[المقدمة]
فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] (1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] (3) .
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
لا شك أن الله تعالى ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه وحده لا شريك له، كما قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] (4) .
ولما كانت العبادة لا يمكن أن تُعرف أحكامها على التفصيل، أرسل الله الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنزل عليهم الكتب؛ لبيان الأمر الذي خلِقَ من أجله الإِنس والجن؛ ولإيضاحه وتفصيله لهم حتى يعبدوا الله على بصيرة، فقاموا بواجبهم على الوجه الأكمل، عليهم الصلاة والسلام، قال الله- سبحانه وتعالى-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] (5) . ثم ختم الله تعالى الرسل
_________
(1) سورة آل عمران، الآية: 102.
(2) سورة النساء، الآية: 1.
(3) سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71.
(4) سورة الذاريات، الآية: 56.
(5) سورة البقرة، الآية: 213.(1/3)
بأفضلهم وإمامهم وسيدهم نبينا محمد بن عبد الله، عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده، ودعا إلى الله على بصيرة سرّا وجهرا، ليلا ونهارا. عملا بقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] (1) .
وهذه طريقته ومسلكه وسنته، يدعو إلى الله على بصيرة ويقين، وبرهان عقلي وشرعي (2) فصلوات الله وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار.
ورغبة في السير على طريق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله تعالى على بصيرة، والاهتداء بهديه، فقد شرع قسم الدعوة والاحتساب بكلية الدعوة والإِعلام في إعداد موسوعة دعوية لدراسة الأحاديث النبوية دراسة دعوية متكاملة تعتمد صحيح الإِمام البخاري أساسا ومنطلقا لها، وقد أحببت المشاركة في هذه الموسوعة المباركة، وكان نصيبي بفضل الله تعالى دراسة: " فقه الدعوة " في صحيح الإمام البخاري من أول كتاب الوصايا إلى نهاية كتاب الجزية والموادعة. وأسأل الله التوفيق والتسديد والإعانة.
أما التعريفات والحدود، وأهمية الموضوع، وتقسيم الدراسة فعلى النحو الآتي:
[أولا التعريفات والحدود]
* أولا: التعريفات والحدود فقه الدعوة: جملة تتكون من جزئين: الفقه، والدعوة.
أ- الفقه لغة: العلم بالشيء والفهم له، والفطنة، وغلب على علم الدين لسيادته، وشرفه، وفضله على سائر أنواع العلم (3) .
والفقه في الأصل: الفهم، يقال: أُوتي فلان فقها في الدين: أي فهما فيه (4) .
_________
(1) سورة يوسف، الآية: 108.
(2) انظر: تفسير القرآن العظيم للإمام أبي الفداء إسماعيل بن كثير 2 / 496.
(3) انظر: لسان العرب لجمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، 13 / 522، مادة " فقه "، والقاموس المحيط، للفيروزآبادي، ص 1614.
(4) انظر: لسان العرب، لابن منظور، مادة " فقه " 13 / 522.(1/4)
قال الله تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] (1) . وقال تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91] (2) . {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] (3) . {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7] (4) . {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] (5) .
ويقال: فَقِهَ الرجل يفقَهُ فِقْها: إذا عَلِمَ وفَهِمَ، وفَقُهَ: إذا صَارَ فَقيِها عالما (6) ويقال: فَقِه الأمرَ، فَقَها وفِقْها: أحسن إدراكه (7) والجمع فقهاء، وفَقهَهُ، كعلمه، فَهِمَهُ، وفقَهَه تَفقيها: علمه (8) .
ب- الفقه اصطلاحا: له عدة تعريفات يفسر بعضها بعضَا، منها:
* العلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفرعية، بالنظر والاستدلال (9) .
ج- الدعوة لغة: الطلب، يقال: دعا بالشيء طلب إحضاره، ودعا إلى الشيء: حث على قصده، ودعوت زيدا: ناديته وطلبتُ إقباله، ودعا فلانا: صاح به وناداه، ودعاه إلى الأمير: ساقه إليه، ويقال: دعاه إلى الصلاة، ودعاه إلى القتال، ودعاه إلى المذهب: حثه على اعتقاده وساقه إليه، وتداعى القوم: دعا بعضهم بعضا حتى يجتمعوا (10) .
د- الدعوة اصطلاحا: ورد لها عدة تعريفات يكمل بعضها بعضا، منها:
_________
(1) سورة التوبة، الآية: 122.
(2) سورة هود، الآية: 91.
(3) سورة النساء، الآية: 78.
(4) سورة المنافقون، الآية: 7.
(5) سورة الإسراء، الآية: 44.
(6) النهاية في غريب الحديث والأثر للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير، 3 / 465.
(7) انظر: المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية، ص 698، مادة " الفقه ".
(8) انظر: القاموس المحيط للفيروزآبادي ص 1614، ومختار الصحاح للرازي ص 213، والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، تأليف أحمد الفيومي ص 478.
(9) الإحكام في أصول الأحكام، لسيف الدين علي بن محمد الآمدي، 1 / 6 تعليق العلامة عبد الرزاق عفيفي.
(10) انظر: لسان العرب لابن منظور، 13 / 258، مادة " دعا "، والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص 1654، والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي 1 / 194، مادة: " دعوت "، ومفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص 314، مادة " دعا "، ومختار الصحاح للرازي ص 86 مادة " دعا "، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2 / 121 مادة " دعا "، والمعجم الوسيط لمجموعة من علماء اللغة 1 / 286، مادة " دعا ".(1/5)
1 - " الدعوة إلى الله عز وجل هي: الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والدعوة إلى الإِيمان: بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإِيمان بالقدر خيره وشره، والدعوة إلى أن يعبد العبد ربه كأنه يراه " (1) .
2 - " العلم الذي به تعرف كافة المحاولات الفنية المتعددة الرامية إلى تبليغ الناس الإسلام بما حوى: من عقيدة، وشريعة، وأخلاق " (2) .
هـ- " فقه الدعوة ": هو استنباط، وفهم تاريخ الدعوة، وأسبابها، وأركانها، وأساليبها، ووسائلها، وأهدافها، ونتائجها: استنباطا وفهما على ضوء الكتاب، والسنة، وفهم السلف الصالح، يُمَكِّن الدعاة إلى الله تعالى من عرضها بأحسن طريقة، وأكثر ملاءمة لمن توجه إليهم الدعوة في مختلف بيئاتهم، ومتباين ألسنتهم، ولغاتهم، ومتعدد أجناسهم (3) عملا بقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] (4) .
و أما التعريف بصحيح البخاري وترجمته فيأتي في المدخل إن شاء الله سبحانه وتعالى (5) .
[ثانيا أهمية الموضوع]
* ثانيا: أهمية الموضوع 1 - إن ربط الدعوة بالكتاب والسنة من أهم المهمات وأعظم القربات؛ لأن الله أمر بالرد إليهما عند التنازع والاختلاف، ولولا أن في كتاب الله تعالى وسنة
_________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 15 / 157، وانظر: 15 / 161.
(2) الدعوة الإسلامية: أصولها ووسائلها، للدكتور أحمد غلوش، ص 10.
(3) انظر: فقه الدعوة إلى الله، للدكتور علي عبد الحليم محمود، 1 / 18.
(4) سورة يوسف، الآية: 108.
(5) انظر: ص 19 و 27 من هذا البحث.(1/6)
رسوله صلى الله عليه وسلم، فصل النزاع لما أمر الله بالرد إليهما (1) . قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] (2) . وقال تعالى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] (3) . وقال عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] (4) . وقال سبحانه وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] (5) . وهذا كله يؤكد أهمية فقه الدعوة من الكتاب والسنة، والعناية بهما: فهما، وحفظا، وعملا، عقيدة، وأخلاقا، وتعليما للناس ودعوة، فهما المنبعان الصافيان، من أخذ بهما سعد وفاز في الدنيا والآخرة، ومن أعرض عنهما وعن هديهما خاب وخسر، وضل مسعاه وتشتت شمله؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله [وسنة نبيه] » (6) .
ولا شك أن معرفة فقه الدعوة في السنة المطهرة من دين الله (7) الحق الذي أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9] (8) .
2 - إن فقه الدعوة إلى الله تعالى فقه مبنيّ على فهم السنة المطهرة، - وذلك باستنباط أسس الدعوة وركائزها التي تقوم عليها- من أهم المهمات؛ لأن
_________
(1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي 1 / 89.
(2) سورة النساء، الآية: 59.
(3) سورة النساء، الآية: 65.
(4) سورة الأحزاب، الآية: 36.
(5) سورة النور، الآية: 63.
(6) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، 2 / 886، برقم 1218، وما بين المعكوفين للحاكم، 1 / 93، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ " كتاب الله وسنتي "، انظر: صحيح الترغيب والترهيب للألباني برقم 36.
(7) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، للعلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز 1 / 236.
(8) سورة الصف، الآية: 9.(1/7)
ذلك يدخل في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] (1) . فالدعوة يجب أن تكون على بصيرة، ويقين وبرهان عقلي وشرعي (2) ولا تكون كذلك إلا إذا كانت على علم وبيان من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والداعية لا يكون على بصيرة إلا إذا دعا إلى الله على بصيرة في ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه، وذلك بالعلم لا بالجهل.
الأمر الثاني: أن يكون على بصيرة في حال المدعو، فلا بد من معرفة حال المدعو؛ ليدعوه بالطريقة والكيفية التي تناسبه، وتكون أكثر فائدة له، وتأثيرا فيه.
الأمر الثالث: أن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة (3) .
3 - إن التفرق الذي يقع بين الدعاة ما وقع إلا لعدم فقه الدعوة من الكتاب والسنة وفق فهم السلف الصالح، فمن هنا تأتي أهمية العناية بفقه الدعوة في السنة النبوية.
4 - إن أصح الكتب بعد القرآن الكريم العزيز، الصحيحان: صحيح الإمام البخاري، وصحيح الإمام مسلم - رحمهما الله- (4) . ومن هذين الكتابين اخترت المشاركة في فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري رحمه الله؛ لأن (كتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة؛ وقد صح أن مسلما كان ممن يستفيد من البخاري ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث، قال الإمام النووي - رحمه الله: " وهذا الذي ذكرناه من ترجيح كتاب البخاري هو المذهب المختار الذي قاله الجماهير وأهل الإتقان والحذق والغوص على أسرار الحديث " (5) .
_________
(1) سورة يوسف، الآية: 108.
(2) انظر: تفسير القرآن العظيم للإمام أبي الفداء إسماعيل بن كثير 2 / 496.
(3) انظر: زاد الداعية إلى الله، للشيخ محمد بن صالح العثيمين ص 7.
(4) انظر: علوم الحديث، لابن الصلاح، ص 18، ومقدمة شرح النووي على صحيح مسلم، ص 14، والتقريب في فن أصول الحديث للنووي، ص 3، واختصار علوم الحديث، لأبي الفداء ابن كثير، مع شرحه الباعث الحثيث، لأحمد شاكر 1 / 103.
(5) مقدمة شرح صحيح مسلم للنووي ص 14.(1/8)
ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله عن ترجيح صحيح البخاري - رحمه الله على صحيح مسلم - رحمه الله: " والبخاري أرجح؛ لأنه اشترط في إخراجه الحديث في كتابه هذا: أن يكون الراوي قد عاصر شيخه وثبت عنده سماعه منه، ولم يشترط مسلم الثاني، بل اكتفى بمجرد المعاصرة. ومن هاهنا ينفصل النزاع في ترجيح تصحيح البخاري على مسلم كما هو قول الجمهور، خلافا لأبي علي النيسابوري شيخ الحاكم، وطائفة من علماء المغرب " (1) .
ومن هنا أيضا يكتسب هذا الموضوع أهمية أخرى، وهو ارتباطه بأصح كتب السنة، وأكثرها فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة.
وإدراكا لهذه الأهمية فقد شرع قسم الدعوة والاحتساب في الكلية في إعداد موسوعة دعوية متكاملة تعتمد هذا الكتاب أساسا ومنطلقا لها، وكان القسم المخصص لي من الصحيح، من أول كتاب الوصايا إلى نهاية كتاب الجزية والموادعة، ومجملها (192) حديثا (2) .
5 - تبرز أهمية دراستي لهذه الأحاديث النبوية دراسة دعوية في الأمور الآتية:
أ- اختصاص معظم أحاديث الدراسة في موضوع مهم من موضوعات الدعوة إلى الله تعالى، وهو الجهاد في سبيل الله تعالى، ومعلوم أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، وكتاب فرض الخمس، والجزية والموادعة، وقبل ذلك كله الوصايا.
ب- اشتملت أحاديث كتب الدراسة على فوائد دعوية مهمة: منها ما يتعلق بالداعية إلى الله، ومنها ما يتعلق بالمدعو، ومنها ما يتعلق بموضوع الدعوة، ومنها ما يتعلق بوسائل الدعوة وأساليبها، ومثال ذلك حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه «أنه بينما هو يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مقبلا من حنين علقت برسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة، فخطفت رداءه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاه
_________
(1) اختصار علوم الحديث، لابن كثير، مع شرحه الباعث الحثيث، لأحمد شاكر 1 / 103.
(2) انظر: تفصيلها في ص 34 من هذا البحث.(1/9)
نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا» (1) . فقد اشتمل هذا الحديث على أركان الدعوة كلها: فموضوع الدعوة فيه: دعوة الأمة إلى مكارم الأخلاق، وأصول الحِكَم، وفيه صفات الداعية: من الحلم، والكرم، والصبر، والصدق، والشجاعة، وفيه أدب المدعو وأنه ينبغي له أن يلتزم الأدب مع الداعي، وفيه من وسائل الدعوة القدوة الحسنة، وفيه أسلوب الرفق واللين، فقد اشتمل الحديث على جميع أركان الدعوة، وهكذا في أحاديث الموضوع الأخرى.
[ثالثا أهداف الدراسة]
* ثالثا: أهداف الدراسة 1 - تقديم دراسة تأصيلية في علم فقه الدعوة، وحديثها ومادتها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أمرنا الله بالاقتداء به، والذي قال عز وجل في شأنه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] (2) وذلك بدراسة أصح كتاب عنه دراسة دعوية؛ ليكون في متناول طلاب العلم والدعاة إلى الله سبحانه وتعالى.
2 - كشف الفوائد والمعارف والفقه الدعوي في الجزء المحدد للباحث من صحيح الإمام البخاري.
3 - تأصيل مبدأ الرجوع إلى النصوص الشرعية من الكتاب والسنة الصحيحة وفهم السلف الصالح عند كل قضية، وبخاصة في قضايا الدعوة التي تكاثر فيها رجوع الناس إلى آراءٍ فَرَّقَتْهُمْ شيعا.
4 - توفير وإيجاد المراجع المعتمدة على الأحاديث الصحيحة للدعاة وطلبة العلم وذلك بدراسة الأحاديث دراسة دعوية، واستنباط الفوائد في فقه الدعوة من أصح الأحاديث.
_________
(1) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الشجاعة في الحرب والجبن، 2 / 275 برقم 2821، ومسند الإمام أحمد 4 / 82.
(2) سورة النجم، الآيتان: 3-4.(1/10)
[رابعا أسباب اختيار الموضوع]
رابعا: أسباب اختيار الموضوع هذا وقد دعاني إلى اختيار هذا الموضوع، عدة أسباب، منها:
1 - فقه الدعوة إلى الله تعالى في صحيح الإمام البخاري بحاجة إلى من يبرزه في صورة ميسرة؛ ليستفيد منه الدعاة إلى الله تعالى؛ لأنه لم يحظ بعدُ بمؤلَّفٍ مستقل شامل يعالج الموضوع من جميع جوانبه، في دراسة علمية دقيقة متكاملة، فالموضوع لم يكتب فيه- حسب علمي- ما يفي بالغرض المنشود، وهو جدير بالبحث والعناية.
2 - الرغبة في الارتباط بكتب السنة النبوية المشرفة، وخصوصا منها كتاب الجامع الصحيح للإمام البخاري -رحمه الله - وذلك للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك عبادة لله تعالى وهداية منه، وتنفيذ لأمره، يقول تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] (1) .
3 - كثرة الفوائد والمعارف الظاهرة والغامضة في صحيح الإمام البخاري رحمه الله كما ذكر ذلك العلماء (2) .
4 - الإسهام والرغبة في المشاركة في خدمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودراستها دراسة دعوية؛ لتفيدني، وتفيد القائمين على الدعوة إلى الله تعالى في العصر الحاضر- إن شاء الله تعالى-.
5 - تقديم علاج لما قد يحدث بين الدعاة من خلاف وتنازع في بعض قضايا الدعوة ومناهجها. . وذلك من خلال الردِّ إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أحد الحَكَميْنِ اللذين أُمِرْنا بالرد إليهما عند التنازع والاختلاف، وهما كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول العلامة ابن سعدي رحمه الله: " وهذا هو الواجب عند التنازع والاختلاف، أن يُرد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولولا أن في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فصل النزاع، لما أمر الله بالرد إليهما (3) إذ
_________
(1) سورة النور، الآية: 54.
(2) انظر: شرح النووي على صحيح الإمام مسلم 1 / 14.
(3) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، 1 / 168.(1/11)
يقول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] (1) .
ولهذه الأهمية البالغة؛ ولهذه الأسباب وغيرها أحببت أن يكون موضوع رسالتي في درجة الدكتوراه- إن شاء الله تعالى- في " فقه الدعوة إلى الله " في صحيح الإمام البخاري رحمه الله من أول كتاب الوصايا إلى نهاية كتاب الجزية والموادعة، والله أسأل التوفيق والسداد.
[خامسا موضوع الدراسة]
* خامسا: موضوع الدراسة لا شك أن الدعوة قديمة قدم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ولكن التخصص في دراسة أصول الدعوة علم ناشئ، وما زال في مرحلة التأصيل، وأعظم كتاب بعد كتاب الله للتأصيل والتوثيق، هو صحيح الإمام البخاري رحمه الله لمنزلته العظيمة بين العلماء والدعاة، وهذا الكتاب ذكر فيه مؤلفه بعض ما صح عنده من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدرج فيه شيئا من فقهه من خلال عناوين كتبه وأبوابه.
ويستفاد من دراسة أحاديث هذا الكتاب دراسة دعوية، التأصيل والتوثيق واستنباط الفقه والأحكام والقواعد الدعوية، وعلاج الخلاف والنزاع الذي قد يقع بين بعض الدعاة إلى الله تعالى، مما يساعد على نجاح الدعوة، وتحقيق النتائج المرجوة منها، إن شاء الله تعالى.
[سادسا تساؤلات الدراسة]
* سادسا: تساؤلات الدراسة س 1- ما الفقه الدعوي في جهود البخاري رحمه الله في الصحيح؟
س 2- ما الفقه الدعوي في كتاب الوصايا؟
س 3- ما الفقه الدعوي في كتاب الجهاد والسير؟
س 4- ما الفقه الدعوي في كتاب فرض الخمس؟
_________
(1) سورة النساء، الآية: 59.(1/12)
س 5- ما الفقه الدعوي في كتاب الجزية والموادعة؟
س 6- ما المنهج الدعوي المستخلص من الدراسة المتعلق بالداعية؟
س 7- ما المنهج الدعوي المستخلص من الدراسة المتعلق بالمدعو؟
س 8- ما المنهج الدعوي المستخلص من الدراسة المتعلق بموضوع الدعوة؟
س 9- ما المنهج الدعوي المستخلص من الدراسة المتعلق بوسائل الدعوة وأساليبها؟
[سابعا منهج الدراسة]
* سابعا: منهج الدراسة تقوم هذه الدراسة على المنهج الاستدلالي الاستنباطي الذي عرف بأنه عملية عقلية منطقية ينتقل فيها الباحث من قضية واحدة، أو عدة قضايا إلى قضية أخرى، تستخلص منها مباشرة دون اللجوء إلى تجربة (1) .
وقد راعيت الأمور الآتية:
1 - عزوت الآيات القرآنية إلى سورها، وذكرت اسم السورة، ورقم الآية في الهامش.
2 - خرجت الأحاديث في شرح الفوائد من المصادر الأصلية، واقتصرت في حديث الدراسة على تخريج أطرافه في صحيح البخاري وتخريجه من صحيح مسلم إذا كان متفقا عليه. أما الزيادات فاكتفيت بتخريجها مع أصل الحديث، وأشرت إلى رقم أطرافها عند إيرادها.
3 - حرصت على الرجوع إلى المصادر الأصلية مباشرة، ورجعت إلى أكثر من مصدر في المسألة الواحدة ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وقد أشير عند الضرورة إلى بعض المراجع المتأخرة للاستئناس لا للاعتماد، وذلك قليل جدا.
4 - حاولت الاقتصار في الاستشهاد في شرح الفوائد على الحديث الصحيح أو الحسن.
5 - أشرت إلى من صحح الحديث أو حسنه من العلماء إذا كان في غير الصحيحين.
_________
(1) البحث العلمي ومناهجه النظرية- رؤية إسلامية- د / سعد الدين السيد صالح، ص 2، وانظر: ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، ص 149، وكتابة البحث العلمي صياغة جديدة، للأستاذ الدكتور عبد الوهاب بن إبراهيم، ص 28.(1/13)
6 - حرصت على كتابة الآيات بالرسم العثماني من مصحف المدينة النبوية مشكلة.
7 - ضبطت أحاديث الدراسة بالشكل الكامل.
8 - ذكرت كل طرف فيه زيادة دعوية مقتصرا على الزيادة التي فيها فائدة دعوية مستقلة على قدر الإمكان.
9 - ذكرت الفوائد الدعوية في كل حديث إجمالا، ثم تفصيلا.
10 - استخرجت الدروس والفوائد الدعوية التي اشتمل عليها كل حديث، مرتبة على حسب ورودها في الحديث، واعتنيت عناية خاصة بما يتعلق:
بالداعي، والمدعو، وموضوع الدعوة، وأساليبها، ووسائلها، وتاريخ الدعوة، وميادينها، وخصائصها، ودلائل النبوة، وآداب الجدل، مع المحافظة على الصبغة الدعوية في ذلك كله، ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
11 - إذا وردت الفائدة الدعوية لأول مرة حاولت إيضاحها وإذا جاءت الفائدة نفسها في حديث لاحق ذكرتها بإيجاز وأحلت إلى موضعها السابق.
12 - رقمت أحاديث الدراسة أرقاما متسلسلة، وجعلت رقم الحديث في صحيح البخاري على يسار الرقم المسلسل بين معكوفين، ثم كتبت ذلك في أعلا كل صفحة بخط صغير؛ ليسهل الرجوع إلى كل حديث عند الإحالة إليه في أسرع وقت ممكن.
13 - حرصت على أن تكون إحالاتي في أصل هذا البحث إلى أرقام أحاديث موضوع الدراسة مع الإشارة إلى رقم الدرس المحال إليه، ما استطعت إلى ذلك سبيلا، إلا في الإحالة إلى التخريج أو شرح الغريب فقد أضفت إلى ذلك رقم الصفحة.
14 - رتبت المصادر في الهامش على حسب تقدم تاريخ وفاة المؤلف إلا إذا نقلت من المصدر قدمته على غيره، وإذا شرحت غريب الحديث قدمت كتب اللغة وكتب تفسير غريب الحديث على غيرها.
15 - وضعت فهارس تفصيلية في آخر الآية.(1/14)
[ثامنا ضوابط الدراسة]
* ثامنا: ضوابط الدراسة التزمت في أثناء الدراسة بمراعاة الضوابط الآتية:
1 - اكتفيت بترجمة الصحابي راوي الحديث إلا إذا توقف فهم الحديث على ذكر ترجمة العَلَمِ في متن الحديث أو سنده، وركزت على الجانب الدعوي في سيرهم.
2 - شرحت المفردات الغريبة في الحديث في المتن، وبينت في الهامش - أثناء دراسة الفوائد الدعوية- الكلمات التي تحتاج إلى بيان.
3 - درست نص كل حديث دراسة دعوية وفق معنى فقه الدعوة المذكور في مقدمة هذا البحث.
4 - درست جميع أطراف الحديث الواردة في الصحيح عند أول ذكر له.
5 - وثقتُ ما توصلت إليه من دلالات دعوية وبنيت ذلك على شروح أهل العلم المعتبرين (1) .
وقد بذلت قصارى جهدي، ليخرج هذا البحث على الوجه المطلوب، فما كان من صواب وسداد فمن الواحد المنان، وما كان من خطأ أو تقصير فمني ومن الشيطان، والله بريء منه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأستغفر الله من ذنبي كله: هزلي، وجدي، وخطئي، وعمدي، وكل ذلك عندي، إنه سميع مجيب.
_________
(1) هذه الضوابط الخمسة وضعها مجلس الكلية وألزم بها؛ لأهميتها.(1/15)
[تقسيم الدراسة]
تقسيم الدراسة * المقدمة: وتتضمن الآتي:
* التعريفات.
* مدخل الموضوع وأهميته.
* أهداف الدراسة.
* أسباب اختيارها.
* تحديد موضوع الدراسة وتساؤلاتها.
* المنهج المستخدم في الدراسة.
* ضوابط الدراسة.
* مدخل الدراسة: (ويتضمن ترجمة موجزة للإمام البخاري رحمه الله، والتعريف بصحيحه، وكتب موضوع الدراسة في الصحيح، وأبوابها وأحاديثها وجهود البخاري في ذلك) .
* القسم الأول: الدراسة الدعوية للأحاديث الواردة في موضوع الدراسة:
* الفصل الأول: كتاب الوصايا.
* الفصل الثاني: كتاب الجهاد والسير.
* الفصل الثالث: كتاب فرض الخمس.
* الفصل الرابع: كتاب الجزية والموادعة.
* القسم الثاني: المنهج الدعوي المستخلص من الدراسة:
* الفصل الأول: المنهج الدعوي المتعلق بالداعية.
* الفصل الثاني: المنهج الدعوي المتعلق بالمدعو.
* الفصل الثالث: المنهج الدعوي المتعلق بموضوع الدعوة.
* الفصل الرابع: المنهج الدعوي المتعلق بالوسائل والأساليب.
* الخاتمة.
* المراجع.
* الفهارس.(1/16)
[الشكر والتقدير]
الشكر والتقدير الشكر والحمد والثناء الحسن لله الكريم الوهاب، الذي أسبغ علي النعمَ الظاهرةَ والباطنةَ، التي لا تُعدُ ولَا تُحصى، ووفَق عبده الفقيرَ إليه وحده للكتابة في هذا الموضوع، وهو سبحانه وتعالى، وتقدس، وتبارك، أهلُ الثناءِ والمجدِ، أحق ما قال العبد، وكلنا له عبد، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد، وفي مقامي هذا أمتثل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول: «لا يشكر اللهَ من لا يشكر الناس» (1) .
فأتقدم بالشكر والتقدير لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، على ما تقوم به من جهود عظيمة كبيرة واسعة جدا في خدمة الإسلام والمسلمين، فجزى الله القائمين عليها السابقين واللاحقين خير الجزاء، وضاعف لهم الأجر والمثوبة.
كما أشكر جميع المسؤولين السابقين واللاحقين في كلية الدعوة والإعلام على ما بذلوه من جهود طيبة في خدمة العلم وطلابه، وتخريج أفواج الدعاة إلى الله تعالى، فالله أسأل أن يجزيهم عني خير ما جزى أستاذا عن تلميذه، وأن يمدهم بعونه وتوفيقه خدمة للإسلام والمسلمين.
كما أتقدم بالشكر والدعاء لكل من وقف معي بجهده وعلمه، وساعدني في هذا البحث: سواء كان مشرفا سابقا أو لاحقا، أو أستاذا، أو شيخا فاضلا، أو زميلا ناصحا، أو مناقشا نافعا، أو مصححا متعاونا، وهم كثير جدا يزيدون على ثلاثين لا يتسع المقام
_________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، وانظر تخريجه ص 406.(1/17)
لذكر أسمائهم، منهم: جمع من أساتذة كلية الدعوة، وجمع من الزملاء في الموسوعة الحديثية في الكلية، والزملاء في وزارة الشؤون الإسلامية، وجمع من المشايخ، وطلاب العلم، وأمتثل فيهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: «من صُنعَ إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء» (1) .
فالله أسأل أن يجزيهم جميعا عني خير الجزاء، وأن يرفع منازلهم في الدنيا والآخرة، ويضاعف لهم الأجر ويجعل ما قدموه في هذه الرسالة من جهود مشكورة في موازين حسناتهم، يوم لا ينفع مال ولا بنون، وأن يعوضهم عن ذكر أسمائهم الفردوس الأعلى من الجنة، بعد أعمار طويلة معمورة بطاعة الله تعالى، وحسن العمل، وأن يحسن لي ولهم العاقبة في الدنيا والآخرة، فإنه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو مجيب الدعوات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه، نبينا وقدوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
_________
(1) أخرجه الترمذي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وانظر تخريجه ص 935.(1/18)
[مدخل الدراسة]
[أولا ترجمة موجزة للإمام البخاري رحمه الله]
مدخل الدراسة * أولا: ترجمة موجزة للإمام البخاري رحمه الله 1 - نسبه: هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَة (1) البخاري رحمه الله.
2 - مولده، ونشأته، وثناء العلماء عليه: ولد أبو عبد الله في شوال بعد صلاة الجمعة (2) لثلاث عشرة ليلة خلت منه من سنة أربع وتسعين ومائة، ببخارى. ومات أبوه وهو صغير، فنشأ في حجر أمه، وألهمه الله حفظ الحديث وهو في المكتب، وقرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشرة سنة حتى قيل: إنه يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سردا، وحج وعمره ثماني عشرة سنة وأقام بمكة يطلب بها الحديث (3) .
قال الحافظ ابن كثير عن البخاري - رحمهما الله-: " إمام أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه، والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه " (4) .
هذا وقد أثنى عليه علماء زمانه من شيوخه وأقرانه: فقال الإمام أحمد رحمه الله: " ما أخرجت خراسان مثله " (5) .
وقال عبد الله الدارمي - رحمه الله: " رأيت العلماء بالحرمين والعراقين فما رأيت فيهم أجمع من محمد بن إسماعيل البخاري " (6) .
وروى الإمام الذهبي رحمه الله بسنده إلى محمد بن أبي حاتم، قال: " قلت لأبي عبد الله: كيف كان بدء أمرك؟ قال: أُلهمتُ حفظ الحديث وأنا في الكتَّاب.
_________
(1) ومعناها الزراع- بباء موحدة مفتوحة، ثم راء ساكنة، ثم دال مهملة مكسورة، ثم زاي ساكنة ثم باء موحدة مفتوحة ثم هاء، انظر: تهذيب الأسماء واللغات، للحافظ أبي زكريا محيى الدين النووي، 1 / 67، وسير أعلام النبلاء، للحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، 12 / 391، والبداية والنهابة، للحافظ أبي الفداء ابن كثير، 11 / 24، وهدي الساري مقدمة فتح الباري، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ص 477.
(2) وقال ابن كثير: ليلة الجمعة. انظر: البداية والنهاية 11 / 25.
(3) البداية والنهاية لابن كثير 11 / 25.
(4) المرجع السابق: 11 / 24.
(5) المرجع السابق: 11 / 25.
(6) تهذيب التهذيب، للحافظ ابن حجر 9 / 45.(1/19)
فقلت: كم كان سنك؟ قال: عشر سنين، أو أقل. ثم خرجت من الكتَّاب بعد العشر، فجعلت أختلف إلى الداخليِّ وغيره. فقال يوما فيما كان يقرأ للناس: سفيان، عن أبي الزبير، عن إبراهيم، فقلت له: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل: فدخل فنظر فيه، ثم خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام؟ فقلت: هو الزبير بن عدي، عن إبراهيم، فأخذ القلم مني، وأحكم كتابه، وقال: صدقت. فقيل للبخاري: ابن كم كنت حين رددت عليه؟ قال: ابن إحدى عشرة سنة. فلما طعنت في ستِّ عشرة سنة. كنت قد حفظت كتب ابن المبارك، ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء، يعني أصحاب الرأي، ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة، فلما حججت، رجع أخي بها. وتخلفت في طلب الحديث " (1) .
3 - شيوخه: سمع الإمام البخاري من شيوخ لا يتسع المقام لذكرهم لكثرتهم، ويدل على كثرتهم ما قاله عنه ورَّاقه محمد بن أبي حاتم قال: (سمعته قبل موته بشهر يقول: " كتبتُ عن ألف وثمانين رجلا ليس فيهم إلا صاحب حديث، كانوا يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ") (2) .
وشيوخه ينحصرون في خمس طبقات: الطبقة الأولى: من حدَّثه عن التابعين مثل: محمد بن عبد الله الأنصاري حدَّثه عن حميد، والطبقة الثانية: من كان في عصر هؤلاء لكن لم يسمع من ثقات التابعين كآدم بن أبي إياس، الطبقة الثالثة: وهم من لم يلقَ التابعين بل أخذ عن كبار تبع الأتباع، كسليمان بن حرب، وهذه الطبقة قد شاركه مسلم في الأخذ عنهم. الطبقة الرابعة: رفقاؤه في الطلب ومن سمع قبله قليلا: كمحمد بن يحيى الذهلي؛ وإنما يخرج عن هذه الطبقة ما فاته عن مشايخه، أو ما لم يجده عند غيرهم. الطبقة الخامسة: قوم في عداد طلبته في السن والإِسناد، سمع منهم للفائدة: كعبد الله بن حماد الآملي، روى عنهم أشياء يسيرة؛ ولهذا قال رحمه الله: " لا يكون الرجل عالما حتى
_________
(1) سير أعلام النبلاء للذهبي، 12 / 393. وهدي الساري، لابن حجر العسقلاني، ص 478.
(2) سير أعلام النبلاء للذهبي، 12 / 393، وهدي الساري، لابن حجر ص 479.(1/20)
يحدث عمن هو فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه " (1) .
4 - رحلته وطلبه للعلم: قال رحمه الله: " حججت ورجع أخي بأمي وتخلَّفت في طلب الحديث، فلما طعنت في ثمان عشرة جعلت أصنف في قضايا الصحابة والتابعين، وأقاويلهم " ثم ارتحل بعد أن رجع من مكة إلى سائر مشايخ الحديث في البلدان التي أمكنته الرحلة إليها (2) .
قال محمد بن أبي حاتم الورَّاق: إنه إذا كان مع الإمام البخاري في سفر كان يراه يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة في كل ذلك يأخذ القداحة فيوري نارا، ويسرج ثم يخرج أحاديث فيعلم عليها (3) .
5 - حفظه وذكاؤه: قال جعفر بن محمد القطان: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: " كتبت عن ألف شيخ وأكثر، عن كل واحد منهم عشرة آلاف وأكثر، ما عندي حديثٌ إلا أذكر إسناده " (4) وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة: " ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من محمد بن إسماعيل " (5) .
وقال محمد بن حمدويه: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: " أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح " (6) .
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: " وقد ذكروا أنه كان ينظر في الكتاب مرة واحدة فيحفظه من نظرة واحدة، والأخبار عنه في ذلك كثيرة " (7) .
وقال أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ: " سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري، قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث،
_________
(1) انظر: هدي الساري ص 479.
(2) انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1 / 72، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 12 / 400، والبداية والنهاية لابن كثير، 11 / 25.
(3) انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1 / 75، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 12 / 400، والبداية والنهاية لابن كثير، 11 / 25، وهدي الساري لابن حجر، 486.
(4) انظر: سير أعلام النبلاء 12 / 407.
(5) تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1 / 70، وهدي الساري، لابن حجر، ص 485.
(6) تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1 / 68.
(7) البداية والنهاية: 11 / 25.(1/21)
فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها، وأسانيدها، وجعلوا متن هذا لإسناد هذا، وإسناد هذا لِمَتنِ هذا، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث، ليلقوها على البخاري في المجلس، فاجتمع الناس، وانتدب أحدهم، فسأل البخاري عن حديث من عشرته، فقال: لا أعرفه. وسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه، وكذلك حتى فرغ من عشرته. فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض، ويقولون: الرجل فهم. ومن كان لا يدري قضى على البخاري بالعجز، ثم انتدب آخر، ففعل كما فعل الأول. والبخاري يقول: لا أعرفه. ثم الثالث إلى تمام العشرة أنفس، وهو لا يزيدهم على قوله: لا أعرفه. فلما علم أنهم قد فرغوا، التفت إلى الأول منهم، فقال: أما حديثك الأول فكذا، والثاني كذا، والثالث كذا إلى العشرة، فردَّ كل متن إلى إسناده. وفعل بالآخرين مثل ذلك، فأقر له الناس بالحفظ. فكان ابن صاعد إذا ذكره يقول: الكبش النَّطَّاح (1) .
وقال عبد الله بن سعيد بن جعفر: " سمعت العلماء بالبصرة يقولون: ما في الدنيا مثل محمد بن إسماعيل في المعرفة والصلاح " (2) .
وقال مسلم بن الحجاج للبخاري: " لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك " (3) .
وقال ورّاق البخاري: " كان يركب إلى الرمي كثيرا، فما أعلم أني رأيته في طول ما صحبته أخطأ سهمه الهدف إلا مرتين، بل كان يصيب الهدف في كل ذلك، ولا يُسْبَق " (4) .
6 - عبادته وخشيته لله تعالى: قال مسبِّح بن سعيد: " كان محمد بن إسماعيل يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليالٍ بختمة " (5) .
_________
(1) انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي 12 / 408، 409. والبداية والنهاية لابن كثير، 11 / 25، وهدي الساري لابن حجر، ص 486.
(2) سير أعلام النبلاء للذهبي، 12 / 442 وهدي الساري لابن حجر ص 486.
(3) تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1 / 70، والبداية والنهاية لابن كثير، 11 / 25.
(4) سير أعلام النبلاء للذهبي، 12 / 444، وهدي الساري لابن حجر، ص 480.
(5) سير أعلام النبلاء للذهبي، 12 / 439.(1/22)
وقال مقسم بن سعد: " كان محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله إذا كان أول ليلة من شهر رمضان يجتمع إليه أصحابه، فيصلي بهم، ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أن يختم القرآن، وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند السحر في كل ثلاث ليالٍ، وكان يختم في النهار في كل يوم ختمة، ويكون ختمه عند الإِفطار كل ليلة، ويقول: عند كل ختمة دعوة مستجابة " (1) .
وقال محمد بن أبي حاتم الوراق: ". . كان أبو عبد الله يصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة، ويوتر منها بواحدة " (2) وكان رحمه الله يصلي ذات يوم أو ذات ليلة فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة، فلما قضى صلاته قال: انظروا أي شيء آذاني في صلاتي، فنظروا فإذا الزنبور قد ورّمه في سبعة عشر موضعا، ولم يقطع صلاته (3) وقد قيل: إن هذه الصلاة كانت التطوع بعد صلاة الظهر، وقيل له بعد أن فرغ من صلاته: كيف لم تخرج من الصلاة أول ما لسعك؟ قال: " كنت في سورةٍ فأحببت أن أتمها " (4) .
ومن شعره رحمه الله تعالى:
اغتنم في الفراغ فضل ركوع ... فعسى أن يكون موتك بغتة
كم صحيح رأيت من غير سقم ... ذهبت نفسه الصحيحة فلتة (5)
وقد قيل: إنه لما ألف الصحيح كان يصلي ركعتين عند كل ترجمة (6) يعني يستخير الله في وضعها وعدمه، وقال علي بن محمد بن منصور: سمعت أبي يقول: " كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري فرفع إنسان من لحيته قذاة وطرحها إلى الأرض. قال فرأيت محمد بن إسماعيل ينظر إليها وإلى الناس، فلما غفل الناس رأيته مد يده فرفع القذاة من الأرض فأدخلها في كمه فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها
_________
(1) هدي الساري لابن حجر، ص 481.
(2) المرجع السابق ص 481، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1 / 75، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 12 / 441.
(3) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 12 / 442، وهدي الساري لابن حجر، ص 480.
(4) سير أعلام النبلاء للذهبي، 12 / 442.
(5) ذكره ابن حجر في هدي الساري، ص 481، وعزاه إلى الحاكم في تاريخه.
(6) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 12 / 443، وهدي الساري لابن حجر، ص 489.(1/23)
وطرحها على الأرض، فكأنه صان المسجد عما تصان عنه لحيته " (1) .
7 - زهده: قال سليم بن مجاهد: " ما رأيت بعيني منذ ستين سنة أفقه ولا أورع، ولا أزهد في الدنيا من محمد بن إسماعيل " (2) .
وقال الحسين بن محمد السمرقندي: " كان محمد بن إسماعيل مخصوصا بثلاث خصال، مع ما كان فيه من الخصال المحمودة: كان قليل الكلام، وكان لا يطمع فيما عند الناس، وكان لا يشتغل بأمور الناس، كلُّ شُغلِهِ كان في العلم " (3) وذكر محمد بن العباس الفربري أن بعض أصحاب البخاري ضَيَّفه في بستانٍ له فلما جلسوا أعجب صاحب البستان بستانه؛ لأنه قد عمل مجالس فيه وأجرى الماء في أنهاره فقال: يا أبا عبد الله، كيف ترى؟ فقال: " هذه الحياةُ الدنيا " (4) .
8 - ورعه: تربّى على الورع؛ ولهذا جاء عن والده إسماعيل: أنه قال عند موته: " لا أعلم من مالي درهما من حرام، ولا درهما من شبهة " (5) وقد وَرِثَ البخاري من أبيه مالا جليلا (6) ومن عظم ورعه أنه كان يقول: " ما اغتبت أحدا قط منذ علمت أن الغيبة حرام " (7) وهذا يظهر في كلامه في الجرح والتعديل؛ فإن من تأمل ذلك علم ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يضعِّفه؛ فإنه كثيرا ما يقول: " منكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظر " ونحو هذا، وقَلَّ أن يقول: " كذّاب أو وضّاع "؛ وإنما يقول: " كَذّبَهُ فلان، رماه فلان، يعني بالكذب " (8) .
قال أبو عمر أحمد بن نصر الخفاف: " حدثنا محمد بن إسماعيل التقي النقي الذي لم أرَ مثله " (9) .
_________
(1) هدي الساري، لابن حجر، ص 481.
(2) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 12 / 449.
(3) المرجع السابق 12 / 448.
(4) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 12 / 445.
(5) هدي الساري لابن حجر، ص 479.
(6) انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي 12 / 447 وهدي الساري لابن حجر، ص 479.
(7) هدي الساري، لابن حجر، ص 480، وانظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي، 12 / 439، 441.
(8) انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي، 12 / 439 وهدي الساري، لابن حجر، ص 480.
(9) تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، 1 / 69، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، 12 / 436، 442.(1/24)
9 - كرمه: كان رحمه الله كريما جوادا؛ ولهذا قال محمد بن أبي حاتم: سمعته يقول: " كنت استغلُّ كُلَّ شهر خمسمائة درهم، فأنفقت كلَّ ذلك في طلب العلم " فقلت: كم بين من ينفق على هذا الوجه، وبين من كان خِلوا من المال، فجمع وكسب بالعلم، حتى اجتمع له. فقال أبو عبد الله (1) {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الشورى: 36] (2) وكان رحمه الله: قليل الأكل جدا، كثير الإِحسان إلى الطلبة، مفرط الكرم (3) وكان يتصدق بالكثير، يأخذ بيده صاحب الحاجة من أهل الحديث فيناوله المال الكثير من غير أن يشعر بذلك أحد (4) قال الإمام ابن كثير رحمه الله: " وكان له جدة، ومال جيد ينفق منه سرا وجهرا، وكان يكثر الصدقة بالليل والنهار. . . " (5) .
10 - تلاميذه وتصانيفه: أخذ العلم عن الإمام البخاري خلق كثير، ومما يدل على كثرة تلاميذه ما ذكر الفربري أنه سمع الجامع الصحيح من البخاري تسعون ألفا من تلاميذه، ويرى ابن حجر أنه سمع الصحيح من الإمام البخاري أكثر من ذلك ورووه عنه (6) " وكان يجتمع في مجلسه ببغداد أكثر من عشرين ألفا يأخذون عنه " (7) .
أما تصانيفه غير الجامع الصحيح فمنها: الأدب المفرد، ورفع اليدين في الصلاة، وبر الوالدين، والقراءة خلف الإمام، والتاريخ الكبير، والتاريخ الأوسط، والتاريخ الصغير، وخلق أفعال العباد، وكتاب الضعفاء، والجامع الكبير، والمسند الكبير، والتفسير الكبير، وكتاب الأشربة، وكتاب الهبة، وأسامي الصحابة، وكتاب المبسوط، وكتاب العلل، وكتاب الكنى، وكتاب الفوائد (8) .
_________
(1) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 12 / 449.
(2) سورة الشورى، الآية: 36.
(3) انظر: هدي الساري، لابن حجر، ص 481.
(4) انظر سير أعلام النبلاء، للذهبي، 12 / 450.
(5) البداية والنهاية 11 / 26.
(6) هدي الساري، لابن حجر، ص 491، وانظر: تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، 1 / 73.
(7) تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، 1 / 70، 73.
(8) هدي الساري لابن حجر، ص 492، وانظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي، 12 / 400، وقد طبع من هذه الكتب فيما أعلم غير الصحيح: الأدب المفرد، ورفع اليدين في الصلاة، والقراءة خلف الإِمام، والتاريخ الكبير، والتاريخ الصغير، وخلق أفعال العباد. انظر: سيرة الإمام البخاري، لعبد السلام المباركفوري، ص 146 - 155، والإمام البخاري وصحيحه الجامع، لأحمد فريد، ص 71-73.(1/25)
11 - محنة الإمام البخاري: دخل الإمام البخاري رحمه الله نيسابور سنة مائتين وخمسين فاجتمع الناس عنده، فحسده بعض شيوخ الوقت، فقال لأصحاب الحديث: إن محمد بن إسماعيل يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فلما حضر المجلس قام إليه رجل فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في اللفظ بالقرآن: مخلوق هو أو غير مخلوق؛ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه ثلاثا، فألح عليه، فقال البخاري: " كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة " (1) فشغب الرجل وقال: قد قال: لفظي بالقرآن مخلوق. وقال البخاري رحمه الله: " من زعم أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب؛ فإني لم أقله إلا أني قلت: أفعال العباد مخلوقة " (2) وبعد أن ظهر الحسد للبخاري رحمه الله في نيسابور خرج منها ورجع إلى وطنه لغلبة المخالفين.
ولما قدم البخاري إلى بخارى وقع الخلاف بينه وبين أميرها، وذلك أن الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى كتب إلى البخاري أن يحمل إليه كتاب الجامع والتاريخ؛ ليقرأه عليه، ويسمع منه، وقيل: ليقرأ على أولاده ويعقد لهم مجلسا لا يحضره غيرهم، فامتنع الإمام البخاري وقال: لا أخص أحدا، وبيَّن البخاري للأمير أن من أراد العلم فعليه أن يحضر في مجلسه، أو في داره؛ ليكون له عذر عند الله أنه لا يكتم العلم، فأمر الأمير بمن يتكلم فيه وفي مذهبه حتى أخرجوه من البلد؛ لأنه يظهر مذهب أهل الحديث، ويأتي إليه جماعة يظهرون شعار أهل الحديث من إفراد الإِقامة ورفع الأيدي في الصلاة وغير ذلك (3) ودعا البخاري على من أخرجه، فلم يمضِ شهر على الأمير حتى عزله الظاهرية وكان عاقبة أمره إلى الذل والحبس، وابتلي من أعانه على إخراج البخاري بأنواع البلايا (4) .
_________
(1) هدي الساري، لابن حجر، ص 490.
(2) انظر: المرجع السابق ص 491.
(3) انظر: هدي الساري، لابن حجر، ص 493.
(4) المرجع السابق ص 493، وانظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي، 12 / 465.(1/26)
12 - وفاته: استمر رحمه الله في طلب العلم، وتعليمه والتأليف فيه حتى توفاه الله عز وجل بمدينة (خرتنك) (1) ليلة السبت، ليلة الفطر عند صلاة العشاء، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر سنة ست وخمسين ومائتين. وعاش اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يوما (2) .
[ثانيا التعريف بصحيح الإمام البخاري رحمه الله]
* ثانيا: التعريف بصحيح الإمام البخاري رحمه الله 1 - اسم الكتاب: اشتهر- قديما وحديثا- في أشهر كتب الفقه والتفسير. وأكثر شروح الحديث، وسائر كتب الفنون الأخرى، وعلى ألسنة معظم الناس، وجمهرة العلماء باسم: (صحيح الإمام البخاري) .
ولكن اسم الكتاب الذي وضعه له مؤلفه، هو: (الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه) (3) .
2 - موضوع الكتاب: قال ابن حجر رحمه الله في مقدمته لفتح الباري، عن كتاب صحيح الإمام البخاري: " إنه التزم فيه الصحة، وأنه لا يورد فيه إلا حديثا صحيحا، هذا أصل موضوعه، وهو مستفاد من تسميته إياه (الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه) ، ومما نقلناهُ عنه من رواية الأئمة عنه صريحا، ثم رأى أن لا يخليه من الفوائد الفقهية، والنكت الحكمية فاستخرج بفهمه من المتون معانيَ كثيرة فرقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها، واعتنى فيه بآيات الأحكام فانتزع منها الدلالات البديعة، وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الوسيعة " (4) .
3 - سبب تصنيف الكتاب: لم تكن آثار النبي صلى الله عليه وسلم وأخباره مدونة في عصر الصحابة وكبار التابعين، وذلك لأمرين:
_________
(1) قرية من قرى سمرقند، انظر: هدي الساري، لابن حجر، ص 493.
(2) انظر: تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، 1 / 67. وسير أعلام النبلاء، للذهبي، 12 / 466- 468، والبداية والنهاية، لابن كثير 11 / 27، وهدي الساري مقدمة فتح الباري، لابن حجر، ص 493.
(3) هدي الساري، للحافظ ابن حجر ص 8، وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه " 1 / 73.
(4) هدي الساري، لابن حجر، ص 8، وانظر: تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، 1 / 73.(1/27)
أ- إنهم كانوا في ابتداء الأمر قد نهوا عن الكتابة خشية أن يختلط بعض الأخبار بالقرآن الكريم. ب- سعة حفظهم وقوته؛ ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة، ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار لما انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار، وغيرهم، فألف عدد من علماء الإسلام مصنفات في أحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وكانت تشمل الأحاديث الصحيحة والحسنة، والضعيفة، فحرك ذلك همة البخاري لجمع الحديث الصحيح، وقوَّى عزيمته على ذلك ما سمعه من أستاذه ابن راهويه، قال الإمام البخاري: كنا عند إسحاق بن راهويه فقال: " لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الجامع الصحيح (1) .
4 - مكانة الصحيح: قال الإمام النووي رحمه الله: " اتفق العلماء- رحمهم الله تعالى- على أن أصحَّ الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان: البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما، وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة، وقد صح أن مسلما كان ممن يستفيد من البخاري، ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث، وهذا الذي ذكرناه من ترجيح كتاب البخاري هو المذهب المختار الذي قاله الجمهور وأهل الإتقان والحذق والغوص على أسرار الحديث " (2) . وكان يصلي ركعتي الاستخارة قبل أن يكتب كل حديث في الصحيح، كما كان يصليهما قبل أن يضع كل ترجمة. وقال: " صنعت الجامع من ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله " (3) وقال: " لم أخرج في الكتاب إلا صحيحا وما تركت من الصحيح أكثر " (4) .
_________
(1) انظر: تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، 1 / 74، وهدي الساري، لابن حجر، ص 6.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 1 / 14. وانظر: علوم الحديث، لابن الصلاح، ص 18، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1 / 74، وهدي الساري لابن حجر، ص 11.
(3) هدي الساري ص 489، وانظر: تهذيب الأسماء واللغات 1 / 74.
(4) سير أعلام النبلاء للذهبي، 12 / 471.(1/28)
وقد بقي الإمام البخاري في تصنيف كتابه وتهذيبه ست عشرة سنة؛ لأنه جمعه من ألوف مؤلفة من الأحاديث الصحيحة (1) .
5 - شرط البخاري في صحيحه: شرط البخاري في جامعه أن يكون الراوي قد عاصر شيخه، وثبت عنده سماعه منه، ولم يشترط مسلم الثاني، بل اكتفى بالمعاصرة (2) وشرط البخاري أيضا " أن يخرج الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، ويكون إسناده متصلا غير مقطوع " (3) .
6 - عدد أحاديثه: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في مقدمة كتابه فتح الباري: قال الشيخ تقي الدين ابن الصلاح فيما رويناه عنه في علوم الحديث، عدد أحاديث صحيح البخاري (7275) سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثا بالأحاديث المكررة، قال: وقيل: إنها بإسقاط المكرر: (4000) أربعة آلاف. هكذا أطلق ابن الصلاح وتبعه الشيخ محيي الدين النووي (4) .
ولكن الذي حرره ابن حجر رحمه الله عن عدد أحاديث صحيح الإمام البخاري رحمه الله أن المتون الموصولة بلا تكرار ألفا حديث وستمائة حديث وحديثان (2602) . ومن المتون المعلقة المرفوعة التي لم يصلها في موضع آخر من الجامع المذكور (159) مائة وتسعة وخمسون حديثا فجميع ذلك: ألفا حديث وسبعمائة وواحد وستون حديثا (2761) (5) .
ثم ذكر رحمه الله أن جملة ما في الكتاب من التعاليق: ألف وثلاثمائة وواحد وأربعون حديثا (1341) وأكثرها مكرر مخرج في الكتاب، أصول متونه، وليس فيه من المتون التي لم تخرج في الكتاب ولو من طريق أخرى إلا مائة
_________
(1) انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي، 1 / 14.
(2) اختصار علوم الحديث لابن كثير، المطبوع مع شرحه: الباعث الحثيث، لأحمد محمد شاكر، 1 / 103.
(3) هدي الساري مقدمة صحيح البخاري، لابن حجر ص 9.
(4) المرجع السابق، ص 465، وانظر: تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، 1 / 75، والباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، لابن كثير، شرح أحمد محمد شاكر، 1 / 106.
(5) هدي الساري، ص 477.(1/29)
وستون حديثا (160) . إلى أن قال: " وجملة ما فيه من المتابعات والتنبيه على اختلاف الروايات: ثلاثمائة وواحد وأربعون حديثا " (341) (1) .
ثم قال رحمه الله: " فجميع ما في الكتاب على هذا بالمكرر، تسعة آلاف واثنان وثمانون حديثا (9082) . وهذه العدة خارجة عن الموقوفات على الصحابة، والمقطوعات عن التابعين فمن بعدهم. وقد استوعبت وصل جميع ذلك في كتاب (تغليق التعليق) . وهذا الذي حررته من عدة ما في صحيح البخاري تحرير بالغ فتح الله به لا أعلم من تقدمني إليه، وأنا مقر بعدم العصمة من السهو والخطأ، والله المستعان " (2) .
ثم ذكر رحمه الله سبب هذا التفاوت فيما حرره من عدد أحاديث الصحيح، وما حرره غيره كابن الصلاح وغيره، فقال: " ما عرفت من أين أتى الوهم في ذلك- أي العدد- ثم تأولته على أنه يحتمل أن يكون العادُّ الأول الذي قلدوه في ذلك إذا رأى الحديث مطولا في موضع ومختصرا في موضع آخر يظن أن المختصر غير المطول إما لبعد العهد به، أو لقلة المعرفة بالصناعة، ففي الكتاب من هذا النمط شيء كثير. وحينئذ يتبيَّن السبب في تفاوت ما بين العددين ". (3) .
7 - فوائد تقطيع البخاري للحديث، واختصاره، وإعادته في الأبواب؛ وتكراره: يذكر البخاري رحمه الله الحديث في مواضع، ويستدل به في كل باب بإسناد آخر، ويستخرج منه بحسن استنباطه وغزارة فقهه معنى يقتضيه الباب الذي أخرجه فيه (4) وقلما يورد حديثا في موضعين بإسناد واحد، ولفظ واحد، وإنما يورده من طريق أخرى لمعانٍ وفوائد، منها:
* يخرج الحديث عن صحابي ثم يورده عن صحابي آخر، ليخرج الحديث من الغرابة.
_________
(1) هدي الساري، لابن حجر، ص 469.
(2) المرجع السابق، ص 469.
(3) المرجع السابق، ص 477.
(4) انظر: الكفاية من علم الرواية، للخطيب البغدادي، ص 294.(1/30)
* صحح أحاديث على هذه القاعدة يشتمل كل حديث منها على معانٍ متغايرة، فيورده في كل باب من طريق غير الطريق الأولى.
* أحاديث يرويها بعضهم تامة وبعضهم مختصرة فيوردها كما جاءت، ليزيل الشبهة عن ناقليها.
* الرواة ربما اختلفت عباراتهم، فحدَّث راوٍ بحديث فيه كلمة تحتمل معنى، وحدَّث به آخر، فعبَّر عن تلك الكلمة بعينها بعبارة أخرى تحتمل معنى آخر، فيورده بطرقه إذا صحت على شرطه، ويفرد لكل لفظة بابا مفردا.
* أحاديث تعارض فيها الوصل والإِرسال، ورجح عندهُ الوصل فاعتمده، وأورد الإرسال منبها على أنه لا تأثير له عنده في الوصل.
* أحاديث تعارض فيها الوقف والرفع، والحكم فيها كذلك.
* أحاديث زاد فيها بعض الرواة رجلا في الإِسناد، ونقصه بعضهم، فيوردها على الوجهين.
* ربما أورد حديثا عنعنه رَاوِيهِ، فيورده من طريق أخرى مصرحا فيها بالسماع على ما عُرِفَ من طريقته في اشتراط ثبوت اللقاء في المعنعن، فهذا جميعه فيما يتعلق بإعادة المتن الواحد في موضع آخر، أو أكثر.
أما تقطيعه للأحاديث في الأبواب تارة، واقتصاره منه على بعضه أخرى، فذلك؛ لأنه إن كان المتن قصيرا، أو مرتبطا بعضه ببعض، وقد اشتمل على حكمين فصاعدا؛ فإنه يعيده بحسب ذلك مراعيا مع ذلك عدم إخلائه من فائدة حديثية، وهي إيراده له عن شيخ سوى الشيخ الذي أخرجه عنه، ويستفاد من ذلك تكثير الطرق لذلك الحديث، وربما ضاق عليه مخرج الحديث، حيث لا يكون له إلا طريق واحدة، فيتصرف حينئذٍ فيه، فيورده في موضع موصولا وفي موضع معلقا، ويورده تارة تاما وتارة مقتصرا على طرفه الذي يحتاج إليه ذلك الباب، فإن كان المتن مشتملا على جملٍ متعددة لا تعلق لإحداها بالأخرى، فإنه يخرج كل جملة منها في باب مستقل فِرارا من التطويل،(1/31)
وربما نشط فساقه بتمامه، فهذا كله في التقطيع (1) .
ويتضح من ذلك أن البخاري رحمه الله لا يتعمد أن يخرج في كتابه حديثا معادا بجميع إسناده ومتنه، وإن وقع له شيء من ذلك فعن غير قصد (2) .
8 - فوائد تراجم الأبواب في صحيح البخاري وحِكَمها: مما جعل صحيح البخاري مقدما على غيره من كتب الحديث ما ضمَّنه أبوابه من التراجم التي تحار فيها الأفكار وأدهشت العقول والأبصار (3) .
وضابط بيان أنواع التراجم في صحيح البخاري ما بينه الحافظ ابن حجر رحمه الله من أن التراجم فيه ظاهرة وخفية، أما الظاهرة فهي أن تكون الترجمة دالة بالمطابقة لما يورد في ضمنها، وإنما فائدتها الإعلام بما ورد في ذلك الباب من غير اعتبار لمقدار تلك الفائدة، كأن يقول: هذا الباب الذي فيه كذا وكذا، أو باب ذكر الدليل على الحكم الفلاني مثلا، وقد تكون الترجمة بلفظ المترجم له، أو بعضه، أو معناه، والترجمة هنا: بيان لتأويل الحديث نائبة مناب قول الفقيه مثلا: المراد بهذا الحديث العام الخصوص، أو بهذا الحديث الخاص العموم، إشعارا بالقياس؛ لوجود العلة الجامعة، أو أن ذلك الخاص المراد به هو أعم مما يدل عليه ظاهره بطريق الأعلى أو الأدنى، ويأتي في المطلق والمقيد مثل ذلك، وكذلك في شرح المشكل، وتفسير الغامض، وتأويل الظاهر، وتفصيل المجمل، وهذا الموضع هو معظم ما يشكل من تراجم هذا الصحيح؛ ولهذا اشتهر قول جمع من أهل العلم؛ " فقه البخاري في تراجمه " وأكثر ما يفعل البخاري ذلك إذا لم يجد حديثا على شرطه في الباب ويستنبط الفقه منه، وقد يفعل ذلك لشحذ الأذهان. وكثيرا ما يترجم بلفظ الاستفهام كقوله: باب هل يكون كذا أو من قال: كذا ونحو ذلك، وذلك حيث لا يتَّجِهُ له الجزم بأحد الاحتمالين، وغرضه بيان هل يثبت ذلك الحكم أو لم يثبت، فيترجم على الحكم ومراده، وما يفسر به بعد من إثباته أو نفيه، أو أنه محتمل
_________
(1) انظر: هدي الساري لابن حجر، ص 15.
(2) انظر: المرجع السابق ص 16 و 17.
(3) انظر: المرجع السابق ص 13.(1/32)
لهما. وكثيرا ما يترجم بأمر ظاهره قليل الجدوى لكنه إذا حققه المتأمل أجدى كقوله: " باب قول الرجل ما صلينا " فإنه أشار به إلى الرد على من كره ذلك. وكثيرا ما يترجم بأمر مختص ببعض الوقائع لا يظهر في بادئ الرأي كقوله: " باب استياك الإمام بحضرة رعيته " فإنه لما كان الاستياك قد يظن أنه من أفعال المهنة، فلعل بعض الناس يتوهَّمُ أن إخفاءه أولى مراعاة للمروءة، فلما وقع في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استاك بحضرة الناس، دل على أنه من باب التطيب لا من الباب الآخر. وكثيرا ما يترجم بلفظٍ يومئ إلى معنى حديث لم يصح على شرطه، أو يأتي بالحديث الذي لم يصح على شرطه صريحا في الترجمة، ويورد في الباب ما يؤيد معناه تارة بأمر ظاهر، وتارة بأمر خفي، وربما اكتفى بلفظ الترجمة التي هي لفظ حديث لم يصح على شرطه، وأورد معها أثرا أو آية، فكأنه يقول: لم يصح في الباب شيء على شرطي. وغير ذلك من الفوائد والحكم التي لا تحصى (1) وقد اعتنى بعض العلماء فجمع أربعمائة ترجمة وتكلم عليها كلاما نافعا مفيدا (2) وزاد بعضهم أكثر من ذلك (3) .
_________
(1) انظر: هدي الساري ص 13، 14.
(2) وهو العلامة ناصر الدين أحمد بن المنير خطيب الإسكندرية (620-683) في كتابه: " المتواري على تراجم البخاري ". انظر الكتاب المذكور ص 33- 433.
(3) وهو القاضي بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة (ت 733 هـ) فقد لخص كتاب ابن منير المذكور وزاد على ما فيه أشياء مفيدة، وسماه " تراجم البخاري ". انظر ص 98- 282 من الكتاب المذكور.(1/33)
[ثالثا التعريف بكتب موضوع الدراسة وعدد أحاديثها وجهود البخاري]
[عدد أحاديث هذا القسم وأسماء كتبه]
ثالثا: التعريف بكتب موضوع الدراسة وعدد أحاديثها وجهود البخاري فيها من أول كتاب الوصايا إلى نهاية كتاب الجزية والموادعة: 1 - عدد أحاديث هذا القسم, وأسماء كتبه, وأرقامها تظهر من خلال الجدول الآتي رقم الكتاب اسم الكتاب عدد الأحاديث غير المكررة (موضوع الدراسة) عدد الأحاديث المكررة مجموع الأحاديث المكررة وغير المكررة 55 الوصايا 17 27 44 56 الجهاد والسير 129 180 309 57 فرض الخمس 31 34 65 58 الجزية والموادعة 15 20 35 الإجمالي 192 261 453
ومجموع أحاديث هذه الدراسة (192) حديثا تتضح من خلال الجدول الآتي في الصفحات الآتية:(1/34)
[أرقام أحاديث موضوع الدراسة]
2 - أرقام أحاديث موضوع الدراسة الرقم المسلسل رقم الحديث غير المكرر في صحيح البخاري اسم الكتاب 55 - كتاب الوصايا 1 2738
2 - 2739
3 - 2740
4 - 2741
5 - 2743
6 - 2747
7 - 2753
8 - 2756
9 - 2757
10 - 2759
11 - 2761
12 - 2766
13 - 2767
14 - 2768
15 - 2776
16 - 2778
17 - 2780
56 - كتاب الجهاد والسير 18 2785
19 - 2786
20 - 2788
21 - 2789
22 - 2790(1/35)
الرقم المسلسل رقم الحديث غير المكرر في صحيح البخاري اسم الكتاب 23 2792
24 - 2793
25 - 2794
26 - 2795
27 - 2802
28 - 2805
29 - 2807
30 - 2808
31 - 2809
32 - 2815
33 - 2818
34 - 2819
35 - 2821
36 - 2822
37 - 2823
38 - 2824
39 - 2826
40 - 2827
41 - 2828
42 - 2830
43 - 2831
44 - 2832
45 - 2834
46 - 2836
47 - 2838(1/36)
الرقم المسلسل رقم الحديث غير المكرر في صحيح البخاري اسم الكتاب 48 2840
49 - 2843
50 - 2844
51 - 2845
52 - 2846
53 - 2849
54 - 2850
55 - 2851
56 - 2853
57 - 2855
58 - 2856
59 - 2859
60 - 2863
61 - 2864
62 - 2871
63 - 2880
64 - 2881
65 - 2882
66 - 2884
67 - 2885
68 - 2886
69 - 2888
70 - 2890
71 - 2896
72 - 2897(1/37)
الرقم المسلسل رقم الحديث غير المكرر في صحيح البخاري اسم الكتاب 73 2898
74 - 2899
75 - 2900
76 - 2901
77 - 2904
78 - 2905
79 - 2909
80 - 2910
81 - 2915
82 - 2919
83 - 2925
84 - 2926
85 - 2927
86 - 2928
87 - 2931
88 - 2933
89 - 2935
90 - 2936
91 - 2937
92 - 2942
93 - 2946
94 - 2954
95 - 2955
96 - 2957
97 - 2958(1/38)
الرقم المسلسل رقم الحديث غير المكرر في صحيح البخاري اسم الكتاب 98 2959
99 - 2960
100 - 2962
101 - 2963
102 - 2964
103 - 2974
104 - 2975
105 - 2976
106 - 2977
107 - 2979
108 - 2987
109 - 2990
110 - 2992
111 - 2993
112 - 2996
113 - 2998
114 - 3004
115 - 3005
116 - 3007
117 - 3010
118 - 3012
119 - 3014
120 - 3017
121 - 3019
122 - 3020(1/39)
الرقم المسلسل رقم الحديث غير المكرر في صحيح البخاري اسم الكتاب 123 3022
124 - 3026
125 - 3027
126 - 3029
127 - 3030
128 - 3035
129 - 3039
130 - 3041
131 - 3043
132 - 3045
133 - 3046
134 - 3051
135 - 3057
136 - 3059
137 - 3060
138 - 3062
139 - 3065
140 - 3067
141 - 3070
142 - 3071
143 - 3074
144 - 3080
145 - 3082
146 - 3083(1/40)
الرقم المسلسل رقم الحديث غير المكرر في صحيح البخاري اسم الكتاب 57 - كتاب فرض الخمس 147 3092
148 - 3093
149 - 3097
150 - 3104
151 - 3107
152 - 3108
153 - 3109
154 - 3111
155 - 3113
156 - 3114
157 - 3117
158 - 3118
159 - 3121
160 - 3124
161 - 3129
162 - 3130
163 - 3133
164 - 3134
165 - 3135
166 - 3136
167 - 3138
168 - 3139
169 - 3140
170 - 3141(1/41)
الرقم المسلسل رقم الحديث غير المكرر في صحيح البخاري اسم الكتاب 171 3146
172 - 3149
173 - 3150
174 - 3151
175 - 3153
176 - 3154
177 - 3155
58 - كتاب الجزية والموادعة 178 3156
179 - 3157
180 - 3158
181 - 3159
182 - 3160
183 - 3166
184 - 3167
185 - 3169
186 - 3175
187 - 3176
188 - 3180
189 - 3186
190 - 3186
191 - 3187
192 - 3188(1/42)
[جهود الإمام البخاري رحمه الله]
3 - جهود الإمام البخاري رحمه الله في ذكر مناسبة ترتيب كتب الدراسة وأبوابها رتب الإمام البخاري رحمه الله هذه الكتب، وجميع كتب الصحيح، وأبوابها وأحاديثها، ترتيبا رائعا، واعتنى بذلك عناية فائقة دقيقة فاق فيها جميع أهل التصنيف، وظهر فيها فقهه وعلمه، وذلك في كتاب الصحيح من أوله إلى آخره، أما كتب موضوع الدراسة: الوصايا، والجهاد، وفرض الخمس، والجزية والموادعة، فقد كان ترتيبه لها على النحو الآتي:
لما كانت الشروط قد تكون في الحياة وبعد الوفاة، ترجم الإمام البخاري رحمه الله: كتاب الوصايا، فلما انتهى ما يتعلق بالمعاملات مع الخالق، ثم ما يتعلق بالمعاملات مع الخلق، أردفها بمعاملة جامعة بين معاملة الخالق وفيها نوع اكتساب، فترجم رحمه الله: كتاب الجهاد. إذ به يحصل إعلاء كلمة الله تعالى، وإذلال الكفار بقتلهم، واسترقاق: نسائهم، وصبيانهم، وعبيدهم، وغنيمة أموالهم، وبدأ بفضل الجهاد، ثم ذكر ما يقتضي أن المجاهد ينبغي أن يعد نفسه في القتلى فترجم باب: التحنط عند القتال، وقريب منه: من ذهب ليأتي بخبر العدو، وهو: الطليعة. وكان يحتاج إلى ركوب الخيل، ثم ذكر من الحيوان ما له خصوصية، وهو: بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، وناقته.
وكان الجهاد في الغالب للرجال، وقد يكون للنساء فترجم: أحوال النساء في الجهاد. وذكر باقي ما يتعلق بالجهاد، ومنها: آلات الحرب وهيئتها، والدعاء قبل القتال، وكل ذلك من آثار بعثته العامة فترجم: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وكان عزم الإمام على الناس في الجهاد إنما هو بحسب الطاقة فترجم: عزم الإِمام على الناس فيما يطيقون، وتوابع ذلك.
وكانت الاستعانة في الجهاد تكون بجُعل أو بغير جعل، فترجم: الجعائل. وكان الإمام ينبغي أن يكون أمام القوم، فترجم: المبادرة عند الفزع. وكانت المبادرة لا تمنع التوكل ولا سيما في حق من نصر بالرعب، فذكره وذكر مبادرته على أن تعاطي الأسباب لا يقدح في التوكل، فترجم: حمل الزاد في الغزو، ثم ذكر آداب السفر. وكان القادمون من الجهاد قد تكون معهم الغنيمة(1/43)
فترجم: كتاب فرض الخمس.
وكان ما يؤخذ من الكفار: تارة يكون بالحرب، وتارة بالمصالحة، فترجم رحمه الله كتاب الجزية والموادعة، وأحوال أهل الذمة، ثم ذكر تراجم تتعلق بالموادعة، والعهد، والحذر من الغدر (1) .
وقد ظهرت جهود البخاري رحمه الله في الفقرات السابقة: من سبب تصنيفه للكتاب، ومكانة الصحيح عند أهل العلم، وشرط البخاري رحمه الله في صحيحه، وعدد أحاديثه، وفوائد تقطيع الحديث واختصاره، وإعادته في الأبواب بفوائد جديدة، وفوائد تراجم الأبواب في الصحيح، ومناسبة الكتب والأبواب. رحمه الله ورضي عنه.
[نسخة الصحيح المعتمدة في الدراسة]
4 - نسخة الصحيح المعتمدة في الدراسة النسخة المعتمدة في هذه الدراسة هي التي طُبعت عام 1414 هـ، بدار الفكر، ببيروت، والتي كُتب عليها أنها طبعة محققة على عدة نسخ، وعلى نسخة فتح الباري (التي حقق أصولها وأجازها الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله) (2) .
[القسم الأول الدراسة الدعوية للأحاديث الواردة في موضوع الدراسة]
[الفصل الأول كتاب الوصايا]
[باب الوصايا وقول النبي صلى الله عليه وسلم وصية الرجل مكتوبة عنده]
[حديث ما حق امرئ مسلم له شئ يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة] عنده
_________
(1) انظر: هدي الساري مقدمة فتح الباري لابن حجر العسقلاني ص 471.
(2) هكذا كُتِبَ على غلاف الكتاب في الطبعة المذكورة، والصحيح أن سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله وأمد في عمره؛ لنفع المسلمين، لم يحقق فتح الباري كاملا، بل من أول كتاب الإيمان إلى نهاية كتاب الحج، وقد اعتذر عن إكماله ونبه على ذلك في نهاية الجزء الثالث من فتح الباري في آخر صفحة قبل الفهرس.(1/44)
القسم الأول
الدراسة الدعوية للأحاديث الواردة في موضوع الدراسة 1 - الفصل الأول: كتاب الوصايا
2 - الفصل الثاني: كتاب الجهاد والسير
3 - الفصل الثالث: كتاب فرض الخمس
4 - الفصل الرابع: كتاب الجزية والموادعة(1/45)
الفصل الأول: 55 - كتاب الوصايا(1/47)
1 - باب الوصايا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " وصية الرجل مكتوبة عنده " وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ - فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 180 - 182] (1) " جنفا ": ميلا، " متجانف ": مائل.
1 [ص:2738] حَدَّثَنَا عَبدُ اللهِ بنُ يُوسُفَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَن نافعٍ، عَن عبدِ الله بنِ عُمَرَ (2) رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا حقُّ امْرئ مُسْلم لَهُ شَئٌ يُوصِي فيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَينِ إِلَّا ووصيته مكتوبةٌ عندَه» (3) .
* شرح غريب الحديث: * ووصيته " الوصية: مشتقة من وَصَيتُ الشيء، أصيه إذا وصلته، وسُميت وصية؛ لأن الميت يصل بها ما كان في حياته بما بعد مماته، ويقال: وصى وأوصى إيصاء, والاسم الوصية والوصاة (4) قال ابن فارس -رحمه الله: " وصى "
_________
(1) سورة البقرة، الآيات: 180-182.
(2) عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ولد سنة ثلاث من البعثة: أي قبل الهجرة بعشر سنوات، وأسلم مع أبيه وهاجر، وعُرض على النبي صلى الله عليه وسلم ببدر فاستصغره، ثم عرض عليه بأحد فاستصغره، ثم عرض عليه بالخندق فأجازه، وكان يومئذ ابن خمس عشرة سنة، وهو من المكثرين في حفظ الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد رَوَى عنه علما كثيرا، وعن أبيه، وأبي بكر، وعلي، وعثمان، وغيرهم رضي الله عنهم، وهو ممن بايع تحت الشجرة، وكان قدوة صالحة عالما عاملا بعلمه داعيا إليه، وكان رجلا ورعا زاهدا، كريما عابدا سباقا لكل خير، رحيما، وقد ثبت عن نافع أنه قال: " ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان أو زاد "، وبعث إليه معاوية رضي الله عنه، بمائة ألف، فما حال عليه الحول وعنده منها شيء، وكان شديد الحب لمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، وقد مد الله في عمره حتى نفع بعلمه المسلمين، فعاش قرابة سبع وثمانين سنة، ومات رضي الله عنه سنة أربع وسبعين من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم. [انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي، 3 / 203- 239، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني 2 / 347- 350] .
(3) وأخرجه مسلم، في كتاب الوصية، 3 / 1249، برقم 1627.
(4) انظر: المعجم في مقاييس اللغة لابن فارس، كتاب الواو، باب الواو والصاد، ص 1094، والقاموس المحيط للفيروزآبادي، باب الياء، فصل الواو، ص 1731، وشرح الإمام النووي على صحيح مسلم 11 / 83، وعمدة القاري للعيني 14 / 26.(1/48)
الواو والصاد والحرف المعتل أصل يدل على وصل شيء بشيءٍ، وَوَصَيتُ الشيء وصلتُهُ (1) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعويةٌ منها:
1 - حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم أمته الخير والشفقة عليهم.
2 - أهمية الحزم والجزم والاحتياط في الأمور المهمة.
3 - الاستعداد والتأهب للموت قبل فوات الأوان.
4 - أهمية الكتابة في ضبط الأمور المهمة.
5 - دفع الحرج عن الأمة.
6 - من وسائل الدعوة: القول.
7 - من موضوعات الدعوة: الحديث عن حقوق العباد.
أما الحديث عن هذه الفوائد بالتفصيل فعلى النحو الآتي:
أولا: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم أمته الخير والشفقة عليهم: بعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (2) وهو صلى الله عليه وسلم ينصح لهم غاية النصح، ويسعى في مصالحهم، ويشق عليه الأمر الذي يشق عليهم، ويحب لهم الخير، ويسعى جهده في إيصاله إليهم، ويحرص على هدايتهم للإِيمان ولكل خير، ويكره لهم الشر، ويرحم المؤمنين أكثر من رحمة والديهم (3) ؛ ولهذا قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] (4)
_________
(1) معجم المقاييس في اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا " مادة وصى " ص 1094، وانظر: لسان العرب لابن منظور " مادة وصى " 15 / 394.
(2) سورة الأنبياء، الآية: 107.
(3) انظر تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) تحقيق: محمود شاكر 14 / 584، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8 / 280، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي 3 / 319.
(4) سورة التوبة، الآية: 128.(1/49)
ومن حرصه ورحمته بهم إرشادهم في هذا الحديث إلى المبادرة إلى الوصية وكتابتها؛ لئلا يهجم على المؤمن أجله قبل ضبط ما يريد بالوصية والكتابة. فينبغي للدعاة إلى الله تعالى أن يتصفوا بالحرص على تعليم الناس الخير اقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم؛ فإن الحرص على نفع المدعوين صفة من صفات الأنبياء وأتباعهم؛ لما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم» (1) .
ثانيا: أهمية الحزم والجزم والاحتياط في الأمور المهمة: من الأمور المهمة التي ينبغي أن يتصف بها المسلم، وخاصة الداعية إلى الله تعالى: " الحزم والاحتياط "؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ما حق امرئ مسلم» . . . " والمعنى: ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده، إذا كان له شيء يريد أن يوصي فيه؛ لأنه لا يدري متى تأتيه المنية، فتحول بينه وبين ما يريد من ذلك (2) وهذا يبين أن الحزم والاحتياط من أخلاق المسلم (3) ؛ ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَرُ اللهِ وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» (4) ؛ وقد بوّب بعض الشراح لهذا الحديث بقوله: " باب في الأمر بالقوة وترك العجز، والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله " (5) .
وهذا يدل على أن قوة العزيمة وعلوَّ الهمة خلق عظيم يجعل صاحبه أكثر إقداما على الأمور العظيمة، وأشد عزيمة في الدعوة إلى الله تعالى، وفي الصبر على الأذى واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة
_________
(1) أخرجه مسلم، في كتاب الإِمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول 3 / 1473 برقم 1844.
(2) انظر: فتح المبدي شرح مختصر صحيح البخاري للزبيدي، تأليف عبد الله بن حجازي الشرقاوي، 2 / 288، ومنار القاري في شرح مختصر صحيح البخاري، لحمزة بن قاسم، 4 / 64.
(3) إكمال إكمال المعلم، شرح الأبي على صحيح الإمام مسلم، 5 / 597، وفتح الباري لابن حجر، 5 / 358.
(4) أخرجه مسلم، في كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز، والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله 4 / 2052، برقم 2664.
(5) شرح الإمام النووي على صحيح مسلم، 16 / 455.(1/50)
والصوم والأذكار، وسائر العبادات، وأنشط طلبا لها والمحافظة عليها (1) وهذا يوضح للداعية أن قوة العزيمة وعلو الهمة، والنشاط يفتح له عمل كل خير، وأما التمني فهو رأسُ أموال المفاليس، والعجز مفتاح كل شر (2) والله تعالى يقول: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] (3) .
ثالثا: الاستعداد والتأهب للموت قبل فوات الأوان: دل هذا الحديث على أنه ينبغي أن يتأهب المسلم للموت- وخاصة الدعاة إلى الله تعالى؛ لأنهم قدوة الناس-؛ فإنه لا يدري متى يفجؤه الموت؛ لأنه ما من سن يفرض إلا وقد مات فيه جمع جم وكل واحد بعينه جائز أن يموت في الحال، فينبغي أن يكون متأهبا مستعدا لذلك، فيكتب وصيته التي يريد أن يوصي بها، ويجمع فيها ما يحصل له به الأجر ويحبط عنه الوزر من حقوق الله وحقوق عباده (4) والنبي صلى الله عليه وسلم قد حث أمته وحضهم في هذا الحديث على الوصية، فيستحب للمسلم أن يوصي بما تيسر إذا كان له مال كثير، ولا يزيد على الثلث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» (5) ولكن إذا كان عليه حقوق واجبة: كالحج، والدَّين، والنذر، والودائع وغير ذلك، فإنه يلزمه أن يوصي بهذه الحقوق (6) .
وهكذا شأن الداعية الصادق والمسلم الحازم يكون مستعدا للموت متأهبا له، قائما بجميع الواجبات، تاركا جميع المحرمات، تائبا من جميع السيئات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنهما: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وكان ابن عمر يقول: " إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 16 / 455.
(2) انظر: مدارج السالكين للإمام ابن القيم 3 / 3، وزاد المعاد في هدي خير العباد له، 2 / 358، وطريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم أيضا، ص 440.
(3) سورة آل عمران، الآية: 159.
(4) انظر: فتح الباري لابن حجر 5 / 360.
(5) مسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث 3 / 1250 برقم 1628.
(6) انظر: الاستذكار لابن عبد البر 23 / 7، وشرح النووي على صحيح مسلم 11 / 84، وشرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك 7 / 74، وفتح الباري لابن حجر، 5 / 359.(1/51)
المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك " (1) .
فالداعية ينبغي أن لا يتخذ الدنيا وطنا ومسكنا، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر، يُهيئ جهازه للرحيلِ؛ لأن الآخرة هي دار القرار، قال الله تعالى حاكيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39] (2) ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما لي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها» (3) فالمؤمن وخاصة الداعية إلى الله ينبغي له أن يكون في الدنيا على أحد حالين:
الحالة الأولى: أن ينزل نفسه كأنه غريب في الدنيا يتخيّلُ الإِقامة لكن في بلد غربة، فهو غير متعلق القلب ببلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه، وإنما هو مقيم في الدنيا؛ ليقضي بقية جهازه حتى يرجع إلى وطنه، ومن كان كذلك في الدنيا فلا هم له في الحقيقة إلا في التزود بما ينفعه عند عودته إلى وطنه، فلا ينافس أهل البلد الذي هو غريب بينهم في عزهم، ولا يجزع من الذل عندهم. والمؤمن في الدنيا غريب؛ لأن الجنة هي وطنه الأول أخرجه منه إبليس، فهو يتزود بما يبلغه المحل الأعلى، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
فحيَّ على جنات عدن فإنها ... منازلنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدوّ فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى ... وشطت به أوطانه فهو مغرم
وأي اغتراب فوق غربتنا التي ... لها أضحت الأعداء فينا تحكم (4) .
الحالة الثانية: أن ينزل الداعية نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم ألبتة،
_________
(1) البخاري، كتاب الرقاق، باب قوله صلى الله عليه وسلم: " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " 7 / 219، برقم 6416.
(2) سورة غافر، الآية: 39.
(3) مسند أحمد 2 / 132، والترمذي، في كتاب الزهد، باب: حدثنا موسى بن عبد الرحمن 4 / 588، برقم 2377، وقال: " هذا حديث حسن صحيح "، وابن ماجه، في كتاب الزهد، باب مثل الدنيا 2 / 1376، برقم 4109، وصححه الألباني في صحيح الترمذي 2 / 280.
(4) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، ص 30.(1/52)
وإنما هو سائر في قطع منازل السفر حتى ينتهي به السفر إلى الوطن الذي يريد وهو الموت. ومن كان هذا حاله في الدنيا فهمته تحصيل الزاد للسفر، وليس له همة في الاستكثار من متاع الدنيا (1) .
وعلى الداعية أن يتدبر دائما قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20] (2) .
رابعا: أهمية الكتابة في ضبط الأمور المهمة: في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «إلا ووصيته مكتوبة عنده» إشارة إلى أن الأمور المهمة ينبغي أن تضبط بالكتابة الواضحة البينة؛ لأنها أثبت من الضبط بالحفظ؛ لأنه يخون غالبا، ولابد أن تكون الكتابة معلومة، كما أن في قوله صلى الله عليه وسلم: " مكتوبة عنده " إشارة إلى أنه ينبغي للداعية أن يحتفظ بالوثائق المهمة عنده في مكان أمين، وفي حرز حصين حتى لا تتعرض الأمور المهمة إلى الإِتلاف، أو تضيع، أو تتسلط عليها أيدٍ غير أمينة (3) . وينبغي أن يشهد على وصيته إذا كان المكتوب وصية أو غيرها من الأمور المهمة، وله أن يغيِّر في وصيته ما شاء، ويزيد فيها ما يشاء من الأمور التي تتجدد (4) .
خامسا: دفع الحرج عن الأمة: دل الحديث على دفع الحرج عن هذه الأمة؛ ولهذا قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: (والترخيص في الليلتين، أو الثلاث دفع للحرج والعسر) (5) والأصل
_________
(1) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب، بتحقيق الأرناؤوط 2 / 378، 381.
(2) سورة الحديد، الآية: 20.
(3) انظر: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك 4 / 74، وشرح رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين للعلامة محمد بن صالح العثيمين 6 / 142.
(4) انظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للعلامة علي بن سلطان القاري 6 / 251.
(5) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام للعلامة تقي الدين بن دقيق العيد 2 / 161.(1/53)
في ذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (1) وقال عز وجل: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] (2) .
سادسا: من وسائل الدعوة: القول: الوسيلة في الأصل: ما يتوصل به إلى الشيء (3) ووسائل الدعوة هي: ما يستعين به الداعية على تبليغ دعوته من أشياء وأمور (4) فهي ما يتوصل به الداعية إلى تبليغ دعوته من أمور معنوية أو مادية ووسيلة التبليغ في هذا الحديث هي: القول: " ما حق امرئ مسلم " ووسيلة القول أعظم وسائل الدعوة التي استعملها أنبياء الله ورسله في تبليغ دعوتهم عليهم الصلاة والسلام.
وتبرز أهمية وسيلة القول من عدة وجوه، منها:
1 - اهتمام القرآن الكريم بهذه الوسيلة، فقد ورد لفظ " قل " في القرآن الكريم في أكثر من ثلاثمائة موضع، كما جاءت مشتقاته وتصريفاته في القرآن الكريم في آيات كثيرة (5) .
2 - استخدام جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام هذه الوسيلة في دعوتهم إلى الله تعالى، فكم من رسول قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65] (6) قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] (7) ويدل على أهمية هذه الوسيلة كثرة أقوال النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في كتب السنة التي دعا بها أمته بقوله إلى كل ما يعود عليهم بالخير والصلاح.
_________
(1) سورة الحج، الآية: 78.
(2) سورة المائدة، الآية: 6.
(3) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب الواو مع السين 5 / 185.
(4) انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله، لسعيد بن علي، ص 126.
(5) انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، لمحمد فؤاد عبد الباقي، ص 570.
(6) سورة الأعراف، الآية: 65.
(7) سورة إبراهيم، الآية: 4.(1/54)
3 - وسيلة القول وسيلة فطرية متوافرة عند أغلب الناس إلا ما ندر؛ ولهذا بيَّن الله سبحانه أهمية النطق باللسان، فقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76] (1) .
4 - هذه الوسيلة لها ضوابط منها: أن يكون القول مشروعا، ولطيفا حسنا، وأن يطابق القول العمل، ويكون بيِّنا واضحا، وبعيدا عن التقعُّر والتشدق وتكلف الفصاحة (2) فينبغي للداعية أن يعتني بهذه الوسيلة ويطبق شروطها (3) .
سابعا: من موضوعات الدعوة: الحديث عن حقوق العباد: إن من الموضوعات المهمة التي ينبغي للداعية إلى الله سبحانه وتعالى أن يبينها للناس ويحضهم عليها: حقوق العباد؛ ولهذا قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: " وفي هذا الحديث الحضُّ على الوصية والتأكيد في ذلك، وأجمع الجمهور على أن الوصية غير واجبة على أحد إلا أن يكون عليه دينٌ، أو عنده وديعة، أو أمانة، فيوصي بذلك " (4) .
_________
(1) سورة النحل، الآية: 76.
(2) انظر: المدخل إلى علم الدعوة، للدكتور محمد البيانوني، ص 311- 315.
(3) وغالب الأحاديث تشمل هذه الوسيلة؛ ولذلك سأقتصر على هذا الحديث فقط ولا أذكر هذه الوسيلة في الأحاديث اللاحقة.
(4) الاستذكار لابن عبد البر، 23 / 7، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 11 / 84.(1/55)
[حديث ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهما ولا دينارا]
2 [ص:2739] حَدَّثَنَا إِبْراهيمُ بنُ الحَارِثِ: حَدَّثَنا يَحْيى بنُ أَبي بُكَيرٍ: حَدَّثَنَا زُهَيرُ بنُ مُعاويةَ الجُعْفِيُّ: حَدَّثَنَا أَبو إِسحاقَ، عن عَمْرِو (1) بنِ الحَارِثِ خَتَنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخِي جُوَيْرِيةَ بنتِ الحَارِثِ قَالَ: «مَا تَرَك رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتهِ دِرْهَما، وَلَا دِينارا، ولا عَبْدا، وَلَا أَمَة، وَلَا شَيْئا، إِلَّا بَغْلتَهُ البَيضاءَ وسِلاحَهُ، وَأَرْضا جَعَلَها صَدَقة» (2) .
وفي رواية: ". . . «إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها» . . . " (3) .
وفي رواية: ". . . «وأرضا بخيبر جعلها صدقة» . . . " (4) .
وفي رواية: ". . . «وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة» (5) .
* شرح غريب الحديث: * " الخَتَنُ " أبو امرأة الرجل، وأخو امرأته، وكل من كان من قِبَلِ امرأته، والأختان من قبل المرأة، والأحماءُ من قبل الزوج، والصهر يجمعهما (6) .
* " أرضا " هي نصف أرض فدك، وثلث أرض وادي القرى، وسهمه من خمس خيبر، وحقه من أرض بني النضير (7) وقال الإمام النووي: " وأما
_________
(1) عمرو بن الحارث بن أبي ضرار أخو جويرية بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها، روى عمرو عن أخته جويرية، وعن أبيه الحارث، وعن ابن مسعود رضي الله عنه. [انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 26، والإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، 2 / 530، وتهذيب التهذيب له، 8 / 13] .
