الناس ما يقوله الداعية؛ ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - يرفع صوته في الخطب حتى كأنه منذر جيش (1) وقد دل هذا الحديث على رفع الصوت في إنذار الناس والمبالغة في إيصال الكلام إليهم؛ ولهذا قال سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه: " فصرخت ثلاث صرخات أسمعت ما بين لابتيها: يا صباحاه، يا صباحاه " قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله: " فيه إشعار بأنه كان واسع الصوت جدا، ويحتمل أن يكون ذلك من خوارق العادات " (2) وقال الإمام القرطبي - رضي الله عنه - على رفع سلمة صوته بقوله: يا صباحاه: " معناه هنا؛ الإِعلام بهذا الأمر المهم، الذي قد دهمهم في الصباح " (3) وقال الإمام الكرماني رحمه الله: " يا صباحاه: هو منادى مستغاث، والألف للاستغاثة، والهاء للسكت، وكأنه نادى الناس استغاثة بهم في وقت الصباح: أي وقت الغارة، وحاصله أنها كلمة يقولها المستغيث " (4) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وكانت عادتهم يغيرون وقت الصباح، فكأنه قال: تأهبوا لما دهمكم صباحا" (5) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 45، الدرس العاشر.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7 / 361.
(3) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3 / 673.
(4) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 13 / 40.
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 164.(1/748)
ثانيا: من صفات الداعية: الشجاعة: ظهر في هذا الحديث شجاعة سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه، لقوله رضي الله عنه: «ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم وقد أخذْوا يستقون الماء، فجعلت أرميهم بنبلي - وكنت راميا- وأقول: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع، وأرتجز حتى استنقذت اللقاح منهم، واستلبت منهم ثلاثين بردة» وهذا يدل على الشجاعة العظيمة؛ ولهذا ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله: أن سلمة - رضي الله عنه - كان مثل الأسد إذا حملت عليه الخيل فرَّ، ثم عارضهم فنضحها عنه بالنبل (1) .
فينبغي للداعية أن يكون شجاعا: عقليا وقلبيّا، وهذا من أعظم الصفات الحميدة (2) .
ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحث على العفو والرفق وتسهيل الأمور: إن الرفق، والعفو، ومعاملة الناس بالأسهل والأحسن من الموضوعات التي ينبغي للدعاة حث الناس عليها وترغيبهم في التعامل بها مع الناس؛ ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - لسلمة في هذا الحديث: " ملكت فأسْجِحْ " أي قدرت فسهِّل الأمر، وأحسن العفو، وارفق ولا تأخذ بالشدة (3) .
وهذا يؤكد الحض على تعليم الناس الأخذ بالتيسير وترك التعسير، والله المستعان (4) .
رابعا: من أساليب الدعوة: تعريف الداعية بنفسه عند الحاجة: دل هذا الحديث على أن من أساليب الدعوة: تعريف الإِنسان بنفسه عند الحاجة لذلك مع القصد الحسن والنية الصالحة؛ ولهذا قال سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: " أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع ". قال الإمام النووي - رحمه الله: " فيه جواز مثل هذا الكلام في القتال، وتعريف الإِنسان بنفسه إذا كان شجاعا، ليرعب خصمه " (5) .
_________
(1) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، 7 / 462.
(2) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الخامس، ورقم 61، الدرس الثاني.
(3) انظر: جامع الأصول من أحاديث الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ، لابن الأثير، 8 / 335، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 13 / 40، وفتح الباري لابن حجر، 7 / 463.
(4) انظر: الحديث رقم 76، الدرس الثالث، ورقم 80، الدرس الثالث.
(5) شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 415.(1/749)
وهذا يؤكد للسامع أهمية تعريف الداعية بنفسه عند الحاجة وتخويف الأعداء " (1) .
خامسا: من أساليب الدعوة: الرجز: لا ريب أن من أساليب الدعوة: قول الرجز المحمود؛ ولهذا ارتجز سلمة - رضي الله عنه - في هذا الحديث بقوله: " أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع " ويكون ذلك عند الحاجة إلى الرجز مع بعض المدعوين على حسب الحاجة والمصلحة (2) .
سادسا: من أساليب الدعوة: قول الداعية عند الحاجة: أنا ابن فلان: إن قول الداعية والمجاهد في سبيل الله - عز وجل - عند الحاجة: أنا فلان، أو أنا ابن فلان من أساليب الدعوة، إذا كان في ذلك مصلحة واضحة؛ ولهذا قال سلمة: " أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع ". قال الإمام الكرماني - رحمه الله: " وفيه جواز. . . قولهم: أنا ابن فلان في الحرب، إذا كان شجاعا؛ لتخويف الخصم " (3) .
وهذا فيه تأكيد لأهمية هذا الأسلوب عند الحاجة (4) .
سابعا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار: إن أسلوب التأكيد بالتكرار من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله - عز وجل؛ لما له من تثبيت المعاني وتفهيم الكلام؛ ولهذا قال سلمة - رضي الله عنه: " فصرخت ثلاث صرخات: يا صباحاه، أسمعت ما بين لابتيها ". قال الإمام النووي رحمه الله: " فيه جواز مثله للإِنذار بالعدوِّ" (5) وهذا يؤكد أهمية تكرير الكلام عند الحاجة للتأكيد وتثبيت المعاني، والله المستعان (6) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 16، الدرس الرابع، ورقم 61، الدرس التاسع.
(2) انظر: الحديث رقم 27، الدرس الثالث، ورقم 45، الدرس السادس، ورقم 61، الدرس الثامن.
(3) شرح الكرماني على صحيح البخاري، بتصرف يسير جدا 13 / 41.
(4) انظر: الحديث رقم 61، الدرس العاشر.
(5) شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 415.
(6) انظر: الحديث رقم 4، الدرس الخاص، ورقم 7، الدرس الثاني عشر.(1/750)
ثامنا: من أساليب الدعوة: التأليف بالثناء عند أَمْنِ الفتنة: لا شك أن من أساليب الدعوة: التأليف بالثناء على المدعو أو غيره، وذكر بعض ما فيه من الفضائل؛ ليستزيد من الخير ويثبت عليه، بشرط أن لا يدخل عليه العجب فيفتتن بذلك، وقد أثنى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - على سلمة - رضي الله عنه - بقوله: " ملكت فأسجح " والمعنى: قدرت فسهِّل وأحسن العفو (1) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث. . . استحباب الثناء على الشجاع ومن فيه فضيلة، ولا سيما عند الصنع الجميل؛ ليستزيد من ذلك، ومحلّهُ حيثُ يؤمَنُ الافتتان " (2) .
فينبغي مراعاة أحوال المدعوين في الثناء، فإن كان ينفع أثنى عليهم، وإن كان يجلب عجبا ترك (3) .
تاسعا: من وسائل الدعوة: الإعداد للجهاد بالتدريب على الرمي وغيره: ظهر في الحديث أهمية الرمي؛ لقول سلمة رضي الله عنه: " فجعلت أرميهم بنبلي، وكنت راميا " ولا زال - رضي الله عنه - يستخدم الرمي حتى استنقذ لقاح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ؛ قال العلامة العيني - رحمه الله - في ذكره لبعض فوائد هذا الحديث: " وفيه فضيلة الرمي، على ما لا يخفى" (4) .
وهذا يؤكد أهمية تعلم الرمي وتعليمه إعدادا للجهاد في سبيل الله - عز وجل - (5) .
عاشرا: من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ: الإخبار بالمغيبات: دل هذا الحديث على عَلَمٍ من أعلام النبوة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - لسلمة رضي الله عنه: " إن القوم يقرون في قومهم " والمقصود أنهم وصلوا إلى غطفان، وهم يضيفونهم فلا حاجة في الحال إلى البعث في الأثر؛ لأنهم لحقوا بأصحابهم (6) وهذا
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 7 / 463.
(2) المرجع السابق، بتصرف يسير جدا، 7 / 463.
(3) انظر: الحديث رقم 67، الدرس السادس.
(4) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 14 / 287.
(5) انظر: الحديث رقم2، الدرس الثالث، ورقم 122، الدرس السابع عشر، ورقم 128، الدرس السابع.
(6) انظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري، 13 / 41.(1/751)
إعلام منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - بأمر لم يشاهده الصحابة ولم يشاهده هو، بل أمر غيبيٌّ؛ قال الإمام النووي رحمه الله: " وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ " (1) .
وهذا يؤكد على صدق نبوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - صدقا يقينا محققا (2) .
الحادي عشر: من صفات الداعية: التواضع: ظهر في هذا الحديث صفة التواضع؛ لأن سلمة - رضي الله عنه - قال: «ثم رجعنا ويردفني رسول الله على ناقته حتى دخلنا المدينة» وهذا فيه تواضع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - حيث أردف سلمة بن الأكوع على ناقته؛ لأن الكبراء والوجهاء لا يردفون على دوابهم؛ لتعاظمهم في الغالب، فخالفهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - تواضعا وعطفا ورحمة (3) .
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 416.
(2) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع، ورقم 53، الدرس الثالث.
(3) انظر: الحديث رقم 33، الدرس الحادي عشر، ورقم 62، الدرس الثالث.(1/752)
[باب إذا نزل العدو على حكم رجل]
[حديث حكم سعد في بني قريظة]
131 [ص:3043] حدثنا سليمان بن حرب: حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم وعن أبي أمامة هو ابن سهل بن حنيف، عن أبي سعيد الخدري (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد (2) بعث رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وكان قريبا منه - فجاء على حمار، فلما دنا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم: " قوموا إلى سيدكم "، فجاء فجلس إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم، فقال له: " إن هؤلاء نزلوا على حكمك ". قال فإني أحكم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية، قال: " لقد حكمت فيهم بحكم الملك» (3) .
وفي رواية: «نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، فأرسل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم - إلى
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 19.
(2) هو سعد بن معاذ بن النعمان، بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل، الأنصاري، الأوسي، الأشهلي، السيد الكبير، الشهيد أبو عمرو رضي الله عنه وهو سيد الأوس، أسلم على يد مصعب بن عمير - رضي الله عنه - حين بعثه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم - قبله مهاجرا على المدينة يعلم المسلمين أمور دينهم، فلما أسلم سعد قال لبني عبد الأشهل: كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا فضلا وأيمننا نقيبة، قال: " فإن كلامكم علي حرام: رجالكم ونساؤكم، حتى تؤمنوا بالله ورسوله " فلم يبق في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا أسلموا. وكان سعد - رضي الله عنه - من أعظم الناس نصرا للإسلام، ومن أنفعهم لقومه، شهد بدرا، وأحدا والخندق، وقريظة، ونزلوا على حكمه، فحكم فيهم بقتل الرجال وسبي الذرية فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم: " قضيت بحكم الله " في رواية: " لقد حكمت فيهم بحكم الملك "، أصيب يوم الخندق بجرح في الأكحل، فقال: " اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها؛ فإنه لا قوم أحب إلي من أن أجاهدهم فيك؛ آذوا نبيك، وكذبوه، وأخرجوه، اللهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة " [البخاري برقم 4122، وسيرة ابن هشام عن ابن إسحاق، 3 / 244، ومسند أحمد 6 / 141] فاستجاب الله دعوت وحكمه في بني قريظة، وجعلها له شهادة بعد حكمه فيهم حيث انفجر جرحه فمات شهيدا بعد شهر من غزوة الخندق، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم: " اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ " [البخاري برقم 3803، ومسلم برقم 2466] وأهدي لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم حرير فجعل الصحابة يعجبون من لينه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم: " لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا " [البخاري برقم 3248، 3249، ومسلم برقم 2468، 2469] رضي الله عن سعد بن معاذ ورحمه. انظر: سيرة بن هشام، 3 / 244، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1 / 214، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 1 / 279، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 37.
(3) [الحديث 3043] أطرافه في: كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب سعد بن معاذ رضي الله عنه، 4 / 274، برقم 3804، وكتاب المغازي، باب مرجع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم - من الأحزاب، ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم، 5 / 60، برقم 4121. وكتاب الاستئذان، باب قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم: " قوموا إلى سيدكم "، 7 / 174، برقم 6262. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم، 3 / 1388، برقم 1768.(1/753)
سَعْدٍ فَأَتَى عَلَى حِمَارٍ فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْمَسْجدِ قَالَ لِلأنصَارِ: " قُومُوا إِلى سَيِّدِكُم أَوْ خَيْرِكُمْ - فَقَالَ: هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ " فَقَالَ: تُقْتَلُ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَاريهمْ قَالَ: " قَضَيْتَ بِحُكْم الله "، وَرُبَّمَا قَالَ: " بِحُكْم المَلِكِ» (1) .
* شرح غريب الحديث: * - " وتُسْبَى ذرَارِيهم " السَّبْي، والسَّبيَّة، والسَّبايا: النهبُ وأخذ الناس عبيدا وإماءً، والسَّبيَّة: المرأة المنهوبة، وجمعها: سبايا، والذرية: النساء والصبيانَ (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أهمية حكم العالم برضى الخصمين.
2 - من وسائل الدعوة: القيام للمقابلة بالسلام والمصافحة والتهنئة.
3 - من صفات الداعية: التواضع.
4 - من صفات الداعية: وضع كل شيء في موضعه.
5 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث.
6 - من أصناف المدعوين: اليهود.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: أهمية حكم العالم برضى الخصمين: لا شك أن حكم العالم برضى الخصمين له أهمية بالغة؛ لما يفصل وينهي من المنازعات، والأصل في ذلك قصة سعد بن معاذ مع بني قريظة حينما نزلوا على حكمه فأرسل إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وعندما وصل قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - له: " إن هؤلاء نزلوا على حكمك " فقال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فإنِّي أحكم أن تقتل المقاتلة وأن تسبى الذرية. فقال النبي
_________
(1) الطرف رقم 4121.
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع الباء، مادة: "سبا" 2 / 340، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 13 / 42.(1/754)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " لقد حكمّت فيهم بحكم المَلِكِ ". قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " يستفاد منه لزوم حكم المحكم برضى الخصمين " (1) وقال العلامة العيني رحمه الله: " فيه لزوم حكم المحكم برضى الخصمين، سواء كان في أمور الحرب أو غيرها، وهو رد على الخوارج الذين أنكروا التحكيم على علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " (2) وقد تكلم الإمام النووي رحمه الله كلاما جامعا قال فيه: " فيه جواز التحكيم في أمور المسلمين، وفي مهماتهم العظام، وقد أجمع العلماء عليه، ولم يخالف فيه إلا الخوارج، فإنهم أنكروا على عليٍّ التحكيم، وأقام الحجة عليهم، وفيه جواز مصالحة أهل قرية أو حصن على حكم حاكم مسلم، عدل، صالح للحكم، أمين على هذا الأمر، وعليه الحكم بما فيه مصلحة للمسلمين، وإذا حكم بشيء لزم حكمه، ولا يجوز للإِمام ولا لهم الرجوع عنه، ولهم الرجوع قبل الحكم، والله أعلم " (3) وحاصل ذلك أن الإمام إذا وافق على التحكيم لحَكَمٍ من أهل العلم والفقه، والديانة، فحكم بما فيه مصلحة المسلمين: من قتل، أو سباء، أو إقرار على الجزية، أو إجلاء، نفذ حكمه إذا لم يكن فيه مخالفة للشرع بأي وجه من الوجوه (4) .
ثانيا: من وسائل الدعوة: القيام للمقابلة بالسلام والمصافحة أو التهنئة: ظهر في هذا الحديث أن القيام للقادم لمقابلته بالسلام والمصافحة أو التهنئة، أو إجلاسه في مكانه، أو إنزاله من على دابته إذا كان مريضا من وسائل الدعوة؛ قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في هذا الحديث: " قوموا إلى سيدكم " وقد كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يقوم للمقابلة بالسلام لبعض أصحابه عند القدوم عليه (5) ومن ذلك حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 165.
(2) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 14 / 288.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 336، وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 3 / 592.
(4) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 3 / 592.
(5) كما قام لفاطمة وقبلها وأجلسها مكانه، وكانت تفعل ذلك له، وذكر أن أخاه من الرضاعة أقبل عليه فقام فأجلسه بين يديه؛ للتوسيع له في الجلوس، وقام لعكرمة حينما جاء من اليمن مسلما، فرحا بإسلامه، وقام لجعفر بن أبي طالب عندما قدم من الحبشة فرحا بقدومه ومقابلة له بالسلام، وقدم إليه زيد بن حارثة فقام إليه فاعتنقه وقبله، وغير ذلك وهذا كله للاستقبال بالسلام، أو المصافحة أو التقبيل أو إجلاس القادم في مكانه، أما للتعظيم فلا. انظر: فتح الباري 11 / 52.(1/755)
قالت: «ما رأيت أحدا أشبه سمتا، ودلّا (1) وهديا برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم» قالت: «وكانت إذا دخلت على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قام إليها فقبّلها وأجلسها في مجَلسه، وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها» (2) ومن ذلك ما فعله طلحة بن عبيد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بحضرة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - حينما قام إلى كعب بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال كعب: «فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وَهَنَّاني» (3) .
وهذا كله يدل على أهمية المقابلة بالسلام، والتهنئة، والمعانقة، للقادم من السفر، والمصافحة عند المقابلة، فعن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا» (4) وعن سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم فأخذ بيده تحاتت عنهما ذُنُوبُهُمَا، كما تتحات الورق من الشجرة اليابسة في يومِ ريحٍ عاصفٍ، وإلا غُفِرَ لَهُمَا ولو كانت ذنوبهما مِثْلَ زبَدِ البحر» (5) وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال عن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «كانوا إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا» (6) .
_________
(1) سمتا، ودلا، وهديا، قيل: هذه الألفاظ متقاربة المعاني، فمعناها الهيئة والطريقة وحسن الحال، ونحو ذلك. انظر: تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي، للمباركفوري، 10 / 373.
(2) أبو داود، كتاب الأدب، باب ما جاء في القيام، 4 / 355، برقم 5217، والترمذي، وحسنه، في كتاب المناقب، باب فضل فاطمة بنت محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، 5 / 700، برقم 3872، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3 / 241، وصحيح سنن أبي داود، 3 / 979.
(3) البخاري برقم 4418، ومسلم برقم 2769، وتقدم تخريجه في الحديث رقم [9 - 2757] ص 94.
(4) أبو داود، كتاب الأدب، باب في المصافحة، 4 / 354، برقم 5211، والترمذي، وحسنه، في كتاب الاستئذان، باب ما جاء في المصافحة، 5 / 74، برقم 2727، وابن ماجه، كتاب الأدب، باب المصافحة 2 / 1220، برقم 3703، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 3 / 979، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 525، وذكر له طرقا كثيرة.
(5) الطبراني في المعجم الكبير، 6 / 256، برقم 6150، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8 / 37: ورجاله رجال الصحيح غير سالم ابن غيلان وهو ثقة. وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله أثناء كلامه على تفسير الآية رقم 63 من سورة الأنفال وعلى الحديث الذي أورده ابن كثبر في تفسير هذه الآية، بتاريخ 12 / 10 / 1417 هـ في جامع الأميرة سارة، في البديعة في الرياض، يقول: " سند الطبراني صحيح وقد فات الألباني في السلسلة الصحيحة، لكن جميع ما ذكره شواهد لهذا ".
(6) الطبراني في الأوسط، [مجمع البحرين في زوائد المعجمين] 5 / 262، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8 / 36: " ورجاله رجال الصحيح ".(1/756)
وما تقدم يؤكد أن القيام للقادم - من أجل المقابلة بالسلام والمصافحة أو المعانقة، أو التهنئة، أو إجلاسه في مكان القائم - كل ذلك من وسائل الدعوة. وأما القيام للقادم أو القائم من المجلس بدون سلام ولا مصافحة أو معانقة أو تهنئة؛ أو لإِجلاسه في مجلس القائم فلا يجوز؛ لأن ذلك من فعل العجم لعظمائهم.
ولا ينبغي للمسلم وخاصة الداعية أن يقوم الناس لتعظيمه واحترامه؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - كان لا يحب أن يقوم له أحد من أصحابه، فكانوا لا يقومون له، إِلا للسلام والمقابلة، أو إجلاسه مكان أحدهم (1) وقد قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ أحبَّ أنْ يُمثَّل له الرجال قياما فليتبوَّأْ مقعده من النار» (2) ولهذا قال أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الصحابة - رضي الله عنهم: «لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لما يعلمون من كراهيته لذلك» (3) .
والخلاصة أن القيام ينقسم إلى ثلاث مراتب: قيام على رأس الرجل وهو جالس وهو فعل الجبابرة، وقيام له عند رؤيته أو عند قيامه من المجلس تعظيما له وهذا متنازع فيه، والصواب عدم جوازه، وقيام إليه عند قدومه لمقابلته بالمصافحة أو المعانقة، أو التهنئة مع المصافحة، أو إجلاسه في مجلس القائم وهذا لا بأس به، بل هو من وسائل الدعوة النافعة (4) قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " ففرق بين القيام للشخص المنهي عنه، والقيام عليه المشبه لفعل فارس والروم، والقيام إليه عند قدومه الذي هو سنة العرب، وأحاديث الجواز تدل عليه فقط " (5) .
_________
(1) انظر: معالم السنن للخطابي، 8 / 82 - 85، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 3 / 592 - 593، وفتح الباري لابن حجر، 11 / 50 - 54.
(2) أبو داود، كتاب الأدب، باب في قيام الرجل للرجل، 4 / 358، برقم 5229، والترمذي، في كتاب الأدب، باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل، 5 / 90، برقم 2755، وقال: " هذا حديث حسن ". ولفظه: " من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوَأ مقعده من النار " وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 3 / 982، وصحيح سنن الترمذي، 2 / 357.
(3) الترمذي، كتاب الأدب، باب كراهية قيام الرجل للرجل، 5 / 90، برقم 2754، وقال: " هذا حديث حسن صحيح "، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2 / 356.
(4) انظر: تهذيب الإمام ابن قيم الجوزية مع معالم السنن للخطابي 8 / 84.
(5) المرجع السابق، 8 / 93.(1/757)
ولكن إذا كان من عادة الناس إكرام القادم بالقيام، ولو تُرِكَ لاعتقد أن ذلك لترك حقه، أو قصد خفضه، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له؛ لأن ذلك أصلح لذات البين وإزالة التباغض والشحناء، وذلك من باب دفع أعظم المفسدتين بالتزام أدناهما كما يجب فعل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما (1) ولكن ينبغي للداعية أن يقرن القيام بالمقابلة والمصافحة على حسب الاستطاعة، ويعلم الناس السنة بالحكمة والموعظة الحسنة، والله المستعان.
ثالثا: من صفات الداعية: التواضع: ظهر في هذا الحديث صفة التواضع من عدة وجوهٍ، منها: كون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وافق على طلب من أراد تحكيم سعد بن معاذ، ولو شاء - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لم يقبل ذلك (2) ويدل على التواضع قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " قوموا إلى سيدكم "؛ فإن العظماء لا يحبون أن يقام إلى غيرهم ولا مساعدته، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " قضيت فيهم بحكم الله " وهذا يؤكد تواضعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وبيانه للحق وعدم ردِّه. وكذلك ما فعله سعد بن معاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأنه ركب على حمار، وهذا يبين تواضعه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فينبغي للداعية أن يتصف بالتواضع لله - عز وجل (3) .
رابعا: من صفات الداعية: وضع كل شيء في موضعه: إن من صفات الداعية وضع كل شيء في موضعه بإحكام وإتقان، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد دل هذا الحديث على هذه الصفة العظيمة لسعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " قضيت فيهم بحكم الملك " وذلك أنه قال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فإني أحكم أن تقتل المقاتلة وأن تُسبى الذرية» ، وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: " وهذا من توفيق الله لسعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فحكم فيهم
_________
(1) انظر. مجموع فتاوى ابن تيمية، 1 / 375 - 376، وفتح الباري لابن حجر، 11 / 54.
(2) انظر: زاد المعاد لابن القيم، 3 / 134.
(3) انظر: الحديث رقم 33، الدرس الحادي عشر، ورقم 62، الدرس الثالث.(1/758)
بحكم الله، فقتل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - رجالهم البالغين، وسبى ذراريهم ونساءهم " (1) .
فينبغي للداعية أن يسأل الله الصواب في الأقوال والأفعال ويحرص على ذلك (2) .
خامسا: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث: دل هذا الحديث على أن الحرص على الدقة في نقل الحديث من صفات الداعية المخلص؛ ولهذا قال الراوي في نقل كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " قوموا إلى سيدكم " أو " خيركم ". قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " الشك فيه من أحد رواته أي اللفظين قال " (3) .
وهذا يؤكد حرص السلف الصالح رحمهم الله على الدقة في نقل الحديث (4) .
سادسا: من أصناف المدعوين: اليهود دل هذا الحديث على أن اليهود من أصناف المدعوين؛ ولهذا دعاهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - إلى الإسلام، ثم عقد معهم العهد، وعندما نقضوا العهد والميثاق حاصرهم، ووافق على أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فحكم فيهم بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " لقد حكمت فيهم بحكم الملِكِ " وفي لفظ: " قضيت بحكم الله " (5) .
_________
(1) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 4121 من صحيح البخاري.
(2) انظر: الحديث رقم 64، الدرس الخامس، ورقم 75، الدرس الثاني.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7 / 412، وانظر: عمدة القاري للعيني، 16 / 269.
(4) انظر: الحديث رقم 21، الدرس العاشر.
(5) انظر: الحديث رقم 89، الدرس العاشر، ورقم 92، الدرس الرابع عشر.(1/759)
[باب هل يستأسر الرجل ومن لم يستأسر ومن ركع ركعتين عند القتل]
[حديث بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية]
170 - بَابُ هل يستأسر الرجل؟ ومن لم يستأسر، وَمَنْ ركَعَ رَكعَتينِ عندَ القتل 132 [ص:3045] حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أخْبَرني عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَسِيد بْنِ جَارِيةَ الثَّقَفيُّ - وَهُوَ حَلِيف لِبَنِي زُهْرةَ، وكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هُرَيْرَة - أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنا، وأَمَّرَ عَلِيْهمْ عَاصِمَ بنَ ثَابِتٍ الأنصَارِيَّ (2) - جَدَّ عاصِمٍ بنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ - فَانْطَلَقُوا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدْأَةِ - وَهُوَ بَيْنَ عُسْفانَ ومَكَّةَ - ذُكِروا لِحيّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لِحْيَانَ، فنَفَروا لَهُمْ قَرِيبا مِنْ مِائتي رجُلٍ كُلُهُمْ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرا تَزَوَّدُوهُ مِنَ المَدِيَنة، فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ، فَاقْتَصُّوا آثارَهُمْ، فَلَمَّا رآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَؤُوا إِلَى فَدْفَدٍ، وَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا وَأَعْطُونَا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمْ الْعَهدُ وَالميثاقُ وَلا نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدا. قَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ أَمِيرُ السَّرِيَّة: أَمَّا أنا فوالله لا أَنزِلُ الْيَوْمَ فِيِ ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللهمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبيَّكَ، فَرمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِما في سَبْعَةٍ. فنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاثةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاق، مِنْهُمْ خبيب الأنصَارِيُّ (3) وابْنُ دَثِنَة (4) وَرَجُل آخَرُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِم فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَالله لا أَصْحَبُكُم، إنَّ لِي فِي هَؤُلاءِ لأسْوَةً - يُرِيدُ الْقَتْلَى - فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصحَبَهُمْ
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 7.
(2) عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح الأنصاري، جد عاصم بن عمر بنٍ الخطاب لأمه، من السابقين الأولين من الأنصار، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قيل: شهد العقبة، وشهد بدرا، وقتل شهيدا حين بعثه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أميرا على سرية عينا. انظر: معالم السنن للخطابي 4 / 8، والإِصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، 2 / 244.
(3) خبيب بن عدي بن مالك بن عامر، الأنصاري، الأوسي، شهد بدرا واستشهد في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وكان هو الذي سن صلاة ركعتين لمن قتل صبرا، قتل شهيدا صبرا بمكة، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 1 / 246، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1 / 418.
(4) زيد بن الدثِنَة بن معاوية، بن عبيد بن عامر بن بياضة الأنصاري، البياضي، شهد بدرا وأحدا، وكان في غزوة بئر معونة فأسره المشركون وقتلته قريش بالتنعيم، كما قتلت خبيبا؛ لأنه في سريته. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1 / 565 - 566.(1/760)
فَأَبَى، فَقَتَلوهُ، فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْن دَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقِيعَةِ بَدْر، فَابتَاع خُبَيْبا بَنُو الحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْن نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَان خُبَيْبٌ هُوَ قتل الحارِثَ بْنَ عَامرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرا فَأَخْبَرَني عُبَيْدُ الله بْنُ عِيَاضٍ أَنَّ بِنْتَ الحَارِثِ أَخْبَرتْهُ أنهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فأَعَارَتْهُ، فَأَخَذَ ابْنا لِي وأَنا غَافِلَة حِينَ أَتاهُ، قَالَتْ: فَوَجَدْتُهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِه وَالْمُوسَى بِيَدِهِ، فَفَزعْتُ فَزْعَةً عَرَفَها خُبَيْبٌ فِي وَجْهي، فَقَالَ: تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ؛ مَا كُنْتُ لأِفْعَل ذَلِكَ. وَالله مَا رَأَيْتُ أَسِيرا قَطُّ خَيْرا مِنْ خُبَيْبٍ، والله لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْما يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ فِي يَدِهِ وإنَّهُ مُوثَق فِي الْحَدِيدِ وَمَا بِمَكَّةَ مِن ثَمَرٍ. وَكَانَتْ تَقُولُ إِنَّهُ لرِزقٌ مِنَ الله رَزَقَهُ خُبَيْبا. فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الحَرَمِ لِيَقتُلوهُ في الحِلِّ قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: ذَرُوني أَرْكَع رَكْعَتَينِ. ثُمَّ قَالَ: لَوْلا أَنْ تَظُنُّوا أَنْ مَا بِي جَزع لَطَوَّلتُها، اللهمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدا.
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِما ... عَلَى أَيِّ شِق كَانَ لله مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلهِ , وَإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
فَقَتَلَهُ ابْنُ الحَارِثِ، فَكَانَ خُبَيْب هُوَ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ لِكُلِّ امْرِئ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرا. فاسْتَجابَ الله لِعَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ يَوْمَ أُصِيبَ، فَأَخبرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ وَمَا أُصِيبُوا، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفّارِ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوِا أَنَّه قُتِلَ ليؤتَوا بِشَيءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَدْ قتلَ رَجُلا مِنْ عُظَمائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فبُعِثَ على عَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ، فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُولِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أنْ يقطعُوا مِنْ لحْمِهِ شَيْئا» (1) .
وفي رواية: «اللهمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدا، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدا، وَلا تَبْقِ مِنْهُمْ أَحدا، ثُمَّ أَنشَأَ يَقُولُ:
_________
(1) [الحديث 3045] ، أطرافه في: كتاب المغازي، باب، 5 / 15، برقم 3989. وكتاب المغازي، باب غزوة الرجيع ورِعل وذكوان وبئر معونة وحديث عضل والقارة، وعاصم بن ثابت وخبيب وأصحابه، 5 / 48، برقم 4086. وكتاب التوحيد، باب ما يذكر في الذات والنعوت وأسامى الله، 8 / 215، برقم 7402.(1/761)
فَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقتَلُ مُسْلِما ... عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ لله مَصْرَعِي
وَذَلِكَ في ذَاتِ الإِلهِ وَإنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ أَبُو سِرْوَعَةَ عُقْبَةُ بْنُ الحَارِثِ فَقَتَلَهُ وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ قُتِلَ صبرا الصَّلاةَ. وَأَخْبَرَ - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُصِيبُوا خَبَرَهُمْ، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ قُرَيشٍ إِلَى عَاصِم بْنِ ثابِتٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّه قُتِلَ أَنْ يؤتَوْا بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ - وَكَانَ قَتَلَ رَجُلا عَظِيما مِنْ عُظَمَائِهمْ - فَبَعَثَ الله لِعَاصِم مِثْلَ الظُّلَّة مِن الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْطَعُوا مِنْهُ شَيْئا» ، وقَال كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ (1) " ذَكَرُوا مُرَارَةَ بْنَ الرَّبيعِ الْعَمْرِي (2) وَهِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيَّ (3) رَجُليْنِ صَالِحيْنِ " (4) .
* شرح غريب الحديث: * " الرهط " الرهط من الناس: العصابة دون العشرة، وقيل إلى الأربعين، ولا تكون فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه. وأصل كلمة من الرهط: وهم عشيرة الرجل وأهله (5) .
* " عينا " العين: الجاسوس، يقال: اعتان له: إذا أتاه بالخبر. (6) .
* " فدفد " الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع. (7) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 9.
(2) مرارة بن الربيع الأنصاري الأوسي من بني عمرو بن عوف، ويقال إن أصله من قضاعة حالف بني عمرو بن عوف، صحابي جليل مشهور، وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا وتاب الله عليهم. انظر: الإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 3 / 396.
(3) هلال بن أمية بن عامر بن قيس بن عبد الأعلم، بن عامر بن كعب، بن واقف، الأنصاري الواقفي، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، وهو الذي نزلت قصة اللعان من أجله، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. انظر: الإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 3 / 606.
(4) من الطرف رقم 3989.
(5) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 160، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب الراء مع الهاء، مادة: " رهط " 2 / 283، وانظر: شرح غريب الحديث رقم 123، ص 722.
(6) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب العين مع الياء، مادة: " عين " 3 / 331.
(7) المرجع السابق، باب الفاء مع الدال، مادة: " فدفد " 3 / 420.(1/762)
* " ليستحد بها " الاستحداد: استعمال الحديد في الْحَلْقِ بِهِ، ثم استُعْملَ في حلق العانة (1) .
* " قطف " القطف: العنقود، وجمعه قطوف، وهو اسم لكل ما قطف، كالذبح لكل ما ذبح، والطحن لكل ما طحن (2) .
* " صبرا " القتل صبرا: هو أن يمسك شيء من ذوات الأرواح حيّا ثم يُرمَى بشيءٍ حتى يموت (3) .
* " الظُّلَّة " السحاب وكل شيء أظلك فهو ظلة، سواء من السحاب أو الجبال أو غير ذلك. (4) .
* " الدَّبْرُ " هو بسكون الباء: النحل، وقيل: الزنابير، والظلة: السحاب (5) .
* " شلْوٍ ممزع " الشَّلْو: العضو، وممزع: أي مقطع، يقال: يتمزع أي: يتقطع ويتشقق (6) .
* " أحصهم عددا " دعاءٌ عليهم بالهلاك استئصالًا: أي لا تبقِ منهم أحدا (7) .
* " اقتلهم بددا " يروى بكسر الباء، جمع بُدَّة، وهي الحصة والنصيب: أي اقتلهم حصصا مقسمة لكل واحد منهم حصته ونصيبه، ويروى بالفتح: أي متفرقين في القتل (8) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
_________
(1) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 208.
(2) المرجع السابق ص568.
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الصاد مع الباء، مادة. " صبر " 3 / 8.
(4) المرجع السابق، باب الظاء مع اللام، مادة: " ظلل " 3 / 160.
(5) المرجع السابق، باب الدال مع الباء، مادة: "دبر" 2 / 99.
(6) المرجع السابق، باب الشين مع اللام، مادة: " شلا " 2 / 498، وباب الميم مع الزاي، مادة: " مزع " 4 / 325.
(7) أعلام الحديث للخطابي، 2 / 1436، وشرح صحيح البخاري للكرماني 13 / 46.
(8) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الباء مع الدال، مادة: "بد" 1 / 105.(1/763)
1 - من وسائل الدعوة: إرسال الدعاة وبعث البعوث.
2 - من وسائل الدعوة: تأمير الأمير على السرايا والبعوث، أو الرسل أو المسافرين.
3 - أهمية أخذ الداعية بالشدة والقوة عند الحاجة أو المصلحة.
4 - من صفات الداعية: الأمانة.
5 - من صفات الداعية: قوة اليقين.
6 - من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان.
7 - من وسائل الدعوة: إغاظة الأعداء بالامتداح بالشعر وغيره وإظهار القوة.
8 - من أساليب الدعوة: تخويف الأعداء بالدعاء عليهم بالتعميم عند الحاجة.
9 - من معجزات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ظهور الكرامات على أيدي أتباعه.
10 - من معجزات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: الإِخبار بالمغيبات.
11 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
12 - من صفات الداعية: النظافة والاستعداد للقاء الله عز وجل.
13 - استجابة الله عز وجل للداعية المخلص وإكرامه حيّا وميتا.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولاٌ: من وسائل الدعوة: إرسال الدعاة وبعث البعوث: دل هذا الحديث على أن من وسائل الدعوة إرسال الدعاة وبعث البعوث؛ ولهذا جاء في هذا الحديث: «بعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عشرة رهط سرية عينا وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري» وقد كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يبعث البعوث ويرسل السرايا والرسل والدعاة إلى الله - عز وجل؛ ليبلغوا الناس الإسلام قولًا وفعلا، وهذا من أعظم الوسائل النافعة في الدعوة إلى الله - عز وجل (1) .
ثانيا: من وسائل الدعوة: تأمير الأمير على السرايا والبعوث أو الرسل والمسافرين: دل هذا الحديث على أهمية تأمير الأمير على السرايا أو البعوث أو الرسل، أو المسافرين إذا كانوا ثلاثة فأكثر؛ لما في ذلك من اجتماع الكلمة والاعتصام بالله
_________
(1) انظر: الحديث رقم 66، الدرس الثالث، ورقم 90، الدرس الثاني.(1/764)
وحده ثم باتحاد الرأي وعدم التفرقة؛ ولهذا أمَّر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عاصم بن ثابت على الرهط الذين بعثهم وفيهم خبيب - رضي الله عنهم، وقد كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يقول: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمِّروا أحدهم» (1) .
ولا شك أن تأمير الأمير على المسافرين والسرايا والبعوث يكون أجمع لشملهم، وأدعى لاتفاقهم، وأقوى لتحصيل غرضهم (2) .
ثالثا: أهمية أخذ الداعية بالشدة والقوة عند الحاجة أو المصلحة: لا شك أن من الأعمال الجليلة للداعية الأخذ بالقوة والشدة عند الحاجة أو المصلحة الراجحة؛ ولهذا قال عاصم بن ثابت أمير السرية: " أمَّا أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك " فرماه المشركون ومن معه بالنبل حتى قتلوا عاصما وسبعة معه، ونزل إليهم خبيب وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق الظفري بالعهد والميثاق، فلما استمكن المشركون من الثلاثة أوثقوهم، فقال عبد الله بن طارق (3) " هذا أول الغدر والله لا أصحبكم " فقتلوه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة - رضي الله عنهما. وهذا يؤكد على أهمية الأخذ بالشدة والقوة عند الحاجة أو المصلحة كما أخذ بها عاصم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
رابعا: من صفات الداعية: الأمانة: ظهر في هذا الحديث أهمية صفة الأمانة للداعية؛ لأن الداعية الصادق لا يغدر، ولا ينقض عهده؛ ولهذه الصفة الكريمة قالت بنت الحارث عن خبيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فأخذ ابنا لي وأنا غافلة حين أتاه فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده، ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي، فقال: تخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك، والله ما رأيت أسيرا قطَّ خيرا من خبيب ".
وهذا يدل على أمانة خبيب؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه
_________
(1) أبو داود، كتاب الجهاد، باب في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم، 3 / 36، برقم 2608، 2609 من حديث أبي سعيد وأبي هريرة - رضي الله عنهما -، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود 2 / 494، 495: "حسن صحيح ".
(2) انظر: معالم السنن للخطابي 3 / 414، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، للعلامة محمد شمس الحق العظيم أبادي، 7 / 267.
(3) انظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري، 16 / 17.(1/765)
الوفاء للمشركين بالعهد والتورع عن قتل أولادهم " (1) وقال العلامة العيني رحمه الله: " وفيه أداء الأمانة إلى المشرك وغيره، وفيه التورع من قتل أطفال المشركين رجاء أن يكونوا مؤمنين " (2) .
فينبغي للمؤمن، وخاصة الداعية إلى الله - عز وجل، أن يلتزم بالعهد، وأداء الأمانة والابتعاد عن الخيانة؛ قال الله - عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] (3) وقال - عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] (4) وهذا يؤكد أهمية الأمانة وأنها تشمل القيام بحقوق الله - عز وجل - وحقوق عباده، والقيام بالواجبات والابتعاد عن المحرمات على علم وبصيرة، ورغبة فيما عند الله من الثواب وخوفا من عقابه وانتقامه، والله المستعان (5) .
خامسا: من صفات الداعية: قوة اليقين: ظهر في هذا الحديث أن قوة اليقين من صفات الداعية؛ ولهذا قال خبيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
فلست أبالي حين أقتل مسلما ... على أيِّ جنب كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإِله وإن يشأ ... يُبارك على أوصالِ شِلْوٍ مُمزَّعِ
وهذا يؤكد أهمية قوة اليقين عند الداعية، ويبين مكانة خبيب وقوة يقينه، وقوته في دين الله - عز وجل - وثباته عليه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (6) .
سادسا: من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان: دل الحديث على أهمية الصبر على الابتلاء والامتحان والاختبار؛ لأن هؤلاء العشرة من الصحابة صبروا على ذلك، فعاصم بن ثابت صبر مع سبعة من
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7 / 14 / 3، وانظر: معالم السنن للخطابي، 4 / 9.
(2) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 14 / 294.
(3) سورة الأنفال، الآية: 58.
(4) سورة الأحزاب، الآية: 72.
(5) انظر: الحديث رقم 29، الدرس الثالث.
(6) انظر: الحديث رقم 28، الدرس الرابع، وفتح الباري لابن حجر، 7 / 385.(1/766)
الصحابة - رضي الله عنهم - على مجاهدة الأعداء وعدم النزول على عهد الكفار حتى قتلوا، وخبيب وابن الدثنة وعبد الله بن طارق صبروا على أسر الأعداء وتعذيبهم وقتلهم صبرا؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفيه أن الله يبتلي عبده المسلم بما شاء كما سبق في علمه ليثيبه، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] (1) .
وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " وهذه قدرة الله تعالى؛ ليكون المؤمنون قدوة لغيرهم " (2) وهذا كله يؤكد أهمية الصبر على الابتلاء واحتساب الثواب عند الله - عز وجل، والله المستعان (3) .
سابعا: من وسائل الدعوة: إغاظة الأعداء بالامتداح بالشعر وغيره وإظهار القوة: دل هذا الحديث على أهمية إغاظة أعداء الإِسلام بالامتداح بالشعر وغيره مما يغيظهم، وإظهار القوة والشجاعة أمامهم؛ ولهذا قال خبيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أيِّ شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإِله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
وهذا فيه إظهار القوة والشجاعة والرغبة فيما عند الله - عز وجل - أمام أعداء الإِسلام؛ قال العلامة العيني رحمه الله: " وفيه الامتداح بالشعر حين ينزل بالمرء هوان في دينٍ، أو ذلة القتل، يرغم بذلك أنف عدوِّه، ويجدِّد في نفسه صبرا وأنفة " (4) .
فينبغي إظهار القوة والنشاط، وعدم المبالاة بالأعداء؛ ليكون ذلك من أسباب إذلال الأعداء وإدخال الرعب في قلوبهم. (5) .
ثامنا: من أساليب الدعوة: تخويف الأعداء بالدعاء عليهم بالتعميم عند الحاجة: ظهر في الحديث أن من أساليب الدعوة الدعاء على المشركين بالتعميم عند إعراضهم وعنادهم واستكبارهم ومحادتهم لله ورسوله، تخويفا لهم،
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7 / 385، والآية 112 من سورة الأنعام.
(2) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 4086 من صحيح البخاري.
(3) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 66، الدرس الأول.
(4) عمدة القاري، شرح صحيح البخاري، 14 / 294.
(5) انظر: الحديث رقم 103، الدرس الأول.(1/767)
وإذلالًا، وإهانة، وانتصارا للإِسلام؛ ولهذا قال خبيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في دعوته على الكفار: " اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبقِ منهم أحدا " وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يسلك طريق الحكمة في الدعاء للمشركين والدعاء عليهم فيعمل الأنسب والأصلح، وسار الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم على هذا المنهج (1) .
تاسعا: من معجزات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ظهور الكرامات على أيدي أتباعه: دل هذا الحديث على أن من معجزات النبي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ظهور الكرامات (2) على أيدي أتباعه، وقد ظهرت هذه الكرامات على أنواع كثيرة منها ما جاء على يد خبيب، حيث قالت بنت الحارث: " والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، والله لقد وجدته يوما يأكل من قطف عنب في يده وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر "، وكانت تقول: " إنه لرزق من الله رزقه خبيبا " وهذه الكرامة لخبيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تدل على صدق النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وهي معجزة له، ويمكن أن الله جعلها آية للكفار وبرهانا لنبيه لتصحيح رسالته (3) وقد جزم الإمام ابن تيمية - رحمه الله - أن كرامات الأولياء من معجزات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وأوضح أن الآيات الدالة على نبوة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وعموم رسالته نوعان:
(أ) ما صار معلوما بالخبر الصادق كمعجزات موسى وعيسى عليهما السلام.
(ب) ما هو باقٍ إلى اليوم، كالقرآن الذي هو من أعلام نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وكالعلم والإِيمان الذي في أتباعه؛ فإنه من أعلام نبوته، وكشريعته التي أتى بها؛ فإنه من أعلام نبوته، وكالآيات التي يظهرها الله وقتا بعد وقت من كرامات الصالحين من أمته، وظهور دينه بالحجة والبرهان، واليد والسنان، والعقوبات
_________
(1) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الخامس، وفتح الباري لابن حجر 6 / 106.
(2) الفرق بين المعجزة والكرامة: هو أن المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بدعوى النبوة والتحدي للعباد. أما الكرامة: فهي أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة ولا التحدي، ولا تكون الكرامة إلا لعبد ظاهره الصلاح، مصحوبا بصحة الاعتقاد والعمل الصالح. أما إذا ظهر الأمر الخارق على أيدي المنحرفين فهو من الأحوال الشيطانية، وإذا ظهر الأمر الخارق على يد إنسان مجهول الحال، فإن حاله يعرض على الكتاب والسنة كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: " إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء، فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة "، انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 10 / 23، وشرح العقيدة الطحاوية لعلي بن أبي العز، ص 510.
(3) انظر: فتح الباري لابن حجر، 7 / 283.(1/768)
التي تحيق بأعدائه، وصفاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - الموجودة في كتب الأنبياء قبله، كل هذا وغيره من معجزاته التي تدل على صدق نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (1) .
عاشرا: من معجزات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: الإخبار بالمغيبات: دل هذا الحديث على أن من أعلام نبوة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - الإِخبار بالمغيبات؛ ولهذا أخبر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أصحابه - رضي الله عنهم - بما حدث لعاصم وأصحابه وما أصابهم، وهذا يؤكد صدقه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وما جعل الله على يديه من الخوارق (2) .
الحادي عشر: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: ظهر في هذا الحديث أن القدوة الحسنة من وسائل الدعوة النافعة؛ لأنه جاء فيه: " فكان خبيب هو سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرا "، لأنه قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عندما أراد المشركون قتله: " ذروني أركع ركعتين ".
وهذا يؤكد أهمية القدوة الحسنة وما لها من الأثر العظيم (3) .
الثاني عشر: من صفات الداعية: النظافة والاستعداد للقاء الله - عز وجل -: دل هذا الحديث على أن من صفات الداعية النظافة؛ ولهذا استحد خبيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عندما أراد المشركون قتله، قال الإمام الكرماني رحمه الله: " وإنما أراد بالاستحداد التنظف استعدادا للقاء ربه؛ لأن ذلك كان حين فهم إجماعهم على القتل " (4) .
وهذا يؤكد أهمية النظافة والاستعداد للقاء الله - عز وجل (5) .
الثالث عشر: استجابة الله - عز وجل - للداعية المخلص وإكرامه حيّا وميِّتا: إن الله - عز وجل - يكرم عباده المؤمنين بإجابة دعواتهم وخاصة الدعاة المخلصين
_________
(1) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، 5 / 420 - 421.
(2) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع.
(3) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث، ورقم 8، الدرس الخامس.
(4) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 15 / 175.
(5) انظر: الحديث رقم 1، الدرس الثالث، ورقم 51، الدرس الثالث، ورقم 103، الدرس الثالث.(1/769)
الصادقين؛ ولهذا استجاب الله دعاء عاصم بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حينما لم ينزل في ذمة المشركين حيث قال: " أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك " فاستجاب الله دعاءه فأخبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أصحابه خبر عاصم وأصحابه وما أصيبوا. وهذا فيه إكرام لعاصم، وأكرمه الله كرامة أخرى وهو أنه سبحانه حمى لحمه من المشركين ففي هذا الحديث: " وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حُدِّثوِا أنه قُتِلَ ليُؤتوا بشيء منه يُعرف، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر، فبُعِث على عاصم مثل الظلة من الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ من رسولهم فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئا " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه استجابة دعاء المسلم وإكرامه حيّا وميتا ". (1) .
وهذا يؤكد إكرام الله - عز وجل - للداعية المخلص حيّا وميتا، والله المستعان وعليه التكلان.
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7 / 385.(1/770)
[باب فكاك الأسير]
[حديث فكوا العاني وأطعموا الجائع وعودوا المريض]
171 - باب فكاك الأسير فيه عن أبي موسى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.
133 [ص:3046] حَدَّثَنَا قُتَيبةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائلٍ، عَنْ أِبِي مُوسَى (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «فكُّوا الْعَانِيَ - يَعْنِي الأَسِيرَ - وَأطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ» (2) .
وفي رواية: «فكُّوا الْعَانِي، وَأَجِيبُوا الدَّاعِي، وَعُودُوا الْمَرِيضَ» (3) .
* شرح غريب الحديث: * العاني العاني: الأسير، وفكاكه السعي في إطلاقه (4) ويقال: العاني: الأسير وكل من ذل واستكان وخضع فقد عنا يعنو، والمرأة عانية وجمعها عوانٍ (5) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1- من صفات الداعية: الحرص على تعليم الناس الخير.
2 - من موضوعات الدعوة: الحث على تخليص أسرى المسلمين من أعداء الإِسلام.
3 - من موضوعات الدعوة: الحض على إطعام الطعام.
4 - من موضوعات الدعوة: الحث على عيادة المرضى.
5 - من موضوعات الدعوة: الحض على إجابة الدعوة.
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 66.
(2) [الحديث 3046] أطرافه في: كتاب النكاح، باب حق إجابة الوليمة والدعوة ومن أولم سبعة أيام ونحوه، 6 / 174، برقم 5174، وكتاب الأطعمة، باب قول الله تعالى، كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ الآية، 6 / 240، برقم 5373، وكتاب المرضى، باب وجوب عيادة المريض، 7 / 5، برقم 5649، وكتاب الأحكام، باب إجابة الحاكم الدعوة، 8 / 145، برقم 7173.
(3) طرف الحديث رقم 5174.
(4) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 81.
(5) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب العين مع النون، مادة: " عنا " 3 / 314.(1/771)
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: الحرص على تعليم الناس الخير: ظهر في هذا الحديث أن من صفات الداعية المخلص الحرص على تعليم الناس الخير؛ ولهذا حرص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - على ذلك حرصا بالغا، فحث أمته على تخليص أسرى المسلمين من أيدي أعداء الدين، وحضهم على إطعام الفقراء والمساكين، من الآدميين وغيرهم، ورغبهم وأمرهم بعيادة المرضى وإجابة دعوة الداعي. فينبغي لكل مسلم أن يحرص على نفع إخوانه، ويتأكد ذلك على الداعية المخلص، والله المستعان (1) .
ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحث على تخليص أسرى المسلمين من أعداء الإسلام: إن من الموضوعات المهمة حث المسلمين على تخليص أسراهم من أيدي أعداء الإسلام بأي وسيلة كانت: سواء كان ذلك بالجهاد، أو بالفِداء، أو بمبادلة الأَسرى، أو بغير ذلك من الوسائل المشروعة؛ ولهذا أمر النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بفك الأسير فقال: «فكُّوا العاني» . . . "؛ ولأهمية ذلك فإن المسلمين لو كان عندهم أسارى، وعند المشركين أسارى، واتفقوا على المفاداة تعينت، ولم تُجْزِ مفاداة أسارى المشركين بالمال (2) .
فينبغي للداعية إلى الله - عز وجل - أن يحث على ذلك ويُرَغِّب فيه؛ لعناية النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وأمره بفك الأسرى وحثه على ذلك (3) .
ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحض على إطعام الطعام: إن إطعام الجائع والحث عليه من الموضوعات المهمة في الدعوة إلى الله - عز وجل؛ ولهذا أمر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في هذا الحديث فقال: ". . . «وأطعموا الجائع» وهذا فيه حفاظٌ على صحة الجائع وحياته، وصيانة لكرامته؛ ولأهمية إطعام
_________
(1) انظر: الحديث رقم 1، الدرس الأول.
(2) ذكر ذلك عن الإِمام أحمد، انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 167.
(3) انظر: المرجع السابق 6 / 167، والمنهل العذب الفرات من الأحاديث الأمهات من صحيح البخاري، للدكتور عبد العال أحمد، 3 / 251.(1/772)
الطعام فقد ثبت من حديث عبد الله بن سلام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لما قدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - المدينة انجفل الناس قِبَلَه، وقيل: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. ثلاثا. فجئت في الناس؛ لأنظر، فلما تبيَّنتُ وجهه عرفتُ أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أوَّل شيء سمعته تكلم به أن قال: «يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» (1) .
وعن أبي مالك الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أنه قال: «إن في الجنة غُرفا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن أطعم الطعام، [وأفشى السلام] ، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام» (2) .
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إن في الجنة لَغُرَفا يُرى ظهورها من بطونها وبُطونُها من ظهورِها " فقام إليه أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: " هي لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام» (3) .
والمقصود أن هذا الحديث العظيم فيه حث على هذه الخصال الكريمة: إطعام الطعام، وإفشاء السلام، وطيب الكلام، وإدامة الصيام، والصلاة بالليل والناس نيام؛ فإن من عمل ذلك كانت له هذه الغرف، وهي جمع غرفة: أي علالي في غاية اللطافة ونهاية الصفاء والنظافة، وهي شفافة لا تحجب من
_________
(1) ابن ماجه، في كتاب الأطعمة، باب إطعام الطعام، 2 / 1083، برقم 3251، واللفظ له، والترمذي، في كتاب صفة القيامة، باب: حدثنا محمد بن بشار، 4 / 652، برقم 2485، وقال: هذا حديث صحيح، وصححه الألباني في إرواء الغليل 3 / 239، وصحيح سنن ابن ماجه 1 / 223، وصحيح سنن الترمذي 2 / 303، ورواه أحمد في المسند، 1 / 165، و 2 / 391، والدارمي في سننه، 1 / 156.
(2) أخرجه أحمد في المسند، 5 / 343، والطبراني في المعجم الكبير، 3 / 310، برقم 3466، ورقم 3467، وابن حبان في صحيحه، 2 / 262، برقم 509، والبغوي في شرح السنة، 4 / 40، برقم 927، والبيهقي في السنن الكبرى، 4 / 300، وعبد الرزاق في المصنف، 11 / 418، برقم 2083، وما بين المعكوفين لابن حبان، ولفظ أحمد، وعبد الرزاق، والبيهقي: " إن في الجنة غرفة يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها. . "، وأخرجه أحمد عن عبد الله بن عمرو، 2 / 173، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1 / 321.
(3) الترمذي، كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في غرف الجنة، 4 / 673، برقم 2527، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2 / 311، وصحيح الجامع 2 / 220 برقم 2119، ورواه الترمذي أيضا في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في قول المعروف، 4 / 354، برقم 1984.(1/773)
وراءها، وهي مخصصة لمن له خلق حسن مع الناس، وخاصة بمن يُطيِّب الكلام؛ لكونه من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، وهي لمن أطعم الطعام: للعيال، والفقراء، والأضياف ونحو ذلك، ولمن أدام الصيام: أي أكثر منه بعد الفريضة، وأقله أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وصلى بالليل والناس نيام: أي غالبهم نيام أو غافلون عنه، لأن العمل بالليل والناس نيام لا رياء فيه ولا سمعة، وهذا يؤكد على أن من فعل ذلك فقد بلغ الغاية العظمى في الإِخلاص لله - عز وجل - (1) وقد ذكر الله هذه الغرف في القرآن الكريم فقال - عز وجل -: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر: 20] (2) وقال الله عز وجلَّ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت: 58] (3) .
رابعا: من موضوعات الدعوة: الحث على عيادة المريض: إن عيادة المريض من الموضوعات المهمة التي ينبغي للداعية أن يحث الناس عليها؛ لأن المريض بحاجة إلى تفقد أحواله، والتلطف به، وتكون عيادته سببا في نشاطه وقوته وصبره في الغالب؛ لأنه يستأنس بزيارة إخوانه ويدافع المرض مع ما في ذلك من الثواب العظيم؛ ولهذا أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في هذا الحديث بعيادة المريض فقال: ". . . «وعودوا المريض» . . . " وهذا يؤكد أهمية العيادة لمرْضَى المسلمين (4) .
خامسا: من موضوعات الدعوة: الحض على إجابة الدعوة: إن إجابة الدعوة من الموضوعات التي ينبغي للداعية أن يحث الناس عليها، ويرغبهم فيها، ويخوفهم من عدم إجابتها؛ ولهذا أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في هذا الحديث
_________
(1) انظر: تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي، للمباركفوري، 6 / 119.
(2) سورة الزمر، الآية: 20.
(3) سورة العنكبوت، الآية: 58.
(4) انظر: الحديث رقم 108، الدرس الثالث، وانظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري 20 / 181.(1/774)
بإجابة الدعوة فقال:. . . «وأجيبوا الداعي» . . . . ".
وقد حض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - على إجابة الداعي في أحاديث كثيرة، منها ما ثبت عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة (1) فليأتها» (2) وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول: " شر الطعام طعامُ الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - " (3) وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ دُعِيَ إلى عرس أو نحوه فليجب» ، وفي لفظ «إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسا كان أو نحوه» . (4) .
وهذه الأحاديث تؤكد أهمية إجابة الدعوة والحض عليها سواء كانت لعرس أو غيره، ولكن تسقط إجابة الدعوة بأعذار منها: أن يكون في الطعام شبهة واضحة، أو يخص بالدعوة الأغنياء دون الفقراء، أو يكون هناك من يتأذَّى بحضوره معه، أو لا تليق به مجالسته، أو يدعوه لخوف شره أو لطمع في جاهه، أو لِيُعان على باطل، وأن لا يكون هناك منكر من: خمر، أو لهو، أو فرش حرير أو آَنية ذهب وفضة، أو صور إنسانِ، أو حيوان غير مفروشة (5) أو غير ذلك مما حرمه الله ورسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - " ورأى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صورة في البيت فرجع "؛ (6) وقد ذكر الإِمام القرطبي رحمه الله: أن الوليمة إذا كان فيها منكر فلا يجوز حضورها عند كافة العلماء (7) .
إلا إذا أمكنه الإِنكار وإزالة المنكر لزمه الحضور والإِنكار؛ لأنه يؤدي فرضين:
_________
(1) الوليمة: ما يصنع من الطعام عند السرور. انظر: هداية الباري مقدمة فتح الباري لابن حجر، ص207.
(2) البخاري، كتاب النكاح، باب حق إجابة الوليمة والدعوة، 6 / 174 برقم 5173، ومسلم، كتاب النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، 2 / 1052، برقم 1429.
(3) البخاري، كتاب النكاح، باب من ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله، 6 / 175 برقم 5177، ومسلم، كتاب النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، 2 / 1055، برقم 1432.
(4) مسلم، كتاب النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، 2 / 1053، برقم 1429.
(5) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 9 / 248، وفتح الباري لابن حجر، 9 / 242، والمغنى لابن قدامة 10 / 193-206.
(6) البخاري، كتاب النكاح، باب هل يرجع إذا رأى منكرا في الدعوة؟ في ترجمة الباب، 10 / 203.
(7) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 4 / 153.(1/775)
إجابة دعوة أخيه المسلم وإزالة المنكر (1) ومن الأعذار في عدم الإجابة أن يعتذر إلى الداعي فيتركه ويعفو عنه، وقد بالغ بعض الصحابة - رضي الله عنهم - في ترك إجابة الدعوة إذا وجد فيها بعض المكروهات، لْقد دعا ابن عمر أبا أيوب فرأى في البيت سِترا على الجدار فقال ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: غلبنا عليه النساء، فقال: من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لكم طعاما فرجع (2) قال ابن قدامة رحمه الله: " فأما ستر الحيطان بستور غير مصورة؛ فإن كان لحاجة من وقاية حرٍّ أو بردٍ فلا بأس؛ لأنه يستعمله في حاجته، فأشبه الستر على الباب، وما يلبسه على بدنه، وإن كان لغير حاجة فهو مكروه وعذر في الرجوع عن الدعوة وترك الإِجابة " (3) ؛ وإنما كره لما فيه من السرف (4) .
والذي ينبغي للداعية أن يحض على إجابة الدعوة وإزالة المنكر أو المكروه، فإذا لم يستطع الإِنكار أو لم يزل المنكر فلا حرج في عدم الإِجابة إلا إذا ترتب على ذلك منكر أنكر منه؛ فإنه يجيب ويرتكب أدنى المفسدتين لتفويت كبْرَاهما، والله المستعان.
_________
(1) انظر: المغني لابن قدامة، 10 / 198.
(2) البخاري، كتاب النكاح، باب هل يرجع إذا رأى منكرا في الدعوة؟ قبيل الحديث رقم 5181.
(3) المغني، 10 / 203.
(4) انظر: المرجع السابق، 10 / 205.(1/776)
[باب الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان]
[حديث أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين وهو في سفر]
173 - باب الحربِي إِذَا دخَل دار الإسْلامِ بغَيْرِ أمَانٍ 134 [ص:3051] حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو العُمَيْسِ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَع (1) عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عَيْنٌ مِنَ المُشْرِكِينَ- وَهُوَ فِي سَفَرٍ - فجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثمَ انفتلَ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " اطْلُبُوهُ، وَاقْتُلُوه "، فقتَلْتُهُ، فَنَفَّلَهُ سَلَبَه» (2) .
* شرح غريب الحديث: * " عين " العين: الجاسوس (3) .
* " انفتل " التوى وانصرف (4) .
* " نَفَّلَهُ " النفْل: الزيادة، والنَّفَل بالتحريك الغنيمة. (5) .
* " سلبه " السلب: هو الذي يُقْضَى به للقاتل في الحرب وهو ما كان على المقتول: من اللباس، وما كان معه من السلاح والدوابِّ وآلة الحرب وغير ذلك (6) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1- من صفات الداعية: طاعة ولي أمر المسلمين في المعروف.
2 - من صفات الداعية: الشجاعة.
3 - من وظائف الإمام المسلم: قتل الجاسوس الحربي الكافر.
4 - من وسائل الدعوة: تشجيع الشجاع على شجاعته.
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 74.
(2) وأخرجه مسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل، 3 / 1374، بر قم 1754.
(3) انظر: غريب الحديث رقم 132، ص 762.
(4) المعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية، مادة: " فتل " 2 / 673.
(5) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب النون مع الفاء، مادة " نفل " 5 / 99.
(6) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 438، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع اللام، مادة: " سلب " 2 / 387.(1/777)
5 - من وسائل الدعوة: أخذ الحذر والحيطة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: طاعة ولي أمر المسلمين في المعروف: إن من الصفات الحميدة والأعمال الجليلة: طاعة ولي أمر المسلمين في غير معصية الله - عز وجل؛ ولهذه الأهمية بادر سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - امتثال أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فلحق بالجاسوس فقتله، وهذا يبيِّن أهمية طاعة ولي أمر المسلمين بالمعروف (1) .
ثانيا: من صفات الداعية: الشجاعة: ظهر في هذا الحديث أن الشجاعة من صفات الداعية؛ ولهذا قتل ابن الأكوع الجاسوس بأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وظهرت قوته وشجاعته - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في ذلك كما في هذا الحديث (2) .
ثالثا: من وظائف الإمام المسلم: قتل الجاسوس الحربي الكافر: إن من الأمور المهمة أن يُقْضَى على جواسيس الكفار بالقتل، وذلك من وظائف الإمام الأعظم، يأمر به ويشرف على تنفيذه؛ ولهذا أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ابن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بقتل الجاسوس فقتله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قال الإمام النووي - رحمه الله - في ذكره لفوائد هذا الحديث: " وفيه قتل الجاسوس الكافر الحربي وهو كذلك بإجماع المسلمين " (3) .
رابعا: من وسائل الدعوة: تشجيع الشجاع على شجاعته: لا شك أن من وسائل الدعوة تشجيع الشجاع على شجاعته؛ ولهذا أعطى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سلب الجاسوس الذي قتله ففي هذا الحديث: «فنفله سلبه» ، وفي رواية مسلم قال ابن الأكوع رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فخرجت أشتد فكنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلما وضع
_________
(1) انظر: الحديث رقم 95، الدرس الأول، ورقم 96، الدرس الثاني، ورقم 102، الدرس التاسع.
(2) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الخامس، ورقم 61، الدرس الثاني.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 310.(1/778)
ركبته في الأرض اخترطت سيفي فضربت رأس الرجل فندر، ثم جئت بالجمل أقوده عليه رحله وسلاحه، فاستقبلني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - والناس معه، فقال: " من قتل الرجل؟ " قالوا: ابن الأكوع، قال: " له سلبه أجمع» (1) وهذا يؤكد أهمية تشجيع الشجاع؛ قال العلامة الملا علي القاري رحمه الله: " ويستحب للإِمام التحريض على القتال بالتنفيل، فيقول: من قتل قتيلا فله سلبه، أو يقول للسرية: قد جعلت لكم النصف أو الربع بعد الخمس " (2) .
خامسا: من وسائل الدعوة: أخذ الحذر والحيطة: دل هذا الحديث بمفهومه على أن من وسائل الدعوة أخذ الحذر والحيطة من أعداء الإِسلام؛ ولهذا أخذ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بالحذر عندما جاء الرجل وجلس مع أصحابه كما في هذا الحديث، ففطن - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لذكائه وعلم بأنه جاسوس فقال: «اطلبوه واقتلوه» . وهذا يؤكد أهمية أخذ الحذر والحيطة مع الاستعانة بالله والاعتماد عليه (3) .
_________
(1) مسلم برقم: 1754 وتقدم تخريجه في أول الحديث في هذا الباب، ص 777.
(2) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 7 / 506.
(3) انظر: الحديث رقم 45، الدرس الثاني.(1/779)
[باب كيف يعرض الإسلام على الصبي]
[حديث ذكر الدجال وقوله فيه تعلمون أنه أعور وإن الله ليس بأعور]
178 - بَابُ كيفَ يُعرَض الإسلامُ على الصّبيّ؟ 135 [ص:3057] وَقَالَ سَالِمٌ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ (1) .
«ثمَّ قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فِي النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى الله بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: " إِنِّي أُنْذِرُكُمُوه، وَمَا مِنْ نَبِي إِلَّا قَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوح قَوْمَه: وَلَكِنْ سَأَقُولُ لَكُمْ فِيه قَوْلا لَم يَقُلْهُ نَبِي لِقَوْمهِ: تَعْلَمُون أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ الله لَيْسَ بِأَعْوَرَ» (2) .
وفي رواية: «إِنَّ الله لَيْسَ بأَعْوَرَ، ألا إنَّ المَسيحَ الدَّجَالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنى، كَأن عَيْنَهُ عِنَبَة طَافِيَة» (3) .
وفي رواية: «كُنَا نَتَحَدَّثُ بِحَجَّةِ الْوَدَاع وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بيْنَ أَظْهُرِنَا، وَلَا نَدْرِي مَا حَجَّةُ الْوَدَاعِ، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمَسِيحَ الدَّجَّال فَأَطْنَبَ فِي ذِكْرِهِ وَقَالَ: " مَا بَعَثَ الله مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَهُ أُمَّتَهُ: أَنْذَرَهُ نُوح والنَّبيُّونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَإنَّه يَخْرُجُ فِيكُمْ فَمَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ شَأنِهِ، فَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْكُم أَنَّ رَبكُمْ لَيْسَ عَلَى مَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ " ثلاثا " إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَإِنَّهُ أَعْوَرُ العَين الْيُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَة طَافِيَة» (4) .
* شرح غريب الحديث: * " فأطنب " يقال: أطنب في الكلام أو الوصف أو الأمر: بالغ وأكثر (5) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 1.
(2) [الحديث 3057] أطرافه في: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله - عز وجل -: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ، 4 / 126، برقم 3337. وكتاب أحاديث الأنبياء، باب: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا 4 / 170، برقم 3439. وكتاب المغازي، باب حجة الوداع، 5 / 147، برقم 4402. وكتاب الأدب، باب قول الرجل للرجل: اخسأ، 7 / 148، برقم 6175. وكتاب الفتن، باب ذكر الدجال، 8 / 130، برقم 7123 و7127. وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى. وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي، 8 / 217، برقم 7407. وأخرجه مسلم في كتاب الإِيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، 1 / 154، برقم 169. وكتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفة ما معه، 4 / 2247، برقم 169.
(3) طرف الحديث رقم 3439.
(4) طرف الحديث رقم 4402.
(5) انظر: القاموس المحيط، للفيروز آبادي، باب الباء، فصل الطاء، ص 141، والمعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية، 2 / 567.(1/780)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من وسائل الدعوة: الخطابة.
2 - من آداب الداعية: الثناء على الله بما هو أهله.
3 - من صفات الداعية: الحرص على تعليم الناس الخير.
4 - من موضوعات الدعوة: التحذير من فتنة الدجال وبيان صفاته للحذر منه.
5 - من موضوعات الدعوة: بيان صفات الكمال لله - عز وجل.
6 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من وسائل الدعوة: الخطابة: إن من الوسائل المهمة في الدعوة إلى الله - عز وجل - الخطابة، وقد ظهر استخدام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لها في هذا الحديث؛ لقول ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «ثم قام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في الناس فأثنى على الله بما هو أهله» ، وهذا يؤكد أن الخطابة من أهم وسائل الدعوة. فينبغي للداعية العناية بها عناية فائقة (1) .
ثانيا: من آداب الداعية: الثناء على الله بما هو أهله: إن من الآداب العظيمة التي ينبغي للداعية أن يبدأ بها في خطبه ومحاضراته، وكلماته أن يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ويصلي على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم؛ ولهذا جاء في هذا الحديث قول ابن عمر - رضي الله عنهما: " ثم قام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال. . . ". وهذا يؤكد أهمية الثناء على الله - عز وجل - بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وبما هو أهله كما فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، ومن ذلك خطبة الحاجة التي كان يخطب بها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في أول الخطبة (2) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 7، الدرس السادس، ورقم 33، الدرس التاسع.
(2) انظر: صحيح مسلم، 2 / 593، برقم 868، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 108، الدرس السابع، ص 624، وانظر. مشكاة المصابيح للتبريزي، 2 / 942، برقم 3149.(1/781)
ثالثا: من صفات الداعية: الحرص على تعليم الناس الخير: دل هذا الحديث على أن من صفات الداعية الحرص على تعليم الناس الخير وتحذيرهم مما يضرهم؛ ولهذا حرص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - حرصا عظيما على تعليم أمته الصفات التي يعرف بها الدجال؛ ليحذر أمته. وهذا يؤكد أن من أهم صفات الداعية الحرص على تعليم الناس ما ينفعهم وتحذيرهم مما يضرهم (1) .
رابعا: من موضوعات الدعوة: التحذير من فتنة الدجال وبيان صفاته للحذر منه: إن من موضوعات الدعوة التي ينبغي للداعية أن يعتني بها: التحذير من فتنة الدجال؛ ولهذا حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عن الدجال فقال: «إني أنذركموه وما من نبي إلا قد أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه، والنبيون من بعده» ، قال الإمام النووي رحمه الله: " هذا الإِنذار؛ لِعِظَمِ فتنته وشدة أمرها " (2) ؛ ولعظم فتنة الدجال وخطرها على المسلمين بَيَّن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - صفاته كاملةً؛ لِيَحْذَرَ منه المؤمنون، ومن هذه الصفات على وجه الإِجمال اقتباسا من أحاديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ما يأتي: هو شاب جعد الشعر، أعور العين اليمنى حقيقة، وعينه اليسرى معيبة (3) ويخرج من خلة بين الشام والعراق من المشرق: من خراسان، ويمكث في الأرض أربعين يوما: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وسائر أيامه كالأيام المعروفة، وتُصَلَّى الصلوات على تقدير الأيام العادية في كل أربعٍ وعشرين ساعة خمس صلوات، وسرعته في الأرض كالغيث استدبرته الريح، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر والأرض أن تنبت فتنبت، ومن أجابه إلى أنه الرب - تعالى الله عن قوله - أو أنه نبي كان في رغد من العيش وسعة، ومن عصاه ولم يجبه ذهبت أمواله معه وأصبح فقيرا، ويضرب شابَا مسلما بالسيف فيكون
_________
(1) انظر: الحديث رقم 1، الدرس الأول.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم، 8 / 271، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 13 / 96.
(3) انظر: كتاب الإِيمان من إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم، للقاضي عياض، 2 / 725، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 7 / 274، وشرح النووي على صحيح مسلم، 2 / 592.(1/782)
قطعتين ثم يقف بين القطعتين ويناديه فيحْيى، ويدخل جميع البلدان والقرى إلا مكة والمدينة فإنه لا يدخلهما لحراسة الملائكة لهما، ولكن ترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج الله كل كافر ومنافق فيصيبه الدجال، ومعه نار وماء، فماؤه نار وناره ماءٌ، فمن رأى ذلك فليلق بنفسه في النار ويبتعد عن الماء، ومعه جنة ونار فناره جنة وجنته نار، ومكتوب بين عينيه كافر [ك ف ر] يقرؤه كل مسلم قارئ وغير قارئ، وهو قصير متباعد ما بين الفخذين والرِّجل، ويتبعه سبعون ألفا من يهود أصبهان، وما خلق الله فتنة منذ أوجد السموات والأرض أعظم من فتنة الدجال؛ ولهذا حذره النبيون أممهم، ومن أعظم ما ينجي من الدجال قراءة عشر آيات من أول سورة الكهف والاستعاذة بالله من فتنته دبر كل صلاة، وفي آخر الأمر ينزل عيسى ابن مريم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فيقتل الدجال (1) نعوذ بالله من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وهذه الصفات التي ذكرها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عن الدجال تؤكد أهمية التحذير من فتنته، وتوضيح أمره للناس، حتى يسلم من فتنته من أدركه، أسأل الله العافية في الدنيا والآخرة لي ولجميع المسلمين.
خامسا: من موضوعات الدعوة: بيان صفات الكمال لله - عز وجل -: إن من الموضوعات المهمة بيان صفات الكمال لله - عز وجل -، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في هذا الحديث: «إن ربكم ليس بأعور» والله - عز وجل - لا يشبهه شيء من خلقه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] (2) .
فينبغي للداعية أن يبيَن للناس منهج أهل السنة والجماعة في إثبات الأسماء الحسنى، والصفات العُلَى، ونفي النقائص والعيوب عن الله - عز وجل (3) .
_________
(1) انظر: الأدلة على ما سبق، صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، 8 / 130 - 132 من الحديث رقم 7122 -7136، وصحيح مسلم، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، 4 / 2247، من الحديث رقم 2932 - 2947، وقد جمع ابن الأثير في جامع الأصول اثنين وثلاثين حديثا، 10 / 332 - 375 من حديث رقم 7838 - 7869.
(2) سورة الشورى، الآية: 11.
(3) انظر: الحديث رقم 39، الدرس الأول، ورقم 110، الدرس الثاني، ورقم 117، الدرس الأول.(1/783)
سادسا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار: إن من أساليب الدعوة التأكيد بالتكرار؛ ولهذا استخدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - هذا الأسلوب في هذا الحديث عند ذكره لصفات الدجال فقال: «فما خَفِيَ عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم أن ربكم ليس على ما يخفى عليكم» ثلاثا. وهذا يؤكد أهمية هذا الأسلوب.
فينبغي للداعية العناية به؛ لفعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (1) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 4، الدرس الخامس، ورقم 7، الدرس الثاني عشر.(1/784)
[باب إذا أسلم قوم في دار الحرب ولهم مال وأرضون فهي لهم]
[حديث استعمال عمر بن الخطاب مولى له يدعى هنيا ونصيحته له]
180 - باب إذا أسلم قوم في دَارِ الحرب ولهُمْ مال وأَرَضُونَ فَهي لهمْ 136 [ص:3059] حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْن أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ (1) " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّاب - رضي الله عنهم - اسْتَعْملَ مَوْلىً لَهُ يُدْعَى هُنَيا (2) عَلَى الْحِمَى، فَقَالَ: يَا هُنَيُ اضْمُمْ جَنَاحكَ عَن الْمُسْلِمِينَ، وَاتَقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ (3) فإن دعْوَةَ الْمَظْلُومٍ مُسْتَجَابة. وأَدْخِلْ ربَّ الصُّرَيمَةِ، وَرَبَّ الغُنَيْمَةِ، وَإِيَّايَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ وَنعَمَ ابْنِ عَفَّانَ؛ فَإنَهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إِلَىِ نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وإن رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الغُنَيْمَةِ إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَأْتِنِي بِبَنِيهِ فيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمؤمِنينَ أَفَتَارِكُهُمْ أَنا لَا أَبَا لَكَ؟ فَالْمَاءُ وَالْكَلأُ أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنَ الذَّهَب وَالْوَرِقِ، وَأيْمُ الله إِنَهُمْ لَيَرَوْنَ أني قَدْ ظَلَمْتُهُمْ؛ إِنَهَا لَبِلادُهُمْ، فَقَاتَلَوا عَلَيْهًا فِي الْجَاهِليِّة وَأسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الإِسْلامِ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ الله مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلادهِمْ شِبْرا".
* شرح غريب الحديث: * " الحمى " الحمى خلاف المباح وهو الممنوع (4) .
* " اضمم جناحك عن المسلمين ": أي أَلِنْ جَانِبَك وارفق بهم (5) .
* " الصريمة " الإِبل القليلة (6) .
_________
(1) أسلم أبو زيد، الفقيه الإمام، القرشي العدوي المدني، مولى عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قيل: هو من سبي عين التمر - بلدة غرب الكوفة - وقيل: هو يماني وعليه الأكثر، وقيل: حبشي، اشتراه عمر في الحج في العام الذي يلي حجة الوداع، روى عن عمر وعثمان ومعاوية ومعاذ وابن عمر، والصديق وطائفة من الصحابة - رضي الله عنهم - علما كثيرا وبلغه، قيل: مات سنة ثمانين للهجرة. انظر: تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، 1 / 117، وسير أعلام النبلاء للذهبي 4 / 98.
(2) هني مولى عمر وعامله على الحمى، روى عن أبي بكر، وعمر، ومعاوية، وعمرو بن العاص، ولم أجد له غير هذه الترجمة، انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر، 11 / 65.
(3) وفي نسخة فتح الباري " واتق دعوة المسلمين " قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: 6 / 176، " في رواية الإسماعيلي، والدارقطني، وأبي نعيم " دعوة المظلوم ".
(4) انظر: شرح غريب الحديث رقم 118، ص 692.
(5) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الضاد مع الميم، مادة: " ضمم " 3 / 101.
(6) المرجع السابق، باب الصاد مع الراء، مادة: " صرم " 3 / 27.(1/785)
* " الغنيمة " الغنم القليلة (1) .
* " الكلأ " النبات والمرعى. (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1- أهمية اختيار الرجل الصالح النبيل للأمور المهمة.
2 - من أصناف المدعوين: الموالي والخدم.
3 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الظلم.
4 - من موضوعات الدعوة: الحث على رحمة المسلمين والشفقة عليهم.
5 - من صفات الداعية: القوة وجودة النظر.
6 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
7 - من أساليب الدعوة: الاستفهام الإِنكاري.
8 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم.
9 - أهمية رعاية مصالح المسلمين.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: أهمية اختيار الرجل الصالح النبيل للأمور المهمة: دل هذا الحديث على أنه ينبغي للداعية أو الإمام المسلم، أو من ولاه الله أمرا من أمور المسلمين أن يختار الرجل الصالح النبيل للأمور المهمة؛ لأن من الحكمة وضع الرجل المناسب في المكان المناسب؛ ولهذا جاء في هذا الحديث أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " استعمل مولىً له يُدعى هنيّا على الحمى "؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ولولا أنه كان من الفضلاء النبهاء الموثوق بهم لما استعمله عمر " (3) .
_________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الغين مع النون، 3 / 27، وانظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 49.
(2) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 49.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 176، وانظر: الحديث رقم 67، الدرس الخامس.(1/786)
ثانيا: من أصناف المدعوين: الموالي والخدم: إن مما لا شك فيه أن من أصناف المدعوين الموالي والخدم، ونحوهم؛ ولهذا حَذَّر أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مولاه من الظلم، وأمره بالشفقة على الفقراء فقال: واتقِ دعوة المظلوم؛ فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة ". وهذا يؤكد أهمية عناية المسلم وخاصة الداعية إلى الله - عز وجل - بمن تحت يده من الموالي والخدم وغيرهم: من دعوتهم إلى الخير وتحذيرهم من الشر، ومراقبتهم مراقبة دقيقة؛ لإِلزامهم بطاعة الله - عز وجل - وإبعادهم عن معصيته.
ثالثا: من موضوعات الدعوة: التحذير من الظلم: ظهر في هذا الحديث أن من موضوعات الدعوة المهمة تحذير الناس من الظلم؛ ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لمولاه: " واتق دعوة المظلوم؛ فإن دعوة المظلوم مستجابة " وقد حذر الله - عز وجل - من الظلم فقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ - مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ - وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ - وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم: 42 - 45] (1) وقال - عز وجل: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 52] (2) وقال - عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] (3) وقال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] (4) .
وعن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فيما يرويه عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا» . . . " (5) .
_________
(1) سورة إبراهيم، الآيات: 42 - 45.
(2) سورة غافر، الآية: 52.
(3) سورة الشورى، الآية: 40.
(4) سورة لقمان، الآية: 13.
(5) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4 / 1994، برقم 2577.(1/787)
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلُوا محارمهم» (1) وقد ثبت عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة» (2) .
وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «أتدرون من المفلس؟ " قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: " إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فَيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناتُهُ قبل أن يُقضى ما عليه أُخِذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طُرِحَ في النار» (3) .
والظالم يؤدي ما عليه من حقوق الخلق حتى البهائم يقتص بعضها من بعض؛ ولهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لتؤدَّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» (4) .
والظلم للعباد يوجب النار وإن كان يسيرا، فعن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرَّم عليه الجنة " فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: " وإن قضيبا من أراك» (5) والله - عز وجل - وإن أمهل الظالم وذهبت الأيام والشهور، فإنه لا يغفل عنه ولا ينساه؛ ولهذا ثبت من حديث أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «إن الله - عز وجل - يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته» (6) ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] (7) .
_________
(1) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4 / 1996، برقم 2578.
(2) متفق عليه: البخاري، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، 3 / 134 برقم 2442، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم 4 / 1996، برقم 2580.
(3) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4 / 1997، برقم 2581.
(4) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4 / 1997، برقم 2582، من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(5) مسلم، كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق المسلم بيمين فاجرة بالنار، 1 / 122، برقم 137.
(6) متفق عليه: البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة هود، باب قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ، 5 / 255، برقم 4686، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4 / 1997، برقم 2583.
(7) سورة هود، الآية: 102.(1/788)
وقد أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بنصر المظلوم؛ فقال: ". . . «ولينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما، إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر، وإن كان مظلوما فلينصره» (1) .
وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما "، قالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: " تأخذ فوق يديه» (2) .
وينبغي لكل مسلم أن يتحلل من كانت له عنده مظلمة قبل أن يكون الوفاء من الحسنات؛ قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخِذَ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخِذ من سيئات صاحبه فَحُمِلَ عليه» (3) .
وقد يكون الظلم للرعية أو الأهل والذرية فيستحق الظالم العقاب على ذلك، قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «ما من عبد يسترعيه اللهُ رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» (4) .
وقد حذر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - من دعوة المظلوم، فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لمعاذ بن جبل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ". . . «واتقِ دعوة المظلوم؛ فإنها ليس بينها وبين الله حجاب» (5) ومن أمثلة ذلك قصة سعيد بن زيد مع أروى بنت أويس؛ فإنها ادعت عليه أنه أخذ شيئا من أرضها، فخاصمته إلى مروان بن الحكم فقال: " أنا كنت آخذ من أرضها شيئا بعد الذي سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم؟ قال وما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم؟ قال:
_________
(1) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4 / 1998، برقم 2584.
(2) البخاري، كتاب المظالم، باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما، 3 / 135، برقم 2445.
(3) البخاري، كتاب المظالم، باب من كانت له مظلمة عند رجل فحللَهَا له هل يبين مظلمته؟ ، 3 / 136، برقم 2449، من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(4) متفق عليه: من حديث معقل بن يسار: البخاري، كتاب الأحكام، باب من استرعِيَ رعية فلم ينصح، 8 / 136، برقم 7151، ومسلم، كتاب الإيمان باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، 1 / 125، برقم 142، واللفظ له.
(5) متفق عليه: من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما: البخاري، كتاب المظالم، باب الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم، 3 / 136، برقم 2448، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، 1 / 50، برقم 19.(1/789)
سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يقول: «من أخذ شبرا من الأرض ظلما طُوِّقه إلى سبع أرضين (1) يوم القيامة» فقال له مروان: لا أسألك بينة بعد هذا، فقال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها في أرضها [وفي رواية: واجعل قبرها في دارها] قال: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار، [وفي رواية: تمشي في أرضها] مرت على بئر في الدار، فوقعت فيها، فكانت قبرها " (2) .
ومن صور استجابة دعوة المظلوم على من ظلمه، قصة سعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فعن جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعزله واستعمل عليهم عمارا، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، قال أبو إسحاق: أمَّا أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ما أخرِمُ عنها، أصلي صلاة العشاء فأركدُ في الأوليين وأخفف في الأخريين، قال: ذاك الظنُّ بِك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رَجُلا أو رجالًا إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يدعْ مسجدا إلا سأل عنه، ويثنون معروفا حتى دخل مسجدا لبني عبس فقام رجلٌ منهم يقال له أسامة بن قتادة يُكنى أبا سعدة، قال: أمَّا إذا نشدتنا فإن سعدا كان لا يسير في السرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية. قال سعدٌ: أَمَا والله لأدعوَنَّ بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا قام رياءً وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن، وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد، قال عبد الملك فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن (3) .
_________
(1) طوقه إلى سبع أرضين: يحتمل أن معناه: يحمل مثله من سبع أرضين ويكلف إطاقة ذلك، ويحتمل أن يكون يجعل له كالطوق في عنقه ويطول الله عنقه كما جاء في غلظ جلد الكافر وعظم ضرسه، وقيل معناه: أنه يطوق إثم ذلك ويلزمه كلزوم الطوق في عنقه. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 11 / 53.
(2) أصل الحديث متفق عليه عن سعيد بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: البخاري، كتاب المظالم، باب إثم من ظلم شيئا من الأرض، 3 / 137، برقم 2452، ومسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، 3 / 1230، برقم 1610، واللفظ لمسلم مع سبب ورود الحديث.
(3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإِمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر، وما يجهر فيها وما يخافت، 1 / 206 برقم 755، واللفظ والقصة له، ومسلم بنحوه، كتاب الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، 1 / 334، برقم 453.(1/790)
والأحاديث تؤكد أن دعوة المظلوم مستجابة حتى ولو كان فاجرا فاسقا، فعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه» (1) .
، وقد ذكر الإِمام ابن عبد البر رحمه الله آثارا كثيرة عن السلف الصالح يحذرون فيها من الظلم ويبينون فيها استجابة دعوة المظلوم، ثم قال رحمه الله: ولقد أحسن القائل: "
نامت جفونك والمظلوم منتبه ... يدعو عليك وعين الله لم تنم
" (2) .
والظلم في الحقيقة: وضع الأشياء في غير مواضعها (3) .
وهو على نوعين: 1- ظلم النفس، وهو ضربان: ظلم النفس بالشرك الذي لا يغفره الله إذا مات العبد عليه قبل التوبة منه، وظلمها بالمعاصي التي يكون صاحبها تحت المشيئة إن لم يتب منها، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه بقدر معصيته ثم يخرجه من النار ويدخله الجنة، بعد التطهير من إثم المعصية.
2 - ظلم العبد لغيره من الخلق وهذا لا يترك الله منه شيئا بل يعطي المظلوم حقه من الظالم ما لم يستحله في الدنيا (4) .
والله - عز وجل - إذا عاقب الظالمين على ظلمهم لم يظلمهم؛ ولهذا قال - عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] (5) وقال - عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] (6) وقال سبحانه وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] (7) .
_________
(1) أحمد في المسند، 2 / 367، وابن أبي شيبة في المصنف، 10 / 275، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 3 / 360: " وإسناده حسن " وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 2 / 407، برقم 767.
(2) الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار، 27 / 438.
(3) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب، 2 / 35.
(4) انظر: المرجع السابق، 2 / 36.
(5) سورة يونس، الآية: 44.
(6) سورة النساء، الآية: 40.
(7) سورة فصلت، الآية: 46.(1/791)
وقال سبحانه: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112] (1) .
فينبغي للداعية أن يُحذِّر الناس من الظلم وعواقبه في الدنيا والآخرة.
أسأل الله العافية لي ولجميع المسلمين في الدنيا والآخرة.
رابعا: من موضوعات الدعوة: الحث على رحمة المسلمين والشفقة عليهم: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة الحث على الشفقة والرحمة بالمسلمين؛ ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لمولاه: " وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة. . " وهذا يؤكد أهمية العناية بالفقراء والمحاويج ورحمتهم، وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أول هذا الحديث لمولاه: " يا هنيُّ اضمم جناحك عن المسلمين ". قال الإمام الكرماني - رحمه الله - في مفهوم ذلك: " كناية عن الرحمة والشفقة " (2) وقد حث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - على الشفقة والرحمة بالمسلمين ورغب في ذلك فقال: «مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (3) فينبغي للداعية أن يحض الناس على التراحم والتعاطف والشفقة على المسلمين (4) .
خامسا: من صفات الداعية: القوة وجودة النظر: ظهر في هذا الحديث أن القوة وجودة النظر من صفات الداعية، ومما يدل على ذلك فعل عمر وقوله لمولاه هني، حيث أوصاه بضم الجناح للمسلمين، واتقاء دعوة المظلوم، والعناية بأصحاب الأموال القليلة ومراعاة أحوالهم، ومنع غيرهم من الحمى، وبين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رب الصريمة والغنيمة إذا هلكت ماشيتهما؛ فإنهم يأتون إليه ويسألونه الذهب والفضة، وقال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فالماء والكلأ أيسر
_________
(1) سورة طه، الآية: 112.
(2) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 13 / 55.
(3) متفق عليه: من حديث النعمان بن بشير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، 7 / 102، برقم 6011، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم، وتعاضدهم، 4 / 1999، برقم 2586.
(4) انظر: الحديث رقم 5، الدرس الأول، ورقم 50، الدرس الرابع.(1/792)
علي من الذهب والورق ". وهذا يؤكد جودة نظره، وقوته حين منع الأغنياء من الحمى؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث ما كان فيه عمر من القوة وجودة النظر، والشفقة على المسلمين " (1) .
سادسا: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل هذا الحديث على أن أسلوب الترهيب من أهم الأساليب في الدعوة إلى الله - عز وجل؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لمولاه: " واتقِ دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب "، وهذا فيه تخويف من دعوة المظلوم، وحينئذ يبتعد الإِنسان عن الظلم ووسائله (2) .
سابعا: من أساليب الدعوة: الاستفهام الإنكاري: ظهر في هذا الحديث أسلوب الاستفهام الإِنكاري، وذلك في قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لمولاه: " أفتاركهم أنا؟ " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " استفهام إنكاري، معناه لا أتركهم محتاجين " (3) وهذا يؤكد أهمية هذا الأسلوب (4) .
ثامنا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: دل هذا الحديث على أن من أساليب الدعوة التأكيد بالقسم؛ ولهذا قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وأيم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم؛ إنها لبلادهم فقاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإِسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا ". وهذا يؤكد أهمية التوكيد بالقسم في الدعوة إلى الله - عز وجل - (5) .