(2) (الحديث 2739) أطرافه في كتاب الجهاد، باب بغلة النبي صلى الله عليه وسلم البيضاء، 3 / 290، برقم 2873، وباب من لم ير كسر السلاح عند الموت، 3 / 302، برقم 2912، وكتاب فرض الخمس، باب نفقة نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، 4 / 55 برقم 3098، وكتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته 5 / 167 برقم 4461. وأخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها في كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه، 3 / 1256 برقم 1635.
(3) من الطرف رقم 4461.
(4) من الطرف رقم 2912.
(5) من الطرف رقم 4461.
(6) انظر: لسان العرب، لابن منظور، فصل الخاء، باب النون، مادة " ختن " 13 / 138، والقاموس المحيط، للفيروزآبادي، فصل الخاء، باب النون، مادة " ختن " ص 1540، وغريب الحديث والأثر لابن الأثير باب الخاء مع التاء، 2 / 10.
(7) شرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 149.(1/56)
الأرض التي كانت له بخيبر وفدك فقد سبَّلها على المسلمين " (1) .
* " وسلاحه " السلاح ما أعددته للحرب من آلة الحديد مما يقاتل به والسيف وحده يسمى سلاحا (2) فعلى هذا فالمقصود بسلاحه سيوفه وأرماحه. (3) .
* " وبغلته " والجمع: أبغال وبغال، والبغل هو: ابن الفرس من الحمار، وقيل: اسم بغلة النبي صلى الله عليه وسلم: دُلْدُل. (4) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية منها:
1 - من صفات الداعية: الزهد.
2 - من صفات الداعية: الكرم.
3 - الإِعداد للجهاد في سبيل الله تعالى.
4 - أهمية الوقف في العمل الدعوي.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: الزهد: يؤخذ من هذا الحديث زهد الداعية إلى الله تعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم - هو قدوة الدعاة- كان أزهد الناس في الدنيا، وفي حطامها الفاني، وكانت عنايته الفائقة بالدعوة إلى الله تعالى وتوجيه البشرية لما يعود عليهم بالخير في الدنيا والآخرة؛ ولهذا لم يترك عند موته: دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا أمة، ولا شيئا، إلا ما جعله صدقة في سبيل الله تعالى (5) وهكذا ينبغي للداعية أن
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 11 / 97.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر، لأبي السعادات المبارك بن محمد الجزري، ابن الأثير، باب السين مع اللام 2 / 388.
(3) المعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية، 1 / 64.
(4) انظر: معجم مقاييس اللغة، كتاب الباء، باب الباء والغين، ص 143، وعمدة القاري للعيني، 14 / 30، وإرشاد الساري للقسطلاني، 5 / 197.
(5) انظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 60، 149، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 97، وعمدة القاري للعيني، 14 / 31.(1/57)
يجعل أكبر همه الدعوة إلى الله تعالى، ويزهد في الدنيا ولا يجعلها غاية مقصده ومبلغ علمه، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة (1) . قال ابن القيم رحمه الله: " وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها " (2) .
وقال الإمام أحمد رحمه الله: " الزهد على ثلاثة أوجه، الأول: ترك الحرام وهو زهد العوام، والثاني: ترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص، والثالث: ترك ما يشغل عن الله وهو زهد العارفين " (3) .
وقد تكفَّل الله لمن لا يجعل الدنيا أكبر همه بالسعادة في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كانت الآخرة هَمّهُ جعل الله كفاه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له» (4) .
ثانيا: من صفات الداعية: الكرم الجود والكرم خلق عظيم ينبغي للداعية إلى الله أن يتصف به، وفي الحديث إشارة إلى اتصاف النبي صلى الله عليه وسلم بالكرم؛ قال القسطلاني رحمه الله على قول عمرو بن الحارث في الحديث: «ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته: درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة» . . . ": " فيه دلالة على أن من ذكر من رقيق النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الأخبار كان إمَّا مات وإمَّا أعتقه " (5) وقال العيني: " وقد ذكرنا في تاريخنا الكبير أنه كان له عبيد ما ينيف على ستين، وكانت له عشرون أمة، فهذا يدل على أن منهم من مات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من أعتقهم، ولم يبق عبد
_________
(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 10 / 511، 615 و 20 / 142، ومدارج السالكين لابن القيم 2 / 10.
(2) مدارج السالكين لابن القيم، 2 / 10.
(3) المرجع السابق، 2 / 12.
(4) أخرجه الترمذي عن أنس رضي الله عنه في كتاب صفة القيامة، باب: حدثنا قتيبة 4 / 642، برقم 2465، وصححه الألباني في صحيح الجامع 5 / 351، وسلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 950.
(5) إرشاد الساري 6 / 492، وانظر: عمدة القاري للعيني، 14 / 30.(1/58)
بعده ولا أمة وهو في الرِّقيّة " (1) وهذا يدل على كرمه صلى الله عليه وسلم، وعن أنس رضي الله عنه قال: «ما سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه، قال: " فجاء رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قومي أسلموا؛ فإن محمدا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة» (2) .
فالداعية ينبغي له أن يكون كريما؛ لأن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها (3) .
ثالثا: الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى: الجهاد في سبيل الله تعالى وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله تعالى ونشر الإسلام؛ لأن الهدف منه: إخراج الناس من عبودية المخلوق إلى عبودية الخالق؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39] (4) .
وقد دل الحديث على الإِعداد للجهاد والتأهب له، قال القسطلاني رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: " إلا سلاحه " أي الذي أعده لحرب الكفار: كالسيوف (5) وقال ابن الأثير: " السلاح ما أعددته للحرب من آلة الحديد مما يقاتل به، والسيف وحده يسمى سلاحا " (6) .
فينبغي للدَّولة المسلمة أن تعد العدة للجهاد بكل ما تستطيعه من قوة؛ لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] (7) .
_________
(1) عمدة القاري 14 / 30.
(2) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل صلى الله عليه وسلم شيئا فقال: لا، 4 / 1806 برقم 2312.
(3) وسيأتي إن شاء الله تفصيل أكثر من ذلك. انظر: الحديث رقم 35، الدرس الثالث.
(4) سورة الأنفال، الآية: 39.
(5) إرشاد، الساري 5 / 100، 197.
(6) النهاية في غريب الحديث والأثر 2 / 388.
(7) سورة الأنفال، الآية: 60.(1/59)
رابعا: أهمية الوقف في العمل الدعوي: دل مفهوم الحديث وما في معناه من الأحاديث الأخرى على أن الوقف له أهمية بالغة؛ ولهذا اعتنى به النبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث: «وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإِنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (1) .
فينبغي للداعية أن يبين للناس أهمية الوقف ويحثهم على ذلك، ويكون قدوة لهم في كل ما يدعوهم إليه. والله المستعان.
* * * *
_________
(1) صحيح مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإِنسان من الثواب بعد وفاته، 3 / 1255، برقم 1631، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(1/60)
[حديث أوصى النبي بكتاب الله]
3 -[2740] حَدَّثَنَا خَلّاد بن يَحْيى: حَدَّثَنا مَالك: حَدَّثَنا طَلْحَة بن مصرِّفٍ (1) قَالَ: " سَأَلت عَبدَ اللهِ بنَ أَبِي أَوْفَى (2) رضي الله عنهما: هَلْ كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَوْصَى؛ فقَال: لَا. فَقلت: كَيْفَ كتِبَ عَلَى النَّاس الوَصِيَّة أَوْ أمِروا بالوَصيَّةِ؛ قالَ: أَوْصَى بِكتَابِ اللهِ " (3) .
وفي رواية: " كَيْفَ كتِبَ عَلَى النَّاسِ الوَصيَّة أو أمِروا بِهَا وَلَمْ يوصِ " (4) .
* شرح غريب الحديث: * " فقال: لا " أي لم يوصِ بما يتعلق بالمال؛ لأن ما تركه فهو صدقة (5) .
* " أوصى بكتاب الله " أي بالتمسك به والعمل بمقتضاه (6) .
* " كيف كتِب على الناس الوصية أو أمروا بالوصية " شكّ من الراوي: هل قال: كيف كتب على المسلمين الوصية أو قال: كيف أمروا بها (7) .
_________
(1) طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب الإمام الحافظ المقرئ اليامي الهمداني الكوفي، حدث عن أنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهم، كان يسمى سيد القراء ولما علم إجماع أهل الكوفة على أنه أقرأ من بها ذهب فقرأ على الأعمش لتنزل رتبته في أعينهم ويأبى الله إلا رفعته؛ ولهذا قال الأعمش: (فما ظنكم برجل لا يخطئ، ولا يلحن) وتوفى رحمه الله في آخر عام 113 هـ، [انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 5 / 191- 193] .
(2) عبد الله بن أبي أوفى علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي رضي الله عنهما، شهد بيعة الرضوان، وخيبر وما بعدهما من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يزل بالمدينة حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تحول إلى الكوفة، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وتسعين حديثا، اتفق البخاري ومسلم على عشرة، وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بحديث، مات سنة ست وثمانين، وقيل سبع وثمانين، وهو آخر من توفي من الصحابة رضي الله عنهم بالكوفة. [انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 261، وتهذيب التهذيب لابن حجر 5 / 167، والإصابة في تمييز الصحابة، له، 2 / 279] .
(3) (الحديث 2740) طرفاه في كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته 5 / 167 برقم 4460، وفي كتاب فضائل القرآن، باب الوصاة بكتاب الله عز وجل، 6 / 130 برقم 5022، وأخرجه مسلم، في كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه 3 / 1256، برقم 1634.
(4) من الطرف رقم 5022.
(5) انظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 60، 16 / 248، 19 / 30.
(6) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 5 / 360- 361.
(7) المرجع السابق 5 / 360.(1/61)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أهمية العلم والعمل بكتاب الله تعالى.
2 - أهمية السؤال في تحصيل العلم ونشره.
3 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
4 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية تفصيلا على النحو الآتي:
أولا: أهمية العلم والعمل بكتاب الله تعالى: أساس العلم النافع العلم بكتاب الله تعالى، فلا بد للداعية إلى الله تعالى أن يعتني بهذا الكتاب العظيم وحفظه: حسا ومعنى وتدبرا، فَيكرم، ويصان، ويتَّبع ما فيه: فيعمل بأوامره، ويجتنب نواهيه، ويداوم على تلاوته، وتعلمه وتعليمه (1) وقد بين الله الحكمة من إنزاله فقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] (2) وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا القرآن أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده المؤمنين فقال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» (3) .
فأي غبطة أعظم وأحب من هذه الغبطة العظيمة (4) ؛ ولهذه المكانة العظيمة أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن العظيم في عدة مناسبات وفي عدة أماكن، من ذلك أنه أوصى به في عرفات فقال: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم
_________
(1) انظر فتح الباري لابن حجر، 9 / 67.
(2) سورة ص، الآية: 29.
(3) البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب اغتباط صاحب القرآن 6 / 631، برقم 507، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه 1 / 558، برقم 815.
(4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 6 / 347.(1/62)
به، كتاب الله» (1) وعندما كان في طريقه إلى المدينة راجعا من حجة الوداع أوصى به فقال: «وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، [هو حبل الله من اتَّبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة] فخذوا كتاب الله وتمسكوا به» ، فحث عليه ورغب، ثم قال: «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي» ثلاث مرات (2) وأوصى به عند موته كما في حديث الباب.
فدل ذلك على أهمية تعلم كتاب الله تعالى وتعليمه للناس، فيتأكد على الدعاة إلى الله تعالى أن يعتنوا بكتاب الله حفظا وفهما، وعملا وتعليما.
ثانيا: أهمية السؤال في تحصيل العلم ونشره: إن السؤال عن العلم من أهم الأمور التي ينبغي لكل مسلم أن يعتني بها، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث؛ لسؤال طلحة بن مصرف لعبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما عن وصية النبي صلى الله عليه وسلم، فاستفاد منه هذا العلم العظيم ونشِرَ بسبب سؤاله؛ ولأهمية السؤال عن العلم قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: " خمسٌ إذا أخطأ القاضي منهن خطة (3) كانت فيه وصمة (4) أن يكون: فَهِما، حليما، عفيفا، صليبا (5) عالما، سئولا عن العلم " (6) وقال مجاهد: " لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر " (7) وهذا يدل على أهمية السؤال عن العلم ونشره، فيتأكد على الداعية أن يعتني بذلك.
ثالثا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: دل هذا الحديث على أن القدوة وسيلة من وسائل الدعوة؛ ولهذا قال طلحة بن مصرف لعبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: " كيف كتبَ على الناس الوصية أو
_________
(1) مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 2 / 886، برقم 1218.
(2) مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، 4 / 1873، برقم 2408.
(3) خطة: أي خصلة. فتح الباري 13 / 146.
(4) وصمة: عيبا. انظر: فتح الباري 13 / 146.
(5) صليبا: قويا شديدا، يقف عند الحق ولا يميل مع الهوى. انظر: المرجع السابق 13 / 146.
(6) البخاري، كتاب الأحكام، باب متى يستوجب الرجل القضاء 8 / 141.
(7) البخاري، كتاب العلم، باب الحياء في العلم 1 / 47.(1/63)
أمروا بالوصية ولم يوصِ " يعني النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أسوة كل مسلم، فقال عبد الله: " أوصى بكتاب الله "، وهذا يبين للداعية أنه يجب على جميع الدعاة إلى الله تعالى أن يكونوا قدوة صالحة للمدعوين، ولا يكون الداعية ناجحا إلا أن يعمل بدعوته، ولا يكون ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه، أو ينهى عنه ثم يرتكبه، وهذا حال الخاسرين نعوذ بالله من ذلك؛ ولهذا قال الله تعالى محذرا عن ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ - كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] (1) ؛ قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " علماء السوء جلسوا على أبواب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فلما قالت أقوالهم للناس: هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما يدعون إليه حقا، كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع طريق " (2) فعلى الداعية المسلم أن يكون قدوة للناس بقوله وفعله (3) والله المستعان.
رابعا: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث: من الصفات الحميدة حرص السلف الصالح على الدقة في نقل الحديث؛ ولهذا قال بعض رواة هذا الحديث: " كيف كتِبَ على الناس الوصية أو أمروا بالوصية "، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " شك من الراوي هل قال: كيف كتب على المسلمين الوصية أو قال: كيف أمروا بها " (4) .
وهذا يدل الدعاة إلى الله تعالى ويرشدهم إلى التحري والدقة في نقل الأخبار والأحاديث وتبليغها للناس كما جاءت، حتى لا يقع الداعية في الكذب أو الافتراء وهو لا يشعر (5) .
* * * *
_________
(1) سورة الصف، الآيتان: 2-3.
(2) الفوائد، لابن القيم، ص 112.
(3) انظر: مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز 1 / 350، 2 / 343، 3 / 110.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، 5 / 360.
(5) انظر بهجة النفوس، لابن أبي جمرة 1 / 128.(1/64)
[حديث ما أوصى النبي بشيء]
4 -[2741] حَدَّثَنَا عَمْرو بن زرَارَةَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل، عَنِ ابنِ عَوْنٍ، عنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ (1) قَالَ: " ذَكَرورا عِنْدَ عَائِشة (2) أَنَّ عَلِيّا رضي الله عنهما كَانَ وصيّا، فَقَالَتْ: مَتى أَوْصى إِلَيْهِ وَقَدْ كنْت مسنِدَتَه إِلى صَدْرِي؟ - أَوْ قَالَتْ: حَجْرِي- فَدَعَا بِالطَّسْتِ، فَلَقَدِ انْخَنَثَ في حَجْرِي فَمَا شَعرْت أَنه قَدْ مَاتَ، فمتَى أَوصى إِلَيْهِ؟ " (3) .
* شرح غريب الحديث: * " الطست " إناء كبير مستدير (4) .
* " انخنث " أي انكسر وانثنى لاسترخاء أعضائه عند الموت (5) .
_________
(1) الأسود بن يزيد بن قيس النخعي أبو عمرو أو أبو عبد الرحمن، سمع من معاذ بن جبل في اليمن قبل أن يهاجر، وعن أبي بكر وعمر، وحديثه عن كبار الصحابة في الصحيحين، وغيرهما. وهو من المخضرمين ثقة فقيه، مات سنة أربع أو خمس وسبعين. [انظر: الإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1 / 106، وتقريب التهذيب له، ص 146] .
(2) عائشة بنت أبي بكر الصديق عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر، القرشية المكية، أم المؤمنين زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أفقه نساء الأمة على الإطلاق رضي الله عنها. ولدت بعد البعثة بأربع سنين أو خمس، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست، وقيل: سبع سنين، ويجمع بين القولين أنها كانت قد أكملت السادسة ودخلت في السابعة، ودخل بها، وهي بنت تسع في شوال في السنة الأولى من الهجرة، واختار الذهبي والنووي أنه صلى الله عليه وسلم دخل بها وهي بنت تسع في شوال سنة اثنتين، وضعف النووي القول الأول. وهي من أكثر الصحابة رواية، فقد روت عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا طيبا مباركا فيه. روي لها أحاديث كثيرة حصرها علماء الحديث بألفين ومائتين وعشرة أحاديث (2210) ، اتفق البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين ومسلم بثمانية أو تسعة وستين، وروى عنها خلق كثير من الصحابة والتابعين، وفضائلها ومناقبها مشهورة معروفة. توفيت ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان سنة سبع وخمسين، وقيل سنة ست وخمسين، وقيل سنة ثمان وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة، ودفنت بالبقيع ليلا بعد الوتر، واجتمع على جنازتها أهل المدينة وأهل العوالي وقالوا: لم نر ليلة أكثر نساء من ليلة دفن عائشة رضي الله عنها، [انظر: تهذيب الأسماء واللغات للإمام النووي 2 / 350، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، 2 / 135- 201، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 4 / 359] .
(3) (الحديث 2741) طرفه في كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته 5 / 166، برقم 4459، وأخر- مسلم، كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن لبس له شيء يوصي فيه 3 / 1257، برقم 16363.
(4) انظر: النهابة في غريب الحديث لابن الأثير، باب الطاء مع السين 3 / 124، والمعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية، مادة " الطست " 2 / 557، وفتح الباري، لابن حجر، 1 / 460.
(5) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير باب الخاء مع النون، 2 / 82، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 5 / 363، وعمدة القاري للعيني، 14 / 32.(1/65)
* " حجري " الحجر- بالفتح والكسر-: الثوب والحضن، والمصدر بالفتح لا غير (1) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - الرد بالحكمة على الفرق الضالة.
2 - قبول شهادة النفي من الداعية العالم.
3 - الدفاع عن الدعاة إلى الله تعالى.
4 - من أساليب الدعوة: الاستفهام الإِنكاري.
5 - من أساليب الدعوة: التوكيد.
أما الحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية تفصيلا فعلى النحو الآتي:
أولا: الرد بالحكمة على الفرق الضالة: من وظائف الدعاة إلى الله تعالى الرد على الفرق البدعية، وتبيين وتوضيح ما هم عليه من الباطل، ولكن ينبغي الرد بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن كما قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (2) ومما يدل على هذه الفائدة في هذا الحديث ما فعلته عائشة رضي الله عنها من الرد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخلافة من بعده، والسبب في ذلك أن الشيعة قد وضعوا أحاديث في أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة لعلي فرد عليهم جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ذلك، وكذا من بعدهم، ومن ذلك ما استدلت به عائشة رضي الله عنها، وأنها كانت ملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدة مرضه إلى أن مات في حجرها، ولم يقع منه شيء من ذلك، ومن ذلك أن عليا لم يدَّعِ ذلك لنفسه حتى ولو بعد أن ولي الخلافة، ولا ذكره
_________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الجيم، 1 / 342.
(2) سورة النحل، الآية: 125.(1/66)
أحد من الصحابة يوم السقيفة، ولا شك أن الشيعة تنقَّصوا عليا رضي الله عنه من حيث قصدوا تعظيمه " لأنهم نسبوه- مع شجاعته العظمى وصلابته في الدين- إلى المداهنة والتقية والإِعراض عن طلب حقه مع قدرته على ذلك.
ومع ذلك فقد سمع الصحابة جميع ما أوصى به صلى الله عليه وسلم ولم يكن من هذه الوصايا: الوصية لعلي بالخلافة. فَمِمَّا روِيَ في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أوصى بإنفاذ الصدقة بمال كان عند عائشة رضي الله عنها، وإنفاذ جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما، والوصية بأداء الزكاة، والوصية بالحذر من الفتن ولزوم الجماعة والطاعة، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أوصى بكتاب الله تعالى، وأن لا يترك في جزيرة العرب دينان، وأوصى بإجازة الوفد بمثل ما كان يجيزهم ويعطيهم، وأوصى بالصلاة وما ملكت الأيمان، وغير ذلك. ولم يكن من هذه الوصايا ما زعم الشيعة أنه أوصى به (1) .
وهذا يبين للداعية أنه ينبغي أن يرد على الفرق الضالة؛ بالأسلوب الحسن، وبالرفق واللين، وبالجدال بالتي هي أحسن، وغير ذلك من الأساليب النافعة.
ثانيا: قبول شهادة النفي من الداعية العالم: ينبغي للمدعوين أن يثقوا بالدعاة العلماء ويقبلوا أقوالهم بأدلتها الصحيحة العقلية والنقلية؛ ولهذا قال الإمام الأبي رحمه الله، عن حديث عائشة رضي الله عنها " فيه أن الشهادة على النفي من العالم مقبولة "، وبهذا المعنى صار قولها حديثا، فكأنه بمنزلة قوله: " لا أوصي بشيء " (2) .
ولا شك أن قبول أقوال الدعاة المخلصين الصادقين بأدلتها لمن يحتاج إلى ذلك مما ينتفع به المدعوون ويستفيدون منه، فعلى المدعو أن يتقي الله عز وجل وأن يقبل الدعوة بأدلتها من الكتاب والسنة، وأن يصدق الدعاة العلماء فيما ينفونه عن الدين والعقيدة، ولا مانع من سؤال الدعاة عن الأدلة والتثبت من أقوالهم من باب العلم والفائدة.
_________
(1) انظر: إكمال إكمال المعلم بشرح صحيح الإمام مسلم لمحمد بن خليفة الأبي 5 / 622، وفتح الباري لابن حجر، 5 / 361 -363، وعمدة القاري للعيني، 14 / 32.
(2) إكمال إكمال المعلم شرح صحيح الإمام مسلم للأبي 5 / 622.(1/67)
ثالثا: الدفاع عن الدعاة إلى الله تعالى: لا شك أنه يجب على المدعوين- إذا سمعوا من يكذب على الدعاة أو يتهمهم بما ليس فيهم- أن يدافعوا عنهم بالصدق والحكمة، كما دافعت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وردَّت ما قاله الشيعة: من أنه صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي بالخلافة فقالت: " متى أوصى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري. . .؟ " ثم بينت أنها لازمته مدة مرضه ولم يحصل منه ذلك (1) .
وهكذا ينبغي للمدعوين أن يفعلوا- مع علمائهم ودعاتهم الصادقين- كما فعلت عائشة رضي الله عنها من دفاعها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعا: من أساليب الدعوة: الاستفهام الإِنكاري: الأسلوب: الطريق والفن. يقال: هو على أسلوب من أساليب القوم: أي على طريق من طرقهم. ويقال: أخذنا في أساليب من القول: فنون متنوِّعة (2) وأساليب الدعوة: هي العلم الذي يتصل بكيفية مباشرة التبليغ وإزالة العوائق عنه، وهي الطريقة التي يسلكها الداعية في تأليف كلامه، واختيار ألفاظه، وتأدية معانيه ومقاصده من كلامه (3) .
وقد ظهر في هذا الحديث أسلوب الاستفهام الإِنكاري حيث قالت عائشة رضي الله عنها منكرة على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة لعلي رضي الله عنه: " متى أوصى إليه. . .؟ " ثم بينت رضي الله عنها ملازمتها له في مرضه حتى مات، ثم أعادت الاستفهام الإِنكاري مرة أخرى فقالت: " فمتى أوصى إليه؟ " والاستفهام الإِنكاري في الدعوة إلى الله تعالى يظهر منه أنه يحمل التوبيخ والزجر؛ لكن بطريقة حكيمة (4) .
والله عز وجل قد بين ذلك في كتابه وخاطب به المشركين ومن ذلك قوله سبحانه
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر 5 / 361 -363، وعمدة القاري للعيني 14 / 32.
(2) انظر: القاموس المحيط، للفيروزآبادي، باب الباء، فصل السين، ص 125.
(3) انظر: علوم القرآن، لمحمد بن عبد العظيم الزرقاني، 2 / 199.
(4) انظر: البرهان في علوم القرآن، لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي 2 / 328.(1/68)
وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] (1) وقوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64] (2) وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدمه ومن ذلك «قوله صلى الله عليه وسلم لابن اللتبية - حينما جاء بصدقة فدفعها- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا ما لكم وهذه هدية أهديت لي، فقال صلى الله عليه وسلم: " أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فتنظر أيهْدَى إليك شيء أم لا؟» (3) .
خامسا: من أساليب الدعوة: التوكيد: أسلوب التوكيد له صيغ متعددة وصور مختلفة، وأظهرها التوكيد بالقسم، والتوكيد بالتكرير. والتكرير قد يكون بتكرير الكلمة، أو الجملة أو الآية، أو القصة في القرآن الكريم والسنة المطهرة مرتين أو أكثر (4) .
والذي ظهر في هذا الحديث من هذه الأنواع هو أسلوب التوكيد بتكرير الكلمة: قالت عائشة رضي الله عنها: ". . . متى أوصى إليه، وقد كنت مسندته إلى صدري. . . "، ثم ساقت الحديث وقالت في آخره: " فمتى أوصى إليه؟ " وهذا الأسلوب قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدمه في دعوته، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلَّم سلَّم ثلاثا، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا (5) .
* * * *
_________
(1) سورة يونس، الآية: 59.
(2) سورة الزمر، الآية: 64.
(3) متفق عليه من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه: البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، 7 / 278، برقم 6636، ومسلم، كتاب الإِمارة، باب تحريم هدايا العمال 3 / 1463، برقم 1832.
(4) انظر: البرهان في علوم القرآن، لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، 2 / 384 و 3 / 8، والإتقان في علوم القرآن، لجلال الدين عبد الرحمن بن كمال الدين السيوطي، 2 / 842.
(5) البخاري، كتاب العلم، باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه 2 / 37، برقم 94.(1/69)
[باب الوصية بالثلث]
[حديث الثلث والثلث كثير]
3 - بَاب الوصِيَّة بالثلثِ وقال الحسن: لا يجوز للذمي وصية إلا بالثلث، وقال الله عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] (1) .
5 -[2743] حَدَّثَنَا قتيبَة بن سَعيدٍ: حَدَّثَنَا سفيان عَن هِشَامٍ، عَنْ عرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ (2) رضي الله عنهما قَالَ: لَوْ غَضَّ النَّاس إِلى الرّبْعِ، لأَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «الثلث والثّلث كَثيرٌ» (3) .
* شرح غريب الحديث: * لو غض الناس: لو نقصوا وحطوا من الثلث واقتصروا على الربع، و " لو " للتمني فلا يحتاج إلى جواب، وإن قيل إنها شرطية فيكون جوابها محذوفا تقديره: لكان أولى (4) .
_________
(1) سورة المائدة، الآية: 49.
(2) عبد الله بن عباس بن عبد المطلب شيبة بن هاشم أبو العباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد بشعب بني هاشم حين حاصرتهم قريش فيه، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، وانتقل مع أبويه إلى دار الهجرة عام الفتح، وقد أسلم قبل ذلك، فقد صح عنه أنه قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين: أنا من الولدان وأمي من النساء، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من ثلاثين شهرا، ودعا له بالفقه في الدين والعلم بالتأويل فقال: " اللهم فقهه في الدين "، وفي لفظ: " اللهم علمه الحكمة "، وفي لفظ: " اللهم علمه الكتاب "، [انظر: البخاري مع الفتح 7 / 100، 13 / 245، 1 / 169، 244، ومسلم 4 / 1927] .
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم علم كثيرا، وهو أكثر الصحابة رضي الله عنهم فتوى، وقد روِيَ له عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف وستمائة وستون حديثا " 1660 " اتفق البخاري ومسلم على خمسة وتسعين منها، وانفرد البخاري بمائة وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين، وروى العلم عنه خلق كثير، ذكر منهم في التهذيب مائة وسبعة وتسعين نفسا " 197 "، قال عبد الله بن عبد الله بن عتبة: ما رأيت أحدا أعلم من ابن عباس بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقضاء أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ولا أفقه منه، ولا أعلم بتفسير القرآن، وبالعربية والشعر، والحساب والفرائض. وكان يجلس يوما للفقه، ويوما للتأويل، ويوما للمغازي، ويوما للشعر، ويوما لأيام العرب، وما رأيت عالما قط جلس إليه إلا خضع له، ولا سائلا سأله إلا وجد عنده علما، توفى: النبي صلى الله عليه وسلم وعمره ثلاث عشرة سنة، وقيل عاش إحدى وسبعين سنة، توفي بالطائف سنة ثمان وستين، وقيل سنة سبع وستين، وقيل تسع وستين رضي الله عنهما. [انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 274، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 3 / 331-359، والإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر 2 / 330] .
(3) وأخرجه مسلم في كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، 3 / 1253، برقم 1629.
(4) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين لمحمد بن أبي نصر الحميدي، ص 150 وجامع الأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لابن الأثير 11 / 632، وفتح الباري لابن حجر، 5 / 370 وعمدة القاري للعيني، 14 / 36، وشرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 62.(1/70)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
ا- من صفات الداعية: الرحمة.
2 - من صفات الداعية: الفهم والفقه.
والحديث عن هذين الدرسين والفائدتين الدعويتين على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: الرحمة: لا شك أنه ينبغي للداعية إلى الله تعالى أن يعطف على المدعوين ويرحمهم، وهذه صفة عظيمة من صفات الدعاة إلى الله تعالى؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يرحم الله من لا يرحم الناس» (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» (2) وقال: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي» (3) ". . . «إن أبعد الناس من الله القلب القاسي» (4) .
وتظهر الرحمة في هذا الحديث أن ابن عباس رضي الله عنهما رغب أن يغض الناس من الوصية بالثلث إلى الربع رحمة بورثتهم ورغبة في الإِحسان إليهم حتى لا يتكففون الناس؛ ولأن الصدقة عليهم أفضل من غيرهم؛ لأنهم أولى بها من غيرهم.
ثانيا: من صفات الداعية: الفهم والفقه: الفقه لغة: العلم بالشيء والفهم له، والفطنة، وغلب على علم الدين لسيادته وشرفه، وفضله على سائر أنواع العلم (5) ؛ ولهذا في دعا صلى الله عليه وسلم لابن عباس
_________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى قلِ ادْعوا اللَّهَ أَوِ ادْعوا الرَّحْمَنَ أَيّا مَا تَدْعوا فَلَه الْأَسْمَاء الْحسْنَى [الإسراء: 110] ، 8 / 208، برقم 7376، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمة الصبيان والعيال 4 / 1809، برقم 2319.
(2) أبو داود، كتاب الأدب، باب في الرحمة 4 / 285، برقم 4941، والترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين 4 / 324، برقم 1924، وصححه الألباني في صحيح الترمذي 2 / 180.
(3) أبو داود، كتاب الأدب، باب في الرحمة 4 / 286، برقم 4942، والترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين 4 / 323، برقم 1923، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي 2 / 180.
(4) الترمذي، كتاب الزهد، باب 61، 4 / 607، برقم 2411، وحسنه عبد القادر الأرنؤوط في تحقيقه للأذكار للنووي ص 285.
(5) انظر: لسان العرب، لابن منظور، 13 / 522، مادة " فقه "، والقاموس المحيط، للفيروزآبادي، ص 1614.(1/71)
رضي الله عنهما بالفقه فقال: «اللهم فقهه في الدين» (1) والمعنى اللهم فَهِّمْه الدين؛ والفقه: الفهم كما قال تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] (2) أي ليكونوا علماء به. وهذه الصفة العظيمة مهمة للداعية، وقد رزق الله ابن عباس الفقه في الدين استجابة لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما يدل على فقهه ما قاله في هذا الحديث: " لو غض الناس إلى الربع "؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الثلث والثلث كثير» قال ابن دقيق العيد رحمه الله في قول ابن عباس رضي الله عنهما: " لو غض الناس إلى الربع ": قد استنبطه ابن عباس من لفظ " كثير " (3) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله " وكأن ابن عباس رضي الله عنهما أخذ ذلك من وصفه صلى الله عليه وسلم: الثلث بالكثرة " (4) .
وهذا يدل على فقه ابن عباس رضي الله عنهما، ولا غرابة فهو حبر الأمة، ويدل على أهمية الفقه للداعية إلى الله تعالى، فعلى الداعية أن يسأل الله عز وجل الفقه في الدين، وأن يتحصن بالعلم الشرعي: علم الكتاب والسنة.
* * * *
_________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب الوضوء، باب وضع الماء عند الخلاء 1 / 51، برقم 143، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل ابن عباس رضي الله عنهما 4 / 1927، برقم (2477) .
(2) سورة التوبة، الآية: 122.
(3) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد 2 / 164.
(4) فتح الباري 5 / 370.(1/72)
[باب لا وصية لوارث]
[حديث كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين]
6 - باب لا وصية لوارث 6 -[2747] حَدَّثَنَا محَمَّد بن يوسفَ، عَنْ وَرْقاءَ، عَنْ ابنِ أَبي نَجيْحٍ، عَنْ عطَاءٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ (1) رضي الله عنهما قَالَ: " كَانَ المَال لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ الوَصيَّة لِلوَالِدَينِ، فَنَسَخَ الله مِن ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأنثيين، وَجَعَلَ لِلأَبَوَينِ لِكلِّ وَاحِدٍ مِنْهمَا السّدسَ، وَجَعَلَ لِلمَرْأَةِ الثمنَ وَالربعَ، وللزَّوج الشَّطْرَ والرّبعَ " (2) .
* شرح غريب الحديث: * " فنسخ الله من ذلك ما أحب " النسخ: أمر كان يعمل به من قبل، ثم ينسخ بحادثٍ غيره، كالآية ينزل فيها أمر ثم تنسخ بآية أخرى، وكل شيء خَلَفَ شيئا فقد نسخه: أي أبطله وقام مقامه، والأول منسوخ والثاني ناسخ، يقال: نسخت الشمس الظل: أي أزالت الظل وحلت محله (3) .
" الشطر " النصف (4) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أهمية تبليغ العلم النافع للناس.
2 - عناية الإسلام بحقوق الإِنسان.
3 - من موضوعات الدعوة: بيان الناسخ والمنسوخ.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 5-2743.
(2) (الحديث 2747) ، طرفاه في: كتاب التفسير، باب وَلَكمْ نِصْف مَا تَرَكَ أَزْوَاجكمْ، 5 / 210، برقم 4578، وكتاب الفرائض، باب ميراث الزوج مع الولد وغيره، 8 / 8، برقم 6739.
(3) انظر: معجم المقاييس في اللغة، لابن فارس، مادة " نسخ " ص 1026، ولسان العرب لابن منظور، باب الخاء فصل النون، 3 / 61، وتفسير القرطبي 2 / 67.
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الشين مع الطاء 2 / 473.(1/73)
أولا: أهمية تبليغ العلم النافع للناس: دل مفهوم هذا الحديث على أهمية تبليغ العلم النافع للناس؛ فإن ابن عباس رضي الله عنهما قد بلغ في هذا الحديث علم الفرائض- الذي هو نصف العلم- وبينه للناس بيانا واضحا؛ فقد بين صلى الله عليه وسلم أن المال الذي يخَلِّفه الميت كان يأخذه أولاده ميراثا، وكانت الوصية في أول الإسلام واجبة للوالدين والأقربين على ما يراه الموصي من المواساة والتفضيل، ثم نسخ الله عز وجل من ذلك ما أحب وحدد الفرائض وأعطى كل ذي حق حقه (1) .
فينبغي للدعاة إلى الله تعالى أن يقتدوا بحبر الأمة ويبلغوا العلم النافع للناس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية» (2) ودعا صلى الله عليه وسلم بالنَّضَارة، وهي: النعمة والبهجة لمن بلغ عنه عليه الصلاة والسلام، فقال: «نَضّرَ الله امرأ سَمِعَ مِنَّا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فَربَّ حَامِل فقهٍ إلى من هو أفقه منه، وربَّ حامِل فِقْهٍ ليس بفقيهٍ» (3) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «نَضّرَ الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، وحفظها وبلّغها، فَرب حامل فِقهٍ إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يَغِلّ (4) عليهنَّ قَلْب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن الدعوة تحيط من ورائهم» (5) فعلى الدعاة إلى الله عز وجل أن يرغبوا في هذا الفضل العظيم، وهذه الدعوة المباركة. والله المستعان.
_________
(1) انظر: عمدة القاري للعيني، 14 / 38، وإرشاد الساري للقسطلاني، 5 / 8، 9 / 433.
(2) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل 4 / 175، برقم 3461.
(3) أبو داود، كتاب العلم، باب فضل نشر العلم 3 / 322، برقم 3660، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع 5 / 33، برقم 2656. وصححه الألباني في صحيح الترمذي 2 / 388.
(4) يَغِل: من الغل. الحقد والضِّغن، أي لا يدخل قلبه شيء من الحقد يزيله عن الحق، ويروى بضم الياء وكسر الغين: " يغِل " ومعناه الخيانة، والإغلال الخيانة في كل شيء، والمعنى: أن هذه الخصال الثلاث تصلح بها القلوب فمن تمتك بها طهر قلبه من الدغل والقساوة.
انظر: جامع الأصول لابن الأثير 1 / 267-268.
(5) الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع 5 / 34 برقم 2658، وأحمد في المسند، 1 / 437، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح 1 / 78، وعبد القادر الأرنؤرط في جامع الأصول 1 / 266.(1/74)
ثانيا: عناية الإسلام بحقوق الإنسان: يظهر في هذا الحديث جليّا أن الإسلام حفظ حقوق الإِنسان واعتنى بها عناية فائقة، وهذا يبين أنه الدين الذي يصلح لكل زمان ومكان؛ فإنه تكفل بما يعود على الإِنسان المسلم بالسعادة في الدنيا والآخرة.
ويؤخذ من هذا الحديث امتياز الإسلام وحفظه للحقوق الإِنسانية، وذلك لأمور:
1 - الإسلام أبطل نظام الجاهلية الذي ينقل مال الميت إلى الكبير من أبنائه، فإن لم يكن له أبناء فإلى أخيه أو عمه، فلا يورِّثون الصغار، ولا الإناث؛ بحجة أن هؤلاء لا يحمونهم، ولا يقاتلون معهم، ولا يحوزون المغانم (1) فجاء الإسلام يهدم عادات الجاهلية قال الله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] (2) فحفظ الإسلام حقوق الناس ذكورا وإناثا، صغارا وكبارا، وأعطى كل ذي حق حقه، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: «إن الله تعالى قد أَعطى كلَّ ذي حق حقه فلا وصية لوارث» (3) فإذا كانت الجاهلية راعت الأقوياء وحرمت الضعفاء من الميراث، فكل الإسلام راعى هؤلاء الضعفاء؛ لأنهم أحق بالعطف، ولم يحرم الإسلام الأقوياء من الميراث، فكل من توفر فيه سبب من أسباب الإِرث، وانتفى عنه المانع ورث كبيرا كان أو صغيرا، ذكرا كان أم أنثى، قويا أم ضعيفا (4) .
2 - الإسلام يقَوِّي أواصر القرابة بين الناس، ويحكم الصلة بينهم بصلة الرحم، كما قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] (5)
_________
(1) انظر: تفسير الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري 7 / 597-598.
(2) سورة النساء، الآية: 7.
(3) الترمذي، كاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث، 4 / 433، برقم 2120، وابن ماجه، في كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث 2 / 905، برقم 2713، وصححه الألباني في صحيح الترمذي 2 / 218.
(4) انظر: تفسير الطبري " جامع البيان عن تأويل آي القرآن 7 / 598، والتحقيقات المرضية في المباحث الفرضية، للدكتور صالح بن فوزان الفوزان ص 19.
(5) سورة الأنفال، الآية: 75.(1/75)
فهو يقدم الذرية بالإِرث على الأصول وعلى بقية القرابة، ومع هذا فلا يحرم الأصول ولا بقية القرابات، بل يجعل لكل ذي نصيبٍ نصيبه (1) وهذا نظام العدالة والمواساة. والرحمة: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] (2) .
3 - الإسلام يحترم الملكية الفردية، فنظام التوريث يعطينا دلالة واضحة على احترام هذا الدين للملكية الفردية؛ لأنه يسلم الثروة التي يخلفها الميت إلى يد وارثه موفورة محترمة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن ترك مالا فلورثته» (3) وهذا من أكبر الدوافع التي تقوي نشاط أهل الأموال إلى الاستثمار، وبذل الجهد في ذلك؛ لأن الإنسان الذي يعرف أن الأموال التي بذل جهده في جمعها تصير بعد ذلك إلى غير ورثته ولا ينتفع بها أولاده لا يحافظ عليها، ولا يحميها. وهذا يدل على سماحة الإسلام وحفظه لحقوق الإنسان كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] (4) .
ثالثا: من موضوعات الدعوة: بيان الناسخ والمنسوخ: الإسلام نسخ جميع الشرائع السابقة، ومعلوم أن أصل دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحد، وهو " التوحيد "، أما الشرائع فقد نسختها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله ختم بها جميع الشرائع، وأرسله إلى الإِنس والجن، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] (5) وحديث ابن عباس يظهر منه جليّا وقوع النسخ، ولهذا قال ابن حجر رحمه الله على قول ابن عباس رضي الله عنهما: " فنسخ من ذلك ما أحب ": " وفيه رد على من أنكر النسخ " (6)
_________
(1) انظر: التحقيقات المرضية للفوزان، ص 20.
(2) سورة فصلت، الآية: 42.
(3) البخاري، كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب الصلاة على من ترك دينا 3 / 116، برقم 2398.
(4) سورة الأنعام، الآية: 38.
(5) سورة آل عمران، الآية: 85.
(6) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8 / 245.(1/76)
ولا شك أن الإسلام نسخ جميع الشرائع السابقة بالإِجماع (1) ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار» (2) .
فالداعية إلى الله تعالى قد يحتاج إلى بيان الناسخ من المنسوخ في هذه الشريعة كما قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] (3) وقد يحتاج إلى بيان نسخ الشريعة الإِسلامية لجميع الشرائع السابقة، وذلك في دعوته لغير المسلمين، وخاصة أهل الكتاب، فعليه أن يلمَّ بذلك إلماما جيدا؛ قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: " معرفة هذا الباب أكيدة، وفائدته عظيمة لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء؛ لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام " (4) .
فينبغي للداعية أن يسلك طريق الحكمة في بيان أن الشريعة الإِسلامية ناسخة لجميع الشرائع السابقة، وأن يبين للناس: الناسخ والمنسوخ عن علم وبصيرة، على حسب ما يحتاجه المدعو.
* * * *
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 8 / 245.
(2) مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته، 1 / 134، برقم (153) .
(3) سورة البقرة، الآية: 106.
(4) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 2 / 66.(1/77)
[باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب]
[حديث اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا]
11 - باب هَلْ يَدخل النّساء والولد في الأَقَارب؟ 7 -[2753] حَدَّثَنَا أَبو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شعَيْب، عَن الزّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَني سَعِيد بن المسَيّب وأَبو سَلَمَةَ بن عَبدِ الرّحمنِ: أَنَّ أَبا هرَيْرَةَ (1) رضي الله عنه قَالَ: «قَامَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم حينَ أنزَلَ الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] قال: " يَا مَعْشَرَ قريشٍ - أَوْ كَلِمَة نَحْوَهَا- اشْتَروا أَنفسَكمْ، لَا أغْنِي عَنْكمْ مِن اللهِ شيْئا. يَا بَنِي عَبْدِ مَنافٍ، لَا أغْنِي عَنْكمْ مِنَ اللهِ شَيْئا. يَا عَبَّاس بنَ عبدِ المطلبِ، لا أغنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئا. يَا صَفِيَّة عمةَ رسولِ الله، لا أغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئا. ويَا فَاطِمَة بِنتَ محَمدٍ، سَلِيني مَا شِئتِ مِن مَالي لَا أغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئا» (2) .
وفي رواية: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ اشْتَروا أنْفسَكمْ مِنَ اللهِ، يَا بَنِي عَبْدِ المطَّلِبِ اشْتَروا أَنْفسَكمْ مِنَ اللهِ، يَا أمَّ الزّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ عَمَّة رَسولِ اللهِ، يَا فَاطِمَة بِنْتَ محَمِّدٍ اشْتَرِيا أَنْفسَكمَا مِنَ اللهِ، لَا أَمْلِك لَكمَا مِنَ اللهِ شَيْئا سَلانِي مِنْ مَالي مَا شِئْتمَا» (3) .
_________
(1) أبو هريرة الإمام الفقيه الحافظ الداعية العظيم المبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم الكثير، اختلف في اسمه على نحو ثلاثين قولا، الراجح منها أن اسمه: عبد الرحمن بن صخر الدوسي بلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " 5374 " حديثا. اتفق البخاري ومسلم على " 326 " حديثا، وانفرد البخاري ب " 93 "، حديثا، ومسلم ب " 98 " حديثا، فقد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا طيبا مباركا فيه، وهذا بفضل الله تعالى ثم بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم له، فقد قال رضي الله عنه: تزعمون أني أكثر الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله الموعِد - أي يحاسبني إن تعمدت كذبا- كنت رجلا مسكينا أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، وإنه حدث صلى الله عليه وسلم يوما فقال: " من يبسط ثوبه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه فلن ينسى شيئا سمعه مني "، فبسطت بردة كانت علي، فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئا سمعته منه. [البخاري برقم 7354، ومسلم برقم 2492،، وقد حدث عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين، قال البخاري: روى عنه ثمانمائة أو أكثر، وكان مع ذلك عاملا بعلمه متواضعا؛ ولهذا كان خليفة لمروان، فجاء يحمل حزمة حطب في السوق فقال: أوسع الطريق للأمير. مات رضي الله عنه سنة سبع وخمسين، وقيل سنة ثمان، وقيل: سنة تسع، والراجح كما قال البخاري وابن حجر أنه مات سنة سبع وخمسين، وله ثمان وسبعون سنة رضي الله عنه. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 2 / 578-632، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر: 4 / 202- 211.
(2) [الحديث 2753] ، طرفاه: في كتاب المناقب، باب من انتسب إلى آبائه في الإسلام والجاهلية 6 / 551، برقم 3527 وفي كتاب التفسير، 26- سورة الشعراء، باب وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ 8 / 501 برقم 4771، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ 1 / 192، برقم 204، ورقم 206.
(3) من الطرف رقم 3527.(1/78)
* شرح غريب الحديث: * العشيرة عشيرة الرجل: بنو أبيه الأقربون وقبيلته (1) .
* يا معشر قريش المعشر: كل جماعةٍ أمرهم واحد، نحو: معشر المسلمين، معاشر المشركين، ومعاشر: جماعات الناس (2) ويا معشر: مثل قوله: يا بني فلان، يا بني فلان (3) فقوله: " يا معشر قريش " أي يا جماعة، أو يا قبيلة قريش.
* اشتروا أنفسكم من الله " العبد مشترٍ لنفسه باعتبار تخليصها من العذاب، بائع باعتبار تحصيل الثواب (4) كأنه قال: أسلموا تسلموا من العذاب، فكان ذلك كالشراء، كأنهم جعلوا طاعة الله ثمن النجاة (5) أما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] (6) فالمؤمن في هذا المقام بائع باعتبار تحصيل الثواب والثمن الجنة (7) .
أنقذوا أنفسكم من النار من الإِنقاذ: خلّصوها من النار بترك أسبابها والاشتغال بأسباب الجنة (8) يقال: أنقذت فلانا: إذا خلصته مما يكون قد وقع فيه أو شارف أن يقع فيه (9) .
لا أغني أي: لا أدفع، والمعنى لا تتكلوا على قرابتي فإني لا أقدر على دفع مكروه يريده الله تعالى بكم (10) .
_________
(1) انظر: مختار الصحاح، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مادة " عشر " ص 182، والمعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية، مادة " عشر " 2 / 602.
(2) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الراء، فصل العين 4 / 574.
(3) انظر: عمدة القاري للعيني 19 / 102.
(4) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الياء، فصل الشين، 14 / 428، وشرح الكرماني على صحيح البخاري 14 / 131، وعمدة القاري للعيني، 16 / 93.
(5) انظر: فتح الباري لابن حجر، 8 / 503.
(6) سورة التوبة، الآية: 111.
(7) انظر: فتح الباري لابن حجر، 8 / 503.
(8) انظر: المقاييس في اللغة لابن فارس، كتاب النون، باب النون والقاف، مادة " نقذ " ص 1044، وغريب ما في الصحيحين للحميدي ص 315، وحاشية السندي على سنن النسائي 6 / 248.
(9) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الياء، فصل العين، 15 / 137، وجامع الأصول لابن الأثير، 2 / 292.
(10) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 3 / 80.(1/79)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - دعوة الأقربين.
2 - التدرج في الدعوة.
3 - من صفات الداعية: الصدق.
4 - قرب المدعو من أهل الفضل لا ينفع إلا بالعمل الصالح.
5 - أهمية ربط المدعوين بخالقهم.
6 - من وسائل الدعوة: الخطبة.
7 - من وسائل الدعوة: البروز للناس على مكان مرتفع.
8 - اختيار الداعية الوقت المناسب للمدعوين.
9 - من وسائل الدعوة: التأليف بالمال.
10 - من وسائل الدعوة: التأليف بالجاه والنسب.
11 - من أساليب الدعوة: النداء بالأنساب والكنى.
12 - من أساليب الدعوة: التكرير بالإِنذار.
13 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
14 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: دعوة الأقربين: مما لا شك فيه أنه يلزم الداعية إلى الله تعالى أن يعتني بأقاربه عناية خاصة؛ لأن الله عز وجل أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن ينذر عشيرته الأقربين؛ وأنهم أحق الناس بالنصيحة والتوجيه والإِحسان؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة» (1) ولا شك أن دعوة العشيرة
_________
(1) أحمد في المسند، 2 / 17، 18، 214، والنسائي، كتاب الزكاة باب الصدقة على الأقارب 5 / 92، برقم 2582، والترمذي، وحسنه، في كتاب الزكاة، باب ما جاء في الصدقة على ذي القرابة 3 / 38، برقم 658، وابن ماجه، في كتاب الزكاة، باب فضل الصدقة 1 / 591، برقم 1844 من حديث سليمان بن عامر الضبي رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1 / 202.(1/80)
الأقربين وتوجيههم إلى سعادتهم الأبدية أعظم وأولى من الصدقة بالمال.
والناس في الغالب ينظرون إلى قرابة الداعية، ومدى تطبيقهم لما يدعو إليه؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " والسر في الأمر بإنذار الأقربين أولا، أن الحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم، وإلا فكانوا علة للأبعدين في الامتناع، وأن لا يأخذه ما يأخذ القريب من العطف والرأفة، فيحابيهم في الدعوة والتخويف، فلذلك نَصَّ له على إنذارهم (1) ولهذا كان عمر رضي الله عنه إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء جمع أهله فقال: " إني نهيت الناس عن كذا وكذا " وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم بالله لا أجد أحدا منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة " (2) .
ثانيا: التدرج في الدعوة: بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة السرية بعد أن أمره الله تعالى بإنذار قومه عاقبة ما هم فيه من الشرك، وما هم عليه من الكفر والفساد، قال تعالى؛ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ - وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ - وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1 - 7] (3) وبعد هذه الآيات بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض الإسلام على من يعرفهم ويعرفونه: يعرفهم بحب الخير والحق، ويعرفونه بتحري الصدق والصلاح، فأجابه من هؤلاء جمع عرفوا بالسابقين الأولين. ثم أنزل الله تعالى بعد ذلك {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ - إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 94 - 95] (4) وهذا أمر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ رسالته قومه وجميع من أرسل إليه (5) وأمره تعالى بإنذار عشيرته الأقربين، فبدأ صلى الله عليه وسلم دعوته الجهرية بإنذارهم. وقد بين الإمام ابن القيم رحمه الله ترتيب الدعوة للنبي صلى الله عليه وسلم وأنها على الترتيب الآتي:
_________
(1) " فتح الباري 8 / 503، وانظر: هداية الباري إلى ترتيب صحيح البخاري، لعبد الرحيم الطهطاوي، 2 / 341.
(2) تاريخ الأمم والملوك، للطبري 2 / 68، والكامل في التاريخ، لابن الأثير 3 / 31.
(3) سورة المدثر، الآيات: 1-7.
(4) سورة الحجر، الآيتان: 94-95.
(5) انظر: تفسير الطبري " جامع البيان عن تأويل آي القرآن " 7 / 151.(1/81)
الأولى: النبوة.
الثانية: إنذار عشيرته الأقربين.
الثالثة: إنذار قومه.
الرابعة: إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله: وهم العرب قاطبة.
الخامسة: إنذار جميع من تبلغه دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر (1) .
وهذا الحديث في هذا الباب دل على الدرجة الثانية؛ فينبغي للداعية أن يراعي ويسلك طريق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته.
ثالثا: من صفات الداعية: الصدق الصدق من أهم صفات الداعية إلى الله تعالى، وفي هذا الحديث دليل على التحرز من الكذب وتحري الصدق؛ لأن الراوي نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: " يا معشر قريش أو كلمة نحوها " وهذا شك من الراوي هل قال النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة أو ما معناه (2) .
ولا شك أن الصدق من أهم الصفات للداعية، وخاصة في ثلاثة مجالات:
1 - الصدق في النية والقصد، وهذا يستلزم الإخلاص في الدعوة لله تعالى، وفي كل طاعة وقربة.
2 - الصدق في القول، وهذا يستلزم أن لا ينطق الداعية بالباطل أيا كانت صورته: كذبا، أو شتما، أو سبابا، أو غشا، أو غيبة، أو نميمة، أو غير ذلك من الألفاظ القبيحة.
3 - الصدق في العمل، وهو مطابقة الأقوال والأعمال للحق الذي يدعو إليه الداعية، فيعمل بما يدعو إليه قولا وعملا. (3) .
فعلى الداعية أن يكون صادقا في جميع المجالات؛ ولهذا قال الله تعالى:
_________
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 1 / 86.
(2) بهجة النفوس وتحليتها بمعرفة ما لها وما عليها، شرح مختصر صحيح البخاري، لعبد الله بن أبي جمرة الأندلسي 3 / 91.
(3) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 2 / 268.(1/82)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] (1) .
رابعا: قرب المدعو من أهل الفضل لا ينفع إلا بالعمل الصالح: لا ريب أن المدعو إذا كان قريب النسب أو الجوار لأهل الفضل لا ينفعه ذلك إلا بالعمل؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في ندائه لبطون قريش: " لا أغني عنكم من الله شيئا "، وقال لفاطمة بنته: " لا أغني عنك من الله شيئا "، قال الإمام الحافظ ابن العربي رحمه الله في الكلام على هذه الجملة: " هذا كلام بديع، فهذا نوح عليه السلام لما كفر ابنه لم تنفعه بنوته، وهذا إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما كفر أبوه لم تنفعه أبوته، كذلك أبو طالب لم تنفعه عمومته للنبي صلى الله عليه وسلم ولم تنجه من العذاب، وفي هذا بيان أن العصمة بالعمل الصالح لا بالقرابة، قال صلى الله عليه وسلم: ". . . «ومن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه» (2) وكذلك الصلة بسبب النكاح لا تنفع إلا بالإيمان، وقد بين الله ذلك سبحانه في قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} [التحريم: 10] (3) وفي قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} [التحريم: 11] (4) فلم تنتفع زوجتا نوح ولوط بإيمان زوجيهما، ولم يضر امرأة فرعون كفر زوجها فرعون " (5) .
فينبغي أن يعْلَم أن رؤية أهل الفضل أو القرب من العلماء والصالحين ومخاطبتهم لا تنفع إلا إذا وقع الاقتداء بهم، وكلما قوي الاقتداء والعمل الصالح قوي القرب والانتفاع بإذن الله تعالى (6) .
خامسا: أهمية ربط المدعوين بخالقهم: ينبغي للداعية أن يبين للناس أنهم بحاجة إلى ربهم في جميع أمورهم، وأنهم ملك لله تعالى، وهم فقراء إليه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " اشتروا أنفسكم من الله "، قال
_________
(1) سورة التوبة، الآية: 119.
(2) أخرجه مسلم، في كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن 4 / 2074، برقم 2699.
(3) سورة التحريم، الآية: 10.
(4) سورة التحريم، الآية: 11.
(5) عارضة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، للحافظ ابن العربي 6 / 272.
(6) انظر: بهجة النفوس لابن أبي جمرة 3 / 91.(1/83)
الحافظ ابن حجر رحمه الله: " فيه إشارة إلى أن النفوس كلها ملك لله تعالى، وأن من أطاعه في امتثال أوامره واجتناب نواهيه وفَّى ما عليه من الثمن " (1) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: " اشتروا أنفسكم من الله " فقد بين الشراء ولم يبين الثمن الذي يشترى به، وقد بينه الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] (2) والشراء يجوز أن يطلق على البائع والمبتاع؛ لأن كل واحد منهما في الحقيقة بائع ومشتر، فالمؤمن الحقيقي ليس له في نفسه شيء، وإنما هو عليها أمين مثل الوصي على مال اليتيم، ينفق عليه بالمعروف (3) فعلى الداعية أن يسلك منهج النبي صلى الله عليه وسلم في ربط المدعوين بخالقهم تعالى.
سادسا: من وسائل الدعوة: الخطبة: الخطبة من الوسائل الحية في الدعوة إلى الله تعالى، وتبرز في هذا الحديث؛ لقول أبي هريرة رضي الله عنه: " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويبين ذلك الرواية الأخرى: من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، بأن النبي صلى الله عليه وسلم صعد على الصفا فجعل ينادي (4) وهذا يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم على الصفا، وعم وخص وأنذر صلى الله عليه وسلم.
فينبغي للداعية أن يعتني بالخطبة، ويحضر لها تحضيرا جيدا دقيقا؛ لما لها من التأثير في قلوب المدعوين؛ ولأن الخطبة في الغالب يجتمع لها الجمع الغفير في معظم الأحيان.
سابعا: من وسائل الدعوة: البروز للناس على مكان مرتفع: من الوسائل المهمة أن يبرز الداعية على مكان مرتفع يراه الناس أمام أعينهم، وخاصة إذا كان الجمع غفيرا، حتى يسمع الناس ما يقول؛ ولهذا شرع الصعود على المنبر في خطب الجمع، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الإمام ابن العربي
_________
(1) فتح الباري 8 / 503.
(2) سورة التوبة، الآيتان: 111-112.
(3) انظر: بهجة النفوس لابن أبي جمرة 3 / 92.
(4) انظر: صحيح البخاري 6 / 19، الحديث رقم 4770، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 8 / 501.(1/84)
معنى ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صعد الصفا يريد الإسماع؛ ولذلك شرع للمؤذن صعود السطوح والمواضع المرتفعة؛ ليكون أقوى لصوته، وأسمع له (1) .
فعلى الداعية أن يعتني بهذه الوسيلة عند الحاجة إليها.
ثامنا: اختيار الداعية الوقت المناسب للمدعوين: لا شك أنه ينبغي للداعية أن يختار الأوقات المناسبة للمدعوين، حتى يستطيع بتوفيق الله تعالى- أن يؤثر عليهم؛ ولهذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم وقت الصباح حينما بدأ بإنذار قريش؛ لكون هذا الوقت أنسب لهم، وأسمع لصوته (2) .
فينبغي للداعية أن يتحرى أوقات الفراغ والنشاط والحاجة عند المدعوين؛ ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا» (3) والمعنى كان صلى الله عليه وسلم يراعي الأوقات في تذكيرهم (4) .
تاسعا: من وسائل الدعوة: التأليف بالمال: لا شك أن التأليف بالمال من وسائل الدعوة إلى الله تعالى، وقد أشار إليه هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: " سليني من مالي ما شئت " قال العيني رحمه الله: " فيه أن الائتلاف للمسلمين وغيرهم بالمال جائز وفي الكافر آكد " (5) فينبغي للداعية أن يكون كالطبيب الذي يشخص المرض أولا، ثم يعطي العلاج على حسب نوع المرض، فإذا علم الداعية أن المدعو بحاجة إلى التأليف بالمال أعطاه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بهذه الوسيلة عناية فائقة حتى قال: «إني أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، خشية أن يكبَّ في النار على وجهه» (6)
_________
(1) انظر: عارضة الأحوذي بشرح سنن الترمذي لابن العربي، 6 / 270، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 502.
(2) انظر: عارضة الأحوذي، بشرح سنن الترمذي، لابن العربي، 6 / 270.
(3) البخاري، كتاب العلم، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، 1 / 29، برقم 68.
(4) انظر: فتح الباري لابن حجر، 1 / 162.
(5) عمدة القاري 14 / 48.
(6) متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: البخاري، كتاب الإيمان، باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة 1 / 15، رقم 27، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تأليف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه 1 / 132، برقم 150.(1/85)
وقد كان صلى الله عليه وسلم يعطي أشراف قريش وغيرهم من المؤلفة قلوبهم؛ لتلافي أحقادهم؛ ولأن الهدايا تجمع القلوب، وتجعل القلوب متهيئة للنظر في صدق الدعوة، وصحة العقيدة، والاستفادة من الآيات البينات، والبراهين الواضحة.
وصدق صلى الله عليه وسلم حيث قال: «تهادوا تحابوا» (1) وللتأليف بالمال أمثلة كثيرة من هديه صلى الله عليه وسلم (2) فينبغي للداعية أن يسلك هذا المسلك عند الحاجة إليه.
عاشرا: من وسائل الدعوة: التأليف بالجاه والنسب: من الوسائل النافعة في الدعوة إلى الله تعالى: التأليف بالجاه أو بالنسب؛ وفي هذا الحديث ما يشير إلى ذلك عنه صلى الله عليه وسلم حيث قال: " ويا صفية عمة رسول الله. . ويا فاطمة بنت محمد "، فكأنه صلى الله عليه وسلم يرقق قلب صفية وفاطمة رضي الله عنهما لما لهما من القرابة منه صلى الله عليه وسلم، وقد نادى صلى الله عليه وسلم عباس بن عبد المطلب، وصفية بنت عبد المطلب، وفاطمة بنت محمد لشدة قرابتهم منه (3) وقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم التأليف بالجاه؛ فقال صلى الله عليه وسلم للأنصار حينما آثر عليهم غيرهم في العطاء: «أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به " فقالوا: " بلى يا رسول الله قد رضينا» (4) .
وفي رواية: ". . . «لو سلك الناس واديا أو شعبا، وسلكت الأنصار واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار» (5) .
فينبغي للداعية أن يسلك منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله تعالى.
_________
(1) البيهقي في السنن الكبرى 6 / 169، والبخاري في الأدب المفرد ص 208، برقم 594، وحسن إسناده ابن حجر في التلخيص الحبير 3 / 70، وانظر: إرواء الغليل للألباني برقم 1601.
(2) انظر: البخاري مع الفتح 3 / 135، 6 / 250، 11 / 258، وصحيح مسلم 4 / 1803- 1806.
(3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 3 / 80.
(4) البخاري، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم 4 / 71، برقم 3147، ومسلم، كتاب الزكاة باب إعطاء المؤلفة قلوبهم وتصبر من قوي إيمانه 2 / 734، برقم 1059.
(5) مسلم، كتاب الزكاة، الباب السابق 2 / 735، برقم 1059.(1/86)
الحادي عشر: من أساليب الدعوة: النداء بالأنساب والكنى: ظهر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل النداء بالأنساب والكنى في دعوته إلى الله تعالى فقال: " يا بني كعب بن لؤيٍّ. . . يا بني مرة بن كعب. . . يا بني عبد شمس. . . يا بني عبد مناف. . . يا بني هاشم. . . يا بني عبد المطلب. . . يا بني فهر. . . يا بني عدي. . . يا عباس بن عبد المطلب. . . يا صفية عمة رسول الله. . . يا فاطمة بنت رسول الله. . . " (1) .
وفي رواية: «. . . يا أم الزبير بن العوام عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم» (2) .
فدل ذلك على أنه لا حرج على الداعية أن يستخدم مثل هذا إذا احتاج إليه (3) إذا كان مما يجلب قلوب المدعوين، ويدخل السرور عليهم والأنس والراحة، وقد علِمَ بالتجارب أن النداء بالكنى المباحة يدخل السرور على المنَادَى.
الثاني عشر: من أساليب الدعوة: التكرير بالإنذار: إن أسلوب التكرير وإعادة الإِنذار والتوجيه مرة بعد أخرى أسلوب نافع؛ لأن الناس قد ينسون بعد فترة من الزمن، وهذا يبين للدعاة إلى الله تعالى أهمية هذا الأسلوب، فإذا ألقى الداعية كلمة، أو خطبة، أو محاضرة، أو نصيحة على قوم من المدعوين ثم احتاج إلى إعادتها بعد فترة فلا حرج في ذلك؛ لأن المقصود أن يفهم الناس ما يلقى إليهم ويستوعبوه، فإذا لم يحصل هذا كرر ما يلقى إليهم حتى يرسخ في أذهانهم. قال الإمام ابن حجر رحمه الله في شرحه لحديث الباب: " ونداؤه صلى الله عليه وسلم للقبائل من قريش قبل عشيرته الأدْنَين؛ ليكرر إنذار عشيرته، ولدخول قريش كلها في أقاربه، ولأن إنذار العشيرة يقع بالطبع وإنذار غيرهم يكون بطريق الأولى " (4)
_________
(1) انظر: البخاري مع الفتح 5 / 383، 6 / 551، 8 / 501، ومسلم 1 / 192 - 193.
(2) البخاري، كتاب المناقب، باب من انتسب إلى آبائه في الإسلام والجاهلية 4 / 194، برقم 3527.
(3) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 551.
(4) المرجع السابق 6 / 552، 8 / 502.(1/87)
ثم قال رحمه الله: " وهذه القصة إن كانت وقعت في صدر الإسلام بمكة فلم يدركها ابن عباس، لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ولا أبو هريرة لأنه إنما أسلم بالمدينة، وفي نداء فاطمة يومئذٍ أيضا ما يقتضي تأخر القصة؛ لأنها كانت حينئذٍ صغيرة أو مراهقة. . والذي يظهر أن ذلك وقع مرتين مرة في صدر الإسلام. . . ومرة بعد ذلك حيث يمكن أن تدعى فيها فاطمة رضي الله عنها، أو يحضر ذلك أبو هريرة وابن عباس رضي الله عن الجميع " (1) .
وهذا يوضح للداعية أنه ينبغي له أن يكرر ما يحتاج إليه الناس بدون ملل ولا كسل (2) .
الثالث عشر: من أساليب الدعوة: الترهيب يظهر في هذا الحديث أسلوب الترهيب، وأنه من أساليب الدعوة التي ينبغي للداعية أن يعتني بها؛ لأن الترهيب يكون بما يخيف المدعو ويحذره من عدم الاستجابة، أو رفض الحق، أو عدم الثبات عليه بعد قبوله (3) .
فقد دل هذا الحديث على الترهيب من النار في قوله صلى الله عليه وسلم بعد نداء كل بطن من بطون قريش: «أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا» (4) .
الرابع عشر: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب، وهو كل ما يشوق المدعو إلى الاستجابة وقبول الحق، والثبات عليه (5) ؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: اشتروا أنفسكم من الله، قال الكرماني: " فإن قلت ما معنى الاشتراء وهم البائعون، قال الله
_________
(1) فتح الباري لابن حجر، بتصرف يسير 6 / 552، 8 / 502.
(2) انظر: الحديث رقم 4، الدرس الخامس.
(3) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الهاء، مادة. " رهب " 2 / 280، ولسان العرب، باب الباء، فصل الراء، 1 / 436، والقاموس المحيط للفيروزآبادي، باب الباء، فصل الراء، ص 118.
(4) هذا لفظ مسلم في صحيحه 1 / 192، وتقدم تخريجه ص 78.
(5) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الغين، مادة: " رغب " 2 / 236، ولسان العرب لابن منظور، باب الباء، فصل الراء، 1 / 422، والقاموس المحيط للفيروزآبادي، باب الباء، فصل الراء، ص 116.(1/88)
تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] (1) قلت: العبد مشتر لنفسه باعتبار تخليصها من العذاب، بائع باعتبار تحصيل الثواب " (2) .
وقال ابن حجر رحمه الله: " اشتروا أنفسكم من الله " أي باعتبار تخليصها من النار؛ كأنه قال: أسلموا تسلموا من العذاب، فكان ذلك كالشراء، كأنهم جعلوا طاعة الله ثمن النجاة، أما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] فهناك المؤمن بائع باعتبار تحصيل الثواب والثمن الجنة، وفيه إشارة إلى أن النفوس كلها ملك لله تعالى، وأن من أطاعه حق طاعته في امتثال أوامره واجتناب نواهيه وفَّى ما عليه من الثمن " (3) .
وهذا واضح في دلالة الحديث على أسلوب الترغيب، فينبغي للداعية إلى الله تعالى أن يستخدمه في دعوته.
* * * *
_________
(1) سورة التوبة، الآية: 111.
(2) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 14 / 131.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8 / 503.(1/89)
[باب إذا قال أرضي أو بستاني صدقة لله عن أمي فهو جائز]
[حديث أن سعد بن عبادة رضي الله عنه توفيت أمه وهو غائب عنها]
15 - باب إِذا قال أرضي أو بستاني صدقة لله عن أمِّي فهو جائز، وإن لم يبين لمن ذلك 8 -[2756] حَدَّثَنَا محَمَّد بن سَلامٍ: أَخْبَرَنَا مَخلَد بن يَزِيدَ: أَخْبَرَنَا ابن جرَيجِ قَالَ: أَخْبَرني يَعْلى: أنه سَمِعَ عِكْرِمَةَ يقول: أنبَأَنا ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَنَّ سَعْدَ بنَ عبَادَةَ (1) رضي الله عنه توفِّيَتْ أمّه (2) وَهوَ غَائب عَنْهَا، فَقَالَ: يَا رَسولَ اللهِ، إِنَّ أمِّي توفِّيَتْ وأَنا غَائِب عَنْهَا، أَيَنفَعها شَيْء إِنْ تَصدَّقْت بهِ عَنْهَا؛ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ؛ فَإِنِّي أشْهِدكَ أَنَّ حَائِطِي المِخْرافَ صَدَقة عَلَيْهَا» (3) .
وفي رواية: «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عبَادَةَ رضي الله عنه توفِّيَتْ أمّه وَهوَ غَائِب عَنْهَا فَأتى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسولَ اللهِ إِنَّ أمِّي توفِّيَتْ وَأنا غَائِب عَنْهَا فَهَلْ يَنْفَعهَا شَيء إِنْ تَصَدَّقْت بِهِ عَنْهَا؟» . . . " (4) .
* شرح غريب الحديث: * " حائطي " الحائط: الجدار، لأنه يحوط ما فيه (5) .
* " المخراف " هو الحائط من النخل، أو البستان المثمر، والمخراف:
_________
(1) سعد بن عبادة بن دلَيم بن حارثة الأنصاري الخزرجي الساعدي المدني، اتفقوا على أنه كان نقيب بني ساعدة وكان صاحب راية الأنصار في المشاهد كلها، وكان سيدا، جوادا، وجيها في الأنصار، ذا رياسة، وسيادة وكان مشهورا بالكرم، وكان يحمل كل يوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفنة مملوءة ثريدا ولحما، وله ولأهله في الجود والكرم أشياء كثيرة مشهورة، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغيرة، فكان شديد الغيرة شهد سعد: العقبة، وبدرا، وقيل لم يشهد بدرا، وشهد باقي المشاهد. وله أحاديث يسيرة وهي عشرون بالمكرر؛ لأنه مات قبل أوان الرواية، مات رضي الله عنه بأرض حوران- وهي كورة واسعة جنوب دمشق، وذات قرى ومزارع وحرار- وذلك سنة ست عشرة، وقيل خمس عشرة، وقيل أربع عشرة يقال إن الجن قتلته، وأنشدوا فيه البيتين المشهورين. رضي الله عنه وأرضاه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 212، وسير أعلام النبلاء للذهبي 1 / 270-279، والإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، 2 / 30.
(2) عمرة بنت مسعود وقيل بنت سعد بن قيس والدة سعد بن عبادة رضي الله عنها، ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم سنة خمس، والنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة دومة الجندل في شهر ربيع الأول، وقيل: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتى قبرها فصلى عليها، وسأل ولدها سعد النبي صلى الله عليه وسلم عن الصدقة عنها. انظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد، 8 / 331، والإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، 4 / 366 و 367.
(3) [الحديث 2756] ، وطرفاه: في كتاب الوصايا، باب الإشهاد في الوقف والصدقة 3 / 254. برقم 2762، وفي باب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز وكذلك الصدقة 3 / 258، برقم 2770.
(4) من الطرف رقم 2762.
(5) لسان العرب، لابن منظور، باب الطاء، فصل الحاء، 7 / 279.(1/90)
المثمرة، سماها مخرافا: لما يخترف منها (1) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه.
2 - مسارعة المدعو إلى عمل الخير.
3 - كرم المدعو.
4 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
5 - من وسائل الدعوة: القدوة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه: دل الحديث على أهمية السؤال للعالم عند الجهل، أو عند اشتباه الأمور؛ ولهذا ذكر الإمام عبد الله بن أبي جمرة الأندلسي أن من فوائد هذا الحديث: السؤال للعالم عند الجهل وترك الحكم بالرأي؛ لأن هذا الصحابي رضي الله عنه عندما لم يكن علم هل تنفع صدقته بتلك النية التي أراد أم لا، لم يقدم عليها برأيه، وإنما سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وحينئذ أقدم على الفعل بعد العلم بالحكم (2) .
وهكذا ينبغي للمدعو أن يسأل أهل العلم عما أشكل عليه حتى يعبد الله تعالى على بصيرة؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] (3) .
ثانيا: مسارعة المدعو إلى عمل الخير: دل الحديث على المسارعة إلى أفعال البر إذا علِمت، حتى يكون العلم مقرونا بالعمل؛ لأن هذا الصحابي رضي الله عنه عندما علم أن الصدقة تنفع أمه وأنه
_________
(1) انظر: أعلام الحديث، للخطابي 2 / 1347، والنهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، حرف الخاء مع الفاء 2 / 24، ولسان العرب لابن منظور، باب الفاء، فصل الخاء، 9 / 62، وعمدة القاري للعيني، 14 / 52.
(2) انظر: بهجة النفوس شرح مختصر صحيح البخاري، 3 / 95.
(3) سورة الأنبياء، الآية: 7.(1/91)
يثاب على ذلك أخرجها من حينه، فأشهد النبي صلى الله عليه وسلم عليها (1) .
فينبغي للمدعو أن يسارع إلى الخير، وينتهز الفرص المؤدية إلى ذلك؛ لأمر الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] (2) وقد مدح الله عز وجل آل زكريا بالمسارعة في الخير فقال عز وجل: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] (3) .
ثالثا: كرم المدعو: دل الحديث على كرم المدعو؛ لأن الصحابي الجليل رضي الله عنه- عندما تيقن أن الصدقة مقبولة ويلحق ثوابها لأمه- أعلن بصدقة عظيمة لا يستطيعها البخلاء من البشر، وأعطى الحائط العظيم صدقة عن أمه، وهذا العمل من الصحابي الجليل لا يستغرب؛ فإنه ممن اشتهر بالجود والكرم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان رضي الله عنه يحمل كل يوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفنة مملوءَة ثريدا ولحما (4) ؛ ولهذا الكرم العظيم قال: " فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها ". فينبغي للمدعو أن يكون كريما جوادا، وهذا إن كان من صفات الدعاة ومعلمي الناس الخير؛ فإنه لا يمنع أن يكون المدعو كريما جوادا.
رابعا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل الحديث على الترغيب في الصدقة عن الميت، وأنها تصل إليه وتنفعه، ولا سيما إن كان من الوالدين؛ لأن حقهما أعظم وبرهما أوجب؛ ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أنواعا من أنواع البر التي ينبغي لكل مسلم أن يبر بها والديه بعد موتهما؛ فقد جاء «أن رجلا قال له: يا رسول الله: هل بقي من بر أبويَّ شيء أبرهما به بعد موتهما؛ فقيل إنه: قال: " نعم. . الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما
_________
(1) انظر: بهجة النفوس لابن أبي جمرة، 3 / 95.
(2) سورة آل عمران، الآية: 133.
(3) سورة الأنبياء، الآية: 90.
(4) انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1 / 212 - 213، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 1 / 270 -279.(1/92)
من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما» (1) .
فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب؛ لأن له تأثيرا في النفوس، ودفعا وترغيبا لها على الخير؛ قال الكرماني رحمه الله: " وفيه أن ثواب الصدقة عن الميت تصل إلى الميت وتنفعه، وهو مخصص لعموم قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] (2) .
خامسا: من وسائل الدعوة: القدوة: يظهر من كلام الصحابي الجليل وإظهاره للصدقة علانية أمام الناس أن القدوة وسيلة نافعة في الدعوة إلى الله تعالى؛ ولعظم القدوة انتفع خلق كثير بفعل سعد رضي الله عنه؛ لأن الفعل إذا قارن القول نفع الله به؛ ولهذا قال الإمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: " فيه دليل على أن إظهار الصدقة في مثل هذا الموضع أفضل من إخفائها؛ لأن هذا الصحابي رضي الله عنه قد أظهر صدقته هنا ولم يخفها، والحكمة في ذلك: اغتنام صدق النية؛ لأنه حصل له صدق النية عند الإخبار فاغتنمها بالعمل " (3) .
وعلى هذا الأسلوب كان الصحابة رضي الله عنهم، مهما زاد أحدهم في علمه ظهر في عمله، حتى إنهم كانوا يعرفون زيادة علم الْإِنسان في عمله، وكذا التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين؛ لأن العلم مع ترك العمل حجة ووبال على صاحبه؛ لأن الإنسان إذا اغتنم صدق نيته بالعمل حين حصول العلم بتَّ الأمر، وأمن غائلة النفس ومكر الشيطان (4) .
وهذا يبين عظم العمل بالعلم، وأنه ينبغي للداعية أن يكون قدوة حسنة لغيره؛ لأن الناس في الغالب ينتفعون بالعمل أكثر من القول (5) .
_________
(1) أبو داود، كتاب الأدب، باب في بر الوالدين 4 / 336 برقم 5142، وابن ماجه، كتاب الأدب، باب صل من كان أبوك يصل 2 / 1208 برقم 3664، وابن حبان في صحيحه، 2 / 162، برقم 418، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 4 / 154، وأحمد في المسند، 3 / 497 و 498، والبخاري في الأدب المفرد، ص 27، برقم 35، والطبراني في المعجم الكبير، 19 / 267، برقم 592، والبيهقي في السنن الكبرى، 4 / 28، وقال عبد القادر الأرنوؤط في تحقيق جامع الأصول: " في سنده علي بن عبيد الساعدي الراوي عن أبي أسيد لم يوثقه غير ابن حبان، وباقي السند رجاله ثقات "، 1 / 407، وانظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني، 2 / 62، برقم 597.
(2) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 12 / 74، وعمدة القاري 14 / 56، والآية من سورة النجم، الآية: 39، وانظر الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر.
(3) بهجة النفوس 3 / 95، 96 بتصرف يسير.
(4) انظر: المرجع السابق 3 / 95، 96.
(5) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث.(1/93)
[باب إذا تصدق أو وقف بعض ماله أو بعض رقيقه أو دوابه فهو جائز]
[حديث أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك]
16 - باب إذا تصَدَّقَ أَوْ وَقَفَ بَعْضَ مَالِهِ أوْ بَعضَ رَقِيقهِ أَوْ دَوابِّهِ فهوَ جَائِز 9 [ص:2757] حَدَّثَنَا يَحيىَ بْن بكَيْرٍ: حَدَثَنَا اللَّيْث، عَنْ عقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شهَابٍ قَالَ: أَخْبَرني عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ: سمِعْت كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ (1) رضي الله عنه يقول: «قلْت: يَا رَسولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أنخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَة إِلَى اللهِ وَرَسولِهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: " أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْض مَالِكَ فَهوَ خَيْر لَكَ " قلْت: فَإِنِّي أمْسِك سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ» (2) .
_________
(1) كعب بن مالك بن عمرو بن القين، الأنصاري، الخزرجي، العَقَبيّ الأحدي، شاعر رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وصاحبه، وأحد الثلاثة الذين خلّفوا فتاب الله عليهم، شهد العقبة، وأحدا، وسائر المشاهد إلا بدرا وتبوك، وقد أسلمت دوس بفضل الله تعالى ثم خوفا من بيت قاله كعب:
قضينا من تهامة كل ريب ... وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
نخيرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهن دوسا أو ثقيفا
له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانون حديثا، وقيل ثلاثون، اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين، جرح كعب يوم أحد أحَدَ عشر جرحا في سبيل الله، توفي بالمدينة رضي الله عنه في زمن معاوية رضي الله عنه سنة ثلاث وخمسين، وقيل خمسين رضي الله عنه.
انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 69، وسير أعلام النبلاء للذهبي 2 / 523- 530، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 3 / 302.
(2) الحديث [2757] أطرافه في كتاب الجهاد والسير، باب من أراد غزوة فورَّى بغيرها ومن أحب الخروج يوم الخميس، 4 / 7 برقم 2947، 2948، 2949، 2950، وباب الصلاة إذا قدم من السفر، 4 / 50 برقم 3088، وكتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم 4 / 200 برقم 3556، وكتاب مناقب الأنصار، باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وبيعة العقبة، 4 / 302 برقم 3889، وكتاب المغازي، باب قصة غزوة بدر، 5 / 5 برقم 3951، وباب حديث كعب بن مالك وقول الله عز وجل: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خلِّفوا 5 / 151 برقم 4418، وكتاب التفسير سورة براءة، باب قوله: سَيَحْلِفونَ بِاللَّهِ لَكمْ إِذَا انْقَلَبْتمْ إِلَيْهِمْ لِتعْرِضوا عَنْهمْ فَأَعْرِضوا عَنْهمْ إِنَّهمْ رِجْس وَمَأْوَاهمْ جَهَنَّم جَزَاء بِمَا كَانوا يَكْسِبونَ 5 / 247 برقم 4673، وباب قوله: لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعوه فِي سَاعَةِ الْعسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغ قلوب فَرِيقٍ مِنْهمْ ثمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّه بِهِمْ رَءوف رَحِيم 5 / 248 برقم 4676، وباب وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خلِّفوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِم الْأَرْض بِمَا رَحبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفسهمْ وَظَنّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتوبوا إِنَّ اللَّهَ هوَ التَّوَّاب الرَّحِيم 5 / 249 برقم 4677، وباب يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنوا اتَّقوا اللَّهَ وَكونوا مَعَ الصَّادِقِينَ 5 / 250 برقم 4678، وكتاب الاستئذان، باب من لم يسلم على من اقترف ذنبا ومن لم يرد سلامه حتى تتبين توبته وإلى متى تتبين توبة العاصي؛ وقال عبد الله بن عمرو: لا تسلموا على شربة الخمر 7 / 172 برقم 6255، وكتاب الأيمان والنذور، باب إذا أهدى ماله على وجه النذر والتوبة، 7 / 293 برقم 6690، وكتاب الأحكام، باب هل للإمام أن يمنع المجرمين وأهل المعصية من الكلام معه والزيارة ونحوه 8 / 162 برقم 7225.