تاسعا: أهمية رعاية مصالح المسلمين: ظهر في هذا الحديث عناية عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بمصالح المسلمين
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 177.
(2) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر، ورقم 12، الدرس الثالث.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 177.
(4) انظر: الحديث رقم 4، الدرس الرابع.
(5) انظر: الحديث رقم 10، الدرس الخامس، ورقم 14، الدرس الخامس أيضا.(1/793)
وإنزال كل إنسان منزلته على حسب حاجته، مراعاة لحاله، وأنه لم يحمِ إلا لمصلحة المسلمين والجهاد في سبيل الله - عز وجل؛ ولهذا قال: " والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا " وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " وهذا يدل على أن لولي الأمر أن يحمي للجهاد لا لنفسه، [و] يوصي بالرحمة للفقراء وأهل الحاجة " (1) وهذا كله يؤكد أهمية العناية بمصالح المسلمين. (2) .
_________
(1) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3059 من صحيح البخاري.
(2) انظر: الحديث رقم 118، الدرس السادس.(1/794)
[باب كتابة الإمام الناس]
[حديث اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس]
181 - باب كتابة الإمام الناس 137 [ص:3060] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عن أبي وائل، عن حذيفة (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس» فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل. فقلنا: نخاف ونحن ألف وخمسمائة؟ فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا ابْتُلِينَا حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي وَحْدَه وَهُوَ خَائِفٌ ".
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزةَ، عَنِ الأَعْمش: " فَوَجَدْنَاهُمْ خَمْسَمائَة ". قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: " مَا بَيْنَ سِتّمِائَةٍ إِلَى سَبْعِمائَةٍ ". (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1- أهمية الإِعداد للجهاد وإحصاء الإمام عدد الجيوش.
2 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الإِعجاب بالكثرة.
3 - من سنن الله - عز وجل: الابتلاء والامتحان.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
_________
(1) حذيفة بن اليمان، واسم اليمان حسل، وقيل: حُسَيل، بن جابر العبسي، سمي والده: اليمان؛ لأنه أصاب دما في قومه فهرب إلى المدينة وحالف بني عبد الأشهل، فسماه قومه " اليمان "؛ لأنه حالف الأنصار وهم من اليمن، شهد حذيفة غزوة أحد، وقتل اليمان في أحد خطأ، وتصدق حذيفة على المجاهدين بدية أبيه، وكان حذيفة صاحب سر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في المنافقين يعلمهم وحده، وأرسله رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ليلة الأحزاب سرية وحده؛ ليأتيه بخبر القوم فوصل إليهم وجاءه بخبرهم، وبلغ عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - علما كثيرا منه في الصحيحين اثنا عشر حديثا متفق عليها، وفي البخاري ثمانية، وفي مسلم سبعة عشر حديثا، وحضر حذيفة الحرب بنهاوند فلما قتل النعمان بن مقرن أمير الجيش أخذ حذيفة الراية، وفتحت همذان، والري، والدينور على يد حذيفة، وشهد فتح الجزيرة، وولاه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المدائن، وكان كثير السؤال لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عن أحاديث الفتن والشر ليجتنبها، وتوفي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالمدائن سنة ست وثلاثين بعد قتل عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بأربعين ليلة، وكان قتل عثمان في الثامن عشر من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، ولم يدرك حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقعة الجمل لأنها كانت في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين. انظر: الأسماء واللغات للنووي، 1 / 153، وسير أعلام النبلاء للذهبي 2 / 361، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1 / 317.
(2) وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الاستسرار بالإيمان للخائف، 1 / 131، برقم 149.(1/795)
أولا: أهمية الإعداد للجهاد وإحصاء الإمام عدد الجيوش: دل هذا الحديث على أهمية الإِعداد للجهاد بكل ما يستطيعه المسلمون من قوة، كما دل على أن من الإِعداد للجهاد معرفة الإمام عدد الجيوش؛ لأخذ الحذر والحيطة والاستعداد للجهاد؛ ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «اكتبوا لي من تلفظ بالإِسلام من الناس» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث مشروعية كتابة ديوان الجيوش، وقد يتعين ذلك عند الاحتياج إلى تمييز من يصلح للمقاتلة بمن لا يصلح " (1) .
وهذا يؤكد أهمية العناية بالإِعداد للجهاد في سبيل الله - عز وجل. (2) .
ثانيا: من موضوعات الدعوة: التحذير من الإعجاب بالكثرة: إن من الموضوعات المهمة في الدعوة إلى الله - عز وجل - تحذير المسلمين من الإِعجاب بالكثرة والقوة؛ لأن ذلك من أسباب الهزيمة والخذلان، وقد دل هذا الحديث على خطر ذلك؛ لقول حذيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل، فقلنا: نخاف ونحن ألف وخمسمائة؟ فلقد رأيتنا ابتلينا حتى إن الرجل ليصلي وحده وهو خائف "، وهذا يؤكد أهمية التحذير من الإِعجاب بالكثرة والقوة؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه وقوع العقوبة على الإِعجاب بالكثرة " (3) وهو نحو قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] (4) .
فينبغي للداعية أن يحذر الناس عن الإِعجاب بالكثرة أو القوة، ويحثهم على التوكل والاعتماد على الله مع الأخذ بالأسباب والاستعانة بالله - عز وجل (5) .
ثالثا: من سنن الله - عز وجل: الابتلاء والامتحان: دل هذا الحديث على أن من سنن الله - عز وجل - الابتلاء والامتحان، لقول حذيفة
_________
(1) فتح الباري، بشرح صحيح البخاري، 6 / 178.
(2) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الثالث، ورقم 18، الدرس الثاني.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 178.
(4) سورة التوبة، الآية: 25.
(5) انظر: الحديث رقم 61، الدرس الثالث.(1/796)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فلقد رأيتنا ابتلينا حتى إن الرجل ليصلي وحده وهو خائف " قال الإمام النووي رحمه الله: " أما قوله: ابتلينا، فلعله كان في بعض الفتن التي جرت بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فكان بعضهم يخفي نفسه ويصلي سرا مخافة من الظهور والمشاركة في الدخول في الفتنة والحروب والله أعلم " (1) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وأما قول حذيفة فيشبه أن يكون أشار بذلك إلى ما وقع في أواخر خلافة عثمان ومن ولاية بعض أمراء الكوفة كالوليد بن عقبة حيث كان يؤخر الصلاة أو لا يقيمها على وجهها، وكان بعض الورعين يصلي وحده سرا ثم يصلي معه خشية من وقوع الفتنة " (2) .
فينبغي للداعية أن يسأل الله العافية ويستعيذ به من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله المستعان (3) .
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم، 2 / 538.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 178.
(3) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 66، الدرس الأول.(1/797)
[باب إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر]
[حديث قال لرجل ممن يدعي الإسلام هذا من أهل النار]
182 - بَاب إِن الله يُؤيِّدُ الدِّين بالرجُل الفاجر 138 [ص:3062] حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْب، عَنِ الزُّهْرِيِّ. ح. وَحَدثَنِي مَحْمُودُ بْنُ غَيْلانَ: حَدَثَنَا عَبْدُ الرَّزّاق: أَخْبَرَنَا مَعْمرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُريْرَةَ (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «شَهِدْنَا مَعِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الإسْلامَ: " هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ ". فَلمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالا شَدِيدا فَأصَابَتْهُ جِرَاحَة فَقيلَ يَا رَسُولَ الله، الَّذِي قُلْتَ: إنهُ مِنْ أَهْلِ النَّار، فَإِنَّهُ قَاتَلَ اليَوْمَ قِتَالا شَدِيدا وَقَدْ مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " إِلَى النَّارِ ". قَالَ فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْتَابَ. فَبيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يمتْ، وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحا شَدِيدا. فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْل لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِراحِ فَقَتلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بِذَلِكَ فَقَالَ: " الله أَكْبَرُ، أشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ ". ثمَّ أَمرَ بِلالا فَنَادَى فِي النَّاسِ: " إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْس مُسْلِمَة، وَإِنَّ الله لُيؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» (2) .
وفي رواية: «شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - خيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لرَجُلٍ مِمَّنْ معه يَدَّعِي الإِسْلامَ: " هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ " فَلمَا حَضَر الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَجُلُ. .» الحديث (3) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1- من موضوعات الدعوة: الحض على الإِيمان بالقدر والعمل بأسباب النجاة.
2 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الاغترار بالأعمال.
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 7.
(2) [الحديث 3062] أطرافه في: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 5 / 89، برقم 4203 و 4204. وكتاب القدر، باب العمل بالخواتيم، 7 / 270، برقم 6606. وأخرجه مسلم في كتاب الإِيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وإن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، 1 / 105، برقم 111.
(3) طرف الحديث رقم 6606.(1/798)
3 - من صفات الداعية: الجمع بين الخوف والرجاء.
4 - من معجزات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: الإخبار بالمغيبات.
5 - من صفات الداعية: الأخذ بالظاهر والله يتولى السرائر.
6 - من أساليب الدعوة: الترغيب والترهيب.
7 - من موضوعات الدعوة: الحث على النية الصالحة.
8 - من موضوعات الدعوة: حث الناس على طلب حسن الخاتمة بالقول والفعل.
9 - عظم يقين الصحابة - رضي الله عنهم - بصدق ما يخبر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.
10 - قد يؤيد الله - عز وجل - الإِسلام بالمدعو الفاجر (1) .
_________
(1) تقدمت جميع هذه الدروس في حديث سهل بن سعد الساعدي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ برقم [73 - 2898] .(1/799)
[باب من غلب العدو فأقام على عرصتهم ثلاثا]
[حديث أنه كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال]
185 - باب من غلب العدو، فأقام على عرصتهم ثلاثا 139 [ص:3065] حَدَّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عبد الرَحِيمِ: حَدَّثَنَا رَوحُ بنُ عُبَادةَ: حَدَّثَنَا سَعِيد، عَنْ قتَادَةَ قَالَ: " ذَكَرَ لَنَا أنسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي طَلْحة (1) - رضي الله عنهما، «عنِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أنه كَانَ إِذَا ظَهرَ عَلَى قَوْم أَقَامَ بِالعَرْصَةِ ثَلاثَ لَيَالٍ» . تَابَعهُ مُعَاذ وَعَبْدُ الأَعْلَى: " حَدَّثَنَا سَعِيد، عَنْ قَتَادةَ، عَن أنسٍ، عَنْ أبِي طَلْحَةَ، عَنِ النَبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم " (2) .
وفي رواية «أَنَّ نَبِيَّ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أَمَرَ يَوْم بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلا مِنْ قُرَيْشٍ فَقُذِفُوا فِي طَويٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمِ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلاثَ لَيَالٍ. فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ برَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُها، ثُمَّ مَشَى وَتَبعَهُ أَصْحَابُهُ وَقالُوا: مَا نَرى يَنْطَلِقُ إِلاّ لِبَعضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: " يَا فلانُ ابنَ فلَانٍ، وَيَا فلانُ ابنَ فلَانٍ، أيسُرُكُمْ أَنًكُمْ أَطَعْتُمُ الله وَرَسُولَهُ؟ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبّكُمْ حَقّا؟ " قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لا أَرْوَاحَ لَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنتمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهم» قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ الله حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ: تَوْبِيخا، وتَصْغِيرا، وَنقْمَةً، وحَسْرَةً، وَنَدَما " (3) .
* شرح غريب الحديث: * " ظهر على قوم " أي غلبهم (4) .
* " العَرْصةُ " كل موضع واسعٍ لا بناء فيه (5) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 41.
(2) [الحديث 3065] طرفه في كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل، 5 / 11، برقم 3976. وأخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، 4 / 2204، برقم 2875.
(3) طرف الحديث رقم 3976.
(4) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الظاء مع الهاء، مادة: " ظهر " 3 / 167.
(5) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب العين مع الراء، مادة: " عرص " 3 / 208، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 181.(1/800)
* " صناديد " صناديد قريش: أشرافهم، وعظماؤهم، ورؤساؤهم، وكل عظيم غالب صنديد (1) .
* " طويّ " الطويُّ: البئر المطويّة (2) .
* " الركيّ " الركيّ: هي البئر التي لم تطوَ (3) .
* " القليب " القليب: البئر التي لم تطوَ أيضا (4) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1- من وسائل الدعوة: إظهار انتصار الإِسلام وشعار المسلمين.
2 - من معجزات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: الإِخبار بالأمور الغيبية.
3 - من موضوعات الدعوة: بيان عذاب القبر ونعيمه.
4 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
5 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من وسائل الدعوة: إظهار انتصار الإسلام وشعار المسلمين: لا ريب أن إظهار انتصار الإِسلام وشعار المسلمين من وسائل الدعوة التي تدخل الرعب في قلوب أعداء الإِسلام، وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال؛ قيل: الحكمة من ذلك؛ ليظهر تأثير الغلبة وتنفيذ الأحكام، وقلة المبالاة بأعداء الإِسلام، وإظهار شعار المسلمين، وإيقاع الطاعة في الأرض التي وقعت فيها المعاصي، وغير ذلك من الحكم التي تظهر أثناء الإِقامة: كالنظر
_________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الصاد مع النون، مادة: " صند " 3 / 55، وانظر: شرح غريب الحديث رقم 108، ص 617.
(2) المرجع السابق، باب الطاء مع الواو، مادة: " طوى " 3 / 146.
(3) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 267.
(4) المرجع السابق، ص 267.(1/801)
في عدد القتلى والقيام بشؤونهم، وإراحة المجاهدين إذا أُمن مكر العدو (1) .
وهذه الأعمال تؤيد أن إظهار الانتصار والقوة من أهم وسائل الدعوة؛ لما في ذلك من المصالح التي من أعظمها تخويف الأعداء وإذلالهم.
ثانيا: من معجزات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: الإخبار بالأمور الغيبية: إن مما يدل على صدق رسالة النبي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وعمومها ما أخبر به من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله - عز وجل؛ ومن ذلك إخباره بأن صناديد المشركين يسمعون قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لهم: «أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا» . وهذا يدل على أن ذلك من معجزاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - الباهرة (2) .
ثالثا: من موضوعات الدعوة: بيان عذاب القبر ونعيمه: إن من الموضوعات المهمة التي ينبغي أن يبينها الداعية للناس: عذاب القبر ونعيمه؛ وقد ظهر في هذا الحديث ما يدل على ذلك، فقد «قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - حينما خاطب صناديد قريش بعد إلقائهم في قليب بدر: " يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ " فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» . قال قتادة: " أحياهم الله حتى أسمعهم قوله: توبيخا، وتصغيرا، ونقمة، وحسرة، وندما "، وهذا يؤكد أهمية بيان عذاب القبر؛ ولهذا خاطب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - صناديد قريش يوبخهم؛ لإِعراضهم وعنادهم التام في الدنيا عن دين الإِسلام، بل وقفوا في طريقه وقاتلوا أهله؛ ولأهمية التحذير من عذاب القبر ذكر الله - عز وجل - عذاب آل فرعون في البرِزخ فقال - عز وجل: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ - النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45 - 46] (3) وقال - عز وجل - في عذاب الكفار في الدنيا والبرزخ: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ - يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ - وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الطور: 45 - 47] (4) .
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 181، إرشاد الساري للقسطلاني، 5 / 178.
(2) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع، ورقم 132، الدرس التاسع.
(3) سورة غافر، الآيتان: 45 - 46.
(4) سورة الطور، الآيات: 45 - 47.(1/802)
وقد ذكر البراء بن عازب، وابن عباس، وعلي - رضي الله عنهم -، أن قوله - عز وجل: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الطور: 47] هو عذاب القبر، وقيل: هو الجوع في الدنيا والمصائب التي تصيبهم في الدنيا، ورجح الإمام الطبري رحمه الله أن ذلك يشمل الأمرين وأن للذين ظلموا أنفسهم بكفرهم به عذابا دون يومهم الذي فيه يصعقون، وذلك يوم القيامة، فعذاب القبر دون يوم القيامة؛ لأنه في البرزخ، والجوع والمصائب التي تصيبهم في أنفسهم وأموالهم وأولادهم دون يوم القيامة، ولم يخصص نوعا من ذلك أنه لهم دون يوم القيامة دون نوع بل عمَّ (1) وقد بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - للناس عذاب القبر في أحاديث كثيرة، ومن ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إن أحدكم إذا مات، عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله عليه يوم القيامة» (2) وعن زيد بن ثابت - رضي الله عنهم - قال: «بينما النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به (3) فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: " من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ " قال رجل: أنا، قال: " فمتى مات هؤلاء؟ " قال: ماتوا في الإِشراك، فقال: " إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه "، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: " تعوّذوا بالله من عذاب النار " قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. فقال: " تعوذوا بالله من عذاب القبر " قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: " تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن " قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: " تعوّذوا
_________
(1) انظر: تفسير الطبري: [جامع البيان عن تأويل آي القرآن] ، 2 / 488، وتفسير القرطبي [الجامع لأحكام القرآن] ، 17 / 79، والروح لابن القيم، 1 / 336 - 339 وذكر رحمه الله الآيات في عذاب القبر في هذا الموضع.
(2) متفق عليه من حديث ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: البخاري، كتاب الجنائز، باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، 2 / 126 برقم 1679، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو من النار عليه وإثبات عذاب القبر والتْعوذ منه، 4 / 2199، برقم 2866.
(3) حادت به: أي مالت عن الطريق ونفرت، انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 18 / 209.(1/803)
بالله من فتنة الدجال " قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال» (1) .
وعن أبي أيُّوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بعدما غربت الشمس فسمع صوتا فقال: " يهودُ تعذب في قبورها» (2) .
وعن أنس - رضي الله عنهم - قال: قال نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولَّى عنه أصحابُه، إنه ليسمع قرعَ نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ " محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم " فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، فيراهما. جميعا" [قال قتادة: " وذُكِرَ لنا أنه يفسح له في قبره " ثم رجع إلى حديث أنس قال] " وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؛ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقوله الناس، فيقال: لا دَريت ولا تليت، ويضرب بمطارِقَ من حديد ضربة، فيصيح صيحةً يسمعها من يليه غير الثقلين» (3) وعن البراء بن عازب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «إذا أقعد المؤمن في قبره أُتي ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] » (4) .
وفتنة القبر كانت تحدث عند الصحابة خشوعا لله وإقبالًا عظيما إلى طاعته حينما يذكرهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فعن أسماء بنت أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قالت: «قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - خطيبا فذكر فتنة القبر التي يفتتن بها المرءُ، فلما ذكر ذلك ضجَّ المسلمون ضجَّةً» (5) .
_________
(1) مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، 4 / 2199، برقم 2867.
(2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر، 2 / 125، برقم 1375، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، 4 / 2200، برقم 2869.
(3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، 2 / 125، برقم 1374، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، 4 / 2200، برقم 2870، وما بين المعكوفين لفظ البخاري دون مسلم.
(4) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، 2 / 124، برقم 1369، واللفظ له، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، 4 / 2201، برقم 2871، والآية من سورة إبراهيم، الآية: 27.
(5) البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، 2 / 124، برقم 1373.(1/804)
والقبر له ضغطة لا ينجو منها أحد، لكنَّ هذه الضغطة ضغطة سخط وغضب على المجرمين، وضغطة فرح وسرور للمؤمنين (1) فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء وشهده سبعون ألفا من الملائكة، لقد ضُمَّ ضمةً ثم فرِّج عنه» (2) يعني سعد بن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فينبغي للمسلم أن يسأل الله العافية؛ فإن للقبر ضغطة، فلو نجا أو سلم أحد منها لنجا سعد بن معاذ.
ومما يزيد الأمر وضوحا في عذاب القبر قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أسرعُوا بالجنازة، فإن تكُ صالحةً فخيرٌ تقدمونها إليه، وان تَكُ غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» (3) وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتَها كلُّ شيءٍ إلا الإنسان، ولو سمعه لَصَعِق» (4) .
ولهول عذاب القبر أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أمته بالاستعاذة منه دبر كل صلاة، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال» (5) وكان هو - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يدعو في صلاته فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم» فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم
_________
(1) انظر: حاشية الإمام السندي على سنن النسائي، 4 / 100.
(2) أخرجه النسائي، كتاب الجنائز، باب ضمة القبر وضغطته، 4 / 100، برقم 2055، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي 2 / 441، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة 4 / 268 برقم 1695.
(3) متفق عليه من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: البخاري، كتاب الجنائز، باب السرعة بالجنازة، 2 / 108 برقم 1315، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الإسراع بالجنازة، 2 / 651، برقم 944.
(4) البخاري، كتاب الجنائز، باب حمل الرجال الجنازة دون النساء، 2 / 108، برقم 1314، وباب قول الميت على الجنازة: قدموني، 2 / 108، برقم 1316.
(5) متفق عليه من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: البخاري، كتاب الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر، 2 / 125 برقم 1377، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، 1 / 412 برقم 588، واللفظ لمسلم.(1/805)
يا رسول الله؟ فقال: «إن الرجل إذا غرم حدّث فكذب ووعد فأخلف» (1) .
ولا شك أن القبور لها ظلمة إلا من نوَّر الله قبره بالإِيمان والعمل الصالح، فعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن امرأة سوداء كانت تَقُمّ المسجد، أو شابا، ففقدها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فسأل عنها أو عنه فقالوا: مات، قال: " أفلا آذنتموني " فكأنهم صغَّروا أمرها أو أمره فقال: " دلوني على قبره " فدلوه فصلى عليها ثم قال: " إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله - عز وجل - ينوِّرها لهم بصلاتي عليهم» (2) .
ومن أعظم الأحاديث في عذاب القبر حديث البراء بن عازب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وفيه أن العبد المؤمن يفسح له في قبره مد بصره، وأن العبد الفاجر يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه (3) .
وعن هانئ مولى عثمان قال: كان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تُذكَرُ الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا؟ فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «إن القبر أوّلُ منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشدُّ منه» وقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «ما رأيت منظرا قطُ إلا والقبر أفظع منه» (4) .
ومما يزيد المسلم يقينا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال عن أرواح المؤمنين في البرزخ: «إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه» (5) .
وأرواح الشهداء أعظم من ذلك: فإن: «أرواحهم في
_________
(1) متفق عليه، من حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، 1 / 227، برقم 832، ومسلم، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، 1 / 412، برقم 588.
(2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر بعدما يدفن، 2 / 113، برقم 1337، ومسلم واللفظ له، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر، 2 / 659، برقم 956.
(3) حديث البراء حديث طويل عظيم، أخرجه أحمد 4 / 287، 288، 295، 296، والحاكم وصححه وأقره الذهبي 1 / 37 - 40، وغيرهما، وصححه ابن القيم في تهذيب السنن، 4 / 337، وقال الألباني في أحكام الجنائز ص 159 على تصحيح الحاكم وإقرار الذهبي له: " وهو كما قالا ".
(4) الترمذي، وحسنه، في كتاب الزهد، باب. حدثنا هناد، 4 / 553، برقم 2308، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى، 2 / 426، برقم 4267، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2 / 267 وصحيح سنن ابن ماجه 2 / 421.
(5) أحمد في المسند، 3 / 455، والنسائي، 4 / 108، برقم 2073، وغيرهما، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 73، آخر الدرس الثامن، ص 450.(1/806)
جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل» (1) ولا شك أن أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبع لها، وأحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبع لها، فإذا كان يوم القيامة كان الحكم والنعيم أو العذاب على الأرواح والأجساد جميعا (2) .
وعذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه، قبر أو لم يقبر، أو أكلته السباع، أو أحرق حتى صار رمادا أو نسف في الهواء؛ فإنه يصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل القبور (3) .
وأحاديث عذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين تبلغ حد التواتر؛ فقد بلغت الأحاديث في ذلك سبعين حديثا (4) .
ومما يجير من عذاب القبر معرفة الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور والابتعاد عنها، والأسباب المنجية من عذاب القبر والعمل بها.
أما أسباب عذاب القبر فمنها: الجهل بالله، وإضاعة أوامره، وارتكاب معاصيه، والنميمة، وترك الاستبراء من البول، والكذب الذي يبلغ الآفاق، وترك العمل بالقرآن والنوم عنه بالليل، والزنا، وأكل الربا، والتثاقل عن الصلاة المفروضة، وترك الزكاة المفروضة، وأكل لحوم الناس بالغيبة والوقوع في أعراضهم، وغير ذلك من أسباب عذاب القبر التي ينبغي للداعية تحذير الناس منها.
وأما أسباب النجاة من عذاب القبر فكثيرة، منها: تجنب الأسباب التي تسبب عذاب القبر، ومن أنفع أسباب النجاة أن يجلس المسلم عندما يريد النوم فيحاسب نفسه فيما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحا فينام على تلك التوبة " ومن أسباب النجاة من عذاب القبر: الموت مرابطا في سبيل الله، والشهادة في
_________
(1) مسلم، برقم 1887، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 73، آخر الدرس الثامن، ص 450.
(2) انظر: الروح لابن القيم، 1 / 263، 311.
(3) انظر: المرجع السابق 1 / 299، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز، ص 452.
(4) انظر: الروح لابن القيم، 1 / 165، وجامع الأصول من أحاديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، لابن الأثير، 11 / 164، من حديث رقم 8690 - 8704.(1/807)
سبيل الله، وغير ذلك من الأسباب النافعة (1) فينبغي للداعية أن يبين للناس حقيقة عذاب القبر ونعيمه، اللهم عافني وسلمني وأعذني من عذاب القبر، ووالديَّ وجميع المؤمنين.
رابعا: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترهيب؛ ولهذا قال قتادة في آخره عن صناديد قريش: " أحياهم الله حتى أسمعهم قوله: توبيخا، وتصغيرا، ونقمة، وحسرة، وندما " وهذا يبين أهمية أسلوب الترهيب وتأثيره على القلوب. (2) .
خامسا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: ظهر في هذا الحديث أسلوب القسم الذي يبعث النفوس على التصديق وقوة اليقين؛ ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» وهذا واضح في الدلالة على أهمية أسلوب التأكيد بالقسم في الدعوة إلى الله - عز وجل - (3) .
_________
(1) انظر: الروح لابن القيم، 1 / 340، و345.
(2) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر.
(3) انظر: الحديث رقم 10، الدرس الخامس.(1/808)
[باب إذا غنم المشركون مال المسلم ثم وجده المسلم]
[حديث أن ابن عمر ذهب فرس له فأخذه العدو]
187 - باب إذا غنم المشركون مال المسلم ثم وجده المسلم 140 [ص:3067] قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ نَافِع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (1) - رضي الله عنهما - قالَ: " ذَهَبَ فَرَسٌ لَهُ فَأَخَذَهُ الْعَدُوُّ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسلِمُونَ فَرُدَّ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وأَبَقَ عَبد لَهُ فَلَحقَ بِالرُوم، فَظَهَرَ عَلَيْهم الْمُسْلِمُونَ فَردَهُ عَلَيْهِ خَالدُ بْنُ الْوَلِيدِ بَعْدَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم " (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1- من وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله - عز وجل.
2 - من صفات الداعية: العدل.
3 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله - عز وجل: إن الجهاد في سبيل الله - عز وجل - من أهم الوسائل؛ لنشر وتبليغ الإِسلام، ونصر المظلوم؛ وقد جاء في هذا الحديث أن فرس عبد الله بن عمر ذهب فأخذه العدو، فظهر المسلمون على العدوِّ ومما حصل عليه المسلمون مع الغنائم هذا الفرس، فرُدَّ على ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في زمن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وهذا فيه إقامة لعلم الجهاد ونصر للمظلوم (3) .
ثانيا: من صفات الداعية: العدل: ظهر في هذا الحديث أن من صفات الداعية العدل؛ لأن المسلمين في زمن
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 1.
(2) [الحديث 3067] طرفاه في: كتاب الجهاد والسير، باب إذا غنم المشركون مال المسلم ثم وجده المسلم، 4 / 44، برقم 3068 و 3069.
(3) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الثالث، ورقم 117، الدرس الرابع.(1/809)
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عندما ظهروا على أعداء الإِسلام أعادوا فرس عبد الله بن عمر إليه، لعدلهم وأمانتهم، ورغبتهم في الخير.
فينبغي للداعية أن يكون عدلًا منصفا من نفسه؛ قال الخطابي رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفيه من الفقه أن المسلمين إذا غنموا فكان في الغنيمة مال لمسلم؛ فإنه مردود عليه، وقال بعض الفقهاء: إن كان قبل القسم رُدَّ عليه وإن كان بعده لم يُرَدَّ، ولا فرق بين الأمرين؛ لأن القسمة لا تبطل الملك، ولا تبدل الحكم " (1) وهذا يؤكد أهمية العدل، والإِنصاف ومكانته في الدعوة إلى الله - عز وجل - (2) .
ثالثا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: ظهر في هذا الحديث أن القدوة الحسنة من وسائل الدعوة إلى الله - عز وجل -، وذلك أن المسلمين في زمن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - رَدُّوا فرس عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما، وهذا فيه قدوة لغيرهم، ولمن يأتي من بعدهم؛ ولهذا عندما أبق عبدٌ لعبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلحق بالروم فظهر عليهم المسلمون رَدّ خالدُ بن الوليد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ العبد بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وهذا يدل على أن خالد بن الوليد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اقتدى بما فُعِلَ في زمن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - من رد الحقوق إلى أصحابها. وهذا يؤكد أهمية القدوة الحسنة وأثرها في الدعوة (3) .
_________
(1) أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، 2 / 1437، وانظر: الإِفصاح عن معاني الصحاح، لابن هبيرة 4 / 221، والقواعد في الفقه الإِسلامي، لابن رجب، ص 71، و 227.
(2) انظر: الحديث رقم 60، الدرس الثاني، ورقم 64، الدرس الأول، ورقم 96، الدرس الرابع.
(3) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث، ورقم 8، الدرس الخامس.(1/810)
[باب من تكلم بالفارسية والرطنة]
[حديث إن جابرا قد صنع سور فحيهلا بكم]
188 - باب من تكلم بالفارسية والرطنة وقول الله تعالى: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22] (1) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] (2) .
141 [ص:3070] حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ: أَخْبَرَنَا حَنْظَلة بن أَبِي سُفْيَانَ: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ: سَمعْتُ جَابِرَ بْنَ عبد الله (3) - رضي الله عنهما - قالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ الله ذَبحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنْتُ صَاعا مِنْ شَعِيرٍ فَتَعَالَ أنت وَنَفَرٌ. فَصَاحَ النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فقَالَ: " يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرا قَدْ صَنَعَ سُور فحَيَّهَلا بكُمْ» (4) .
وفي رواية: " حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيىَ: حَدَّثَنَا عبد الوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ، عَنْ أبيه قالَ: أتيْتُ جَابِرا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: «إنا يَوْمِ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ فَعَرَضتْ كُدْيَةٌ شَدِيدة فَجَاؤُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فقَالُوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضتْ فِي الْخَنْدَقِ، فَقَالَ: " أَنَا نَازِلٌ " ثم قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوب بِحَجَرٍ، وَلَبِثْنَا ثَلاثةَ أَيَّام لا نَذُوقُ ذَوَاقا، فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - المِعْوَلَ، فَضَرَبَ فَعَادَ كَثِيبا أَهْيَلَ أَوْ أَهْيَمَ، فقُلْتُ: يا رَسُولَ الله ائْذَنْ لِي إلى الْبَيْتِ؛ فَقُلْتُ لاِمْرَأَتِي رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - شَيْئا، مَا كَانَ فِي ذَلِكَ صَبْرٌ فَعِنْدَك شَيْءٌ؟ قَالَتْ: عِنْدِي شَعِير وَعَنَاقٌ فَذَبَحْتُ الْعَنَاقَ وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ حَتَّى جعلنا اللحْمَ فِي الْبُرْمة، ثُمَّ جئْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - والْعَجينُ قَدِ انْكَسَرَ وَالْبُرْمَةُ بَيْنَ الأَثَافي قَدْ كَادَتْ أَنْ تَنْضَجِ فَقُلْتُ: طُعَيِّمٌ لِي فقُمْ أنتَ يَا رَسُولَ الله وَرَجُل أَوْ رَجُلان قَالَ: " كَمْ هُوَ؟ " فذكَرْتُ لَهُ قَالَ: " كَثيرٌ طَيِّبٌ " قَالَ: " قُلْ لَهَا لَا تَنْزِعِ الْبُرْمة
_________
(1) سورة الروم، الآية: 22.
(2) سورة إبراهيم، الآية: 4.
(3) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 32.
(4) [الحديث 3070] طرفاه في: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، 5 / 55، برقم 4101، 4102. وأخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك ويتحققه تحققا تاما واستحباب الاجتماع على الطعام، 3 / 1610، برقم 2039.(1/811)
وَلَا الْخُبْزَ مِنَ التّنّورِ حَتَّى آتِيَ " فَقَالَ: " قُومُوا " فَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ والأنصَارُ فَلَمَّا دخَلَ عَلَى امْرَأتهِ قَالَ: وَيْحَكِ جَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بالْمهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ وَمَنْ مَعَهُمْ، قَالَتْ: هَلْ سألكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: " ادْخُلُوا وَلَا تَضَاغَطوا " فَجَعَلَ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ الّلحْمَ وَيُخَمّرُ الْبُرْمَةَ وَالتَّنُّورَ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ وَيُقَرِّبُ إِلَى أَصْحَابِهِ ثُمَّ يَنْزعُ فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَغْرِفُ حَتَّى شَبِعُوا وَبَقِيَ بقِيَّة، قَالَ: " كلي هَذَا وَأهْدِي فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَة» (1) .
وفي رواية: " حَدَّثَني عَمْرُو بْنُ عَلِيّ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ: أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سفْيَانَ: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - خمَصا شَدِيدا فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرأَتِي فُقُلْتُ: هَلْ عنْدَكِ شَيْء فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - خَمَصا شَدِيدا، فأخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرَابا فِيهِ صاعٌ مِنْ شَعِيرٍ وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ فَذَبَحْتُهَا وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ ففَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي وقَطَّعْتُهَا في برمَتِهَا ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فَقَالَتْ: لا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وَبِمَنْ مَعَهُ، فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنَّا صاعا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا فَتَعَالَ أنتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ فَصَاحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فَقَالَ: " يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِرا قَدْ صَنَعَ سُوْرا فَحَي هَلًا بِكُمْ "، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " لَا تُنْزِلُنَّ برْمَتكُمْ وَلَا تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّى أجِيءَ " فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يقْدُمُ النَّاسَ حَتَّى جِئتُ امْرَأَتِي فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ فَقُلْتُ قَدْ فَعَلْتُ الّذِي قُلْتِ فَأَخْرَجَتْ لَهُ عجِينا فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ ثُمَّ قَالَ: " ادْعُ خَابِزَةً فلْتَخْبِزْ مَعي (2) واقْدَحِي مِنْ برمَتِكُمْ وَلَا تُنْزِلُوهَا " وَهُمْ أَلْف فَأُقْسِمُ بِالله لَقَدْ أَكَلوا حتَّى تَرَكُوهُ وانْحَرَفُوا وَإِنَ برمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ» (3) .
_________
(1) الطرف رقم 4101.
(2) في رواية مسلم برقم 2039 " فلتخبز مَعَكِ " وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يصوب هذه اللفظة " معكِ " أثناء شرحه لحديث رقم 4102 من صحيح البخاري.
(3) الطرف رقم 4102.(1/812)
* شرح غريب الحديث: * " سُوْرا " السور: الطَّعام الذي يُدعى إليه، وقيل: الطعام مطلقا، وهذا المقصود في هذا الحديث. والسور: كل ما يحيط بشيء من بناء أو غيره، كالبناء الذي يحيط بالمدينة، والسؤر بالهمز: البقية من الطعام أو الشراب: يقال: " سأر " أبقى بقية (1) .
* " فحيَّهلا " حيهلا: كلمتان جعلتا كلمة واحدة، ومعناها: تعالوا وعجلوا (2) .
* " كُدْية " الكدية: قطعة غليظة صلبة من الأرض لا يؤثر فيها الفأس (3) .
* " كثيبا أهيل أو أهيم " الكثيب الأهيل: المنهار السائل الذي لا يتماسك في انصبابه، والكثيب الأهيم مثلُهُ: وهو الرمل اليابس (4) .
* " عناق " العناق: الأنثى من أولاد المعز (5) .
* " البرمة " البرمة القدر مطلقا، وجمعها برام، وهي في الأصل المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز واليمن (6) .
* " الأثافي " هي الحجارة التي تنصب وتجعل القدر عليها وهي ثلاثة (7) .
* " التنور " التنور الذي يخبز فيه (8) .
* " ولا تضاغطوا " أي لا تزاحموا (9) .
_________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع الواو، مادة: " سور " 2 / 420، وباب السين مع الهمزة، مادة: " سأر " 2 / 327، والمعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية مادة " سار " 1 / 462.
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الياء، مادة: " حيا " 1 / 472، وجامع الأصول له، 11 / 355.
(3) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الكاف مع الدال، مادة: " كدا " 4 / 156.
(4) غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 212.
(5) المرجع السابق ص 212.
(6) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الباء مع الراء، مادة: " برم " 1 / 121.
(7) المرجع السابق، باب الهمزة مع الثاء، مادة: " أثف " 1 / 23، وجامع الأصول له، 11 / 356، وانظر: فتح الباري لابن حجر 7 / 398.
(8) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب التاء مع النون، مادة: " تنر " 1 / 199.
(9) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 212.(1/813)
* " داجن " الداجن من الغنم ما يربّى في البيوت ويألفها (1) .
* " المعول " الفأس الذي يكسر به الحجر (2) .
* " خمصا شديدا " الخمص، والخمصة، والمخمصة: الجوع والمجاعة، ويقال: رجل خُمصان، وخميص، إذا كان ضامر البطن وجمع الخميص: خِمَاص (3) .
* " بُهيمة " البهيمة: تصغير البهمة، وهي ولد الضأن، ويقع على المذكر والمؤنث منها، والسخال: أولاد المعز، فإذا اجتمعت البهائم والسخال قلت لها جميعا: بهائم وبهم (4) .
* " لتغطّ " يقال: غطَّت القدر تغطُّ: غلت وفارت، وغطيطها صوت غليانها (5) .
* " فانكفأت " يقال: انكفأ الرجل إلى أهله: رجع وانقلب والأصل في الانكفاء: الانقلاب، من كفأت الإِناء إذا قلبته (6) .
* " الجراب " الجراب وعاء من جلد يحفظ فيه الزاد (7) .
* " اقدحي " يقال: قدحت القدر إذا غرفت ما فيها، والقديح: المرق، فعيل بمعنى مفعول، والمقدحة: المغرفة، والمقدح: الحديدة التي تقدح بها النار، والمعنى: اغرفي. (8) .
* " العجين قد انكسر " أي لان ورطب، وتمكن من الخمير (9) .
_________
(1) انظر: غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 212.
(2) انظر: مختار الصحاح للرازي، مادة: " عول " ص 194.
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الخاء مع الميم، مادة: " خمص " 2 / 80.
(4) جامع الأصول من أحاديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، لابن الأثير، 11 / 355.
(5) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 212، وجامع الأصول من أحاديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، لابن الأثير، 11 / 355.
(6) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 212.
(7) المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية، مادة: " جرب " 1 / 14، وانظر: إكمال إكمال المعلم شرح الأبي على صحيح مسلم 7 / 156.
(8) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 212، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع الدال، مادة: " قدح " 4 / 21.
(9) انظر: فتح الباري لابن حجر، 7 / 397، 398.(1/814)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: إكرام العلماء والدعاة.
2 - من موضوعات الدعوة: الحث على الإِيثار.
3 - من صفات الداعية: التواضع.
4 - من صفات الداعية: إعانة المدعوين ومساعدتهم.
5 - أهمية الشورى مع العلماء والدعاة.
6 - أهمية الصبر على الابتلاء والامتحان.
7 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث.
8 - من صفات الداعية: الرحمة.
9 - من صفات الداعية: تعجيل المعروف وتحقيره.
10 - من آداب الداعية: تطييب الطعام وتعظيمه.
11 - أهمية كمال عقل المدعو.
12 - من معجزات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: تكثير الطعام.
13 - أهمية الأخذ بالأسباب.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا من صفات الداعية: إكرام العلماء والدعاة: إن من الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة إكرام العلماء والدعاة رغبة فيما عند الله - عز وجل؛ ولهذا أكرم جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «قلت يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا وطحنت صاعا من شعير فتعال أنت ونفر، فصاح النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فقال: " يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع سورا فحيهَلا بكم» فأكرمهم جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأعانه الله وجعل طعامه مباركا نافعا شاملا لأهل الخندق كلهم فينبغي للداعية أن يكرم العلماء والدعاة ويقصد بذلك وجه الله - عز وجل - والدار الآخرة (1) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الأول.(1/815)
ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحث على الإيثار: دل هذا الحديث بمفهومه على أن من موضوعات الدعوة الحث على الإِيثار؛ ولهذا آثر جابر بن عبد الله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - على نفسه وأهله، فإن الحال عندهم كانت ضعيفة؛ لقلة ما في اليد، والظاهر أن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - لم يجد في بيته إلا هذه العناق وصاع الشعير، فصنع ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ورجلٍ أو رجلين إيثارا منه، ولو كان عنده أكثر من ذلك لزاد؛ لكثرة الناس وحاجتهم الشديدة للطعام. كما يدل على الإِيثار ما فعله رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عندما نادى المهاجرين والأنصار جميعا فقال: " قوموا "، فقام المهاجرون والأنصار ومن معهم. وهذا يدل على إيثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وحبه الخير لأصحابه، ولو كان المدعو غيره من الكبراء لم يدع أحدا معه؛ ليحصل على ما يسد رمقه، ولا هم له غير ذلك، ولكن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أولى بالمؤمنين من أنفسهم كما قال الله - عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] (1) ولا شك أن الله - عز وجل - قد مدح أهل الإِيثار فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] (2) وهذا العمل قد بلغ بأصحابه أعلى درجات الإِيمان الكامل؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (3) .
وهذا يدل على أن من لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه فقد نقص إيمانه، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: " المراد بنفي الإِيمان نفي بلوغ حقيقته ونهايته؛ فإن الإِيمان كثيرا ما يُنفى لانتفاء بعض أركانه وواجباته " (4) " والمقصود أن من جملة خصال الإِيمان الواجبة أن يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره
_________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 6.
(2) سورة الحشر، الآية: 9.
(3) متفق عليه: البخاري، 1 / 11، برقم 13، ومسلم، 1 / 67، برقم 45، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 58، الدرس الرابع عشر، ص 354.
(4) جامع العلوم والحكم، 1 / 302.(1/816)
له ما يكرهه لنفسه، فإذا زال ذلك عنه فقد نقص إيمانه بذلك " (1) .
أما الإِيثار فهو أعظم من ذلك في قوة حقيقة الإِيمان؛ لأن الإِيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية ورغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة والصبر على المشقة، يقال: آثرته بكذا: أي خصصته به وفضلْته بالمال أو بالمنازل، أو بالنفس، لا عن غنىً بل مع الحاجة لذلك (2) وقد وصل أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - إلى الدرجات العلى من الإِيثار، فعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فقال: إني مجهود (3) فأرسل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - إلى بعض نسائهِ، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء، ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، فقال: " من يُضِيف هذا الليلة رحمه الله؟ " فقام رجل من الأنصار (4) فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رَحْلِهِ (5) فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني، قال: فَعَلِّليهم بشيءٍ فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيهِ، قال: فقعدوا وأكل الضيف، فلما أصبح غدا على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فقال: " قد عجب الله من صنيعِكما بضيفكما الليلة "، وفي رواية أن الصحابي قال لامرأته: نوِّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها. . . ونوَّمت صبيانها. . . فأنزل الله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] » (6) ومما يدل على الإِيثار قصة مؤاخاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بين عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وسعد بن الربيع رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
_________
(1) جامع العلوم والحكم لابن رجب، 1 / 303، وانظر: تفسير الطبري، 23 / 284، [جامع البيان عن تأويل آي القرآن] .
(2) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 18 / 28.
(3) الجهد: هو المشقة والحاجة، وسوء العيش والجوع، شرح النووي على صحيح مسلم، 14 / 254.
(4) في رواية لمسلم: فقام رجل من الأنصار يقال له: أبو طلحة، 3 / 1625.
(5) رحل الإنسان: هو منزله: من حجر، أو مدر، أو شعر، أو وبر، شرح النووي على صحيح مسلم 14 / 255.
(6) متفق عليه: البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، 4 / 273، برِقم 3798، ومسلم، كتاب الأشربة، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره، 3 / 1624، برقم 2054، والآية من سورة الحشر، آية: 9.(1/817)
فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لما قدم المدينة آخى بينهما فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثرُ الأنصار مالًا، سأقسم مالي بيني وبينك نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فقال عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك ومالك [لا حاجة لي في ذلك] دلوني على السوق، فدلوه على السوق، فباع واشترى حتى تزوج، فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «بارك الله لك أولم ولو بشاة» (1) ومما يؤكد حرص السلف الصالح على الإِيثار قصة الرأس الذي عُرض على سبعة أبيات يقول صاحب كل بيت منهم: أعطه جاري وعياله؛ فهو أحق بذلك مني، حتى رُجِعَ بالرأس إلى البيت الأول (2) ومما يدل على الإِيثار العظيم في القُرَبِ وغيرها قصة عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وذلك أن عمر عند موته قال لابنه عبد الله - رضي الله عنهما: ". . . انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فَسَلَّمَ واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرنَهُ به اليوم على نفسي، فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت، قال: الحمد لله ما كان شيء أهمَّ إليَّ من ذلك، فإذا أنا قبضتُ فاحملوني ثم سلم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين. (3) .
وهذا يؤكد جواز الإِيثار بالقرب، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " وقول من قال من الفقهاء: لا يجوز الإِيثار بالقُرَبِ، لا يصح، وقد آثرت عائشة عمر بن
_________
(1) متفق عليه من حديث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب إخاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بين المهاجرين والأنصار، 4 / 268، برقم 3781، ومسلم، كتاب النكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد وغير ذلك، 2 / 1042، برقم 1427، ورواه البخاري من حديث عبد الرحمن بن عوف، في كتاب مناقب الأنصار، باب إخاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بين المهاجرين والأنصار، 4 / 268، برقم 3780.
(2) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 18 / 28.
(3) البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما، 2 / 131، برقم 1392، ولفظه من الطرف رقم 3700.(1/818)
الخطاب بدفنه في بيتها جوار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وسألها عمر ذلك فلم تكره له السؤال، ولا لها البذل، وعلى هذا فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه في الصف الأول لم يكره له السؤال، ولا لذلك البذل، ونظائره، ومن تأمل سيرة الصحابة وجدهم غير كارهين لذلك ولا ممتنعين منه، وهل هذا إلا كرم وسخاءٌ، وإيثارٌ على النفس بما هو أعظم محبوباتها، تفريجا لأخيه المسلم، وتعظيما لقدره، وترغيبا له في الخير؟ وقد يكون ثواب كل واحدٍ من هذه الخصال راجحا على ثواب تلك القربة، فيكون المؤثر بها ممن تاجر فبذل قربة وأخذ أضعافها " (1) .
وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يرجح جواز الإِيثار بالقرب وأنه لا حرج في ذلك إذا ظهرت المصلحة (2) .
وهذا كله وغيره كثير يدل على أهمية الإِيثار وأنه ينبغي للداعية إلى الله - عز وجل - أن يعتني به، ويحض الناس عليه، والله المستعان.
ثالثا: من صفات الداعية: التواضع: دل هذا الحديث على أن صفة التواضع من الصفات الحميدة؛ ولهذا تواضع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فشارك أصحابه في حفر الخندق، فقال لهم: " أنا نازل " ثم قام وبطنه معصوب بحجر وشاركهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في الحفر.
وهذا يؤكد تواضعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وطيب عقله ونفسه (3) .
رابعا: من صفات الداعية: إعانة المدعوين ومساعدتهم: ظهر في هذا الحديث أن من صفات الداعية الصادق إعانة المدعوين ومشاركتهم في الأعمال التي تخدم الجهاد والدعوة؛ ولهذا شارك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - الصحابة - رضي الله عنهم - في حفر الخندق. فينبغي الاقتداء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (4) .
_________
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد، 3 / 505.
(2) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لزاد المعاد، في جامع الأميرة سارة، بمدينة الرياض، حي البديعة، ليلة الاثنين 16 / 7 / 1418 هـ.
(3) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثالث.
(4) انظر: الحديث رقم 45، 46، الدرس الثالث عشر.(1/819)
خامسا: أهمية الشورى مع العلماء والدعاة: إن الشورى من أهم الأمور التي ينبغي أن يعتني بها الداعية إلى الله - عز وجل، لما فيها من اجتماع الكلمة، وسداد الرأي، والاستفادة من الخبرات والتجارب، وقد ظهرت الشورى في هذا الحديث؛ لقول جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجاؤُوا إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: " أنا نازل " فأخذ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - المعول، فضرب فعاد كثيبا أهيل» ، فقد استفاد الصحابة بهذه الشورى مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فأزيلت الكدية بعمل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. وفي هذا الحديث أيضا أن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - شاور زوجته في شأن إطعام الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فقال: «رأيت بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - شيئا ما كان في ذلك صبر فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعناق» . وهذا يؤكد أهمية الشورى وخاصة مع العلماء والدعاة، والأخيار الصالحين (1) .
سادسا: أهمية الصبر على الابتلاء والامتحان: دل هذا الحديث على أهمية الصبر على الابتلاء والامتحان؛ ولهذا صبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - على الجوع والخوف أيام الخندق، كما في الحديث أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قام وبطنه معصوب بحجر، وقد لبث أصحاب الخندق مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ثلاثة أيام لا يذوقون ذواقا؛ ولحكمة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عصب الحجر على بطنه؛ لأن الجوع يخشى منه أن يضمر البطن فينحني الصلب، فإذا وضع الحجر على البطن وَشُدَّ بالعصابة استقام الظهر، وقيل: لعل ذلك لتسكين حرارة الجوع ببرد الحجر؛ ولأنها حجارة رقاق قدر البطن تشد الأمعاء فلا يتحلل شيء مما في البطن، فلا يحصل ضعف زائد بسبب التحلل. (2) .
وهذا يؤكد ما أصاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وأصحابه - رضي الله عنهم - من شدة الحال، وقلة ما في اليد، فصبروا وصابروا والله المستعان (3) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 64، الدرس الثالث، ورقم 108، الدرس الرابع عشر.
(2) انظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري، 16 / 30، وفتح الباري لابن حجر، 7 / 396.
(3) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 66، الدرس الأول.(1/820)
سابعا: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث: دل هذا الحديث على أن من صفات الداعية المخلص الحرص على الدقة في نقل الحديث؛ لقول الراوي في هذا الحديث: " أهيل أو أهيم " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " شك من الراوي " (1) .
وهذا يؤكد حرص السلف الصالح على العناية الدقيقة بنقل أحاديث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وتبليغها للناس كما جاءت (2) .
ثامنا: من صفات الداعية: الرحمة: ظهرت صفة الرحمة في هذا الحديث من قول جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لامرأته: " رأيت بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - شيئا ما كان في ذلك صبر فعندكم شيء؟ " كما ظهرت صفة الرحمة من قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لزوجة جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: «كلي هذا وأهدي فإن الناس قد أصابتهم مجاعة» . وهذا يبين أن الرحمة من صفات الدعاة إلى الله - عز وجل (3) .
تاسعا: من صفات الداعية: تعجيل المعروف وتحقيره: دل هذا الحديث على أن من صفات الداعية الكريم: بذل المعروف وتعجيله، وتصغيره؛ قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «. . . طُعَيِّم لي فقم أنت يا رسول الله، ورجلٌ أو رجلان قال: " كم هو؟ " فذكرت له، قال: " كثير طيِّب» وهذا يؤكد أهمية تقديم المعروف وفعله مع عدم استكثاره؛ قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عند ذكره لقول جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " طعيم لنا " هذا " على طريقة المبالغة في تحقيره، قالوا: من تمام المعروف: تعجيله وتحقيره " (4) .
فينبغي للداعية أن يتصف بهذه الصفة الكريمة.
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7 / 396.
(2) انظر: الحديث رقم 21، الدرس العاشر.
(3) انظر: الحديث رقم 5، الدرس الأول، ورقم 50، الدرس الرابع.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7 / 398.(1/821)
عاشرا: من آداب الداعية: تطييب الطعام وتعظيمه: ظهر في هذا الحديث أن من صفات الداعية تطييب الطعام وتعظيمه واستكثاره إذا قُدِّم له؛ ولهذا عندما قال جابر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " طعيم لنا " فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " كثير طيب "، وهذا من الأدب النبوي العظيم الذي فاق فيه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - جميع البشر؛ ولهذا كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لا يعيب الطعام، فعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ما عاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - طعاما قط، كان إذا اشتهى شيئا أكله وإن كرهه تركه» (1) وهذا من الأدب العظيم الذي ينبغي لكل مسلم التزامه اقتداءً بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وخاصة الدعاة إلى الله - عز وجل.
الحادي عشر: أهمية كمال عقل المدعو: إن من الأمور المهمة التي تعين الدعاة إلى الله - عز وجل - على دعوتهم كمال عقل المدعو، وقد ظهرت هذه الصفة العظيمة في هذا الحديث عندما قالت زوجة جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: هل سألك؟ أي عن كمية الطعام، فقال جابر: نعم. فسكن ما عندها لعلمها بأن الله أعلم ورسوله؛ ولعلمها بإمكان خرق العادة؛ ولهذا قبل أن يذهب جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قالت له: لا تفضحني برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وبمن معه، وعندما أخبره بكمية الطعام لم تلمه بعد ذلك؛ ولهذا الصنيع العظيم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله عن هذه المرأة: " لما قال لها إنه جاء بالجميع ظنت أنه لم يعلمه فخاصمته، فلما أعلمها أنه أعلمه سكن ما عندها لعلمها بإمكان خرق العادة، ودل ذلك على وفور عقلها وكمال فضلها " (2) .
وهذا يبين أهمية كمال عقل المدعو. والله المستعان.
الثاني عشر: من معجزات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: تكثير الطعام: إن من المعجزات الظاهرة الحسية التي تدل على صدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: تكثير
_________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، 4 / 202، برقم 3563، ومسلم، كتاب الأشربة، باب لا يعيب الطعام، 3 / 1632، برقم 2064.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7 / 398.(1/822)
الطعام على يديه، وقد ظهرت هذه المعجزة في هذا الحديث، وذلك أن عناق جابر وصاع الشعير أشبع أمة من الناس وبقي الطعام كما هو لم ينقص منه شيء، قال جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وهم ألف فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو " قال الإمام النووي رحمه الله: " وقد تضمن هذا الحديث علمين من أعلام النبوة: أحدهما تكثير الطعام القليل، والثاني علمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بأن هذا الطعام القليل الذي يكفي في العادة خمسة أنفس أو نحوهم سيكثر فيكفي ألفا وزيادة، فدعا له ألفا قبل أن يصل إليه، وقد علم أنه صاع شعير، وبهيمة والله أعلم " (1) .
وهذا يؤكد أهمية إبلاغ الداعية للناس بعلامات نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (2) .
الثالث عشر: أهمية الأخذ بالأسباب: ظهر في هذا الحديث أهمية الأخذ بالأسباب والتوكل على الله - عز وجل؛ ولهذا حفر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - الخندق من باب الأخذ بالأسباب وقد علم أن الأحزاب تكالبوا عليه من كل حدب وصوب ولكن لثقته العظيمة وتوكله الكامل على الله - عز وجل - صمد لذلك وحفر الخندق على ضعف الصحابة وقلة ما في اليد؛ ولضعفهم البدني حُدَّدَ لكل عشرة رجال عشرة أذرع (3) فأخذ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بالأسباب هو وأصحابه مع التوكل الكامل فنصرهم الله وأنزل جنوده، وريحه، وإعانته ونصره سبحانه - عز وجل (4) .
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم، 14 / 231.
(2) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع.
(3) انظر: فتح الباري لابن حجر، 7 / 397.
(4) انظر: الحديث رقم 30، الدرس الخامس، ورقم 132، الدرس التاسع.(1/823)
[حديث أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي]
142 [ص:3071] حدثَنَا حبَّانُ بْنُ مُوسَى: أَخْبَرَنَا عبد الله، عَنْ خَالِدِ بْنِ سعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عنْ أُمِّ خَالِدٍ (1) بنْتِ خَالِد بْنِ سَعِيدٍ قَالَتْ: «أتيْتُ رَسُولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - معَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " سِنَهْ سِنَهْ ". قَالَ عبد الله: وَهِيَ بِالحَبَشِيّةِ: حَسَنَة. قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَم النبوَّةِ، فَزَبَرَني أَبِي. قالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " دَعْهَا ". ثُمِّ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " أَبْلِي وَأَخْلِقي، ثُمَّ أَبْلِي وأَخْلِقي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقي ". قَالَ عبد الله: فبَقِيَتْ حَتَّى (2) دَكَن. (3) .
وفي رواية الأكثر: " ذَكَر» (4) .
وفي رواية: «. . . قَدِمْتُ مِنْ أرْضِ الْحَبَشَةِ وَأَنَا وجُوَيْرِيَة، فَكَسَانِي رَسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - خمِيصَةً لَهَا أَعْلام، فَجَعَلَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يمْسَحُ الأَعْلامَ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: " سَنَاهْ سَنَاهْ» . قَالَ الْحُمَيْدِيّ: يَعنِي: حَسَن حَسَن (5) .
وفي رواية: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ فَقَالَ: " مَنْ تَرَوْنَ أَنْ نَكْسُوَ هَذِهِ؟ " فَسَكَتَ الْقَوْمُ. قَالَ: " ائتوني بِأمِّ خَالد "، فَأُتِي بِهَا تُحْمَلُ، فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ فَأَلْبَسَهَا وَقَالَ: " أَبْلِي وَأَخْلِقِي ". وَكَانَ فِيهَا عَلَمٌ
_________
(1) أم خالد اسمها: أمة بنت خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، القرشية، الأموية، المكية، الحبشية المولد، وهي مشهورة بكنيتها، لها ولأبويها صحبة وكانت ممن هاجر إلى الحبشة، وقُدِمَ بها على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وهي صغيرة، وتزوجها الزبير بن العوام فولدت له، عمرا وخالدا، وروت عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - حديثين، وكانت فيمن أقرأ رسولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - السلام من النجاشي، وقيل: بأنها آخر الصحابيات وفاة، بقيت إلى أيام سهل بن سعد الواقدي. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 3 / 470، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 4 / 447.
(2) قوله " فبقيت حتى دكن " هكذا في النسخة المعتمدة، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني حتى " دكن " أي صار أدكن أي أسود، وقد جزم جماعة بأن رواية الكشُميهني تصحيف " ورواية الأكثر. " حتى ذكر " والتقدير فبقيت أي أم خالد حتى ذكر الراوي زمنا طويلًا، وفي رواية " فبقي حتى ذكر " أي بقى الثوب المذكور. انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر، 10 / 425 - 426.
(3) [الحديث 3071] أطرافه في: كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة الحبشة، 4 / 296، برقم 3874. وكتاب اللباس، باب الخميصة السوداء، 7 / 54، برقم 5823. وكتاب اللباس، باب ما يدعى لمن لبس ثوبا جديدا، 7 / 61، برقم 5845. وكتاب الأدب، باب من ترك صبية غيره حتى تلعب به، أو قبلها أو مازحها، 7 / 98، برقم 5993.
(4) قال ابن حجر في فتح الباري، 10 / 426: " جزم جماعة بأن رواية " دكن " صحيحة ".
(5) الطرف رقم 3874.(1/824)
أخضر أو أصفر، فقال: " يا أم خالد هذا سناه " وسناه بالحبشية» (1) .
وفي رواية «. . . . فبقيت حتى ذكر. . . يعني من بقائها» (2) .
* شرح غريب الحديث: * " سَنَهْ " أو " سَنَاه " سنا بالحبشية: حَسَنٌ، وسَنّاه بالتشديد والتخفيف (3) .
* " زبرني " يقال: زبرتُ الرجل: زجرته وانتهرته (4) .
* " خميصة لها أعلام " الخميصة: كساء من خز أو صوف أسود، وجمعه خمائص، وكانت من لباس النساء، ولا تكون الخمائص إلا معلمة (5) .
* " دكن " يقال: دكن الثوب أي عاد لونه إلى الدكنة وهي السواد (6) .
* " أبلي وأخلقي " من إخلاق الثوب: أي تقطيعه (7) .
وأبلي: من أبليت الثوب إذا جعلته عتيقا، وهو بمعنى أخلقي (8) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1- من أصناف المدعوين: الأطفال.
2 - من صفات الداعية: التواضع.
3 - من صفات الداعية: الحلم.
4 - من صفات الداعية: المشاورة للأصحاب.
_________
(1) الطرف رقم 5823.
(2) الطرف رقم 5993.
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب السين مع النون مادة: " سنا " 2 / 415.
(4) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 575، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الزاي مع الباء، مادة: " زبر " 2 / 293.
(5) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 575.
(6) انظر: المرجع السابق ص 575، وفتح الباري لابن حجر، 10 / 425.
(7) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب الخاء مع اللام، مادة: " خلق " 2 / 71.
(8) انظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري، 13 / 62.(1/825)
5 - من أساليب الدعوة: استمالة قلب المدعو بمخاطبته بلغته.
6 - من أساليب الدعوة: الدعاء بطول العمر على طاعة الله - عز وجل.
7 - من معجزات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: استجابة دعواته.
8 - من وسائل الدعوة: الإِهداء.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من أصناف المدعوين: الأطفال: دل هذا الحديث على أن من أصناف المدعوين الأطفال؛ ولهذا أدخل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - السرور على أم خالد بنت خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - فقال لها: " سنهْ سنهْ " واستمال قلبها بذلك، وبالهدية، وبالدعاء، فدل ذلك كله على أهمية العناية بالأطفال؛ لأنهم من أصناف المدعوين؛ وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أنه استمال قلوب كثير من الأطفال إما بالدعاء والهدية والمداعبة كما في حديث أم خالد هذا، وإما بالسلام كما في حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه كان يمشي مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - " فمر بصبيان فسلم عليهم» (1) وكان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - إذا رأى بعض الصبيان يعمل عملا لا ينبغي أنكر عليه بالأسلوب الحسن الجميل الذي يناسبه، فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أن الحسن بن علي أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بالفارسية: " كخْ، كخْ، ارمِ بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة» (2) .
وهذا يدل على أن الصبيان ينكر عليهم على حسب عقولهم؛ فإن معنى: كِخْ كِخْ: الزجر للصبي عما يريد فعله (3) .
وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " كِخ كِخ، يعني اتركها، وهذا فيه تعليم الصبيان ما أمر الله به، ونهيهم عما نهى الله عنه، حتى يتعوَّدوا؛ لئلا يتمردوا، وهكذا لا يلبسوا
_________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب الاستئذان، باب التسليم على الصبيان، 7 / 169، برقم 6247، ومسلم، كتاب السلام، باب استحباب السلام على الصبيان، 4 / 1708، برقم 2169.
(2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجهاد، باب من تكلم بالفارسية والرطانة، / برقم 3072، ومسلم، كتاب الزكاة، باب تحريم الزكاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وآله -، 3 / 751، برقم 1069.
(3) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 185.(1/826)
الذهب ولا الحرير، ويمنعوا من الإِسبال، وظاهر الحديث أن كلمة كخ كخ كانت تستخدم في المدينة، فخاطبهم بما يفهمون، وأصلها فارسي فأصبحت عربية بالنقل، وكل كلمة ليست بعربية ثم نقلت إلى العربية واستخدمها العرب، فإنها تصبح عربية بالنقل " (1) وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يؤدب الصبيان بالكلام الحكيم ويأمرهم بالأدب الكريم، فعن عمر بن أبي سلمة قال: «كنت غلاما في حجر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وكانت يدي تطيش (2) في الصحفة فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك " فما زالت تلك طعمتي بعد» (3) وكان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يعلم الصبيان ما ينفعهم، ويحذرهم مما يضرهم، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كنت خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يوما فقال: «يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف» (4) ومما يدل على عنايته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بتعليم الصبيان ما رواه عنه ابن عباس - رضي الله عنهما - " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - توضأ فقام يصلي، فقمت عن يساره فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة. . . " (5) .
وهذا كله يؤكد أن الأطفال من أصناف المدعوين، فينبغي العناية بهم، ومراعاة أحوالهم ومخاطبتهم على قدر عقولهم.
_________
(1) سمعت ذلك من سماحته حفظه الله أثناء شرحه لحديث رقم 3072، من صحيح البخاري.
(2) تطيش: أي تتحرك وتمتد إلى نواحي الصحفة ولا تقتصر على موضع واحد، والصحفة دون القصعة وهي ما تسع ما يشبع خمسة، والقصعة تشبع عشرة، وقيل: الصحفة كالقصعة. شرح النووي على صحيح مسلم، 13 / 204.
(3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام، والأكل باليمين، 6 / 241، برقم 5376، ومسلم، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، 3 / 1599، برقم 2022.
(4) الترمذي، 4 / 667، برقم 2516، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 58، الدرس الثاني، ص 343.
(5) متفق عليه: البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا انتبه من الليل، 7 / 190، برقم 1316، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، 1 / 526، برقم 763.(1/827)
ثانيا: من صفات الداعية: التواضع: دل هذا الحديث على أن من صفات الداعية التواضع؛ ولهذا تواضع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - مع أم خالد فلاطفها وقال: " سنهْ سنهْ " قال العلامة العيني رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفيه تواضع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم " (1) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " فيه تواضعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - مع أم خالد وحسن خلقه؛ لكونه قال: " سناه سناه " يعني حسن حسن ". (2) .
فينبغي أن يعتني الداعية بهذه الصفة العظيمة (3) .
ثالثا: من صفات الداعية: الحلم: ظهر في هذا الحديث أن الحلم صفة عظيمة من أهم الصفات التي ينبغي للداعية أن يتصف بها؛ ولهذا حلم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - على أم خالد عندما لعبت بخاتم النبوة، وقد زجرها أبوها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ولكن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال له: " دعها " وهذا يؤكد عظم حلمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وحسن خلقه (4) .
فينبغي للداعية أن يقتدي به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (5) .
رابعا: من صفات الداعية: المشاورة للأصحاب: دل هذا الحديث على أن من صفات الداعية المشاورة لأصحابه؛ ولهذا شاور النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فيمن يعطي الخميصة السوداء الصغيرة فقال: «من ترون أن نكسُوَ هذه؟ " فسكت القوم، قال: " ائتوني بأم خالد " فأخذ الخميصة بيده فألبسها فقال: " أبلي وأخلقي» . وهذا يؤكد أهمية الشورى مع الأصحاب؛ لما في ذلك من تطييب القلوب وسداد الرأي، والله المستعان (6) .
_________
(1) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 22 / 98.
(2) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3874 من صحيح البخاري.
(3) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثالث.
(4) انظر: عمدة القاري للعيني، 15 / 6، 22 / 98.
(5) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الثاني، ورقم 89، الدرس الخامس.
(6) انظر: الحديث رقم 11، الدرس الرابع، ورقم 64، الدرس الثالث، ورقم 108، الدرس الرابع عشر.(1/828)
خامسا: من أساليب الدعوة: استمالة قلب المدعو بمخاطبته بلغته: ظهر في هذا الحديث أن من أساليب الدعوة استمالة قلب المدعو بمخاطبته بلغته، ومن ذلك قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لأم خالد في هذا الحديث: " سنه سنه " أي حسنةٌ حسنة، أو حسنٌ حسنٌ، وخاطبها بذلك؛ لأنها ولدت في الحبشة وهذه لغة حبشية؛ قال الكرماني رحمه الله: " وإنما كان غرض رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - من التكلم بهذه الكلمة الحبشية استمالة قلبها؛ لأنها ولدت بأرض الحبشة " (1) .
فينبغي للداعية أن يخاطب الناس بما يستميل به قلوبهم، وإذا استطاع أن يستميل قلوبهم بمخاطبتهم بلغاتهم فعل؛ لما في ذلك من تأليف قلوبهم وجذبها لمحبة الإِسلام، والله المستعان.
سادسا: من أساليب الدعوة: الدعاء بطول العمر على طاعة الله - عز وجل: إن من أساليب الدعوة الدعاء بطول العمر على طاعة الله - عز وجل؛ وقد دعا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لأمِّ خالد بطول العمر فقال عندما ألبسها الخميصة: «أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي» وهذا دعاء منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بطول العمر لأم خالد، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ووقع في نسخة الصاغاني هنا من الزيادة في آخر الباب " قال أبو عبد الله هو المصنف: " لم تعش امرأة مثل ما عاشت هذه، يعني أم خالد " ثم قال الحافظ ابن حجر: " قلت وإدراك موسى بن عقبة لها دال على طول عمرها؛ لأنه لم يلق من الصحابة غيرها " (2) وقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أبلي وأخلقي» دعاء بطول العمر؛ لأن العرب تطلق ذلك وتريد الدعاء بطول البقاء للمخاطب بذلك: أي إنها تطول حياتها حتى يبلى الثوب ويخلق، يقال: أبلِ وأخلِقْ معناه: عش وخرق ثيابك وأرقعها (3) ولكن ينبغي أن يقيد الدعاء بطول العمر بطاعة الله - عز وجل؛ لحديث أبي بكرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أن رجلا قال: يا رسول الله أيُّ الناس خير؟ قال: " من طال عمره وحسن عمله "
_________
(1) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 21 / 75.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 184.
(3) انظر المرجع السابق، 10 / 280.(1/829)
قال: فأي الناس شر؟ قال؛ " من طال عمره وساءَ عمله» (1) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " الدعاء بطول العمر ينبغي أن يقرن بالطاعة، وإذا دعا بطول العمر ونوى بذلك على الطاعة كفت النية " (2) .
سابعا: من معجزات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: استجابة دعواته: دل هذا الحديث على أن من معجزات الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - استجابة الله - عز وجل - لدعواته؛ ولهذا دعا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لأم خالد فقال لها: «أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي» وهذا الدعاء بطول العمر، وقد استجاب الله دعوته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فعاشت زمنًا طويلا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (3) وهذا يؤكد أن من معجزاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - استجابة دعواته (4) .
ثامنا: من وسائل الدعوة: الإهداء: دل هذا الحديث على أن من وسائل الدعوة الإهداء؛ لما في ذلك من استمالة القلوب، وإزالة الشحناء، وجمع القلوب؛ ولهذا أهدى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لأم خالد الخميصة كما في الحديث، وقد حث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - على الهدية فقال: «تهادوا تحابوا» (5) .
فينبغي العناية بالهدية، وقبولها والإثابة عليها. بشرط أن لا تكون سببا للوقوع في أخذ الرشوة التي حرم الشرع.
فلا بد من التأمل أثناء الإهداء، وقبول الهدية والله المستعان (6) .
_________
(1) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في طول العمر للمؤمن، 4 / 565 - 566، برقم 2330، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2 / 271.
(2) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3071 من صحيح البخاري.
(3) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 184، 10 / 280.
(4) انظر: الحديث رقم 91، الدرس التاسع، ورقم 122، الدرس الحادي عشر.
(5) البيهقي في السنن الكبرى، 6 / 169، والبخاري في الأدب المفرد برقم 594، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 7، الدرس التاسع، ص 86.
(6) انظر: الحديث رقم 7، الدرس التاسع.(1/830)
[باب القليل من الغلول]
[حديث كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة]
190 - باب القليل من الغلول وَلَم يَذْكُر عبد الله بْنُ عَمْرو عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أنهُ حَرَّقَ مَتَاعَهُ، وَهَذا أصَحّ.
143 [ص:3074] حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ عبد الله: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سالِم بْنِ أَبِي الجَعْدِ، عَنْ عبد الله بْن عَمْرٍو (1) قَالَ: «كَان عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - رجلٌ يُقَالُ لَهُ كِرْكِرَة (2) فَمَاتَ، فَقَال رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " هُوَ فِي النَّارِ "، فَذهَبُوا ينظُرُونَ إِلَيْهِ فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا» .
قَالَ أَبُو عبد الله: قَالَ ابْنُ سَلامٍ: كَرْكَرَة: يَعْنِي بفَتْحِ الكَافِ، وَهُوَ مَضْبُوط كَذَا.
* شرح غريب الحديث: * ثقل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم " الثقل: الرَّحْلُ والمتاع، وجمعه: أثقال (3) .
* عباءة، العباءَة: ضرب ونوع من الأكسية فيها خشونة (4) .
* " غلها " الغلول في المغنم أن يخْفى من الغنيمة شيء ولا يرد إلى القسمة؛ لأن ذلك من حقوق من شهد الغنيمة، وهو في معنى الخيانة يقال: غل يغل غلولا: إذا أخذ من الأموال المغنومة شيئا فأخفاه، وكل من خان شيئا في خفاء فقد غل، وسمي ذلك غلولا؛ لأن الأيدي مغلولة عنه: أي ممنوعة منه (5) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 114.
(2) كركرة: مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، كان نوبيا، أهداه له هوذة بن علي الحنفي اليمامي فأعتقه، قيل له صحبة ولا تعرف له رواية، وكان يمسك دابة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يوم خيبر، وقيل: مات على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وهو مملوك، وقيل: " كركرة بفتح الكافين وبكسرهما، ومقتضاه أن فيه أربع لغات، وقال النووي: إنما الخلاف في الكاف الأولى، وأما الثانية فمكسورة جزمًا. انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 4 / 180، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 3 / 293.
(3) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 907، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب الثاء مع القاف، مادة: " ثقل "، 1 / 217.
(4) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 83 وص 432.
(5) انظر: المرجع السابق، ص 50، ص 27، ص 489.(1/831)
1 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الغلول.
2 - من صفات الداعية: الأمانة.
3 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: التحذير من الغلول: ظهر في هذا الحديث أن من موضوعات الدعوة التي ينبغي أن يعتني بها الداعية: التحذير من الغلول وبيان خطره؛ ولهذا قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فيمن غل العباءة: «هو في النار» وقد نفى الله - عز وجل - الغلول عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وحذر وتوعد أصحاب الغلول يوم القِيَامة فقال - عز وجل: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161] (1) .
وحذر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عن الغلول، فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: «قام فينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ذات يوم فذكر الغلول، فعظّمه وعظّم أمره ثم قال: " لَا أُلفِيَنَّ (2) أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء (3) يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك. لا أُلفِيَنَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة (4) .
فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك. لا أُلفِيَنَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاءٌ (5) يقول يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك. لا أُلفِيَنَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح (6) فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك. لا أُلْفِيَنَّ أحدكم
_________
(1) سورة آل عمران، الآية: 161.
(2) لا أُلْفِيَنَّ: ذكره النووي بضم الهمزة وكسر الفاء: أي لا أجدن أحدكم على هذه الصفة، ومعناه: لا تعملوا عملا أجدكم بسببه على هذه الصفة: انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 458، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 186.
(3) الرغاء: صوت الإبل، وذوات الخف. جامع الأصول لابن الأثير، 2 / 717.
(4) حمحمة: صوت الفرس عند العلف، وهو دون الصهيل، انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 186.
(5) الثغاء: صوت الشاة: انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 521، وجامع الأصول لابن الأثير، 2 / 717.
(6) الصياح صوت الإنسان: كأنه أراد ما يغله من رقيق، انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 186.(1/832)
يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع (1) تخفق (2) فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، ولا ألفِيَنَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت (3) فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك» (4) وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قالوا: فلان شهيد، فلان شهيد، حتى مرُّوا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " كلا إني رأيتُهُ في النار في بردة (5) غلَّها، أو عباءَةٍ " ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " يا ابن الخطاب، اذهب فنادِ في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون " قال فخرجت فناديت: " ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون» (6) وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «خرجنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - إلى خيبر، ففتح الله علينا، فلم نغنم ذهبا ولا ورقا إنما غنمنا [البقر، والإِبل] والطعام، والثياب [ثم انصرفنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - إلى وادي القرى، ومعه عبد له يقال له مدعم أهداه له أحد بني الضباب] ، وفي رواية مسلم: ومع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عبد له، وهبه له رجل من جُذام يُدعى رفاعة بن زيد من بني الضبيب، فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يحلُّ رحله، فرُمِيَ بسهم فقال الناس: هنيئا له الشهادة يا رسول الله، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا " فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بشراك (7) أو
_________
(1) الرقاع: يريد ما عليه من الحقوق المكتوبة في الرقاع، وقيل: المراد بها الثياب. انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 335، وجامع الأصول لابن الأثير، 2 / 717، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 186.
(2) تخفق: أي تتحرك: انظر: جامع الأصول لابن الأثير، 2 / 717.
(3) الصامت: الصامت من الأموال الذهب والفضة وما لا روح فيه من أصناف المال، والمال الناطق: الإبل والغنم والخيل ونحوها، انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 335، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 186.
(4) متفق عليه: البخاري كتاب الجهاد والسير، باب الغلول، وقول الله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ 4 / 46، برقم 3073، ومسلم، كتاب الإِمارة، باب غلظ تحريم الغلول، 3 / 1461، برقم 1831، واللفظ له.
(5) البردة: هي الشملة المخططة، وجمعها برد، وهي النمرة، وهي إزار يؤتزر به، وقيل: هي كساء أسود صغير مربع يلبسه الأعراب. انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 470، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 1 / 321.
(6) مسلم كتاب الإِيمان، باب غلظ تحريم الغلول وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، 1 / 107، برقم 114.
(7) الشراك: سير من سيور النعل التي على وجهها. انظر: جامع الأصول من أحاديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، لابن الأثير، 2 / 719.(1/833)
بشراكين، فقال: هذا شيء كنت أصبته، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " شراك أو شراكان من نار» (1) .
ويدخل في الغلول ما يؤخذ من بيت مال المسلمين عن طريق الخفية، وما يأخذه العمال من هدايا من أجل وظائفهم، فعن أبي حميد الساعدي قال: «استعمل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عاملا (2) فجاء العامل حين فرغ من عمله فقال: يا رسول الله هذا لكم، وهذا أهدي إليّ فقال له: " أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فنظرت أيهدى لك أم لا؟ " ثم قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عشيةً بعد الصلاة، فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: " أما بعد فما بال العامل نستعمله، فيأتينا فيقول: هذا من عملكم وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر هل يُهدى له أم لا؟ فوالذي نفس محمد بيده لا يغلُّ أحدكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، إن كان بعيرا جاء به له رغاء، وإن كانت بقرة جاء بها لها خوار، وإن كانت شاة جاء بها تيعرُ (3) فقد بلغت» [وفي رواية مسلم: «اللهم هل بلغت؟ " مرتين» ] (4) .
والغلول من أعظم الذنوب ولو كان يسيرا، فعن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - «أن رجلا من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - توفي يوم خيبر فذكروا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فقال: " صلوا على صاحبكم " فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: " إن صاحبكم غل في سبيل الله " ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين» (5) .
_________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 5 / 95، برقم 4234، ومسلم، كتاب الإيمان، باب غلظِ تحريم الغلول وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، 1 / 108، برقم 115، واللفظ الذي بين المعكوفين للبخاري.
(2) هو ابن اللتبية استعمله على الصدقة. انظر: صحيح مسلم، برقم 1832.
(3) تيعر: معناه: تصيح، واليُعار صوت الشاة. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 461.
(4) متفق عليه: البخاري، 7 / 278، برقم 6636، ومسلم، 3 / 1463، برقم 1832، وما بين المعكوفين له، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 4، آخر الدرس الرابع، ص 69.
(5) أبو داود، كتاب الجهاد، باب في تعظيم الغلول، 3 / 68، برقم 2710، والنسائي، كتاب الجنائز، باب الصلاة على من غل، 4 / 64، برقم 1959، وموطأ مالك، كتاب الجهاد، باب ما جاء في الغلول، 2 / 458، وابن ماجه، كتاب الجهاد، باب الغلول، 2 / 950، برقم 2848، وأحمد في مسنده، 4 / 114، 5 / 92، وقال الشيخ عبد القادر الأرنؤوط في تحقيقه لجامع الأصول، 2 / 721: " إسناده عند مالك وابن ماجه صحيح ".(1/834)
وعن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يوم حنين إلى جنب بعير من المقاسم ثم تناول شيئا من البعير فأخذ منه قردة - يعني وبرة - فجعل بين أصبعيه ثم قال: " أيها الناس إن هذا من غنائمكم. أدوا الخيط والمخيطَ فما فوق ذلك فما دون ذلك، فإن الغلول عار على أهله يوم القيامة، وشنار (1) ونار» (2) فينبغي للداعية أن يحذر المدعوين من الغلول ويُبيِّن لهم خطره، أسأل الله لي ولجميع المسلمين العافية في الدنيا والآخرة.
ثانيًا: من صفات الداعية: الأمانة: ظهر في مفهوم هذا الحديث أن الأمانة من صفات الداعية؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بين أن هذا الرجل دخل النار بسبب عباءة غلها، فدل ذلك على خيانته وعدم حفظه للأمانة، ودل مفهوم المخالفة على أنه ينبغي للداعية أن يكون أمينا في كل شيء، والله المستعان (3) .
ثالثا: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل هذا الحديث على أن أسلوب الترهيب له مكانة عظيمة في الدعوة إلى الله - عز وجل؛ لما يحمل عليه من التخويف؛ ولهذا قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لهذا الرجل: «هو في النار» بسبب العباءة التي غلها، وهذا فيه تخويف عظيم من الغلول يردع النفوس عن مثل هذا العمل القبيح (4) .
_________
(1) الشنار: العيب والعار، وقيل: هو العيب الذي فيه عار. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الشين مع النون، مادة " شنر " 2 / 504.
(2) ابن ماجه، كتاب الجهاد، باب الغلول، 2 / 950، برقم 2850، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه 2 / 139، وسلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 9850 وإرواء الغليل 5 / 74، وانظر: القواعد في الفقه الإسلامي لابن رجب، ص 230.
(3) انظر: الحديث رقم 29، الدرس الثالث، ورقم 132، الدرس الرابع.
(4) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر، ورقم 12، الدرس الثالث.(1/835)
[باب لا هجرة بعد الفتح]
[حديث انقطعت الهجرة منذ فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم مكة]
194 - باب لا هجرة بعد الفتح - 144 [3080]- حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ عبد الله: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ: قَالَ عَمْرو وابْنُ جرَيجٍ: سَمِعْتُ عَطَاءً يَقَولُ: ذَهبْتُ مَعَ عُبَيدِ بْنِ عُمَيرٍ إِلَى عَائشةَ (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ مجَاوِرَةٌ بِثَبِيرٍ، فَقَالَتْ لَنَا: «انقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ منْذُ فَتَحَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - مكَّةَ» (2) .
وفي رواية: «زُرْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، مَعَ عُبيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِي فَسَأَلْنَاهَا عَنِ الْهِجْرَةِ فَقَالَتْ: لا هِجْرَةَ الْيَوْمَ، كَانَ الْمُؤمِنُونَ يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بدِينِهِ إِلَى الله تَعالى وَإِلَى رَسُولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أظْهَرَ الله الإِسْلامَ، وَالْيَوْمَ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ، وَلَكِنْ جِهَاد وَنيَّةٌ» (3) .
وفي رواية: ". . «فَقَدْ أَظْهَرَ الله الإِسْلامَ، فَالمُؤمِنُ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ ونيَّةٌ» (4) .
* شرح غريب الحديث: * " ثبير " جبل عظيم بالمزدلفة على يسار الذاهب منها إلى منى، وعلى يمين الذاهب من منى إلى مزدلفة (5) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
_________
(1) تقدمت ترجمتها في الحديث رقم 4.
(2) [الحديث 3080] طرفاه في: كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وأصحابه إلى المدينة، 4 / 305، برقم 3900 وكتاب المغازي، باب 5 / 115، برقم 4312.
(3) الطرف رقم 3900.
(4) من الطرف رقم 4312.
(5) انظر: مشارق الأنوار للقاضي عياض، حرف الثاء مع الباء، 1 / 136، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي 3 / 46، وشرح الكرماني على صحيح البخاري 13 / 68، وهدي الساري مقدمة فتح الباري لابن حجر ص 94، وعمدة القاري للعيني 15 / 11، وكل هؤلاء أجمعوا على أن جبل ثبير على يسار الذاهب من مزدلفة إلى منى. وانظر: معجم البلدان لياقوت بن عبد الله الحموي، 2 / 73، وكأنه أشار إلى أن ثبيرًا سُميَ بذلك، لحبسه الشمس عن الشروق في أول طلوعها.(1/836)
1 - أهمية زيارة العلماء للاستفادة من علمهم.
2 - أهمية السؤال في تحصيل العلم.
3 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار ببقاء مكة دار إسلام.
4 - من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان.
5 - من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ.
6 - من موضوعات الدعوة: الحض على النية الصالحة.
7 - من موضوعات الدعوة: بيان بقاء الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام.
8 - من صفات الداعية: التحدث بنعم الله عزّ وجلّ.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: أهمية زيارة العلماء للاستفادة من علمهم: دل هذا الحديث على أنه ينبغي للمسلم وخاصة الداعية إلى الله عزّ وجلّ أن يزور العلماء؛ ليستفيد من علمهم ويتخلق بأخلاقهم الجميلة، لأنهم ورثة الأنبياء والأنبياء في الحقيقة إنما ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر؛ ولهذا زار عطاء بن أبي رباح وعبيد بن عمير رحمهما الله عائشة رضي الله عنها؛ ليستفيدا من علمها كما جاء في هذا الحديث، قال عطاء: «ذهبت مع عبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها وهي مجاورة بثبير فسألناها عن الهجرة فقالت: "لا هجرة اليوم» . . . ". وهذا يبين أهمية زيارة العلماء والاستفادة من علمهم (1) .
ثانيا: أهمية السؤال في تحصيل العلم: ظهر في هذا الحديث أهمية السؤال في تحصيل العلم؛ ولهذا سأل عطاء وعبيد بن عمير عائشة رضي الله عنها عن الهجرة، فقالت رضي الله عنها: «لا هجرة اليوم. . . ولكن جهاد ونية» . وهذا يؤكد أهمية العناية بالسؤال عن العلم؛ للاستفادة (2) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 108، الدرس الثالث.
(2) انظر: الحديث رقم 92، الدرس الرابع.(1/837)
ثالثا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار ببقاء مكة دار إسلام: دل هذا الحديث على أن مكة تبقى دار إسلام فلا يهاجر منها إلى المدينة أو غيرها؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: «انقطعت الهجرة منذ فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم مكة» . وهذا يؤكد صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأن بقاء مكة دار إسلام من علامات نبوته (1) .
رابعا: من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان: ظهر في هذا الحديث أن من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث: "كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، مخافة أن يفتن عليه. . . " وهذا يبين ما وقع للصحابة رضي الله عنهم من الابتلاء والامتحان فصبروا وهاجروا، ونصرهم الله عزّ وجلّ (2) فينبغي للداعية أن يسأل الله العافية في الدنيا والآخرة دائما، وإذا حصل شيء من الابتلاء صبر واحتسب (3) .
خامسا: من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ: إن من الموضوعات المهمة التي ينبغي أن يعتني بها الدعاة الحض على الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ؛ بالنفس، والمال، والسنان، واللسان؛ ولهذا حثت عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث على الجهاد بقولها: «ولكن جهاد ونية» . وهذا يؤكد أهمية الحث على الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ (4) .
سادسا: من موضوعات الدعوة: الحض على النية الصالحة: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة الحث والحض على النية
_________
(1) انظر: الحديث رقم 155، 101، الدرس السادس.
(2) انظر: معالم السنن للخطابي، 3 / 353، وفتح الباري، لابن حجر، 7 / 229 - 230، وفيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي 6 / 438، ومرقاة المفاتيح للملا علي القاري، 5 / 595، 7 / 382.
(3) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 16، الدرس الخامس.
(4) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الثاني، ورقم 18، الدرس الثاني.(1/838)
الصالحة (1) ؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث: «لكن جهاد ونية» وهذا فيه حث على النية الخالصة والعناية بها. فينبغي للداعية أن يبين ذلك للناس بيانا واضحا كاملا؛ لأهميتها ومكانتها في الإسلام (2) .
سابعا: من موضوعات الدعوة: بيان بقاء الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام: الناظر في هذا الحديث يظهر له أن الهجرة قد انقطعت؛ لقول عائشة رضي الله عنها: «انقطعت الهجرة منذ فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم مكة» ولكن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يفسر بعضها بعضا؛ فإن الهجرة التي انقطعت هي الهجرة من مكة إلى المدينة؛ لأن مكة صارت دار إسلام (3) أما الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، أو من بلد المعاصي والسيئات إلى بلد الطاعات والحسنات فهذه باقية إلى يوم القيامة (4) .
ثامنا: من صفات الداعية: التحدث بنعم الله عزّ وجلّ: دل هذا الحديث على أهمية التحدث بنعم الله عزّ وجلّ وشكره عليها؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: «فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء. . .» وهذا فيه إظهار النعم والتحدث بها.
فينبغي للداعية أن يتحدث بنعم الله عليه ويثني على الله عزّ وجلّ بها ويشكره عليها بقوله وفعله (5) .
[باب استقبال الغزاة]
[حديث قول ابن الزبير لابن جعفر أتذكر إذ تلقينا رسول الله صلى الله] عليه وسلم
_________
(1) انظر: إكمال إكمال المعلم للآبي، 6 / 581، وشرح رياض الصالحين لابن عثيمين 1 / 25.
(2) انظر: الحديث رقم 73، الدرس السابع، ورقم 112، الدرس الأول.
(3) انظر: عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي لابن العربي، 4 / 89.
(4) انظر: الحديث رقم 100، 101، الدرس السابع.
(5) انظر: الحديث رقم 46، الدرس السادس عشر، ورقم 106، الدرس الخامس، ورقم 123، الدرس الثامن.(1/839)
196 - باب استقبال الغزاة 145 [ص:3082] حدّثنا عبد الله بن أبي الأسود: حدّثنا يزيد بن زريع وحميد بن الأسود، عن حبيب بن الشّهيد، عن ابن أبي مليكة: «قال ابن الزّبير (1) لابن جعفر (2) رضي الله عنهم: أتذكر إذ تلقّينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت وابن عبّاس؛ قال: نعم، فحملنا وتركك» (3) .
[حديث ذهبنا نتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصبيان إلى ثنية] الوداع
_________
(1) عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد، بن عبد العزى، القرشي الأسدي، أمه أسماء بنت أبي بكر، ولد عام الهجرة، وهو أول مولود ولد للمهاجرين إلى المدينة بعد الهجرة، وفرح المسلمون بولادته فرحا شديدا؛ لأن اليهود يقولون قد سحرناهم فلا يولد لهم فأكذبهم الله تعالى: وحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، وهو أحد العبادلة، وأحد الشجعان من الصحابة، وأحد من ولي الخلافة منهم، وكانت ولادته بعد عشرين شهرا من الهجرة، وقيل: في السنة الأولى، وكان صوّاما قواما طويل الصلاة، وصولا للرحم، وغزا إفريقية مع عبد الله بن سعد بن أبي السرح فأتاهم ملك إفريقية في مائة وعشرين ألفا، وكان المسلمون عشرين ألفا، وسقط في أيديهم فنظر ابن الزبير ملكهم قد خرج من عسكره فأخذ ابن الزبير جماعة فقصده فقتله ثم كان الفتح على يديه، وشهد اليرموك مع أبيه الزبير، وكان يقاتل عن عثمان رضي الله عنه، وشهد الجمل مع عائشة ثم اعتزل حروب علي ومعاوية رضي الله عنهم، ثم بايع لمعاوية، فلما أراد أن يبايع ليزيد امتنع وتحول إلى مكة، ولما كانت وقعة الحرة تحولوا إلى مكة وقاتلوا ابن الزبير، فمات يزيد فرجع أهل الشام وبايع الناس عبد الله بن الزبير بالخلافة وأرسل إلى أهل الأمصار يبايعهم إلا بعض أهل الشام، فغلب مروان على بقبة أهل الشام ثم على مصر، ثم مات فقام عبد الملك بن مروان فغلب على العراق وقتل مصعب بن الزبير، ئم جهز الحجاج إلى ابن الزبير فقاتله إلى أن قتل ابن الزبير في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين من الهجرة، وهذا هو المحفوظ وهو قول الجمهور، وكان أطلس لا لحية له، وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثين حديثا اتفق البخاري ومسلم على ستة وانفرد مسلم بحديثين رضي الله عنه.
انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 266، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 309.
(2) عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب، العالم الجواد بن الجواد ذي الجناحين، أمه أسماء بنت عميس ولدت عبد الله بالحبشة في الهجرة وكان أول مولود ولد في الإسلام في الحبشة باتفاق العلماء، وقدم مع أبيه من الحبشة مهاجرين إلى المدينة، وهو أخو محمد بن أبي بكر الصديق لأمه، وأخو يحيى بن علي بن أبي طالب لأمه، لأن أسماء تزوجها جعفر، ثم أبو بكر، ثم علي رضي الله عنهم: روي لعبد الله خمسة وعشرون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتفق البخاري ومسلم منها على حديثين، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعبد الله عشر سنين وكان كريما جوادا حليما، وكان يسمى بحر الجود، وأخبار أحواله في السخاء والجود مشهورة ومنها انه أقرض الزبير بن العوام ألف ألف درهم فلما قتل الزبير قال عبد الله بن الزبير لعبد الله بن جعفر. وجدت في كتب أبي أن له عليك ألف ألف درهم، فقال هو صادق فاقبضها إذا شئت، ثم ذهب عبد الله بن الزبير فنظر وتأكد فوجد أن المال لعبد الله بن جعفر فلقيه فقال. يا أبا جعفر إني وهمت، المال لك على أبي قال فهو لك قال: لا أريد ذلك، وتوفي رضي الله عنه في المدينة سنة ثمانين من الهجرة، وهو ابن ثمانين سنة، وهذا هو الصحيح وقول الجمهور، وحضر غسله وكفنه وصلى عليه أبان بن عثمان والي المدينة. رضي الله عنه. انظر تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 263، وسير أعلام النبلاء للذهبي 3 / 456- 462، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 289.
(3) وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، 4 / 1885، برقم 2427.(1/840)
146 [ص:3083] حدّثنا مالك بن إسماعيل: حدّثنا ابن عيينة، عن الزهريّ، قال: «قال السّائب بن يزيد (1) .
رضي الله عنه: ذهبنا نتلقّى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصبيان إلى ثنيّة الوداع» . (2) .
وفي رواية: «أذكر أني خرجت مع الصّبيان نتلقّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ثنيّة الوداع مقدمه من غزوة تبوك» . (3) .
* شرح غريب الحديثين: * " ثنية الوداع " موضع بالمدينة على طريق مكة، سميت بذلك؛ لأن الخارج من المدينة يودعه فيها مشيعه، وهو اسم جاهلي قديم سمي لتوديع المسافرين (4) .
* الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحث على الإحسان إلى اليتيم وحفظه.
2 - من صفات الداعية: الاعتزاز بما يقع من إكرام الشرع.
3 - من صفات الداعية: التواضع.
4 - أهمية تلقي العلماء والقادمين من سفر الطاعة.
5 - من أصناف المدعوين: الصبيان.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على الإحسان إلى اليتيم وحفظه: دل فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما على أن من موضوعات الدعوة
_________
(1) السائب بن يزيد تقدمت ترجمته في الحدث رقم 38.
(2) [الحديث 3083] طرفاه في كتاب المغازي، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، 5 / 158، برقم 4426 و 4427.
(3) الطرف رقم 4427.
(4) انظر: مشارق الأنوار للقاضي عياض، 1 / 136، ومعجم البلدان لياقوت الحموي، 2 / 86 وقد أشكل قوله في الحديث: "نتلقى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك" قال ابن حجر: "لا يمنع كونها في جهة الحجاز أن يكون خروج المسافر إلى الشام من جهتها" فتح الباري، 8 / 128.(1/841)
الحث على الإحسان إلى اليتيم وحفظه؛ وقد حمل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم، وقد اعتنى صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن جعفر؛ لأنه كان يتيما، فعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقّي بصبيان أهل بيته، قال: إنه قدم من سفر فسبق بي إليه فحملني بين يديه ثم جيء بأحد ابني فاطمة فأردفه خلفه، قال: فأدخلنا المدينة ثلاثة على دابة» (1) وهذا يدل على عناية النبي صلى الله عليه وسلم باليتيم وحفظه؛ لأن جعفر بن أبي طالب مات شهيدا فعطف النبي صلى الله عليه وسلم على ولده عبد الله فحمله بين يديه (2) وقد أمر الله عزّ وجلّ بالإحسان إلى اليتيم في آيات كثيرة (3) ومن ذلك قوله عزّ وجلّ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36] (4) وأمر بالمحافظة على أموالهم فقال عزّ وجلّ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] (5) وحذر من أكل أموالهم بالباطل فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] (6) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كافل اليتيم له أو لغيره، أنا وهو كهاتين في الجنة» وأشار مالك بالسبابة والوسطى (7) .
/ +50 وبين صلى الله عليه وسلم ما لمن سعى على الضعفاء والأرامل من الثواب فقال: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار» (8) .
_________
(1) مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، 4 / 1885، برقم 2428.
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 192.
(3) في اثنين وعشرين موضعا من القرآن الكريم، انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، لمحمد فؤاد عبد الباقي، ص 770 مادة: "يتم".
(4) سورة النساء، الآية: 36.
(5) سورة الإسراء، الآية: 34.
(6) سورة النساء، الآية: 10.
(7) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم، 4 / 2287، برقم 2983، وأخرجه البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي، كتاب الأدب، باب فضل من يعول يتيما 7 / 101، برقم 605.
(8) البخاري، كتاب النفقات، باب فضل النفقة على الأهل، 6 / 232 برقم 5353، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم، 4 / 2286، برقم 2982، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(1/842)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أحرّج (1) حق الضعيفين: اليتيم والمرأة» (2) فينبغي للداعية أن يحث الناس على العناية باليتيم وهو الذي مات أبوه وهو دون البلوغ، والله المستعان.
ثانيا: من صفات الداعية: الاعتزاز بما يقع من إكرام الشرع: إن من الصفات الحميدة أن يعتز المسلم وخاصة الداعية إلى الله عزّ وجلّ بما أكرمه الله عزّ وجلّ من الفضائل؛ ولهذا اعتز عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما بتفضيل النبي صلى الله عليه وسلم له على غيره من الصبيان وذلك عندما قال له ابن الزبير رضي الله عنهما: «أتذكر إذ تلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت وابن عباس؛ قال: نعم، فحملنا وتركك» ، وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن من فوائد هذا الحديث: "جواز الفخر بما يقع من إكرام النبي صلى الله عليه وسلم" (3) وقال العلامة العيني رحمه الله: "وفيه الفخر بإكرام الشارع" (4) ولا حرج من الفرح بفضل الله ورحمته، بل ينبغي ذلك؛ لقول الله عزّ وجلّ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] (5) .
ثالثا: من صفات الداعية: التواضع: لا شك أن من صفات الداعية التواضع؛ ولهذا تواضع النبي صلى الله عليه وسلم فحمل الصبيان على دابته وأردفهم، ولاطفهم، كما في هذين الحديثين، قال عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما لعبد الله بن الزبير: "فحملنا وتركك" فكان صلى الله عليه وسلم من أعظم الناس تواضعا وخلقا (6) .
رابعا: أهمية تلقي العلماء والقادمين من سفر الطاعة: دل هذان الحديثان على أهمية تلقي المسافرين من العلماء ومن قدم من سفر
_________
(1) أحرج حق الضعيفين: أي أضيقه وأحرمه على من ظلمهما. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الراء، مادة: "حرج" 1 / 361.
(2) ابن ماجة، كتاب الأدب، باب حق اليتيم، 2 / 1213، برقم 3678، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة، 2 / 298، وسلسلة الأحاديث الصحيحة 3 / 12، برقم 1015.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 92.
(4) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 15 / 13.
(5) سورة يونس، الآية: 58.
(6) انظر: الحديث رقم 33، الدرس الحادي عشر، ورقم 62، الدرس الثالث.(1/843)
الحج أو العمرة، أو الجهاد، أو الدعوة، أو غيرها من سفر الطاعة؛ قال عبد الله ابن الزبير لعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم: «أتذكر إذ تلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا، وأنت، وابن عباس» وقال السائب رضي الله عنه: «ذهبنا نتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصبيان إلى ثنية الوداع» ؛ قال الإمام النووي رحمه الله: "هذه سنة مستحبة أن يتلقى الصبيان المسافر، وأن يركبهم، وأن يردفهم، ويلاطفهم، والله أعلم" (1) وقال ابن العربي رحمه الله: "قيل: إذا سافر الرجل ودع إخوانه في منازلهم، وإذا جاء تلقوه، والتشييع سنة" (2) وقال العلامة العيني رحمه الله: "وفيه من الفوائد أن التلقي للمسافرين والقادمين من الحج والجهاد، بالبشر والسرور: أمر معروف ووجه من وجوه البر" (3) ولفظ الحديث في سنن أبي داود يدل على أن الناس تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجال والصبيان، قال السائب رضي الله عنه: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك تلقاه الناس، فلقيته مع الصبيان على ثنية الوداع» (4) .
خامسا: من أصناف المدعوين: الصبيان: دل هذان الحديثان على أن الصبيان من أصناف المدعوين؛ ولهذا اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بإكرامهم، والإحسان إليهم، وملاطفتهم، وإدخال السرور عليهم، وتعليمهم مكارم الأخلاق (5) ؛ قال الإمام الخطابي رحمه الله في ذكره لفوائد حديث عبد الله بن السائب: "فيه تمرين الصبيان على مكارم الأخلاق، واستجلاب الدعاء لهم" (6) فينبغي العناية بالأطفال والإحسان إليهم ومراعاة أحوالهم في دعوتهم إلى الله بالقدوة الحسنة والعطف عليهم وإدخال السرور في قلوبهم (7) .
[الفصل الثالث كتاب الفرائض]
[باب فرض الخمس]
[حديث أن فاطمة سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه] وسلم أن يقسم لها ميراثها
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 15 / 207.
(2) عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 4 / 175.
(3) عمدة القاري، شرح صحيح البخاري، 15 / 13 وهذا الكلام الذي ذكره العيني منسوب للمهلب، كما قال الخطابي في معالم السنن، 4 / 88.
(4) سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب في التلقي، 3 / 90 برقم 2779، وأصله تقدم تخريجه في حديث الباب، ص 841.
(5) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 15 / 207، وعمدة القاري للعيني 15 / 13.
(6) معالم السنن، 4 / 87، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 3 / 619، 10 / 395.
(7) انظر: الحديث رقم 142، الدرس الأول.(1/844)
الفصل الثالث: 57 - كتاب الفرائض(1/845)
1 - باب فرض الخمس 147 [ص:3092] حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله: حدّثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزّبير أنّ عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها أخبرته «أنّ فاطمة (1) عليها السلام ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت أبا بكر الصّدّيق (2) .
بعد وفاة
_________
(1) فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيدة نساء أهل الجنة، ولدت قبل المبعث بقليل، وهي أصغر بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحيح، وأمها خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، أنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة، وقيل: بل ولدت والكعبة تبنى والنبي صلى الله عليه وسلم ابن خمس وثلاثين سنة، وقيل: إنها ولدت سنة إحدى وأربعين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أسن من عائشة بنحو خمس سنين والله أعلم. قيل تزوجها علي رضي الله عنه وسنها ثمان عشرة سنة، وقيل خمس عشرة، وتوفيت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر على الصحيح، وعمرها سبع وعشرون سنة، وقيل: ثلاثون، وقيل: غير ذلك، وقد انقطع نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من فاطمة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبها ويجلها، وإذا جاءت إليه قام إليها وسلم عليها وقبلها وأجلسها مكانه، وإذا قدم إليها فعلت له مثل ذلك، وقال صلى الله عليه وسلم في فضلها: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" [البخاري برقم 3411، ومسلم برقم 2431 واللفظ نقله ابن الأثير في جامع الأصول لرزين 9 / 124] . وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حسبك من نساء العالمين: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وآسية امرأة فرعون" [الترمذي برقم 3888، وقال: هذا حديث صحيح، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 3 / 157] . انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 2 / 352، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 2 / 118، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 4 / 377.
(2) أبو بكر الصديق رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اسمه: عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب، الصحابي الجليل، القرشي التيمي، يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب، كان أعلم قريش بأنسابها، وأول من آمن من الرجال برسول الله صلى الله عليه وسلم وبرسالته، أجمعت الأمة على تسميته صديقا؛ لأنه بادر إلى تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولازم الصدق فلم يقع منه وقفة عن ذلك في حال من الأحوال، ووقعت له مع رسول الله مواقف رفيعة عظيمة منها: قصة صباح ليلة الإسراء، وثباته وجوابه للكفار في ذلك، وهجرته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك عياله وأطفاله، وملازمته له في الغار وسائر الطريق، وثباته مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر والحديبية، وملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حين أسلم إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفارقه في حضر ولا سفر، وبكى حين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عنده، فكان بذلك أفقه الصحابة، وثبت عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وسكّت الناس وخطبهم وقرأ عليهم القرآن فثبتوا وانقادوا، وقصته في البيعة مشهورة، وعنايته بمصلحة المسلمين، ثم اهتمامه وثباته في إنفاذ جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى الشام، ثم قيامه في قتال أهل الردة ومناظرته للصحابة في ذلك حتى حجهم بالدلائل، ثم تجهيزه الجيوش إلى الشام وإمدادهم، ثم ختم مناقبه باستخلافه عمر الفاروق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه حسنة من حسناته وقد كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الناس جهادا وبذلا في سبيل الله عزّ وجلّ، فقد أنفق أمواله كلها في مكة، وفي الهجرة، وفي الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم على يديه خلق كثير، منهم خمسة من العشرة المشهود لهم بالجنة، وأعتق رقيقا لا يحصى عددهم، منهم سبعة كانوا يعذبون في مكة؛ ولمساندته للنبي قال عنه صلى الله عليه وسلم "إن من أمن الناس على في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن إخوة الإسلام ومودته" [البخاري برقم 3654، ومسلم، برقم 2382] . وأجمع أهل السير أن أبا بكر رضي الله عنه لم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشهد من مشاهده، وقد شهد له أن إيمانه أعظم من إيمان أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال عنه عمر رضي الله عنه: "لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم" [أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، 1 / 69، برقم 36] ، ولد أبو بكر رضي الله عنه بعد الفيل بثلاث سنين تقريبا، وهو أول خليفة في الإسلام، وأول أمير أرسل على الحج بالناس، وهو من كبار الصحابة وحديثه في الصحيحين، وذكر له أبو يعلي في مسنده مائة وتسعة وثلاثين حديثا، [من رقم 1- 139] ، وهو من كبار الصحابة الذين حفظوا القرآن كله، وهو أول من جمع القرآن، وهو أول الخلفاء الراشدين وأفضلهم رضي الله عنهم، وقد أنجز هذه الأعمال - وغيرها كثير - في زمن قصير جدا حيث كانت خلافته سنتين وأربعة أشهر إلا أربع ليال، توفي رضي الله عنه سنة ثلاث عشرة عن ثلاث وستين سنة، رضي الله عنه. انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 3 / 125، وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني 1 / 28 - 38، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 181، وسير أعلام النبلاء للذهبي [سيرة الخلفاء الراشدين] ص 7 -67، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 341، وتاريخ الإسلام للذهبي 1 / 105 - 122، وتذكرة الحفاظ، للذهبي 1 / 2 - 5، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 27، وطبقات الحفاظ، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ص 13.(1/846)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم لها ميراثها ممّا ترك رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ممّا أفاء الله عليه".» (1) .
وفي رواية: «أن فاطمة عليها السلام أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما (2) أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، تطلب صدقة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، الّتي بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر".» (3) .
وفي رواية: «أنّ فاطمة عليها السلام، والعبّاس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما: أرضه من فدك وسهمه من خيبر".» (4) .
وفي رواية: «أنّ فاطمة عليها السلام بنت النّبيّ صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها بفيء رسول الله صلى الله عليه وسلم ممّا أفاء الله عليه بالمدينة، وفدك، وما بقي من خمس خيبر،
_________
(1) [الحديث 3092، أطرافه في: كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنقبة فاطمة عليها السلام بنت النبي صلى الله عليه وسلم، 4 / 252، برقم 3711. وكتاب المغازي، باب حديث بني النضير 5 / 30، برقم 4035. وكتاب المغازي، باب غزوة خيبر 5 / 97، برقم 4240. وكتاب الفرائض، باب تعليم الفرائض 8 / 4، برقم 6725. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم. "لا نورث ما تركنا فهو صدقة" 3 / 1380، برقم 1759.
(2) وفي النسخة السلفية المطبوعة مع فتح الباري: "مما أفاء الله عليه" وقد وافق ما في النسخة المعتمدة ما في نسخة استانبول، 4 / 210.
(3) من الطرف رقم 3711.
(4) من الطرف رقم 4035.(1/847)
فقال أبو بكر: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة"، إنما يأكل آل محمّد في هذا المال وإنّي والله لا أغيّر شيئا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها الّتي كان عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملنّ فيها بما عمل به رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت (1) وعاشت بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، فلمّا توفّيت دفنها زوجها عليّ ليلا ولم "يؤذن بها أبا بكر (2) وصلّى عليها، وكان لعلي من النّاس وجه (3) .
حياة فاطمة، فلمّا توفّيت استنكر عليّ وجوه النّاس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك كراهية لمحضر عمر فقال عمر: لا والله لا تدخل عليهم وحدك، فقال أبو بكر: وما عسيتهم أن يفعلوا بي والله لآتينّهم، فدخل عليهم أبو بكر فتشهّد عليّ فقال: إنّا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك ولكنّك استبددت علينا بالأمر وكنّا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبا، حتّى فاضت عينا أبي بكر، فلمّا تكلم أبو بكر قال: والّذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إليّ أن أصل من قرابتي وأمّا الّذي
_________
(1) قال الإمام القرطبي رحمه الله: "لم تلتق بأبي بكر لشغلها بمصيبتها برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولملازمتها بيتها، فعبر الراوي عن ذلك بالهجران، وإلا فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" [متفق عليه من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: البخاري برقم 6077، ومسلم برقم 2560] ، وهي أعلم الناس بما يحل من ذلك ويحرم، وأبعد الناس عن مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف لا يكون كذلك وهي بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيدة نساء أهل الجنة؟ ". المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3 / 569.
(2) قال الإمام القرطبي رحمه الله: "دفن عليّ لفاطمة ليلا، يحتمل أن يكون ذلك مبالغة في صيانتها، وكونه لم يؤذن أبا بكر بها، لعله إنما لم يفعل ذلك؛ لأن غيره قد كفاه ذلك، أو خاف أن يكون ذلك من باب النعي المنهي عنه، وليس في الخبر ما يدل على أن أبا بكر لم يعلم بموتها، ولا صلى عليها، ولا شاهد جنازتها بل اللائق بهم المناسب لأحوالهم حضور جنازتها، ولا تسمع أكاذيب الرافضة المبطلين الضالين المضلين". المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3 / 569.
(3) "وكان لعلي من الناس وجه: أي جاه واحترام. قال الإمام القرطبي رحمه الله: "كان الناس يحترمون عليا في حياتها كرامة لها؛ لأنها بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مباشر لها، فلما ماتت وهو لم يبايع أبا بكّر انصرف الناس عن ذلك الاحترام، ليدخل فيما دخل فيه الناس ولا يفرق جماعتهم، ألا ترى أنه لما بايع أبا بكر أقبل الناس عليه بكل إكرام وإعظام". المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3 / 569.(1/848)
شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيها عن الخير ولم أترك أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلّا صنعته فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة فلما صلى أبو بكر الظهر رقي المنبر فتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالّذي اعتذر إليه ثمّ استغفر وتشهّد علي فعظّم حقّ أبي بكر وحدّث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر، ولا إنكارا للّذي فضّله الله به ولكنّا كنّا نرى لنا في هذا الأمر نصيبا فاستبدّ علينا فوجدنا في أنفسنا، فسرّ بذلك المسلمون وقالوا: أصبت وكان المسلمون إلى عليّ قريبا حين راجع الأمر بالمعروف".» (1) .
[حديث لا نورث ما تركنا صدقة]
148 [ص:3093] «فقال لها أبو بكر: إنّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث، ما تركنا صدقة". فغضبت فاطمة بنت رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتّى توفّيت، وعاشت بعد رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ستّة أشهر. قالت: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها ممّا ترك رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وفدك، وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك وقال: لست تاركا شيئا كان رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلّا عملت به، فإنّي أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ، فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى عليّ وعبّاس، وأمّا خيبر وفدك فأمسكها عمر وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانتا لحقوقه الّتي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى وليّ الأمر، قال: فهما على ذلك إلى اليوم". قال أبو عبد الله: (اعتراك، افتعلت، من عروته فأصبته، ومنه: يعروه، واعتراني» (2) .
_________
(1) الطرف رقم 4240 - 4241.
(2) [الحديث 3093، أطرافه في: كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنقبة فاطمة عليها السلام بنت النبي صلى الله عليه وسلم 4 / 252 برقم 3712. وكتاب المغازي، باب حديث بعث النضير 5 / 30، برقم 4036. وكتاب المغازي، باب غزوة خيبر 5 / 97 برقم 4241. وكتاب الفرائض، باب تعليم الفرائض 8 / 4، برقم 6726 وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة" 3 / 1380، برقم 1759.(1/849)
وفي رواية: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة، إنّما يأكل آل محمّد من هذا المال - يعني مال الله - ليس لهم أن يزيدوا على المأكل"، وإنّي والله لا أغيّر شيئا من صدقات النّبيّ صلى الله عليه وسلم الّتي كانت عليها في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولأعملنّ فيها بما عمل فيها رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فتشهّد عليّ ثمّ قال: إنّا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك - وذكر قرابتهم من رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وحقّهم - فتكلّم أبو بكر فقال: والّذي نفسي بيده لقرابة رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إليّ أن أصل من قرابتي".» (1) .
وفي رواية: «قال أبو بكر: والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيه إلّا صنعته، قال: فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتّى ماتت".» (2) .
شرح غريب الحديثين: * " لم ننفس عليك " أي لم نحسدك، يقال: نفاسة على فلان: أي صدا له ورغبة وحرصا على ما ناله، ولم يره له أهلا، ويقال: نفست عليه الشيء، نفاسة: إذا لم تره يستأهله (3) .
* " فلم آل فيها عن الخير " أي لم أقصّر (4) .
* " فدك " قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان بالسير، وقيل: ثلاثة، أفاءها الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم صلحا سنة سبع؛ لأنه عندما فتح خيبر بلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصالحهم على النصف من ثمارهم، فهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فيها عين فوارة، ونخيل كثيرة (5) .
_________
(1) من الطرف رقم 3712.
(2) من الطرف رقم 6726.
(3) انظر: مشارق الأنوار، للقاضي عياض، حرف النون مع الفاء، مادة: "نفس" 2 / 21، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب النون مع الفاء، مادة: "نفس" 5 / 96.
(4) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 557.
(5) معجم البلدان، لياقوت الحموي، مادة: "فدك" 4 / 238، وانظر: مشارق الأنوار للقاضي عياض، حرف الفاء مع الدال، مادة. "فدك" 2 / 167.(1/850)
* " فوجدت " أي غضبت، يقال: لا تجد عليّ: أي تغضب (1) .
* " وما عسيتهم " أي وما حسبتهم، فعسيت هنا بمعنى حسبت، وأجريت مجراها فنصبت ضمير الغائبين على أنه مفعول ثان (2) أما قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22 - 23] (3) فمعناها: فلعلكم إن توليتم. (4) .
* " استبددت " انفردت، يقال: استبدّ فلان بكذا: أي انفرد به، واستبدّ برأيه: انفرد به عن غيره (5) .
* " أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ " أزيغ: أجور وأعدل عن الحق. (6) .
* " تعروه " أي تغشاه وتنتابه (7) .
* " نوائبه " النوائب ما ينوب الإنسان: أي ما ينزل به من المهمات، ويقال: نابه ينوبه نوبا، وانتابه، إذا قصده مرة بعد مرة. ويقال: احتاطوا، هل الأموال في النائبة والواطئة: أي الأضياف الذين ينوبونهم (8)
الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: الزهد.
2 - لا ينكر أن يغيب عن الداعية بعض العلم.
3 - من وسائل الدعوة: المنبر.
4 - من آداب الخطيب: البدء بالشهادتين بعد الحمد والثناء على الله عزّ وجلّ.
_________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع الجيم، مادة. "وجد" 5 / 155.
(2) انظر: لسان العرب، لابن منظور، مادة. "عسى" 15 / 55، وفتح الباري لابن حجر 7 / 494.
(3) سورة محمد، الآيتان: 22-23.
(4) تفسير الطبري [جامع البيان عن تأويل آي القرآن"، 22 / 177.
(5) انظر: لسان العرب، لابن منظور، باب الدال، فصل الباء، مادة: "بدد" 3 / 81.
(6) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الزاي مع الياء، مادة: "زيغ" 2 / 324.
(7) انظر: المرجع السابق، باب العين مع الراء، مادة: "عثر" 3 / 226.
(8) انظر: المرجع السابق، باب النون مع الواو، مادة: "نوب" 5 / 123.(1/851)
5 - أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية.
6 - من صفات الداعية: الحذر من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7 - من أساليب الدعوة: الحوار.
8 - من صفات الداعية: الرجوع إلى الحق بدليله.
9 - من صفات الداعية: التواضع.
10 - أهمية الاعتراف بالفضل لأهله.
11 - من صفات الداعية: الخشوع لله عزّ وجلّ.
12 - أهمية محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته.
13 - من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض مناقبه عند الحاجة انتصارا للحق.
14 - من صفات الداعية: العفو والصفح.
15 - من صفات الداعية: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: الزهد: إن الزهد من الصفات الحميدة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها؛ وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أزهد الناس في الدنيا؛ لأنهم لم يبعثوا لجمع الأموال، وإنما بعثوا لإخراج الناس من الظلمات إلى النور؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «لا نورث ما تركنا صدقة» ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم زاهدا ويزهّد الناس في الدنيا، فعن مطرف عن أبيه رضي الله عنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] قال: "يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مالك يا ابن آدم إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» (1) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول العبد: مالي مالي، إنما، له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وسوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس".» (2) .
_________
(1) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، 4 / 2273، برقم 2958.
(2) كتاب الزهد والرقائق، 4 / 2273، برقم 2959.(1/852)
وهذا يؤكد أن ما يقتنيه الإنسان للآخرة ويدخر ثوابه عند الله عزّ وجلّ هو الذي ينفعه حقيقة، وهذا لا يتحقق إلا بالزهد في الدنيا. (1) .
ثانيا: لا ينكر أن يغيب عن الداعية بعض العلم: إن الداعية أو العالم العظيم قد يغيب عنه بعض العلم ويعلمه غيره، وهذا يدل على أن علم البشر محدود، ويكمل بعضهم بعضا؛ ولهذا خفي على عليّ رضي الله عنه وفاطمة الزهراء رضي الله عنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركنا صدقة"،» قال الإمام القرطبي رحمه الله: "فأما طلب فاطمة ميراثها من أبيها من أبي بكر، فكان ذلك قبل أن تسمع الحديث الذي دل على خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وكانت متمسكة بما في كتاب الله من ذلك، فلما أخبرها أبو بكر بالحديث توقفت عن ذلك ولم تعد عليه بطلب" (2) وقال العيني رحمه الله: "قيل: إن فاطمة رضي الله عنه لم تكن علمت هذا" (3) وهذا لا ينقص من قدرها ولا من علمها وفضلها رضي الله عنها (4) .
ثالثا: من وسائل الدعوة: المنبر: لاشك أن من الوسائل المهمة التي تعين على إيصال العلم للناس استخدام المنبر في الخطب، وفي المواعظ التي يحضرها جموع من الناس؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم هذه الوسيلة، ثم استخدمها أصحابه رضي الله عنهم من بعده، ومن ذلك ما ثبت في هذا الحديث من قول عائشة رضي الله عنها: «فلما صلى أبو بكر الظهر رقي على المنبر فتشهد» وهذا يؤكد أهمية هذه الوسيلة (5) .
رابعا: من آداب الخطيب: البدء بالشهادتين بعد الحمدلة والثناء على الله عزّ وجلّ: لا ريب أن من الآداب التي ينبغي أن يعتني بها الداعية البدء في خطبه،
_________
(1) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الأول، ورقم 15، الدرس الأول.
(2) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3 / 563.
(3) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 16 / 222.
(4) انظر: الحديث رقم 77، الدرس الرابع عشر.
(5) انظر: الحديث رقم 7، الدرس السابع.(1/853)
ومواعظه، ومحاضراته، وكلماته: بالثناء على الله عزّ وجلّ بما هو أهله، وبالإقرار بالشهادتين والصلاة عنى النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا بدأ أبو بكر رضي الله عنه بذلك في هذا الحديث، وكذا علي رضي الله عنه لقول عائشة رضي الله عنها: «فلما صلى أبو بكر الظهر رقي المنبر فتشهد» ، وقالت رضي الله عنها: «ثم استغفر وتشهد عليّ فعظّم حق أبي بكر» وهذا يؤكد أهمية استخدام هذا الأدب في الخطب والمواعظ، والله المستعان. (1) .
خامسا: أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية: ظهر في هذا الحديث أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية؛ لقول أبي بكر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» ، فقد استدل رضي الله عنه بهذا الحديث؛ ليقنع فاطمة وعليا رضي الله عنهما، وهذا يؤكد أهمية العناية بالأدلة من الكتاب والسنة، أو من أحدهما، وإقناع المدعوين بذلك (2) .
سادسا: من صفات الداعية: الحذر من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: دل هذا الحديث على أن من صفات الداعية الناجح الحذر من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم من أسباب الخذلان والهلاك في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه في هذا الحديث: «إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ» وصدق رضي الله عنه؛ فإن الله عزّ وجلّ قال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] (3) وقال عزّ وجلّ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجعل الذّلّ والصغار على من خالف أمري".» (5) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 135، الدرس الثاني.
(2) انظر: الحديث رقم 77، الدرس الحادي عشر، ورقم 94، الدرس الثامن.
(3) سورة النور، الآية: 63.
(4) سورة الأحزاب، الآية: 36.
(5) أخرجه أحمد في المسند، 2 / 50، 92، وابن أبي شيبة في المصنف، 5 / 313، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 5 / 109.(1/854)
سابعا: من أساليب الدعوة: الحوار: الحوار أسلوب مهم من أساليب الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، وقد ظهر في هذا الحديث الحوار بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، واستمر الحوار بينهما حتى فاضت عينا أبي بكر رضي الله عنه، ورضي كلّ منهما على صاحبه، ثم اعتذر عليّ رضي الله عنه، وبايع أبا بكر بحضرة الناس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يؤكد أهمية الحوار الهادف وأثره العظيم. فينبغي للداعية أن يعتني به في دعوته إلى الله عزّ وجلّ (1) .
ثامنا: من صفات الداعية: الرجوع إلى الحق بدليله: الحق هو مقصد كل مسلم إذا ظهر واتضح، والرجوع إليه من أهم الصفات التي ينبغي للداعية أن يتصف بها، وقد ظهر في هذا الحديث رجوع علي بن أبي طالب رضي الله عنه للحق عندما اتضح الدليل وبان البرهان فأرسل رضي الله عنه إلى أبي بكر؛ ليأتيه فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فدخل عليه، «فتشهد عليّ فقال: "إنّا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك"،» ثم قال: «موعدك العشية للبيعة» ، ثم حضر رضي الله عنه، وبعد صلاة الظهر بايع أبا بكر بحضرة الصحابة رضي الله عنهم واعتذر وعظّم حق أبي بكر، فسرّ بذلك المسلمون، وقالوا: "أصبت" ومن تأمل ما دار بين أبي بكر وعليّ رضي الله عنهما عرف أن كلا منهما كان يعترف بفضل الآخر، وأن قلبيهما متفقان على الاحترام والمحبة، وإن كان الطبع البشري قد يغلب أحيانا، لكن الديانة والتقوى ترد ذلك (2) .
ينبغي للداعية أن يكون من أوّل الناس رجوعا إلى الحق إذا ظهر بدليله كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
تاسعا: من صفات الداعية: التواضع: دل هذا الحديث على أهمية التواضع وأنه ينبغي للداعية أن يتصف به، لما في ذلك من الفوائد العظيمة؛ ولهذا تواضع أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم
_________
(1) انظر: الحديث رقم 29، الدرس السادس، ورقم 77، الدرس السابع.
(2) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 3 / 571، وفتح الباري لابن حجر، 7 / 495.(1/855)
فذهب إلى بيت علي رضي الله عنه كما في هذا الحديث فحصل بهذا التواضع: سلامة القلوب، وطيب النفوس، واجتماع الكلمة والحمد لله، وهذا يبين أهمية التواضع والاتصاف به، وخاصة للدعاة إلى الله عزّ وجلّ (1) .
عاشرا: أهمية الاعتراف بالفضل لأهله: إن من الأمور المهمة الاعتراف بالفضل لأهله وشكرهم على أعمالهم الطيبة، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث من قول عليّ رضي الله عنه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: «إنّا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك» ، وهذا يبين أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قد أنصف، واعترف بالفضل لأبي بكر رضي الله عنه. قال الإمام القرطبي رحمه الله: "ولا يظنّ بعليّ أنه خالف الناس في البيعة، ولكنه تأخر عن الناس لمانع منعه، على الموجدة التي وجدها حين استبدّ بمثل هذا الأمر العظيم ولم ينتظر مع أنه كان أحق الناس بحضوره، وبمشورته، لكن العذر للمبايعين لأبي بكر على ذلك الاستعجال: مخافة ثوران الفتنة بين المهاجرين والأنصار، كما هو معروف في حديث السقيفة، فسابقوا الفتنة، فلم يتأتّ لهم انتظاره لذلك، وقد جرى بينهم في هذا المجلس من المحاورة، والمكالمة، والإنصاف ما يدل على معرفة بعضهم بفضل بعض، وأن قلوبهم متفقة على احترام بعضهم لبعض، ومحبة بعضهم لبعض ما يشرق به الرافضي وتشرق به قلوب أهل الدين". (2) .
فينبغي لكل مسلم الاعتراف بالفضل لأهله، وإنزال الناس منازلهم، وهذا يتأكد على الدعاة أكثر من غيرهم، والله المستعان.
الحادي عشر: من صفات الداعية الخشوع لله عز وجل: إن الخشوع لله عزّ وجلّ من الصفات التي ينبغي للداعية إلى الله عزّ وجلّ أن يتصف بها، وقد دل خشوع أبي بكر في هذا الحديث على ذلك حينما تكلم عليّ رضي الله عنه ففاضت عينا أبي بكر رضي الله عنه وقال: «والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
_________
(1) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثالث.
(2) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3 / 570.(1/856)
أحب إليّ أن أصل من قرابتي» ، وقد مدح الله الخاشعين في كتابه العزيز وأثنى عليهم فقال عزّ وجلّ بعد أن ذكر آل زكريا بعد عدد من الأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] (1) ؛ ولأهمية الخشوع استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من قلب لا يخشع فقال: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها» (2) وأصل الخشوع لله عزّ وجلّ: لين القلب، ورقته، وسكونه وخضوعه، فإذا خشع القلب لله تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء، فإذا خشع القلب خشع السمع والبصر، والرأس، وسائر الأعضاء؛ لأنه أمير البدن، والجوارح رعيته وجنوده، وبصلاح الأمير تصلح الرعية (3) .
«وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: "هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء"، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منّا وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنّه، ولنقرئنّه نساءنا وأبناءنا، فقال: "ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدّك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؛» قال جبير فلقيت عبادة بن الصامت قلت: ألا تسمع إلى ما يقول أخوك أبو الدرداء؛ فأخبرته بالذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس؛ الخشوع، يوشك أن تدخل مسجدَ جماعةٍ فلا ترى فيه رجلا خاشعا" (4) .
فينبغي لكل مسلم وخاصة الداعية إلى الله عزّ وجلّ أن يسأل الله أن يصلح قلبه ويجعله خاشعا لله وحده، ويستعيذ بالله من قلب لا يخشع.
_________
(1) سورة الأنبباء، الآية: 90، وانظر: تفسير ابن جرير الطبري، "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" 18 / 521، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، 5 / 259.
(2) مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، 4 / 2088، برقم 2722.
(3) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 1 / 520 - 530.
(4) الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في ذهاب العلم، 5 / 31، برقم 2653، وحسنه، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2 / 337، وله شواهد من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه في معجم الطبراني الكبير، 7 / 295، برقم 7183، ومن حديث عوف بن مالك رضي الله عنه عند الحاكم 1 / 98 - 99.(1/857)
الثاني عشر: أهمية محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته: محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته من أعظم الصفات الواجبة التي يتأكد على كل مسلم أن يتصف بها وخاصة الداعية إلى الله عزّ وجلّ؛ ولهذه الأهمية قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في هذا الحديث: «والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إليّ أن أصل من قرابتي» ، وهذا يبين عظم محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته في قلوب أصحابه صلى الله عليه وسلم. فينبغي أن يتصف كل مسلم بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من النفس، والمال، والولد، والوالد، والناس أجمعين، كما يظهر في هذا الحديث أن من كمال الإيمان تقديم محبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم الصالحين على محبة الأقرباء، إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
الثالث عشر: من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض مناقبه عند الحاجة انتصارا للحق: لا شك أن من الأساليب النافعة عند الحاجة إليها، ذكر الداعية بعض مناقبه التي يكون في إظهارها نفع للمدعوين؛ ولهذا أظهر أبو بكر بعض مناقبه في هذا الحديث عندما رأى أن المصلحة تقتضي ذلك، فقال رضي الله عنه: «فلم آل جهدا عن الخير، ولم أترك أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته» ، وهذه منقبة من أعظم المناقب العظيمة لأبي بكر رضي الله عنه، ذكرها انتصارا للحق (2) .
الرابع عشر: من صفات الداعية: العفو والصفح: العفو والصفح من أعظم الصفات السامية التي يتصف بها النبلاء: من العلماء، والدعاة، وأهل الديانة المستقيمة، والأخلاق الكريمة، ولهذا عفا وصفح الصديق رضي الله عنه عما حصل من علي رضي الله عنه؛ لأن عليا رضي الله عنه يرى أن الحق معه حتى تبين له الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركنا صدقة» ، وعند اتضاح الحق لعليّ عفا عنه أبو بكر؛ ولهذا جاء في هذا "الحديث: «فلما صلى أبو بكر الظهر رقي المنبر فتشهد وذكر شأن عليّ
_________
(1) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثامن، ورقم 63، الدرس الثامن.
(2) انظر. الحديث رقم 61، الدرس التاسع، ورقم 77، الدرس الثالث عشر.(1/858)
رضي الله عنه وتخلفه عن البيعة، وعذره بالذي اعتذر إليه"،» فاجتمعت الكلمة وطهرت القلوب والحمد لله، وهذا يؤكد أهمية العفو ويوضح آثاره الحميدة، والله المستعان (1) .
الخامس عشر: من صفات الداعية: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وعملا: إن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهم الصفات وأعظم القربات التي يتقرب بها المخلصون إلى الله عزّ وجلّ؛ ولهذه الأهمية قال أبو بكر رضي الله عنه: «إنما يأكل آل محمد في هذا المال، وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم"،» وقال: «ولم أترك أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته"،» وهذا يدل على كمال اتباع الصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا. فينبغي للداعية أن يكون أكمل الناس في الاتباع وأبعدهم عن الابتداع، وأن يكون قدوة صالحة لغيره، والله المستعان (2) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 80، الدرس الثالث، ورقم 105، الدرس الرابع، ورقم 130، الدرس الرابع.
(2) انظر: الحديث رقم 29، الدرس الخامس.(1/859)
[باب نفقة نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته]
[حديث توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيته من شيء]
3 - باب نفقة نساء النّبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته 149 [ص:3097] حدّثنا عبد الله بن أبي شيبة: حدّثنا أبو أسامة: حدّثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها (1) .
قالت: «توفّي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد، إلّا شطر شعير في رف لي، فأكلت منه حتّى طال علي، فكلته، ففني".» (2) .
* شرح غريب الحديث: * " شطر الشعير " شطر الشيء: نصفه، إلا أن الحديث ليس فيه مقدار يكون ما أشارت إليه نصفه، فكأنها أشارت إلى جزء مبهم: أي شيء. من شعير وجزء من شعير (3) .
* " رف " الرّفّ خشب يرفع عن الأرض إلى جنب الجدار يوقى به ما يوضع عليه (4) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - حرص السلف الصالح على تعليم أولادهم الرقائق.
2 - من صفات الداعية: الزهد.
3 - من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان.
4 - أهمية التوكل على الله عزّ وجلّ.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
_________
(1) تقدمت ترجمتها في الحديث رقم 4.
(2) [الحديث 3097، طرفه في كتاب الرقائق، باب فضل الفقر، 7 / 229، برقم 6451، وأخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، 4 / 2283، برقم 2973.
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الشين مع الطاء، مادة: "شطر" 2 / 473، وجامع الأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لابن الأثير، 4 / 688.
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الفاء، مادة: "رفف" 2 / 245.(1/860)
أولا: حرص السلف الصالح على تعليم أولادهم الرقائق: إن السلف الصالح كانوا حريصين أشد الحرص على تعليم أولادهم، وأقربائهم العلم النافع، ومما يؤكد ذلك ما ثبت في إسناد هذا الحديث من تعليم عروة بن الزبير بن العوام لابنه هشام حديث عائشة رضي الله عنها في وصفها شدة عيش النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من الزهد، فقالت رضي الله عنها: «توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رف لي".» (1) .
فينبغي للداعية أن يعلم أولاده وأهل بيته ما ينفعهم، ويذكر لهم الرقائق؛ لتصح قلوبهم وترق وتخشع كما فعل سلفنا الصالح رحمهم الله (2) .
ثانيا: من صفات الداعية: الزهد: الزهد من الصفات الحميدة التي يجمل ويحسن لكل مسلم أن يتصف بها، وقد ظهر في هذا الحديث ما يؤكد ذلك من زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، قالت عائشة رضي الله عنها: «توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رفّ لي» ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يطيّب قلوب أتباعه الزهاد فيقول: «انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» (3) وهذا يؤكد عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالزهد والحث عليه؛ لما فيه من السلامة والعافية من الوقوع فيما لا يرضاه الله عزّ وجلّ (4) .
ثالثا: من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان: ظهر في هذا الحديث أن من صفات الداعية الصبر على الابتلاء والاختبار؛ ولهذا صبر النبي صلى الله عليه وسلم على شدة العيش وشظفه، وقد مات صلى الله عليه وسلم ولم يخلف شيئا لورثته؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها في الحديث: «توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في
_________
(1) انظر: عمدة القاري شرح صحيح البخاري، للعيني، 15 / 27، وإرشاد الساري شرح صحيح البخاري للقسطلاني، 5 / 196.
(2) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الأول، ورقم 36، الدرس الخامس، ورقم 101، الدرس الخامس.
(3) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، 4 / 2275، برقم 2963، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الأول، ورقم 15، الدرس الأول.(1/861)
بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير".» فينبغي لكل مسلم وخاصة الداعية أن يصبر على الابتلاء في السراء والضراء، وفي العسر واليسر، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة (1) .
رابعا: أهمية التوكل على الله عزّ وجلّ: دل مفهوم هذا الحديث على أن التوكل على الله واعتماد القلب عليه من أهم المهمات وأعظم القربات؛ لتوكل عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها على الله، فبقيت تأكل من الشعير القليل في الرف زمنا طويلا، ويبارك الله فيه حتى كالته ففني، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "يستفاد منه أن من رزق شيئا، أو أكرم بكرامة، أو لطف به في أمر ما، فالمتعين عليه موالاة الشكر، ورؤية المنة لله تعالى، ولا يحدث في تلك الحالة تغيير" (2) ويتعين على المتوكل العمل بالأسباب التي شرعها الله عزّ وجلّ (3) .
[باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وما نسب من البيوت] إليهن
_________
(1) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 66، الدرس الأول.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 281.
(3) انظر: الحديث رقم 30، الدرس الخامس.(1/862)
[حديث ها هنا الفتنة من حيث يطلع قرن الشيطان]
4 - باب ما جاء في بيوت أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم وما نسب من البيوت إليهنّ وقول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] (1) و {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53] (2) .
150 [ص:3104] حدّثنا موسى بن إسماعيل: حدّثنا جويرية، عن نافع، عن عبد الله (3) رضي الله عنه، قال: " قام النّبيّ صلى الله عليه وسلم خطيبا فأشار نحو مسكن عائشة فقال: «ها هنا الفتنة - ثلاثا - من حيث يطلع قرن الشّيطان» (4) .
وفي رواية: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى المشرق فقال: «ها إنّ الفتنة هاهنا، إنّ الفتنة هاهنا، من حيث يطلع قرن الشّيطان» (5) .
وفي رواية: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر. . . " (6) .
وفي رواية: «الفتنة هاهنا، الفتنة هاهنا من حيث يطلع قرن الشّيطان - أو قال - قرن الشّمس» (7) .
وفي رواية: "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول. . . " (8) .
* شرح غريب الحديث: * " الفتنة ": أصل الفتنة من قولك: "فتنت الذهب" إذا أحرقته بالنار ليتبين الجيد من الرديء، وهي الابتلاء والاختبار، والامتحان، وكثر استعمالها
_________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 33.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 53.
(3) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 4.] .
(4) [الحديث 3104] أطرافه في: كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، 4 / 111، برقم 3279. وكتاب المناقب، باب، 4 / 190، برقم 3511. وكتاب الطلاق، باب الإشارة في الطلاق والأمور، 6 / 215، برقم 5296. وكتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الفتنة من قبل المشرق"، 8 / 122، برقم 9207 و 7093. وأخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب الفتنة من المشرق من حيث يطلع قرنا الشيطان، 4 / 2228، برقم 2905.
(5) من الطرف رقم 3279.
(6) من الطرف رقم 3511.
(7) من الطرف رقم 7092.
(8) من الطرف رقم: 7093.(1/863)
بمعنى: الإثم، والكفر، والضلال، والقتال، والفضيحة، والعذاب (1) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية؛ منها:
1 - من وسائل الدعوة: الخطابة.
2 - من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإخبار ببعض المغيبات.
3 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الفتن.
4 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من وسائل الدعوة: الخطابة: دل الحديث على أن من وسائل الدعوة: الخطابة؛ لما فيها من إيصال الحق للناس؛ ولهذا قام النبي صلى الله عليه وسلم - كما في هذا الحديث - خطيبا فأشار إلى مسكن عائشة رضي الله عنها، وحذر من الفتن، وهذا يؤكد أهمية الخطابة، ويؤكد أهمية القيام فيها؛ ليرى الناس الخطيب ويسمعوا كلامه، والله المستعان (2) .
ثانيا: من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإخبار ببعض المغيبات: لا شك أن من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وسلم الإخبار ببعض المغيبات، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «هاهنا الفتنة - ثلاثا - من حيث يطلع قرن الشيطان» ، وقد تحقق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم؛ فإن الفتن ظهرت من قبل المشرق كثيرا، والفتنة الكبرى التي كانت مفتاح فساد ذات البين هي قتل عثمان رضي الله عنه - وهي سبب وقعة الجمل، وحروب صفين - كانت في ناحية المشرق، ثم ظهور الخوارج في أرض نجد والعراق وما وراءها من المشرق، وأكثر البدع إنما ظهرت من المشرق فكانت سببا إلى افتراق كلمة المسلمين ومذهبهم، وفساد نيات كثير منهم إلى اليوم، وإلى قيام الساعة، وآخر الفتن خروج الدجال من قبل المشرق (3) .
_________
(1) انظر: غريب الحديث رقم 36، ص 255.
(2) انظر: الحديث رقم 7، الدرس السادس، ورقم 33، الدرس التاسع.
(3) انظر: الاستذكار لابن عبد البر، 27 / 245 - 246.(1/864)
وهذا كله يؤكد صدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لوقوع ما أخبر به على حقيقته (1) .
ثالثا: من موضوعات الدعوة: التحذير من الفتن: التحذير من الفتن من أهم الموضوعات التي ينبغي للداعية أن يعتني بها، ويحذر الناس منها؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «هاهنا الفتنة - ثلاثا - من حيث يطلع قرن الشيطان» ، وهذا فيه تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من الفتن، وبيان منه صلى الله عليه وسلم أن الفتن تأتي من قبل المشرق؛ ليحذر منها الناس وينتبهوا أشد الانتباه، قال العيني رحمه الله: "وكان صلى الله عليه وسلم يحذر من ذلك ويعلم به قبل وقوعه، وذلك من دلالات نبوته صلى الله عليه وسلم" (2) وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على المبادرة بالأعمال الصالحة قبل الانشغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة والمتراكمة، المتكاثرة، فقال صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا» (3) .
قال القاضي عياض رحمه الله: "وفائدة المبادرة بالعمل: إمكانه قبل شغل البال والجسد بالفتن، وقطعها عن العمل" (4) ومما يؤكد التحذير من الفتن حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: «كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؛ قال: "نعم". فقلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؛ قال: "نعم وفيه دخن". قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر". فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: "نعم، قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا". قلت: يا رسول الله، فما تأمرني إن أدركني ذلك؛ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ". فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة
_________
(1) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع.
(2) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 24 / 199.
(3) مسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن، 1 / 110، برقم 118، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم كتاب الإيمان، 1 / 494.(1/865)
ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضّ على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» (1) .
وهذا فيه التحذير العظيم من الفتن وبيان المخرج منها، ولاشك أن الزمان كلما تأخر زادت الفتن في الغالب حتى قيام الساعة؛ ولهذا قال أنس بن مالك رضي الله عنه: «اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربكم» ، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم (2) فأسأل الله لي ولجميع المسلمين العافية في الدنيا والآخرة، والله المستعان.
رابعا: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث: ظهر في هذا الحديث أن من صفات الداعية الحرص على الدقة في نقل الحديث؛ ولهذا قال الراوي: «من حيث يطلع قرن الشيطان» ، أو قال: «قرن الشمس» ، شك أي اللفظين قال النبي صلى الله عليه وسلم (3) والمقصود بقرن الشيطان: هو التمثيل لمن يسجد للشمس عند طلوعها فكأن الشيطان سوّل له ذلك، فإذا سجد لها كان كأن الشيطان مقترن بها (4) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحرّوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فإنها تطلع بقرني شيطان» (5) قيل: المراد بقرني الشيطان: حزبه وأتباعه، وقيل: قوته وغلبته وانتشار فساده، وقيل: القرنان: ناحيتا الرأس وأنه على ظاهره، وهذا هو الأقوى، قالوا: ومعناه أنه يدني رأسه إلى الشمس في هذه الأوقات؛ ليكون الساجدون لها من الكفار كالساجدين له في الصورة، وحينئذ يكون له ولبنيه تسلط ظاهر وتمكن من أن يسلبوا على المصلين صلاتهم، فكرهت الصلاة حينئذ صيانة لها، كما كرهت في الأماكن التي هي مأوى الشيطان (6) .
[باب ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم، وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه] وما استعمل الخلفاء بعده
_________
(1) البخاري، كتاب الفضائل، باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة، 8 / 119، برقم 7084، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين، عند ظهور الفتن وفي كل حال، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة، 3 / 1475، برقم 1847.
(2) البخاري، كتاب الفتن، باب لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، 8 / 115، برقم 7068.
(3) انظر: الحديث رقم 21، الدرس العاشر.
(4) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع الراء، 4 / 52.
(5) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، 1 / 568، برقم 828.
(6) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 6 / 361.(1/866)
[حديث إخراج أنس نعلين جرداوين لهما قبالان]
5 - باب ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم، وعصاه، وسيفه، وقدحه، وخاتمه وما استعمل الخلفاء بعده من ذلك مما لم يذكر قسمته، ومن شعره، ونعله، وآنيته، ممّا تبرك أصحابه وغيرهم بعد وفاته. 151 [ص:3107] حدّثنا عبد الله بن محمّد: حدّثنا محمّد بن عبد الله الأسديّ: حدّثنا عيسى بن طهمان (1) قال: "أخرج إلينا أنس نعلين جرداوين لهما قبالان، فحدثني ثابت البنانيّ (2) بعد عن أنس (3) أنهما نعلا النّبيّ صلى الله عليه وسلم". (4) .
وفي رواية: "خرج إلينا أنس بن مالك بنعلين لهما قبالان، فقال ثابت البنانيّ: هذه نعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم" (5) .
[حديث إخراج عائشة كساء ملبدا وقولها في هذا نزع روح النبي صلى الله] عليه وسلم
152 [ص:3108] حدّثني محمّد بن بشّار: حدّثنا عبد الوهّاب: حدّثنا أيّوب: حدّثنا حميد بن هلال، عن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة (6) رضي الله عنها، كساء ملبّدا وقالت: في هذا نزع روح النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وزاد سليمان عن حميد، عن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة إزارا غليظا ممّا يصنع باليمن، وكساء من هذه الّتي يدعونها الملبّدة" (7) .
وفي رواية: "أخرجت إلينا عائشة كساء وإزارا غليظا فقالت: قبض روح النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذين" (8) .
_________
(1) عيسى بن طهمان بن رامة الجشمي، أبو بكر البصري، سكن الكوفة، روى عن أنس وثابت البناني، والمساور مولى أبي برزة وغيرهم. انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر، 8 / 193.
(2) ثابت بن أسلم الإمام القدوة أبو محمد البناني، ولد في خلافة معاوية رضي الله عنه، وحدث عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن مغفل المزني، وعبد الله بن الزبير، وأبي برزة الأسلمي، وأنس بن مالك، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم. وكان من أئمة العلم والعمل رحمه الله. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 5 / 220.
(3) أنس بن مالك رضي الله عنه، تقدمت ترجمته في الحديث رقم 14.
(4) [الحديث 3107، طرفاه في: كتاب اللباس، باب قبالان في نعل ومن رأى قبالا واحدا واسعا، 7 / 64، برقم 5857 و 5858.
(5) من الطرف رقم: 5858.
(6) تقدمت ترجمتها في الحديث رقم 4.
(7) [الحديث 3108] طرفه في كتاب اللباس، باب الأكسية والخمائص، 7 / 53، برقم 5818. وأخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب التواضع في اللباس والاقتصار على الغليظ منه واليسير في اللباس والفرائض وغيرهما، وجواز لبس الثوب الشعر وما فيه أعلام، 3 / 1649، برقم 2080.
(8) من الطرف رقم: 5818.(1/867)
[حديث أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم كسر]
153 [ص:3109] حدّثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن عاصم، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أنّ قدح النبيّ صلى الله عليه وسلم كسر فاتخذ مكان الشّعب سلسلة من فضّة. قال عاصم (1) رأيت القدح وشربت فيه" (2) .
وفي رواية: "عن عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبيّ صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع فسلسله بفضّة، قال: وهو قدح جيّد عريض من نضار. قال أنس: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا القدح أكثر من كذا وكذا. قال: وقال ابن سيرين: (3) إنّه كان فيه حلقة من حديد فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضّة فقال له أبو طلحة: لا تغيرنّ شيئا صنعه رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فتركه" (4) .
* شرح غريب الحديث: * " نعلين جرداوين " أي لا شعر عليهما. (5) .
* " قبالان " القبال: زمام النعل، وهو السير الذي يكون بين الإصبع الوسطى والتي تليها (6) .
_________
(1) عاصم بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصري، مولى بني تميم، يقال: مولى عثمان، ويقال: مولى آل زياد، روى عن أنس وعبد الله بن سرجس، وعمر بن سلمة الجرمي، وغيرهم، كان من أهل مصر، وكان يتولى الولايات: فكان بالكوفة على الحسبة، والأوزان، وكان قاضيا بالمدائن لأبي جعفر، مات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وأربعين. انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر، 5 / 38.
(2) [الحديث 3109] طرفه في: كتاب الأشربة، باب الشرب من قدح النبي صلى الله عليه وسلم وآنيته، 6 / 316، برقم 5638.
(3) هو محمد بن سيرين الإمام أبو بكر الأنصاري، مولى أنس بن مالك رضي الله عنه، كان أبوه من سبي جرجرايا - بلد من أعمال النهروان - تملكه أنس رضي الله عنه ثم كاتبه على ألوف من المال فوفاه وعجل له مال الكتابة قبل حلوله، فامتنع أنس رضي الله عنه من أخذه، سمع أبا هريرة، وعمران بن حصين، وابن عباس، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، قال ابن عون: ثلاثة لم تر عيني مثلهم: ابن سيرين بالعراق، والقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بن حيوة بالشام، كأنهم التقوا فتواصوا، وكان ابن سيرين رحمه الله ينطق بالحكمة ومن ذلك قوله: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" [صحيح مسلم 1 / 14] ، وكان يأمر السلطان بالمعروف والحكمة، وقد جاء عنه عجائب في تفسير الرؤى، وكان له في ذلك تأييد إلهي، ولد رحمه الله لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتوفي لتسع مضين من شوال سنة عشر ومائة للهجرة. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 4 / 606 - 622.
(4) من الطرف رقم: 5638.
(5) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 260.
(6) انظر: المرجع السابق ص 260، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع الباء، مادة "قبل" 4 / 8.(1/868)
* " كساء ملبّدا " أي مرقعا. يقال: لبدت القميص ألبده، ولبدته، وألبدته إذا رقعته، ويقال للخرقة التي يرقع بها صدر القميص: اللبدة، والتي يرقع بها قبله: القبيلة، وقيل: الملبّد: الذي ثخن وسطه وصفق حتى صار يشبه اللبدة. (1) .
* " فاتخذ مكان الشعب سلسلة " الشعب: أي الصدع والشق. (2) .
* " نضار " قدح جيد عريض من نضار: أي من خشب نضار، وهو خشب معروف، وقيل: هو الأثل الورسيّ اللون (3) .
* الدراسة الدعوية للأحاديث: في هذه الأحاديث الثلاثة دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أهمية استخدام وسائل الإيضاح في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ.
2 - عظم محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
3 - من صفات الداعية: الزهد.
4 - من صفات الداعية: التواضع.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: أهمية استخدام وسائل الإيضاح في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ: إن استخدام وسائل الإيضاح الحسية في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ من الأمور المهمة؛ وقد استخدمها أنس بن مالك وعائشة رضي الله عنهما في هذه الأحاديث، فأنس: "أخرج نعلين جرداوين" وهما نعلا النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجت عائشة "إزارا غليظا مما يصنع باليمن وكساء"، وهذا فيه إيضاح للناس وتعليم لهم بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا، وإيثار الآخرة والرغبة فيها؛ لأن ما عند الله خير وأبقى. فينبغي للداعية أن يستخدم وسائل الإيضاح الحسية في دعوته إلى الله عزّ وجلّ،
_________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب اللام مع الباء، مادة: "لبد" 4 / 224.
(2) المرجع السابق، باب الشين مع العين، مادة: "شعب" 2 / 477.
(3) المرجع السابق، باب النون مع الضاد، مادة: "نضر" 5 / 71.(1/869)
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم هذه الوسائل، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خطوطا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به - أو قد أحاط به - وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطوط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا» (1) وقيل: هذه صفة الخط (2) .
: وهذا يؤكد للداعية أهمية استخدام الوسائل الحسية للإيضاح والتبيين وشد الانتباه للمدعوين والله المستعان.
ثانيا: عظم محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم حبا عظيما؛ وقد بلغ بهم هذا الحب العظيم إلى أن احتفظ بعضهم ببعض ما يختص به صلى الله عليه وسلم تبركا به صلى الله عليه وسلم، فقد احتفظ أنس رضي الله عنه بنعليه، وقدحه، واحتفظت عائشة رضي الله عنها، بإزاره، وكسائه كما في الحديث، وغير ذلك كثير، كالاحتفاظ بدرعه، وخاتمه (3) وهذا يؤكد حب الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله أكثر من أنفسهم وأموالهم، وأولادهم ووالديهم، والناس أجمعين، فينبغي لكل مسلم أن يكون كذلك (4) .
ثالثا: من صفات الداعية: الزهد: ظهر في هذه الأحاديث زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا؛ لكونه قبضه الموت وهو يلبس إزارا غليظا، وكساء ملبدا مرقعا، ويأكل في قدح من خشب النضار منصدع، قال الإمام النووي رحمه الله: "في هذه الأحاديث المذكورة في الباب ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الزهادة في الدنيا، والإعراض عن متاعها وملاذها، وشهواتها، وفاخر لباسها، ونحوه، واجتزائه بما يحصل به أدنى التجزئة في ذلك كله، وفيه الندب للاقتداء به صلى الله عليه وسلم في هذا وغيره" (5) وهذا يؤكد عظم
_________
(1) البخاري، كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله، 7 / 219، برقم 6417.
(2) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 11 / 237.
(3) انظر: منار القاري، لحمزة محمد قاسم، 4 / 132.
(4) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثامن، ورقم 63، الدرس الثامن.
(5) شرح النووي على صحيح مسلم، 14 / 301.(1/870)
زهده صلى الله عليه وسلم ورغبته فيما عند الله عزّ وجلّ. (1) .
رابعا: من صفات الداعية: التواضع: دل الحديث على أن التواضع من الصفات الحميدة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها؛ فقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم الإزار الغليظ والكساء المرقع كما في هذا الحديث تواضعا صلى الله عليه وسلم (2) وهذا يبين أن التواضع من الأخلاق الكريمة التي يحمد عليها المسلم، ويثاب عليها عند الله عزّ وجلّ، ويدخل الله عزّ وجلّ بها حبه في قلوب الناس (3) .
ولا شك أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في اللباس أجمل الهدي وأحسنه، فقد كان صلى الله عليه وسلم متواضعا في لباسه، ومع ذلك كان يتجمل للوفود، وفي يوم الجمعة، ويحث أمته على إظهار نعمة الله عليهم، فقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الرجل يحبّ أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله جميل يحبّ الجمال، الكبر: بطر الحق (4) وغمط (5) الناس» (6) وعن أبي الأحوص عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له: «إذا آتاك الله مالا فلير أثر نعمة الله عليك» (7) قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " لبس الدني من الثياب يذمّ في موضع ويحمد في موضع: فيذم إذا كان شهرة وخيلاء، ويمدح إذا كان تواضعا واستكانة، كما أن لبس الرفيع من الثياب يذمّ إذا كان تكبّرا وفخرا وخيلاء، ويمدح إذا كان تجملا وإظهارا لنعمة الله " (8) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الأول، ورقم 15 الدرس الأول.
(2) انظر: عمدة القاري للعيني، 15 / 32.
(3) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثالث.
(4) بطر الحق: دفعه وإنكاره، ترفعا وتجبرا. شرح النووي على صحيح مسلم، 2 / 449.
(5) غمط الناس: احتقارهم. المرجع السابق، 2 / 449.
(6) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، 1 / 93، برقم 91، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(7) أبو داود، كتاب اللباس، باب غسل الثوب وفي الخلقان، 4 / 51، برقم 4063، والنسائي، كتاب الزينة، باب ذكر ما يستحب من لبس الثياب وما يكره منها، 8 / 196، برقم 5294، والحاكم وصحح إسناده ووافقه الذهبي، 4 / 181، وأحمد في المسند بلفظ: "فإن الله عزّ وجلّ إذا أنعم على عبده نعمة أحب أن ترى عليه"، 3 / 473 - 474، وصححه الألباني في غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام، ص 63، برقم 75. وله شاهد عند الترمذي وحسنه "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"، 5 / 124، برقم 2819.
(8) زاد المعاد، 1 / 146.(1/871)
[حديث لو كان علي ذاكرا عثمان ذكره يوم جاءه ناس. . .]
154 [ص:3111] حدّثنا قتيبة بن سعيد: حدّثنا سفيان، عن محمّد بن سوقة، عن منذر، عن ابن الحنفيّة (1) قال: "لو كان عليّ رضي الله عنه ذاكرا عثمان رضي الله عنه ذكره يوم جاءه ناس فشكوا سعاة عثمان، فقال لي عليّ: اذهب إلى عثمان فأخبره إنها صدقة رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فمر سعاتك يعملون فيها (2) .
فأتيته بها فقال: أغنها عنّا. فأتيت بها عليّا فأخبرته فقال: ضعها حيث أخذتها" (3) وفي رواية: "وقال الحميديّ: حدّثنا سفيان: حدّثنا محمّد بن سوقة قال: سمعت منذرا الثّوريّ، عن ابن الحنفيّة قال: أرسلني أبي: خذ هذا الكتاب فاذهب به إلى عثمان، فإنّ فيه أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالصّدقة". (4) .
* شرح غريب الحديث: * " سعاة عثمان " الساعي هو الذي يستعمل على الصدقات ويتولىّ استخراجها من أربابها، وبه سمي عامل الزكاة: الساعي (5) .
* " أغنها عنا " أي اصرفها وكفها، كقوله تعالى {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] (6) أي يكفيه ويكفيه (7) .
_________
(1) محمد بن علي بن أبي طالب أبو القاسم المدني المعروف بابن الحنفية، وهي خولة بنت جعفر بن قيس من بني حنيفة، سبيت في الردة من اليمامة، روى عن أبيه، وعثمان، وعمار، ومعاوية، وأبي هريرة، وابن عباس رضي الله عنهم، ودخل على عمر، وكان رجلا صالحا، وتسميه الشيعة المهدى، وكانت شيعته تزعم أنه لم يمت لضعف عقولهم وجهلهم، قيل ولد في خلافة أبي بكر، وقيل: في خلافة عمر، مات سنة ثلاث وسبعين، وقيل: سنة ثمانين، وقيل: غير ذلك. انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر، 9 / 315.
(2) في النسخة السلفية المطبوعة مع فتح الباري "يعملون بها" 6 / 213، وفي نسخة استانبول 4 / 48 كما في النسخة المعتمدة.
(3) [الحديث 3111] طرفه في كتاب: فرض الخمس، باب ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه وما استعمل الخلفاء بعده من ذلك مما لم يذكر قسمته، ومن شعره ونعله وآنيته مما تبرك أصحابه وغيرهم بعد وفاته، 4 / 58، برقم 3112.
(4) من الطرف رقم: 3112.
(5) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع العين، مادة: "سعى" 2 / 369.
(6) سورة عبس، الآية: 37.
(7) النهابة في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الغين مع النون، مادة: "غنا" 3 / 392.(1/872)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: سلامة القلب وحفظ اللسان.
2 - من موضوعات الدعوة: الحض على النصيحة بالحكمة.
3 - من صفات الداعية: التثبت.
4 - من وسائل الدعوة: إرسال الكتب والرسائل.
5 - أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية.
6 - أهمية تربية الأبناء وتدريبهم على الأمور المهمة.
7 - من أصناف المدعوين: أهل العلم والتقوى.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: سلامة القلب وحفظ اللسان: إن سلامة القلب وحفظ اللسان من الصفات الكريمة الجميلة التي يتأكد على كل مسلم الاتصاف بها، وخاصة الدعاة إلى الله عزّ وجلّ، وقد دل قول محمد بن علي ابن الحنفية على ذلك حين قال في هذا الحديث: "لو كان عليّ رضي الله عنه ذاكرا عثمان رضي الله عنه ذكره يوم جاءه ناس فشكوا سعاة عثمان "، والمقصود لو كان عليّ رضي الله عنه ذاكرا عثمان رضي الله عنه بما لا يليق ولا يحسن لذكره يوم جاءه ناس فشكوا سعاة عثمان، ولكن، لسلامة قلبه أرسل إليه بالكتاب الذي فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة (1) وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل ومكانة صاحب القلب السالم من الحقد والبغضاء والحسد، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؛ قال: «كلّ مخموم القلب صدوق اللسان"، قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقي، النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غلّ، ولا حسد» (2) .
_________
(1) انظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري، 13 / 89.
(2) أخرجه ابن ماجه، في كتاب الزهد، باب الورع والتقوى، 4 / 149، برقم 4216، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة، 2 / 411.(1/873)
وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة الرجل الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ثلاث مرات في ثلاثة أيام فتابعه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ ليقتدي به فبقي معه ثلاثة أيام فلم ير عملا زائدا على عمله، ولم يقم من الليل شيئا إلا أنه إذا استيقظ من الليل وتقلب على فراشه ذكر الله عزّ وجلّ وكبره حتى يقوم لصلاة الفجر، ولم يسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت الثلاث ليال كاد أن يحتقر عبد الله عمل الرجل، فسأله وقال: ما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "ما هو إلا ما رأيت غير أنى لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا، ولا أحسد أحدا على خير أعطّاه الله إياه"، فقال عبد الله بن عمرو: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق (1) .
وهذا كله يؤكد على كل مسلم أن يسأل الله عزّ وجلّ أن يطهر قلبه من الحقد، والحسد، والبغضاء للمسلمين، وأن يطهر لسانه من قول الزور، ومن كل ما يغضب الله عزّ وجلّ، والله المستعان.
ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحض على النصيحة بالحكمة: النصيحة لله وكتابه، ورسوله، وأئمة المسلمين، وعامتهم من أعظم القربات، وأهم الواجبات؛ ولهذه الأهمية نصح عليّ رضي الله عنه لعثمان بن عفان رضي الله عنه، كما في هذا الحديث، فأرسل إليه كتاب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ويستفاد من هذا الحديث: بذل النصيحة للأمراء، وكشف أحوال من يقع منه الفساد من أتباعهم، وللإمام التنقيب عن ذلك" (2) وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على النصيحة بالحكمة، فعن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة" قلنا: لمن يا رسول الله؛ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم» (3) .
_________
(1) أحمد في المسند، 3 / 166، وإسناده جيد.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 215.
(3) أخرجه مسلم، في كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة 1 / 74، برقم 55.(1/874)
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنّصح لكلّ مسلم» (1) .
، والنصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له، وقيل: النصيحة مأخوذة من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه، فشبّهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بما يسده من خلل الثوب، وقيل: إنها مأخوذة من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع، شبّهوا تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط. فينبغي للمسلم أن يلمّ شعث أخيه كما يلم الخياط خرق الثوب ويخلص النصيحة لأخيه صافية كما يصفو العسل (2) ومما يؤكد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، وحفظها، وبلغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغلّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم» (3) وهذه الثلاث تستصلح بها الثوب فمن تمسك بها سلم قلبه من الحقد والحسد، والخيانة، والشحناء، ولا يبقى فيه شيء من ذلك (4) .
فينبغي لكل مسلم النصح لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، ويحث الناس على ذلك، والله المستعان (5) .
ثالثا: من صفات الداعية: التثبت: لا شك أن التثبت في الأمور وعدم العجلة من الأمور المهمة التي ينبغي العناية بها؛ ولهذا تثبّت عثمان بن عفان رضي الله عنه - كما في هذا الحديث - فلم يعجل على عقاب سعاته ولم يعزلهم في الحال، وهذا يدل على تثبته رضي الله عنه؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "يحتمل أن عثمان رضي الله عنه لم يثبت عنده ما طعن به
_________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس، 8 / 154، برقم 7204، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، 1 / 75، برقم 56.
(2) انظر: المعلم بفوائد مسلم، لأبي عبد الله محمد بن علي بن عمر المازري، 1 / 197، وشرح النووي على صحيح مسلم، 2 / 397، ومفتاح دار السعادة لابن القيم 1 / 274.
(3) الترمذي، 5 / 34، برقم 2658، وأحمد في المسند، 1 / 437، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 6، الدرس الأول، ص 74.
(4) انظر: مفتاح دار السعادة، لابن القيم، 1 / 277.
(5) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 2 / 397.(1/875)
على سعاته، أو ثبت عنده وكان التدبير يقتضي تأخير الإنكار، أو كان الذي أنكره من المستحبات لا من الواجبات؛ ولذلك عذره عليّ ولم يذكره بسوء" فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 215، وقيل: إن عثمان رضي الله عنه لم يرد الصحيفة إلا لأن عنده علما من ذلك، فاستغنى به، ورد الصحيفة بحكمة ورفق (1) وكل ما تقدم يوضح للداعية أهمية التثبت والأناة في الأمور؛ لما في ذلك من الصلاح والإصلاح، وسلامة القلوب واجتماع الكلمة (2) .
رابعا: من وسائل الدعوة: إرسال الكتب والرسائل: إن إرسال الكتب والرسائل من الوسائل النافعة التي ينبغي أن تستخدم في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ؛ ولهذه الأهمية أرسل عليّ رضي الله عنه بكتاب فيه الأمر بالزكاة إلى عثمان رضي الله عنه، كما قال محمد ابن الحنفية في هذا الحديث: "أرسلني أبي: خذ هذا الكتاب فاذهب به إلى عثمان؛ فإن فيه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة"، وهذا يؤكد أهمية إرسال الرسائل والكتب؛ للدعوة إلى الله وتبليغ العلم النافع للناس (3) .
خامسا: أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية: الاستدلال بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة أو من أحدهما من أهم الأمور وأعظم الطاعات، وقد دل على ذلك في هذا الحديث قول علي رضي الله عنه لابنه محمد: "خذ هذا الكتاب فاذهب به إلى عثمان؛ فإن فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة". فينبغي للداعية أن يعتني بذكر الأدلة على ما يقول، وعلى ما يدعو الناس إليه؛ لما في ذلك من إيجاد الثقة بما يقول في قلوب المدعوين، وحصول اليقين بصدقه، ومن ثم قبول قوله ودعوته (4) .
_________
(1) انظر: جامع الأصول، لابن الأثير، 4 / 652.
(2) انظر: الحديث رقم 91، الدرس الثاني، ورقم 92، الدرس الخامس، ورقم 116، الدرس الخامس.
(3) انظر: الحديث رقم 90، الدرس الثاني، ورقم 115، الدرس الثاني.
(4) انظر: الحديث رقم 94، الدرس الثامن، ورقم 120، الدرس الثاني.(1/876)
سادسا: أهمية تربية الأبناء وتدريبهم على الأمور المهمة: ظهر في هذا الحديث أهمية التربية والتدريب للأبناء على الأمور المهمة، والدعوة إلى الله عزّ وجلّ، ففيه أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أرسل ابنه محمد ابن الحنفية بكتاب الصدقة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، فيؤخذ من ذلك أنه ينبغي للداعية أن يربي أبناءه ويدربهم على تحمل المسؤولية، والقيام بالأمور المهمة؛ ليتعودوا على ذلك؛ ويشعروا بالثقة بالله ثم بأنفسهم، وحمل مصالح المسلمين، والله عزّ وجلّ المستعان.
سابعا: من أصناف المدعوين: أهل العلم والتقوى: المدعوّون أصناف على حسب الأحوال، وقد يكون المدعو من أهل العلم والتقوى؛ لأن المسلم مرآة أخيه، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث من إرسال علي رضي الله عنه إلى عثمان بكتاب الصدقة؛ ليبلغه سعاته؛ لأن فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، وهذا يوضح ويدل على أن كل إنسان يحتاج إلى توجيه إخوانه وتذكيرهم له، فلا يأنف، ولا يرد الحق، بل عليه أن يقبل الحق بدليله (1) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 71، الدرس السابع، ورقم؛ 76 الدرس الرابع، ورقم 77 الدرس السابع عشر.(1/877)
[باب الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمساكين]
[حديث أن فاطمة اشتكت ما تلقى من الرحى مما تطحنه]
6 - باب الدّليل على أنّ الخمس لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمساكين وإيثار النّبي صلى الله عليه وسلم أهل الفاقّة والأرامل، حين سألته فاطمة وشكت إليه الطّحن والرّحى أن يخدمها من السّبي فوكلها إلي الله. 155 [ص:3113] حدّثنا بدل بن المحبّر: أخبرنا شعبة: أخبرني الحكم قال: سمعت ابن أبي ليلى: أخبرنا عليّ (1) .
«أنّ فاطمة (2) عليها السلام اشتكت ما تلقى من الرّحى ممّا تطحنه، فبلغها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسبي، فأتته تسأله خادما فلم توافقه، فذكرت لعائشة، فجاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك عائشة له، فأتانا وقد دخلنا مضاجعنا فذهبنا لنقوم فقال: "على مكانكما"، حتّى وجدت برد قدمه على صدري، فقال: "ألا أدلكما على خير ممّا سألتماه؛ إذا أخذتما مضاجعكما فكبّرا الله أربعا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وسبّحا ثلاثا وثلاثين، فإنّ ذلك خير ممّا سألتماه» (3) .
وفي رواية: "فذهبت لأقوم فقال: «على مكانكما» فقعد بيننا حتّى وجدت برد قدميه على صدري. . " (4) .
وفي رواية: «إذا أخذتما مضاجعكما أو أويتما إلى فراشكما فسبّحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبّرا أربعا وثلاثين» (5) .
وفي رواية: "عن عليّ بن أبي طالب: «أنّ فاطمة عليها السلام أتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم تسأله خادما فقال: "ألا أخبرك ما هو خير لك منه: تسبّحين عند منامك ثلاثا وثلاثين،
_________
(1) علي بن أبي طالب رضي الله عنه، تقدمت ترجمته في الحديث رقم 77.
(2) تقدمت ترجمتها في الحديث رقم 147.
(3) [الحديث 3113] أطرافه في: كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن رضي الله عنه، 4 / 250، برقم 3705. وكتاب النفقات، باب عمل المرأة في بيت زوجها، 6 / 236، برقم 5361. وكتاب النفقات، باب خادم المرأة، 6 / 236، برقم 5362. وكتاب الدعوات، باب التكبير والتسبيح عند المنام، 7 / 192، برقم 6318. وأخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التسبيح أول النهار وعند النوم، 4 / 2091، برقم 2727.
(4) من الطرف رقم 3705.
(5) من الطرف رقم: 5361.(1/878)
وتحمدين ثلاثا وثلاثين، وتكبرين الله أربعا وثلاثين» ، ثمّ قال سفيان إحداهنّ أربع وثلاثون فما تركتها بعد. قيل: ولا ليلة صفّين؛ قال: ولا ليلة صفّين" (1) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء.
2 - من صفات الداعية: التواضع.
3 - أهمية أسلوب السؤال والجواب في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ.
4 - من موضوعات الدعوة: تعليم الأذكار المشروعة.
5 - من صفات الداعية: الرحمة.
6 - من أصناف المدعوين: الأهل والأقارب.
7 - أهمية الحرص على المداومة على العمل الصالح.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء: الصبر على الابتلاء والامتحان والاختبار من صفات الداعية؛ ولهذا صبرت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على التعب، ومشقة الرحى والطحن، وهي سيدة النساء بنت سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر القرطبي وابن حجر رحمهما الله أن في هذا الحديث من الفوائد: ما كان عليه السلف الصالح من شظف العيش وقلة الشيء، وشدة الحال، وأن الله حماهم الدنيا مع إمكان ذلك صيانة لهم من تبعاتها، وتلك سنة أكثر الأنبياء، والأولياء (2) فإذا كان هؤلاء صبروا فينبغي التأسي بهم والصبر على الابتلاء؛ أسأل الله لي ولجميع المسلمين العافية في الدنيا والآخرة (3) .
_________
(1) من الطرف رقم 5362.
(2) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 7 / 54، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، 11 / 124.
(3) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 66، الدرس الأول.(1/879)
ثانيا: من صفات الداعية: التواضع: دل هذا الحديث على عظم تواضع النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا ذهب بنفسه في وقت النوم والراحة إلى بنته فاطمة وعلي رضي الله عنهما، ليعلمهما ما ينفعهما، فينبغي للداعية أن يكون متواضعا تأسّيا برسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
ثالثا: أهمية أسلوب السؤال والجواب في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ: ظهر في هذا الحديث أهمية أسلوب السؤال والجواب؛ لاستخدام النبي صلى الله عليه وسلم له بقوله لعلي وفاطمة رضي الله عنهما: «ألا أدلكم على خير مما سألتماه" ثم أخبرهما ودلهما على ذلك فقال: "إذا أخذتما مضاجعكما فكبّرا الله أربعا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وسبحا ثلاثا وثلاثين؛ فإن ذلك خير مما سألتماه» ، فالنبي صلى الله عليه وسلم سألهما؛ ليشد الانتباه، ثم أجابهما صلى الله عليه وسلم بعد أن أحضرا ذهنيهما، وهذا يؤكد أهمية السؤال والجواب في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ (2) .
رابعا: من موضوعات الدعوة: تعليم الأذكار المشروعة: لاشك أن من أعظم الموضوعات في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ تعليم الناس الأذكار المشروعة؛ لأن بها ترفع الدرجات، ويبارك الله عزّ وجلّ في الأوقات، ويحفظ بها العبد المسلم من الشياطين، ويزيد الله بها في النشاط والقوة على الطاعات والأعمال، وبها تطمئن القلوب كما قال الله عزّ وجلّ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] (3) .
وقد دل هذا الحديث على مشروعية تعليم الأذكار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي وفاطمة رضي الله عنهما: «إذا أخذتما مضاجعكما فكبّرا الله أربعا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وسبحا ثلاثا وثلاثين، فإن ذلك خير مما سألتماه» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ويستفاد من الحديث أن الذي يلازم ذكر الله يعطى قوة أعظم من القوة التي يعملها له الخادم، أو تسهّل الأمور عليه بحيث يكون تعاطيه أموره أسهل من تعاطي الخادم
_________
(1) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثالث.
(2) انظر: الحديث رقم 58، الدرس الثالث، ورقم 110، الدرس الرابع، ورقم 14، الدرس الرابع.
(3) سورة الرعد، الآية: 28.(1/880)
لها" (1) وقال العلامة الملا علي القاري: "كأن قراءة هذه الأذكار تزيل تعب خدمة النهار والآلام" (2) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "وهذا يدل على أن الذكر يعين ويستعان به على كل الأمور" (3) وهذا يؤكد تعليم الأذكار المشروعة للمدعوين على حسب الأحوال، والأوراد، والأوقات، والمناسبات التي تشرع فيها الأذكار (4) .
خامسا: من صفات الداعية: الرحمة: إن الرحمة من أعظم الصفات التي ينبغي للداعية أن يتحلىّ بها؛ ولهذا ظهرت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة رضي الله عنها في هذا الحديث، وذلك أنه عندما أخبرته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن فاطمة رضي الله عنها جاءت تسأل خادما، فذهب النبي إلى فاطمة وقت الراحة والنوم رحمة بها وشفقة عليها، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفيه بيان غاية التعطف والشفقة على البنت والصهر" (5) وهذا يوضح ويؤكد أهمية الرحمة والشفقة على الأقارب، والمدعوين. (6) .
سادسا: من أصناف المدعوين: الأهل والأقارب: دعوة الأقربين من أهم المهمات وأعظم القربات، وأولى الواجبات؛ ولهذا اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم ابنته فاطمة رضي الله عنها وابن عمه وصهره علي رضي الله عنه هذا الذكر العظيم: "إذا «أخذتما مضاجعكما فكبرا الله أربعا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وسبحا ثلاثا وثلاثين» ، فنفعهما الله به، ونفع به المخلصين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "يستفاد من هذا الحديث حمل
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 9 / 506، وانظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للملا علي القاري 5 / 233.
(2) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 5 / 233.
(3) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3113 من صحيح البخاري، في جامع الإمام تركي بن عبد الله بالرياض.
(4) انظر: الحديث رقم 36، الدرس الثامن.
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 11 / 124.
(6) انظر: الحديث رقم 5، الدرس الأول، ورقم 9، الدرس الثالث، ورقم 50، الدرس الرابع.(1/881)
الإنسان أهله على ما يحمل عليه نفسه من التقلل والزهد في الدنيا، والقنوع بما أعد الله لأوليائه الصابرين في الآخرة" (1) .
وهذا يؤكد العناية بدعوة الأهل والأقارب وأنهم من أصناف المدعوين الذين ينبغي أن يعتني بهم الداعية عناية خاصة (2) ؛ لأن الله عزّ وجلّ قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] (3) .
سابعا: أهمية الحرص على المداومة على العمل الصالح: ظهر في هذا الحديث أهمية الحرص على المداومة على العمل الصالح وملازمته في الشدة والرخاء؛ ولهذا قال علي رضي الله عنه: "فما تركتها بعد" أي لم يترك جملة التسبيح والتحميد والتكبير بالعدد المذكور بعد أن سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ولا ليلة صفين؛ قال: "ولا ليلة صفين"، وهذا فيه منقبة لعلي رضي الله عنه؛ فقد داوم على هذا العمل الصالح، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفيه أن من واظب على الذكر عند النوم لم يصبه إعياء؛ لأن فاطمة شكت التعب من العمل فأحالها صلى الله عليه وسلم على ذلك" (4) وهذا يؤكد أهمية قيمة المداومة على العمل الصالح. (5) .
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 216، وانظر: 11 / 124.
(2) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الأول، ورقم 36، الدرس الخامس.
(3) سورة التحريم، الآية: 6.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 11 / 125.
(5) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الخامس عشر، ورقم 18، الدرس السادس.(1/882)
[باب قول الله تعالى فأن لله خمسه وللرسول يعني للرسول قسم ذلك]
[حديث إنما أنا قاسم وخازن والله يعطي]
7 - باب قول الله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] (1) . يعني للرّسول قسم ذلك قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنمّا أنا قاسم وخازن، والله يعطي» .
156 [ص:3114] حدّثنا أبو الوليد: حدثنا شعبة، عن سليمان ومنصور وقتادة: أنهم سمعوا سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله (2) .
رضي الله عنه، أنه قال: «ولد لرجل منّا من الأنصار غلام، فأراد أن يسمّيه محمّدا» - قال شعبة في حديث منصور: إنّ الأنصاريّ قال: «حملته على عنقي، فأتيت به النّبيّ صلى الله عليه وسلم» . وفي حديث سليمان: «ولد له غلام فأراد أن يسمّيه محمّدا قال: سمّوا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، فإنّي إنّما جعلت قاسما أقسم بينكم» . وقال حصين: «بعثت قاسما أقسم بينكم» . وقال عمرو: أخبرنا شعبة، عن قتادة: سمعت سالما، عن جابر: «أراد أن يسمّيه القاسم فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "سمّوا باسمي، ولا تكنّوا بكنيتي» (3) .
وفي رواية: «ولد لرجل منّا غلام فسمّاه القاسم، فقالت الأنصار: لا نكنيك أبا القاسم ولا ننعمك عينا. فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ولد لي غلام فسمّيته القاسم، فقالت الأنصار: لا نكنيك أبا القاسم ولا ننعمك عينا. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: " أحسنت الأنصار، سمّوا باسمي ولا تكنّوا بكنيتي، فإنّما أنا قاسم» (4) .
وفي رواية: «ولد لرجل منّا غلام فسماه القاسم، فقلنا: لا نكنيك أبا القاسم ولا كرامة، فأخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: "سمّ ابنك عبد الرّحمن» (5) .
_________
(1) سورة الأنفال، الآية: 41.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 32.
(3) [الحديث 3114] أطرافه في: كتاب فرض الخمس، باب قول الله تعالى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ 4 / 59، برقم 3115. وكتاب المناقب، باب كنية النبي صلى الله عليه وسلم، 4 / 197، برقم 3538. وكتاب الأدب، باب أحب الأسماء إلى الله عزّ وجلّ، 7 / 151، برقم 6186. وكتاب الأدب، باب كنية النبي صلى الله عليه وسلم: "سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي"، 7 / 151، برقم 6187 و6189. وكتاب الأدب، باب من سمى بأسماء الأنبياء، 7 / 153، برقم 6196. وأخرجه مسلم في كتاب الأدب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم، وبيان ما يستحب من الأسماء، 3 / 1682، برقم 2133.
(4) من الطرف رقم: 3115.
(5) من الطرف رقم: 6186.(1/883)
وفي رواية: «سمّوا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي، فإنّما أنا قاسم أقسم بينكم» (1) .
[حديث إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت]
157 [ص:3117] حدّثنا محمّد بن سنان: حدّثنا فليح: حدّثنا هلال، عن عبد الرّحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة (2) .
رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أعطيكم ولا أمنعكم، إنّما أنا قاسم أضع حيث أمرت» .
* شرح غريب الحديثين: * "لا ننعمك عينا" أي لا نقول لك: نعمت عينك، بمعنى قرّت، ولا نقر عينك بذلك، ولا نرضيك به، ولا نساعدك عليه (3) .
* " إنما أنا قاسم " إشارة إلى أن هذه الكنية تصدق على النبي صلى الله عليه وسلم وحده؛ لأنه يقسم مال الله بين المسلمين كما أمره الله عزّ وجلّ، وغيره ليس بهذه المرتبة (4) .
* "ولا كرامة" أي لا نكرمك بذلك (5) .
* الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحض على احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعزيره.
2 - عظم محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم.
3 - من موضوعات الدعوة: الحث على اختيار التسمية بالأسماء الحسنة.
4 - من أساليب الدعوة: تطييب قلوب المدعوين وربطها بخالقها.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحض على احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعزيره: إن هذا الحديث يدل على أن الحض على احترام النبي صلى الله عليه وسلم، وتوقيره من
_________
(1) من الطرف رقم: 6196.
(2) أبو هريرة رضي الله عنه تقدمت ترجمته في الحديث رقم 7.
(3) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 210، وجامع الأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لابن الأثير، 1 / 381.
(4) انظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري، 22 / 49.
(5) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 210.(1/884)
الموضوعات التي ينبغي أن يحض الناس عليها؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي» ، وقد ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «نادى رجل رجلا بالبقيع: يا أبا القاسم، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني لم أعنك، إنما دعوت فلانا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي» (1) .
. قال الإمام القرطبي رحمه الله عن هذا الحديث: "صدر هذا القول عن النبي صلى الله عليه وسلم مرات، فعلى حديث أنس إنما قاله حين نادى رجل: يا أبا القاسم، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل لم أعنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك القول، وهذه حالة تنافي الاحترام، والتعزير المأمور به، فلما كانت الكناية بأبي القاسم تؤدي إلى ذلك نهى عنها" (2) .
، وقد أمر الله عزّ وجلّ بالتزام الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واحترامه وتوقيره فقال: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] (3) .
، وقال عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1] (4) .
، وقال عزّ وجلّ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] (5) .
، وحرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وتوقيره، لازم كحال حياته، وذلك عند ذكر حديثه، وسنته، وسماع اسمه، وسيرته، وتعلم سنته، والدعوة إليها ونصرتها (6) .
. ولاشك أنه ينبغي للداعية أن يحض الناس على التزام الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإيمان الصادق به وبما جاء به، وطاعته، واتباعه واتخاذه قدوة في جميع الأحوال إلا ما كان خاصا به، ومحبته أكثر من النفس، والأهل والولد، والوالد، والناس أجمعين، والصلاة عليه عند ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم، ووجوب التحاكم إليه والرضى بحكمه، وإنزاله مكانته التي أنزله الله إياها صلى الله عليه وسلم (7) .
، وقد كان النهي عن الجمع بين اسمه وكنيته في
_________
(1) مسلم، كتاب الأدب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم، وبيان ما يستحب من الأسماء 3 / 1682، برقم 2131.
(2) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5 / 456.
(3) سورة الفتح، الآية: 9.
(4) سورة الحجرات، الآية: 1.
(5) سورة النور، الآية: 63.
(6) انظر: الشفاء بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، 2 / 595، 612.
(7) انظر: المرجع السابق 2 / 537 - 1106، وجلاء الأفهام في الصلاة والسلام على محمد خير الأنام، لابن القيم، ص 29 - 482.(1/885)
حياته أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فقال الإمام القرطبي رحمه الله: "وذهب الجمهور من السلف والخلف وفقهاء الأمصار إلى جواز كل ذلك، فله أن يجمع بين اسمه وكنيته، وله أن يسمي بما شاء من الاسم والكنية" (1) .
وقد ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «قلت: يا رسول الله، إن ولد لي من بعدك ولد أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؛ قال: "نعم» (2) .
، وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "نهى عليه الصلاة والسلام عن التكني بكنيته وأذن في التسمي باسمه، ثم بعد أن مات زالت العلة فجاز التكني بكنيته بعد موته كما جاز التسمي باسمه في حياته وبعد موته، والجمع بين اسمه وكنيته بعد موته" (3) .
. فينبغي للداعية أن يبين للناس حقوق النبي صلى الله عليه وسلم، ويحضهم على احترامه وتوقيره ونصرته صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: عظم محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: لاشك أن الصحابة يحبون النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أنفسهم، وأولادهم، ووالديهم والناس أجمعين، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث؛ لقول الأنصار: «ولد لرجل منا غلام فسماه القاسم فقلنا: لا نكنيك أبا القاسم ولا كرامة» ، وفي لفظ: «لا نكنيك أبا القاسم ولا ننعمك عينا» . . "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحسنت الأنصار سموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي فإنما أنا قاسم» ، وهذا يؤكد محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي التأسي بهم رضي الله عنهم. (4) .
ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحث على اختيار التسمية بالأسماء الحسنة: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة حث الناس على اختيار الأسماء الطيبة الحسنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث لرجل من الأنصار:
_________
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5 / 458.
(2) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الرخصة في الجمع بينهما، 4 / 292، برقم 4967، والترمذي، كتاب الأدب، باب ما جاء في كراهية الجمع بين اسم النبي صلى الله عليه وسلم وكنيته، 5 / 137، برقم 2843، وقال: هذا حديث صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 3 / 938.
(3) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3114 و 3115 من صحيح البخاري.
(4) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثامن، ورقم 63، الدرس الثامن.(1/886)
" سمّ ابنك عبد الرحمن "، وهذا فيه حث وتأكيد على التسمية بهذا الاسم؛ وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن» (1) .
، وهذا يؤكد للداعية أهمية حض الناس على تسمية أولادهم بالأسماء الطيبة الحسنة، والله المستعان (2) .
رابعا: من أساليب الدعوة: تطييب قلوب المدعوين وربطها بخالقها: إن في هذين الحديثين دلالة واضحة على أن من أساليب الدعوة إلى الله عزّ وجلّ تطييب قلوب المدعوين وربطها بخالقها، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا قاسم أقسم بينكم» ، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «ما أعطيكم ولا أمنعكم إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت» ، أي لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا إلا بأمر الله عزّ وجلّ (3) .
قال الإمام القرطبي رحمه الله: " فإنما أنا قاسم " "يعني أنه هو الذي يبين قسم الأموال في المواريث، والغنائم، والزكوات، والفيء وغير ذلك من المقادير، فيبلغ عن الله حكمه، ويبيّن قسمه، وليس ذلك لأحد إلا له" (4) .
، وهذا فيه تطييب لقلوب المدعوين وربط لها بخالقها، ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي» . . . " (5) .
. قال ابن بطال رحمه الله: "معناه أني لم أستأثر من مال الله تعالى شيئا دونكم، وقاله تطييبا لقلوبهم حين فاضل في العطاء، فقال: الله هو الذي يعطيكم لا أنا، وإنما أنا قاسم فمن قسمت له شيئا فذلك نصيبه قليلا كان أو كثيرا" (6) .
، وهذا يؤكد أهمية تطييب قلوب المدعوين بما يدخل السرور عليهم ويربط قلوبهم بربهم عزّ وجلّ.
_________
(1) مسلم، كتاب الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم، وبيان ما يستحب من الأسماء، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، 3 / 1682، برقم 2132.
(2) انظر: تحفة المودود بأحكام المولود، لابن القيم، ص 71.
(3) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 6 / 218.
(4) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5 / 457.
(5) متفق عليه من حديث معاوية رضي الله عنه: البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، 1 / 30، برقم 71، ومسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، 2 / 719، برقم 1037.
(6) نقلا عن النووي من شرح صحيح مسلم، 14 / 362.(1/887)
[حديث إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق]
158 [ص:3118] حدّثنا عبد الله بن يزيد: حدّثنا سعيد بن أبي أيّوب قال: حدّثني أبو الأسود، عن ابن أبي عيّاش - واسمه نعمان -، عن خولة الأنصاريّة (1) .
رضي الله عنها قالت: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ رجالا يتخوّضون في مال الله بغير حقّ، فلهم النّار يوم القيامة» .
* شرح غريب الحديث: * " يتخوضون في مال الله " أي يتصرفون فيه ويتقحمون في استحلاله، وأصل الخوض: المشي في الماء وتحريكه، ثم استعمل في التلبس في الأمر والتصرف فيه: والمقصود بالتخوض في المال: التصرف فيه بما لا يرضي الله عزّ وجلّ، وقيل: هو التخليط في تحصيله من غير وجهه كيف أمكن. (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: التحذير من صرف الأموال في الباطل.
2 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
3 - من أساليب الدعوة: عدم التصريح بذكر اسم المخطئ.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: التحذير من صرف الأموال في الباطل: إن التحذير من صرف الأموال في الباطل من موضوعات الدعوة؛ ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن التصرف في المال بما لا يرضي الله عزّ وجلّ، وقيل عن التخليط في تحصيله من غير وجهه كيف أمكن (3) .
، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة» ، ويدخل في ذلك
_________
(1) خولة بن ثامر وثامر اسمه قيس وثامر لقب، الأنصارية رضي الله عنها لها صحبة، وأخرج حديثها البخاري وأبو داود وغيرها. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 4 / 289، وتهذيب التهذيب له، 12 / 444 و 499، وتقريب التهذيب له ص 1381.
(2) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 576، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير باب الخاء مع الواو، مادة: "خوض" 2 / 88.
(3) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 576، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الخاء مع الواو، مادة: "خوض" 2 / 88.(1/888)
المال الذي جعل في مصالح المسلمين فقسم بالباطل بغير عدل، أو بغير إذن الإمام، لأن ما في بيت مال المسلمين: من الزكاة، والخراج، والجزية، والغنيمة، وغير ذلك يجب العناية به عناية فائقة كما يرضي الله عزّ وجلّ (1) .
قال الحافظ ابن حجر رضي الله عنه: " من مال الله " "مظهر أقيم مقام المضمر إشعارا بأنه لا ينبغي التخوض في مال الله ورسوله، والتصرف فيه بمجرد التشهّي" (2) .
، وذكر رحمه الله أن في هذا الحديث من الفوائد: "أن من أخذ من الغنائم شيئا بغير قسم الإمام كان عاصيا، وفيه ردع الولاة أن يأخذوا من المال شيئا بغير حقه، أو يمنعوه من أهله" (3) .
، وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "يجب أن تصرف الأموال في الطرق الشرعية، ومن خالف ذلك فهو متوعّد بالنار" (4) .
وقد نهى الله عزّ وجلّ عن أكل الأموال بالباطل فقال: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] (5) .
وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه» (6) .
، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا: فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، ولا تفرقوا، ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» (7) .
، وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عزّ وجلّ حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات. وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال
_________
(1) انظر: إرشاد الساري للقسطلاني 5 / 205، ومرقاة المفاتيح للملا علي القاري 7 / 317.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 219.
(3) المرجع السابق، 6 / 219، وانظر: عمدة القاري للعيني، 15 / 40.
(4) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3118، من صحيح البخاري.
(5) سورة البقرة، الآية: 188 وانظر سورة النساء، الآية: 29.
(6) الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب في القيامة، 4 / 612، برقم 2417، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب للمنذري ص 54، برقم 122، وانظر: الترغيب والترهيب لعبد العظيم بن عبد القوي المنذري، 1 / 170 و4 / 299.
(7) مسلم، كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، والنهي عن منع وهات، وهو الامتناع من أداء حق لزمه أو طلب ما لا يستحقه، 3 / 1340، برقم 1715.(1/889)
وإضاعة المال» (1) .
، وهذا يؤكد على الداعية العناية بتحذير الناس عن إضاعة المال وعن صرفه في الباطل، وعن اكتسابه من غير حله والله المستعان.
ثانيا: من أساليب الدعوة: الترهيب: إن الترهيب من الأساليب المهمة التي ينبغي للداعية أن يعتني بها في دعوته إلى الله عزّ وجلّ؛ ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بأسلوب الترهيب فقال: «إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق، لهم النار يوم القيامة» ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله على قوله صلى الله عليه وسلم: «فلهم النار يوم القيامة» : "حكم مرتب على الوصف المناسب، وهو الخوض في مال الله، ففيه إشعار بالغلبة" (2) .
، وهذا يؤكد استخدام هذا الأسلوب؛ للتنفير من صرف الأموال في غير حق، ومن اكتسابها من غير الطرق الشرعية (3) .
ثالثا: من أساليب الدعوة: عدم التصريح بذكر اسم المخطئ: عدم التصريح بذكر اسم المخطئ وعدم مواجهة الناس بالعتاب من أساليب الدعوة التي ينبغي للداعية العناية بها في دعوته إلى الله عزّ وجلّ؛ ولهذا والله أعلم لم يصرح النبي صلى الله عليه وسلم بذكر الرجال الذين يتخوضون في مال الله؛ بل قال: «إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة» ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم هذا الأسلوب كثيرا، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه، أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟» . . " (4) .
، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم» (5) .
، وغير ذلك كثير في أساليبه صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ (6) .
_________
(1) البخاري، كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب ما ينهى عن إضاعة المال، 3 / 120، برقم 2408، ومسلم، كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، 3 / 1341، برقم 593.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 219.
(3) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر، ورقم 12، الدرس الثالث، وانظر: الكبائر، للحافظ محمد بن أحمد الذهبي ص 88، وتنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين وتحذير السالكين من أفعال الهالكين، للإمام أحمد بن إبراهيم النحاس، ص 149 وص 252.
(4) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق في المسجد، 1 / 389، برقم 550، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) أخرجه البخاري، 1 / 205، برقم 750، وتقدم تخريجه، في الحديث رقم 10، الدرس الرابع، ص 123.
(6) انظر: صحيح البخاري، الحديث رقم 614، ورقم 2561، ورقم 6101، ومسلم برقم 651، ورقم 1401، ورقم 2356.(1/890)
[باب قول النبي صلى الله عليه وسلم أحلت لكم الغنائم]
[حديث أحلت لكم الغنائم]
8 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحلّت لكم الغنائم» وقول الله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] (1) .
، وهي للعامّة حتّى يبيّنه الرّسول صلى الله عليه وسلم.
159 [ص:3121] حدّثنا إسحاق سمع جريرا، عن عبد الملك، عن جابر بن سمرة (2) .
رضي الله عنهما قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والّذي نفسي بيده لتنفقنّ كنوزهما في سبيل الله» (3) .
* شرح غريب الحديث: * " كسرى " لقب لكل من ملك الفرس. (4) .
* " قيصر " لقب لكل من ملك الروم (5) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من أساليب الدعوة: البشارة.
2 - من أساليب الدعوة التأكيد بالقسم.
3 - من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: تحقق وقوع ما أخبر به. (6) .
_________
(1) سورة الفتح، الآية: 20.
(2) جابر بن سمرة، بن جنادة، بن جندب، أبو خالد السوائي رضي الله عنه، ويقال: أبو عبد الله، وهو وأبوه صحابيان رضي الله عنهما، وشهد ابن سمرة فتح المدائن، وله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة وستة وأربعون حديثا، اتفق البخاري ومسلم على حديثين، وانفرد مسلم بثلاثة وعشرين حديثا، وقال عن نفسه: "والله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ألفي صلاة" وهذا يدل على ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا، قيل: توفي رضي الله عنه سنة ست وسبعين، وقيل: ست وستين، قال الذهبي رحمه الله: "والأول أصح". انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1 / 142، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 3 / 186، وتقريب التهذيب لابن حجر، ص 191.
(3) [الحديث 3121] طرفاه في: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 4 / 219، برقم 3619 وكتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، 4 / 277، برقم 6629، وأخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، 4 / 2237، برقم 2919.
(4) انظر: شرح غريب الحديث رقم 125، ص 731.
(5) انظر: شرح غريب الحديث رقم 125، ص 731.
(6) تقدم هذا الحديث وشرح فوائده، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، برقم 125 -[3027] .(1/891)
[حديث غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة]
160 [ص:3124] حدّثنا محمّد بن العلاء: حدّثنا ابن المبارك، عن معمر، عن همّام بن منبّه، عن أبي هريرة (1) .
رضي الله عنه قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولمّا يبن بها، ولا أحد بنى بيوتا ولم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر ولادها، فغزا. فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبا من ذلك، فقال للشّمس: إنّك مأمورة وأنا مأمور، اللهمّ احبسها علينا، فحبست حتّى فتح الله عليه، فجمع الغنائم، فجاءت - يعني النّار - لتأكلها فلم تطعمها، فقال: إنّ فيكم غلولا، فليبايعني من كلّ قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول، فليبايعني قبيلتك، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذّهب فوضعوها، فجاءت النّار فأكلتها. ثمّ أحلّ الله لنا الغنائم، رأى ضعفنا وعجزنا فأحلّها لنا» . [ (2) .
* شرح غريب الحديث: * " ملك بضع امرأة " البضع يطلق على عقد النكاح والجماع معا، وعلى الفرج (3) .
* " خلفات " الخلفة - بفتح الفاء وكسر اللام - الحامل من النوق، وتجمع على خلفات، وخلائف (4) .
* " الغلول " الغلول في المغنم: أن يخفى من الغنيمة شيئا ولا يرد إلى القسمة؛ لأن ذلك من حقوق من شهد الغنيمة، وهو في معنى الخيانة؛ لأن كل من خان شيئا في خفاء فقد غل، وسمي ذلك غلولا؛ لأن الأيدي مغلولة عنه: أي ممنوعة منه (5) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 7.
(2) الحديث 3124] طرفه في: كتاب النكاح، باب من أحب البناء قبل الغزو، 6 / 170، برقم 5157. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة، 3 / 1366، برقم 1747.
(3) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الباء مع الضاد، مادة: "بضع"، 1 / 133.
(4) انظر: المرجع السابق، باب الخاء مع اللام، مادة: "خلف"، 2 / 68.
(5) انظر: شرح غريب الحديث رقم: 143، ص 831.(1/892)
* " يبني بها " يقال: بنى الرجل بأهله: إذا دخل بها، والأصل فيه أن الرجل كان إذا تزوج امرأة بنى عليها قبة (1) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أهمية تفريغ قلب الداعية من المشاغل الدنيوية.
2 - من أساليب الدعوة: القصص.
3 - من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وأمته: حل الغنائم.
4 - من معجزات النبوة: حبس الشمس واستجابة الدعاء.
5 - من صفات الداعية: التواضع.
6 - من أساليب الدعوة: التشبيه.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: أهمية تفريغ قلب الداعية من المشاغل الدنيوية: من الأمور المهمة التي ينبغي أن يعتني بها الداعية تفريغ القلب من مشاغل الدنيا أثناء الدعوة والجهاد؛ ولهذا قال هذا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة ولما يبن بها، ولا أحد بنى بيوتا ولم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر ولادها» ، وهذا يؤكد أهمية اختمار الرجل الحازم الذي قد فرّغ قلبه للأمور المهمة؛ لأن من كان قلبه معلقا بشيء من أمور الدنيا؛ فإنه ينقص من جدّه واجتهاده وحزمه وعزيمته في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ أو الجهاد؛ قال الإمام الكرماني رحمه الله: "وفيه أن الأمور المهمة لا ينبغي أن تفوض إلا إلى أولي الحزم وأولي الفراغ؛ لأن تعلق القلب بغيرها يفوت كمال بذل القاضي وسعه" (2) .
وقد أوضح الإمام النووي في فوائد هذا الحديث أهمية التفرغ للأمور المهمة فقال رحمه الله: "وفي هذا الحديث أن الأمور
_________
(1) انظر: جامع الأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، لابن الأثير، 2 / 716.
(2) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 13 / 96.(1/893)
المهمة ينبغي أن لا تفوّض إلا إلى أولي الحزم وفراغ البال لها، ولا تفوّض إلى متعلق القلب بغيرها؛ لأن ذلك يضعف عزمه، ويفوت كمال بذل وسعه فيه" (1) .
، وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "المقصود أن الغازي يفرّغ قلبه، فإذا دخل بأهله قبل الغزو كان ذلك أفرغ لقلبه، فيكون قلبه بعد ذلك معلقا بالجهاد" (2) .
ثانيا: من أساليب الدعوة: القصص: القصص الحكيم من الكتاب أو من السنة من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ؛ لما فيه من شحذ ذهن المدعو؛ ولهذا استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، ففي هذا الحديث قال صلى الله عليه وسلم: «غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها» ، وهذا يوضح للداعية أهمية استخدام أسلوب القصص في دعوته إلى الله عزّ وجلّ (3) .
ثالثا: من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وأمته: حل الغنائم: ظهر في هذا الحديث أن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وأمته تفضل الله عزّ وجلّ عليهم بأن أحل لهم الغنائم، أما الأنبياء قبله فكانت الغنائم تجمع ثم يرسل الله عزّ وجلّ عليها نارا فتحرقها، ويكون ذلك علامة لقبولها، وعدم الغلول فيها (4) .
؛ ولهذا بيّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الغنائم خاصة بأمته فقط: «ثم أحل الله لنا الغنائم رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا» (5) .
رابعا: من معجزات النبوة: حبس الشمس واستجابة الدعاء: دل هذا الحديث على أن من معجزات النبوة حبس الشمس واستجابة الدعاء؛
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 296.
(2) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 5157 من صحيح البخاري، في جامع الإمام تركي بن عبد الله بالرياض، بتاريخ 17 / 5 / 1418 هـ.
(3) انظر: الحديث رقم 17، الدرس الثالث، ورقم 28، الدرس الثامن، ورقم 34، الدرس الثالث.
(4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 297.
(5) انظر: الحديث رقم 106، الدرس الأول.(1/894)
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم يحكي هذا النبي الغازي في الحديث: «فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا فحبست حتى فتح الله عليه» ، وقد ذكر الإمام النووي، والحافظ الهيثمي، والحافظ ابن حجر رحمهم الله آثارا تدل على أن الشمس حبست لنبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم (1) .
، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الشمس فتأخرت ساعة من نهار» (2) "، وهذا كله يؤكد أن حبس الشمس واستجابة الدعاء من معجزات النبوة التي تدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأنه مرسل من عند الله عزّ وجلّ.
خامسا: من صفات الداعية: التواضع: لا ريب أن التواضع من الصفات الجميلة الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها الداعية إلى الله عزّ وجلّ، ومن ذلك ما ثبت في هذا الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ". . . «ثم أحل الله لنا الغنائم رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا» ، وهذا يؤكد عظم تواضع النبي صلى الله عليه وسلم لله عزّ وجلّ حيث قال: "رأى ضعفنا وعجزنا"، فينبغي للداعية إلى الله أن يكون كذلك (3) .
سادسا: من أساليب الدعوة: التشبيه: إن التشبيه أسلوب نافع من أساليب الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، وقد ظهر هذا الأسلوب في هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: «فجاؤوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب فوضعوها، فجاءت النار فأكلتها» ، وهذا يؤكد أهمية استخدام هذا الأسلوب عند الحاجة إليه (4) .
[باب بركة الغازي في ماله حيا وميتا مع النبي صلى الله عليه وسلم وولاة] الأمر
_________
(1) انظر: هذه الآثار والكلام عليها في شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 296، ومجمع الزوائد، للهيثمي، 8 / 216، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، 6 / 221.
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط [مجمع البحرين] 6 / 154، برقم 3522، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 8 / 297 "وإسناده حسن"، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 6 / 221: "وإسناده حسن.
(3) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثالث.
(4) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الرابع، ورقم 19، الدرس الخامس، وانظر: كتاب أمثال الحديث للقاضي الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي، ص 6 - 162.(1/895)
[حديث لما وقف الزبير يوم الجمل دعا ابنه عبد الله]
13 - باب بركة الغازي في ماله حيّا وميتا، مع النّبي صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر 161 [ص:3129] حدّثني إسحاق بن إبراهيم قال: قلت لأبي أسامة: أحدّثكم هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزّبير؟ (1) قال: "لمّا وقف الزّبير (2) يوم الجمل دعاني فقمت إلى جنبه فقال: يا بنيّ إنّه لا يقتل اليوم إلّا ظالم أو مظلوم، وإنّي لا أراني إلّا سأقتل اليوم مظلوما، وإنّ من أكبر همّي لديني، أفترى يبقي ديننا من مالنا شيئا؟ فقال: يا بنيّ، بع ما لنا، فاقض ديني. وأوصى بالثلث، وثلثه لبنيه - يعني بني عبد الله بن الزّبير، يقول: ثلث الثلث - فإن فضل من مالنا بعد قضاء الدّين فثلثه لولدك. قال هشام: وكان بعض ولد عبد الله قد وازى بعض بني الزّبير - خبيب وعبّاد - وله يومئذ تسعة بنين وبنات. قال عبد الله فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بنيّ إن عجزت عن شيء منه فاستعن عليه مولاي. قال: فوالله ما دريت ما أراد حتّى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: الله. قال: فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلّا قلت: يا مولى الزّبير اقض عنه دينه، فيقضيه. فقتل الزّبير رضي الله عنه ولم يدع دينارا ولا درهما، إلّا أرضين منها الغابة، وإحدى عشرة دارا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارا بالكوفة، ودارا بمصر. قال: وإنّما كان دينه الّذي عليه أنّ الرّجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إيّاه، فيقول الزّبير: لا، ولكنّه سلف، فإنّي أخشى عليه الضّيعة. وما ولي إمارة قطّ ولا جباية خراج، ولا شيئا إلّا أن يكون في غزوة مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو مع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم قال عبد الله بن الزّبير: فحسبت ما عليه من الدّين فوجدتة ألفي ألف ومائتي ألف قال: فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزّبير فقال: يا ابن أخي: كم على أخي من الدّين؛ فكتمه فقال مائة ألف. فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تسع لهذه. فقال له عبد الله: أفرأيتك إن كانت ألفي ألف ومائتي
_________
(1) عبد الله الزبير رضي الله عنه تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 145.
(2) الزبير بن العوام رضي الله عنه تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 52.(1/896)
ألف؟ قال: ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي. قال: وكان الزّبير اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف. فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف. ثمّ قام فقال: من كان له على الزّبير حقّ فليوافنا بالغابة. فأتاه عبد الله بن جعفر - وكان له على الزّبير أربعمائة ألف - فقال لعبد الله: إن شئتم تركتها لكم. قال عبد الله: لا. قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخّرون إن أخّرتم. فقال عبد الله: لا. قال: قال: فاقطعوا لي قطعة. فقال عبد الله: لك من هاهنا إلى هاهنا. قال فباع منها فقضى دينه فأوفاه. وبقي منها أربعة أسهم ونصف، فقدم على معاوية - وعنده عمرو بن عثمان والمنذر بن الزّبير، وابن زمعة - فقال له معاوية: كم قوّمت الغابة: قال: كلّ سهم مائة ألف. قال: كم بقي؟ قال: أربعة أسهم ونصف. فقال المنذر بن الزّبير: قد أخذت سهما بمائة ألف. قال عمرو بن عثمان: قد أخذت سهما بمائة ألف. وقال ابن زمعة: قد أخذت سهما بمائة ألف. فقال معاوية كم بقي؛ فقال: سهم ونصف. قال: أخذته بخمسين ومائة ألف. قال: وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بستّمائة ألف. فلمّا فرغ ابن الزّبير من قضاء دينه قال بنو الزّبير: اقسم بيننا ميراثنا. قال: لا والله لا أقسم بينكم حتّى أنادي بالموسم أربع سنين. ألا من كان له على الزّبير دين فليأتنا فلنقضه. قال: فجعل كلّ سنة ينادي بالموسم. فلمّا قضى أربع سنين قسم بينهم. قال: فكان للزّبير أربع نسوة، ورفع الثّلث فأصاب كلّ امرأة ألف ألف ومائتا ألف". فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف.
* شرح غريب الحديث: * "الغابة " الغابة قرب المدينة من عواليها، والغابة الأجمة ذات الشجر المتكاثف، وسمّيت غابة؛ لأنها تغيّب ما فيها، وجمعها غابات، وغابة المدينة من ناحية الشام، كان فيها أموال لأهل المدينة وقيل: إن الغابة بريد من المدينة(1/897)
على طريق الشام، وقد صنع منبر النبي صلى الله عليه وسلم من طرفاء الغابة (1) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: الاستعداد للقاء الله عزّ وجلّ.
2 - من صفات الداعية: الثقة بالله عزّ وجلّ.
3 - أهمية الالتجاء إلى الله عزّ وجلّ بالدعاء.
4 - أهمية الحرص على أداء الأمانة.
5 - من صفات الداعية: الجود والكرم.
6 - من صفات الداعية: العفة وقوة النفس.
7 - أهمية النية الصالحة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: الاستعداد للقاء الله عزّ وجلّ: الاستعداد للقاء الله عزّ وجلّ من أهم المهمات وأعظم الواجبات، ومما ينبغي لكل مسلم أن يعتني به وخاصة الداعية إلى الله عزّ وجلّ، وقد دل هذا الحديث على هذه الصفة العظيمة؛ لقول الزبير بن العوام رضي الله عنه لابنه عبد الله: يا بني إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل مظلوما، وإن من أكبر همي لديني، أفترى يبقي ديننا من مالنا شيئا؟ يا بني بع ما لنا فاقض ديني، وأوصى بالثلث". وهذا يؤكد ويبين للداعية أهمية الاستعداد للقاء الله عزّ وجلّ، فيقوم بجميع الواجبات، ويبتعد عن جميع المحرمات، ويوصي بما يريد أن يوصي به من دين وغيره، والله المستعان (2) .
ثانيا: من صفات الداعية: الثقة بالله عزّ وجلّ: إن من الصفات العظيمة المهمة التي ينبغي أن يتحلى بها كل مسلم وخاصة
_________
(1) انظر شرح غريب الحديث رقم 130، ص 746، ومعجم البلدان لياقوت الحموي، باب الغين، 4 / 182.
(2) انظر: الحديث رقم 1، الدرس الثالث.(1/898)
الداعية إلى الله عزّ وجلّ: الثقة بالله عزّ وجلّ "ولهذه الثقة قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه عن أبيه: "فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بني إن عجزت عن شيء منه فاستعن عليه مولاي، قال عبد الله: فوالله ما دريت مما أراد حتى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: الله، قال: فوالله ما وقعت في كربة إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفيه منزلة الزبير عند نفسه، وأنه في تلك الحالة كان في غاية الوثوق بالله والإقبال عليه والرضا بحكمه والاستعانة به" (1) وهذا دليل على ثقة الزبير العظيمة بالله عزّ وجلّ، وقد كان سبحانه عند ظنه به؛ قال صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني» (2) وهذا يؤكد على الداعية أن يثق بربه عزّ وجلّ ويحسن الظن به.
ثالثا: أهمية الالتجاء إلى الله عزّ وجلّ بالدعاء: إن الالتجاء إلى الله عزّ وجلّ من أعظم الصفات الحميدة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها؛ لأن الله عزّ وجلّ يجيب دعاء السائلين ويكشف كرب المكروبين؛ ولهذا التجأ عبد الله بن الزبير إلى الله فأجابه في قضاء دين والده، قال رضي الله عنه: "فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه، فيقضيه"، قال الله عزّ وجلّ: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] (3) وهذا يؤكد أهمية الالتجاء إلى الله عزّ وجلّ عند الشدائد والكرب (4) .
رابعا: أهمية الحرص على أداء الأمانة: ظهر في هذا الحديث الحرص على أداء الأمانة؛ لأن الزبير بن العوام رضي الله عنه إنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير: "لا، ولكنه سلف، فإنّي أخشى عليه الضيعة"، وهذا يبين عظم أمانته رضي الله عنه؛
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 235.
(2) متفق عليه: البخاري 8 / 216، برقم 7405، ومسلم، 4 / 2061، برقم 2675، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 73، الدرس الثامن، ص 449.
(3) سورة النمل، الآية: 62.
(4) انظر: الحديث رقم 36، الدرس السادس.(1/899)
لأنه يريد أن يضمن للناس أموالهم لو تلفت بدون تفريط منه. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفيه مبالغة الزبير في الإحسان لأصدقائه؛ لأنه رضي الله عنه يحفظ لهم ودائعهم في غيبتهم، ويقوم بوصاياهم على أولادهم بعد موتهم، ولم يكتف بذلك حتى احتاط لأموالهم وديعة أو وصية بأن يتوصل إلى تصييرها في ذمته مع عدم احتياجه لها غالبا، وإنما ينقلها من اليد للذمة مبالغة في حفظها لهم" (1) فينبغي للداعية أن يكون حريصا على أداء الأمانة وحفظها (2) .
خامسا: من صفات الداعية: الجود والكرم: الكرم والجود من الصفات الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها المسلم، وخاصة الداعية إلى الله عزّ وجلّ، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث من وجهين: الأول: كرم حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه في دين والده: "فحسبت ما عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف أي مليونان ومائتا ألف، فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير فقال حكيم: يا ابن أخي كم على أخي من الدين؟ فكتمه فقال: مائة ألف، فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تسع لهذه، فقال له عبد الله: أفرأيت إن كانت ألفي ألف ومائتي ألف؟ قال: ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي. وهذا يدل على كرم حكيم رضي الله عنه.
الثاني: كرم عبد الله بن جعفر رضي الله عنه؛ فإنه كان يطلب الزبير أربعمائة ألف فقال لعبد الله بن الزبير: إن شئتم تركتها لكم، فامتنع عبد الله بن الزبير من ذلك وأعطاه من الغابة. وهذا يدل على كرم عبد الله بن جعفر رضي الله عنه؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفيه بيان جود ابن جعفر لسماحته بهذا المال العظيم" (3) وهذا يبين للداعية أهمية الكرم والجود وأثره في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ (4) .
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 234.
(2) انظر: الحديث رقم 29، الدرس الثالث، ورقم 132، الدرس الرابع، ورقم 143، الدرس الثاني.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 234.
(4) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الثالث.(1/900)
سادسا: من صفات الداعية: العفة وقوة النفس: مما يدل على قوة النفس وعفتها ما فعله عبد الله بن الزبير رضي الله عنه مع حكيم ابن حزام وعبد الله بن جعفر؛ فإن حكيم بن حزام رضي الله عنه طلب عبد الله بن الزبير أن يعينه على قضاء دين الزبير فامتنع ابن الزبير من ذلك، وسأله عبد الله بن جعفر رضي الله عنه أن يضع الدين عن الزبير - وكان أربعمائة ألف - فامتنع عبد الله بن الزبير عن ذلك، وهذا يدل على عفة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وقوة نفسه، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفيه قوة نفس عبد الله بن الزبير لعدم قبوله ما سأله حكيم بن حزام من المعاونة، وما سأله عبد الله بن جعفر من المحاللة" (1) .
سابعا: أهمية النية الصالحة: إن النية الصالحة من الصفات العظيمة التي يفوز صاحبها بسعادة الدنيا والآخرة، وهي من أسباب البركة، ومما يدل على ذلك ما وقع في هذا الحديث في قصة دين الزبير بن العوام، وأن دينه بلغ ألفي ألف ومائتي ألف، ولم يكن له في الظاهر من المال إلا الغابة اشتراها بمائة وسبعين ألفا، ثم باعها ابنه عبد الله بأموال طائلة عظيمة فاجتمعت تركته فكان جميع المال خمسين ألف ألف ومائتى ألف: [أي خمسين مليونا ومائتي ألف] قضى منها الدين وأخرجت الوصية ووزّع الباقي على الورثة، وهذا يدل على أن الله عزّ وجلّ بارك في مال الزبير؛ لنيته الصالحة رضي الله عنه. وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول في فوائد هذا الحديث إنه: "بركة من الله؛ لحسن النية، فبارك الله له، وهذا من ثمرات النية الصالحة" (2) وهذا يؤكد أهمية النية الصالحة وأثرها وثمراتها، والله المستعان. (3) .
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 235.
(2) سمعته من سماحته أثناء شرح الحديث رقم 3129، من صحيح البخاري. [ثم بكى سماحة الشيخ حفظه الله] .
(3) انظر: الحديث رقم 122، الدرس السادس.(1/901)
[باب إذا بعث الإمام رسولا في حاجة أو أمره بالمقام هل يسهم له]
[حديث قوله صلى الله عليه وسلم لعثمان إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه]
14 - باب إذا بعث الإمام رسولا في حاجة، أو أمره بالمقام، هل يسهم له؟ 162 [ص:3130] حدّثنا موسى: حدّثنا أبو عوانة: حدّثنا عثمان بن موهب، عن ابن عمر (1) رضي الله عنه قال: إنّما تغيّب عثمان عن بدر فإنّه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ لك أجر رجل ممّن شهد بدرا وسهمه» (2) .
وفي رواية: "كنّا في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثمّ عمر، ثم عثمان، ثمّ نترك أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم" (3) .
وفي رواية: عن عبيدة قال: "جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان، فذكر عن محاسن عمله، قال: لعلّ ذاك يسوءك؟ قال: نعم. قال: فأرغم الله بأنفك. ثمّ سأله عن عليّ، فذكر محاسن عمله قال: هو ذاك، بيته أوسط بيوت النّبيّ صلى الله عليه وسلم. ثمّ قال: لعلّ ذاك يسوءك؛ قال: أجل. قال: فأرغم الله بأنفك، انطلق فاجهد عليّ جهدك" (4) .
وفي رواية: عن عثمان بن موهب قال: "جاء رجل حجّ البيت فرأى قوما جلوسا فقال: من هؤلاء القعود؛ قال: هؤلاء قريش، قال: من الشّيخ؟ قالوا: ابن عمر فأتاه فقال: إنّي سائلك عن شيء أتحدّثني؟ قال: أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم أنّ عثمان بن عفّان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم، قال:
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 1.
(2) [الحديث 3130] أطرافه في: كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب عثمان بن عفان أبي عمرو القرشي رضي الله عنه، 4 / 244، برقم 3698. وكتاب فضائل أصحاب النبي رضي الله عنه، باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمى أبي الحسن رضي الله عنه، 4 / 247، برقم 3704 وكتاب المغازي، باب قول الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ 5 / 41، برقم 4066 وكتاب تفسير القرآن، باب: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ 5 / 184 و185، برقم 4513 و4514 و4515 وكتاب تفسير القرآن، باب وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، 5 / 238؛ و 239، برقم 4650 و4651. وكتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الفتنة من قبل المشرق"، 8 / 122، برقم 7095.
(3) الطرف رقم: 3698.
(4) الطرف رقم: 3704.(1/902)
فتعلمه تغيّب عن بدر فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنه تخلّف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال فكبّر، قال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبيّن لك عمّا سألتني عنه أمّا فراره يوم أحد فأشهد أنّ الله عفا عنه، وأمّا تغيّبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ لك أجر رجل ممّن شهد بدرا وسهمه» . وأمّا تغيّبه عن بيعة الرّضوان فإنّه لو كان أحد أعز ببطن مكّة من عثمان بن عفّان لبعثه مكانه، فبعث عثمان وكانت (1) بيعة الرّضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكّة فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: «هذه يد عثمان» ، فضرب بها على يده فقال: "هذه لعثمان " اذهب بهذا الآن معك" (2) .
وفي رواية: عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، أتاه رجلان في فتنة ابن الزّبير فقالا: إنّ النّاس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أنّ الله حرّم دم أخي فقالا: ألم يقل الله {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] (3) فقال: قاتلنا حتّى لم تكن فتنة، وكان الدّين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتّى تكون فتنة ويكون الدّين لغير الله (4) .
وفي رواية: عن بكير عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رجلا جاءه فقال: يا أبا عبد الرّحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] إلى آخر الآية، فما يمنعك أن لا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟ فقال: يا ابن أخي أغترّ بهذه الآية ولا أقاتل أحبّ إليّ من أن أغترّ بهذه الآية الّتي يقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] (5) إلى آخرها قال: فإنّ الله يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] قال ابن عمر: قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ
_________
(1) هكذا في النسخة السلفية المطبوعة مع فتح الباري، 7 / 363، وفي النسخة المعتمدة " وكان بيعة الرضوان" وكذا في نسخة استانبول، 5 / 34.
(2) من الطرف رقم: 4066.
(3) سورة البقرة، الآية: 193.
(4) من الطرف رقم: 4513.
(5) سورة النساء، الآية: 93.(1/903)
كان الإسلام قليلا، فكان الرّجل يفتن في دينه إمّا يقتلوه، وإمّا يوثقوه، حتّى كثر الإسلام فلم تكن فتنة فلمّا رأى أنه لا يوافقه فيما يريد قال: فما قولك في عليّ وعثمان؟ قال " ابن عمر: ما قولي في عليّ وعثمان؟ أمّا عثمان فكان الله قد عفا عنه فكرهتم أن تعفوا عنه، وأمّا عليّ فابن عمّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وختنه، وأشار بيده وهذه ابنته أو بنته حيث ترون (1) .
وفي رواية: عن سعيد بن جبير قال: خرج علينا أو إلينا ابن عمر فقال رجل: كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال: وهل تدري ما الفتنة؟ كان محمّد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين وكان الدّخول عليهم فتنة، وليس كقتالكم على الملك (2) .
وفي رواية: قال: خرج علينا عبد الله بن عمر فرجونا أن يحدّثنا حديثا حسنا قال: فبادرنا إليه رجل فقال: يا أبا عبد الرّحمن حدّثنا عن القتال في الفتنة والله يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] فقال: هل تدري ما الفتنة ثكلتك أمّك؟ إنّما كان محمّد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين، وكان الدّخول في دينهم فتنة، وليس كقتالكم على الملك (3) .
* شرح غريب الحديث: * " فأرغم الله أنفك" أي ألصقه بالرّغام وهو التراب، هذا هو الأصل، ثم استعمل في الذّلّ والعجز عن الانتصاف والانقياد على كره (4) .
* "وختنه" أي زوج ابنته، والأختان من قبل المرأة، والإحماء من قبل الرجل، والصهر يجمعهما، وخاتن الرجل الرجل إذا تزوج إليه (5) .
* "ثكلتك أمك" أي فقدتك، والثكل: فقد الولد، ويجوز أن تكون من
_________
(1) الطرف رقم 4650.
(2) الطرف رقم: 4651.
(3) من الطرف رقم: 7095.
(4) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الغين، مادة: "رغم"، 2 / 238.
(5) انظر: المرجع السابق، باب الخاء مع التاء، مادة: "ختن"، 2 / 10.(1/904)
الألفاظ التي تجري على ألسنة العرب ولا يراد بها الدعاء، كقولهم تربت يداك، وقاتلك الله (1) .
* "اجهد عليّ جهدك" أي ابلغ غايتك في هذا الأمر واعمل في حقي ما تستطيع وتقدر عليه (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أهمية النية الصالحة.
2 - من صفات الداعية: العدل.
3 - من وظائف الداعية الدفاع عن أئمة الهدى والتماس العذر لهم.
4 - من أساليب الدعوة: استخدام الشدة مع بعض المدعوين.
5 - أهمية الكف عما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم.
6 - من أساليب الدعوة: الجدل.
7 - أهمية اعتزال الفتن المضلة.
8 - أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: أهمية النية الصالحة: النية الصالحة من أهم الأعمال القلبية التي ينبغي أن يتصف بها كل مسلم؛ لما في ذلك من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة (3) وفي هذا الحديث دلالة على النية الصالحة، وأنه يكتب للعبد الصالح ما نوى ولم يقدر على عمله؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن عفان حينما لم يشهد بدرا: «إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه» ؛ لأنه رضي الله عنه كان مشغولا بتمريض بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت
_________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الثاء مع الكاف، مادة: "ثكل"، 1 / 217.
(2) انظر: المرجع السابق، باب الجيم مع الهاء، مادة: "جهد"، 1 / 319، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 14 / 244.
(3) انظر: بستان العارفين، للإمام محيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، ص 22 - 27.(1/905)
زوجته، ولو لم يشغل بذلك لكان من المجاهدين فأعطاه الله عزّ وجلّ ما نوى (1) .
ثانيا: من صفات الداعية: العدل: العدل من أهم الصفات الحميدة التي ينبغي لكل مسلم أن يتصف بها وخاصة الداعية إلى الله عزّ وجلّ، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث؛ لقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه: "كنا لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان " ولم يقدم أباه على أبي بكر حمية، ولكن حمله إيمانه على الصدق، وهذا هو العدل، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وأنهم يرتبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على حسب فضلهم وسبقهم للإسلام وجهادهم رضي الله عنهم، فأفضل الصحابة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله" (2) وقد استقر إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ترتيب هؤلاء الأربعة في الفضل وفي الخلافة، وهذا هو العدل الذي أخذ به أهل السنة والجماعة (3) أهل الصراط المستقيم (4) وهذا يؤكد أهمية العدل، وأن الداعية ينبغي له أن يبتعد عن طرق أهل البدع (5) ويلتزم بصفة العدل في جميع أحواله (6) .
ثالثا: من وظائف الداعية: الدفاع عن أئمة الهدى والتماس العذر لهم: لاشك أن من الأعمال المباركة: الدفاع عن أئمة الهدى ومصابيح الدجى من الصحابة، والتابعين، ومن سلك طريقهم من أهل العلم والإيمان؛ ولهذا دافع عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن علي بن أبي طالب وعن عثمان رضي الله عنهما، فقال لهذا الرجل الضال الذي يظهر عداوته لعلي رضي الله عنه: "فأرغم الله بأنفك انطلق
_________
(1) انظر: الحديث رقم 22، الدرس السادس.
(2) العقيدة الواسطية، ص 42.
(3) انظر: شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة، للحافظ أبي القاسم هبة الله بن الحسن الطبري اللالكائي، 7 / 1310 - 1425، ومختصر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه العشرة، للحافظ أبي محمد عبد الغنى بن عبد الواحد المقدسي، ص 74 - 118.
(4) انظر: الاعتصام، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، 2 / 801 - 808.
(5) انظر: المرجع السابق، 2 / 718 - 732.
(6) انظر: الحديث رقم 60، الدرس الثاني، ورقم 64، الدرس الأول، ورقم 96، الدرس الرابع.(1/906)
فاجهد علي جهدك! "، وقال رضي الله عنه في الدفاع عن عثمان حين سأل هذا الضال: "أما عثمان فكان الله قد عفا عنه وكرهتم أن تعفوا عنه، وأما عليّ فابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه"، ثم أخذ يذكر من محاسن علي وعثمان رضي الله عنهما حتى أفحم هذا الضال فذهب خائبا، وقال له ابن عمر رضي الله عنه: "اذهب بهذا الآن معك"، قال العيني رحمه الله: أي اقرن هذا العذر بالجواب حتى لا يبقى لك فيما أجبتك به حجة على ما كنت تعتقد" (1) فينبغي للداعية أن يدافع عن الصحابة رضي الله عنهم وعن أئمة الهدى من علماء أهل السنة والجماعة، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالحسنى.
رابعا: من أساليب الدعوة: استخدام الشدة مع بعض المدعوين: الأصل في الأساليب في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ الرفق واللين، ولكن من المدعوين من لا يجدي ولا ينفع فيه ومعه إلا الشدة والقوة؛ ولهذا استخدم عبد الله بن عمر رضي الله عنه أسلوب الشدة مع الرجل الضال الذي يطعن في علي وعثمان رضي الله عنهما، فقال: "أرغم الله بأنفك"، وقال رضي الله عنه: "قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله"، وهذا فيه قوة في الأسلوب، ولكن لا يفعل ذلك إلا مع الأمن من الوقوع في المفاسد، والله المستعان (2) .
خامسا: أهمية الكف عما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم: إن من الأمور المهمة التي ينبغي للداعية أن يعرض عنها ولا يخوض فيها ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم، وما حصل لبعضهم؛ لأن الكف عن ذلك مذهب أهل الحق والاعتدال (3) ؛ ولهذا قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في هذا الحديث: "أما عثمان فكان الله قد عفا عنه فكرهتم أن تعفوا عنه، وأما عليّ فابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مذهب أهل
_________
(1) عمدة القاري، شرح صحيح البخاري، 16 / 207.
(2) انظر: الحديث رقم 116، الدرس العاشر.
(3) انظر: شرح العقيدة الواسطية، لابن تيمية، تأليف محمد خليل الهراس، ص 250.(1/907)
السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم: "ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساوئهم، منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص، وغيّر عن وجهه، والصحيح منه هم فيه +مُعذرون، إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما صدر منهلا إن وجد. . "، ثم قال رحمه الله: "هذا في الذنوب المحققة فكيف بالذنوب التي كانوا فيها مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور" (1) .
سادسا: من أساليب الدعوة: الجدل: إن أسلوب الجدل من الأساليب النافعة عند الحاجة إليه في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ؛ ولهذا استخدمه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مع الرجل الضال الذي يطعن في علي وعثمان رضي الله عنه في هذا الحديث، فسأله أولا عن عثمان وعن تخلفه، فرد عليه ابن عمر بقوله: أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم. «إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه» ، وسأل هذا الرجل الضال عن علي رضي الله عنه وطعن فيه فقال له عبد الله: "وأما علي فابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه. . . " وجادله رضي الله عنه حتى أفحمه، فينبغي للداعية أن يستخدم أسلوب الجدل عند الحاجة إليه، ولكن بالحسنى (2) .
سابعا: أهمية اعتزال الفتن المضلة: ظهر في هذا الحديث أهمية اعتزال الفتن المضلة؛ ولهذا اعتزل عبد الله بن
_________
(1) العقيدة الواسطية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص 43، وانظر: فضائل الصحابة للإمام أحمد بن شعيب النسائي، ص 15 - 217، والعواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، للإمام القاضي أبي بكر بن العربي المالكي، ص 77، وص 155، وص 260.
(2) انظر: الحديث رقم 129، الدرس الرابع.(1/908)
عمر رضي الله عنهما الفتن كما جاء في هذا الحديث، فجادله بعض الناس في ذلك قال: "قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله"، وهذا يؤكد اعتزال الفتن المضلة، أسأل الله لي ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة (1) .
ثامنا: أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية: الاستدلال بالأدلة الشرعية من الأمور المهمة التي ينبغي للداعية أن يعتني بها في دعوته إلى الله عزّ وجلّ؛ لما لها من التأثير على المدعوين وإقناعهم؛ ولهذا استخدمها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في هذا الحديث، فرد على الرجل الضال الذي طعن في عثمان، وبين له بالدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان: «إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه» ، واستدل رضي الله عنه على عدم الدخول في القتال في الفتنة بقوله عزّ وجلّ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] (2) وهذا فيه تخويف من الدخول في الفتن العمياء المضلة (3) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 19، الدرس الثاني، ورقم 150، الدرس الثالث.
(2) سورة النساء، الآية: 93.
(3) انظر: الحديث رقم 77، الدرس الحادي عشر، ورقم 94، الدرس الثامن.(1/909)
[باب من الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين]
[حديث والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم]
15 - باب ومن الدّليل على أنّ الخمس لنوائب المسلمين ما سأل هوازن النّبيّ صلى الله عليه وسلم برضاعه فيهم فتحلّل من المسلمين، وما كان النّبي صلى الله عليه وسلم يعد النّاس أن يعطيهم من الفيء، والأنفال من الخمس وما أعطي الأنصار، وما أعطي جابر بن عبد الله من تمر خيبر.
163 [ص:3133] حدّثنا عبد الله بن عبد الوهّاب: حدّثنا حمّاد: حدّثنا أيّوب، عن أبي قلابة. قال: وحدّثني القاسم بن عاصم الكلينيّ - وأنا لحديث القاسم أحفظ - عن زهدم قال: كنّا عند أبي موسى (1) فأتى ذكر دجاجة وعنده رجل من بني تيم الله أحمر كأنه من الموالي، فدعاه للطّعام فقال: إنّي رأيته يأكل شيئا فقذرته فحلفت لا آكل. فقال: هلمّ فلأحدّثكم عن ذلك: إنّي أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريّين نستحمله، فقال: «والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم» . وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب إبل فسأل عنّا فقال: «أين النّفر الأشعريّون؟» فأمر لنا بخمس ذود غرّ الذّرى، فلمّا انطلقنا قلنا: ما صنعنا؟ لا يبارك لنا. فرجعنا إليه فقلنا: إنّا سألناك أن تحملنا، فحلفت أن لا تحملنا، أفنسيت؟ قال: «لست أنا حملتكم، ولكنّ الله حملكم، وإنّي والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلّا أتيت الّذي هو خير وتحلّلتها» (2) .
وفي رواية: لمّا قدم أبو موسى أكرم هذا الحيّ من جرم وإنّا لجلوس عنده، وهو يتغدّى دجاجا وفي القوم رجل جالس فدعاه إلى الغداء، فقال: إنّي رأيته
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 66.
(2) [الحديث 3133] أطرافه في: كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريبن وأهل اليمن، 5 / 142، برقم 4385. وكتاب المغازي، باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة، 5 / 150، برقم 4415. وكتاب الذبائح والصيد باب لحم الدجاج، 6 / 284، برقم 5517 و5518. وكتاب الإيمان والنذور، باب قول الله تعالى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ إلى قوله. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الآية، 7 / 275، برقم 6623. وكتاب الإيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم، 7 / 282، برقم 6649. وكتاب الإيمان والنذور، باب اليمين فيما لا يملك وفي المعصية وفي الغضب، 7 / 290، برقم 6678 و6680 وكتاب كفارات الأيمان، باب الاستثناء في الأيمان، 7 / 302، برقم 6718 و 6719. وكتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعده، 7 / 303، برقم 6721. وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ، 8 / 271، برقم 7555. وأخرجه مسلم في كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه، 3 / 1268، برقم 1649.(1/910)
يأكل شيئا فقذرته، فقال: هلمّ فإنّي رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يأكله" فقال: إنّي حلفت لا آكل! ، فقال: هلمّ أخبرك عن يمينك، إنّا أتينا النّبيّ صلى الله عليه وسلم نفر من الأشعريّين فاستحملناه فأبى أن يحملنا فاستحملناه فحلف أن لا يحملنا ثمّ لم يلبث النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن أتي بنهب إبل فأمر لنا بخمس ذود فلمّا قبضناهما قلنا تغفّلنا النّبي صلى الله عليه وسلم يمينه لا نفلح بعدها أبدا، فأتيته فقلت: يا رسول الله إنك حلفت أن لا تحملنا وقد حملتنا قال: «أجل ولكن لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلّا أتيت الّذي هو خير منها» . (1) .
وفي رواية: عن أبي بردة، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسأله الحملان لهم إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك فقلت: يا نبيّ الله إنّ أصحابي أرسلوني اليك لتحملهم، فقال: «والله لا أحملكم على شيء» ، ووافقته وهو غضبان ولا أشعر ورجعت حزينا من منع النبي صلى الله عليه وسلم ومن مخافة أن يكون النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه عليّ فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم الّذي قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلم ألبث إلّا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي أي عبد الله بن قيس فأجبته فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فلمّا أتيته قال: «خذ هذين القرينين وهذين القرينين - لستّة أبعرة ابتاعهنّ حينئذ من سعد - فانطلق بهنّ إلى أصحابك فقل: إنّ الله - أو قال - إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء فاركبوهنّ» فانطلقت إليهم بهنّ فقلت: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يحملكم على هولاء، ولكنّي والله لا أدعكم حتّى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تظنّوا أني حدّثتكم شيئا لم يقله رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لي: إنك عندنا لمصدق، ولنفعلنّ ما أحببت فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتّى أتوا الذين سمعوا قول رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم منعه إيّاهم ثمّ إعطاءهم بعد فحدّثوهم بمثل
_________
(1) من الطرف رقم: 4385.(1/911)
ما حدّثهم به أبو موسى (1) .
وفي رواية: «رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يأكل دجاجا» .! (2) .
وفي رواية: «والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم عليه» قال: ثمّ لبثنا ما شاء الله أن نلبث، ثمّ أتي بثلاث ذود غرّ الذّرى فحملنا عليها".
وفيها: «ما أنا حملتكم بل الله حملكم وإنّي والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلّا كفّرت عن يميني، وأتيت الّذي هو خير، أو أتيت الّذي هو خير وكفّرت عن يميني» (3) .
وفي رواية: عن زهدم: "كان بين هذا الحيّ من جرم وبين الأشعريّين ودّ وإخاء، فكنّا عند أبي موسى الأشعريّ فقرّب إليه طعام فيه لحم دجاج. . . " الحديث (4) .
وفي رواية: عن زهدم الجرميّ أيضا: "كنّا عند أبي موسى وكان بيننا وبين هذا الحيّ من جرم إخاء ومعروف. . . " الحديث. (5) .
وفي رواية: "أخبرك أو أحدّثك إنّي أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريّين فوافقته وهو غضبان، وهو يقسم نعما من نعم الصدقة" (6) .
* شرح غريب الحديث: * " بنهب إبل " أي غنيمة إبل، والنهب الغارة والسّلب (7) .
* " ذود " الذود من الإبل ما بين الثنتين إلى التسع، وقيل: ما بين الثلاث إلى العشر، واللفظة مؤنثة ولا واحد لها من لفظها: كالنعم (8) .
_________
(1) من الطرف رقم: 4415.
(2) من الطرف رقم: 5517.
(3) من الطرف رقم: 6623.
(4) من الطرف رقم: 6649.
(5) من الطرف رقم 6721.
(6) من الطرف رقم: 5518.
(7) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب النون مع الهاء، مادة: "نهب"، 5 / 133.
(8) المرجع السابق، باب الذال مع الواو، مادة: "ذود"، 2 / 171.(1/912)
* " غر الذرى " جمع ذروة وهي سنام البعير وذروة كل شيء: أعلاه (1) .
* " من جرم " نسبة إلى قبيلة "الجرمي" بفتح الجيم وسكون الراء، وهي نسبة إلى جرم بن ريان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وفي بجيلة: جرم بن علقمة بن أنمار، وفي عاملة: جرم بن شعل بن معاوية بن عاملة، وفي طي جرم وهو ثعلبة بن عمرو بن الغوث (2) .
* " تغفلنا يمينه " أي جعلناه غافلا عن يمينه بسبب سؤالنا. (3) .
* " وجد في نفسه عليّ " أي غضب (4) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية.
2 - من صفات الداعية: إضافة النعم إلى الله عزّ وجلّ.
3 - أهمية الحنث في اليمين والتكفير عنها للمصلحة الراجحة.
4 - أهمية تحصيل العلم من مصادره الأصلية مباشرة والتثبت في ذلك.
5 - حرص السلف الصالح على الدقة في نقل الحديث.
6 - من صفات الداعية: الكرم.
7 - أهمية الاستثناء في اليمين.
8 - من أدب الداعية: إكرام الضيف.
9 - من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة تبوك.
10 - من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان.
11 - حرص الصحابة على الجهاد والدعوة.
12 - عظم محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
_________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الذال مع الراء، مادة. "ذرا"، 2 / 159، وانظر 3 / 353.
(2) انظر: اللباب في تهذيب الأنساب، لابن الأثير، 1 / 273.
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الغين مع الفاء، مادة: "كفل"، 4 / 375.
(4) انظر: شرح غريب الحديث، رقم 147، 148.(1/913)
13 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم.
14 - من أساليب الدعوة: تأديب بعض المدعوين بالقول.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية: الاستدلال بالأدلة الشرعية يزيد اليقين ويزيل اللبس؛ ولهذا استدل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه على جواز التكفير عن اليمين لمن حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فقال عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: «وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها» ، وقال أبو موسى لمن استقذر أكل الدجاج: "هلم فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكله"، وهذا يؤكد أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية (1) .
ثانيا: من صفات الداعية: إضافة النعم إلى الله عزّ وجلّ: النعم من فضل الله عزّ وجلّ وإحسانه على عباده، فينبغي أن تنسب إلى الله الكريم؛ ولهذا نسب النبي صلى الله عليه وسلم نعمة حمل المجاهدين على الذود إلى الله عزّ وجلّ؛ لأنه الذي يسّرها، فقال صلى الله عليه وسلم للأشعريين: «لست أنا حملتكم ولكن الله حملكم» ، وهذا يؤكد أهمية إضافة النعم لمسديها والمنعم بها سبحانه (2) .
ثالثا: أهمية الحنث في اليمين والتكفير عنها للمصلحة الراجحة: إن من يسر الإسلام وسماحته أن المسلم إذا حلف على أمر من الأمور ثم رأى بأن غيره خير منه؛ فإنه يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير» ، قال الإمام النووي رحمه الله: "وفي هذه الأحاديث دلالة على أن من حلف على فعل شيء أو تركه، وكان الحنث خيرا من التمادي على اليمين استحب له الحنث وتلزمه الكفارة، وهذا متفق
_________
(1) انظر: الحديث رقم 77، الدرس الحادي عشر، ورقم 94، الدرس الثامن.
(2) انظر. الحديث رقم 46، الدرس السادس عشر، ورقم 106، الدرس الخامس، وفتح الباري، لابن حجر، 11 / 614.(1/914)
عليه، وأجمعوا على أنه لا تجب عليه الكفارة قبل الحنث، وعلى أنه يجوز تأخيرها عن الحنث، وعلى أنه لا يجوز تقديمها على اليمين" (1) وهذا يؤكد أهمية الحنث في اليمين إذا رأى الحالف ما هو خير، والحمد لله.
رابعا: أهمية تحصيل العلم من مصادره الأصلية مباشرة والتثبت في ذلك: العلم أعظم الكنوز التي ينعم الله بها على من يشاء من عباده، فينبغي أن يطلب من مصادره الأصلية، وسماعه من أهله مباشرة على قدر الاستطاعة، والتثبت في ذلك، وقد ثبت في هذا الحديث ما يؤكد ذلك، وذلك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عبد الله بن قيس ستة أبعرة؛ ليحمل عليها أصحابه، فانطلق بها إلى قومه ثم قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء ولكني والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تظنوا أني حدثتكم شيئا لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: إنك عندنا لمصدق ولنفعلن ما أحببت، فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: منعه إياهم ثم إعطاءهم بعد، فحدثوهم بمثل ما حدثهم به أبو موسى " وهذا يؤكد أهمية تلقي العلم عن أهله مباشرة إن أمكن ذلك (2) .
خامسا: حرص السلف الصالح على الدقة في نقل الحديث: كان السلف الصالح يحرصون على الدقة في نقل الحديث كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وإني والله إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير، أو أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني» ، قال الكرماني رحمه الله: "هذا شك من الراوي في تقديم: "أتيت" على "كفّرت" أو العكس، وإما تنويع من تنويع رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة إلى جواز تقديم الحنث وتأخيرها" (3) وهذا يدل على حرص السلف رحمهم الله على الدقة في نقل العلم (4) .
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم، 11 / 119، وانظر: فتح الباري، لابن حجر، 8 / 112.
(2) انظر: الحديث رقم 77، الدرس الرابع.
(3) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 23 / 93.
(4) انظر: الحديث رقم 21، الدرس العاشر.(1/915)
سادسا: من صفات الداعية: الكرم: الكرم من الصفات الحميدة، ولهذا كان أكمل الخلق في الكرم هو إمامهم وخيرهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وقد دل هذا الحديث على شيء من كرمه؛ فإنه أعطى خمس ذود، وفي الرواية الأخرى: "ستة أبعرة"؛ ليحمل عليه عبد الله بن قيس الأشعري وأصحابه رضي الله عنهم، وهذا غيض من فيض من كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
سابعا: أهمية الاستثناء في اليمين: كرم الله على عباده وإحسانه لا يحصى، ومن ذلك الاستثناء في اليمين بقول الحالف في قسمه "إن شاء الله" فإذا قال ذلك لا يحنث ولا يحتاج إلى كفارة، وقد ثبت في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى فقال: "إني «والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير» ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن من حلف على يمين فاستثنى فيها فلا حنث عليه ولا كفارة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن قصة سليمان صلى الله عليه وسلم حينما أقسم أن يطأ في ليلة واحدة مائة امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ، ولم يقل: إن شاء الله، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، فقال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «لو قال: إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته» (2) قال الإمام النووي رحمه الله في فوائد حديث قصة سليمان صلى الله عليه وسلم: "ومنها أنه إذا حلف وقال متصلا بيمينه: إن شاء الله تعالى، لم يحنث بفعل المحلوف عليه، وأن الاستثناء يمنع انعقاد اليمين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو «قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته» ، ويشترط لصحة الاستثناء شرطان: أحدهما أن يقوله متصلا باليمين، والثاني أن يكون نوى قبل فراغ اليمين أن يقول: "إن شاء الله" (3) ونقل رحمه الله: إجماع المسلمين على أن قوله: "إن شاء الله" يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلا وأن الإمام مالكا، والأوزاعي والشافعي، والجمهور، يرون أن يكون قوله:
_________
(1) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الرابع.
(2) متفق عليه: البخاري، برقم 5242، ومسلم، برقم 1654، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 34، ص 239.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم، 11 / 129.(1/916)
إن شاء الله متصلا باليمين من غير سكوت بينهما، ولا تضر سكتة النفس (1) فينبغي للداعية أن يحفظ يمينه، وإذا كان لا بد من القسم استثنى في ذلك، والله المستعان.
ثامنا: من أدب الداعية: إكرام الضيف: لا شك أن من الآداب السامية إكرام الضيف، واستقباله بالسرور، والبشاشة، والاستقبال الحسن، والتبسم، وقد ظهر في هذا الحديث حسن الأدب مع الضيف؛ لأن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه دعا ضيفه؛ ليأكل معه ومع أصحابه الغداء فامتنع الضيف؛ لأنه قد حلف أن لا يأكل الدجاج؛ ولحرص أبي موسى رضي الله عنه على إكرامه أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه أتى الذي هو خير وكفر عن يمينه، وهذا يدل على حسن أدب أبي موسى رضي الله عنه؛ فإنه يطلب من الضيف أن يتغدّى معه ويكفر عن يمينه؛ ولهذا قال " الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث دخول المرء على صديقه في حال أكله، واستدناء صاحب الطعام الداخل، وعرضه الطعام عليه، ولو كان قليلا؛ لأن اجتماع الجماعة على الطعام سبب للبركة فيه" (2) وقد ذكر الله عزّ وجلّ قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم وإكرامه لأضيافه فقال عزّ وجلّ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ - إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ - فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ - فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} [الذاريات: 24 - 27] (3) وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على إكرام الضيف، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» (4) وهذا يؤكد العناية بالضيف والآداب
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم، 11 / 129، وانظر: مختصر اختلاف العلماء، لأبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، اختصار أحمد بن علي الجصاص الرازي 3 / 235، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد للإمام محمد بن أحمد بن رشد، 1 / 301، والمغني لابن قدامة المقدسي، 13 / 484، المسألة رقم 1797، والكافي له، 6 / 7، والمقنع، لعبد الله بن أحمد ابن محمد بن قدامة، 27 / 488، والشرح الكببر، لعبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة، 27 / 488، مسألة رقم 4697، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، لعلي بن سليمان بن أحمد المرداوي 7 / 488.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 9 / 648.
(3) سورة الذاريات، الآيات: 24-27.
(4) متفق علبه: البخاري، كتاب الأدب، باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه، 7 / 135، برقم 6136، ومسلم كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الضيف والجار ولزوم الصمت إلا عن الخير، 1 / 68، برقم 47.(1/917)
التي ينبغي للداعية أن يعتني بها (1) .
تاسعا: من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة تبوك: دل هذا الحديث على أن من تاريخ الدعوة ذكر غزوة تبوك، وما وقع فيها من الشدة والابتلاء، لقول أبي موسى رضي الله عنه: "أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك"، وقد كانت هذه الغزوة في السنة التاسعة للهجرة، وأظهر الله فيها كثيرا من المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضحهم الله. أسأل الله لي ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة (2) .
عاشرا: من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان: الله عزّ وجلّ يبتلي عباده بالسراء والضراء؛ ليختبرهم ويمتحنهم، فينبغي أن يقابل ذلك بالشكر في السراء، والصبر في الضراء، وقد ظهر في هذا الحديث الابتلاء بالضراء والصبر على ذلك، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد ما يحمل الأشعريين عليه؛ لقلة ما في اليد وشدة الحال، وهو سيد الخلق ويريد الغزو في جيش العسرة، ومع ذلك حصل له من الابتلاء ما جاء في هذا الحديث، فيقول لأبي موسى ومن معه: «والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه» ، ثم يسر الله له صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه فحملهم بفضل الله عزّ وجلّ بعد الصبر على هذه الشدة (3) .
الحادي عشر: حرص الصحابة على الجهاد والدعوة: إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أحرص الناس على الجهاد والدعوة إلى الله عزّ وجلّ، ومما يدل على حرصهم ما ثبت في هذا الحديث أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه أرسله أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليحملهم معه في الجهاد، فلم يجد لهم رسول
_________
(1) انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 22، وغذاء الألباب، للسفاريني 2 / 157.
(2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 5 / 3-18، وانظر: الحديث رقم 187، الدرس الأول.
(3) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 66، الدرس الأول.(1/918)
الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه، ثم يسر الله له صلى الله عليه وسلم بعض الإبل فأعطاهم ستة أبعرة، وفي رواية "خمس ذود" فحملهم صلى الله عليه وسلم، وهذا يؤكد حرص الصحابة على الجهاد؛ ولهذا جاء بعض الفقراء ليغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجد لهم ما يحملهم عليه فنفى عنهم الحرج، قال عزّ وجلّ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ - وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91 - 92] (1) وهذا والله يدل على أعظم الحرص على الجهاد والدعوة فرضي الله عنهم (2) .
الثاني عشر: عظم محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الصحابة رضي الله عنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم حّبا عظيما، يفوق محبة النفس، والولد، والوالد، والناس أجمعين، ويشفقون عليه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا ثبت في هذا الحديث أن أبا موسى وأصحابه سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه» ، ثم بعد أن يسر الله له وأعطاهم خمس ذود، أو ستة أبعرة، فلما أخذوها وذهبوا قالوا: تغفلنا النبي صلى الله عليه وسلم يمينه، لا نفلح، لا يبارك لنا، فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا سألناك أن تحملنا فحلفت أن لا تحملنا أفنسيت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لست أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها» ، وهذا يؤكد محبة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشفقتهم وعدم غشهم له صلى الله عليه وسلم (3) .
الثالث عشر: من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: التأكيد بالقسم من أساليب الدعوة؛ ولهذا استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر في هذا الحديث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها
_________
(1) سورة التوبة، الآيتان: 91 - 92، وانظر: تفسير الإمام الطبري "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" 14 / 421.
(2) انظر: الحديث رقم: 102، الدرس الرابع.
(3) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثامن، ورقم 63، الدرس الثامن.(1/919)
خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير» ، وهذا فيه تأكيد بالقسم (1) .
الرابع عشر: من أساليب الدعوة: تأديب بعض المدعوين بالقول: من الأساليب في الدعوة تأديب بعض المدعوين بالقول القوي، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: «والله لا أحملكم» ، قال ذلك للأشعريين عندما سألوه أن يحملهم، قال الإمام القرطبي رحمه الله: "وفيه من الفقه ما يدل على جواز اليمين عند التبرّم (2) وجواز رد السائل المثقل عند تعذر الإسعاف، وتأديبه بنوع من الإغلاظ بالقول، وذلك أنهم سألوه في حال تحقق فيها أنه لم يكن عنده شيء، فأدبهم بذلك القول، ثم إنه صلى الله عليه وسلم بقي مترقبا لما يسعف به طلبتهم ويجبر به انكسارهم، فلما يسر الله تعالى ذلك عليه أعطاهم وجبرهم على مقتضى كرم خلقه" (3) .
[حديث بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية قبل نجد فيها عبد الله بن] عمر
_________
(1) انظر: الحديث رقم 10، الدرس الخامس، ورقم 14، الدرس الخامس.
(2) التبرم: السامة والضجر. انظر: القاموس المحيط، للفيروزآبادي، باب الميم، فصل الباء، ص 1394.
(3) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 4 / 629.(1/920)
164 [ص:3134] حدّثنا عبد الله بن يوسف: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر (1) رضي الله عنهما: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سريّة فيها عبد الله بن عمر قبل نجد فغنموا إبلا كثيرة، فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا، ونفّلوا بعيرا بعيرا" (2) .
وفي رواية: "بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم سريّة قبل نجد فكنت فيها، فبلغت سهامنا اثني عشر بعيرا، ونفّلنا بعيرا بعيرا، فرجعنا بثلاثة عشر بعيرا" (3) .
[حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا] لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش
165 [ص:3134] حدّثنا يحيى بن بكير: أخبرنا اللّيث عن عقيل، عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر (4) رضي الله عنهما: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفّل بعض من يبعث من السّرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامّة الجيش". (5) .
* شرح غريب الحديثين: * " سهمانهم " السهم في الأصل: واحد السهام التي يضرب بها في الميسر، وهي: القداح، ثم سمّي به ما يفوز به الفالج سهمه، ثم كثر حتى سمّي كلّ نصيب سهما، ويجمع السهم على أسهم، وسهام، وسهمان. (6) .
* " نفلوا " النّفل بالتحريك: الغنيمة، وجمعه أنفال، والنّفل بالسكون وقد يحرّك: الزيادة (7) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 1.
(2) [الحديث 3134] طرفه في كتاب المغازي، باب السرية التي قبل نجد، 5 / 125، برقم 4338. وأخرجه مسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب الأنفال، 3 / 1368، برقم 1749.
(3) من الطرف رقم: 4338.
(4) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 1.
(5) وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب الأنفال، 3 / 1369، برقم 1750.
(6) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع الهاء، مادة: "سهم" 2 / 429.
(7) المرجع السابق، باب النون مع الفاء، مادة: "نفل" 5 / 99.(1/921)
* الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من وسائل الدعوة: بعث البعوث وإرسال المجاهدين في سبيل الله عزّ وجلّ.
2 - من وسائل الدعوة: إعطاء النفل للشجعان تشجيعا لهم.
3 - أهمية الحرص على الدقة في نقل الحديث.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من وسائل الدعوة: بعث البعوث وإرسال المجاهدين في سبيل الله عزّ وجلّ: من الوسائل النافعة في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ بعث البعوث وإرسال المجاهدين؛ للجهاد والدعوة إلى الإسلام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بذلك عناية فائقة، وهذان الحديثان يدلان على ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "بعث سرية فيها عبد الله بن عمر قبل نجد" فينبغي العناية بإرسال المجاهدين والدعاة إلى الله عزّ وجلّ؛ ليبلغوا الناس الإسلام (1) .
ثانيا: من وسائل الدعوة: إعطاء النفل للشجعان تشجيعا لهم: إن من الوسائل التي استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته تشجيع الشجعان بإعطائهم شيئا زائدا على الغنيمة، ففي هذا الحديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فغنموا إبلا كثيرة، فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا، ونفلهم بعيرا بعيرا، فكان نصيب كل واحد منهم ثلاثة عشر بعيرا". وقد ذكر الإمام ابن عبد البر رحمه الله أن النفل يكون على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يريد الإمام تفضيل بعض الجيش بشيء يراه؛ لشجاعته وغنائه، وبأسه، وبلائه، أو لمكروه تحمله دون سائر الجيش، فينفله الإمام من خمس الخمس من سهام النبي صلى الله عليه وسلم، ويجعل له سلب قتيله.
الثاني: إذا دفع الإمام سرية من العسكر فأراد أن ينفلهم مما غنمت دون
_________
(1) انظر: الحديث رقم 66، الدرس الثالث، ورقم 94، الدرس الأول، ورقم 122، الدرس الثالث.(1/922)
أهل العسكر، فحقه أن يخمس ما غنمت، ثم يعطي السرية مما بقي بعد الخمس (1) ما شاء: ربعا أو ثلثا ولا يزيد على الثلث؛ لأنه أقصى ما ورد، ويقسم الباقي على الجيش والسرية معه.
الثالث: أن يحرض الإمام أو أمير الجيش أهل العسكر على القتال قبل لقاء العدو، وينفل من شاء منهم أو جميعهم ما عسى أن يصير بأيديهم، ويفتحه الله عليهم: الربع، أو الثلث قبل القسم تحريضا لهم على القتال (2) وهذا يؤكد هذه الوسيلة، والله أعلم.
ثالثا: أهمية الحرص على الدقة في نقل الحديث: إن الحرص على الدقة في نقل الحديث من أهم الأمور التي ينبغي العناية بها، ولهذا الحرص ثبت في هذا الحديث قول ابن عمر رضي الله عنهما عن نفل السرية التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد: "فغنموا إبلا كثير فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا" فشك الراوي هل قال: اثني عشر أو قال: أحد عشر، ولم يجزم بأحدهما؛ لحرصه على الدقة في نقل الحديث (3) .
_________
(1) أي بعد إخراج خمسه فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
(2) انظر: الاستذكار، لابن عبد البر، 14 / 101 - 104، والمغني لابن قدامه، 13 / 53 - 62، وشرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 299، والشرح الكبير، لعبد الرحمن بن محمد المقدسي، 10 / 133 - 142، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، لعلي بن سليمان المرداوي، 10 / 133 - 138، وتهذيب السنن، لابن القيم، 4 / 55، والقواعد في الفقه الإسلامي لابن رجب، ص 21.
(3) انظر: الحديث رقم 21، الدرس العاشر.(1/923)
[حديث قسم النبي لإصحاب السفينة مع جعفر وأصحابه حين افتتح خيبر]
166 [ص:3136] حدّثنا محمّد بن العلاء: حدّثنا أبو أسامة: حدّثنا يزيد ابن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى (1) رضي الله عنه قال: "بلغنا مخرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه - أنا وأخوان لي أنا أصغرهم: أحدهما أبو بردة والآخر أبو رهم - إما قال في بضع وإمّا قال في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلا من قومي، فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النّجاشيّ بالحبشة، ووافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده، فقال جعفر: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هاهنا، وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا. فأقمنا معه حتّى قدمنا جميعا، فوافقنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فأسهم لنا - أو قال: فأعطانا - منها، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا، إلّا لمن شهد معه، إلّا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم" (2) .
وفي رواية: "فوافقنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لكم أنتم يا أهل السّفينة هجرتان» (3) .
وفي رواية: "فوافقنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، وكان أناس من النّاس يقولون لنا - يعني لأهل السّفينة - سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس - وهي ممّن قدم معنا - على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس (4) قال عمر: الحبشيّة هذه؟ البحريّة
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 66.
(2) [الحديث 3136] أطرافه في: كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة الحبشة، 4 / 297، برقم 3876. وكتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 5 / 94 و 95، برقم 4230 و 4231 و 4233، وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل جعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عميس، وأهل سفينته رضي الله عنهم، 4 / 1946، برقم 2502.
(3) من الطرف رقم: 3876.
(4) أسماء بنت عميس بن معبد بن الحارث الخثعمية أم عبد الله، من المهاجرات الأول، قيل: أسلمت قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبى الأرقم بمكة وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تحت جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، ثم هاجرت معه إلى المدينة سنة سبع، ثم استشهد يوم مؤتة فتزوجها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ثم مات عنها فغسلته، ثم تزوجها علي بن أبى طالب رضي الله عنه، ولدت لجعفر: عبد الله، ومحمدا، وعونا، وولدت لأبى بكر: محمدا وقت الإحرام، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتستثفر وتحرم، وولدت لعلي: يحيى. وهي أخت ميمونة، وأم الفضل امرأة العباس، وأخت أخواتهن لأمهن، وكن عشر أخوات لأم، وقيل: تسع، وكانت أسماء أكرم الناس أصهارا فمن أصهارها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمزة، والعباس، وغيرهم، ومن بركتها أنها سألت الصحابة رضي الله عنهم عندما غسّلت أبا بكر في يوم بارد فقالت: "إني صائمة وهذا يوم شديد البرد فهل علي من غسل؟ فقالوا: لا، فدل ذلك على أن الغسل من غسل الميت ليس بواجب، بل مستحب، رضي الله عنها. انظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد 8 / 219، وتهذيب الأسماء واللغات، للنووي، 2 / 330، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، 2 / 282.(1/924)
هذه؟ قالت أسماء: نعم. قال: سبقناكم بالهجرة فنحن أحقّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، منكم فغضبت وقالت: كلاّ والله كنتم مع رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنّا في دار أوفي أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم، وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتّى أذكر ما قلت لرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ونحن كنّا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك للنّبي صلى الله عليه وسلم، وأسأله، والله لا أكذب، ولا أزيغ، ولا أزيد عليه" (1) .
وفي رواية: "فلمّا جاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: «يا نبي الله إنّ عمر قال: كذا وكذا، قال: "فما قلت له؟ "، قالت: قلت له: كذا وكذا. قال: "ليس بأحقّ بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السّفينة هجرتان» ، قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السّفينة يأتوني أرسالا يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شي هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم ممّا قال لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم (2) [قال أبو بردة: قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنّه ليستعيد هذا الحديث منّى] ". (3) .
* شرح غريب الحديث: * " أرسالا " أي جماعة جماعة، وفرقا فرقا، وأفواجا أفواجا (4) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
_________
(1) من الطرف رقم: 4230.
(2) من الطرف رقم: 4231.
(3) هذه الزيادة التي بين المعكوفين ليست في الأصل المعتمد، ولكنها في النسخة السلفية المطبوعة مع فتح الباري 7 / 485، ونسخة استانبول، 5 / 80، فدل ذلك على أن الناسخ أسقطها سهوا لوجودها في النسخ الأخرى.
(4) انظر: أعلام الحديث للإمام الخطابي، 3 / 1742، وجامع الأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لابن الأثير، 11 / 605، وشرح النووي على صحيح مسلم، 16 / 297.(1/925)
1 - من صفات الداعية: الفرح بنعمة الله عزّ وجلّ والتحدث بها.
2 - من وسائل الدعوة: التأليف بالمال.
3 - حرص السلف الصالح على الدقة في نقل الحديث.
4 - أهمية النية الصالحة.
5 - من سنن الله عزّ وجلّ: الابتلاء والامتحان.
6 - أهمية الحرص على أخذ العلم من مصادره الأصلية مباشرة.
7 - من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله عزّ وجلّ:
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: الفرح بنعمة الله عزّ وجلّ والتحدث بها: إن من الصفات الحميدة التي دل عليها هذا الحديث: الفرح بفضل الله ورحمته والتحدث بذلك؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لأسماء رضي الله عنها: "سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم "وذكر الإمام الأبي رحمه الله: "أن هذا القول من عمر على وجه الفرح بنعمة الله تعالى والتحدث بها؛ لما علم من عظيم شأن أجر الهجرة، لا على وجه الفخر، ولمّا سمعت أسماء ذلك غضبت على وجه المنافسة في الأجر" (1) وقد بين الله عزّ وجلّ لعباده أنه لا حرج على من فرح بفضل الله سبحانه فقال: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ - قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57 - 58] (2) .
ثانيا: من وسائل الدعوة: التأليف بالمال: إن التأليف بالمال من الوسائل النافعة في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ؛ ولهذا استخدم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الوسيلة في دعوته، ففي هذا الحديث أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا - أو قال:
_________
(1) إكمال إكمال المعلم، لمحمد بن خليفة الأبي، 8 / 431.
(2) سورة يونس، الآيتان: 57-58.(1/926)
"فأعطانا - منها وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهد معه، إلا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم"، وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "وهذا من تأليف القلوب بالمال؛ لما أصابهم من التعب" (1) وسمعته أيضا يقول: "تقديرا لتعبهم، وجهادهم، وصبرهم قسم لهم مع الناس في خيبر" (2) وهذا يؤكد أهمية التأليف بالمال في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ (3) .
ثالثا: حرص السلف الصالح على الدقة في نقل الحديث: لا شك أن السلف الصالح كانوا أحرص الناس على الدقة في نقل الحديث؛ ولهذا جاء في هذا الحديث: "فأسهم لنا، أو قال فأعطانا" شك الراوي، وفي الرواية الأخرى: "وكنا في دار أو في أرض البعداء" شك الراوي أيضا. وهذا يؤكد الحرص على الدقة في نقل الحديث؛ لئلا يدخل فيه ما ليس منه (4) .
رابعا: أهمية النية الصالحة: النية الصالحة هي أساس العمل، وبها يبارك الله عزّ وجلّ في الأعمال، وقد ظهر في مفهوم هذا الحديث أهميتها؛ لأن المهاجرين إلى الحبشة كتب الله لهم بنيتهم الصالحة هجرتين: هجرتهم من مكة إلى الحبشة، والهجرة الثانية: من الحبشة إلى المدينة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان» ، وسمعت العلامة ابن باز حفظه الله يقول: "كتب لهم بالنية هجرتان وهذا فضل الله" (5) يؤتيه من يشاء (6) .
خامسا: من سنن الله عزّ وجلّ: الابتلاء والامتحان: لا شك أن الابتلاء بالخير والشر من سنن الله عزّ وجلّ، وقد ظهر الابتلاء بالخوف
_________
(1) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3136 من صحيح البخاري في جامع الإمام تركي بن عبد الله.
(2) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 4223 من صحيح البخاري في جامع الإمام تركي بن عبد الله.
(3) انظر: الحديث رقم 7، الدرس التاسع.
(4) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الرابع، ورقم 21، الدرس العاشر.
(5) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3876، ورقم 4231، من صحيح البخاري في جامع الإمام تركي بن عبد الله.
(6) انظر: الحديث رقم 22، الدرس السادس.(1/927)
والتشريد لأصحاب الهجرتين كما في هذا الحديث، فابتلاهم سبحانه بأعدائهم فهاجروا إلى الحبشة، وكذلك ابتلاء الأشعريين وهجرتهم من أوطانهم إلى الحبشة ثم إلى المدينة، يبتغون فضلا من الله ورضوانا، رضي الله عنهم ورحمهم (1) .
سادسا: أهمية الحرص على أخذ العلم من مصادره الأصلية مباشرة: أخذ العلم من مصادره الأصلية مباشرة من أهم المهمات؛ ولهذا اعتنى السلف الصالح بذلك، ومن هذا ما ثبت في هذا الحديث أن أسماء بنت عميس رضي الله عنها أخذت تحدث بحديث فضل هجرة الحبشة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «ولكم أصحاب السفينة هجرتان» ، قالت: "فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالا يسألوني عن هذا الحديث"، وقالت: "فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني" وهذا يؤكد أهمية أخذ العلم وسماعه من أهله مباشرة بدون واسطة عند الاستطاعة؛ لأن الأشعريين رضي الله عنهم يريدون سماع هذا الحديث من أسماء رضي الله عنها؛ لكونها سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) .
سابعا: من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله عزّ وجلّ: إن الداعية المخلص الصادق يرغب فيما عند الله عزّ وجلّ، ويبذل جهده وطاقته فيما يقربه من ربه؛ ولهذه الرغبة صبر أصحاب الهجرتين على الشدة وفراق الأهل والأوطان؛ وأعظم من ذلك فراق النبي صلى الله عليه وسلم مع حبهم له؛ ولهذا قالت أسماء بنت عميس رضي الله عنها لعمر رضي الله عنه عندما قال: "سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم"، فقالت: "كلا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار، أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله، وفي رسوله صلى الله عليه وسلم"، وهذا يؤكد رغبتهم فيما عند الله عزّ وجلّ؛ ولهذا عندما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «ولكم أهل السفينة هجرتان» ، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم (3) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 66، الدرس الأول.
(2) انظر: الحديث رقم 77، الدرس الرابع، ورقم 163، الدرس الرابع.
(3) انظر: الحدث رقم 13، الدرس الثاني، ورقم 16، الدرس الثالث، ورقم 21، الدرس السادس.(1/928)
[حديث لقد شقيت إن لم أعدل]
167 [ص:3138] حدّثنا مسلم بن إبراهيم: حدّثنا قرّة بن خالد: حدّثنا عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله (1) رضي الله عنه قال: «بينما رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنيمة بالجعرانة إذ قال له رجل: اعدل. قال له: " لقد شقيت إن لم أعدل» (2) .
* شرح غريب الحديث: * "غنيمة" الغنيمة، والغنم، والمغنم، والغنائم: هو ما أصيب من أموال أهل الحرب، وأوجف عليه المسلمون بالخيل، والركاب. (3) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: العدل.
2 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
3 - من صفات الداعية: الحلم.
4 - سوء أدب بعض المدعوين.
5 - من القواعد الدعوية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: العدل: العدل من أهم الصفات التي يتأكد على الداعية أن يتصف بها، وقد ظهر في مفهوم هذا الحديث أهمية العدل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لقد شقيت إن لم أعدل» ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "بضم المثناة للأكثر، ومعناه ظاهر ولا محذور فيه، والشرط لا يستلزم الوقوع؛ لأنه ليس ممن لا يعدل حتى يحصل له الشقاء،
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 32.
(2) وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 2 / 740، برقم 1063.
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الغين مع النون، مادة: "غنم" 3 / 389.(1/929)
بل هو عادل فلا يشقى" (1) عليه الصلاة والسلام (2) .
ثانيا: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل هذا الحديث على أن الترهيب من أساليب الدعوة إلى الله عزّ وجلّ؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل: "لقد شقيت إن لم أعدل"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "والمعنى لقد شقيت: أي ضللت أنت أيها التابع حيث تقتدي بمن لا يعدل، أو حيث تعتقد في نبيك هذا القول الذي لا يصدر عن مؤمن" (3) وهذا على رواية فتح التاء: "لقد شقيت"، ورجح الفتح الإمام النووي رحمه الله، (4) فتأكد أسلوب الترهيب (5) .
ثالثا: من صفات الداعية: الحلم: الحلم من أعظم صفات أهل العلم والإيمان؛ لما فيه من ضبط النفس عن هيجان الغضب والانتقام، وقد ظهر واضحا في هذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب هذا الرجل الذي قال: "اعدل"، ومما يؤكد حلمه صلى الله عليه وسلم رواية الحديث عند مسلم رحمه الله؛ فإنه قد زاد في آخره: «فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق؟ " فقال صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم (6) يمرقون منه كما يمرق السهم (7) من الرمية» (8) وهذا يؤكد حلم النبي وحكمته صلى الله عليه وسلم، فينبغي التأسي به (9) .
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 243، وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 3 / 109.
(2) انظر: الحديث رقم 60، الدرس الثاني، ورقم 64، الدرس الأول، ورقم 96، الدرس الرابع.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 243.
(4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 7 / 165.
(5) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر، ورقم 12، الدرس الثالث.
(6) لا يجاوز حناجرهم: لا تفقهه قلوبهم ولا ينتفعون بما تلوا منه، وليس لهم حظ سوى تلاوة الفم والحنجرة، وقيل: لا يصعد لهم عمل ولا تلاوة ولا يتقبل. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 7 / 165.
(7) وفي الرواية الأخرى يمرقون من الإسلام، وفي رواية أخرى: يمرقون من الدين: والمعنى يخرجون منه خروج السهم إذا نفذ الصيد من جهة أخرى، ولم يتعلق به شيء منه، والرمية: هي الصيد المرمي. انظر شرح النووي على صحيح مسلم، 7 / 165 - 166.
(8) مسلم برقم 1063، وتقدم تخريجه مع أصل الحديث في الصفحة السابقة، ص 929.
(9) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الثاني، ورقم 89، الدرس الخامس.(1/930)
رابعا: سوء أدب بعض المدعوين: إن من أهم الآداب اللازمة مع الدعاة والعلماء: التأدب معهم، وأخذ العلم عنهم، والالتزام بأخلاق أهل العلم وطلاّبه، وقد ظهر في هذا الحديث سوء أدب هذا الرجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائد العلماء وإمام الأتقياء، فدل ذلك على أن بعض المدعوين يتصف بالجفاء وسوء الأدب والخلق، فيلزم المدعوين أن يسلكوا منهج الحق واحترام العلماء والاستفادة منهم، والله المستعان.
خامسا: من القواعد الدعوية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح: ظهر من مفهوم هذا الحديث أن من القواعد الدعوية قاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، دل على ذلك أن هذا الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "اعدل" قد استحق القتل، ولكن عفا النبي صلى الله عليه وسلم عنه درءا للمفاسد، ومما يؤكد ذلك رواية الحديث عند الإمام مسلم رحمه الله، فقد زاد في آخره: "فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق؛ " فقال صلى الله عليه وسلم: «معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي» (1) فقتل هذا المنافق مصلحة، ولكن يعارض هذه المصلحة مفسدة وهي أن الناس سيقولون إن محمدا يقتل أصحابه، فحينئذ تترك المصلحة لتفويت المفسدة، قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
"الدين مبنيّ على المصالح ... في جلبها والدرء للقبائح
فإن تزاحم عدد المصالح ... يقدم الأعلى من المصالح
وضده تزاحم المفاسد ... يرتكب الأدنى من المفاسد (2)
ومن درء المفاسد أيضا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي ابن سلول، فقد عمل أعمالا كثيرة توجب قتله فقال عمر رضي الله عنه؛ «يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل
_________
(1) مسلم برقم 1063، وتقدم تخريجه مع أصل الحديث، ص 929.
(2) رسالة في القواعد الفقهية، للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص 15 - 23.(1/931)
أصحابه» (1) وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «يا عائشة لولا أن قومك حديث عهدهم بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: بابا شرقيا، وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم» (2) وهذا يوضح للداعية أن المصالح إذا تعارضت قدم الأعلى منها، وإذا تعارضت مصلحة ومفسدة تركت المصلحة لدفع المفسدة، وإذا تعارضت مفسدة ومفسدة يرتكب الأدنى لدفع الأعلى من المفاسد، وهذه قواعد دعوية ينبغي للداعية أن يعتني بها، والله المستعان وعليه التكلان (3) .
[باب ما من النبي صلى الله عليه وسلم على الأسارى من غير أن يخمس]
[حديث قوله في أسارى بدر لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء] النتنى لتتركتهم له
_________
(1) متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: البخاري، كتاب التفسير، سورة المنافقين، باب قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) ، 6 / 77، برقم 4905، ومسلم كتاب البر والصلة، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما، 4 / 1998، برقم 2584.
(2) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها؛ البخاري، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنائها، 2 / 191، برقم 1586، ومسلم، كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، 2 / 968، برقم 1333.
(3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 3 / 195 - 196، 9 / 96، وفتح الباري، لابن حجر، 1 / 325.(1/932)
16 - بَابُ ما مَن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الأَسارى من غيرِ أن يخمّسَ 168 [ص:3139] حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: أَخْبَرَنَا عبد الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا معمر، عَنِ الزُّهرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي أَسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِي حَيّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لتترَكتُهم لَهُ» (2) .
وفي رواية: "وَقَالَ اللَيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: "وَقَعَتْ الفتنة الأولى - يَعْنِي مَقْتَلَ عُثْمَانَ - فَلَمْ تُبْقِ مِنْ أَصْحَاب بَدْرٍ أَحَدا، ثُمَّ وَقَعَتْ الفتنَةُ الثَّانِيَةُ - يَعْنِي الْحَرَّةَ - فَلَمْ تُبْقِ مِنْ أَصْحَاب الْحُدًيْبيةِ أَحَدا، ثُمَّ وَقَعَتْ الثالِثَةُ فَلَمْ تَرْتَفِعْ وَللنَّاسِ طَبَاخٌ" (3) .
* شرح غريب الحديث: * "نتنى" يعني أسارى بدر، واحدهم نتن، كزمِنَ وزمنى، سماهم: نتنى: أي نجس؛ لكفرهم (4) .
* "طَبَاخٌ" أصل الطَّبَاخ: القوة والسِّمَن، ثم استعمل في غيره، فقيل: فلان لا طباخ له: أي لا عقل له ولا خير عنده، أراد أنها لم تبقِ في النَّاس من الصحابة أحدا (5) .
* "الفتنة" الابتلاء والاختبار، والامتحان، وأصل الفتنة من قولك: فتنت الذهب إذا أحرقته بالنار؛ ليتبيَّن الجيد من الرديء، وقد كثر استعمالها بمعنى: الكفر، والإِثم، والضلال، والقتال، والإحراق، والإِزالة، والصرف عن الشيء، والفضيحة، والعذاب، والجنون (6) .
_________
(1) تقدمت ترجمة جبير بن مطعم، في الحديث رقم: 35.
(2) [الحديث 3139] طرفه في: كتاب المغازي، باب، 5 / 25، برقم 4024.
(3) من الطرف رقم: 4024.
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب النون مع التاء، مادة: "نتن" 5 / 14.
(5) انظر: المرجع السابق، باب الطاء مع الباء، مادة: "طبخ" 3 / 111.
(6) تقدم شرحه في غريب الحديث رقم: 36 و 37، ص 255.(1/933)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: المكافأة على المعروف.
2 - أهمية العناية بتعليم الأقارب.
3 - من موضوعات الدعوة: بيان خطر الفتن على الأمة.
4 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
5 - من تاريخ الدعوة: تحديد وفاة البدريين وأهل الحديبية.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: المكافأة على المعروف: المكافأة على المعروف من مكارم الأخلاق؛ ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أسرى معركة بدر: "لو كان المُطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له"، وذلك، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل في جوار المطعم عندما رجع من الطائف فأجاره ودخل مكة (1) قال الإِمام الخطابي رحمه الله: "هذا يدل على أن للإِمام أن يَمُنَّ على الأسارى من غير فداء ولا مال" (2) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "وفي هذا الحث على المكافأة على المعروف، وقاله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه دخل في جواره عندما رجع من الطائف فأجاره، فشكر له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا العمل من باب المكافأة، وقد مات المطعم كافرا" (3) وقد حث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المكافأة على المعروف، فعن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من استعاذكم بالله فأَعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أن قد
_________
(1) انظر: إرشاد الساري، للقسطلاني، 5 / 219.
(2) أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، 2 / 1455، وانظر: تهذيب السنن، لابن القيم، 4 / 24، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 13 / 110.
(3) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3139 من صحيح البخاري.(1/934)
كافأتموه» (1) وعن أسامة بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن صُنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرا، فقد أبلغ في الثناء» (2) وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يشكُرُ الله من لا يشكرُ الناسَ» (3) وهذا يؤكد على الداعية المكافأة على المعروف بحسب الاستطاعة، ولو بالاعتراف والدعاء.
ثانيا: أهمية العناية بتعليم الأقارب: لا شك أن تعليم الأقارب من أعظم القربات؛ لأن حقهم أعظم من حق غيرهم، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث؛ لأن جبير بن مطعم علَّم ابنه محمدا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أسارى بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له"، وهذا يبين أهمية تعليم الأبناء والأقارب العلم النافع (4) .
ثالثا: من موضوعات الدعوة: بيان خطر الفتن على الأمة: إن من الموضوعات التي ينبغي العناية بها: بيان أخطار الفتن للناس وأنها تضعف القوى وتوهن التكاتف والترابط بين المسلمين، وقد دل هذا الحديث على بيان ذلك للناس؛ لقول سعيد بن المسيب رحمه الله: "وقعت الفتنة الأولى - يعني مقتل عثمان - فلم تبقِ من أصحاب بدر أحدا، ثم وقعت الفتنة الثانية - يعني الحرة - فلمِ تبقِ من أصحاب الحديبية أحدا، ثم وقعت الفتنة الثالثة فلم ترتفع وللناس طبَاخٌ"، وهذا يوضح للداعية أهمية بيان أخطار الفتن على المسلمين، وأنها تذهب قوتهم وتضعفها؛ لقوله: "فلم ترتفع وللناس طباخ"، أسأل الله لي ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة (5) .
_________
(1) أبو داود، كتاب الأدب، باب الرجل يستعيذ من الرجل، 4 / 328، برقم 5109، والنسائي، كتاب الزكاة، باب من سأل بالله عزَّ وجلَّ، 5 / 82، برقم 2567، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1 / 403، وفي صحيح سنن أبي داود، 2 / 962.
(2) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في المتشبع بما لم يعطه، 4 / 380، برقم 2035، وقال: هذا حديث حسن جيد غريب، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، للمنذري، 1 / 404.
(3) أبو داود، 4 / 255، برقم 4811، والترمذي بنحوه، 4 / 339، وأخرجه أحمد في المسند، 2 / 295، 5 / 211، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 67، الدرس السادس، ص 406.
(4) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الأول، ورقم 36، الدرس الخامس، ورقم 149، الدرس الأول.
(5) انظر: الحديث رقم 150، الدرس الثالث.(1/935)
رابعا: من أساليب الدعوة الترهيب: لترهيب من أساليب الدعوة التي ينبغي للداعية العناية بها في دعوته، وقد ظهر هذا الأسلوب في مفهوم هذا الحديث؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أطلق على أسارى بدر الكفار "نتنى" أي نجس، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] الآية، (1) وهذا فيه تنفير من الكفر وأهله وأنهم نجس (2) .
خامسا: من تاريخ الدعوة: تحديد وفاة البدريين وأهل الحديبية: ظهر من مفهوم هذا الحديث تحديد آخر من مات من أهل بدر وآخر من مات من أهل الحديبية؛ لقول سعيد بن المسيب رحمه الله: "وقعت الفتنة الأولى فلم تُبْقِ من أصحاب بدر أحدا، ثم وقعت الفتنة الثانية فلم تبقِ من أصحاب الحديبية أحدا، ثم وقعت الفتنة الثالثة فلم ترتفع وللناس طَبَاخ". فالفتنة الأولى، هي مقتل عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في يوم الجمعة الثامن من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، والمقصود والله أعلم أن الفتنة الأولى كانت سببا لموت البدريين فماتوا منذ الفتنة الأولى إلى بداية الفتنة الثانية وهي فتنة الحرة في سنة ثلاث وستين للهجرة النبوية، وكان آخر من مات من البدريين سعد بن أبي وقاص، مات قبل فتنة الحرة ببضع سنين، ثم مات أهل الحديبية ابتداء من الفتنة الثانية. والثالثة من هذه الفتن رجح الحافظ ابن حجر رحمه الله، والعلامة العيني أنها فتنة يوم خروج أبي حمزة الخارجي في خلافة مروان بن محمد بن الحكم سنة مائة وثلاثين للهجرة، قبل موت يحيى بن سعيد بمدة (3) .
_________
(1) سورة التوبة، الآية: 28.
(2) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر، ورقم 12، الدرس الثاني.
(3) انظر: فتح الباري لابن حجر، 7 / 325، 13 / 71، وعمدة القاري للعيني، 17 / 119- 120.(1/936)
[باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام وأنه يعطي بعض قرابته دون بعض]
[حديث إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد]
17 - باب وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الخُمُسَ لِلإِمَامِ، وأَنهُ يُعْطِي بعض قَرَابَتِهِ دُونَ بعض مَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي الْمُطَّلِبِ وَبَنِي هَاشِمٍ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ قَال عُمَرُ بْنُ عبد العزيز: لَمْ يَعُمَّهُمْ بِذَلِكَ ولم يخص قريبا دُون مَنْ أحوج إَلَيْهِ وَإَنْ كان الَّذِي أعطى لما يشكو إليه من الحاجة، ولما مستهم في جنبه من قومه وخلفائهم.
169 [ص:3140] حَدثنَا عبد الله بْن يوسُف: حَدثنَا الليْث، عنْ عقيلٍ، عنِ ابن شهَاب، عن ابْن المُسَيَّب، عَنْ جُبَيْر بْن مُطْعِمِ (1) قَالَ: مَشيت أنا وعثمان بن عفان إِلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلنا: - «يا رسول اللهِ، أعطيت بنِي المطلِبِ وتركتنا. ونحنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هاشم شيء وَاحدٌ» . قَالَ الليثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ وَزَادَ: "قَالَ جُبَيْر: ولم يَقْسِم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبني عبد شمس ولا لبني نوفل. وقال ابن إِسْحَاق: عِبد شمسٍ، وَهاشِم، والمطلب إخوة لأمٍّ. وَأمُّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرَّةَ. وَكَانَ نَوْفَل أخَاهُمْ لأبيهمْ" (2) .
وفي رواية: «أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْ خمس خَيْبَرَ وَتَرَكْتَنَا» (3) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين.
2 - أهمية السؤال عما أشكل.
3 - من صفات الداعية: المكافأة على المعروف.
4 - من وسائل الدعوة: التأليف بالمال.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 35.
(2) [الحديث 3140] ، طرفاه في: كتاب المناقب، باب مناقب قريش، 4 / 187، برقم 3502، وكتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 5 / 94، برقم 4229.
(3) من الطرف رقم: 4229.(1/937)
أولا: من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين: مراعاة أحوال المدعوين من الأمور المهمة، التي ينبغي للداعية أن يعتني بها؛ وقد دل مفهوم هذا الحديث على ذلك؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم لبني المطلب، وبني هاشم من سهم ذوي القربى ولم يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل؛ لأن بني المطلب ناصروا بني هاشم في الشدة والرخاء، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "العلة النصرة، فلذلك دخل بنو هاشم وبنو المطلب ولم يدخل بنو عبد شمس وبنو نوفل؛ لفقدان جزء العلة أو شرطها" (1) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "بنو المطلب ناصروا بني هاشم في الشدة والرخاء، في الجاهلية والإسلام" (2) وهذا يؤكد مراعاة أحوال المدعوين (3) .
ثانيا: أهمية السؤال عما أشكل: السؤال عما أشكل من الأمور المهمة التي ينبغي للداعية أن يعتني بها؛ وقد ظهر في هذا الحديث أهمية السؤال عما أشكل؛ لأن جبير بن مطعم وعثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما سألا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالا: أعطيت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث حجة للشافعي ومن وافقه أن سهم ذي القربى لبني هاشم والمطلب خاصة دون بقية قرابة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قريش" (4) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "بنو المطلب يعطون من الخمس؛ لأنهم ناصروا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجاهلية والإِسلام، ويعطون من الزكاة على الصحيح؛ لأن منع الزكاة عن بني هاشم فقط " (5) وهذا يؤكد أهمية السؤال للداعية، فينبغي أن يسأل عما أشكل عليه أهل العلم الراسخين فيه، والله المستعان (6) .
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 246.
(2) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 4229، من صحيح البخاري.
(3) انظر الحديث رقم 19، الدرس الثالث، ورقم 58، الدرس السابع.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 245.
(5) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3140 من صحيح البخاري.
(6) انظر: الحديث رقم 58، الدرس السادس، ورقم 92، الدرس الرابع.(1/938)
ثالثا: من صفات الداعية: المكافأة على المعروف: المكافأة على المعروف من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال التي ينبغي للداعية أن يعتني بها، ويتخلق، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى بني المطلب مع بني هاشم من الخمس، وترك بقية قرابته؛ لما لبني المطلب من النصرة لبني هاشم في الجاهلية والإِسلام؛ ولهذا كافأهم على معروفهم وإحسانهم (1) .
رابعا: من وسائل الدعوة: التأليف بالمال: لا ريب أن من وسائل الدعوة التأليف بالمال؛ ولهذا أعطى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني المطلب مع بني هاشم من خمس ذوي القربى، ولم يعطِ غيرهم من قرابته من قريش، وهذا والله أعلم فيه جبر لنفوسهم واستمالة لقلوبهم؛ لما لهم من النصرة لبني هاشم في الجاهلية والإِسلام، والله عزَّ وجلَّ أعلم وأحكم (2) .
[باب من لم يخمس الأسلاب ومن قتل قتيلا فله سلبه من غير أن يخمس وحكم] الإمام فيه
_________
(1) انظر: الحديث رقم 168، الدرس الأول.
(2) انظر: الحديث رقم 7، الدرس التاسع، ورقم 166، الدرس الثاني.(1/939)
[حديث قتل إبي جهل]
18 - باب مَنْ لم يخَمِّس الأَسلابَ وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلا فَله سَلبه من غَير أن يخَمّسَ، وحكم الإمَامِ فيهِ 170 [ص:3141] حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ المَاجِشُونِ، عَنْ صالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عبد الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّه (1) «قَالَ: بَيْنَا أَنا واقِف في الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، فَإِذَا أَنا بِغُلامَيْنِ من الأنصَارِ حدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُما، فَغَمَزَني أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ هلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنهُ يَسُبُّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِه لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا. فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزنَي الآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أنشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاس فَقُلْتُ: أَلَا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلتُمَانِي، فَابْتَدَرَاه بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاهُ. ثُمَّ انصَرَفَا إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ. فَقَالَ: "أَيُّكُمَا قتلَهُ؟ " قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنا قَتَلْتُهُ. فَقَالَ: "هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ " قَالَا: لَا. فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: "كِلاكُمَا قتلَهُ". سلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ (2) .
وَكَانَا: مُعَاذَ ابْنَ
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 82.
(2) معاذ بن عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة الأنصاري الخزرجي السلمي المدني البدري، قاتِل أبي جهل، شهد العقبة، وبدرا، وهو أحد المشاركين في قتل أبي جهل، بل حكم له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسلبه، وهذا يؤكد بأنه الذي قتله أولًا، وكان معه أخوه لأمه معاذ بن الحارث قد شد على أبي جهل، ثم جاء معوَذ بن الحارث بن عفراء فمر على أبي جهل فضربه حتى أثبته وتركه وبه رمق ثم قاتل معوذ حتى قتل وقتل أخوه عوف بن الحارث قبله، ثم مر ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فوبخه وبه رمق ثم احتز رأسه؛ ولهذا جمع ابن حجر رحمه الله بين الأحاديث فقال: "فيحتمل أن يكون معاذ بن عفراء شد عليه مع معاذ بن عمرو كما في الصحيح، وضربه بعد ذلك معوذ حتى أثبته، ثم حز رأسه ابن مسعود، فتجتمع الأقوال كلها" [فتح الباري 7 / 296] ، ومما يدل على شجاعة معاذ بن عمرو بن الجموح ما ذكره الذهبي رحمه الله: أن معاذ بن عمرو بن الجموح حمل على أبي جهل فضربه ضربة قطع نصف ساقه، وضرب عكرمة بن أبي جهل معاذ بن عمرو على عاتقه فطرح يده وبقيت معلقة بجلده بجنبه وأجهضه عنها القتال فقاتل عامة يومه وهو يسحبها فلما آذته وضع قدمه عليها ثم تمطأ عليها حتى طرحها. قال الحافظ الذهبي رحمه الله: "هذه والله الشجاعة، لا كآخر مِنْ خَدْشٍ بسهم ينقطع قلبه وتخور قواه" وعاش معاذ بن عمرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى زمن عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 1 / 249 - 252، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 3 / 429.(1/940)
عفْراء (1) وَمُعَاذَ بْن عَمْرو بْنِ الجَمُوحِ» (2) .
وفي رواية: «إِنِّي لفي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ إِذِ الْتَفَتّ فَإِذَا عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فتَيَانِ حَدِيثَا السِّنِّ فَكأني لَمْ آمَنْ بِمَكَانِهمَا إِذْ قَالَ لِي أَحَدُهُمَا سِرّا مِنْ صَاحِبِهِ: يَا عَمِّ أَرني أَبَا جَهْلٍ! فَقُلْتُ: يَا ابْنَ أَخِي وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: عَاهَدْتُ الله إِنْ رأَيتُهُ أَنْ أَقْتُلَهُ أَوْ أَمُوتَ دونَهُ، فَقَالَ لِي الآخرُ سِرّا مِنْ صَاحِبهِ مِثْلَهُ، قَالَ؛ فَمَا سرني أني بَيْنَ رَجُليْنِ مَكَانَهُمَا، فَأَشَرْتُ لَهُمَا إِلَيْهِ، فَشَدَّا عَلَيْهِ مِثْلَ الصَّقْرَيْنِ حتَّى ضَرَبَاهُ، وَهُمَا ابْنَا عَفْراءَ» (3) .
* شرح غريب الحديث: * "حديثة أسنانهما" أي أعمارهما: أي شباب حدث في العمر (4) .
* "بين أَضْلَعَ مِنْهُمَا" أي بين رجلين أقوى منهما (5) .
* "سوادي" أي شخصي، فقوله: "لا يفارق سوادي سواده" أي: لا يفارق شخصي شخصه (6) .
* "فلم أنشب" أي لم ألبث، وحقيقته لم يتعلق بشيء غيره، ولا أشتغل بسواه، ويقال: نَشِبَ في الشيء إذا وقع فيما لا مخلص له منه (7) .
_________
(1) معاذ ابن عفراء: هو معاذ بن الحارث بن رفاعة، بن الحارث بن سواد بن مالك، بن غنم الأنصاري النجاري، شهد العقبتين جميعا، وشهد بدرا وشارك في قتل أبي جهل وهو يعرف بابن عفراء، مات رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بعد مقتل عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقيل: بل جرح في بدر فمات من جراحته. والله أعلم. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 2 / 358، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 3 / 428.
(2) [الحديث 3141] طرفاه في كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل، 5 / 8، برقم 3964. وكتاب المغازي، بَابٌ: 5 / 14، برقم 3988. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل، 3 / 1372، برقم 1752.
(3) من الطرف رقم 3988.
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع النون، مادة: "سنن" 2 / 412.
(5) انظر: المرجع السابق، باب الضاد مع اللام، مادة "ضلع" 3 / 97.
(6) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 69.
(7) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب النون مع الشين، مادة: "نشب" 5 / 52، وانظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 510.(1/941)
"فغمزني" الغمز شبه النخس، يقال: غمزه بيده يغمزه: وهو كالنخس في الشيء بالشيء، ويقال: غمز بالعين والجفن والحاجب: أشار، ويقال غمز: إذا عاب وذكر بغير الجميل، والمغامز المعايب، ويقال: فيه مغمز أو غميزة: أي مطعن. والمقصود هنا: الغمز باليد (1) .
* "يجول" أي يدور، يقال: جال واجتال: إذا ذهب وجاء ومنه الجوَلان في الحرب (2) .
* "سلبه" السلب: الذي يُقضى به للقاتل في الحرب، وهو ما كان على المقتول: من لباسه، ومن آلة الحرب، والسلاح، والثياب، والدواب وغيرها (3) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: الحرص على تعليم الأقارب.
2 - أهمية سؤال الداعية عما أشكل عليه.
3 - من صفات الداعية: الشجاعة.
4 - من أساليب الدعوة: القصص.
5 - من تاريخ الدعوة: معرفة وقت غزوة بدر.
6 - من وسائل الدعوة: إعطاء السلب للقاتل تشجيعا له.
7 - من أساليب الدعوة: تطييب قلب المدعو.
8 - أهمية الأخذ بالقرائن في إثبات الحقوق عند عدم البينة.
9 - أهمية أسلوب التشبيه في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ.
10 - أهمية المسارعة إلى الخيرات.
11 - أهمية الغضب لله ولرسوله في حدود الحكمة.
_________
(1) انظر: معجم المقاييس في اللغة لابن فارس، باب الغين ص 814، والقاموس المحيط للفيروز آبادي، باب الزاي فصل الغين، ص 668.
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الجيم مع الواو، مادة: "جول" 1 / 317.
(3) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 438، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع اللام، مادة: "سلب" 2 / 387، وانظر: غريب الحديث رقم 134، ص 777.(1/942)
12 - أهمية عدم احتقار الصغار في الأمور المهمة.
13 - من صفات الداعية: التزام الأدب والتلطف ولين الكلام مع الكبير والصغير.
14 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: الحرص على تعليم الأقارب: الحرص على تعليم الأقارب، من الأولاد وغيرهم من صفات الداعية الصادق، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث؛ لأن عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ علم ابنه إبراهيم هذا الحديث الذي يدل على شجاعة معاذ بن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، ثم علمه إبراهيم بن عبد الرحمن لابنه صالح، وهذا يؤكد أهمية الحرص على تعليم الأبناء والأقارب ما ينفعهم (1) .
ثانيا: أهمية سؤال الداعية عما أشكل عليه: إن الداعية الحريص على العلم والفهم ينبغي له أن يسأل عن كل ما يشكل عليه؛ ليكون على بصيرة، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث؛ لأن معاذ ابن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح سألا عبد الرحمن بن عوف عن أبي جهل فقال كل منهما على انفراد: "يا عم هل تعرف أبا جهل؟ " وبعد السؤال أجابهما عبد الرحمن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بعد أن رأى أبا جهل يجول في الناس بقوله: "ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه"، وهذا يؤكد أهمية السؤال عما أشكل؛ لتحصل البصيرة والعلم بما سُئل عنه (2) .
ثالثا: من صفات الداعية: الشجاعة: الشجاعة صفة حميدة ينبغي أن يتصف بها الداعية عقليا وقلبيا، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث، وذلك أن معاذ بن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، شدّا على أبي جهل مثل الصقرين حتى ضرباه فقتلاه. وهذا يثبت
_________
(1) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الأول، ورقم 36، الدرس الخامس، ورقم 101، الدرس الخامس.
(2) انظر: الحديث رقم 94، الدرس الرابع، ورقم 144، الدرس الثاني.(1/943)
شجاعتهما، وقوة عزيمتيهما رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما (1) .
رابعا: من أساليب الدعوة: القصص: دل هذا الحديث على أن من أساليب الدعوة القصص؛ ولهذا قص عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على ابنه إبراهيم ما حصل يوم بدر من خبر هذين الشابين وقتلهما لأبي جهل، وحكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المعاذين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، وهذا يؤكد أهمية القصص الصحيح وما فيه من الفوائد والعبر (2) .
خامسا: من تاريخ الدعوة: معرفة وقت غزوة بدر: ظهر في هذا الحديث ذكر عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لغزوة بدر الكبرى، وأن أبا جهل قُتِلَ فيها، وقد كانت غزوة بدر في السنة الثانية للهجرة في رمضان المبارك، وجملة من حضر بدرا من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، معهم فرسان وسبعون بعيرا، أما المشركون فكانوا ألفا، والتحم القتال بين حزب الله وحزب الشيطان، وأمد الله حزبه بألف من الملائكة مردفين، فنصر الله المسلمين فقتلوا سبعين من المشركين، وأسروا سبعين، وانهزم الباقون، والحمد لله على نصره وتوفيقه (3) .
سادسا: من وسائل الدعوة: إعطاء السلب للقاتل تشجيعا له: إن إعطاء السلب للقاتل من وسائل الدعوة التي تشجع المقاتل، وتزيد في قوته ونشاطه، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى معاذ بن عمرو بن الجموح سلب أبي جهل؛ لكونه الذي قتله قتلا شرعيا يستحق به أخذ السلب (4) .
سابعا: من أساليب الدعوة: تطييب قلب المدعو: تطييب القلوب من أعظم وسائل الدعوة؛ لما في ذلك من المصالح الدينية
_________
(1) انظر: الحديث رقم 35 الدرس الخامس، ورقم 61، الدرس الثاني.
(2) انظر: الحديث رقم 17، الدرس الثالث، ورقم 28، الدرس الثامن.
(3) انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، 3 / 171 - 189.
(4) انظر: الحديث رقم 134، الدرس الرابع.(1/944)
والدنيوية، وقد ثبت في هذا الحديث ما يدل على تطييب قلوب المدعوين، وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل معاذ ابن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح عن قتل أبي جهل، فقال: "أيكما قتله؟ "، قال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: "هل مسحتما سيفيكما؟ " قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال: "كلاكما قتله" سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. وقد اشترك هذان الشابان في جراحة أبي جهل، لكن معاذ بن عمرو بن الجموح أثخنه أولا فاستحق السلب، وإنما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كلاكما قتله، تطييبا لقلب الآخر، من حيث إنَّ له مشاركة في قتله، وإلا فالقتل الشرعي الذي يتعلق به استحقاق السلب، وهو الإِثخان وإخراجه عن كونه ممتنعا إنما وجد من معاذ بن عمرو بن الجموح، فلهذا قضى له بالسلب، وإنما أخذ السيفين؛ ليستدل بهما على حقيقة كيفية قتلهما، فعلم أن ابن الجموح أثخنه، ثم شاركه الثاني بعد ذلك وبعد استحقاقه السلب، فلم يكن له حق في السلب (1) وقد قيل: إن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حز رأسه، وقتله، وقيل: قتله معوّذ، قال ابن حجر رحمه الله: "فيحتمل أن يكون معاذ ابن عفراء شد عليه مع معاذ بن عمرو، وضربه بعد ذلك معوذ حتى أثبته، ثم حز رأسه ابن مسعود، فتجتمع الأقوال كلها" (2) والمقصود هنا هو تطييب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقلب معاذ ابن عفراء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (3) .
ثامنا: أهمية الأخذ بالقرائن في إثبات الحقوق عند عدم البينة: لا شك أن الأخذ بالقرائن في إثبات الحقوق عند عدم البينة من الأمور المهمة، فقد ثبت الحكم بذلك في هذا الحديث حينما حكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين معاذ ابن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح فيمن قتل أبا جهل فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هل مسحتما سيفيكما؟ " قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: "كلاكما قتله، سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح "، فقد ظهر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن معاذ بن عمرو بن الجموح هو الذي أثخنه أولا؛ وهذا فيه إثبات الحقوق المالية بالقرائن؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استدل بالدم الذي في السيف على
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 307، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 13 / 113.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7 / 296، وانظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري 13 / 113.
(3) انظر: الحديث رقم 22، الدرس الثالث.(1/945)
مَنْ قَتَلَ أبا جهل وحكم له بالسلب. (1) وللحكم بالقرائن والاستدلال بالأمارات والفراسة أصل في القرآن الكريم، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ - وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ - فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 26 - 28] (2) وهذا يؤكد أهمية الأخذ بالقرائن والله عزَّ وجلَّ أعلم (3) .
تاسعا: أهمية أسلوب التشبيه في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ: التشبيه له أهمية في الأساليب الدعوية؛ لما له من تقريب المعاني، وقد ظهر هذا الأسلوب في هذا الحديث؛ لقول عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في شأن معاذ ابن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حينما قتلا أبا جهل: "فشدا عليه مثل الصقرين"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "شبههما به لما اشتهر عنه من الشجاعة، والشهامة، والإِقدام على الصيد؛ ولأنه إذا تشبث بشيء لم يفارقه حتى يأخذه" (4) وهذا يبين أهمية أسلوب التشبيه في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ (5) .
عاشرا: أهمية المسارعة إلي الخيرات: المسارعة إلى الخيرات من الصفات الحميدة التي ينبغي لكل مسلم أن يتصف بها، وخاصة الداعية إلى الله عزَّ وجلَّ، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن معاذ ابن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح بادرا إلى السؤال عن أبي جهل؛ ليسرعا إلى قتله، ولهذا عندما أشير إليه شدّا عليه مثل الصقرين حتى قتلاه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما (6) .
الحادي عشر: أهمية الغضب لله ولرسوله في حدود الحكمة: لقد دل هذا الحديث على أهمية الغضب لله عزَّ وجلَّ ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لقول كل
_________
(1) انظر: منار القاري، شرح مختصر البخاري، لحمزة محمد قاسم، 4 / 134.
(2) سورة يوسف، الآيات: 26 - 28.
(3) انظر: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم ص 3 - 13.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7 / 308.
(5) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الرابع، ورقم 9، الدرس الخامس.
(6) انظر: الحديث رقم 16، الدرس الثاني، ورقم30، الدرس الثاني.(1/946)
واحد من: معاذ ابن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح في أبي جهل: "أخبرت أنه يسب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منَّا" وشدا عليه مثل الصقرين فقتلاه غضبا لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولا شك أن الغضبَ نوعان: غضب مذموم وهو الذي قال فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (1) وهو الذي أوصى بالابتعاد عنه لمن قال: «أوصني يا رسول الله"، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تغضب» وردد مرارا «لا تغضب» (2) أما النوع الثاني من أنواع الغضب فهو الغضب المحمود، الذي يكون من أجل الله عندما ترتكب حرماته أو تترك أوامره ويستهان بها، وهذا من علامات قوة الإِيمان، ولكن بشرط أن لا يخرج هذا الغضب عن حدود الحكمة، وقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغضب لله إذا انتهكت محارمه، وكان لا ينتقم لنفسه، ولكن إذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء، ولم يضرب خادما، ولا امرأة، إلا أن يجاهد في سبيل الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد خدمه أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عشر سنوات، «فما قال له: أفٍّ قط، ولا قال له لشيء فعله: لمَ فعلت كذا؟ ولا لشيء لم يفعله: ألا فعلت كذا؟» (3) وهذا في الحقيقة هو عين الحكمة؛ لأن هذا الغضب لم يخرج عن حدود الحكمة التي هي في الحقيقة: الإِصابة في القول والفعل، كما قال مجاهد رحمه الله: "الحكمة: الإصابة" (4) كما رجح ذلك الإِمام ابن جرير رحمه الله في قوله عزَّ وجلَّ: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] قال: "تأويل الكلام: يؤتي الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء، ومن يؤته الله
_________
(1) متفق عليه: البخاري، 7 / 129، برقم 6114، ومسلم، 4 / 2014، برقم 2606، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 35، الدرس الأول، ص 247.
(2) البخاري في كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، 7 / 130، برقم 6116.
(3) انظر: عدة حالات غضب فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لله عز وجل، في البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب ما جوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى، 10 / 517 - 518، وجامع العلوم والحكم لابن رجب 1 / 361 - 371، ومختصر منهاج القاصدين، لأحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي، ص 78 - 182، وأدب الدنيا والدين، لأبي الحسن الماوردي ص 214.
(4) أخرجه سعيد بن منصور في سننه، 3 / 979، برقم 448، وابن جرير في التفسير "جامع البيان عن تأويل آي القرآن"، 5 / 577، برقم 6183.(1/947)
ذلك فقد آتاه خيرا كثيرا" (1) فالغضب لله عزَّ وجلَّ هو الذي يكون في موضعه، صوابا في القول والفعل. والله أعلم.
الثاني عشر: أهمية عدم احتقار الصغار في الأمور المهمة: لا شك أن الصغار يختلفون في قدراتهم العقلية والجسدية على حسب ما منَّ الله به على كل واحد منهم، فينبغي أن ينزلوا منازلهم على حسب أحوالهم، وقد ثبت في هذا الحديث ما فعله معاذ ابن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما من قتل عمرو بن هشام - أبي جهل - فدل ذلك على أن الصغار لا يحتقرون فقد يكون الصغير خيرا من كثير من الكبار؛ قال الإِمام الكرماني رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "وفي هذا الحديث المبادرة إلى الخيرات، والغضب لله ولرسوله، وأنه لا ينبغي أن يحتقر الصغار في الأمور الكبار" (2) ومن أهم العبادات بعد الشهادتين الصلاة وقد قدَّم بعض الصحابة من يؤمهم فيها وهو عمرو بن سلمة وكان أكثرهم قرآنا، وهو ابن سبع سنين أو ثمان سنين (3) .
الثالث عشر: من صفات الداعية: التزام الأدب والتلطف ولين الكلام مع الكبير والصغير: إن التزام الأدب، والتلطف، ولين الكلام من الصفات المهمة التي ينبغي للداعية أن يلتزم بها، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث؛ لأن كلا من معاذ ابن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قال لعبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "يا عمِّ هل تعرف أبا جهل؟ "، فرد على كل واحد منهما: "نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي"، وهذا فيه أدب الصغير مع الكبير بإنزاله منزلة العم، وأدب الكبير مع الصغير بإنزاله منزلة ابن الأخ، احتراما، وإكراما وتلطفا (4) .
_________
(1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 5 / 579.
(2) شرح الكرماني على صحيح البخاري 13 / 113.
(3) انظر: سنن النسائي، كتاب الإِمامة، باب إمامة الغلام قبل أن يحتلم، 2 / 80، برقم 789، وسنن أبي داود كتاب الصلاة باب من أحق بالإِمامة، 1 / 159، برقم 585، وصححه الألباني في إرواء الغليل 1 / 127، وعزاه ابن حجر في بلوغ المرام إلى صحيح البخاري، فاطلعت على صحيح البخاري فلم أجده في نسختي ولعله في نسخة أخرى.
(4) انظر: الحديث رقم 51، الدرس الثاني.(1/948)
الرابع عشر: من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: دل هذا الحديث على أن من الأساليب المهمة التأكيد بالقسم عند الحاجة إليه؛ ولهذا قال كل من معاذ بن عمرو، ومعاذ ابن عفراء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما في أبي جهل: "والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا"، وهذا يؤكد أهمية التأكيد بالقسم (1) .
[باب ما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعطي المُؤلفة] قلوبهم وغَيْرهم مِنَ الخمس وَنحوِه
_________
(1) انظر: الحديث رقم 10، الدرس الخامس، ورقم 14، الدرس الخامس.(1/949)
19 - باب ما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعطي المُؤلفة قلوبهم وغَيْرهم مِنَ الخمس وَنحوِه ورَوَاهُ عبد الله بْنُ زَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
171 [ص:3146] حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنسٍ (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أُعْطِي قُرَيْشا أتألفهم؛ لأنهم حَدِيثُ عَهْدٍ بجاهِلِيَّةٍ» (2) .
وفي رواية: «أَنَّ نَاسا مِنَ الأنصارِ قَالُوا لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ مَا أَفَاءَ، فَطَفقَ يُعْطِي رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنَ الإِبِلِ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ الله لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُعْطِي قُريشا وَيَدَعنَا، وَسُيوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهمْ.
قَالَ أنسٌ: فَحُدِّثَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمَقالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الأنصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قبّةٍ مِنْ أَدَمٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ أَحَدا غَيْرَهُم، فَلَمَّا اجْتَمعُوا جَاءَهم رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَا كَانَ حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ " قَال: لَه فُقَهَاؤُهُمْ: أَمَّا ذَوُو رَأْينَا فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئا، وَأَمَّا أناس مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا: يَغْفرُ اللهُ لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي قُرَيْشا ويَتْركُ الأنصَارَ، وَسُيوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِم. فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لأُعْطِي رِجَالا حَدِيث عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ، أمَا تَرْضَوْنَ أنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأمْوَالِ، وَترجِعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوالله مَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ ". قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَدْ رَضِينَا. فَقَالَ لَهُمْ: " إِنَكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أثرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبرُوا حَتَّى تَلْقَوُا الله وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَوْضِ ". قَالَ أَنسٌ: فَلَمْ نَصْبِر ".» (3) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 14.
(2) [الحديث 3146] أطرافه في: كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، 4 / 71، برقم 3147. وكتاب المناقب، باب ابن أخت القوم منهم، ومولى القوم منهم، 4 / 195، برقم 3528. وكتاب مناقب الأنصار، باب مناقب الأنصار، 4 / 267، برقم 3778. وكتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصار: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض"، 4 / 272، برقم 3793. وكتاب المغازي، باب غزوة الطائف في شوال سنة ثمان، 5 / 123، برقم 4331 و 4332 و 4333 و 4334 و 4337. وكتاب اللباس، باب القبة الحمراء من أدم، 7 / 64، برقم 5860. وكتاب الفرائض، باب مولى القوم من أنفسهم وابن الأخت منهم، 8 / 14، برقم 6762. وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ 8 / 232، برقم 7441. وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإِسلام وتصبر من قوي إيمانه، 2 / 733، برقم 1059.
(3) من الطرف: 3147.(1/950)
وفي رواية:
«دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأنصَارَ فَقَالَ: "هَلْ فيكُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِكُمْ؟ " قَالُوْا: لا. إِلا ابْنُ أُخْتٍ لَنَا. فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ابْنُ أخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ".» (1) .
وفي رواية:
«لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيا أَوْ شِعْبا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأنصَارِ أَوْ شِعْبَهُمْ» (2) .
وفي رواية:
«لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ الْتَقَى هَوازِنُ وَمَعَ النَبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةُ آلافٍ وَالطُلَقَاءُ فأَدْبروا، قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الأنصَارِ؟ " قَالُوا: لَبَّيْكَ يا رَسُولَ الله وَسَعْدَيْكَ، لَبَّيْكَ نحنُ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَنَا عبد الله وَرَسُولُهُ" فانْهَزَمَ الْمُشْرِكينَ فَأعطَى الطُلَقَاءَ وَالْمُهاجِرِينَ وَلَمْ يُعْطِ الأنصَارَ شَيْئا، فَقَالُوا فَدَعَاهُمْ فَأَدْخَلَهُمْ فِي قبةٍ فَقَالَ: "أَمَا ترضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْبَعيرِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللهِ" فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيا، وَسَلَكَتِ الأنصَارُ شِعْبا لاخْترتُ شِعْبَ الأنصَارِ» (3) .
وفي رواية:
«جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسا مِنَ الأنصَار فَقَالَ: "إِنَّ قُرَيْشا حَدِيثُ عَهْدٍ بجاهِليةٍ وَمُصِيبةٍ، وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَجْبرهُمْ، وَأتألفهم، أمَا ترضَوْنَ أَنْ يرجِعَ الناسُ بِالدُّنْيَا وَترجِعُونَ برَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بُيوتكُم؟» (4) .
وفي رواية:
«قَالَتِ الأنَصَارُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ - وَأَعْطَى قُرَيْشا - والله إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْعَجَبُ، إِنَّ سَيُوفَنَا لتقْطُرُ مِنْ دِمَاءِ قُرَيْشٍ، وَغَنَائِمُنَا تُرَدُّ عَلَيْهِمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا الأنصَارَ، قَالَ: فَقَالَ: "مَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ " - وَكَانُوا لا يَكْذِبُونَ - فَقَالُوا: هُوَ الَّذِي بَلَغَكَ. قَالَ: "أَوَلَا تَرضَوْنَ أَنْ يَرجِعَ النَّاسُ بِالغَنائِم إِلى بُيوتهم وَترجِعُونَ بِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى بُيُوتكُمْ» (5) .
وفي رواية:
«لما كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ أَقْبَلَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ وَغَيْرُهُمْ بنَعَمِهِم وَذَرَارِيِّهمْ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةُ آلافٍ وَمِنَ الطُلَقَاءِ فَأَدْبروا عَنْهُ حَتَّى بقِيَ وَحْدَهُ، فنَادَى يَوْمَئِذٍ
_________
(1) من الطرف: 3528.
(2) من الطرف: 4332.
(3) من الطرف: 4333.
(4) من الطرف: 4334.
(5) من الطرف: 3778.(1/951)
نداءين لم يخلط بينهما التفت عن يمينه فقال: "يا معشر الأنصار" قالوا: لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك، ثم التفت عن يساره فقال: "يا معشر الأنصار". قالوا: لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك وهو على بغلة بيضاء فنزل فقال: "أنا عبد الله ورسوله" فانهزم المشركون فأصاب يومئذ غنائم كثيرة فقسم في المهاجرين والطلقاء ولم يعط الأنصار شيئا فقالت الأنصار: إذا كانت شديدة فنحن ندعى ويعطى الغنيمة غيرنا فبلغه ذلك فجمعهم في قبة فقال: "يا معشر الأنصار ما حديث بلغني عنكم؛ " فسكتوا فقال: "يا معشر الأنصار ألا ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحوزونه إلى بيوتكم؟ " قالوا: بلى، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لأخذت شعب الأنصار" فقال هشام: يا أبا حمزة وأنت شاهد ذاك قال: وأين أغيب عنه؟ .» (1) .
* شرح غريب الحديث: * قبة من أدم: القبة من البنيان تطلق على البيت المدور وهو معروف عند التركمان والأكراد، والجمع قباب، وهي من الخيام، والأدم بيت صغير مستدير وهو من بيوت العرب (2) .
* أدم: الأدم جمع أديم وهو الجلد (3) .
* أفاء: الفيء ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد، وأصل الفيء الرجوع، يقال: فاء يفيء فئة، وفيوءا كأنه كان في الأصل لهم فرجع إليهم، ومنه قيل للظل الذي يكون بعد الزوال: فيء لأنه يرجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق، ويكون الفيء: الرجوع من جهة إلى جهة أو من مفارقة إلى موافقة (4) .
* أثرة: الأثرة: الاستئثار: أي يستأثرون عليكم فيفضل عليكم غيركم،
_________
(1) من الطرف: 4337.
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع الباء، مادة: "قبب" 4 / 3، والمصباح المنير للفيومي، كتاب القاف 2 / 487، وانظر: شرح غريب الحديث رقم 81، ص 489.
(3) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 537.
(4) انظر: المرجع السابق، ص 43، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الفاء مع الباء، مادة: "فيأ" 3 / 482.(1/952)
أو ينفرد بالاستئثار من الفيء دونكم، والاستئثار: الانفراد بالشيء (1) .
* فطفق: طفق: بمعنى أخذ في الفعل، وجعل يفعل، وهي من أفعال المقاربة (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من وسائل الدعوة: التأليف بالمال.
2 - من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة الفتح وغزوة حنين.
3 - أهمية الستر على أهل الصلاح والتقوى.
4 - من صفات الداعية: التثبت.
5 - من وسائل الدعوة: التأليف بالجاه.
6 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم.
7 - من أساليب الدعوة: التأليف بطيب الكلام.
8 - من معجزات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإخبار بالمغيبات.
9 - من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض فضائله أو مناقبه عند الحاجة انتصارا للحق.
10 - من موضوعات الدعوة: الحض على الصبر.
11 - عظم محبة الصحابة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
12 - حسن أدب الأنصار مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
13 - من صفات الداعية: الصدق.
14 - من أسباب النصر: عدم الإعجاب بالكثرة والقوة.
15 - من صفات الداعية: الشجاعة.
16 - من أصناف المدعوين: المشركون.
17 - من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى.
18 - من صفات الداعية: التواضع.
19 - من أساليب الدعوة: الاستفهام الإنكاري.
_________
(1) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 108، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الهمزة مع الثاء، مادة: "أثر" 1 / 22.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الطاء مع الفاء، مادة: "طفق" 3 / 129.(1/953)
20 - من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من وسائل الدعوة: التأليف بالمال: تألف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث قريشا بالمال فأعطى رجالا منهم المائة من الإبل، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني أعطي قريشا أتألفهم؛ لأنهم حديث عهد بجاهلية» ، وهذا يؤكد أهمية التأليف بالمال في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ (1) .
ثانيا: من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة الفتح وغزة حنين: غزوة الفتح الأعظم ظهر ذكرها في هذا الحديث؛ لقول الراوي: «قالت الأنصار يوم فتح مكة: وأعطى قريشا؛ والله إن هذا لهو العجب» ، كما ظهر ذكر غزوة حنين في قوله: «لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم» . . . "، وهذا يبين أهمية ذكر الحوادث التاريخية التي نصر الله فيها الإسلام وأهله، فقد خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لغزوة فتح مكة في شهر رمضان ومعه عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، ففتح الله عليه، ونصره، وأعز الله الإسلام وأهله، وطهر مكة من دنس الجاهلية (2) وبعد فتح مكة سمعت هوازن برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما فتح الله عليه من مكة فاجتمعوا لقتال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج إليهم في أصحابه الذين فتح الله بهم مكة، وخرج معه ألفان من أهل مكة، فحصل القتال العظيم، ثم نصر الله رسوله، والمؤمنين في معركة حنين، وأمدهم بالملائكة، وغنموا غنائم عظيمة، وأسلم بعد المعركة خلق كثير، والحمد لله (3) .
ثالثا: أهمية الستر على أهل الصلاح والتقوى: إن من أهم الوسائل الدعوية التي ينبغي للداعية أن يعتني بها، الستر على الناس وعدم التشهير بهم، وقد دل هذا الحديث على هذه الوسيلة؛ «لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بلغه قول الأنصار رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم: " يغفر الله لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ يعطي قريشا ويدعنا؟
_________
(1) انظر: الحديث رقم 7، الدرس التاسع، ورقم 166، الدرس الثاني.
(2) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 3 / 394 - 415.
(3) انظر: المرجع السابق، 3 / 465 - 476، وانظر أيضا: الحديث رقم 101، الدرس العاشر.(1/954)
وسيوفنا تقطر من دمائهم" دعاهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجمعهم ولم يدع معهم أحدا غيرهم، وقال: " هل فيكم أحد من غيركم؟ " قالوا: لا، إلا ابن أخت لنا، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ابن أخت القوم منهم» ، وهذا يؤكد أهمية الستر على المدعو إذا وقع في زلة أو خطأ؛ ولهذا حث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الستر فقال: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه؛ ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه» (1) والشاهد في هذا الحديث قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة» .
رابعا: من صفات الداعية: التثبت: ظاهر في هذا الحديث أهمية التثبت في الأمور؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما أخبر بمقالة الأنصار: «يغفر الله لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ يعطي قريشا ويدعنا» تثبت ولم يعجل، بل جمعهم وقال: «ما كان حديث بلغني عنكم» ثم بين لهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان يخفى عليهم، فاقتنعوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، فدل ذلك على أهمية التثبت والتأني وعدم العجلة (2) .
خامسا: من وسائل الدعوة: التأليف بالجاه: دل هذا الحديث على أن التأليف بالجاه من وسائل الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ؛ ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه للأنصار: «إني لأعطي رجالا حديث عهدهم بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به؛ " قالوا: بلى يا رسول الله، قد رضينا،» وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم: «لو سلك الناس واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم» ، وهذا يؤكد التأليف بالجاه، فقد تألفهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجاهه دون ماله (3) .
_________
(1) صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن والذكر، 4 / 2074، برقم 2699.
(2) انظر: الحديث رقم 91، الدرس الثاني.
(3) انظر: الحديث رقم 9، الدرس التاسع.(1/955)
سادسا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: لا ريب أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يستخدم التأكيد بالقسم عند الحاجة إليه؛ ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث للأنصار: «فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به» ، فأكد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقسم تأكيدا على ما يقول، فاتضح بذلك أهمية التأكيد بالقسم عند الحاجة إليه (1) .
سابعا: من أساليب الدعوة: التأليف بطيب الكلام: لا شك أن طيب الكلام، والتلطف فيه من أساليب الدعوة النافعة؛ ولهذا استخدمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال في هذا الحديث للأنصار: «أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، وهذا الكلام الطيب يظهر فيه التلطف، واللين الحكيم؛ قال الإمام الكرماني رحمه الله: " إنما أراد به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تألف الأنصار، واستطابة نفوسهم، والثناء عليهم في دينهم، ومذهبهم، حتى رضي أن يكون واحدا منهم، لولا ما يمنعه عنه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها " (2) وهذا يؤكد للداعية أهمية طيب الكلام والتلطف فيه (3) .
ثامنا: من معجزات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإخبار بالمغيبات: أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببعض الغيوب ووقعت كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدل ذلك على أنه رسول الله حقا، ومن ذلك ما ثبت في هذا الحديث عندما قال للأنصار: " إنكم سترون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض "، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه علم من أعلام النبوة، فكان كما قال (4) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (5) .
تاسعا: ذكر الداعية بعض فضائله أو مناقبه عند الحاجة انتصارا للحق: لا ريب أن ذكر الداعية بعض ما يتصف به من صفات حميدة عند الحاجة لا محذور فيه إذا لم يكن على وجه العجب أو الكبر، وقد ظهر في هذا الحديث
_________
(1) انظر: الحديث رقم 10، الدرس الخامس، ورقم 14، الدرس الخامس.
(2) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 116 / 160.
(3) انظر: الحديث رقم 10، الدرس الثالث، ورقم 51، الدرس الثاني.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8 / 52.
(5) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع.(1/956)
قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنا عبد الله ورسوله» ، فإذا احتاج الداعية إلى ذلك؛ لكونه يؤثر على المدعوين، فإنه من الأمور النافعة (1) والله المستعان (2) .
عاشرا: من موضوعات الدعوة: الحض على الصبر: إن الصبر من الموضوعات التي ينبغي للداعية أن يحض الناس عليها؛ ولهذا حث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث الأنصار على الصبر فقال: «إنكم سترون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض» ، وهذا يؤكد أهمية الحث على الصبر. (3) .
الحادي عشر: عظم محبة الصحابة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم يحبون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبا عظيما، ولهذا ثبت في هذا الحديث قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا معشر الأنصار"، فقالوا: " لبيك يا رسول الله وسعديك، لبيك نحن بين يديك» ، وهذه الاستجابة بالتلبية تدل على حبهم لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
الثاني عشر: حسن أدب الأنصار مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ظهر في هذا الحديث حسن أدب الأنصار مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنهم قالوا: «يغفر الله لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» عندما رأوه لم يقسم لهم؛ ولأنهم لم يجادلوه، ولم يماروه عندما جمعهم وبين لهم وجه الصواب، فأسلموا له قلوبهم وعقولهم؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ذكره لفوائد هذا الحديث: " فيه حسن أدب الأنصار في تركهم المماراة " (5) فيلزم كل داعية بل كل مسلم أن يلتزم الأدب مع رسول الله في حياته، وبعد موته باتباع سنته والسير على منهجه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثالث عشر: من صفات الداعية: الصدق: الصدق يهدي إلى البر؛ ولهذا كان من أهم الصفات التي ينبغي للداعية أن يتصف بها، وقد ظهر في هذا الحديث أن الأنصار صدقوا مع رسول الله ولم
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر 6 / 254.
(2) انظر: الحديث رقم 16، الدرس الرابع، ورقم 61، الدرس التاسع، ورقم 77، الدرس الثالث عشر.
(3) انظر: الحديث رقم 27، الدرس الأول، ورقم 28، الدرس السادس.
(4) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثامن، ورقم 63، الدرس الثامن.
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8 / 52.(1/957)
يكذبوا عليه عندما سألهم فقال: «ما الذي بلغني عنكم؟» ، قال الراوي: وكانوا لا يكذبون، فقالوا: «هو الذي بلغك» وأخبروه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما حصل، فأخبرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما عنده فرضوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، وهذا يؤكد أهمية الصدق (1) .
الرابع عشر: من أسباب النصر: عدم الإعجاب بالكثرة والقوة: إن الإعجاب بالكثرة والقوة من أسباب الهزيمة، وعدم ذلك من أسباب النصر، وقد ظهر في هذا الحديث ما يشير إلى ذلك، وهو قول الراوي: «لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم، بنعمهم، وذراريهم، ومع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرة آلاف، ومن الطلقاء، فأدبروا عنه حتى بقي وحده» . . . "، وهذا في أول الأمر ثم أنزل الله سكينته وجنوده، فنصر رسوله والمؤمنين، والهزيمة في أول المعركة إنما كانت بسبب من قال: «لن نغلب اليوم من قلة» . (2) .
الخامس عشر: من صفات الداعية: الشجاعة: تحقق في هذا الحديث أن الشجاعة من أهم الصفات التي يتأكد على الداعية أن يتصف بها عقليا وقلبيا، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقي يقاتل يوم حنين وانهزم الناس، فقاتل قتالا عظيما حتى تراجع الناس وأنزل الله النصر والحمد لله (3) .
السادس عشر: من أصناف المدعوين: المشركون: دل جهاد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشركين، وقتاله لهم في معركة حنين وغيرها على أن المشركين من أصناف المدعوين الذين ينبغي للداعية أن يدعوهم على حسب الطرق الحكيمة في دعوتهم إلى الله عزَّ وجلَّ. (4) .
السابع عشر: من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى: إن أهل الصلاح والتقوى من أصناف المدعوين، وقد ظهر في هذا الحديث ما حصل من الأنصار ثم أقنعهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأرضاهم بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني لأعطي
_________
(1) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث، ورقم 9، الدرس الرابع، ورقم 35، الدرس الرابع.
(2) انظر: الحديث رقم 61، الدرس الثالث.
(3) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الخامس، ورقم 61، الدرس الثاني.
(4) انظر: الحديث رقم 91، الدرس الثامن، ورقم 105، الدرس السابع.(1/958)
رجالا حديث عهدهم بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعوا إلى رحالكم برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، وهذا يؤكد أن أهل الصلاح والتقوى من أصناف المدعوين (1) .
الثامن عشر: من صفات الداعية: التواضع: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم الناس تواضعا؛ ولهذا ركب على البغلة في معركة حنين ثم نزل إلى الأرض فقاتل ففتح الله عليه، وهذا يدل على شجاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتواضعه، فينبغي لكل مسلم أن يتواضع لله وخاصة الداعية إلى الله عزَّ وجلَّ؛ لما لذلك من الفوائد والتأثير على قلوب المدعوين (2) .
التاسع عشر: من أساليب الدعوة: الاستفهام الإنكاري: إن الاستفهام الإنكاري من الأساليب الدعوية التي ينبغي للداعية أن يعتني بها؛ ولهذا استخدم هذا الأسلوب في هذا الحديث؛ لقول هشام: «يا أبا حمزة وأنت شاهد ذاك؟ قال: " وأين أغيب عنه» وهذا استفهام إنكاري (3) .
العشرون: من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين: ظهر في هذا الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راعى أحوال المدعوين، فمن كان منهم من أهل الإيمان الكامل الذي لا نقص فيه لم يقسم له من الغنائم في معركة حنين، ومن كان دون ذلك أعطاه العطاء العظيم؛ ليقوى إيمانه، ويجذب قلبه إلى الإسلام، وقد كان أصحاب الفضل العظيم في كمال الإيمان الأنصار رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، وهذا يؤكد أهمية مراعاة أحوال المدعوين، والله المستعان (4) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 71، الدرس السابع، ورقم 76، الدرس الرابع.
(2) انظر: الحديث رقم 33، الدرس الحادي عشر، والحديث رقم 62، الدرس الثالث.
(3) انظر: الحديث رقم 4، الدرس الرابع.
(4) انظر: الحديث رقم 173، الدرس التاسع، ثم انظر: الحديث رقم 19، الدرس الثالث.(1/959)
172 [ص:3149] حدثنا يحيى بن بكير: حدثنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس بن مالك (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «كنت أمشي مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء» (2) .
وفي رواية: "فجبذه بردائه جبذة شديدة" (3) .
* شرح غريب الحديث: * برد: البرد: نوع من الثياب معروف والجمع أبراد، وبرود، والبردة: الشملة، المخططة، وقيل: كساء أسود مربع فيه صور تلبسه الأعراب، وجمعها برد (4) .
* غليظ الحاشية: حاشية كل شيء: طرفه وجانبه. أي غليظ الجانب أو الطرف. (5) .
* فجبذه: الجبذ لغة في الجذب، وقيل: هو مقلوب. (6) .
* صفحة عاتق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صفحة كل شيء: وجهه، وجانبه، وناحيته، والعاتق ما بين المنكب والعنق. (7) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 14.
(2) [الحديث 3149] طرفاه في: كتاب اللباس، باب البرود والحبر والشملة، 7 / 51، برقم 5809، وكتاب الأدب، باب التبسم والضحك، 7 / 123، برقم 6088. وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب إعطاء من سأل بفحش وغلظة، 2 / 730، برقم 1057.
(3) من الطرف رقم: 5809.
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الباء مع الراء، مادة: "برد" 1 / 116، وانظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 470.
(5) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الشين، مادة: "حشا" 1 / 392.
(6) المرجع السابق، باب الجيم مع الباء، مادة: "جبذ" 1 / 235.
(7) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الصاد مع الفاء، مادة: "صفح" 3 / 34.(1/960)
1 - من صفات الداعية: التواضع.
2 - أهمية الزهد في حياة الداعية.
3 - من صفات الداعية: الحلم.
4 - من صفات الداعية: الكرم.
5 - أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة.
6 - من صفات الداعية: حسن الخلق.
7 - من وسائل الدعوة: التأليف بالعفو مكان الانتقام.
8 - أهمية التأليف بالمال.
9 - من صفات الداعية: الصبر على الأذى.
10 - من صفات الداعية: دفع السيئة بالحسنة.
11 - أهمية إعراض الداعية عن الجاهلين.
12 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
13 - من أصناف المدعوين: الأعراب.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: التواضع: التواضع من الصفات الكريمة التي يتأكد على الداعية أن يتصف بها، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث؛ لقول أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "كنت أمشي مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدل ذلك على تواضع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه مشى مع خادمه، والعظماء في الغالب لا يمشون مع الخدم، وإنما مع كبار القوم ومع القوات التي تحرسهم (1) .
ثانيا: أهمية الزهد في حياة الداعية: دل هذا الحديث على زهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبس البرد النجراني غليظ الحاشية، قال الإمام الكرماني رحمه الله في ذكره لفوائد هذا الحديث: "وفيه
_________
(1) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثالث.(1/961)
زهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحلمه، وكرمه، وأنه على خلق عظيم" (1) وهذا يؤكد زهده وغنى نفسه كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي" (2) فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى بالزهد وغنى النفس؛ لمحبة الله له (3) .
ثالثا: من صفات الداعية: الحلم: حلم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذا الأعرابي الجافي الذي جبذه ببرده حتى أثر في صفحة عاتقه، وقال: مر لي من مال الله الذي عندك، فلم يعاقبه على هذه الأعمال التي تثير الغضب، بل حلم ولم يغضب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فينبغي للداعية: أن يكون حليما رفيقا، متأنيا (4) .
رابعا: من صفات الداعية: الكرم: الكرم يدل على عظم الكريم وعلو مكانته؛ ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكرم الخلق وأجودهم، ومما يؤكد ذلك ما فعله مع هذا الأعرابي الذي جبذه بردائه، وسأله من المال؛ فأمر له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعطاء، وهذا يؤكد غاية الكرم؛ فإن من يعطي عدوه بطيب نفس منه يدل على كرمه العظيم، وجوده المؤكد (5) .
خامسا: أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة: لا شك أن هذا الأعرابي قد أساء الأدب، وبالغ في الإساءة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعمل أعمالا تدل على جهله: فجبذ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببردته حتى أثر في صفحة عاتقه، ومع ذلك يأمره أن يعطيه! فلا ينبغي للمدعو أن يسيء الأدب بل يلزمه لزوما مؤكدا أن يتأدب مع العلماء والدعاة، ويناصرهم على الحق، ويدفع عنهم الأذى امتثالا لأمر الله عزَّ وجلَّ؛ وأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (6) .
_________
(1) شرح الكرماني على صحيح البخاري 13 / 120، 21 / 69.
(2) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، 4 / 2277، برقم 2965، عن سعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(3) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الأول، ورقم 15، الدرس الأول.
(4) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الثالث، ورقم 89، الدرس الخامس.
(5) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الثالث.
(6) انظر: الحديث رقم 14، الدرس الثالث، ورقم 21، الدرس الأول، ورقم 35، الدرس الأول.(1/962)
سادسا: من صفات الداعية حسن الخلق: حسن الخلق من الصفات العظيمة التي يتأكد على الداعية إلى الله عزَّ وجلَّ أن يتصف بها؛ وقد دل هذا الحديث على هذه الصفة الحميدة؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما جبذه الأعرابي ببردته، حتى أثرت به حاشية الرداء من شدة جبذته، وقال: مر لي من مال الله الذي عندك، لم يزد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أن التفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء، وهذا والله يؤكد حسن خلقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأكيدا بالغا (1) .
سابعا: من وسائل الدعوة: التأليف بالعفو مكان الانتقام: العفو والصفح من الأمور العظيمة التي ينبغي العناية بها في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ؛ ولهذا عفا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذا الأعرابي، فلم يعاقبه، وصفح عنه فأزال ما في نفسه عليه فضحك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا فجبذه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببرده حتى أثرت في صفحة عاتقه، يؤكد عقوبته والغضب عليه، ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تألفه بالعفو مكان الانتقام؛ لأن الله عزَّ وجلَّ أمره بالعفو فقال: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 89] (2) وقال عزَّ وجلَّ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] (3) فينبغي للداعية أن يتألف المدعوين بالعفو، ويتصف به، حتى يجذب قلوب المدعوين، ويحبه الله عزَّ وجلَّ. (4) .
ثامنا: أهمية التأليف بالمال: التأليف بالمال من أهم وسائل الدعوة التي تجذب بها قلوب المدعوين، وقد دل هذا الحديث على هذا الأسلوب؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تألف الأعرابي الذي جبذه ببرده وقال مر لي من مال الله، فأمر له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعطاء، وهذا يؤكد أهمية التأليف بالمال (5) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 14، الدرس الأول، ورقم 21، الدرس الثاني، وانظر: أخلاق العلماء، لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري، ص 64.
(2) سورة الزخرف، الآية: 89.
(3) سورة آل عمران، الآية: 134.
(4) انظر: الحديث رقم 80، الدرس الثالث.
(5) انظر: الحديث رقم 7، الدرس التاسع، ورقم 166، الدرس الثاني.(1/963)
تاسعا: من صفات الداعية: الصبر على الأذى: إن من الصفات الجميلة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها: الصبر على الأذى؛ لأن الصبر يحبس به الداعية نفسه ويضبطها عن الجزع؛ ولهذا صبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على أذى هذا الأعرابي الذي جبذه ببرده حتى انشق، وبقيت حاشيته في عنق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) وقد أمر الله عباده بالصبر ووعدهم عليه بالجزاء بغير حساب، قال عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] (2) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي هذا الحديث بيان حلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصبره على الأذى؛ في النفس، والمال، والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام؛ وليتأسى به الولاة بعده في خلقه الجميل: من الصفح، والإغضاء، والدفع بالتي هي أحسن" (3) وهذا يؤكد جملا من الأخلاق الكريمة، ومنها الصبر على الأذى (4) .
عاشرا: من صفات الداعية: دفع السيئة بالحسنة: الدفع بالحسنى من الصفات الجميلة التي ينبغي أن يتخلق بها الداعية إلى الله عزَّ وجلَّ، وقد دل هذا الحديث على هذه الصفة؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قابل إساءة الأعرابي بالحلم، والعفو، والعطاء؛ قال الإمام النووي رحمه الله في ذكره لفوائد هذا الحديث: "وفيه احتمال الجاهلين والإعراض عن مقابلتهم، ودفع السيئة بالحسنة، وإعطاء من يتألف قلبه، والعفو عن مرتكب كبيرة لا حد فيها، وإباحة الضحك عند الأمور التي يتعجب منها في العادة، وفيه كمال خلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحلمه" (5) والداعية قد جعل الله له مخرجا من أعدائه؛ فإن العدو عدوان: عدو يرى بالعين، وهو شيطان الإنس، والعدو الآخر شيطان الجن، وهو لا يرى، فالمخرج من شيطان الإنس: بالإعراض عنه، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن، والمخرج من شيطان الجن: بالاستعاذة بالله منه. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] (6)
_________
(1) هذه رواية لمسلم في صحيحه برقم 1057.
(2) سورة الزمر، الآية: 10.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10 / 506.
(4) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 27، الدرس الأول، ورقم 28، الدرس السادس.
(5) شرح النووي على صحيح مسلم، 7 / 153.
(6) سورة فصلت، الآية 34.(1/964)
وقال عن النجاة من العدو الثاني: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] (1) وما أحسن ما قاله القائل.
فما هو إلا الاستعاذة ضارعا ... أو الدفع بالحسنى هما خير مطلوب
فهذا دواء الداء من شر ما يرى ... وذاك دواء الداء من شر محجوب (2)
فينبغي للداعية: أن يدفع السيئة بالحسنة، ويحسن إلى من أساء إليه، ويعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويبش في وجه من قل أدبه، حتى يحصل على الثواب العظيم، وينجو من شر أهل الشر، ويجذب قلوب العقلاء إلى دعوته، والله المستعان (3) .
الحادي عشر: أهمية إعراض الداعية عن الجاهلين: الإعراض عن الجاهلين صفة من صفات الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولهذا أعرض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذا الأعرابي امتثالا لأمر الله عزَّ وجلَّ حيث قال عزَّ وجلَّ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] (4) وقد مدح الله من فعل ذلك فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] (5) ومما يدل على التزام الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم بهذا الخلق العظيم، ما ثبت عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قال: «قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شيبا، فقال عيينة لابن أخيه:
يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا
_________
(1) سورة فصلت، الآية 36.
(2) انظر: زاد المعاد لابن القيم، 2 / 462، وأضواء البيان للشنقيطي، 2 / 341 - 342.
(3) انظر: إكمال إكمال المعلم للأبي 3 / 538.
(4) سورة الأعراف الآية 199.
(5) سورة الفرقان الآية 63.(1/965)
بالعدل، فغضب عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حتى هم به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله» (1) وهذا يؤكد للدعاة إلى الله عزَّ وجلَّ أهمية الإعراض عن الجاهلين.
الثاني عشر: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: الداعية الصادق مع الله عزَّ وجلَّ: هو الذي يقتدي برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويكون قدوة لغيره، وقد دل هذا الحديث على هذه الوسيلة الجميلة؛ ولهذا ذكر الحافظ ابن حجر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في فوائد هذا الحديث: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صبر على الأذى، وتجاوز على جفاء من يريد تألفه للإسلام؛ ليتأسى به الولاة بعده في خلقه الجميل (2) فينبغي للداعية أن يكون كذلك، والله المستعان (3) .
الثالث عشر: من أصناف المدعوين: الأعراب: ظهر في هذا الحديث أن من أصناف المدعوين الأعراب؛ ولهذا حلم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذا الأعرابي الذي جبذه بردائه، وتألفه بالعفو، والعطاء، فدل ذلك على أن الأعراب من أصناف المدعوين الذين ينبغي أن يدعوا إلى الله عزَّ وجلَّ على حسب عقولهم، والأعراب لهم جفاء، وشدة، وقسوة، ومن كان منهم من أهل الكفر كان أشد من غيره في الإعراض، قال الله عزَّ وجلَّ: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 97 - 99] سورة التوبة الآيات 97 - 99.، ولا شك أن من سكن البادية يغلب عليه الجفاء في الغالب والغلظة، وقد يكون بعض أهل البادية على غير ذلك، ولكن هذا هو الأغلب، فعن
_________
(1) البخاري، كتاب تفسير سورة الأعراف، باب خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ 5 / 235، برقم 4642.
(2) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10 / 506.
(3) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث، ورقم 8، الدرس الخامس، ورقم 9، الدرس الثالث عشر.(1/966)
أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من بدا جفا (1) ومن اتبع الصيد غفل (2) ومن أتى أبواب السلطان افتتن (3) وما ازداد عبد من السلطان قربا إلا ازداد من الله بعدا» (4) وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن» (5) وهذا الحديث يبين أحوال الأعراب، فليعتن الداعية بهم على حسب حالهم.
_________
(1) من سكن البادية جفا: أي غلظ قلبه وقسا؛ لأن سكان البادية لا يخالطون العلماء إلا قليلا، فلا يتعلمون مكارم الأخلاق، ورأفة القلب على صلة الأرحام والبر، والغالب عليهم أن طباعهم كطباع الوحوش؛ لقلة علمهم ولبعدهم عن الناس. انظر: تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي للمباركفوري، 6 / 532، وفتح الملك المعبود تكملة المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود، لأمين محمود خطاب السبكي، 3 / 117.
(2) من اتبع الصيد غفل: أي لازم اتباع الصيد والاشتغال به، غفل عن طاعة الله لأن قلبه يشتغل به ويستولي عليه حتى يصير فيه غفلة، وربما يغفل عن الجمعة والجماعة، أما من احتاج إلى ذلك ولم يشغله عن طاعة الله عزَّ وجلَّ فلا يدخل فيه والله أعلم. انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، لمحمد شمس الحق، 8 / 61، وتحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي للمباركفوري، 6 / 532، وفتح الملك المعبود، لأمين محمود 3 / 117.
(3) من أتى أبواب السلطان افتتن: أي صار مفتونا في دينه؛ لأنه إن وافقه في كل ما يأتي ويذر فقد خاطر على دينه، وإن خالفه فقد خاطر على دنياه. ولا شك أن المحذور في ذلك الموافقة على ما لا يرضي الله عزَّ وجلَّ، أو الطمع الزائد في الدنيا، أما من دخل عليهم من باب النصح والتعاون على البر والتقوى، والحذر من كل ما نهى الله عنه ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهذا من أعظم القربات، ومن أفضل الجهاد لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدين النصيحة" قلنا: لمن يا رسول الله، قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم" [مسلم برقم 55] ، وانظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، لمحمد شمس الحق، 8 / 61، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي للمباركفوري، 6 / 532، وفتح الملك المعبود تكملة المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود، لأمين بن محمود بن خطاب السبكي، 3 / 117.
(4) أخرجه أحمد في المسند، 2 / 371، 440، وأبو داود، كتاب الصيد، باب في اتباع الصيد، 3 / 111، برقم 2860، ومسند الشهاب، للقاضي أبي عبد الله محمد بن سلامة القضاعي، 1 / 222، برقم 339، وحسن إسناده عند الإمام أحمد، العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3 / 267، برقم 1272، وقال العجلوني: "وأخرجه أحمد والبيهقي بسند صحيح"، كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، 2 / 309، برقم 2417 و 2 / 332، برقم 2499، وصحح إسناده أيضا محمود درويش الحوت فقال. رواه أحمد وإسناده صحيح. أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب ص 286.
(5) أخرجه النسائي، في كتاب الصيد والذبائح، باب اتباع الصيد، 7 / 195، برقم 4309، وأبو داود بلفظه، في كتاب الصيد، باب في اتباع الصيد، 3 / 111، برقم 2859، والترمذي، كتاب الفتن، باب: حدثنا محمد بن بشار، 4 / 523، برقم 2256، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عباس لا نعرفه إلا من حديث الثوري، والطبراني في المعجم الكبير، 11 / 56، برقم 11030، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2 / 552، وصحيح سنن النسائي 3 / 902، وصحيح سنن الترمذي، 2 / 255. وانظر: تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث للعلامة عبد الرحمن بن علي الشيباني الشافعي ص 115، وللحديث شاهد ثالث من حديث البراء بن عازب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، في مسند الإمام أحمد 4 / 297، وفي مسند أبي يعلى، 3 / 215، برقم 1654، وانظر: المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، للحافظ ابن حجر العسقلاني 3 / 404، برقم 3288.(1/967)
173 [ص:3150] حدثنا عثمان بن أبي شيبة: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «لما كان يوم حنين آثر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القسمة: فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك. وأعطى أناسا من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة. قال رجل (2) والله إن هذه القسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله. فقلت: والله لأخبرن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتيته فأخبرته. فقال: "فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ رحم الله موسى. قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» (3) .
وفي رواية:
«قسم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسما فقال رجل: "إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله"، فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه ثم قال: "يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر".» (4) .
وفي رواية: «رحمة الله على موسى» . . . " (5) .
وفي رواية: ". . . «فأخبرته فتمعر وجهه» . . . " (6) .
وفي رواية: ". . . «فأتيته وهو في أصحابه فساررته فشق ذلك على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتغير وجهه حتى وددت أني لم أكن أخبرته» (7) .
وفي رواية: ". . . «فغضب حتى احمر وجهه» . . . " (8) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 102.
(2) رجح الحافظ ابن حجر في فتح الباري 8 / 56، أن هذا الرجل هو معتب بن قشير، من بني عمرو بن عوف وكان من المنافقين.
(3) [الحديث 3150] أطرافه في: كتاب أحاديث الأنبياء، باب، 4 / 156، برقم 3405. وكتاب المغازي، باب غزوة الطائف في شوال سنة ثمان، 5 / 124، برقم 4335 و 4336. وكتاب الأدب، باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه 7 / 114، برقم 6059. وكتاب الأدب، باب الصبر على الأذى، 7 / 125، برقم 6100. وكتاب الاستئذان، باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارة والمناجاة، 7 / 183، برقم 6291. وكتاب الدعوات، باب قول الله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ، 7 / 197، برقم 6336. وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه، 2 / 739، برقم 1562.
(4) من الطرف رقم: 3405.
(5) من الطرف رقم: 4335.
(6) من الطرف رقم: 6059.
(7) من الطرف رقم: 6100.
(8) من الطرف رقم: 6291.(1/968)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من وسائل الدعوة: نقل الكلام بقصد التحذير والإصلاح وإزالة المنكر.
2 - من صفات الداعية: الصبر على الأذى.
3 - أهمية الإعراض عن الجاهلين.
4 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
5 - أهمية التأليف بالمال في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ.
6 - من وسائل الدعوة: التأليف بالعفو مكان الانتقام.
7 - من صفات الداعية: الحلم.
8 - من أساليب الدعوة: الدعاء للقدوات الحسنة.
9 - من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين.
10 - من أساليب الدعوة: الاستفهام الإنكاري.
11 - من أصناف المدعوين: أشراف الناس.
12 - من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة حنين.
13 - من القواعد الدعوية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
* والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من وسائل الدعوة: نقل الكلام بقصد التحذير والإصلاح وإزالة المنكر: إن نقل الكلام على جهة التحذير والإصلاح من وسائل الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ عند الحاجة، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقول من قال: "والله إن هذه قسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله "، فأقر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن مسعود على هذا الإخبار وقال: «فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ ، رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» ، وقد ترجم البخاري رحمه الله لهذا الحديث فقال: "باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه" (1) وقال الحافظ
_________
(1) انظر: صحيح البخاري، 7 / 114.(1/969)
ابن حجر رحمه الله على هذه الترجمة: "المذموم من نقلة الأخبار من يقصد الإفساد، وأما من يقصد النصيحة، ويتحرى الصدق، ويجتنب الأذى فلا، وقل من يفرق بين البابين فطريق السلامة في ذلك لمن يخشى عدم الوقوف على ما يباح من ذلك مما لا يباح: الإمساك عن ذلك" (1) وقال رحمه الله في مراد البخاري رحمه الله بالترجمة: "وأراد البخاري بالترجمة بيان جواز النقل على جهة النصيحة؛ لكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينكر على ابن مسعود نقله ما نقل، بل غضب من مقول المنقول عنه، ثم حلم وصبر على أذاه، اتساء بموسى عليه السلام، وامتثالا (2) لقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] سورة الأنعام، الآية: 90، وقال النووي رحمه الله في النميمة ونقل الكلام: "فإن دعت حاجة إليها فلا مانع منها، وذلك كما إذا أخبره بأن إنسانا يريد الفتك به أو بأهله، أو بماله، أو أخبر الإمام أو من له ولاية: بأن إنسانا يفعل كذا، ويسعى بما فيه مفسدة، ويجب على صاحب الولاية الكشف عن ذلك، وإزالته، فكل هذا وما أشبهه ليس بحرام، وقد يكون بعضه واجبا وبعضه مستحبا على حسب المواطن والله أعلم" (3) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "وفي هذا الحديث جواز إخبار الإمام وأهل الفضل بما يقال فيهم مما لا يليق بهم؛ ليحذروا القائل، وفيه بيان ما يباح من النميمة، لأن صورتها موجودة في صنيع ابن مسعود هذا، ولم ينكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أن قصد ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كان نصح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإعلامه بمن يطعن فيه، ممن يظهر الإسلام ويبطن النفاق ليحذر منه، وهذا جائز كما يجوز التجسس على الكفار ليؤمن كيدهم" (4) وهذا يؤكد أهمية نقل الكلام عند الحاجة للتحذير والنصيحة الخالصة بشرط أن يكون الأمر واضحا لا شك فيه، وأن لا يحصل بذلك منكر أكبر، والله أعلم.
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10 / 475.
(2) المرجع السابق، 10 / 476.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم، 2 / 473.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10 / 512، وانظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري، 21 / 198.(1/970)
ثانيا: من صفات الداعية: الصبر على الأذى: الصبر على الأذى من الصفات المهمة التي يتأكد على الداعية الاتصاف بها، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صبر على أذى هذا الرجل الذي قال له: " إن هذه القسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله! "، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قال بعض العلماء: الصبر على الأذى من باب جهاد النفس وقد جبل الله الأنفس على التألم بما يفعل بها ويقال فيها؛ لهذا شق على النبي صلى الله عليه وسلم نسبتهم له إلى الجور في القسمة، لكنه حلم عن القائل؛ لما علم من جزيل ثواب الصابرين، وأن الله تعالى يأجره بغير حساب، والصابر أعظم أجرا من المنفق؛ لأن حسنته مضاعفة إلى سبعمائة أما الصابر فيجزى بغير حساب " (1) وقال رحمه الله: "وفيه أن أهل الفضل قد يغضبهم ما يقال فيهم مما ليس فيهم، ومع ذلك فيتلقون ذلك بالصبر والحلم كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم اقتداء بموسى عليه السلام " (2) وهذا يبين للداعية أهمية الصبر على الأذى، والله المستعان (3) .
ثالثا: أهمية الإعراض عن الجاهلين: الإعراض عن الجاهلين من الصفات الحميدة؛ ولهذا أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المنافق الذي قال: "إن هذه قسمة ما عدل فيها"، وهذا يوضح للداعية ويبين له أن الإعراض عن الجاهلين من صفات الرسل عليهم الصلاة والسلام (4) .
رابعا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: لا شك أن القدوة الحسنة من أهم وسائل الدعوة؛ ولهذا اقتدى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بموسى في صبره على الأذى، فصبر صلى الله عليه وسلم على قول من قال: "إن هذه قسمة ما عدل فيها"، وقال صلى الله عليه وسلم: «رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» ، وهذا فيه استخدام قياس الأولى، فإذا كان موسى صلى الله عليه وسلم صبر على
_________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 10 / 511، بتصرف يسير، وانظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري، 21 / 223.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10 / 512.
(3) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 16، الدرس الخامس.
(4) انظر: الحديث رقم 172، الدرس الحادي عشر.(1/971)
الأذى الذي هو أكثر من هذا، فالصبر على الأذى القليل أولى بالتحمل (1) .
خامسا: أهمية التأليف بالمال في الدعوة إلى الله عز وجل: التأليف بالمال له أهمية بالغة في الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا أعطى النبي صلى الله عليه وسلم - كما في هذا الحديث- الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب فآثرهم في القسمة، وقد جاء التفصيل بأكثر من هذا في رواية الحديث عند مسلم، «فقد آثر صلى الله عليه وسلم يوم حنين أشرافا من العرب في القسمة: فأعطى صفوان بن أمية مائة من الإبل، وأعطى أبا سفيان مائة، وعيينة بن حصن مائة، والأقرع بن حابس مائة، وعلقمة بن علاثة مائة، وقيل: أعطى مالك بن عوف مائة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال عباس بن مرداس:
أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع
فما كان بدر ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تخفض اليوم لا يرفع
فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، مائة من الإبل مثلهم» (2) وهذا يؤكد على أهمية التأليف بالمال وأثره على النفوس، وخاصة ضعفاء الإيمان (3) .
سادسا: من وسائل الدعوة: التأليف بالعفو مكان الانتقام: إن التأليف بالعفو مكان الانتقام من أهم الوسائل الدعوية؛ ولهذا عفا صلى الله عليه وسلم عن هذا الرجل الجافي الجاهل الذي قال: "إن هذه قسمة ما عدل فيها"، وهذا يؤكد للداعية أهمية التأليف بالعفو مكان الانتقام، والله المستعان (4) .
سابعا: من صفات الداعية: الحلم: حلم النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل الذي قال فيه: "إن هذه قسمة ما عدل فيها
_________
(1) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث، ورقم 8، الدرس الخامس، ورقم 9، الدرس الثالث عشر.
(2) صحيح مسلم برقم 1062، وتقدم تخريجه مع أصل الحديث، ص 968.
(3) انظر: الحديث رقم 7، الدرس التاسع، ورقم 166، الدرس الثاني.
(4) انظر: الحديث رقم؛ 8، الدرس الثامن، ورقم 172، الدرس السابع.(1/972)
وما أريد بها وجه الله "، فلم يعاقبه على ذلك، فدل ذلك على كمال حلمه صلى الله عليه وسلم، فينبغي للداعية أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في حلمه، وعفوه وصفحه، وفي جميع أحواله التي لا تختص به صلى الله عليه وسلم (1) .
ثامنا: من أساليب الدعوة: الدعاء للقدوات الحسنة: إن من أساليب الدعوة النافعة الدعاء للقدوات الحسنة: من الأنبياء، والعلماء، والدعاة؛ لما في ذلك من لفت قلوب المدعوين إلى أعمالهم الطيبة، فيحبونهم ويقتدون بهم، وقد دل الحديث على هذا الأسلوب بقوله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر"؛ فإن هذا يشد قلوب المدعوين إلى الاقتداء بمن دعي له، فينبغي للداعية أن يدعو للعلماء عند ذكرهم ويترحم عليهم، ويثني عليهم بأعمالهم الطيبة بحضرة المدعوين؛ لما في ذلك من ترغيب في أعمالهم؛ ولحقهم على من استفاد من علمهم، والله عز وجل أعلم (2) .
تاسعا: من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين: ظهر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يراعي أحوال المدعوين؛ ولهذا أعطى أناسا من أشراف قريش وترك آخرين (3) قال صلى الله عليه وسلم: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه» (4) وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «أمرنا أن ننزل الناس منازلهم» (5) وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» (6) .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله» (7)
_________
(1) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الثاني، ورقم 89، الدرس الخامس.
(2) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، 11 / 135، 137، وعمدة القاري للعيني، 22 / 132.
(3) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 8 / 53، وعمدة القاري للعيني، 15 / 69.
(4) متفق عليه: البخاري، 1 / 14، برقم 27، ومسلم، 1 / 132، برقم 150، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 7، الدرس التاسع، ص 85.
(5) مسلم في المقدمة، 1 / 6، وسنن أبي داود، كتاب الأدب، باب إنزال الناس منازلهم، 4 / 261، برقم 4842.
(6) مسلم في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، 1 / 11.
(7) البخاري، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا، قي ترجمة الباب، 1 / 46، قبل حديث رقم 127.(1/973)
وهذه الأحاديث وغيرها تؤكد مراعاة أحوال المدعوين على حسب عقولهم، وعقيدتهم، وأجناسهم، ومجتمعاتهم، وعلمهم، وغير ذلك (1) .
عاشرا: من أساليب الدعوة: الاستفهام الإنكاري: إن الاستفهام الإنكاري من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله عز وجل، وقد دل هذا الحديث على هذا الأسلوب في قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله» ؟ "، وهذا يؤكد أهمية أسلوب الاستفهام الإنكاري، فينبغي أن يعتني به الداعية عند الحاجة إليه والله الموفق. (2) .
الحادي عشر: من أصناف المدعوين: أشراف الناس: إن أشراف الناس صنف من أصناف المدعوين؛ ولهذا تألفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاهم- كما في هذا الحديث- عطاء خاصا، مراعاة لأحوالهم، وإنزالا لهم منازلهم، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة» ، وهم من الطلقاء الذين أسلموا يوم الفتح، ومنهم من هو من المهاجرين، وقد اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بجماعة فأجزل لهم العطاء، منهم أبو سفيان، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، ومالك بن عوف، والأقرع بن حابس، وعلقمة بن علاثة، والعباس بن مرداس، وغيرهم، وقد أعطى كل واحد من هؤلاء مائة من الإبل "، (3) فينبغي للداعية أن يعتني بدعوة أشراف الناس، ويخاطبهم على قدر مكانتهم، ومنازلهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلك هذا المنهج الحكيم وأنزل كل إنسان منزلته.
الثاني عشر: من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة حنين: ظهر في هذا الحديث ذكر غزوة حنين؛ لقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «لما
_________
(1) انظر: الحديث رقم 19، الدرس الثالث، ورقم 58، الدرس السابع.
(2) انظر: الحديث رقم 4، الدرس الرابع، ورقم 31، الدرس الخامس.
(3) انظر: صحيح مسلم، برقم 1062، وتقدم تخريجه في أصل الحديث، ص 968، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 8 / 53 و 55.(1/974)
كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناسا في القسمة» ، وهذا فيه بيان لأهمية هذه الغزوة، والعناية بها، وبذكرها، وتاريخها (1) .
الثالث عشر: من القواعد الدعوية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح: لا شك أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ ولهذا والله أعلم لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل الذي قال له في هذا الحديث: "إن هذه قسمة ما عدل فيها "؛ لأنه لو قتله، لقيل: إن محمدا يقتل أصحابه، وهذا فيه تنفير من الإسلام؛ لأن المنافقين من جملة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبدو للناس، فإذا قتلهم كان في ذلك مفاسد عظيمة، والله أعلم (2) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 171، الدرس الثاني.
(2) انظر: الحديث رقم 167، الدرس الخامس.(1/975)
[حديث أسماء كنت أنقل النوى من أرض الزبير. . .]
174 [ص:3151] حدثنا محمود بن غيلان: حدثنا أبو أسامة: حدثنا هشام قال: أخبرني أبي عن أسماء بنت أبي بكر (1) رضي الله عنهما قالت: «كنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي. وهي مني على ثلثي فرسخ ".» وقال أبو ضمرة عن هشام، عن أبيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير أرضا من أموال بني النضير".» (2) .
وفي رواية: «عن أسماء رضي الله عنها قالت: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك، ولا شيء غير ناضح، وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء، وأخرز غربه، وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يوما والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ثم قال: "إخ إخ " ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، وكان أغير الناس، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه، فأناخ؛ لأركب فاستحييت منه وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه. قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم يكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني ".» (3) .
* شرح غريب الحديث: * " فرسخ " الفرسخ من المسافة المعلومة في الأرض مأخوذ منه، والفرسخ ثلاثة أميال أو ستة، سمي بذلك؛ لأن صاحبه إذا مشى قعد واستراح من ذلك
_________
(1) تقدمت ترجمتها في الحديث رقم: 107.
(2) [الحديث 3151] طرفه في كتاب النكاح، باب الغيرة، 6 / 191، برقم 5224. وأخرجه مسلم في كتاب السلام، باب جواز إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت في الطريق، 4 / 1716، برقم 2182.
(3) من الطرف رقم: 5224.(1/976)
كأنه سكن (1) وقيل: الفرسخ: ثلاثة أميال هاشمية، أو اثنا عشر ألف ذراع، أو عشرة آلاف (2) .
* " ناضح " الناضح، والنواضح: الإبل السواني التي يسقى عليها الزرع والنخل، واحدها: ناضح، وجمعها نواضح (3) .
* " غربه " الغرب الدلو (4) .
* " سياسة الفرس " أي القيام على الفرس بما يصلحه (5) .
* " الغيرة " أي الحمية والأنفة، يقال: رجل غيور، وامرأة غيور، بلا هاء؛ لأن فعولا يشترك فيه الذكر والأنثى (6) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - مكانة الصحابيات وصبرهن على خدمة الأزواج.
2 - من صفات الداعية: الكرم.
3 - من صفات الداعية: التواضع.
4 - أهمية الحياء وعظم منزلته.
5 - من صفات الداعية: الغيرة المحمودة.
6 - من صفات الداعية: الحرص على صلة الأرحام.
7 - أهمية الصدق ومكانته.
8 - من صفات الداعية: الرحمة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
_________
(1) لسان العرب، لابن منظور، باب الخاء، فصل الفاء، 3 / 44.
(2) القاموس المحيط، للفيروز آبادي، باب الخاء، فصل الفاء، ص 329.
(3) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي، ص 208، ص 567.
(4) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 568 والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الغين مع الراء، مادة: "غرب " 3 / 351.
(5) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع الواو، مادة: "سوس" 2 / 421.
(6) انظر: المرجع السابق، باب الغين مع الياء، مادة "غير"، 3 / 401.(1/977)
أولا: مكانة الصحابيات وصبرهن على خدمة الأزواج: إن نساء الصحابة رضي الله عنهم كن مجاهدات عاملات في خدمة الأزواج، صابرات على المشقة والتعب ابتغاء وجه الله عز وجل، ومما يدل على ذلك ما فعلته أسماء بنت أبي بكر رضى الله عنهما، من العمل العظيم في خدمة الزوج الشجاع الزبير بن العوام رضي الله عنه، فقد كانت تنقل النوى من أرض بعيدة عن منزلها، وتخرز الغرب، وتستقي الماء، وتعجن وكل ذلك بيدها، والحمل على ظهرها ورأسها، وهذا يدل على قوة عزيمتها، ورغبتها فيما عند الله عز وجل (1) .
ثانيا: من صفات الداعية: الكرم: الكرم من الصفات الحميدة؛ ولهذا اتصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير أرضا، وهذا غيض من فيض من كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي لكل مسلم أن ينهج منهجه، ويسلك طريقه صلى الله عليه وسلم (2) .
ثالثا: من صفات الداعية: التواضع: ظهر في هذا الحديث تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن خلقه مع أصحابه؛ فقد رأى أسماء بنت أبي بكر تحمل النوى على رأسها من أرض الزبير البعيدة عن منزلها، فدعاها صلى الله عليه وسلم ثم قال: «إخ إخ» لراحلته؛ لتبرك فيحمل أسماء عليها خلفه، كما كان يردف أصحابه خلفه مرارا لا تحصر، وهذا يدل على عظم تواضعه صلى الله عليه وسلم (3) .
رابعا: أهمية الحياء وعظم منزلته: لا شك أن الحياء مهم وخاصة للمرأة، وقد دل هذا الحديث على عظم حياء أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها؛ لأنها عندما أناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته لتركب خلفه استحيت رضي الله عنها ولم تركب، قالت: «فاستحييت أن أسير مع الرجال» ، وقالت: «فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى» ، وهذا يؤكد أهمية
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 14 / 415، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 252، 9 / 319.
(2) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الثالث.
(3) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثالث.(1/978)
الحياء (1) ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة (2) والحياء شعبة من الإيمان» (3) وفي رواية لمسلم: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأولها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» (4) وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحياء لا يأتي إلا بخير» (5) ولأهمية الحياء عده النبي صلى الله عليه وسلم من شرائع الأنبياء التي لم تنسخ، بل يكون إلى يوم القيامة (6) فعن أبي مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح (7) .
فاصنع ما شئت» (8) وأعظم من ذلك دلالة أن هذا الحياء من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أبي سعيد رضي الله عنه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء (9) في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه» (10) فينبغي للدعاة إلى الله عز وجل أن يلتزموا الحياء الذي يحبه الله عز وجل؛ وليعلم أن الحياء الذي يمنع من العلم أو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس حياء، وإنما هو من الضعف والخور، والجبن، والله المستعان.
_________
(1) انظر: مختصر شعب الإيمان للبيهقي، اختصره الإمام عمر بن عبد الرحمن القزويني، ص 110، والتوضيح والبيان لشجرة الإيمان، لعبد الرحمن بن ناصر السعدي.، ص 9-38.
(2) البضع: ما بين الثلاث إلى عشر، وقيل ما بين الثلاث إلى تسع. شرح النووي على صحيح مسلم 1 / 363.
(3) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان، 1 / 10، برقم 9، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، 1 / 63، برقم 35، واللفظ له.
(4) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان، 1 / 63، برقم 35.
(5) متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب، باب الحياء، 7 / 130، برقم 6117، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان، 1 / 64، برقم 37 وفي لفظ له: "الحياء كله خير".
(6) انظر: جامع الأصول، لابن الأثير، 3 / 621.
(7) إذا لم تستح فاصنع ما شئت: هذا له تفسيران: المعنى الأول المشهور: إذا لم تستح من العيب ولم تخش العار مما تفعله فافعل ما تحدثك به نفسك من أغراضها سواء كان حسنا أو قبيحا، وهذا لفظه أمر. ومعناه: توبيخ وتهديد. والمعنى الثاني: إذا كنت من أفعالك آمنا أن تستحي منها فاصنع منها ما شئت، كأنه يقول: إذا كنت في أفعالك جاريا على سنن الصواب، فافعل منها ما شئت، جامع الأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، لابن الأثير، 3 / 621، وانظر: شرح الأربعين النووية، للإمام ابن دقيق العيد، ص 62.
(8) البخاري، في كتاب أحاديث الأنبياء، باب 40 / 183، برقم 3483.
(9) العذراء: البكر، والخدر: هو الموضع الذي تصان فيه من الأعين. جامع الأصول لابن الأثير، 3 / 622.
(10) متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب، باب الحياء، 7 / 130، برقم 6119، ومسلم، كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم، 4 / 1809، برقم 2320، واللفظ له.(1/979)
خامسا: من صفات الداعية: الغيرة المحمودة: إن الغيرة المحمودة هي التي تبعث على القيام بالواجبات وتنفر من المحرمات، وقد ظهر في هذا الحديث أن الغيرة من الصفات الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها الداعية، قالت أسماء رضي الله عنها: «فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس» ، ويؤكد ذلك ما صح في مدح الغيرة، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أحد أغير من الله؛ ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله؛ ولذلك مدح نفسه، [وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل] » ، " (1) وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: «قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح عنه (2) فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتعجبون من غيرة سعد؛ فوالله لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله، ولا شخص أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة» (3) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم [الله] عليه» (4) ومما يؤكد غيرة الله على محارمه ما روته عائشة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أمة محمد، ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته يزني، يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم
_________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب التفسير، سورة الأنعام، باب قوله وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر، 5 / 231، برقم 4634، ومسلم، كتاب التوبة، باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش، 4 / 2114، برقم 2760، واللفظ له.
(2) غير مصفح: أي يضربه بحد السيف لا بعرضه. جامع الأصول لابن الأثير، 8 / 433.
(3) متفق عليه: البخاري، كتاب التوحيد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا شخص أغير من الله "، 8 / 220، برقم 7416، ومسلم، كتاب اللعان، 2 / 1136، برقم 1499.
(4) متفق عليه: البخاري، كتاب النكاح، باب الغيرة، 6 / 191، برقم 5223، ومسلم، كتاب التوبة، باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش، 4 / 2114، برقم 2761، واللفظ لمسلم، وما بين المعكوفين من صحيح البخاري.(1/980)
لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» (1) .
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله: أن الغيرة نوعان: غيرة من الشيء، وغيرة على الشيء، والغيرة من الشيء: كراهة مزاحمته ومشاركته لك في محبوبك، والغيرة على الشيء: شدة حرصك على المحبوب أن يفوز به غيرك دونك أو يشاركك في الفوز به.
والغيرة أيضا نوعان: غيرة العبد من نفسه على نفسه، كغيرته من نفسه على قلبه، ومن تفرقه على جمعيته، ومن إعراضه على إقباله، ومن صفاته المذمومة على صفاته المحمودة، وهذه الغيرة خاصية النفس الشريفة الذكية، وما للنفس الدنية المهينة فيها نصيب.