وأخرجه مسلم، في كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه 4 / 2120 برقم 2769.(1/94)
وفي رواية: قَالَ: «سَمِعْت كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يحَدِّث حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ قِصَّةِ تَبوكَ قالَ كَعْب: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبوكَ غَير أني كنت تَخَلَّفْت فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ ولم يعَاتِبْ أَحَدا تَخَلَّفَ عَنْهَا. إِنَّمَا خَرَجَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يرِيد عِيرَ قرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ الله بَيْنَهمْ وَبيْنَ عَدوِّهِمْ عَلَى غَيرِ ميعَادٍ. وَلَقَدْ شَهِدْت مَعَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْعَقَبَة حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإسلام، ومَا أحِبّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدْر أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا. كَانَ مِنْ خَبَرِي أني لَمْ أَكنْ قَطّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْت عَنْه فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ. وَاللهِ مَا اجتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَه رَاحِلَتَانِ قَطّ حَتَّى جَمَعْتهمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَلَمْ يَكنْ رَسول اللهِ يرِيد غَزْوَة إِلَّا وَرَّى بِغَيْرهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَة غَزَاهَا رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَل سَفرا بَعِيدا وَمَفَازا وَعَدوّا كَثِيرا. فَجَلَّى لِلْمسْلِمِينَ أمرَهم ليتأَهَّبوا أهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهمْ بِوَجْههِ الَّذِي يرِيد وَالْمسْلِمونَ مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كثِير، وَلَا يَجْمَعهمْ كتاب حَافِظ - يرِيد الدِّيوَانَ- قَالَ كَعْب: فَما رَجل يرِيد أَنْ يَتَغَيَّبَ إلَّا ظَنَّ أنْ سَيَخْفَى لَه مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْي اللهِ، وَغَزَا رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَار وَالظِّلاَل. وَتَجَهَّزَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسْلِمونَ مَعَه، فَطَفِقْت أَعْدو لِكَيْ أتَجَهَّزَ مَعَهمْ فَأَرْجِع وَلَمْ أقْضِ شَيْئا فَأَقول في نَفْسِي: أَنا قَادِر عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الجِدّ، فَأَصْبَحَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم والْمسْلِمونَ مَعَه، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئا فَقلْت: أتَجَهَّز بعْدَه بِيَوْمٍ أَو يومَينِ؟ ثم أَلْحَقهمْ فَغَدَوْت بَعْدَ أَنْ فَصَلوا لأتَجَهَّزَ، فَرَجَعْت وَلَمْ أقْضِ شَيْئا ثمَّ غَدَوْت ثمَّ رَجعت وَلَمْ أَقْضِ شَيْئا. فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أسْرَعوا وَتَفَارَطَ الْغَزْو، وَهَمَمْت أَنْ أَرْتَحِلَ فَأدْرِكَهمْ، وَلَيْتَنِي فَعَلْت، فَلَمْ يقَدَّرْ لِي ذلِكَ، فكنْت إِذَا خَرَجْت فِي النَّاسِ بَعْدَ خروجِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَطفْت فِيهِمْ أحزَنَنِي أنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجلا مَغْموصا عَلَيْهِ النِّفَاَق، أَوْ رَجلا مِمَّنْ عَذَرَ الله مِنَ(1/95)
الضّعَفَاءِ، وَلَمْ يَذْكرْنِي رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى بَلَغَ تَبوكَ فَقَالَ وَهْوَ جَالِس فِي الْقَوْم بتَبوكَ: " مَا فَعَلَ كَعب؟ ". فَقالَ رَجل مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسولَ اللهِ حَبَسَه برْدَاه ونَظَره فِي عِطْفَيهِ، فَقَالَ معَاذ بْن جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قلْتَ، وَاللهِ يَا رَسولَ اللهِ مَا عَلِمناَ علَيْهِ إلّا خَيْرا، فَسَكَتَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ كَعْب بْن مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنه تَوَجَّهَ قافِلا حَضَرنِي هَمِّي، فَطَفِقْت أتَذَكَّر الْكَذِبَ وَأقول: بِمَاذَا أخْرج مِنْ سَخَطِهِ غَدا، واسْتَعَنْت عَلى ذَلِكَ بِكلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ إنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أظَلَّ قادِما زَاحَ عَنّي الْبَاطِل وَعَرَفْت أني لَنْ أَخْرجَ مِنْه أبَدا بشَيْءٍ فِيهِ كَذِب فَأَجْمَعْت صدْقَه، وَأصْبَحَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قادِما، وَكَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفرٍ بَدَأ بِالْمَسْجِدِ فيركع فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ. فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَه الْمخَلَّفونَ، فَطَفِقوا يَعْتَذِرونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفونَ لَه وَكَانوا بِضْعَة وَثَمَانِينَ رَجلا فَقَبِلَ مِنْهمْ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلاَنِيَتَهمْ وَبَايَعَهمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهمْ إِلَى اللهِ، فجِئْته فَلَمّا سلَّمْت عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تبَسّمَ الْمغْضَبِ ثمَّ قَال: " تَعَالَ " فَجِئْت أَمْشِي حَتَّى جَلَسْت بيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِي: " مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تكنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَك؟ " فَقلْت: بَلَى، إنِّي وَاللهِ لَوْ جَلَسْت عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أهْلِ الدّنْيَا لَرَأَيْت أنْ سَأَخْرج مِنْ سَخَطِهِ بِعذْرٍ ولَقَدْ أعْطِيت جَدَلا، وَلَكِنِّي وَالله لَقَدْ عَلِمْت لَئِنْ حَدَّثْتكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ ترْضَى بِهِ عَنِّي لَيوشِكَنَّ الله أنْ يسْخِطَكَ عَلَيَّ وَلَئِنْ حَدَّثْتكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِد عَلَيَّ فِيهِ، إنِّي لأَرْجو فِيهِ عَفْوَ اللهِ، لَا وَاللهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عذْرٍ، وَاللهِ مَا كنْت قطّ أقْوَى وَلَا أيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْت عَنْكَ، فَقَال رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: " أمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقمْ حَتَّى يَقْضِيَ الله فِيكَ " فَقمْت وَثَارَ رِجَال مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعوني فقَالوا لِي: وَالله مَا عَلِمْنَاكَ كنْتَ أذْنَبْتَ ذَنْبا قَبْلَ هَذَا، وَلَقَدْ عَجَزْتَ أنْ لَا تَكون اعْتَذَرْتَ إلَى رَسولِ اللهِ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمتَخَلِّفونَ قد كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَار رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَاللهِ مَا زَالوا يؤَنِّبونَنِي حَتَّى أرَدْت أنْ أرْجِعَ فَأكَذِّبَ نَفْسِي،(1/96)
ثم قلْت لَهمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعي أحد؟ قَالوا: نَعَمْ، رَجلاَنِ قَالَا مِثْلَ مَا قلْتَ فقيل لَهمَا مِثْل مَا قِيلَ لَكَ، فَقلْت: مَنْ همَا؟ قَالوا: مرَارَة بْن الرَّبيعِ الْعَمْرِيّ، وَهِلاَل بْن أمَيَّةَ الْوَاقِفِيّ، فَذَكَروا لِي رَجلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرا فِيهمَا أسوَة فمضيت حِينَ ذكروهمَا لِي، وَنَهَى رَسول الله صلى الله عليه وسلم الْمسْلِمِينَ عَنْ كلَاَمِنَا أيّهَا الثلاثة مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْه، فَاجْتَنَبَنَا النَّاس، وَتَغَيّروا لَنَا حَتَّى تَنكَّرَتْ فِي نفسِي الْأَرْض فَمَا هِيَ الَّتِي أعْرِف، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَة، فَأَمَّا صَاحِبَاي فاسْتكَانَا وَقَعَدَا فِي بيوتهِمَا يبكِيَانِ، وَأمَّا أنا فَكنْت أشَبَّ الْقَوْمِ وأجلَدَهمْ، فَكنْت أخْرج فَأَشْهَد الصَّلاَةَ مَعَ الْمسْلِمِينَ وَأطوف فِي الأَسْوَاقِ، ولَا يكَلّمنِي أحد وآتِي رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأسَلِّم عَلَيْهِ، وَهْوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ فأَقول فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ عَلَيَّ أَمْ لَا؟ ثمَّ أصلِّي قَرِيْبا مِنْه فأسَارِقه النَّظَرَ، فَإذَا أقْبَلْت عَلَى صَلاَتِي أقْبَلَ إِلَيَّ، وَإذَا الْتَفَتّ نَحْوَه أعْرَضَ عني حَتّى إذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ مَشَيْت حَتَّى تَسَوَّرْت جِدَارَ حَائِطِ أبِي قتادَةَ - وَهْوَ ابْن عَمِّي، وَأحَبّ النَّاسِ إلَيَّ- فَسَلَّمْت عَلَيْهِ، فَوَاللهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلاَمَ فَقلْت: يَا أبَا قَتَادَةَ أَنشدكَ بِاللهِ هَلْ تَعْلَمنِي أحِبّ اللهَ وَرَسولَه؛ فَسَكَتَ فعدت لَه فَنَشدته فَسَكَتَ، فَعدْت لَه فَنَشَدْته فَقَالَ: الله وَرَسوله أعْلَم، فَفَاضَتْ عينَايَ وَتَوَلَّيْت حَتَّى تَسَوَّرْت الْجِدَارَ، قَالَ: فَبَيْنَا أنا أمْشِي بِسوقِ الْمَدِينَةِ إذَا نبَطِيّ مِنْ أنبَاطِ أهْلِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعه بِالْمَدينَةِ يَقول: مَنْ يَدلّ عَلَى كعبِ بْنِ مَالِكِ؟ فَطَفِقَ النّاس يشِيرونَ لَه حَتَّى إذَا جَاءَنِي دَفَعَ إلَيَّ كِتَابا مِنْ مَلِكِ غَسانَ فإذا فِيهِ: أمَّا بعد فَإنه قَدْ بَلَغَنِي أنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ الله بدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالحَقْ بِنَا نوَاسِكَ، فَقلْت لَمَّا قَرَأْتهَا: وَهَذَا أيْضا مِنَ البَلاَءَ، فتيَمَّمْت بِهَا التَّنّورَ فَسَجَرْته بِهَا حَتَّى إِذَا مَضتْ أرْبَعونَ لَيلَة مِنَ الْخَمْسِينَ إذَا رَسول رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأْتِينِي فَقَالَ: إِنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمركَ أنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ،(1/97)
فَقلت: أطَلِّقهَا أمْ مَاذَا أَفْعَل؟ قَالَ: لَا، بَلِ اعْتَزِلْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا، وَأرْسَلَ إلَى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقلْت لاِمْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَتَكوني عِنْدَهمْ حَتَّى يقْضِيَ الله فِي هَذَا الأَمْرِ، قَالَ كَعب: فَجَاءَتِ امْرَأَة هِلاَل بْنِ أمَيَّةَ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسولَ اللهِ، إنَّ هِلاَلَ بنَ أمَيَّةَ شَيْخ ضَائِع لَيْسَ لَه خَادِم فَهَلْ تَكْرَه أنْ أَخْدمَه؟ قَالَ: " لَا، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبكِ " قَالَتْ: إِنَّه وَاللهِ مَا بِهِ حَرَكَة إِلَى شَيْءٍ، وَاللهِ مَا زَالَ يَبْكِي منْذ كَانَ مِنْ أمْرِهِ مَا كَانَ إلَى يَوْمِهِ هَذَا، فَقَالَ لِي بَعْض أهْلِي لوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم في امْرَأَتِكَ كَمَا أذِنَ لاِمْرَأَةِ هِلاَلِ بْنِ أمَيَّةَ أنْ تَخْدمَه، فَقلْت: وَاللهِ لَا أَسْتَأْذِن فِيهَا رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومَا يدْرِينِي مَا يَقول رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اسْتَأْذَنْته فِيهَا وَأنا رَجل شابّ فَلَبِثْت بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَال، حَتَّى كَملَتْ لَنَا خمْسونَ لَيْلَة مِنْ حِينَ نَهَى رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلاَمِنَا، فَلَمَّا صَلَّيْت صَلاَةَ الْفَجْرِ صبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَة وَأنا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بيوتِنَا فَبَيْنَا أنا جَالِس عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ الله قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأرْض بِمَا رَحبَتْ، سَمِعْت صَوْتَ صَارخٍ أوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ، قالَ: فَخَرَرْت سَاجِدا وَعَرَفْت أنْ قَدْ جَاءَ فَرَج وآذَنَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم بتَوْبَة اللهِ علَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاَةَ الْفَجْرِ، فَذَهَبَ النَّاس يبَشِّرونَنَا وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مبَشِّرونَ، وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجل فَرَسا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ، وَكَانَ الصَّوْت أسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْت صَوْتَه يبَشِّرنِي نزَعْت لَه ثَوْبَيَّ فَكَسَوْته إِيَّاهمَا بِبشْرَاه، وَاللهِ مَا أمْلِك غَيْرَهمَا يَوْمَئِذٍ واسْتَعَرْت ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتهمَا وانطَلَقْت إِلَى رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَتَلَقَّانِي النَّاس فَوْجَا فَوْجَا يهنئوني بِالتَّوْبَة، يَقولونَ: لِتَهْنِكَ تَوْبَة اللهِ عَلَيْكَ، قَالَ كَعْب: حَتَّى دَخَلْت المَسْجِد فَإذَا رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم جالِس حَوْلَه النَّاس، فَقَامَ إِلَيَّ طلحَة بْن عبَيْدِ اللهِ يهَرْوِل حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأنِي وَاللهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجل مِنَ الْمهَاجِرِينَ غَيْره، وَلَا أنْسَاهَا(1/98)
لِطَلْحَةَ، قَالَ كَعْب: فَلَمَّا سَلَّمْت عَلَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهوَ يَبْرق وَجْهه مِنَ السّرورِ: " أبْشِرْ بِخَيْرِ يَومٍ مَرَّ عَلَيْكَ منْذ وَلَدَتْكَ أمّكَ " قَالَ: قلْت: أمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسولَ اللَّهِ، أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ قَالَ: " لاَ، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ " وَكَانَ رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سرَّ اسْتَنَارَ وَجْهه حَتَّى كَأَنَّه قِطْعَة قَمَرٍ، وَكنَّا نَعْرِف ذَلِكَ مِنْه فَلَمَّا جَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ قلْت يَا رَسولَ اللَّهِ: إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَة إلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهوَ خَيْر لَكَ " قلْت: فَإنِّي أمْسِك سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ، فَقلْت: يَا رَسولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لَا أحَدِّثَ إِلَّا صِدْقا مَا بَقِيت، فوَاللَّهِ مَا أَعْلَم أحَدا مِنَ الْمسْلِمِينَ أَبْلاَه اللَّه فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ منْذ ذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحْسَنَ مِمَّا أبْلَانِي، مَا تَعَمَّدْت منْذ ذَكرْت ذَلِكَ لِرَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبا وَإِنِّي لَأَرْجو أنْ يَحْفَظَنِي اللَّه فِيمَا بَقِيت، وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عَلَى رَسولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 117] إِلَى قَوْلِهِ: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّه علَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطّ بَعْدَ أنْ هَدَانِي لِلإِسْلاَمِ أعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي لِرَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا أَكونَ كَذَبْته فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبوا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ للَّذِينَ كَذَبوا حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ - يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 95 - 96] قَالَ كَعب: وَكنَّا تَخَلَّفْنَا أَيّهَا الثَّلاثة عَنْ أمْرِ أولَئِكَ الذِينَ قَبِلَ مِنْهمْ رَسول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حِلَفوا لَه، فَبَايَعَهمْ وَاستَغْفَرَ لَهمْ وَأَرْجَأَ رَسول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّه فِيهِ فبِذَلِكَ قَالَ اللَّه: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] وَلَيْسَ الَّذِي(1/99)
ذَكَرَ الله مِمَّا خلِّفْنَا عَنِ الْغَزْوِ وَإِنَّمَا هوَ تَخْلِيفه إِيَّانَا وَإِرْجَاؤه أمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ له واعْتَذَر إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْه.» (1) .
وفي رواية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فِي غَزْوَةِ تَبوكَ وَكَانَ يحِبّ أَنْ يخْرجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ.» (2) .
وفي رواية: عَن عَبْد اللهِ بْنِ كَعْب قَالَ سَمِعْت أَبِي كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَهوَ أَحَد الثَّلاثة الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهمْ أَنه لَم يَتَخَلَّفْ عَن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطّ غَيْرَ غَزْوَتَيْنِ غَزْوَةِ الْعسْرَةِ وغزْوَةِ بَدْرٍ قَالَ: «فَأَجْمَعْت صِدْق رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ضحى وَكَانَ قَلَّمَا يَقْدَم مِنْ سفَرٍ سَافَرَه إلَّا ضحى، وَكَانَ يَبْدَأ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَع ركْعَتَيْن وَنَهَى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلاَمِي وَكَلاَمِ صَاحِبَيَّ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ كَلاَمِ أَحَدٍ مِنَ الْمتَخَلِّفَينَ غَيْرِنَا، فَاجْتَنبَ النَّاس كَلاَمَنَا، فَلَبِثْت كَذَلِكَ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ الأَمْر، ومَا مِنْ شَيْءٍ أَهَمّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَموتَ فَلاَ يصَلِّي عَلَيَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أوْ يَموتَ رَسول اللهِ فَأَكونَ مِنَ النَّاسِ بِتِلْكَ الْمَنْزِلة فَلاَ يكَلِّمنِي أَحد مِنْهمْ وَلَا يصَلِّي عَلَيَّ، فأَنزَلَ الله تَوْبَتَنَا عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بقي الثلث الآخِر مِنَ اللَّيْلِ وَرَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عنْدَ أمِّ سَلَمَةَ، وَكَانَتْ أمّ سَلَمَةَ محْسِنَة فِي شَأْنِي مَعْنِيَّة فِي أَمْرِي، فَقَالَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أمَّ سَلَمَةَ تِيبَ عَلَى كَعْبٍ قَالَتْ: أَفَلاَ أرْسِل إِلَيْهِ فَأبَشِّره قَالَ إِذا يَحْطِمَكم النَّاس فَيَمْنَعونَكم النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَة، حَتَّى إِذَا صَلَّى رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الْفَجْرِ آذَنَ بِتَوْبَة اللهِ عَلَينَا» (3) .
وفي رواية: " أن عبد الله بن كعب قَالَ سَمِعْت كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يحَدِّث حِينَ تخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبوكَ بطولِهِ قَالَ ابْن بكَيرٍ فِي حَديثِهِ: «وَلَقَدْ شَهدْت مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإسلام وَمَا أحِبّ أنَّ لي بِهَا مَشْهَدَ
_________
(1) الطرف رقم 4418.
(2) من الطرف رقم 2950.
(3) من الطرف رقم 4677.(1/100)
بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدر أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا» (1) .
* شرح غريب الحديث * " عير قريش ": الإبل التي تحمل الميْرة -أي تحمل الطعام والشراب- وقيل: هي القافلة (2) .
* " ليلة العقبة ": وهي التي بايع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار على الإسلام والإيواء والنصرة، وذلك قبل الهجرة، والعقبة: هي التي في طريق منى التي تضاف إليها جمرة العقبة، وكانت بيعة العقبة مرتين، كانوا في السنة الأولى اثني عشر، وفي الثانية سبعين، كلهم من الأنصار (3) .
* " تواثقنا ": أخذ بعضنا على بعض الميثاق، وتعاهدنا، وتعاقدنا، لَمَّا تبايعنا على الإسلام والجهاد (4) .
* " وما أحب أن لي بها مشهد بدر "؛ لأن من شهد بدرا وإن كان فاضلا بسبب أنها أول غزوة نصِرَ فيها الإسلام، لكن بيعة العقبة كانت سببا في فشوِّ الإسلام، ومنها نشأ مشهد بدر، وكان كعب من أهل العقبة الثانية وقد عقد ثالثة كما ذكر ابن حجر رحمه الله (5) .
* " وإن كانت بدر أذكر في الناس ": أي أعظم وأكثر ذكرا في الناس من بيعة العقبة (6) .
* " ومفازا ": أي بَرِّيَّة طويلة قليلة الماء يخاف فيها الهلاك (7) .
_________
(1) من الطرف رقم 3889.
(2) لسان العرب، لابن منظور، باب الراء، فصل العين 4 / 624، وانظر: عمدة القاري للعيني، 18 / 52.
(3) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الباء، فصل العين، 1 / 621، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 16 / 229، وعمدة القاري، للعيني، 18 / 52.
(4) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع الثاء، مادة: " وثق " 5 / 151، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 117، وعمدة القاري للعيني: 18 / 52.
(5) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الدال، فصل الشين، 3 / 241، وفتح الباري لابن حجر، 7 / 221، وعمدة القاري للعيني، 18 / 52.
(6) انظر: لسان العرب، لابن منظور، باب الراء، فصل الذال، 4 / 311، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 117، وعمدة القاري للعيني، 18 / 52.
(7) انظر: غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 109، وشرح النووي على صحيح مسلم 17 / 94.(1/101)
* " فَجَلَّى ": بفتح وتشديد اللام ويجوز تخفيف اللام: أي كشف وبيَّن وَأَوْضَح (1) .
* " إلا ورَّى بغيرها ": معنى " ورّى " ستر، وتستعمل في إظهار شيء مع إرادة غيره، أي أوهم أنه يريد غيرها (2) .
* " أهبة غزوهم ": الأهبة تجهيز ما يحتاج إليه في السفر والحرب والاستعداد لذلك (3) .
* " فطفقت ": من أفعال المقاربة ومعناه: أخذت في الفعل (4) .
* " حتى اشتدَّ بالناس الجد ": أي اشتد بالناس اشتداد الجد، والاجتهاد في أمر السفر (5) .
* " جَهازي ": وهو الأهبة وعدة السفر (6) .
* " تفارط الغزو " أي فات وسبق، وأسرع (7) .
* " مغموصا عليه النفاق ": مطعونا عليه في دينه متهما بالنفاق، وقيل: مستحقرا (8) .
* " رجل من بني سلمة ": هو عبد الله بن أنيس رضي الله عنه (9) .
_________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الجيم مع اللام، مادة: " جلا " 1 / 290، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17 / 94، وعمدة القاري للعيني، 18 / 52.
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، مادة: " ورا " 5 / 177، وأعلام الحديث للخطابي، 2 / 1411، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 12 / 192، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 113، 8 / 117، وعمدة القاري للعيني، 18 / 52.
(3) انظر: القاموس المحيط، للفيروز آبادي، باب الهمزة، فصل الباء، ص 77، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17 / 95، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 117، وعمدة القاري للعيني، 18 / 52.
(4) انظر: غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 41، وعمدة القاري للعيني، 18 / 52.
(5) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الجيم مع الدال، مادة: " جدد " 1 / 244، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 118، وعمدة القاري للعيني، 18 / 52.
(6) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 132، وعمدة القاري للعيني، 18 / 52.
(7) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 109، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 118، وعمدة القاري للعيني، 18 / 52.
(8) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 110، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 118، وعمدة القاري للعيني، 18 / 52.
(9) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 17 / 94، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 118، والإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، 2 / 278.(1/102)
* " حبسه برداه ": البرْد والبردة: نوع من الثياب معروف، والجمع أبراد وبرود، والبردة الشملة المخططة، وقيل كساء أسود مربع فيه صور تلبسه الأعراب، وجمعها برَد (1) .
* " والنظر في عِطفيه ": أي جانبيه، وهو إشارة إلى إعجابه بنفسه، ولباسه، وقيل: كني بذلك عن حسنه وبهجته، والعرب تصف الرداء بصفة الحسن وتسميه عِطفا، لوقوعه على عطفي الرجل (2) .
* " قافلا ": راجعا (3) .
* " قد أظل قادما ": قد دنا قدومه وأقبل (4) .
* " أجمعت صدقه ": عزمت عليه، وجزمت بذلك، وعقدت عليه قصدي (5) .
* " وكانوا بضعة وثمانين رجلا ": البضعة في العدد ما بين الثلاثة إلى التسعة، وقيل: ما بين الواحد إلى العشرة (6) .
* " ابتعت ظهرك ": اشتريت راحلتك (7) .
" أعطيت جَدَلا ": فصاحة وقوة في كلام وبراعة، بحيث أخرج عن عهدة ما ينسب إليّ إذا أردت، بما يقبل ولا يرد. (8) .
_________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر، حرف الباء مع الراء، مادة: " برد " 1 / 116.
(2) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 110، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17 / 94، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 118، وعمدة القاري للعيني، 18 / 52.
(3) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 110، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17 / 96.
(4) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 110، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17 / 96، وعمدة القاري للعيني، 18 / 52.
(5) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 110، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17 / 96، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 119، وعمدة القاري للعيني، 18 / 52.
(6) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الباء مع الضاد، مادة: " بضع " 1 / 133، وعمدة القاري للعيني، 18 / 53.
(7) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الظاء مع الهاء، مادة: " ظهر " 3 / 166، وعمدة القاري للعيني، 18 / 53.
(8) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الجيم مع الدال، مادة: " جدل " 1 / 248، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17 / 97، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 119، وعمدة القاري للعيني، 18 / 53.(1/103)
* " ليوشِكنّ الله ": ليسرعنَّ: أي ليعجلنَّ الله (1) .
* " تجِد عليَّ فيه ": تغضب علي فيه (2) .
* " ثار رجال ": وثبوا (3) .
* " يؤنبونني ": يلومونني أشد اللوم وأعنفه (4) .
* " استكانا ": خضعا (5) .
* " أشب القوم وأجلدهم ": أصغرهم سنا وأقواهم (6) .
* " فأسارقه النظر ": أنظر إليه في خفية (7) .
" تسورت حائط أبي قتادة ": علوت سور بستانه وصعدته (8) .
* " جفوة الناس ": إعراضهم (9) .
* " حائط أبي قتادة وهو ابن عمي ": ذكر أنه ابن عمه لكونهما معا من بني سلمة وليس هو ابن عمه أخي أبيه (10) .
_________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع الشين، مادة: " وشك " 5 / 189، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17 / 97، وعمدة القاري للعيني 18 / 53.
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع الجيم، مادة: " وجد " 5 / 155، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17 / 97، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 119، وعمدة القاري للعيني، 18 / 53.
(3) انظر: القاموس المحيط، للفيروز آبادي، باب الراء، فصل الثاء، ص 459، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17 / 97، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 119، وعمدة القاري للعيني، 18 / 53.
(4) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 110، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17 / 97، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 119، وعمدة القاري للعيني، 18 / 53.
(5) انظر: القاموس المحيط، للفيروز آبادي، باب النون، فصل الكاف، ص 1585، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17 / 98.
(6) انظر: المقاييس في اللغة لابن فارس، كتاب الشين، مادة: " شبب "، ص 522، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17 / 89.
(7) انظر: القاموس المحيط، للفيروز آبادي، باب القاف، فصل السين، ص 1154، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 120.
(8) انظر: غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 110، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17 / 98.
(9) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الجيم مع الفاء، مادة: " جفا " 1 / 281، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 120.
(10) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 4 / 158، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 120.(1/104)
* " أنشدك بالله ": أسألك بالله (1) .
* " نبطي من أنباط الشام ": نسبة إلى استنباط الماء واستخراجه, وهؤلاء كانوا في ذلك الوقت أهل الفلاحة, وقيل: النبط والأنباط, فلاحوا العجم (2) .
* " ملك غسان ": قيل: جَبَلَة بن الأَيْهَمَ، وقيل: الحارث ابن أبي بشر، وقيل: جندب بن الأيهم (3) .
* " لم يجعلك الله بدار هوان ": دار ذل وصغار (4) .
* " نواسِك ": نشاركك فيما عندنا (5) .
* " يممت بها التنور ": قصدت بها، والتنور هو ما يخبز فيه (6) .
* " فسجرت ": أو قدت (7) .
* " سلع ": جبل معروف بالمدينة. (8) .
* " فأوفى ": أشرف وأطلع (9) .
* " إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي ": " هو خزيمة بن ثابت " (10) .
* " آذن ": أعلم (11) .
_________
(1) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي، ص 43، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 16 / 224.
(2) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 461، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17 / 99، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 121.
(3) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 3 / 532، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 121، وعمدة القاري للعيني، 18 / 53.
(4) انظر: القاموس المحيط، للفيروز آبادي، باب النون، فصل الهاء، ص 1600، وفتح الباري لابن حجر 8 / 121، وعمدة القاري للعيني، 18 / 53.
(5) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 111، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17 / 99.
(6) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 111، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 121.
(7) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع الجيم، مادة: " سجر " 2 / 343.
(8) انظر: تفسير غريب في الصحيحين للحميدي، ص 111، وعمدة القاري للعيني، 18 / 54.
(9) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع الفاء، مادة: " وفا " 5 / 211، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 121.
(10) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، 1 / 425.
(11) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 65، وفتح الباري لابن حجر 8 / 121.(1/105)
* " استنار وجهه كأنه قطعة قمر ": أي الموضع الذي يبين فيه السرور، وهو جبينه. وهذا تشبيه بما في القمر من الضياء والاستنارة (1) .
* " يحطمكم الناس ": أي يجتمعون عليكم ويتكالبون، فيشغلونكم عن التصرف، فجعل ذلك كالحطْمِ: وهو الكسر، والعنت والمشقة. (2) .
* " سعى ساعٍ من أسلم ": هو حمزة بن عمرو، ونزع له كعب ثوبيه (3) .
* " والله ما أملك غيرهما ": يريد جنس الثياب، وإلا فقد كان عنده راحلتان (4) .
* " فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله ": أي أنعم عليه (5) .
* " أرْجَأَ ": أخَّر (6) .
* {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] أي أخِّرت توبتهم، وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع العمري: نسبة إلى بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وهلال بن أمية الواقفي، نسبة إلى بني واقف بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس (7) .
* " أنخلع من مالي ": أخرج منه وأتصدق (8) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية منها:
1 - من صفات الداعية: التحدث بنعم الله تعالى.
_________
(1) انظر: لسان العرب، لابن منظور، باب الراء، فصل النون، 5 / 240 وفتح الباري لابن حجر، 6 / 574، و 8 / 122.
(2) تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي، ص 111.
(3) انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1 / 169، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 122.
(4) فتح الباري لابن حجر، 8 / 122.
(5) انظر: غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 358، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الباء مع اللام، مادة: " بلا " 1 / 155.
(6) انظر: غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 111.
(7) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، 3 / 396، 3 / 606، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 123.
(8) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، باب الخاء مع اللام، مادة: " خلع " 2 / 65، وشرح الكرماني على صحيح البخاري 16 / 227.(1/106)
2 - من صفات الداعية: قوة الإيمان ومحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
3 - من صفات الداعية: الرحمة والشفقة على المؤمنين والفرح بما يسرهم.
4 - أهمية الصدق وأثره في حياة الداعية.
5 - أهمية اغتنام فرص الخير قبل حرمانها.
6 - أهمية الأخذ بالظاهر وقبول أعذار المدعوين.
7 - من صفات الداعية: الحرص على حسن الخاتمة.
8 - أهمية الصبر على مشاق الدعوة والابتلاء.
9 - من أساليب الدعوة: التهنئة والتبشير للمدعو والسرور بما يسره.
10 - إيثار طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم على محبة القريب.
11 - عناية الداعية بالمتخلفين عن الطاعة.
12 - تأديب المدعو بالهجر إذا اقتضت المصلحة ذلك.
13 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
14 - من موضوعات الدعوة: التحذير من المعاصي وبيان عظم أمرها.
15 - أهمية المداومة على الخير.
16 - من أساليب الدعوة: إخبار الداعية عن تفريطه وتقصيره تحذيرا لغيره إذا ظهرت المصلحة.
17 - أهمية إنكار الغيبة وردها.
18 - أهمية قول الداعية لما لا يعلمه: الله أعلم.
19 - معاتبة الداعية أصحابه على التقصير.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: التحدث بنعم الله تعالى: إن من صفات الداعية إلى الله تعالى: التحدث بنعم الله عز وجل ولهذا قال كعب رضي الله عنه في هذا الحديث: " ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها ".
وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله تعالى يقول: " والمقصود(1/107)
أنه رضي الله عنه يذكر ما منَّ الله به عليه من حضور العقبة وهي من مشاهد الخير " (1) .
ولا شك أن التحدث بنعم الله تعالى من أركان الشكر التي تدوم بها النعم بإذن الله تعالى، قال الله عز وجل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] (2) وقال سبحانه: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] (3) فينبغي للداعية إلى الله أن يتحدث بنعم الله تعالى، ويشكره بلسان الحال والمقال.
ثانيا: من صفات الداعية: قوة الإيمان ومحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: إن الداعية الصادق هو: قويّ الإيمان صادق النية، خالص المحبة لله ورسول صلى الله عليه وسلم ولهذا يثبت على إيمانه ولا تزعزعه العواصف وأهل الكفر والضلال.
وفي هذا الحديث أن ملك غسان أرسل إلى كعب رضي الله عنه كتابا يقول فيه: ". . . أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك. . . " فما كان من كعب رضي الله عنه إلا أن قال: ". . . وهذا أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها. . . ".
قال ابن حجر رحمه الله: " ودل صنيع كعب هذا على قوة إيمانه ومحبته لله ورسوله، وإلا فمن صار في مثل حاله: من الهجر والإعراض قد يضعف على احتمال ذلك, وتحمله الرغبة في الجاه والمال على هجران من هجره ولا سيما مع أمنه من الملك الذي استدعاه إليه أنه لا يكرهه على فراق دينه، لكن لما احتمل عنده أنه لا يأمَن من الافتتان حسم المادة، وأحرق الكتاب، ومنع الجواب، هذا مع كونه من الشعراء الذين طبعت نفوسهم على الرغبة، ولا سيما بعد الاستدعاء والحث على الوصول، إلى المقصود من الجاه والمال، ولا سيما والذي استدعاه قريبه ونسيبه، ومع ذلك غلب عليه دينه، وقوي عنده يقينه، ورجَّح ما هو فيه من النكد والتعذيب على ما دعيَ إليه من الراحة والنعيم حبّا في الله ورسوله صلى الله عليه وسلم " (4) قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15]
_________
(1) سمعت ذلك من شيخنا أثناء شرحه لحديث رقم 3889 من صحيح الإمام البخاري، بجامع الإمام تركي ابن عبد الله بالرياض عام 1415 هـ أو 1416 هـ.
(2) سورة إبراهيم، الآية: 7.
(3) سورة الضحى، الآية: 11.
(4) فتح الباري 8 / 121.(1/108)
الآية (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» (2) وهذا يبين للداعية عظم قوة الإِيمان وأن هذه القوة سلاح لا يقاومه شيء بإذن الله تعالى.
ثالثا: من صفات الداعية: الرحمة والشفقة على المؤمنين والفرح بما يسرهم: إن الداعية الصادق مع الله عز وجل هو الذي يرحم المدعوين ويشفق عليهم ويفرح بما يسرهم؛ ولهذا قال الإمام ابن حجر رحمه الله: " وفيه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من كمال الشفقة على أمته والرأفة بهم، والفرح بما يسرهم " (3) .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: " وفي سرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وفرحه به، واستنارة وجهه دليل على ما جعل الله فيه من كمال الشفقة على الأمة، والرحمة بهم، والرأفة، حتى لعل فرحه كان أعظم من فرح كعب وصاحِبَيْه " (4) .
وهذا يبين للدعاة إلى الله تعالى أهمية الرحمة والشفقة على المدعوين، والفرح بما يسرهم؛ لفعله صلى الله عليه وسلم.
رابعا: أهمية الصدق وأثره في حياة الداعية: الصدق من أهم الصفات الحميدة التي يلزم الداعية أن يتخلق بها؛ ولهذا قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] (5) .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في فوائد قصة كعب: " ومنها عظم مقدار الصدق،
_________
(1) سورة الحجرات، الآية: 15.
(2) متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه: أخرجه البخاري، في كتاب الإيمان، باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان 1 / 13 برقم 21، ومسلم، في كتاب الإيمان، باب خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان 1 / 66 برقم 43.
(3) فتح الباري 8 / 123.
(4) زاد المعاد 3 / 585.
(5) سورة التوبة، الآية: 119.(1/109)
وتعليق سعادة الدنيا والآخرة والنجاة من شرهما به، فما أنجى الله من أنجاه إلا بالصدق، ولا أهلك من أهلكه إلا بالكذب، وقد أمر الله عباده المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين. . وقد قسم سبحانه الخلق إلى قسمين: سعداء وأشقياء، فجعل السعداء هم أهل الصدق والتصديق، والأشقياء هم أهل الكذب والتكذيب " (1) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيها فائدة الصدق وشؤم عاقبة الكذب " (2) .
فعلى الداعية إلى الله تعالى أن يتقي الله تعالى، وأن يكون صادقا في أقواله وأفعاله، وسائر تصرفاته وأحواله، وهذا من أعظم النعم على العبد، ولهذا قال كعب رضي الله عنه: " فوالله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم " (3) .
خامسا: أهمية اغتنام فرص الخير قبل حرمانها: من الأمور المهمة العظيمة اغتنام فرص الخير في الطاعة قبل أن يحرمها الداعية؛ فإنه بسبب تسويف كعب وتأخره عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول يوم حصل له ما حصل رضي الله عنه.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في فوائد قصة كعب رضي الله عنه: " ومنها: أن الرجل إذا حضرت له فرصة القربة والطاعة، فالحزم كل الحزم في انتهازها، والمبادرة إليها، والعجز في تأخيرها، والتسويف بها، ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها؛ فإن العزائم والهمم سريعة الانتقاض قلما تثبت، والله سبحانه يعاقب من فتح له بابا من الخير فلم ينتهزه، بأن يحول بين قلبه وإرادته، فلا يمكنه بعد من إرادته عقوبة له، فمن لم يستجب لله ورسوله إذا دعاه، حال بينه وبين قلبه وإرادته، فلا يمكنه الاستجابة بعد ذلك " (4)
_________
(1) زاد المعاد 3 / 590.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8 / 124.
(3) انظر: المرجع السابق، 8 / 123.
(4) زاد المعاد في هدي خير العباد، 3 / 574.(1/110)
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24] (1) وقد صرح الله سبحانه بهذا في قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] (2) وقال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] (3) وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115] (4) وهذا في كتاب الله تعالى كثير. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه أن المرء إذا لاحت له الفرصة في الطاعة فحقه أن يبادر إليها ولا يسوف بها لئلا يحرمها " (5) فعلى الداعية أن يبادر إلى كل طاعة لاحت له فرصتها ولا يسوف لئلا يحرمها، كما ينبغي له أن يسأل الله أن يلهمه المبادرة إلى طاعته، وأن لا يسلبه ما خوله من النعم.
سادسا: أهمية الأخذ بالظاهر وقبول أعذار المدعوين: الداعية إلى الله تعالى ليس له إلا الظاهر من أحوال المدعوين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم» (6) فعلى الداعية أن يأخذ بظاهر أحوال المدعوين ويقبل أعذارهم ويعفو عنهم؛ لقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] (7) قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ذكر فوائد قصة كعب رضي الله عنه: " ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل علانية من أظهر الإسلام من المنافقين، ويكل سريرته إلى الله، ويجري عليه حكم الظاهر، ولا يعاقبه بما يعلم من سره " (8) وقال ابن حجر
_________
(1) سورة الأنفال، الآية: 24.
(2) سورة الأنعام، الآية: 110.
(3) سورة الصف، الآية: 5.
(4) سورة التوبة، الآية: 115.
(5) فتح الباري 8 / 124.
(6) متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: البخاري، كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد- رضي الله عنه- إلى اليمن 5 / 130 برقم 4351، ومسلم، في كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم 2 / 741 برقم 1064.
(7) سورة آل عمران، الآية: 159.
(8) زاد المعاد 3 / 575، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 8 / 124.(1/111)
رحمه الله: " ومنها: إجراء الأحكام على الظاهر ووكول السرائر إلى الله تعالى " (1) وقد تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بضعة وثمانون رجلا وجاءوا يعتذرون إليه، فصدق منهم ثلاثة- وهم الثلاثة الذين تاب الله عليهم- وكذب سائرهم وحلفوا ما حبسهم إلا العذر فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى (2) .
سابعا: من صفات الداعية: الحرص على حسن الخاتمة: إن من الأمور المهمة أن يحرص الداعية على حسن الخاتمة؛ ولهذا قال كعب رضي الله عنه في هذا الحديث: " فلبثت كذلك حتى طال عليَّ الأمر وما من شيءٍ أهمّ إليَّ من أن أموت فلا يصلِّي عليَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم، ولا يصلي عليَّ ".
فعلى الداعية أن يحرص على حسن الخاتمة ويسأل الله ذلك؛ فإنه من أهم المهمات. والله المستعان (3) .
ثامنا: أهمية الصبر على مشاق الدعوة والابتلاء: دل حديث كعب رضي الله عنه على أنه لا بد للداعية من الصبر على مشاق الدعوة، وأن ذلك اختبار من الله تعالى هل يصبر العباد أو لا يصبرون؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] (4) وقال تعالى: {الم - أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ - وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3] (5) .
قد بين كعب رضي الله عنه هذه الفتنة والابتلاء في هذا الحديث بقوله: «ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة (6)
_________
(1) فتح الباري 8 / 124.
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر، 8 / 117.
(3) انظر: الحديث رقم 73، الدرس الثامن.
(4) سورة محمد، الآية: 31.
(5) سورة العنكبوت، الآيات: 1-3.
(6) غزوة تبوك.(1/112)
غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرا بعيدا، ومفازا، وعدوّا كثيرا، فجلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين أمرهم؛ ليتأهبوا أهل غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ- يعني ديوان- فما رجل يريد أن يتغيَّب إلا ظن أن سيخفى له، ما لم ينزل فيه وَحْي الله وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال» . ".
وهذا كله فيه اختبار وامتحان، فعلى الداعية أن يصبر على السراء والضراء ومشقة الدعوة؛ ولهذا قال كعب عندما قرأ كتاب ملك غسان يدعوه فيه إلى أن يلحق به، قال رضي الله عنه: " فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها " وقد بين الله ذلك في كتابه العزيز: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] (1) .
تاسعا: من أساليب الدعوة: التهنئة والتبشير للمدعو والسرور بما يسره: من أساليب الدعوة التي تؤثر في حياة المدعو: التهنئة له وتبشيره بما يسره، والسرور بما يتجدد له من النعم أو يندفع عنه من النقم؛ فإن ذلك يطيِّب نفسه ويشرح له صدره، وفي هذا الحديث قال كعب رضي الله عنه: ". . . «وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتلقاني الناس فوجا فوجا يهنّؤني بالتوبة يقولون: لِتهنك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنَّأني، والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة، فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور: " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك "، وقال كعب: وذهب الناس يبشروننا، وذهب قِبَل صاحبيَّ مبشرون وركض إلي رجل وسعى ساعٍ من أسلم فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما» . وهذا يبين مدى تأثير البشْرَى والتهنئة على المدعو وحبه لمن بشره وهنَّأَه،
_________
(1) سورة الأنبياء، الآية: 35.(1/113)
وسرَّ بما هو فيه من الخير؛ قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " فيه دليل على استحباب تهنئة من تجدد له نعمة دينية، والقيام إليه، ومصافحته، فهذه سنة مستحبة، وهو جائز لمن تجدد له نعمة دنيوية، وأن الأولى أن يقال له: ليهنك ما أعطاك الله، وما منَّ الله به عليك، ونحو هذا الكلام؛ فإن فيه تولية النعمة ربَّها والدعاء لمن نالها بالتهنِّي بها " (1) .
لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: " ليهنك العلم أبا المنذر " (2) وذلك عندما سأله عن أعظم آية في القرآن فقال رضي الله عنه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] (3) فينبغي للداعية أن يهنِّي إخوانه الدعاة والمدعوين ويسر بما يتجدد لهم من النعم ويندفع عنهم من النقم؛ فإن ذلك يجذب قلوبهم لمحبته، ومن ثم قبول دعوته.
عاشرا: إيثار طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم على مودة القريب: من صفات الداعية الناجح: إيثار طاعة الله ورسوله على مودة القريب؛ ولهذه الصفة الحميدة لم يرد أبو قتادة السلام على كعب؛ لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن كلامه، قال كعب رضي الله عنه: " تسورت جدار أبي قتادة وهو ابن عمي وأحبّ الناس إليَّ فسلمت عليه فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله، هل تعلمني أحبّ الله ورسوله؛ فسكتَ، فعدت له فنشدته فسكتَ، فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار ". وهذا يبين مدى طاعة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعلى الداعية أن يحرص على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] (4) وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (5)
_________
(1) زاد المعاد 3 / 585، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 8 / 124.
(2) أخرجه مسلم، في كتاب صلاة المسافرين، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي، 1 / 555 برقم 810.
(3) سورة البقرة، الآية: 255.
(4) سورة النور، الآية: 63.
(5) متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه: البخاري، في كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان 1 / 11 برقم 15، ومسلم، في كتاب الإيمان، باب وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والناس أجمعين 1 / 67 برقم 44.(1/114)
وهذا يدل الداعية على أن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم مقدمة على طاعة كل أحد من البشر.
الحادي عشر: عناية الداعية بالمتخلفين عن الطاعة: من الأمور المهمة: عناية الداعية بالمدعوين المستجيبين المتخلفين عن بعض الطاعات، فيرشدهم ويذكِّرهم ليراجعوا الطاعة ويتوبوا من تقصيرهم؛ قال الإمام ابن القيم رحمه الله في فوائد قصة كعب: " ومنها: أن الإمام والمطاع لا ينبغي له أن يهمل من تخلف عنه في بعض الأمور؛ بل يذكِّره؛ ليراجع الطاعة ويتوب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال بتبوك: " ما فعل كعب "؟ ولم يذكر سواه من المخلَّفين استصلاحا له ومراعاة، وإهمالا للقوم المنافقين " (1) .
على الداعية أن يعتني بالمستجيبين المتخلفين عن بعض الطاعات ويذكرهم، ويتعاهد أحوالهم حتى يستمر هؤلاء على الطاعة، والله المستعان.
الثاني عشر: تأديب المدعو بالهجر إذا اقتضت المصلحة ذلك: من الحكمة أن يهجر الداعية من يظهر المنكرات -إذا لم يحصل بذلك مفسدة- على وجه التأديب حتى يتوب تأديبا له، وزجرا لغيره (2) قال الإمام ابن القيم رحمه الله في فوائد حديث كعب: " وفيه: دليل أيضا على هجران الإمام، والعالم، والمطاع لمن فعل ما يستوجب العتب، ويكون هجرانه دواء له بحيث لا يضعف عن حصول الشفاء به، ولا يزيد في الكمية والكيفية عليه فيهلكه، إذ المراد تأديبه لا إتلافه " (3) .
يوضح ذلك ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من أن الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم؛ فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كان هجره يضعف الشرَّ كان مشروعا، وإن كان المهجور لا يرتدع بذلك، ولا يرتدع به غيره،
_________
(1) زاد المعاد لابن القيم، 3 / 575.
(2) انظر: المرجع السابق، 3 / 575.
(3) المرجع السابق، 3 / 578.(1/115)
بل يزيد الشرَّ والهاجر ضعيف، وتكون مفسدة الهجر راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، كما كان الهجر لبعض الناس أنفع من التأليف؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوما ويهجر آخرين (1) وينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله، وبين الهجر لحق النفس: فالهجر لحق الله تعالى مأمور به، والثاني منهي عنه (2) .
فعلى الداعية أن يراعي هذه الضوابط في الهجر التأديبي ويضع كل شيء في موضعه كالطبيب الحاذق الذي يعطي العلاج على حسب المرض.
الثالث عشر: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: من وسائل الدعوة القدوة الحسنة، وذلك يرَغِّب الداعية في أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل أموره، وأن يكون هو قدوة للمدعوين ويقتدي أيضا بأهل العلم ويتأسى بهم.
وفي الحديث ما يدل على هذه الوسيلة وهو قول كعب رضي الله عنه: ". . . وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلفون، قد كان يكفيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذِّب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم. رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك. فقلت من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي "؛ ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: " فيه أن الرجل ينبغي له أن يبرِّدَ حَرَّ المصيبة بروح التأسي بمَنْ لقي مثل ما لقي. . " (3) والتأسي بالنظير ينفع في الدنيا بخلاف الآخرة (4) لقوله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39] (5)
_________
(1) انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28 / 204- 207.
(2) انظر: المرجع السابق 28 / 208 وفتح الباري لابن حجر، 8 / 124.
(3) زاد المعاد 3 / 577.
(4) انظر: المرجع السابق، 3 / 577، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 120.
(5) سورة الزخرف، الآية: 39.(1/116)
فعلى الداعية أن يكون قدوة في الخير للمدعوين، وأن يتأسى برسول صلى الله عليه وسلم فيما يصيبه من السراء والضراء وفي كل أحواله، وأن يتأسى بأهل العلم المخلصين. والله المستعان (1) .
الرابع عشر: من موضوعات الدعوة: التحذير من المعاصي وبيان عِظَمِ أمرها: إن من أهم الموضوعات التي ينبغي للداعية العناية بها وتوضيحها للناس: التحذير من المعاصي وبيان أضرارها وأخطارها على المجتمع المسلم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيها: عظم أمر المعصية، وقد نبَّهَ الحسن البصري على ذلك فيما أخرجه ابن أبي حاتم عنه قال: يا سبحان الله ما أكل هؤلاء الثلاثة مالا حراما، ولا سفكوا دما حراما، ولا أفسدوا في الأرض، أصابهم ما سمعتم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر؟ " (2) .
فعلى الداعية أن يعتني بهذا الموضوع عناية فائقة؛ لشدة خطره على الفرد والمجتمع.
الخامس عشر: أهمية المداومة على الخير: دل هذا الحديث على أهمية المداومة على الخير، وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن مما يستفاد من هذا الحديث: التزام المداومة على الخير الذي ينتفع به (3) وهذا واضح من حديث كعب رضي الله عنه حيث قال: «يا رسول الله إنما أنجاني الله بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت. فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث- منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم- أحسن مما أبلاني (4) ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت» . . ".
فعلى المسلم وخاصة الداعية إلى الله تعالى أن يداوم ويلتزم الأعمال الصالحة ولا يقطعها كما داوم كعب رضي الله عنه على الصدق، ويسأل الله عز وجل أن يعينه على ذلك.
_________
(1) انظر: الحديث رقم 8، الدرس الخامس.
(2) فتح الباري 8 / 123، وكلام الحسن رحمه الله تعالى نقلا من نفس الموضع.
(3) انظر: فتح الباري 8 / 124.
(4) أبلاه الله: أي أنعم عليه. فتح الباري لابن حجر 8 / 123.(1/117)
السادس عشر: من أساليب الدعوة: إخبار الداعية عن تفريطه وتقصيره تحذيرا لغيره إذ ظهرت المصلحة: إن من أساليب الدعوة إخبار الداعية- في بعض الأحيان- عن تقصيره وتفريطه، وعن سبب ذلك تحذيرا ونصيحة لغيره، إذا تيقن أن في ذلك مصلحة للمدعو، وقد بين الإمام ابن القيم رحمه الله أن ذلك مما يستفاد من قصة كعب رضي الله عنه فقال: " فمنها: جواز إخبار الرجل عن تفريطه وتقصيره في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعن سبب ذلك، وما آل إليه أمره، وفي ذلك من التحذير، والنصيحة، وبيان طرق الخير والشر، وما يترتب عليها ما هو من أهم الأمور " (1) .
السابع عشر: أهمية إنكار الغيبة وردها: إن من الأمور المهمة التي ينبغي للداعية أن يردها وينكر على صاحبها: الغيبة، وقد جاء ذلك في هذا الحديث، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " ومنها: جواز الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الراد أنه وهم وغلط، كما قال معاذ للذي طعن في كعب: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا. . " (2) .
فينبغي للداعية وغيره من المسلمين أن يرد الغيبة عن أخيه المسلم ولا تقبل من قائلها في مجلسه، ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم عظم ثواب من رد الغيبة عن أخيه المسلم فقال: «من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة» . (3) .
الثامن عشر: أهمية قول الداعية لما لا يعلمه: الله أعلم: إن من العلم أن يقول الداعية لمن سأله عن شيء لا يعلمه: الله أعلم، أو لا أدري. وقد دل هذا الحديث على ذلك، حين قال أبو قتادة لكعب رضي الله عنهما: " الله ورسوله أعلم ".
وقول الداعية لما لا يعلمه: لا أدري، أو لا أعلم، أو سأراجع المسألة دليل على علمه وورعه وتقواه؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] (4)
_________
(1) زاد المعاد 3 / 573، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 8 / 123.
(2) زاد المعاد 3 / 575، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 8 / 124.
(3) أخرجه الإمام أحمد 6 / 450، والترمذي، في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الذب عن عرض المسلم 4 / 327 برقم 1931، وقال: هذا حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 5 / 295.
(4) سورة الأعراف، الآية: 33.(1/118)
وقال صلى الله عليه وسلم: «من تعمد عليَّ كذبا فليتبوّأ مقعده من النار» (1) .
ومن حرص السلف رحمهم الله ورضي عنهم على الصدق ما قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " من علم فليقل، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم؛ فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم؛ فإن الله قال لنبيه (2) {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] (3) .
فعلى الداعية أن لا يستحي إذا لم يعلم أن يقول: الله أعلم، أو لا أدري.
التاسع عشر: معاتبة الداعية أصحابه على التقصير: إن الداعية الحريص على استقامة أصحابه على الخير يعاتبهم على تقصيرهم وما بدر منهم، حبّا لهم، ونصحا، وشفقة عليهم؛ ولهذا ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن ذلك مما يستنبط من حديث كعب رضي الله عنه، فقال: " ومنها: معاتبة الإمام والمطاع أصحابه، ومن يعز عليه، ويكرم عليه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم عاتب الثلاثة دون سائر من تَخَلَّف عنه، وقد أكثر الناس من مدح عتاب الأحبة واستلذاذه، والسرور به، فكيف بعتاب أحبِّ الخلق على الإطلاق إلى المعتوب عليه، ولله ما كان أحلَى ذلك العتاب، وما أعظم ثمرته، وأجل فائدته، ولله ما نال به الثلاثة من أنواع المسرات وحلاوة الرضا. . . " (4) .
_________
(1) متفق عليه: من حدث أنس رضي الله عنه: البخاري، كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم 1 / 41 برقم 108، ومسلم، في المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم 1 / 10، برقم 2.
(2) البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة الروم 6 / 22 لرقم 4774، وانظر: الحديث رقم 58، الدرس الحادي عشر.
(3) سورة ص، الآية: 86.
(4) زاد المعاد 3 / 576.(1/119)
[باب قول الله عز وجل وإذا حضر القسمة أولو القربى]
[حديث هما واليان وال يرث ووال لا يرث]
18 - باب قول الله عز وجل {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أولو الْقرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين فَارْزقوهمْ مِنْه} [النساء: 8] (1) 10 [ص:2759] حَدَّثَنَا محَمَّد بن الفَضْلِ أَبو النّعْمَانِ: حَدَّثَنَا أَبو عَوَانَةَ، عَن أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بن جبَيْر، عَنِ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (2) " إِنَّ نَاسا يَزعمونَ أَنَّ هذه الآيةَ نسِخَتْ، وَلا وَاللَّهِ مَا نسِخَتْ، ولَكِنَّها مِمَّا تَهَاوَنَ الناس، همَا وَاليَانِ: وَالٍ يَرِث وَذَاكَ الذِي يَرْزق، وَوَالٍ لَا يَرِث فَذَاكَ الذِي يَقول بِالْمَعْروفِ، يقول: لَا أَمْلِك لَكَ أَنْ أعْطِيَكَ " (3) .
وفي رواية: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} [النساء: 8] قَالَ: " هِيَ محْكَمَة وَلَيْسَتْ بِمَنْسوخَةٍ " (4) .
* شرح غريب الحديث: * " يزعمون " الزعم: قريب من الظن (5) .
وقيل: هو القول يكون حقا ويكون باطلا. وقيل: الزعم: الظن، وقيل: الكذب (6) .
* " نسخت " النسخ: أمر كان يعمل به من قبل ثم ينسخ بحادث غيره، كالآية ينزل فيها أمر ثم تنسخ بآية أخرى، وكل شيء خلف شيئا فقد نسخه، أي أبطله وقام مقامه، والأول منسوخ والثاني ناسخ، يقال: نسخت الشمس الظلَّ: أي أزالت الظل وحلت محله (7) .
_________
(1) سورة النساء، الآية: 8.
(2) تقدمت ترجمته في حديث رقم 5 -2743.
(3) طرفه، في كتاب التفسير، سورة النساء، باب وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أولو الْقرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين فَارْزقوهمْ مِنْه 5 / 210 برقم 4576.
(4) من الطرف رقم 4576.
(5) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الزاي مع العين، مادة " زعم " 2 / 303.
(6) لسان العرب، لابن منظور الإفريقي، فصل الزاي، باب الميم، مادة " زعم " 12 / 264.
(7) انظر: معجم المقاييس في اللغة، لابن فارس، مادة " نسخ " ص 1026، ولسان العرب لابن منظور، باب الخاء، فصل النون، 3 / 61، والقاموس المحيط لمحمد بن يعقوب الفيروز آبادي، باب الخاء، فصل النون، ص 334، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير، باب النون مع السين، 5 / 47.(1/120)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الإحسان إلى الأقرباء واليتامى والمساكين.
2 - من موضوعات الدعوة: بيان الناسخ والمنسوخ عند الحاجة.
3 - من صفات الداعية: القول اللطيف الحسن.
4 - الرد بالحكمة على من ظهر منه مخالفة للنصوص الشرعية.
5 - من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الإحسان إلى الأقرباء واليتامى والمساكين: دل هذا الحديث على العناية بالأقارب واليتامى والمساكين؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] قال: هي محكمة وليست بمنسوخة. وقد أمرِ الله عز وجل بالإحسان إليهم في آيات كثيرة، منها قوله تعالى:
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} [البقرة: 177] الآية (1) .
وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء: 36] الآية. (2) .
فعلى الدعاة إلى الله أن يبلِّغوا الناس هذا الواجب العظيم، الذي عظم الله شأنه، وعظم شأنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يبْسَطَ لَه في رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه» (3) .
_________
(1) سورة البقرة، الآية: 177.
(2) سورة النساء، الآية: 36.
(3) متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه: البخاري، كتاب الأدب، باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم 7 / 95 برقم 5985 ومسلم، كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، 4 / 1982 برقم 2557.(1/121)
وقال صلى الله عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة» (1) .
فعلى الداعية أن يحث الناس على العناية بهذا الأمر، ويرغبهم فيه، ويحذرهم من التهاون به.
ثانيا: من موضوعات الدعوة: بيان الناسخ والمنسوخ عند الحاجة: إن المدعوين قد يحتاجون إلى بيان الناسخ والمنسوخ على حسب الحاجة والمصلحة الشرعية؛ لأهمية هذا الموضوع؛ ولهذا قال الإمام القرطبي رحمه الله في أهمية معرفة الناسخ والمنسوخ وتبليغه: " معرفة هذا الباب أكيدة وفائدته عظيمة لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء؛ لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام " (2) .
فعلى الداعية أن يبين الناسخ والمنسوخ عند حاجة المدعو إلى ذلك، ويكون عن علم وبصيرة. والله المستعان (3) .
ثالثا: من صفات الداعية: القول اللطيف الحسن: من الصفات الجميلة والأخلاق الحميدة أن يحسن الداعية إلى المدعوين بالفعل والقول؛ فإن لم يستطع بالفعل فبالقول الحسن كما في الآية المذكورة في هذا الحديث: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 8] (4) .
قال الإمام القرطبي رحمه الله: " بين الله تعالى أن من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة، وكان من الأقارب أو اليتامى، والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا إن كان المال كثيرا، والاعتذار إليهم إن كان عقارا أو قليلا. . " (5) .
_________
(1) الترمذي، 3 / 37 برقم 658، والنسائي، برقم 2582، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 7، الدرس الأول، ص 80.
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 2 / 66.
(3) انظر: الحديث رقم 6، الدرس الثالث.
(4) سورة النساء، الآية: 8.
(5) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 5 / 48.(1/122)
وقد أمر الله عز وجل بالاعتذار والقول الحسن المعروف لمن لا يستطيع الإحسان بالفعل، ومن ذلك قوله تعالى {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء: 28] (1) .
فعلى الداعية أن يتخلَّق بهذا الخلق الجميل، وأن يسأل الله تعالى أن يوفقه ويعينه؛ فإنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع سبحانه.
رابعا: الرد بالحكمة على من ظهر منه مخالفة للنصوص الشرعية: ظهر في هذا الحديث الرد الحكيم من ابن عباس رضي الله عنهما على من خالفه في حكم هذه الآية الكريمة، وذلك أنه قال رضي الله عنه: " إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت. . . " ولم يصرح ولم يشهر بأسمائهم، وهذا من الحكمة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل بها في دعوته، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم» . . . " الحديث (2) «ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله» . . . " الحديث (3) «ما بال أقوام يتنزهون عن شيء أصنعه» . . . " الحديث (4) «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام» . . . " الحديث (5) .
فعلى الداعية أن لا يصرح بالأسماء في دعوته للناس، ولا يواجه بالعتاب، بل يسلك مسلك النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته وكفى.
خامسا: من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم: أسلوب التوكيد بالقسم يثبت المعاني في القلوب، ويحملها على التصديق والإيمان، وسرعة التنفيذ بفعل المأمورات وترك المنهيات (6) وفي هذا
_________
(1) سورة الإسراء، الآية: 28.
(2) البخاري، كتاب الأذان، باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة، 1 / 205 برقم 750، من حديث أنس رضي الله عنه.
(3) البخاري، كتاب المكاتب، باب ما يجوز من شروط المكاتب، 2 / 173 برقم 2561.
(4) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها: البخاري، كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب 7 / 126 برقم 6101، ومسلم، كتاب الفضائل، باب علمه صلى الله عليه وسلم بالله وشدة خشيته 4 / 1829 برقم 2356.
(5) مسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه 2 / 1020 برقم 1401.
(6) انظر: تفسير الطبري " جامع البيان عن تأويل آي القرآن " للطبري، 4 / 47، ومفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، مادة: " قسم " ص 670، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 19 / 90.(1/123)
الحديث يظهر هذا الأسلوب في قول ابن عباس رضي الله عنهما: " ولا والله ما نسخت ". فعلى الداعية أن يستخدم هذا الأسلوب عند الحاجة إليه؛ ولهذه الأهمية أقسم الله عز وجل في مواضع كثيرة تأكيدا لصدق ما يقول، وهو أصدق القائلين: قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهوديّ ولا نصرانيّ، ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» (2) .
[باب ما يستحب لمن توفى فجأة أن يتصدقوا عنه وقضاء النذور عن الميت]
[حديث سعد بن معاذ سأل رسول الله إن أمي ماتت وعليها نذر فقال اقضه] عنها
_________
(1) سورة التغابن، الآية: 7.
(2) مسلم، 1 / 134 برقم 153، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 6، الدرس الثالث، ص 77.(1/124)
19 - باب ما يستحب لمن توفى فجأة أن يتصدقوا عنه, وقضاء النذور عن الميت 11 [ص:2761] حَدَّثَنَا عَبْد الله بن يوسفَ: أَخْبرَنَا مَالِك، عَنِ ابنِ شِهَابٍ عَنْ عبَيْدِ اللهِ بنِ عبدِ اللَّهِ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: (1) «أَنَّ سَعْدَ بنَ عبادَةَ رضي الله عنه اسْتَفْتَى رَسولَ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلم فقَالَ: إِنَّ أمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْر، فقال: " اقضِهِ عَنْهَا» (2) .
وفي روِاية: «أَنَّ سَعْدَ (3) بْنَ عبَادَةَ الأنصَارِيَّ اسْتَفْتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في نَذْرٍ كَانَ عَلَى أمِّهِ فتوفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَه فَأَفْتَاه أَنْ يَقْضِيَه عَنْهَا، فَكَانَتْ سنَّة بَعْد» (4) .
وفي رواية: «وَقَالَ بَعْض النَّاسِ إِذَا بَلَغَتِ الإبِل عِشْرِينَ فَفِيهَا أَرْبَع شِياهٍ، فَإِنْ وَهَبَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَاعَهَا فِرَارا وَاحتِيَالا لإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إِنْ أَتْلَفَهَا فَمَاتَ فَلاَ شَيْءَ فِي مَالِهِ» (5) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أهمية السؤال في تحصيل العلم.
2 - مسارعة المدعو إلى عمل الخير.
3 - من موضوعات الدعوة: الحث على الإحسان إلى الوالدين بعد موتهما.
4 - أهمية استشارة العلماء.
5 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
6 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
7 - من موضوعات الدعوة: الحث على أداء الزكاة.
_________
(1) ترجم له في الحديث رقم 5-2743.
(2) [2761] طرفاه: في كتاب الأيمان والنذور، باب من مات وعليه نذر، 7 / 297 برقم 6698، وكتاب الحيل، باب في الزكاة وأن لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة، 8 / 77 برقم 6959. وأخرجه مسلم، في كتاب النذر، باب الأمر بقضاء النذر، 3 / 1260 برقم 1638.
(3) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 8.
(4) الطرف رقم 6698 / 8.
(5) من الطرف رقم 6959.(1/125)
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: أهمية السؤال في تحصيل العلم: دل هذا الحديث على أهمية سؤال العالم عند الجهل، أو عند اشتباه الأمور؛ لأن هذا الصحابي رضي الله عنه ترك الحكم بالرأي عندما لم يكن يعلم هل تنفع الصدقة عن أمه أم لا؛ ولم يقدم عليها برأيه وإنما سأل النبي صلى الله عليه وسلم (1) .
قال ابن حجر رحمه الله: " وفيه السؤال عن التحمل. . . " (2) وقال الإمام الأبي رحمه الله: " فيه استفتاء الأعلم. . . " (3) .
فينبغي للجاهل أن يسأل العالم عما أشكل عليه حتى يكون على بصيرة (4) .
ثانيا: مسارعة المدعو إلى عمل الخير: دل الحديث على مسارعة المدعو إلى الخير؛ لأن الصحابي الجليل رضي الله عنه عندما علم بأن قضاء النذر عن أمه ينفع بادر إلى ذلك؛ ولهذا ذكر الإمام ابن حجر رحمه الله: " أن في الحديث المسارعة إلى عمل البر والمبادرة إلى بر الوالدين " (5) .
فعلى المدعو أن يبادر إلى أعمال البر والتقوى، ويسارع إلى ذلك (6) .
ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحث علي الإحسان إلى الوالدين بعد موتهما: إن بر الوالدين والإحسان إليهما من أعظم القربات إلى الله تعالى. وبرهما يكون في حياتهما وبعد موتهما، فمن فاته الإِحسان إلى والديه في حياتهما فقد جعل الله له ذلك بعد موتهما، سواء كان الإِحسان: بالصدقة عليهما، أو الاستغفار والدعاء، أو قضاء الديون والنذور، أو إنفاذ عهدهما من بعدهما، أو صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، أو صلة أهل ودِّهما، أو غير ذلك من
_________
(1) انظر: بهجة النفوس: شرح مختصر صحيح البخاري لابن أبي جمرة، 3 / 95.
(2) فتح الباري 5 / 390.
(3) إكمال إكمال المعلم، للإمام محمد بن خليفة الأبي 6 / 5، وانظر: شرح الزرقاني على الموطأ 3 / 74.
(4) انظر: الحديث رقم 8، الدرس الأول.
(5) انظر: فتح الباري 5 / 390.
(6) انظر: الحديث رقم 8، الدرس الثاني.(1/126)
أعمال البر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له» (1) .
فعلى الداعية أن يبين للناس هذا الموضوع ويحثهم على الإحسان إلى الوالدين في الحياة وبعد الممات (2) والله المستعان (3) .
رابعا: أهمية استشارة العلماء: من الأمور المهمة التي ينبغي للداعية والمدعو العناية بها: الاستشارة للعلماء المخلصين في أمور الدين؛ لأن ذلك مما يسبب النجاح والتوفيق بإذن الله تعالى؛ فإنه ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، وقد بين سبحانه وتعالى للناس مكانة الشورى، وأنها من صفات المؤمنين فقال:. . . {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38] (4) ؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفيه ما كان الصحابة عليه من استشارة النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدين " (5) .
فعلى المدعو أن يستشير العلماء والدعاة في كل ما يشكل عليه، وعلى الدعاة أيضا أن يستشيروا العلماء حَتَّى تنجح أعمالهم وتصرفاتهم بإذن الله تعالى (6) .
خامسا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: القدوة الحسنة من أهم وسائل الدعوة؛ لأن العمل يؤثر في الغالب على المدعو أكثر من القول، وقد دل هذا الحديث على القدوة في قوله: " فكانت سنة بعد "، قال الإمام الكرماني رحمه الله: " أي صار قضاء الوارث حقوق الموروث طريقة شرعية؛ لأن القضاء في بعض المواضع واجب كما إذا كان
_________
(1) صحيح مسلم، 3 / 1255 برقم 1631، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 2، الدرس الرابع، ص 60.
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر، 5 / 390، و 11 / 585.
(3) انظر: الحديث رقم 8، الدرس الرابع.
(4) سورة الشورى، الآية: 38.
(5) فتح الباري، 5 / 390.
(6) انظر: مجموع مؤلفات الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي [الثقافة] 1 / 144، 190- 191.(1/127)
ماليا وثمة تركة " (1) وقال العيني رحمه الله: " فكانت فتوى النبي صلى الله عليه وسلم سنة يعمل بها، بعد إفتاء النبي صلى الله عليه وسلم، والضمير في كانت يرجع إلى الفتوى " (2) فهذا الصحابي رضي الله عنه كان سؤاله وعمله بفتوى النبي صلى الله عليه وسلم طريقة شرعية في قضاء ما على الميت من الديون والنذور والواجبات، فعلى الداعية أن يكون قدوة في الخير (3) .
سادسا: من أساليب الدعوة: الترغيب: في هذا الحديث ترغيب في الإحسان إلى الوالدين بعد موتهما، وبيان لفضل الله تعالى على الآباء ببركة عمل الأبناء ودعائهم لهم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا ربِّ أَنَّى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك» (4) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه فضل بر الوالدين بعد الوفاة، والتوصل إلى براءة ما في ذمتهم " (5) .
فعلى الداعية أن يرغب الناس في ذلك؛ لأن الترغيب له أثر في النفوس ونشاط في العمل، وطمع في فضل الله تعالى (6) .
سابعا: من موضوعات الدعوة: الحث على أداء الزكاة: دل الحديث على أن الحث على أداء الزكاة من موضوعات الدعوة؛ لأهميتها؛ ولكونها من أركان الإسلام العظام، وهي قرينة الصلاة في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى، ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] (7) .
_________
(1) شرح الكرماني على صحيح الإمام البخاري 23 / 134، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 11 / 584.
(2) عمدة القاري 23 / 210، وانظر: إرشاد الساري للقسطلاني، 9 / 407.
(3) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث.
(4) أخرجه أحمد في المسند 2 / 209، وصحح إسناده الإمام ابن كثير في تفسيره، 4 / 243.
(5) فتح الباري 11 / 85.
(6) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 8، الدرس الرابع.
(7) سورة البقرة، الآية: 43.(1/128)
فعلى الداعية أن يبين للمدعوين المستجيبين أصناف الأموال الزكوية، ومقادير الأنصباء لكل صنف، وشروط وجوب الزكاة على المسلم، ومقادير الواجب في ذلك، وأصناف أهل الزكاة؛ لأن ذلك من أصول الدين التي ينبغي العناية بها وتوضيحها للناس (1) .
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 12 / 331.(1/129)
[باب قول الله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما]
[حديث اجتنبوا السبع الموبقات]
23 - باب قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكلونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظلْما إِنَّمَا يَأْكلونَ فِي بطونِهِمْ نَارا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا} [النساء: 10] (1) 12 [ص:2766] حَدَّثَنَا عَبْد العَزِيزِ بن عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَني سلَيْمان بن بِلال، عَنْ ثَورِ بنِ زَيدٍ المَدَنيِّ، عَنْ أَبِي الغَيْثِ، عَنْ أَبِي هرَيْرَةَ رضي الله عنه (2) عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اجْتَنِبوا السَّبْعَ الموبِقَاتِ ". قَالوا: يَا رَسولَ اللهِ وَمَا هنَّ؛ قَالَ: " الشِّرك باللهِ، والسِّحْر، وقَتْل النَّفسِ الّتِي حَرَّمَ الله إلّا بِالحَقِّ؛ وَأَكْل الرِّبا، وأَكل مالِ اليَتِيم، والتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْف المحْصَنَاتِ المؤمناتِ الغَافِلاتِ» (3) .
* شرح غريب الحديث: * " الموبقات " المهلكات، ويقال: أوبقته ذنوبه: أي حبسته (4) .
* " يوم الزحف " يوم الالتقاء في قتال العدو؛ لأنهم يزحفون: أي يتقدمون إليهم (5) .
* " وقذف " القذف: الرمي بقوة (6) .
* " المحصنات " الإحصان في كلام العرب: المنع، فتكون المرأة محصنة بالإسلام، لأن الإسلام يكفها عما لا يحل، وتكون محصنة بالعفاف والحياء من أن تفعل ما تعاب به (7) والمراد: الحرائر العفيفات (8) .
* " الغافلات " كناية عن البريئات؛ لأن البريء غافل عما بهت به من الزنا (9) .
_________
(1) سورة النساء، الآية: 10.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 7.
(3) [الحديث 2766] طرفاه: في كتاب الطب، باب الشرك والسحر من الموبقات، 7 / 37 برقم 5764، وكتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب رمي المحصنات 8 / 42 برقم 6857. وأخرجه مسلم، في كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، 1 / 92 برقم 89.
(4) تفسير غريب ما في الصحيحين؛ لأبي عبد الله الحميدي، ص 319.
(5) المرجع السابق ص 319.
(6) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع الذال، مادة " قذف " 4 / 29.
(7) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 239 و 534.
(8) انظر: فتح الباري لابن حجر، 12 / 181.
(9) عمدة القاري للعيني، 14 / 62، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم 2 / 443.(1/130)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية, منها:
1 - من موضوعات الدعوة: التحذير من السبع المهلكات.
2 - أهمية سؤال المدعو عما لم يفهم.
3 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
4 - من أساليب الدعوة: ذكر العدد إجمالا ثم تفصيلا.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية بالتفصيل على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: التحذير من السبع المهلكات: من الموضوعات المهمة في الدعوة، تحذير الناس من الكبائر وخاصة الموبقات التي تهلك الإنسان المسلم، وأعظمها جرما وأكبرها قبحا: الشرك بالله تعالى؛ لأنه يحبط العمل ويخلد صاحبه في النار، إذا مالت عليه، لقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] (1) ثم تأتي الكبائر بعده في الجرم وعظم الذنب، والكبائر لا تحصر، ولكن يجمعها أن كل ذنب ترتب عليه حدّ في الدنيا، أو توعِّدَ عليه بالنار، أو اللعنة، أو الغضب، أو العذاب، أو نفي الإيمان، أو نحو ذلك، فهو من الكبائر (2) وأشد هذه الكبائر إثما وعقابا السبع الموبقات المذكورة في هذا الحديث (3) .
فعلى الداعية أن يحذر الناس من الذنوب كبيرها وصغيرها، ولكن يهتم اهتماما كبيرا في التحذير والزجر عن هذه الموبقات السبع (4) .
_________
(1) سورة المائدة، الآية: 72.
(2) انظر: شرح الإمام النووي على صحيح مسلم 2 / 444، وشرح العقيدة الطحاوية، للعلامة علي بن علي بن أبي العز، ص 418.
(3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 2 / 441، وفتح الباري لابن حجر، 12 / 184 وعمدة القاري للعيني 14 / 62.
(4) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الرابع عشر.(1/131)
ثانيا: أهمية سؤال المدعو عما لم يفهم: دل هذا الحديث على أن المدعو الموفق هو الذي يسأل عما أشكل عليه ولم يفهمه؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: " اجتنبوا السبع الموبقات " فقالوا: " وما هنَّ؟ " فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما أشكل عليهم.
فينبغي للمدعو أن يسأل عن كل ما أشكل عليه كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] (1) وهذا يؤكد أهمية السؤال عما أشكل (2) .
ثالثا: من أساليب الدعوة: الترهيب: لا شك أن أسلوب الترهيب يخوّف المدعو ويحذِّره من كل ما يضره في الدنيا والآخرة، ويظهر في هذا الحديث استخدام النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأسلوب في قوله: " اجتنبوا السبع الموبقات "، وهذا اللفظ يخوّف المدعو مما يهلكه ويضره؛ ولهذا ينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب مع المدعوين ويوضح لهم أن انتشار هذه المهلكات في المجتمعات من أسباب الهلاك، والضلال، والانحراف، والانحلال والاختلاف (3) .
رابعا: من أساليب الدعوة: ذكر العدد إجمالا ثم تفصيلا: أسلوب ذكر العدد: إجمالا ثم تفصيلا مهم في الدعوة إلى الله تعالى، وهو ظاهر في هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: " اجتنبوا السبع الموبقات "، فقد أجمل أولا ثم فسر صلى الله عليه وسلم ما أجمل، ومن المعلوم أن الإخبار بالإجمال يحصل به للنفس المعرفة بغاية المذكور، ثم تبقى متشوقة إلى معرفة معناه، فيكون ذلك أوقع في النفس وأعظم في الفائدة (4) .
فعلى الداعية أن يستخدم أسلوب ذكر العدد إجمالا ثم تفصيلا في دعوته؛
_________
(1) سورة الأنبياء، الآية: 7.
(2) انظر: الحديث رقم 8، الدرس الأول، ورقم 11، الدرس الأول.
(3) انظر: فتح الباري لابن حجر، 12 / 182- 184، وانظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر.
(4) انظر: بهجة النفوس، لابن أبي جمرة 1 / 97، وإكمال إكمال المعلم، للأبي 1 / 232، 233.(1/132)
لأنه إذا فعل ذلك يشدّ أذهان المدعوين إلى حديثه، ليتمكنوا من معرفة نتيجة العدد وتفسيره؛ فإذا سمع المدعو قوله صلى الله عليه وسلم: «أربع إذا كنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا» . . . " - فإنه حينئذ ينتبه وينتظر ذكر هذه الأربع برغبة واشتياق- ". . . «حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة» (1) ويحتمل أن يدل العدد المبهم المجمل على التعظيم والتفخيم. وهذا يبين أهمية ذكر الداعية العدد إجمالا ثم تفصيلا في أساليبه الدعوية، والله تعالى أعلم.
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند، 2 / 177، وصححه الألباني في صحيح الجامع 1 / 301.(1/133)
[باب قول الله تعالى ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير]
[حديث ما رد ابن عمر على أحد وصيته]
24 - باب قول الله تعالى {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قلْ إِصْلَاح لَهمْ خَيْر وَإِنْ تخَالِطوهمْ فَإِخْوَانكمْ وَاللَّه يَعْلَم الْمفْسِدَ مِنَ الْمصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّه لَأَعْنَتَكمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيز حَكِيم} [البقرة: 220] (1) . " لأَعنتَكم ": لأَحرجكم وضَيَّقَ عليكم. " وعَنَت ": خَضَعَت.
13 [ص:2767] وَقَالَ لنَا سلَيمان بن حَرْبٍ: حَدَّثَنَا حَمّاد عَنْ أَيّوبَ عَنْ نافعٍ (2) قَالَ: مَا رَدَّ ابن عمَرَ (3) عَلَى أَحَدٍ وَصيتَه، وَكَانَ ابن سِيرِينَ أَحَبّ الأَشْيَاءِ إِليهِ فِي مَالِ اليَتِيمِ أَنْ يَجتمِعَ إِليهِ نصَحَاؤه، وَأَولياؤه، فيَنْظروا الَّذِي هوَ خير لَه، وَكَانَ طاوس إِذا سئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ اليَتامَى قَرَأَ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] وَقَالَ عَطاء فِي يَتامَى الصَّغِير والْكَبِيرِ: ينفِق الوَليّ عَلَى كلِّ إِنْسَانٍ بقَدْرِهِ مِنْ حِصَّتِهِ.
* شرح غريب الحديث: * " نصَحَاؤه " جمع ناصح، وهو من أراد الخير للمنصوح له (4) .
* " أولياؤه " أي: من تولَّى أمره وقام على مصالحه (5) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الخبر دروس وفوائد دعوية، منها:
_________
(1) سورة البقرة، الآية: 220.
(2) نافع بن هرمز ويقال: بن كاوس، أبو عبد الله الإمام المفتي الثبت، عالم المدينة في عصره، مولى ابن عمر، سبي وهو صغير فاشتراه ابن عمر، والأرجح في الجملة أنه من سبي فارس، وهو تابعي جليل، نقل علما كثيرا عن جمع من الصحابة، وعن خلائق من التابعين، وأجمعوا على توثيقه وجلالته. قال البخاري رحمه الله تعالى: " أصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر " مات بالمدينة سنة سبع عشرة ومائة، وقيل: سنة تسع عشرة ومائة، وقيل: سنة عشرين. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 123، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 5 / 95.
(3) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 1.
(4) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب النون مع الصاد، مادة " نصح " 5 / 63، وعمدة القاري للعيني، 14 / 65، وإرشاد الساري للقسطلاني، 5 / 23.
(5) انظر النهاية في غريب الحديث، باب الواو مع اللام، 5 / 229.(1/134)
1 - من صفات الداعية: الرحمة.
2 - من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله تعالى.
3 - من أساليب الدعوة: الترغيب والترهيب.
4 - من موضوعات الدعوة: الحث على الإحسان إلى الأيتام والعناية بمصالحهم.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: الرحمة: دل هذا الحديث على أن من صفات الداعية الناجح أن يرحم الناس، وخاصة الأيتام؛ ولهذا لم يرد ابن عمر رضي الله عنهما على أحد وصيته رحمة بالأيتام، ومن أجل ذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالأيتام والعناية بهم (1) .
فعلى الداعية أن يتصف بهذه الصفة الحميدة، ويكون رحيما بالمؤمنين وخاصة اليتامى الذين فقدوا آباءهم؛ فإن الله لا يخيِّب سعيه. والله المستعان (2) .
ثانيا: من صفات الدعاة: الرغبة فيما عند الله تعالى: يظهر في هذا الخبر رغبة الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فيما عند الله تعالى, وذلك في عدم ردِّه على أحد وصيته، وكأنه يبتغي الأجر بقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا " وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بينهما شيئا» (3) .
فينبغي للداعية أن يرغب فيما عند الله تعالى؛ فإن ذلك من أعظم القربات:. . {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60] (4) .
ثالثا: من أساليب الدعوة: الترغيب والترهيب: إن من الأساليب النافعة في الدعوة إلى الله تعالى: الترغيب والترهيب,
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 5 / 394.
(2) انظر: الحديث رقم 5، الدرس الأول ورقم 9 الدرس الثالث.
(3) البخاري، في كتاب الطلاق، باب اللعان، 6 / 218 برقم 5304، وفي كتاب الأدب، باب فضل من يعول يتيما، 7 / 101 برقم 6005.
(4) سورة القصص، الآية: 60.(1/135)
وهذا ظاهر في هذا الخبر في قول طاووس: حيث كان إذا سئل عن شيء من أمر اليتامى قرأ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] قال الإمام القرطبي رحمه الله: في تفسير هذه الآية: " تحذير: أي يعلم المفسد لأموال اليتامى من المصلح، فيجازي كلا على إصلاحه وإفساده " (1) .
وقال سبحانه: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9] (2) .
فينبغي للداعية أن يستخدم أسلوب الترغيب والترهيب في دعوته؛ فإن ذلك مما يؤثر على المدعو (3) .
رابعا: من موضوعات الدعوة: الحث علي الإحسان إلى الأيتام والعناية بمصالحهم: إن من الموضوعات المهمة: الحث على الإحسان إلى اليتامى، والعناية بهم وبمصالحهم، وتربيتهم التربية الإسلامية، والإنفاق عليهم من أموالهم أو من غيرها بالمعروف، وتنمية عقولهم وأموالهم (4) وقد أمر الله تعالى بالعناية باليتامى في آيات كثيرة ومنها قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء: 36] (5) وحذر سبحانه عن إفساد أموالهم وأكلها بالباطل فقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] (6) .
فعلى الداعية أن يبين للناس أهمية هذا الموضوع، ويوضح لهم ما أوجب الله عليهم من العناية باليتامى، ورعاية مصالحهم الدينية والدنيوية (7) .
_________
(1) الجامع لأحكام القرآن، 3 / 69، وانظر: تفسير الطبري " جامع البيان عن تأويل آي القرآن " 4 / 357، وانظر أيضا: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر.
(2) سورة النساء، الآية: 9.
(3) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 11، الدرس السادس.
(4) انظر: تفسير ابن جرير الطبري " جامع البيان عن تأويل آي القرآن " 4 / 349، وتفسير القرطبي " الجامع لأحكام القرآن " 3 / 66-69 وفتح الباري لابن حجر 5 / 395، وعمدة القاري للعيني 14 / 65.
(5) سورة النساء، الآية: 36.
(6) سورة النساء، الآية: 10.
(7) انظر: الحديث رقم 10، الدرس الأول.(1/136)
[باب استخدام اليتيم في السفر والحضر إذا كان صلاحا له]
[حديث أنس خدمت رسول الله في السفر والحضر]
25 - باب استخدام اليتيم في السفر والحضر إذا كان صلاحا له ونظر الأم أو زوجها لليتيم 14 [ص:2768] حَدَّثَنَا يَعْقوب بن إِبْرَاهِيمَ بنِ كَثِير: حَدَّثَنَا ابن علَيةَ: حَدَّثَنَا عبد العَزِيزِ، عَنْ أَنسٍ رضي الله عنه، (1) قَالَ: «قَدِمَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم المَدينة لَيْسَ له خادم، فأَخذَ أَبو طَلْحَةَ بِيَدِي فَانْطَلَقَ بِي إلَى رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَال: يَا رَسولَ اللهِ إِنَّ أنسا غلاَم كيِّس فَلْيَخْدمْكَ، قَالَ: فَخَدَمْته فِي السَّفَر وَالْحَضَرِ، مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْته لِمَ صَنعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلاَ لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْه لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذا؟» (2) وفي رواية:
«خَدَمْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي: أفٍّ، وَلاَ لِمَ صَنَعْتَ؟ ولاَ: أَلاَ صَنَعْتَ؟» (3) وفي رواية:
". . . «فَوَاللهِ مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْته لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا وَلاَ لشيء لَمْ أَصْنَعْه لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذا؟» (4) .
_________
(1) أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، أبو حمزة الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد المكثرين من الرواية عنه، وقرابته من النساء، وتلميذه، وآخر أصحابه موتا، ولد رضي الله عنه قبل الهجرة بعشر سنين، وعندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جاءت أم سليم بابنها أنس إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالت: يا رسول الله! هذا أنس ابني أتيتك به يخدمك فادع الله له، فقبَّله النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له، وكان مجموع ما روي عنه وثبت في دعائه له: " اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له فيما أعطيته [وأطل حياته واغفر له، [وأدخله الجنة] ". وخدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، وشهد بدرا صبيّا ثم المشاهد والغزوات بعدها، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وأنس ابن عشرين سنة، فكان رضي الله عنه إماما، مفتيا، داعية، راوية الإسلام، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وبلَّغ عنه علما جمّا بَلَغ ألفين ومائتين وستة وثمانين حديثا، اتفق البخاري ومسلم على مائة وثمانية وستين، وانفرد البخاري بثلاثة وثمانين، ومسلم بواحد وسبعين، وقد عمِّر حيث عاش مائة وثلاث سنين، توفي على الصحيح سنة 93 هـ رضي الله عنه وأرضاه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، 1 / 127، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 3 / 395- 406، والإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، 1 / 71- 72.
(2) [الحديث 2768] طرفاه: في كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل، 7 / 109 برقم 6038، وفي كتاب الديات، باب من استعان عبدا أو صبيا 8 / 59 برقم 6911 وأخرجه مسلم، في كتاب الفضائل، باب كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، 4 / 1804 برقم 2309.
(3) من الطرف رقم 6038.
(4) من الطرف رقم 6911.(1/137)
* شرح غريب الحديث: * " كيِّس " الكيِّس: العاقل (1) وهو الذي لا يقع منه خلَل غالبا في الدين (2) .
* " أفّ " أصل الأف: كل مستقذر من وسخ وقلامة ظفر، وما جرى مجراها، ويقال ذلك لكل مستخف به، ويقال عند التكره من الشيء، وعند التضجّر منه (3) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: الخلق الحسن.
2 - من آداب الداعية: ترك العتاب على ما فات استئلافا للمدعو.
3 - أدب المدعو مع العالم والداعية.
4 - من صفات الداعية: الكَيْس والنشاط.
5 - من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم.
6 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: الخلق الحسن: دل الحديث على أن الخلق الحسن من أعظم صفات الداعية؛ ولهذا قال الإمام النووي رحمه الله: " وفي هذا الحديث بيان كمال خلقه صلى الله عليه وسلم وحسن عشرته، وحلمه وصفحه " (4) وقال الإمام ابن أبي جمرة: " فيه دليل على حسن خلق النبي وكثرة ما أمده الله عز وجل به من قوة اليقين؛ لأن أنسا بقي في خدمته صلى الله عليه وسلم
_________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب الكاف مع الياء، مادة " كيس " 4 / 217، وانظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 208.
(2) بهجة النفوس لابن أبي جمرة، 3 / 80.
(3) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 254، ومفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني ص 79، وفتح الباري لابن حجر، 10 / 460.
(4) شرح الإمام النووي على صحيح مسلم 15 / 78، وانظر: شرح الكرماني على صحيح الإمام البخاري 12 / 83، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للإمام القرطبي 6 / 104.(1/138)
عشر سنين ثم مع طول السنين ومباشرة الخدمة لم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: قط لِمَ فعلت هذا هكذا، ولا لِمَ لَمْ تفعل. .؟ " (1) .
فعلى الداعية أن يتصف بحسن الخلق؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله تعالى ليتمم مكارم الأخلاق كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (2) ومما يدل على أهمية حسن الخلق للداعية أن الله تعالى أمر به إمام الدعاة وقائدهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليه به، قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] (3) وقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] (4) وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه فقالت: ". . . «فإن خلق نبيكم صلى الله عليه وسلم كان القرآن» (5) وهذا يحث الداعية على أن يسأل الله تعالى أن يرزقه الخلق الحسن؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ". . . «واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت» . . . " (6) .
ثانيا: من أدب الداعية: ترك العتاب على ما فات استئلافا للمدعو: من الأمور المهمة للداعية أن لا يلوم ولا يعاتب أحدا على ما فات، وخاصة في أمور الدنيا التي لا إثم في تركها؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ويستفاد من هذا ترك العتاب على ما فات؛ لأن هناك مندوحة عنه باستئناف الأمر به إذا احتيج إليه، وفائدة تنزيه اللسان عن الزجر والذم واستئلاف خاطر الخادم بترك معاتبته، وكل ذلك في الأمور التي تتعلق بحظ الإنسان، وأما الأمور اللازمة شرعا فلا يتسامح فيها؛ لأنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " (7) .
فعلى الداعية أن لا يعاتب لحظ نفسه ولا لأجل الدنيا، بل عليه أن يعفو ويصفح كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أنس رضي الله عنه.
_________
(1) بهجة النفوس 3 / 98.
(2) البيهقي في السنن الكبرى بلفظه 10 / 192، وأحمد 2 / 381، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 2 / 613، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 1 / 75 برقم 45.
(3) سورة الأعراف، الآية: 199.
(4) سورة القلم، الآية: 4.
(5) مسلم، في كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض 1 / 513 برقم 746.
(6) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، 1 / 535 برقم 771.
(7) فتح الباري 10 / 460، وانظر: إكمال إكمال المعلم للأبي، 8 / 43.(1/139)
ثالثا: أدب المدعو مع العالم والداعية: إن من الآداب الجميلة والأخلاق الحميدة احترام العلماء وخدمتهم والعناية بذلك، احتراما للعلم الذي معهم؛ ولهذا الأمر المهم أرسلت أم سليم رضي الله عنها ابنها أنس بن مالك رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليخدمه، فخدمه رضي الله عنه عشر سنوات. قال الإمام العيني رحمه الله: " وفيه أن خدمة الإمام والعالم واجبة على المسلمين، وأن ذلك شرف لمن خدمهم. . . " (1) .
فعلى المدعو أن يخدم العلماء، ويوقرهم، ويحترمهم؛ لما لهم من الفضل على الناس بنشر العلم النافع بينهم، وتعليمهم لهم علوم الكتاب والسنة.
رابعا: من صفات الداعية: الكَيْس والنشاط: إن من صفات الداعية أن يكون عاقلا ثبتا، نشيطا في طاعة الله تعالى؛ لأن الكيِّس في الحقيقة: هو الذي لا يقع منه خلل في الدين؛ (2) ولهذا قال أبو طلحة رضي الله عنه في هذا الحديث: " يا رسول الله، إن أنسا غلام كيِّس فليخدمك ". فعلى الداعية أن يكون عاقلا، نشيطا، ملتزما بأمور الدين، فلا يقع منه خلل ولا تقصير.
خامسا: من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم: إن التوكيد بالقسم من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله تعالى؛ لأنه يثبت المعاني في القلوب، ويحملها على التصديق؛ قال أنس رضي الله عنه: " فوالله ما قال لي لشيء صنعته لِمَ صنعت هذا؟ ".
فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب عند الحاجة إليه (3) .
سادسا: من وسائل الدعوة القدوة الحسنة: إن فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أنس بن مالك يدل على هذه الوسيلة النافعة، وأن
_________
(1) عمدة القاري 14 / 66.
(2) انظر: بهجة النفوس لابن أبي جمرة 3 / 98.
(3) انظر: الحديث رقم 10، الدرس الخامس.(1/140)
أثرها عظيم في الدعوة؛ لأن الفعل أبلغ من القول (1) ولهذا أثَّر هذا الخلق الحسن على أنس بن مالك رضي الله عنه حتى قال: «خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فوالله ما قال لي لشيء صنعته لم صنعت هذا» . . . " الحديث.
فعلى الداعية أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في خلقه، وأن يكون قدوة حسنة لغيره؛ لأن القدوة الحسنة تعطي الآخرين قناعة بما يدعو إليه الداعية (2) .
ومن أعظم ما ينبغي للداعية أن يكون قدوة لغيره في: الخلق الحسن، ومنه: طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى، ولا شك أن حسن الخلق قسمان: أحدهما مع الله عز وجل، وهو أن تعلم أن كل ما يكون منك يوجب عذرا، وكل ما يأتي من الله يوجب شكرا، فلا تزال شاكرا له معتذرا إليه.
والقسم الثاني: حسن الخلق مع الناس، وجماعه أمران: بذل المعروف قولا وفعلا، وكف الأذى قولا وفعلا، وهذا إنما يقوم على أركان خمسة: العلم، والجود، والصبر، وطيب العود (3) وصحة الإسلام (4) .
فعلى الداعية أن يكون قدوة للمدعوين في هذا الخلق الحسن. والله المستعان (5) .
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر 13 / 275.
(2) انظر: بهجة النفوس لابن أبي جمرة، 3 / 98، وعمدة القاري للعيني، 24 / 70، وشرح رياض الصالحين للعثيمين 6 / 263-264.
(3) طيب العود: أن يكون الله عز وجل خلقه على طبيعة منقادة، سهلة الاستجابة لداعي الخيرات، انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، لمحمد شمس الحق، 13 / 130.
(4) انظر: المرجع السابق، 13 / 130.
(5) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث، ورقم 8، الدرس الخامس، ورقم 9، الدرس الثالث عشر.(1/141)
[باب نفقة القيم للوقف]
[حديث ما تركت فهو صدقة]
32 - بَاب نَفَقَةِ الْقَيِّمِ لِلْوَقفِ 15 [ص:2776] حَدَّثَنَا عَبْد اللهِ بن يوسفَ: أَخْبَرَنَا مَالِك، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَن أَبِي هرَيْرَةَ رضي الله عنه: (1) أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَقْتَسِمْ وَرَثَتِي دِينَارا، وَلَا دِرْهَما، مَا تَرَكْت - بَعدَ نَفَقَةِ نِسَائي وَمؤْنَةِ عَامِلي- فَهوَ صَدَقَة» (2) .
* شرح غريب الحديث: " ومؤنة (3) عاملي " أراد صلى الله عليه وسلم بالعامل: الخليفة بعده، وقيل: هو القائم على هذه الصدقات والناظر فيها، وقيل: كل عامل للمسلمين من خليفة وغيره؛ لأنه عامل النبي صلى الله عليه وسلم ونائب عنه في أمته (4) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: الزهد.
2 - من صفات الداعية: الكرم.
3 - مسئولية الداعية تجاه أقاربه.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: الزهد: في هذا الحديث بيان واضح للأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهتم بأمور الدنيا، ولم تكن أكبر همه؛ لأنه لم يبعث لتحصيلهما وجمعها، وإنما بعث لإنقاذ الناس
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 7.
(2) [الحديث 2776] طرفاه في: كتاب فرض الخمس، باب نفقة نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، 4 / 55 برقم 3069، وفي كتاب الفرائض، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا نورث ما تركنا صدقة " 8 / 5 برقم 6729. وأخرجه مسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا نورث ما تركنا صدقة " 3 / 1382 برقم 1760.
(3) انظر: القاموس المحيط، للفيروز آبادي، باب النون، فصل الميم، ص 1590، وأعلام الحديث في شرح صحيح البخاري للخطابي 2 / 1349.