ثم الغيرة أيضا نوعان: غيرة الله على عبده، وغيرة العبد لربه لا عليه، فأما غيرة الرب على عبده، فهي أن لا يجعله للخلق عبدا، بل يتخذه عز وجل لنفسه وحده عبدا. وغيرة العبد لربه نوعان، أيضا: غيرة من نفسه وغيرة من غيره، فالتي من نفسه: أن لا يجعل شيئا من أعماله، وأقواله، وأحواله، وأوقاته، وأنفاسه لغير ربه، والتي من غيره: أن يغضب لمحارمه عز وجل إذا انتهكها المنتهكون، ولحقوقه إذ اتهاون بها المتهاونون (2) فينبغي للداعية أن يتصف بالغيرة التي يحبها الله عز وجل، ويدعو الناس إليها ويحثهم عليها، ويحذرهم من محارم الله عز وجل؛ لأن الله يغار وغيرته لا تشبه غيرة أحد من خلقه؛ فإنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] والله الموفق للصواب.
سادسا: من صفات الداعية: الحرص على صلة الأرحام: دل هذا الحديث على أن من الصفات الحميدة الحرص على صلة الأرحام؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه أحسن إلى بنته أسماء رضي الله عنها فأرسل إليها خادما يكفيها الفرس وما يحتاج إليه؛ ولهذا قالت رضي الله عنها: ". . . «حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم يكفيني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني» ، وقد تأثرت رضي الله عنها بهذه الصلة حتى
_________
(1) البخاري، كتاب النكاح، باب الغيرة، 6 / 191، برقم 5221.
(2) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 3 / 43.(1/981)
قالت: «فكأنما أعتقني» ، وهذا يؤكد ويحث على العناية بالأرحام وصلتهم؛ لما في ذلك من الثواب العظيم، والأجر الكبير؛ ولأهمية صلة الرحم ألزم الله بها كل مسلم ومسلمة لنصوص كثيرة وفوائد عظيمة منها ما يأتي: 1- أمر الله عز وجل بصلة الأرحام فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36] (1) وقال الله عز وجل: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] (2) وقال سبحانه: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الروم: 38] (3) وقال عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215] (4) .
2 - صلة الأرحام يزيد الله بها في العمر، ويبسط في الرزق، ويصل من وصلها، وهي من أسباب المحبة بين الأهل والأقارب، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره (5) فليصل رحمه» (6) وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «إنه من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم، وحسن الخلق وحسن الجوار، يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار» (7) وعن أبي هريرة
_________
(1) سورة النساء، الآية: 36، وانظر: أحكام القرآن لعماد الدين الطبري الهراس، 2 / 371.
(2) سورة الإسراء، الآية: 26.
(3) سورة الروم، الآية: 38.
(4) سورة البقرة، الآية: 215.
(5) ينسأ له في أثره: أي يؤخر له في أجله، وبسط الرزق: توسيعه وكثرته، وقيل: البركة فيه. وأما التأخير في الأجل، فقيل: هذه الزيادة بالبركة في عمره والتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك، ورجحه النووي. وقيل: إن التأجيل في العمر بالنسبة لما يظهر للملائكة وفي اللوح المحفوظ ونحو ذلك، فيظهر لهم أن عمره ستون سنة مثلا، فإن وصل رحمه زيد له أربعون سنة وقد علم الله عز وجل ما سيقع من ذلك وقدره. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 16 / 349.
(6) متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب، باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم، 7 / 96، برقم 5986، ومسلم كتاب البر والصلة، والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، 4 / 1982، برقم 2557.
(7) مسند الإمام أحمد، 6 / 159، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 76، الدرس الثالث، ص 462.(1/982)
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم؛ فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة (1) في الأثر» (2) وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول على المنبر: "تعلموا أنسابكم، ثم صلوا أرحامكم، والله إنه ليكون بين الرجل وبين أخيه الشيء، ولو يعلم الذي بينه وبينه من داخلة الرحم (3) لأوزعه ذلك عن انتهاكه " (4) وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم، فإنه لا قرب لرحم إذا قطعت وإن كانت قريبة، ولا بعد لها إذا وصلت وإن كانت بعيدة» (5) وزاد البخاري في الأدب المفرد موقوفا على ابن عباس رضي الله عنهما: «. . . وكل رحم آتية يوم القيامة أمام صاحبها تشهد له بصلة إن كان وصلها، وعليه بقطيعة إن كان قطعها» . (6) .
3 - صلة الأرحام من أسباب دخول الجنة، فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه «أن رجلا قال يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: "تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم» (7) وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» (8) .
_________
(1) قال الترمذي في سننه منسأة في الأثر، يعني زيادة في العمر، 4 / 351.
(2) أخرجه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في تعليم النسب، 4 / 351، برقم 1979، وأحمد في المسند، 2 / 374، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 4 / 161، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 276: "إسناده جيد، ورجاله ثقات".
(3) داخلة الراحم: علامة القرابة. فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد، لفضل الله الجيلاني 1 / 155.
(4) أخرجه البخاري في الأدب المفرد في باب: تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، ص 39، برقم 72، وحسن إسناده الألباني في صحيح الأدب المفرد ص 55.
(5) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي 4 / 161، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 277.
(6) الأدب المفرد ص 39، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ص 56، وقال في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 277 في هذه الزيادة: "وهذا سند على شرط البخاري في صحيحه، ولكنه موقوف بيد أن من رفعه ثقة حجة وهو الإمام الطيالسي وزيادة الثقة مقبولة".
(7) البخاري، كتاب الأدب، باب فضل صلة الرحم، 7 / 95، برقم 5983.
(8) أخرجه ابن ماجه برقم: 3251، والترمذي برقم: 2485، وأحمد في المسند 1 / 165، وتقدم تخريجه في الدرس الثالث من الحديث رقم 133، ص 773.(1/983)
4 - صلة الرحم من أسباب النجاة من العقوبة؛ لأن قطيعة الرحم تسبب العقوبة، في الدنيا والآخرة، فعن أبي بكرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة: من البغي وقطيعة الرحم» (1) وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يدخل الجنة قاطع» (2) يعني قاطع رحم (3) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: "هذا مقام العائذ بك من القطيعة". قال: "نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؛ " قالت: بلى يا رب، قال: "فهو لك "، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ - أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 22 - 24] » ، (4) وعن عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله» (5) وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل أنا الرحمن، وأنا خلقت الرحم، وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته» (6) .
5 - صلة الرحم الكاملة التي تحصل بها الإعانة هي أن المسلم يصل من
_________
(1) أبو داود، كتاب الأدب، باب في النهي عن البغي، 4 / 276، برقم 4902، والترمذي، كتاب صفة القيامة، باب: حدثنا علي بن حجر، 4 / 664، برقم 2511، وقال: "هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد، باب عقوبة قاطع الرحم في الدنيا، 1 / 147، برقم 67، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 917، 976. وصحيح الأدب المفرد ص 53.
(2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب، باب إثم القاطع 7 / 95، برقم 5984، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، 4 / 1981، برقم 2556.
(3) من رواية مسلم المتقدمة برقم 2556.
(4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب، باب من وصل وصله الله، 7 / 96، برقم 5987، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، 4 / 1980، برقم 2554، والآيات من سورة محمد 22- 24.
(5) مسلم، كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، 4 / 1981، برقم 2556.
(6) البخاري في الأدب المفرد، باب فضل صلة الرحم، ص 33، برقم 53، بلفظه، وأبو داود، في كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم، 2 / 133، برقم 1694، والترمذي، وصححه في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في قطيعة الرحم، 4 / 315، برقم 1907، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: 520، وصحيح الأدب المفرد ص 49.(1/984)
قطعه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رجلا قال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: "لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل (1) ولا يزال معك من الله ظهير عليهم (2) ما دمت على ذلك ".» (3) وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» (4) والمراد بالواصل في هذا الحديث: الكامل؛ فإن المكافأة نوع صلة، ولا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع، فهم ثلاث درجات: واصل، ومكافئ، وقاطع، فالواصل من يعطي ويتفضل ولا يتفضل عليه، والمكافئ الذي لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ، والقاطع الذي يأخذ ولا يعطي، ويتفضل عليه ولا يتفضل، وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين كذلك تقع بالمقاطعة من الجانبين، فمن بدأ بالوصل فحينئذ هو الواصل.
انظر: فتح الباري لابن حجر، 10 / 424.
6 - الصدقة على ذي الرحم: اثنتان: صدقة وصلة، فعن سليمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة، والصدقة على ذي الرحم اثنتان: صلة وصدقة» . (5) .
7 - والرحم التي أمر بصلتها، هي كل ما يرتبط بقرابة سواء كانت من الأصول: كالآباء والأمهات وإن علوا، والفروع وإن نزلوا، والحواشي: من الإخوة والأخوات، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، كما دل على أصل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رجل: يا رسول الله، من أحق بحسن الصحبة؛ قال: " أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك، أدناك» (6) .
_________
(1) المل: هو الرماد الحار، شرح النووي على صحيح مسلم، 16 / 350.
(2) الظهير: المعين الدافع لأذاهم. انظر: المرجع السابق 16 / 350.
(3) مسلم، كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، 4 / 1982، برقم 2558.
(4) البخاري، كتاب الأدب، باب ليس الواصل بالمكافئ، 7 / 97، برقم 5991.
(5) أخرجه أحمد في مسنده، 2 / 17، 18، 214، والترمذي، 3 / 38، برقم 658، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 7، الدرس الأول، ص 80.
(6) متفق عليه: البخاري، 7 / 91، برقم 5971، ومسلم، 4 / 1974، برقم 2548، وتقدم تخريجه في الدرس الخامس، من الحديث رقم 114، ص 665.(1/985)
وصلة الرحم أنواع على حسب الحاجة، فتكون بالنفقة لمن يحتاج ذلك، وتكون بالهدية، وبالتودد إليهم، وبالعون والإعانة على الحاجات، وبالنصيحة، وبدفع الضرر، وبالإنصاف معهم، وطلاقة الوجه، وبالعدل والقيام بالحقوق الواجبة، وبالدعاء، وبتفقد أحوالهم، والتغافل عن زلاتهم، والزيارة، وبالشفاعة الحسنة، والمعنى الجامع: إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الضرر (1) .
ويجمع أنواع الصلة قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] (2) فينبغي للداعية أن يعتني بالرحم ويصلها؛ فيكون قدوة حسنة، ويحض على ذلك ويدعو إليه بالقول والفعل. والله المستعان وعليه التكلان.
سابعا: أهمية الصدق ومكانته: ظهر في هذا الحديث أن الصدق من الصفات الحميدة؛ ولهذا أثنت أسماء بنت أبي بكر على من اتصف به فقالت: «ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق» ، وهذا يؤكد أهمية الصدق ومكانة أهل الصدق في القلوب. (3) .
ثامنا: من صفات الداعية: الرحمة: دل هذا الحديث على صفة الرحمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رحم أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما وأشفق عليها من حمل النوى على رأسها، فأراد أن يحملها خلفه؛ لأن الزبير رضي الله عنه، قال حينما بلغه الخبر: «والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه» ، قال الإمام النووي رحمه الله: "وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على المؤمنين والمؤمنات، ورحمتهم ومواساتهم فيما أمكنه " (4) وهذا يؤكد أهمية الرحمة بالمؤمنين والمؤمنات (5) .
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 10 / 418، وسبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني 4 / 1533 وتوضيح الأحكام شرح بلوغ المرام، لعبد الله البسام، 6 / 244.
(2) سورة النحل، الآية: 90.
(3) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث، ورقم 9، الدرس الرابع، ورقم 35، الدرس الرابع.
(4) شرح النووي على صحيح مسلم، 14 / 417.
(5) انظر: الحديث رقم 5، الدرس الأول، ورقم 9، الدرس الثالث، ورقم 50، الدرس الرابع.(1/986)
[باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب]
[حديث استحياء عبد الله بن مغفل من رسول الله]
20 - باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب 175 [ص:3153] حدثنا أبو الوليد: حدثنا شعبة، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن مغفل (1) رضي الله عنه قال: «كنا محاصرين قصر خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم، فنزوت لآخذه فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحييت منه» . (2) .
[حديث ابن عمر كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه]
176 [ص:3154] حدثنا مسدد: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، «عن ابن عمر (3) قال: "كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب، فنأكله ولا نرفعه ".»
* شرح غريب الحديثين: * " جراب " الجراب: وعاء من جلد يحفظ فيه الزاد (4) .
* " فنزوت " أي وثبت وأسرعت. (5) .
* الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها: 1- من خصائص الإسلام: التيسير ورفع الحرج.
2 - من صفات الداعية: توقير النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله.
_________
(1) عبد الله بن مغفل بن عبد غنم، وقيل: ابن عبد نهم بن عفيف المزني، وكان من أهل بيعة الرضوان، وقال: إني لممن رفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغصان الشجرة، سكن المدينة، ثم تحول إلى البصرة، وابتنى بها دارا قرب الجامع، وكان أحد البكائين الذين نزل فيهم قوله تعالى: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [سورة التوبة، الآية: 92] ، وكان أحد العشرة الذين بعثهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى البصرة يفقهون الناس، وهو أول من دخل مدينة تستر حين فتحها المسلمون، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وأربعين حديثا اتفق البخاري ومسلم على أربعة منها، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بآخر، توفي بالبصرة سنة ستين، وقيل: سنة تسع وخمسين. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 290، وسير أعلام النبلاء للذهبي 2 / 483.
(2) [الحديث 3153] طرفاه في: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 5 / 92، برقم 4214 وكتاب الذبائح والصيد، باب ذبائح أهل الكتاب وشحومها من أهل الحرب وغيرهم، 6 / 281، برقم 5508. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب، 3 / 1393، برقم 1772.
(3) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 1.
(4) تقدم في شرح غريب الحديث رقم 141، ص 814.
(5) تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي ص 64.(1/987)
3 - من صفات الداعية: الحياء.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من خصائص الإسلام: التيسير ورفع الحرج: التيسير ورفع الحرج من خصائص الإسلام، وقد دل هذان الحديثان على ذلك؛ لأن بعض الصحابة رضي الله عنهم كانوا يأكلون من الغنيمة قبل القسم على قدر الحاجة: من الشحم، والعسل، والعنب، والطعام اليسير، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على جواز مثل ذلك، ويسر الإسلام وسماحته. ونقل النووي رحمه الله: "إجماع العلماء على جواز أكل طعام الحربيين ما دام المسلمون في دار الحرب، فيأكلون منه قدر حاجتهم، ويجوز بإذن الإمام وبغير إذنه "، (1) وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: لا أعلم خلافا بين الفقهاء أن الطعام لا يخمس، في جملة ما يخمس من الغنيمة، وأن لواجده أكله ما دام الطعام في حد القلة، وعلى قدر الحاجة، ما دام صاحبه مقيما في دار الحرب " (2) وهذا يبين أن من خصائص الإسلام التيسير ورفع الحرج، والحمد لله (3) .
ثانيا: من صفات الداعية: توقير النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله: الصحابة رضي الله عنهم كانوا يوقرون النبي صلى الله عليه وسلم، ويجلونه، إكراما، وتعظيما، ومحبة، وقد دل الحديث الأول من هذين الحديثين على ذلك؛ لقول عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: «كنا محاصرين قصر خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم، فنزوت لآخذه، فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه» ، قال العلامة العيني رحمه الله: "وفيه إشارة إلى ما كانوا عليه من توقير النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الإعراض عن خوارم المروءة" (4) .
فينبغي لكل مسلم أن يحترم النبي صلى الله عليه وسلم ويوقره، وينصره في حياته وبعد موته بنشر سنته والذب عن دينه، والدعوة إليه. قال الله عز وجل:
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 345.
(2) تهذيب السنن، 4 / 34، وانظر: القواعد في الفقه الإسلامي، لابن رجب، ص 199.
(3) انظر: الحديث رقم 1، الدرس الخامس، ورقم 32، الدرس الأول.
(4) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 15 / 76.(1/988)
{لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] (1) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1] (2) وهذا يبين أهمية احترام النبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه وإنزاله منزلته صلى الله عليه وسلم (3) .
ثالثا: من صفات الداعية: الحياء: إن الحياء من الصفات المهمة العظيمة التي ينبغي للداعية العناية بها، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث في قول عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: «فنزوت لآخذه، فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه» ، وهذا يؤكد أهمية الحياء (4) وخاصة من أهل العلم والفضل، والله المستعان (5) .
* * * *
_________
(1) سورة الفتح، الآية: 9، وانظر: تفسير الطبري "جامع البيان عن تأويل آي القران "، 22 / 207.
(2) سورة الحجرات، الآية: 1.
(3) انظر: الحديث رقم 156، 157، الدرس الأول.
(4) انظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري، 15 / 76، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 256.
(5) انظر: الحديث رقم 174، الدرس الرابع.(1/989)
[حديث نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الأهلية]
177 [ص:3155] حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا عبد الواحد: حدثنا الشيباني قال: «سمعت ابن أبي أوفى (1) رضي الله عنهما يقول: "أصابتنا مجاعة ليالي خيبر، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها، فلما غلت القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفئوا القدور فلا تطعموا من لحوم الحمر شيئا"، قال عبد الله: فقلنا إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها لم تخمس. قال: وقال آخرون حرمها ألبتة. وسألت سعيد بن جبير فقال: حرمها ألبتة.» (2) .
وفي رواية: «لا تأكلوا من لحوم الحمر شيئا وأهريقوها"، قال ابن أبي أوفى فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس، وقال بعضهم: نهى عنها ألبتة؛ لأنها كانت تأكل العذرة» (3) .
وفي رواية: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر» (4) .
* شرح غريب الحديث: * العذرة: فناء الدار وناحيتها، ويطلق على الغائط الذي يلقيه الإنسان؛ لأنهم كانوا يلقون الغائط في أفنية الدور فسمي بالعذرة (5) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من تاريخ الدعوة: ذكر زمن وقعة خيبر.
2 - من القواعد الدعوية: الأصل في الأشياء الإباحة.
3 - أهمية تفقد الإمام أحوال رعيته.
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 3.
(2) [الحديث 3155] أطرافه في: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 5 / 93، برقم 4220 و 4222 و 4224 وكتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الإنسية، 6 / 286، برقم 5526. وأخرجه مسلم في كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل لحوم الحمر الإنسية، 3 / 1538، برقم 1937.
(3) من الطرف رقم: 4220.
(4) من الطرف رقم: 5526.
(5) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب العين مع الذال، مادة: "عذر" 3 / 199.(1/990)
4 - من سنن الله عز وجل: الابتلاء والامتحان.
5 - أهمية الإسراع في تغيير المنكر وإزالته إذا ظهر.
6 - من موضوعات الدعوة: بيان تحريم الحمر الأهلية.
7 - من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى.
8 - من وسائل الدعوة: إرسال الدعاة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من تاريخ الدعوة: ذكر وقت غزوة خيبر: ظهر في هذا الحديث الإشارة إلى غزوة خيبر في قول عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه: «أصابتنا مجاعة ليالي خيبر» ، ولا شك أن غزوة خيبر كانت بعد غزوة الحديبية، فبعد أن رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الحديبية في نهاية السنة السادسة للهجرة، غزا غزوة خيبر في السنة السابعة على قول الجمهور، وقد نصر الله عز وجل رسوله وأصحابه على اليهود، وغنموا غنائم كثيرة (1) .
ثانيا: من القواعد الدعوية: الأصل في الأشياء الإباحة: ظهر في هذا الحديث أن من القواعد الدعوية أن الأصل في الأشياء: من المآكل والمشارب، وأصناف الملابس: هو الإباحة، ولهذا أخذ الصحابة بهذا الأصل في غزوة خيبر، فأكلوا الحمر الإنسية؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله أثناء ذكره لفوائد هذا الحديث: "الأصل في الأشياء الإباحة، لكون الصحابة أقدموا على ذبحها وطبخها، كسائر الحيوان، من قبل أن يستأمروا، مع توفر دواعيهم على السؤال عما أشكل " (2) وهذا يؤكد للداعية أن الأصل في العادات الإباحة؛ لأن الله خلق لنا جميع ما على الأرض، لننتفع به بجميع أنواع الانتفاعات، إلا ما حرمه الشارع علينا، أما العبادات فالأصل فيها الحظر إلا ما ورد عن الشارع تشريعه (3) .
_________
(1) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 3 / 316.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 9 / 656.
(3) انظر: الإحكام في أصول الأحكام لأبي محمد علي بن حزم 1 / 47، وإحكام الفصول في أحكام الأصول، للوليد بن سليمان بن خلف الباجي ص 681، وفتاوى ابن تيمية 1 / 342، ورسالة مختصرة في أصول الفقه، للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي ص 131، والقواعد والأصول الجامعة والفروق والتقاسيم البديعة النافعة له، ص 23.(1/991)
فينبغي للداعية أن يراعي الأصول والضوابط الشرعية حتى لا يأمر بشيء أو ينهى عن شيء والحق خلافه؛ ولهذا قال العلامة السعدي رحمه الله:
والأصل في عاداتنا الإباحة ... حتى يجيء صارف الإباحة
وليس مشروعا من الأمور ... غير الذي في شرعنا مذكور (1)
ثالثا: أهمية تفقد الإمام أحوال رعيته: إن تفقد الإمام أو الأمير أحوال رعيته من الأمور المهمة، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم، بتفقده لأحوال أصحابه علم بأن بعضهم نحر الحمر وطبخها فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: ". «. . فلما غلت القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكفئوا القدور فلا تطعموا من لحوم الحمر شيئا» ؛ ولهذا قال الإمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: "وفيه دليل على كثرة مشاهدته عليه [الصلاة] والسلام لشأن أصحابه، وما يزيد عليهم وما ينقص، والسؤال عن جميع أحوالهم، فعلى هذا فيجب على كل من كان راعيا على أي شيء استرعي دوام النظر إليه، والالتفات لما يزيد فيه وينقص، حتى يعلم ما حكم الله تعالى فيما يظهر من الزيادة والنقص فينفذه " (2) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ذكره لفوائد هذا الحديث: "ينبغي لأمير الجيش تفقد أحوال رعيته، ومن رآه فعل ما لا يسوغ في الشرع منعه، وأشاع منعه، إما بنفسه كأن يخاطبهم، وإما بغيره، بأن يأمر مناديا فينادي؛ لئلا يغتر به من رآه فيظنه جائزا" (3) وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم أهمية العناية بالرعية فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته: فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» (4) ومما يؤكد أهمية العناية بالرعية ومراقبتهم،
_________
(1) رسالة في القواعد الفقهية للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص 31.
(2) بهجة النفوس، 3 / 167.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 9 / 656.
(4) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب الأحكام، باب قول الله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] ، 8 / 133، برقم 3138، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم، 3 / 1459، برقم 1829.(1/992)
وإلزامهم بطاعة الله عز وجل قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» (1) ومع الأمر بالعناية بالرعية ومراقبة أحوالهم أمر صلى الله عليه وسلم بالرفق بهم وعدم المشقة عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به» (2) .
رابعا: من سنن الله عز وجل: الابتلاء والامتحان: إن الله عز وجل يختبر عباده ويمتحنهم بالسراء والضراء، وباليسر والعسر، وقد دل هذا الحديث على أنه سبحانه ابتلى أولياءه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالجوع وهم يجاهدون في سبيله عز وجل، قال عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: «أصابتنا مجاعة ليالي خيبر» ، وهذا يؤكد ابتلاءه لعباده المؤمنين؛ ليعلم الصادق من الكاذب؛ ويرفع درجات الصابرين، أسأل الله لي ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة (3) .
خامسا: أهمية الإسراع في إزالة المنكر وتغييره إذا ظهر: دل هذا الحديث على أهمية الإسراع في إزالة المنكر، وتغييره إذا ظهر فعله؛ لقول عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: «وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها فلما غلت القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكفئوا القدور فلا تطعموا من لحوم الحمر شيئا» ، قال الإمام ابن أبي جمرة رحمه الله: "وفي هذا دليل على الإسراع في تغيير المنكر عند معاينته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه حين رآه حتى غيره " (4) وهذا يؤكد على كل مسلم- وخاصة الدعاة إلى الله عز وجل- أهمية الإسراع في إزالة المنكر (5) .
_________
(1) متفق عليه: البخاري، 8 / 136، برقم 7151، ومسلم، 3 / 1460، برقم 1827، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 136، الدرس الثالث، ص 789.
(2) مسلم، 3 / 1458، برقم 1828، ونقدم تخريجه، في الحديث رقم 102، الدرس الخامس، ص 582.
(3) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الخامس، ورقم 66، الدرس الأول.
(4) بهجة النفوس، 3 / 168.
(5) انظر: الحديث رقم 117، الدرس الثالث.(1/993)
سادسا: من موضوعات الدعوة: بيان تحريم الحمر الأهلية: لا شك أن من الموضوعات المهمة بيان تحريم الحمر الأهلية لمن لا يعرف حرمتها من المدعوين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين لمن نحرها وأراد أكلها أنها لا تحل، وأرسل رسوله فنادى: «لا تأكلوا من لحوم الحمر شيئا وأهريقوها» ، واختلف العلماء رحمهم الله في سبب النهي عن لحوم الحمر الأهلية لاختلاف الأدلة: فقيل: حرمت؛ لأنها لم تخمس، وقيل: لأنها كانت تأكل الجلة، وقيل: لأنها كانت تحمل الناس وهم بحاجة إليها، وقيل: لأنها رجس: أي نجس. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وهذه أصح العلل "، ثم قال: "وما عدا هذه من العلل فإنما هي حدس وظن ممن قاله " (1) فينبغي للداعية أن يبين للناس ما حرم الله عليهم، والله الموفق للصواب.
سابعا: من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى: بين هذا الحديث أن من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه الذين نحروا الحمر الأهلية عن أكلها، بل أمر بإتلافها وإراقتها، وهم أفضل البشر بعد الأنبياء، فدل ذلك على أن كل إنسان من أهل الصلاح والتقوى قد يخفى عليه بعض العلم، فحينئذ يلزم تنبيهه وإرشاده، وتوجيهه؛ فإن المسلم مرآة أخيه، والله المستعان (2) .
ثامنا: من وسائل الدعوة: إرسال الدعاة: إرسال الدعاة من الوسائل النافعة؛ ولهذا أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الرسل بالكتب، وأرسل الدعاة والمجاهدين، ومن ذلك ما ثبت في هذا الحديث من إرساله من ينادي في الناس بتحريم الحمر الأهلية، قال عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: «فلما غلت القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكفئوا القدور فلا تطعموا من لحوم الحمر شيئا» ، فينبغي العناية بإرسال الدعاة لتعليم الناس الخير، وتحذيرهم من الشر، والله الهادي إلى سواء السبيل (3) .
_________
(1) تهذيب السنن، 5 / 324.
(2) انظر: الحديث رقم 71 الدرس السابع، ورقم 76، الدرس الرابع، ورقم 77، الدرس السادس عشر.
(3) انظر: الحديث رقم 66، الدرس الثالث، ورقم 90، الدرس الثاني، ورقم 92، الدرس الحادي عشر.(1/994)
[الفصل الرابع كتاب الجزية والموادعة]
[باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب]
[حديث قول عمر فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس](1/995)
1 - باب الجزية والموادعة, مع أهل الذمة والحرب وقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] (1) يعني أذلاء. وما جاء في أخذ الجزية من اليهود والنصارى والمجوس والعجم، وقال ابن عيينة عن ابن أبي نجيح: قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؛ قال: جعل ذلك من قبل اليسار.
178 [ص:3156] حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان قال: سمعت عمرا قال: "كنت جالسا مع جابر بن زيد وعمرو بن أوس فحدثهما بجالة سنة سبعين- عام حج مصعب بن الزبير بأهل البصرة- عند درج زمزم قال: كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب (2) قبل موته بسنة: فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس. ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس ".
[حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر]
179 [ص:3157] حتى شهد عبد الرحمن بن عوف (3) «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر» .
* شرح غريب الحديثين: * " هجر " المقصود به هنا اسم بلد معروف بالبحرين، وهي قاعدتها، وقيل: هجر ناحية البحرين كلها (4) قال ياقوت الحموي رحمه الله "وهو الصواب " (5) .
_________
(1) سورة التوبة، الآية: 29.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 64.
(3) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 82.
(4) انظر: مشارق الأنوار للقاضي عياض، حرف الهاء مع الجيم، 2 / 275، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الهاء مع الجيم، مادة: (هجر) ، 5 / 246.
(5) معجم البلدان، لياقوت الحموي، باب الهاء، مادة: "هجر" 5 / 393.(1/996)
* الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من أساليب الدعوة: القصص.
2 - من وسائل الدعوة: إرسال الكتب والرسائل.
3 - من موضوعات الدعوة: إنكار المنكر إذا ظهر فعله.
4 - لا ينكر أن يغيب عن الداعية أو العالم الكبير ما علمه غيره.
5 - صفات الداعية: التثبت.
6 - من صفات الداعية: الانقياد للدليل الشرعي والعمل به.
7 - من أصناف المدعوين: المجوس.
8 - من وسائل الدعوة: أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من أساليب الدعوة: القصص: ظهر في هذا الحديث أن من أساليب الدعوة القصص؛ لأن بجالة بن عبدة التميمي التابعي الجليل (1) قص على جابر بن زيد أبي الشعثاء البصري وعمرو بن أوس الثقفي، وعمرو بن دينار يسمع، أنه كان كاتبا لجزء بن معاوية بن حصن بن عبادة التميمي التابعي عامل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، على الأهواز، فأتاهم كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة، وفيه: "فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس "، وهذا يبين أهمية القصص، وأنه مما يلفت انتباه القلوب والأذهان، فينبغي للداعية أن يعتني به عند الحاجة إليه (2) .
ثانيا: من وسائل الدعوة: إرسال الكتب والرسائل: إن إرسال الكتب والرسائل؛ لبيان الحق وإنكار الباطل من وسائل الدعوة المهمة: ولهذا كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابا إلى جزء بن معاوية عامله على
_________
(1) انظر: تقريب التهذيب، لابن حجر، ص 163، وفتح الباري له، 6 / 260.
(2) انظر: الحديث رقم 17، الدرس الثالث، ورقم 28، الدرس الثامن، ورقم 34، الدرس الثالث.(1/997)
الأهواز وفيه: "فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس "، وهذا فيه بيان لأهمية هذه الوسيلة؛ لما لها من الأهمية النافعة في إيصال الدعوة إلى المدعو، ونشرها (1) .
ثالثا: من موضوعات الدعوة: إنكار المنكر إذا ظهر فعله: لا شك أن من الموضوعات المهمة إنكار المنكر، وتغييره بأي وسيلة مشروعة، وقد ظهر جليا في هذا الحديث إنكار عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المجوس استحلالهم المحارم، فكتب كتابه إلى جزء بن معاوية عامله على الأهواز، وفيه: "فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس "، قال الإمام الخطابي رحمه الله: "ولم يحملهم عمر على هذه الأحكام فيما بينهم وبين أنفسهم إذا خلوا، وإنما منعهم من إظهار ذلك للمسلمين، وأهل الكتاب لا يكشفون عن أمورهم التي يتدينون بها ويستعملونها فيما بينهم، إلا أن يترافعوا إلينا في الأحكام، فإذا فعلوا ذلك فإن على حاكم المسلمين أن يحكم فيهم بحكم الله المنزل، وإن كان ذلك في الأنكحة فرق بينهم وبين ذوات المحارم، كما يفعل ذلك في المسلمين " (2) وهذا يؤكد على المسلمين منع إظهار شعائر وعقائد الكفار بين المسلمين؛ لئلا يفتتن بها ضعفة المسلمين، ولا يُسأل عما أخفوه بينهم، ولم يظهروه في مجتمعات المسلمين. (3) .
رابعا: لا ينكر أن يغيب عن الداعية أو العالم الكبير ما علمه غيره: إن الداعية أو العالم العظيم قد تخفى عليه بعض المسائل ويعرفها غيره من أهل العلم، كما خفي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف بذلك؛» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "وفي الحديث قبول خبر الواحد، وأن الصحابي الجليل قد يغيب عنه علم ما اطلع عليه غيره من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأحكامه، وأنه لا نقص عليه في ذلك " (4) وهذا يؤكد أهمية عدم انتقاد العلماء إذا فاتهم بعض العلم؛ لهذا السبب (5) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 66، الدرس الثالث، ورقم 90، الدرس الثاني، ورقم 92، الدرس الحادي عشر.
(2) معالم السنن، 4 / 251، وانظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري 13 / 125.
(3) انظر: الحديث رقم 117، الدرس الثالث، ورقم 177، الدرس الخامس.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 262.
(5) انظر: الحديث رقم 77، الدرس الرابع عشر، ورقم 147، 148، الدرس الثاني.(1/998)
خامسا: من صفات الداعية: التثبت: التثبت في الأمور وعدم العجلة من الصفات الحميدة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يعلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من المجوس، فلم يأخذها حتى شهد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر» ، وهذا فيه تثبت عمر رضي الله عنه وعدم عجلته حتى ثبت عنده الدليل (1) .
سادسا: من صفات الداعية: الانقياد للدليل الشرعي والعمل به: انقاد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه للعلم الشرعي بدليله وعمل به رضي الله عنه، وذلك أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه شهد: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر» فأخذها عمر رضي الله عنه انقيادا للدليل الشرعي؛ قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: "وفيه انقياد العالم للعلم حيث كان " (2) وهذا يؤكد أهمية الانقياد للأدلة الشرعية (3) .
سابعا: من أصناف المدعوين: المجوس: إن المجوس من أصناف المدعوين الذين ينبغي للداعية أن يعتني بدعوتهم إن وجدوا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم الجزية، وهذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم قد دعاهم إلى الإسلام، فلم يدخلوا ووافقوا على دفع الجزية، وهذا يؤكد أهمية العناية بهم ودعوتهم إلى الله عز وجل على حسب أحوالهم؛ ولهذا أخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجزية منهم (4) .
ثامنا: من وسائل الدعوة: أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس: ظهر في هذا الحديث مشروعية أخذ الجزية من المجوس؛ لأن عبد الرحمن بن عوف شهد عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر» ، ولا شك أن أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس من أعظم وسائل الدعوة؛ لما يحصل بذلك من إذلال الكافرين، ونفع المسلمين؛ ولهذا شرع الله
_________
(1) انظر: الحديث رقم 91، الدرس الثاني، ورقم 92، الدرس الخامس، ورقم 116، الدرس الخامس.
(2) الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار، 9 / 292.
(3) انظر: الحديث رقم 77، الدرس الحادي عشر، ورقم 94، الدرس الثامن، ورقم 147، الدرس الخامس.
(4) انظر: الحديث رقم 173، الدرس التاسع.(1/999)
عز وجل أخذ الجزية من أهل الكتاب: اليهود والنصارى، قال عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] (1) وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يوصي أمير الجيش بوصايا، ومنها: "أنه إذا لقي عدوه من المشركين يدعوهم إلى الإِسلام، فإن أبوا فيسألهم الجزية، فإن أبوا فيستعين بالله ويقاتلهم" انظر: (2) والجزية ثبت أخذها من أهل الكتاب بالقرآن الكريم والسنة، وأخذها من المجوس بالسنة كما في شهادة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها منهم؛ قال الإِمام الخطابي رحمه الله: "وفي امتناع عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر» ، دليل على أن رأي الصحابة: "أن لا تقبل الجزية من مشرك " (3) أما غير أهل الكتاب والمجوس فلا تقبل منهم الجزية: فلا بد من الإِسلام أو يقاتلوا، وهذه مسألة خلافية بين أهل العلم (4) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: "الصواب أنها لا تؤخذ إلا من اليهود والنصارى والمجوس؛ لأن الله تعالى قال في اليهود والنصارى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وأخذ صلى الله عليه وسلم الجزية من المجوس، أما كفار العرب فلا يقبل منهم إلا الإِسلام أو يقاتلوا" (5) .
وأخذ الجزية من أهم وسائل الدعوة إلى الله عز وجل قال الإِمام ابن عبد البر رحمه الله: "الجزية لم تؤخذ من الكتابيين رفقا بهم، وإنما أُخذت منهم تقوية للمسلمين، وذلًّا للكافرين" (6) وسمعت العلامة ابن باز حفظه الله يقول: "والحكمة في أخذ الجزية والله أعلم: إذلال الكافرين، ونفع المسلمين " (7) .
[حديث بعثه صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي] بجزيتها
_________
(1) سورة التوبة، الآية: 29.
(2) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإِمام الأمراء على البعوث، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها، 3 / 1356، برقم 1731.
(3) معالم السنن 4 / 252.
(4) انظر: الاستذكار لابن عبد البر، 9 / 288 -298، وزاد المعاد لابن القيم، 3 / 153- 155.
(5) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في أخذ الجزية، في زاد المعاد لابن القيم 3 / 154، في جامع الأميرة سارة بالبديعة، بتاريخ 18 / 7 / 1416 هـ.
(6) الاستذكار لابن عبد البر، 9 / 293.
(7) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3156 من صحيح البخاري.(1/1000)
180 [ص:3158] حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حدَثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أنَّه أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ الأنصارِيَّ (1) - وَهُوَ حَلِيف لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ شَهدَ بَدْرا- أَخْبَرَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ (2) إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ (3)
_________
(1) عمرو بن عوف الأنصاري حليف بني عامر بن لؤي رضي الله عنه، كان ممن شهد بدرا، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما الفقر أخشى عليكم "، ولم يذكر أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث، وهو غير عمرو بن عوف بن زيد، وعمرو بن عوف بن يربوع، وقد قيل: إنه شهد بدرا وما بعدها من المشاهد، ومات رضي الله عنه في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فصلى عليه. انظر: الإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 3 / 9، وتهذيب التهذيب له، 8 / 75.
(2) أبو عبيدة بن الجراح: عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجد السابع وهو فهر، أحد السابقين الأولين، ومن عزم الصديق على توليته الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشار به يوم السقيفة، لكمال أهليته عند أبي بكر، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة فشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال صلى الله عليه وسلم عنه: إن لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح [البخاري برقم 3744] ، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث معدودة، ولكنه غزا غزوات مشهودة، وشهد بدرا فقتل يومئذ أباه، وأبلى يوم أحُدٍ بلاءً حسنا، ونزع يومئذ الحلقتين اللتين دخلتا في وجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المغفر من الضربة التي أصابته فانقلعت ثنيتاه فحسُن ثغرُه بذهابهما، حتى قيل: ما رؤي هَتْمٌ قطُ أحسن من هتم أبي عبيدة- والهتم كسر في الثنايا من أصولها- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمله مرات، ومنها أنه استعمله على سرية كانوا ثلاثمائة فألقى إليهم البحر الحوت العظيم الذي يقال له: العنبر فأكلوه. ولما فرغ أبو بكر من حرب أهل الردة وحرب مسيلمة الكذاب جَهَزَ أمراء الأجناد لفتح الشام فبعث أبا عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة فتمت وقعة إجنادين بقرب الرملة ونصر الله المؤمنين فجاءت البشرى والصديق في مرض الموت، ثم كانت وقعة فِحْل، ووقعة مرج الصفراء، وكان قد سير أبو بكر خالدا لغزو العراق، فبعث إليه لينجد أمراء الشام وجيشهم فقطع المفاوز فأمَّره الصديق على الأمراء كلهم وحاصروا دمشق وتوفي أبو بكر فبادر عمر واستعمل على الكل أبا عبيدة فكان فتح دمشق على يديه ولم يُظْهر وصول تقليده من عمر إلا بعد الفتح وهذا من دينه، ولينه، وحلمه ثم أظهر ذلك؛ ليعقد الصلح مع الروم ففتحوا له باب الجابية صلحا وإذا بخالد رضي الله عنه قد افتتح البلد عنوة من الباب الشرقي فأمضى لهم أبو عبيدة الصلح، ثم كان أبو عبيدة رأس الإِسلام يوم وقعة اليرموك التي استأصل الله فيها جيوش الروم وقتل منهم خلق عظيم. وكان أبو عبيدة معدودا فيمن جمع القرآن العظيم فحفظه وعمل به، وكان موصوفا بحسن الخلق، وبالحلم، والتواضع، والزهد العظيم، وتوفي رضي الله عنه بعد أن شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاهد بعده في الفتوحات العظيمة- في طاعون عمواس في الشام سنة ثمان عشرة للهجرة وله ثمان وخمسون سنة رضي الله عنه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 259، وسير أعلام النبلاء للذهبي 1 / 5- 23، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 253.
(3) العلاء بن الحضرمي، واسم الحضرمي عبد الله بن عماد بن أكبر بن ربيعة الحضرمي كان حليفا لبني أمية وكان من سادات المهاجرين، ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم البحرين وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عليها فأقره أبو بكر ثم عمر رضي الله عنه، وله حديث واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكث المهاجر بعد قضاء نسكه بمكة ثلاثا [البخاري برقم 3933] ، قيل: كان مجاب الدعوة، وأنه خاض البحر بكلمات قالهن، وكان له أثر عظيم في قتال أهل الردة رضي الله عنه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 341، وسير أعلام النبلاء للذهبي 1 / 262، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 497.(1/1001)
فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأَنصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَوَافَتْ صَلاة الصُّبْح مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا صَلَّى بِهم الفَجْرَ انْصَرَفَ، فَتَعرَّضُوا لَهُ، فتَبَسَّمَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُمْ وَقَالَ: "أظنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عبيدَةَ قَدْ جَاءَ بِشيءٍ "، قَالوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ؟ "فَأَبْشرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسرُكُمْ، فَوَاللهِ لَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُم الدُّنْيَا كَمَا بُسِطتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» (1) .
وفي رواية: " وَتُلْهِيكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ ". (2) .
* شرح غريب الحديث: * " فوافت " أي أتت، يقال: وافيته موافاةً: أتيته، ووافيت القوم: أتيتهم (3) .
* " أمِّلوا " هذا أمر بالرجاء يقال: أمَلَهُ أمْلا، وأمَّلَهُ: رجاه وترقبه (4) .
* " فتنافسوها " أي تتحاسدون فيها فتختلفون، وتتقاتلون فيُهلك بعضكم بعضا (5) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من وسائل الدعوة: بعث البعوث وإرسال الدعاة.
_________
(1) [الحديث 3158] طرفاه في كتاب المغازي، باب، 5 / 23، برقم 4015. وكتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، 7 / 221، برقم 6425. وأخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، 4 / 2273، برقم 2961.
(2) من الطرف رقم: 6425.
(3) انظر: المصباح المنير، للفيّومي، كتاب الفاء، مادة: "وفى" 2 / 667، والقاموس المحيط للفيروز آبادي، باب الياء فصل الواو، ص 1731.
(4) انظر: المرجع السابق، باب اللام فصل الهمزة، ص 1244، والمصباح المنير للفيومي، كتاب الألف، مادة: "أملت " 1 / 22، والمعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية 1 / 27.
(5) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 7 / 113.(1/1002)
2 - من صفات الداعية: الفطنة والذكاء.
3 - من صفات الداعية: حسن الخلق.
4 - أهمية تأمير الأمراء على الأقطار.
5 - من أساليب الدعوة: السؤال والجواب.
6 - من موضوعات الدعوة: التحذير من التنافس في الدنيا والانشغال بها.
7 - أهمية التأكيد بالقسم في الدعوة إلى الله عز وجل.
8 - من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإِخبار بما يقع.
9 - من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من وسائل الدعوة: بعث البعوث وإرسال الدعاة: بعث البعوث وإرسال الدعاة من أهم الوسائل النافعة في الدعوة إلى الله؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم هذه الوسيلة في دعوته، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أخبر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها» ، وهذا فيه بيان لأهمية بعث الدعاة إلى الله عز وجل، للدعوة إلى الله؛ ولكل ما فيه نفع للإِسلام والمسلمين (1) .
ثانيا: من صفات الداعية: الفطنة والذكاء: لا ريب أن الفطنة والذكاء من أعظم الصفات التي ينبغي أن تكون من سمات الداعية؛ لأنه يحتاج إلى ذلك في معاملة الناس ودعوتهم إلى الله عز وجل، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى الأنصار تعرَّضوا له بعد صلاة الصبح، فطن لذكائه أنهم علموا بقدوم أبي عبيدة بمالٍ من البحرين فقال صلى الله عليه وسلم: «أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة جاء بشيء» ، فينبغي للداعية أن يسأل الله عز وجل أن يوفقه ويعينه ويرزقه البصيرة والفطنة التي تنفعه في الدنيا والآخرة (2) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 66، الدرس الثالث، ورقم 90، الدرس الثاني، ورقم 92، الدرس الحادي عشر.
(2) انظر: الحديث رقم 29، الدرس الأول، ورقم 123، الدرس الثاني.(1/1003)
ثالثا: من صفات الداعية: حسن الخلق: دل هذا الحديث على حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عندما رأى الأنصار تعرضوا له، وعلم ما أرادوا تبسم صلى الله عليه وسلم، ولم يغضب، ولم يسب بل بشَّرهم (1) وسمعت العلامة ابن باز حفظه الله يقول: "وفيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه ضحك تعجبا، ثم بشرهم، ولا شك أنهم أهل حاجة" (2) فينبغي للداعية أن يحسن أخلاقه (3) .
رابعا: أهمية تأمير الأمراء على الأقطار: من وسائل الدعوة النافعة تأمير الأمراء على الأقطار، والقبائل؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم على البحرين العلاء بن الحضرمي كما ثبت في هذا الحديث؛ لأن الأمير يجتمع إليه الناس، ويرفع مصالحهم للإِمام وما يحتاجون إليه، ويؤمهم في الجمعة والأعياد، ويتولىَّ قيادتهم في الجهاد، ويجمع الله به الكلمة وغير ذلك (4) .
خامسا: من أساليب الدعوة: السؤال والجواب: السؤال والجواب من أساليب الدعوة التي تشد انتباه المدعو، وقد دل هذا الحديث على هذا الأسلوب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: «أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء"، قالوا: أجل يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا» . . . "، وهذا يؤكد أهمية أسلوب السؤال والجواب. (5) .
سادسا: من موضوعات الدعوة: التحذير من التنافس في الدنيا والانشغال بها: ظهر في مفهوم هذا الحديث التحذير من التنافس في الدنيا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما
_________
(1) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر، 1 / 363.
(2) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3158، من صحيح البخاري، في جامع الإِمام تركي ابن عبد الله بالرياض.
(3) انظر: الحديث رقم 14، الدرس الأول، ورقم 21، الدرس الثاني، ورقم 62، الدرس الرابع.
(4) انظر: الحديث رقم 132، الدرس الثاني.
(5) انظر: الحديث رقم 58، الدرس الثالث، ورقم 110، الدرس الرابع، ورقم 114، الدرس الرابع.(1/1004)
بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم» ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "وفيه أن المنافسة في الدنيا قد تجر إلى هلاك الدين" (1) "لأن المال مرغوب فيه فترتاح النفس لطلبه، فتمنع منه، فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة، المفضية إلى الهلاك " (2) وقوله صلى الله عليه وسلم: «وتلهيكم كما ألهتهم» ، دليل على أن الانشغال بالدنيا فتنة، قال الإِمام القرطبي رحمه الله: "تلهيكم" أي تشغلكم عن أمور دينكم وعن الاستعداد لآخرتكم (3) كما قال الله عز وجل: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ - حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1 - 2] (4) وهذا يؤكد للمسلم أن التنافس في الدنيا والانشغال بها شر وخطر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض "، قيل وما بركات الأرض؛ قال: "زهرة الدنيا"، ثم قال: "إن هذا المال خَضِرة حلوة. . . من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع [ويكون عليه شهيدا يوم القيامة] » . (5) .
وعن قيس بن حازم قال: دخلنا على خباب رضي الله عنه نعوده. . فقال: "إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعا إلا التراب ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوتُ به "، ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطا له فقال: "إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب" (6) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "أي الذي يوضع في البنيان، وهو محمول على ما زاد على الحاجة" (7) وذكر رحمه الله آثارا كثيرة في
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 363.
(2) المرجع السابق 11 / 245.
(3) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 7 / 133.
(4) سورة التكاثر، الآيتان: 1-2.
(5) متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، 7 / 222، برقم 6427، ومسلم، كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، 2 / 727، برقم 1052، وما بين المعكوفين من رواية مسلم.
(6) متفق عليه: البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت، 7 / 12، برقم 5672، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب تمني كراهية الموت لضر نزل به، 4 / 2064، برقم 2681.
(7) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10 / 129.(1/1005)
ذم البنيان ثم قال: "وهذا كله محمول على ما لا تمس الحاجة إليه مما لا بد منه للتوطن وما يقي البرد والحر" (1) وقد بين الله عز وجل حقيقة الدنيا فقال عز وجل: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] (2) وقال عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20] (3) وقال عز وجل: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا - الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 45 - 46] (4) ولا شك أن الإِنسان إذا لم يجعل الدنيا أكبر همه وفقه الله وأعانه، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول ربكم تبارك وتعالى يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى وأملأ يديك رزقا، يا ابن آدم لا تباعد عني فأملأ قلبك فقرا وأملأ يديك شغلا» (5) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت يديك شغلا ولم أسد فقرك» (6) ولا شك أن كل عمل صالح يُبْتَغى به وجه الله فهو عبادة، وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 11 / 93.
(2) سورة يونس، الآية: 24.
(3) سورة الحديد، الآية: 20.
(4) سورة الكهف، الآيتان: 46، 45.
(5) الحاكم وصححه ووافقه الذهبي 4 / 326، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 3 / 347: "وهو كما قالا".
(6) الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب: حدثنا قتيبة، 4 / 642، برقم 2466، وحسنه، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا، 2 / 1376، برقم 4108، وأحمد 2 / 358، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 2 / 443، وانظر. سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 3 / 346.(1/1006)
فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة» (1) .
وقد ذم الله الدنيا إذا لم تستخدم في طاعة الله عز وجل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكرُ الله، وما والاهُ، وعالم، أو متعلمٌ» (2) وهذا يؤكد أن الدنيا مذمومة مبغوضة من الله وما فيها، مبعدة من رحمة الله إلا ما كان طاعة لله عز وجل؛ (3) ولهوانها على الله عز وجل لم يبلِّغ رسولَه صلى الله عليه وسلم فيها وهو أحب الخلق إليه، فقد «مات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير» (4) ومما يزيد ذلك وضوحا وبيانا حديث سهل بن سعد رضي الله عنه يرفعه: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» (5) فينبغي للداعية أن لا ينافس في الدنيا، ولا يحزن عليها، وإذا رأى الناس يتنافسون في الدنيا، فعليه تحذيرهم، وعليه مع ذلك أن ينافسهم في الآخرة. والله المستعان.
سابعا: أهمية التأكيد بالقسم في الدعوة إلى الله عز وجل: دل هذا الحديث على التأكيد بالقسم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فوالله لا الفقر أخشى عليكم،
_________
(1) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا، 4 / 1375، برقم 4105، وصحح الألباني إسناده في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 950، وصحيح الجامع 5 / 351.
(2) الترمذي بلفظه، كتاب الزهد، باب: حدثنا محمد بن حاتم، 4 / 561، برقم 2322، وحسنه، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، 12 / 1377، برقم 4112، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1 / 34، برقم 71، و 1 / 6 برقم 7.
(3) قوله: "وما والاه" أي ما يحبه الله من أعمال البر وأفعال القرب، وهذا يحتوي على جميع الخيرات والمفاضلات ومستحسنات الشرع. وقوله: "وعالم أو متعلم" والرفع فيها على التأويل: كأنه قيل: الدنيا مذمومة لا يُحمدُ مما فيها "إلا ذكرُ الله، وما والاهُ، وعالم أو متعلم" والعالم والمتعلم: العلماء بالله الجامعون بين العلم والعمل، فيخرج منه الجهلاء، والعالم الذي لم يعمل بعلمه، ومن يعلم علم الفضول وما لا يتعلق بالدين، انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح 10 / 3284 - 3285، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي قاري، 9 / 31، وتحفة الأحوذي على شرح سنن الترمذي، 6 / 613.
(4) انظر: البخاري، كتاب البيوع، باب شراء الطعام إلى أجل، 3 / 46، برقم 2200، ومسلم، كتاب المساقاة، باب الرهن وجوازه في الحضر والسفر 3 / 1266، برقم 1603.
(5) الترمذي، 4 / 560، برقم 2320، وابن ماجه، 14 / 1376، برقم 4110، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 77، الدرس الثالث، ص 469.(1/1007)
ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم» ، وهذا يؤكد أهمية أسلوب التأكيد بالقسم (1) .
ثامنا: من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإخبار بما يقع: إن هذا الحديث دل على أن الإِخبار بما يقع من معجزات النبوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خشي أن تبسط الدنيا على أمته فيتنافسوها فوقع كما خشي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفيه من أعلام النبوة إخباره صلى الله عليه وسلم بما يفتح عليهم " (2) وقد وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم. (3) .
تاسعا: من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى: دل هذا الحديث على أن أهل التقوى من أصناف المدعوين؛ ولهذا وعظ النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار وحذرهم التنافس في الدنيا؛ لأن ذلك يسبب الهلاك، فقال: «فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم» (4) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 10، الدرس الخامس، ورقم 14، الدرس الخامس.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 263.
(3) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع، ورقم 53، الدرس الثالث.
(4) انظر: الحديث رقم 71، الدرس السابع، ورقم 76، الدرس الرابع.(1/1008)
[حديث بعث عمر الناس في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين]
181 [ص:3159] حَدَّثَنَا الفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ: حَدَّثَنَا عبد الله بْن جَعْفرٍ الرَّقِّيُّ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمانَ: حَدَّثَنَا سَعِيد بْنُ عُبَيْدِ اللهِ الثَّقَفِيُّ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عبد الله المُزَني (1) وَزِيَادُ بْنُ جُبَيْرٍ بنِ حَيَّةَ (2) قَالَ: «بَعَثَ عمر النَّاسَ فِي أَفْنَاءِ الأَمْصَارِ يُقَاتِلونَ المُشْرِكِينَ، فأَسْلَمَ الهُرْمزَان (3) فَقَالَ: إِنيِّ مُسْتَشِيرُكَ فِي مغَازِيَّ هَذِهِ؛ قَالَ: نَعَمْ، مَثَلُهَا وَمَثَلُ مَنْ فِيهَا مِنَ النَّاسِ مِنْ عَدُوِّ المسْلِمينَ مَثَلُ طَائِر لَهُ رَأس وَلَهُ جَنَاحَانِ وَلَهُ رِجْلانِ، فَإِنْ كسِرَ أَحَدُ الجَنَاحَيْنِ نَهَضَتِ الرِّجْلانِ بِجَنَاح وَالرَّأس. فَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاحُ الآخَرُ نَهضتِ الرِّجْلانِ وَالرَّأْسُ. وإِنْ شُدِخَ الرَّأْسُ ذَهبَتِ الرِّجْلانِ والْجَنَاحَانِ وَالرَّأْسُ. فَالرَّأْسُ كِسْرَى والْجَنَاح قيصَرُ وَالجَنَاحُ الآخَرُ فَارِسُ. فَمُرِ المُسْلِمِينَ فَلْيَنْفِرُوا إِلَى كِسْرَى. وَقَال بَكْر وَزِيَاد جَمِيعا عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ: فَنَدَبَنَا عُمَرُ. واستَعْمَلَ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ. حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَرْضِ العَدُوِّ، وَخَرَجَ عَلَيْنَا عَامِلُ كِسْرَى فِي أرْبَعِينَ ألْفا، فَقَامَ ترجمَانٌ فَقَال: لِيُكَلِّمْنِي رَجُل مِنكُمْ. فَقَالَ الْمُغِيرَة (4) سَلْ عَمَّا شِئْتَ. قَالَ:
_________
(1) بكر بن عبد الله بن عمرو المزني أبو عبد الله البصري، روى عن أنس، وابن عباس، وابن عمر، والمغيرة بن شعبة؛ وغيرهم، وروى عنه ثابت البناني، وسليمان التيمي، وقتادة، وغالب القطان، وعاصم الأحول، كان ثبتا حجة، قال: أدركت ثلاثين من فرسان مزينة منهم عبد الله بن المغفل، ومعقل بن يسار، مات سنة مائة وست، وكان عابدا فاضلا، وكان يقول: "إياك من الكلام ما إن أصبت فيه تؤجر وإن أخطأت فيه أثمت، وهو سوء الظن بأخيك ". انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر، 1 / 424، وتقريب التهذيب له، ص 175.
(2) زياد بن جبير بن حية بن مسعود بن معتِّب الثقفي البصري، روى عن أبيه وابن عمر، والمغيرة بن شعبة وغيرهم، قال ابن حجر ثقة من الثالثة، وكان يرسل. انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر، 3 / 308، وتقريب التهذيب له، ص 343.
(3) الهُرمزان، وهو اسم لبعض أكابر الفرس، وهو دهقانهم الأصغر، أسره أبو موسى الأشعري وبعثه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر: تكلم فلم يتكلم، فقال له: تكلم لا بأس عليك فتكلم ثم طلب ماءً فأحضر له، فقال له عمر أيضا: اشرب فلا بأس عليك، ثم أراد عمر قتله لكونه أسيرا فقال له أنس قد أمَنْتَهُ بقولك: لا بأس عليك، فتركه عمر، ثم أسلم الهرمزان. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 135.
(4) المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك، الثقفي الصحابي الجليل، أسلم عام الخندق وشهد الحديبية وبيعة الرضوان، له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة وستة وثلاثون حديثا، اتفق البخاري ومسلم على تسعة منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين، وأخذ الحديث عنه خلق كثير، وكان المغيرة موصوفا بالدهاء والحلم، وقيل بأنه أحصن ثلاثمائة امرأة في الإسلام، وقيل: ألفا، وولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه البصرة مدة ثم نقله عنها فولاه الكوفة فلم يزل عليهَا حتى قتل عمر فأقره عثمان عليها ثم عزله، وشهد اليمامة، وفتح الشام، وذهبت عينه يوم اليرموك، وشهد القادسية، وشهد فتح نهاوند، وكان على ميسرة النعمان بن مقرن، وشهد فتح همدان وغيرها، واعتزل الفتنة بعد قتل عثمان، وشهد الحكمين، ثم استعمله معاوية على الكوفة، فلم يزل عليها حتى توفي بها سنة خمسين. وقيل: سنة إحدى وخمسين، وله سبعون سنة، قالوا: وهو أول من وضع ديوان البصرة. وكان من الدهاة الأذكياء، ومن ذلك ما قيل: إن عمر رضي الله عنه استعمل المغيرة على البحرين فكرهوه وشكوا منه فعزله فخافوا أن يعيده عليهم فجمعوا مائة ألف وأحضرت إلى عمر فقام الدهقان إلى عمر فقال: إن المغيرة اختان هذه فأودعها عندي، فدعاه فسأله فقال: كذب إنما أودعت عنده مائتي ألف، فقال وما حملك على ذلك، قال: كثرة العيال فسقط في يد الدهقان فحلف وأكد الأيمان أنه لم يودع عنده قليلا ولا كثيرا، فقال عمر للمغيرة ما حملك على هذا. قال: إنه افترى علي فأردت أن أخزيه، رضي الله عن المغيرة. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 2 / 109، وسير أعلام النبلاء للذهبي 3 / 21، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 3 / 452.(1/1009)
ما أنتمْ؛ قَالَ: نَحْن أناسٌ مِنَ العَرَب كنّا فِي شقاءٍ شدِيد وَبَلاء شدِيد. نمص الجلْدَ وَالنَّوى مِنَ الجُوع. وَنَلْبَسُ الوبر والشَّعرَ. وَنعْبدُ الشَّجَرَ والحَجَرَ. فَبَيْنَا نحنُ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ ربُّ السماوات وَرَبُّ الأَرَضِينَ- تَعَالى ذِكْرهُ وَجَلَّتْ عَظَمَته - إِلَيْنَا نَبيّا منْ أنفسِنَا نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّه فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسولُ رَبِّنا صلى الله عليه وسلم أَنْ نُقَاتلِكُم حَتَّى تَعْبدُوا اللهَ وَحْدهُ. أَوْ تؤدّوا الجزْيَةَ. وَأَخْبَرنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ رسَالةِ رَبِّنَا أنهُ مَنْ قتِلَ مِنَّا صَارَ إلَى الجَنَّةِ فِي نَعيم لمْ يُرَ مِثْلُهَا قَط. وَمَنْ بقِيَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ» . (1) .
[حديث كان إذا لم يقاتل في أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر] الصلوات
182 [ص:3160] «فَقَالَ النُّعْمَان (2) "ربَّمَا أَشْهَدَكَ اللهُ مِثْلَهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُندِّمْكَ وَلَمْ يخْزِكَ وَلَكِنِّي شَهِدْتُ القِتَالَ مَع رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي أَوَّل النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الأَرْوَاحُ، وَتَحْضُرَ الصّلَوات» .
* شرح غريب الحديثين: * " نلبس الوبر والشعر " الوبر: صوف الإِبل والأرانب ونحو ذلك، والشعر: نبتة الجسم مما ليس بصوف ولا وبر (3)
_________
(1) [الحديث 3159] طرفه في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، 8 / 264، برقم 7530.
(2) النعمان بن مقرن. بن عائذ المزني، أبو حكيم، ويقال: أبو عمرو، الأمير صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إليه لواء قومه يوم فتح مكة، ثم كان أمير الجيش الذي افتتح نهاوند، فاستشهد يومئذ، وقد قدم قبل ذلك على عمر بشيرا بفتح القادسية، وهو الذي فتح أصبهان، وكان استشهاده رضي الله عنه سنة إحدى وعشرين للهجرة. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 2 / 356، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 3 / 565، وتهذيب التهذيب له، 10 / 407.
(3) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع الباء، مادة: "وبر" 5 / 145، والقاموس المحيط للفيروز آبادي، باب الراء فصل الواو، ص 630، وباب الراء فصل الشين، ص 533.(1/1010)
* " تهب الأرواح " جمع ريح؛ لأن أصلها الواو، وتجمع على أرياح قليلا، وعلى رياح كثيرا (1) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من وسائل الدعوة: بعث البعوث للدعوة والجهاد.
2 - من صفات الداعية: الفصاحة والبلاغة.
3 - أهمية مراعاة أوقات نشاط المدعو.
4 - من وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله عز وجل.
5 - أهمية الشورى في الدعوة إلى الله عز وجل.
6 - من وسائل الدعوة: تأمير الأمراء على الجيوش.
7 - من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإِخبار بالمغيبات.
8 - من أساليب الدعوة: ضرب الأمثال.
9 - من وسائل الدعوة: البدء بقتال الأهم فالأهم من أعداء الإِسلام (2) .
10 - من أساليب الدعوة: الترغيب والترهيب.
11 - من أصناف المدعوين: المشركون.
12 - من موضوعات الدعوة: الحض على الجهاد حتى يعبد الله وحده.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من وسائل الدعوة: بعث البعوث للدعوة والجهاد: بعث البعوث للدعوة إلى الله عز وجل، من أعظم الوسائل النافعة، وقد ظهر في هذا الحديث؛ لقول جبير بن حيَّة: " بعث عمر الناس في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين، فأسلم الهرمزان وهذا يؤكد أهمية هذه الوسيلة في الدعوة إلى الله عز وجل (3)
_________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الواو، مادة: "روح" 2 / 272.
(2) هكذا قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 6 / 266: "الأهم فالأهم ".
(3) انظر: الحديث رقم 66، الدرس الثالث، ورقم 90، الدرس الثاني.(1/1011)
ثانيا: من صفات الداعية: الفصاحة والبلاغة: لا شك أن الفصاحة والبلاغة من الصفات التي ينبغي للداعية أن يتحلى بها حسب الاستطاعة، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لقول المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لعامل كسرى: «نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد، وبلاء شديد، نمص الجلد والنوى من الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبد الشجر والحجر، فبينما نحن كذلك إذ بعث رب السماوات والأرضين- تعالى ذكره وجلت عظمته- إلينا نبيا من أنفسنا، نعرف أباه وأمه، فأمرنا نبينا رسول ربنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها قط، ومن بقي منا ملك رقابكم» ، قال الكرماني رحمه الله: "فيه فصاحة المغيرة من حيث إنَّ كلامه مبيِّن لأحوالهم فيما يتعلق بدنياهم: من المطعوم والملبوس، وبدينهم من العبادة، وبمعاملتهم مع الأعداء: من طلب التوحيد أو الجزية، ولمعادهم في الآخرة إلى كونهم في الجنة، وفي الدنيا إلى كونهم ملوكا، مُلَّاكا للرقاب " (1) أي الكافرة المعاندة، وهذا يؤكد أهمية البلاغة للداعية (2) .
ثالثا: أهمية مراعاة أوقات نشاط المدعو: إن مراعاة أوقات نشاط المدعو من الأمور المهمة التي ينبغي للداعية العناية بها؛ ولهذا ثبت في هذا الحديث ما يدل على ذلك؛ لقول النعمان رضي الله عنه: «لكني شهدت القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا لم يقاتل في أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلوات» ، وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "أن هذا يدل على فضل القتال بعد زوال الشمس على ما قبله، ولا يعارضه أنه صلى الله عليه وسلم كان يغير صباحا؛ لأن هذا عند المصافة، وذاك عن الغارة" (3) وهذا يؤكد أهمية مراعاة أوقات نشاط المدعو (4) .
_________
(1) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 13 / 128، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 264.
(2) انظر: الحديث رقم 53، 54 و 55، الدرس الثاني.
(3) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 266.
(4) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثامن، ورقم 33، الدرس الثالث.(1/1012)
رابعا: من وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله عز وجل: الجهاد في سبيل الله عز وجل من أعظم الوسائل في نشر الدعوة؛ ولهذه الأهمية بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس في أفناء الأمصار (1) يقاتلون المشركين فأسلم الهرمزان "، وهذا يبيِّن عناية الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الوسيلة سيرا على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي العناية بها (2) .
خامسا: أهمية الشورى في الدعوة إلي الله عز وجل: الشورى ذات أهمية بالغة؛ لما لها من الاتفاق على الحق وإصابة الصواب في الغالب؛ ولهذه الأهمية استشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه الهرمزان؛ لأنه كان من أهل تلك البلاد، وكان أعلم بأحوال أهلها من غيره؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "وفيه فضل المشورة وأن الكبير لا نقص عليه في مشاورة من هو دونه " (3) وهذا يؤكد على الداعية العناية بالشورى عناية خاصة؛ لمكانتها وفضائلها وحسن آثارها (4) .
سادسا: من وسائل الدعوة: تأمير الأمراء على الجيوش: تأمير الأمراء على الجيوش، والسرايا من الوسائل النافعة في الدعوة إلى الله عز وجل؛ لما يحصل بذلك من اجتماع الكلمة، واتحاد الصف، ونبذ الاختلاف؛ ولهذا استعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على هذا الجيش المذكور في هذا الحديث: النعمان بن مقرِّن رضي الله عنه، (5) ففتح الله على يديه، وهذا يبين أهمية تأمير الأمراء على الجيوش (6) .
سابعا: من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإخبار بالمغيبات: دل هذا الحديث على أن من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، الإِخبار بالمغيبات؛
_________
(1) في أفناء الأمصار: أي في مجموع البلاد الكبار. فتح الباري لابن حجر، 6 / 164.
(2) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الثالث، ورقم 117، الدرس الرابع.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 266.
(4) انظر: الحديث رقم 11، الدرس الرابع، ورقم 64، الدرس الثالث، ورقم 108، الدرس الرابع عشر.
(5) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، 3 / 565.
(6) انظر: الحديث رقم 132، الدرس الثاني، ورقم، 180، الدرس الرابع.(1/1013)
لأن المغيرة رضي الله عنه قال لعامل كسرى: «وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة في نعيم دائم لم ير مثلها، ومن بقي منا ملك رقابكم» ، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "أنه دل على بيان معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وإخباره بالمغيبات، ووقوعها كما أخبر" (1) وهذا لا شك يؤكد صدقه صلى الله عليه وسلم وأنهم ملكوا رقاب كسرى وقيصر (2) .
ثامنا: من أساليب الدعوة: ضرب الأمثال: ظهر في هذا الحديث أسلوب ضرب المثل؛ لأن الهرمزان قال لعمر رضي الله عنه عن مغازيه: "مثلها ومثل من فيها من الناس من عدوِّ المسلمين مثل طائر له رأس، وله جناحان، وله رجلان، فإن كسر أحد الجناحين نهضت الرجلان بجناح والرأس، فإن كسر الجناح الآخر نهضت الرجلان والرأس، وإن شدخ الرأس ذهبت الرجلان والجناحان والرأس، فالرأس كسرى، والجناح قيصر، والجناح الآخر فارس، فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى "، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "وفيه ضرب المثل وجودة تصور الهرمزان؛ ولذلك استشاره عمر، وتشبيهٌ لغائب المجوس بحاضر محسوس لتقريبه إلى الفهم " (3) وهذا يؤكد أهمية ضرب الأمثال في الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأن ضرب الأمثال من أوضح وأقوى أساليب الإِيضاح والبيان في إبراز الحقائق المعقولة في صورة الأمر المحسوس، وفي القرآن الكريم كثير من الأمثال المضروبة، والداعية لا بد له من ذلك في دعوته، ومن ذلك أن الله تعالى مثَّلَ المنفق في سبيله بمن بذر بذرا فأنبتت كل حبّة سبع سنابل، اشتملت كل سنبلة على مائة حبّة، والله يُضاعف فوق ذلك لمن يشاء بحسب حال المنفق وإخلاصه (4) .
ومثل المنفق رياء وسمعة وبطلان عمله كمثل حجر أملس عليه تراب فأصابه
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 266.
(2) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع، ورقم 53، الدرس الثالث.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 266.
(4) انظر: سورة البقرة، الآية: 261.(1/1014)
مطر شديد، فتركه أملس لا شيء عليه (1) ومثل سبحانه الدنيا في زهرتها وسرْعة زوالها بالماء الذي ينزل من السماء فأنبت الكلأ والعشب، ثم صار بعد هذه النّضرة هشيما (2) ومن أعظم ضرب الأمثال قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ - مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73 - 74] (3) .
حق على كل عبد أن يستمع لهذا المثل، ويتدبره حق تدبره؛ فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه، فالآلهة التي تُعبَد من دون الله لن تقدر على خلق الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف بما هو أكبر منه، بل لا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه، فيستنقذوه منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو أضعف المخلوقات، ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة الباطلة، ولا أضعف منها، فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله؟! .
وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله تعالى في بطلان الشرك وتجهيل أهله (4) .
ومن أحسن الأمثال وأدلّها على بطلان الشرك، وخسارة صاحبه، وحصوله على ضد مقصوده، قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ - إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 41 - 43] (5) فهذا مثل ضربه الله لمن عبد معه غيره يقصد به التعزز والتقوي والنفع، فبين- سبحانه- أن
_________
(1) انظر: سورة البقرة، الآية: 264.
(2) انظر: سورة الكهف، الآية: 45، وسورة يونس، الآية: 24، وسورة الحديد، الآية: 20.
(3) سورة الحج، الآيتان: 73، 74.
(4) انظر: تفسير البغوي 3 / 298، وأمثال القرآن لابن القيم ص 47، والتفسير القيم لابن القيم ص 368، وتفسير ابن كثير 3 / 236، والبرهان في علوم القرآن، للزركشي 1 / 486، والإتقان في علوم القرآن، للسيوطي 2 / 1041، وفتح القدير للشوكاني 3 / 470، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، 5 / 326.
(5) سورة العنكبوت، الآيات: 41-43.(1/1015)
هؤلاء ضعفاء، وأن الذين اتخذوهم أولياء من دون الله أضعف منهم، فهم في ضعفهم وما قصدوه "من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت التي هي من أضعف الحيوانات، اتخذت بيتا وهو من أضعف البيوت، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفا، وكذلك من اتخذ من دون الله أولياء، فإنهم ضعفاء، وازدادوا باتخاذهم ضعفا إلى ضعفهم (1) ومن أبلغ الأمثال التي تُبيّن أن المشرك قد تشتت شمله واحتار في أمره، ما بيّنه الله عز وجل بقوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] (2) فهذا مثل ضربه الله تعالى للمشرك والموحد، فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتى مُثِّلَ بعبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون، سيئة أخلاقهم، متنافسون في خدمته، لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين، فهو في عذاب. والموحد لما كان يعبد الله وحده لا شريك له، فمثله كمثل عبد لرجل واحد، قد سلم له، وعلم مقاصده، وعرف الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه واختلافهم، بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه، مع رأفة مالكه به، ورحمته له، وشفقته عليه، وإحسانه إليه، وتوليه لمصالحه، فهل يستوي هذان العبدان؛ والجواب: كلَّا. لا يستويان أبدا (3) والقرآن فيه كثير من ضرب الأمثال (4) .
وضرب النبي صلى الله عليه وسلم الأمثال في دعوته، ومن ذلك تمثيل الجليس الصالح بحامل المسك، والجليس السوء بنافخ الكير (5) وهذا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه جمع بين الترغيب والحثّ على مجالسة من يُستفاد من مجالسته في الدين والدنيا، وحذّر من مجالسة من يتأذّى بمجالسته فيهما (6) .
_________
(1) انظر: تفسير البغوي 3 / 468، وأمثال القرآن لابن القيم ص 21، وفتح القدير للشوكاني 4 / 204.
(2) سورة الزمر، الآية: 29.
(3) انظر: تفسير البغوي، 4 / 78، والتفسير القيم لابن القيم، ص 423، وتفسير ابن كثير، 4 / 52، وفتح القدير للشوكاني، 4 / 462، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي، 6 / 468.
(4) انظر: أمثال القرآن لابن القيم ص 50- 52.
(5) انظر: البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب المسك، 6 / 278، برقم 5534، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء، 4 / 2026، برقم 2628.
(6) انظر: شرح صحيح مسلم للنووي 16 / 417، وفتح الباري لابن حجر، 4 / 324.(1/1016)
ومن أبلغ الأمثلة على ضرب الأمثال قوله صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأَ والعشب الكثير، وكانت منها أجادبُ أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً. فذلك مثل من فَقهَ في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فَعَلِمَ وَعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلت به» (1) والناس على هذه الأقسام الثلاثة:
النوع الأول: من الناس من يبلغه الهدى والعلم فيحفظه، فيحيا قلبه ويعمل به ويعلمه غيره، فهو قد انتفع ونفع، فهؤلاء عَلِمُوا، وَعَمِلُوا، وعلَّمُوا، فهم أفضل الناس،
والنوع الثاني: من الناس من لهم قلوب حافظة يحفظون بها العلم والهدى، ولكن ليست لهم أفهام ثاقبة ولا رسوخ لهم في العقل يستنبطون به المعاني والأحكام، وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل بها، فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما عندهم من العلم فيأخذه منهم فينتفع به، فهؤلاء علموا وعلَّموا، فنفعوا بما بلغهم.
والنوع الثالث: من الناس ليست لهم قلوب حافظة ولا أفهام واعية فإذا سمعوا العلم لا يحفظونه ولا ينتفعون به ولا ينفعون غيرهم (2) فينبغي للداعية أن يعتني بضرب الأمثال في دعوته إلى الله عز وجل، والله المستعان وبه الثقة وعليه التكلان (3) .
تاسعا: من وسائل الدعوة: البدء بقتال الأهم فالأهم من أعداء الإسلام: البدء بقتال الكفار ينبغي أن يكون بالأهم، ثم الذي يليه في الأهمية؛ ولهذا
_________
(1) متفق عليه من حديث أبي موسى رضي الله عنه: البخاري، كتاب العلم، باب فضل من علم وعلم، 1 / 32، برقم 79، ومسلم، كتاب الفضائل، باب بيان مثل ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم، 4 / 1787، برقم 2282.
(2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 15 / 52، وفتح الباري لابن حجر، 1 / 177.
(3) انظر: كثيرا من الأمثال في السنة في صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة حافظ القرآن، 1 / 549، برقم 797، وكتاب الزكاة، باب مثل البخيل، 2 / 708، برقم 1021، وكتاب الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله، 3 / 1498، برقم 1878، وكتاب الفضائل، 4 / 1787- 1791، بأرقام 2282 -2287، وكتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم، 4 / 999- 2000، برقم 2585- 2586، وكتاب صفات المنافقين 4 / 2146، برقم 2784، و 4 / 2163- 2166، بأرقام 2809- 2812، وكتاب الأمثال للرامهرمزي، ص 5- 142، وسنن الترمذي، كتاب الأمثال 5 / 144-148، ومسند الِإمام أحمد، 1 / 435، 465، 4 / 182، 183، 202.(1/1017)
أشار الهرمزان على عمر رضي الله عنه أن يبدأ بقتال كسرى قبل قيصر وفارس؛ لأن كسرى بمثابة الرأس فإذا سقط الرأس فلا قيمة لبقية الجسد؛ ولهذا قال الهرمزان رحمه الله "فالرأس كسرى، والجناح قيصر، والجناح الآخر فارس، فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى "؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "وفيه البداءة بقتال الأهم فالأهمِّ " (1) فينبغي العناية بذلك وبالتدرج في جميع الأمور على حسب الحكمة والصواب.
عاشرا: من أساليب الدعوة: الترغيب والترهيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب والترهيب؛ لأن المغيرة رضي الله عنه قال لعامل كسرى: «وأخبرنا نبينا عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة في نعيم دائم لم ير مثلها قط (2) ومن بقي منا ملك رقابكم» ، فقوله: «في نعيم دائم» فيه ترغيب في الجهاد وبيان فضل الشهادة في سبيل الله عز وجل. وقوله: «ومن بقي منا ملك رقابكم» فيه ترغيب للمجاهدين في أن من نصره الله استولى على الأعداء، وفيه ترهيب للأعداء وتخويف من البقاء على الكفر؛ لأن من بقي على ذلك يصير إلى القتل أو إلى الرق والذل. والله أعلم. (3) .
الحادي عشر: من أصناف المدعوين: المشركون: ظهر في هذا الحديث أن من أصناف المدعوين: كسرى، وقيصر، وفارس، ولا شك أن فارس عباد النار، والنصارى عباد عيسى صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا أهل كتاب، فينبغي أن يدعى هؤلاء كل على حسبه وبما يناسبه. (4) .
الثاني عشر: من موضوعات الدعوة: الحض على الجهاد حتى يعبد الله وحده: ظهر في الحديث الحض على الجهاد لقول المغيرة رضي الله عنه لعامل كسرى: «فأمرنا نبينا رسول ربنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية» (5) .
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 266.
(2) انظر: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، لابن القيم ص 35.
(3) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث، والدرس الرابع عشر.
(4) انظر: الحديث رقم 90، الدرس الرابع، ورقم 91، الدرس الثامن، ورقم 179، الدرس السابع.
(5) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الثالث، ورقم 18، الدرس الثاني.(1/1018)
[باب إثم من قتل معاهدا بغير جرم]
[حديث من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة]
5 - بابُ إثم من قتل معاهدا بغير جرم 183 [ص:3166] حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ عَمْرو: حَدَّثَنَا مُجَاهِد، عَنْ عبد الله بْنِ عَمرو (1) رضي الله عنهما عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَاما» (2) .
* شرح غريب الحديث: * " معاهدا " المعاهد: من كان بينك وبينه عهد، وأكثر ما يطلق في الحديث على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب مدة معلومة (3) .
* " لم يَرَحْ " لم يرح رائحة الجنة: أي لم يشم ريحها (4) "لم يرح " فيه ثلاث لغات: فتح الياء والراء: أي لم يجد ريحها، وقيل: بضم الياء وكسر الراء "يُرِحْ "، وقيل بفتح الياء وكسر الراء "يَرِحْ "، ونقل الحافظ ابن حجر رحمه الله: أن الأجود الذي عليه الأكثر الأول "لم يرحْ " (5) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: التحذير من قتل أهل الذمة بغير حق.
2 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
3 - من سماحة الإِسلام: حفظه لحرمة العهد والميثاق.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 114.
(2) [الحديث 3166] طرفه في كتاب الديات، باب إثم من قتل ذميا بغير جرم، 8 / 60، برقم 6914.
(3) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب العين مع الهاء، مادة: "عهد" 3 / 325.
(4) انظر: المرجع السابق، باب الراء مع الواو، مادة: "روح " 2 / 272.
(5) انظر: أعلام الحديث للخطابي، 4 / 1464، وجامع الأصول لابن الأثير، 2 / 650، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 270.(1/1019)
أولا: من موضوعات الدعوة: التحذير من قتل أهل الذمة بغير حق: إن من موضوعات الدعوة: التحذير من قتل أهل الذمة بدون حق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة» ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "والمراد به من له عهد مع المسلمين، سواء كان بعقد جزية، أو هدنة من سلطان، أو أمان مسلم " (1) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "المعاهد هو الذي له ذمة، أي عهد، سواء كان من أهل الجزية أو أهل الأمان، فلا يجوز قتله حتى ينبذ إليه عهده " (2) فينبغي للداعية أن يُحذِّر الناس من قتل أهل الذمة بغير حق عند الحاجة للتحذير من ذلك.
ثانيا: من أساليب الدعوة: الترهيب: الترهيب من أساليب الدعوة النافعة؛ ولهذا ثبت هذا الأسلوب في هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما» ، وهذا فيه ترهيب ووعيد لمن فعل هذه الكبيرة، قال الإِمام الطيبي رحمه الله: "والمعنى: أنه لم يشم رائحة الجنة ولم يجد ريحها، ولم يرد به أنه لا يجده أصلا، بل أول ما يجدها سائر المسلمين الذين لم يقترفوا الكبائر، توفيقا بينه وبين ما تعاضدت به الدلائل النقلية والعقلية على أن صاحب الكبيرة إذا كان موحِّدا محكوما بإسلامه لا يخلد في النار ولا يحرم من الجنة" (3) هذا إن لم يستحل هذه الكبيرة، أو يأتِ بناقض من نواقض الإِسلام، وسمعت العلامة ابن باز حفظه الله يقول: "وهذا من باب الوعيد، فهو تحت المشيئة، فهذا جزاؤه إن جازاه " (4) فإن شاء الله عذبه بذنبه حتى يطهر ثم يخرجه من النار، وإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة من أول مرة بعفوه سبحانه، وإحسانه (5) أسأل الله لي ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة (6) .
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 12 / 259.
(2) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3166 من صحيح البخاري.
(3) شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 8 / 2457.
(4) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 4749 من سنن النسائي.
(5) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي 6 / 1160- 1184.
(6) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر.(1/1020)
ثالثا: من سماحة الإسلام: حفظه لحرمة العهد والميثاق: دل هذا الحديث على أن الإِسلام يحفظ حرمة العهد والميثاق؛ ولهذا حرم قتل المعاهد الذي دخل في ذمة المسلمين: بصلح، أو عهد، أو أمان، أو بدفع الجزية، إلا أن ينقض العهد ويأتي بما يحل دمه وماله؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة» ، وقد أمر الله عز وجل المؤمنين بالوفاء بالعقود والعهود والمواثيق فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] (1) .
قال الإِمام أبو جعفر الطبري رحمه الله: "أوفوا بالعقود" يعني: أوفوا بالعهود التي عاهدتموها ربكم، والعقود التي عاقدتموها إياه، وأوجبتم بها على أنفسكم حقوقا، وألزمتم أنفسكم بها لله فروضا، فأتموها بالوفاء، والكمال، والتمام منكم لله بما ألزمكم بها، ولمن عاقدتموه منكم، بما أوجبتموه له بها على أنفسكم، ولا تنكثوها، فتنقضوها بعد توكيدها" (2) .
ونقل رحمه الله: اتفاق أهل التفسير على أن معنى "العقود" العهود (3) وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم نقض العهد من علامات النفاق الخالص، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كُنَّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعَها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» (4) وهذا يؤكد للداعية أنه ينبغي له أن يبين سماحة الإِسلام وحفظه لحرمة العهود والمواثيق.
_________
(1) سورة المائدة، الآية: 1.
(2) تفسير الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 9 / 449.
(3) انظر: المرجع السابق، 9 / 449، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 6 / 35.
(4) متفق عليه: البخاري، كتاب الإِيمان، باب علامة المنافق، 1 / 17، برقم 34، ومسلم كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، 1 / 78، برقم 58.(1/1021)
[باب إخراج اليهود من جزيرة العرب]
[حديث أقركم ما أقركم الله]
6 - بابُ إِخْراجِ اليهُودِ من جزيرةِ العرب وَقَالَ عُمَرُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أُقركم مَا أَقَرَّكُم الله» .
184 [ص:3167] حَدَّثَنَا عبد الله بْنُ يُوسُفَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ (1) رضي الله عنه قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجدِ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "انْطلِقُوا إِلَى يَهُودَ" فَخَرَجْنا حَتَى جِئْنَا بَيْتَ المِدْرَاسِ فَقَال: "أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَرض، فَمَنْ يَجِدْ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئا فَلْيَبِعْهُ، وإِلَّا فَاعلَمُوا أَنَّ الأَرْض لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» . (2) .
وفي رواية: «فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَادَاهُمْ: "يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا" فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أبا الْقَاسِم، فَقَالَ: "ذَلِكَ أُرِيدُ"، ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ. فَقَالُوا: قَدْ بلَغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، ثُم قَالَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: " اعْلَمُوا أَنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» (3) .
* شرح غريب الحديث: * " بيت المدراس "المدراس: صاحب دراسة كتب اليهود، وبيت المدراس: البيت الذي يدرسون فيه (4) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من ميادين الدعوة: المسجد.
2 - من وسائل الدعوة: إرسال الدعاة.
3 - من موضوعات الدعوة: الحض على الدخول في الإِسلام.
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 7.
(2) [الحديث 3167] طرفاه في: كتاب الإكراه، باب في بيع المكره ونحوه في الحق وغيره، 8 / 71، برقم 6944، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قوله تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46] ، 8 / 197، برقم 7348، وأخرجه مسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب إجلاء اليهود من الحجاز 3 / 1387، برقم 1765.
(3) الطرف رقم: 6944.
(4) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الدال مع الراء، مادة: "درس " 2 / 113.(1/1022)
4 - من أساليب الدعوة: الجدل بالتي هي أحسن.
5 - من موضوعات الدعوة: الحض على إخراج المشركين من جزيرة العرب.
6 - من صفات الداعية: الفصاحة والبلاغة.
7 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
8 - أهمية أسلوب التأكيد بالتكرار.
9 - من أصناف المدعوين: اليهود.
10 - من صفات اليهود: المكر والخديعة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من ميادين الدعوة: المسجد: دل هذا الحديث على أن من ميادين الدعوة إلى الله عز وجل المسجد؛ لقول أبي هريرة رضي الله عنه: بينما نحن في المسجد خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "انطلقوا إلى يهود"، وهذا يؤكد أهمية الدعوة إلى الله في المسجد؛ لأنه من أعظم الميادين النافعة، لما جعل الله في المساجد من البركة، والاستفادة من العلم، وغير ذلك مما يختص بالدين ونشره وتعلمه وتعليمه، والله ولى التوفيق (1) .
ثانيا: من وسائل الدعوة: إرسال الدعاة: ظهر في هذا الحديث أن إرسال الدعاة من وسائل الدعوة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة: "انطلقوا إلى يهود"، فينبغي العناية بإرسال الدعاة إلى الله عز وجل؛ لنشر العلم بين الناس، وتبليغ الإِسلام إلى كافة الناس، والله المستعان (2) .
ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحض على الدخول في الإسلام:
إن دعوة غير المسلمين وحضهم على الدخول في الإِسلام من أعظم الواجبات، وأعلى الثواب في رفع الدرجات؛ ولهذا حض النبي صلى الله عليه وسلم جميع البشر على الدخول في الإسلام، ومن ذلك حض اليهود وأمرهم بالدخول في دين الله عز وجل فقال:
_________
(1) انظر: الحديث رقم 76، الدرس الثاني.
(2) انظر: الحديث رقم 66، الدرس الثالث، ورقم 90، الدرس الثاني.(1/1023)
«يا معشر يهود أسلموا تسلموا، واعلموا أن الأرض لله ورسوله» ، وهذا فيه بيان واضح على أن الحض على الدخول في الإِسلام من أهم المهمات.
فينبغي للداعية أن يعتني بدعوة الناس إلى الإِسلام، وبيان محاسنه وخصائصه؛ لترغيب الناس فيه، ولا شك أن أول ما يبدأ الداعية به لدعوة الناس إلى الدخول في الإِسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فإن هم انقادوا لذلك فحينئذٍ يبدأ معهم بالتدرج في تعليم شرائع الإِسلام وأخلاقه (1) .
رابعا: من أساليب الدعوة: الجدل بالتي هي أحسن: إن من أهم الأساليب مع المعاندين المجادلة بالتي هي أحسن؛ ولهذا جادل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود فقال: «يا معشر يهود أسلموا تسلموا"، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم، فقال "ذلك أريد» ، ثم قالها الثانية، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم، ثم قالها الثالثة، وهذا فيه مجادلة بالتي هي أحسن؛ وقد ذكر ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ اليهود، ودعاهم إلى الإِسلام والاعتصام به، فقالوا بلغت ولم يذعنوا لطاعته، فبالغ في تبليغهم وكرره، وهذه مجادلة بالتي هي أحسن " (2) وهذا يؤكد أهمية الجدل بالتي هي أحسن (3) .
خامسا: من موضوعات الدعوة: الحض علي إخراج المشركين من جزيرة العرب: إخراج المشركين من جزيرة العرب أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته، وقد ظهر في هذا الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم لليهود: «إني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن يجد " (4) منكم بماله شيئا فليبعه وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله» ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل موته بثلاثة أيام: «أوصيكم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم»
_________
(1) انظر: الحديث رقم 90، الدرس الأول، والدرس الثاني، ورقم 92، الدرس السابع والدرس الثامن.
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر، 13 / 315.
(3) انظر: الحديث رقم 129، الدرس الرابع، ورقم 162، الدرس السادس.
(4) فمن يجد منكم بماله " من الوجدان: أي يجد مشتريا، أو من الوجد: أي المحبة: أي يحبه، والغرض "أن منهم من يشق عليه فراق شيءٍ من ماله، مما يعسر تحويله فقد أذن له في بيعه "، فتح الباري لابن حجر، 6 / 271.(1/1024)
وسكت عن الثالثة أو أنسِيهَا (1) وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما» (2) وجزيرة العرب التي يُخْرَجُ منها المشركون هي: ما بين أقصى عدن اليمن إلى ريف العراق في الطول، وأما في العرض فمن جدة وما والاها إلى أطراف الشام، وقيل لها جزيرة العرب؛ لأن بحر الحبش، وبحر فارس، ودجلة والفرات قد أحاطت بها، وأضيفت إلى العرب؛ لأنها الأرض التي كانت بأيديهم قبل الإِسلام (3) .
فينبغي إنفاذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أنفذها عمر رضي الله عنه في خلافته (4) ولا يمنع الكفار من التردد مسافرين في جزيرة العرب، ولا يمكنوا من الإِقامة فيها أكثر من ثلاثة أيام إلا لضرورة رآها ولي أمر المسلمين بدون إقامة دائمة، وإنما مؤقتة ثم يُخرجون بعد زوال الضرورة المحددة (5) .
وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "الواجب إخراج الكفرة من هذه الجزيرة، إلا إذا دخل لحاجة، كرسول لدولته، أو لبيع شيء وليس معه إقامة، فيبقى ثلاثة أيام أو نحوها ثم يخرج" (6) وسمعته حفظه الله يقول: "فعلى المسلمين أن لا يستقدموا الكفار، بل يستقدموا المسلمين، إلا إذا احتاج ولي الأمر لاستقدامهم للضرورة لبعض الأعمال، فليكن ذلك وقت الضرورة ثم يرجعوا إلى بلادهم " (7) وهذا وما قبله يؤكد أهمية التحريض على إخراج المشركين من جزيرة العرب، إنفاذا لوصية
_________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجزية والموادعة، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب، 4 / 78، برقم 3168، ومسلم كتاب الوصية، 3 / 257، برقم 1637.
(2) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، 3 / 1388، برقم 1767.
(3) انظر: معالم السنن للخطابي 4 / 246، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 3 / 589، وشرح النووي على صحيح مسلم، 11 / 102.
(4) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 171.
(5) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 11 / 103، وفتح الباري لابن حجر 6 / 271 - 272، 8 / 134.
(6) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3167 من صحيح البخاري، في جامع الإمام تركي بن عبد الله بالرياض.