(4) شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 325.(1/142)
وإخراجهم من ظلمات الشرك والمعاصي إلى نور التوحيد والطاعات. وهذا يدل على زهده, وقناعته صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من الخبز الشعير» (1) وقالت: «ما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر» (2) وقالت: «إنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقال عروة: ما كان يقيتكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء» (3) .
وقال صلى الله عليه وسلم: «لو كان لي مثل أحد ذهبا ما يسرّني أن لا يمرّ عليَّ ثلاث وعندي منه شيء، إلا شيء أرصده لدين» (4) .
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه «اضطجع على حصير فأثر في جنبه فدخل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولما استيقظ جعل يمسح جنبه فقال: يا رسول الله لو أخذت فراشا أوثر من هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " ما لي وللدنيا ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها» (5) . وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام حتى قبض» (6) .
والمقصود أنهم لم يشبعوا ثلاثة أيام بلياليها متوالية، والظاهر أن سبب عدم شبعهم غالبا كان بسبب قلة الشيء عندهم، على أنهم قد يجدون ولكن يؤثرون على أنفسهم (7) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدَم وحشوه ليف» (8)
_________
(1) البخاري، كتاب الأطعمة، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون، 6 / 252 برقم 5414.
(2) البخاري، كتاب الرقاق، باب كيف كان يعيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخلِّيهم عن الدنيا، 7 / 231، برقم 6455.
(3) البخاري، كتاب الرقاق، باب كيف كان يعيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم عن الدنيا، 7 / 232، برقم 6459.
(4) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب أداء الديون، 3 / 114، برقم 2389، وصحيح مسلم، كتاب الزكاة باب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة 2 / 687، برقم 991.
(5) أحمد في المسند من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، 1 / 301 بلفظه، والترمذي بنحوه، في كتاب الزهد باب 44، 4 / 588، برقم 2377، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، 2 / 1376، برقم 4109، وصححه الألباني في صحيح الترمذي 2 / 280، وصحيح ابن ماجه 2 / 394.
(6) البخاري كتاب الأطعمة باب قول الله تعالى كلوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكمْ الآية 6 / 240 برقم 5374.
(7) انظر: فتح الباري لابن حجر 9 / 517، 549.
(8) البخاري كتاب الرقاق باب كيف كان يعيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخلِّيهم عن الدنيا 7 / 231 برقم 6456.(1/143)
ومع هذا كان يقول صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتا» (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه» (2) .
فينبغي للداعية أن يكون زاهدا في الدنيا، راغبا فيما عند الله تعالى؛ فإن ذلك من الصفات الحميدة، والأخلاق الكريمة (3) والله المستعان (4) .
ثانيا: من صفات الداعية: الكرم: لا ريب أن الكرم من صفات الداعية الناجح؛ لأن الكريم إذا أحسن إلى الناس جلب قلوبهم؛ ولأن النفس في الغالب مجبولة على حبِّ من أحسن إليها، وهذا واضح في هذا الحديث؛ ولهذا قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث عندما ذكر ماله صلى الله عليه وسلم من الأموال. قال: " لكنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستأثر بها، بل ينفقها على أهله، والمسلمين، وللمصالح العامة. . . " (5) .
فعلى الداعية أن يكون جوادا كريما محسنا، وبهذا إن شاء الله يجذب قلوب المدعوين، فيقبلون على دعوته (6) .
ثالثا: مسؤولية الداعية تجاه أقاربه: إن الأقارب لهم حق النفقة والرعاية والإحسان على حسب مراتبهم ودرجاتهم في القرب؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: " ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة "، فلم يهمل صلى الله عليه وسلم نفقة نسائه، بل أوصى لهن بالنفقة، وقد بين صلى الله عليه وسلم أهمية الإنفاق على الأهل، والأقارب، والعيال الذين يعولهم المسلم، أو
_________
(1) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب الرقاق، باب كيف كان يعيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخلِّيهم عن الدنيا، 6 / 232 برقم 6460، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الكفاف والقناعة، واللفظ له، 2 / 730 برقم 1055.
(2) مسلم، كتاب الزكاة، باب الكفاف والقناعة، 2 / 730 برقم 1054، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(3) انظر: الاستذكار لابن عبد البر 27 / 386، وفتح الباري لابن حجر، 5 / 406، 6 / 209، 12 / 6،.
(4) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الأول.
(5) شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 326.
(6) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الثاني.(1/144)
تلزمه مؤنتهم: نحو الزوجة, والخادم, والوالد, والولد, وغيرهم. فقال: «أفضل دينار ينفقه الرجل: دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله،» (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك» (2) .
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثما أن يحبس عمّن يملك قوته» (3) وقال صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شَيْء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن قرابتك شيء فهكذا وهكذا» ، يقول: فبيْن يديك وعن يمينك وعن شمالك (4) .
فينبغي للداعية أن يعتني بقرابته عناية خاصة؛ ليقوم بالواجب، ويكون قدوة حسنة للناس في الخير، والله المستعان.
_________
(1) أخرجه مسلم عن ثوبان رضي الله عنه، في كتاب الزكاة، باب فضل النفقة على العيال وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عنهم، 2 / 692، برقم 994.
(2) أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، في الكتاب والباب السابقين، 2 / 692، برقم 995.
(3) أخرجه مسلم، في الكتاب والباب السابقين، 2 / 692، برقم 996.
(4) متفق عليه من حديث جابر رضي الله عنه: البخاري مختصرا، كتاب الأحكام، باب بيع الإمام على الناس أموالهم، وضياعهم، 8 / 149، برقم 7186، ومسلم بلفظه في كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس، ثم الأهل، ثم القرابة، 2 / 692، برقم 977.(1/145)
[باب إذا وقف أرضا أو بئرا واشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين]
[حديث من حفر بئر رومة فله الجنة]
33 -بَاب إِذَا وَقَفَ أَرضا أَو بِئْرا أو اشْترَطَ لِنَفْسِهِ مِثلَ دِلاءِ المسْلمين وَوَقَفَ أنَس دَارا، فَكَانَ إِذَا قَدِمَ نزَلَهَا، وَتَصَدَّقَ الزبير بِدورِهِ، وَقَالَ لِلْمَردودَةِ منْ بَنَاتِهِ: أَنْ تَسْكنَ غَيرَ مضِرَّةٍ وَلَا مضَرٍّ بِهَا، فَإِنِ اسْتَغْنَتْ بِزَوْجٍ فَلَيْسَ لَهَا حَقّ، وَجَعَلَ ابن عمَرَ نَصِيبَه مِنْ دَارِ عمَرَ سكْنَى لِذَوِي الحَاجَاتِ مِنْ آلِ عَبْد اللهِ.
16 [ص:2778] وَقَالَ عَبْدَان: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عنْ أبِي عَبْدِ الرّحمَنِ: «أَن عثمانَ رضي الله عنه، (1) حَيْث حوصِرَ أَشْرَفَ عَليهم، وقَالَ: أَنشدكم اللهَ، وَلَا أَنْشد إِلَّا أَصْحَابَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أَلَسْتمْ تَعْلَمونَ أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: " مَنْ حَفَرَ رومَةَ فَله الْجَنَّة " فَحَفَرْتهَا؟ أَلَسْتمْ تَعَلَمونَ أَنَّه قَالَ: " مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ العسْرَةِ فَله الْجَنَّة " فَجَهَّزْته؟ قَالَ: فَصَدَّقوه بمَا قَالَ؟ وَقَالَ عمَر فِي وَقْفِهِ: لَا جنَاحَ عَلَى مَنْ وَليَه أَن يَأْكلَ. وَقَدْ يَليهِ الوَاقِف وَغَيره فَهوَ واسع لِكلٍّ» . (2) .
_________
(1) عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، أمير المؤمنين أبو عبد الله وأبو عمرو، القرشي، أحد السابقين الأولين إلى الإِسلام، وصاحب الهجرتين، وذو النورين، زوج الابنتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد بعد الفيل بست سنين على الصحيح، أسلم قديما على يد أبي بكر رضي الله عنه، وبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا وعرض عليه القرآن، وعرض على عثمان أبو عبد الرحمن السلمي وخلق كثير، ومما ذكر له من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث وستة وأربعون حديثا، اتفق البخاري ومسلم منها على ثلاثة، وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بخمسة وبلَّغ ذلك العلم لخلائق من التابعين. وحفر بئر رومة، وجهز جيش العسرة، واشترى أرضا وسع بها في المسجد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ووسع في المسجد في خلافته الراشدة، وقد بويع له بالخلافة بعد موت عمر واستشهاده رضي الله عن الجميع؛ لأنه أحد الستة الذين توفي عنهم رسول الله وهو عنهم راض كما قال عمر، وكانت خلافته ثنتي عثرة سنة إلا ليالي، وحج بالناس عشر سنين متوالية، وقد جمع القرآن على حرف واحد وجمع الله به قلوب المسلمين على ذلك، وفتح الفتوحات الكثيرة العظيمة، قتل شهيدا مظلوما سنة خمس وثلاثين في شهر ذي الحجة وهو ابن تسعين سنة، وقيل ثمان وثمانين، وقيل ثنتين وثمانين، وقيل غير ذلك رضي الله عنه ورحمه.
انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 321- 325، وتاريخ الإسلام، ووفيات المشاهير، والأعلام للإمام محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي 1 / 467- 482، والإصابة في تمييز الصحابة 2 / 462- 463.
(2) قال ابن حجر رحمه الله تعالى: وقد وصله الدارقطني والإسماعيلي، فتح الباري 5 / 407.(1/146)
* شرح غريب الحديث: * " أنشدكم الله " يقال: نشدتك الله: أي سألتك بالله، ويقال: نشدتك الله، وأنشدك بالله، وأنشدك الله، وناشدتك اللهَ وبالله: أي سألتك وأقسمت عليك (1) وقيل: نشدتك الله، وأنشدك بالله: أي أشهدك بالله، وأعرِّفكَ ما نحبه فيك من الصدق لِلَّهِ (2) .
* " رومة " هي بئر بالمدينة، اشتراها عثمان رضي الله عنه وسَبَّلها (3) .
* " العسرة " جيش العسرة: غزوة كان فيها شدة على أهلها، وقلة، سمِّيَ جيشهَا بما أصابهم (4) وهي غزوة: تبوك.
* الدراسة الدعوية للحديث: هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحث على الإِنفاق والصدقات في وجوه الخير.
2 - من صفات الداعية: المسارعة إلى الخيرات.
3 - من صفات الداعية: الكرم والرغبة فيما عند الله تعالى.
4 - إظهار الداعية مناقبه عند الحاجة إلى ذلك.
5 - من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان.
6 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
7 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية بالتفصيل على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث علي الإنفاق والصدقات في وجوه الخير: في هذا الحديث الشريف دعوة للأمة إلى الإنفاق والصدقة ابتغاء وجه الله
_________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر، باب النون مع الشين، مادة " نَشَدَ " 5 / 53.
(2) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 43.
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر، باب الراء مع الواو، مادة " روم " 2 / 279.
(4) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 53.(1/147)
تعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى حفر بئر رومة فحفرها عثمان رضي الله عنه وهذا العمل من أعظم الصدقات، ودعا صلى الله عليه وسلم إلى تجهيز جيش العسرة، فجهزه عثمان رضي الله عنه، وهذه من النفقات في سبيل الله تعالى. (1) .
فعلى الداعية أن يحث الناس على الإِنفاق في وجوه البر ابتغاء وجه الله تعالى.
ثانيا: من صفات الداعية: المسارعة إلى الخيرات: إن من صفات الداعية الصادق مع الله تبارك وتعالى المسارعة إلى الخير ابتغاء مرضات الله تعالى؛ ولهذا سارع عثمان رضي الله عنه عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإنفاق ويبين فضله، فأنفق على جيش العسرة فجهزه، وحفر بئر رومة، فينبغي للداعية أن يسارع إلى فعل الخيرات كما قال سبحانه وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران: 133 - 134] (2) الآية (3) .
ثالثا: من صفات الداعية: الكرم والرغبة فيما عند الله تعالى: إن الكرم صفة حميدة ينبغي للدعاة أن يتصفوا بها، وفي هذا الحديث صورة واضحة تبين كرم عثمان رضي الله عنه وأرضاه، فقد أنفق نفقة عظيمة عجز عظماء الرجال عن الإِنفاق مثلها، فقد ثبت أنه «أنفق في هذه الغزوة ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، وجاء بألف دينار فنثرها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يقلِّبها في حجره ويقول: " ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد هذا اليوم " قالها مرارا» (4) ومما يدل على كرمه أيضا ما أنفقه في شراء بئر رومة وحفرها، وذلك أن «المهاجرين لما قدموا المدينة استنكروا الماء، وكانت لرجل من بني
_________
(1) انظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 87، وفتح الباري لابن حجر، 5 / 407، وعمدة القاري للعيني، 14 / 71.
(2) سورة آل عمران، الآيتان: 134، 133.
(3) انظر: فتح الباري لابن حجر، 5 / 407، وعمدة القاري للعيني، 14 / 72، والحديث رقم 30، الدرس الثاني.
(4) الترمذي، في كتاب المناقب، باب في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه 6 / 626، برقم 3701، وقال حسن غريب من هذا الوجه، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي 3 / 209، وأخرجه أيضا الحاكم وصححه ووافقه الذهبي 3 / 102، وانظر فتح الباري، لابن حجر، 7 / 54.(1/148)
غفار عين يقال لها رومة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " تبيعنيها بعين في الجنة؟ " فقال يا رسول الله: ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أتجعل لي فيها ما جعلت له؟ قال: " نعم "، قال: قد جعلتها للمسلمين» (1) .
وهذا يدل على كرم عثمان رضي الله عنه ورغبته فيما عند الله تعالى، فعلى الداعية أن يكون كريما راغبا فيما عند الله سبحانه وتعالى (2) .
رابعا: إظهار الداعية مناقبه عند الحاجة لذلك: لا شك أن الداعية الصادق المخلص لا يحب أن يظهر عمله للناس؛ لأنه لا يقصد به إلا وجه الله تعالى والدار الآخرة، ولكن إذا كان في إظهار مناقبه مصلحة راجحة تنفع الدعوة والمدعوين، أو تبيِّن للناس مدى صحة ما يقول حتى يعملوا به، أو تدفع عنه تهمة رمِيَ بها، فلا بأس بذلك، وفي هذا الحديث من فعل عثمان وقوله ما يدل على ذلك؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: ". . . وفيها جواز تحدث الرجل بمناقبه عند الاحتياج إلى ذلك لدفع مضرة، أو تحصيل منفعة، وإنما يكره ذلك عند المفاخرة والمكاثرة والعجب " (3) .
خامسا: من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان: يظهر في هذا الحديث ما حصل لعثمان رضي الله عنه من الابتلاء، والامتحان، فقابل ذلك بالثبات والصبر، فهو ثالث الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ومع ذلك أصابه هذا الابتلاء؛ قال سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] (4) .
_________
(1) ذكره ابن حجر في فتح الباري، 5 / 407، وعزاه بسنده إلى البغوي في الصحابة، وانظر: تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي للمباركفوري، 7 / 190.
(2) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الثاني، ورقم 15، الدرس الثاني.
(3) فتح الباري 5 / 408.
(4) سورة محمد، الآية: 31.(1/149)
فينبغي للداعية أن يسأل الله العفو والعافية، وإذا حصل ابتلاء صبر واحتسب الأجر على الله تعالى، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة (1) .
سادسا: من أساليب الدعوة: الترغيب: لا ريب أن أسلوب الترغيب له أثر في حياة المدعو؛ ولهذا اعتنى به القرآن الكريم، واستخدمه النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، وفي هذا الحديث يظهر هذا الأسلوب في قوله صلى الله عليه وسلم: " من حفر رومة فله الجنة "، وقوله صلى الله عليه وسلم: " من جهز جيش العسرة فله الجنة "، وقد جاء في سبب ورود هذا الحديث أن «المسلمين عندما قدموا إلى المدينة وجدوا أن الماء العذب قليل، وليس بالمدينة ما يستعذب غير بئر رومة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟» (2) . وقال في حديث الباب: " من حفر رومة فله الجنة " قال ابن حجر في الجمع بين لفظ الحفر والشراء: ". . . وإن كانت أولا عينا فلا مانع أن يحفر فيها عثمان بئرا، ولعل العين كانت تجري إلى بئر فوَسَّعَها وطواها فنسب حفرها إليه " (3) .
فعلى الداعية أن يستخدم أسلوب الترغيب في دعوته للناس؛ فإن ذلك من أنفع الأساليب في جذب المدعوين إلى الخير (4) .
سابعا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: يظهر في هذا الحديث أن القدوة وسيلة ناجحة في الدعوة إلى الله تعالى، وذلك أن عثمان رضي الله عنه اشترى بئر رومة وحفرها، وأنفق النفقة العظيمة في غزوة تبوك وكل ذلك بحضرة الصحابة رضي الله عنهم، فكان رضي الله عنه قدوة حسنة لغيره
_________
(1) انظر: حديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 13، الدرس الثاني.
(2) النسائي، في كتاب الوصايا، باب وقف المساجد، 6 / 235 برقم 3608، والترمذي، وحسنه في كتاب المناقب، باب مناقب عثمان رضي الله عنه، 6 / 627 برقم 3703، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي 3 / 209، وصحيح النسائي 2 / 766.
(3) فتح الباري 5 / 408.
(4) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 13، الدرس الثالث.(1/150)
من الصحابة؛ ولهذا أثنى عليه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مرارا بقوله: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم» وكان ذلك بحضرة الصحابة رضي الله عنهم، وفي ذلك تشجيع لهم على النفقة.
فينبغي للداعية أن يكون قدوة حسنة لغيره؛ فإن ذلك من أنجح الوسائل في الدعوة إلى الله سبحانه (1) .
[باب قول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم]
[حديث سبب نزول قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر] أحدكم الموت
_________
(1) انظر: الحديث رقم 8، الدرس الثالث عشر، ورقم 14، الدرس السادس.(1/151)
35 - بَاب قوْلِ اللهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ - فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ - ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 106 - 108] (1) .
الأَوليانِ: وَاحِدهما أَولَى، ومنه: أَولَى به. عثِرَ: ظهِرَ. أَعْثَرْنَا: أَظْهَرْنَا.
17 [ص:2780] وَقَالَ لي عَليّ بن عَبْدِ اللهِ: حَدَّثَنَا يحيى بن آَدَمَ: حَدَّثَنا ابن أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ محَمَّدِ بنِ أَبِي القَاسِمِ، عَن عبدِ المَلِكِ بنِ سَعِيدِ بْنِ جبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، (2) قَالَ: «خَرَجَ رَجل مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدّاءٍ، فَمَات السَّهْمِيّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مسْلِم، فلَمَا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدوا جَاما مِنْ فِضَّةٍ مخَوَّصا مِنْ ذَهَبٍ. فَأَحْلَفَهمَا رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ وجِدَ الجَام بِمَكَّةَ فَقَالَوا: ابْتَعْنَاه مِنْ تميمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجلانِ مِنْ أَوْليَائِهِ فَحَلَفَا: لشهادَتنَا أَحَقّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، قَالَ وَفِيهم نَزَلَتْ هَذِهِ الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة: 106] » (3) .
* شرح غريب الحديث: * " رجل من بني سهم " قيل: هو بزيل، وقيل: بريل، وقيل: بديل بن أبي مريم، قيل: كان مسلما من المهاجرين (4) .
_________
(1) سورة المائدة، الآيات: 106- 108.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 5-2743.
(3) قال ابن حجر رحمه الله: " والصحابي إذا حكى سبب النزول كان ذلك في حكم الحديث المرفوع اتفاقا " فتح الباري 5 / 412.
(4) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، 1 / 140، وفتح الباري له، 5 / 410، وعمدة القاري للعيني، 14 / 76.(1/152)
* " الجام " هو الكأس (1) .
* " مخَوَّصا " أي منقوش فيه خطوط دقاق طوال كالخوص، وهو ورق النخل، وقيل: " الجام المخوص " إناء من فضة منقوش بذهب، وقيل: عليه صفائح الذهب مثل خوص النخل (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحث على الوصية عند الموت.
2 - حفظ الإسلام لحقوق الإِنسان.
3 - من أساليب الدعوة: القصة.
4 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية بالتفصيل على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على الوصية عند الموت: في هذا الحديث دعوة للأمة وحث لها على الوصية عند الموت، فإذا حضر الإنسان الموت أو مقدماته فينبغي له أن يكتب وصيته- إذا لم يكتبها قبل ذلك- ويشهد عليها اثنين ذوي عدل من المسلمين؛ فإن كان في سفر ولم يجد أحدا من المسلمين، ونزل به الموت أشهد اثنين من غير المسلمين، ودفع إليهما ما معه من مالٍ وتركة لورثته، فإذا وصل الشاهدان إلى الورثة وظهر لهم أنهما قد خانا فإن أولياء الميت يوقفونهما بعد صلاة العصر ويحلِّفونهما أنهما ما خانا ولا كذبا، ولا غيَّرا ولا بدلا، فإن اطلع الورثة على أن الشاهدين كاذبان، وقد خانا من مال الميت شيئا أو غَيَّرا الوصية، فإن شاء أولياء الميت قام منهما اثنان فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة، وأنهما خانا وكذبا، وإنَّا لم نعتدِ،
_________
(1) انظر: القاموس المحيط، باب الميم فصل الجيم، ص 1408، وعمدة القاري للعيني، 14 / 76.
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الخاء مع الواو، مادة: " خوص " 2 / 87، وفتح الباري لابن حجر، 5 / 411، وعمدة القاري للعيني، 14 / 76.(1/153)
وبهذا يستحق أولياء الميت ما يدعون (1) .
فينبغي للداعية أن يبين للمدعوين ما يحتاجون إليه مما ينفعهم في الدنيا وعند الموت، ومن ذلك بيان الوصية والحث عليها وتوضيحها للناس.
ثانيا: حفظ الإسلام لحقوق الإنسان: في هذا الحديث بيان واضح بأن الإسلام يحفظ حقوق الإِنسان، وهذا يؤكد تأكيدا جازما أن الإسلام هو الذي يصلح لكل زمان ومكان؛ ولهذا اعتنى بحق الإِنسان حتى عند الموت وبعده كما في هذا الحديث (2) .
فعلى الداعية أن يبين للناس عناية الإسلام بحقوق الإنسان، وذلك مما يزيد يقين المسلم ويرغب غيره في الإسلام.
ثالثا: من أساليب الدعوة: القصة: القصة من خير ما يتوصل به الداعية لإِبلاغ دعوته إلى أعماق القلوب؛ لأن النفس تميل إليها، وأبلغ القصص ما جاء في القرآن الكريم، والسنة الثابتة، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف: 111] الآية (3) .
وفي هذا الحديث يسوق ابن عباس رضي الله عنهما هذه القصة التي بين فيها للناس ما ينبغي أن يعلمه المسلم عند الوفاة في الحضر أو السفر، فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب في دعوته (4) .
رابعا: من أساليب الدعوة: الترهيب: لا ريب أن أسلوب الترهيب من الأساليب النافعة؛ لأنه يخوف المدعو ويحذره ما يضره، ويظهر في هذا الحديث المشتمل على الآية: أسلوب الترهيب في
_________
(1) انظر: تفسير الطبري " جامع البيان عن تأويل آي القرآن " 11 / 154- 208، وتفسير البغوي 2 / 73- 75، وتفسير القرطبي " الجامع لأحكام القرآن " 6 / 324- 338، وتفسير ابن كثير 2 / 105-108.
(2) انظر: الحديث رقم 6، الدرس الثاني. .
(3) سورة يوسف، الآية: 111.
(4) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، 4 / 65.(1/154)
التخويف من الإثم ومن الظلم، وأن الله لا يهدي القوم الفاسقين، قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 108] (1) .
قال الطبري رحمه الله: " وخافوا الله أيها الناس، وراقبوه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبة، وأن تذهبوا بها مال من يحرم عليكم ماله، وأن تخونوا من ائتمنكم. . . " (2) وبين سبحانه أنه لا يوفق من فسق عن أمر ربه فخالفه وأطاع الشيطان (3) فعلى الداعية أن يستخدم هذا الأسلوب في دعوته، والله الموفق والمستعان (4)
_________
(1) سورة المائدة، الآية: 108.
(2) تفسير الإمام الطبري " جامع البيان عن تأويل آي القرآن " 11 / 206.
(3) انظر المرجع السابق 11 / 206.
(4) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر.(1/155)
[الفصل الثاني كتاب الجهاد والسير]
[باب فضل الجهاد والسير]
[حديث لا عمل يعدل الجهاد](1/157)
1 - باب فضْلِ الجهَادِ والسِّيرِ وَقَوْل اللهِ تَعَالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة: 111] إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112] (1) .
قَالَ ابن عَبَّاسٍ: الحدود: الطَّاعَة.
18 [ص:2785] حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن مَنْصورٍ: أَخْبَرَنَا عَفَّان: حَدَّثَنَا هَمَّام: حَدَّثَنَا محَمَّد بن جحادة قَال: أخْبَرَني أَبو حَصِينٍ: أَنَّ ذَكْوانَ حدَّثه: أن أبَا هرَيْرَة رضي الله عنه (2) حدَّثَه قالَ: «جَاءَ رَجل إِلَى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: دلَّني عَلَى عَمَلٍ يَعدِل الجِهَادَ. قالَ: " لَا أَجِده ". قَالَ: " هَل تَسْتَطِيع إِذَا خَرَجَ المجَاهِد أَنْ تَدْخلَ مَسجِدَكَ فَتَقومَ وَلَا تَفْترَ، وَتَصومَ ولا تفْطِرَ؟ " قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيع ذَلكَ؟ قال أَبو هرَيْرَةَ: " إنَّ فرَسَ المجاهدِ ليَسْتَنّ في طِوَلِه، فيكتَب له حسَنات» (3) .
* شرح غريب الحديث: *قوله: " يعدل الجهاد ": يساويه ويماثله (4) .
*قوله: " لا أجده ": أي: لا أجد عملا يماثل الجهاد في الفضل (5) .
*قوله: " ليستن ": أي: يمرح بنشاط، ويرفع يديه ويطرحهما معا مقبلا ومدبرا (6) .
_________
(1) سورة التوبة، الآيتان 111، 112.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 7.
(3) وأخرجه مسلم، في كتاب الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى، 3 / 1498، برقم 1878.
(4) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب العين مع الدال، مادة " عدل " 3 / 190، وعمدة القاري للعيني، 14 / 82.
(5) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع الجيم مادة: " وجد " 5 / 155، وعمدة القاري للعيني، 14 / 82.
(6) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع النون، مادة: " سنن " 2 / 410، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 12 / 95، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 5، وعمدة القاري للعيني، 14 / 82.(1/158)
قوله: " في طِوَلِه ": الحبل الذي تشدّ به الدابة ويطوَّل لها، ويمسك طرفه ويرسل الدابة ترعَى في المرعى (1) .
قوله: " يكتب له حسنات ": أي: يكتب له الاستنان حسنات (2) .
*قوله: " لا تفتر ": أي لا تسأم ولا تمل (3) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أهمية سؤال المدعو لأهل العلم.
2 - من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد وبيان أهميته في الدعوة إلى الله عز وجل.
3 - من أعظم وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله تعالى.
4 - من أساليب الدعوة: التشبيه.
5 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
6 - أهمية مداومة الداعية على العمل الصالح.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية بالتفصيل على النحو الآتي:
أولا: أهمية سؤال المدعو لأهل العلم: إن من أهم الأمور في طلب العلم السؤال عنه، والحرص على طلبه، وقد دل هذا الحديث على حرص الصحابي رضي الله عنه على طلب العلم والسؤال عنه للاستفادة؛ ولهذا قال: " يا رسول الله دلني على عمل يعدل الجهاد؟ " وهذا شأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم كانوا يسألونه عن كثير من المعاني، وكان صلى الله عليه وسلم يجيبهم ويوضح لهم، وكانت طائفة تسأل، وأخرى تحفظ وتؤدي وتبلّغ حتى أكمل الله تعالى دينه (4)
_________
(1) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 330، وشرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 95، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 5، وعمدة القاري للعيني، 14 / 82.
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع النون، مادة: " سنن " 2 / 411، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 5، وعمدة القاري للعيني، 12 / 83.
(3) انظر: القاموس المحيط، للفيروز آبادي، باب الراء فصل الفاء، ص 583، وتحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي، للمباركفوري، 5 / 248.
(4) انظر. حديث رقم 8، الدرس الأول، ورقم 11، الدرس الأول، ورقم 12، الدرس الثاني.(1/159)
فعلى المدعو أن يسأل عما أشكل عليه حتى يكون على بصيرة من أمره.
ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد وبيان أهميته في الدعوة إلى الله عز وجل: إن الجهاد ذروة سنام الإسلام وقبَّته، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرفعة في الدنيا (1) ويظهر من مفهوم هذا الحديث: حث النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد وذلك ببيان فضله؛ والجهاد الغرض منه والهدف: هو إعلاء كلمة الله تعالى، وإخراج الناس من عبودية المخلوق إلى عبادة الله تعالى، كما قال الله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] (2) فينبغي للداعية أن يبيِّن للناس هذه الأهداف، وأن الجهاد شرع؛ لإِعلاء كلمة الله تعالى، ولنصر المظلوم، وحفظ الإسلام، ورد العدوان، وإرهاب أعداء الإسلام، كما قال سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] (3) .
ثالثا: من أعظم وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله تعالى: لا شك أن الجهاد في سبيل الله تعالى أفضل الوسائل في نشر الإسلام وإخماد الشرك؛ لأن الأعمال قسمان: مقاصد: كأركان الإِيمان الستة، وأركان الإِسلام. فهذه أركان وأسس وأصول ووسائل، وأفضل الوسائل إطلاقا الجهاد (4) ولهذا قال الإمام ابن دقيق العيد: " القياس يقتضي أن يكون الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل؛ لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره، وإخماد الكفر ودحضه، ففضيلته بحسب فضيلة ذلك، والله أعلم " (5) .
رابعا: من أساليب الدعوة: التشبيه: التشبيه وضرب الأمثال من أساليب الدعوة النافعة؛ لأنه يقرِّب المعاني،
_________
(1) انظر: زاد المعاد لابن القيم، 3 / 5.
(2) سورة الأنفال، الآية: 39.
(3) سورة الأنفال، الآية: 60، وانظر: الحديث رقم 2، الدرس الثالث.
(4) انظر: منار القاري في شرح مختصر صحيح البخاري، لحمزة محمد قاسم، 4 / 84.
(5) نقلا عن فتح الباري للحافظ ابن حجر، 6 / 5، وانظر: إحكام الأحكام، لابن دقيق العيد، 2 / 301.(1/160)
ويوصلها إلى ذهن السامع، ويكشف ما بها من غموض بتصوير الأمر المعنوي بأمر حسي يظهر فيه المشبه به صورة حسية للمشبَّه (1) ولهذه الأهمية ضرب الله الأمثال في الكتاب العزيز كثيرا، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم في سنته الأمثال كثيرا (2) ويظهر في هذا الحديث استخدام التشبيه في ضرب مثل المجاهد كمثل الصائم القائم، وهو في رواية مسلم أظهر (3) .
فعلى الداعية أن يستخدم أسلوب التشبيه وضرب الأمثال في دعوته؛ لأهميته؛ ولتوضيحه للمعاني وتقريبها إلى ذهن السامع.
خامسا: من أساليب الدعوة: الترغيب: إن الترغيب أسلوب مؤثر على السامع؛ ولهذا أكثر النبي صلى الله عليه وسلم من استخدامه في دعوته، ومن ذلك ما يظهر في هذا الحديث من الترغيب في الجهاد، وذكر فضله. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: " وفي هذا الحديث العظيم فضل الجهاد؛ لأن الصلاة والصيام والقيام بآيات الله أفضل الأعمال، وقد جعل المجاهد مثل من لا يفتر عن ذلك في لحظة من اللحظات، ومعلوم أن هذا لا يتأتَّى لأحد. . " (4) ولهذا قال هذا السائل للنبي صلى الله عليه وسلم: " ومن يستطيع ذلك؟ ".
ولا شك أن الجهاد فضله عظيم، ومنزلته كبيرة، ولهذا عظَّم الله شأنه فقال عز وجل: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169 - 171] (5)
_________
(1) انظر: البرهان في علوم القرآن، للزركشي، 2 / 414، والإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، 2 / 273.
(2) انظر: مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني ص 759، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 3 / 709.
(3) انظر: مرقاة المفاتيح، شرح مشكاة المصابيح، للملا علي القاري 7 / 352، وفيض القدير شرح الجامع الصغير، لعبد الرؤوف المناوي 5 / 515.
(4) شرح النووي على صحيح مسلم 13 / 28.
(5) سورة آل عمران، الآيات: 169-171.(1/161)
وقال عز وجل: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74] (1) وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111] (2) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] (3) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ - تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 10 - 12] (4) وغير ذلك من الآيات الكريمة التي رغب الله فيها المؤمنين في الجهاد، أما الأحاديث فهي كثيرة، وسيأتي معظمها في هذا الفصل إن شاء الله تعالى (5) فينبغي للداعية أن يستخدم وسيلة الترغيب في دعوته، حتى يكون موفقا بإذن الله تعالى (6) .
سادسا: أهمية مداومة الداعية على العمل الصالح: دل مفهوم الحديث على أهمية المداومة على العمل الصالح؛ لأن المداومة عليه أحب إلى الله تعالى من الكثير المنقطع؛ لأن بدوام العمل الصالح القليل تدوم الطاعة، والذكر، والمراقبة، والنية، والإِخلاص، والإِقبال على الخالق، والقليل الدائم يثمر؛ لأنه يزيد على الكثير المنقطع أضعافا كثيرة (7) ولهذا
_________
(1) سورة النساء، الآية: 74.
(2) سورة التوبة، الآية: 111، وانظر الآيات 120 - 121 من هذه السورة.
(3) سورة الصف، الآية: 4.
(4) سورة الصف، الآيات: 10-12.
(5) انظر: فضل الجهاد وأهميته وأهدافه في كتاب: " أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإِسلامية " رسالة دكتوراه، قدمت لجامعة أم القرى، قسم العقيدة، للدكتور علي بن نفيع العلياني ص 158- 254.
(6) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 16، الدرس السادس.
(7) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 6 / 318، وفتح الباري لابن حجر، 1 / 103.(1/162)
قال صلى الله عليه وسلم: «أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل» (1) .
والمجاهد ما بلغ الدرجات العلى إلا بفضل الله تعالى ثم بما كتِبَ له من دوام العمل؛ قال الإمام القرطبي رحمه الله: ". . . كل ما يصدر من المجاهد في حالتي: نومه ويقظته، وسكونه وحركته، هو عمل صالح يكتب له ثوابه دائما، بدوام أفعاله، إذ لا يتأتَّى لغيره فيه؛ لأنه على كل حال في الجهاد، وملابس أحواله، وذلك: أن المجاهد إمَّا أن ينال من العدوِّ، أو يغيظه، أو يروِّعه، أو يكثر سواد المسلمين، أو يصيبه نصب، أو مخمصة. وكل ذلك أعمال كثيرة لها أجور عظيمة " (2) كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120 - 121] (3) .
وهذا يبين أهمية دوام العمل الصالح، فعلى الداعية أن يداوم على الأعمال الصالحة، وإن قلت؛ فإن في ذلك الخير الكثير. والله المستعان (4) .
_________
(1) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها: البخاري، في كتاب الصوم، باب صوم شعبان، 2 / 298، برقم 1970، ومسلم واللفظ له، في كتاب الصيام، باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان، 2 / 811، برقم 782.
(2) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 3 / 708، وانظر: عارضة الأحوذي للحافظ ابن العربي، 4 / 112، ومرقاة المفاتيح، للملاّ علي القاري، 7 / 352.
(3) سورة التوبة، الآيتان: 120-121.
(4) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الخامس عشر.(1/163)
[باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله]
[حديث أفضل الناس مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله]
2 - بَاب: أَفْضَل النَّاسِ مؤمِن يجَاهِد بنَفْسِهِ ومَالِهِ فِي سبِيلِ اللهِ وَقَوْلِه تَعَالىَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ - تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 10 - 12] (1) .
19 [ص:2786] حَدَّثَنَا أَبو اليَمَانِ: أَخبَرَنَا شعَيْب، عَنِ الزّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاء بن يَزِيدَ اللَّيثِيّ: أَنَّ أَبا سعيدٍ الخدْرِيَّ رضي الله عنه (2) حَدَّثه قَالَ: «قِيلَ يَا رَسولَ اللهِ، أَيّ النَّاسِ أَفْضَل؟ فَقَالَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مؤمِن يجَاهِد فِي سَبِيلِ اللهِ بنَفْسِهِ وَمَالِهِ ". قَالوا: ثمَّ مَنْ؟ قَالَ: " مؤْمِن فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللهَ وَيدَع النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» (3) .
وفي رواية: «جَاءَ أَعْرَابِيّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ يَا رَسولَ اللهِ، أَيّ النَّاسِ خَيْر؟ قَالَ: " رَجل جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَرَجل فِي شِعْبٍ منَ الشِّعَابِ يَعْبد رَبَّه وَيَدَع النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» (4) .
* شرح غريب الحديث: * قوله: " في شعب من الشعاب " الشعب: الطريق في الجبل، ومسيل
_________
(1) سورة الصف، الآيات: 10-12.
(2) أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، هو سعد بن مالك بن سنان، الإمام المجاهد، مفتي المدينة، وكان أحد الفقهاء المجتهدين، استصغر يوم أحد فرد، وغزا بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة، وحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم فأكثر وأطاب، حيث روي له: ألف حديث ومائة وسبعون حديثا، اتفق البخاري ومسلم على ستة وأربعين منها، وانفرد البخاري بستة عشر، ومسلم باثنين وخمسين، وروى عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهم، وأبو سعيد ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا تأخذه في الله لومة لائم، وقال حنظلة بن أبي سفيان عن أشياخه، قالوا: لم يكن من أحداث الصحابة أفقه- وفي رواية أعلم- من أبي سعيد الخدري؛ ومناقبه كثيرة، توفي بالمدينة يوم الجمعة سنة أربع وستين، وقيل: سنة أربع وسبعين، ودفن بالبقيع رضي الله عنه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للإمام النووي 2 / 236- 237، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 3 / 168 - 172، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 35.
(3) [2786] طرفه في كتاب الرقاق، باب العزلة راحة من خلاّط السوء، 7 / 240، برقم 6494. وأخرجه مسلم، في كتاب الإِمارة، باب فضل الجهاد والرباط، 3 / 1503، برقم 1888.
(4) من الطرف رقم 6494.(1/164)
الماء، وما انفرج بين الجبلين (1) .
* قوله: " ويدع ": يترك (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من أساليب الدعوة: الترغيب في الجهاد بالنفس والمال.
2 - أهمية خلوة الداعية عند ظهور الفتن المضلة.
3 - من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين.
4 - أهمية السؤال عما يحتاج إليه المدعو من أمور الدين.
5 - من أساليب الدعوة: التشبيه.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية بالتفصيل على النحو الآتي:
أولا: من أساليب الدعوة: الترغيب في الجهاد بالنفس والمال: في هذا الحديث فضيلة عظيمة للمؤمن المجاهد بنفسه وماله، وأنه أفضل الناس؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ". . . وكأن المراد بالمؤمن من قام بما تعيّن عليه القيام به، ثم حَصَّل هذه الفضيلة، وليس المراد من اقتصر على الجهاد وأهمل الواجبات العينية، وحينئذٍ فيظهر فضل المجاهد؛ لما فيه من بذل نفسه وماله لله تعالى؛ ولما فيه من النفع المتعدي. . . " (3) . وهذا يدل على فضل الجهاد مع الإِيمان، وأن ثواب ذلك الجنة والكرامة.
وقال القاضي عياض رحمه الله على قوله صلى الله عليه وسلم في أفضل الناس: «مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله» هذا عام مخصوص وتقديره: هذا من أفضل الناس، وإلا فالعلماء أفضل، وكذا الصديقون، كما جاءت به الأحاديث " (4) وأفضل
_________
(1) انظر: لسان العرب، لابن منظور، باب الباء، فصل الشين، 1 / 499، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 12 / 95، 23 / 16، وفتح الباري لابن حجر، 11 / 332.
(2) انظر: لسان العرب، لابن منظور، باب العين، فصل الواو، 8 / 383، وعمدة القاري للعيني، 23 / 82.
(3) فتح الباري لابن حجر 6 / 6.
(4) نقلا عن شرح النووي لصحيح مسلم 13 / 37، وانظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري، 12 / 96.(1/165)
من هؤلاء جميعا: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (1) .
فعلى الداعية أن يستخدم أسلوب الترغيب في دعوته؛ فإن ذلك يؤثر في نفس المدعو، ويرغبه في الخير (2) .
ثانيا: أهمية خلوة الداعية عند ظهور الفتن المضلة: دل الحديث على أن أفضل الناس مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، ويليه في الفضيلة مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره؛ لأن الذي يخالط الناس-في الغالب- لا يسلم من ارتكاب الآثام (3) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث فضل الانفراد لما فيه من السلامة من الغيبة واللغو ونحو ذلك. . . " (4) .
وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله، يذكر على قوله صلى الله عليه وسلم: «مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره» قال: " هذا عند أهل العلم محمول على وقت الفتن ووقت الحروب، أما مع الأمن فالمؤمن مع المؤمنين أفضل، مع التعاون على البر والتقوى والحذر من الفتن " (5) .
قال الإمام النووي رحمه الله: " وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن، والحروب، أو هو فيمن لا يسلم الناس منه، ولا يصبر عليهم، أو نحو ذلك من الخصوص، وكانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وجماهير الصحابة والتابعين، والعلماء، والزهاد مختلطين فيحصِّلون منافع الاختلاط: كشهود الجمعة، والجماعة، والجنائز، وعيادة المرضى، وحلق الذكر، وغير ذلك. . . " (6) .
_________
(1) انظر: إكمال إكمال المعلم للأبي، 6 / 619.
(2) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 18، الدرس الخامس.
(3) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 6، 7.
(4) المرجع السابق 6 / 7، وانظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري، 12 / 96.
(5) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 2786، من صحيح البخاري، في الجامع الكبير بالرياض " جامع الإمام تركي بن عبد الله ".
(6) شرح النووي على صحيح مسلم 13 / 38، وانظر: كتاب الأربعين في إرشاد السائرين إلى منازل المتقين لمحمد بن محمد بن علي الطائي، ص 175، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 3 / 722، وإكمال إكمال المعلم للأبي 6 / 620- 621.(1/166)
وقال ابن حجر رحمه الله: ". . . فإن وقعت الفتنة ترجحت العزلة؛ لما ينشأ فيها غالبا من الوقوع في المحذور, وقد تقع العقوبة بأصحاب الفتن فتعم من ليس من أهلها. . . " (1) .
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " أن المخالطة إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان منهي عنها، وذكر أن العبد لا بد له من انفراد بنفسه: في دعائه، وذكره، وصلاة النافلة، ومحاسبة نفسه، وإصلاح قلبه، ومما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره " (2) .
فينبغي للداعية أن يراعي هذه الضوابط، ويعمل بالأصلح المشروع، ويتذكر ما جاء في الحديث: " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " (3) فإذا كان لا بد من العزلة؛ لأجل الفتن المضلة اعتزل الناس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر, يفرّ بدينه من الفتن» (4) وإذا كان الأمر ليس كذلك، فمخالطة الناس ودعوتهم إلى الخير خير وأفضل وأعظم من العزلة (5) والله المستعان.
ثالثا: من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين: إن في هذا الحديث ما يؤكد على مراعاة أحوال السائلين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن: أفضل الأعمال، وأفضل الناس, فكانت إجابته على حسب أحوال السائلين, ففي حديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا قال في أفضل الناس: «مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله "، قالوا: ثم من؟ قال: " مؤمن في شعب من
_________
(1) فتح الباري لابن حجر 13 / 43، وانظر: نفس المرجع 11 / 331- 332.
(2) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 10 / 425 - 426.
(3) ابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، 2 / 1338، برقم 4032، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأحمد 5 / 365، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه 2 / 373.
(4) البخاري، كتاب الرقاق، باب العزلة راحة من خلاَّط السوء، 7 / 241، برقم 6495.
(5) انظر: شرح رياض الصالحين للعلامة ابن عثيمين 6 / 199.(1/167)
الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره» ، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل؟ فقال: " إيمان بالله ورسوله "، قيل: ثم ماذا؟ قال: " الجهاد في سبيل الله "، قيل: ثم ماذا؟ قال: " حج مبرور» (1) .
وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: " الصلاة على وقتها " قال: ثم أيّ؟ قال: " بر الوالدين "، قال: ثم أيّ؟ قال: " الجهاد في سبيل الله» (2) .
وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه، قال: «قالوا: يا رسول الله! أي الإسلام أفضل؟ قال: " من سلم المسلمون من لسانه ويده» (3) .
وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: «أي الإسلام خير؟ قال: " تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» (4) وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه قال «قلت: يا رسول الله! أيّ الأعمال أفضل؟ قال: " الإِيمان بالله والجهاد في سبيله " قال قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: " أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا» . . . " (5) .
وفي حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (6) وغير ذلك من الأحاديث.
وهذا يؤكد على الداعية أن يراعي أحوال المدعوين ويخاطبهم على قدر علمهم وحاجتهم؛ لأن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص، والأحوال،
_________
(1) متفق عليه: البخاري، في كتاب الإِيمان، باب من قال إن الإيمان هو العمل، 1 / 14، برقم 26، ومسلم، في كتاب الإِيمان، باب بيان كون الإِيمان بالله تعالى أفضَل الأعمال، 1 / 88، برقم 83.
(2) متفق عليه: البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، 1 / 52، برقم 527، ومسلم، في كتاب الإيمان، باب كون الإِيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، 1 / 89، برقم 85.
(3) متفق عليه: البخاري، في كتاب الإيمان، باب أي الإسلام أفضل، 1 / 10، برقم 11، ومسلم، في كتاب الإِيمان، باب تفاضل الإِسلام وأي أموره أفضل، 1 / 66، برقم 42.
(4) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب إطعام الطعام من الإسلام، 1 / 11، برقم 12، ومسلم، في كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، 1 / 65، برقم 39.
(5) مسلم، في كتاب الإيمان، باب كون الإِيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، 1 / 89، برقم 85.
(6) البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، 6 / 131، برقم 5027.(1/168)
والأعراف (1) والأوقات (2) وقد ذكر الإمام النووي، والحافظ ابن رجب، والحافظ ابن حجر، وغيرهم من العلماء رحمهم الله تعالى: أن اختلاف الأجوبة في هذه الأحاديث باختلاف الأحوال، واحتياج المخاطبين، وذكر ما لم يعلمه السائل والسامعون، وترك ما علموه (3) .
وقال الحافظ عمر بن علي المعروف بابن الملقن رحمه الله: " والذي قيل في الجمع بينها: إنها أجوبة مخصوصة لسائل مخصوص بالنسبة إلى حاله، أو وقته، أو بالنسبة إلى عموم ذلك الحال والوقت، أو بالنسبة إلى المخاطبين بذلك، أو من هو في مثل حالهم، ولو خوطب بذلك الشجاع لقيل له: الجهاد، أو الغني لقيل له: الصدقة، أو الجبان الفقير لقيل له: البر أو الذكر، أو الفطن لقيل له: العلم، أو الحديد الخلق لقيل له: لا تغضب، وهكذا في جميع أحوال الناس، وقد يكون الأفضل في حق قوم أو شخص مخالفا للأفضل في حق آخرين، بحسب المصلحة اللائقة: بالوقت، أو الحال، أو الشخص " (4) وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يذكر: أن الأجوبة تختلف على حسب السائلين وأحوالهم (5) .
فعلى الداعية أن يسلك هذا المنهج في مراعاة أحوال المدعوين، فيخاطب كل إنسان بما يحتاجه.
رابعا: أهمية السؤال عما يحتاج إليه المدعو من أمور الدين: دل هذا الحديث على أهمية السؤال عما يحتاج إليه الإنسان من أمور الدين؛ لأن حسن السؤال نصف العلم؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: " نعم النساء نساء
_________
(1) انظر: مكمل إكمال الإِكمال مع شرح الأبي على صحيح مسلم للإمام محمد بن محمد السنوسي 1 / 226.
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر، 11 / 331.
(3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 2 / 436- 437، وفتح الباري شرح صحيح البخاري للإمام زين الدين أبي الفرج ابن رجب الحنبلي 4 / 107- 120 و 1 / 105-124، فقد تكلم كلاما نفيسا في الجمع بين هذه الأحاديث، وفتح الباري لابن حجر، 1 / 79، 11 / 331.
(4) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، 2 / 219.
(5) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3128، من سنن النسائي، في جامع الأميرة سارة بالبديعة. وانظر: فيض القدير، شرح الجامع الصغير للمناوي، 5 / 515، فقد بين أن عموم هذا الحديث خص بأحاديث أخرى، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 11 / 331.(1/169)
الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين " (1) وقال مجاهد: " لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر " (2) وقالت أمّ سلَيْمٍ رضي الله عنها: «يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا رأت الماء» (3) .
فعلى المدعو أن يسأل عن العلم، وأن لا يستحي من السؤال عما ينفعه في الدنيا والآخرة (4) .
خامسا: من أساليب الدعوة: التشبيه: من الأساليب التي تقرّب المعاني للمدعو وتوضحها في صورة محسوسة، أسلوب التشبيه، وقد ظهر في مفهوم هذا الحديث التشبيه؛ قال العلامة القسطلاني على قوله صلى الله عليه وسلم: ". . . «في شعب من الشعاب» . . . ": " وليس بقيد بل على سبيل المثال، والغالب على الشعاب الخلو عن الناس؛ لذا مثَّل بهذا للعزلة والانفراد، فكل مكان يبعد عن الناس فهو داخل في هذا المعنى: كالمساجد والبيوت " (5) .
وقال النووي رحمه الله: " وذكر الشعب مثالا؛ لأنه خالٍ عن الناس غالبا " (6) .
فعلى الداعية أن يعتني بالأساليب النافعة في الدعوة إلى الله تعالى، ومنها أسلوب التشبيه (7) .
_________
(1) البخاري، كتاب العلم، باب الحياء في العلم 1 / 47.
(2) البخاري، كتاب العلم، باب الحياء في العلم 1 / 47.
(3) البخاري، كتاب العلم، باب الحياء في العلم 1 / 47 برقم 130.
(4) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الأول.
(5) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 5 / 34.
(6) شرح النووي على صحيح مسلم 13 / 38.
(7) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الرابع.(1/170)
[باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء]
[حديث ناس من أمتي يركبون ثبج البحر ملوكا على الأسرة]
3 - بَاب الدّعَاءِ بِالجِهَادِ والشَّهَادةِ للرِّجَالِ والنِّساءِ وَقَالَ عمَر: اللَّهمَّ ارْزقْنِي شَهادَة فِي بَلدِ رَسولِكَ.
20 -21-[2788، 2789]- حَدَّثَنَا عَبْد اللهِ بْن يوسفَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنهما: (1) أنه سَمعَه يقول: «كَانَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخل عَلَى أمِّ حَرَامٍ بنتِ مِلْحانَ (2) . فَتطْعِمه، وَكَانَتْ أمّ حَرَامٍ تَحْتَ عبَادَةَ بْنِ الصامِتِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فأَطْعَمَتْه وَجَعَلَتْ تَفْلِي رَأْسَه، فَنَامَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ثمَّ اسْتَيْقَظَ وَهوَ يَضْحَك. قَالَتْ: فَقلْت: وَمَا يضْحِككَ يَا رَسولَ اللهِ؟ قَالَ: " نَاس مِن أمَّتِي عرِضوا علي غزاة فِي سَبيل اللهِ، يركَبونَ ثَبَجَ هَذَا البَحْرِ ملوكا عَلَى الأَسِرَّةِ- أَوْ مِثلَ الملوكِ عَلَى الأَسِرَّة " شَكَّ إِسْحَاق - قَالَتْ: فَقلْت: يَا رَسولَ اللهِ، ادْع اللهَ أنْ يَجْعَلَنِي مِنْهمْ، فدَعَاَ لَهَا رَسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ وَضَعَ رَأْسَه، ثم اسْتَيْقَظَ وَهوَ يَضحَك. فقلْت: وَمَا يضْحِككَ يَا رَسولَ اللهِ؟ قَالَ: " نَاس مِنْ أمَّتِي عرِضوا عَليَّ غزاة فِي سَبيل الله " - كما قال في الأَوَّل- قَالَتْ: فَقلْت: يَا رَسولَ اللهِ، ادْع اللهَ أَنْ يَجعَلنِي مِنْهم، قَالَ: " أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِين ". فرَكِبَتِ البَحْرَ فِي زَمِن معَاوِيَةَ بْن أَبِي سفْيَانَ، فصرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِيْنَ خَرَجَتْ مِنَ البَحرِ فَهَلَكَتْ» (3) .
_________
(1) أنس بن مالك رضي الله عنه، تقدمت ترجمته في الحديث رقم 14.
(2) أم حرام بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام، الأنصارية، النجارية، رضي الله عنها، قيل: كانت خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وقيل: من النسب، وهي أخت أم سليم، وخالة أنس بن مالك، تزوجت عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فغزا بها معه في البحر مع معاوية، زمن عثمان رضي الله عنه، فلما رجعوا من غزوتهم قرّبت لها بغلة؛ لتركبها فصرعتها فماتت شهيدة في سبيل الله عز وجل، وكانت هذه الغزوة في قبرس، وهي جزيرة من جزائر الروم، وذلك سنة سبع وعشرين. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 2 / 316، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 4 / 441، وتهذيب التهذيب له، 12 / 489، وخلاصة تذهيب تهذيب الكمال، للحافظ أحمد بن عبد الله الخزرجي، ص 497.
(3) [الحديث 2788] أطرافه: في كتاب الجهاد، باب فضل من يصرع في سبيل الله فمات فهو منهم، 3 / 268، برقم 2799، وفي باب غزوِ المرأة في البحر، 3 / 291، برقم 2877، وباب ركوب البحر، 3 / 296، برقم 2894، وفي كتاب الاستئذان، باب من زار قوما فقال عندهم، 7 / 181، برقم 6282، وكتاب التعبير، باب الرؤيا بالنهار، 8 / 93، برقم 7001. وأخرجه مسلم، في كتاب الإِمارة، باب فضل الغزو في البحر، 3 / 1518، برقم 1912.
و [الحديث 2789] أطرافه: في كتاب الجهاد، باب فضل من يصرع في سبيل الله فمات فهو منهم، 3 / 368، برقم 2800، وباب غزو المرأة في البحر، 3 / 1 29، برقم 2878، وباب ركوب البحر، 3 / 296، برقم 2895، وباب ما قيل في قتال الروم، 3 / 305، برقم 2924، وفي كتاب الاستئذان، باب من زار قوما فقال عندهم، 7 / 181، برقم 6283، وكتاب التعبير، باب الرؤيا بالنهار، 8 / 93، برقم 7002، وأخرجه مسلم، في كتاب الإِمارة، باب فضل الغزو في البحر، 3 / 1518، برقم 1912.(1/171)
وفي رواية: «يَرْكَبونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْر الأَخْضَر كَالْملوكِ عَلَى الأَسرَّةِ» (1) .
وفي رواية: «فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِيا أَوَّلَ مَا رَكِبَ الْمسْلِمونَ الْبَحْرَ مَعَ معَاوِيَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفوا مِنْ غَزْوِهِمْ قَافِلِينَ فنَزَلوا الشَّامَ فَقرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّة لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ» (2) .
وفي رواية: «اللَّهمَّ اجْعَلْهَا مِنْهمْ» (3) .
وفي رواية: «كَانَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَهَبَ إِلَى قبَاءٍ يَدْخل عَلَى أمِّ حَرَامٍ» . . . " (4) .
وفي رواية: «أَوَّل جَيْشٍ مِنْ أمَّتِي يَغْزونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبوا " قَالَتْ أمّ حَرَامٍ فَقلْت: يَا رَسولَ اللهِ، أنا فِيهِمْ؟ قال: " أنْتِ فِيهِمْ " ثمَّ قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: " أَوَّل جَيْشٍ مِنْ أمَّتِي يَغْزونَ مَدِينةَ قَيْصَرَ مَغْفور لَهمْ " فَقلْت: أنا فِيهِمْ يَا رَسولَ اللهِ؟ قَالَ: " لا» (5) .
* شرح غريب الحديثين: * قوله: " تَفْلِي رأْسه ": تفتش القمل من رأسه، وتقتله؛ لأنه قيل إنها كانت خالته من الرضاعة، والخلاصة أنها محرم له (6) .
* قوله: " ثَبَج هذا البحر ": أي وسطه، والثبج ظهر الشيء: أي ظهر البحر ومتنه (7) .
_________
(1) من الطرف رقم 2799.
(2) من الطرف رقم 2800.
(3) من الطرف رقم 2877.
(4) من الطرف رقم 6282.
(5) من الطرف رقم 2924.
(6) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الفاء مع اللام، مادة: " فلى "، 3 / 474، وعارضة الأحوذي لابن العربي، 4 / 129، وشرح النووي على صحيح مسلم، 13 / 61، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 12 / 97، وعمدة القاري للعيني، 14 / 86،.
(7) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 245، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 12 / 97، وانظر: أعلام الحديث للخطابي 2 / 1356، وفتح الباري لابن حجر، 11 / 74،.(1/172)
* قوله: " ملوكا على الأسرَّة ": صفة لهم في الدنيا، والمعنى يركبون مراكب الملوك لسعة حالهم، واستقامة أمرهم، وكثرة عددهم (1) .
* قوله: " صرعت عن دابتها ": أي قربت إليها دابتها لتركبها فشرعت لتركب فسقطت فاندقت عنقها فماتت (2) .
* الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من أدب المدعو: إكرام العلماء والدعاة والسرور بذلك.
2 - من صفات الداعية: حسن الخلق وسعة الصدر.
3 - من صفات الداعية: السرور بانتصار الإِسلام.
4 - من أعلام النبوة: إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالمغيبات.
5 - من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء.
6 - من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله تعالى.
7 - من أساليب الدعوة: الترغيب في الجهاد وبيان فضيلة المجاهد.
8 - استعانة الداعية بالنوم في القائلة على قيام الليل.
9 - من وسائل الدعوة: ركوب البحر عند الحاجة.
10 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في الحديث.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من أدب المدعو: إكرام العلماء والدعاة والسرور بذلك: يظهر في هذا الحديث أن إكرام العلماء واحترامهم من آداب المدعو الصالح؛ ولهذا أكرمت أم حرام رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم: بالطعام، والخدم، وفلت شعر رأسه. وقد كانت من محارمه من جهة الرضاعة (3) .
_________
(1) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 12 / 97.
(2) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 245، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 12 / 103، وفتح الباري لابن حجر، 11 / 76.
(3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 13 / 61، وقال: " اتفق العلماء على أنها كانت محرما له "، وانظر: شرح صحيح البخاري للكرماني، 12 / 97.(1/173)
ولا شك أن إكرام أم حرام للنبي صلى الله عليه وسلم قد سرَّ زوجها؛ قال الإمام الأبي رحمه الله: " ومعلوم سرور زوج أم حرام بذلك، وكانوا يحبون أن يدخل بيوتهم ويأكل طعامهم " (1) وهذا مما يدل على الأدب مع العالم والداعية؛ ولهذا جاء في الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط» (2) .
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من أمتي من لم يجِلّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا» (3) .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا» ، وفي رواية: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا» (4) .
فينبغي للمدعو أن يجِلّ ويكرم العلماء، والدعاة، وينزلهم منازلهم.
ثانيا: من صفات الداعية: حسن الخلق وسعة الصدر: ظهر في هذا الحديث حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم مع أمِّ حرام، وسعة صدره، وتواضعه صلى الله عليه وسلم، دل على ذلك تبسمه وضحكه، وملاطفته لها، فينبغي للداعية أن يكون حسن الخلق، واسع الصدر متواضعا، اقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم، حتى يكون بذلك من خيار الناس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن من خياركم أحاسنكم أخْلَاقا» (5) وهذا يبيِّن للداعية أهمية التزام الخلق الحسن، والعمل به ظاهرا وباطنا (6) .
_________
(1) إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم للأبي 6 / 665.
(2) أبو داود، باب في تنزيل الناس منازلهم 4 / 261، برقم 4842، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1 / 44.
(3) مسند الإمام أحمد 5 / 323، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1 / 44.
(4) مسند أحمد 2 / 185، 207، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1 / 45. وانظر: المسند من رواية ابن عباس رضي الله عنهما 1 / 257.
(5) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: البخاري، كتاب الأدب، باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا 7 / 106 برقم 6029، ومسلم، في كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم 4 / 1810 برقم 2321.
(6) انظر: الحديث رقم 14، الدرس الأول.(1/174)
ثالثا: من صفات الداعية: السرور بانتصار الإسلام: دل هذا الحديث على أن الداعية الصادق هو الذي يفرح بظهور الإسلام وانتصار أهله؛ ولهذا بين الإمام النووي، والكرماني، وابن حجر رحمهم الله أن ضحكه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كان فرحا وسرورا؛ بكون أمته تبقى بعده متظاهرة بأمور الإسلام قائمة بالجهاد حتى في البحر، ممتثلة لأمره صلى الله عليه وسلم بجهاد العدو (1) .
والفرح والسرور بفضل الله تعالى وبتوفيقه مرغوب فيه ومحبوب إلى الله تعالى؛ ولهذا قال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] (2) .
رابعا: من أعلام النبوة: إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالمغيبات: إن من الدلائل الواضحات والبينات القاطعات، والحجج الدامغات التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما أخبر به من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وأوحى بها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة جدا (3) ومنها ما لم يقع فأخبر صلى الله عليه وسلم بها ووقعت كما أخبر، فدل ذلك على أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ما جاء به من عند الله حق. قال الله سبحانه وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا - إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26 - 27] (4) {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179] (5) .
وقد دل هذا الحديث على بعض هذه الأمور التي تدل على صدقه صلى الله عليه وسلم، وصحة نبوته، قال الإمام النووي وغيره من أهل العلم رحمهم الله: " وفيه معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم، منها: إخباره ببقاء أمته بعده، وأنه تكون لهم شوكة وقوة وعدد، وأنهم يغزون، وأنهم يركبون البحر، وأن أمَّ حرام تعيش إلى ذلك
_________
(1) انظر: عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي، لابن العربي، 4 / 130، وشرح النووي على صحيح مسلم، 13 / 62، وإكمال إكمال المعلم للأبي، 6 / 665، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 12 / 98، وفتح الباري لابن حجر، 11 / 77.
(2) سورة يونس، الآية: 58.
(3) انظر: جامع الأصول لابن الأثير 11 / 311- 331.
(4) سورة الجن، الآيتان: 26-27.
(5) سورة آل عمران، الآية: 179.(1/175)
الزمان، وأنها تكون معهم، وقد وجِدَ بحمد الله تعالى كل ذلك (1) .
خامسا: من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء: إن من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله تعالى تأليف المدعو بالدعاء له، وهذا أسلوب نافع في الدعوة؛ ولهذا استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته كثيرا، وقد دل هذا الحديث على هذا الأسلوب في قوله صلى الله عليه وسلم لأمِّ حرام رضي الله عنها: «اللهم اجعلها منهم» وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم اهدِ دوسا وائت بهم، اللهم اهدِ دوسا وائت بهم» (2) وقد نص البخاري رحمه الله على أن الدعاء من التأليف للمدعو فقال: " باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم "، وقال ابن حجر رحمه الله عن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين: ". . . كان تارة يدعو عليهم وتارة يدعو لهم، فالحالة الأولى حيث تشتد شوكتهم ويكثر أذاهم، والحالة الثانية حيث تؤمن غائلتهم ويرجى تألفهم. . . " (3) .
أما المدعو من المسلمين فيتألف بالدعاء مطلقا؛ فإن ذلك من الأساليب النافعة (4) فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب في دعوته للناس، والله المستعان.
سادسا: من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله تعالى: من صفات الداعية الصادق مع الله تعالى الرغبة فيما عند الله تعالى؛ ولهذه الرغبة سألت أم حرام النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها أن تكون مع المجاهدين رغبة في فضل الجهاد وطلبا للشهادة في سبيل الله تعالى، فقال صلى الله عليه وسلم إجابة لطلبها: «اللهم اجعلها منهم» ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح ترجمة الحديث: ". . . وجاز تمني الشهادة؛ لما يدل عليه من صدق من وقعت له من إعلاء كلمة الله حتى بذل نفسه في تحصيل ذلك " (5) ولهذه الرغبة قال عمر رضي الله عنه:
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم، 13 / 63، وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 3 / 754، وإكمال إكمال المعلم، للأبي، 6 / 667.
(2) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب الجهاد، باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم 3 / 308، برقم 2937، ومسلم، في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع وتميم ودوس وطيء، 4 / 1957، برقم 2524.
(3) فتح الباري لابن حجر 6 / 106.
(4) انظر: مسند أحمد 5 / 256، والبخاري مع الفتح 6 / 514، 12 / 282، ومسلم برقم 2818.
(5) فتح الباري لابن حجر 6 / 10.(1/176)
" اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم " (1) وقد أجاب الله دعاء من رغب فيما عنده سبحانه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه» (2) .
فعلى الداعية أن يتصف بالرغبة فيما عند الله تعالى، وهذا من أعظم أسباب توفيقه وإعانته وقبول دعوته. والله المستعان وعليه التكلان (3) .
سابعا: من أساليب الدعوة: الترغيب في الجهاد وبيان فضيلة المجاهد: من أساليب الدعوة: الترغيب في أعمال الطاعات ومن أعظمها الجهاد في سبيل الله تعالى؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: ". . . وفيه من الفوائد: الترغيب في الجهاد والحض عليه، وبيان فضيلة المجاهد " (4) .
" ومن فضل الله تعالى على المجاهد أن موته في الغزو يعَدّ شهادة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ". . . «من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد» (5) وهذا موافق لمعنى قوله تعالى:. . {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] (6) وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ - لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج: 58 - 59] (7) وقد دل الحديث بمفهومه والآية بمنطوقها على ما يحصل عليه المجاهد الغازي في سبيل الله تعالى من الثواب العظيم، وأعظم منه من قتل في سبيل الله؛ فإن له ضيافة عند الله تعالى. ففي الحديث: «للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر،
_________
(1) البخاري، كتاب فضائل المدينة، باب 12 حدثنا مسدد عن يحيى 1 / 274 برقم 1890.
(2) مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى، 3 / 1317، برقم 1909.
(3) انظر: الحديث رقم 13، الدرس الثاني، ورقم 16، الدرس الثالث.
(4) فتح الباري 11 / 77.
(5) أخرجه مسلم، في كتاب الإمارة، باب بيان الشهداء، 3 / 1521 برقم 1915.
(6) سورة النساء، الآية: 100.
(7) سورة الحج، الآيتان: 58 - 59.(1/177)
ويأمن الفزع الأكبر، ويحلَّى حلية الإِيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه» (1) .
فعلى الداعية أن يستخدم هذا الأسلوب في دعوته إلى الله تعالى (2) .
ثامنا: استعانة الداعية بالنوم في القائلة على قيام الليل: دل الحديث على أن الداعية ينبغي له أن يستعين بنوم القائلة على قيام الليل، قال الحافظ ابن حجر في فوائد هذا الحديث: " وفيه مشروعية القائلة لما فيه من الإعانة على قيام الليل " (3) .
وقال الحافظ ابن العربي: " ونوم القائلة أصل في معونة الدين لمن يقوم الليل ويحيي بيته بالطاعة " (4) .
فعلى الداعية أن يستعين بنوم القائلة رغبة في أن يتقوى على قيام الليل، وعلى أمور الدعوة في الأوقات الأخرى.
تاسعا: من وسائل الدعوة: ركوب البحر عند الحاجة: لا ريب أنه ينبغي للداعية أن يستخدم كل وسيلة نافعة مشروعة- أو لا محذور فيها ولا مخالفة- في دعوته إلى الله تعالى، ومن هذه الوسائل ركوب البحر عند الحاجة؛ لأجل الدعوة إلى الله تعالى؛ ولهذا ذكر جمهور العلماء رحمهم الله في فوائد هذا الحديث: " جواز ركوب البحر " (5) وهذا له أصل في كتاب الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] الآية, (6) وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 97] (7) .
_________
(1) ابن ماجه، كتاب الجهاد، باب فضل الشهادة في سبيل الله 2 / 935 برقم 2799، عن المقدام بن مَعدِ يكرب رضي الله عنه، وأحمد 4 / 131، 200، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه 2 / 129.
(2) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 19، الدرس الأول.
(3) فتح الباري، 11 / 77، وانظر: عمدة القاري للعيني، 14 / 87.
(4) عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 4 / 129.
(5) انظر: المرجع السابق، 4 / 130، وشرح النووي على صحيح مسلم، 13 / 63، وإكمال إكمال المعلم، للأبي، 6 / 667، وفتح الباري لابن حجر، 11 / 77.
(6) سورة يونس، الآية: 22.
(7) سورة الأنعام، الآية: 97.(1/178)
فعلى الداعية أن يعلم أنه لا حرج في ركوب البحر للدعوة إلى الله تعالى، وهذا من الوسائل النافعة عند الحاجة لذلك. والله المستعان.
عاشرا: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في الحديث: لا شك أن من الصفات المهمة التي ينبغي أن يلتزمها الداعية، الحرص على صحة ما يقول وينقل للناس، حتى لا يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم؛ وللحرص على هذه الصفة قال إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة في روايته لهذا الحديث: «يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرَّة- أو مثل الملوك على الأسرَّة» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: " وهذا الشك من إسحاق، يشعر بأنه كان يحافظ على تأدية الحديث بلفظه ولا يتوسع في تأديته بالمعنى " (1) وهذا يدل على حرص السلف على تَحَرِّيهِم في النقل، وصدقهم؛ لأنه لما أشكل على إسحاق لفظ الحديث أبدى الإشكال ولم يأخذ بقوة الظن فيخبر به (2) .
وهكذا ينبغي للدعاة إلى الله تعالى الحرص على ضبط الرواية والدقة في نقل الأخبار، والأقوال، وخاصة إذا كان النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يتيقن ذلك قال في نهاية الحديث: أو كما قال صلى الله عليه وسلم، أو الحديث بمعناه، وكذلك الأحاديث التي يشك في صحتها يقول: ذكِرَ، أَوْ روِيَ، أو جاء، حتى لا يقع في قوله صلى الله عليه وسلم: (3) «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع» (4) .
[باب درجات المجاهدين في سبيل الله]
[حديث من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله] أن يدخله الجنة
_________
(1) فتح الباري لابن حجر، 11 / 64، وانظر: كتاب الكفاية في علم الرواية، للخطيب البغدادي، ص 265- 316.
(2) انظر: بهجة النفوس لابن أبي جمرة، 1 / 128.
(3) انظر: الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير، بقلم العلامة أحمد محمد شاكر، 2 / 377 -442.
(4) صحيح مسلم، في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع 1 / 10 برقم 5، وانظر: الحديث رقم 3، الدرس الرابع.(1/179)
4 - باب درجات المجاهدين في سبِيلِ اللهِ يقَال: هَذِهِ سَبِيلِي، وهَذَا سَبِيلِي، قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ: {غُزًّى} [آل عمران: 156] (1) وَاحِدهَا غازٍ: {هُمْ دَرَجَاتٌ} [آل عمران: 163] (2) لَهمْ دَرَجَات.
22 [ص:2790] حدَّثَنَا يَحْيى بْن صَالِحٍ: حَدَّثَنا فلَيْح، عن هِلالِ بْنِ عليّ، عنْ عَطَاءِ بْنِ يَسارٍ، عَنْ أَبِي هرَيْرَةَ (3) رضي الله عنه قَالَ: قَال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ آمَنَ باللهِ وَبِرَسولهِ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقّا عَلَى اللهِ أَنْ يدْخِلَه الجَنَّةَ، جَاهَدَ فِي سَبيلِ اللهِ أوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي ولِدَ فِيهَا ". فَقَالوا: يَا رَسولَ اللهِ، أفَلا نبَشِّر النَّاسَ؟ قَالَ: " إِنَّ فِي الجَنَّةِ مائةَ دَرَجةٍ أَعدَّهَا الله لِلمجَاهِدينَ فِي سَبِيلِ اللهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَينِ كَمَا بينَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتم اللهَ فاسْأَلوه الفِرْدَوْسَ؛ فَإِنَّه أَوْسَط الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ " أراه قَالَ: " وَفَوْقَه عَرْش الرَّحْمنِ ومنْه تَفَجَّر أَنْهَار الجَنَّةِ» . قَالَ محَمَّد بْن فلَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ: «وَفَوقَه عَرْش الرَّحْمَنِ» (4) .
وِفي رواية: ". . . «هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ» . . " وفيها: «أَفَلاَ ننَبِّئ النَّاسَ بِذَلِكَ» (5) .
* شرح غريب الحديث: * " الفردوس ": وهو البستان الذي يجمع كل شيء من ثمار البساتين، وقيل: هو الذي فيه العنب والأشجار، والجمع فراديس؛ ومنه: جنة الفردوس (6) .
_________
(1) سورة آل عمران، الآية: 156.
(2) سورة آل عمران، الآية: 163.
(3) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 7 [2753] .
(4) [الحديث 2790] ، طرفه في كتاب التوحيد، باب وَكَانَ عَرْشه عَلَى الْمَاءِ، وَهوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ 8 / 221، برقم 7423.
(5) من الطرف رقم 7423.
(6) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الفاء مع الراء، مادة " فردوس " 3 / 427، وفتح الباري، لابن حجر، 6 / 13.(1/180)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحث على أصول الإِيمان.
2 - من موضوعات الدعوة: الحث على العمل بأصول الإسلام.
3 - من أساليب الدعوة: تطييب قلوب المدعوين.
4 - من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد في سبيل الله عز وجل.
5 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
6 - من صفات الداعية: استصحاب النية الصالحة.
7 - من موضوعات الدعوة: الحث على الدعاء.
8 - من صفات الداعية: جهاد النفس.
9 - من أساليب الدعوة: الأسلوب الحكيم.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على أصول الإيمان: إن الحديث عن أصول الإيمان والحث عليها والتزامها من أهم الأمور التي ينبغي للداعية أن يعتني بها عناية خاصة؛ لأن بالتزامها والعمل بمقتضاها تصلح أحوال الناس، وترسخ العقيدة الصحيحة في نفوسهم.
ويؤخذ من مفهوم هذا الحديث الحث على هذه الأصول، وذلك بحث النبي صلى الله عليه وسلم على الإِيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «من آمن بالله وبرسوله» . . " ثم بين فضل ذلك ورغب فيه.
فينبغي للداعية أن يبين للناس أصول الإيمان، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره من الله سبحانه وتعالى. قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136] (1)
_________
(1) سورة النساء، الآية: 136.(1/181)
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] (1) .
ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحث على العمل بأصول الإسلام: لا ريب أن تعليم الناس أصول الإسلام من أهم المهمات التي ينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يعتني بها، ويبيِّنها للناس حتى يعملوا بها، وقد تضمن هذا الحديث الحث على ذلك، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «من آمن بالله وبرسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان» . . . " ثم بين فضل من عمل ذلك ورغب فيه وحث عليه، وهذا يبيِّن للداعية أهمية الدعوة إلى أركان الإسلام وبيانها للناس من: شهادة الحق " لا إِله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومعناها ومقتضاها، وشروطها، وأركانها، ونواقضها، ومن إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إِله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت» (2) .
ثالثا: من أساليب الدعوة: تطييب قلوب المدعوين: إن من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل تطييب قلوب المدعوِّين المستجيبين وتأنيس نفوسهم إذا لم يستطيعوا القيام بالدعوة والجهاد؛ ولهذا قال ابن حجر رحمه الله في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «أو جلس في أرضه» : " فيه تأنيس لمن حرِمَ الجهاد، وأنه ليس محروما من الأجر، بل له من الإيمان والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنة، وإن قصر عن درجات المجاهدين " (3) وهذا يحث الداعية على أن يتصف بهذه الصفة، ويطيِّب نفوس المدعوِّين بما يشرح صدورهم،
_________
(1) سورة القمر، الآية: 49.
(2) متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: البخاري، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " بني الإسلام على خمس " 1 / 9، برقم 8 ومسلم، في كتاب الإِيمان، باب أركان الإِسلام ودعائمه العظام، 1 / 45، برقم 16.
(3) فتح الباري 6 / 12.(1/182)
ويغني قلوبهم عما فاتهم بما شرع الله لهم من أعمال الخير: من القيام بالواجبات، واجتناب المحرمات، والنيَّة الصادقة الصالحة (1) قال صلى الله عليه وسلم: «من سأل الله الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه» (2) .
رابعا: من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد في سبيل الله عز وجل: لا شك أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، وقبّته، ومنازل أهله أعلى المنازل في جنات النعيم، وقد ظهر من مفهوم هذا الحديث حث النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد، وذلك ببيان فضله ومنازل أهله، فينبغي للداعية أن يبين للناس منزلة الجهاد ويحثهم عليه، وعلى الإعداد له، والاستعداد (3) .
خامسا: من أساليب الدعوة: الترغيب: إن أسلوب الترغيب له شأن عظيم في الحث على العمل والتشويق إليه؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفي الحديث فضيلة ظاهرة للمجاهدين، وفيه عظم الجنة وعظم الفردوس منها. . " (4) .
ومما يظهر فيه الترغيب من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن ما لِمَنْ قام بهذه الأعمال: من الإيمان، والصلاة، والصيام بقوله: «كان حقا على الله أن يدخله الجنة» وهذا الحق بطريق الفضل والكرم منه تعالى وأن ذلك ثابت بوعده الصادق، ثم رغب صلى الله عليه وسلم في الجهاد في سبيل الله عز وجل وبين ما أعده الله للمجاهدين من الدرجات العلا، وأن أعلى الجنة وأوسطها (5) وأفضلها الفردوس الذي منه تفجّر أصول أنهار الجنة، من: الماء، واللبن، والخمر، والعسل، وأن سقف الفردوس عرش الرحمن سبحانه وتعالى (6) .
_________
(1) انظر: عمدة القاري، للعيني 14 / 90.
(2) مسلم 3 / 1517، برقم 1909، وتقدم تخريجه، في الحديث رقم 21، الدرس السادس، ص 177.
(3) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الثاني.
(4) فتح الباري 6 / 12، وانظر: عمدة القاري للعيني 14 / 90.
(5) الأوسط: هو الأعلى والأفضل والأوسع والأرفع والأعدل، وفي ذلك دلالة على أن السماء كرويَّة؛ لأن الوسط لا يكون أعلى إلا إذا كان كذلك. والله أعلم. انظر: عمدة القاري للعيني، 14 / 90، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للملا علي القاري 7 / 350.
(6) انظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 132، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 13، والمنهل العذب الفرات من الأحاديث الأمهات للدكتور / عبد العال محمد عبد العال 3 / 192.(1/183)
فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب مع المدعوين، لما له من الأهمية البالغة في الحث على العمل والمواظبة عليه.
سادسا: من صفات الداعية: استصحاب النية الصالحة: النية الصادقة الصالحة من أعظم صفات الداعية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه» ، فدل ذلك على أن المهاجر في سبيل الله يحصل على فضل المجاهد في سبيل الله عز وجل بالنية الصالحة الصادقة، وأن من جلس في أرضه ولم يهاجر ولم يجاهد، ولكن عنده أعمال صالحة، ونية صادقة يتمنَّى الجهاد بها، فله فضل الجهاد.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه إشارة إلى أن درجة المجاهدين قد ينالها غير المجاهد، إما بالنية الصالحة، أو بما يوازيه من الأعمال الصالحة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر الجميع بالدعاء بالفردوس بعد أن أعلمهم أنه أعِدَّ للمجاهدين " (1) .
فينبغي للداعية أن يتصف بالنية الصالحة الصادقة؛ فإنه يحصل بها على الثواب العظيم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه» (2) وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ تكون له صلاة بليل فيغلبه عليها نوم، إلا كتِبَ له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة» (3) وقد عظَّم الله أمر النية الصالحة فقال عز وجل: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] (4) وهذا يدل على أهمية النية الصالحة وأن الدعاة إلى الله بحاجة إلى إصلاح النية، فإذا صلحت أعطيَ العبد الثواب
_________
(1) فتح الباري 6 / 13.
(2) تقدم تخريجه في الدرس الثالث من هذا الحديث، ص 183.
(3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب من نوى القيام فنام 2 / 34 برقم 1314، والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب من كان له صلاة بليل فغلبه عليها النوم، 3 / 275، برقم 1784، وصححه الألباني في إرواء الغليل 2 / 204، وصحيح النسائي 1 / 386.
(4) سورة النساء، الآية: 114.(1/184)
العظيم والأجر الكبير، ولو لم يعمل وإنما نوى نية صادقة مع الله سبحانه وتعالى. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل» (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج عامدا إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا، أعطاه الله عز وجل مثل أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجرهم شيئا» (2) والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (3) وهذا من فضل الله على عباده أن يكتب لهم ما نووا من الخير وإن لم يعملوه، وأنهم يثابون على نياتهم الصادقة إذا حال بينهم وبين العمل نوم، أو نسيان، أو مرض (4) .
فينبغي للداعية أن يتصف بالإخلاص والنية الصالحة، وبهذا يحصل على الثواب المضاعف والأجر الكبير، وبالنية الصالحة يبارك له في الأعمال المباحة، ويثاب عليها؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة» (5) وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فِي امرأتك» (6) .
سابعا: من موضوعات الدعوة: الحث على الدعاء: إن هذا الحديث دل على أن الحث على الدعاء والحض عليه من موضوعات
_________
(1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل ومن نام عن حزبه أو مرض، 1 / 515 برقم 747.
(2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب فيمن خرج يريد الصلاة فسبق بها 1 / 154 برقم 564، والنسائي، كتاب الإمامة، باب حد إدراك الجماعة، 2 / 111، برقم 855، وقال ابن حجر في فتح الباري: إسناده قوي 6 / 137.
(3) متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، 1 / 9 برقم 1، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنية " وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال 3 / 1515، برقم 1907.
(4) انظر: المنهل العذب المورود، شرح سنن أبي داود، لمحمود بن محمد خطاب السبكي، 7 / 239.
(5) متفق عليه من حديث أبي مسعود رضي الله عنه: البخاري: كتاب الإِيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى 1 / 24 برقم 55 ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين، والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين 2 / 625، برقم 1002.
(6) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية، 1 / 24 برقم 56، ومسلم كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، 3 / 1250 برقم 1628.(1/185)
الدعوة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ". . «فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة» . . "، وهذا يدل على أهمية الدعاء، وأنه يحصل به أعظم المطالب، ولهذا قال الله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] (1) وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] (2) وقال صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا» (3) .
فينبغي للداعية أن يحث الناس على الدعاء، ويبين لهم شروطه، وموانعه، وآدابه، وفضله، وأوقات إجابته، ويرغبهم في ذلك، ويبين لهم أن أعظم ما يسأله العبد ربَّه: الفردوس الأعلى؛ لأن ذلك أعظم المطالب (4) .
ثامنا: من صفات الداعية: جهاد النفس: دل هذا الحديث على أن جهاد النفس من الصفات الحميدة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها؛ قال الكرماني رحمه الله: " وفيه الحث على ما يحصل به أقصى درجات الجنان من المجاهدة مع النفس " (5) قال الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (6) وقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] (7) .
فينبغي للداعية أن يجاهد نفسه على طلب العلم، والعمل بما علم، والدعوة
_________
(1) سورة غافر، الآية: 60.
(2) سورة البقرة، الآية: 186.
(3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء، 2 / 78، برقم 1488، والترمذي، كتاب الدعاء، باب حدثنا محمد بن بشار، 5 / 556، برقم 3556، وحسنه، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب رفع اليدين في الدعاء، 2 / 1271، برقم 3865، وصححه الألباني في صحيح الترمذي 3 / 179.
(4) انظر: فتح الباري لابن حجر 6 / 13. وانظر أيضا: الترغيب في الدعاء، لأبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي، ص 31- 69، والدعاء بالمأثور وآدابه، لأبي بكر الطرطوشي، ص 31-306.
(5) شرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 99.
(6) سورة الحج، الآية: 78.
(7) سورة العنكبوت، الآية: 69.(1/186)
إلى العلم والعمل، وتعليم من لا يعلم، ويجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمَّل ذلك كله للِّه، فإذا عَلِمَ الداعية، وعَمِلَ، وعَلّمَ دعيَ عظيما في ملكوت السماوات والأرض (1) .
تاسعا: من أساليب الدعوة: الأسلوب الحكيم: من أساليب الدعوة التي ينبغي للداعية أن يسلكها في دعوته: الأسلوب الحكيم؛ ولهذا استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وفي غيره؛ وقد ذكر الطيبي والحافظ ابن حجر رحمهما الله: على قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن في الجنة مائة درجة» أن هذا الجواب من الأسلوب الحكيم: أي بشرهم بدخول الجنة بما ذكر من الأعمال " (2) .
فينبغي للداعية أن يستخدم الأساليب الحكيمة في دعوته إلى الله تعالى. والله المستعان.
_________
(1) انظر: زاد المعاد لابن القيم، 3 / 10.
(2) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح 8 / 2623، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 12 / 99، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 12.(1/187)
[باب الغدوة والروحة في سبيل الله وقاب قوس أحدكم في الجنة]
[حديث لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها]
5 - بَاب الغَدوةِ والرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وقَاب قوْسِ أَحَدِكمْ في الجَنَّةِ 23 [ص:2792] حَدَّثَنَا معلَّى بن أَسَدٍ: حَدَّثَنا وهَيْب: حدَّثَنا حمَيد عَن أنسِ بنِ مالكٍ (1) رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لغَدْوَة فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَة خَير مِنَ الدّنْيا وَمَا فِيهَا» (2) .
وفِي رواية: «وَلَقَاب قَوْسِ أَحَدِكمْ مِنَ الجَنَّةِ أَو مَوْضِع قِيدٍ - يَعْنِي: سَوْطَه- خيْر مِنَ الدّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَة مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعتْ إِلى أَهْلِ الأَرْضِ لأضَاءَتْ مَا بينَهمَا وَلَمَلأَتْه رِيحا، وَلَنَصِيفهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْر مِنَ الدّنْيَا وَمَا فيْهَا» (3) .
وفي رواية: «وَلَقَاب قَوْسِ أَحَدِكمْ أَوْ مَوْضِع قَدَمٍ مِنَ الجَنَّةِ خَير مِنَ الدّنْيَا وَمَا فيهَا» وفيها: «وَلَنَصِيفها- يَعْنِي الْخِمَارَ-» (4) .
[حديث لقاب قوس في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب]
24 [ص:2793] حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن المنْذِرِ: حَدَّثَنا محَمَّد بْن فلَيْحٍ قَالَ: حدَّثنِي أَبِي عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَليٍّ، عَنْ عَبدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هرَيْرَةَ رضي الله عنه، (5) عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَقَاب قَوْسٍ فِي الجَنَّةِ خَيْر مِمَّا تَطْلع عَلَيْهِ الشَمْس وَتَغْرب» ، وَقَالَ: «لَغَدْوَة أَوْ رَوْحَة فِي سَبِيل اللهِ خَيْر مِمَّا تَطْلع عَلَيْهِ الشَّمْس وَتَغْرب» (6) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 14 [2768] .
(2) [الحديث 2792] طرفاه في كتاب الجهاد والسير، باب الحور العين وصفتهن، 3 / 267، برقم 2796 وكتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، 7 / 260، برقم 6568. وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، 3 / 1499، برقم 1880.
(3) من الطرف رقم 2796.
(4) من الطرف رقم، 6568.
(5) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 7 [2753] .
(6) [الحديث 2793] طرفه في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، 4 / 104، برقم 3253. وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، 3 / 1500 برقم 1882. وكتاب الجنة وصفة نعيمها وَأهلها، باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، 4 / 2175، برقم 2826.(1/188)
وفي رواية: «وَلقاب قوْسِ أحدِكمْ فِي الجَنّةِ خَيْر مِمَّا طَلعَتْ عَليْهِ الشّمْس أوْ تغرب» (1) .
[حديث الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها]
25 [ص:2794] حَدَّثَنَا قَبيْصَة: حَدَّثَنَا سفيان، عَنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بن سعد (2) - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «الرَّوْحَة وَالغَدْوَة فِي سَبيل اللهِ أَفْضَل مِنَ الدنيا وَمَا فِيْهَا» (3) .
وفي رواية: «رباط يوم في سبيل الله خَيْر مِنَ الدّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِع سَوطِ أحدكم من الجنة خَيْر مِنَ الدّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، والرَّوْحَة يَروحهَا الْعَبْد فِي سَبيل الله أو الغدوة خَيْر مِنَ الدّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» (4) .
* شرح غريب الأحاديث: * " لغدوة ": المرة من الغدو: وهو سير أول النهار، نقيض الرواح، يقال: غدا يغدو غدوا، والغدوة بالضم ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس (5) .
* " روحة ": الروحة: الفعلة الواحدة: والرواح: رواح العشيّ: وهو من زوال الشمس إلى الليل (6) .
_________
(1) الطرف رقم 3253.
(2) سهل بن سعد بن مالك، الساعدي أبو العباس، الصحابي الجليل رضي الله عنه، كان اسمه حزنا فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - سهلا، كان له يوم وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة سنة، روى له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة وثمانية وثمانون حديثا، اتفق البخاري ومسلم على ثمانية وعشرين، وانفرد البخاري بأحد عشر، بلغ عن النبي -صلى الله عليه وسلم - علما كثيرا، توفي سنة ثمان وثمانين، وقيل: سنة إحدى وتسعين بالمدينة، وقد قيل: بأنه آخر من مات من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 238، وسير أعلام النبلاء للذهبي 3 / 422، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 2 / 88.
(3) [الحديث 2794] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب فضل رباط يوم في سبيل الله، وقول الله تعالى يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنوا اصْبِروا وَصَابِروا وَرَابِطوا وَاتَّقوا اللَّهَ لَعَلَّكمْ تفْلِحونَ، 3 / 295، برقم 2892. وكتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة 4 / 104، برقم 3250. وكتاب الرقاق، باب مثل الدنيا والآخرة 7 / 219، برقم 6451. وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل الغدوة والروحة في سبيل الله 3 / 1500، برقم 1881.
(4) الطرف رقم 2892.
(5) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الغين مع الدال، مادة " غدا " 3 / 346، وانظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي، ص 346.
(6) تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي، ص 346 وانظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الواو، مادة " روح " 2 / 273.(1/189)
* " لقَاب قَوْسِ ": القاب القَدْر: أي موضِع قدْره، وقيل: القاب من القوس ما بين المقبض والسِّيَةِ، ولكل قوس قابان، وسية القوس: طرفها، وقيل: قاب قوس: أي قدر ذراع، ويقال: بيني وبينه قاب رمحٍ، وقَاد رمْحٍ، وقيد رمْحٍ: أي قَدر رمْحٍ في المساحة (1) .