(7) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 4431 من صحيح البخاري، في فجر يوم الخميس 19 / 10 / 1416 هـ، في جامع الإِمام تركي بن عبد الله "الجامع الكبير" بالرياض.(1/1025)
رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله المستعان وعليه التكلان (1) .
سادسا: من صفات الداعية: الفصاحة والبلاغة: الفصاحة والبلاغة من الصفات الجميلة التي يجمل أن يتصف بها الداعية، وقد ظهر هذا الأسلوب في الحديث، لقوله صلى الله عليه وسلم لليهود: "أسلموا تسلموا" قال الإِمام النووي رحمه الله: "وفي هذا الحديث استحباب تجنيس الكلام، وهو من بديع الكلام، وأنواع الفصاحة" (2) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وقوله صلى الله عليه وسلم: «أسلموا تسلموا» من الجناس الحسن؛ لسهولة لفظه وعدم تكلفه" (3) وهذا يبيِّن أهمية الفصاحة للداعية في الدعوة إلى الله عز وجل (4) .
سابعا: من أساليب الدعوة: الترغيب: الترغيب في الدخول في الإِسلام بالوعد بالخير والسلامة من الشر من أساليب الدعوة الناجحة، وقد استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فقال لليهود: «أسلموا تسلموا» ، قال الإِمام القرطبي رحمه الله: "أي: ادخلوا في دين الإِسلام طائعين تسلموا من القتل والسباء مأجورين " (5) وهذا يؤكد أهمية أسلوب الترغيب (6) .
ثامنا: أهمية أسلوب التأكيد بالتكرار: إن التكرار من الأساليب الجميلة التي ينبغي للداعية أن يستخدمها في دعوته إلى الله عز وجل، وقد ظهر هذا الأسلوب في هذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود: «أسلموا تسلموا» ، ثم كرر ذلك ثلاث مرات؛ قال الحافظ ابن حجر
_________
(1) انظر: معالم السنن للخطابي 4 / 246، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 3 / 587 - 589، وشرح النووي على صحيح مسلم 11 / 102- 203 و 12 / 335، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 170- 171 و 6 / 270 - 272، و 8 / 132- 135.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 333.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 271، وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 3 / 587.
(4) انظر: الحديث رقم 53، 54، 55، الدرس الثاني، ورقم 58، الدرس السابع عشر.
(5) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3 / 587.
(6) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 8، الدرس الرابع.(1/1026)
رحمه الله: "بَلّغ اليهود ودعاهم إلى الإِسلام والاعتصام به، فقالوا: بلغت، ولم يذعنوا لطاعته، فبالغ في تبليغهم وكرره " (1) وهذا يدل على حرصه صلى الله عليه وسلم على هدايتهم، ولكن الله يهدي من يشاء (2) .
تاسعا: من أصناف المدعوين: اليهود: دل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أسلموا تسلموا» على أن اليهود من أمة الدعوة، فينبغي العناية بدعوتهم على حسب الطرق الحكيمة في دعوتهم، والله الهادي إلى سواء السبيل (3) .
عاشرا: من صفات اليهود: المكر والخديعة: ظهر في هذا الحديث مكر اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه قال لهم: "أسلموا تسلموا"، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم، فقال: "ذلك أريد"، فكرر فكرروا، حتى قال ذلك ثلاث مرات. وقولهم: "قد بلغت يا أبا القاسم " كلمة مكر وخديعة تحمل العداوة المستترة؛ قال الإِمام القرطبي رحمه الله: "قولهم: قد بلغت يا أبا القاسم: كلمة مكر وخديعة، ومداجاة؛ (4) ليُدافعوه بما يوهمه ظاهرها، وذلك: أن ظاهرها يقتضي أنه قد بلغ رسالة ربه تعالى؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك أريد"، أي التبليغ، قالوا ذلك وقلوبهم منكرة، مكذبة" (5) وهذا فيه تحذير من مكر اليهود وغدرهم؛ قال الله عز وجل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] (6) * * * *
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 13 / 315.
(2) انظر: الحديث رقم 4، الدرس الخامس، ورقم 7، الدرس الثاني عشر.
(3) انظر: الحديث رقم 89، الدرس العاشر، ورقم 92، الدرس الرابع عشر.
(4) المداجاة: المداراة، يقال: داجيته: أي داريته وكأنك ساترته العداوة، ويقال: داجى الرجل: ساتره بالعداوة وأخفاها عنه، فكأنه أتاه في الظلمة. لسان العرب لابن منظور، باب الواو، فصل الدال، 14 / 250.
(5) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3 / 588، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 271.
(6) سورة المائدة، الآية: 82.(1/1027)
[باب إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم]
[حديث لما فتحت خيبر أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم]
8 - بابُ إِذا غدر الْمُشْركُون بِالْمُسْلمين هلْ يُعْفى عنْهمْ؟ 185 [ص:3169] حَدَّثَنَا عبد الله بْنُ يُوسُفَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، عَنْ أَبِي هُريْرَةَ (1) رضي الله عنه قَالَ: «لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شاة فِيهَا سُمّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ يَهُودَ"، فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: "إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيء، فَهَلْ أَنتم صَادِقِيَّ عَنْهُ؟ " فَقَالُوا: نَعَمْ. قَالَ لَهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أَبُوكُمْ؟ " قَالُوا: فلانٌ. فَقَال: "كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فلانٌ ". قَالوا: صَدَقْتَ. قَالَ: "فَهَلْ أنتمْ صَادِقِيَّ عَنْ شيء إِنْ سَأَلْتُ عَنْهُ؟ " فَقَالُوا: نَعم يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبينَا. فَقَالَ لَهُمْ: "مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ " قَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرا، ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا. فَقَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اخْسَؤُوا فيها، واللهِ لَا نَخْلُفكُمْ فِيهَا أَبَدا". ثُمَّ قَالَ: "هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ " فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أبَا القَاسِمِ. قَالَ: "هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمّا" قَالُوا: نعَمْ. قَالَ: "مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ " قَالُوا: أرَدْنا إِنْ كُنْتَ كَاذِبا نَسْتَريحُ، وإن كُنْتَ نَبيّا لَمْ يَضُرَّكَ» (2) .
وفي رواية: «مَنْ أَبُوكُمْ؟ " قَالُوا: أَبُونَا فُلان، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فلانٌ "، فَقَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ» (3) .
* شرح غريب الحديث: * " اخسؤوا "يقال. خسأت الكلب: طردته وأبعدته، والخاسئ: المبعد كما قال الله عز وجل: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] (4) ويقال: اخسأ: أي تباعد تَبَاعُدَ سَخَطٍ وَصُغرٍ (5) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 7.
(2) [الحديث 3169] طرفاه في: كتاب المغازي، باب الشاة التي سمت للنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، 5 / 99، برقم 4249. وكتاب الطب، باب ما يذكر في سم النبي صلى الله عليه وسلم، 7 / 41، برقم 5777.
(3) من الطرف رقم: 5777.
(4) سورة المؤمنون، الآية: 108.
(5) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 168، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الخاء مع السين، مادة. "خسأ" 2 / 31.(1/1028)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية منها:
1 - من تاريخ الدعوة: ذكر فتح خيبر.
2 - من أساليب الدعوة: السؤال والجواب.
3 - من أساليب الدعوة: الجدل.
4 - من صفات الداعية: العفو.
5 - من وسائل الدعوة: التأليف بقبول هدية المشرك مع الحذر.
6 - من أساليب الدعوة: استخدام الشدة بالقول عند الحاجة.
7 - من سنن الله عز وجل: الابتلاء لأوليائه.
8 - من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الإِخبار ببعض المغيبات.
9 - من أصناف المدعوين: اليهود.
10 - من صفات اليهود: الخيانة والخبث.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من تاريخ الدعوة: ذكر فتح خيبر: دل الحديث على ذكر شيء مما وقع في غزوة خيبر؛ لقول أبي هريرة رضي الله عنه: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاةٌ فيها سم "، وهذه الحادثة من الحوادث التاريخية المهمة في السنة السابعة للهجرة، وقد ظهر خبث اليهود وخيانتهم لله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) .
ثانيا: من أساليب الدعوة: السؤال والجواب: السؤال والجواب من الأساليب الدعوية، وقد ظهر في هذا الحديث؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأل اليهود عن أبيهم؟ ثم أجابهم، وسألهم: من أهل النار؟ ثم أجابهم بالجواب الصحيح، وسألهم هل جعلوا في الشاة سما؟ ثم سألهم عن السبب لذلك، وهذا يبين أهمية السؤال والجواب في الدعوة إلى الله عز وجل (2) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 177، الدرس الأول.
(2) انظر: الحديث رقم 58، الدرس الثالث، ورقم 110، الدرس الرابع، ورقم 114، الدرس الرابع.(1/1029)
ثالثا: من أساليب الدعوة: الجدل: الجدل بالتي هي أحسن من أساليب الدعوة؛ ولهذا استخدمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث في المجادلة في أول الأمر، فقال لليهود: «إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه"، فقالوا: نعم. فقال: "من أبوكم؟ " قالوا: فلان، فقال: "كذبتم بل أبوكم فلان" قالوا: صدقت. قال: "فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؛ " فقالوا؛ نعم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا. فقال لهم: "من أهل النار؟ " قالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اخسئوا فيها والله لا نخلفكم فيها أبدا» وقد دل هذا الجدل على القوة والغلظة على اليهود؛ لأنهم ظلموا وكذبوا ولم ينقادوا؛ قال الله عز وجل: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] (1) وهذا يؤكد أن الجدال بالتي هي أحسن إنما يكون مع من استمع للحق ولم يتجاوز حدود الأدب، فإذا تجاوز ذلك أغلظ عليه عند القدرة كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم: 9] (2) وهذا فيه تأكيد على أهمية استخدام الجدل على حسب أحوال المجادل، والله المستعان (3) .
رابعا: من صفات الداعية: العفو: ظهر في هذا الحديث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعاقب اليهود بالقتل، أو غيره انتقاما لنفسه، ولكنه عفا وصفح، وقد أكل معه من أصحابه من الشاة: بشر بن البراء ومات بعد ذلك بسبب السم فقتل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليهودية التي سمته قصاصا بالبراء، أما هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد عفا عنها؛ لأنه كان لا ينتقم لنفسه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (4) فينبغي للداعية أن يعفو ويصفح ولا ينتقم لنفسه إلا أن يجاهد في سبيل الله لنصر الإِسلام (5) .
_________
(1) سورة العنكبوت، الآية: 46.
(2) سورة التحريم، الآية: 9.
(3) انظر: الحديث رقم 129، الدرس الرابع.
(4) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 4 / 208 - 212، وفتح الباري لابن حجر، 7 / 497.
(5) انظر: الحديث رقم 80، الدرس الثالث، ورقم 105، الدرس الرابع.(1/1030)
خامسا: من وسائل الدعوة: التأليف بقبول هدية المشرك مع الحذر: دل هذا الحديث على أن من وسائل الدعوة قبول هدية المشرك تأليفا له؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل الشاة المصلية التي أهدتها له اليهود، ولكن لا يؤكل من ذبائح غير أهل الكتاب. وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن من فوائد هذا الحديث: "جواز الأكل من طعام أهل الكتاب وقبول هديتهم" (1) ولكن يتأكد على الداعية أن يأخذ حذره من المشركين كافة؛ لأن الله عز وجل قد بين أن اليهود والنصارى لا يرضون حتى تُتَّبع ملتهم، قال الله عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] (2) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] (3) .
سادسا: من أساليب الدعوة: استخدام الشدة بالقول عند الحاجة: إن استخدام الشدة بالقول عند الحاجة من الأساليب الدعوية إذا احتاج الداعية إلى ذلك، ولكن يشترط أن لا يحصل منكر بالشدة، وقد دل هذا الحديث على هذا الأسلوب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لليهود: «كذبتم بل أبوكم فلان» ، وقال لهم: «اخسئوا فيها والله لا نخلفكم فيها أبدا» ، وهذا كلام فيه شدة للحاجة إليه من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فينبغي للداعية أن يعمل الأصلح عند القدرة عليه والله عز وجل الموفق (4) .
سابعا: من سنن الله عز وجل: الابتلاء لأوليائه: إن من السنن الثابتة الابتلاء للأولياء من الأنبياء والصالحين، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن أعداء الله اليهود عملوا السم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتأثر بذلك وهو حبيب الله وخليله، فينبغي للداعية أن يسأل الله العفو والعافية كثيرا، وإذا حصل له ابتلاء فيلزم الصبر والاحتساب، والله المستعان (5) .
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7 / 498.
(2) سورة البقرة، الآية: 120.
(3) سورة النساء، الآية: 71.
(4) انظر: الحديث رقم 116، الدرس العاشر، ورقم 162، الدرس الرابع.
(5) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 66، الدرس الأول.(1/1031)
ثامنا: من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الإخبار ببعض المغيبات: لا شك أن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث لليهود: "أبوكم فلان"، وقوله لهم: «اخسؤوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدا» ، وإعلام الله عز وجل له بأن اليهود جعلوا في الشاة المصلية سما، يدل ذلك كله على أنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حقا وصدقا؛ لإِخباره بأمور غائبة عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي كما قال؛ لأن الله أخبره بذلك، والله المستعان وعليه التكلان (1) .
تاسعا: من أصناف المدعوين: اليهود: ظهر في هذا الحديث أن اليهود من أصناف المدعوين؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تألفهم بالعفو والصفح، فلم ينتقم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنفسه عندما سمَّه اليهود، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جادلهم بالتي هي أحسن، ثم أغلظ لهم في القول عندما احتاج إلى ذلك (2) .
عاشرا: من صفات اليهود: الخيانة والخبث: إن اليهود أعداء الله أشد خبثا وعداوة للمسلمين من غيرهم من الكفرة؛ ولهذا عملوا هذا العمل القبيح: من جعل السم في الشاة، ومن مجادلة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم كاذبون في جدالهم، وقد بين الله عز وجل خيانتهم وعداوتهم فقال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] (3) فينبغي الحذر منهم ومن غدرهم وخيانتهم، ومكرهم قاتلهم الله.
[باب هل يعفى عن الذمي إذا سحر]
[حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يخيل إليه أنه صنع شيئا] ولم يصنعه
_________
(1) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع، ورقم 53، 54، 55، الدرس الثالث.
(2) انظر: الحديث رقم 89، الدرس العاشر، ورقم 92، الدرس الرابع عشر.
(3) سورة المائدة، الآية: 82.(1/1032)
14 - بَاب هَل يُعفَى عنِ الذِّمِّيِّ إذا سَحَر؟ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أخبرني يُونُسَ، عَن ابْنِ شِهَابٍ سُئِلَ: أَعَلَى مَنْ سَحَرَ مِنْ أهْلِ الْعَهْدِ قَتْل؛ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ صُنِعَ لَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَقتلْ مَنْ صنَعَهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ.
186 [ص:3175] حَدَّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ المُثَنَّى: حَدَّثَنَا يَحْيَى: حَدَّثَنَا هِشَام قالَ: حَدَّثَنِي أبِي عَنْ عَائِشَة (1) «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُحِرَ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أنهُ صَنَعَ شَيْئًا وَلَمْ يَصنَعْهُ» (2) .
وفي رواية: «سُحِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أنه يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ، حتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَعَا وَدَعَا ثُمَّ قَالَ: "أشَعرتِ أَنَّ اللهَ أَفْتَانِي فيمَا فِيهِ شِفَائِي؟ أتانِي رجُلانِ فَقَعَدَ أحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَر عِنْدَ رِجْلَي فَقَالَ أَحَدهما لِلآخَرِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؛ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَم. قَالَ: في مَاذَا؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمَشَاقَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذرْوَانَ ". فَخَرَجَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمَّ رَجَعَ فَقَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ رَجَعَ: "نَخْلُهَا كَأَنَّهُ رؤوسُ الشَّيَاطِين"، فَقُلْتُ: أَسْتخرجْتَه؟ فَقَالَ: "لَا. أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللهُ وخَشِيتُ أَنْ يُثيرَ ذلكَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا، ثُمَّ دُفِنَتِ الْبِئر» (3) .
وفي رواية: «سَحَرَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ
_________
(1) تقدمت ترجمتها في الحديث رقم: 4.
(2) [الحديث 3175] أطرافه في: كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، 4 / 108، برقم 3268. وكتاب الطب، باب السحر، 7 / 37، برقم 5763. وكتاب الطب، باب هل يستخرج السحر، 7 / 38، برقم 5765. وكتاب الطب، باب السحر، 7 / 38، برقم 5766. وكتاب الأدب، باب قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، 7 / 115، برقم 6063. وكتاب الدعوات، باب تكرير الدعاء، 7 / 211، برقم 6391. وأخرجه مسلم في كتاب السلام، باب السحر، 4 / 1719، برقم 2189.
(3) الطرف رقم: 3268.(1/1033)
الأَعْصَمِ. . . "، وفيها: "مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَنْ طَبهُ؟ قَالَ؛ لَبيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وجُفِّ طَلْعِ نَخلَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بئْرِ ذَرْوَانَ. فَأَتَاهَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَاءَ فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ وَكَأَنَّ رُؤوسَ نَخْلِهَا رُؤوسُ الشَّيَاطِين " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلا اسْتَخْرَجْتَهُ؛ قَالَ: "قَدْ عَافَانِي اللهُ فَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا".، فأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ» (1) .
وفي رواية: «كانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُحِرَ حَتَّى كَانَ يَرَى أنهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ، قَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ إِذَا كَانَ كَذَا. . . "، وفي هذه الرواية قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: "فَأَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ» . . . " (2) .
وفي رواية: «فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأُخْرِجَ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فَهَلاَّ - تَعْنِي تَنشَّرْتَ -؟ فَقَالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَمَّا اللهُ فَقَدْ شَفَانِي، وَأَما أَنَا فَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا» (3) .
* شرح غريب الحديث: * سحر: السحر: كل ما لطف مأخذه ودق (4) وهو عبارة عما خفي ولطُف سببه (5) والسحر في عرف الشرع مختص بكل أمرٍ يخفى سببه ويتخيل على غير حقيقته ويُجرى مجرى التمويه والخداع (6) والسحر: عزائم وَرُقًى وَعُقدٌ تُؤَثِّرُ في الأبدان والقلوب، فيُمرضُ، وَيَقْتُلُ وَيُفرِّقُ بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه (7) .
_________
(1) من الطرف رقم: 5763.
(2) من الطرف رقم 5765.
(3) من الطرف رقم: 6063.
(4) القاموس المحيط للفيروزآبادي، باب الراء، فصل السين، ص 519.
(5) انظر: فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد، لعبد الرحمن بن حسن، 2 / 463.
(6) المصباح المنير، للفيومي، كتاب السين، مادة: "سحر "، 1 / 268.
(7) انظر: الكافي للإمام عبد الله بن أحمد بن قدامة، 5 / 331.(1/1034)
* مطبوب: أي مسحور، كنوا بالطب عن السحر تفاؤُلًا بالبرء كما كنوا بالسليم عن اللديغ (1) .
* مشط ومشاطة: المشاطة: هي الشعر الذي يسقط من الرأس واللحية عند التسريح بالمشط (2) .
* مشاقة: هي المشاطة كما تقدم (3) .
* جف طلعة ذكر: الجف: وعاء الطلع للنخل، وهو الغشاء الذي يكون فوقه (4) .
* بئر ذروان: هي بئر لبني زريق بالمدينة (5) .
* نقاعة الحناء: النقع: الماء الناقع وهو المجتمع، فنقع البئر هو ماؤها الناقع المجتمع (6) .
* راعوفة البئر: راعوفة البئر وراعونة، تقال: بالفاء والنون، وهي صخرة تترك في أسفل البئر إذا حفرت تكون ثابتة هناك فإذا أرادوا تنقية البئر يقوم عليها المستقي، ويقال: بل هو حجر ثابت في بعض البئر يكون صُلْبا لا يمكنهم إخراجه ولا كسره، فيترك على حاله (7) .
* تنشرت: النُّشرة بالضم نوع من الرقية يعالج به من كان يُظنُّ أن به مسا من الجن، سميت نشرة؛ لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء: أي يكشف ويزال (8) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان.
2 - من صفات الداعية: الإلحاح في الدعاء وتكريره.
_________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الطاء مع الباء، مادة: "طبب" 3 / 110.
(2) المرجع السابق، باب الميم مع الشين، مادة: "مشط" 4 / 334.
(3) انظر: المرجع السابق، باب الميم مع الشين، مادة: "مشق" 4 / 334.
(4) المرجع السابق، باب الجيم مع الفاء، مادة: "جفف " 1 / 278، 1 / 234.
(5) انظر: المرجع السابق، باب الذال مع الراء، مادة: "ذرا" 2 / 160.
(6) انظر: المرجع السابق، باب النون مع القاف، مادة: " نقع" 5 / 108.
(7) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 541، وانظر: رواية للبخاري برقم 6063.
(8) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب النون مع الشين، مادة: "نشر" 5 / 54.(1/1035)
3 - من صفات الداعية: العفو.
4 - من القواعد الدعوية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
5 - من أساليب الدعوة: التشبيه.
6 - من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عصمته فيما يبلغه عن ربه عز وجل، وإخباره بمكان السحر.
7 - من موضوعات الدعوة: بيان أهمية الأخذ بالأسباب وأنها لا تنافي التوكل.
8 - من صفات اليهود: الخيانة لله ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
9 - من موضوعات الدعوة: التحذير من السحر وبيان خطره.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان: دل هذا الحديث على أن من صفات الداعية الصبر على الابتلاء والامتحان؛ لصبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أذى اليهود قاتلهم الله، فقد سحره اليهودي لبيد بن الأعصم، فلم يجزع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم ينتقم لنفسه، بل صبر، واحتسب وعفا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه (1) .
ثانيا: من صفات الداعية: الإلحاح في الدعاء وتكريره: من اليقين الذي لا شك فيه أن الإِلحاح في الدعاء وتكريره من أسباب الإِجابة وآداب الدعاء؛ ولهذا كرر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدعاء لطلب الشفاء من الله عز وجل من مرض السحر كما قالت عائشة رضي الله عنها: «سحر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى كان يخيل إليه أنه يقول الشيء وما يفعله، حتى كان ذات يومٍ دَعَا ودَعَا» . . . " قال الإِمام القرطبي رحمه الله: "وقوله دعا ثم دعا: أي إظهارًا للعجز والافتقار، وعلما منه بأن الله هو الكاشف للكرب والأضرار، وقياما بعبادة الدعاء عند الاضطرار" (2) وقال الإِمام النووي رحمه الله في إلحاح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدعاء وتكريره: "هذا دليل لاستحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهات، وحسن الالتجاء إلى الله
_________
(1) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 66، الدرس الأول.
(2) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5 / 571، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 10 / 228.(1/1036)
تعالى" (1) ومعلوم أن الإِلحاح في الدعاء: هو الإِقبال على الدعاء ولزومه والمواظبة عليه والإِقبال عليه، وتكريره (2) كما ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه: يا ربِّ يا ربِّ " (3) .
وهذا يؤكد أهمية الإِلحاح في الدعاء؛ ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي " (4) فينبغي للداعية أن يلح في الدعاء، ويكرره، ولا يستهين به، وقد أحسن الإِمام الشافعي رحمه الله حيث قال:
أتهزأُ بالدعاء وتزدريه ... وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهام الليل لا تخطي ولكن ... لها أَمَدٌ وللأَمدِ انقضاءُ (5)
ثالثا: من صفات الداعية: العفو: ظهر في هذا الحديث كمال عفو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه لم يعاقب لبيد بن الأعصم، ولم يتعرض له حتى بالكلام، ولم يسأله لِمَ سحره؟ وقد ذكر الإِمام الكرماني رحمه الله في فوائد هذا الحديث أن فيه: "كمال عفو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (6) وهذا يوضح للداعية أهمية الاقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العفو والصفح، وعدم الانتقام للنفس، وبالله الثقة وعليه التكلان (7) .
رابعا: من القواعد الدعوية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح: لا شك أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ ولهذا لم يقتل النبي لبيد بن الأعصم، ولم يُخرج السحر للناس فينشره ويشيعه ويخبر به من
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم، 14 / 427، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 10 / 228.
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب اللام مع الحاء، 4 / 236.
(3) مسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، في كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، 2 / 702، برقم 1015.
(4) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب الدعوات، باب يستجاب للعبد ما لم يعجل، 7 / 198، برقم 6340، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم بعجل، 4 / 2095، برقم 2735.
(5) ديوان الإمام الشافعي، جمعه محمد عفيف الزعبي، ص 17.
(6) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 3 / 197.
(7) انظر: الحديث رقم 80، الدرس الثالث، ورقم 105، الدرس الرابع.(1/1037)
قابله، لئلا يثير شرّا على المسلمين (1) وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما الله فقد شفاني، وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شرّا» ، قال الإِمام النووي رحمه الله: "هذا من باب ترك مصلحة لخوف مفسدة أعظم منها، وهو من أهم قواعد الإِسلام " (2) وهذا يؤكد على الداعية العناية بالعمل بهذه القاعدة الدعوية النافعة (3) .
خامسا: من أساليب الدعوة: التشبيه: التشبيه من أساليب الدعوة؛ ولهذا ثبت في هذا الحديث قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة عن صفة بئر ذروان: «يا عائشة كأن ماءَها نقاعة الحناء، وكأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين» ، قال الإِمام الكرماني رحمه الله في هذا التشبيه: "في كونها وحشة المنظر، سمجة الأشكال، وهو مثل في استقباح الصورة" (4) وقال الإِمام القرطبي رحمه الله: "وتشبيهه نخلها برؤوس الشياطين يعني أنها مستكرهة، مستقبحة المنظر، والمخبر، وهذا على عادة العرب إذا استقبحوا شيئا شبهوه بأنياب أغوال أو رؤوس الشياطين. . . " (5) .
وهذا يبين أن أسلوب التشبيه يستخدم في التنفير، كما يستخدم في شد الانتباه، والله أعلم (6) .
سادسا: من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
عصمته فيما يبلغه عن ربه عز وجل وإخباره بمكان السحر: من المعجزات التي تدل على صدق نبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إعلام الله عز وجل له بمكان السحر، وعصمته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يبلغه عن ربه سبحانه وتعالى، فلم يؤثِّر السحر على عقله، ولا على رسالته، وقد ثبت في هذا الحديث أن الله عز وجل أخبره عن طريق الملكين: بأنه مسحور، وأن الذي سحره لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطة، وأن هذا السحر في بئر ذروان. وهذا كله يدل على صدق نبُوَّته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
_________
(1) انظر: الجمع بين روايات الحديث التي ظاهرها التعارض وليست كذلك: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 5 / 574، وشرح النووي على صحيح مسلم، 14 / 428، وفتح الباري لابن حجر، 10 / 234- 235.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم، 14 / 428، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 10 / 231.
(3) انظر: الحديث رقم 167، الدرس الخامس ورقم 173، الدرس الثالث عشر.
(4) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 21 / 38.
(5) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5 / 735.
(6) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الرابع، ورقم 19، الدرس الخامس.(1/1038)
أما ما حصل له من السحر فلا شك فيه؛ لأن أهل السنة وجمهور العلماء من الأمة على إثبات السحر وأن له حقيقة، كحقائق غيره من الأشياء الثابتة خلافا لمن أنكره ونفى حقيقته، وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها، وقد ذكره الله تعالى في كتابه العزيز، وذكر أنه مما يُتَعَلَّم، وذكر ما فيه إشارة إلى أنه مما يكفر بتعلمه، وأنه يفرق بين المرء وزوجه، وهذا كله مما لا يمكن أن يكون فيما لا حقيقة له، وكيف يُتعلَّم ما لا حقيقة له؛ (1) .
وذكر الإِمام القرطبي رحمه الله: أن حديث عائشة رضي الله عنها يدل على أن السحر موجود، وأن له أثرا في المسحور بإذن الله عز وجل، قال: "وقد دل على ذلك مواضع كثيرة من الكتاب والسنة، بحيث يحصل بذلك القطع بأن السحر حق، وأنه موجود، وأن الشرع قد أخبر بذلك، كقصة سحرة فرعون "، ثم قال: "وبالجملة فهو أمر مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن وجوده، ووقوعه، فمن كذب بذلك فهو كافر، مكذب لله ولرسوله، منكر لما عُلم مشاهدة وعيانًا. . . " (2) .
أما ما حصل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنما سلط السحر على جسده وظاهر جوارحه، لا على عقله وقلبه واعتقاده (3) وقد بين الإِمام المازري، والإِمام القرطبي، والإِمام النووي رحمهم الله: أن بعض المبتدعة أنكر هذا الحديث، وزعم أنه يحط من منصب النبوة ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع، وهذا الذي ادعاه هؤلاء المبتدعة باطل؛ لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ بقوله وفعله وتقريره، والمعجزة شاهدة بذلك، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل، فأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسببها، ولا كان مفضلا من أجلها، وهو مما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له (4) .
_________
(1) انظر: المعلم بفوائد مسلم، لأبي عبد الله محمد بن علي المازري 3 / 93، وشرح النووي على صحيح مسلم، 14 / 424 - 425، وبدائع الفوائد لابن القيم 2 / 227، وفتح الباري لابن حجر، 10 / 226- 227.
(2) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5 / 568 - 569.
(3) انظر: المعلم بفوائد مسلم للمازري، 3 / 93، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 5 / 570، وشرح النووي على صحيح مسلم، 14 / 425، وفتح الباري لابن حجر، 10 / 227.
(4) انظر: المعلم بفوائد مسلم، للمازري، 3 / 93، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 5 / 570 وشرح النووي على صحيح مسلم، 14 / 425.(1/1039)
قال الإِمام القرطبي رحمه الله: "وأما عدم علم الطاعن فقد سلبه الله تعالى العلم بأحكام النبوات، وما تدل عليه المعجزات، فكأنهم لم يعلموا أن الأنبياء من البشر، وأنه يجوز عليهم من الأمراض، والآلام، والغضب، والضجر، والعجز، والسحر، والعين، وغير ذلك ما يجوز على البشر، لكنهم معصومون عما يناقض دلالة المعجزة، من معرفة الله تعالى، والصدق، والعصمة عن الغلط في التبليغ. . . "، ثم قال في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وهو الذي شهد له العليُّ الأعلى، بأن بصره ما زاغ وما طغى، وبأن فؤاده ما كذب ما رأى، وبأن قوله وحيٌ يُوحى، وأنه ما ينطق عن الهوى" (1) وهذا كله يؤكد عصمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يبلغه عن ربه عز وجل، وأنها من معجزاته التي تدل على صدقه.
سابعا: من موضوعات الدعوة: بيان أهمية الأخذ بالأسباب وأنها لا تنافي التوكل: دل هذا الحديث على أن تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل (2) ولهذا عندما سُحِرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، توكل على الله عز وجل وعمل بالأسباب، ومن أعظم ما فعله من الأسباب: أنه دعا الله عز وجل والتجأ إليه، وكرر الدعاء، فدعا ثم دعا، ثم عندما علم مكان السحر أمر بالبئر فدفنت، واستخرج السحر، وفي رواية: "فأمر به فأخرج"، وهذا يؤكد الأخذ بالأسباب وأنها لا تنافي التوكل، بل هي من التوكل (3) .
ومن الأسباب التي ينبغي أن يأخذ بها المسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل الوقاية من السحر قبل وقوعه، وعلاجه إذا وقع ويكون ذلك على النحو الآتي:
أولا: الوقاية من السحر قبل وقوعه: وذلك بالقيام بجميع الواجبات، وترك جميع المحرمات، والتوبة من جميع السيئات، والإِكثار من قراءة القرآن والتحصن بالدعوات والتعوذات المشروعة: كدعاء الصباح والمساء، وأدبار الصلوات المكتوبة، وأذكار النوم والاستيقاظ من النوم، وغير ذلك من الأذكار
_________
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5 / 570، وانظر: فتح الباري، لابن حجر، 10 / 227.
(2) انظر: الحديث رقم 30، الدرس الخامس.
(3) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10 / 228، وانظر: حديث رقم 3، الدرس الخامس.(1/1040)
المشروعة (1) ومما ينفع بإذن الله عَزَّ وجلَّ قبل وقوع السحر أكل سبع تمرات على الريق كل صباح، فعن سعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من اصطبح بسبع تمرات عجوة (2) لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر» (3) والأكمل أن تكون من تمر المدينة مما بين الحرتين؛ لرواية مسلم: «من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح لم يضره سم حتى يمسي» (4) وقد ذكر الإمام ابن القيم أسبابا عشرة يندفع بها شر الحاسد، والعائن، والساحر، وهي: الاستعاذة بالله، وتقوى الله عزَّ وجلَّ، والصبر مع العفو، والتوكل على الله، ولا يخاف إلا من الله، والإقبال على الله والإخلاص له، والتوبة من الذنوب، والصدقة والإحسان، وإطفاء نار من يخاف شره بالإحسان إليه، وتجريد التوحيد وإخلاصه للعزيز الحكيم (5) .
ثانيا: علاج السحر بعد وقوعه: وذلك بإخراج السحر وإبطاله إذا علم مكانه بالطرق المباحة شرعا، وهذا من أبلغ ما يعالج به المسحور كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله، (6) وإذا لم يعلم مكانه بالطرق المباحة شرعا، فحينئذ لم يبق إلا الالتجاء إلى الله عز وجل، والرقية بالقرآن، والدعوات النبوية التي ثبتت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (7) وإن أخذ بالتجارب في العلاج بالرقية كان ذلك حسنا، ومن ذلك أن يدق سبع ورقات من سدر أخضر بين حجرين، أو نحوهما، ثم يصب عليها ما يكفيه للغسل من الماء، ويقرأ فيها: آية الكرسي (8) وآيات السحر: في سورة الأعراف، ويونس، وطه (9) وسورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وسور
_________
(1) انظر: زاد المعاد لابن القيم، 4 / 126 - 127، وفتاوى العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، 3 / 277.
(2) العجوة: نوع جيد من التمر، شرح النووي على صحيح مسلم، 14 / 246.
(3) متفق عليه: البخاري، كتاب الطب، باب شرب السم والدواء به وبما يخاف منه والخبيث، 7 / 42، برقم 5779، ومسلم، كتاب الأشربة، باب فضل تمر المدينة، 3 / 1618، برقم 2047.
(4) صحيح مسلم برقم 2047، وتقدم تخريجه في الذي قبله. وانظر: الطب من الكتاب والسنة للعلامة موفق الدين عبد اللطيف البغدادي ص 78.
(5) انظر: بدائع الفوائد، 2 / 238 - 245.
(6) انظر: زاد المعاد لابن القيم، 14 / 124، وقد دل عليه أصل حديث الدراسة، الطرف رقم 5765، والطرف رقم 6063.
(7) انظر: مجموع فتاوى ابن باز، 3 / 279.
(8) انظر: سورة البقرة، الآية: 255.
(9) انظر: سورة الأعراف الآيات: 117 - 122، ويونس، الآيات: 79 - 82، وطه، الآيات: 65 - 70.(1/1041)
المعوذات الثلاث: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] ثم يشرب منه ثلاث مرات ويغتسل بالباقي، وبذلك يزول الداء إن شاء الله، وإن دعت الحاجة إلى إعادته أعيد ولو مرات، حتى يزول المرض، وقد جرب كثيرا فنفع الله به، وهو جيد لمن حبس عن زوجته (1) .
ثامنا: من صفات اليهود: الخيانة لله ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن اليهود لهم صفات قبيحة ذميمة منها الخيانة لله ولرسله عليهم الصلاة والسلام، وقد دل هذا الحديث على هذه الصفة؛ لأن لبيد بن الأعصم سحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحصل له ما حصل من الألم والمشقة، وقد فعلوا أكثر من هذا بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال عز وجل: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 155] (2) .
تاسعا: من موضوعات الدعوة: التحذير من السحر وبيان خطره: لا شك أن من موضوعات الدعوة التي ينبغي للداعية أن يعتني بها تحذير الناس من السحر وبيان خطره، ومما يدل على خطره تأثر سيد الخلق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به، فكيف بضعفاء المسلمين؟ ولهذا الخطر العظيم حذر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من السحر أشد التحذير فقال: «اجتنبوا السبع الموبقات" (3) قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» (4) وقد بين الله عز وجل أن الساحر لا يفلح فقال: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] (5)
_________
(1) انظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، لعبد الرحمن بن حسن، 2 / 502، ومجموع فتاوى العلامة ابن باز، 3 / 279، وانظر: مصنف عبد الرزاق 11 / 13، وفتح الباري لابن حجر، 10 / 233، وقد شاهدت الشفاء بإذن الله عز وجل لمن رقي بذلك مرات عديدة ولله الحمد.
(2) سورة النساء، الآية: 155.
(3) الموبقات: المهلكات. تقدم في شرح غريب الحديث رقم 12، ص 130.
(4) متفق عليه: البخاري برقم 2766، ومسلم برقم 89، وتقدم تخريجه في أحاديث الدراسة برقم 12، ص 130.
(5) سورة طه الآية: 69.(1/1042)
والساحر ليس له في الآخرة من نصيب، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102] (1) وبين الله عز وجل أن من تعلم السحر كفر، فقال: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة: 102] (2) ؛ ولخطر السحر على المسلمين حذر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الذهاب إلى السحرة والكهان فقال: «من أتى عرافا (3) فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» (4) .
وهذا فيه التحذير الشديد من إتيان الكهان والعرافين، وأن من فعل ذلك ولم يصدقهم فلا ثواب له في صلاة أربعين ليلة (5) أما من أتاهم وصدقهم فإنه يكفر بالقرآن والسنة (6) ؛ لحديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أتى كاهنا (7) أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -" (8) .
وهذا يؤكد كفر الكاهن والساحر والعراف؛ لأنهم يدعون علم الغيب، والمصدق لهم الذي يعتقد ذلك ويرضى به كافر، أسأل الله لي ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة (9) .
وقد برئ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ممن تعاطى السحر والكهانة وممن تلقى ذلك عنهم فقال: «ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر
_________
(1) سورة البقرة، الآية: 102.
(2) سورة البقرة الآية: 102.
(3) العراف: هو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفته بها، وهو الذي يدعي معرفة مكان المسروق، ومكان الضالة ونحو ذلك. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 14 / 474، 478.
(4) مسلم عن بعض أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، 4 / 1751، برقم 2330، وانظر: شرح علل الترمذي للحافظ ابن رجب 2 / 667.
(5) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 14 / 478.
(6) انظر: فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد، لعبد الرحمن بن حسن، 2 / 490.
(7) الكاهن: هو الذي يخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار ومطالعة علم الغيب.
التعريفات للجرجاني ص 233، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 14 / 474.
(8) أحمد في المسند، 2 / 429، والبيهقي في السنن الكبرى 8 / 135؛ والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 1 / 8، وقال الذهبي في الكبائر ص 141: "إسناده صحيح"، وأخرجه مطولا: أبو داود، كتاب الطب، باب في الكاهن، 4 / 15، برقم 3904، والترمذي كتاب الطهارة، باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض، 1 / 242، برقم 135، وأحمد في المسند 2 / 408، وابن ماجه في كتاب الطهارة، باب النهي عن إتيان الحائض؛ 1 / 209، برقم 639، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2 / 739، برقم 3305.
(9) انظر: فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن، 2 / 491.(1/1043)
له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -" (1) ومما يؤكد خطر السحر والتحذير منه الأمر بقتل الساحر؛ لعظم شره، وإراحة الناس من سحره، فعن عمرو بن دينار سمع بجالة يحدث عمرو بن أوس وأبا الشعثاء: كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف بن قيس إذ جاءنا كتاب عمر قبل موته بسنة: "اقتلوا كل ساحر وساحرة"، قال فقتلنا في يوم ثلاث سواحر (2) وأمرت حفصة بنت عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بقتل جارية لها سحرتها فقتلت (3) وقتل جندب الأزدي ساحرا عند الوليد بن عقبة أمير الكوفة (4) وعن جندب البجلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "حد الساحر ضربة بالسيف" (5) قال الترمذي رحمه الله: "والصحيح عن جندب موقوف، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم، وهو قول مالك بن أنس، وقال الشافعي: إنما يقتل الساحر إذا كان يعمل في سحره ما يبلغ به الكفر، فإذا عمل عملا دون الكفر فلم نر عليه قتلا" (6) وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: "وحد الساحر القتل روي ذلك عن عمر، وعثمان بن عفان، وابن عمر، وحفصة، وجندب بن عبد الله، وجندب بن كعب، وقيس بن سعد، وعمر بن عبد العزيز، وهو قول
_________
(1) أخرجه البزار [مختصر زوائد مسند البزار على الكتب الستة ومسند أحمد لابن حجر] 1 / 646، برقم 1170، وقال المنذري في الترغيب والترهيب 3 / 618: "رواه البزار بإسناد جيد".
(2) أبو داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب أخذ الجزية من المجوس، 3 / 168، برقم 3043، وأحمد في المسند، 1 / 190 - 191 واللفظ له ولابن أبي شيبة في المصنف، 10 / 136، برقم 9031، وعبد الرزاق في المصنف، 1 / 179، برقم 18745، والبيهقي في السنن الكبرى، 8 / 136، والبيهقي في معرفة السنن والآثار 12 / 203، برقم 16456. وانظر: صحيح البخاري، حديث رقم 3156، وسنن الترمذي برقم 1586، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2 / 590.
(3) موطأ الإمام مالك 2 / 871، وعبد الرزاق في المصنف، 10 / 180، برقم 18747، وابن أبي شيبة في المصنف، 9 / 146، و 10 / 135، برقم 9029، ومعرفة السنن والآثار، لأحمد بن حسين البيهقي 12 / 203، برقم 16457.
(4) الطبراني في المعجم الكبير 2 / 177، برقم 1725، وعبد الرزاق في المصنف، 10 / 182، برقم 18748، والبيهقي في السنن الكبرى، 8 / 136.
(5) سنن الترمذي، كتاب الحدود، باب ما جاء في حد الساحر، 4 / 60، برقم 1460، والطبراني في الكبير، 2 / 161، برقم 1665، و 1666، وانظر: فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن 2 / 477.
(6) سنن الترمذي 4 / 60.(1/1044)
أبي حنيفة، ومالك " (1) .
وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "والمقصود أن الساحر إذا عرف يقتل، فحده السيف، مثل ما أمر عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بقتل السحرة، والسحر يعالج بالرقى الشرعية، ولا يجوز تعلم السحر، ولا تعليمه، ولا إقراره" (2) .
وكل ما سبق يؤكد للداعية أهمية تحذير الناس أشد التحذير من السحر وتعلمه، وتعليمه، والعلاج به، والله عز وجل المستعان.
_________
(1) المغني لابن قدامة، 12 / 302. وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي 5 / 574، وزاد المعاد لابن القيم 5 / 62، وفتح المجيد لشرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن، 2 / 474 - 475.
(2) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3175. من صحيح البخاري.(1/1045)
[باب ما يحذر من الغدر]
[حديث اعدد ستا بين يدي الساعة]
15 - باب ما يحذر من الغدر وقوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال: 62] (1) .
187 [ص:3176] حدثنا الحميدي: حدثنا الوليد بن مسلم: حدثنا عبد الله بن العلاء بن زَبْر قال: سمعت بسر بن عبيد الله أنه سمع أبا إدريس قال: سمعت عوف بن مالك (2) قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك - وهو في قبة من أدم فقال: «اعدد ستا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا» .
* شرح غريب الحديث: * " قبة من أدم " القبة تطلق على البيت الصغير المدوَّر والقبة من الأدم كذلك (3) .
* " قعاص الغنم " القعاص: داء يأخذ الغنم لا يلبثها أن تموت (4) .
* " بني الأصفر " يعني الروم لأن أباهم كان أصفر اللون، وهو روم بن عيصون بن إسحاق بن إبراهيم (5) .
* " غاية " الغاية والراية سواء: فالغاية: الراية (6) .
_________
(1) سورة الأنفال، الآية: 62.
(2) عوف بن مالك بن أبي عوف الأشجعي الغطفاني، أول مشاهده مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر، وشهد معه فتح مكة، وكانت معه راية أشجع، نزل الشام وسكن دمشق، روي له عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبعة وستون حديثا، انفرد البخاري عن مسلم بواحد، وانفرد مسلم بخمسة، وأخذ العلم عنه جماعات من التابعين، توفي سنة ثلاث وسبعين في خلافة عبد الملك بن مروان، وذلك بدمشق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 40، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 3 / 43.
(3) انظر: شرح غريب الحديث رقم: 171، ص 952.
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع العين، مادة: "قعص"، 4 / 88.
(5) المرجع السابق، باب الصاد مع الفاء، مادة: "صفر" 3 / 37.
(6) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 437، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الغين مع الياء، مادة: "غيا" 4 / 404.(1/1046)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة تبوك.
2 - من أسباب تحصيل العلم: زيارة العلماء.
3 - من أساليب الدعوة: استخدام العدد إجمالا ثم تفصيلا.
4 - من موضوعات الدعوة: بيان علامات الساعة.
5 - من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإخبار بالمغيبات.
6 - من أساليب الدعوة: الموعظة الحسنة.
7 - من أصناف المدعوين: النصارى.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة تبوك: ظهر في الحديث ذكر غزة تبوك؛ لقول عوف بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك، وهو في قبة من أدم"، وغزوة تبوك غزاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السنة التاسعة للهجرة، وقد أمر أصحابه قبل الغزو بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك في زمان عسرة من الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، فالناس يحبون المقام في ثمارهم، ويكرهون مفارقتها، وهذا فيه امتحان وابتلاء، فقد أظهر الله المنافقين لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وظهر صدق أهل الإيمان والتقوى، فتخلف خلق كثير من المنافقين، وغزى بشر كثير من المؤمنين، ثم أعز الله أهل الإيمان وكفاهم القتال، وأخزى الله المنافقين وفضحهم، أسأل الله لي ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة (1) .
ثانيا: من أسباب تحصيل العلم: زيارة العلماء: دل هذا الحديث على أن من أسباب تحصيل العلم زيارة العلماء، للأخذ
_________
(1) انظر: تاريخ الأمم والملوك، للطبري، 2 / 180، والكامل في التاريخ لابن الأثير، 2 / 189، والبداية والنهاية لابن كثير، 5 / 3- 18، وانظر: الحديث رقم 163 والدرس العاشر.(1/1047)
عنهم؛ لأن عوف بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك، وهو في قبة من أدم فقال: "اعدد ستا بين يدي الساعة. .» ، ثم عد له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علامات الساعة المذكورة في هذا الحديث، فلو لم يزر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويذهب إليه ما حصل على هذا العلم، وهذا يؤكد على طالب العلم أن يعتني بزيارة العلماء في الأوقات المناسبة، ويلازمهم للاستفادة من علمهم؛ ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله:
أخي لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء , وحرص , واجتهاد , وبلغة ... وصحبة أستاذ , وطول زمان (1)
/ 50 ثالثا: من أساليب الدعوة: استخدام العدد إجمالا ثم تفصيلا: ظهر في هذا الحديث أسلوب ذكر العدد إجمالا ثم تفصيلا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعوف بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «اعدد ستا بين يدي الساعة» ، وهذا فيه إجمال يشد الانتباه؛ للتشوق إلى ذكر هذه الست تفصيلا، ثم قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «موتي ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا» . . . " فينبغي العناية بهذا الأسلوب عند الحاجة لذكره في الدعوة إلى الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) .
رابعا: من موضوعات الدعوة: بيان علامات الساعة: إن بيان علامات الساعة من الموضوعات التي ينبغي للداعية أن يعتني بها في دعوته إلى الله عز وجل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث لعوف بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «اعدد ستا بين يدي الساعة» فدل ذلك على أهمية بيان علامات الساعة للناس اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وعلامات الساعة تدل على اقتراب القيامة، فإذا ذكر الداعية بعض هذه العلامات؛ فإن فيها التحذير من الغفلة والحض على الإقبال علي الله عز وجل؛ قال الله عز وجل: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد: 18] (3) .
_________
(1) ديوان الإمام الشافعي، جمعه محمد عفيف ص 81.
(2) انظر الحديث رقم 12، الدرس الرابع.
(3) سورة محمد، الآية: 18.(1/1048)
وقد قسم العلماء أشراط الساعة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما وقع وانقضى على وفق ما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والقسم الثاني: ما وقعت مباديه ولا يزال يزداد ويتتابع ويكثر. والقسم الثالث: ما لم يظهر إلى الآن وهي العلامات الكبرى (1) فأما القسمان الأولان فهما من أشراط الساعة الصغرى، ومن ذلك بعثة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وموته، وفتح بيت المقدس، وطاعون عمواس، واستفاضة المال وكثرته، وظهور الفتن، وظهور مدعي النبوة، وظهور نار الحجاز، وقتال الترك والعجم، وضياع الأمانة، وقبض العلم وظهور الجهل، وانتشار الزنا والربا، وظهور المعازف وشرب الخمر، والتطاول في البنيان، وكثرة القتل، وتقارب الزمان، وتقارب الأسواق، وظهور الفحش وقطيعة الرحم وكثرة الشح، وكثرة الزلازل، وأن تكون التحية للمعرفة، وظهور الكاسيات العاريات، وكثرة الكذب، وعدم التثبت في نقل الأخبار، وكلام الجماد والسباع للإنس. . . وغير ذلك من العلامات.
وأما القسم الثالث الذي لم يظهر منها: فالدخان، وخروج المسيح الدجال وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وظهور المهدي، ونزول عيسى ابن مريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخروج يأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوفات: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم (2) .
فينبغي للداعية أن يبين للناس علامات الساعة في الأوقات المناسبة؛ لما في ذلك من الحث على الاستقامة، والتخويف الجالب للمسارعة إلى الخيرات.
خامسا: من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الإخبار بالمغيبات: دل هذا الحديث على صدق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر بأمور غيبية وقعت كما أخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال لعوف بن مالك: «اعدد ستا بين يدي الساعة» ، ثم ذكر موته؛
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 3 / 83.
(2) والأدلة على علامات الساعة كثيرة جدا ذكر منها الإمام ابن الأثير مائة وسبعة أحاديث في جامع الأصول 10 / 327 - 419، من الحديث رقم 7831 - 7938، وهذا يدل على عناية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذكر علامات الساعة وبيانها للناس.(1/1049)
وفتح بيت المقدس، والموتان: وهو طاعون عمواس، واستفاضة المال وفتنة لا يبقى بيت إلا دخلته - وهي ما وقع من قتل عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وغدر الروم. وقد ذكر ابن حجر رحمه الله: "أن هذه العلامات قد خرجت كلها إلا قصة الروم فلم تقع إلى الآن" (1) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "هذا من علامات النبوة؛ فإن هذا كله قد وقع، أما الخمس الأولى فقد وقعت، وأما السادسة، وهي تجمعات الروم فيحتمل أن يكون ما حصل في عهد عمر وعثمان من تجمعات، ويحتمل أن يكون ذلك هو الذي في آخر الزمان" (2) وهذا كله يؤكد صدق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويدل على معجزاته العظيمة التي جعلها الله من علامات نبوته (3) .
سادسا: من أساليب الدعوة: الموعظة الحسنة: ظهر في هذا الحديث ترغيب وترهيب، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر أن هدنة تكون بين المسلمين والروم، فيغدر الروم ويأتون تحت ثمانين راية، تحت كل راية اثنا عشر ألفا، فيكون عددهم تسعمائة وستين ألفا، وهذا جيش عظيم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "وفيه بشارة ونذارة، وذلك أنه دل على أن العاقبة للمؤمنين مع كثرة ذلك الجيش، وفيه إشارة إلى أن عدد جيوش المسلمين سيكون أضعاف ما هو عليه" (4) ولا شك أن الموعظة الحسنة: هي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، والقول الحق الذي يلين القلوب، ويؤثر في النفوس، ويكبح جماح النفوس المتمردة، ويزيد النفوس المهذبة إيمانا وهداية (5) .
فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب النافع مع المدعوين؛ ليحصل
_________
(1) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 278.
(2) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3176 من صحيح البخاري.
(3) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 278.
(5) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 19 / 164، ومفتاح دار السعادة لابن القيم، 1 / 474، والتفسير القيم لابن القيم، ص 344، وهداية المرشدين لعلي بن محفوظ ص 71.(1/1050)
النفع التام بإذن الله عز وجل؛ ولأهمية الموعظة الحسنة قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] (1) وينبغي للداعية يكون وعظه للناس على نوعين:
وعظ التعليم: ويكون ببيان عقائد التوحيد، وبيان الأحكام الشرعية الخمسة: من الواجب، والحرام، والمسنون، والمكروه، والمباح، ويراعي ذلك كله ما يناسب كل طبقة، ويسوق إلى الناس التعليم مساق الوعظ الذي يلين القلوب، ويبعثها على العمل، ولا يسرد سردا خاليا من وسائل التأثير (2) .
وعظ التأديب: ويكون بتحديد الأخلاق الحسنة: كالحلم، والأناة، والكرم، والصبر، وبيان آثارها ومنافعها في المجتمع، والحث على التخلق بها، والتزامها، وتحديد الأخلاق السيئة: كالغضب، والعجلة، والغدر، والجزع، والبخل. . والتحذير عن الاتصاف بها عن طريق: الترغيب والترهيب، ويتأكد على الداعية أن يستشهد في ذلك كله بما جاء فيه من الكتاب والسنة الثابتة، وآثار الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، والتابعين والأئمة المجتهدين، وأحوالهم في ذلك فإن لهذا شأنا عظيما يوصل إلى الغاية المقصودة متى صدر من قلب سليم متخلق بما يدعو إليه. والله المستعان (3) .
سابعا: من أصناف المدعوين: النصارى: إن هذا الحديث دل على أن من أصناف المدعوين النصارى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر بقتال المسلمين لهم، ولهم طرق في دعوتهم ينبغي للداعية أن يلتزمها مراعاة لعقيدتهم وأحوالهم (4) .
_________
(1) سورة النساء، الآية: 66.
(2) انظر: تفسير ابن كثير، 1 / 266، 462، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي 1 / 278، 2 / 35، وهداية المرشدين لعلي بن محفوظ ص 143.
(3) انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم، 474 - 475، وهداية المرشدين لعلي بن محفوظ ص 145، 192.
(4) انظر: الحديث رقم 90، الدرس الرابع.(1/1051)
[باب إثم من عاهد ثم غدر]
[حديث كيف أنتم إذا لم تجتبوا دينارا ولا درهما]
17 - باب إثم من عاهد ثم غدر وقول الله عز وجل: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} [الأنفال: 56] (1) .
188 [ص:3180] قَالَ أَبُو مُوسَى: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَجْتَبُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا؟ فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ تَرَى ذَلِكَ كَائِنًا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: إِيْ وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، عَنْ قَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ: قَالُوا: عَمَّ ذَلِكَ؟ قَالَ: تُنْتَهَكُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَشُدُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قُلُوبَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَمْنَعُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ» .
* شرح غريب الحديث: * " إذا لم تجتبوا دينارا ولا درهما " أي إذا لم تأخذوا من الجزية والخراج شيئا. (3) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من أساليب الدعوة: السؤال والجواب.
2 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم.
3 - أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية.
4 - من موضوعات الدعوة: الحض على الوفاء بالعهد.
5 - من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تحقق ما أخبر به.
6 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الظلم.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من أساليب الدعوة: السؤال والجواب: إن السؤال والجواب من أهم أساليب الدعوة؛ لما فيه من شحذ الهمم ولفت
_________
(1) سورة الأنفال، الآية: 56.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 7.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر، 6 / 280.(1/1052)
انتباه المدعو، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث؛ لقول أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَجْتَبُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا» فقيل له: «وكيف ترى ذلك كائنا يا أبا هريرة؟» فأجابهم بما يريد أن يلقي إليهم من العلم، وهذا يؤكد أهمية أسلوب السؤال والجواب (1) .
ثانيا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: التأكيد بالقسم أسلوب ناجح من أساليب الدعوة؛ ولهذا قال أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في هذا الحديث: «إي والذي نفس أبي هريرة بيده» ثم ساق الحديث وهذا يدل على استخدام الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم لهذا الأسلوب في دعوتهم لأهميته (2) .
ثالثا: أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية: إن الاستدلال بالأدلة الشرعية من أهم الأمور التي ينبغي للداعية أن يعتني بها في دعوته؛ ليثق الناس بما يقوله، ويسلم من الوقوع في الخطأ، وقد ظهر ذلك في قول أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في هذا الحديث: «إي والذي نفس أبي هريرة بيده عن قول الصادق المصدوق» ، فنسب القول إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استدلالا على ما يقول رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (3) .
رابعا: من موضوعات الدعوة: الحض على الوفاء بالعهد: دل مفهوم الحديث على الحض على الوفاء بالعهد؛ لقول أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الذي رفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كيف أنتم إذا لم تجتبوا دينارا ولا درهما» أي كيف تكون حالكم إذا انقطعت عنكم أموال الجزية والخراج، وبين السبب في انقطاع ذلك فقال: «تنتهك ذمة الله وذمة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -"، وذلك أن المسلمين ينقضون عهد الله وعهد رسوله الذي يتعلق بحقوق أهل الذمة، ويعاملونهم بالظلم والعدوان فيعاقب الله المسلمين في الدنيا قبل الآخرة: «فيشد الله عز وجل قلوب أهل الذمة فيمنعون ما في أيديهم» من الأموال: من الجزية والخراج فلا يدفعونها إلى المسلمين. وهذا يبين أنه يجب على المسلمين الوفاء بالعهد لأهل الذمة وإعطاؤهم حقوقهم
_________
(1) انظر: الحديث رقم 58، الدرس الأول، ورقم 110، الدرس الرابع.
(2) انظر: الحديث رقم 10، الدرس الخامس، ورقم 14، الدرس الخامس.
(3) انظر: الحديث رقم 77، الدرس الرابع عشر، ورقم 147، الدرس الخامس، ورقم 179، الدرس الرابع.(1/1053)
بشرطين: الأول: أن يخضعوا لأحكام الإسلام في الجملة، والثاني: أن يدفعوا الجزية. فإذا فعلوا ذلك وجب القيام بالوفاء لهم بالعهود (1) وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن من فوائد هذا الحديث: «التوصية بالوفاء لأهل الذمة؛ لما في الجزية التي تؤخذ منهم من نفع للمسلمين» (2) فينبغي الوفاء بالعهد وحض الناس على ذلك؛ لما فيه من طاعة لله ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الله عز وجل: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] (3) وهذا يؤكد أهمية الوفاء بالعهود، والمواثيق (4) .
خامسا: من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تحقق ما أخبر به: إن من المعجزات الباهرة التي تدل على صدق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أعطاه الله من دلائل صدق النبوة، ومن ذلك تحقق ما أخبر به من أن أهل الذمة يمتنعون عن أداء الجزية والخراج، وقد وقع ذلك، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ذكره لفوائد هذا الحديث: "وفيه علم من أعلام النبوة" (5) وهذا فيه تأكيد لصدقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنه رسول الله حقا (6) .
سادسا: من موضوعات الدعوة: التحذير من الظلم: ظهر من مفهوم الحديث التحذير من ظلم أهل الذمة، والتحذير من نقض العهد المبرم؛ لأن نقض ذلك من كبائر الذنوب وسبب لضعف المسلمين، وزوال هيبتهم، وقلة مواردهم المالية؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث المتعلقة بظلم أهل الذمة: "وفيه التحذير من ظلمهم، وأنه متى وقع ذلك نقضوا العهد فلم يجتب المسلمون منهم شيئا، فتضيق أحوالهم" (7) فينبغي للداعية تحذير الناس من ظلم أهل الذمة وغيرهم، والابتعاد عن جميع أنواع الظلم (8) .
[باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس]
[حديث قول سهل بن حنيف اتهموا رأيكم رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع] أن أرد أمر النبي لرددته
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 280، وإرشاد الساري للقسطلاني، 5 / 244، ومنار القاري، لحمزة بن محمد بن قاسم، 4 / 140.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 280.
(3) سورة الأنعام، الآية: 152.
(4) انظر: الحديث رقم 28، الدرس الثاني.
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 180، وانظر: إرشاد الساري، للقسطلاني، 5 / 244.
(6) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع، ورقم 53، الدرس الثالث.
(7) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 280، وانظر: إرشاد الساري للقسطلاني، 5 / 244.
(8) انظر: الحديث رقم 136، الدرس الثالث.(1/1054)
18 - باب 189 [ص:3181] حَدَّثَنَا عَبْدَانُ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ: شَهِدْتَ صِفِّينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَسَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ (1) يَقُولُ: «اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ، رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا أَسْيَافَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا لِأَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلَّا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرَ أَمْرِنَا هَذَا» (2) .
وفي رواية: «كُنَّا بِصِفِّينَ، فَقَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا؛ فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؛ فَقَالَ: "بَلَى". فَقَالَ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؛ قَالَ: "بَلَى". قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟ أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: "يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا". فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا. فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ فَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: "نَعَمْ".» (3) .
وفي رواية: «لَمَّا قَدِمَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ مِنْ صِفِّينَ أَتَيْنَاهُ نَسْتَخْبِرُهُ فَقَالَ: اتَّهِمُوا
_________
(1) سهل بن حنيف بن واهب بن العكيم، الأوسي، الأنصاري، المدني كان من السابقين، شهد بدرا؛ وثبت يوم أحد حين انكشف الناس وكان ينفح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ بالنبل، وشهد أيضا الخندق والمشاهد كلها مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واستخلفه علي بن أبي طالب رضي الله عنه على البصرة بعد وقعة الجمل، ثم شهد معه صفين، وروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علما كثيرا، فقد ذُكر له أربعون حديثا، اتفق البخاري ومسلم على أربعة وانفرد مسلم بحديثين، توفي بالكوفة سنة ثمان وثلاثين، وصلى عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه. انظر تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1 / 237، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 87.
(2) [الحديث 3181] أطرافه في: كتاب الجزية والموادعة، باب، 4 / 84، برقم 3182. وكتاب المغازي باب غزوة الحديبية، 5 / 83، برقم 4189. وكتاب تفسير القرآن، 48. سورة الفتح، باب قوله: إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، 6 / 53، برقم 4844. وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، 8 / 187، برقم 7308. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية، 3 / 1411، برقم 1785.
(3) من الطرف رقم: 3182.(1/1055)
الرَّأْيَ فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ لَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرَهُ لَرَدَدْتُ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، وَمَا وَضَعْنَا أَسْيَافَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا لِأَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلَّا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ قَبْلَ هَذَا الْأَمْرِ، مَا نَسُدُّ مِنْهَا خَصْمًا إِلَّا انْفَجَرَ عَلَيْنَا خَصْمٌ مَا نَدْرِي كَيْفَ نَأْتِي لَهُ» . (1) .
وفي رواية: عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: «أَتَيْتُ أَبَا وَائِلٍ أَسْأَلُهُ فَقَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ فَقَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ؛ فَقَالَ عَلِيٌّ: نَعَمْ. فَقَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ - يَعْنِي الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُشْرِكِينَ - وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؛ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؛ قَالَ: "بَلَى". قَالَ: فَفِيمَ أُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا؟ فَقَالَ: "يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا"، فَرَجَعَ مُتَغَيِّظًا فَلَمْ يَصْبِرْ حَتَّى جَاءَ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ» (2) .
وَفِي رِوَايَةٍ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ» (3) .
* شرح غريب الحديث: * عواتقنا: جمع عاتق وهو المنكب (4) .
* أسهلن بنا: يقال: أسهل الرجل إذا ركب السهل من الأرض في سيره، وقوله: "أسهلن بنا" أي رأينا في عاقبته وفي السلوك إليه سهولة، وكأنه ركب السهل في طريقه إليه، ولم ير في آخره مكروها (5) .
_________
(1) من الطرف رقم: 4189.
(2) من الطرف رقم: 4844.
(3) من الطرف رقم: 7308.
(4) القاموس المحيط للفيروزآبادي، باب القاف، فصل العين، ص 1170.
(5) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 107.(1/1056)
* أعطي الدنية في ديننا: الدنية: النقيصة (1) .
* يفظعنا: أي يشتد علينا، يقال: أفظع الأمر: اشتد، وهو مفظِع وفظيع (2) .
* خُصْمٌ: الخصم: جانب الشيء، وخُصْمُ كل شيء طرفه وجانبه، وإنما ذلك إخبار عن انتشار الأمر وشدته، وأنه لا يتهيأ إصلاحه وتلافيه، وأنه بخلاف ما كانوا عليه من قبل ذلك (3) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أهمية سؤال الداعية عما أشكل عليه.
2 - أهمية إجابة السائل بأكثر مما سأل عند الحاجة.
3 - من موضوعات الدعوة: الحض على الأخذ بالكتاب والسنة واتهام الرأي.
4 - من تاريخ الدعوة: ذكر يوم أبي جندل.
5 - أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية.
6 - من أساليب الدعوة: الحوار.
7 - من صفات الداعية: الثقة بالله عز وجل.
8 - منزلة أبي بكر العظيمة رضي الله عنه في مؤازرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
9 - أهمية الانقياد والتسليم لأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
10 - من سنن الله عز وجل: الابتلاء والامتحان.
11 - من موضوعات الدعوة: الحث على التثبت والتبصر.
12 - من وسائل الدعوة: عقد الصلح والهدنة مع الأعداء عند العجز عن الجهاد.
13 - من أصناف المدعوين: المشركون.
14 - من أصناف المدعوين: المسلمون.
15 - من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تحقق ما أخبر به.
16 - من صفات الداعية: الحرص على الإصلاح بين الناس.
_________
(1) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 107.
(2) انظر: المرجع السابق ص 107.
(3) انظر: المرجع السابق ص 107.(1/1057)
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: أهمية سؤال الداعية عما أشكل عليه: إن سؤال الداعية عما أشكل عليه من وسائل تحصيل العلم المهمة؛ ولهذا سأل سليمان الأعمش أبا وائل شقيق بن سلمة فقال له: شهدت صفين؟ فقال أبو وائل: نعم، فسمعت سهل بن حنيف يقول: "اتهموا رأيكم" (1) وهذا يدل على أهمية سؤال الداعية عما أشكل عليه؛ ليعلمه وينتفع به والله أعلم.
ثانيا: أهمية إجابة السائل بأكثر مما سأل عند الحاجة: إجابة السائل بأكثر مما سأل دليل على علم الداعي وفقهه، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث؛ لأن سليمان الأعمش سأل أبا وائل فقال: هل شهدت صفين؟ فأجابه أبو وائل فقال: "نعم"، فسمعت سهل بن حنيف يقول: "اتهموا رأيكم. . . "، ثم ساق له الحديث، فزاده على ما سأل علما كثيرا وفوائد نافعة، وهذا من أهم أساليب الدعوة " ولهذا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستخدم هذا الأسلوب في دعوته، فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: «لما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي. قال: "ما لك يا عمرو؟ " قال قلت: أريد أن أشترط، قال: "تشترط بماذا؟ " قلت: أن يغفر لي، قال: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟» (2) فأجاب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما يفيد عدم المؤاخذة عن كل من اعتنق الإسلام، وعن كل من هاجر، وعن كل من حج حجا مبرورا، وقد كان يكفيه في الجواب أن يقول: غفر لك، أو نحوها، ولكنه زاده علما كثيرا نافعا (3) وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن سأله عن ماء البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» (4) فأجاب
_________
(1) انظر: عمدة القاري للعيني 15 / 103، وإرشاد الساري للقسطلاني، 5 / 244.
(2) مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، 1 / 112، برقم 121.
(3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 2 / 496، وهداية المرشدبن لعلي محفوظ ص 32.
(4) أبو داود، كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، 1 / 21، برقم 83، والترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، 1 / 100، برقم 69، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي، كتاب الطهارة، باب ماء البحر، 1 / 50، برقم 59، وابن ماجه، كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، 1 / 136، برقم 386، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1 / 19.(1/1058)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السائل عن الحكم الذي سأل عنه، وزاده حكما لم يسأل عنه، وهو حل ميتة البحر؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندما عرف اشتباه الأمر على السائل في ماء البحر أشفق أن يشتبه عليه حكم ميتته، وقد يبتلى بها راكب البحر، فعقب الجواب عن سؤاله ببيان حكم الميتة، وذلك من محاسن الفتوى أن يجاء في الجواب بأكثر مما سئل عنه تتميما للفائدة، وإفادة لعلم غير المسؤول عنه، ويتأكد عند ظهور الحاجة إلى الحكم أو المسألة كما هنا؛ لأن من توقف في طهورية ماء البحر فهو عن العلم بحل ميتته - مع تقدم تحريم الميتة - أشد توقفا (1) .
ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحض على الأخذ بالكتاب والسنة واتهام الرأي: إن الأخذ بالكتاب والسنة من أهم الواجبات وأعظم القربات؛ لأن الأخذ بالرأي المجرد عن الدليل الشرعي يوصل إلى المهالك؛ ولهذا قال سهل بن حنيف رضي الله عنه في هذا الحديث: «اتهموا رأيكم، فلقد رأيتني يوم أبي جندل لو أستطيع أن أرد على رسول الله أمره لرددته، والله ورسوله أعلم» ، وهذا يؤكد أن الرأي لا يعتمد عليه، وإنما المعتمد على الكتاب والسنة؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] (2) وقال عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] (3) وقال عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10] (4) .
فالأصل في الحكم بين الناس أن يرد حكمه إلى كتاب الله عز وجل، وإلى سنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (5) وقد ذم الله القول عليه بغير علم، فقال عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] (6)
_________
(1) انظر: سبل السلام شرح بلوغ المرام، لمحمد بن إسماعيل الصنعاني 1 / 18، وتوضيح الأحكام من بلوغ المرام، لعبد الله بن عبد الرحمن البسام، 1 / 90.
(2) سورة النساء، الآية: 59.
(3) سورة النساء، الآية: 65.
(4) سورة الشورى، الآية: 10.
(5) انظر: تفسير الطبري "جامع البيان عن تأويل آي القرآن "، 8 / 504، وتفسير ابن كثير، 1 / 519.
(6) سورة الأعراف، الآية: 33.(1/1059)
فقرن سبحانه القول عليه بغير علم بالشرك بالله عز وجل وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ - إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 168 - 169] (1) وهذا يؤكد أن القول على الله بغير علم من أمر الشيطان، وقال عز وجل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] (2) وقد بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن القائل على الله بغير علم من الجاهلين الضالين المضلين، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الله لا ينتزع العلم من الناس انتزاعا، ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم، ويبقي في الناس رؤوسا (3) جهالا يفتون بغير علم فيضلون ويضلون» (4) .
والحاصل أنه لا يجوز الاعتماد على الرأي، بل يرجع إلى الكتاب والسنة، أو إلى أحدهما، فإن لم يجد فيرجع إلى الإجماع، فإذا لم يجد الأمور الثلاثة رجع إلى أقوال الصحابة رضي الله عنهم، فإن وجد قولا لأحدهم ولم يخالفه أحد من الصحابة ولا عرف نص يخالفه، واشتهر هذا القول في زمانهم أخذ به؛ لأنه حجة عند جماهير العلماء، فإذا لم يجد قولا يحتج به من أقوال الصحابة واحتاج إلى القياس رجع إليه بدون تكلف بل يستعمله على أوضاعه، ولا يتعسف في إثبات العلة الجامعة التي هي من أركان القياس، بل إذا لم تكن العلة الجامعة واضحة فليتمسك بالبراءة الأصلية (5) .
وكما دل الحديث على التمسك بالكتاب والسنة دل على التحذير من الرأي؛ لقول سهل رضي الله عنه: «اتهموا رأيكم على دينكم» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
_________
(1) سورة البقرة، الآيتان: 168 - 169.
(2) سورة الإسراء، الآية: 36.
(3) رؤوس: جمع رأس، وفيه التحذير من اتخاذ الجهال رؤساء. شرح النووي على صحيح مسلم 16 / 465.
(4) متفق عليه: البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، 8 / 187، برقم 7307، ومسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، 4 / 2058، برقم 2673.
(5) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 20 / 14، و 19 / 176، وإعلام الموقعين لابن القيم، 1 / 30، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر، 13 / 282.(1/1060)
"أي لا تعملوا في أمر الدين بالرأي المجرد الذي لا يستند إلى أصل من الدين" (1) وما أحسن ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله:
كل العلوم سوى القرآن مشغلة ... إلا الحديث وعلم الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال حدثنا ... وما سوى ذاك وسواس الشياطين (2)
وقد ذم السلف رحمهم الله الرأي المجرد عن الدليل، فعن ابن الأشج عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: " إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ؛ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " (3) .
وعن عروة بن الزبير أنه كان يقول: " السُّنَنَ السُّنَنَ؛ فَإِنَّ السُنَّنَ قِوَامُ الدِّينِ [أَزْهَدُ النَّاسِ فِي الْعَالِمِ أَهْلُهُ] " (4) وقال الإمام أحمد رحمه الله: " لا تكاد ترى أحدا نظر في هذا الرأي إلا وفي قلبه دغل " (5) وقال الأوزاعي رحمه الله: " إذا أراد الله عز وجل أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه الأغاليط " (6) وقال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله بعد أن ساق آثارا كثيرة في ذم الرأي ما ملخصه: قال أكثر أهل العلم: إن الرأي المذموم المعيب المهجور الذي لا يحل النظر فيه والاشتغال به، هو الرأي المبتدع وشبهه من أنواع البدع (7) وقال جمهور أهل العلم: الرأي المذموم في الآثار المذكورة هو القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات، ورد الفروع والنوازل بعضها على بعض قياسا دون ردها على أصولها من الكتاب أو من السنة (8) .
ثم قال: " ومن تدبر الآثار المروية في ذم الرأي المرفوعة وآثار الصحابة والتابعين في
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر، 13 / 288.
(2) ديوان الشافعي، جمع محمد عفيف، ص 88، وانظر: البداية والنهاية لابن كثير 10 / 254.
(3) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 1 / 139، برقم 201، والدارمي في سننه 1 / 47، برقم 121، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2 / 1041، برقم 2001، ورقم 2003، 2005.
(4) ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 2 / 1051، برقم 2029، 2030.
(5) أخرجه ابن عبد البر في المرجع السابق، 3 / 1054، برقم 2035.
(6) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 2 / 1073، برقم 2083.
(7) جامع بيان العلم وفضله، 2 / 1053.
(8) انظر: المرجع السابق، 2 / 1054.(1/1061)
ذلك علم أنه ما ذكرنا " (1) فرجح رحمه الله هذا القول، ثم قال: " وليس أحد من علماء الأمة يثبت حديثا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يرده، دون ادعاء نسخ ذلك بأثر أو بإجماع، أو بعمل يجب على أصله الانقياد إليه أو طعن في سنده، ولو فعل ذلك أحد سقطت عدالته، فضلا عن أن يتخذ إماما، ولزمه اسم الفسق، ولقد عافاهم الله عز وجل من ذلك " (2) فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يعتصم بالكتاب والسنة، ثم بالإجماع، ثم بأقوال الصحابة رضي الله عنهم، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
رابعا: من تاريخ الدعوة: ذكر يوم أبي جندل: دل هذا الحديث على أن من تاريخ الدعوة ذكر يوم أبي جندل؛ لقول سهل بن حنيف رضي الله عنه: «فلقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أرد على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره لرددت، والله ورسوله أعلم» ، ويوم أبي جندل هو يوم صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة، ولكن أضافه سهل رضي الله عنه إلى أبي جندل؛ لما حصل للمسلمين من الغيظ على الكافرين فأرادوا القتال فقبل رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلح، والذي أفزع الصحابة رضي الله عنه أمور منها:
1 - أن سهيل بن عمرو لم يوافق على كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بموافقته على كتابة: " باسمك اللهم ".
2 - لم يوافق سهيل بن عمرو على كتابة محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوافقه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على كتابة: محمد بن عبد الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
3 - أن من أسلم من المشركين يرد إليهم، ومن ذهب من المسلمين لا يرد إليهم، ومن ذلك رد أبي جندل وقد جاء مسلما في قيوده، فرده رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، للوفاء بالعهد مع المشركين.
4 - منع الصحابة من العمرة هذه السنة.
فأحدث ذلك غضب الصحابة رضي الله عنهم؛ ولكنهم لم يخالفوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
_________
(1) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، 2 / 1062.
(2) انظر: المرجع السابق، 2 / 1080.(1/1062)
وإنما راجعه عمر مراجعة عظيمة لعله أن يوافق على القتال فلم يوافق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجعل الله ذلك فتحا مبينا لما فيه من المصالح العظيمة، فكان بعض الصحابة يسمي يوم الحديبية بيوم أبي جندل؛ لما حصل لهم من الغيظ العظيم برد أبي جندل إلى المشركين، وقد جاء مسلما معذبا من المشركين، وبما حصل من شروط الصلح المذكورة (1) .
خامسا: أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية: ظهر في هذا الحديث أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية؛ لأمرين:
الأمر الأول: أن «عمر رضي الله عنه عندما راجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلح الحديبية فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا ابن الخطاب، إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا "، ثم نزلت سورة الفتح فقرأها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عمر إلى آخرها، فقال عمر: يا رسول الله، أَوَ فتح هو؟! قال: " نعم ".»
الأمر الثاني: أن سهل بن حنيف استدل بصلح الحديبية على صلح يوم صفين فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتهموا رأيكم فلقد رأيتني يوم أبي جندل لو أستطيع أن أرد على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره لرددت والله ورسوله أعلم» . (2) وهذا يؤكد للداعية أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية (3) .
سادسا: من أساليب الدعوة: الحوار: لقد دل هذا الحديث على أسلوب الحوار الهادئ النافع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاور عمر بن الخطاب حتى أقنعه قناعة تامة، وذلك أن عمر رضي الله عنه قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا رسول الله، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فقال: " بلى "، فقال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: "بلى"، فقال: فعلام نعطي الدنية في
_________
(1) انظر: خبر صلح الحديبية في البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابة الشروط، 3 / 236، برقم 2731، 2732. ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية، 3 / 1409، برقم 1783 و 1784 و 1785، وانظر: شرح صحيح مسلم للنووي، 12 / 377 - 385، وفتح الباري لابن حجر، 5 / 329 - 352.
(2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 382، وفتح الباري لابن حجر، 5 / 352.
(3) انظر: الحديث رقم 77، الدرس الحادي عشر، ورقم 147، الدرس الخامس.(1/1063)
ديننا؟ أنرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا "، ثم حاور أبو بكر عمر نحو محاورة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت سورة الفتح فقرأها رسول الله من أولها إلى آخرها، فقال عمر: يا رسول الله، أَوَ فتح هو؟ قال: " نعم» ، فهذه محاورة هادفة مقنعة أظهر الله الحق فيها على يد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقبل عمر رضي الله عنه ذلك (1) .
سابعا: من صفات الداعية: الثقة بالله عز وجل: إن الثقة بالله عز وجل من أجل الصفات التي يلزم كل مسلم أن يتصف بها وخاصة الدعاة إلى الله عز وجل؛ ولهذه الثقة قال أعظم الناس - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثقة بربه: «يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا» ، وقال أبو بكر رضي الله عنه في محاورته لعمر رضي الله عنه: " يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا "، وهذا يؤكد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعظم الناس ثقة بربه، وأن أبا بكر رضي الله عنه أعظم الصحابة ثقة بالله عز وجل (2) .
ثامنا: منزلة أبي بكر العظيمة رضي الله عنه في مؤازرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أبو بكر خير الأمة بعد نبيها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومما يدل على ذلك ما ثبت في هذا الحديث أن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكر رضي الله عنه يوم الحديبية: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: " يا ابن الخطاب، إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا "، الله أكبر وافق قول أبي بكر قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ولهذه المنزلة العظيمة؛ ولغيرها من مؤازرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونصرته قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أمنّ الناس عَلَيّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوّة الإسلام ومودته» (3) وأبو بكر رضي الله عنه أعظم الناس منزلة عند الله عز وجل بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (4) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 29، الدرس السادس، ورقم 77، الدرس السابع.
(2) انظر: الحديث رقم 161، الدرس الثاني.
(3) متفق عليه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه: البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، باب قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر " 4 / 230، برقم 3654، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، 4 / 1854، برقم 2382.
(4) انظر: ترجمته رضي الله عنه في الحديث رقم 147.(1/1064)
تاسعا: أهمية الانقياد والتسليم لأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الانقياد والتسليم والقبول لأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أعظم الواجبات والفروض المتحتمات على كل مسلم، وخاصة الداعية إلى الله عز وجل، وقد دل هذا الحديث على ذلك لقول سهل بن حنيف رضي الله عنه: «فلقد رأيتني يوم أبي جندل لو أستطيع أن أرد على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره لرددت، والله ورسوله أعلم» ، وهذا يدل على كمال الانقياد لأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم بلغ بهم الغيظ مبلغا عظيما على المشركين يوم صلح الحديبية؛ لأن في العهد أن يرد رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أسلم من المشركين إلى مكة ولا يرد المشركون من جاءهم من المسلمين، وبعد الموافقة على ذلك «جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسُفُ في قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل بن عمرو: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنا لم نقض الكتاب بعد "، قال فوالله إذًا لم أصالحك على شيء أبدا، فطلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من سهيل أن يجيزه له فمنع، فقال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت؛ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله. وهذا الذي أغضب عمر كثيرا، فجاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: ألست نبي الله حقا؟ قال: " بلى"، قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: " بلى "، قال عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟! قال: " إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري "، قال عمر: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: " بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ " قال عمر: لا، قال: " فإنك آتيه، ومطوف به» (1) وفعلا جعل الله هذا الصلح فتحا ونزلت سورة الفتح، وكان هذا الصلح خيرا للمسلمين والحمد لله.
والمقصود أن الانقياد والاستسلام لأمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لازم، ولو يعلم الإنسان الحكمة؛ قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] (2) وقال عز وجل: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] (3)
_________
(1) البخاري برقم 2731، ومسلم برقم 1783 - 1785، وتقدم تخريجه في آخر الدرس الرابع من هذا الحديث ص 1063.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 36.
(3) سورة النور، الآية: 54.(1/1065)
، وقال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] (1) فينبغي الانقياد والاستسلام لأمر الله عز وجل وأمر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
عاشرا: من سنن الله عز وجل: الابتلاء والامتحان: ظهر الابتلاء في هذا الحديث من وجهين: الوجه الأول: ما حصل بين الصحابة رضي الله عنهم في صفين؛ ولهذا قال سهل بن حنيف رضي الله عنه: " وما وضعنا أسيافنا على عواتقنا لأمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه قبل هذا الأمر، ما نسد منها خُصما إلا انفجر علينا خصم ما ندري كيف نأتي له "، والمعنى أنهم رضي الله عنهم وقعوا في الفتنة العظيمة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما؛ فإنهم كل ما سدوا ثغرة انفتح عليهم ثغرة أخرى، قال القرطبي رحمه الله في كلام سهل رضي الله عنه: " ويعني هذا الكلام أن كل قتال قاتل فيه ما رفع سيفه فيه إلا عن بصيرة، لعاقبة أمره، فسهل عليه ما يلقاه من مشقات الحروب، غير تلك الأمور التي كانوا فيها، فكانوا كلما لاح لهم فيها مصلحة وعاقبة حسنة ظهر لهم نقيضها " (2) .
والوجه الثاني: ما حصل للصحابة رضي الله عنهم من الابتلاء في صلح الحديبية، فإنه أصابهم بلاء عظيم؛ لما في ظاهر الصلح من الهضم لحق المسلمين، ولكن في الحقيقة أن ذلك كان فتحا ونصرا، ولكن هذا الفتح لم يأت إلا بعد الابتلاء والاختبار حتى قال عمر رضي الله عنه يا رسول الله: «ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بلى» ، وفي آخر كلام عمر رضي الله عنه: «ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟» ، قال القرطبي رحمه الله على كلام عمر رضي الله عنه: " يعني بالدنية: الحالة الخسيسة، ويعني به الصلح على ما شرطوا، ولم يكن ذلك من عمر شكا ولا معارضة، بل كان استكشافا لما خفي عنه، وحثا على قتال أهل الكفر، وإذلالهم، وحرصا على ظهور المسلمين
_________
(1) سورة النور، الآية: 63.
(2) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3 / 641.(1/1066)
على عدوهم، وهذا على مقتضى ما كان عنده من القوة في دين الله، والجرأة، والشجاعة التي خصه الله بها، وجواب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر بما جاوباه به، يدل على أن عندهما من علم باطنه ذلك، وعاقبة أمره ما ليس عند عمر، ولذلك لم يسكن عمر حتى بشره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفتح، فسكن جأشه وطابت نفسه " (1) رضي الله عنه، وهذا فيه دلالة واضحة على صبر الصحابة على الابتلاء، والله المستعان (2) .
الحادي عشر: من موضوعيات الدعوة: الحث على التثبت والتبصر: دل مفهوم هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة: الحث على التثبت والتأني في الأمور؛ لقول سهل بن حنيف رضي الله عنه: «أيها الناس اتهموا أنفسكم، رأيتني يوم أبي جندل لو أستطيع أن أرد أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرددته» ، قال الإمام القرطبي رحمه الله: " يعني به التثبت فيما كانوا فيه، والتصبر، وألا يستعجلوا في أمورهم، ووجه استدلاله بها: أن تلك الحالة كان ظاهرها مكروها لهم، صعبا عليهم، فلما تثبتوا في أمرهم، وأطاعوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، جعل الله لهم من أمرهم فرجا ومخرجا، فكأنه يقول لهم: إن صبرتم على المكروه، وتثبتم في أمركم، واتقيتم الله، جعل الله لكم من هذه الفتن مخرجا كما جعله لأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الحديبية " (3) وهذا يؤكد أهمية التثبت في الأمور، فينبغي للداعية أن يحث على التثبت والتأني؛ لما في ذلك من المصالح العاجلة والآجلة (4) .
الثاني عشر: من وسائل الدعوة: عقد الصلح والهدنة مع الأعداء عند العجز عن الجهاد: عقد الصلح مع أعداء الإسلام مهم عند عجز المسلمين عن الجهاد؛ ولهذا ثبت في هذا الحديث أن حبيب بن أبي ثابت قال: «أتيت أبا وائل أسأله فقال: كنا بصفين فقال رجل: ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله؛ فقال علي: نعم، فقال سهل بن حنيف: " اتهموا أنفسكم، فلقد رأيتنا يوم الحديبية - يعني صلح
_________
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3 / 640، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 383.
(2) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 16، الدرس الخامس.
(3) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3 / 640.
(4) انظر: الحديث رقم 91، الدرس الثاني.(1/1067)
الحديبية الذي كان بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمشركين لو نرى قتالا لقاتلنا، فجاء عمر فقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بلى "، قال: ففيم أعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا؛ فقال: " يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا "، فرجع عمر متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: " يا ابن الخطاب إنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولن يضيعه الله أبدا، فنزلت سورة الفتح ".» وسياق سهل بن حنيف رضي الله عنه لذلك دعوة إلى الصلح بين علي ومعاوية رضي الله عنه؛ ليحصل من الفوائد ما حصل بصلح الحديبية. وقد حصل أمور عظيمة وفتح عظيم بصلح الحديبية؛ قال الإمام النووي رحمه الله في صلح الحديبية: " قال العلماء: المصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة، وفوائده المتظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكة، وإسلام أهلها ودخول الناس في دين الله أفواجا، وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين، ولا تتظاهر عندهم أمور النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما هي، ولا يحلون بمن يعلمهم بها مفصلة، فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين، وجاءوا إلى المدينة، وذهب المسلمون إلى مكة، وحلوا بأهلهم وأصدقائهم، وغيرهم ممن يستنصحونه، وسمعوا منهم أحوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مفصلة بجزئياتها، ومعجزاته الظاهرة، وأعلام نبوته المتظاهرة، وحسن سيرته، وجميل طريقته، وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك، فما زالت نفوسهم إلى الإيمان حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة، فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة، وازداد الآخرون ميلا إلى الإسلام، فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم؛ لما كان قد تمهد لهم من الميل، وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش، فلما أسلمت قريش أسلمت العرب في البوادي " (1) .
قال الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3] (2) قال الإمام القرطبي
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 382.
(2) سورة النصر، الآيات: 1- 3.(1/1068)
رحمه الله: " وهذا الحديث يدل على جواز الصلح على ما شرطه العدو عند ضعف المسلمين عن مقاومة عدوهم، وعند الحاجة إلى ذلك. . . " ثم قال رحمه الله: " واختلف في مقدار مدة الصلح حيث يجوز. فقال مالك: ذلك مفوض إلى اجتهاد الإمام، وحد الشافعي أكثره بعشرة أعوام بناء منه على صلح الحديبية؛ فإن كان عشر سنين " (1) وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في فوائد صلح الحديبية: " وفيها جواز صلح أهل الحرب على وضع القتال عشر سنين، وهل يجوز فوق ذلك؟ الصواب: أنه يجوز للحاجة والمصلحة الراجحة، كما إذا كان بالمسلمين ضعف وعدوهم أقوى منهم، وفي العقد لما زاد عن العشر مصلحة الإسلام " (2) وسمعت سماحة العلامة ابن باز حفظه الله يقول على قول ابن القيم: " وهذا هو الصواب، فإذا رأى الإمام المصالحة عشرين سنة أو ثلاثين فلا حرج على حسب الحاجة " (3) وهذا من وسائل الدعوة التي تعين المسلمين على التأهب والإعداد، والله أعلم.
الثالث عشر: من أصناف المدعوين: المشركون: إن الصلح الذي وقع بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمشركين في هذا الحديث يدل على أن المشركين من أصناف المدعوين؛ ولهذا قال سهل بن حنيف رضي الله عنه: «اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية - يعني الصلح الذي كان بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمشركين ولو نرى قتالا لقاتلنا» . . . "، وهذا يؤكد مراعاة الأصلح في دعوة المشركين: من صلح، أو أخذ جزية، أو قتال لمن لم ينقد للإسلام ولم يدفع الجزية (4) .
الرابع عشر: من أصناف المدعوين: المسلمون: إن في قول سهل بن حنيف رضي الله عنه: " اتهموا رأيكم. . . " دعوة المسلمين:
_________
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3 / 642.
(2) زاد المعاد في هدي خير العباد، 3 / 421.
(3) سمعته من سماحته أثناء شرحه للفوائد واللطائف من غزوة الحديبية، من زاد المعاد، وذلك بتاريخ 20 / 5 / 1418 هـ، بجامع الأميرة سارة بالرياض.
(4) انظر: الحديث رقم 91، الدرس الثامن، ورقم 105، الدرس السابع.(1/1069)
من أصحاب علي ومعاوية إلى الصلح وعدم الاستمرار في الفتنة؛ ولهذا قال رضي الله عنه: فلو رأيتنا يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا " يريد رضي الله عنه اتهام الرأي وأن الصواب قد يكون بخلافه كما في صلح الحديبية؛ فإن الصواب كان مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر خلافا لرأي الصحابة رضي الله عنهم (1) .
الخامس عشر: من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تحقق ما أخبر به: إن ما حصل في صلح الحديبية من الشروط التي فيها غضاضة وهضم من حقوق المسلمين في الظاهر يدل دلالة واضحة على أن النبي محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسول الله حقا؛ لأنه قبل هذا الصلح لتوفيق الله له بالموافقة على ذلك؛ لما فيه من الفتح والنصر؛ ولهذا قال لعمر عند محاورته: «يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا» ، فأنزل الله سورة الفتح بشارة بالنصر والفتح، فقرأها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عمر، فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله: أو فتح هو؟ قال: " نعم "، ثم حصل الفتح الأعظم فتح مكة فدخل الناس في دين الله أفواجا، وهذه معجزة عظمى لإخبار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفتح قبل وقوعه، ثم تحقق (2) .
السادس عشر: من صفات الداعية: الحرص على الإصلاح بين الناس: إن الإصلاح بين الناس والحرص عليه من أعظم القربات وأهم الصفات التي ينبغي لكل مسلم الحرص عليها، وقد ظهر في هذا الحديث؛ لقول سهل بن حنيف رضي الله عنه: «أيها الناس اتهموا أنفسكم فلقد رأيتني يوم أبي جندل لو أستطيع أن أرد على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره لرددت، والله ورسوله أعلم» . . . "، وهذا يؤكد حرص سهل رضي الله عنه على الإصلاح بين هاتين الفئتين العظيمتين؛ قال الإمام النووي رحمه الله على قول سهل رضي الله عنه: " أراد بهذا تبصير الناس على الصلح وإعلامهم بما يرجى بعده من الخير، فإنه يرجى مصيره إلى خير، وإن كان ظاهره في الابتلاء مما تكرهه النفوس، كما كان شأن صلح الحديبية، وإنما قال سهل رضي الله عنه هذا القول
_________
(1) انظر: الحديث رقم 108، الدرس الثاني عشر.