* " رباط يوم في سبيل الله " الرباط في الأصل: الإِقامة على جهاد العدو بالحرب وارتباط الخيل وإعدادها، والرباط: ملازمة ثغر العدوِّ، يقال: رابطت إذا لازمت الثَّغرَ والعدوَّ، ويقال: لما يربط به الشيء ويلازم حِفظه: رِبَاط. وقيل: المرابطة أن يربط هؤلاء خيلهم، وهؤلاء خيلهم في الثغر كلّ معِدّ لصاحبه، فَسمِّيَ المقام في الثغور، رباطا لذلك (2) .
* الدراسة الدعوية للأحاديث: في هذه الأحاديث الثلاثة دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
2 - من أساليب الدعوة: التشبيه.
3 - من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من أساليب الدعوة: الترغيب: الترغيب أسلوب عظيم من أساليب الدعوة إلى الله تعالى، وفي هذه الأحاديث ترغيب عظيم في الجهاد في سبيل الله تعالى، وأن المشاركة في الجهاد بغدوة أو روحة، أو رباط يوم في سبيل الله - عز وجل - يحصل بها الفوز العظيم والثواب الكبير وذلك خير من الدنيا وما فيها وما عليها؛ ولهذا بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن
_________
(1) تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي ص 346، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع الواو، مادة " قوب " 4 / 118.
(2) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي ص 370، 391، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الباء، مادة " ربط " 2 / 185.(1/190)
موضع قدم، أو موضع سوطٍ، أو خمار امرأة من أهل الجنة على رأسها، خير من الدنيا وما فيها، وهذا وصف لا يدور بالخيال؛ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يقول الله تعالى: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» (1) ؛ ولأهمية الترغيب قال الله عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] (2) . وهذا يوضح للداعية عظم أمر الترغيب وعلوَّ شأنه، وأن له التأثير العظيم في النفوس، فينبغي أن يستخدم هذا الأسلوب في دعوة الناس وتوجيههم إلى الخير (3) .
ثانيا: من أساليب الدعوة: التشبيه. دلت هذه الأحاديث على أن أسلوب التشبيه من أساليب الدعوة إلى الله تعالى؛ قال الإمام ابن دقيق العيد - رحمه الله: (وفي قوله - صلى الله عليه وسلم: «خير من الدنيا وما فيها» وجهان:
أحدهما: أن يكون من باب تنزيل المغيب منزلة المحسوس، تحقيقا له وتثبيتا في النفوس؛ فإن ملك الدنيا، ونعيمها، ولذاتها محسوسة مستعظمة في طباع النفوس، فحقَق عندها أن ثواب اليوم الواحد في الرباط - وهو من المغيبات - خير من المحسوسات التي عهدتموها من لذات الدنيا.
الثاني: أنه قد استبعد بعضهم أن يوازن شيء من نعيم الآخرة بالدنيا كلها، فحمل الحديث، أو ما هو معناه: على أن هذا الذي رتِّب عليه الثواب خير من الدنيا كلها، لو أنفقت في طاعة الله - تعالى - ثم قال رحمه الله: " والأول عندي أوجه وأظهر) (4) .
_________
(1) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، 4 / 103، برقم 3244 وصحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 4 / 2174، برقم 2824.
(2) سورة السجدة، الآية: (17) .
(3) انظر: فتح الباري لابن حجر 6 / 14، وشرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد بن حنبل، للعلامة محمد السفاريني 2 / 346، ومنار القاري في شرح مختصر صحيح البخاري، لحمزة بن محمد بن قاسم 4 / 87، وانظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 21، الدرس السابع.
(4) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، 2 / 301 -302، وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 3 / 709 - 710، وشرح النووي على صحيح مسلم 13 / 31، وشرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 100.(1/191)
فينبغي للداعية أن يستخدم أسلوب التشبيه في دعوته إلى الله (1) .
ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد إن مفهوم هذه الأحاديث تضمن الحث على الجهاد والمشاركة فيه، ولو برباط يوم في سبيل الله تعالى، أو غدوة، أو روحة؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهِر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وَأجرِيَ عليه رزقه، وأمِنَ الفَتان» (2) . " (3) .
وفي بيان دلالة هذه الأحاديث على الحث على الجهاد يقول ابن حجر، رحمه الله: " والحاصل أن المراد تسهيل أمر الدنيا وتعظيم أمر الجهاد، وأن من حصل له من الجنة قدر سوط يصير كأنه حصل له أمر أعظم من جميع ما في الدنيا، فكيف بمن حَصَّل منها أعلى الدرجات، والنكتة في ذلك أن سبب التأخير عن الجهاد: الميل إلى سبب من أسباب الدنيا، فَنبه هذا المتأخر أن هذا القدر اليسير من الجنة أفضل من جميع ما في الدنيا " (4) .
وهذا يحث الداعية على أن يبين للناس فضل الجهاد، ويحثهم عليه، ويبيِّن حدوده، وضوابطه من الكتاب والسنة (5) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الرابع، ورقم 19، الدرس الخامس.
(2) الفتان: قال الأكثر من الرواة: بضم الفاء، جمع فاتن للجنس، أي يؤمَن من كل ذي فتنة، وروى الطبري بفتح الفاء: يعني به فتان القبر، وكذلك رواه أبو داود مفسرا بالإِضافة إلى القبر. انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 3 / 756، وشرح النووي على صحيح مسلم 13 / 65.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الإِمارة، باب فضل الرباط في سبيل الله، عز وجل، 3 / 1520، برقم 1913.
(4) فتح الباري 6 / 14.
(5) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الثالث، ورقم 18، الدرس الثاني.(1/192)
[باب الحور العين وصفتهن]
[حديث ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا]
6 - بَاب الحور العين وصِفَتِهنَّ يحَار فِيها الطَّرْف: شَدِيدَة سَوَادِ العَيْنِ، شَدِيدَة بَياَضِ العَينْ {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54] (1) أنكَحْناَهمْ.
26 [ص:2795] حَدَّثَنَا عَبْد اللهِ بْن محَمَّدٍ: حَدَّثَنَا معَاوِيَة بْن عَمْرو: حَدَّثَنَا أَبو إِسَحَاقَ، عَنْ حميدٍ قال: سَمِعْت أنس بْنَ مَالِكٍ (2) رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَموت لَه عِنْدَ اللهِ خَيْر يَسره أَنْ يرجِعَ إِلَى الدّنْيَا وَأَنَّ لَه الدنْيَا وَمَا فِيهَا، إلاَّ الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْل الشَّهاَدِةِ؛ فَإنَّه يَسره أَنْ يرجعَ إلى الدّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّة أخْرَى» (3) .
وفي رواية: «مَا أَحَد يَدْخل الجَنَّةَ يحِبّ أَنْ يرجِعَ إِلى الدّنْيَا وَلَه مَا عَلَى الأَرْضِ مِن شيء إلا الشَّهِيد، يَتَمَنَّى أَنْ يرجِعَ إِلى الدّنْيَا فَيقْتَلَ عَشْرَ مرَاتٍ؛ لِمَا يَرَى مِنَ الكَرَامَةِ» (4) .
* شرح غريب الحديث: * الشهيد الشهيد في الأصل من قتِلَ مجاهدا في سبيل الله عز وجل، ويجمع على الشهداء، ثم اتّسِعَ فيه فأطلق على من سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - شهيدا من: المبطون، والغَرِق، والحَرِق، وصاحب الهدم، وذات الجَنْب، وغيرهم، وسمِّي شهيدا؛ لأنه حيّ لم يمت، كأنه شاهد حاضر؛ لأن أرواحَ الشهداء شهدت وحضرت دار السلام، وغيرهم لا يشهدونها إلا بعد التعب يوم القيامة.
وقيل: سمِّي شهيدا؛ لأن الله وملائكته شهود له بالجنة. وقيل: لأن ملائكة
_________
(1) سورة الدخان، الآية: (54) .
(2) تقدمت ترجمته في الحديث 14.
(3) [الحديث 2795] ، طرفه في كتاب الجهاد والسير، باب تمني المجاهد أن يرجع إلى الدنيا، 3 / 274، برقم 2817. وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله، 3 / 498 1، برقم 1877.
(4) الطرف رقم 2817.(1/193)
الرحمة تشهده، وقيل: لشهادته بالحق في أمر الله حتى قتل، وقيل: لأنه يشهد ما أعده الله له من الكرامة بالقتل، وقيل: لأنه ممن يستشهد يوم القيامة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على الناس، وذلك تخصيص لا يكون لكل أحد، وقيل غير ذلك (1) .
قلت: والظاهر والله أعلم أنه سمِّي لذلك كله.
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - الترغيب في طلب الشهادة في سبيل الله عز وجل.
2 - من أساليب الدعوة: تمني أفضل الأعمال.
3 - من معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم -: الإِخبار بالأمور الغيبية.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: الترغيب في طلب الشهادة في سبيل الله تعالى. في هذا الحديث ترغيب في طلب الشهادة في سبيل الله عز وجل؛ لما فيها من الكرامة والفوز بالدرجات العلى في الجنة؛ قال ابن بطال رحمه الله: " هذا الحديث أجل ما جاء في فضل الشهادة، وليس في أعمال البر ما تبذل فيه النفس غير الجهاد؛ فلذلك عظم فيه الثواب " (2) . وقال النووي رحمه الله: " وهذا من صرائح الأدلة في عظيم فضل الشهادة، والله المحمود المشكور " (3) .
فينبغي للداعية أن يعتني بأسلوب الترغيب في دعوته إلى الله سبحانه وتعالى؛ لما له من الأثر العظيم في نفوس المدعوين (4) .
_________
(1) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 361، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الشين مع الهاء، مادة " شهد " 2 / 513، وشرح النووي على صحيح مسلم 13 / 28.
(2) نقلا عن الحافظ ابن حجر من فتح الباري، 6 / 33.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 13 / 28.
(4) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 22، الدرس السابع.(1/194)
ثانيا: من أساليب الدعوة: تمني أفضل الأعمال: إن من أساليب الدعوة تمني أفضل الأعمال؛ للرغبة في الحصول على أعْلَى الدرجات وأعظم الثواب؛ ولهذا بين - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أن الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة، قال العلامة ملا علي القاري رحمه الله: " وفيه إيماء إلى أنه لا يتمنى شيئا من شهوات الدنيا إلا الشهادة، وهي ليست منها فيكون من قبيل:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
. . . " (1) .
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمنى الشهادة في سبيل الله بحضرة الصحابة، رضي الله عنهم، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل» (2) . ولا شك أن الصحابة - رضي الله عنهم - طمعوا في فضل الله -تعالى - ورغبوا في الحصول على الشهادة؛ لسماعهم تمنيه - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا يبين للداعية أن تمني أفضل الأعمال، ونقل تمنِّي أهل الصلاح إلى المدعوين مما يرَغِّب المدعوين في عمل الصالحات والرغبة فيها.
ثالثا: من معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم -: الإخبار بالأمور الغيبية: إن من الدلائل على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما أخبر به من الأمور الغيبية، ومن ذلك ما أخبر به في هذا الحديث بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنَّى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات؛ لما يرى من الكرامة» ، وهذا يؤكد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمه الله بذلك، ويكون كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - (3) .
_________
(1) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 7 / 367.
(2) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه: البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب تمني الشهادة، 3 / 268، برقم 2797، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، 3 / 1495، برقم 1876.
(3) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع.(1/195)
[باب من ينكب أو يطعن في سبيل الله]
[قوله في بعض المشاهد هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت]
9 - باب منْ ينكب أوْ يطعَن فِي سبيل اللهِ 27 [ص:2802] حَدَّثَنَا موسَى بْن إِسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنَا أَبو عَوانةَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جندَب بْنِ سفيانَ (1) أَنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ فِي بَعْضِ المَشَاهِدِ وَقَدْ دَمِيَتْ إِصبَعه فَقَالَ: «هَلْ أَنتِ إِلَّا إِصْبَع دَمِيتِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقيتِ» (2) .
وفي رواية: " بينَمَا النبي - صلى الله عليه وسلم - يَمْشِي إِذْ أَصَابَه حَجَر فَعَثَرَ فَدَمِيَتْ إِصْبَعه، فقال. . . " (3) . الحديث.
* شرح غريب الحديث: * " المشاهِد ": المغازي، سميت بذلك؛ لأنها مكان الشهادة، وقيل. محضر الناس، ومجمعهم (4) .
* " إصبع ": فيها عشر لغات: تثليث الهمزة، ومع كل حركة تثَلَّث الباء، واللغة العاشرة: أصبوع (5) .
* " دميت " صفة للأصبع: أي ما أنت يا أصبع موصوفة بشيء إلا بأن دميتِ،
_________
(1) جندب بن عبد الله بن سفيان الإمام الصحابي الجليل أبو عبد الله البَجَلِي، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة أحاديث، وعن يونس بن جبير قال: شيعنا جندبا فقلت له: أوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، وأوصيكم بالقرآن؛ فإنه نور بالليل المظلم، وهدىَ بالنهار، فاعملوا به على ما كان من جهد وفاقه؛ فإن عَرضِ بلاء فقدم مالك دون دينك، فإن تجاوز البلاء فقدم مالك ونفسك دون دينك؛ فإن المخروب من خرِبَ دينه، والمسلوب من سلِبَ دينه، واعلم أنه لا فاقة بعد الجنة ولا غنى بعد النار. وقال رضي الله عنه: " كنا غِلمانا حزاورة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا " وقد نسب - رضي الله عنه - إلى جده فقيل: جندب بن سفيان وبقي إلى حدود سنة سبعين، وهو غير جندب بن عبد الله الأزدي. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 3 / 174، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1 / 248.
(2) [الحديث 2802] طرفه، في كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه، 7 / 139، برقم 6146. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب ما لقى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين والمنافقين، 3 / 1421، برقم 1796.
(3) من الطرف رقم 6146.
(4) انظر: لسان العرب، لابن منظور، باب الدال، فصل الشين مادة: " شهد " 3 / 241 والقاموس المحيط، للفيروز آبادي، باب الدال، فصل الشين، ص 373 وشرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 106.
(5) انظر: القاموس المحيط للفيروز آبادي، باب العين، فصل الصاد، ص 950 وشرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 106.(1/196)
كأنها لما دميت خاطبها على سبيل الاستعارة أو الحقيقة معجزة مسلّيا لها: أي تثبتي، فإنك ما ابتليتِ بشيء من الهلاك والقطع سوى أنك دَميت، ولم يكن ذلك أيضا هدرا، بل كان في سبيل الله - تعالى - ورضاه (1) .
* " عثر " المقصود هنا: أنه - صلى الله عليه وسلم - عثر في مشيه: أصابه حجر فسقط وزلت به رجله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: الصبر على المصائب.
2 - من صفات الداعية: احتساب الأجر والثواب على الله عز وجل.
3 - من أساليب الدعوة: الرّجز والشعر الممدوح.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: الصبر على المصائب. دل هذا الحديث على أن الداعية ينبغي له أن يصبر على ما أصابه؛ فإنه لو سلم أحد من المصائب لسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو في هذا الحديث في غزوة من الغزوات وأصيب بحجر عثر فيه، ودميت أصبعه، فصبر ولم يجزع من تلك الدماء، فينبغي للداعية أن يقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويصبر على ما أصابه قال الله - تعالى - في مدح المؤمنين {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 35] (3) . وهذا يؤكد أهمية الصبر (4) .
_________
(1) انظر: القاموس المحيط، للفيروز آبادي، باب الياء، فصل الدال، ص 1656، وشرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 106.
(2) انظر النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب العين مع الثاء، مادة: " عثر "، 3 / 182 ومختار الصحاح للرازي، مادة: " عثر " ص 174.
(3) سورة الحج، الآية: (35) .
(4) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن.(1/197)
ثانيا: من صفات الداعية: احتساب الأجر والثواب على الله - عز وجل: إن من الصفات الحميدة أن يحتسب الداعية ما يصيبه فيرجو بذلك ثواب الله ويطمع في فضله وإحسانه سبحانه وتعالى؛ ولهذا احتسب إمام الدعاة - صلى الله عليه وسلم - الثواب على ربه حينما أصيبت أصبعه فقال: «هل أنت إلا أصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ» فبين - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك لم يكن هدرا وإنما هو في سبيل الله - عز وجل - ورضاه (1) .
فينبغي للداعية أن يحتسب كل ما يصيبه من المصائب والمتاعب والمشاق حتى يثاب على ذلك من الله تعالى؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة» (2) .
ثالثا: من أساليب الدعوة: الرَّجز والشعر الممدوح. من الأساليب الدعوية التي يجذب بها الداعية بعض المدعوّين: الرَّجز (3) . عند الحاجة إلى ذلك في بعض الأحيان مع بعض الفئات من الناس، ولكن لا يستعمل الداعية منه إلا ما فيه نفع وحث على الخير، وترغيب في الطاعات، وتخويف من المعاصي والسيئات؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " " (4) . والمعنى إن من الشعر: قولا صادقا، مطابقا للحق. فالشعر منه حسن ومنه قبيح فيأخذ الداعية الحسن ويدع القبيح (5) . والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن شاعرا ولا ينبغي له ذلك؛ لقول الله عز وجل: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] (6) . ولكن ما جاء
_________
(1) انظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 106.
(2) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن، أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها، 4 / 1991، برقم 2572.
(3) الرَّجَز: بحر من بحور الشعر معروف، ونوع من أنواعه، ويسمى قائله راجزا، كما يسمى قائل بحور الشعر شاعرا. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الجيم، مادة: " رجز " 2 / 199.
(4) البخاري، كتاب الأدب باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه 8 / 139 برقم 6145 عن أبي بن كعب رضي الله عنه.
(5) ذكر معنى هذا القول عن عائشة - رضي الله عنها. انظر: فتح الباري لابن حجر 10 / 540.
(6) سورة يس، الآية: (69) .(1/198)
عنه إما أن يكون من باب الرجز، وإما أن يكون كلاما لغيره يتمثّل ببعضه، وإما أن يكون قال ذلك ولم يقصد الشعر ولم يعتنِ به، وإنما جاء على لسانه (1) . واختار الإمام الطحاوي رحمه الله: أن ما حكِيَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكلام الذي ادعِيَ أنه شعر أو رجز: هو من الحكم التي في الشعر، فتكلم به على لسانه على أنه حكمة، والله يجري الحكمة على لسانه، لا أنه شعر أراده مما لا حكمة فيه (2) .
فلا حرج على الداعية أن يستخدم أسلوب الرجز، أو الشعر الحسن في دعوته إلى الله تعالى.
_________
(1) انظر: أعلام الحديث للخطابي، 2 / 1358، وعارضة الأحوذي، بشرح سنن الترمذي، لابن العربي 6 / 399، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 3 / 619، وشرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 361- 362، و 12 / 397، وفتح الباري لابن حجر، 10 / 541.
(2) شرح مشكل الآثار 8 / 386.(1/199)
[باب قول الله تعالى من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه]
[حديث استشهاد أنس بن النضر]
12 - باب قول الله تعالى {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] (1) .
28 [ص:2805] حَدَّثَنَا محَمَّد بْن سَعِيدٍ الخزَاعِيّ: حَدَّثَنَا عَبْد الأَعْلَى، عنْ حمَيْدٍ قَالَ: سَأَلْت أَنَسا، ح: حَدَّثَنَا عَمْرو بْن زرَارَةَ: حَدَّثَنَا زِياد قال: حَدَّثَنِي حمَيْد الطَّوِيل عَنْ أَنَسٍ (2) - رضي الله عنه - قَالَ: «غَابَ عَمِّي أَنس بْن النَّضْرِ (3) عَنْ قِتالِ بَدْرٍ: فَقَالَ: يَا رَسولَ اللهِ، غِبْت عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المشْرِكِينَ، لَئِنِ الله أَشْهَدَنِي قِتَالَ المشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ الله مَا أَصْنَع، فَلَمَّا كَانَ يَوْم أحدٍ وانْكَشَفَ المسْلِمونَ قَالَ: اللَّهمَّ إِنِّي أَعْتَذِر إِليْكَ مَّا صَنَعَ هَؤلَاءِ- يَعْنِي أَصحابَه- وَأَبْرَأ إِليْكَ مِمّا صَنَعَ هَؤلَاءِ: - يَعْنِي المشْرِكِينَ- ثمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَه سَعْد بْن معَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْد بْنَ معَاذٍ، الجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضرِ، إِني أَجِد رِيحَهَما مِنْ دونِ أحدٍ. قَالَ سَعْد: فَمَا اسْتَطَعْت يَا رَسولَ اللهِ مَا صَنَعَ. قَالَ أنس: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعا وَثَمَانِينَ ضَرْبة بِالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنة بِرمْح، أَوْ رَمْيَة بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاه قَدْ قتِلَ وَقَدْ مثَّلَ بِهِ المشْرِكونَ، فَمَا عَرَفَه أَحد إِلَّا أخته بِبَنَانِهِ» . قَالَ أَنس: كنَا نَرَى- أَوْ نَظنّ- أَن هَذِهِ الآية نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] (4) إِلَى آخرِ الآية " (5) .
_________
(1) سورة الأحزاب، الآية: (23) .
(2) أنس بن مالك، تقدمت ترجمته في الحديث رقم 14.
(3) أنس بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام الأنصاري، الخزرجي، النجاري، استشهد يوم أحدٍ، ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فيه: " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " البخاري برقم 2806، ومسلم برقم 1675، رضي الله عنه فقد كان راغِباَ فيما عند الله - عز وجل - كما في هذا الحديث. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1 / 128، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1 / 71.
(4) سورة الأحزاب، الآية: (23) .
(5) [الحديث 2805] طرفاه في: كتاب المغازي، باب غزوة أحد، 5 / 36، برقم 4048. وكتاب تفسير القرآن، 23 سورة الأحزاب، باب فَمِنْهمْ مَنْ قَضَى نَحْبَه وَمِنْهمْ مَنْ يَنْتَظِر وَمَا بَدَّلوا تَبْدِيلا 6 / 26، برقم 4783. وأخرجه مسلم، في كتاب الأمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، 3 / 1512، برقم 1903.(1/200)
وفي رواية: ". . «لَئِن أَشْهَدَنِي الله مع النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لَيَرَيَنَّ الله مَا أجِدّ، فَلَقِيَ يَوْمَ أحدٍ فَهزِمَ النَّاس، فقَالَ اللَّهمَّ إِنَي أَعْتَذِر إِليْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤلاءِ - يعني المسْلِمينَ- وَأَبْرَأ إِليْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ المشْرِكونَ، فَتَقَدَّمَ بِسَيْفِهِ فَلَقِيَ سَعْدَ بْنَ معَاذٍ فَقَالَ: أَيْنَ يا سَعْد؛ إِنَي أَجِد رِيحَ الجَنَّة دونَ أحدٍ، فَمَضَى فَمَا عرِفَ حَتَّى عَرَفَتْه أخْته بِشَامَةٍ، أَوْ بِبَنانِهِ، وَبِهِ بضع وثَمَانونَ مِنْ طَعْنةٍ، وضَرْبَةٍ، وَرَمْيَةٍ بسَهْمٍ» (1) .
* شرح غريب الحديث: * " لَيَرَينَّ الله مَا أجِدّ " أي ما أجتهد (2) .
* " وانكشف المسلمون " أي انهزموا (3) .
* " ببنانه " البنان: الأصابع، وقيل: أطرافها (4) .
* " أخته " أي أخت أنس بن النضر، وهي: الربيع بنت النضر، عمة أنس بن مالك - رضي الله عنهم (5) .
* " بشامة " الشامة: الخال في الجسد (6) .
* " بضعا وثمانين ضربة " البضع في العدد بالكسر، وقد يفتح: ما بين الثلاث إلى التسع، وقيل ما بين الواحد إلى العشرة؛ لأنه قطعة من العدد (7) .
* " نحبه " النحب النذر، كأنه ألزم نفسه أن يصدق الله في قتال أعداء الله فوَفَى به، وقيل: النحب الموت، كأنه يلزم نفسه أن يقاتل حتى يموت (8) .
_________
(1) الطرف رقم 4048.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الجيم مع الدال، مادة: " جدد " 1 / 244.
(3) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 128.
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الباء مع النون، مادة: " بنن " 1 / 157.
(5) انظر: تهذيب الأسماء واللغات، للنووي 2 / 344.
(6) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الشين مع الهمزة، مادة: " شام " 2 / 436.
(7) المرجع السابق، باب الباء مع الضاد، مادة: " بضع " 1 / 133.
(8) انظر: المرجع السابق، باب النون مع الحاء، مادة: " نحب " 5 / 26.(1/201)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: بذل النفس والتضحية في سبيل الله عز وجل.
2 - من صفات الداعية: الوفاء بالعهد.
3 - من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله عز وجل.
4 - من صفات الداعية: صحة الإِيمان وقوة اليقين.
5 - من صفات الداعية: الشجاعة.
6 - من صفات الداعية: الصبر وتحمل المشاق.
7 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
8 - من أساليب الدعوة: القصة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: بذل النفس والتضحية في سبيل الله عز وجل: إن بذل النفس والتضحية في سبيل اللِّه - تعالى - من صفات الداعية، وقد دل الحديث على هذه الصفة الحميدة: من تضحية أنس بن النضر - رضي الله عنه - بنفسه في سبيل الله - عز وجل - حتى وجد فيه أكثر من ثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وهذا كله يدل على بذله نفسه لله سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال سعد بن معاذ - رضي الله عنه: " فما استطعت يا رسول الله ما صنع ".
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله: " وفيه جواز بذل المرء نفسه في طلب الشهادة " (1) . فينبغي للداعية أن يضحي بكل ما يملك في خدمة الإسلام ونصرته، وفي كل ما يحبه الله - عز وجل -ويرضاه.
ثانيا: من صفات الداعية: الوفاء بالعهد. إن الوفاء بالعهد من أهم الصفات التي ينبغي للداعية أن يتصف بها؛ وقد
_________
(1) فتح الباري 6 / 23، 7 / 56.(1/202)
قال الله - عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] (1) .
وفي هذا الحديث قال أنس بن النضر - رضي الله عنه: " لئن أشهدني الله قتال المشركين ليريَنَّ الله ما أصنع " وقد وفى بما عاهد الله عليه حتى اشتهر ذلك عند الصحابة - رضي الله عنهم؛ ولهذا قال أنس بن مالك - رضي الله عنه: " كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه ": {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله: " وفي قصة أنس بن النضر من الفوائد: جواز بذل النفس في الجهاد، وفضل الوفاء بالعهد ولو شق على النفس حتى يصل إلى إهلاكها " (2) .
فينبغي للداعية أن يعتني بعهده؛ فإن ذلك من أعظم صفات الداعية الصادق.
ثالثا: من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله عز وجل: لا ريب أن من رجا شيئا طمع فيه وطلبه ورغب فيه (3) . وقد دل هذا الحديث على أن الرغبة فيما عند الله تعالى والطمع في رضاه من صفات الداعية، وذلك في قول أنس بن النضر - رضي الله عنه: " يا سعد بن معاذ: الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد " (4) . ثم تقدم فقاتل حتى قتل، وما ذلك إلا لرغبته فيما عند الله - عز وجل.
فينبغي للداعية أن يرغب فيما عند الله، سبحانه تعالى، ويطمع في رضاه، قال الله عز وجل: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36] (5) وهذا يوضح أهمية الرغبة فيما عند الله عز وجل (6) .
_________
(1) سورة الأحزاب، الآية: (23) .
(2) فتح الباري 6 / 23.
(3) قال ابن القيم - رحمه الله: " الفرق ببن الرغبة والرجاء: أن الرجاء طمع، والرغبة طلب، فهي ثمرة الرجاء، فإنه إذا رجا الشيء طلبه، والرغبة من الرجاء كالهرب من الخوف، فمن رجا شيئا طلبه ورغب فيه، ومن خاف شيئا هرب منه ". مدارج السالكين 2 / 55.
(4) قال الإمام النووي: " محمول على ظاهره، وأن الله - تعالى - أوجده ريحها من موضع المعركة، وقد ثبتت الأحاديث أن ريحها توجد من مسيرة خمسمائة عام " شرح صحيح مسلم، 13 / 52.
(5) سورة الشورى، الآية: (36) .
(6) انظر: الحديث رقم 13، الدرس الثاني، ورقم 16، الدرس الثالث، ورقم 21، الدرس السادس.(1/203)
رابعا: من صفات الداعية: صحة الإيمان وقوة اليقين: دل الحديث على أن صحة الإِيمان وقوة اليقين من أهم صفات الداعية؛ ولهذا بذل أنس بن النضر روحه وجسده في سبيل الله، عز وجل، وأيقن بأن الله عز وجل يثيبه على عمله المبارك.
ولا شك أن اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد (1) . قال الله - عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] (2) ؛ ولهذه الأهمية قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في فوائد هذا الحديث: " وفيه فضيلة ظاهرة لأنس بن النضر - رضي الله عنه - وما كان عليه من صحة الإِيمان، وكثرة التوقي والتورع وقوة اليقين " (3) .
فينبغي للداعية إلى الله - تعالى - أن يتصف بهذه الصفة العظيمة؛ لأن اليقين في الحقيقة: قبول دين الله - عز وجل - كما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - والإيمان بالغيب الذي أخبر به الله، سبحانه وتعالى، وأخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، إيمانا صادقا، لا يدخل القلب فيه شبهة ولا شك ولا تناس ولا غفلة (4) . ولهذه المكانة العظيمة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أعظم ما أعطي العبد: هو اليقين فقال: «سلوا الله العفو والعافية؛ فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية» (5) .
خامسا: من صفات الداعية: الشجاعة: من الصفات الحميدة التي دل عليها هذا الحديث الشجاعة، فقد ظهرت شجاعة أنس بن النضر، رضي الله عنه، وذلك بإقدامه في معركة أحد، وقتاله العظيم
_________
(1) انظر: مدارج السالكين، للإمام ابن القيم، 2 / 401.
(2) سورة السجدة، الآية (24) .
(3) فتح الباري، 6 / 23، وانظر عمدة القاري للعيني، 14 / 103.
(4) انظر: مدارج السالكين، للإمام ابن القيم 2 / 402.
(5) أخرجه الترمذي من حديث أبي بكر، رضي الله عنه، في كتاب الدعوات، باب حدثنا محمد بن بشار، 5 / 557، برقم 3558، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية، 2 / 1265، برقم، 3849 وحسنه الألباني في صحيح الترمذي 3 / 180، وصحيح ابن ماجه 2 / 338 وللحديث بعض الشواهد: من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - عند الترمذي في كتاب الدعوات باب حدثنا يوسف بن عيسى 5 / 534، برقم 3514، وصححه الألباني في صحيح الترمذي 3 / 170، ومن حديث أنس - رضي الله عنه - عند الترمذي أيضا في كتاب الدعوات، باب في العفو والعافية، 5 / 576، برقم 3594، وانظر: صحيح الترمذي 3 / 170، 180، 185.(1/204)
حتى ضحى بنفسه التي هي أغلى ما يملك بعد الإِيمان، وذلك لشجاعته القلبية التي حملته على ما صنع - رضي الله عنه - (1) .
فينبغي للداعية أن يتصف بالشجاعة القلبية، والعقلية، فيصبر في ساحات الجهاد؛ لأن الشجاعة في الحقيقة: هي ضبط النفس عن مثيرات الخوف، حتى لا يجبن الإِنسان في المواضع التي تحسن فيها الشجاعة، ويقبح فيها الجبن، قال ابن حجر - رحمه الله - في فوائد هذا الحديث: " وفي الحديث جواز الأخذ بالشدة في الجهاد " (2) .
سادسا: من صفات الداعية: الصبر وتحمل المشاق: يظهر في هذا الحديث صبر أنس بن النضر، رضي الله عنه، وإقدامه ومثابرته في قتال المشركين، وهذا يبين للدعاة وغيرهم من المسلمين أن صفة الصبر خلق فاضل من أخلاق النفس، تمنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها، وقوام أمرها (3) .
فينبغي للداعية أن يتصف بهذه الصفة الحميدة التي تمكنه من ضبط نفسه؛ لتحمل المتاعب والمشاق في سبيل الدعوة إلى الله - عز وجل؛ ولهذا أمر الله به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقال - عز وجل: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35] (4) وقال سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] (5) أسأل الله العفو والعافية لي ولجميع المسلمين (6) .
سابعا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على أن أسلوب الترغيب مهم في الدعوة إلى الله عز وجل؛
_________
(1) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم 2 / 308.
(2) فتح الباري 7 / 356، وانظر: الحديث رقم 35، الدرس الخامس.
(3) انظر: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن قيم الجوزية، ص 29، ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن قيم الجوزية، أيضا، 2 / 156.
(4) سورة الأحقاف، الآية (35) .
(5) سورة محمد، الآية (31) .
(6) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 27، الدرس الأول.(1/205)
لأنه يجذب القلوب إلى فعل الخير؛ ولهذا استشهد أنس بن مالك - رضي الله عنه - بقوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] (1) .
وهذا يرغب في الوفاء بالعهد والثبات عليه، ويبين للدعاة أهمية استخدام هذا الأسلوب في الدعوة إلى الله عز وجل (2) .
ثامنا: من أساليب الدعوة: القصة: القصص: هو الخبر المقصوص، وهو بمعنى تتبع الأثر، فقيل القاص يقص القصص؛ لإِتبَاعه خبرا بعد خبر، وسوقه الكلام سوقا (3) .
ولا شك أن القصص من أساليب الدعوة التي تؤثر في نفوس المدعوين، وقد دل هذا الحديث على أهمية القصص في الدعوة إلى الله تعالى؛ لأن من سمع حديث أنس بن مالك عن قصة عمه أنس بن النضر أثر ذلك في نفسه، وصور له واقع ما فعله - رضي الله عنه - من التضحية والمثابرة الجادة الصادقة؛ ولهذا التأثير العظيم ذكر الله - عز وجل - في القرآن الكريم قصصا كثيرة، وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قصصا في سنته (4) . وبين الله -عز وجل - أن في القصص عبرا وعظات، قال سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] (5) . فينبغي للداعية أن يعتني بالقصص من الكتاب العزيز، والسنة الصحيحة، ويبينه للناس حتى يحصل التأثير والقبول بإذن الله - عز وجل - (6) .
_________
(1) سورة الأحزاب، الآية (23) .
(2) انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، لمحمد بن عبد العظيم الزرقاني 2 / 199، وانظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 18، الدرس الخامس.
(3) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الصاد، فصل القاف، مادة: " قص " 7 / 75- 77.
(4) انظر: صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، 4 / 176-184، حديث رقم، 3464- 3485، وصحيح مسلم، كتاب الزهد والرقاق،، برقم 2964، 2766، 3005.
(5) سورة يوسف، الآية: 111.
(6) انظر: الحديث رقم 17، الدرس الثالث.(1/206)
[حديث أمر أبي بكر زيد بن ثابت بنسخ المصحف]
29 [ص:2807] حَدَّثَنَا أَبو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شعيب، عنِ الزهريِّ حِ، وحَدَثَنَا إِسْمَاعِيل قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سلَيْمَانَ، أرَاه عَنْ محَمَّدِ بنِ أِبِي عَتِيقٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، رضي الله عنه، (1) . قَال: " نَسَخْت الصّحفَ فِي المَصَاحِفِ فَفَقَدْت آية مِنْ سورِةِ الأَحْزَابِ كنْت أَسْمَع رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقْرَأ بِهَا، فَلَمْ أَجِدْهَا إِلّا مَعَ خزَيْمةَ بْنِ ثَابتٍ (2) . الأنصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَهَادَتَه شَهَادَةَ رَجلَينِ، وَهَو قوله: (3)
_________
(1) زيد بن ثابت بن الضحاك الصحابي الجليل، رضي الله عنه، شيخ المقرئين والفرضيين، مفتي المدينة، كاتب الوحي، كان أحد الأذكياء، هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وعمره إحدى عشرة سنة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأمن اليهود على كتابه، وقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله " أتحسن السريانية؟ " قال زيد: قلت: لا. فأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يتعلم كتاب اليهود حتى كتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - كتبه وأقرأه كتبهم إذا كتبوا إليه - صلى الله عليه وسلم -. انظر: البخاري مع الفتح 13 / 185، برقم 7195، وزيد بن ثابت أفرض الأمة، وهو من الراسخين في العلم، وعندما مات زيد - رضي الله عنه - جلس الناس إلي ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال: هكذا ذهب العلماء دفِنَ اليوم علم كثير، وقد اعتمد عليه الصديق في جمع القرآن الكريم في الصحف، فجمعه من: الصحف، والرقاع، والأكتاف، والأقتاب، والعسب، واللخاف، وصدور الرجال. شهد زيد الخندق وما بعدها من المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنان وتسعون حديثا اتفق البخاري ومسلم على خمسة، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بحديث، وتوفي - رضي الله عنه - بالمدينة، سنة أربع وخمسين، وقيل غير ذلك. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 200- 201، وسير أعلام النبلاء للذهبي 2 / 426- 441، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1 / 561.
(2) خزيمة بن ثابت بن عمارة بن الفاكِه، الفقيه أبو عمارة الأنصاري، ذو الشهادتين، الصحابي الجليل، رضي الله عنه، شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بدرا وما بعدها [قاله النووي] وقال الذهبي: والصواب أنه شهد أحدا وما بعدها، وكان خزيمة وعمير بن عدي يكسران أصنام بني خطمة، وكانت راية خطمة بيده يوم فتح مكة، وشهد مع علي - رضي الله عنه - الجمل وصفين ولم يقاتل فيهما، فلما قتل عمار بن ياسر - رضي الله عنه - بصفين قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " تقتل عمارا الفئة الباغية أخرجه مسلم في صحيحه، 4 / 2236، برقم 2916، فلما قتل ابن ياسر سل سيفه خزيمة وقاتل حتى قتل، وذلك سنة سبع وثلاثين، وله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وثلاثون حديثا، ومن أجل مناقبه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل شهادته شهادة رجلين، فكان يسمى ذا الشهادتين، ومن حرصه على تقييد العلم وجدت آية سورة الأحزاب مكتوبة عنده عندما جمع زيد بن ثابت القرآن. رضي الله عنه ورحمه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات، للنووي 1 / 175، وسير أعلام النبلاء للذهبي 2 / 485، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1 / 425.
(3) [الحديث 2807] أطرافه في: كتاب المغازي، باب غزوة أحد، 5 / 37، برقم 4049. وكتاب تفسير القرآن، 9 سورة براءة، باب قوله (لَقَدْ جَاءَكمْ رَسول مِنْ أَنْفسِكمْ عَزِيز عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيص عَلَيْكمْ بِالْمؤْمِنِينَ رَءوف رَحِيم) ، 5 / 250، برقم 4679. وكتاب تفسير القرآن، 23 سورة الأحزاب، باب (فَمِنْهمْ مَنْ قَضَى نَحْبَه وَمِنْهمْ مَنْ يَنْتَظِر وَمَا بَدَّلوا تَبْدِيلا) ، 6 / 26، برقم 4784. وكتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، 6 / 119، 120، 121، برقم 4986، وبرقم 4988. وكتاب فضائل القرآن، باب كاتب النبي - صلى الله عليه وسلم -، 6 / 121، برقم 4989. وكتاب الأحكام، باب يستحب للكاتب أن يكون أمينا عاقلا، 8 / 151، برقم 7191. وكتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء، وهو رب العرش العظيم، 8 / 223، برقم 7425.(1/207)
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] (1) .
وفي رواية: " فَألحَقْنَاها في سورَتهَا فيِ المصْحَفِ " (2) .
وفي رواية: أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ - رضي الله عنه - قَالَ: " أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبو بَكْرٍ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَة وَعِنْدَه عمَر بن الخطاب - رضي الله عنه، فَقَالَ أَبو بَكْرٍ: إِنَّ عمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ القَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ اليَمَامَةِ بِقرّاءِ القرْانِ، وَإِنِّي أَخْشَى إِنِ اسْتَحَرَّ القَتْل بِالقرَّاءِ بِالمَوَاطِن فَيَذْهَب كَثِيْر مِنِ القرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمرَ بجَمْع القرْانِ. قَالَ أَبو بَكْرٍ: قلْت لِعمَرَ: كَيْفَ تَفْعَل شيئا لَمْ يَفْعَلْه رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالَ عمر: هَذَا وَاللهِ خَيْر. فَلَمْ يَزَلْ عمَر يرَاجِعنِي حَتَّى شَرَحَ الله صَدْرِي لِذَلِكَ، وَرَأَيْت فِي ذَلِكَ الذِي رَأَى عمَر. قَالَ زَيْد: وَعمَر عِنْدَه جَالِس لاَ يَتكَلَّم - فَقَالَ أَبو بَكْرٍ: إٍنكَ رَجل: شَابّ عَاقِل، وَلاَ نَتَّهمكَ، وَكنْتَ تَكْتب الوَحْيَ لِرَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فتَتبّع القرْآنَ فَاجْمَعْه. فَوَاللهِ لَوْ كلّفوني نَقْلَ جَبَلٍ مِن الجبَالِ مَا كَان أَثْقَلَ عَليَّ مِمّا أَمَرَني بهِ مِنْ جَمْعِ القرآنِ. قلْت: كَيْفَ تَفْعَلانِ شيئا لَمْ يَفْعَلْه رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالَ أبو بَكْرٍ: هوَ واللهِ خَيْر. فَلَمْ أَزَلْ أرِاجِعه حَتَّى شَرَحَ الله صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَه صَدْرَ أَبِي بكْرٍ وَعمَرَ - رضي الله عنهما. فقمْت فَتَتبّعْت القرْآنَ أَجْمَعه: مِنِ الرقَّاعِ، وَالأَكْتَافِ، وَالعسبِ [واللِّخَافِ] ، وَصدورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْت آخِرَ سورةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خزَيْمَةَ الأنصَارِي. . " (3) .
وفي رواية: " حَتَّى وَجَدْت مِنْ سورَةِ التَّوبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خزَيمةَ الأنصَارِي (4) لَمْ
_________
(1) سورة الأأحزاب، الآية: (23) .
(2) من الطرف رقم 4049.
(3) الطرف رقم: 4986، وانظر: الطرف رقم 4679.
(4) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " والأرجح أن الذي وجد معه آخر سورة التوبة: أبو خزيمة بالكنية، والذي وجد معه الآية: من الأحزاب: خزيمة، وأبو خزيمة قيل: هو ابن أوس بن زيد بن أصرم مشهور بكنيته دون اسمه، وقيل: هو الحارث بن خزيمة. وأما خزيمة فهو ابن ثابت ذو الشهادتين كما تقدم صريحا في سورة الأحزاب " [يعني رحمه الله حديث رقم 2807] فتح الباري 9 / 15، وقيل: " كانتا كلتاهما مكتوبتين عند خزيمة بن ثابت - رضي الله عنه - ولا محذور في ذلك " انظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري 18 / 46، وقيل: كلها عند خزيمة بن ثابت، رضي الله عنه، لكن آية الأحزاب عند النقل من الصحف إلى المصحف، وآيتي التوبة عند النقل من العسب إلى الصحف. انظر: شرح الكرماني السابق 24 / 230. والأرجح والله أعلم ما قاله ابن حجر رحمه الله؛ لموافقته للطرف رقم 4986.(1/208)
أَجِدْهمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِه (1) . {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ} [التوبة: 128] (2) إِلى آخِرِهَا ". وَكَانَتْ الصّحف الَّتِي جمعَ فِيْهَا الْقرْآن عِنْدَ أَبِي بَكر حتى تَوَفَّاه الله، ثمَّ عِنْدَ عمَرَ حَتَّى تَوَفَّاه الله، ثمَ عند حَفْصَةَ بِنْتِ عمَرَ [رضي الله عنهم] (3) .
* شرح غريب الحديث: * " استحرَّ ": كثر واشتدَّ؛ لأن المكروه غالبا يضاف إلى الحر، كما أن المحبوب يضاف إلى البرد، يقولون: أسخن الله عينه، وأقرَّ الله عينه (4) .
* " انشراح الصدر " سعته، وانفساحه، وتقبله للخير (5) .
* " العسب " جمع عسيب: وهو جريد النخل (6) .
* " الأكتاف " الكتف عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان كانوا يكتبون عليه لقلة القراطيس عندهم (7) .
* " اللخاف " حجارة بيض رقاق، واحدتها لخفة، وقيل: هي الخزف (8) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
_________
(1) أي لم يجدها مكتوبة مع أحد غيره، أما الحفظ فكثير من الصحابة يحفظها. انظر: فتح الباري لابن حجر، 9 / 15، 8 / 518، وعمدة القاري للعيني 8 / 282.
(2) سورة التوبة، الآيتان (128-129) .
(3) من الطرف رقم 4679.
(4) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي ص 36، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الراء، مادة: " حرر " 1 / 364.
(5) تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي، ص 360.
(6) المرجع السابق ص 36، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب العين مع السين، مادة: (عسب) 3 / 234.
(7) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الكاف مع التاء، مادة: " كتف " 4 / 150.
(8) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 36، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، مادة: " لخف " 4 / 244.(1/209)
1 - من صفات الداعية الفطنة والذكاء.
2 - أهمية تقييد العلم وضبطه بالكتابة.
3 - من صفات الداعية: العقل السليم، والنشاط، والأمانة، والخبرة.
4 - حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على العناية بالقرآن الكريم.
5 - حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
6 - من أساليب الدعوة: الحوار.
7 - أهمية اختيار الداعية الصالح للأمور المهمة.
8 - حرص السلف الصالح على الدقة في ضبط الرواية.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: الفطنة والذكاء: جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - شهادة خزيمة بن ثابت - رضي الله عنه - شهادة رجلين؛ لِمَا رأى فيه من الفطنة والذكاء، وسبب ذلك أن «النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى فرسا من أعرابي، فاستتبعه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع رسول الله المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق (1) . رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتاعه، فنادى الأعرابي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن كنت مبتاعا هذا الفرس وإلا بعته، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمع كلام الأعرابي فقال: " أوليس قد ابتعته منك؟ " فقال الأعرابي: لا، والله ما بعتكه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " بلى قد ابتَعته منك " فطفق الأعرابي يقول: هَلمَّ شَهِيدا، فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على خزيمة فقال: " بِمَ تَشْهَد؟ " فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهادة خزيمة بشهادة رجلين» (2) .
_________
(1) طفق: أخذ في الفعل وجعل يفعل، وهي من أفعال المقاربة. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الطاء مع الفاء، مادة: " طفق " 3 / 129.
(2) أخرجه أبو داود، في كتاب الأقضية، باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به، 3 / 308، برقم 3607، عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنسائي، في كتاب البيوع، باب التسهيل في ترك الإشهاد على البيع، 7 / 301، برقم 4647، وصححه الألباني في صحيح أبي داود 2 / 688.(1/210)
قال ابن حجر - رحمه الله - في فوائد حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه: " وفيه فضيلة الفطنة في الأمور، وأنها ترفع منزلة صاحبها؛ لأن السبب الذي أبداه خزيمة حاصل في نفس الأمر يعرفه غيره من الصحابة، وإنما هو؛ لِمَا اختص بِتَفَطنِهِ لما غفل عنه غيره مع وضوحه، وجوزِيَ على ذلك بأن خصَّ بفضيلة من شَهدَ له خزيمة أو عليه " (1) .
وهذا يبين أهمية الفطنة والذكاء وأن الداعية ينبغي له أن يكون فطنا ذكيا، ويسأل الله - عز وجل - أن يوفقه لذلك.
ثانيا: أهمية تقييد العلم وضبطه بالكتابة: ظهر في هذا الحديث أهمية ضبط العلم بالكتابة؛ ولهذا ظهرت فائدة ضبط خزيمة بن ثابت - رضي الله عنه - آية الأحزاب بالكتابة فوجدها زيد بن ثابت عنده مكتوبة ولم يجدها عند غيره؛ ولهذه الأهمية أمر أبو بكر بجمع القرآن وكتابته في الصحف، ووافقه عمر، وزيد، رضي الله عنهم، فنفع الله بذلك أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ وقد اعتنى الصحابة، ومن بعدهم من التابعين وأتباعهم بإحسان، بضبط العلم بالكتابة، وأوصوا بذلك، فعن خالد بن خداش قال: وَدَّعْت أنس بن مالك فقلت يا أبا عبد الله أوصني. فقال: " عليك بتقوى الله في السر والعلانية، والنصح لكل مسلم، وكتابة العلم من عند أهله " (2) .
وعن سليمان بن موسى قال: " يجلس إلى العالم ثلاثة: رجل يأخذ كل ما يسمع فذلك حاطب ليل، ورجل لا يكتب ويسمع فيقال له: جليس العالم، ورجل ينتقي وهو خيرهم [وذلك العالم] " (3) . وقال الخليل بن أحمد: " ما سمعت شيئا إلا كتبته، ولا كتبته إلا حفظته، ولا حفظته إلا نفعني " (4) .
فينبغي للداعية إلى الله - عز وجل - أن يحرص على كتابة العلم عن أهله، ومراجعته
_________
(1) فتح الباري، 8 / 519.
(2) جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر 1 / 245، 322 برقم 275، 418.
(3) المرجع السابق 1 / 328، برقم 429.
(4) المرجع السابق 1 / 335، بر قم 447.(1/211)
حتى يحفظه ويعمل به؛ لأن الجمع بين الكتابة والحفظ من تمام الضبط، والعلم صيد فليقيد بالكتابة.
ثالثا: من صفات الداعية: العقل السليم، والنشاط، والأمانة، والخبرة: دل الحديث على هذه الصفات الأربع، لقول أبي بكر - بحضرة عمر - لزيد بن ثابت - رضي الله عنهم: " إنك رجل شاب، عاقل، ولا نتهمك، وكنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وهذه الصفات بشيء مْن التفصيل على النحو الآتي:
1 - العقل السليم: قال العلامة الأصفهاني - رحمه الله: " العقل يقال للقوة المتهيِّئة لقبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإِنسان بتلك القوة: عقل. . . " (1) . ثم بَيَّنَ - رحمه الله - أن كل موضع في القرآن الكريم رفع فيه التكليف عن العبد لعدم العقل فإشارة إلى الأول، وأن الثاني هو المعني بقوله تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] (2) . فاتضح أن العقل السليم: هو المتصف بالعلم النافع والعمل الصالح (3) . وقد جاء في كلام العلامة القسطلاني على قول أبي بكر - رضي الله عنه لزيد: " إنك. . . عاقل ولا نتهمك " قوله - رحمه الله: " فيه تمام معرفته، وغزارة علمه، وشدة تحقيقه، وتمكنه من هذا الشأن " (4) .
وهذا يبيِّن للداعية أهمية الاتصاف بالعقل السليم؛ ولهذا ذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - أن زيد بن ثابت - رضي الله عنه: " لو لم تثبت أمانته وكفايته، وعقله، لما استكتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي، وإنما وصفه بالعقل وعدم الاتهام دون ما عداهما إشارة إلى استمرار ذلك له، وإلا فمجرد قوله " لا نتهمك " مع قوله " عاقل " لا يكفي في ثبوت الكفاية والأمانة، فكم من بارع في العقل والمعرفة وجدت منه الخيانة " (5) .
_________
(1) مفردات ألفاظ القرآن الكريم، ص 577.
(2) سورة العنكبوت، الآية (43) .
(3) انظر: مفردات ألفاظ القرآن الكريم للأصفهاني ص 578.
(4) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، 7 / 447.
(5) فتح الباري 13 / 184.(1/212)
2 - النشاط: ظهر في الحديث أن النشاط صفة من صفات الداعية؛ ولهذا بين العلامة القسطلاني - رحمه الله - في شرحه لقوله: " إنك رجل شاب " قال في ذلك: " إشارة إلى نشاطه وقوته فيما يطلب منه، وبعده عن النسيان، وحدة نظره، وضبطه وإتقانه " (1) .
وهذا يوضح للداعية أهمية النشاط وعدم الكسل، وأن يستعين بالله - تعالى -ولا يعجز ولا يكسل (2) .
3 - الأمانة: يظهر في الحديث أن الأمانة صفة من صفات الداعية؛ قال العلامة العيني - رحمه الله - على قوله: " ولا نتهمك وكنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ": " وكتابة الوحي تدل على أمانته الغاية، وكيف وكان من فضلاء الصحابة ومن أصحاب الفتوى " (3) . وقال العلامة القسطلاني - رحمه الله: " ولا نتهمك ": " بكذب ولا نسيان، والذي لا يتهم تركن النفس إليه " (4) .
وهذا يبين أن الأمانة صفة لابد منها للداعية إلى الله - سبحانه وتعالى - قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] (5) .
4 - الخبرة: دل الحديث على أن الخبرة والممارسة صفة من صفات الداعية؛ ولهذا قال أبو بكر - رضي الله عنه - لزيد بن ثابت - رضي الله عنه: " وكنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قال القسطلاني - رحمه الله: " فهو أكثر ممارسة له من غيره " (6) . ولا شك أن الخبرة والتجارب تعين الداعية إلى الله، عز وجل، وبها يعرف أحوال الناس، فيدعو إلى الله على بصيرة.
وهذه الصفات الأربع المتقدمة آنفا من أعظم صفات الدعاة إلى الله عز وجل؛
_________
(1) انظر: إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 7 / 163، 7 / 447.
(2) انظر: الحديث رقم 14، الدرس الرابع.
(3) عمدة القاري 18 / 281.
(4) إرشاد الساري 7 / 163، 447، وانظر: 5 / 46.
(5) سورة الأنفال، الآية: (27) .
(6) إرشاد الساري، 7 / 163.(1/213)
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى - في وصف أبي بكر لزيد بن ثابت رضي الله عنهما: " ذكر له أربع صفات مقتضية خصوصيته بذلك: كونه شابا فيكون أنشط لما طلب منه، وكونه عاقلا فيكون أوعى له، وكونه لا يتهم فتركن النفس إليه، وكونه كان يكتب الوحي فيكون أكثر ممارسة له. وهذه الصفات التي اجتمعت له قد تكون في غيره، لكن مفرقة " (1) .
فينبغي للداعية أن يكون عاقلا، نشيطا، أمينا، مجربا عارفا بالأمور على وجهها. والله المستعان.
رابعا: حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على العناية بالقرآن الكريم: لا شك أن الله - عز وجل - قد تكفل بحفظ القرآن الكريم، بقوله تعالى (: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] (2) وقال عز وجل: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] (3) ومن حفظ الله له - سبحانه وتعالى - أن قيَّض له من يعتني به. وقد دل هذا الحديث على عناية الصحابة - رضي الله عنهم - بالقرآن الكريم، والقرآن الكريم كان مجموعا كله في صدور الرجال أيام حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد روى البخاري - رحمه الله تعالى - عن أنس - رضي الله عنه - قال: " جمع القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة كلهم من الأنصار: أبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد " (4) . وقد كان لهؤلاء شركاء من الصحابة رضي الله عنهم يحفظونه كله، ولكن هؤلاء أشد اشتهارا به، وأكثر تجريدا للعناية بقراءته، ثم جمِعَ القرآن الكريم في المصحف بإتقان من أبي بكر وعمر وهما من الخلفاء الراشدين المأمور بالاقتداء بهم، ووافقهما عثمان، وزيد بن ثابت كاتب الوحي، ثم اتفق الملأ من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين على أن ما بين الدفتين قرآن منزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا في شيء منه (5) .
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 9 / 13، وانظر: 3 / 184.
(2) سورة الحجر، الآية: (9) .
(3) سورة فصلت، الآية: (42) .
(4) البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، 6 / 125، برقم 5003.
(5) انظر: أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، للإمام حَمد بن محمد الخطابي، 3 / 1852- 1860.(1/214)
فينبغي للدعاة إلى الله - عز وجل - العناية بالقرآن الكريم: تَعلما، وحفظا، وتدبرا، وعملا، ودعوة إليه.
خامسا: حرص الصحابة - رضي الله عنهم - علي الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم: دل هذا الحديث على حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما حينما طلب منه أن يجمع القرآن: " كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ " وقال هذه الكلمة زيد بن ثابت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهم: " كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ". وهذا يدل على أن الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفة عظيمة من صفات الصحابة. وينبغي للداعية أن يتصف بهذه الصفة ويحرص عليها أشد الحرص؛ قال الله - عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] (1) .
سادسا: من أساليب الدعوة: الحوار: لا شك أن الحديث دل على أسلوب الحوار، وذلك لما حصل بين أبي بكر وعمر، ثم زيد بن ثابت رضي الله عنهم من الحوار الهادئ، في مسألة جمع القرآن الكريم، ثم اتفقوا بعد هذا الحوار على جمع القرآن الكريم، والحوار في الحقيقة هو مراجعة الكلام وتداوله بين طرفين (2) . وقد جاء في كتاب الله - عز وجل - في مواضع منها قو له سبحانه وتعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] (3) فعلى هذا يكون الحوار أسلوبا نافعا من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل.
فينبغي للداعية إلى الله - عز وجل - أن يعتني بهذا الأسلوب، ويراعي آدابه وشروطه حتى يكون على بصيرة من أمره. والله المستعان (4) .
_________
(1) سورة الأحزاب، الآية: (21) .
(2) انظر: تفسير الطبري " جامع البيان عن تأويل آي القرآن "، 18 / 23، ومفردات القرآن الكريم للراغب الأصفهاني ص 262.
(3) سورة المجادلة، الآية: (1) .
(4) انظر: الحوار: آدابه وضوابطه في ضوء الكتاب والسنة، يحيى بن محمد زمزمي، ص 115، ص 275، ص 425.(1/215)
سابعا: أهمية اختيار الداعية الصالح للأمور المهمة: إن من الأمور المهمة التي ينبغي العناية بها أن يختار الإمام أو نائبه الداعية الصالح للأمور المهمة؛ لأن أبا بكر - رضي الله عنه - اختار زيد بن ثابت لجمع القرآن الكريم؛ لما علم من قوته، وعلمه، وخبرته، ونشاطه لهذا الأمر العظيم؛ ولهذا قال أبو بكر - رضي الله عنه - لزيد رضي الله عنه: " إنك رجل، شاب، عاقل، ولا نتهمك، وكنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتتبع القرآن فاجمعه "، وهذه الصفات الكريمة جعلت أبا بكر يختار زيد بن ثابت لجمع القرآن الكريم (1) .
ثامنا: حرص السلف الصالح على الدقة في ضبط الرواية: إن من الصفات الحميدة، والأخلاق الكريمة، الحرص على الدقة في ضبط الرواية؛ ولهذه الأهمية اعتنى السلف الصالح - رضي الله عنهم - بذلك عناية فائقة، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم اعتنوا بتتبع القرآن من أفواه الرجال، ومن النظر في المكتوب في الصحف حتى يوافق ما حفظ ما كتب فبذلك يحصل اليقين الذي لا يتطرق إليه شك بوجه من الوجوه أن هذا القرآن الذي أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -. فينبغي الاقتداء بالسلف الصالح في الحرص على الدقة في ضبط الرواية (2) . والله المستعان (3) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 67، الدرس الخامس، ورقم 136، الدرس الأول.
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر، 8 / 518، و 9 / 15، وعمدة القاري للعيني، 8 / 282.
(3) انظر: الحديث رقم 21، الدرس العاشر.(1/216)
[باب عمل صالح قبل القتال]
[حديث عمل قليلا وأجر كثيرا]
13 - بَاب: عَمل صالح قَبْلَ القِتَال وَقَالَ أَبو الدَّرْدَاءِ: إِنَّمَا تقَاتِلونَ بِأَعْمَالِكمْ، وَقَوْله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ - كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ - إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 2 - 4] (1) .
30 [ص:2808] حَدَّثَنِي محَمَّد بْن عَبْدِ الرَّحِيمِ: حَدَّثَنَا شَبَابَة بْن سَوَّارٍ الفَزَارِيّ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيل، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْت الْبَراءَ رضي الله عنه (2) . يَقول: «أتى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجل (3) . مقَنَّع بِالحَدِيدِ فَقَالَ: يَا رَسولَ اللهِ، أقَاتِل وأسلِم؟ (4) . قَالَ: " أَسْلِمْ ثمَّ قَاتِلْ "، فَأَسْلَمَ ثَمَّ قَاتَلَ فَقتِلَ. فَقَالَ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " عَمِلَ قَلِيلا وَأجِرَ كَثيرا» (5) .
* شرح غريب الحديث: * " مقنع بالحديد ": هو المتَغطِّي بالسلاح، ويقال: تقنّع بثوبه: أي تَغَطَّى به، وقيل: هو الذي على رأسه بيضة، وهي الخوذة؛ لأن الرأس موضع القناع (6) .
_________
(1) سورة الصف، الآيات (2-4) .
(2) البراء بن عازب بن الحارث الفقيه الكبير أبو عمارة الأنصاري من أعيان الصحابة، رضي الله عنهم، استصغره النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر، وأول مشاهده يوم أحد، وغزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة غزوة، وشهد مع أبي موسى غزوة تستر، ومع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الجمل وصفين، والنهروان، وروي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة وخمسة أحاديث اتفق البخاري ومسلم منها على اثنين وعشرين، وانفرد البخاري بخمسة عشر، ومسلم بستة، نزل الكوفة وتوفى بها زمن مصعب بن الزبير سنة اثنتين وسبعين، وقيل: توفى سنة إحدى وسبعين عن بضع وثمانين سنة رضي الله عنه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 132، وسير أعلام النبلاء للذهبي 3 / 194، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1 / 142.
(3) هو عمرو بن ثابت بن وقيش، ويقال: ابن أقيش، كان يلقب أصيرم، الأنصاري، رضي الله عنه، وكان أبو هريرة يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة ولم يصلِّ صلاة قط؛ فإذا لم يعرفه الناس يسألوه [وفي نسخة: يسألونه] من هو؟ فيقول: هو أصيرم بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن أقيش رضي الله عنه. الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 526، وانظر: فتح الباري له أيضا، 6 / 25.
(4) في الطبعة السلفية المطبوعة مع فتح الباري لابن حجر " أقاتل أو أسلم " أما جميع الطبعات لصحيح البخاري الأخرى التي اطلعت عليها فبحذف الألف " أقاتل وأسلم ".
(5) وأخرجه مسلم، في كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، 3 / 1509، برقم 1900.
(6) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 130، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع النون، مادة: " قنع " 4 / 114.(1/217)
الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: استصحاب النية الصالحة.
2 - أهمية المبادرة والمسارعة إلى الخير.
3 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
4 - أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه.
5 - الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: استصحاب النية الصالحة: دل قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: " عمل قليلا وأجر كثيرا " على أن النية الصالحة أعظم الصفات الحميدة، وأن الإنسان يثاب على العمل القليل الثواب العظيم الكثير بهذه النية؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: " وفي هذا الحديث أن الأجر الكثير قد يحصل بالعمل اليسير، فضلا من الله وإحسانا " (1) . وقال العلامة العيني رحمه الله: ". . . فاستحق بهذا نعيم الأبد في الجنة بإسلامه، وإن كان عملا قليلا؛ لأنه اعتقد أنه لو عاش لكان مؤمنا طول حياته، فنفعته نيته، وإن كان قد تقدمها قليل من العمل، وكذلك الكافر إذا مات ساعة كفره يجب عليه التخليد في النار؛ لأنه انضاف إلى كفره اعتقاد أنه يكون كافرا طول حياته؛ لأن الأعمال بالنيات " (2) .
وهذا يبيِّن للداعية وغيره من المسلمين أهمية النية الصالحة الخالصة لله عز وجل (3) .
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 25.
(2) عمدة القاري بشرح صحيح البخاري 14 / 106.
(3) انظر: الحديث رقم 22، الدرس السادس.(1/218)
ثانيا: أهمية المبادرة والمسارعة على الخير. دل هذا الحديث على المسارعة إلى الخير، قال الإمام النووي رحمه الله: " وفيه المبادرة إلى الخير " (1) . والمسارعة والمبادرة إلى الخير من الأعمال الصالحة التي يبادر إليها أهل الإيمان وخاصة الدعاة إلى الله، سبحانه وتعالى، وقد أمر الله - عز وجل - بالمسارعة إلى الخير فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] (2) وقال عز وجل {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21] (3) .
وقد مدح الله السابقين إلى الخيرات، وعظم شأنهم فقال سبحانه وتعالى أثناء ذكره لصفات المؤمنين الكمَّل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ - أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 60 - 61] (4) . وقال سبحانه وتعالى: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 114] (5) .
وقال عز وجل في الثناء على زكريا وأهله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] (6) . وهذا يبين للداعية إلى الله عز وجل وغيره من المسلمين أهمية المبادرة إلى الخيرات والمسابقة إليها والمسارعة (7) .
ثالثا: من أساليب الدعوة: الترغيب: في هذا الحديث الترغيب في النية الصالحة، وأن العمل القليل الخالص
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم، 13 / 48.
(2) سورة آل عمران، الآية: (133) .
(3) سورة الحديد، الآية: (21) .
(4) سورة المؤمنون، الآية: (60-61) .
(5) سورة آل عمران، الآية: (114) .
(6) سورة الأنبياء، الآية (90) .
(7) انظر: الحديث رقم 16، الدرس الثاني.(1/219)
لله عز وجل يكون كثيرا في الثواب والجزاء؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الرجل الذي لم يصلِّ لله ركعة واحدة، وإنما أسلم فقاتل فقتل: «عمل قليلا وأجر كثيرا» وفي هذا الحديث الترغيب في الجهاد، وأن من قتل في سبيل الله لإِعلاء كلمته - عز وجل - فله الجنة؛ «وقد قال رجل: أين أنا يا رسول الله إن قتلت؟ قال: " في الجنة " فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل» (1) .
قال الإمام النووي رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفيه ثبوت الجنة للشهيد " (2) .
فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يستخدم هذا الأسلوب في دعوته إلى الله سبحانه وتعالى (3) .
رابعا: أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه: دل الحديث على أهمية السؤال عن العلم؛ لأن هذا الرجل عندما أشكل عليه هل يسلم قبل أن يقاتل أو يقاتل ثم يسلم؟ فسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فبيَّن له النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «أسلم ثم قاتل» وهذا يوضح أهمية السؤال عن العلم، وما لا يفهمه الإِنسان؛ ولأهمية السؤال عن العلم قال ابن شهاب رحمه الله: " العلم خزائن ومفاتيحها السؤال " (4) . وكان الأصمعي رحمه الله ينشد:
شفاء العمى طول السؤال وإنما ... تمام العمى طول السكوت على الجهل (5)
وقال آخر:
إذا كنت لا تدري ولم تك بالذي ... يسائل من يدري فكيف إذن تدري
؟ (6) . وقال وهب بن منبه وسليمان بن يسار رحمهما الله: " حسن المسألة نصف العلم " (7) . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " لا يخاف العبد إلا ذنبه، ولا يرجو
_________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، 13 / 48.
(2) شرح صحيح مسلم 13 / 48.
(3) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 18، الدرس الخامس.
(4) أخرجه ابن عبد البر، في جامع ببان العلم وفضله، 1 / 379، برقم 534.
(5) المرجع السابق 1 / 380، برقم 538.
(6) المرجع السابق 1 / 381، برقم 540.
(7) أخرجه ابن عبد البر، في جامع بيان العلم وفضله، 2 / 382، برقم 544.(1/220)
إلا ربه، ولا يستحي جاهل أن يسأل، ولا يستحي عالم إن لم يعلم أن يقول: الله أعلم " (1) .
وهذا يبين أهمية السؤال عن العلم والعناية بذلك (2) .
خامسا: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: في هذا الحديث أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، وذلك أن هذا الرجل تقنع بالحديد، وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقره على ذلك، ولا شك أن التوكل يقوم على ركنين: اعتماد القلب على الله، عز وجل، والعمل بالأسباب المشروعة. يقال: وكلت أمري إلى الله: ألجأته إليه واعتمدت فيه عليه (3) . وقد بين ابن القيم رحمه الله أن من نفى الأسباب لا يستقيم له توكل؛ لأن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه، فهو كالدعاء الذي جعله الله سببا في حصول المدعو به، فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل، ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب، وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، وحال بدنه قيامه بالأسباب، فالأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه، والتوكل متعلق بربوبيته، وقضائه وقدره، فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية، والله عز وجل أعلم (4) .
فينبغي للداعية وغيره من المسلمين أن يتوكل على الله - عز وجل - ويعمل بالأسباب التي شرعها الله عز وجل؛ قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] (5) وقال عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58] (6)
_________
(1) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، 1 / 383، برقم 547.
(2) انظر: الحديث رقم 19، الدرس الرابع.
(3) انظر: مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، مادة: " وكل " ص 882. والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع الكاف، مادة: " وكل " 5 / 221.
(4) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 2 / 118، 120.
(5) سورة المائدة، الآية: (23) .
(6) سورة الفرقان، الآية: (58) .(1/221)
وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] (1) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا» (2) .
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: «قال رجل: يا رسول الله، أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: " اعقلها وتوكل» (3) .
_________
(1) سورة الطلاق، الآية: (3) .
(2) الترمذي، كتاب الزهد، باب في التوكل على الله 4 / 573، برقم 2344، وقال: " هذا حديث حسن صحيح "، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب التوكل واليقين، 2 / 1394، برقم 4164، وصححه الألباني في صحيح الترمذي 2 / 274.
(3) الترمذي، كتاب القيامة، باب، حدثنا عمرو بن علي، 4 / 668، برقم 2517. وحسنه الألباني في صحيح الترمذي 2 / 309.(1/222)
[باب من أتاه سهم غرب فقتله]
[حديث يا أم حارثة إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى]
14 - باب من أتاه سهم غرب فقتله 31 [ص:2809] حَدَّثَنَا محَمَّد بْن عَبْد اللهِ: حَدَّثَنَا حسَيْن بْن محَمَّدٍ أَبو أحمَدَ: حَدَّثَنَا شَيْبَان، عن قَتَادَةَ: حَدَّثَنَا أنس بْن مَالِكٍ (1) «أَنَّ أمَّ الرّبيَّعِ بِنْتَ البَرَاء (2) . وهي أمّ حَارثة بن سراقة (3) . أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالت: يَا نَبِيَّ اللهِ أَلَا تحَدّثنِي عَنْ حَارِثَةَ - وَكَانَ قتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَه سَهْم غَرب- فَإِن كَانَ فِي الجَنَّةِ صَبَرْت وإِنْ كَانَ غَيرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْت عَلَيْهِ فِي البكَاءِ، قَالَ: " يَا أمَّ حَارِثةَ إِنَّهَا جِنَان فِي الجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الفِرْدَوْسَ الأَعْلى» (4) .
وفي رواية: «فَإِنْ يَكنْ فِي الجَنَّةِ أَصْبِرْ وأحتسب، وَإِنْ تَكنِ الأخْرَى تَرَى مَا أَصْنَع؟ قَالَ: " وَيْحَكِ أَوَ هَبِلْتِ؟ أَوَ جَنَّة وَاحِدَة هِيَ؟ إِنَّها جِنَان كَثيرَة وَإِنَّه فِي جَنَّةِ الفِردوْس» (5) .
* شرح غريب الحديث: * " سَهْم غرب " وهو الذي لا يدْرَى مَنْ رَمَى به ويقال: بالإِضافة " سَهْم
_________
(1) أنس بن مالك رضي الله عنه، تقدمت ترجمته في الحديث رقم 14.
(2) أم الربيع بنت البراء أم حارثة بن سراقة، استشهد ابنها حارثة فحزنت، وقيل الربيع بنت النضر عمة أنس، ووقع في صحيح مسلم برقم 1675 عن أنس رضي الله عنه: أن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنسانا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا القصاص القصاص " وفي آخره " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره "، ويقال إنها الربيع بنت النضر كما ثبت في حديث أنس عند البخاري، برقم: 2806، ولكن فيه أنها كسرت ثنية امرأة. قال ابن حجر رحمه الله: " ولا يبعد تعدد القصة " انظر: الإصابة في تمييز الصحابة 4 / 449 و 301 وقال النووي رحمه الله " إنهما قضيتان: أما الربيع الجارحة في رواية البخاري وأخت الجارحة في رواية مسلم فهي بضم الراء وفتح الباء وتشديد الياء، وأما الربيع الحالفة في رواية مسلم فهي بفتح الراء، وكسر الباء، وتخفيف الياء " شرح صحيح مسلم 11 / 175 ثم رجح ابن حجر رحمه الله تعالى أن ذكر أم الربيع بنت البراء عند جميع رواة البخاري وهم، وإنما هي الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك بن النضر، وهي أم حارثة بن سراقة بن الحارث، وقال: " والخطب فيه سهل ولا يقدح ذلك في صحة الحديث ولا في ضبط رواته " فتح الباري 6 / 26.
(3) حارثة بن سراقة، بن الحارث بن عدي الأنصاري النجاري، وأمه الربيع التي تقدمت ترجمتها آنفا، استشهد يوم بدر كما ذكر البخاري، رحمه الله، وشهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه أصاب الفردوس الأعلى في الجنة - رضي الله عنه. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة 1 / 297، و 4 / 301، 449.
(4) [الحديث 2809، أطرافه في: كتاب المغازي، باب فضل من شهد بدرا، 5 / 12، برقم 3982. وكتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، 7 / 256، برقم 6550. و 7 / 259، برقم 6567.
(5) من الطرف رقم 3982.(1/223)
غَرْب " وقيل: هو بالسكون إذا أتاه من حيث لا يدري، وبالفتح " سَهْم غَرَب " إذا رماه فأصاب غيره (1) .
* " ويحك " كلمة تَرحّمٍ وتَوَجعٍ، تقال: لمن وقع في هلكة لا يستحقها، فيرثى له، ويتحزّن عليه " بويح " (2) .
* " أَوَ هَبِلتِ " والمعنى أفقدتِ عقلكِ بفقد ابنكِ حتى جعلتِ الجنان جنة واحدة (3) .
* " الفردوس ": هو البستان الذي فيه العنب والأشجار، ويجمع كل شيء من ثمار البساتين، والجمع فراديس، وفيه جنة الفردوس (4) .
* " الجنة ": دار النعيم في الدار الآخرة، من الاجتنان: وهو الستر، لتكاثف أشجارها، وتظليلها بالتفاف أغصانها، وسميت بالجنة: وهي المرة الواحدة من مصدر جَنَّه جَنّا: إذا ستره، فكأنها سَتْرَة واحدة؟ لشدة التفافها وإظلالها (5) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه.
2 - من صفات الداعية: الصبر.
3 - من صفات الداعية: احتساب الأجر والثواب.
4 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
5 - من أساليب الدعوة: الاستفهام الإِنكاري.
6 - أهمية الخوف من عذاب الله عز وجل.
_________
(1) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 260، والنهابة في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الغين مع الراء مادة: " غرب " 3 / 350.
(2) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 564، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع الياء، مادة: " ويح " 5 / 235.
(3) انظر: المرجع السابق، باب الهاء مع الباء، مادة: " هبل " 5 / 240.
(4) انظر: المرجع السابق، باب الفاء مع الراء، مادة: " فردس " 3 / 427. وانظر: شرح غريب الحديث رقم 22- 2790، ص 180.
(5) " المرجع السابق، باب الجيم مع النون، مادة: " جنن " 1 / 307.(1/224)
7 - من أصناف المدعوين النساء.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه: في هذا الحديث سؤال أم الربيع للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن ابنها حارثة وإجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بما يسرها. وهذا يبين أهمية سؤال أهل العلم عن كل ما يشكل على الإِنسان حتى يكون على بصيرة من أمره (1) .
ثانيا: من صفات الداعية: الصبر: دل الحديث على أن الصبر من الصفات الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها الدعاة إلى الله - عز وجل - قال الله عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ - أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157] (2) وقد بينت أم الربيع للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنها ستصبر على ما أصيبت به من قتل ابنها حارثة رضي الله عنه (3) .
ثالثا: من صفات الداعية: احتساب الأجر والثواب: في قول أم الربيع - رضي الله عنها: " وأحتسب " دليل أن الاحتساب من الصفات التي يرغب فيها المؤمن، وخاصة الدعاة إلى الله، عز وجل، والإِنسان معرض للمصائب والأقدار المؤلمة، والمشاق والمتاعب، فينبغي للمؤمن أن يحتسب الثواب من الله - عز وجل - في كل ما يصيبه (4) .
رابعا: من أساليب الدعوة: الترغيب: ظهر في هذا الحديث أسلوب الترغيب في قوله - صلى الله عليه وسلم - في شأن حارثة بن سراقة
_________
(1) انظر: الحديث رقم 30، الدرس الرابع.
(2) سورة: البقرة، الآيات: (155-157) .
(3) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 27، الدرس الأول، ورقم 28، الدرس السادس.
(4) انظر: الحديث رقم 27، الدرس الثاني.(1/225)
رضي الله عنه: «إنها جنان كثيرة في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى» وهذا يبين أن كل من خرج في سبيل الله - عز وجل - فقتل فهو شهيد، ولو برمية طائشة، وأن منازل الشهداء في الفردوس الأعلى (1) فينبغي للداعية إلى الله - عز وجل - أن يرَغِّبَ المدعوين، ويبيِّن لهم ما أعد الله لعباده في جنات النعيم؛ لأن معرفة ما أعده الله للمؤمنين في الجنة تهوِّن المصائب (2) .
خامسا: من أساليب الدعوة: الاستفهام الإنكاري: إن الاستفهام الإِنكاري من الأساليب النافعة في الدعوة إلى الله، سبحانه وتعالى، وقد ظهر هذا الأسلوب في هذا الحديث؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأم الربيع: «ويحك أَوَهبلت؟ أوجنة واحدة هي؟» قال العلامة العيني رحمه الله: " الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الإِنكار، والواو للعطف " (3) .
وهذا يبين للداعية أهمية أسلوب الاستفهام الإِنكاري في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى عند الحاجة إليه (4) .
سادسا: أهمية الخوف من عذاب الله عز وجل: إن الخوف من الله - عز وجل - وعذابه وانتقامه من أهم الصفات الحميدة التي ينبغي لكل مسلم أن يتصف بها وخاصة الدعاة إلى الله، عز وجل، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث؛ لخوف أم الربيع - رضي الله عنها - على ابنها حارثة من عذاب الله عز وجل. قال ابن العربي - رحمه الله - في فوائد هذا الحديث: " حمل أم حارثة كثرة الإِشفاق على الخوف عليه وقد مات مجاهدا مسلما، فلم تقنع بهذا الظاهر، مخافة من العذاب بذنوبه، فأعطاها النبي - صلى الله عليه وسلم - اليقين بنجاته (5) .
وينبغي للداعية أن يقرن الخوف بالرجاء: يخاف الله، ويرجو ثوابه ورحمته
_________
(1) انظر: منار القاري، في شرح مختصر صحيح البخاري، لحمزة محمد قاسم، 4 / 89.
(2) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 19، الدرس الأول.
(3) عمدة القاري، شرح صحيح البخاري، 17 / 95.
(4) انظر: الحديث رقم 4، الدرس الرابع.
(5) " عارضة الأحوذي بشرح سنن الترمذي، 6 / 257.(1/226)
ورضوانه، وقد بين الله - عز وجل - أن ذلك من صفات المؤمنين فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 57 - 58] (1) وقال عز وجل: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] (2) .
سابعا: من أصناف المدعوين: النساء: لا شك أن الداعية يدعو إلى الله - عز وجل - جميع أصناف الناس، ولكن المقصود: هو استخراج فوائد الحديث الدعوية وإبرازها للاستفادة منها، فقد دل هذا الحديث على أن النساء من أصناف المدعوين؛ ولهذا بين - صلى الله عليه وسلم - لأم الربيع ما أعده الله لابنها من الكرامة والفوز العظيم، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يعظ النساء ويذكرهن، فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار " فقالت امرأة منهن جزلة: ما لنا يا رسول الله، أكثر أهل النار؟ قال: " تكثرن اللعن وتكفرن العشير» (3) .
فينبغي للداعية أن يعتني بأصناف المدعوين ويخاطب كلا على قدر فهمه وعقله، ولكن عليه أن ينتبه للضوابط الشرعية، فلا يخلو بالمرأة غير المحرم، ولا ينظر إلى ما حرم الله عليه، ولا يعرّض نفسه للتهم والريب، ومواطن الشبه.
_________
(1) سورة المؤمنون، الآيتان: (57-58) .
(2) سورة الإسراء، الآية: (57) .
(3) متفق عليه: البخاري، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، 1 / 90، برقم 304، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقص الإيمان بنقص الطاعات وبيان إطلاق الكفر على غير الكفر بالله، ككفر النعمة والحقوق، 1 / 86، برقم 79.(1/227)
[باب فضل قول الله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا]
[حديث صبح أناس غداة أحد الخمر فقتلوا من يومهم شهداء وذلك قبل تحريمها]
19 - باب فَضْلِ قَوْل اللهِ تعالى {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169 - 171] (1) .
32 [ص:2815] حَدَّثَنَا عَليّ بْن عَبدِ اللهِ: حَدَّثَنَا سفْيان، عَنَ عَمْرٍو: سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ (2) رضي الله عنه يَقول: " اصْطَبَحَ نَاس الْخَمْرَ يَوْمَ أحدٍ، ثمَّ قتِلوا شهَدَاءَ، فَقيْلَ لِسفْيَانَ: مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ؟ قَالَ: لَيْسَ هَذَا فِيهِ " (3) .
وفي رواية: " صَبّحَ أناس غَدَاةَ أحدٍ الْخَمْرَ فَقتِلوا مِنْ يَوْمِهمْ جَمِيعا شهَدَاءَ، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمهَا " (4) .
* شرح غريب الحديث: * " اصطبح الخمر " اصطبح الخمر أناس: أي شربوها أول النهار يوم أحد، ثم قتلوا في ذلك اليوم ولم تكن الخمر قد حرمت يومئذ (5) .
_________
(1) سورة آل عمران، الآيات: (169-171) .
(2) جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الصحابي بن الصحابي، الإمام الكبير المجتهد الحافظ الأنصاري الخزرجي، السلميّ المدني، الفقيه، من أهل بيعة الرضوان، وكان آخر من شهد ليلة العقبة الثانية موتا، روى علما كثيرا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد نقل أنه روى ألفا وخمسمائة وأربعين حديثا (1540) اتفق البخاري ومسلم منها على ستين، وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم بمائة وستة وعشرين. استشهد أبوه يوم أحد، قال جابر رضي الله عنهما: دفنت أبي يوم أحد مع رجل ثم استخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته غير أذنه [رواه البخاري برقم 1352] ، وثبت في [صحيح مسلم برقم 1813] أن جابر بن عبد الله قال: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع عشرة غزوة، ولم أشهد بدرا ولا أحدا منعني أبى [وفي رواية عند الواقدي لم أقدر أن أغزو حتى قتل أبي كان يخلِّفني على أخواتي وكن تسعا] فلما قتل أبي يوم أحد لم أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة قط. توفي رضي الله عنه بالمدينة سنة ثلاث وسبعين، وقيل ثمان وسبعين، وقيل ثمان وستين وهو ابن أربع وتسعين سنة رضي الله عنه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 142، وسير أعلام النبلاء للذهبي 3 / 189- 194، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 1 / 213.
(3) [الحديث 2815] طرفاه في: كتاب المغازي، باب غزوة أحد، 5 / 36، برقم 4044. وكتاب تفسير القرآن، 5 سورة المائدة، باب قوله تعالى إِنَّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِر وَالْأَنْصَاب وَالْأَزْلَام رِجْس مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، 5 / 225، برقم 4618.
(4) الطرف رقم 4618.
(5) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 213.(1/228)
* " الخمر " اسم لكل مسكر خامر العقل: أي غطاه (1) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من خصائص الإسلام: رفع الحرج.
2 - من أساليب الدعوة: التدرج.
3 - من تاريخ الدعوة: ذكر تحريم الخمر بعد غزوة أحد.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من خصائص الإسلام: رفع الحرج: دل هذا الحديث على أن من خصائص الإِسلام رفع الحرج عن هذه الأمة؛ لأن الإنسان لا يؤاخذ بفعل المباح قبل التحريم؛ قال العلامة العيني رحمه الله: "الخمر التي شربوها ذلك اليوم لم تضرهم؛ لأنها كانت مباحة في وقت شربها؛ وقد أثنى الله عليهم بعد موتهم، ورفع عنهم الخوف والحزن " (2) . فمن رحمة الله تعالى أنه لا يؤاخذ عباده على فعل ما لم يحرمه عليهم؛ قال الله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (3) والحمد لله رب العالمين (4) .
ثانيا: من أساليب الدعوة: التدرج: لا شك أن هذا الحديث دل على التدرج في تحريم الخمر؛ لأنها كانت مباحة زمنا في أول الإِسلام ثم حرمت في سنة ثلاث من الهجرة، ولا شك أن القرآن قد بين التدرج في تحريمها، فأنزل الله - عز وجل - تحريم الخمر على ثلاثة أوجه:
1 - أنزل عز وجل قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] (5) .
_________
(1) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي تأليف أحمد الفيومي، 1 / 182.
(2) عمدة القاري شرح صحيح البخاري 14 / 113، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 8 / 278.
(3) سورة الحج، الآية: (78) .
(4) انظر: الحديث رقم 1، الدرس الخامس.
(5) سورة البقرة، الآية: (219) .(1/229)
2 - ثم أنزل قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] (1) فقالوا: لا نشربها عند قرب الصلاة.
3 - ثم أنزل الله عز وجل قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] (2) فحرمت إلى يوم القيامة (3) .
وهذا يبين أهمية التدرج في الدعوة على حسب الأحوال والأزمان، والمدعوين (4) ولهذا قالت عائشة - رضي الله عنها - في التدرج في نزول القرآن: " إنما نزل أول ما نزل منه سور من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا. . . " (5) .
ثالثا: من تاريخ الدعوة: ذكر تحريم الخمر بعد غزوة أحد: دل الحديث على تاريخ الدعوة إلى تحريم الخمر تحريما مؤبدا، وذلك أن تحريمها كان بعد غزوة أحد، في شهر شوال، سنة ثلاث من الهجرة (6) .
_________
(1) سورة النساء، الآية: (43) .
(2) سورة المائدة، الآية: (90) .
(3) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للإمام الطبري، 4 / 331.
(4) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثاني.
(5) البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، 6 / 122، برقم 4996.
(6) انظر: فتح الباري لابن حجر، 8 / 278، وعمدة القاري للعيني، 14 / 113، 17 / 144، 18 / 210.(1/230)
[باب الجنة تحت بارقة السيوف]
[حديث من قتل منا صار إلى الجنة]
22 - باب: الجنة تحت بارقة السيوف وَقَالَ الْمغِيرَة بْن شعْبَةَ: أَخْبَرَنَا نَبِيّنَا - صلى الله عليه وسلم - عنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا: «مَنْ قتِلَ مِنَّا صارَ إِلَى الجَنَّةِ» .
وَقَالَ عمَر للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَليْسَ قتْلاَنا فِي الجَنَّةِ وَقَتْلاَهمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: " بَلَى ".»
33 [ص:2818] حَدَّثَنَا عَبْد اللهِ بن محَمَّدٍ: حَدَّثَنَا معَاوِيَة بْن عَمْرو: حَدَّثَنَا أبو إسْحَاقَ، عَنْ موسَى بْنِ عقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ أَبي النَّضْرِ مَوْلَى عمَرَ بْنِ عبَيدِ اللهِ - وَكَانَ كَاتِبَه - قَالَ: كَتَبَ إِليْهِ عَبْد اللهِ بْن أَبِي أَوفَى (1) رضي الله عنهما أَنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «وَاعْلَموا أَنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السّيوفِ» (2) .
تَابَعَه الأويسِيّ، عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنادِ، عَنْ موسَى بْنِ عقْبَةَ.
وفي رواية: ". . أَنَّ عَبْد اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى كَتَبَ فَقَرَأْته: أَنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «إِذَا لَقيتموهمْ فَاصْبِروا» . . " (3) .
وفي رواية: «أَنَ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقيَ فِيْهَا انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْس، ثمَّ قَامَ فِي النَّاسِ» (4) .
وفي رواية: " ثمَّ قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبا قَال: «أيها النَّاسَ لاَ تَتَمنَّوْا لِقَاءَ الْعَدوِّ، وسَلوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فِإِذَا لَقيتموهمْ فَاصْبِروا، وَاعْلَموا أَنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السّيوفِ» ، ثم قَالَ: «اللَّهمْ منْزِلَ الْكِتَابِ، وَمجْرِيَ السَّحَاب، وَهَازِمَ الأَحْزَاب
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 3- 2740.
(2) [الحديث 2818] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب الصبر عند القتال، 3 / 279، برقم 2833. وكتاب الجهاد والسير، باب كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، 4 / 11 و 12، برقم 2966. وكتاب الجهاد والسير، باب لا تمنوا لقاء العدو، 4 / 30، برقم 3024. وكتاب التمني، باب كراهية تمني لقاء العدو، 8 / 166، برقم 7237. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب كراهية تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء، 3 / 1362، برقم 1742.
(3) من الطرف رقم، 2833.
(4) من الطرف رقم 2965.(1/231)
اهْزِمْهمْ وَانْصرْنَا عَليْهمْ» (1) .
* شرح غريب الحديث: * " الجنة تحت ظلال السيوف " هو كناية عن الدّنوِّ من القتال في الجهاد حتى يعلوه السيف ويصيرَ ظله عليه، والظِّلّ: الفَيء الحاصل من الحاجز بينك وبين الشمس (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من وسائل الدعوة إلى الله: الكتابة.
2 - من موضوعات الدعوة: الحث على سلوك الأدب وتعليم المدعوين ما يحتاجون إليه.
3 - من وسائل الدعوة: مراعاة نشاط المدعو.
4 - من أساليب الدعوة: التشبيه.
5 - من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد.
6 - من موضوعات الدعوة: الحث على الدعاء.
7 - من صفات الداعية: الصبر.
8 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
9 - من وسائل الدعوة: اغتنام التذكير عند الحوادث الملمة.
10 - من وسائل الدعوة: الخطابة.
11 - من صفات الداعية: التواضع.
12 - من أسباب نصر الداعية: الدعاء.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد على النحو الآتي:
أولا: من وسائل الدعوة إلى الله: الكتابة: دل الحديث على أن الكتابة من وسائل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛
_________
(1) الطرف رقم 2966.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الظاء مع اللام، مادة: " ظلل " 3 / 159.(1/232)
لأن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - كتب إلى مولى عمر بن عبيد الله: «واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» وهذا يبين للدعاة أن الكتابة من: الكتاب، والرسالة، والمقال، من أهم وسائل الدعوة إلى الله تعالى؛ وقد جاءت رواية مسلم ". . . عن أبي النضر عن كتاب رجل من أسلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له عبد الله بن أبي أوفى، فكتب إلى عمر بن عبيد الله حين سار إلى الحرورية. . . " (1) . قال الإمام النووي رحمه الله على قوله: " عن أبي النضر عن كتاب رجل من أسلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. . . " قال: قال الدارقطني: " واتفاق البخاري ومسلم على روايته حجة في جواز العمل بالمكاتبة، والإجازة. . . وبه قال جماهير العلماء " (2) .
ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحث على سلوك الأدب وتعليم المدعوين ما يحتاجون إليه: ظهر في هذا الحديث أن الحث على سلوك الأدب، وتعليم المدعوين ما يحتاجون إليه من الموضوعات المهمة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حث على ذلك بقوله وفعله، فقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن تمنِّي لقاء العدو، وحث على الصبر عند اللقاء، وَرَغَّبَ أصحابه في الجنة، وبين لهم بفعله - صلى الله عليه وسلم - أهمية الدعاء، وآدابه، لأنه دعا الله - عز وجل - بما يناسب حاجته في قوله: «اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم» ؛ قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عند ذكره لفوائد هذا الحديث: ". . . فيه وصية المقاتلين بما فيه صلاح أمرهم، وتعليمهم ما يحتاجون إليه، وسؤال الله بصفاته العلى، وبنعمه السالفة، والحث على سلوك الأدب وغير ذلك " (3) .
ثالثا: من وسائل الدعوة: مراعاة نشاط المدعو: في هذا الحديث دلالة واضحة على أنه ينبغي للداعية أن يراعي أوقات نشاط المدعو؛ فقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس ثم قاتل قال الإمام النووي رحمه الله: " قال العلماء سببه أنه أمكن للقتال؛ فإنه وقت
_________
(1) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كراهية تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء، 3 / 1362، برقم 1742.
(2) شرح صحيح مسلم، 12 / 291.
(3) فتح الباري، بشرح صحيح البخاري، 6 / 157، وانظر: بهجة النفوس، لابن أبي جمرة، 3 / 157.(1/233)
هبوب الريح، ونشاط النفوس، وكلما طال ازدادوا نشاطا وإقداما على عدوهم " (1) . وهذا يوضح للداعية أهمية مراعاة أحوال النشاط عند المدعوين؛ لأن هذا من أهم وسائل الدعوة إلى الله عز وجل. (2) .
رابعا: من أساليب الدعوة: التشبيه: لا شك أن التشبيه يقرب المراد ويوصله إلى ذهن السامع؛ ولهذا كان التشبيه من الأساليب النافعة في الدعوة إلى الله تعالى، ويؤخذ هذا الأسلوب في هذا الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» قال الإمام ابن الأثير رحمه الله: " وهذا من باب الكناية والاستعارة، وهو حث على الجهاد؛ لأن الإنسان يميل إلى الظل طلبا للراحة، فقيل له: إن الجنة تحت ظلال السيوف، فمن أرادها فليدخل تحت السيف، بأن يحمله ويقاتل به، ويصبر على ألم وقعه " (3) .
وهذا يبين أهمية أسلوب التشبيه في الدعوة إلى الله عز وجل (4) .
خامسا: من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد: دل هذا الحديث على أن الحث والحض على الجهاد من موضوعات الدعوة إلى الله عز وجل، وقد ظهر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» قال الإمام القرطبي رحمه الله: ". . . استفيد منه مع وجازته الحض على الجهاد، والإخبار بالثواب عليه، والحض على مقاربة العدوِّ، واستعمال السيوف. . . " (5) .
وهذا يبين أهمية الجهاد والحض عليه، وأنه من موضوعات الدعوة إلى الله عز وجل (6) .
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 290، وانظر. بهجة النفوس لابن أبي جمرة 3 / 134.
(2) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثامن.
(3) جامع الأصول من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - 2 / 568، وبهجة النفوس لابن أبي جمرة 3 / 136.
(4) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الرابع، ورقم 19، الدرس الخامس.
(5) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3 / 523.
(6) انظر: الحديث رقم 18، الدرس: الثاني.(1/234)
سادسا: من موضوعات الدعوة: الحث على الدعاء: إن من الموضوعات المهمة: الحض على الدعاء، والإكثار منه في الرخاء والشدة، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تتمنوا لقاء العدوِّ وسلوا الله العافية» ، وهذا يؤكد أهمية الدعاء والإِلحاح فيه (1) .
سابعا: من صفات الداعية: الصبر: الصبر من الصفات الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها الداعية إلى الله، عز وجل، وقد دل هذا الحديث على هذه الصفة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا لقيتموهم فاصبروا» قال الإمام ابن أبي جمرة - رحمه الله: " أي إذا قابلتم المشركين فاثبتوا، وقفوا؛ لأن الثبات عند المقابلة: هو المطلوب، والفرار من كبائر الذنوب، وفيه دليل على الصبر عند نزول المحنة " (2) ولا شك أن لقاء العدو فيه ابتلاء وامتحان؛ ولهذا أمِرَ بالصبر فيه (3) . وهذا يبين أهمية الصبر في الدعوة إلى الله عز وجل (4) .
ثامنا: من أساليب الدعوة: الترغيب: في هذا الحديث دليل على الترغيب في الجهاد في سبيل الله تعالى؛ لأن بالجهاد تحصل الشهادة، والشهيد في أعلى درجات الجنة؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» قال الإمام القرطبي رحمه الله: " هذا من الكلام البديع النفيس الذي جمع ضروب البلاغة: جزالة اللفظ وعذوبته، وحسن استعارته وشمول المعاني الكثيرة مع الألفاظ المعسولة الوجيزة " ثم قال: " فإنه استفيد منه مع وجازته الحض على الجهاد والإخبار بالثواب عليه " (5) . ومعلوم أن الترغيب يجذب القلوب إلى المرغب فيه، فينبغي أن يعتني به الداعية إلى الله عز وجل (6) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 22، الدرس السادس.
(2) بهجة النفوس، 3 / 136.
(3) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 3 / 523.
(4) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 27، الدرس الأول، ورقم 28، الدرس السادس.
(5) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3 / 525.
(6) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الخامس.(1/235)
تاسعا: من وسائل الدعوة: اغتنام التذكير عند الحوادث الملمة: دل الحديث على أن من وسائل الدعوة اغتنام التذكير عند الحوادث العظيمة ونحوها التي تقع؛ لأن المدعو في الغالب يستفيد من ذلك؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكَّر أصحابه في هذا الحديث ووعظهم عند إرادة القتال؛ قال الإمام ابن أبي جمرة رحمه الله: " وفيه دليل على التذكار عند نزول الحوادث الملمة، وإن كان من نزل به ذلك عارفا بها؛ لأن التذكار زيادة قوة للمذكّر وإن كان عارفا بذلك " (1) .
ومثل هذا ما ثبت عن أبي بكر - رضي الله عنه - عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قام في الناس وخطبهم، وذكرهم قَولَه تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] (2) فكأنهم سمعوها أول مرة، فتسلَّوا بها، وقوي بها إيمانهم ويقينهم، فما سَمِع أحد بشرا منهم إلا وهو يتلوها، مع أن العلم كان لهم بها قبل ذلك (3) .
وهذا يدل على أهمية التذكير عند الحوادث والمصائب الحاصلة للمدعوين، ولكن بالحكمة. أسأل الله لي ولِجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
عاشرا: من وسائل الدعوة: الخطابة: إن الخطابة من أهم وسائل الدعوة إلى الله، عز وجل، لقول عبد الله بن أبي أوفى في هذا الحديث: " ثم قام في الناس خطيبا، قال: «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو» .
فينبغي للداعية أن يعتني بوسيلة الخطابة حتى ينفع الناس (4) وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس خطبا دائمة ثابتة: كخطبة يوم الجمعة، وخطبا عارضة إذا دعت الحاجة إليها، قام فخطب - صلى الله عليه وسلم - وهذه كثيرة جدا (5) .
_________
(1) بهجة النفوس، 3 / 135.
(2) سورة آل عمران، الآية: (144) .
(3) انظر: بهجة النفوس لابن أبي جمرة، 3 / 135.
(4) انظر: الحديث رقم 7، الدرس السادس.
(5) انظر: شرح رياض الصالحين، للعلامة، محمد بن صالح العثيمين 1 / 222.(1/236)
الحادي عشر: من صفات الداعية: التواضع: لا ريب أن مفهوم الحديث يدل على أن التواضع من الصفات التي ينبغي أن تتوفر في الداعية إلى الله، عز وجل، وهذا يظهر من نهيه صلى الله عليه وسلم عن تمني لقاء العدو؛ قال الإمام النووي - رحمه الله: " إنما نهى عن تمني لقاء العدو؛ لما فيه من صورة الإِعجاب والاتكال على النفس، والوثوق بالقوة، وهو نوع بغي، وقد تضمن الله لمن بغي عليه أن ينصره؛ ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو واحتقاره، وهذا يخالف الاحتياط والحزم " (1) .
وهذا يوضح أهمية التواضع والخشوع لله وحده، وطلب العون منه عز وجل (2) .
الثاني عشر: من أسباب نصر الداعية: الدعاء: إن في هذا الحديث دلالة على أهمية الدعاء، وسؤال الله - عز وجل - بأسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - فيه: «اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم» وقد ذكر الإمام النووي والحافظ ابن حجر رحمهما الله: أن مما يستفاد من هذا الحديث: استحباب الدعاء عند اللقاء والاستنصار (3) .
ومما يدل على أن الدعاء من أسباب النصر قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أيضا: «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدوِّ واسألوا الله العافية» قال الإمام النووي رحمه الله: " وقد كثرت الأحاديث في الأمر بسؤال العافية، وهي من الألفاظ العامة المتناولة لرفع جميع المكروهات: في البدن، والباطن، في الدين، والدنيا والآخرة " (4) .
وقد جمع الله - عز وجل - أسباب النصر على الأعداء في قوله سبحانه وتعالى:
_________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي 12 / 289، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 13 / 32.
(2) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثالث.
(3) شرح صحيح مسلم للنووي 12 / 291، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 157.
(4) شرح صحيح مسلم، 12 / 290.(1/237)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ - وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 45 - 47] (1) .
فقد ذكر عز وجل ستة أسباب من أسباب النصر: الثبات، وذكر الله كثيرا، وطاعة الله ورسوله، وعدم التنازع، والصبر، والتواضع وعدم الكبر.
فينبغي للمسلم وخاصة الدعاة: أن يعتنوا بالدعاء والذكر، ولا يغفلوا عن أسباب النصر التي ذكرها الله - عز وجل - وبينها رسوله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
_________
(1) سورة الأنفال، الآية: (45-47) .
(2) انظر: الحديث رقم 22، الدرس السابع.(1/238)
[باب من طلب الولد للجهاد]
[حديث نبي الله سليمان لأطوفن الليلة على مائة امرأة]
23 - باب من طلب الولد للجهاد 34 [ص:2819] وَقالَ اللَّيث: حَدَّثَني جَعْفَر بْن رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بنِ هرْمزَ قَالَ: سَمعْت أَبَا هرَيْرَةَ (1) رضي الله عنه، عَنْ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَالَ سلَيْمَان بْن دَاودَ عَلَيهِمَا السَّلَام: لأَطوفَنَّ اللَّيْلةَ عَلَى مِائة امْرَأَةٍ - أَوْ تِسْعٍ وتسعِينَ - كلهنَّ يَأْتي بِفَارِسٍ يجَاهِد فِي سَبيلِ اللهِ. فَقَالَ لَه صَاحِبه: قلْ: إِنْ شَاءَ الله، فَلَمْ يَقلْ إِنْ شَاءَ الله، فَلَمْ تَحْمِلْ منْهن إِلا امْرَأَة وَاحِدَة جَاءَتْ بشِقِّ رَجلٍ. وَالَّذِي نَفْس محَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ الله، لَجَاهَدوا فِي سبِيلِ اللهِ فرسَانا أَجْمَعونَ» (2) .
وفي رواية: «فَقَالَ لَه المَلَك: قلْ إِنْ شَاءَ الله، فَلَمْ يَقلْ وَنَسِيَ، فَأَطَافَ بِهِنَّ وَلَم تَلِدْ مِنْهنَّ إِلا امْرَأَة نِصْفَ إِنْسَانٍ فَقَالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ الله لَمْ يَحْنثْ وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ» (3) .
وفي رواية: «فَقَالَ لَه صَاحِبه: قَالَ سفْيَان: يَعني الْمَلَكَ، قلْ إِنْ شَاءَ الله فَنَسِيَ» . وفيها: «لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ الله لم يَحْنَثْ وَكَانَ دَرَكا فِي حَاجَتِهِ» (4) .
* شرح غريب الحديث: * " شق رجل " الشق النصف (5) .
* " لم يحنث " الحنث في اليمين: نقضها والنكث فيها، يقال: حنث في يمينه يحنث، وكأنه من الحِنث: الإِثم والمعصية (6) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 7.
(2) [الحديث 2819] أطرافه في: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى وَوَهَبْنَا لِدَاودَ سلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْد إِنَّه أَوَّاب، 4 / 164، برقم 3424. وكتاب النكاح، باب قول الرجل: لأطوفن الليلة على نسائي، 6 / 196، برقم 5242. وكتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -، 7 / 279، برقم 6639. وكتاب كفارات الأيمان، باب الاستثناء في الأيمان، 7 / 302، برقم 6720. وكتاب التوحيد، باب في المشيئة والإرادة، 8 / 241 و 242، برقم 7469. وأخرجه مسلم في كتاب الأيمان، باب الاستثناء، 3 / 1275، برقم 1654.
(3) من الطرف رقم: 5242.
(4) من الطرف رقم: 6720.
(5) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الشين مع القاف، مادة: " شقق " 2 / 491.
(6) المرجع السابق، باب الحاء مع النون، مادة: " حنث " 1 / 449.(1/239)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - حرص الأنبياء على الجهاد في سبيل الله عز وجل.
2 - أهمية قول المسلم: إن شاء الله لما يريد عمله في المستقبل.
3 - عمل الأسباب لا ينافي التوكل.
4 - من أساليب الدعوة: القصص.
5 - حرص السلف على الدقة في نقل الحديث.
6 - من صفات الداعية: النية الصالحة.
7 - من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم.
8 - أهمية تذكير الناسي ولو كان عظيما.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: حرص الأنبياء على الجهاد في سبيل الله عز وجل: إن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - هم أحرص الناس على الجهاد في سبيل الله عز وجل لإِعلاء كلمة الله؛ ولهذا قال سليمان - صلى الله عليه وسلم -: «لأطوفن الليلة على- مائة امرأة- أو تسع وتسعين- كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله» ، وهذا يؤكد الحرص العظيم على الجهاد؛ لأنه قصد بإتيانه لأهله الرغبة في الحصول على المجاهدين، ولكن الله - عز وجل - لم يرد له هذا فلم يقل: " إن شاء الله ". فينبغي للداعية أن يكون حريصا على الجهاد، ويستصحب النية للإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل.
ثانيا: أهمية قول المسلم: إن شاء الله لما يريد عمله في المستقبل: دل هذا الحديث على أهمية قول المسلم: إن شاء الله؛ لما يخبر بعمله في المستقبل؛ ولهذا لما نسي سليمان - صلى الله عليه وسلم - أن يقولها يحصل له ما أراد؛ ولأجل ذلك قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله» وفي الرواية الأخرى: «لو قال إن شاء الله لم يحنث، وكان دركا لحاجته» .
وقد أمر الله بذلك فقال عز وجل: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23](1/240)
{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] (1) وهذا يوضح للداعية أهمية هذا الأدب وأنه ينبغي له العمل به (2) .
ثالثا: عمل الأسباب لا ينافي التوكل: لا شك أن عمل الأسباب لا بد منه، ولكن لا بد مع الأسباب من اعتماد القلب على الله - عز وجل - قال ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث فضل فعل الخير وتعاطي أسبابه " (3) . وهذا سليمان - صلى الله عليه وسلم - يفعل ما أقسم عليه من طوافه على أهله، وهذا من أعظم الأسباب للحصول على الذرية، فينبغي للداعية إلى الله تعالى أن يأخذ بالأسباب ويعتمد قلبه على الله - عز وجل - وحده (4) .
رابعا: من أساليب الدعوة: القصص: القصص من القرآن الكريم، والحديث الصحيح من أهم أساليب الدعوة؛ لما له من التأثير في النفوس، وقد دل هذا الحديث على هذا الأسلوب، فقص علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - قصة سليمان وما فيها من قدرة الله تعالى، فيحسن ويجمل للداعية أن يعتني بهذا الأسلوب عناية فائقة؛ لما له من الأهمية (5) .
خامسا: حرص السلف على الدقة في نقل الحديث: دل الحديث على عناية السلف الصالح عناية فائقة بنقل الحديث وتبليغه؛ وقد ثبت في هذا الحديث قول سليمان - صلى الله عليه وسلم -: «لأطوفن الليلة على مائة امرأة- أو تسع وتسعين» قال الإمام ابن أبي جمرة رحمه الله: " شَكّ من راوي الحديث في أيهما قال عليه السلام " (6) وهذا يوضح للدعاة إلى الله - عز وجل - أهمية ضبط الحديث ونقله بدقة كما فعل السلف رحمهم الله (7) .
_________
(1) سورة الكهف، الآيتان: (23-24) .
(2) انظر: شرح مشكل الآثار، للإمام أحمد بن محمد الطحاوي 5 / 183، وبهجة النفوس لابن أبي جمرة، 3 / 106 - 108، وشرح الكرماني على صحيح البخاري 23 / 100.
(3) فتح الباري، 6 / 461.
(4) انظر: الحديث رقم 30، الدرس: الخامس.
(5) انظر: الحديث رقم 28، الدرس: الثامن.
(6) بهجة النفوس، 3 / 105.
(7) انظر: الحديث رقم 21، الدرس: العاشر، ورقم 29، الدرس الثامن.(1/241)
سادسا: من صفات الداعية: النية الصالحة: النية الصالحة من أعظم الصفات الحميدة، وقد دل عليها هذا الحديث، وذلك في قول سليمان - صلى الله عليه وسلم -: «. . كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله» ؛ ولهذا بيَّن الإِمام ابن أبي جمرة - رحمه الله - في فوائد هذا الحديث: أن سليمان - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك: " تقوية رجاءٍ منه وإبلاغ في حسن النية؛ لأنه قد تقرر أن نية المؤمن أبلغ من عمله، فهو ينوي ما استطاع أن يعقد النية عليه، فإن قدر عليه فبها ونعمت، وإن عجز فقد حصل له أمر النية " (1) وإذا فعل المسلم ذلك وخاصة الدعاة إلى الله - عز وجل - صار كثير من الأعمال المباحة والملاذ مستحبا بالنية والقصد الحسن (2) والله المستعان (3) .
سابعا: من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم: التوكيد بالقسم من الأساليب المهمة التي تقرب المعاني إلى الأذهان، وتثبتها في القلوب، وتحملها على التصديق، وقد ظهر ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله» وفي قول سليمان - صلى الله عليه وسلم -: «لأطوفن الليلة على مائة امرأة» . فينبغي للداعية أن يعتني بهذا الأسلوب في دعوته إلى الله - عز وجل - عند الحاجة إليه (4) .
ثامنا: أهمية تذكير الناسي ولو كان عظيما: ظهر في هذا الحديث تذكير الملك لسليمان حينما لم يقل إن شاء الله بقوله " قل إن شاء الله " وهذا يبين أهمية تذكير الناسي ولو كان عظيما، وقد قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني» (5) ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - أفضل الخلق، وأنه معصوم فيما يبلغه عن الله عز وجل.
فينبغي للداعية بل لكل مسلم أن يذكِّر الناسي ولو كان عظيما، لما لذلك من الأهمية البالغة، والفوائد النافعة.
_________
(1) بهجة النفوس لابن أبي جمرة، 3 / 106، وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 4 / 636.
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 461- 462.
(3) انظر: الحديث رقم 22، الدرس السادس، ورقم 30، الدرس الأول.
(4) انظر: الحديث رقم 10، الدرس: الخامس.
(5) متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: البخاري، كتاب الصلاة، باب التوجه إلى نحو القبلة حيث كان، 1 / 120، برقم 401. ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود، 1 / 400، برقم 572.(1/242)
[باب الشجاعة في الحرب والجبن]
[حديث لو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم]
24 - باب الشجاعة في الحرب والجبن 35 [ص:2821] حَدَّثَنَا أَبو الْيَمَانِ: أَخبرنَا شعَيْب، عَنِ الزّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عمَر بْن محَمَّدِ بْنِ جبَيْرِ بْنِ مطْعِمٍ: أَنَّ محَمّدَ بْنَ جبَيْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جبير بن مطعم (1) أَنَّه بَيْنَمَا هوَ يَسير مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومَعَه النَّاس مَقْفَلَه مِنْ حنَيْنٍ، فَعَلِقَه النَّاس يَسْألونَه حَتَّى اضْطَرّوه إِلَى سَمرَةٍ فخَطِفتْ رِدَاءَه، فوَقف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: «أَعطوني رِدَائي، لَوْ كَانَ لي عَدَد هَذِهِ العِضَاهِ نَعَما لَقَسَمْته بينَكمْ، ثمَّ لَا تَجِدوني بَخِيلا، وَلا كَذوبا، وَلَا جَبَانا» (2) .
وفي رواية: «. . . وَمَعَه النَّاس مقْبِلا مِنْ حنَيْنٍ عَلِقتْ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الأَعْرَاب، يسألونه. . .» (3) .
* شرح غريب الحديث: * " مَقْفَلة من حنين " القفول: الرجوع من السفر، وقيل القفول: رجوع الجند بعد الغزو، والمعنى: عند رجوعه من غزوة حنين سنة ثمان للهجرة، وحنين وادٍ بين مكة والطائف (4) .
_________
(1) جبير بن مطعِم بن عدي بن نوفل، شيخ قريش في زمانه أبو محمد، ويقال: أبو عدي القرشي النوفلي، ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، من الطلقاء الذين حَسنَ إسلامهم، وقيل أسلم بين الحديبية والفتح، وكان موصوفا بالحلم ونبلِ الرأي كأبيه. وكان أبوه هو الذي قام في نقض صحيفة القطيعة ويحنو على أهل الشعب ويصلهم في السر؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: " لو كان المطعم بن عدي حيّا وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له " [أخرجه البخاري برقم 3139] . وهو الذي أجار النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رجع من الطائف حتى طاف بعمرة. وفد جبير على النبي - صلى الله عليه وسلم - في فداء أسارى بدر فسمعه يقرأ الطور قال: فكان ذلك أول ما دخل الإيمان في قلبي، وفي رواية: فلما بلغ هذه الآية: أَمْ خلِقوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هم الْخَالِقونَ أَمْ خَلَقوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يوقِنونَ أَمْ عِنْدَهمْ خَزَائِن رَبِّكَ أَمْ هم الْمسَيْطِرونَ، كاد قلبي أن يطير [البخاري برقم 4023 و 4854، ومسلم، برقم 463] ، وذكر أنه قال - صلى الله عليه وسلم - له: " لو كان أبوك حيا لوهبتهم له " روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ستين حديثا، اتفق البخاري ومسلم على ستة، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث. توفي رضي الله عنه سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1 / 146، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 3 / 95 -99، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1 / 225.
(2) [الحديث 2821] طرفه في: كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، 4 / 71، برقم 3148.
(3) من الطرف رقم 3148.
(4) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع الفاء 4 / 92، مادة: " قفل " ولسان العرب لابن منظور، 11 / 560 فصل القاف باب اللام مادة: " قفل ".(1/243)
* " علقت " وفي رواية: " فعلقه الناس ": نشبوا وتعلَّقوا به، وقيل: طفقوا (1) .
* " اضطروه ": ألجؤوه، يقال: قد اضطر إلى الشيء: أي ألجئ إليه، والاضطرار إلى الشيء: الاحتياج إليه (2) .
* " سمرة " السمرة: ضرب من الشجر صغار الورق قصار الشوك، وله بَرَمَة صفراء يأكلها الناس، وهي من شجر الطلح، وليس في العضاه شيء أجود خشبا من السمر (3) .
* " العضاه " العضاه: كل شجر عظيم له شوك، وقيل: شجر الشوك: كالطلح، والعوسج، والسدر (4) .
* " نعما ": إبلا. وقيل: الإبل، والبقر، والغنم (5) .
والراجح والله أعلم أنه عام في الأنواع الثلاثة؛ لقوله عز وجل: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] (6) وقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21] (7) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة.
2 - من صفات الداعية: الحلم.
3 - من صفات الداعية: الكرم.
_________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب العين مع اللام، مادة: " علق "، 3 / 288، ولسان العرب لابن منظور، فصل العين باب القاف، مادة: " علق "، 10 / 261.
(2) انظر: لسان العرب لابن منظور، فصل الضاد، باب الراء، 4 / 483، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الضاد مع الراء، 3 / 82.
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع الميم، 2 / 399، ولسان العرب لابن منظور، فصل السين، باب الراء، 4 / 379.
(4) لسان العرب لابن منظور، فصل العين، باب الهاء، مادة: " عضه "، 1 / 516، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب العين مع الضاد، مادة: " عضه " 3 / 255.
(5) لسان العرب لابن منظور، فصل النون باب الميم، 12 / 585، وانظر: شرح صحيح البخاري للكرماني 12 / 120.
(6) سورة المائدة، الآية: (95) .
(7) سورة المؤمنون، الآية: (21) .(1/244)
4 - من صفات الداعية: الصدق.
5 - من صفات الداعية: الشجاعة.
6 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
7 - تعريف الداعية نفسه عند الحاجة.
8 - أهمية الوعد بالخير.
9 - من موضوعات الدعوة: الحث على مكارم الأخلاق.
10 - من أصناف المدعوين: الأعراب.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة: دل هذا الحديث على أن الأعراب لم يلتزموا الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا ينبغي لهم ذلك، ودل الحديث بمفهومه على أنه ينبغي للمدعو أن يلتزم الأدب مع الدعاة والعلماء، ويستفيد مما يسمع منهم، وقد أمر الله المؤمنين أن يلتزموا الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ - إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ - إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ - وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 1 - 5] (1) .
فالمدعو ينبغي له أن ينصت، ويصغي إلى ما يلقيه إليه الداعية أو العالم؛ لأن المدعو لا يستفيد من الداعية إلا إذا التزم الأدب، وصمت، واستمع، وعمل بما سمع، وبلَّغ ما سمع لغيره (2) .
_________
(1) سورة الحجرات، الآيات (1-5) .
(2) انظر: الآداب الشرعية للإمام محمد بن مفلح المقدسي " 1 / 144 -146، وانظر: الحديث رقم 14، الدرس الثالث، ورقم 21، الدرس الأول.(1/245)
ثانيا: من صفات الداعية: الحلم: ظهر في هذا الحديث: الحلم؛ فإن الأعراب سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ألجؤوه إلى شجرة السمر فخطفت رداءه، ومع هذا الأذى لم يغضب - صلى الله عليه وسلم - ولم يتضجَّر بل حلم عليهم، وصبر على أذاهم وجفائهم، وكم حدث له - صلى الله عليه وسلم - من الصبر على جفاة الأعراب وقلة أدبهم؟ ولم يعاقبهم بقوله ولا فعله عليه الصلاة والسلام (1) وهذا يعطي الداعية قدوة في الحلم وتَحَمّل الأذى والسكون عند الغضب أو المكروه مع القدرة، والقوة، والصفح والعقل (2) .
فينبغي للداعية أن يضبط نفسه عند هيجان الغضب، وهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة؛ لما في كظم الغيظ من كتمان ومقاومة واحتمال؛ وقد مدح الله -تعالى - الكاظمين الغيظ ووعدهم بالجنة {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134] (3) ومما يزيد الداعية رغبة في الحلم وشوقا إلى الاتِّصاف به مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - الحلم وتعظيم أمره، وأنه من الخصال التي يحبها الله تعالى، قال - صلى الله عليه وسلم - للأشج: «إنَّ فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة» (4) ؛ ولهذا الفضل العظيم قال الأشجّ رضي الله عنه: " الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله " (5) .
والحلم الممدوح الذي يحتاجه الداعية في دعوته هو حالة متوسطة بين رذيلتين: الغضب والبلادة، فإذا استجاب الداعية لغضبه بلا تعقل ولا تصبّر كان على رذيلة، وإن تبلَّد وضيَّع حقه ورضي بالهضم والظلم كان على رذيلة، وإن تحلَّى بالحلم وتخلَّق به مع القدرة، وكان حلمه مع من يستحقه كان على
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 254، وإرشاد الساري للقسطلاني 5 / 54.
(2) انظر: المعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية، مادة: " حلم " 1 / 194.
(3) سورة آل عمران، الآيتان (133، 134) .
(4) مسلم، كتاب الإِيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله، 1 / 48 برقم 17.
(5) أبو داود، كتاب الأدب، باب قبلة الجسد، 4 / 357، برقم 5225، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 3 / 981.(1/246)
فضيلة، فإذا أصبح ذلك هيئة راسخة في النفس، وأصبح طبعا من طبائعها كان ذلك هو الحلم الواجب على الدعاة إلى الله تعالى، (1) وهذا يحتاج في بداية الأمر إلى جهاد وعزيمة، وقوة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس الشديد بالسرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» . (2) .
ثالثا: من صفات الداعية: الكرم: الجود والكرم من الصفات الحميدة؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: «. . . فلو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم» ، وهذا يدل على كرمه وعظيم جوده وسخائه - صلى الله عليه وسلم - ويؤكد على الدعاة إلى الله تعالى الاقتداء به، وأن يكونوا كرماء أسخياء لا بخلاء أشحَّاء؛ فإن الداعية الكريم يجذب الناس إلى دعوته بفضل الله تعالى ثم بكرمه وجوده؛ ولهذا ما سئل - صلى الله عليه وسلم - على الإِسلام شيئا إلا أعطاه، وجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة (3) ولهذا قال أنس بن مالكَ رضي الله عنه: " إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإِسلام أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها " (4) ومما يدل على فضل الجود والكرم وأنه من أعظم الأساليب التي ترغِّب الناس في قبول الدعوة، ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع صفوان بن أمية؛ فإنه أعطاه مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة، قال صفوان: «والله لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي» (5) .
والداعية ينبغي له أن يتصف بأنواع الجود والكرم كلها، فيجود بنفسه في
_________
(1) انظر: مفردات غريب القرآن، للأصفهاني ص 129، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، 1 / 434، والأخلاق الإِسلامية، للميداني، 2 / 337.
(2) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، 7 / 129، برقم 6114، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من بملك نفسه عند الغضب وبأي شيء يذهب الغضب، 4 / 2014، برقم 2609.
(3) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل - صلى الله عليه وسلم - شيئاَ فقال: لا، 4 / 1806، برقم 2312.
(4) المرجع السابق، في الكتاب والباب المشار إليهما 4 / 1806، برقم 2312.
(5) مسلم، كتاب الفضائل في الباب السابق 4 / 1806، عن صفوان، رضي الله عنهم، برقم 2313.(1/247)
طاعة الله وفي سبيل نشر الإسلام، ويجود برئاسته والإِيثار في قضاء حاجات الناس، ويجود براحته تعبًا في مصلحة غيره، ويجود بعلمه فينشره بين الناس، ويجود بجاهه فيشفع لأصحاب الحاجات، ويجود ببدنه في خدمهّ الناس والإِصلاح بينهم وإعانتهم ببدنه، ويجود بعرضه فيعفو عمَّن اغتابه أو سبَّه، ويجود بصبره فيصبر على أذى الناس، ويجود بالخلق الحسن وبشاشة الوجه والبسطة، ويجود بما في أيدي الناس عليهم فمزهد فيه، فلا يلتفت إليه، وكل أنواع الجود والكرم ينبغي أن يأخذ منها الداعية أكبر الحظ والنصيب، اقتداء بنبيه - صلى الله عليه وسلم - (1) والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، (2) .
رابعا: من صفات الداعية: الصدق: دل هذا الحديث على أن الصدق من الصفاتّ الحميدة؛ لِقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا. .» ، وهذا يبيِّن للدعاة أن الصدق من الصفات التي ينبغي لهم أن يتصفوا بها، ويبيّن لهم قبح الكذب، وهو الإِخبار عن الشيء بخلاف ما هو سواء كان ذلك عمداَ أو جهلا، والإِثم يختص بالعمد (3) .
وينبغي لهم أن لا ينقلوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ما صح عنه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حدّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذِبين» (4) فإذا صدق الداعية في القول والفعل، والنية كان من الرابحين (5) .
خامسا: من صفات الداعية: الشجاعة: الشجاعة مطلب كريم وخلق عظيم، وصفة نبيلة من صفات الدعاة الصادقين؛ ولهذا نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجبن عن نفسه، وهذا يدل على شجاعته «ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا» والشجاعة تحمل الداعية على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم؛ فإن الداعية بقوة نفسه وشجاعتها يمسك
_________
(1) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 2 / 293-296.
(2) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الثاني، ورقم 15، الدرس الثاني.
(3) انظر: الأذكار، للنووي ص 326، وشرح النووي على صحيح مسلم 1 / 181.
(4) مسلم، في المقدمة، باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين والتحذير من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، 1 / 9.
(5) انظر: الحديث رقم 7، الدرس: الثالث، ورقم 9، الدرس الرابع.(1/248)
عنانها ويكبحها بلجامها عن النزع والبطش بغير حق (1) قال - صلى الله عليه وسلم -: «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (2) قال العلامة العيني رحمه الله تعالى: " قال حكماء الإِسلام، للإنسان ثلاث قوى: العقلية، والغضبية، والشهوية: وكمال القوة الغضبية الشجاعة، وكمال القوة الشهوية الجود، وكمال القوه العقلية الحكمة " (3) .
فالداعية بحاجة إلى الاتصاف والتخلّق بخلق الشجاعة؛ لأنها تضبط نفسه عن الخوف عند مثيراته في النفس حتى لا يجبن الداعية في المواضع التي تحسن فيهما الشجاعة وتكون خيرا، ويقبح فيها الجبن ويكون شرّا (4) ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن أفضل الجهاد: «كلمة حق عند سلطان جائر» (5) .
وحقيقة شجاعة الداعية: هي الصبر والثبات والإِقدام على الأمور النافعة، وتكون شجاعة الداعية في الأقوال والأفعال، ولا بد أن تكون شجاعته موافقة للحكمة، وأعظم ما يمد ويقوي شجاعة الداعية: الإِيمان العميق، وقوة التوكل على الله، تعالى، وكمال الثقة به سبحانه، ومعرفته لأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومواقفه في الشجاعة القلبية والعقلية (6) .
والداعية يحتاج إلى أن يَتَمَرَّن على الإِقدام والتكلم بما في النفس، وإلقاء المقالات والخطب في المحافل بقصد نصر الحق وقمع الباطل، فمن مرن نفسه على ذلك لم يزل به الأمر حتى يكون ملكة له، وتزول هيبة الخلق من قلبه، فلا يبالي ألقى الخطب والمقالات في المحافل الصغار أو الكبار على العظماء أو غيرهم، وكذلك يمرِّن نفسه على لقاء الأعداء في ميادين القتال
_________
(1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم 2 / 308.
(2) متفق عليه: البخاري، 7 / 129، برقم 6114، ومسلم، 4 / 2014 برقم 2608، وتقدم تخريجه في الدرس الأول من هذا الحديث، ص 247.
(3) عمدة القاري شرح صحيح البخاري 14 / 117.
(4) انظر: الأخلاق الإسلامية لعبد الرحمن بن حسن حبنكة الميداني 2 / 306، 319.
(5) أحمد 5 / 251، 256، وابن ماجه في كتاب الفتن 2 / 1329، برقم 4011، وصححه الألباني، في صحيح ابن ماجه 2 / 369.
(6) انظر: الشجاعة العقلية والقلبية في فتح الباري لابن حجر، 5 / 333.(1/249)
حتى تزول عنه المخاوف ولا يبالي بلقاء الأعداء بعد ذلك سواء كان ذلك في الجهاد باليد أو باللسان (1) .
سادسا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: القدوة الحسنة وسيلة من أعظم وسائل الدعوة إلى الله تعالى؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قدوة الدعاة إلى الله تعالى، بل يجب على الناس أجمعين أن يقتدوا به - صلى الله عليه وسلم -، في أقواله، وأفعاله، وأخلاقه، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] (2) فهو عليه الصلاة والسلام، قدوة وأسوة عملية وقولية لأتباعه، فقد تخلَّق في هذا الحديث بأصول الأخلاق والحكمة: فحلم على الأعراب ولم يعاقبهم على إساءة الأدب معه - صلى الله عليه وسلم -، ومع هذا وعدهم خيرا، وبيَّن لهم وسيلة أخرى من وسائل الإِيضاح فقال: «لو كان لي عَدَد هذه العضاه نَعَما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا» . وهذا كله يدل على رغبته - صلى الله عليه وسلم - في أن يقتدي به الناس في هذه الأخلاق الكريمة (3) .
سابعا: تعريف الداعية نفسه عند الحاجة: الداعية إذا احتاج إلى ذكر صفاته الحميدة فلا حرج في ذلك عند الحاجة أو عند انتفاع المدعوين بذلك؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «. . ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا» ، قال العلامة الملاّ على القاري رحمه الله: " فيه دليل على جواز تعريف نفسه بالأوصاف الحميدة لمن لا يعرفه؛ ليعتمد عليه " (4) .
ثامنا: أهمية الوعد بالخير: يدل الحديث على أن الوعد الحسن بالمال تأليفا به من أساليب الدعوة؛
_________
(1) انظر: الرياض الناضرة للسعدي ص 46.
(2) سورة الأحزاب، الآية: (21) .
(3) انظر: فتاوى العلامة، عبد العزيز بن عبد الله ابن باز 3 / 110، 4 / 171، 232، وانظر أيضا: الحديث رقم 16، الدرس السابع.
(4) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 10 / 76.(1/250)
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بين أنه لا يبخل عليهم إذا وجد مالا؛ قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثم لا تجدوني بخيلا» ، وقد ذكر الله - تعالى - الوعد الحسن وحثّ عليه لمن لم يجد مالا فقال سبحانه: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء: 28]
وقد نظر - صلى الله عليه وسلم - إلى أحوال المدعوين وأنهم من الأعراب الجفاة فلم يعاقبهم على سوء أدبهم معه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يبيّن، ويوضح لأتباعه أهمية الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم -.
تاسعا: من موضوعات الدعوة: الحث على مكارم الأخلاق: في هذا الحديث الشريف دعوة للأمة للتحلِّي بمكارم الأخلاق، وأصول الحِكَم، فقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - جميع الناس في هذا الحديث وفي غيره إلى التحلي بالشجاعة، والكرم، والجود، والصدق، والصبر والتحمل (1) وذلك بفعله وقوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن فعله وتقريره، وقوله دعوة لأمته. ودعا الناس في هذا الحديث إلى ترك الكذب، والبخل، والجبن، وذلك بنفيها عن نفسه والتنفير عن هذه الأخلاق الذميمة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فلو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا» ؛ قال العلامة العيني، رحمه الله تعالى: " وهذا من جوامع الكلم إذ أصول الأخلاق: الحكمة، والكرم، والشجاعة. وأشار بعدم الكذب إلى كمال القوة العقلية: أي الحكمة، وبعدم الجبن إلى كمال القوة الغضبية: أي الشجاعة، وبعدم البخل إلى كمال القوة الشهوية: أي الجود، وهذه الثلاث هي أمهات فواضل الأخلاق، والأول هو مرتبة الصِّدِّيقين، والثاني هو مرتبة الشهداء، والثالث هو مرتبة الصالحين اللهم اجعلنا منهم " (2) .
ودعا - صلى الله عليه وسلم - الأمة كلها جمعاء إلى العمل بهذه المكارم، وحذرها تعريضا وتلميحا في هذا الحديث من مساوئ ومفاسد الأخلاق الذميمة؛ فإن الداعية يجب عليه أن يبتعد عنها وخاصة هذه الخصال المذكورة في الحديث:
_________
(1) انظر: فتح الباري، لابن جحر، 6 / 254، وإرشاد الساري للقسطلاني، 5 / 54، وعون الباري لحل أدلة البخاري، لصديق بن حسن، 3 / 621.
(2) انظر: عمدة القاري، للعيني 14 / 118.(1/251)
البخل، والكذب، والجبن، والطيش وعدم التحمل (1) .
عاشرا: من أصناف المدعوين: الأعراب: لا شك أن الأعراب من أصناف المدعوين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتنى بدعوتهم، وراعى أحوالهم، وبين لهم بفعله وقوله مكارم الأخلاق في هذا الحديث، فحلم عنهم، وقال: «. . . لو كان لي عدد هذه العضاه نَعَما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني: بخيلا، ولا كذوبَاَ، ولا جبانا» ، وهذا فيه تعليم للأعراب وإحسان إليهم مع شدتهم وجفائهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما جاء في هذا الحديث: «علقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة خطفت رداءَه. . .» فينبغي الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مراعاة أحوال الأعراب والعفو عنهم (2) .
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 254، وإرشاد الساري للقسطلاني، 5 / 54.
(2) انظر: الحديث رقم 173، الدرس الثالث.(1/252)
[باب ما يتعوذ من الجبن]
[حديث تعوذه صلى الله عليه وسلم دبر الصلاة]
25 - باب ما يتعوذ من الجبن 36 [ص:2822] حَدَّثَنَا موسَى بْن إِسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنَا أَبو عَوَانَةَ: حَدَّثَنَا عَبْد المَلِكِ بْن عمَيرٍ قَالَ: سَمِعْت عَمْرَو بْنَ مَيمونٍ الأَوْدِيَّ قَالَ: " كَانَ سَعْد (1) يعلِّم بَنِيهِ هَؤلاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يعَلِّم الْمعَلم الْغِلْمَانَ الْكِتَابةَ، وَيَقول: إِنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَعوَّذ مِنْهنَّ دبرَ الصَّلاَةِ: «اللَّهمَّ إِنِّي أَعوذ بِكَ مِنَ الجبْنِ، وَأَعوذ بِكَ أَنْ أرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العمرِ، وَأَعوذ بكَ مِنْ فِتْنَةِ الدّنْيَا، وَأَعوذ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» ، فَحدَّثْت بِهِ مصعَبا فصدَّقه " (2) .
وفي رواية: " كَانَ سَعْد يَأْمر بِخَمْسٍ، وَيَذْكرهنَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كَانَ يَأْمر بهِنَّ: «اللَّهمَّ إِنِّي أَعوذ بِكَ مِنَ الْبخْلِ، وَأَعوذ بِكَ مِنَ الْجبْنِ، وأَعوذَ بِكَ أَنْ أرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعمرِ، وَأَعوذ بكَ مِنْ فِتْنَةِ الدّنْيَا- يَعْنِي فِتْنَةَ الدَّجَّالِ- وَأَعوذ بكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبر» (3) .
وفي رواية: عن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه قال: «كَانَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يعَلِّمنَا
_________
(1) سعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص: مالك بن أهيب، ويقال له: وهيب، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد السابقين الأولين، وأحد من شهد بدرا، والحديبية، وأحد الستة أهل الشورى الذين جعل عمر رضي الله عنه أمر الخلافة إليهم، وقد أسلم قديما بعد أربعة وقيل بعد ستة وهو ابن سبع عشرة سنة، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، تعالى، وأول من أراق دما في سبيل الله تعالى، وهو من المهاجرين الأولين، وكان مجاب الدعوة، روى عن رسول الله مائتين وسبعين حديثا اتفق البخاري ومسلم منها على سبعة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بثمانية عشر، واستعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الجيوش التي بعثها إلى بلاد الفرس، وكان أمير الجيش الذي هزم الفرس بالقادسية، وهو الذي عبر بالخيل دجلة، وهو الذي فتح مدائن كسرى، وبنى الكوفة، وولاه عمر على العراق، وعندما قتل عثمان رضي الله عنه اعتزل سعد الفتن فلم يقاتل في شيء منها، توفي رضي الله عنه سنة خمس وخمسين وقيل سنة إحدى وخمسين، وقيل ست وخمسين، وقيل سبع وخمسين، وقيل ثمان وخمسين بقصره بالعقيق على عشرة أميال وقيل سبعة من المدينة رضي الله عنه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 213- 214، وسير أعلام النبلاء للذهبي 92- 124، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 33، وانظر أيضا: إكمال إكمال المعلم للأبي، 8 / 237.
(2) [الحديث 2822] أطرافه في: كتاب الدعوات، باب التعوذ من عذاب القبر، 7 / 204، برقم 6365. وكتاب الدعوات، باب التعوذ من البخل، 7 / 205، برقم 6370. وكتاب الدعوات، باب الاستعاذة من أرذل العمر ومن فتنة الدنيا وفتنة النار، 7 / 206، برقم 6374. وكتاب الدعوات، باب التعوذ من فتنة الدنيا، 7 / 211، برقم 6390.
(3) من الطرف رقم 6365.(1/253)
هَؤلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا تعَلَّم الْكِتَابة. .» (1) .
[حديث تعوذه صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل]
37 [ص:2823] حَدَّثَنَا مسَدَّد: حَدَثَنَا معتَمِر قَالَ: سَمِعْت أَبِي قَالَ: سَمِعْت أَنَسَ بْنَ مَالِك (2) رضي الله عنه يقول: كَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَقول: «اللَّهمَّ إِنِّي أَعوذ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالكَسَلِ، والجبْنِ والْهَرَم، وأَعوذ بكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَأَعوذ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» (3) .
وفي رواية: «اللَّهمَّ إِنِّي أعوذ بِكَ مِنَ الْكَسَل، وَأَعوذ بكَ مِنَ الْجبْنِ، وَأَعوذ بِكَ مِنَ الْهَرَمِ، وَأَعوذ بِكَ مِنَ البخْلِ» (4) .
وفي رواية: أَنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَدْعو: «أَعوذ بِكَ مِنَ الْبخْلِ وَالْكَسَلِ، وأَرْذَلِ العمرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وفتْنَةِ الْمَحْيَا وَالمَمَاتِ» (5) .
* شرح غريب الحديث: * " أرذل العمر " آخره في حال الكِبَرِ والعجز والخرف، والأرذل من كل شيء: الرديء منه (6) .
* " الفتنة " الابتلاء والاختبار، والامتحان، وأصل الفتنة من قولك: فتنت الذهب إذ أحرقته بالنار؛ ليتبيَّن الجيد من الرديء، وقد كثر استعمالها بمعنى: الإِثم، والكفر، والضلال، والقتال، والإِحراق، والإِزالة، والصرف عن
_________
(1) من الطرف رقم 6390.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 14.
(3) الحديث 2823، أطرافه في: كتاب تفسير القرآن، 16 سورة النحل، باب قوله تعالى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر 5 / 266، برقم 4707. وكتاب الدعوات، باب التعوذ من فتنة المحيا والممات، 7 / 204، برقم 6367. وكتاب الدعوات، باب التعوذ من أرذل العمر، 7 / 205 و 206، برقم 6371. وأخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من العجز والكسل وغيره، 4 / 2079، برقم 2706.
(4) الطرف رقم 6371.
(5) الطرف رقم 4707.
(6) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الذال، مادة " رذل " 2 / 217.(1/254)
الشيء، والفضيحة، والعذاب، والجنون (1) .
* " الهرم " الكِبَرِ (2) .
* الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: النشاط.
2 - من صفات الداعية: الشجاعة.
3 - من صفات الداعية: الكرم.
4 - من صفات الداعية: الحرص على تعليم الناس الخير.
5 - أهمية العناية بالأهل والأقارب.
6 - من صفات الداعية: الالتجاء إلى الله عز وجل.
7 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
8 - من موضوعات الدعوة: تعليم المدعوين الدعاء والأذكار.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: النشاط: دل مفهوم الحديث الثاني على أن النشاط من الصفات الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها المسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل؛ ولهذا استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من ضد النشاط فقال: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل» ؛ وذكر العلامة العيني رحمه الله أن الكسل: ضعف الهمة وإيثار الراحة للبدن على التعب، وإنما استعيذ منه؛ لأنه يبعد عن الأعمال الصالحة (3) .
فينبغي للداعية أن يكون نشيطا؛ لأن الكسل من أسباب الخسارة والوقوع في
_________
(1) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي ص 172، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الفاء مع التاء، مادة " فتن " 3 / 410، والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، تأليف أحمد بن محمد الفيومي، مادة " فتن " 2 / 462، والقاموس المحيط للفيروز آبادي، باب النون فصل الفاء، ص 1575.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الهاء مع الراء، مادة " هرم " 5 / 261.
(3) انظر: عمدة القاري شرح صحيح البخاري 14 / 119.(1/255)
أسباب المعاصي والسيئات، وترك أسباب الطاعات (1) ؛ ولأن الكسل تثاقل عن المصالح الدينية والدنيوية، فيمنع من أداء الحقوق الواجبة (2) والله الموفق (3) .
ثانيا: من صفات الداعية: الشجاعة: لا شك أن الشجاعة من الصفات الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها المسلم، ولا سيما الداعية إلى الله عز وجل ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «اللهم إني أعوذ بك من الجبن» ، فاستعاذته من الجبن دليل على ضده: الشجاعة وأنها خلق كريم؛ ولأن الجبن عدم الإِقدام على الشيء النافع (4) وشعب الجبن متفرقة، ومن أقبحه أن يجبن عن معاملة الله في تصديق وعده، ثم تقديم العوائد على مقتضيات شرعه (5) وهذا يؤكد أهمية المجاعة (6) .
ثالثا: من صفات الداعية: الكرم: ظهر في مفهوم هذين الحديثين أن الكرم صفة حميدة ينبغي للداعية أن يتصف بها؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «. . وأعوذ بك من البخل» ، فاستعاذ - صلى الله عليه وسلم - من ضد الكرم؛ لأن البخل صفة ذميمة تنافي الجود والكرم؛ وقد كان - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس وأكرم الناس، فينبغي للدعاة أن يقتدوا به - صلى الله عليه وسلم - (7) .
رابعا: من صفات الداعية: الحرص على تعليم الناس الخير: إن الداعية الصادق مع الله عز وجل هو الذي يحرص على نفع الناس، وإيصال الخير إليهم قولا وفعلا؛ ولهذه الصفة الحميدة فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصا على تعليم أمته الخير، وقد دل الحديث الأول من هذين الحديثين على ذلك "؛
_________
(1) انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم 2 / 358.
(2) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 7 / 34، ومكمل إكمال الإِكمال، لمحمد بن يوسف السنوسي، 9 / 108.
(3) انظر: الحديث رقم 14، الدرس الرابع، ورقم 29، الدرس الثالث.
(4) انظر: مكمل إكمال الإِكمال، للسنوسي 9 / 110.
(5) انظر: الإفصاح عن معاني الصحاح للوزير ابن هبيرة، 1 / 242.
(6) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الخامس.
(7) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الثالث.(1/256)
لقول سعد رضي الله عنه: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا هؤلاء الكلمات كما تعلَّم الكتابة» ، وهذا الحرص المبارك من النبي الأمين الكريم يبين للدعاة إلى الله عز وجل أهمية الحرص على تعليم الناس الخير (1) .
خامسا: أهمية العناية بالأهل والأقارب: لا شك أن حق الأهل والأقارب أعظم من حق غيرهم، ورعايتهم وتعليمهم ما ينفعهم من أهم الواجبات، وأعظم الحسنات؛ ولهذا كان السلف الصالح يعتنون بأهلهم وقراباتهم عناية خاصة؛ ولهذا قال عمرو بن ميمون في الحديث الأول من هذين الحديثين: " كان سعد يعلم بنيه هؤلاء الكلمات، كما يعلِّم المعلّم الغلمان الكتابة. . "، وهذا يبرز للدعاة العناية بالأهل وتعليمهم ما ينفعهم ويعود عليهم بالخير والصلاح، في الدين والدنيا، والآخرة (2) .
سادسا: من صفات الداعية: الالتجاء إلى الله عز وجل: دل هذان الحديثان على أهمية الالتجاء إلى الله تعالى، والاستعاذة به من هذه الخصال التسع: " البخل، والجبن، وأرذل العمر، والعجز، والكسل، وفتنة المحيا والممات، وفتنة الدجال وفتنة الدنيا، وعذاب القبر "، ومفتاح كل شر: العجز والكسل، ويصدر عنهما الهمّ، والحزن، والجبن، والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال، وأصل المعاصي كلها العجز، فإن العبد يعجز عن أسباب أعمال الطاعات، وعن الأسباب التي تبعده عن المعاصي وتحول بينه وبينها فيقع في المعاصي (3) .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " التمني رأس أموال المفاليس، والعجز مفتاح كل شر " (4) .
وهذا يبين للمسلم- وخاصة الداعية إلى الله سبحانه وتعالى- أهمية الالتجاء
_________
(1) انظر: الحديث رقم 1، الدرس الأول.
(2) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الأول.
(3) انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، 2 / 358.
(4) المرجع السابق 2 / 358.(1/257)
إلى الله عز وجل والاستعاذة به من هذه الخصال كلها، ولا سيما الاستعاذة من العجز والكسل؛ لأن العجز: ترك العمل مع عدم القدرة على عمله، والكسل: ترك العمل مع القدرة على عمله؛ لعدم انبعاث النفس للخير، وقلة الرغبة فيه مع إمكانه (1) .
ويستعيذ الداعية من البخل والجبن؛ لأن الجود: إما بالنفس: وهو الشجاعة، ويقابله الجبن، وإما بالمال وهو السخاوة ويقابله البخل، ولا تجتمع الشجاعة والسخاوة إلا في نفس كاملة، ولا ينعدمان إلا لمتناهٍ في النقص (2) وقد قرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين: الاستعاذة من الجبن والبخل؛ لأن الإِحسان المتوقع من العبد: إما بماله، وإما ببدنه، فالبخيل مانع لنفع ماله، والجبان مانع لنفع بدنه (3) .
ويلتجئ الداعية إلى الله، ويستعيذ به من فتنة الدنيا؛ لأن من أصيب بذلك باع آخرته بما يتعجله في الدنيا من حال ومال (4) وفتنة المحيا: ما يتعرض له الإِنسان مدة حياته، من الافتتان بالدنيا، والشهوات والجهالات، وأعظمها - والعياذ بالله - سوء الخاتمة عند الموت، وفتنة الدنيا أطلقت على فتنة الدجال؛ لأن فتنته أعظم الفتن في الدنيا، وفتنة الدجال داخلة تحت فتنة المحيا (5) ويستعيذ بالله من فتنة الممات. قال ابن دقيق العيد رحمه الله: " وفتنة الممات " يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت، أضيفت إلى الموت لقربها منه، وتكون فتنة المحيا - على هذا - ما يقع قبل ذلك في مدة حياة الإنسان، وتصرفه في الدنيا، ويجوز أن يكون المراد بفتنة الممات: فتنة القبر. . . ولا يكون على هذا متكررا مع قوله: " من عذاب القبر "؛ لأن العذاب مرتب على الفتنة. . . " (6) .
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 36، وعمدة القاري للعيني، 19 / 18.
(2) انظر: مرقاة المفاتيح، لملا علي القاري، 3 / 42.
(3) انظر: طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم ص 460.
(4) انظر: عمدة القاري، للعيني 14 / 119.
(5) انظر: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، لابن دقيق العيد، 1 / 311، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، 2 / 319، وعمدة القاري للعيني، 23 / 7.
(6) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، 1 / 311.(1/258)
والاستعاذة من فتنة المحيا والممات: كلمة جامعة لمعانٍ كثيرة (1) .
ويستعيذ بالله من أرذل العمر؛ لأن الإنسان إذا هرم وضعف: سخف عقله، وعجز عن الفرائض وخدمة نفسه، فيكون كلاّ على أهله ثقيلا بينهم، يتمنون موته؛ فإن لم يكن له أهل فالمصيبة أعظم (2) .
فدل ذلك كله على أهمية الاستعاذة والالتجاء إلى الله عز وجل. وسؤاله العفو والعافية، وهذا من أعظم صفات الداعية إلى الله سبحانه وتعالى. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وينبغي أن يرغب إلى ربه في رفع ما نزل، ودفع ما لم ينزل، ويستشعر الافتقار إلى ربه في جميع ذلك " (3) .
سابعا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: القدوة الحسنة من أهم وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعاذ من الجبن والبخل؛ لما فيهما من التقصير عن أداء الواجبات، والقيام بحقوق الله تعالى، وإزالة المنكر، والإِغلاظ على العصاة؛ ولأنه بشجاعة النفس وقوتها المعتدلة تتم العبادات، ويقوم بنصر المظلوم، والجهاد، وبالسلامة من البخل يقوم بحقوق المال، وينبعث للإِنفاق، والجود، ولمكارم الأخلاق، ويمتنع من الطمع فيما ليس له (4) .
قال الإمام النووي رحمه الله: " قال العلماء: واستعاذته من هذه الأشياء؛ لتكمل صفاته في كل أحواله وَشَرَعَه أيضا تعليما " (5) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وكان - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من جميع ما ذكر دفعا عن أمته، وتشريعا لهم، ليبيِّن لهم صفة المهم من الأدعية " (6) .
_________
(1) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 11 / 176.
(2) انظر: عمدة القاري، للعيني 14 / 119.
(3) فتح الباري، 11 / 176.
(4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 17 / 34.
(5) المرجع السابق 17 / 34.
(6) فقح الباري 11 / 176.(1/259)
وهذا يبين للداعية أهمية القدوة؛ لأن الناس يستفيدون من أفعال الداعية أكثر مما يستفيدون من أقواله، فينبغي له أن يقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ليكون قدوة صالحة لغيره (1) .
ثامنا: من موضوعات الدعوة: تعليم المدعو لهن: الدعاء والأذكار: إن هذين الحديثين يدلان على مشروعية تعليم المدعوين الأدعية النافعة، والأذكار الجامعة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك مع أصحابه رضي الله عنهم، قال سعد رضي الله عنه في الحديث الأول من هذين الحديثين: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا هؤلاء الكلمات كما تعلم الكتابة» .
وهذا يبيِّن للداعية أنه ينبغي له أن يعلم الناس الأذكار المشروعة: أدبار الصلوات، وأذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم واليقظة، وغير ذلك من الأذكار، ويعلمهم الدعوات الجامعة المشروعة، حتى ينفع الناس (2) والله المستعان.
_________
(1) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 7 / 34، وانظر أيضا: الحديث رقم 9، الدرس الثالث عشر.
(2) انظر: عمل اليوم والليلة، لأحمد بن شعيب النسائي، ص 133 - 609، وكتاب الدعاء، لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، 2 / 786- 1814، وعمل اليوم والليلة، لأحمد بن محمد المعروف بابن السني، ص 5- 362، والأذكار النووية، للنووي ص 5، والكلم الطيب، لشيخ الإسلام بن تيمية، ص 24- 127، وسلاح المؤمن في الدعاء والذكر، لمحمد بن علي بن همام، ص 33 -522، والوابل الصيب ورافع الكلم الطيب، لابن القيم ص 72، وجلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام، له، ص 30-482.(1/260)
[باب من حدث بمشاهده في الحرب]
[حديث طلحة بن عبيد الله عن يوم أحد]
26 - باب من حدث بمشاهده في الحرب قَالَه أَبو عثْمَانَ عَنْ سَعْدٍ.
38 [ص:2824] حَدَّثَنَا قتَيْبَة بْن سَعِيد: حَدَّثَنَا حَاتِم، عَنْ محَمَّدِ بْنِ يوسفَ، عَنِ السَّائِبِ (1) . بْنِ يَزِيدَ قَالَ: " صَحِبْت طَلْحَةَ بْنَ عبيدِ اللهِ (2) . وَسَعْدا لم (3) . والمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ (4) . وَعَبْدَ الرَّحْمنِ بْنَ عَوْفٍ (5) . رضي الله عنهم، فَمَا سمِعْت أَحَدا مِنْهمْ يحَدِّث عَنْ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، إِلّا أني سَمِعْت طَلْحَةَ يحَدِّث عنْ يَومِ أحدٍ " (6) .
_________
(1) السائب بن يزيد بن ثمامة، أبي يزيد الكندي المدني، الصحابي، ابن الصحابي رضي الله عنهما، قال: " حج بي أبي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن سبع سنين " [رواه البخاري، 2 / 266، برقم 1858] ، ولد السائب سنة ثلاث من الهجرة، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة أحاديث، اتفق البخاري ومسلم على حديث، وانفرد البخاري بأربعة، عمر ولم يشب وسط رأسه، وشعر بقية رأسه ولحيته، أبيض، فسئل عن ذلك فقال: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بي وأنا ألعب، فمسح بيده على رأسي وقال: " بارك الله فيك " فهو لا يشيب أبدا " يعني موضع كف النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، 7 / 160، برقم 6693، وانظر: مجمع البحرين في زوائد المعجمين، للحافظ نور الدين الهيثمي، 6 / 403، وقال في مجمع الزوائد 9 / 409 " رجال الكبير رجال الصحيح، غير عطاء مولى السائب وهو ثقة " توفي رضي الله عنه بالمدينة سنة أربع وتسعين، وقيل: إحدى وتسعين، قال الإمام النووي " الصحيح الأول " انظر: تهذيب الأسماء واللغات، 1 / 208، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 3 / 437، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 12.
(2) طلحة بن عبيد الله بن عثمان القرشي التيمي، أبو محمد، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الثمانية السابقين إلى الإِسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض، وهو من المهاجرين الأولين، ولم يشهد بدرا؛ لأنه كان في تجارة في الشام، ولكن ضرب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهمه وأجره كمن حضر، وشهد أحدا، وأبلى فيها بلاء حسنا، ووقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، ورد عنه النبل بيده حتى شلت أصبعه [البخاري برقم 4063] وشهد ما بعد أحد من المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. روى طلحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وثلاثين حديثا، انفق البخاري ومسلم على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثلاثة، قتل رضي الله عنه يوم الجمل، لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، وله أربع وستون سنة، وقيل غير ذلك. انظر: تهذيب الأسماء واللغات، للنووي 1 / 251، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 229.
(3) سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ترجم لهَ في حديث رقم 36.
(4) المقداد بن الأسود رضي الله عنه ترجم له في الحديث رقم 116.
(5) عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ترجم له في الحديث رقم 82.
(6) [الحديث 2824] طرفه في كتاب المغازي، باب إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّه وَلِيّهمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمؤْمِنونَ، 5 / 39، برقم 4062.(1/261)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: الورع.
2 - من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض عمله الصالح عند الحاجة ليقتدى به.
3 - أهمية صحبة الأخيار.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: الورع: الورع: هو الكف عما لا ينبغي، ثم استعير للكفِّ عن المباح والحلال (1) وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: " الورع: ترك ما تخاف ضرره في الآخرة " (2) .
وقد دل هذا الحديث على تورع الصحابة رضي الله عنهم؛ ولهذا قال الوزير العالم ابن هبيرة رحمه الله: " في هذا الحديث من الفقه تورّع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث " (3) وقد بين كثير من العلماء أن بعض الصحابة الكبار لا يحدثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خشية المزيد، والنقصان، والسهو، والدخول في الوعيد (4) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من يقل عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار» (5) .
قال العلامة السندي رحمه الله: " ولعلهم كانوا يحدثون عند شدة الحاجة، ورغبة الطالب؛ والأحاديث المشهورة عنهم رووها على هذا الوجه، وإلا كيف أشهر هؤلاء هذه الأحاديث. . أو أنهم تركوا الرواية بعد أن بلغوا الغائبين ما كان عندهم من الحديث، ورأوا أن هذا كافٍ في امتثال الأمر، أو حملوا ذلك على الوجوب على الكفاية، فإذا قام به البعض كأبي هريرة سقط الطلب عن الباقين، والله أعلم " (6) .
_________
(1) انظر: الفائق في غريب الحديث، للزمخشري، باب الواو مع الراء، مادة " ورع " 4 / 56، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع الراء، مادة " ورع " 5 / 174.
(2) مدارج السالكين 2 / 10، وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 10 / 617، 641.
(3) الإفصاح عن معاني الصحاح 1 / 305.
(4) انظر: فتح الباري لابن حجر، 1 / 200 و 6 / 37، وعمدة القاري للعيني، 14 / 120، 17 / 150، وإرشاد الساري للقسطلاني 5 / 56.
(5) البخاري، كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، 1 / 41 برقم 109.
(6) انظر: حاشية السندي على سنن ابن ماجه 1 / 26.(1/262)
فينبغي للداعية أن يحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يبلغه غيره، كما ينبغي له أن يكون ورعا متثبتا فلا ينقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل.
ثانيا: من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض عمله الصالح عند الحاجة ليقتدى به: دل هذا الحديث على أن ذكر الداعية بعض عمله الصالح عند الحاجة من أساليب الدعوة؛ لأن طلحة رضي الله عنه حدث عن يوم أحد، وما صنع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وأما حديث طلحة فهو جائز إذا أمنَ الرياء والعجب، ويترقى إلى الاستحباب إذا كان هناك من يقتدي بفعله " (1) . وقال العلامة العيني رحمه الله: " حدث طلحة عن مشاهد يوم أحد؛ ليقتدى به ويرغب الناس في مثل فعله " (2) . وقال رحمه الله أيضا: " وفي قول طلحة: ذكر المرء بعمله الصالح ليؤدي ما علم مما لم يعلم غيره؛ لأنه انفرد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ " (3) .
وهذا يوضح للدعاة إلى الله - عز وجل - أنه لا حرج أن يخبر الداعية ببعض أعماله الطيبة رغبة في أن يقتدى به في عمله؛ وليرغِّب المدعوين في ذلك، أما الذي يذكر عمله؛ للافتخار، وإظهار فضله: رياء، وسمعة، وعجبا، فهذا عمل قبيح، لا يجوز لمسلم أن يعمله.
ثالثا: أهمية صحبة الأخيار: ظهر في هذا الحديث أهمية صحبة الأخيار؛ لأن السائب بن يزيد صحب طلحة، وسعدا، والمقداد، وابن عوف، فاستفاد منهم الورع في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خشية الزيادة أو النقصان، ولا شك أن صحبة الأخيار تزيد في الحلم، والفهم، والتقوى؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه؛ وإما أن تجد منه ريحا طيبه، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك
_________
(1) فتح الباري 6 / 37.
(2) عمدة القاري 14 / 120.
(3) المرجع السابق 17 / 150.(1/263)
وإما أن تجد ريحا خبيثة» (1) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» (2) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي» (3) فينبغي للمرء المسلم العناية بصحبة الأخيار؛ ليستفيد منهم، والله المستعان.
_________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب الذبائح، باب المسك، 6 / 287، برقم 5534، أخرجه مسلم، من حديث أبي موسى رضي الله عنه في كتاب البر والصلة، باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء، 4 / 2026، برقم 2628.
(2) أبو داود، كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، 4 / 259، برقم 4833، والترمذي، كتاب الزهد، باب حدثنا محمد بن بشار، 4 / 589، برقم 2378، وقال: (هذا حديث حسن صحيح) ، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2 / 280.
(3) أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، في كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس، 4 / 259، برقم 4832، والترمذي، في كتاب الزهد، باب ما جاء في صحبة المؤمن، 4 / 601، برقم 2395، وقال: " هذا حديث حسن " وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2 / 285.(1/264)
[باب الكافر يقتل المسلم ثم يسلم فيسدد بعد ويقتل]
[حديث يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة]
28 - باب الكافرِ يَقتل المسلم ثم يسلم فيسدّد بعد ويقتل 39 [ص:2826] حَدَّثَنَا عَبْد اللهِ بْن يوسفَ: أَخْبَرَنَا مَالِك، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هرَيْرَةَ (1) . رضي الله عنه أَنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «يَضْحَك الله إِلى رجلَينِ يَقتل أَحَدهمَا الآخرَ يَدخلانِ الجَنَّةَ، يقَاتِل هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ فيقْتَل، ثم يَتوب الله عَلَى القَاتِلِ فَيسْتَشْهَد» (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: إثبات صفات الكمال الله عز وجل.
2 - من موضوعات الدعوة: الحث على التوبة النصوح.
3 - من صفات الداعية: عدم اليأس من رحمة الله عز وجل.
4 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: إثبات صفات الكمال لله عز وجل: دل الحديث على أن إثبات صفات الكمال لله سبحانه وتعالى من موضوعات الدعوة؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة» . . " وهذا يدل على إثبات الضحك لله تعالى على الوجه اللائق به عز وجل (3) .
ولا شك أنه ينبغي للداعية أن يبين للمدعوين صفات الكمال لله عز وجل، فيصف الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ويمرّ نصوص الصفات
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 7.
(2) وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، 3 / 1504، برقم 1890.
(3) انظر: كتاب التوحيد ومعرفة أسماء الله عز وجل وصفاته، للإمام الحافظ محمد بن إسحاق بن منده، 3 / 197 - 199.(1/265)
كما جاءت بلا كيف مع الإِيمان بمعانيها، وما تدل عليه. قال الوليد بن مسلم رحمة الله: " سألت الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي في ذكر الرؤية، فقالوا: أمرّوها كما جاءت بلا كيف " (1) وليس ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - تشبيها؛ فالمشبه يعبد صنما والمعطل يعبد عدما، والموَحِّد يعبد إلها واحدا صمدا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] (2) .
وينبغي للداعية أن يبين للمخالفين بالحكمة أن الكلام في الصفات كالكلام في الذات، فكما أنا نثبت لله ذاتا لا تشبه الذوات، فكذلك يقال في صفاته: إنها لا تشبه الصفات، فليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أسمائه، ولا في أفعاله، ولا تشبه صفاته صفات المخلوقين.
ويقال: القول في بعض الصفات كالقول في بعض، فمن أثبت بعض الصفات وأول بعضها، فإنه لا فرق بين ما نفاه وبين ما أثبته؛ لأن القول في أحدهما كالقول في الآخر.
ويبين الداعية للمدعوين أن الصفات تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الله سبحانه وتعالى، فهو لم يزل ولا يزال متصفا بها كالعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر والغنى والكرم والعظمة والكبرياء والعزة والعلو وغير ذلك من صفات الكمال.
القسم الثاني: الصفات الفعلية وهي التي تتعلق بالمشيئة والقدرة: كالاستواء والنزول والمجيء والضحك والرضا والغضب والإحياء والإماتة والفرح والحب وغير ذلك من صفات الكمال وهذه الصفات تتعلق بالمشيئة إن شاء فعلها وإن لم يشأ لم يفعلها.
والإيمان بجميع الصفات من أعظم الواجبات، وكيفية الصفات لا علم
_________
(1) أخرجه الإمام محمد بن بطة، في الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية، " كتاب الرد على الجهمية " 3 / 241، برقم 183، والإمام اللالكائي بلفظه في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 3 / 558، برقم 875، و3 / 582، برقم 930.
(2) سورة الشورى، الآية: (11) .(1/266)
للعباد بها؛ ولهذا لما سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله عن كيفية الاستواء، قال: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة " (1) وهذا ينطبق على جميع الصفات، وأن الصفات معلومة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة. قال الله عز وجل: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام: 61] (2) قال الإمام اللالكائي رحمه الله: " فدلت هذه الآية أنه تعالى في السماء وعلمه محيط بكل مكان: من أرضه، وسمائه، وروى ذلك من الصحابة: عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وأم سلمة رضي الله عنهم، ومن التابعين: ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وسليمان التيمي، ومقاتل بن حيان، وبه قال من الفقهاء: مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل " (3) .
فينبغي للداعية أن يبين للناس هذه العقيدة كما جاءت في الكتاب والسنة؛ لأن الله أعلم بنفسه سبحانه وتعالى. كما ينبغي أن ينفي عن الله عز وجل صفات النقص التي نفاها عن نفسه سبحانه وتعالى، أو نفاها عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويبين أن النفي يقتضي إثبات ما يضاده من صفات الكمال، فكل ما نفى الله عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من النقائص فإنها تدل على إثبات ضدها من صفات الكمال (4) .
_________
(1) الاستذكار، لابن عبد البر، 8 / 151، برقم 10835، وذكر معناه عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، 8 / 151، برقم 10834.
(2) سورة الأنعام، الآية: (61) .
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 3 / 430.
(4) انظر: أصول السنة لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل ص 5، وكتاب السنة لعبد الله ابن إمام أهل السنة أحمد ابن حنبل، 1 / 164، 1 / 267، وكتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل، للإمام محمد بن خزيمة 2 / 563، والعقيدة الطحاوية بتعليق سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز ص 3- 14، وشرح السنة للإمام الحسن بن علي البربهاري ص 71، ومقالات الإسلاميين للإمام علي بن إسماعيل الأشعري، 1 / 345 -350، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للإمام هبة الله بن الحسن اللالكائي، 2 / 242- 253، و 3 / 430 -582، والتدمرية تحقيق إثبات الأسماء والصفات، لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 31 -43، والعقيدة الواسطية، لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 6 -38، وفتاوى ابن تيمية " العقيدة الحموية " 5 / 26 و 112، و 3 / 129 والصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم 1 / 158، واجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم ص 141، والقصيدة النونية، لابن القيم ص 6، وشرح العقيدة الطحاوية، لعلي بن أبي العز، ص 128، وفتح المجيد لشرح كتاب التوحيد، لعبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، 2 / 672، وتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة ابن القيم، لأحمد بن إبراهيم بن عيسى 1 / 28.(1/267)
ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحث على التوبة النصوح: دل الحديث على أن الحث على التوبة من أهم موضوعات الدعوة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: ". . . «ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد» وهذا فيه بيان للناس أن الإِسلام يهدم ما كان قبله، وأن التوبة تهدم ما كان قبلها، فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يحث المدعوين على التوبة، ويبين لهم أن الله أمر بها، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] (1) وقال سبحانه وتعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] (2) وقال - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن العاص: " أما علمت أن الإِسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله " (3) وكذلك التوبة تهدم ما كان قبلها إذا كملت شروطها: من الندم، والإِقلاع عن الذنب، والعزيمة على عدم العودة ورد المظالم؛ فإن: " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " (4) .
ثالثا: من صفات الداعية: عدم اليأس من رحمة عز وجل: لا شك أن الله يقبل توبة التائبين، وأن الكافر إذا تاب من كفره قبل الله توبته، ولو كان قد قتل أحدا من المسلمين؛ لأن الشرك أعظم الذنوب، وقد هدمه الإِسلام، فما دون الشرك أولى بالهدم بالإِسلام والتوبة؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: " ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد ".
فينبغي للتائب عدم اليأس فِي رَوْحِ الله وعدم القنوط من رحمة الله، قال الله عز وجل {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] (5) وقال عز وجل {قلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفوا عَلَى أَنْفسِهِمْ لا تَقْنَطوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] (6) .
_________
(1) سورة التحريم، الآية: (8) .
(2) سورة النور، الآية (31) .
(3) مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الِإسلام يهدم، ما كان قبله وكذا الحج والهجرة، 1 / 112، برقم 121.
(4) سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، 2 / 1420، برقم 2450، من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه، والطبراني في الكبير 10 / 150 برقم 10281، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة، برقم 615، 616، وفي صحيح سنن ابن ماجه، 2 / 418. وانظر: المقاصد الحسنة للسخاوي ص 52.
(5) سورة يوسف، الآية: (87) .
(6) سورة الزمر، الآية: (53) .(1/268)
رابعا: من وسائل الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على الترغيب في الإِسلام، والترغيب في الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، والترغيب في التوبة من جميع المعاصي، فقد بين - صلى الله عليه وسلم - فيه أن القاتل تاب الله عليه وقاتل في سبيل الله فقتل فدخل الجنة. ومعنى هذا الحديث عند العلماء " أن قاتل الأول كان كافرا، وتوبته المذكورة في هذا الحديث: إسلامه " (1) قال الله عز وجل {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38] (2) .
قال الإِمام ابن عبد البر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " فيه دليل أن كل من قتِلَ في سبيل الله فهو في الجنة - إن شاء الله - وكل من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى فهو في الجنة (3) .
فينبغي للداعية إلى الله - عز وجل - أن يرغب الناس في الإِسلام ويرغبهم في التوبة إلى الله عز وجل انظر (4) .
[قول أبان بن سعيد ينعى علي قتل رجل مسلم أكرمه الله على يدي ولم يهني] على يديه
_________
(1) انظر: الاستذكار لابن عبد البر، 14 / 217، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 41، وعمدة القاري للعيني، 14 / 123.
(2) سورةالآنفال، الآية: (38) .
(3) " الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار، 14 / 217.
(4) الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 18، الدرس الخامس.(1/269)
40 [ص:2827] حَدَّثَنَا الحمَيْدِيّ: حَدَّثَنَا سفْيَان: حَدَّثَنَا الزّهْرِيّ قَالَ: أَخبرَني عَنْبَسَة بْن سَعِيد، عَنْ أَبي هريْرَةَ (1) رضي الله عنه قَالَ: «أَتَيْت رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهوَ بِخَيْبَرَ بَعْدَ مَا افْتَتَحوهَا فَقلَت: يَا رَسولَ اللهِ أَسْهمْ لِي، فَقَالَ بَعْض بَنِي سَعِيدِ بْن العَاصِ: (2) لا تسْهِمْ لَه يَا رَسولَ اللهِ، فَقَالَ أبو هرَيْرَةَ: هَذَا قَاتِل ابْنِ قَوْقَلٍ (3) فَقَالَ ابْن سعِيدِ بْنِ العَاصِ: وَاعَجَبا لِوَبْرٍ تَدَلَّى عَلَيْنَا مِنْ قدومِ ضَأْنٍ (4) يَنْعَى عَلَيَّ قَتْلَ رَجل مسْلِمٍ أَكْرَمَه الله عَلَى يَدَيَّ، وَلَمْ يهِنِّي عَلَى يَدَيْهِ. قَالَ: فَلاَ أَدْرِي أَسْهَمَ لَه أمْ لَمْ يسْهِمْ» .
قَالَ سفْيَان: وَحَدَّثَنِيهِ السَّعِيديّ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هرَيْرَةَ.
قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ: السَّعِيدِيّ هوَ عَمْرو بْن يَحْيَى بنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرو بْنِ سَعيدِ ابْنِ العاص (5) .
وفي رواية: «بَعَثَ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَانَ عَلَى سَرِيَّةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ قِبَلَ نَجْدٍ، قَالَ أَبو هرَيْرَةَ: فَقَدِمَ أَبَان وَأَصْحَابه عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِخَيْبَرَ بَعْدَمَا افْتَتَحَهَا، وَإِنَّ حزمَ خَيْلِهِمْ لَلِيْف. قَالَ أبو هرَيْرَةَ: يَا رَسولَ اللهِ لا تَقْسِمْ لَهم. قَالَ أَبَان: وَأنتَ بهَذَا يَا وَبْر تَحَدَّرَ مِنْ رَأْسِ ضَأْنٍ. فَقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: " يَا أَبَان اجْلِسْ " فَلَمْ يَقْسِمْ لَهمْ» (6) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 7.
(2) هو أبان بن سعيد بن العاص كما بينته الرواية التي بعده برقم 4239.
(3) ابن قوقل: هو النعمان بن قوقل بن أصرم، بن فهر، بن ثعلبة، ويقال: قوقل لقب واسمه ثعلبة، أو مالك ابن ثعلبة، وقد ينسب النعمان إلى جده فيقال النعمان بن قوقل، شهد بدرا، واستشهد يوم أحد، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: " أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - النعمان بن قوقل فقال: يا رسول الله، أرأيت إذا صليت المكتوبات وصمت رمضان، وأحللت الحلال وحرمت الحرام. ولم أزد على ذلك شيئا. أَدخل الجنة؟ قال: نعم قال: والله لا أزيد على ذلك شيئا 1 / 44 برقم 15، رضي الله عنه. انظر: الإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 3 / 564، وفتح الباري له، 6 / 41.
(4) " من قدوم ضأن " قال الإِمام الخطابي " وفي أكثر الروايات " ضأل " انظر: أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري 2 / 1371، ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن دقيق العيد أنه قال: رواية الهمداني باللام وهو الصواب. وهو السدر البري انظر: فتح الباري 6 / 41.
(5) الحديث 2827، أطرافه في: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 5 / 96، 97، برقم 4237 و 4238 و 4239.
(6) من الطرف رقم 4238.(1/270)
وفي رواية: " أَنَّ أَبَانَ بْنَ سَعِيدٍ أَقْبَلَ إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبو هرَيْرَةَ يَا رَسولَ اللهِ هَذَا قَاتِل ابْنِ قَوْقَلٍ " الحديث (1) .
* شرح غريب الحديث: وبر ": الوبْر: دويبة على قدر السنور، غبراء أو بيضاء، حسنة العينين، شديدة الحياء، حجازية، والأنثى: وبرة، وجمعها: وبور، ووبار؛ وإنما شبهه بالوبر تحقيرا له (2) .
* " تحدر " أي: تَنَزَّل (3) .
* " قدوم ضأن " قيل هي ثنية أو جبل بالسراة من أرض دوس (4) .
* " ينعى " أي يعيبني بقتل رجلٍ أكرمه الله بالشهادة على يديّ (5) .
* " الليف " الليف: ليف جمّار النخل (6) واحدته ليفة: وهو قشر النخل الذي يجاور السعف (7) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أدب المدعو مع الداعية.
2 - الدفاع عن النفس بالصدق والحكمة.
3 - أهمية إرسال الدعاة إلى البلدان.
4 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
_________
(1) من الطرف رقم: 4239.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع الباء، مادة " وبر "، 5 / 145.
(3) القاموس المحيط، للفيروز آبادي، باب الراء فصل الحاء، مادة " حدر " ص 477.
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع الدال، مادة " قدم " 4 / 27.
(5) المرجع السابق، باب النون مع العين، مادة " نعا " 5 / 85.
(6) تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي ص 537.
(7) انظر: المعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية، مادة " ليف " 2 / 850.(1/271)
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: أدب المدعو مع الداعية: دل الحديث على أنه ينبغي للمدعو أن يلتزم الأدب مع الداعية، فيسلم عليه إذا أقبل، ولا يجادل في مجلسه ولا يخاصم؛ ولهذا الأدب جاء في هذا الحديث: " أن أبان بن سعيد رضي الله عنه أقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسلم عليه "، وهذا من حسن أدبه كون، ومن حسن أدب أبي هريرة رضي الله عنه أنه لم يَردَّ على أبان بن سعيد بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل سكت احتراما وإجلالا للنبي - صلى الله عليه وسلم - (1) .
ثانيا: الدفاع عن النفس بالصدق والحكمة: إن الدفاع عن النفس بالصدق والأسلوب الحسن لا حرج فيه ولا عيب؛ ولهذا قال أبان بن سعيد في هذا الحديث لأبي هريرة رضي الله عنه: ". . ينعى عليَّ قتل رجل مسلم أكرمه الله على يَدَيَّ، ولم يهنِّي على يديه "، وهذا الرد صدق وحق وحكمة؛ فإن التائب من الذنب لا لوم عليه ولا توبيخ؛ ولهذا حَجَّ أبان أبا هريرة رضي الله عنه كما حج آدم موسى صلى الله عليهما وسلم، وقد ثبت الحديث بذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «احتج آدم وموسى فقال له موسى: يا آدم، أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك (2) بيده أتلومني على أمر قدّره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؛ فحج آدم موسى، فحج آدم موسى» ثلاثا (3) فالإِنسان لا يلام على الذنب بعد التوبة منه، ولا يلام على المصائب التي أصابته (4) .
_________
(1) انظر: عمدة القاري للعيني 14 / 125، وفتح الباري 7 / 491.
(2) في رواية لمسلم وكتب لك التوراة بيده " 4 / 43 0 2، برقم 2652.
(3) متفق عليه: البخاري، في كتاب القدر، باب احتجاج آدم وموسى عند الله عز وجل، 7 / 272، برقم 6614، ومسلم، كتاب القدر، باب احتجاج آدم وموسى عليهما السلام، 4 / 2042، برقم 2652.
(4) انظر: فتاوى ابن تيمية، 8 / 178، 36 / 381، وعمدة القاري للعيني 14 / 125.(1/272)
ثالثا: أهمية إرسال الدعاة إلى البلدان: إن إرسال الدعاة إلى الله عز وجل إلى البلدان والأقطار التي ليس فيها من يدعو إلى الله عز وجل من أهم المهمات؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث البعوث، ويرسل السرايا للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ثم لقتال من رد الدعوة ولم يدفع الجزية للمسلمين.
وقد ظهر في هذا الحديث ما يدل على ذلك من قول أبي هريرة رضي الله عنه «بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبان على سرية من المدينة قِبَل نجد» ، فينبغي لمن له أمر وقدرة مشروعة أن يبعث الدعاة إلى الله عز وجل؛ ليبلغوا دين الله ويقيموا الحجة على الناس، والله المستعان (1) .
رابعا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب في الجهاد، والإِسلام، والتوبة؛ ولهذا قال أبان بن سعيد رضي الله عنه في شأن أبي هريرة رضي الله عنه: " ينعى عليَّ قتل رجل مسلم أكرمه الله على يديَّ ولم يهني على يديه " قال العلامة العيني رحمة الله في فوائد هذا الحديث: " وفيه أن التوبة تمحو ما سلف قبلها من الذنوب: القتل وغيره؛ لقوله: " أكرمه الله على يديَّ، ولم يهنِّي على يديه "؛ لأن ابن قوقل وجبت له الجنة بقتل ابن سعيد له، ولم تجب لابن سعيد النار؛ لأنه أسلم " (2) .
_________
(1) انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، 3 / 163 -593.
(2) عمدة القاري للعيني 14 / 125، وانظر: معام السنن للخطابي 4 / 46، ونيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، لمحمد بن علي الشوكاني 9 / 309، وانظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر رقم 16، الدرس السادس.(1/273)
[باب من اختار الغزو على الصوم]
[حديث أنس في أبي طلحة أنه ما كان يصوم على عهد النبي من أجل الغزو]
29 - بَاب من اخْتارَ الْغزْوَ على الصّوْمِ 41 -[2828] حَدَّثَنَا آدَم: حَدَّثَنَا شعبَة: حَدَّثَنَا ثَابِت البنَانِي قَالَ: سَمِعْت أنسَ بْنَ مَالِكٍ تقدمت (1) رضي الله عنه قَالَ: " كَانَ أَبو طَلْحَة (2) لَا يَصوم عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَجْلِ الْغَزْوِ، فَلَمَّا قبِضَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ أَرَه مفْطِرا إِلَّا يَوْمَ فِطْر أَوْ أَضْحَى ".
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - فضل الجهاد في سبيل الله عز وجل:
2 - من القواعد الدعوية: عمل أعْلَى المصلحتين عند التعارض.
3 - من صفات الداعية: الحرص على فعل الخير.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: فضل الجهاد في سبيل الله عز وجل: يظهر في هذا الحديث أن الجهاد من أفضل الأعمال الصالحة، وأنه أفضل
_________
(1) ترجمته في حديث رقم 14.
(2) أبو طلحة: اسمه زيد بن سهل بن الأسود، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أخواله بني النجار، الأنصاري رضي الله عنه، شهد العقبة، وبدرا، وأحدا، والخندق، والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أحد النقباء، وهو الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لصوت أبي طلحة أشد على المشركين من فئة " أخرجه أحمد 3 / 203، وأبو يعلى في مسنده 8 / 62، برقم 3983، وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 312، أن رجال أحمد رجال الصحيح. وهو ممن سقط السيف من يده يوم بدر من النعاس، وكان يرمي ببن يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد يدافع عنه، كسر يومئذ سهمين أو ثلاثة، وكان الرجل يجيء بالجعبة من النبل فيقول - صلى الله عليه وسلم - " انثرها لأبي طلحة " البخاري برقم 2880،، وقتل يوم حنين عشرين رجلا من المشركين، وكان من أكثر أهل المدينة مالا فقال: يا رسول الله إن أحب أموالي إلي بيرحَاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال - صلى الله عليه وسلم - ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وإني أرى أن نجعلها في الأقربين " [البخاري برقم، 2769 وسلم برقم 998] ، وذلك بعدما سمع - صلى الله عليه وسلم - لَنْ تَنَالوا الْبِرَّ حَتَّى تنْفِقوا مِمَّا تحِبّونَ آل عمران، الآية: 92 وكان يسرد الصوم كثيرا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنان وتسعون حديثا، اتفق البخاري ومسلم على حديثين منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديث. وتوفي بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، وقيل أربع وثلاثين، وهو ابن سبعين سنة ورجح ذلك الذهبي، وقيل: توفي سنة خمسين أو إحدى وخمسين غازيا في البحر فما وجدوا جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام ولم يتغير، قال ابن حجر: " أخرجه الفسوي في تاريخه وأبو يعلى وإسناده صحيح " ورجح هذا القول واحتج له. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 245، وسير أعلام النبلاء للذهبي 2 / 27 -34، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1 / 566.(1/274)
من صيام التطوع؛ ولهذا كان أبو طلحة رضي الله عنه يترك صيام التطوع؛ لِيَتَقَوَّى على الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ لعلمه رضي الله عنه بفضل الجهاد ومكانته من الدين (1) .
ثانيا: من القواعد الدعوية: عمل أعْلَى المصلحتين عند التعارض: دل الحديث على هذه القاعدة العظيمة، وأن المسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل إذا تعارضت عنده مصلحتان ولا يستطيع الجمع بينهما؛ فإنه يأخذ بأعلاهما أجرا وثوابا وفائدة؛ ولهذا قَدَّم أبو طلحة رضي الله عنه الجهاد على صيام التطوع؛ لأن الجهاد من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل وهذا يبين للداعية أهمية الأخذ بأعلى المصالح، والبدء بالأهم فالمهم (2) .
ثالثا: من صفات الداعية: الحرص على فعل الخير: يظهر في هذا الحديث أن من الصفات الحميدة الحرص على فعل الخير، وأن ذلك من أهم الصفات التي ينبغي أن يتصف بها الداعية إلى الله عز وجل؛ ولهذا حرص أبو طلحة على الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك ما يضعفه عنه من صيام التطوع، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقوي الإِسلام واشتدت وطأة المسلمين على العدو، ورأى أنه في سعة عما كان عليه من الجهاد، حرص على أن يأخذ بحظه من الصوم؛ ليجمع بين هاتين الطاعتين العظيمتين رضي الله عنه (3) .
وهذا يبين للمسلم وخاصة الداعية أهمية الحرص على عمل الخير، والمبادرة إليه: من الصيام المشروع، وغيره من الطاعات التي تجعله قدوة صالحة لغيره من الناس، ولعل قول أنس رضي الله عنه عن أبي طلحة رضي الله عنه " لم أره مفطرا إلا يوم فِطر أو أضحى " كناية عن كثرة الصيام لا عن صيام الدهر، والله
_________
(1) انظر: عمدة القاري للعيني 14 / 126، ومنار القاري في شرح مختصر صحيح البخاري، لحمزة محمد قاسم 4 / 94، وانظر: الحديث رقم 18 الدرس الخامس.
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر 6 / 42، وعمدة القاري للعيني 14 / 26، والفتح الرباني، ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، لأحمد بن عبد الرحمن البنا، 22 / 390.
(3) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 6 / 42، وعمدة القاري، للعيني، 14 / 126.(1/275)
أعلم (1) ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا صام من صام الأبد» (2) وقد ذكر ابن حجر رحمه الله أن ذلك يفيد كراهية صوم الدهر، لأنه - صلى الله عليه وسلم - دعا على من صام الأبد، وقيل «لا صام» للنفي أي ما صام (3) وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " يحتمل أنه دعاء على من صام الأبد، ويحتمل أنه إخبار بأنه لا صوم له وأنه ليس بصوم شرعي " (4) وسمعته يقول عن صيام أبي طلحة رضي الله عنه " وهذا يدل على أن أبا طلحة رضي الله عنه لم يبلغه حديث «لا صام من صام الأبد» فلا يجوز صيام الدهر " (5) .
فينبغي للداعية أن يكون حريصا على فعل الخير، ولكن يتقيّد بما شرعه الله -عز وجل - وبينه رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -.
_________
(1) انظر: منار القاري في شرح مختصر صحيح البخاري، لحمزة بن محمد بن قاسم 4 / 94.
(2) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه البخاري، كتاب الصوم، باب حق الأهل في الصوم، 1 / 300، برقم 1977، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقا، أو لم بفطر العيدين والتشريق، وبيان تفضيل صوم يوم وإفطار بوم، 2 / 815، برقم 1159،.
(3) انظر: فتح الباري 4 / 222- 224.
(4) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 1977، من صحيح البخاري، في جامع الإمام تركي بن عبد الله- الرياض.
(5) سمعته من سماحته حفظه الله أثناء شرحه لحديث رقم 2828 من صحيح البخاري.(1/276)
[باب الشهادة سبع سوى القتل]
[حديث الطاعون شهادة لكل مسلم]
30 - بَاب الشَّهادَة سبع سوَى القتل 42 [ص:2830] حَدَّثَنَا بِشْر بْن محَمَّدٍ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللهِ: أَخْبَرَنَا عَاصِم، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِيْنَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (1) رضي الله عنه عَنِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «الطَّاعون شَهَادَة لِكلِّ مسْلِم» (2) .
وفي رواية: حفصة بنت سيرين مات أخوها يحيى فقال لها أنس بن مالكٍ رضي الله عنه ": " يَحْيَى بم مَات؟ قَالَتْ: قلْت مِنَ الطَاعون، قَالَ: قَالَ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الطَّاعونَ شَهَادة لِكلِّ مسْلم» (3) .
* شرح غريب الحديث: " الطاعون " المرض العامّ والوباء الذي يفسد له الهواء فتفسد به الأمزجة، والأبدان (4) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من خصائص الإِسلام: شهداء غير المعركة.
2 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
3 - من أساليب الدعوة: تسلية المصاب بذكر الثواب.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من خصائص الإسلام: شهداء غير المعركة: دل الحديث على أن الطاعون شهادة لكل مسلم خاصة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيَّد
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 14.
(2) الحديث 2830، طرفه في كتاب الطب، باب ما بذكر في الطاعون، 7 / 29، برقم 5732. وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب بيان الشهداء، 3 / 1522، برقم 1916.
(3) من الطرف رقم 5732.
(4) النهاية في فريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الطاء مع العين، مادة: " طعن " 3 / 127.(1/277)
هذه الشهادة بالإِسلام كما في نص الحديث: «الطاعون شهادة لكل مسلم» ، وهذا يدل على أن الخير العظيم لأهل الإِسلام؛ قال الإِمام عبد الله بن أبي جمرة في فوائد هذا الحديث: " فيه دليل على فضل هذه الأمة على غيرها؛ لأن الطاعون كان بلاء لغيرها، وجعِلَ شهادة لها " (1) .
وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله عز وجل خص أمته بشهداء كثير فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما تعدون الشهيد فيكم؟ " قالوا يا رسول الله، من قتِلَ في سبيل الله فهو شهيد. قال: " إن شهداء أمتي إذا لقليل " قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: " من قتِلَ في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد» وفي رواية: «والغَرِيق شَهِيد» (2) وفي حديث آخر: ". . «وصاحب الهدم» (3) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وقد اجتمع لنا من الطرق الجيدة أكثر من عشرين خصلة "، ثم ذكر هؤلاء الشهداء (4) وقال ابن التين رحمه الله: " هذه كلها ميتات فيها شدة تفضل الله على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بأن جعلها تمحيصا لذنوبهم وزيادة في أجورهم يبَلِّغهم بها مراتب الشهداء " (5) وقال الكرماني رحمه الله: ". . الشهداء ثلاثة أقسام: شهيد الدنيا والآَخرة، بأن لا يغسل ولا يصلَّى عليه في الدنيا وله الثواب في الآخرة، وهو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وشهيد الدنيا؛ بأن لا يغسل ولا يصلَّى عليه في الدنيا ولم يكن له الثواب في الآخرة، وهو من قاتل للرياء والسمعة والغنيمة، وشهيد الآخرة، فيغسل ويصلى عليه وله الثواب في الآخرة كالمطعون. . " (6) وهذا كله يدل على فضل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن الله خصها بخصائص عظيمة.
_________
(1) بهجة النفوس، شرح مختصر صحيح البخاري 3 / 111.
(2) مسلم، كتاب الإِمارة، باب بيان الشهداء، 3 / 1521، برقم 1915، عن أبي هريرة رضي الله عنه،.
(3) متفق عليه من حديث أبو هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب الأذان، باب فضل التهجير إلى الظهر، 1 / 181، برقم 653، ومسلم، كتاب الإِمارة، باب بيان الشهداء، 3 / 1521، برقم 1914.
(4) فتح الباري 6 / 43،.
(5) نقلا عن الحافظ ابن حجر رحمه الله من فتح الباري 6 / 44،.
(6) شرح صحيح البخاري للكرماني 21 / 81 وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم 3 / 67 وإكمال إكمال المعلم للأبي 6 / 671.(1/278)
ثانيا: من أساليب الدعوة الترغيب: ظهر في هذا الحديث أسلوب الترغيب في الشهادة ولو في غير المعركة، وهو يحث على الصبر والاحتساب، رغبة في الحصول على الشهادة؛ ولهذا بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أن " الطاعون شهادة لكل مسلم " وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - «أن الطاعون " كان عذابا يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له، إلا كان له مثل أجر الشهيد» (1) .
فينبغي للداعية أن يرغب المدعوين في احتساب الثواب والصبر للرغبة في ذلك، وسؤال الله العافية في الدنيا والآخرة (2) .
ثالثاَ: من أساليب الدعوة: تسلية المصاب بذكر الثواب: إن من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، تسلية المصاب بذكر الثواب من الله عز وجل ولهذا ذكر أنس بن مالك رضي الله عنه في هذا الحديث لحفصة بنت سيرين ثواب من مات بالطاعون؛ لأنه لما توفي أخوها يحيى، قال لها أنس رضي الله عنه: " يحيى بمَ مات؟ قالت: قلت من الطاعون. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الطاعون شهاَدة لكل مسلم» .
فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب مع من أصيب بمصائب في الأهل أو النفس أو المال، والله المستعان.
[باب قول الله لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون] في سبيل الله
_________
(1) البخاري، كتاب الطب، باب أجر الصابر على الطاعون، 4 / 29، برقم 5734.
(2) انظر-: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 18، الدرس الخامس.(1/279)
[حديث سبب نزول قوله تعالى غير أولي الضرر]
31 - باب قولِ الله عز وجل {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ} [النساء: 95] إلى قوله: {غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] (1) .
43 [ص:2831] حَدَّثَنَا أَبو الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا شعْبَة، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْت البَرَاءَ (2) رضي الله عنه يَقول: «لمَا نَزَلَت: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] دَعَا رِسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زَيْدا (3) فَجَاءَ بِكتَابٍ فَكَتَبَهَا. وَشَكَا ابن أمِّ مَكْتوم (4) ضَرارتَه فنزَلَتْ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] » (5) .
وفي رواية: عن البراء رضي الله عنه قال: «لَمَا نَزَلَتْ {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - " ادْع لي زَيْدا، وَلْيَجِيء بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ والْكَتِفِ - أَوْ الْكَتِفِ والدَّوَاةِ " ثمَّ قَالَ: " اكْتبْ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} [النساء: 95] وَخَلْفَ ظَهْرِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عَمْرو ابْن أمِّ مَكْتومٍ الأَعْمَى، فَقَالَ يَا رَسولَ اللهِ فَمَا تَأْمرني؛ فَإني رَجل ضرير الْبَصَرِ؟ فنَزَلَتْ مَكَانَها: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95]
_________
(1) سورة النساء، الآيتان (95-96) .
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 30.
(3) زيد بن ثابت تقدمت ترجمته في الحديث رقم 29.
(4) عمرو ابن مكتوم رضي الله عنه، ويقال: اسمه: عبد الله، وعمرو هو اسمه عند الأكثر، وهِو عَمْرو بن قيس بن زائدة بن الأصم. وأهل المدينة يسمونه عبد الله، وأهل العراق سموه عمرا. وأمه: أم مكتوم هي عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة، المخزومي، وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها فإن أم خديجة أخت قيس بن زائدة، واسمها فاطمة. أسلم رضي الله عنه قديما، وكان من السابقين المهاجرين الأولين، وكان ضريرا مؤذنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع بلال، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستخلفه على المدينة - في عامة غزواته - يصلِّي بالناس، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلفه ثلاث عشرة مرة، وشهد القادسية ومعه الراية سنة خمس عشرة من الهجرة، وعلى المسلمين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وعلى المشركين رستم، وكان المسلمون أكثر من سبعة آلاف؛ والمشركون أربعين، وقيل سنين ألفا معهم سبعون فيلا، فقتل رستم وانهزموا. واستشهد ابن أم مكتوم في هذه المعركة وهو حامل اللواء فيها، وقيل: بل رجع إلى المدينة ومات بها. رضي الله عنه، انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 1 / 360- 365، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 523.
(5) الحديث 2831، أطرافه في: كتاب تفسير القرآن، 4 سورة النساء، باب (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) 216 و 217، برقم 4593 و 4594. وكتاب فضائل القرآن، باب كاتب النبي - صلى الله عليه وسلم -، 6 / 121، برقم 4990. وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب سقوط فرض الجهاد عن المعذورين، 3 / 1508، برقم 1898.(1/280)
[والمجاهدون في سبيل الله] {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] » الآية / (1) .
[حديث آخر في سبب نزول قوله تعالى غير أولي الضرر]
44 -[2832] حَدَّثَنَا عَبْد العَزِيزِ بْن عَبدِ اللهِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن سَعْدِ الزّهْرِيّ قَالَ: حَدَّثَنِي صَالِح بْن كَيْسَانَ، عَن ابْنِ شهَاب، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أنه قَالَ: «رَأَيْت مَرْوَانَ بْنَ الحَكَمِ جَالِساَ فِي المَسْجِدِ فَأَقْبَلْت حَتَّى جَلَسْت إِلَى جَنْبِهِ، فَأَخْبَرنَا أَنَّ زَيدَ بْنَ ثَابِتٍ أَخبرَه: أَنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أمْلَى عَلَيْهِ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] قَالَ فَجَاءَه ابْن أمِّ مَكْتومٍ وهوَ يملهَا عَلَيَّ فَقَالَ: يَا رَسولَ اللهِ لَوْ أَسْتَطِيع الجِهَادَ لَجَاهَدْت - وَكَانَ رَجلا أَعْمَى - فَأَنزَلَ الله تَعَالَى عَلَى رَسولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَفَخِذه عَلَى فَخِذِي. فَثَقلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْت أَنْ ترَضَّ فَخِذِي. ثمَّ سرِّيَ عَنْه، فَأَنزَلَ الله عز وجل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] » (2) .
* شرح غريب الحديثين: * " الكتف ": عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان (3) .
" الدواة " هي: المحبرة (4) .
" ترَضّ " الرضّ: الكسر، والدق بالحجر، بمعنى واحد (5) .
" سرِّيَ عنه " أي: كشِفَ عنه الخوف، وقد تكررت هذه اللفظة في الأحاديث، وخاصة في ذكر نزول الوحي عليه - صلى الله عليه وسلم -، وكلها بمعنى: الكشف والإِزالة، يقال: سرَوْت الثَوْبَ: وَسريْته: إذا خَلَعته. والتشديد فيه للمبالغة (6) .
_________
(1) من الطرف رقم 4990، وقال الحافظ في الفتح 9 / 23: " هكذا وقع بتأخير لفظ " غَيْر أولِي الضَّرَرِ " والذي في التلاوة " غَيْر أولِي الضَّرَرِ " قبل " وَالْمجَاهِدونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " وقد جاء في الطرف رقم: 4594 كما في التلاوة.
(2) الحديث 2832، طرفه في: كتاب تفسير القرآن، 4 سورة النساء، باب لا يَسْتَوِي الْقَاعِدونَ مِنَ الْمؤْمِنِينَ، 5 / 16 2، برقم 4592.
(3) انظر: غريب الحديث رقم 29.
(4) المعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية، مادة " داوَى " 1 / 306.
(5) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي ص 242، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الضاد، مادة " رضض " 2 / 229.
(6) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع الراء، مادة " سرى " 2 / 364.(1/281)
* الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها:
1 -من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله عز وجل.
2 - النية الصالحة تبلغ ما يبلغ العمل عند عدم الاستطاعة.
3 - أهمية تقييد العلم بالكتابة.
4 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث.
5 - الترغيب في الجهاد في سبيل الله عز وجل.
6 - من خصائص الإِسلام: رفع الحرج.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله عز وجل: دل هذان الحديثان على أن الرغبة فيما عند الله عز وجل من الصفات الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها المسلم، وخاصة الداعية إلى الله عز وجل؛ ولهذه الرغبة حزن عمرو ابن أم مكتوم على الجهاد، ورغب فيه: رغبة في فضله وفضل الشهادة في سبيل الله عز وجل فقال رضي الله عنه عندما سمع قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت؛ لأنه رضي الله عنه كان أعمى، وقال: يا رسول الله فما تأمرني فإني ضرير البصر، وهذا كله يدل على الرغبة فيما عند الله عز وجل (1) .
ثانيا: النية الصالحة تبلغ ما يبلغ العمل عند عدم الاستطاعة: دل الحديثان على أن النية الصالحة تبلغ ما يبلغ العمل عند عدم استطاعة العبد لذلك؛ ولهذا لما صلحت نية عمرو ابن أم مكتوم وصدق حبه للجهاد كتب الله له أجر نيته الصالحة؛ قال الإِمام ابن العربي: " فيه تسوية المعذور والقادر العامل في الأجر من دليل الكتاب والسنة " (2) والآية نص صريح في تسوية أولي الضرر بالمجاهدين في الأجر والثواب إذا صلحت نيَّاتهم.
_________
(1) انظر: الحديث رقم 13، الدرس الثاني، ورقم 16، الدرس الثالث، ورقم 21، الدرس السادس.
(2) عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي 4 / 143، وانظر: فتح الباري، لابن حجر، 6 / 45.(1/282)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وأما أولو الضرر فملحقون في الفضل بأهل الجهاد إذا صدقت نيَّاتهم " (1) وقال العلامة العيني رحمه الله: " وفيه أن من حبسه العذر عن الجهاد وغيره من أعمال البر مع نية فيه فله أجر المجاهد والعامل؛ لأن نص الآية على المفاضلة بين المجاهد والقاعد، ثم استثنى من المفضولين أولي الضرر، وإذا استثناهم منها فقد ألحقهم بالفاضلين " (2) وهذا يبيِّن للمسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل أهمية النية الصالحة (3) .
ثالثا: أهمية تقييد العلم بالكتابة: إن تقييد العلم بالكتابة من الأمور المهمة التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها عناية خاصة؛ ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد بن ثابت رضي الله عنه بكتابة هذه الآية في هذين الحديثين وفي غيرهما. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي أحاديث الباب من الفوائد: اتخاذ الكاتب، وتقريبه، وتقييد العلم بالكتابة " (4) وهذا يدل على أهمية ضبط العلم بالكتابة (5) .
رابعا: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث: إن من الصفات الحميدة: العناية والدقة في نقل الحديث، وفي نقل العلم للناس، وقد دل الحديث على هذه الصفة في قول الراوي: " وليجيء باللّوح والدواة، والكتف - أو الكتف والدواة - "، قال الإمام الكرماني رحمه الله " شكّ الراوي في تقديم الدواة على الكتف وتأخيرها " (6) وهذا يدل على حرص السلف الصالح رحمهم الله على الدقة في نقل العلم وتبليغه كما سمعوه (7) .
_________
(1) فتح الباري 8 / 262.
(2) عمدة القاري 14 / 130.
(3) انظر: الحديث رقم 22، الدرس: السادس.
(4) فتح الباري 8 / 262، وانظر: عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي، لابن العربي 4 / 143، وإكمال إكمال المعلم، شرح صحيح مسلم، للأبي 6 / 632، وعمدة القاري، للعيني 14 / 130.
(5) انظر: الحديث رقم 29، الدرس الثاني.
(6) شرح الكرماني على صحيح البخاري 19 / 10.
(7) انظر: الحديث رقم 21، الدرس العاشر.(1/283)
خامسا: الترغيب في الجهاد في سبيل الله عز وجل: ظهر في هذين الحديثين الترغيب في الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، وأن المجاهد له الدرجات العلى؛ لأن الحديثين اشتملا على قول الله عز وجل {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] (1) وقال عز وجل في الآية التي بعدها: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] (2) وهذا ترغيب عظيم لأهل الإِيمان في الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى (3) .
سادسا: من خصائص الإسلام: رفع الحرج: دل هذان الحديثان على أن الإِسلام دين السماحة واليسر على الناس، وأنه يرفع الحرج، وأن الله عز وجل لا يكلف عباده إلا بما يطيقون. وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أملى على زيد بن ثابت رضي الله عنه قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] (4) فقال ابن أم مكتوم رضي الله عنه: " يا رسول الله فما تأمرني؛ فإني رجل ضرير البصر [لو استطعت الجهاد لجاهدت؟] " فأنزل الله عز وجل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] فما أعظم هذه السماحة والتشريع، وما أكرم الله عز وجل وأرحمه بعباده، ومن رحمته أن رفع عنهم الحرج (5) كما قال عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] (6) وقال سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] (7) فينبغي للداعية أن يبين للناس سماحة الإِسلام وتيسيره على الناس ورفع الحرج عنهم (8) .
_________
(1) سورة النساء، الآية: (95) .
(2) سورة النساء الآية: (96) .
(3) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الخامس.
(4) سورة النساء، الآية: (95) .
(5) انظر المنهل العذب الفرات من أحاديث الأمهات، من صحيح الإمام البخاري، للدكتور عبد العال أحمد 3 / 205.
(6) سورة البقرة، الآية: (286) .
(7) سورة التغابن، الآية: (16) .
(8) انظر الحديث رقم 1، الدرس الخامس، ورقم 32، الدرس الأول.(1/284)
[باب التحريض على القتال]
[حديث اللهم إن العيش عيش الآخرة]
33 - باب التحريض على القتال، وقول الله تعالى {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] (1) .
45 [ص:2834] حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن محَمَّدِ: حَدَّثَنَا معَاوِيَة بْن عَمْرو: حَدَّثَنَا أبو إِسْحَاقَ، عَنْ حمَيْد قَالَ: سَمِعْت أَنسا (2) رضي الله عنه يَقول: «خَرَجَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الْخَنْدَقِ فَإذَا الْمهَاجِرونَ والأنصَار يَحْفِرونَ فِي غَدَاة بَارِدَة، فَلَمْ يَكنْ لهمْ عَبِيد يَعْمَلونَ ذَلِكَ لَهمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْجوعِ قَالَ: " اللَّهمَّ إِنَّ العَيْشَ عَيْش الآخِرَة، فَاغْفِر لِلأَنْصَارِ وَالْمهَاجِرَة. فَقَالوا مجِيبِينَ لَه ":
نحْن الَّذِينَ بَايَعوا محَمَّدا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا بقينَا أَبَدا
» (3) .
وفي رواية: «جَعَلَ المهَاجِرونَ والأنصار يَحْفرونَ الخَنْدَقَ حَوْلَ المَدِينَة، ويَنْقلونَ التّرَابَ عَلَى متونهِمْ، وَيَقولونَ:
نحْن الَّذِينَ بَايَعوا محَمَّدا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا بقِينَا أَبَدا
والنَّبِي صلى الله عليه وسلم يجِيبهمْ وَيَقول: " اللَّهمَّ إِنَّه لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْر الآخِرَة فَبَارِكْ فِي الأَنْصَارِ والْمهَاجِرَة» (4) .
وفي رواية: «اللَّهمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْش الآخرة، فَأَكْرِمِ الأَنْصَارَ وَالْمهَاجِرَة» (5) .
_________
(1) سورة الأنفال، الآية: 65.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 14.
(3) [الحديث 2834] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب حفر الخندق، 3 / 280، برقم 2835. وكتاب الجهاد والسير، باب البيعة في الحرب على أن لا يفروا، وقال بعضهم: على الموت، 4 / 10، برقم 2961. وكتاب مناقب الأنصار، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم " أصلح الأنصار والمهاجرة "، 4 / 272، برقم 3795 و 3796. وكتاب المغازي، باب غزوة الخندق، 5 / 54، برقم 4099 و 4100. وكتاب الرقاق، باب ما جاء في الصحة والفراغ ولا عيش إلا عيش الآخرة، 7 / 218، برقم 6413. وكتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإِمام الناس، 8 / 155، برقم 7201. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب وهي الخندق، 3 / 1431، برقم 1805.
(4) من الطرف رقم 2835.
(5) من الطرف رقم 2961.(1/285)
وفي رواية: «لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْش الآخرة، فَأَصْلحِ الأَنْصَارِ وَالْمهَاجِرَة» (1) .
وفي رواية: أَنهم يَقولونَ:
"
نَحْن الَّذِينَ بَايَعوا محَمَّدا ... عَلَى الإِسْلاَمِ مَا تقِينَا أَبَدا
"
وفيها: «يؤتَوْنَ بِمِلْءِ كَفَّي مِنَ الشَّعِيرِ، فَيصْنَع لَهمْ بِإِهَالَة سَنِخَة توضَع بَيْنَ يَدَي الْقَوْم، والْقَوْم جِيَاع وَهِي بَشِعَة في الحَلْقِ وَلَهَا رِيح منْتِن» (2)
[باب حفر الخندق]
[حديث لولا أنت ما اهتدينا]
34 - باب حَفْر الْخنْدَقِ 46 [ص:2836] حَدَّثَنَا أَبو الولِيدِ: حَدَّثَنَا شعْبَة، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْت الْبَرَاءَ (3) رضي الله عنه يَقول: كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَنْقل وَيَقول: «لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا» (4) .
وفي رواية: «رَأَيت رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَحْزَابِ يَنْقل التّرابَ - وَقَدْ وَارَى التّراب بَياضَ بَطْنِه - وَهوَ يَقول:
"
لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صلَّيْنَا
فأَنزِلِ السَّكينَة عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا
إنَّ الألَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... إِذَا أَرَادَوْا فِتْنَة أَبيْنَا
» (5) .
_________
(1) من الطرف رقم 3795، والطرف رقم 4099.
(2) من الطرف رقم 4100.
(3) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 30.
(4) [الحديث 2836] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب حفر الخندق، 3 / 280، برقم 2837. وكتاب الجهاد والسير، باب الرجز في الحرب ورفع الصوت في حفر الخندق، 4 / 32، برقم 3034. وكتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، 5 / 56، برقم 4104 و 5 / 57، برقم 4106. وكتاب القدر، باب وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، 7 / 274، برقم 6620. وكتاب التمني، باب قول الرجل: لولا الله ما اهتدينا، 8 / 166، برقم 7236. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب وهي الخندق، 3 / 1430، برقم 1803.
(5) من الطرف رقم 2837.(1/286)
وفي رواية: «رَأَيْت رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهو يَنْقل التّرَابَ حَتَّى وَارَى التّرَاب شَغرَ صَدْرِه، - وَكَانَ رَجلا كَثِيرَ الشَّعْرِ - وَهوَ يَرْتَجِز بِرَجَزِ عَبْد الله [بن رواحة] :
اللَّهمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلا تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا
فأَنْزِلَنْ سَكِينَة عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا
إنَّ الأَعْدَاء قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... إِذَا أَرَادوا فِتْنَة أَبيْنَا
يَرْفَع بِهَا صوْتَه» (1) .
وفي رواية: «يَرْفَع بِهَا صَوْتَه ": " أَبَيْنَا أَبَيْنَا» (2) .
«ثمَّ يَمدّ صَوْتَه بِآخِرِها» (3) .
. وفي رواية: «رَأَيْت النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الخَنْدَقِ يَنْقل مَعَنَا التّرَابَ وَهوَ يَقول:
"
والله لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... ولاَ صمْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا
فأَنْزِلَنْ سَكِينَة عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا
والمشْرِكونَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... إِذَا أَرَادوا فِتْنَة أَبيْنَا
» (4) .
. وفي رواية: «كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَنْقل التّرَابَ يَوْم الخَنْدَقِ حَتَّى أغْمَرَ بَطْنه أَو اغْبَرَّ بَطْنه» (5) .
* شرح غريب الحديثين: * " غداة باردة " غَدَا يَغْدو غدوّا، والغدْوَة: ما بين صلاة الغداة [الفجر] وطلوع الشمس (6) .
_________
(1) من الطرف رقم 3034.
(2) من الطرف رقم 4104.
(3) من الطرف رقم 4106.
(4) من الطرف رقم 6620.
(5) من الطرف 4104.
(6) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الغين مع الدال، مادة " غدا " 3 / 346.(1/287)
* " النصب ": التعب (1) .
* " متونهم " المتن من كل شيء: ما صلب ظهره، والجمع متون، وهو من الظهر: ما اكتنف أعلى الصلب من العصب واللحم، وهما متنان. والصلب: عظم من مغرس العنق إلى عَجْب الذنب (2) .
* " بإهالة سنخة " الإِهالة: كل شيء من الأدهان مما يؤتدم به، والودك، والسنخة: المتغيرة الريح، والمقصود: الدهن المتغير (3) .
* " بشعة في الحلق " البشع: الكريه الطعم والرائحة (4) .
* " الألَى " بوزن العلَى، فهو جمع لا واحد له من لفظه، واحِده: الذي (5) وجمعه: الذين (6) .
* " أغمر بطنه ": وارى التراب جلده وستره (7) .
* الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل.
2 - من موضوعات الدعوة: الحث على أخذ الحذر والأهبة لصد أعداء الإِسلام.
3 - من صفات الداعية: الصبر وتحمل المشاق.
4 - من سنن الله عز وجل: الابتلاء والامتحان.
_________
(1) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 102، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب النون مع الصاد، مادة " نصب " 5 / 62.
(2) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي ص 251، والقاموس المحيط، للفيروز آبادي، باب النون فصل الميم، ص 1591.
(3) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي ص 251 - 552، ولسان العرب، لابن منظور باب اللام فصل الهمزة، 11 / 32.
(4) تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي ص 252.
(5) مختار الصحاح، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مادة " أول " ص 14.
(6) انظر: فتح الباري لابن حجر 13 / 223، وعمدة القاري للعيني 25 / 7.
(7) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الغين مع الميم، مادة " غمر " 3 / 384.(1/288)
5 - من صفات الداعية: الزهد.
6 - من أساليب الدعوة: إنشاد الشعر الممدوح والرجز.
7 - من وسائل الدعوة: تسلية المدعوين وتنشيطهم.
8 - من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء.
9 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
10 - من أساليب الدعوة: رفع الصوت في الخطب والمواعظ.
11 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
12 - من صفات الداعية: التواضع.
13 - من صفات الداعية: إعانة المدعوين.
14 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم.
15 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار.
16 - من صفات الداعية: إثبات النعم لله والثناء عليه بها.
17 - من صفات الداعية: الاستفادة مما عند الآخرين.
18 - من صفات الداعية: الدقة في نقل الحديث.
19 - أهمية استجابة المدعو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: دل الحديثان على أن الأخذ بالأسباب، لا ينافي التوكل على الله عز وجل؛ ولهذا عمل النبي صلى الله عليه وسلم بفعل الأسباب وهو إمام المتوكلين، فحفر الخندق، وحمل التراب، وأمر أصحابه بذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأسباب ويأمر بفعلها، ويستعين بالله عز وجل، وبعد الفراغ من الأسباب لا يعتمد عليها بلَ يعتمد بقلبه على الله عز وجل، (1) وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " لابد من الأخذ بالأسباب، ومن هذه الأسباب حفر الخندق؛ لأنه يعطل الأعداء عن اجتياح المدينة " (2) .
_________
(1) انظر: بهجة النفوس شرح مختصر صحيح البخاري، لعبد الله بن أبي جمرة 3 / 113.
(2) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه للحديثين: رقم 2834، و 2836 من صحيح البخاري.(1/289)
وهذا يبين للداعية أهمية الأخذ بالأسباب النافعة في الدعوة إلى الله عز وجل (1) .
ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحث علي أخذ الحذر والأهبة لصد أعداء الإسلام: ظهر في هذين الحديثين أهمية الحث على التحصن من العدو وأخذ الحذر، والأهبة؛ ولهذا عمل النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه مع أصحابه وحفروا الخندق، وتأهبوا لقتال عدوّهم وصده، وأخذوا الحذر منه. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] (2) .
وهذا يبين للداعية أهمية الحث على أخذ الحذر من أعداء الإِسلام، والإِعداد وأخذ الأهبة لصدهم عن ديار المسلمين.
ثالثا: من صفات الداعية: الصبر وتحمل المشاق: دل الحديثان على صبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم على مشاق الدعوة، والاستعداد لقتال أعداء الإِسلام؛ ولهذا صبروا على الجوع، والتعب في حفر الخندق، ونقل التراب على ظهورهم. وسوف يجازيهم الله على عملهم بأن يثيبهم بغير حساب قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] (3) .
فينبغي الصبر والمصابرة على مشاق الدعوة والجهاد في سبيل الله عز وجل، (4) قال اللِّه عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] (5) .
رابعا: من سنن الله عز وجل: الابتلاء والامتحان: الله عز وجل يبتلي ويختبر عباده بالسراء والضراء، وبالخير والشر، فهذا رسول
_________
(1) انظر: الحديث رقم 30، الدرس الخامس، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 46، 7 / 392.
(2) سورة النساء، الآية: 71.
(3) سورة الزمر، الآية: 10.
(4) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 27، الدرس الأول، ورقم 28، الدرس السادس.
(5) سورة آل عمران، الآية: 200.(1/290)
الله صلى الله عليه وسلم أفضل البشر، وهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم أفضل الناس بعد الأنبياء: يصيبهم ما أصابهم من الجوع، والمشقة، والخوف أثناء حفر الخندق، فصبروا على ذلك ابتغاء وجه الله عز وجل (1) .
وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " وهذه من مناقب الصحابة وصبرهم على الجهاد، وهذا من ابتلاء الله لأوليائه " (2) وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم عصب بطنه بحجر من الجوع أثناء حفر الخندق، وبقي هو ومن معه في الحفر ثلاثة أيام لا يذوقون طعاما (3) .
فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يسأل الله العافية، وإذا أصابه ابتلاء واختبار صبر، واحتسب الثواب من الله عز وجل.
خامسا: من صفات الداعية: الزهد: دل الحديثان على زهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الدنيا، وإيثارهم ما عند الله عز وجل على ملذاتها؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة» فالعيش الباقي والدائم المعتبر والمستمر والمطلوب، هو عيش الآخرة، وأما عيش الدنيا فإنه متاع زائل (4) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي هذين الحديثين إشارة إلى تحقير عيش الدنيا لما يعرض له من التكدير وسرعة الفناء " (5) .
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين حفظه الله: " العيشة الهنيئة الراضية هي عيش الآخرة، وأما الدنيا فإنها مهما طاب عيشها فمآلها إلى الفناء، وإذا لم يصحبها عمل صالح فإنها خسارة " (6) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 16، الدرس الخامس.
(2) سمعت ذلك من سماحته أثناء شرحه لهذين الحديثين: رقم 2834، 2836، من صحيح البخاري.
(3) انظر: البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، 5 / 55، برقم 4101 عن جابر رضي الله عنه.
(4) انظر: شرح صحيح مسلم للنووي 12 / 414، وإكمال إكمال المعلم: شرح صحح مسلم، للأبي 6 / 462، وفيض القدير شرح الجامع الصغير، لعبد الرؤوف المناوي 2 / 600، وإرشاد الساري للقسطلاني 5 / 62.
(5) فتح الباري 11 / 231.
(6) شرح رياض الصالحين 6 / 18.(1/291)
قال الله عز وجل {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] (1) وقال عز وجل: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16 - 17] (2) . وهذا يبين للداعية أهمية الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله عز وجل؛ لأنه هو الباقي الذي لا يفنى ولا يموت أهله (3) .
سادسا: من أساليب الدعوة: إنشاد الشعر الممدوح والرجز: لا شك أن إنشاد الشعر المحمود، والرجز الممدوح من أساليب الدعوة إلى الله تعالى؛ ولهذا فعله عليه الصلاة والسلام في حفر الخندق مع أصحابه، وهذا الرجز منسوب إلى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، قال العلامة العيني رحمه الله: " وفيه استعمال الرجز والشعر إذا كانت فيه إقامة النفوس، وإثارة الأنفة ودفع المَعَرَّة " (4) .
وهذا يبيِّن أهمية استخدام هذا الأسلوب عند الحاجة إليه مع الالتزام بالمحمود منه واجتناب المذموم (5) .
سابعا: من وسائل الدعوة: تسلية المدعوين وتنشيطهم: إن من الوسائل التي تنشط المدعو وتزيد في عزيمته ما يستعمله الداعية من الوسائل المباحة أو المشروعة، ومن هذه الوسائل إنشاد الشعر المباح والرجز الممدوح، وقد دل فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في هذين الحديثين على ذلك. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه أن في إنشاد الشعر تنشيطا في العمل، وبذلك جرت عادتهم في الحرب وأكثر ما يستعملون في ذلك الرجز " فتح (6) وقال رحمه الله: " الرجز من بحور الشعر على الصحيح وجرت عادة
_________
(1) سورة آل عمران، الآية: 185.
(2) سورة الأعلى، الآيتان: 16 - 17.
(3) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الأول، ورقم 15، الدرس الأول.
(4) عمدة القاري 14 / 131، وانظر: إرشاد الساري للقسطلاني 5 / 62.
(5) انظر: الحديث رقم 27، الدرس الثالث.
(6) الباري، 7 / 395، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 413.(1/292)
العرب باستعماله في الحرب، ليزيد في النشاط ويبعث الهمم " (1) وهذا يوضح للداعية أن الشعر المحمود والرجز الممدوح من الوسائل النافعة مع بعض المدعوين.
ثامنا: من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء: لا ريب أن الدعاء للمدعو من الأساليب النافعة التي تجذب قلوب المدعوين؛ وقد دعا صلى الله عليه وسلم للصحابة في هذين الحديثين بأدعية مباركة منوعة منها: " اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة " وقال: ". . . فبارك في الأنصار والمهاجرة " وقال: " فأكرم الأنصار والمهاجرة " " فأصلح الأنصار والمهاجرة " دعوات مباركات أحب إلى المهاجرين والأنصار من الدنيا وما فيها (2) .
تاسعا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: دل الحديثان على أهمية القدوة الحسنة في الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا عمل النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة بنفسه، فحفر معهم الخندق، وذاق ألم الجوع والتعب معهم، فقَوِي حماسهم ونشطت نفوسهم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " في مباشرته صلى الله عليه وسلم الحفر بنفسه تحريض للمسلمين على العمل ليتأسوا به في ذلك " (3) فينبغي للداعية أن يكون قدوة حسنة للمدعوين (4) .
عاشرا: من أساليب الدعوة: رفع الصوت في الخطب والمواعظ: إن من أساليب الدعوة التي تزيد في نشاط المدعو رفع الصوت بالخطب والمواعظ؛ ولهذا رفع صوته صلى الله عليه وسلم في الحديث الثاني من هذين الحديثين حيث
_________
(1) فتح الباري، 6 / 161.
(2) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الخامس.
(3) فتح الباري 6 / 46.
(4) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث، ورقم 9، الدرس الثالث عشر.(1/293)
قال: «إذا أرادوا فتنة أبينا» قال الراوي: " يرفع بها صوته " وفي رواية: " يمد صوته بآخرها " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه جواز رفع الصوت في عمل الطاعة لينشِّط نفسه وغيره " (1) .
. وقد كان هديه صلى الله عليه وسلم رفع الصوت في الخطب؛ ليستفيد الناس منها؛ ولينتبهوا ولا يصيبهم الكسل والنعاس (2) فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتدَّ غضبه، حتى كأنه منذر جيش» (3) . فينبغي للداعية أن يكون نشيطا برفع صوته على حسب الحاجة وحسب ما يناسب المدعو، والزمان، والمكان.
الحادي عشر: من أساليب الدعوة: الترغيب: إن أسلوب الترغيب من أنفع الأساليب في ترغيب المدعوين في الخير والعمل به، وقد ظهر في هذين الحديثين في قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة " فَنشَّط هذا الأسلوب الصحابة رضي الله عنهم، وشوَّقهم في العمل، ورغّبهم في عيش الآخرة؛ لأنه الذي يدوم ويبقى؛ ولهذا النشاط والرغبة قالوا: " نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا ".
فينبغي العناية بهذا الأسلوب؛ لما فيه من النفع للمدعوين (4) .
الثاني عشر: من صفات الداعية: التواضع: إن من أعظم الصفات الحميدة التواضع، وقد دل هذان الحديثان على هذه الصفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل البشر، وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم ومع ذلك يحفر مع أصحابه الخندق، ويواري التراب بطنه، ويربط الحجر على بطنه من الجوع، ويقدَّم بين يديه في هذا المكان الطعام الذي له ريح منتن كما قال الراوي:
_________
(1) فتح الباري 6 / 161.
(2) انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم 1 / 425.
(3) أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، 2 / 592، برقم 867.
(4) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر.(1/294)
" يؤتون بملء كفَّي من الشعير فيصنع لهم بإهالة سنِخة، وتوضع بين يدي القوم، والقوم جياع وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن "؛ قال الإِمام ابن أبي جمرة رحمه الله: " فيه دليل على تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه؛ إذْ أنه في الفضل حيث هو، ومع ذلك الفضل العظيم كان ينقل التراب مع أصحابه، كأنه واحد منهم " (1) . فينبغي للداعية أن يكون متواضعا لله عز وجل مع المدعوين وغيرهم.
الثالث عشر: من صفات الداعية: إعانة المدعوين: إن من الصفات التي ينبغي أن يلتزم بها الداعية: إعانة المدعوين، ومشاركتهم في عمل الخير؛ لأن أفضل الناس محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كان يعين أصحابه ويشاركهم في أعمال الجهاد وغيره، ويشاركهم في حفر الخندق كما في هذين الحديثين؛ قال الإِمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله في فوائد الحديث الثاني: " فيه دليل على أن الإِمام ينزل للخدمة مع أصحابه، إذا كانوا في أمور الحرب وإعانتهم فيما نحن بسبيله " (2) .
الرابع عشر: من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: دل الحديث الثاني من هذين الحديثين على أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم أسلوب القسم في قوله صلى الله عليه وسلم:
«
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
»
فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب عند الحاجة إليه؛ لأنه يثبت المعاني في القلوب ويحملها على التصديق (3) .
الخامس عشر: من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار: ظهر في الحديث الثاني من هذين الحديثين أسلوب التوكيد بتكرير الكلمة في قوله صلى الله عليه وسلم: " أبينا أبينا " ولا شك أن هذا الأسلوب مهم في تثبيت المعاني
_________
(1) بهجة النفوس، 3 / 112، وانظر: الحديث رقم 33، الدرس العاشر، ورقم 62، الدرس الثالث.
(2) المرجع السابق، 3 / 112.
(3) انظر: الحديث رقم 10، الدرس الخامس.(1/295)
في القلوب، وحملها على التصديق؛ قال العلامة الملا علي القاري رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم: " أبينا أبينا " " مكرر للتأكيد والتلذذ، والتسميع لغيره من المسلمين والكافرين " (1) .
فينبغي العناية بأسلوب التأكيد بالتكرار؛ لما له من الأهمية في الدعوة إلى الله عز وجل (2) .
السادس عشر: من صفات الداعية: إثبات النعم لله والثناء عليه بها: دل حديث البراء رضي الله عنه على أن من الصفات الحميدة إثبات النعم لله عز وجل والتحدث بها والثناء على الله عز وجل بذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:
«
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
»
قال الإِمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: " فيه دليل على أن أفعال الخير تنسب إلى الله وإن كان العبد هو المتسبب فيها؛ لأن المولى جلَّ جلاله هو المنعم بها " (3) .
فينبغي للداعية أن ينسب جميع النعم لله تعالى، ويشكره عليها، ويتحدث بها؛ قال الله عز وجل: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] (4) وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] (5) وقال عز وجل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] (6) .
السابع عشر: من صفات الداعية: الاستفادة مما عند الآخرين: إن من صفات الداعية الاستفادة مما عند الآخرين، مما يجلب المنفعة ويحقق المصلحة؛ لحماية الدين والذود عن حياضه، وتبليغه للناس؛ وقد
_________
(1) مرقاة المفاتيح، للملأ علي القاري 8 / 545.
(2) انظر: الحديث رقم 4، الدرس الخامس، ورقم 7، الدرس الثاني عشر.
(3) بهجة النفوس شرح مختصر صحيح البخاري، 3 / 113.
(4) سورة الضحى، الآية: 11.
(5) سورة النحل، الآية: 53.
(6) سورة إبراهيم، الآية: 7.(1/296)
دل مفهوم الحديثين على ذلك، فقد ذكر كثير من العلماء أن سبب حفر الخندق مشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق؛ لأن سلمان قال: " إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا " فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حول المدينة (1) وهذا وغيره يوضح للداعية أنه لا حرج من الاستفادة مما عند الآخرين إذا كان فيه نفع للإِسلام والمسلمين، وليس فيه مخالفة للشرع.
الثامن عشر: من صفات الداعية: الدقة في نقل الحديث: دل حديث البراء رضي الله عنه أن من الصفات التي ينبغي أن يعتني بها الداعية عناية خاصة: الدقة والصحة فيما يقول وينقل للناس؛ ولهذا جاء في هذا الحديث أن الراوي قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى اغمرَّ بطنه، أو اغبرَّ بطنه " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " شك الراوي " (2) وهذا يدل على عناية السلف بضبط الحديث، وبيانه للناس على الوجه الأكمل (3) .
التاسع عشر: أهمية استجابة المدعو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: ظهر في هذين الحديثين أنه ينبغي للمدعو أن يستجيب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ويتحمل المشاق في سبيل العمل بهذا الدين، وقبول الدعوة: استجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24] (4) وقد ظهر ذلك في هذين الحديثين؛ لقول الصحابة رضي الله عنهم:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
فينبغي لكل عبد من عباد الله أن يستجيب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
[باب من حبسه العذر عن الغزو]
[حديث إن أقواما بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا] فيه
_________
(1) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 3 / 643، والبداية والنهاية لابن كثير 4 / 95، وزاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، 3 / 271، وفتح الباري لابن حجر العسقلاني، 7 / 393.
(2) فتح الباري، 7 / 401.
(3) انظر: الحديث رقم 20 و 21، الدرس العاشر.
(4) سورة الأنفال، الآية: 24.(1/297)
35 - باب مَنْ حبَسه العذْر عن الغزْو 47 [ص:2838] حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يونسَ: حَدَّثَنَا زهَيْر: حَدَّثَنَا حمَيْد أَن أنسا (1) حَدَّثَهمْ قَالَ: «رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَة تَبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم» (2) .
وفي رواية: أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي غَزَاة فَقَالَ: «إِنَّ أَقْوَاما بالْمَدِينة خَلْفَنَا مَا سلَكْنَا شِعْبا وَلَا وَادِيا إلَّا وَهمْ مَعَنَا فِيه، حَبَسَهم العذْر» (3) .
وفي رواية: أَنَ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم «رَجَعَ مِنْ غَزْوَة تَبوك، فَدَنَا مِنْ الْمَدِينَة فَقَالَ: " إِنَّ بِالْمَدِينَة أَقْوَاما مَا سِرتمْ مَسِيرا، وَلَا قطعْتمْ وَادِيا إِلَّا كَانوا مَعَكم، قَالوا: يَا رَسولَ الله، وَهمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ وَهمْ بِالْمَدِينَة حَبَسَهم الْعذْر» (4) .
* شرح غريب الحديث: * " شعبا " الشعب ما انخفض بين جبلين، وكان كالدرب (5) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - حرص الصحابة رضي الله عنهم على الجهاد وعدم تخلفهم بغير عذر.
2 - من صفات الداعية: النية الصالحة.
3 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
4 - من ميادين الدعوة: طرق السير.
5 - من خصائص الإِسلام: اليسر والسماحة ورفع الحرج.
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 14.
(2) [الحديث 2838] طرفاه في: كتاب الجهاد والسير، باب من حبسه العذر عن الغزو، 3 / 280، برقم 2839. وكتاب المغازي، باب، 5 / 157، برقم 4423. وأخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، في كتاب الإِمارة، باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر، 3 / 1518، برقم 1911.
(3) من الطرف رقم 2839.
(4) الطرف رقم 4423.
(5) تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي، ص 228، وانظر: ص 118، 199، وانظر: غريب الحديث رقم 19.(1/298)
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: حرص الصحابة رضي الله عنهم على الجهاد وعدم تخلفهم بغير عذر: ظهر في هذا الحديث عظم حرص الصحابة رضي الله عنهم على الجهاد في سبيل الله عز وجل، وعدم تخلفهم بدون عذر؛ ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حرصهم العظيم على ذلك فقال: «إن أقواما بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر» ، فينبغي لكل مسلم أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الحرص على الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ (1) ولهذا الحرص العظيم كان الفقراء من الصحابة إذا لم يقبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو بكوا وحزنوا، قال الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ - وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91 - 92] (2) .
ثانيا: من صفات الداعية: النية الصالحة: دل الحديث على أن النية الصالحة تبلغ ما يبلغ العمل، وأن من فضل الله عز وجل إثابة العبد إذا عجز عن القربة والطاعة، مع عزمه عليها؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم» وقد بين صلى الله عليه وسلم أنه حبسهم العذر؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه أن المرء يبلغ بنيته أجر العامل إذا منعه العذر عن العمل " (3) .
وهذا يوضح للداعية أهمية النية الصالحة وعلوَّ مكانتها، فينبغي الصدق والعزيمة في تصحيح النية وإخلاصها لله تعالى.
_________
(1) انظر: الحديث رقم 1، الدرس الأول، ورقم 102، الدرس الرابع، ورقم 163، الدرس الحادي عشر.
(2) سورة التوبة، الآيتان: 91 - 92.
(3) انظر: الحديث رقم 22، الدرس السادس.(1/299)
ثالثا: من أساليب الدعوة: الترغيب: استخدم النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته في هذا الحديث: أسلوب الترغيب بقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسِيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم» ، وهذا فيه ترغيب في الجهاد وبيان عظم منزلته، وأن المجاهد يكتب له ثواب السير، وكل عمل يعمله في طريقه إلى الجهاد، وأن من لم يحصل له الجهاد لعجزه كان شريكا للمجاهدين إذا صلحت نيته؛ قال الإِمام النووي رحمه الله: " وفي هذا الحديث فضيلة النية في الخير، وأن من نوى الغزو وغيره من الطاعات فعرض له عذر منعه حصل له ثواب نيته، وأنه كلما أكثر من التأسف على فوات ذلك، وتمنّى كونه مع الغزاة ونحوهم كثر ثوابه والله أعلم " (1) .
ولهذه النية الصالحة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا آتاه الله مالا فجعل ينفقه في سبل الخير، وأن رجلا فقيرا قال: «لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء» (2) .
فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب؛ لأهميته في الدعوة إلى الله تعالى (3) .
رابعا: من ميادين الدعوة: طرق السير: إن من ميادين الدعوة، طرق السير: في السفر والجهاد، والحج وغير ذلك من الطرق؛ وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ورغبهم في إصلاح النية أثناء سيره في طريقه إلى المدينة راجعا من غزوة تبوك كما جاء في الحديث: رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة فقال: «إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم» وهذا يبين للداعية أهمية الدعوة في طرق السير، فينبغي له العناية بذلك، في طرق سيره، في السفر والحضر؛ ليقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 13 / 61، وانظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 8 / 2642.
(2) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر، 4 / 562، برقم 2325، وقال: " هذا حديث حسن صحيح "، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب النية، 2 / 1413، برقم 4228. وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2 / 270.
(3) انظر: الحديث رقم 22، الدرس الخامس.(1/300)
خامسا: من خصائص الإسلام: اليسر والسماحة ورفع الحرج: دل الحديث على سعة رحمة الله، ويسر الإِسلام وسماحته، ورفعه الحرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «وهم بالمدينة حبسهم العذر» دلالة واضحة على رفع الحرج عن المعذور بمرض أو كبر أو غير ذلك من الأعذار المانعة من الأعمال الصالحة: كالجهاد وغيره؛ إذا قام بما يستطيعه؛ قال الله عز وجل: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء: 95] (1) فاستثنى الله تعالى أولي العذر ورفع الحرج عنهم.
_________
(1) سورة النساء، الآية: 95.(1/301)
[باب فضل الصوم في سبيل الله]
[حديث من صام يوما في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا]
36 - باب فَضْلِ الصَّوْم فِي سَبِيلِ الله 48 [ص:2840] حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن نَصْر: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنا ابْن جرَيْجٍ قال: أَخْبَرني يَحيى بْن سَعِيدٍ وَسهَيْل بْن أَبِي صالِح: أنهمَا سَمِعَا النّعْمَانَ بْنَ أبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدْرِي (1) رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقول «مَنْ صَامَ يَوْما فِي سَبِيلِ الله بَعَّدَ الله وَجْهه عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفا» (2) .
* شرح غريب الحديث: * " سبعين خريفا " الخريف: الزمان المعروف من فصول السنة ما بين الصَّيف والشتاء، ويراد به سبعين سنة؛ لأن الخريف لا يكون في السنة إلا مرة واحدة، فإذا انقضى سبعون خريفا فقد مضت سبعون سنة (3) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحث على صيام التطوع.
2 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
3 - من صفات الداعية: الإِخلاص.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على صيام التطوع: دل الحديث على أهمية الحث على صيام التطوع، وحض المدعوين عليه؛ ولهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم عليه في هذا الحديث وذلك ببيان فضل صيام يوم واحد فكيف بمن صام أكثر من ذلك، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على صيام ست من
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 19.
(2) وأخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه بلا ضرر ولا تفويت حق، 2 / 808، برقم 1153.
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الخاء مع الراء، مادة: " خرف " 2 / 24.(1/302)
شوال، وثلاثة أيام من كل شهر، وصيام الأيام البيض، والاثنين والخميس، ويوم عرفة لغير الحاج، وتسعة أيام من عشر ذي الحجة، وصيام يوم عاشوراء مع يومٍ قبله، وحث على صيام شهر الله المحرم، وحث بفعله على صيام أكثر شعبان بل كان يصومه كله، وبين أن أفضل الصيام: صيام يوم وإفطار يوم.
فينبغي للداعية أن يحث أهل الإِسلام على صيام التطوع كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم (1) .
ثانيا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على الترغيب في الصيام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من صام يوما في سبيل الله بعّد الله وجهه عن النار سبعين خريفا» .
قال الإِمام النووي رحمه الله: " فيه فضيلة الصيام في سبيل الله، وهو محمول على من لا يتضرر به، ولا يفوت به حقّا، ولا يختل به قتاله، ولا غيره من مهمات غزْوِه، ومعناه المباعدة عن النار والمعافاة منها " (2) .
فينبغي للداعية أن يرغِّب في صيام التطوع، ويبيِّن فضائله للناس، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرغب فيه، باستخدامه لأسلوب الترغيب؛ ولهذا بيّن صلى الله عليه وسلم أن من صام يوما واحدا في سبيل الله بعّد الله وجهه عن النار سبعين سنة، وذلك على وجه المبالغة في البعد عن النار (3) .
ثالثا: من صفات الداعية: الإخلاص: ظهر في هذا الحديث أهمية الإِخلاص لله تعالى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من صام يوما في سبيل الله» قال الإِمام القرطبي رحمه الله: " أي في طاعة الله، يعني بذلك:
_________
(1) انظر: صحيح البخاري 1 / 298 - 307 من حديث رقم 968 - 2007، وصحيح مسلم 2 / 792 - 822 من حديث رقم 1125 - 1164، وشرح العمدة " كتاب الصيام " لشيخ الإِسلام ابن تيمية، 2 / 545، وسبل السلام شرح بلوغ المرام لمحمد بن إسماعيل الصنعاني 2 / 670 - 682.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 8 / 281.
(3) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 3 / 217، وإحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد، 2 / 37، وشرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 5 / 1611، وفتح الباري لابن حجر العسقلاني، 6 / 48، ومكمل إكمال الإكمال شرح صحيح مسلم، لمحمد بن محمد السنوسي 4 / 101.(1/303)
قاصدا به وجه الله تعالى وقد قيل فيه: إنه الجهاد في سبيل الله " (1) وقال الإِمام ابن دقيق العيد رحمه الله على قوله صلى الله عليه وسلم " في سبيل الله " " العرف الأكثر فيه: استعماله في الجهاد، فإذا حمل عليه، كانت الفضيلة؛ لاجتماع العبادتين - أعني عبادة الصيام والجهاد - ويحتمل أن يراد بسبيل الله: طاعته كيف كانت، ويعبر بذلك عن صحة القصد والنية فيه " (2) وقال العلامة المناوي رحمه الله: «من صام يوما في سبيل الله» أي لله ولوجهه، أو في الغزو، أو في الحج " (3) وعلى قول من فسر سبيل الله بالجهاد؛ فإن الإِخلاص شرط في صحة جميع العبادات.
وهذا يبين للداعية إلى الله عز وجل أهمية إخلاص العمل لله عز وجل؛ قال الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125] (4) فإسلام الوجه إخلاص القصد والعمل لله، والإِحسان فيه: متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته (5) ؛ قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] (6) قال الفضيل بن عياض رحمه الله: " هو أخلصه وأصوبه " قالوا: يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؛ فقال: " إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة " (7) قال الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] (8) وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163] (9) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاث لا يغلّ
_________
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3 / 217، وانظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح 5 / 1611.
(2) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، لابن دقيق العيد 2 / 37.
(3) فيض القدير شرح الجامع الصغير، لعبد الرؤوف المناوي 6 / 61.
(4) سورة النساء، الآية: 125.
(5) مدارج السالكين، لابن القيم 2 / 90.
(6) سورة الملك، الآية: 2.
(7) مدارج السالكين، لابن القيم 2 / 89.
(8) سورة الكهف، الآية: 110.
(9) سورة الأنعام، الآيتان: 162 - 163.(1/304)
عليهن قلب مسلم: إخلاص العَمَل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم» (1) والمعنى أن القلب لا يحمل الغل ولا يبقى فيه مع هذه الثلاث، فإنها تنفي الغِلَّ، والغِشَّ، وفساد القلب وسخائمه، فالمخلص لله إخلاصه يمنع غِلَّ قلبه، ويخرجه ويزيله جملة؛ لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه، فلم يبق فيه موضع للغلِّ والغش (2) .
فينبغي لكل مسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل أن يخلص عمله لله عز وجل، وأن يسأل الله كثيرا هذه الصفة الحميدة العظيمة؛ ولعظم هذه الصفة قال الفضيل بن عياض رحمه الله: " ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، والإِخلاص أن يعافيك الله منهما " (3) فأسأل الله لي ولجميع إخواني المسلمين الإِخلاص في القصد، والقول، والعمل.
_________
(1) أخرجه الترمذي، في كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، 5 / 34، برقم 2658، ورواه أحمد في المسند من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه 5 / 183 وقال الألباني في مشكاة المصابيح 1 / 78: وسنده صحيح.
(2) انظر: مفتاح دار السعادة، لابن القيم، 1 / 277.
(3) الأذكار للنووي ص 4.(1/305)
[باب فضل من جهز غازيا أو خلفه بخير]
[حديث من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا]
38 - بَاب فضلِ من جهز غازيا أو خلفَه بخيرِ 49 [ص:2843] حَدَّثَنَا أَبو مَعْمَرٍ: حدثنا عَبْد الْوَارِثِ: حدثنا الْحسَيْن: حدَّثَنِي يحيى قَال: حَدَّثَنِي أَبو سَلَمَة: حدَثَنِي بسْر بْن سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْد بْن خَالِدٍ (1) . رضي الله عنه أَنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيا فِي سَبِيلِ الله فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيا فِي سَبِيلِ الله بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا» (2) .
* شرح غريب الحديث: * " جهز غازيا " تجهيز الغازي: تحميله وإعداد ما يحتاج إليه في غزوه، ومنه: تجهيز العروس، وتجهيز الميت (3) .
* " خَلَفَ غازيا في أهله " أي قام مقامه في مراعاة أهله، يقال: خَلَفْت الرجل في أهله إذا أقمت بعده فيهم، وقمت عنه بما كان يفعله (4) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحث على إعداد الدعاة والغزاة في سبيل الله عز وجل.
_________
(1) زيد بن خالد الجهني مختلف في كنيته فقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل أبو طلحة، وقيل أبو زرعة، سكن المدينة، وشهد الحديبية، وكان معه لواء جهينة يوم الفتح، روِي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد وثمانون حديثا، اتفق البخاري ومسلم على خمسة، وانفرد مسلم بثلاثة، توفي بالمدينة وقيل بالكوفة وقيل بمصر سنة ثمان وسبعين وله خمس وثمانون سنة، وقيل مات سنة ثمان وستين، وقيل مات قبل ذلك في خلافة معاوية بالمدينة، وقيل غير ذلك. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 203، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1 / 565.
(2) وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره وخلافته في أهله بخير، 3 / 1506، برقم 1895.
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الجيم مع الهاء، مادة " جهز " 1 / 321، وانظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي ص 132.
(4) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 133، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الخاء مع اللام، مادة " خلف " 2 / 66.(1/306)
2 - أهمية إعانة الدعاة والمجاهدين في سبيل الله عز وجل.
3 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على إعداد الدعاة والغزاة في سبيل الله عز وجل: دل الحديث على أن تجهيز الدعاة والمجاهدين من موضوعات الدعوة التي ينبغي أن يعتنى بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على ذلك بقوله: «من جهز غازيا فقد غزا» وهذا فيه الحث على إعداد الدعاة والمجاهدين، ومساعدتهم بالمال، والكتب العلمية، وإمداد المجاهدين بالسلاح، والعتاد، وجميع ما يحتاجون إليه؛ لقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] (1) وقوله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] (2) .
فينبغي العناية وحث المسلمين على إعداد الدعاة بالتعليم، والكتب والمال، ووسائل النقل المناسبة ثم إرسالهم للدعوة إلى الله عز وجل، وإعداد المجاهدين بالتعليم، والزاد، ووسائل النقل المناسبة، والسلاح، وغير ذلك من لوازم إعداد وتجهيز الدعاة والمجاهدين في سبيل الله عز وجل (3) .
ثانيا: أهمية إعانة الدعاة والمجاهدين في سبيل الله عز وجل: ظهر في هذا الحديث أهمية إعانة الدعاة إلى الله عز وجل، والمجاهدين في سبيل الله سبحانه وتعالى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن خلف غازيا في سبيل الله فقد غزا» وهذا فيه بيان لأهمية إعانة الدعاة والمجاهدين، بإصلاح حال أهلهم، والقيام على ما يحتاجون إليه، والنيابة عنهم بالرعاية، والنفقة، وتفقد أحوالهم، وحمايتهم مما يضرهم، والدفاع عنهم، وإصلاح حال الأولاد، ومراقبة استقامتهم على
_________
(1) سورة النساء، الآية: 71.
(2) سورة الأنفال، الآية: 60.
(3) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 3 / 730، وشرح رياض الصالحين لابن عثيمين 4 / 453.(1/307)
طاعة الله، وإرشادهم وتوجيههم إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة (1) قال الإِمام النووي رحمه الله: " وفي هذا الحديث الحث على الإِحسان إلى من فعل مصلحة للمسلمين أو قام بأمر من مهماتهم " (2) .
ثالثا: من أساليب الدعوة: الترغيب: في هذا الحديث الحث على أسلوب الترغيب في تجهيز الدعاة والمجاهدين والعناية بما يحتاجون إليه في دعوتهم وجهادهم، وفي القيام بمصالح أهلهم وحمايتهم من بعدهم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا» . وهذا يبين فضل من جهز داعيا إلى الله أو غازيا في سبيل الله كما يبين فضل من قام برعاية مصالح الدعاة والغزاة في أهلهم وأموالهم قال الإِمام النووي رحمه الله في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: " فقد غزا " " أي حصل له أجر بسبب الغزو، وهذا الأجر يحصل بكل جهاد، وسواء قليله وكثيره، ولكل خالف له في أهله بخير: من قضاء حاجة لهم وإنفاقٍ عليهم، أو مساعدتهم في أمرهم، ويختلف قدر الثواب بقلة ذلك وكثرته " (3) وهذا من فضل الله عز وجل على عباده أن جعل من جهز غازيا في سبيل الله عز وجل أو خلفه في أهله، كالغازي في المرتبة؛ لأنه إذا جهزه بماله يجاهد، وإذا خلفه في أهله بخير فكأن المجاهد لم يخرج من بيته؛ لقيام أموره فيه وإصلاح حال أهله، وحمايتهم، ونصرتهم (4) .
قال الإِمام القرطبي رحمه الله: " القائم على مال الغازي وعلى أهله نائب عن الغازي في عمل لا يتأتى للغازي غزوه إلا بأن يكفى ذلك العمل، فصار كأنه يباشر معه الغزو، فليس مقتصرا على النية فقط، بل هو عامل في الغزو، ولما
_________
(1) انظر: عارضة الأحوذي، شرح سنن الترمذي، لابن العربي 4 / 116، وشرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 8 / 2630، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 51.
(2) شرح صحيح مسلم، 13 / 44.
(3) شرح صحيح مسلم، 13 / 44، وانظر: إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم للأبي 6 / 629.
(4) انظر: عارضة الأحوذي، شرح سنن الترمذي، لابن العربي، 4 / 116، وبهجة النفوس، لابن أبي جمرة، 3 / 116، وشرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 8 / 2630، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 50.(1/308)
كان كذلك كان له مثل أجر الغازي كاملا. . . " (1) .
وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن النفقة في سبيل الله عز وجل تضاعف إلى سبعمائة ضعف، وهذا يدخل فيه من جاهد بنفسه ومن لم يجاهد؛ لحديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل بناقة مخطومة وقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة» (2) وهذا كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] (3) .
ومن فضل الله عز وجل أن من رَغَّبَ في الدعوة أو الجهاد أو غير ذلك من أنواع الطاعات فله مثل أجر من دعا وجاهد وعمل وإن لم يدع، ولم يعمل، ولم يجاهد (4) ؛ ولهذا جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يحمله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما عندي " فقال رجل: يا رسول الله أنا أدله على من يحمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» (5) وهذا فيه أعظم الترغيب في إعانة الدعاة والمجاهدين والمشاركة والدلالة على جميع أنواع الخير.
_________
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3 / 729.
(2) أخرجه مسلم، في كتاب الإِمارة، باب فضل الصدقة في سبيل الله وتضعيفها 3 / 1505 برقم 1892.
(3) سورة البقرة، الآية: 261.
(4) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 3 / 727، وبهجة النفوس، لابن أبي جمرة 3 / 116، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 50، وشرح رياض الصالحين، لابن عثيمين، 4 / 454.
(5) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، وخلافته في أهله بخير، 3 / 1506 برقم 1893، من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.(1/309)
[حديث إني أرحمها قتل أخوها معها]
50 [ص:2844] حَدَّثَنا موسَى بْن إِسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنَا هَمَّام عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عبد الله عَنْ أَنسٍ (1) رضي الله عنه، «أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكنْ يَدْخل بَيْتا بِالْمَدِينَة غَيْرَ بَيْتِ أمِّ سلَيمٍ (2) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِه، فَقِيلَ لَه، فَقَالَ: " إِنِّي أَرْحَمهَا قتِلَ أَخوهَا (3) مَعِي» (4) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
2 - من وسائل الدعوة: زيارة أهل المصائب وتسليتهم.
3 - من صفات الداعية: التواضع.
_________
(1) تقدمت ترجمته، في حديث رقم 14.
(2) أم سلَيم أم أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال اسمها: الرميصاء، وقيل: الغميصاء، وقيل: سهلة، وقيل: رميثة، وقيل: مليكة، واشتهرت بكنيتها: أم سليم، وهي بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام الأنصارية الخزرجية، تزوجت بمالك بن النضر في الجاهلية، فولدت أنساَ في الجاهلية، وأسلمت مع السابقين إلى الإسلام من الأنصار، ومات زوجها مالك، ولم تتزوج حتى قوي أنس بن مالك، وخطبها أبو طلحة واشترطت عليه أن يسلم ومهرها إسلامه فأسلم، فما كان لها مهر إلا الإِسلام، وكان يزورها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكرمه رضي الله عنها؛ لأنه كان محرما لها، حيث كانت خالته من الرضاعة وقيل من النسب، وشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: حنينا وأحدا، واتخذت خنجرا يوم حنين وقالت اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه، ولما مات ولدها من أبي طلحة قالت: لا تخبروه، فلما جاء وسأل عنه قالت: هو أسكن ما كان، فظن أنه شفِي، وقام وأكل عشاءه، وأصاب من أهله، فلما أصبحت ذكرته بالله، ورغبته في الصبر والاحتساب ثم أخبرته، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودعا لهما، ورزقت من تلك الليلة بغلام حنكه رسول الله ودعا له وهو عبد الله ورزق أولادا قرأ القرآن منهم عشرة، وقيل ختم القرآن منهم سبعة، وعندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أرسلت أنسا يخدمه وطلبت منه أن يدعو له فدعا له صلى الله عليه وسلم بدعوات مباركات تقدمت في ترجمته رضي الله عنه، شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة حيث قال: " دخلت الجنة فسمعت خشفة فقلت من هذا؟ قالوا: هذه الغميصاء بنت ملحان أم أنس بن مالك " رواه مسلم برقم 2456 و 2457، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة عشر حديثا اتفق البخاري ومسلم على حديث، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بحديثين رضي الله عنها. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 2 / 304 - 311، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 4 / 461 - 462.
(3) هو حرام بن ملحان أخو أم سليم، خال أنس بن مالك، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكبا في غزوة بئر معونة، وقتل شهيدا، طعن من خلفه فخرج الرمح من صدره فقال: " الله أكبر فزت ورب الكعبة " أخرجه البخاري برقم 4091. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 2 / 307، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 1 / 319.
(4) وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أم سليم، 4 / 1908، برقم 2455.(1/310)
4 - من صفات الداعية: الرحمة.
5 - من صفات الداعية: الإِحسان.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: القدوة الحسنة وسيلة نافعة من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل، وقد ظهر ذلك في قول أنس رضي الله عنه: «إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخل بيتا بالمدينة غير بيت أمِّ سليم إلا على أزواجه» وقد وضَّح معنى ذلك لفظ الحديث عند مسلم «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه إلا على أم سليم» قال الإِمام القرطبي رحمه الله: " إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل على النساء عملا بما شرع من المنع من الخلوة بهنّ؛ وليقْتَدى به في ذلك " (1) وقال الإِمام النووي رحمه الله: " قال العلماء: أراد امتناع الأمة من الدخول على الأجنبيات " (2) .
وهذا يبين للداعية أهمية القدوة الحسنة وتأثيرها في حياة المدعوين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وهو قدوة الدعاة، وقد ذكر القرطبي رحمه الله وغيره من أهل العلم: أن أم سليم كانت محرما للنبي صلى الله عليه وسلم من جهة الرضاع (3) وقيل: كانت خالته من الرضاع أو من النسب (4) .
فينبغي للداعية أن يبتعد عن الدخول على النساء الأجنبيات؛ لامتثال أمر الشارع؛ وليقتدي به الناس.
ثانيا: من وسائل الدعوة: زيارة أهل المصائب وتسليتهم: ظهر في هذا الحديث أهمية زيارة أهل المصائب وتسليتهم ومشاركتهم في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شارك أم سليم في مصيبتها بقتل أخيها في غزوة بئر
_________
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 6 / 362.
(2) شرح صحيح مسلم، 16 / 24.
(3) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 6 / 362.
(4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 16 / 243، وشرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 133.(1/311)
معونة؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " والنبي صلى الله عليه وسلم كان يجبر قلب أم سليم بزيارتها، ويعلل ذلك بأن أخاها قتل معه " (1) فينبغي للداعية أن يعتني بذلك؛ لما فيه من جذب قلوب المدعوين وإدخال السرور عليهم وجبر قلوبهم.
ثالثا: من صفات الداعية: التواضع: إن التواضع من الصفات الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها الداعية إلى الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وله من الفضل والشرف ما ليس لغيره من البشر، ومع ذلك يزور أم سليم، ويدخل السرور على قلبها. قال الإِمام النووي رحمه الله: " فيه بيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الرحمة والتواضع وملاطفة الضعفاء " (2) .
فينبغي للداعية أن يتصف بخلق التواضع لله ثم لعباده (3) .
رابعا: من صفات الداعية: الرحمة: لا ريب أن الرحمة من الصفات العظيمة التي ينبغي لكل مسلم أن يتصف بها وأولى الناس بهذه الصفة الداعية إلى الله عز وجل، وقد ظهرت هذه الرحمة في قوله صلى الله عليه وسلم لأم سليم: «إني أرحمها قتل أخوها معي» وهذا مصداقا لقوله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] (4) وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (5) .
فينبغي العناية بذلك، ورحمة المدعوين والشفقة عليهم، والله المستعان (6) .
خامسا: من صفات الداعية: الإحسان: دل مفهوم الحديث على أن الإحسان من الصفات الكريمة؛ وقد حث النبي
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 51.
(2) شرح صحيح مسلم 16 / 244.
(3) انظر: الحديث رقم 46، الدرس الثاني عشر، وسيأتي التفصيل إن شاء الله في الحديث رقم 62، الدرس الثالث.
(4) سورة آل عمران، الآية: 159.
(5) سورة الأنبياء، الآية: 107.
(6) انظر: الحديث رقم 5، الدرس الأول، ورقم 9، الدرس الثالث، ورقم 13، الدرس الأول.(1/312)
صلى الله عليه وسلم على الإِحسان إلى المجاهدين بالعناية بأهلهم ورعايتهم فقال: ". . . «ومن خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا» (1) فمن غاية الإِكرام للغازي والإِحسان إليه: العناية بأهله ورعاية مصالحهم، والقيام على ما ينفعهم ودفع ما يضرهم، وهذا في حياة الغازي أو الداعية فمن باب أولى إكرام أهله والإِحسان إليهم بعد موته، وهذا يؤخذ من زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لأم سليم والإِحسان إليها بعد قتل أخيها، قال صلى الله عليه وسلم: «إني أرحمها قتل أخوها معي» (2) .
فينبغي العناية بأهل العالم، والداعية، والمجاهد بعد موتهم إكراما لهم، وإحسانا إليهم، ووفاء بحقهم. والله أعلم.
_________
(1) تقدم تخريجه في الحديث رقم 49.
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 51، وعمدة القاري للعيني، 14 / 138.(1/313)
[باب التحنط عند القتال]
[حديث ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله]
39 - باب التّحّنطِ عنْدَ الْقتَال 51 [ص:2845] حَدَّثَنَا عبد الله بْن عَبْدِ الْوَهَّابِ: حَدَّثَنَا خَالِد بْن الحَارِثِ: حَدَّثَنَا ابْن عَوْنٍ، عَن موسَى بْنِ أنس قَالَ: وَذَكَرَ يَوْمَ الْيَمَامَة قَالَ: «أَتَى أنس بن مَالِكٍ (1) ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ (2) وَقَدْ حَسَرَ عَنْ فَخِذَيْه وَهوَ يَتَحَنَّط فَقَالَ: يَا عَمِّ، مَا يَحْبسكَ أَن لَّا تَجيءَ؟ قَالَ: الآن يَا ابْنَ أَخِي، وَجَعَلَ يَتَحَنَّط - يَعْنِي مِنَ الحنوطِ - ثمَّ جَاءَ فَجَلَسَ، فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ انْكِشَافا مِنَ النَّاسِ فَقَالَ: هَكَذا عَنْ وجوهِنَا حَتَّى نضَارِبَ القَوْمَ، مَا هكَذا كنَّا نَفعْل مَعَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم، بِئْسَ مَا عوَّدْتمْ أَقْرَانَكمْ» رَواه حَمَّاد، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنس.
* شرح غريب الحديث: * " حسر عن فخذيه " أي كشف (3) .
* " ما يحبسك " أي يؤخرك (4) .
_________
(1) تقدمت ترجمته، في الحديث رقم 14.
(2) ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، أبو عبد الرحمن وقيل: أبو محمد الخزرجي الأنصاري، خطيب الأنصار، وخطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من نجباء الصحابة رضي الله عنهم، وكان جهير الصوت خطيبا بليغا، شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا وما بعدها، وبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وأخبره أنه من أهلها، واستشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، سنة إحدى عشرة [واليمامة: سميت باسم جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، فاليمامة بلاد سميت باسم هذه المرأة، ووقعت فيها هذه المعركة، وقتل من المسلمين ستمائة وقيل خمسمائة وقيل أربعمائة وخمسون من حملة القرآن، منهم ثابت بن قيس] وكان عليه درع نفيسة عند استشهاده فمر به رجل فأخذها فبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال: إني أوصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه إني لما قتلت أخذ درعي فلان ومنزله في أقصى الناس وعند خبائه فرس يستن وقد كفى على الدرع برمة وفوق البرمة رحل فأتِ خالدا فمره فليأخذها، وليقل لأبى بكر الصديق رضي الله عنهم إن علي من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي حر، فأتى الرجل خالدا فبعث إلى الدرع فأتي بها على ما وصف، وأخبر أبا بكر رضي الله عنه برؤياه فأجاز وصيته، قال النووي " قالوا ولا نعلم أحدا أوصى بعد موته فأجيزت وصيته غير ثابت رضي الله عنه " انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر، المطبوع بهامش الإِصابة 1 / 192، وتهذيب الأسماء واللغات، 1 / 139، وسير أعلام النبلاء للذهبي 1 / 308، والبداية والنهاية لابن كثير، 6 / 325، وشرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 133، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 1 / 195، وعمدة القاري للعيني 14 / 139.
(3) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 448، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب الحاء مع السين، مادة " حسر " 1 / 383.
(4) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 214.(1/314)
* " يتحنط " يستعمل الحنوط، وهو ما يحنَّط به الموتى خاصة من الطيب، والكافور، وإنما كان يتحنط حرصا على الموت، وعزما عليه، واستعدادا له، وتوطين النفس عليه بالصبر على القتال؛ لما رأى من انكشاف الناس (1) .
* " انكشافا من الناس " الانكشاف: الفِرار أو الهزيمة (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحث والتحريض على الجهاد.
2 - من صفات الداعية: التلطف ولين الكلام مع الكبير والصغير.
3 - من صفات الداعية: الاستعداد للقاء الله عز وجل.
4 - من صفات الداعية: صحة اليقين وقوته.
5 - من صفات الداعية: الشجاعة والثبات.
6 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
7 - تأديب المدعو بالكلمة القوية عند الحاجة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث والتحريض على الجهاد. دل هذا الحديث على الحث والتحريض والحض على الجهاد، وتوبيخ من يتكاسل عنه بالكلام المناسب؛ ولهذا قال أنس رضي الله عنه لقيس بن ثابت: «يا عمّ ما يحبسك أن لَّا تجيء؟ " فقال له: " الآن يا ابن أخي» وهذا فيه تحريض على الجهاد؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه التداعي إلى الحرب والتحريض عليها " (3) .
_________
(1) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 448، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع النون، مادة " حنط " 1 / 450.
(2) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 448.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 52، وانظر: عمدة القاري 14 / 140.(1/315)
وهذا يبين أهمية التحريض على الجهاد كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] (1) قال الإِمام القرطبي رحمه الله: " أي حثهم وحضهم " (2) .
ثانيا: من صفات الداعية: التلطف ولين الكلام مع الكبير والصغير: دل على ذلك قول أنس رضي الله عنه لثابت بن قيس رضي الله عنه: «يا عمِّ ما يحبسك أن لا تجيء» فقوله: " يا عمِّ " قال ابن حجر رحمه الله: " إنما دعاه بذلك: لأنه كان أسنَّ منه؛ ولأنه من قبيلة الخزرج " (3) وقد رد عليه ثابت رضي الله عنه بقوله: «الآن يا ابن أخي» .
وهذا فيه تلطف وإكرام وإجلال، والعرب تتوسع في هذه الكلمات: تلطفا وتوددا، وتعبيرا عن إنزال المخاطب منزلة الابن أو ابن الأخ، أو العم، أو الأب (4) .
وهذا يوضح للداعية مكانة التلطف والتودد وتأثيره في القلوب قال الله سبحانه وتعالى لموسى وهارون حينما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] (5) وهذا يؤكد العناية بهذه الصفة الحميدة. (6) .
ثالثا: من صفات الداعية الاستعداد للقاء الله عز وجل: من الأمور المهمة أن يكون المسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل على استعداد تام للموت، وذلك بالتوبة من الذنوب، وإصلاح العمل، والقيام بالواجبات، والابتعاد عن المحرمات، وقد دل هذا الحديث على العناية بالاستعداد للموت والتأهب له وذلك بفعل ثابت بن قيس بتحنطه قبل القتال رضي الله عنه استعدادا للقاء الله، ورغبة في الانتقال من هذه الدنيا على أحسن حال (7) وهذا
_________
(1) سورة الأنفال، الآية: 65.
(2) الجامع لأحكام القرآن 8 / 46.
(3) فتح الباري 6 / 52، وانظر: عمدة القاري 14 / 139.
(4) انظر: منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري، لحمزة محمد قاسم 4 / 98.
(5) سورة طه، الآية: 44.
(6) انظر: الحديث رقم 10، الدرس الثالث.
(7) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير 1 / 450.(1/316)
يؤكد العناية بذلك عناية خاصة فائقة؛ لأن الإِنسان لا يدري متى يدركه الأجل، والله المستعان (1) .
رابعا: من صفات الداعية: صحة اليقين وقوته: من الصفات العظيمة التي ينبغي أن يتصف بها الداعية: صحة اليقين وقوته؛ ولهذا تحنَّط ثابت بن قيس رضي الله عنه استعدادا للشهادة في سبيل الله تعالى، وثقة بالله عز وجل أن يثيبه، وهذا يدل على قوة يقينه ورغبته فيما عند الله عز وجل موقنا بذلك؛ لعلمه بأن الله عز وجل لا يخلف وعده؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه قوة ثابت بن قيس، وصحة يقينه ونيته " (2) .
فينبغي للداعية أن يحسن ظنه بالله ويوقن إيقانا صادقاَ بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا (3) .
خامسا: من صفات الداعية: الشجاعة والثبات: دل الحديث على أن الشجاعة والثبات من أعظم الصفات التي ينبغي للداعية أن يتصف بها، وقد ظهرت هذه الصفة في فعل ثابت بن قيس رضي الله عنه، وإقدامه إلى المعركة بقوة ونشاط وعزيمة صادقة؛ ولهذه الشجاعة قال لأصحابه؛ " هكذا عن وجوهنا حتى نضارب القوم، ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " والمعنى: افسحوا لي حتى أقاتل (4) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه الإِشارة إلى ما كان الصحابة عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الشجاعة والثبات في الحرب " (5) .
فينبغي أن يكون الداعية متصفا بالشجاعة العقلية والقلبية والأدبية (6) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 1، الدرس الثالث.
(2) فتح الباري 6 / 52، وانظر: عمدة القاري للعيني 14 / 140.
(3) انظر: الحديث رقم 28، الدرس الرابع.
(4) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 52.
(5) المرجع السابق 6 / 52، وانظر: عمدة القاري للعيني 14 / 140.
(6) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الخامس.(1/317)
سادسا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: ظهر في هذا الحديث أن القدوة الحسنة من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا قال ثابت بن قيس رضي الله عنه: " ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " والمعنى أن الصف في القتال لا ينصرف عن موضعه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بل يثبتون في قتالهم ولا يتقهقرون (1) فقد اقتدى رضي الله عنه بفعله هو وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهده، وأرشد المجاهدين بهذه الكلمة إلى ما كان عليه الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم من الثبات في قتال عدوهم (2) . وهذا يبين أهمية هذه الوسيلة في الدعوة إلى الله وأن الداعية ينبغي بل يلزمه أن يكون قدوة صالحة حسنة لغيره (3) .
سابعا: تأديب المدعو بالكلمة القوية عند الحاجة: لا ريب أن المدعوين يختلفون على حسب أحوالهم، وعقولهم، والداعية يخاطبهم مراعيا في ذلك ما ينفعهم على حسب أحوالهم؛ لأنه كالطبيب الحاذق الذي يقدم الدواء على حسب الداء، ومن هذا الدواء والعلاج تأديب بعض المدعوين بالكلام القوي، والزجر عما يضرهم، وقد ظهر هذا التأديب في كلام ثابت بن قيس رضي الله عنه في هذا الحديث لأصحابه بقوله: " بئس ما عودتم أقرانكم " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وأراد ثابت بن قيس بقوله هذا توبيخ المنهزمين! أي عودتم نظراءكم في القوة من عدوكم الفرار منهم حتى طمعوا فيكم " (4) وهذا يبين أهمية تأديب المدعو بالكلام إذا ظهرت المصلحة وانتفت المفسدة؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم الكلمة القوية عند الحاجة إليها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه، وقال: «يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده» (5) .
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 52، وعمدة القاري للعيني 14 / 140، ومنار القاري في شرح مختصر صحيح البخاري، لحمزة محمد قاسم 4 / 98.
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 52، وعمدة القاري للعيني، 14 / 140.
(3) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث.
(4) فتح الباري 6 / 52، وانظر: عمدة القاري للعيني، 14 / 140.
(5) صحيح مسلم، كتاب اللباس، باب تحريم خاتم الذهب على الرجال، 3 / 1655، برقم 2090.(1/318)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا، فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟ " قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: " أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشّ فليس مني» (1) واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة ابن اللتبية فجاء بالمال فدفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «هذا مالكم وهذه هدية أهديت لي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فتنظر أيهدى إليك أم لا» ؟ " (2) .
فينبغي للداعية جلب المصالح ودفع المفاسد؛ فإن تعارضت المصالح والمفاسد دفعت أعظم المفسدتين أو الضررين باحتمال أيسرهما، وجلبت أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح (3) .
_________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإِيمان، باب قوله صلى الله عليه وسلم " من غشنا فليس منا " 1 / 99 برقم 102.
(2) متفق عليه: البخاري، 7 / 278، برقم 6636، ومسلم، 3 / 1463، برقم 1832، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 4، آخر الدرس الرابع، ص 69.
(3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 3 / 194، وإعلام الموقعين لابن القيم، 3 / 15 - 17، وفتح الباري لابن حجر، 1 / 325.(1/319)
[باب فضل الطليعة]
[حديث لكل نبي حواري وحواري الزبير]
40 - بَاب فَضلِ الطلِيعةِ 52 [ص:2846] حَدَّثَنَا أَبو نعَيمٍ: حَدَّثَنَا سفْيَان، عَنْ محَمَّدِ بْنِ المنكَدِرِ، عَنْ جَابِر (1) . رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: " مَنْ يأتيني بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ " يَوْمَ الأحْزَاب، قَالَ الزّبَيْر (2) أنا. ثَمَّ قَالَ: " مَنْ يأتيني بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ " قَالَ الزّبَيْر: أنا. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ لِكلِّ نَبي حَوَارِيّا وَحَوَارِي الزّبير» (3) .
وفي رواية: «نَدَب النَّبِي صلى الله عليه وسلم النَّاسَ فَانْتَدَبَ الزّبَيْر، ثمَّ نَدَبَ النَّاسَ فَانْتَدَبَ الزّبَيْر، ثمَّ نَدَبَ النَّاسَ فَانْتَدَبَ الزّبَيْر، قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ لِكلِّ نِبي حَوَاريّا.
_________
(1) جابر بن عبد الله، تقدمت ترجمته في الحديث رقم 32.
(2) الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي، وأمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أسلم الزبير رضي الله عنه قديما وهو ابن خمس عشرة سنة، وقيل ست عشرة سنة، وقيل أقل من ذلك، وكان إسلامه بعد إسلام أبي بكر رضي الله عنه بقليل، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وهاجر الزبير رضي الله عنه إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وكان أول من سل سيفا في سبيل الله عز وجل، شهد بدرا وما بعدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد اليرموك، وفتح مصر، وكان بالزبير ثلاث ضربات بالسيف كان ابنه عبد الله يدخل يده فيها: اثنتان يوم بدر وواحدة باليرموك [البخاري برقم 3721] وكان من الذين استجابوا لله ورسوله من بعد ما أصابهم القرح يوم أحد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب " من يأتيني بخبر القوم " فقال الزبير: أنا قال ذلك ثلاث مرات. والزبير رضي الله عنه يقول أنا. فقال صلى الله عليه وسلم " إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير " وذكر الإِمام النووي من مناقبه أنه كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج فيتصدق به في مجلسه، وما يقوم بدرهم منه. وذكر ابن حجر أن عثمان والمقداد، وابن مسعود، وابن عوف، ومطيع بن الأسود، وأبا العاص رضي الله عنهم أوصوا إلى الزبير فكان يحفظ أموالهم وينفق على أولادهم من ماله. وقصته في وفاء دينه وفيما وقع في تركته من البركة مذكورة في صحيح البخاري، في كتاب الخمس، باب بركة الغازي في ماله حيا وميتا، برقم 3129. وكان الزبير رضي الله عنه قد قابله علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم معركة الجمل فذكره علي بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أن عليا على الحق، فأقر الزبير رضي الله عنه بذلك، وذكر أنه أنسي هذا الحديث ثم انصرف وترك القتال راجعا فلحقه بعض الغواة فقتلوه رضي الله عنه مظلوما وذلك في سنة ستة وثلاثين وله ست أو سبع وستون سنة رضي الله عنه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 194، وسير أعلام النبلاء للذهبي 1 / 41، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1 / 545.
(3) [الحديث 2846] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب هل يبعث الطليعة وحده، 3 / 283، برقم 2847. وكتاب الجهاد والسير، باب السير وحده، 4 / 21، برقم 2997. وكتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب الزبير بن العوام رضي الله عنه، 4 / 253، برقم 3719. وكتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، 5 / 58 و 59، برقم 4113. وكتاب أخبار الآحاد، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم الزبير طليعة وحده، 8 / 172، برقم 7261. وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما، 4 / 1879، برقم 2415.(1/320)
وإِنَّ حَوَارِي الزّبير بن العَوَّامِ» (1) .
وفي رواية: «مَنْ يأتينا بِخَبَرِ القَوْمِ؟ " فَقَالَ الزّبَيْر: أنا. ثمَّ قَالَ: " مَنْ يَأْتِينَا بخَبَرِ الْقَوْمِ؟ " فَقَالَ الزّبَيْر: أنا. ثمَّ قَالَ: " مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ " فَقَالَ الزّبَيْر: أنا. ثمَّ قَالَ: " إِنَّ لِكلِّ نَبِي حَوَارِيّا، وإِنَّ حَوَارِي الزّبَيْر» (2) .
وفي رواية: قَالَ سفْيَان: حَفِظْته مِنْ ابْنِ المنكَدِرِ، وَقَالَ لَه أَيّوب: يَا أَبَا بَكْرٍ، حدّثْهمْ عَنْ جَابِرٍ؛ فَإِنَّ الْقَوْمَ يعْجِبهمْ أَنْ تحَدِّثَهمْ عَنْ جَابِرٍ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ المَجْلِسِ: سَمِعْت جَابِرا، فَتَتَابَعَ بَيْنَ أَحَادِيثَ سَمِعْت: جَابِرا، قلْت لِسفْيَانَ: فَإِنَّ الثَّوْرِي يَقول: يَوْمَ قرَيْظَة، فَقَالَ: كَذَا حَفِظْته مِنْه كَمَا أنكَ جَالِس: " يَوْمَ الْخَنْدَقِ " قَالَ سفْيَان: هوَ يَوْم وَاحِد، وتَبَسَّمَ سفْيَان (3) .
وفي رواية: " قَالَ سفْيَان: الْحَوَارِي: النَّاصِر " (4) .
* شرح غريب الحديث: * «إن لكل نبي حواريّا» الحواري: الناصر المجتهد في النصر، والخاصة من الأصحاب، ومنه الحواري من الطعام، وهو: ما بيِّض واجتهد في تبييضه. والحواري: أصله: من التحوير: وهو التبييض (5) .
* " ندب. . . فانتدب " يقال: ندبت الرجل للأمر أو للجهاد فانتدب: أي بعثته ودعوته فأجاب (6) .
_________
(1) الطرف رقم 2847.
(2) الطرف رقم 4113.
(3) من الطرف رقم 7261.
(4) من الطرف رقم 2997.
(5) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي ص 209، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب الحاء مع الواو، مادة: " حور " 1 / 257 - 258.
(6) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي، ص 330، 336، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب النون مع الدال، مادة " ندب " 5 / 34.(1/321)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحض على الجهاد.
2 - من فقه الدعوة: معرفة أحوال المدعوين.
3 - من صفات الداعية: الشجاعة.
4 - من صفات الداعية: صحة اليقين وقوته.
5 - سرعة استجابة المدعو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
6 - أهمية نصر الداعية وشد عضده.
7 - من أساليب الدعوة: التأكيد والتكرار.
8 - من أساليب الدعوة: الحوار.
9 - من صفات الداعية: الدقة والضبط في نقل الحديث.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحض على الجهاد. دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة الحث على الجهاد والتحريض عليه؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وندبه الناس في قول جابر رضي الله عنه: «ندب النبي الناس فانتدب الزبير» قال الإِمام النووي رحمه الله في هذا المعنى؛ " أي دعاهم للجهاد وحرضهم عليه فأجابه الزبير " (1) وهذا يبين أهمية العناية بالحث على الجهاد والحض عليه (2) .
ثانيا: من فقه الدعوة: معرفة أحوال المدعوين: لا شك أن من فقه الدعوة معرفة الداعية لأحوال المدعوين؛ لمعرفة ما هم عليه، وللحذر من مكائد الأعداء، والاستعداد لهم بما يناسبهم من دعوة أو
_________
(1) شرح صحيح مسلم، 15 / 197، وانظر إكمال إكمال المعلم للأبي 8 / 258، وعمدة القاري للعيني، 8 / 258.