(2) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع.(1/1070)
حين ظهر من أصحاب علي رضي الله عنه كراهة التحكيم فأعلمهم بما جرى يوم الحديبية من كراهة أكثر الناس الصلح وأقوالهم في كراهيته، ومع هذا فأُعْقِبَ خيرا عظيما، فقررهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصلح مع أن إرادتهم كانت مناجزة كفار مكة بالقتال " (1) فينبغي للداعية أن يكون حريصا على الإصلاح بين الناس؛ لما في ذلك من الفضل العظيم؛ ولهذا الفضل قال الله عز وجل: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] (2) وقال عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] (3) وقال عز وجل: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] (4) .
وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] (5) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل سلامى (6) من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين الاثنين صدقة (7) وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط (8) الأذى عن الطريق صدقة» (9) وعن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس،
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 383.
(2) سورة النساء، الآية: 114.
(3) سورة الأنفال الآية: 1.
(4) سورة النساء، الآية: 128.
(5) سورة الحجرات، الآية: 10.
(6) السلامى: جمع سلامية، وهي الأنملة من أنامل الأصابع، وقيل: واحده وجمعه سواء، ويجمع على سلاميات وهي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان، وقيل: السلامى كل عظم مجوف من صغار العظام: والمعنى على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع اللام، 2 / 396، ويوضح هذا حديث عائشة رضي الله عنها ترفعه: " إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله عز وجل، وعزل حجرا عن طريق الناس أو شوكة أو عظما عن طريق الناس، وأمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامى فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار" [مسلم برقم 1007] .
(7) تعدل بين اثنين: أي تصلح بينهما بالعدل. شرح النووي على صحيح مسلم، 7 / 99.
(8) تميط الأذى عن الطريق: أي تنحيه وتبعده عنها. تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 217.
(9) متفق عليه: البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من أخذ بالركاب ونحوه، 4 / 19، برقم 2989، ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، 2 / 699، برقم 1009.(1/1071)
ويقول خيرا، أو ينمي (1) خيرا» (2) قالت: «ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها» (3) وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدق؟ " قالوا: بلى، قال: " إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة» (4) وهذا يؤكد أهمية إصلاح ذات البين، فينبغي للداعية أن يعتني بذلك عناية فائقة. والله الموفق للصواب.
_________
(1) ينمي: يقال: نَمَيْتُ الخبر أو الحديث إذا بلغتَه على جهة الإصلاح، ونمَّيت بالتشديد، إذا كان على جهة النميمة وإفساد ذات البين. انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 571.
(2) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلح، باب ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، 3 / 221، برقم 2692، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الكذب وبيان المباح منه، 4 / 2011، برقم 2605.
(3) رواية لمسلم في الحديث السابق رقم 2605.
(4) أبو داود، كتاب الأدب، باب إصلاح ذات البين، 4 / 280، برقم 4919، والترمذي، كتاب صفة القيامة، باب: حدثنا أبو يحيى، 4 / 663، برقم 2509، وقال: " هذا حديث صحيح "، وأحمد في المسند، 6 / 444، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 3 / 929، والحالقة: أي الماحقة للأجر والحسنات، وجاء في الترمذي، ويروى: " لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين، 4 / 664، برقم 2509، 2510.(1/1072)
[باب إثم الغادر للبر والفاجر]
[حديث لكل غادر لواء يوم القيامة]
22 - باب إثم الغادر للبر والفاجر 190، 191 -[3186, 3187]- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (1) - وَعَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ (2) - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، قَالَ أَحَدُهُمَا: يُنْصَبُ - وَقَالَ الْآخَرُ: يُرَى - يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ» (3) .
[حديث لكل غادر لواء ينصب لغدرته]
192 [ص:3188] حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (4) رضي الله عنهما قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لكل غادر لواء ينصب لغدرته» (5) .
وفي رواية: «إِنَّ الْغَادِرَ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ» ، (6) .
وفي رواية: عَنْ نَافِعٍ قَالَ: لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايِعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ وَلَا بَايَعَ فِي هَذَا الْأَمْرِ إِلَّا كَانَتِ الْفَيْصَلُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ " (7) .
* شرح غريب الأحاديث: * " لواء " اللواء: الراية، ولا يمسكها إلا صاحب الجيش، والمعنى هنا أن لكل
_________
(1) عبد الله بن مسعود تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 102.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 14.
(3) [الحديث 3186] وأخرجه مسلم في كتابه الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، 3 / 1360، برقم 1736، و [الحديث 3187] وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، 3 / 61، برقم 1737.
(4) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 1.
(5) [الحديث 3188] أطرافه في: كتاب الأدب، باب ما يدعى الناس بآبائهم، 7 / 149، برقم 6177 و 6178. وكتاب الحيل، باب إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت، 8 / 80، برقم 6966. وكتاب الفتن، باب إذا نال عند قوم شيئا ثم خرج فقال بخلافه، 8 / 127، برقم 7111، وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، 3 / 1359، برقم 1735.
(6) الطرف رقم: 6177.
(7) الطرف رقم: 7111.(1/1073)
غادر علامة يشتهر بها في الناس؛ لأن موضوع اللواء: شهرة مكان الرئيس، وجمعه ألوية (1) .
* " غادر " الغدر ضد الوفاء وهو نقض العهد، والزوال عيه، وإبطاله، والفجور عن الحق، والانبعاث في الباطل (2) .
* " حشمه " أي عصبته، وخدمه، وأهل بيته من أولاد وغيرهم من أتباعه (3) .
* " الفيصل بيني وبينه " أي القطيعة التامة (4) .
* الدراسة الدعوية للأحاديث: في هذه الأحاديث الثلاثة دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الغدر.
2 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
3 - من أصناف المدعوين: الأقارب.
4 - من أساليب الدعوة: الشدة بالقول مع الأقرباء عند الحاجة والمصلحة الراجحة.
5 - أهمية الوفاء ببيعة الإمام المسلم.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: التحذير من الغدر: الغدر صفة قبيحة ينبغي للداعية أن يحذر الناس عنه؛ لقبحه، وعظم إثمه؛ وقد بين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه الأحاديث: أن لكل غادر علامة ترفع له يوم القيامة أمام الأشهاد فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان، والغادر هو الذي يواعد على أمر ولا يفي به، قال الإمام النووي رحمه الله: "وفي هذه الأحاديث بيان غلظ تحريم الغدر لا سيما من صاحب الولاية العامة؛ لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير" (5) فيتأكد عليه أن يفي بعهوده ولا يغدر فيها، سواء كان ذلك لرعيته أو
_________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب اللام مع الواو، مادة: " لواء " 4 / 279.
(2) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 412، 426.
(3) انظر: المرجع السابق، ص 190، وفتح الباري لابن حجر، 13 / 71.
(4) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 190، وفتح الباري لابن حجر، 13 / 71.
(5) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 287.(1/1074)
للكفار وغيرهم، وإذا أراد قتال قوم من الكفار وقد عاهدهم، فإذا انقضى عهده أو خاف غدرهم نبذ إليهم عهدهم: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] (1) وينبغي للرعية أن لا يشقوا على إمامهم العصا، ولا يتعرضوا لما يسبب الفتن (2) وقد بين الإمام القرطبي رحمه الله: أن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له» ، جاء خطاب بنحو ما كانت تفعل العرب، وذلك أنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء ليشهروا به الوفي، فيعظموه ويمدحوه، والغادر فيذموه ويلوموه بغدره، قال " وقد شاهدنا هذا فيهم عادة مستمرة إلى اليوم " (3) فمقتضى هذا الحديث الغادر يفعل به يوم القيامة مثل ذلك؛ ليشتهر بالخيانة والغدر، فيذمه أهل الموقف وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن هذا اللواء يكون عند مقعدة الغادر بحيث لا يقدر على مفارقته؛ ليمر به الناس فيروه، ويعرفوه، فيزداد خجلا وفضيحة عند كل من مر به (4) فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ» (5) وكأنه عومل بنقيض قصده؛ لأن عادة اللواء أن يكون على الرأس، فنصب عند السفل زيادة في فضيحته؛ لأن الأعين غالبا تمتد إلى الألوية فيكون ذلك سببا لامتدادها إلى التي بدت له ذلك اليوم فيزداد بها فضيحة (6) وفي لفظ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، أَلَا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمَ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ» (7) فالغدر على هذا اللفظ دركات، فإذا كانت غدرته كبيرة عظيمة رفع له لواء كبير عظيم، مرتفع، حتى يعرفه بذلك من قرب منه ومن بعد، وأعظم الغدر وأفحشه غدر الأمير العام؛ لما في غدر الأئمة من المفسدة فإنهم إذا غدروا وعلم ذلك منهم، لم يأمنهم العدو على عهد ولا صلح، فحينئذ
_________
(1) سورة الأنفال الآية: 58.
(2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 288.
(3) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3 / 520.
(4) انظر: المرجع السابق، 3 / 521.
(5) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، 3 / 1361، برقم 1738.
(6) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 284.
(7) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، 3 / 1361، برقم 1738.(1/1075)
تشتد شوكته، ويعظم ضرره على المسلمين، ويكون ذلك منفرا من الدخول في الإسلام، موجبا لذم أئمة المسلمين (1) .
ومن التشهير والفضيحة للغادر أنه ينادى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد باسمه واسم أبيه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ» ، فظهر في هذه الرواية: أن الغادر ينسب إلى أبيه في الموقف الأعظم، وفي هذا الحديث رد لقول من زعم أنهم لا يدعون يوم القيامة إلا بأمهاتهم سترا على آبائهم (2) والدعاء بالآباء أشد في التعريف، وأبلغ في التمييز، وهذا يقتضي جواز الحكم بالظواهر، وحمل الآباء على من كان ينسب إليه في الدنيا لا على ما هو في نفس الأمر، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وهو المعتمد" (3) والظاهر من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذه غدرة فلان بن فلان» ، أن لكل غدرة واحدة لواء. قال الإمام ابن أبي جمرة رحمه الله: " ظاهر الحديث يعطي أن لكل غدرة لواء " (4) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " فعلى هذا يكون للشخص الواحد عدة ألوية بعدد غدراته " (5) .
ولأهمية التحذير من الغدر قال الوزير العالم ابن هبيرة رحمه الله: " لما أتى الغادر بالشنعاء في اللوم وهي الغدرة، وإنما يأتي ذلك؛ لذل فيه عن المجاهرة بالغدر، رفع اللواء عليه (6) .
لإظهار شهرته، بعقوبة يشهدها الأولون والآخرون ". (7) وقد ذم الله المنافقين أشد الذم وأقبحه فقال عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ - فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ - فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77] (8) .
_________
(1) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3 / 521.
(2) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح 10 / 563 " وهو حديث أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس، وسنده ضعيف جدا، وأخرج ابن عدي من حديث أنس مثله، وقال: منكر".
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10 / 563.
(4) بهجة النفوس، 4 / 175.
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10 / 563.
(6) جاء في الحديث " يرفع " وفي رواية: " ينصب " والمعنى واحد، وانظر: فتح الباري لابن حجر 10 / 563.
(7) الإفصاح عن معاني الصحاح، 2 / 75، وانظر: 4 / 102.
(8) سورة التوبة، الآيات: 75 - 77.(1/1076)
وقد جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغدر إحدى الخصال التي من وجدت فيه كان منافقا خالصا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» (1) وبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن من نقض عهد الله وعهد رسوله فإنه يسلط عليهم عدوا من غيرهم، فيأخذوا بعض ما في أيديهم، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «كُنْتُ عَاشِرَ عَشَرَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةُ، وَابْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا "، قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ (2) قَالَ: " أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لَهُ اسْتِعْدَادًا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ أُولَئِكَ مِنَ الْأَكْيَاسِ "، ثُمَّ سَكَتَ الْفَتَى، وَأَقْبَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمُؤْنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَأْخُذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ إِلَّا أَلْقَى اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ» (3) فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يحذر الناس من الغدر ويبين لهم عاقبة أمره، والله المستعان.
ثانيا: من أساليب الدعوة: الترهيب: إن الترهيب أسلوب مؤثر في نفوس المدعوين؛ ولهذا استخدمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
_________
(1) متفق عليه: البخاري برقم 34، ومسلم، برقم 58، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 183، الدرس الثالث، ص 1021.
(2) أكيس: أي أعقل، والكيس: العاقل، النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الكاف مع الباء، مادة " كيس " 4 / 217.
(3) الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 4 / 540، وأخرجه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب العقوبات 2 / 1332، برقم 4019، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 1 / 7، برقم 106.(1/1077)
هذه الأحاديث للتخويف والتنفير من الغدر فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ لِغَدْرَتِهِ» . . . "، وهذا يؤكد أهمية الترهيب؛ لما له من التنفير عن المعاصي وتقبيحها. (1) .
ثالثا: من أصناف المدعوين: الأقارب: إن الأقارب من أهم أصناف المدعوين الذين يتأكد على الداعية أن يعتني بهم في التوجيه، والتربية، والعناية بما يعود عليهم بالنفع في الدنيا والآخرة، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عندما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع أقاربه وأهل بيته، وحاشيته فقال: إني سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدرا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه "، وفي هذا الكلام العظيم دليل على وفاء عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وعدم غدره، وأنه اعتنى بأقاربه فوجههم إلى الصواب وحذرهم من الغدر، وألزمهم بذلك، فينبغي للداعية أن يعتني بأقاربه وأهل بيته (2) .
رابعا: من أساليب الدعوة: الشدة بالقول مع الأقرباء عند الحاجة والمصلحة الراجحة: الأصل في أساليب الدعوة: الرفق، لكن قد يحتاج الداعية إلى قوة في الأسلوب على حسب القدرة وأمن وقوع المفاسد، والداعية قد يحتاج إلى قوة الكلمة في الأسلوب مع الأهل والأقارب؛ لإلزامهم بما يدعو إليه؛ ولهذا قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في هذا الحديث لأهله وخدمه وحاشيته في شأن يزيد بن معاوية: " إني سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدرا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه "، فقد حذر رضي الله عنه أهله ومن تحت يده بالكلمة القوية عن الخروج على الإمام، وهكذا كان يفعل أبوه عمر رضي الله عنهما مع
_________
(1) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر.
(2) انظر: الحديث رقم 155، الدرس السادس.(1/1078)
أقاربه عند الحاجة والمصلحة الراجحة، فكان إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء جمع أهله، فقال: " إِنِّي نَهَيْتُ النَّاسَ عَنْ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ إِلَيْكُمْ نَظَرَ الطَّيْرِ إِلَى اللَّحْمِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَا أَجِدُ أَحَدًا مِنْكُمْ فَعَلَهُ إِلَّا أَضْعَفْتُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ " (1) وهذا يؤكد للداعية أهمية أسلوب القوة مع الأهل عند الحاجة لذلك وظهور المصلحة المحققة، والله ولي التوفيق.
خامسا: أهمية الوفاء ببيعة الإمام المسلم: إن الوفاء ببيعة الإمام المسلم من أولى الواجبات وأعظم الحسنات؛ ولهذا ثبت في هذا الحديث ما يؤكد ذلك؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع حشمه وولده فقال: " إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني والله لا أعلم غدرا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه "، وهذا يؤكد أهمية الوفاء ببيعة الإمام المسلم. قال الإمام ابن هبيرة رحمه الله: " وفي هذا الحديث ما يدل على أن ابن عمر لم يوافق على خلع يزيد " (2) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي هذا الحديث وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة، والمنع من الخروج عليه ولو جار في حكمه، وأنه لا ينخلع بالفسق " (3) وإذا بايع المسلم الإمام المسلم لزمه طاعته في المعروف؛ لقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] (4) ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي» (5) .
_________
(1) تاريخ الأمم والملوك للطبري، 2 / 68، والكامل في التاريخ لابن الأثير 3 / 31.
(2) الإفصاح عن معاني الصحاح، 4 / 103.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 13 / 71.
(4) سورة النساء، الآية: 59.
(5) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب الأحكام، باب (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ، 8 / 133، برقم 7137، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية الله وتحريمها في معصية الله، 3 / 1466، برقم 1835.(1/1079)
ولا شك أن طاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال، فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم، فهذا لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا يزكيه، وله عذاب أليم (1) ويحرم الخروج على إمام المسلمين وفاء بالعهد والبيعة؛ لقول الله عز وجل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91] (2) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] (3) ومعلوم أن العقود هي: العهود والمواثيق التي يجب على المسلم التزامها وعدم نقضها. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ [وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ] ، وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ أُعْطِيتُ بِهَا كَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ. ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] » (4) ؛ ولعظم الوفاء ببيعة الإمام المسلم قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ". . . «وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ» (5) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مَيْتَةَ جَاهِلِيَّةٍ (6) وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ (7) يَغْضَبُ
_________
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 35 / 16- 17.
(2) سورة النحل، الآية: 91.
(3) سورة المائدة، الآية: 1.
(4) متفق عليه: البخاري، كتاب المساقاة، باب إثم من منع ابن السبيل من الماء، 3 / 105، برقم 2358، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، 1 / 103، برقم 108، وما بين المعكوفين منه، والآية من سورة آل عمران: 77.
(5) مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، 3 / 1473، برقم 1844، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(6) ميتة جاهلية: أي مات على صفة موتهم من حيث هم فوضى لا إمام لهم. شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 481، وليس المراد أنه يموت كافرا، بل يموت عاصيا. فتح الباري لابن حجر، 13 / 7.
(7) عمية: أي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه. كذا قاله أحمد والجمهور. شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 481.(1/1080)
لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً (1) فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا (2) وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ» (3) .
ولا شك أن من وفى بالعهد يثاب ويشكر؛ ولهذا استنبط الإمام ابن هبيرة رحمه الله من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ» : أن من وفى بالعهد فله الكرامة ", قال رحمه الله: " وفي هذه الإهانة للغادر إكرام لأهل الوفاء بالعهود من جهة أنه شاركهم في العهد وتميز بالعقوبة، فلما أهين علمت كرامتهم " (4) وقد بين الإمام القرطبي رحمه الله بعد أن ذكر أن الغادر يرفع له لواء يوم القيامة لغدره؛ ليشتهر بذلك فيذم ويفضح في الموقف: فقال: " ولا يبعد أن يكون الوفي بالعهد يرفع له لواء يعرف به وفاؤه وبره، فيحمده أهل الموقف كما يرفع لنبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لواء الحمد فيحمده كل من في الموقف " (5) ولواء الحمد الذي أشار إليه رحمه الله هو ما ثبت من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إِنِّي لَأَوَّلُ النَّاسِ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْ جُمْجُمَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأُعْطَى لِوَاءَ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ» . . . " (6) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ
_________
(1) ينصر عصبة: أي يقاتل عصبية لقومه وهواه. شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 482.
(2) لا يتحاشى: أي لا يكترث بما يفعله فيها ولا يخاف وباله وعقوبته. شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 483.
(3) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن 3 / 1475، برقم 1848.
(4) الإفصاح عن معاني الصحاح، 2 / 75.
(5) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3 / 520.
(6) أخرجه الدارمي، في المقدمة، باب ما أعطي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الفضل، 1 / 31، برقم 52، وأحمد في المسند، 3 / 144. قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4 / 100 برقم 1571: "وسنده صحيح، رجاله رجال الشيخين "، وأخرجه ابن حبان في صحيحه 14 / 398، برقم 6478، وهو في موارد الظمآن لزوائد ابن حبان ص 523، برقم 2127، عن عبد الله بن سلام، قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4 / 101: "إسناده صحيح "، وأخرجه ابن ماجه عن أبي سعيد، في كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة، 2 / 1440، برقم 4308، والترمذي عن أنس، كتاب المناقب باب فضل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، 5 / 585، برقم 3610، وأخرجه أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما 1 / 281. وانظر: طرقه في تحفة الأشراف للمزي 1 / 218، وإتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة، لابن حجر 2 / 157، برقم 1456.(1/1081)
يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» (1) .
ومن علامات الوفاء ببيعة الإمام المسلم: الدعاء له بالهداية والتوفيق، والسداد، والإعانة، وأن ينصر الله به الحق؛ ولهذا كان السلف الصالح: كالفضيل بن عياض، والإمام أحمد بن حنبل، وغيرهم يقولون: " لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان " (2) وقال الإمام البربهاري رحمه الله: " إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله تعالى " (3) وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: " لو كان لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا للسلطان "، قيل له: يا أبا علي فسر لنا هذا؛ قال: " إذا جعلتها في نفسي لم تعدني، وإذا جعلتها في السلطان صلح، فصلح بصلاحه العباد والبلاد " (4) فأمرنا أن ندعو لهم بالصلاح، ولم نؤمر أن ندعو عليهم؛ وإن جاروا وظلموا؛ لأن جورهم وظلمهم على أنفسهم، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين. (5) .
فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يفي بعهده، ومن ذلك الوفاء لإمام المسلمين بالبيعة، وأن يدعو لأئمة المسلمين بالتوفيق والصلاح والسداد.
والله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يصلح جميع المسلمين وولاتهم، وأن يسدد خطاهم على الهدى، وأن ينصر بهم الحق، ويجعلهم هداة مهتدين إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يصلح قلبي وعملي وذريتي وجميع المسلمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. (6) .
_________
(1) مسلم، كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جميع الخلائق، 4 / 1782، برقم 2278.
(2) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 28 / 391.
(3) كتاب شرح السنة للإمام الحسن بن علي البربهاري، ص 116.
(4) المرجع السابق، ص 116.
(5) المرجع السابق، ص 116.
(6) كان الفراغ من كتابة هذه الرسالة ليلة الجمعة 9 / 6 / 1418 هـ، الساعة السابعة وخمسين دقيقة مساء، والحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه.(1/1082)
[القسم الثاني المنهج الدعوي المستخلص من الدراسة]
[الفصل الأول المنهج الدعوي المتعلق بالداعية]
القسم الثاني
المنهج الدعوي المستخلص من الدراسة
1 - الفصل الأول: المنهج الدعوي المتعلق بالداعية.
2 - الفصل الثاني: المنهج الدعوي المتعلق بالمدعو.
3 - الفصل الثالث: المنهج الدعوي المتعلق بموضوع الدعوة.
4 - الفصل الرابع: المنهج الدعوي المتعلق بالوسائل والأساليب.(2/1083)
الفصل الأول: المنهج الدعوي المتعلق بالداعية(2/1085)
الداعية هو الذي يدعو إلى دين أو فكرة، قال ابن منظور - رحمه الله -: "والدعاة قوم يدعون إلى بيعة هدى أو ضلالة، واحدهم: داع، ورجل داعية إذا كان يدعو الناس إلى بدعة أو دين، أدخلت الهاء فيه للمبالغة، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داعي الله تعالى " (1) يدعو الأمة إلى توحيد الله وطاعته (2) قال الله عز وجل عن الجن الذين استمعوا القرآن وولوا إلى قومهم منذرين وقالوا لهم (3) {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 31] (4) وقال الله عز وجل النبي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46] (5) وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» (6) فتبين بذلك أن لفظ الداعية يدخل فيه: الداعية إلى الحق، والداعية إلى الضلالة، وأن دعاة الحق هم الذين يدعون إلى الله على بصيرة، ويقين، وبرهان: عقلي، وشرعي، وهذه طريقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومسلكه وسنته، هو ومن اتبعه (7) قال الله -
_________
(1) لسان العرب؛ لابن منظور، باب الواو والياء، فصل الدال: 14 / 259. وانظر: معجم المقايس في اللغة لابن فارس، كتاب الدال، باب الدال والعين: ص: 356، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب الدال مع العين، مادة: (دعا) : 2 / 120، والقاموس المحيط للفيروزآبادي، باب الواو والياء، فصل الدال، ص: 1655، والمعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية، مادة: (الداعي) : 1 / 287.
(2) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الواو والياء، فصل الدال: 14 / 259.
(3) انظر: المرجع السابق: 14 / 259، والمعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية، مادة: (الداعي) : 1 / 287.
(4) سورة الأحقاف، الآية: 31.
(5) سورة الأحزاب الآية: 45 - 46.
(6) مسلم: 4 / 260، برقم 2674، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 92، الدرس الثامن، ص 539.
(7) انظر: تفسير ابن كثير: 2 / 496، وتفسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي: 4 / 63.(2/1086)
سبحانه وتعالى -: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] (1) وحقيقة ذلك أن الداعية: ((هو المسلم المبلغ للإسلام، والمعلم له، والساعي إلى تطبيقه)) (2) فاتضح أن الداعي هو المسلم الدال على الخير، والمحذر عن الشر، وقد استخلصت على ضوء هذا التعريف الفوائد المتعلقة بالداعية على النحو الآتي (3) م عنوان الدرس الصفحة 1 حرص النبي صلي الله عليه وسلم على تعليم أمته الخير والشفقة عليهم 49، 256، 772، 782 2 من صفات الداعية الحرص على هداية الناس 524، 529 3 أهمية الحزم والجزم والاحتياط في الأمور المهمة 50 4 الاستعداد والتأهب للموت قبل فوات الأوان 51، 316، 769، 898 5 أهمية الكتابة في ضبط الأمور المهمة 53 6 من صفات الداعية: الزهد 57، 142، 291، 379، 400، 413، 468، 852، 861، 870، 961 7 من صفات الداعية الكرم 58، 144، 148، 247، 256، 900، 916، 962، 978 8 من صفات الداعية الرحمة 71، 109، 135، 312، 401، 529، 657، 699، 821، 881، 986. 9 من صفات الداعية: الفهم والفقه 71 10 من صفات الداعية الصدق 82، 109، 248، 576، 957، 986 11 أهمية ربط المدعوين بخالقهم 83 12 من صفات الداعية: إثبات النعم لله، والتحدث والثناء عليه بها 107، 296، 606، 727، 839، 914 13 من صفات الداعية: قوة الإيمان 108، 480
_________
(1) سورة يوسف، الآية: 108.
(2) المدخل إلى علم الدعوة للدكتور محمد أبى الفتح البيانوني: 40.
(3) اجتهدت في اختيار الفوائد الدعوية، فأدخلت كل فائدة في أحد أركان الدعوة التي لها علاقة قويه به، وقد تصلح الفائدة لإدخالها تحت بعض الأركان الأخرى على حسب الاجتهاد، وقد يكون عنوان الفائدة في الجدول يطابق ما هو مذكور في صلب الرسالة، وقد لا يطابق إلا بعض العناوين، وبعضها أدخلته بالمعنى خشية التكرار؛ ولتكون تحت عنوان واحد في الجدول، وفوق كل ذي علم عليم.(2/1087)
14 - من صفات الداعية: محبة الله ورسوله صلي الله عليه وسلم 186 15 من صفات الداعية: الأخذ بالظاهر والله يتولى السرائر 111، 442، 543، 799 16 من صفات الداعية: الحرص على حسن الخاتمة 112 17 من صفات الداعية: الصبر وتحمل المشاق 112، 197، 205، 225، 235، 290، 509، 561، 564، 729، 964 18 الابتلاء والامتحان 112، 149، 290، 376، 389، 398، 405، 591، 611، 625، 709، 726، 742، 766، 796، 820، 838، 861، 879، 918، 927، 971، 993، 1031، 1036، 1066 19 العناية بالمتخلفين عن الطاعة 115 20 تأديب المدعو بالهجر إذا اقتضت المصلحة لذلك 115 21 من صفات الداعية: المداومة على الخير 117، 162، 882 22 أهمية قول الداعية لما لا يعلمه: الله أعلم، أو لا أدري 118، 348، 683 23 معاتبة الداعية أصحابه على التقصير 119 24 من صفات الداعية: القول اللطيف الحسن 122، 316 25 الرد بالحكمة على من خالف النصوص 123 26 الرغبة فيما عند الله تعالى 135، 148، 176، 203، 282، 401، 536، 928 27 من صفات الداعية: الخلق الحسن 138، 174، 380، 454، 598، 717، 735، 963، 1003. 28 من آداب الداعية: ترك العتاب على ما فات استئلافا 139 29 من صفات الداعية الداعي: الكيس والنشاط 140، 212، 255، 581، 610 30 مسئولية الداعية تجاه أقاربه 144 31 من صفات الداعية: المسارعة إلى الخيرات 148، 219، 946 32 إظهار الداعية مناقبه عند الحاج 149، 956 33 خلوة الداعية عند وجود الفتن المضلة 166، 908 34 مراعاة أحوال المدعوين 167، 346، 495، 530، 699، 716، 735، 938، 959، 973 35 السرور بانتصار الإسلام 175 36 الحرص على الدقة في نقل الحديث 64، 179، 216، 241، 283، 297، 326، 506، 591، 647، 694، 717، 759، 821، 866، 915، 923، 927 37 الحرص على هداية الأقربين 80، 857، 572، 861، 935، 943 38 من صفات الداعية: اغتنام فرص الخير قبل حرمانها 110 39 من صفات الداعية: احتساب الأجر والثواب 198، 226، 336(2/1088)
40 - من صفات الداعية: جهاد النفس 186 41 من صفات الداعية: استصحاب النية الصالحة 184، 218، 242، 282، 299، 652، 901، 905، 927 42 من صفات الداعية: بذل النفس والتضحية في سبيل الله عز وجل 202 44 من صفات الداعية: صحة الإيمان وقوة اليقين 204، 317، 324، 485، 491، 585، 727، 766 45 من صفات الداعية: الشجاعة 204، 248، 256، 317، 323، 368، 386، 399، 454، 478، 486، 419، 540، 591، 680، 725، 749، 778، 943، 958 46 شجاعة النبي وثباته صلي الله عليه وسلم 368 47 من صفات الداعية: الفطنة والذكاء 210، 724، 1003 48 تقييد العلم وضبطه بالكتابة 211، 283 49 من صفات الداعية: العقل السليم 212 50 من صفات الداعية: الأمانة 212، 765، 835، 899 51 من صفات الداعية: الخبرة 212 52 من صفات الداعية: الحرص على العناية بالقرآن الكريم 214 53 من صفات الداعية: الحرص على الإقتداء بالنبي صلي الله عليه وسلم 215، 859 54 أهمية اختيار الداعية الصلح للأمور المهمة 216، 406، 786 55 الأخذ بالأسباب لا ينفي التوكل 221، 241، 289، 361، 387، 404، 492، 495، 580، 611، 657، 726، 823 56 أهمية الخوف من عذاب الله تعالى 226 57 محبة الصحابة للنبي صلي الله عليه وسلم 383، 389، 400، 405، 418، 536، 561، 564، 567، 642، 858، 870، 886، 919، 957 58 من أسباب نصر الداعية: الدعاء 237، 509 59 أهمية قول المسلم: إن شاء الله، لما يريد عمله في المستقبل 240 60 حرص الأنبياء على الجهاد في سبيل الله عز وجل 240 61 أهمية تذكير الناسي 242 62 من صفات الداعية: الحلم 246، 514، 526، 622، 828، 930، 962، 972 63 من صفات الداعية: الالتجاء إلى الله عز وجل 257، 899 64 من صفات الداعية: الورع 262، 582 65 أهمية صحبة الأخيار 263(2/1089)
66 - الدفاع عن النفس بالصدق والحكمة 272 67 من صفات الداعية: الحرص على فعل الخيرات 275، 653 68 من صفات الداعية: التواضع 237، 294، 312، 343، 379، 401، 414، 418، 425، 509، 619، 646، 713، 729، 735، 752، 758، 819، 828، 843، 855، 871، 880، 895، 959، 961، 978 69 من صفات الداعية: إعانة المدعوين 295، 819 70 من صفات الداعية: الاستفادة مما عند الآخرين 296 71 حرص الصحابة رضي الله عنهم على الجهاد وعد تخلفهم بغير عذر 299، 660 72 من صفات الداعية: الإخلاص 303، 336، 412 73 من صفات الداعية: الإحسان 312 74 تأديب المدعو بالكلمة القوية عند الحاجة 318 75 من فقه الدعوة: معرفة أحوال المدعوين 322 76 من صفات الداعية: التزام الأدب والتلطف في الكلام مع الكبير والصغير 316، 948 77 من صفات النبي صلي الله عليه وسلم: الفصاحة والبلاغة 330، 357 78 من صفات الداعية: الفصاحة والبلاغة 1012، 1026 79 التصريح بذكر بعض الألفاظ المستقذرة عند الحاجة 337 80 أهمية تعليم العامة قبل أن يسألوا 345، 606 81 من صفات الداعية: حب الخير للناس وتبشيرهم لإدخال السرور عليهم 354 82 من صفات لداعية: التوكل على الله عز وجل 355، 361، 862 83 أهمية اختيار الداعية الوسائل المعينة على الدعوة 358 84 من صفات الداعية العدل 363، 391، 557، 809، 906، 929 85 من أسباب نصر الدعاة: عدم الإعجاب بالكثرة أو القوة 370، 958 86 من صفات الداعية: حسن الأدب في الجواب 371 87 من صفات الداعية: الاستنصار بالله عز وجل 371 88 أهمية الإشراف على المدعو وملاحظته 387 89 أهمية مشاركة النساء في الجهاد بالخدمة والعلاج عند الحاجة 388، 392، 394، 613 90 من صفات الداعية: مكافأة المحسن وتشجيعه على إحسانه 392، 419 91 أهمية استشارة العلماء والدعاة والأصحاب 127، 392، 630، 659، 682، 820، 828، 1013 92 من صفات الداعية: وضع كل شيء موضعه 393، 457، 758 93 من صفات الداعية: التعاون على البر والتقوى 399، 421(2/1090)
94 - ذكاء النبي صلي الله عليه وسلم وفطنته 383 95 من صفات الداعية: القناعة 412 96 من صفات الداعية: إتقان العمل 414 97 من صفات الداعية: حسن الصحبة 417، 420 98 من النصر والرزق: الإحسان إلى الضعفاء 423 99 من أسباب النصر: استقامة المجاهدين والدعاة على دين الله عز وجل 429 100 من صفات الداعية: الجمع بين الخوف والرجاء 439، 799 101 عظم يقين الصحابة بما يخبر به رسول الله صلي الله عليه وسلم 450، 682، 799 102 من صفات الداعية: الرفق 461، 512 103 الادخار لا ينافي التوكل على الله عز وجل 468 104 أهمية الحرص على طلب الحديث وتحصيله من مصادره الأصلية 469، 915، 928 105 من صفات الداعية: عدم الحرص على الإمارة والعلو في الأرض والجاه 472 106 لا ينكر أن يغيب عن الداعية أو العالم بعض العلم 474، 853، 998 107 أهمية العمل بمقتضى الدليل الشرعي 474 108 أهمية اجتماع المجاهدين والدعاة وعدم تفرقهم 484 109 من صفات الداعية: العفو والصفح 485، 597، 630، 684، 858، 1030، 1037. 110 أهمية تكرار لفظ الجلالة عند الاستغاثة والاستعانة 487 111 أهمية قصر الأمل في الدنيا والمسارعة إلى ما ينجي من الفتن 503 112 حرص النبي صلي الله عليه وسلم على أداء الصلاة في وقتها 505 113 من آداب الداعية: إفشاء السلام، ورده على المسلمين، ورده على أهل الكتاب بـ: "وعليكم". 512، 621 114 من صفات الداعية: التغافل عن سفه المبطلين 515 115 أهمية تدريب الداعية نفسه ولسانه على الأب 515 116 من صفات الداعية: التأني والتثبت 526، 537، 680، 875، 955، 999 117 أهمية السؤال عما يشكل على الداعية 345، 537، 837، 938، 943، 1058 118 من صفات الداعية: الرجوع على الحكم والفتوى إذا ظهر الدليل 548 119 من وظائف الإمام المسلم قتل كل من آذى الله ورسوله صلي الله عليه وسلم بدون استتابة 549 120 أهمية استنابة الإمام والداعية من يقوم مقامه في الأمور المهمة 550 121 من صفات الداعية: الصبر على جور الولاة والأمراء 552 122 أهمية ذكر الدليل عند الفتوى رفع الإلباس 550، 701 123 أهمية القتال مع إمام المسلمين وحمايته من الأعداء 556(2/1091)
124 - من صفات الداعية: الابتعاد عن الفتن عدم الخروج على الإمام المسلم 565 125 من صفات الداعية: الثبات والصبر 561، 564، 567 126 أهمية السؤال في تحصيل العلم ونشره 63، 570، 585 127 من صفات الداعية: الحرص على التثبت في حمل الحديث 576 128 أهمية إخبار الداعية أصحابه بما ينفعهم 580 129 من صفات الداعية: الحرص على الدعوة والجهاد 581، 918 130 من صفات الداعية: التيسير على المدعوين 581 131 من صفات الداعية: التقوى 584 132 أهمية طاعة ولاة أمر المسلمين 583 133 من صفات الداعية: العناية الدائمة بالدعوة إلى الله عز وجل 629 134 من صفات الداعية: النظافة 590، 769 135 من صفات الداعية: الإيجاز في اللفظ والاتساع في المعاني 604 136 من صفات الداعية: الاعتزاز بطاعة الله عز وجل 612 137 من وظائف الداعية: إطفاء نار الفتن 625 138 من صفات الداعية: الحرص على إكرام وتعظيم القرآن الكريم 636 139 من صفات الداعية: عدم اليأس من رحمة الله سبحانه وتعالى 268 140 حرص الصحابة على ذكر الله عز وجل 640، 648 141 من صفات الداعية: الحرص على زيادة الخير للمدعو 643 142 من صفات الداعية: الاستسلام لله وتفيض الأمور إليه عز وجل 645 143 من صفات الداعية: تعظيم الله عز وجل 649 144 من صفات الداعية: تنزيه الله عز وجل 649 145 من صفات الداعية: المسارعة في الاستجابة لله ورسوله صلي الله عليه وسلم 679 146 أهمية هتك أستار الجواسيس والمفسدين 681 147 من وظائف الداعية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 689، 993 148 أهمية رعاية مصالح المسلمين 696، 793 149 من القواعد الدعوية: عمل الداعية بالعام حتى يرد الخاص 694 150 من وظائف الإمام المسلم قتل المرتدين بعد استتابتهم 705 151 من صفات الداعية: راحة القلب بالتوحيد ونشره بين الناس 712 152 حرص النبي صلي الله عليه وسلم على انتصار أمته 733 153 من وظائف الإمام المسلم: التدبير ووضع الخطط والحيل الحربية 732، 739(2/1092)
154 - من صفات الداعية: تذكر النعم والاعتراف بالتقصير 741 155 من صفات الداعية: الصوت الجهوري عند الحاجة 748 156 أهمية حكم العالم برضى الخصمين 754 157 أهمية اخذ الداعية بالشدة والقوة عند الحاجة أو المصلحة 765 158 استجابة دعاء الداعية وإكرامه حيا وميتا 769 159 من صفات الداعية: طاعة ولي أمر المسلمين بالمعروف 778 160 من وظائف الإمام المسلم: قتل الجاسوس الحربي الكافر 778 161 من آداب الداعية: الثناء على الله بما هو أهله 781، 853 162 من صفات الداعية: إكرام العلماء والدعاة 815 163 من صفات الداعية: القوة وجودة النظر 792 164 من صفات الداعية: تعجيل المعروف وتحقيره 821 165 من آداب الداعية: تطييب الطعام وتعظيمه 822 166 أهمية زيارة العلماء للاستفادة من علمهم 837 167 من صفات الداعية: الاعتزاز بما يقع من إكرام الشرع 843 168 من صفات الداعية: الحذر من مخالفة أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم 854 169 من صفات الداعية: الرجوع إلى الحق بدليله 855 170 من صفات الداعية: الخشوع لله عز وجل 856 171 أهمية الاعتراف بالفضل لأهله 856 172 من صفات الداعية: سلامة القلب وحفظ اللسان 873 173 أهمية تربية الأبناء على الأمور المهمة 877 174 أهمية تفريغ قلب الداعية من المشاغل الدنيوية 893 175 من صفات الداعية: الثقة بالله عز وجل 898، 1064 176 من صفات الداعية العفة وقوة النفس 901 177 أهمية الكف عما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم 907 178 من وظائف الداعية الدفاع عن أئمة الهدى والتماس العذر لهم 906 179 أهمية الحنث في اليمين والتكفير عنها للمصلحة الراجحة 914 180 أهمية الاستثناء في اليمين 916 181 من آداب الداعية: إكرام الضيف 917 182 من صفات الداعية: الفرح بنعمة الله عز وجل والتحدث بها 926 183 من صفات الداعية: المكافأة على المعروف 934، 939(2/1093)
184 - أهمية الغضب لله ولرسوله في حدود الحكمة 946 185 أهمية عدم احتقار الصغير في الأمور المهمة 948 186 حسن أدب الأنصار مع رسول الله صلي الله عليه وسلم 957 187 من صفات الداعية: دفع السيئة بالحسنة 964 188 من صفات الداعية: الإعراض عن الجاهلين 965، 971 189 مكانة الصحابيات وصبرهم على خدمة الأزواج 978 190 أهمية الحياء وعظم منزلته 978، 989 191 من صفات الداعية: الغيرة 980 192 من صفات الداعية: الحرص على صلة الأرحام 981 193 من صفات الداعية: توقير النبي صلي الله عليه وسلم وإجلاله 988 194 أهمية تفقد الإمام أحوال رعيته ومراقبتهم 992 195 من صفات الداعية: الانقياد للدليل الشرعي والعمل به 999 196 من صفات الداعية: الإلحاح في الدعاء 1036 197 من أسباب تحصيل العلم: زيارة العلماء 1047 198 منزلة أبي بكر العظيمة رضي الله عنه ومؤازرته لرسول الله صلي الله عليه وسلم 1064 199 أهمية الانقياد والتسليم لأمر رسول الله صلي الله عليه وسلم 1065 200 من صفات الداعية: الحرص على الإصلاح بين لناس 1070 201 أهمية الوفاء ببيعة الإمام المسلم 1079
وعلى ضوء ما تقدم من الفوائد الدعوية في الجدول السابق يظهر أن المنهج الدعوي المتعلق بالداعية على النحو الآتي:
أولا: كل مسلم دل على خير، أو حذر عن شر، فهو داعية؛ لأن الدعوة تجب على كل أحد بحسبه، فيدخل في لفظ الداعي كل مسلم دل على خير أو حث عليه، أو حذر من شر، أو نفر عنه.
ثانيا: الداعية ينجح في دعوته بإذن الله عز وجل بصفات، منها:
1 - العلم (1) .
_________
(1) انظر من أمثلة ذلك: ص 71، 169، 220، 347، 348 من هذا البحث.(2/1094)
2 - الرفق (1) .
3 - الصبر (2) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ((فلا بد من هذه الثلاثة: العلم، والرفق، والصبر، العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، فإن كان كل من هذه الثلاثة مستصحبا في هذه الأحوال)) (3) .
4 - الإخلاص (4) .
5 - موافقة القول للعمل (5) .
6 - مراعاة أحوال المدعوين (6) .
ثالثا: يزيد نشاط الداعية بصفات، منها:
1 - قوة الإيمان (7) .
2 - محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم (8) .
3 - الرغبة فيما عند الله عز وجل (9) .
4 - الغيرة لله عز وجل (10) .
5 - قوة اليقين والثقة بالله عز وجل (11) .
6 - الحذر من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (12) .
_________
(1) انظر من أمثلة ذلك: ص 461، 512 من هذا البحث.
(2) انظر من أمثلة ذلك: ص 561، 564، 567.
(3) الحسبة في الإسلام: ص 48، ومجموع الفتاوى، 28 / 167، 322، 346، 495، 530.
(4) انظر من أمثلة ذلك: ص 303، 336، 412.
(5) انظر من أمثلة ذلك 63، 93، 116، 140.
(6) انظر من أمثلة ذلك: 323.
(7) انظر من أمثلة ذلك: 108، 480.
(8) انظر من أمثلة ذلك: 108، 536، 591.
(9) انظر من أمثلة ذلك 135، 148، 176.
(10) انظر مثال ذلك: 980.
(11) انظر مثال ذلك: ص 491.
(12) انظر مثال ذلك: ص 854.(2/1095)
7 - الحرص على هداية الناس (1) .
8 - الحرص على فعل الخيرات (2) .
9 - الحرص على حسن الخاتمة (3) .
رابعا: العناية بصفات الحزم والعزيمة والثبات، ومنها:
1 - الأخذ بالحزم والاحتياط في الأمور المهمة (4) .
2 - تحمل المشاق (5) .
3 - الاستعداد والتأهب للموت قبل فوات الأوان (6) .
4 - اغتنام فرص الخير قبل حرمانها (7) .
5 - الشجاعة: العقلية والقلبية (8) .
6 - إتقان العمل (9) .
7 - العفة وقوة النفس (10) .
8 - الأخذ بالشدة والقوة عند الحاجة والمصلحة (11) .
9 - الغضب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم في حدود الحكمة (12) .
وغير ذلك من الصفات التي ينبغي العناية بها عناية فائقة لأهميتها.
_________
(1) انظر من أمثلة ذلك: ص 524، 529 من هذا البحث.
(2) انظر من أمثلة ذلك: ص 275، 653.
(3) انظر مثال ذلك: ص 112.
(4) انظر من أمثلة ذلك: ص 50، 53.
(5) انظر من أمثلة ذلك: ص 112، 197، 205، 290، 561.
(6) انظر من أمثلة ذلك: ص 51، 316.
(7) انظر من مثال ذلك: ص 110.
(8) انظر من أمثلة ذلك: ص 204، 248، 368.
(9) انظر مثال ذلك: ص 414.
(10) انظر مثال ذلك: ص 901.
(11) انظر من أمثلة ذلك: ص 681، 705، 765.
(12) انظر مثال ذلك: ص 946.(2/1096)
خامسا: الاتصاف بالخلق الحسن، لأنه يشمل جميع الصفات الحميدة، ومنها:
1 - الزهد (1) .
2 - الجود والكرم (2) .
3 - الرحمة (3) .
4 - الصدق (4) .
5 - الورع (5) .
6 - التواضع (6) .
7 - الحلم (7) .
8 - الإحسان (8) .
9 - اللين (9) .
10 - العدل (10) .
11 - العفو والصفح (11) .
12 - التثبت والأناة (12) .
_________
(1) انظر من أمثلة ذلك: ص 57، 142، 291، 379 من هذا البحث.
(2) انظر من أمثلة ذلك: ص 58، 144، 148، 247، 256، 900.
(3) انظر من أمثلة ذلك: ص 71، 109، 135، 312، 401، 529.
(4) انظر من أمثلة ذلك: ص 82، 109، 248، 576، 957.
(5) انظر من أمثلة ذلك: ص 262، 582.
(6) انظر من أمثلة ذلك: ص 237، 294، 312، 343، 379.
(7) انظر من أمثلة ذلك: ص 246، 514، 526، 622، 828، 930، 962، 972.
(8) انظر مثال ذلك: ص 312.
(9) انظر من أمثلة ذلك: ص 461، 512.
(10) انظر من أمثلة ذلك: ص 363، 391، 557، 809.
(11) انظر من أمثلة ذلك: ص 485، 597. 630، 684.
(12) انظر من أمثلة ذلك: ص 526، 537، 680، 875، 955، 999.(2/1097)
13 - الثبات (1) .
14 - الوفاء (2) .
15 - الأمانة (3) .
16 - التوكل (4) .
17 - الإيثار (5) .
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: ((وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل)) ، ثم قال - رحمه الله -: ((ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة، ومنشأ جميع الأخلاق السافلة وبناؤها على أربعة أركان: الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب)) (6) .
فينبغي للداعية العناية بصفة الخلق الحسن وأركانه؛ لاشتماله على جميع الأخلاق الحميدة، والله سبحانه وتعالى الهادي إلى سواء السبيل.
سادسا: يسلم الداعية من الزلل بإذن الله، بالتزامه بالعمل بدرجات إنكار المنكر: باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب، وأن يكون أمره بالمعروف معروفا، ونهيه عن المنكر غير منكر، وأن ينهى عن المنكر الذي يزول بجملته ويخلفه ضده، أو يقل وإن لم يزل بجملته، ولا ينهى عن المنكر الذي يخلفه شر منه (7) .
_________
(1) انظر من أمثلة ذلك: ص 561، 564، 567 من هذا البحث.
(2) انظر مثال ذلك: ص 202.
(3) انظر من أمثلة ذلك: ص 213، 765، 835.
(4) انظر من أمثلة ذلك: ص 355، 361، 862.
(5) انظر مثال ذلك: ص 816.
(6) مدارج السالكين: 2 / 308.
(7) انظر من أمثلة ذلك: ص 698، 690.(2/1098)
[الفصل الثاني المنهج الدعوي المتعلق بالمدعو](2/1099)
المدعو: هو الإنسان المخاطب بدعوة الإسلام (1) فاتضح أن المدعو كل إنسان دل على خير، أو حذر عن شر، وعلى ضوء هذا التعريف استخلصت الفوائد الدعوية المتعلقة بالمدعو على النحو الآتي:
الدرس الصفحة 1 قبول شهادة النفي من الداعية 67 2 قرب المدعو من أهل الفضل لا ينفع إلا بصالح الأعمال 83 3 أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه 91، 126، 132، 159، 169، 220، 225، 496، 660، 693، 719، 735 4 مسارعة المدعو إلى عمل الخير 91، 126، 219 5 كرم المدعو 92 6 إيثار المدعو طاعة الله ورسوله على طاعة القريب 114 7 استشارة المدعو للعلماء والدعاة 127 8 أدب المدعو مع العلماء والدعاة 140، 173، 245، 272، 381، 471، 612، 622، 962 9 دفاع المدعو عن العلماء والدعاة 68، 386، 630 10 من أصناف المدعوين: النساء 227 11 أهمية استجابة المدعو لله ولرسوله صلي الله عليه وسلم 297، 324، 713 12 أهمية إعانة الدعاة والمجاهدين في سبيل الله عز وجل 307 13 أهمية نصر الداعية وشد عضده 324 14 أهمية تعاون المدعو مع ولي أمر المسلمين 339 15 من أدب المدعو: الاقتراب من مجالس العلم 348 16 من أصناف المدعوين المشركون 376، 402، 531، 599، 626، 743، 958، 1018، 1069 17 من وظائف المدعو الصلح: حراسة السلطان المسلم والعالم العامل بعلمه 406، 486 18 حسن أدب الصحابة مع النبي صلي الله عليه وسلم 455 19 من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والاستقامة 427، 462، 475، 516، 877، 958، 994، 1008 20 من أصناف المدعوين: اليهود مع خبثهم 517، 541، 626، 759، 1027، 1032 21 من أصناف المدعوين: النصارى 523، 1051
_________
(1) أصناف المدعوين وكيفيه دعوتهم للدكتور حمود بن أحمد الرحيلي: ص5، وانظر: المدخل إلى علم الدعوة للدكتور / محمد أبو الفتح البيانوني: ص140.(2/1100)
22 - النطق بالشاهدتين والعمل بهما أمان للمدعو المخلص ظاهرا وباطنا 544 23 من أصناف المدعوين: الزنادقة والملحدون 702 24 من أدب المدعو: توديع العلماء والدعاة إذا أرادا سفرا 549 25 من أصناف المدعون: المسلمون 626، 1069 26 من أسباب إعراض المدعوين: الحسد وحب الرياسة والجاه 631 27 شدة عداوة أعداء الدين وخطرهم على الإسلام وأهله 637 28 أهمية صدق المدعو 683 29 شدة إعراض بعض المدعوين حتى لا ينفع معهم إلا القوة 691 30 خطر حرص المدعو على الدنيا 372، 744 31 من أصناف المدعوين الموالى والخدم 787 32 قد يؤيد الله عز وجل الإسلام بالمدعو الفاجر 451، 799 33 أهمية كمال عقل المدعو 822 34 من أصناف المدعوين: الأطفال 826، 844 35 أهمية تلقي العلماء والقادمين من سفر الطاعة 843 36 من أصناف المدعوين: الأقارب 881، 1078 37 سوء أدب بعض المدعوين 931 38 من أصناف المدعوين الأعراب 252، 966 39 من أصناف المدعوين: أشراف الناس 974 40 من أصناف المدعوين: المجوس 999 41 من صفات اليهود: الخبث 1032 42 من صفات اليهود: المكر والخديعة 1027 43 من صفات اليهود: الخيانة لله ولرسوله صلي الله عليه وسلم 1042
وعلى ضوء ما تقدم من الفوائد الدعوية في الجدول السابق يظهر أن المنهج الدعوي المتعلق بالمدعو على النحو الآتي:
أولا: المدعو كل إنسان دُعي إلى خير، أو حُذِّر عن شر، فيدخل في هذا التعريف جميع الناس المدعوين إلى الإسلام، والمدعوين إلى تطبيقه، أو تطبيق شيء منه، وهذا يبين للداعية أن الناس جميعا يحتاجون إلى دعوة أو توجيه كل على حسب حاله، وعلمه، ومكانته، قال الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] (1)
_________
(1) سورة الأعراف، الآية: 158.(2/1101)
، وهذا يؤكد أن الدعوة توجه إلى جميع الناس بدون استثناء، لكن - يدعى كل منهم على حسب حاجته بالأساليب المناسبة له (1) .
ثانيا: المدعوون أصناف على حسب عقائدهم، وقد ذكرت من أصنافهم ما يأتي:
1 - المسلمون (2) .
2 - النصارى (3) .
3 - اليهود (4) .
4 - المجوس (5) .
5 - المشركون (6) .
6 - الزنادقة والملحدون (7) .
ثالثا: المدعوون أصناف على حسب أعمارهم، وأجناسهم، واستقامتهم، وأمكنتهم، ومكانتهم، وقربهم، وبعدهم من الداعية، على النحو الآتي:
1 - الأطفال (8) .
2 - النساء (9) .
3 - أهل الصلاح والتقوى (10) .
_________
(1) انظر أمثلة ذلك: ص 227، 426، 517، 523، 531، 626، 702، 787، 826، 881، 966، 974، 999 من هذا البحث.
(2) انظر من أمثلة ذلك: ص 626، 1069.
(3) انظر من أمثلة ذلك: ص 523، 1051.
(4) انظر من أمثلة ذلك: ص 517، 541، 626، 759، 1027.
(5) انظر منال ذلك: ص 999.
(6) انظر من أمثلة ذلك: ص 531، 599، 626، 743، 958، 1018.
(7) انظر مثال ذلك: ص 702.
(8) انظر من أمثلة ذلك: ص 826، 844.
(9) انظر مثال ذلك: ص 227.
(10) انظر من أمثلة ذلك: ص 426، 462، 475، 516، 877، 958، 994، 1008.(2/1102)
4 - الأعراب (1) .
5 - أشراف الناس (2) .
6 - الأقارب (3) .
7 - الموالي والخدم (4) .
رابعا: إن المدعوِّين لهم صفات على حسب عقائدهم، وعقولهم، وأخلاقهم، وصفاتهم تنقسم إلى نوعين:
النوع الأول: الصفات الحسنة، ومنها:
1 - الاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم (5) .
2 - المسارعة إلى عمل الخير (6) .
3 - إيثار طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على محبة القريب (7) .
4 - الجود والكرم (8) .
5 - كمال العقل ورجاحته (9) .
6 - الصدق (10) .
النوع الثاني: الصفات السيئة، ومنها:
1 - شدة العداوة والخطر على الإسلام وأهله (11) .
2 - الحرص على الدنيا (12) .
_________
(1) انظر من أمثلة ذلك: ص 522، 966 من هذا البحث.
(2) انظر مثال ذلك: ص 974.
(3) انظر من أمثلة ذلك: ص 881، 1078.
(4) انظر مثال ذلك: ص 787.
(5) انظر الأمثلة لذلك: ص 297، 324، 713.
(6) انظر الأمثلة لذلك: ص 91، 126، 219.
(7) انظر مثال ذلك: ص 114.
(8) انظر مثال ذلك: ص 92.
(9) انظر مثال ذلك: ص 822.
(10) انظر مثال ذلك: ص 683.
(11) انظر مثال ذلك: ص 637.
(12) انظر من أمثلة ذلك: ص 372، 744.(2/1103)
3 - الإعراض والجفاء (1) .
4 - الحسد وحب الرياسة (2) .
5 - الخيانة لله ولرسله عليهم الصلاة والسلام (3) .
6 - الخبث، والمكر، والخديعة (4) .
7 - قد يؤيد الله الإسلام بالمدعو الفاجر (5) .
خامسا: المدعوون مسؤولون عن أمور مهمة، منها:
1 - قبول الحق (6) .
2 - سؤال أهل العلم عما أشكل (7) .
3 - الأدب مع العلماء والدعاة (8) .
4 - الدفاع عن العلماء والدعاة وإعانتهم (9) .
5 - استشارة العلماء والدعاة (10) .
6 - حراسة السلطان المسلم، والعالم العامل بعلمه (11) .
سادسا: اختلاف أحوال المدعوين يؤكد أهمية مراعاة أحوالهم، على حسب عقائدهم، وعقولهم، ومكانتهم، وأجناسهم، ولغاتهم، ومجتمعاتهم، وعلمهم، وصفاتهم (12) فينبغي للداعية أن يعتني بهذه الفروق عناية دقيقة، والله عز وجل الموفق والمعين.
_________
(1) انظر من أمثلة ذلك: ص 252، 691، 931، 966 من هذا البحث.
(2) انظر مثال ذلك: ص 631.
(3) انظر مثال ذلك: ص 1042.
(4) انظر من أمثلة ذلك: ص 1027، 1032.
(5) انظر من أمثلة ذلك: ص 451، 799.
(6) انظر من أمثلة ذلك: ص 67، 691.
(7) انظر من أمثلة ذلك: ص 91، 126، 132، 159، 169، 220، 225، 496.
(8) انظر من أمثلة ذلك: ص 140، 173، 245، 272، 348، 381، 455، 471، 549، 612، 622.
(9) انظر من أمثلة ذلك: ص 68، 307، 324، 339، 386، 630.
(10) انظر مثال ذلك: ص 127.
(11) انظر من أمثلة ذلك: ص 406، 486.
(12) انظر من أمثلة ذلك: ص 67، 346، 495، 530، 699، 716.(2/1104)
[الفصل الثالث المنهج الدعوي المتعلق بموضوع الدعوة](2/1105)
موضوع الدعوة: لا شك أن الدعوة إلى الله عز وجل هي: الدعوة إلى لإيمان به، وبما جاءت به رسله - عليهم الصلاة والسلام - بتصديقهم بما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا به (1) وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية "رحمه الله -: أن الدعوة إلى الله تتضمن الأمر بكل ما أمر الله به، والنهي عن كل ما نهى الله عنه، وهذا هو الأمر بكل معروف، والنهي عن كل منكر (2) فظهر من هذا التعريف أن موضوع الدعوة: الدعوة إلى الخير، والحث عليه، والتحذير من الشر، والتنفير منه. قال الله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] (3) .
وعلى ضوء هذا التعريف استخلصت الفوائد الدعوية المتعلقة بموضوع الدعوة على النحو الآتي:
م الدرس الصفحة 1 الحديث عن حقوق العباد 55 2 رفع الحرج عن الأمة 53، 229، 284، 301، 988 3 أهمية الوقف في العمل الدعوي 60 4 الحث على الجهاد والإعداد له وبيان أهميته 59، 160، 183، 192، 234، 315، 322، 329، 335، 339، 363، 453، 457، 459، 468، 477، 481، 509، 545، 572، 729، 796، 838، 1018 5 الحث على العلم والعمل بالكتاب والسنة 62 6 الرد على الفرق الضالة 66 7 تبليغ العلم النافع 74 8 بيان الناسخ والمنسوخ 76، 122
_________
(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 15 / 157.
(2) المرجع السابق: 15 / 161.
(3) سورة آل عمران: الآية 104.(2/1106)
9 - عناية الإسلام بحقوق الإنسان 75، 154 10 التحذير من المعاصي وبيان خطرها 117 11 التحذير من السبع المهلكات 131 12 إنكار الغيبة وردها 118 13 الحث على الإحسان إلى الأقرباء واليتامى والمساكين 121 14 الحث على الإحسان إلى الوالدين بعد موتهما 92، 126 15 الحث على أداء الزكاة 128 16 الحث على الإنفاق والصدقات في وجوه الخير 147 17 الحث على الوصية عند الموت 153 18 من أعلام النبوة الإخبار بالمغيبات 175، 195، 331، 429، 441، 499، 502، 535، 591، 605، 643، 681، 734، 751، 769، 799، 802، 864، 956، 1008، 1013، 1032، 1049، 1054، 1070 19 الحث على العمل بأصول الإيمان 181، 571 20 الحث على العمل بأصول الإسلام 182، 571 21 الحث على الدعاء 185، 235، 509 22 تاريخ الدعوة في تحريم الخمر 230 23 تعليم المدعوين: الدعاء والأذكار 260 ,880 24 الحث على سلوك الأدب وتعلي المدعوين ما يحتاجون إليه 233، 509، 729 25 الحث على مكارم الأخلاق 251، 618 26 إثبات صفات الكمال لله عز وجل 265، 641، 688، 783 27 الحث على التوبة النصوح 268 28 من خصائص الإسلام: شهداء غير المعركة 277 29 الحث على اخذ الحذر والأهبة لصد أعداء الإسلام 290 30 الحث على صيام التطوع 302 31 الحث على تجهيز وإعداد الدعاة والغزاة في سبيل الله عز وجل 307 32 من خصائص الإسلام: البقاء إلى يوم القيامة 331، 498 33 الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك 352 34 الحض على الطاعات واجتناب المعاصي 349 35 التحذير من الاتكال 354 36 الحث على الثبات في الجهاد في سبيل الله عز وجل 367 37 الحث على التواضع والتحذير من الكبر 379(2/1107)
38 - تاريخ الدعوة في الأمر بالحجاب 388 39 التحذير من إرادة الدنيا دون الآخرة 410 40 الحث على العناية بالفقراء والضعفاء 423 41 بيان فضل السلف الصالح للتأسي بهم 430 42 الإيمان بالقدر والعمل بأسباب النجاة 434، 798 43 التحذير من الاغترار بالأعمال 438، 798 44 الحث على النية الصالحة 442، 651، 799، 838 45 الحث على طلب حسن الخاتمة بالقول والفعل 443، 799 46 الحث على الرمي والترغيب فيه 477 47 من معجزات النبي صلي الله عليه وسلم: ثبات القلب وعدم الخوف والجزع 487 48 الحث على الالتجاء إلى الله عز وجل والإلحاح في الدعاء 490 49 من خصائص الإسلام: يسر الدين وسماحة الشريعة 301، 494، 988 50 من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة الأحزاب 507 51 الحث على أداء الصلاة في وقتها 505 52 الحض على لين الجانب بالقول والفعل 512 53 الدعوة إلى كلمة التوحيد 521، 538، 542 54 من معجزات النبي صلي الله عليه وسلم: إجابة دعوته 532، 716، 735، 830 55 الحث على نشر العلم، وتعليم الناس الخير 538 56 من معجزات النبي صلي الله عليه وسلم شفاء المرضى على يديه 535، 727 57 التحذير من التعذيب بعذاب الله عز وجل 547، 701 58 الحض على طاعة ولاة الأمر بالمعروف 551، 556 59 الحث على طاعة الله ورسوله صلي الله عليه وسلم 555 60 البيان ببقاء الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام 573، 839 61 من معجزات النبي صلي الله عليه وسلم: الإخبار ببقاء مكة دار إسلام 573، 839 62 أهمية الحراسة في الأمور المهمة 596 63 تعظيم الكعبة وبيت الله الحرام 599 64 بيان خصائص النبي صلي الله عليه وسلم 602 65 الحث على حسن التفهم لمعاني جوامع الكلم 605 66 الحض على إعانة العلماء والمجاهدين وشد أزرهم 610 67 من تاريخ الدعوة: ذكر الهجرة 613 68 الحض على تعظيم القرآن الكريم 635(2/1108)
644 - 69 الحث على ذكر الله عز وجل 644 70 الحض على خفض الصوت بالذكر إلا ما شرع الجهر به 644 71 بيان آداب السفر 654 72 الحض على بر الوالدين 661 73 التحذير من الشرك ووسائله 670 74 التحذير من الخيانة لله ولرسوله صلي الله عليه وسلم 679 75 الولاء والبراء 685 76 من خصائص الإسلام الخيرية 691 77 الحض على إبطال عادات الجاهلية 695 78 تحذير المجاهدين عن قتل النساء والصبيان 698 79 التحذير من مؤاخذة أحد بذنب غيره 708 80 لحض على إزالة الشركيات 712 81 التحريض على خداع الكفار في الحرب 731 82 الحث على اخذ الحذر والحيطة في الحروب 733 83 التحذير من معصية النبي صلي الله عليه وسلم وبيان خطرها 739 84 من تاريخ الدعوة: ذكر عزوة أحد 744 85 الحث على العفو والرفق وتسهيل الأمور 749 86 من معجزات النبي صلي الله عليه وسلم ظهور الكرامات لأتباعه 768 87 الحث على تخلص أسرى المسلمين من أعداء الإسلام 772 88 الحض على إطعام الطعام 772 89 الحث على عيادة المرضى 774 90 الحض على إجابة الدعوة 774 91 التحذير من فتنة الدجال 782 92 التحذير من الظلم 787، 1054 93 الحث على الشفقة والرحمة بالمسلمين 792 94 التحذير من الإعجاب بالكثرة 796 95 بيان عذاب القبر ونعيمه 802 96 الحث على الإيثار 816 97 من معجزات النبي صلي الله عليه وسلم تكثير الطعام 822 98 التحذير من الغلول 832 99 الحث على الإحسان إلى الأيتام 136، 841(2/1109)
100 - التحذير من الفتن 685، 935 101 الحض على النصيحة بالحكم 874 102 الحض على احترام النبي صلي الله عليه وسلم وتوقيره وتعزيزه 884 103 الحث على اختيار التسمية بالأسماء الحسنة 886 104 التحذير من صرف الأموال في الباطل 888 105 من خصائص النبي صلي الله عليه وسلم وأمته: حل الغنائم 602، 894 106 من معجزات النبوة: حبس الشمس واستجابة الدعاء 894 107 من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة تبوك 918، 1047 108 من تاريخ الدعوة: ذكر موت البدريين وأهل الحديبية 936 109 من تاريخ الدعوة: معرفة زمن وقعة بدر 944 110 من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة الفتح وحنين 577، 954، 974 111 الحض على الصبر 957 112 من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة خيبر 991، 1029 113 بيان تحريم الحمر الأهلية 994 114 إنكار المنكر إذا ظهر فعله 998 115 التحذير من التنافس في الدنيا والانشغال بها 1004 116 التحذير من قتل أهل الذمة بغير حق 1020 117 من سماحة الإسلام: حفظه لحرمة العهد والميثاق 1021 118 الحض على الدخول في الإسلام 1023 119 الحض على إخراج المشركين من جزيرة العرب 1024 120 من معجزات الرسول صلي الله عليه وسلم عصمته فيما يبلغه وإخباره بمكان السحر 1038 121 أهمية الأخذ بالأسباب وأنها لا تنافي التوكل 1040 122 التحذير من السحر وبيان خطره 1042 123 بيان علامات الساعة 1048 124 الحض على الوفاء بالعهد 1053 125 الحض على الأخذ بالكتاب والسنة 1059 126 من تاريخ الدعوة: ذكر يوم أبي الجندل 1062 127 الحث على التثبت 1067 128 التحذير من الغدر 1074 129 الأصل في الأشياء الإباحة 991(2/1110)
وعلى ضوء ما تقدم من الفوائد الدعوية في الجدول السابق يتضح أن المنهج الدعوي المتعلق بموضوع الدعوة على النحو الآتي:
أولا: موضوع الدعوة: هو: الدعوة إلى كل خير، والحث عليه، والتحذير من كل شر، والتنفير منه.
ثانيا: تقدم موضوعات الدعوة على حسب أهميتها، فيقدم منها ما يتعلق بأركان الإيمان، ثم ما يتعلق بأركان الإسلام، ثم ما يتعلق بالتحذير من كبائر الذنوب، والحض على عمل الواجبات، ثم ما يتعلق بالترهيب من المعاصي، والترغيب في الطاعات، ومن هذه الأصول ما يأتي:
1 - الدعوة إلى كلمة التوحيد ((شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ، وبيان معنى هذه الكلمة، ومقتضاها، وأركانها، وشروطها، وفضلها، ونواقضها، ونواقصها؛ فإن ذلك كله هو أساس الإسلام (1) .
2 - بيان أنواع التوحيد، وفضله، وحث الناس، وترغيبهم في العناية به عناية دقيقة فائقة (2) .
3 - التحذير من الشرك: كبيره، وصغيره، وبيان أنواعه، ووسائله؛ لأن الشرك أعظم الذنوب، وأشنعها (3) .
4 - أهمية بيان صفات الكمال لله، وإثبات ما أثبته الله عز وجل لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل (4) .
5 - بيان وتوضيح أصول الإيمان، وأصول الإسلام، والإحسان،
_________
(1) انظر من أمثلة ذلك: ص 521، 538، 542 من هذا البحث.
(2) انظر مثال ذلك: ص 352.
(3) انظر من أمثلة ذلك: ص 352، 670.
(4) انظر من أمثلة ذلك: ص 265، 641، 688، 783.(2/1111)
بالتفصيل والإيضاح؛ لأهمية ذلك، وحاجة الناس إليه (1) .
6 - التحذير من كبائر الذنوب: كالسبع الموبقات، وغيرها من المهلكات، والحض على القيام بجميع الواجبات (2) .
7 - الحث على جميع أنواع الطاعات، والتنفير عن جميع أنواع المعاصي والسيئات (3) .
ثالثا: العناية باختيار موضوعات الدعوة على حسب أحوال المدعوين، فيقدم لكل فئة ما يحتاجون إليه، ويراعى في عرض هذه الموضوعات ما يأتي:
1 - الأصل في الأشياء الإباحة؛ لأن الله خلق لعباده جميع ما على الأرض لينتفعوا به، إلا ما حرمه سبحانه وتعالى (4) .
2 - الأصل في العبادات الحظر والتوقيف إلا ما ثبت في الشرع تشريعه عن الله عز وجل، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم (5) .
3 - تقديم أعلى المصالح عند تعارض عدد المصالح (6) .
4 - تقديم أدنى المفاسد عند تعارض عدد المفاسد (7) .
5 - درء المفاسد مقدم على جلب المصالح (8) .
رابعا: الإسلام له خصائص ينبغي بيانها للناس؛ لما في ذلك من المصالح، ومن ذلك ما يأتي:
_________
(1) انظر من أمثلة ذلك: ص 181، 182، 571 من هذا البحث.
(2) انظر من أمثلة ذلك: ص 131، 679، 787، 832، 1074.
(3) انظر من أمثلة ذلك: ص 117، 349، 661، 888، 1053.
(4) انظر مثال ذلك: ص 991.
(5) انظر مثال ذلك: ص 991.
(6) انظر مثال ذلك: ص 275.
(7) انظر من أمثلة ذلك: ص 931، 975، 1037.
(8) انظر من أمثلة ذلك: ص 931، 975، 1037.(2/1112)
1 - العموم لجميع الإنس والجن (1) .
2 - البقاء إلى قيام الساعة (2) .
3 - اليسر والسماحة (3) .
4 - رفع الحرص عن الأئمة (4) .
5 - العناية بحقوق الإنسان (5) .
6 - حفظ العهود والمواثيق (6) .
7 - الإسلام خير الأديان، وأمته خير الأمم (7) .
خامسا: الدلائل النبوية توضح الحق، وتزيد الإيمان، وتزيل الشبه، فينبغي توضيحها للناس عند الحاجة لذلك؛ لما فيها من الفوائد الكثيرة، والمنافع المتعددة (8) .
وإذا قدمت الموضوعات الدعوية على حسب القواعد، والضوابط، والأحوال، والفئات، والأهمية، فإنها ستثمر، وتُنتج، وتنجح بإذن الله عز وجل.
_________
(1) انظر من أمثلة ذلك: ص 602، 894 من هذا البحث.
(2) انظر من أمثلة ذلك: ص 331، 498.
(3) انظر من أمثلة ذلك: ص 301، 494، 988.
(4) انظر من أمثلة ذلك: ص 53، 229، 284، 301، 988.
(5) انظر من أمثلة ذلك: ص 75، 154.
(6) انظر مثال ذلك: ص 1021.
(7) انظر مثال ذلك: ص 691.
(8) انظر أمثلة ذلك: ص 487، 532، 535، 573، 768، 822.(2/1113)
[الفصل الرابع المنهج الدعوي المتعلق بالوسائل والأساليب]
[المبحث الأول المنهج الدعوي المتعلق بالوسائل]
الفصل الرابع: المنهج الدعوي المتعلق بالوسائل والأساليب المبحث الأول: المنهج الدعوي المتعلق بالوسائل
المبحث الثاني: المنهج الدعوي المتعلق بالأساليب(2/1115)
المبحث الأول: المنهج الدعوي المتعلق بالوسائل الوسيلة في الأصل: ما يتوصل به إلى الشيء (1) ووسائل الدعوة: هي ما يتوصل به الداعية إلى تبليغ دعوته من أشياء وأمور (2) وقيل: ((ما يتوصل به الداعية إلى تطبيق مناهج الدعوة من أمور معنوية، أو مادية)) (3) قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: ((والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود)) (4) فظهر من هذه التعريفات والحدود أن الوسيلة في الدعوة إلى الله عز وجل هي: ما يستعمله الداعية من أمور حسية، أو معنوية ينقل بها دعوته إلى المدعوين.
وعلى ضوء هذا التعريف استخلصت الفوائد الدعوية المتعلقة بالوسائل على النحو الآتي:
م الدرس الصفحة 1 القول اعظم وسائل الدعوة 54 2 القدوة الحسنة 63، 93، 116، 127، 140، 150، 250، 259، 263، 293، 311، 318، 334، 375، 382، 407، 455، 473، 480، 522، 531، 583، 633، 769، 810، 859، 966، 971 3 من وسائل الدعوة: الخطابة 84، 236، 509، 781، 864 4 البروز للناس على مكان مرتفع 84، 853 5 أهمية مراعاة أوقات نشاط المدعو 85، 233، 509، 1012 6 التأليف بالمال 85، 926، 939، 954، 963، 972 7 التأليف بالجاه والنسب 56، 955 8 من وسائل الدعوة: اغتنام التذكير عند الحوادث الملمة 236، 509
_________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب الواو مع السين، مادة: وسل: 5 / 185، ولسان العرب لابن منظور، باب اللام، فصل الواو: 11 / 275، والقاموس المحيط للفيروزآبادي: باب اللام فصل الواو: 1379.
(2) انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى لسعيد بن على القحطانى: 126.
(3) المدخل إلى علم الدعوة للدكتور / محمد أبو الفتح البيانونى: 49.
(4) تفسير القرآن العظيم: 2 / 54.(2/1116)
9 - من وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله عز وجل 216، 690، 695، 809، 1013 10 من وسائل الدعوة: ركوب البحر 178 11 من وسائل الدعوة: الكتب والرسائل 232، 509، 521، 876 12 من وسائل الدعوة: تسلية المدعوين وتنشيطهم 292 13 من وسائل الدعوة إثارة غيرة الرجال 387 14 من وسائل الدعوة: إرسال الرسل والدعاة والمجاهدين في سبيل الله 273، 399، 521، 540، 546، 670، 678، 713، 724، 764، 922، 994، 997، 1003، 1011، 1023 15 من وسائل الدعوة: زيارة أهل المصائب وتسليتهم 311 16 من وسائل الدعوة: أن يتولى أمر كل قبيلة كبيرهم الصالح 469 17 من وسائل الدعوة: التطبيق العملي في التعليم 488 18 من وسائل الدعوة: التأليف بالعفو مكان الانتقام 516، 963، 972 19 من وسائل الدعوة: إزالة الأماكن التي يفتتن بها الناس 559، 714 20 من وسائل الدعوة: البيعة لإمام المسلمين 562، 565، 568 21 من وسائل الدعوة وأسباب النصر: إظهار القوة والنشاط أمام الأعداء 589، 598، 76 22 أهمية اللواء والراية في الجهاد في سبيل الله عز وجل 589، 591، 596 23 من وسائل الدعوة: الخروج في سبيل الله عز وجل 596 24 من وسائل الدعوة: الزيارة والعيادة 619 25 من وسائل الدعوة: استخدام القوة عند الحاجة 632، 691 26 إخفاء المنافقين النفاق دليل على قوة المسلمين 633 27 من وسائل الدعوة: استمالة قلب من له شان في قومه 718، 735 28 من وسائل الدعوة: قتل الإمام لكل من آذى الله ورسوله صلي الله عليه وسلم 725 29 من وسائل الدعوة: تعليم المجاهدين وتدريبهم استعدادا للجهاد 718، 735، 751 30 من وسائل الدعوة: القيا للمقابلة بالسلام والمصافحة والتهنئة 755 31 من وسائل الدعوة: تأمير الأمراء على السريا والبعوث والرسل والمسافرين والأقطار 764، 1004، 1013ذ 32 من وسائل الدعوة: إغاظة الأعداء بالامتداح بالشعر وإظهار القوة 767 33 من وسائل الدعوة: أخذ الحذر والحيطة 779 34 من وسائل الدعوة: إعطاء السلب للقاتل تشجيعا له 778، 944 35 من وسائل الدعوة: إظهار انتصار وشعار المسلمين 801 36 من وسائل الدعوة: الإهداء 830 37 أهمية استخدام وسائل الإيضاح في الدعوة إلى الله عز وجل 869 38 من وسائل الدعوة: إعطاء النفل للشجعان تشجيعا لهم 922 39 من وسائل الدعوة: الأخذ بالقرائن عند عدم البينة 945 40 من وسائل الدعوة: الستر على أهل الصلاح والتقوى 954 41 من وسائل الدعوة: نقل الكلام بقصد التحير والإصلاح وإزالة المنكر 969(2/1117)
42 - من القواعد الدعوية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح 931، 975، 1027 43 من وسائل الدعوة: أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس 999 44 من وسائل الدعوة: البدء بقتال الأهم فالأهم من أعداء الإسلام 1017 45 من وسائل الدعوة: التأليف بقبول هدية المشرك مع الحذر 1031 46 من وسائل الدعوة: عقد الصلح والهدنة مع الأعداء عند العجز عن الجهاد 1067 47 من ميدان الدعوة: مراكب المواصلات 343 48 تقديم أعلى المصلحتين عند التعارض 275 49 من ميادين الدعوة: طرق السير والسفر 300، 670 50 من ميادين الدعوة: المسجد 460، 1023 51 من ميادين الدعوة: المجالس العامة 634 52 الاستعانة بنوم القائلة على قيام الليل والدعوة 178
وعلى ضوء ما تقدم من الفوائد الدعوية في هذا الجدول يظهر أن المنهج الدعوي المتعلق بالوسائل على النحو الآتي:
أولا: الوسائل ذات أهمية بالغة؛ لأن الداعية إلى الله عز وجل يتوصل بها إلى تبليغ دعوته، وهي أوعية الأساليب، تحملها وتوصلها إلى الناس، وهذا كله يدل على مكانة الوسائل، وأنه يتأكد العناية بها عناية فائقة.
ثانيا: وسائل الدعوة تنقسم إلى قسمين:
1 - الوسائل المحسوسة الملموسة، وهذا النوع هو أكثر وسائل الدعوة في الغالب، ومن هذا القسم:
أ- الجهاد في سبيل الله عز وجل بالنفس والمال، واللسان (1) .
ب- الكتب والرسائل (2) .
_________
(1) انظر من أمثلة ذلك: ص 216، 690، 695، 809، 1013 من هذا البحث.
(2) انظر: ص 232، 509، 521، 876.(2/1118)
جـ - إرسال الدعاة (1) .
د- إزالة الأماكن التي يفتتن بها الناس (2) .
هـ - التطبيق العملي في التعليم (3) .
و والخطابة على المنبر، أو على مكان مرتفع (4) .
ز- الهداية (5) .
ح- التأليف بالمال (6) .
وغير ذلك (7) .
2 - الوسائل المعنوية، مثل:
أ- اغتنام التذكير عند الحوادث الملمة (8) .
ب- مراعاة أوقات نشاط المدعو (9) .
ج- التأليف بالعفو مكان الانتقام (10) .
د- استمالة قلب من له شأن في قومه (11) .
_________
(1) انظر من أمثلة ذلك: ص 273، 399، 521، 546، 540، 670، 678، 713، 724. من هذا البحث.
(2) انظر من أمثلة ذلك: 599، 714.
(3) انظر مثال ذلك: ص 488.
(4) انظر من أمثلة ذلك: ص 84، 236، 509، 781، 853، 864.
(5) انظر مثال ذلك: ص 830.
(6) انظر من أمثلة ذلك: ص 85، 926، 939، 954، 963، 972.
(7) انظر من أمثلة ذلك: ص 632، 691، 778، 922، 999، 1023.
(8) انظر من أمثلة ذلك: ص 236، 509.
(9) انظر من أمثلة ذلك: ص 85، 233، 509، 1012.
(10) انظر من أمثلة ذلك: ص 516، 963، 972.
(11) أنظر من أمثلة ذلك: ص 718، 735.(2/1119)
هـ - الستر على أهل الصلاح والتقوى (1) .
و الاستعانة بالنوم في القائلة على قيام الليل وأمور الدعوة إلى الله عز وجل (2) .
ز - التأليف بالجاه والنسب (3) .
ح - إظهار القوة والنشاط أمام الأعداء (4) .
وغير ذلك من الوسائل المعنوية (5) .
ثالثا: العناية بجميع الوسائل المناسبة التي لا محذور فيها، ولا مخالفة شرعية، والعمل بجميع أسباب النجاة لا يقدح ذلك كله في التوكل على الله عز وجل؛ بل الأخذ بالأسباب من التوكل (6) .
رابعا: مراعاة القواعد والضوابط الشرعية أثناء استخدام الوسائل، ومراعاة أحوال من تستخدم معهم هذه الوسائل، فتوضع الوسيلة المناسبة للأحوال المناسبة، وذلك يكون بعد التأمل، والنظر، والتأني، وبذلك تنجح الوسائل بإذن الله عز وجل (7) .
_________
(1) انظر مثال ذلك: ص 954 من هذا البحث.
(2) انظر: ص 178.
(3) انظر من أمثلة ذلك: ص 86، 955.
(4) انظر من أمثلة ذلك: ص 589، 598، 767.
(5) وهذه الوسائل المعنوية أدوات يستخدمها الداعية، ويكون أثرها غير مباشر على المدعوين، ومما يوضح ذلك أن الداعية عندما ينام ليتقوى على قيام الليل والدعوة؛ وليؤثر في المدعوين بقوله، وحضور ذهنه، فقد استخدم وسيله من وسائل الدعوة، وهى من هذا الجانب شيء معنوي لعدم إحساس المدعوين بأثر ذلك.
(6) انظر أمثلة ذلك: ص 221، 241، 289، 361، 404، 492، 495، 580، 611.
(7) من أمثلة القواعد الدعوية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، واختيار الأعلى من المصالح، وارتكاب الأدنى من المفاسد عند التعارض. انظر: ص 275، 931، 975، 1037.(2/1120)
[المبحث الثاني المنهج الدعوي المتعلق بالأساليب]
المبحث الثاني: المنهج الدعوي المتعلق بالأساليب الأسلوب: الطريق والفن، يقال: هو على أسلوب من أساليب القوم:
أي على طريق من طرقهم، ويقال: أخذنا في أساليب من القول: أي فنون متنوعة (1) .
وحقيقة أساليب الدعوة: هي العلم الذي يتصل بكيفية مباشرة تبليغ الدعوة وإزالة العوائق عنه، وهي الطريقة التي يسلكها الداعية في تأليف كلامه، واختيار ألفاظه، وتأدية معانيه، ومقاصده من كلامه (2) وقيل: هي الطرق التي يسلكها الداعية في دعوته، أو كيفيات تطبيق مناهج الدعوة (3) فظهر أن أساليب الدعوة هي الطرق والكيفيات المؤثرة المقنعة التي يتم بها تبليغ الإسلام، والحث على تطبيقه، ولعل الفرق بين الأساليب والوسائل يظهر من خلال التعريفات السابقة؛ وهو أن الوسائل في الغالب تكون حسية أكثر منها معنوية، وأن الأساليب في الغالب تكون معنوية، فاتضح من ذلك أن الوسائل تنقل الأساليب وتحملها إلى المدعوين، والله أعلم.
وقد استخلصت على ضوء هذا التعريف الفوائد الدعوية المتعلقة بأساليب الدعوة على النحو الآتي:
م الدرس الصفحة 1 من أساليب الدعوة: السؤال والجواب 344، 643، 661، 880، 1004، 1029، 1025 2 الاستفهام الاستنكاري 68، 226، 426، 487، 591، 793، 959، 974 3 التوكيد 69، 87، 295، 325، 347، 415، 567، 715، 750، 784، 1026 4 التدرج في الدعوة 81، 229 5 من أساليب الدعوة: الوعد بالخير 250
_________
(1) انظر: لسان العرب لابن منظور: باب الباء فصل السين: 1 / 473، والمصباح المنير للفيومي: كتاب السين، مادة: سلب: 1 / 248، والقاموس المحيط للفيروزآبادي: باب الباء فصل السين: 125، ومختار الصحاح للرازي: مادة: سلب: 130، والمعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية: مادة سلب: 1 / 441.
(2) انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن لمحمد بن عبد العظيم الزرقانى: 2 / 199.
(3) المدخل إلى علم الدعوة للدكتور / محمد أبو الفتح البيانونى، ص 242.(2/1121)
6 - الترغيب 88، 92، 128، 135، 150، 161 165، 177، 183، 190، 194، 205، 219، 225، 235، 269، 273، 274، 279، 284، 294، 300، 303، 308، 332، 337، 355، 364، 413، 421، 425، 442، 509، 540، 544، 558، 647، 653، 668، 684، 689، 799، 1018، 1026 7 الترهيب 88، 132، 135، 154، 381، 411، 442، 506، 524، 545، 558، 657، 706، 716، 744، 793، 799، 808، 835، 890، 930، 936، 1018، 1020، 1077 8 التوكيد بالقسم 123، 140، 242، 295، 373، 541، 582، 715، 734، 793، 808، 919، 949، 956، 1008، 1053 9 التهنئة 113، 400 10 التبشير والبشارة والبشرى 113، 398، 514، 714، 728، 734، 891 11 السرور بما يسر المدعو 113 12 إخبار الداعية عن تقصيره تحذيرا لغيره 118 13 من أساليب الدعوة: ذكر العدد إجمالا ثم تفصيلا 132، 1048 14 التشبيه 160، 170، 191، 234، 334، 415، 503، 509، 539، 557، 586، 607، 634، 646، 895، 946، 1038 15 من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء 176، 293، 402، 530، 537، 714، 735 16 من أساليب الدعوة: تخويف الأعداء بالدعاء عليهم بالتعميم عند الحاجة 767 17 من أساليب الدعوة: الأسلوب الحكيم 187 18 من أساليب الدعوة: التمني لأفضل الأعمال 195 19 من أساليب الدعوة: الرجز والشعر المحمود 198، 292، 373، 750 20 من أساليب الدعوة: القصة 154، 206، 241، 708، 894، 944، 997 21 من أساليب الدعوة: الحوار 215، 325، 470، 687، 855، 1063 22 من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض عمله الصلح ليقتدى به 263 23 من أساليب الدعوة: تسلية المصاب بذكر الثواب 279 24 من أساليب الدعوة: رفع الصوت في الخطب والمواعظ 293 25 من أساليب الدعوة: استفسار الداعية المدعو ليختبر ما عنده 344 26 من أساليب الدعوة: النداء والإجابة لتأكيد الاهتمام 345 27 من سنة إلقاء العلم: الوقار والتثبت 347 28 من أساليب الدعوة: الثناء على من تبرع بالخير 406، 751 29 من أساليب الدعوة: تعظيم الأمر 415 30 من أساليب الدعوة: ذكر الصفات الحسنة للمدعوين 418 31 من أساليب الدعوة: الحكمة 426 32 أهمية الشفاعة الحسنة في الدعوة إلى الله عز وجل 470(2/1122)
33 - من أساليب الدعوة: استشهاد من حضر لتقوى الحجة 471 34 من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض مناقبه عند الحاجة انتصارا للحق 250، 373، 474، 749، 858 35 من أساليب الدعوة: الدعاء لمن فعل خيرا 477 36 من أساليب الدعوة: الثناء على الداعية لمخلص ليتأسى به 591 37 من أساليب الدعوة: التذكير بالقرآن والسنة في المجامع المشتركة وغيرها 623 38 من أساليب الدعوة: النداء بالأنساب والكنى 86، 87، 631 39 من أساليب الدعوة: الشدة على بعض أصحاب المعاصي بالقول والفعل عند الحاجة 682، 907، 1031 40 من أساليب الدعوة: قول الداعية عند الحاجة: أنا فلان وأنا ابن فلان 373، 750 41 من أساليب الدعوة: الجدل 741، 908، 1024، 1030 42 من أساليب الدعوة: التأليف بالثناء عند أمن الفتنة 751 43 من أساليب الدعوة: استمالة قلب المدعو بمخاطبته بلغته 829 44 من أساليب الدعوة: الدعاء بول العمر على طاعة الله عز وجل 829 45 من أساليب الدعوة: تطييب قلوب المدعوين وربطها بخالقها 182، 887، 944 46 من أساليب الدعوة: عدم التصريح بذكر اسم المخطئ 890 47 من أساليب الدعوة: تأديب بعض المدعوين بالقول 920 48 من أساليب الدعوة: التأليف بطيب الكلام 944، 956 49 من أساليب الدعوة: الدعاء للقدوات الحسنة 973 50 من أساليب الدعوة: ضرب الأمثال 1014 51 من أساليب الدعوة: الموعظة الحسنة 1050 52 أهمية إجابة السائل بأكثر مما سأل عند الحاجة 1058 53 من أساليب الدعوة: الشدة بالقول مع الأقارب عند الحاجة ولمصلحة الراجحة 1078 54 من أساليب الدعوة: الاستدلال بالأدلة الشرعية 473، 550، 701، 854، 876، 909، 914، 1053، 1063.
وعلى ضوء ما تقدم من الفوائد الدعوية في الجدول السابق يظهر أن المنهج الدعوي المتعلق بالأساليب على النحو الآتي:
أولا: الأساليب لها مكانة بالغة في الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأنها في الحقيقة هي الطرق المؤثرة المقنعة التي يتم بها تبليغ الناس الدين الإسلامي، والحض على تطبيقه، والعمل به.(2/1123)
ثانيا: الأساليب كثيرة ومتنوعة، وهذا يؤكد أهميتها، ويبين للدعاة إلى الله عز وجل أنه ينبغي اختيار الأساليب التي لا محذور فيها، ولا مخالفة شرعية، فيقدم المناسب منها لكل صنف من أصناف المدعوين، ويراعي الداعية في ذلك أحوال المدعو وما يناسب: عقيدته، ومكانته، ومجتمعه، وعقله، وزمانه، وعلمه، ولغته (1) .
ثالثا: أهم الأساليب هي التي استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته كثيرا، واعتنى بها عناية فائقة، ومن هذه الأساليب ما يأتي:
1 - أسلوب الترغيب والترهيب (2) .
2 - أسلوب التشبيه وضرب الأمثال (3) .
3 - أسلوب التأكيد بالقسم (4) .
4 - أسلوب السؤال والجواب (5) .
5 - أسلوب التوكيد بالتكرار (6) .
6 - أسلوب القصص (7) .
7 - أسلوب الحوار (8) .
8 - أسلوب الجدل (9) .
9 - أسلوب التأليف بالدعاء (10) .
_________
(1) انظر من أمثلة ذلك: ص 227، 427، 517، 523، 531، 626، 702، 778، 826، 881، 966، 974، 999، 1078. من هذا البحث.
(2) وقد ورد ذكر الترغيب في البحث أربعا وأربعين مرة، وأسلوب الترهيب أربعا وعشرين مرة، وهذا يدل على أهمية ذلك. انظر الجدول المتعلق بالأساليب ص 1122.
(3) ذكر في هذا البحث ثماني عشرة مرة. انظر: الجدول السابق: ص 1122، 1123.
(4) ذكر في هذا البحث ست عشرة مرة انظر: الجدول السابق ص 1122.
(5) ذكر سبع مرات. انظر: الجدول السابق ص 1121.
(6) ذكر إحدى عشرة مرة. انظر: الجدول السابق ص 1121.
(7) ذكر سبع مرات. انظر: الجدول السابق ص 1122.
(8) ذكر ست مرات. انظر: الجدول السابق ص 1122.
(9) ذكر أربع مرات. انظر: الجدول السابق ص 1123.
(10) ذكر سبع مرات. انظر الجدول السابق: ص 1122.(2/1124)