(2) انظر الحديث رقم 18، الدرس الثاني.(1/322)
جهاد، وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] (1) وقال عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55] (2) والله عز وجل قد بين سبيل المؤمنين مفصَّلة وسبيل المجرمين مفصَّلة (3) وقوله سبحانه وتعالى: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55] قال الإِمام الطبري رحمه الله على قراءة الرفع {سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55] وكأن معنى الكلام عندهم: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} [الأنعام: 55] ولتتضح لك وللمؤمنين طريق المجرمين " وقال على قراءة من قرأه بالنصب (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلَ الْمجْرِمِينَ) " كأن معناه عندهم: ولتستبين، أنت يا محمد [أو يا مخاطب] سبَيلَ المجرمين " ثم قال رحمه الله: وأولى القراءتين بالصواب عندي في " السبيل " الرفع؛ لأن الله تعالى ذِكْره فصَّل آياته في كتابه وتنزيله؛ ليتبين الحقَّ بها من الباطل جميع من خوطب بها، لا بعض دون بعض (4) وقال الإِمام ابن القيم رحمه الله: " فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبان لهم السبيلان " (5) .
وقد دل هذا الحديث على أهمية معرفة أحوال الأعداء في قوله صلى الله عليه وسلم: «من يأتينا بخبر القوم. . . " " وانتدب الناس فانتدب الزبير» وهذا يوضح للداعية أهمية معرفة أحوال المدعوين؛ ليقدم للمستجيبين منهم ما يناسبهم، وَليَحْذَرَ كيد الكائدين منهم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حينما أرسله إلى اليمن: «إنك تأتي قوما أهل كتاب» . . . " (6) . فبين له حالهم؛ ليستعد لهم بما يناسبهم.
ثالثا: من صفات الداعية: الشجاعة: ظهرت في هذا الحديث شجاعة الزبير بن العوام رضي الله عنه حينما انتدب النبي
_________
(1) سورة النساء، الآية: 71.
(2) سورة الأنعام، الآية: 55.
(3) انظر: الفوائد، لابن القيم ص 201، والضوء المنير على التفسير من كتب ابن القيم لعلي الصالحي 3 / 37.
(4) جامع البيان عن تأويل آي القرآن 11 / 395، وانظر كتاب مشكل إعراب القرآن، لمكي بن أبي طالب القيسي، 1 / 269، وتفسير البغوي 2 / 101، وتفسير ابن كثير 2 / 137، وفتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، للشوكاني 2 / 120.
(5) الفوائد ص 201.
(6) متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: البخاري، كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة 2 / 152 برقم 1458، ومسلم، في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا اله وشرائع الإسلام 1 / 5 برقم 19.(1/323)
صلى الله عليه وسلم الناس فانتدب الزبير ثلاث مرات؛ ولهذا قال العلامة القسطلاني رحمه الله؛ " فيه منقبة للزبير وقوة قلبه وشجاعته " (1) .
فينبغي للداعية أن يكون شجاعا: قلبيّا، وأدبيّا: حسيّا ومعنويّا (2) .
رابعا: من صفات الداعية: صحة اليقين وقوته: دل هذا الحديث على صحة يقين الزبير رضي الله عنه وقوته؛ فإنه كان أوَّلَ الناس في إجابة النبي صلى الله عليه وسلم حينما ندب الناس؛ لقوة يقينه ورغبته فيما عند الله عز وجل، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " فيه منقبة للزبير، وقوة قلبه، وصحة يقينه " (3) رضي الله عنه ورحمه (4) .
خامسا: أهمية سرعة استجابة المدعو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: إن سرعة الاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم من أهم المهمات، ومن أعظم القربات؛ لأن بها تحصل السعادة في الدنيا والآخرة، وقد دل هذا الحديث على أهمية سرعة استجابة المدعو عندما قال صلى الله عليه وسلم: «من يأتينا بخبر القوم " فقال الزبير: أنا» . وانتدب صلى الله عليه وسلم الناس فانتدب الزبير فكان رضي الله عنه أسرع الصحابة في الاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال الإِمام الكرماني: " فانتدب الزبير، أي أجاب وأسرع " (5) .
فينبغي لكل مسلم وخاصة الداعية أن يكون مستجيبا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم على الفور لكل ما كلف به (6) .
سادسا: أهمية نصر الداعية وشَدِّ عَضده: ظهر في هذا الحديث أن نصر الداعية وإعانته، ومؤازرته من أهم المهمات؛ ولهذا عندما ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس فانتدب الزبير ثلاث مرات قال صلى الله عليه وسلم: «إن
_________
(1) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 5 / 68، وانظر: فتح الباري لابن حجر 6 / 53.
(2) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الخامس.
(3) فتح الباري، 6 / 53، وانظر: 13 / 240.
(4) انظر: الحديث رقم 28، الدرس الرابع، ورقم 51، الدرس الرابع.
(5) شرح الكرماني على صحيح البخاري 25 / 22، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 13 / 239.
(6) انظر: الحديث رقم 46، الدرس التاسع عشر.(1/324)
لكل نبي حواريا وحواري الزبير» والحواري هو الناصر والخاصة من الأصحاب، والصحابة رضي الله عنهم كلهم كانوا أنصارا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلا ريب، ولكن الزبير رضي الله عنه كان له اختصاص بالنصرة وزيادة فيها، ولاسيما في يوم الأحزاب (1) .
فينبغي لكل مسلم أن ينصر الدعاة إلى الله عز وجل ويعينهم بقوله وفعله؛ ولأهمية هذه النصرة سأل موسى صلى الله عليه وسلم ربه أن يجعل له من يؤازره من أهله ويعينه وينصره فاستجاب الله سبحانه وتعالى له، كما بيَّن الله عز وجل ذلك في القرآن الكريم بقوله: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي - هَارُونَ أَخِي - اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي - وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي - كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا - وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا - إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا - قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 29 - 36] (2) وقال عز وجل: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35] (3) . وهذا يبين أهمية نصر الدعاة إلى الله عز وجل والشد من أزرهم.
سابعا: من أساليب الدعوة: التأكيد والتكرار: إن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم هذا الأسلوب في هذا الحديث؛ وذلك بإعادة الكلام ثلاث مرات بقوله صلى الله عليه وسلم: «من يأتينا بخبر القوم» وقد كان صلى الله عليه وسلم يكَرِّر الكلام عند الحاجة لذلك حتى يفهم عنه، فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان إذا تكلَّم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه. .» (4) .
فينبغي للداعية أن يعتني بهذا الأسلوب عند الحاجة إليه (5) .
ثامنا: من أساليب الدعوة: الحوار: دل هذا الحديث على أسلوب الحوار الهادي المثمر بين أيوب السختياني،
_________
(1) انظر: مشكل الآثار للطحاوي، 9 / 94، وشرح السنة، للبغوي، 14 / 122، وشرح الكرماني على صحيح البخاري، 25 / 22، وعمدة القاري للعيني، 25 / 18، وشرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد بن حنبل، للسفاريني، 1 / 199.
(2) سورة طه، الآيات: 29 - 36.
(3) سورة القصص، الآية: 35.
(4) البخاري، كتاب العلم، باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه فقال: " ألا وقول الزور " فما زال يكررها، وقال ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هل بلغت " ثلاثا، 1 / 37، برقم 95.
(5) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثاني عشر.(1/325)
وأبي بكر محمد بن المنكدر، وبين علي بن المديني شيخ البخاري وسفيان بن عيينة رحمهم الله، وفي نهاية الحوار قال سفيان: هو يوم واحد وتبسم. وقد أثمر هذا الحوار على أن لفظة " يوم قريظة " في الحديث، ويوم " الخندق " في الرواية الأخرى، و " يوم الأحزاب " في الرواية الأولى كلها تدل على معنى واحد؛ وذلك أنه أريد بقوله " يوم قريظة " أي اليوم الذي أراد صلى الله عليه وسلم أن يعلم فيه خبر بني قريظة وهو لا يزال في الخندق. قال الكرماني رحمه الله: " إذ الثلاثة في زمن واحد " (1) وقال ابن حجر رحمه الله: " وقعة الخندق دامت أياما آخرها لما انصرفت الأحزاب ورجع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى منازلهم جاء جبريل عليه السلام بين الظهر والعصر فأمره بالخروج إلى بني قريظة فخرجوا " (2) وهذا يبين أهمية الحوار في الدعوة إلى الله عز وجل (3) .
تاسعا: من صفات الداعية: الدقة والضبط في نقل الحديث: دلت هذه المحاورة في هذا الحديث على عناية السلف الصالح رحمهم الله تعالى بالدقة والعناية بضبط الحديث حتى يصل إلى الناس سليما من الخطأ والتصحيف، والكذب (4) وهذا يبين للداعية أهمية الالتزام بذلك في نقله للعلم وتبليغه للناس (5) .
_________
(1) شرح الكرماني على صحيح البخاري 25 / 22، وانظر: عمدة القاري للعيني 25 / 18.
(2) فتح الباري 13 / 140.
(3) انظر: الحديث رقم 28، الدرس السادس.
(4) انظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري 25 / 22، وفتح الباري لابن حجر 13 / 140 وعمدة القاري للعيني 25 / 18.
(5) انظر: الحديث 21، الدرس العاشر.(1/326)
[باب الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة]
[حديث الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة]
43 - باب: الخيل معقود فِي نواصيها الخير إلى يوم القيامة 53 [ص:2849] حَدَّثَنَا عبد الله بْن مَسْلَمَة: حَدَّثنَا مَالِك، عَنْ نافعٍ، عَنْ عبد الله بْنِ عمَرَ (1) رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْخَيْل فِي نَواصِيهَا الْخَير إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة» (2) .
وفي رواية: «الْخَيْل مَعْقود فِي نَوَاصيهَا الْخَيْر إِلى يَوْمِ الْقِيَامَة» (3) .
[حديث الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة]
54 [ص:2850] حَدَّثَنَا حَفْص بْن عمَرَ: حَدَّثَنَا شعْبَة، عَنْ حصَيْنٍ، وابْنِ أبِي السَّفَرِ، عَنْ الشَّعْبِي، عَنْ عرْوَة (4) بْنِ الجَعْدِ، عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْخَيْل مَعْقود فِي نَواصِيهَا الْخَيْر إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة» .
قَالَ سلَيْمَان: عَنْ شعْبَة: " عَنْ عرْوَة بْنِ أَبِي الجَعْدِ ": تَابَعَه مسدَّد، عَنْ هشَيْمٍ، عَنْ حصَينٍ، عَن الشَّعْبِي: " عَنْ عرْوَة بْنِ أَبِي الجَعْدِ " (5) .
وفي رواية: «الْخَيْل مَعْقود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر إِلَى يَوْمِ الْقِيَامة: الأَجْر والْمَغْنَم» (6) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 1.
(2) [الحديث 2849] طرفه في كتاب المناقب، باب، 4 / 226، برقم 3644. وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، 3 / 1492، برقم 1871.
(3) الطرف رقم 3644.
(4) هو عروة بن الجعد ويقال ابن أبي الجعد البارقي رضي الله عنه، وهو الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم بدينار؛ يشتري له به شاة، واشترى له بشاتين فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه [رواه البخاري برقم 3642] وعند الإمام أحمد في المسند 4 / 376 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعروة " اللهم بارك له في صفقة يمينه " فكان يقف في الكوفة ويربح أربعين ألفا قبل أن يرجع إلى أهله. وكان رضي الله عنه ممن حضر فتوح الشام ونزلها، ثم سيره عثمان إلى الكوفة وحديثه عند أهلها، وكان يَعد العدد للجهاد وكان معه عدة أفراس، منها فرس اشتراه بعشرة آلاف درهم، ولهذا قال شبيب بن غرقدة: وقد رأيت في داره سبعين فرسا [رواه البخاري، برقم 3643] روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر حديثا اتفق البخاري ومسلم منها على حديث، واستعمله عمر رضي الله عنه على قضاء الكوفة قبل شريح. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 331، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 2 / 476.
(5) [الحديث 2850] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، بَاب الجهاد ماض مع البر والفاجر، 3 / 284، برقم 2852. وكتاب فرض الخمس، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " أحلت لكم الغنائم "، 4 / 60، برقم 3119. وكتاب المناقب، باب، 4 / 226، برقم 3643. وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، 3 / 1493، برقم 1873.
(6) الطرف رقم 2852.(1/327)
وفي رواية: «الْخَيْل مَعْقود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر، والأَجْر، والْمَغْنَم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» (1) .
وفي رواية: عن شبيب عن عروة: «الْخَيْر مَعْقود بِنَوَاصِي الْخَيْلِ إِلَي يَوْمِ الْقِيَامَة» ، قَالَ: وَقَدْ رَأَيْت فِي دَارِه سَبْعينَ فَرَسا. قَالَ سفْيَان: " يَشْتَرِي لَه شَاة كأنها أضحِيَّة " (2) .
[حديث البركة في نواصي الخيل]
55 [ص:2851] حَدَّثَنَا مسَدَّد: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن سَعِيدٍ عَنْ شعْبَة، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ (3) رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْبَرَكَة فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ» (4) .
وفي رواية: «الْخَيْل مَعْقود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر» (5) .
* شرح غريب الأحاديث: * " معقود في نواصيها الخير " أي ملازم لها كأنه معقود فيها (6) . والناصية مقدم الرأس، وشعر مقدم الرأس إذا طال (7) .
* الدراسة الدعوية للأحاديث: في هذه الأحاديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحض على الإِعداد للجهاد لإِعلاء كلمة الله عز وجل.
2 - من صفات النبي صلى الله عليه وسلم: الفصاحة والبلاغة.
3 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإِخبار بالمغيبات.
_________
(1) الطرف رقم 3119.
(2) الطرف رقم 3643.
(3) أنس بن مالك رضي الله عنه، تقدمت ترجمته في الحديث رقم 14.
(4) [الحديث 2851] طرفه في كتاب المناقب، باب، 4 / 226، برقم 3645. وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، 3 / 1494، برقم 1874.
(5) الطرف رقم 3645.
(6) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب العين مع القاف، مادة " عقد " 3 / 371.
(7) المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، مادة: " نصا " 2 / 927.(1/328)
4 - من خصائص الإِسلام: البقاء إلى يوم القيامة.
5 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
6 - من أساليب الدعوة: التشبيه.
7 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحض على الإعداد للجهاد لإعلاء كلمة الله عز وجل: دلت هذه الأحاديث الثلاثة على الحض على الإِعداد للجهاد في سبيل الله تعالى؛ لإِعلاء كلمة الله عز وجل؛ لأن في قوله صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «البركة في نواصي الخيل» حث على الإعداد للجهاد؛ قال الإِمام ابن عبد البر رحمه الله: في هذا الحديث الحض على اكتساب الخيل، وفيه تفضيلها على سائر الدواب، لأنَّه صلى الله عليه وسلم لم يأتِ عنه في غيرها مثل هذا القول، وذلك تعظيم منه؛ لشأنها، وحض على اكتسابها، ونَدْب لارتباطها في سبيل الله، عدَّة للقاء العدوِّ، إذ هي من أقوى الآلات في الجهاد، فالخيل المعدة للجهاد هي التي في نواصيها الخير، وما كان معدّا منها للفتن وسلب المسلمين فتلك كما قال ابن عمر " خيل الشيطان " (1) .
وهذا يوضح العناية بالإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل بكل ما يستطيعه المسلمون من قوة (2) وذلك باتخاذ الأسباب وآلات الحرب لإِرهاب أعداء الله، ولكل زمان ما يناسبه: من خيل، أو مدافع، أو مدرعات، أو مصفحات، أو طائرات جوية، أو سفن بحرية (3) ؛ لقوله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] (4) .
_________
(1) الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار 4 / 302.
(2) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الثالث.
(3) انظر: شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد لمحمد السفاريني، 2 / 581، والمنهل العذب الفرات من الأحاديث الأمهات من صحيح الإِمام البخاري، لعبد العال أحمد، 3 / 213.
(4) سورة الأنفال، الآية: 60.(1/329)
ثانيا: من صفات النبي صلى الله عليه وسلم: الفصاحة والبلاغة: من الصفات الكريمة التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم: البلاغة والفصاحة؛ وقد ظهرت في قوله صلى الله عليه وسلم: «البركة في نواصي الخيل» وقوله صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير» قال القاضي عياض رحمه الله: " في هذا الحديث مع وجيز لفظه من البلاغة والعذوبة ما لا مزيد عليه في الحسن مع الجناس السهل الذي بين الخيل والخير " (1) وقال الإِمام القرطبي رحمه الله: " وهذا الكلام جمع من أصناف البديع ما يعجز عنه كلّ بليغ، ومن سهولة ألفاظه ما يعجب ويستطاب " (2) .
وهذا يبين أهمية البلاغة والفصاحة في الدعوة إلى الله عز وجل، فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجب الناس؛ لبيانهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا» أو «إن بعض البيان سحر» (3) .
وهذا يبين للداعية أهمية الفصاحة والبلاغة وحسن الكلام، وبيان الحق للناس. والبيان نوعان: الأول ما يبيَّن به المراد، والثاني تحسين اللفظ حتى يستميل به قلوب السامعين، وهذا النوع الذي يشبَّه به السحر، والمذموم منه ما يقْصد به الباطل، أما مَا يبيَّن به الحق للناس بعذوبة الكلام وفصاحته وبلاغته واقتصاده فهو المطلوب في الدعوة إلى الله عز وجل (4) .
وقد بين الحافظ ابن حجر رحمه الله: أن المذموم من البيان ما يكون فيه صرف الحق إلى الباطل بتحسين الكلام كأن يكون الإِنسان عليه حق وهو ألحن بالحجة من صاحب الحق، فيسحر الناس ببيانه، فيذهب بالحق (5) وأما إذا كان البيان في تزيين الحق فهو الممدوح، وقد امتنّ الله بذلك على عباده حيث قال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ - عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 3 - 4] (6) قال الحافظ ابن حجر
_________
(1) نقلا عن فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر 6 / 56، وإكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم، لمحمد بن خليفة الأبي 6 / 596.
(2) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، لأحمد بن عمر القرطبي 3 / 703.
(3) البخاري، كتاب النكاح، باب الخطبة، 6 / 167 برقم 5146، وكتاب الطب، باب إن من البيان سحرا، 8 / 39.
(4) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 9 / 202، و 10 / 238.
(5) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 10 / 338.
(6) سورة الرحمن، الآيتان: 3 - 4.(1/330)
رحمه الله: " وقد اتفق العلماء على مدح الإِيجاز، والإِتيان بالمعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة، وعلى مدح الإِطناب في مقام الخطابة بحسب المقام وهذا كله من البيان بالمعنى الثاني " (1) .
فينبغي للداعية أن يراعي ذلك في الدعوة إلى الله بحسب الاستطاعة؛ وليعلم أن الإِفراط والتفريط في كل شيء مذموم، وخير الأمور أوسطها (2) .
ثالثا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار بالمغيبات: من علامات النبوة التي تدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الأمور الغيبية في القرون الغابرة، وما أخبر به في زمنه: كأعمال المنافقين وغيرهم، وما أخبر به من الأمور الغيبية في المستقبل (3) . وهذه الأحاديث التي أخبر فيها صلى الله عليه وسلم بأن: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» (4) من إخباره صلى الله عليه وسلم بالغيوب في المستقبل؛ فإن الخير ملازم للخيل إلى يوم القيامة كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على صدقه وأنه رسول الله حقا؛ ولهذا ذكر الإِمام البخاري رحمه الله هذه الأحاديث في علامات النبوة (5) .
رابعا: من خصائص الإسلام؛ البقاء إلى يوم القيامة: دلت هذه الأحاديث - كغيرها - على أن الإِسلام باقٍ إلى يوم القيامة؛ لبيانه صلى الله عليه وسلم أن الخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة قال الإِمام ابن عبد البر رحمه الله: " وقد استدل جماعة من العلماء بأن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة تحت راية كلِّ برٍّ وفاجر من الأئمة بهذا الحديث، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
_________
(1) فتح الباري، 10 / 338.
(2) انظر: المرجع السابق 10 / 338.
(3) انظر: كتاب الداعي إلى الإِسلام، لعبد الرحمن بن محمد الأنباري، ص 424 - 428، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لشيخ الإِسلام ابن تيمية 6 / 80 - 159.
(4) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع.
(5) انظر: صحيح البخاري 4 / 226، برقم 3643 - 3646، وفتح الباري، لابن حجر، 3 / 633، وانظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع.(1/331)
فيه: «إلى يوم القيامة» والمجاهدون تحت راياتهم يغزون " (1) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه بشرى ببقاء الإِسلام وأهله إلى يوم القيامة؛ لأن من لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين وهم المسلمون " (2) ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزال ناس من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون» (3) وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» (4) . قال النووي رحمه الله: " فيه دليل على بقاء الإِسلام والجهاد إلى يوم القيامة: والمراد قبيْل القيامة بيسير: أي حتى تأتي الريح الطيبة من قبل اليمن تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة كما ثبت في الصحيح " (5) .
خامسا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دلت هذه الأحاديث الثلاثة على الترغيب في الإِعداد للجهاد، واستحباب رباط الخيل واقتنائها للغزو، وقتال أعداء الله، وأن فضلها وخيرها باق إلى يوم القيامة (6) ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والمغنم» وقوله صلى الله عليه وسلم: «الأجر والمغنم» تفسير للخير: أي الثواب في الآخرة والغنيمة في الدنيا (7) وقد بيَّن الخطابي رحمه الله: أن فيه الترغيب في اتخاذ الخيل والغزو عليها في سبيل الله، وأن المال الذي يكتسب بالخيل من خير وجوه الأموال وأطيبها (8) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الخيل ثلاثة: هي لرجل
_________
(1) الاستذكار لابن عبد البر 14 / 312.
(2) فتح الباري 6 / 56، وانظر: أعلام الحديث للخطابي 2 / 1374، وشرح الزرقاني على موطأ الإِمام مالك 3 / 61.؛.
(3) متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: البخاري، كتاب المناقب، باب حدثنا محمد بن المثنى، 4 / 225، برقم 3640، ومسلم في كتاب الإِمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم " 3 / 1523، برقم 1921.
(4) متفق عليه من حديث معاوية رضي الله عنه: البخاري، كتاب المناقب، باب: حدثنا محمد بن المثنى، 4 / 225، برقم: 3641، ومسلم في كتاب الإِمارة، باب " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق " 3 / 1523، برقم 1037.
(5) شرح صحيح مسلم 7 / 73.
(6) انظر: المرجع السابق، 13 / 20.
(7) انظر: شرح صحيح البخاري، للكرماني 12 / 137، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 56.
(8) انظر: أعلام الحديث للخطابي، 2 / 1374، وشرح صحيح البخاري، للكرماني 12 / 137، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 56.(1/332)
وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر، فأما التي هي له وزر» (1) .
فرجل ربطها: رياء، وفخرا، ونواء (2) على أهل الإِسلام فهي له وزر، وأما التي هي له ستر (3) فرجل ربطها في سبيل الله [تغنيا وتعففا] ثم لم ينسَ حق الله في ظهورها ولا رقابها فهي له ستر، وأما التي هي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإِسلام [فأطال لها (4) ] في مرج (5) وروضة (6) فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات، وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات، ولا تقطع طِوَلها (7) فاستنّت (8) شرفا أو شرفين (9) إلا كتب الله له عدد آثارها، وأرواثها حسنات، ولا مر بها صاحبها على نهْر فشربت منه، ولا يريد أن يسقيها إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات (10) .
وهذا يبين أهمية الترغيب في الإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل، وأن المراد بالخيل المرغب فيها: ما يتخذ للغزو في سبيل الله سبحانه وتعالى ويقاتل عليها، أو يرتبط من أجل ذلك (11) وهذا الترغيب في الخيل فكيف
_________
(1) الوزر: الحمل الثقيل، المثقل للظهر، والجمع أوزار، ثم يَتَصرَف ذلك في الذنوب والآثام. تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 331.
(2) نواء: أي معاداة لهم، يقال: ناوأت الرجل نِواء ومناوأة، إذا عاديته، وأصله إنه ناء إليك ونوءت إليه: إذا نهضت إليه نهوض المغالبة: المرجع السابق ص 331.
(3) ستر: أي حجاب من سؤال الغير عند الحاجة لركوب فرس بدليل قوله صلى الله عليه وسلم " تغنيا وتعففا " أي عن الناس. المفهم لما أشكل من كتاب تلخيص مسلم للقرطبي 3 / 28.
(4) فأطال لها: أي أرخى لها الحبل. تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 330.
(5) المرج: أرض ذات نبات تمرج فيه الدواب: أي ترسل وتترك فيه للرعي والانبساط. تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 331.
(6) الروضة: الموضع الذي يستنقع فيه الماء. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الواو، مادة " روض " 2 / 277.
(7) الطوَل: الحبل الذي تشد به الدابة ويمسك صاحبها بطرفه، أو يشده في شيء يمسكه ويرسل الدابة ترعى. تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 330.
(8) فاستنت: يقال: استن الفرس، يستن استنانا: أي عدا، وسرح لمرحه ونشاطه شوطا أو شوطين، ولا راكب عليه. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع النون، مادة " سنن " 2 / 410، وغريب ما في الصحيحين للحميدي ص 330.
(9) شرفا أو شرفين: أي مواضع مشرفة، ومشارف الأرض: أعاليها. المرجع السابق ص 330.
(10) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، في كتاب المناقب، باب: حدثنا محمد بن المثنى، 4 / 226 برقم 3646، ومسلم، في كتاب الزكاة، باب الأمر بإخراج زكاة الفطر قبل الصلاة، 2 / 681، واللفظ له إلا ما بين المعكوفين فمن لفظ البخاري.
(11) انظر: فتح الباري لابن حجر 6 / 55.(1/333)
بمن أعد العدة للجهاد بأعظم وأقوى من الخيل ابتغاء وجه الله عز وجل كالطائرات، والدبابات، والسفن وغيرها مما يستطيعه المسلمون؟ (1) .
سادسا: من أساليب الدعوة: التشبيه: إن أسلوب التشبيه من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله عز وجل وقد ظهر في قوله صلى الله عليه وسلم: «معقود في نواصيها الخير» وتفسيره بـ «الأجر والمغنم» ، أسلوب التشبيه. قال ابن الأثير رحمه الله قوله: «معقود» أي ملازم لها كأنه معقود فيها " (2) وتعقّبه الإِمام الطيبي رحمه الله فقال: أقول: يجوز أن يكون الخير المفسر بالأجر والغنيمة: استعارة مكنية، شبهه لظهوره وملازمته بشيء محسوس معقود بخيل، على مكان رفيع؛ ليكون منظورا للناس ملازما لنظرهم، فنسب الخير إلى لازم المشبَّه به، وذكر الناصية تجريدا للاستعارة (3) .
فينبغي للداعية أن يعتني بهذا الأسلوب على حسب الاستطاعة والحاجة (4) .
سابعا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: ظهرت في حديث عروة رضي الله عنه هذه الوسيلة؛ لأنه ممن روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير» . . " ثم طبَّق ذلك على نفسه فكان يعتني بإعداد الخيل للجهاد في سبيل الله؛ قال شبيب بن غرقدة، الذي روى عنه الحديث: " وقد رأيت في داره سبعين فرسا " وهذا يدل على أنه رضي الله عنه روى للناس الحديث وكان قدوة حسنة لهم في ذلك؛ وقد ذكِرَ عنه أنه اشترى فرسا بعشرة آلاف درهم (5) .
وهذا يبيِّن للداعية أهمية القدوة الحسنة في الدعوة إلى الله عز وجل.
_________
(1) انظر: الحديث 18، الدرس الخامس.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر، باب العين مع القاف، مادة " عقد " 3 / 371.
(3) شرح الطيبي على مشكاة المصابيح 8 / 2667.
(4) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الرابع، ورقم 19، الدرس الخامس.
(5) انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 331.(1/334)
[باب من احتبس فرسا لقوله تعالى ومن رباط الخيل]
[حديث من احتبس فرسا في سبيل الله]
45 - باب من احتبس فرسا لقوله تعالى {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] (1) .
56 [ص:2853] حَدَّثَنَا عَلِي بْن حَفْصٍ: حَدَّثَنَا ابْن المبَارَكِ: أَخبَرَنَا طَلْحَة بْن أَبي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْت سَعِيدا المَقْبرِي يحَدِّث أَنه سَمِعَ أَبَا هرَيْرَة (2) . رضي الله عنه يَقول: قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: «مَنِ احْتَبَسَ فَرَسا فِي سَبيلِ الله، إِيمَانا بِالله وَتَصْدِيقا بِوَعْدِه؛ فَإِنَّ شِبَعَه، وَرِيَّه، وَرَوْثَه، وَبَوْلَه فِي ميزانه يَوْمَ القِيَامَة» .
* شرح غريب الحديث: * «من احتبس فرسا في سبيل الله» أي: جعله وقفا للمجاهدين وغيرهم في سبيل الله، يقال: حَبَسْت أحْبِس حَبْسا، وأحبست أحبِس إحْبَاسا: أي وقفت (3) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحث على الإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل.
2 - من صفات الداعية: الإِخلاص.
3 - من صفات الداعية: احتساب الأجر والثواب.
4 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
5 - التصريح بذكر بعض الألفاظ المستقذرة عند الحاجة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل: دل هذا الحديث على أهمية الحث على الإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل،
_________
(1) سورة الأنفال، الآية: 60.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 7.
(3) انظر: الفائق في غريب الحديث، لمحمود الزمخشري مادة " حبس " 1 / 254، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الباء، مادة " حبس " 1 / 229.(1/335)
والمدافعة عن المسلمين، وقد ظهر ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «من احتبس فرسا في سبيل الله» ؛ فإن فيه الحث على وقف الخيل للمدافعة عن المسلمين، ويستنبط منه وقف غير الخير من آلات القتال وغيرها وكل ما يعين على الجهاد وإرهاب أعداء الإِسلام (1) . فينبغي العناية بذلك (2) .
ثانيا: من صفات الداعية: الإخلاص: إن الإِخلاص من أعظم الصفات التي ينبغي للداعية أن يتصف بها، وقد ظهرت هذه الصفة في قوله صلى الله عليه وسلم: «من احتبس فرسا في سبيل الله» .
قال الإِمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: " يريد من حبسه بنية جهاد العدو ولا يريد غير ذلك، وفيه دليل على تأكيد النية في احتباسه لذلك؛ لأنه أتى بلفظ احتبس، التي هي من أبنية المبالغة كافتعل، ولم يقل حبس إشارة منه صلى الله عليه وسلم إلى تأكيد النية في هذا الفعل وإزالة الشوائب عنها " (3) .
وهذا يبين أهمية الإِخلاص لله عز وجل؛ (4) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه أن المرء يؤجر بنيته كما يؤجر العامل " (5) وقال الطيبي رحمه الله على قوله صلى الله عليه وسلم: " إيمانا " مفعول له: " أي ربطه خالصا لله تعالى امتثالا لأمره " (6) .
ثالثا: من صفات الداعية: احتساب الأجر والثواب: دل الحديث على أن احتساب الأجر والثواب من الله عز وجل من الصفات العظيمة التي ينبغي أن لا يهملها المسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل، وقد ظهر ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «وتصديقا بوعده» قال الإِمام الطيبي رحمه الله معلقا على هذه الجملة من الحديث: " عبارة عن الثواب المرتب على الاحتباس. تلخيصه:
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 7 / 71، وفتح الباري، لابن حجر 6 / 57.
(2) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الثالث.
(3) بهجة النفوس، 3 / 116 - 117، وانظر: عمدة القاري شرح صحيح البخاري، للعيني 14 / 146.
(4) انظر: الحديث رقم 48، الدرس الثالث.
(5) فتح الباري 6 / 57.
(6) شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 8 / 2667، وانظر: الاستذكار لابن عبد البر، 14 / 13.(1/336)
أنه احتبس امتثالا واحتسابا، وذلك أن الله تعالى وعد الثواب على الاحتباس، فمن احتبس فكأنه قال: صدقت فيما وعدتني " (1) .
وهذا يوضح أهمية احتساب الأجر والثواب والتصديق بوعد الله عز وجل (2) .
رابعا: من أساليب الدعوة: الترغيب: ظهر في هذا الحديث أهمية الترغيب في اتخاذ الخيل وإعدادها للجهاد في سبيل الله عز وجل، وابتغاء مرضاته، ورغبة في حماية المسلمين والدفاع عنهم، والدعوة إلى الله عز وجل؛ فإن في ذلك الفضل العظيم؛ لأن الله يثيب من فعل ذلك عن كل ما تأكله الخيل، أو تشربه، أو يخرج من بول وروث، ويكون ذلك كله في موازين حسناته (3) وهذا فيه ترغيب في اقتناء كل ما يساعد على الجهاد والعناية بكل ما فيه قوة المسلمين في كل زمان بما يناسبه (4) .
فينبغي للداعية العناية بترغيب الناس في ذلك (5) .
خامسا: التصريح بذكر بعض الألفاظ المستقذرة عند الحاجة: لا حرج على الداعية إلى الله عز وجل أن يذكر بعض الألفاظ التي يستحيى منها أو تستقذر إذا دعت الحاجة لذلك؛ وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: بول الفرس وروثه وأنه في موازين حسنات من وقفه في سبيل الله عز وجل. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " لا بأس بذكر الشيء المستقذر بلفظه عند الحاجة " (6) .
_________
(1) شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 8 / 2667، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 57، وعمدة القاري للعيني، 14 / 146.
(2) انظر: الحديث رقم 27، الدرس الثاني، ورقم 31، الدرس الثالث.
(3) انظر: الاستذكار لابن عبد البر 14 / 14، ومنار القاري، لحمزة محمد قاسم 4 / 99.
(4) انظر المنهل العذب الفرات من الأحاديث الأمهات من صحيح الإِمام البخاري، لعبد العال 3 / 214.
(5) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الخامس.
(6) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 57.(1/337)
[باب اسم الفرس والحمار]
[حديث فرس النبي صلى الله عليه وسلم]
46 - باب اسم الفرسِ وَالحمارِ 57 [ص:2855] حَدَّثَنَا عَلِي بْن عبد الله بْنِ جَعْفَر: حَدَّثَنَا مَعْن بن عِيسى: حَدَّثَنِي أبَي بْن عباسِ بْنِ سَهْل عَنْ أَبِيه، عَنْ جَدِّه (1) قَالَ: «كَانَ للنَّبِي صلى الله عليه وسلم في حَائِطِنَا فَرَس يقَال لَه اللحَيْف» .
قَالَ أَبو عبد الله: وَقَالَ بَعْضهمْ: اللخَيْف.
* شرح غريب الحديث: * " حائطنا " الحائط: " هو البستان من النخيل إذا كان عليه حائط وهو الجدار " (2) .
* " اللحَيْف " قال القاضي عياض رحمه الله: " اللحَيْف: بالحاء المهملة وضم اللام على التصغير كذا ضبطناه، وضبطناه أيضا بفتح اللام وكسر الحاء مكبرا، " اللَّحِيف " وقال بعضهم: بالخاء المعجمة والمعروف الأول " (3) وهو اسم فرس النبي صلى الله عليه وسلم، وسمِّي بذلك؛ لطول في ذنبه، فعيل بمعنى فاعل. كأنه يلحف الأرض بذنبه، أي يغطيها به، يقال: لحفت الرّجلَ باللِّحاف: طرحته عليه. قال ابن الأثير " ويروى بالجيم والخاء " (4) وقال في موضع آخر: " وأما من رواه بالخاء فلا وجه له " (5) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل.
2 - أهمية تعاون المدعو مع ولي أمر المسلمين.
_________
(1) سهل بن سعد رضي الله عنه، تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 25.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الواو، مادة: " حوط " 1 / 462.
(3) مشارق الأنوار على صحاح الآثار، حرف اللام مع الحاء، مادة: " لحف " 1 / 356.
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر، باب اللام مع الحاء، مادة: " لحف "، 4 / 238، وانظر: أعلام الحديث للخطابي، 2 / 1376.
(5) جامع الأصول، 5 / 52.(1/338)
والحديث عن هذين الدرسين والفائدتين الدعويتين على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل: دل هذا الحديث على عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل؛ ولهذا جعل الفرس في حائط الصحابي سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما؛ ولعناية النبي صلى الله عليه وسلم بإعداد الخيل فقد كان لها أسماء تعرف بها في زمنه صلى الله عليه وسلم (1) .
فينبغي العناية بالإِعداد للجهاد، وحث المسلمين على ذلك (2) .
ثانيا: أهمية تعاون المدعو مع ولي أمر المسلمين: لا شك أنه ينبغي التعاون مع ولاة أمر المسلمين، والدعاة وشد أزرهم ابتغاء وجه الله عز وجل، وقد دل هذا الحديث على حرص الصحابة رضي الله عنهم على التعاون مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذا التعاون ما فعله سهل بن سعد بن مالك الساعدي رضي الله عنهما من حفظ فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائطه تعاونا على الإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل. ومن حرص الصحابة رضي الله عنهم على التعاون في الإِعداد للجهاد ما فعله سعد بن مالك (3) أبو سهل بن سعد؛ فإنه أوصى برحل راحلته عند موته للنبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله (4) .
فينبغي للمدعوين أن يتعاونوا مع ولاة الأمر والعلماء والدعاة في كل ما يكون فيه خدمة وحماية ودفاع ونصرة للإِسلام والمسلمين، كما قال سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] (5) .
_________
(1) انظر: شرح صحيح البخاري للكرماني 12 / 138، وزاد المعاد لابن القيم، 1 / 133، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 58، وعمدة القاري للعيني 14 / 146.
(2) انظر: الحديث رقم 56، الدرس الأول.
(3) هو سعد بن مالك بن خالد الأنصاري الساعدي، تجهز؛ ليخرج إلى بدر فمرض فمات، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر، المطبوع بهامش الإصابة، 2 / 35، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 34.
(4) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة 2 / 34.
(5) سورة المائدة، الآية: 2.(1/339)
[حديث معاذ كنت رديف النبي على حمار]
58 [ص:2856] حَدَّثَنا إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيمَ أنه سَمِعَ يَحْيَى بْنَ آدَمَ: حَدَّثَنَا أبو الأَحْوَصِ، عَن أَبي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمونٍ، عَنْ معَاذٍ (1) رضي الله عنه قَالَ: «كَنْت رِدْفَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يقَال لَه: عفَيْر، فَقَالَ: " يَا معَاذ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ الله عَلَى عِبَادِه؟ وَمَا حَقّ العِبَادِ عَلَى الله؟ " قلْت: الله وَرَسوله أَعْلَم. قَالَ: " فَإِنَّ حَقَّ الله عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبدوه وَلَا يشْرِكوا بِه شَيْئا، وَحَقّ العِبَادِ عَلَى الله أَنْ لا يعَذِّبَ منْ لا يشْرِك بِه شَيْئا "، فَقلْت: يَا رَسولَ الله أَفَلا أبَشِّر بِه النَّاسَ؟ قَالَ: " لا تبَشِّرْهمْ فَيَتَّكِلوا» (2) .
_________
(1) معاذ بن جبل بن عمرو بن عائذ الأنصاري الخزرجي، الفقيه، الفاضل، أسلم وعمره ثمان عشرة سنة، وشهد العقبة الثانية مع السبعين من الأنصار، ثم شهد بدرا، وأحدا، والخندق، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفظ القرآن الكريم كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه: " جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد أحد عمومتي " [البخاري برقم 5003، ومسلم برقم 2465] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وأبي، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة " [البخاري برقم 4999 ومسلم، برقم 2464] وفي الحديث: " أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأصدقها حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ، وأفرضهم زيد، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة " أحمد 3 / 184، 281، والترمذي برقم 3790، وابن ماجه برقم 154، وصححه الألباني في صحيح الترمذي 3 / 227 وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو أدركت معاذا ثم وليته، ثم لقيت ربي فقال من استخلفت على أمة محمد؟ لقلت: سمعت نبيك وعبدك يقول: " يأتي معاذ بن جبل بين يدي العلماء برتوة " ابن سعد 3 / 443، 3 / 272، وأبو نعيم في الحلية 1 / 228، وانظر: مجمع الزوائد للهيثمي 9 / 311 وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 1091، ومعنى الرتوة: برمية سهم، وقيل: برمية حجر، وقيل: بميل، وقيل مد البصر. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2 / 195، روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة وسبعة وخمسون حديثا، اتفق البخاري ومسلم على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيا، ومعلما، وداعيا إلى الله عز وجل. وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا معاذ والله إني لأحبك، والله إني لأحبك " فقال: " أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك " [أبو داود برقم 1522، والنسائي برقم 1303، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي 3 / 373] وذكر النووي رحمه الله أن معاذ بن جبل كان أحد الذين يفتون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم: ثلاثة من المهاجرين: عمر، وعثمان، وعلي، وثلاثة من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم. توفي رضي الله عنه بطاعون عمواس بالشام شهيدا، سنة ثمان عشرة، وقيل سبع عشرة، قال النووي رحمه الله: " والصحيح الأول " وهو ابن ثلاث وثلاثين، وقيل: أربع وثلاثين، وقيل ثمان وثلاثين. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 98، وسير أعلام النبلاء للذهبي 1 / 443، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 3 / 426.
(2) [الحديث 2856] أطرافه في: كتاب اللباس، باب إرداف الرجل خلف الرجل، 7 / 89، برقم 5967. وكتاب الاستئذان، باب من أجاب بلبيك وسعديك، 7 / 176، برقم 6267. وكتاب الرقاق، باب من جاهد نفسه في طاعة الله، 7 / 243، برقم 6500. وكتاب والتوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى، 8 / 207، برقم 7373. وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، 1 / 58، برقم 30.(1/340)
وفي رواية: «بَيْنَا أَنَا رَدِيف النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَه إِلَّا آخِرَة الرَّحْلِ، فَقَالَ: " يَا معَاذ " قلْت: لَبَّيْكَ يَا رَسولَ الله وَسَعْدَيْكَ. ثمَّ سَارَ سَاعَة، ثمَّ قَالَ: " يَا معَاذ "، قلت: لَبَّيْكَ رَسولَ الله وَسَعْدَيْكَ. ثمَّ سَارَ سَاعَة، ثمَّ قَالَ: " يَا معَاذ بْنَ جَبَلٍ "، قلْت: لَبَّيْكَ رَسولَ الله وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: " هَلْ تَدْرِي مَا حَقّ الله عَلَى عِبَادِه؟ " قلْت: الله وَرَسوله أَعْلَم. قَالَ: " حَقّ الله عَلَى عبَادِه أَنْ يَعْبدوه وَلَا يشْرِكوا به شَيْئا "، ثمَّ سَارَ سَاعَة، ثمَّ قَالَ: " يَا معَاذ بْنَ جَبَلٍ! "، قلْت: لَبَّيْكَ رَسولَ اللَّه وَسَعْديْكَ. قَالَ: " هَلْ تَدْرِي مَا حَقّ العِبَادِ عَلَى الله إِذَا فَعَلوه؟ " قلْت: الله وَرَسوله أَعْلَم. قَالَ: " حَقّ الْعِبَادِ عَلَى الله أَنْ لَا يعَذِّبَهمْ» (1) .
* شرح غريب الحديث: * " رديف " يقال: ردفت الرجل أردفه: إذا ركبت خلفه، وأردفته: إذا أركبته خلفي (2) .
* " عفير " وهو تصغير ترخيم لأعفر، من العفرة: وهي الغبرة ولون التراب (3) .
* " آخرة الرحل " هي الخشبة التي يستند إليها الراكب من كور البعير (4) .
* " لبَّيْك " هو من التلبية، وهي إجابة المنادي. ويقال: لبى بالحج إذا قال: لبيك اللهم لبيك: أي إجابتي لك يا ربِّ، وهو مأخوذ من لبَّ بالمكان وألبَّ به إذ أقام به ولم يفارقه، ولفظ التثنية في معنى التكرير: أي إجابة بعد إجابة. أو: أنا مقيم على طاعتك، وقيل: " لبيك اللهم لبيك " أي اتجاهي وتوجهي إليك يا ربِّ وقصدي، وثنِّي للتوكيد، من قولهم: داري تلِبّ دارك:
_________
(1) من الطرف رقم 6500.
(2) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 261.
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب العين مع الفاء، مادة " عفر " 3 / 263، وانظر: أعلام الحديث للخطابي 2 / 1377.
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الهمزة مع الخاء، مادة: " آخر " 1 / 29.(1/341)
أي تواجهها. وقيل: محبتي لك يا ربِّ، من قول العرب: امرأة لبَّة: أي محبة لولدها عاطفة عليه. وقيل: إخلاصي لك يا ربّ، من قولهم: حَسَب لبَاب: إذا كان خالصا محضا (1) .
* " وسَعْدَيْكَ " أي: سَاعَدَتْ طَاعَتك مسَاعدة بَعْدَ مسَاعَدَة، وإسعادا بعد إسعاد (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: التواضع.
2 - من ميادين الدعوة: مراكب المواصلات.
3 - من أساليب الدعوة: استفسار الداعية المدعو؛ ليختبر ما عنده.
4 - من أساليب الدعوة: النداء والإِجابة لتأكيد الاهتمام.
5 - أهمية تعليم العامة قبل أن يسألوا.
6 - أهمية سؤال الداعية عما أشكل عليه.
7 - أهمية مراعاة أحوال المدعوين.
8 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار.
9 - من سنة إلقاء العلم: الوقار والتثبت.
10 - من أدب المدعو: الاقتراب من مجالس العلم.
11 - من أدب الداعية: رد علم ما لا يعلمه إلى الله عز وجل.
12 - من أهم موضوعات الدعوة: الحض على الطاعات واجتناب المعاصي.
13 - أهم موضوعات الدعوة: الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك.
14 - من صفات الداعية: حب الخير للناس وتبشيرهم به؛ لإِدخال السرور عليهم.
15 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الاتكال.
_________
(1) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي ص 154، 188، 215، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب اللام مع الباء، مادة " لبب " 4 / 222.
(2) انظر: غريب ما في الصحيحين، للحميدي ص 188، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع العين مادة: " سعد " 2 / 366.(1/342)
16 - من أساليب الدعوة: الترغيب والترهيب.
17 - من صفات النبي صلى الله عليه وسلم: الفصاحة والبلاغة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: التواضع: دل الحديث على خلق التواضع وأنه من صفات النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا ركب على الحمار وأردف معاذ بن جبل خلفه، قال الإِمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: " فيه دليل على تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه إذ أنه في الفضل حيث هو وكان يركب هو وغيره على دابة واحدة " (1) ومن عظم تواضعه ما ذكره ابن حجر رحمه الله: أن ابن منده رحمه الله أفرد أسماء من أردفه النبي صلى الله عليه وسلم فبلغوا ثلاثين نفسا (2) . فينبغي للداعية أن يتصف بهذه الصفة الحميدة (3) .
ثانيا: من ميادين الدعوة: مراكب المواصلات: لا شك أن مراكب المواصلات: من ميادين الدعوة، التي تستغل لنشر الدعوة أثناء السير فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعلِّم أثناء سيره وهو راكب على الحمار كما فعل مع معاذ رضي الله عنه في هذا الحديث، وكما فعل مع ابن عباس رضي الله عنهما حينما كان رديفه على حمار فقال: «يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» (4) .
_________
(1) بهجة النفوس، 3 / 119، وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 1 / 203، وفتح الباري لابن حجر، 11 / 340، 1 / 227.
(2) انظر: فتح الباري، 10 / 398.
(3) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثالث.
(4) أخرجه الترمذي، في كتاب صفة القيامة، باب: حدثنا بشر بن هلال، 4 / 667، برقم 2516، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع 6 / 300، وصحيح سنن الترمذي، 2 / 309.(1/343)
وهذا يبين للداعية أهمية انتهاز الفرص أثناء ركوبه على وسائل المواصلات؛ قال الإِمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله في فوائد حديث معاذ رضي الله عنه: " فيه في دليل على جواز الحث في العمل في الطريق على الدواب، هذا بشرط أن يكون الطريق ليس فيه اللغط الكثير؛ لأنه قلَّ أن يأتي التعلم مع كثرة اللغط " (1) .
فينبغي للداعية أن ينتهز الفرص أثناء ركوبه على وسائل المواصلات: كالسيارات، والطائرات، والقطارات، والسفن البحرية وغيرها، فينشر الدعوة، ويعلم الخير، إلا إذا منع من ذلك مانع، أو عارض ذلك مصلحة شرعية، أو خشي الداعية حصول مفسدة، أو تعطل مصلحة أعظم. . . والداعية الحكيم هو الذي يضع دعوته في موضعها المناسب. والله المستعان.
ثالثا: من أساليب الدعوة: استفسار الداعية المدعو ليختبر ما عنده: دل هذا الحديث على أن من أساليب الدعوة طرح الداعية الأسئلة على المدعوين؛ ليختبر ما عندهم من العلم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «يا معاذ هل تدري حق الله على عباده؟ وما حق العباد على الله؟» .
وقد بيَّن الحافظ ابن حجر رحمه الله: أن في هذا الحديث من الفوائد " استفسار الشيخ تلميذه؛ ليختبر ما عنده، ويبيِّن له ما يشكل عليه منه " (2) ومما يؤكد أهمية هذا الأسلوب أن البخاري رحمه الله قال في أول كتاب العلم: " باب طرح الإِمام المسألة على أصحابه؛ ليختبر ما عندهم من العلم " ثم ساق تحته حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مَثَل المسلم، حدثوني ما هي؟ " قال فوقع الناس في شجر البوادي. قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة. ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: " هي النخلة» (3) وهذا يبيِّن للداعية أهمية هذا الأسلوب في الدعوة إلى الله عز وجل.
_________
(1) بهجة النفوس، 3 / 121.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 11 / 340، وانظر: بهجة النفوس، لعبد الله بن أبي جمرة 3 / 119 و 4 / 143.
(3) متفق عليه: البخاري، كتاب العلم، باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم، 1 / 26 برقم 62، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب مثل المؤمن مثل النخلة، 4 / 2164، برقم 2811.(1/344)
رابعا: من أساليب الدعوة: النداء والإجابة لتأكيد الاهتمام: دل قوله صلى الله عليه وسلم: " يا معاذ " على أنَّ نداء الشخص باسمه قبل إلقاء العلم إليه من أدب العلم ومن أساليب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا بيَّن الإِمام عبد الله بن أبي جمرة أن في هذا الحديث من الفوائد في جذب قلب المدعو: " إحضار ذهنه إليك؛ ليعي ما تلقيه إليه؛ لأن الأذهان قد يطرقها فكرة فتكون بها مشغولة فلا تعي كل ما يلقى إليها " (1) .
فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب عند الحاجة إليه.
خامسا: أهمية تعليم العامة قبل أن يسألوا: إن تعليم عامة الناس من أهم المهمات، وليس من شرطه أن يبقى الداعية ينتظر أسئلتهم، بل عليه أن يجتهد في تعليمهم العلم، وقد دل قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: «حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» أن الداعية يعلم الناس العلم ولو لم يسألوا عنه؛ قال الإِمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: " وفي تعليمه صلى الله عليه وسلم معاذا من غير سؤال منه له صلى الله عليه وسلم دليل لمن يقول إن للعالم أن يعلم دون أن يسأل " (2) .
سادسا: أهمية سؤال الداعية عما أشكل عليه: إن السؤال عما أشكل من الأمور المهمة؛ ولهذا قال معاذ رضي الله عنه: «فقلت يا رسول الله أفلا أبشر به الناس؟ قال: " لا تبشرهم فيتكلوا» ؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه جواز استفسار الطالب عما يتردد فيه، واستئذانه في إشاعة ما يعلم به وحده " (3) وقد أمر الله عز وجل بسؤال العلماء، وحذر العلماء من كتمان العلم فقال عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] (4) وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] (5) .
_________
(1) بهجة النفوس 4 / 143، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 11 / 339.
(2) بهجة النفوس، 2 / 143، و 3 / 121.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 1 / 227.
(4) سورة النحل، الآية: 43، وسورة الأنبياء، الآية: 7.
(5) سورة البقرة، الآية: 159.(1/345)
فينبغي للمدعو أن يسأل، وللداعية أن يجيب، ويسأل من هو أعلم منه (1) .
سابعا: أهمية مراعاة أحوال المدعوين: دل الحديث على أهمية مراعاة أحوال المدعوين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علَّم معاذا أن: «حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا» وعندما قال له معاذ رضي الله عنه: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تبشرهم فيتكلوا» وهذا يبين أن الداعية يراعي أحوال المدعوين فيقدم لكل إنسان ما يناسبه؛ ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " (2) وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكَذَّبَ الله ورسوله؟ " (3) وذكر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم» (4) .
وقد ذكر ابن حجر رحمه الله على قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبشرهم فيتكلوا» أن العلماء قالوا: " يؤخذ من منع معاذ من تبشير الناس؛ لئلا يتكلوا: أن أحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس؛ لئلا يقصر فهمهم عن المراد بها وقد سمعها معاذ ولم يزدد إلا اجتهادا في العمل وخشية لله عز وجل، فأما من لم يبلغ منزلته فلا يؤمن أن يقصر اتكالا على ظاهر الخبر " (5) .
ومما بين مراعاة أحوال المدعوين أن البخاري رحمه الله بوَّب في صحيحه بابا قال فيه: " باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا " ثم ذكر
_________
(1) انظر: الحديث رقم، 3، الدرس الثاني، والحديث رقم 30، الدرس الرابع.
(2) أخرجه مسلم، في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، 1 / 11.
(3) البخاري، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا، 1 / 46.
(4) مسلم، في المقدمة: 1 / 6.
(5) فتح الباري، 11 / 340، ونسبه إلى الحافظ ابن رجب في شرحه لأوائل صحيح البخاري، وقد طبع شرح ابن رجب بعنوان " فتح الباري شرح صحيح البخاري " ولكن ما نقله ابن حجر رحمه الله من القسم المفقود من كتاب العلم.(1/346)
تحته حديث أنس بن مالك الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال: «يا معاذ بن جبل "، قال: لبيك يا رسول الله وسَعْدَيْك. قال: " يا معاذ " قال: لبيك يا رسول الله وسعديك " ثلاثا " قال: " ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار " قال: يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: " إذا يتكلوا» وأخبر بها معاذ عند موته تأثما (1) .
وهذا يبين للداعية أهمية مراعاة أحوال المدعوين في دعوته إلى الله عز وجل (2) .
ثامنا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار: وقد ظهر هذا الأسلوب في هذا الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم: " يا معاذ " وكرر نداء معاذ " ثلاث مرات " وهذا التكرار، لتأكيد الاهتمام بما يخبره به؛ وليكمل تنبيه معاذ فيما يسمعه (3) قال الإِمام القرطبي رحمه الله: " وإنما كرر النبي صلى الله عليه وسلم نداء معاذ ثلاثا؛ ليستحضر ذهنه وفهمه؛ وليشعره بعظم ما يلقيه عليه " (4) وهذا يحث الداعية ويبين له أهمية استخدام هذا الأسلوب في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى (5) .
تاسعا: من سنة إلقاء العلم: الوقار والتثبت: إن الداعية الناجح هو الذي يلتزم التثبت والوقار في تعليمه للناس الخير وإلقاء العلم إليهم، ويؤخذ هذا من إبطائه صلى الله عليه وسلم في الجواب؛ ولهذا قال: «يا معاذ " فقال معاذ رضي الله عنه: قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. ثم سار ساعة فقال: " يا معاذ " فقال رضي الله عنه: لبيك رسول الله وسعديك. ثم سار ساعة ثم قال: " يا معاذ بن جبل " فقال معاذ: " لبيك رسول الله وسعديك» قال الإِمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: " ويؤخذ من إبطائه صلى الله عليه وسلم بين الندائين أن من سنة إلقاء العلوم
_________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا، 1 / 46، برقم 127، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، 1 / 57 برقم 29.
(2) انظر: الحديث رقم 19، الدرس الثالث.
(3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 1 / 345، وشرح الكرماني على صحيح البخاري: 23 / 21 وفتح الباري لابن حجر، 11 / 399.
(4) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 1 / 203، وانظر: بهجة النفوس لعبد الله بن أبي جمرة 4 / 143.
(5) انظر: الحديث رقم 4، الدرس الخامس، ورقم 46، الدرس الخامس عشر.(1/347)
الوقار، والتؤدة " (1) ومن كمال الحكمة والوقار والتؤدة أنه صلى الله عليه وسلم ناداه بقوله: " يا معاذ " مرتين ثم زاد في الثالثة " يا معاذ بن جبل " قال ابن أبي جمرة رحمه الله عن هذه الزيادة " إنما هي إشارة إلى أن هذه الثالثة آخر النداء فاسمع ما يلقى إليك؛ لأن زيادة (بن جبل) هو الكمال في التعريف، فإذا كمل الشيء فقد تم " (2) .
عاشرا: من أدب المدعو: الاقتراب من مجالس العلم: دل هذا الحديث على التأكيد والتنبيه على الاقتراب من حلقات العلم ومجالسه، وأن ذلك مما يعين السامع على الضبط؛ ولهذا قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: " ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل " قال الإِمام النووي رحمه الله: " أراد المبالغة في شدة قربه؛ ليكون أوقع في نفس سامعه؛ لكونه أضبط " (3) .
ومما يؤكد أهمية الاقتراب من مجالس العلم ما رواه البخاري رحمه الله عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فأقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب واحد، فأما أحدهما فرأى فرجة فجلس، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الآخر فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أخبركم عن الثلاثة: أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه» (4) .
وهذا يبين أهمية الاقتراب من مجالس العلم وسد الفرج فيها.
الحادي عشر: من أدب الداعية: رد علم ما لا يعلمه إلى الله عز وجل: لا شك أنه ينبغي بل يلزم كل مسلم - وخاصة الداعية إلى الله سبحانه وتعالى - إذا سئل عن شيء لا يعلمه أن يقول: الله أعلم، أو لا أدري، أو سأراجع المسألة إن شاء الله، وقد دل هذا الحديث على هذا الأدب الكريم في قول معاذ بن جبل
_________
(1) بهجة النفوس، 4 / 143.
(2) المرجع السابق 4 / 143.
(3) شرح صحيح مسلم 1 / 344.
(4) متفق عليه: البخاري، كتاب العلم، باب من قعد حيث ينتهي به المجلس ومن رأى فرجة فجلس فيها، 1 / 28، برقم 66، وكتاب الصلاة، باب الحلق والجلوس في المسجد، 1 / 138، برقم 472، ومسلم، في كتاب السلام، باب من أتى مجلسا فوجد فرجة فجلس فيها، وإلا وراءهم، 4 / 1713، برقم 2176.(1/348)
رضي الله عنه: " الله ورسوله أعلم ".
ومما يبين أهمية هذا الأدب ما قاله الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " يا أيها الناس من عَلِمَ شيئا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم؛ فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم " (1) قال الله عز وجل: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] (2) .
وسئل سعيد بن جبير عن شيء فقال: " لا أعلم " ثم قال: " ويل للذي يقول لما لا يعلم: إني أعلم " (3) وقال مالك: " ينبغي للعالم أن يألف فيما أشكل عليه قول: لا أدري؛ فإنه عسى أن يهيأ له خير " (4) وقال ابن وهب: " لو كتبنا عن مالك: لا أدري، لملأنا الألواح " (5) .
وعن عقبة بن مسلم أنه قال: صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهرا، فكثيرا ما كان يسأل فيقول: " لا أدري " ثم يلتفت إلي فيقول: " تدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسرا إلى جهنم " (6) .
وقال أبو داود: " قول الرجل فيما لا يعلم: لا أعلم نصف العلم " (7) .
وهذا كله يؤكد للداعية أهمية قوله: الله أعلم، أو لا أدري لما لا يعلمه وأن ذلك من الآداب الجميلة التي تدل على خشية الله عز وجل (8) .
الثاني عشر: من أهم موضوعات الدعوة: الحض كل الطاعات، واجتناب المعاصي: دل الحديث على أن القيام بالواجبات والابتعاد عن المحرمات من أعظم
_________
(1) البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة ص، باب وَمَا أَنَا مِنَ الْمتَكَلِّفِينَ 6 / 37 برقم 4809 وتفسير سورة الدخان، باب رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مؤْمِنونَ، 6 / 46 برقم 4822 وتقدم تخريجه بلفظه الآخر في تفسير سورة الروم، 6 / 22 برقم 4774 انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن عشر.
(2) سورة ص، الآية: 86.
(3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2 / 836، برقم 1568.
(4) المرجع السابق 2 / 839، برقم 1574.
(5) أخرجه ابن عبد البر، في كتاب جامع بيان العلم وفضله، 2 / 839، برقم 1576.
(6) المرجع السابق، 2 / 841، برقم 1585.
(7) المرجع السابق، 2 / 841، برقم 1586.
(8) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن عشر.(1/349)
الفرائض التي فرضها الله على عباده؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: «حق الله على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا» قال الكرماني رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: «أن يعبدوه» أشار إلى العمليات، وقوله: «ولا يشركوا به شيئا» أشار إلى الاعتقاديات (1) .
فقوله: " أشار إلى العمليات " والمراد عمل الطاعات واجتناب المحرمات؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله، على قوله صلى الله عليه وسلم: «أن يعبدوه» : " المراد بالعبادة عمل الطاعات واجتناب المعاصي، وعطف عليها عدم الشرك؛ لأنه تمام التوحيد، والحكمة في عطفه على العبادة: أن بعض الكفرة كانوا يدَّعون أنهم يعبدون الله، ولكنهم كانوا يعبدون آلهة أخرى، فاشترط نفي ذلك " (2) .
وأفضل ما عرِّفت به العبادة: قول شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: " العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه: من الأقوال والأعمال: الباطنة والظاهرة " (3) والعبادة أصل معناها الذل، يقال: طريق معبّد إذا كان مذللا قد وطئته الأقدام، لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل بغاية المحبة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ودينه (4) .
وقد عرف العلامة ابن القيم رحمه الله: العبادة بتعريف جامع قال فيه:
وعبادة الرحمن غاية حبِّه ... مع ذلِّ عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ... ما دار حتى قامت القطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان (5)
/ 50 فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يدعو الناس إلى عبادة الله وحده، ويحثهم على الإِيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره من الله عز وجل، والعمل بمقتضى الشهادتين: من إقام الصلاة، وإيتاء
_________
(1) شرح صحيح البخاري، للكرماني 22 / 102.
(2) فتح الباري، بشرح صحيح البخاري 11 / 339، وانظر: بهجة النفوس لابن أبي جمرة 3 / 121.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية 10 / 149.
(4) انظر: المرجع السابق 10 / 153.
(5) الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية ص 32.(1/350)
الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا، وأن يعبد العبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهد، وإنجاز الوعد، والإِحسان إلى الجار، واليتيم، والمسكين، والمملوك من الآدميين والبهائم، وإكرام الضيف، وتنفيس الكرب عن المكروب من المسلمين، والتيسير على المعسر، وستر المسلم، وإعانته، والإِخلاص لله، والتوكل عليه، والمحبة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وخشية الله، ورجاء رحمته، والتوبة والإِنابة إليه، والصبر على حكمه، والشكر لنعمه، وقراءة القرآن، وذكر الله، والدعاء، ومسألته والرغبة إليه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله للكفار والمنافقين، وأن يصل المسلم من قطعه، ويعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه، والعدل في جميع الأمور، وعلى جميع الخلق حتى الكفار، وإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام، وحسن الخلق، والدعوة إلى الله، والنصيحة لله، ولرسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، وغير ذلك من أنواع العبادات (1) .
ومن العبادات: أن يبتعد الإِنسان عن جميع المعاصي والسيئات، فينبغي للداعية أن يحذر الناس عن الشرك، والتكذيب بالرسل، والكفر، والحسد، والكذب، والفجور، والخيانة، والظلم، والفواحش ما ظهر منها وما بطن، والغدر، وقطيعة الرحم، والجبن عن الجهاد، والبخل، والشح، واختلاف السر والعلانية، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والجزع عند المصائب، والفخر والبطر عند النعم، وترك فرائض الله، واعتداء حدوده، وانتهاك حرماته، وخوف المخلوق دون الخالق، ورجاء المخلوق دون الخالق، والتوكل على المخلوق دون الخالق، والعمل رياء وسمعة، ومخالفة الكتاب والسنة، وطاعة المخلوق في معصية الخالق، والتعصب بالباطل، والاستهزاء بآيات الله، وجحد الحق، والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة،
_________
(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية 10 / 149 - 237، ويقال لهذا القسم من الفتاوى: رسالة العبودية. وانظر: 10 / 422 - 423.(1/351)
والسحر، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وإعطاء الرشوة وأخذها، وأكل أموال الناس بالباطل، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، وشرب الخمر، والكبر والخيلاء، والسرقة، واليمين الغموس، وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، والمنّ بالعطية، وإنفاق السلعة بالحلف الكاذب، وتصديق الكاهن والمنجم، والتصوير لذوات الأرواح، واتخاذ القبور مساجد، والنياحة على الميت، وإسبال الإِزار، ولبس الحرير أو الذهب للرجال، وأذى الجار، وإخلاف الوعد، ونقض العهد، وغير ذلك من المحرمات (1) ولا يمكن تفصيل ذلك واستغراقه، لكن يجمع جميع أنواع العبادة قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7] (2) .
فيلزم الداعية أن يحث المدعوين على جميع الطاعات تفصيلا وتوضيحا وبيانا، ويحذرهم عن جميع المعاصي تفصيلا وتبيينا دقيقا، مع الالتزام بالأدلة من الكتاب والسنة، ومع التنويع، وإعطاء كل قوم ما يناسبهم من الأمر والنهي. وهذا هو حق الله على عباده. قال الإِمام القرطبي رحمه الله: " وحق الله على عباده: ما أوجبه عليهم بحكمه وألزمهم إياه بخطابه " (3) .
الثالث عشر: أهم موضوعات الدعوة: الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك: دل الحديث على أن أهم موضوعات الدعوة: الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك بالله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث: «حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» وقد بين الإِمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: أن حق الله على عباده هو الجمع بين امتثال الحكمة في الأمر والنهي، وحقيقة التوحيد (4) وبين الحافظ ابن حجر أن المراد بالعبادة في الحديث عمل الطاعات
_________
(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية 10 / 422 - 423، والجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص 80 - 262.
(2) سورة الحشر، الآية: 7.
(3) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 1 / 203.
(4) انظر: بهجة النفوس 3 / 121.(1/352)
واجتناب المعاصي وعطف عليها عدم الشرك؛ لأنه تمام التوحيد (1) .
فيلزم الداعية إلى الله عز وجل أن يبين للناس توحيد الله سبحانه وتعالى كما جاء في الكتاب والسنة، ويوضح لهم أن التوحيد نوعان:
النوع الأول: التوحيد الخبري العلمي الاعتقادي، وهو توحيد في المعرفة والإِثبات، وهذا هو توحيد الربوبية، والأسماء والصفات، وهو إثبات حقيقة ذات الرب سبحانه وتعالى وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتكلمه بكتبه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره، وحكمته، وتنزيهه عما لا يليق به عز وجل من غير: تمثيلٍ، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تحريف، ولا تفويض للمعاني.
النوع الثاني: التوحيد الطلبي القصدي الإِرادي: وهو توحيد في الطلب والقصد: وهو توحيد الإِلهية والعبادة (2) .
والقرآن كله من أوله إلى آخره في إثبات وتقرير هذين النوعين؛ لأنه إما خبر عن الله تعالى، وأسمائه وصفاته وأفعاله، وأقواله، وما يجب أن يوصف به، وما يجب أن ينزه عنه. فهو التوحيد العلمي الخبري.
وإما دعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وخلْع كل ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإِرادي الطلبي.
وإما أمر ونهي، وإلزام بطاعته في أمره ونهيه، فهي حقوق التوحيد ومكملاته.
وإما خبر عن إكرام الله لأهل توحيده وطاعته، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده.
وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم
_________
(1) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 11 / 339.
(2) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم 3 / 449، وفتح المجيد لشرح كتاب التوحيد، لعبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب 1 / 79، ومعارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد، لحافظ بن أحمد الحكمي 1 / 98.(1/353)
في الآخرة من العذاب. فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد.
فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقه، وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم (1) .
وهذا كله يؤكد على الداعية إلى الله عز وجل أن يبين للناس التوحيد وأنواعه، ويحذرهم عن كل ما يضاده من الشرك وأنواعه؛ فإن ذلك من أعظم الواجبات على كل داعية إلى الله سبحانه وتعالى.
الرابع عشر: من صفات الداعية: حب الخير للناس وتبشيرهم به؛ وإدخال السرور عليهم: دل الحديث على أهمية حب المسلم - وخاصة الداعية - الخير للناس وفرحه بذلك؛ لأن معاذ بن جبل رضي الله عنه فرح فرحا شديدا بقوله صلى الله عليه وسلم: «وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا» فقال معاذ: " يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ "؛ ولهذا بين الإِمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن في هذا الحديث من الفوائد: استحباب بشارة المسلم بما يسره (2) .
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن حب الخير للمسلم من كمال الإيمان فقال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (3) .
فينبغي للداعية أن يحب الخير للناس ويدخل السرور عليهم بتبشيرهم بما يسرهم؛ فإن ذلك يؤثر في نفوسهم ويكون وسيلة إلى قبول دعوته (4) .
الخامس عشر: من موضوعات الدعوة: التحذير من الاتكال: دل هذا الحديث على أن التحذير من الاتكال من موضوعات الدعوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «لا تبشرهم فيتكلوا» وهذا فيه إنذار من
_________
(1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم 3 / 450.
(2) كتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب مع شرحه فتح المجيد 1 / 110، ونسخة دار المنار ص 46 بعناية صادق بن سليم.
(3) متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه: البخاري، كتاب الإيمان، باب عن الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه 1 / 11 برقم 13، ومسلم، كتاب الإِيمان، باب الدليل على أنَ من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، 1 / 67، برقم 45.
(4) انظر: الحديث رقم 9، الدرس التاسع.(1/354)
الاتكال وترك العبادة (1) وقد ذكر الإِمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله على قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبشرهم فيتكلوا» أنه صلى الله عليه وسلم إنما نهاه عن الإِخبار بهذا الفضل العظيم؛ لأن التوكل على نوعين: شرعي، ولغوي، ويعبَّر عنه بالطمع.
فالتوكل الشرعي: هو التوكل على الله والاعتماد عليه وتفويض الأمر إليه مع بذل الجهد في امتثال الأوامر واجتناب النواهي والعمل بالأسباب (2) .
أما التوكل اللغوي: فهو الاتكال بدون عمل (3) ؛ ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل عن تبشير الصحابة رضي الله عنهم؛ لئلا يعتمدوا على ذلك فيتركوا التنافس في الأعمال الصالحة (4) .
فينبغي للداعية أن يحذر الناس من الاتكال والكسل، ويحثهم على العمل والنشاط؛ ولهذا قال سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105] (5) .
السادس عشر: من أساليب الدعوة: الترغيب والترهيب: دل على هذين الأسلوبين قوله صلى الله عليه وسلم: «وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا» .
قال الإِمام القرطبي رحمه الله تعالى: " حق الله على عباده ما أوجبه عليهم بحكمه وألزمهم إياه بخطابه، وحق العباد على الله: هو ما وعدهم به من الثواب والجزاء، فحقَّ ذلك ووجب بحكم وعده الصدق وقوله الحق، الذي لا يجوز عليه الكذب في الخبر، ولا الخلف في الوعد، فالله تعالى لا يجب عليه شيء بحكم الأمر، إذ لا آمر فوقه، ولا بحكم العقل إذ العقل كاشف لا موجب " (6) .
_________
(1) انظر: شرح رياض الصالحين، للعلامة محمد بن صالح العثيمين 5 / 378.
(2) انظر: الحديث رقم 30، الدرس الخامس.
(3) انظر: بهجة النفوس 3 / 123.
(4) انظر: بهجة النفوس، لابن أبي جمرة، 3 / 122، وفتح الباري لابن حجر، 1 / 227، وفتح المجيد، لشرح كتاب التوحيد، لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، 1 / 110.
(5) سورة التوبة، الآية: 105.
(6) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 1 / 203، وانظر: شرح الطيبي لمشكاة المصابيح 2 / 473.(1/355)
فظهر بذلك معنى " حق العباد على الله " أنه متحقق لا محالة (1) فهو حق جعله سبحانه على نفسه تفضلا وكرما؛ لأنه عز وجل قد وعدهم ذلك جزاء لهم على توحيده {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم: 6] (2) فهو سبحانه وتعالى الذي أوجب على نفسه حقا لعباده المؤمنين كما حرم الظلم على نفسه، لم يوجب ذلك مخلوق عليه، ولا يقاس بمخلوقاته، بل هو بحكم رحمته، وحكمته، وعدله، كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم (3) قال عز وجل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] (4) وقال سبحانه وتعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] (5) وهذا استحقاق تفضل وإحسان وإنعام وامتنان من الله عز وجل على عباده (6) .
وقد ظهر أسلوب الترغيب في هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: " أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا "؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة» (7) وهذا فيه ترغيب لمن مات لا يشرك بالله شيئا؛ فإن الله عز وجل يدخله الجنة.
أما أسلوب الترهيب فقد ظهر من مفهوم الحديث؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: «حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا» فمنطوق الحديث أنه سبحانه وتعالى لا يعذب من لا يشرك به شيئا، ومفهومه أنه يعذب من مات وهو يشرك بالله شيئا. وقد فسَّرت الأحاديث الأخرى هذا الحديث، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات يشرك بالله شيئا دخل النار» قال عبد الله رضي الله عنه: " وقلت أنا: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " (8) وقد جاء ذلك صريحا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 1 / 345.
(2) سورة الروم، الآية: 6.
(3) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية، 1 / 213.
(4) سورة الروم، الآية: 47.
(5) سورة الأنعام، الآية: 54.
(6) انظر: بهجة النفوس، لابن أبي جمرة، 3 / 120، ومجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية 1 / 213.
(7) أخرجه مسلم، في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، 1 / 55.
(8) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله، 2 / 87، برقم 1238، ومسلم، كتاب الإيمان باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات مشركا دخل النار، 1 / 94، برقم 92.(1/356)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار» (1) قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] (2) . فينبغي للداعية أن يرغب الناس في التوحيد وثوابه، ويخوفهم من الشرك وعقابه. والله المستعان.
السابع عشر: من صفات النبي صلى الله عليه وسلم: الفصاحة والبلاغة: دل هذا الحديث على فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم وبلاغته؛ لأنه جمع المعاني الكثيرة في الكلمات القليلة، فقوله صلى الله عليه وسلم: «حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» «وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا» كلمات قصيرات، شملت المعاني الكثيرة، مع كمال الوضوح والبيان (3) .
فينبغي للداعي أن يجتهد في الإيجاز في الألفاظ التي تتسع معانيها على حسب القدرة والاستطاعة (4) .
_________
(1) مسلم، في كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات مشركا دخل النار، 1 / 94؛ برقم 93.
(2) سورة المائدة، الآية: 72.
(3) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب، 1 / 53، وشرح النووي على صحيح مسلم: 5 / 7، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 128، 13 / 247.
(4) انظر: الحديث رقم 106، الدرس الثاني.(1/357)
[باب ما يذكر من شؤم الفرس]
[حديث إِنْ كَانَ الشؤم في شيء ففي المرأة والفرس والمسكن]
47 - باب ما يذْكَر من شؤْم الفرسِ 59 [ص:2859] حَدَّثَنَا عبد الله بْن مَسْلَمَة، عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِي (1) رضي الله عنه أَن رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنْ كَانَ فِي شيءٍ فَفِي: المَرْأَة، والْفَرَسِ، وَالْمَسْكَنِ» (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أهمية اختيار الداعية الوسائل المعينة على الدعوة.
2 - من صفات الداعية: التوكل.
والحديث عن هذين الدرسين والفائدتين الدعويتين على النحو الآتي:
أولا: أهمية اختيار الداعية الوسائل المعينة على الدعوة: من الأمور المهمة أن يعتني الداعية بالوسائل التي تعينه على الدعوة وتزيد في نشاطه وقوته في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ومن هذه الوسائل: اختيار المركب الصالح، والمرأة الصالحة، والمسكن المناسب، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن كان في شيء ففي المرأة، والفرس، والمسكن» أي إن كان الشؤم في شيء ففي هذه الثلاثة كما فسره حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس، والمرأة، والدار» (3) وفي لفظ لمسلم: «لا عدوى ولا طيرة، وإنما الشؤم في ثلاثة: المرأة، والفرس، والدار» (4) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 25.
(2) [الحديث 2859] طرفه في كتاب النكاح، باب ما يتقى من شؤم المرأة، 6 / 151، برقم 5095.
وأخرجه مسلم في كتاب السلام، باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم 4 / 1748، برقم 2226.
(3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما يذكر من شؤم الفرس، 4 / 285، برقم 2858، ومسلم، في كتاب السلام، باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم، 4 / 1747، برقم 2225.
(4) مسلم، كتاب السلام، باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم، 4 / 1747، برقم 2225.(1/358)
قال الإِمام النووي رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في هذا الحديث فقال مالك وطائفة: هو على ظاهره، وأن الدار قد يجعل الله سكناها سبباَ للضرر أو الهلاك، وكذا اتخاذ المرأة المعيَّنة أو الفرس أو الخادم، قد يحصل الهلاك عنده بقضاء الله تعالى، ومعناه قد يحصل الشؤم في هذه الثلاث كما صرح به في رواية: " إن يكن الشؤم في شيء " وقال الخطابي وكثيرون: " هو في معنى الاستثناء من الطيرة: أي الطيرة منهي عنها إلا أن يكون له دار يكره سكناها، أو امرأة يكره صحبتها، أو فرس أو خادم، فليفارق الجميع بالبيع ونحوه وطلاق المرأة. وقال آخرون: شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها وأذاهم، وشؤم المرأة عدم ولادتها وسلاطة لسانها وتعرضها للريب، وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها، وقيل حِرانها وغلاء ثمنها، وشؤم الخادم سوء خلقه وقلة تعهده لما فوِّضَ إليه، وقيل: المراد بالشؤم هنا: عدم الموافقة " (1) وقال بعض العلماء: الأحاديث في الشؤم ثلاثة أقسام:
أحدها: ما لم يقع الضرر به ولا التأذي ولا اطَّردت عَادة به خاصة ولا عامة، لا نادرة ولا متكرِّرَة، فهذا لا يصْغَى إليه وقد أنكر الشرع الالتفات إليه، وهو الطيرة، كلقي غراب في بعض الأسفار، أو صراخ بومة في دار، وهذا الذي كانت العرب في الجاهلية تعتبره وتعمل عليه، مع أنه ليس في ذلك ما يشعر بالأذى ولا المكروه.
الثاني: ما يقع به الضرر، ولكنه يعم ولا يخص، ويندر ولا يتكرر، كالوباء، فهذا لا يقْدم عليه عملا بالحزم والاحتياط، ولا يخرج منه ولا يفرّ منه لإِمكان أن يكون قد وصل الضرر إلى الفارِّ فيكون سفره سببا في محنته وتعجيلا لهلكته.
الثالث: ما يخص ولا يعمّ ويلحق به الضرر بطول الملازمة كالدار، والفرس، والمرأة، فهذه الثلاثة يباح الفرار منها واستبدالها بغيرها مما يناسب الإِنسان، والتوكل على الله تعالى، والإِعراض عما يقع في النفوس من ذلك من أفضل
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 14 / 472، وانظر: الاستذكار لابن عبد البر، 27 / 228، وعارضة الأحوذي لابن العربي 5 / 424.(1/359)
الأعمال والله أعلم (1) .
قال الإِمام الخطابي رحمه الله تعالى: " اليمن والشؤم سمتان لما يصيب الإِنسان من الخير والشر والنفع والضر ولا يكون شيء من ذلك إلا بمشيئة الله وقضائه وإنما هذه الأشياء مَحَالّ وظروف جعلت مواقع لأقضيته، ليس لها بأنفسها وطباعها فعل ولا تأثير في شيء، إلا أنها لما كانت أعم الأشياء التي يقتنيها الناس وكان الإِنسان في غالب أحواله لا يستغنى عن دار يسكنها، وزوجة يعاشرها وفرس يرتبطه. . . وكان لا يخلو من مكروه في زمانه ودهره أضيف اليمن والشؤم إليها إضافة مكانٍ ومحل وهما صادران عن مشيئة الله سبحانه " (2) .
وقال ابن حجر رحمه الله: " وقيل يحمل الشؤم على قلة الموافقة وسوء الطباع " (3) .
وسمعت سماحة شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول عند شرحه لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه: " والتشاؤم من هذه الثلاثة مستثنى ولا ينافي التوكل، فلا بأس بتركها، فقد لا تناسبه: الدابة، والزوجة، والمسكن، فلا بأس بمفارقة غير المناسب، فقد يجد شرورا في بعض هذه الأشياء فلا بأس أن يفارقها لعدم مناسبتها له، وقد تناسب غيره فلا يخبره بشؤمها، والسيارة تقوم مقام الدابة " (4) .
وإذا حمل الشؤم على عدم الموافقة وسوء الطباع فهو كحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاوة: الجار السوء، والمرأة السوء، والمسكن الضيِّق، والمركب السوء» (5) .
_________
(1) انظر: مشكل الآثار للطحاوي، 2 / 249، وشرح السنة للبغوي، 9 / 13، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 5 / 630، وشرح النووي على صحيح مسلم 14 / 473.
(2) أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، 2 / 1379 بتصرف يسير جدا. وانظر: شرح السنة للبغوي 9 / 14، وشرح الطيبي على مشكاة المصابيح 7 / 2261.
(3) فتح الباري 6 / 63.
(4) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه في صحيح البخاري برقم 2859، ثم سمعته مرة أخرى عند شرحه لطرف الحديث المذكور برقم 5095 وذلك بتاريخ 14 / 7 / 1417 هـ في جامع الإمام تركي بن عبد الله بالرياض " الجامع الكبير ".
(5) أخرجه ابن حبان في صحيحه 9 / 340، برقم 4032، وقال الألباني: وهذا سند صحيح على شرط الشيخين. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 282، وقال شعيب الأرنؤوط في تخريجه لصحيح ابن حبان 9 / 341: إسناده صحيح على شرط البخاري رجاله رجال الشيخين غير محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة فمن رجال البخاري. وأخرجه أحمد 1 / 168، دون ذكره: الجار الصالح، والجار السوء، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد 1 / 206 برقم 116. وانظر: صحيح الأدب المفرد للألباني ص 68.(1/360)
وهذا يبيِّن للداعية أهمية اختيار الوسائل المناسبة التي تعينه على القيام بالدعوة إلى الله عز وجل؛ لأن لهذه الأشياء أهمية عظمى في حياة الإِنسان، فإن كانت الزوجة صالحة، والدار صحِيَّة واسعة، والفرس أو السيارة قوية مريحة، والجار صالحا ارتاح الإِنسان وشعر بالسعادة والاستقرار النفسي وتفرَّغ للدعوة إلى الله تعالى (1) .
ثانيا: من صفات الداعية: التوكل: دل مفهوم الحديث على أهمية التوكل على الله عز وجل، واعتماد القلب عليه، مع الأخذ بالأسباب النافعة، ومن هذه الأسباب اختيار الوسائل المناسبة في الدعوة إلى الله عز وجل.
فينبغي للداعية أن يعتني بهذه الصفة ويتخلق بها؛ لعظمها وعلوِّ مكانتها (2) .
_________
(1) انظر: منار القاري في شرح مختصر صحيح البخاري لحمزة محمد قاسم 4 / 101.
(2) انظر: الحديث رقم 30، الدرس الخامس.(1/361)
[باب سهام الفرس]
[حديث جعل رسول الله للفرس سهمين ولصاحبه سهما]
51 - بَاب سهامِ الفرس وقَالَ مَالِك: يسهَم لِلْخَيْلِ وَالْبَرَاذِينِ مِنْهَا لِقَوْلِه تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] (1) وَلَا يسْهَم لأِكْثر مِنْ فَرَسِ.
60 [ص:2863] حَدَّثَنَا عبَيد بْن إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أسَامَة، عَنْ عبَيْدِ الله، عنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عمَرَ (2) رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ ولِصَاحِبِه سَهْما» (3) .
وفي رواية: «قَسَمَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرِ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْما» قالَ: فَسّرَه نافِع فَقَالَ: " إِذَا كَانَ مَع الرَّجلِ فرَس فَلَه ثَلاثة أَسْهمٍ، فإِنْ لَمْ يَكنْ لَه فَرس فَلَه سَهم " (4) .
* شرح غريب الحديث: * " السهم " السهم في الأصل واحِد السِّهام التي يضرب بها في الميْسِرِ، وهي القداح، ثم سمِّي به ما يفوز به الفالج سهمه، ثم كثر حتى سمِّي كل نصيبٍ سهما. ويجمع السَّهم على أسْهم، وسِهَام، وسهْمَان (5) .
* " الراجل " أي الماشي (6) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
_________
(1) سورة النحل، الآية: 8.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 1.
(3) [الحديث 2863] طرفه في كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 5 / 94، برقم 4228.
وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين، 3 / 1383، برقم 1762.
(4) الطرف رقم 4228.
(5) الفائق في غريب الحديث للزمخشري، باب السين مع الهاء، 2 / 212، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع الهاء، مادة " سهم " 2 / 429.
(6) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الجيم، مادة " رجل " 2 / 204.(1/362)
1 - من موضوعات الدعوة: الحث على الإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل.
2 - من صفات الداعية: العدل.
3 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل: دل هذا الحديث على الحث على الإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين، وللراجل سهما واحدا، وهذا فيه حث على الإِعداد للجهاد؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث حث على اكتساب الخيل واتخاذها للغزو؛ لما فيها من البركة، وإعلاء الكلمة، وإعظام الشوكة " (1) .
وهذا يبيِّن أهمية الإِعداد للجهاد وأخذ الحذر والحيطة (2) .
ثانيا: من صفات الداعية: العدل: إن من الصفات الحميدة التي ينبغي للداعية أن يتخلق بها صفة العدل، وقد دل هذا الحديث على هذه الصفة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الراجل سهما وإن كان معه فرس أعطاه ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " واستدل الجمهور من حيث المعنى بأن الفرس يحتاج إلى مؤنة لخدمتها وعلفها، وبأنه يحصل بها من الغنى في الحرب ما لا يخفى " (3) وذكر الخطابي رحمه الله: أن مؤنة الفرس مضاعفة على مؤنة صاحبه فضوعف له العرض من أجله وهذا قول عامة العلماء (4) .
وهذا يدل على عدله صلى الله عليه وسلم وإنصافه تطبيقا لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135] (5) .
_________
(1) فتح الباري 6 / 68، وانظر: أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري للخطابي 2 / 1381.
(2) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الثالث، ورقم 18، الدرس الثاني.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 68، وانظر: أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري للخطابي 2 / 1381.
(4) انظر: معالم السنن للخطابي 4 / 51.
(5) سورة النساء، الآية: 135.(1/363)
وهذا يبين للداعية أهمية العدل والإِنصاف.
ثالثا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل عمل النبي صلى الله عليه وسلم في إعطاء الفارس ثلاثة أسهم، والراجل سهما واحدا على الترغيب في اقتناء الخيل وإعدادها للجهاد في سبيل الله عز وجل، وهذا فيه تشجيع وإعانة على الإعداد وأخذ الحذر (1) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر.(1/364)
[باب من قاد دابة غيره في الحرب]
[حديث أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب]
52 - باب من قاد دابة غيره في الحرب 61 [ص:2864] حَدَّثَنَا قتَيْبَة: حَدَّثَنَا سَهْل بْن يوسفَ، عَنْ شعْبَة، عَنْ أَبِي إسْحَاقَ: «قَالَ رَجل لِلْبَراءِ بْنِ عَازِبٍ (1) رضي الله عنهما: أَفَرَرْتمْ عَنْ رَسولِ الله يَوْمَ حنَيْنٍ؟ قَالَ: لَكِنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفِرَّ، إِنَّ هَوَازِنَ كَانوا قوما رماة، وَإِنَّا لَمَّا لقِيَناهمْ حَمَلْنَا عَليْهم فانْهَزَموا، فَأَقْبَلَ المسْلِمونَ عَلَى الغَنَائِمِ، فَاسْتَقْبَلونَا بِالسِّهَامِ، فَأَمَّا رَسول الله صلى الله عليه وسلم فلَمْ يَفِرَّ، فَلَقَدْ رَأَيْته وَإنَّه لَعَلَى بَغْلَتِه الْبَيْضَاءِ، وَإِنَّ أَبَا سفْيَانَ (2) آخِذ بِلِجَامِها وَالنَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقولَ: " أَنَا النَّبِي لَا كذِبْ، أَنَا ابْن عبْدِ المطَّلِبْ» (3) .
وفي رواية: «لَا وَالله مَا وَلَّى رَسول الله صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنَّه خَرَجَ شبَّان أَصحَابِه وَخِفَافهمْ حسَّرا لَيْسَ بِسِلاحٍ، فَأَتَوْا قوما رمَاة جَمْعِ هَوازِنَ وَبَنِي نَضْرٍ مَا يَكاد يَسْقط لَهمْ سَهْم فَرشَقوهمْ رَشْقا مَا يَكادونَ يخْطِئون، فَأَقْبَلوا هنَالِكَ إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وَهوَ عَلَى بَغْلَتِه الْبَيْضَاءِ وَابْن عَمِّه أَبو سفْيَانَ بْن الحارِثِ بْنِ عَبْدِ المطَّلِبِ يَقود بِه، فنَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ ثمَّ قَالَ: " أَنَا النَّبِي لَا كَذِبْ، أَنَا ابْن عَبْدِ المطَّلِبْ» ثمَّ صَفَّ أَصْحَابَه (4) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 30.
(2) أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختلف في اسمه، فقيل: اسمه المغيرة، وقال آخرون: اسمه كنيته لا اسم له غيرها، وهو أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة أرضعتهما حليمة السعدية، وكان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم هو وجعفر بن أبي طالب، والحسن بن علي وقثم بن العباس رضي الله عنهم أجمعين، وكان شاعرا، أسلم رضي الله عنه قبل يوم الفتح والنبي صلى الله عليه وسلم في الطريق إلى الفتح، وشهد حنينا، وثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبلى فيها بلاء حسنا، توفي بالمدينة سنة عشرين وصلى عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل توفي سنة خمس عشرة.
انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 239، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 4 / 90.
(3) [الحديث 2864] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب بغَلة النبي صلى الله عليه وسلم البيضاء، 3 / 290، برقم 2874. وكتاب الجهاد والسير، باب من صف أصحابه عند الهزيمة، ونزل عن دابته واستنصر، 3 / 306، برقم 2930. وكتاب الجهاد والسير، باب من قال: خذها وأنا ابن فلان، 4 / 35، برقم 3042. وكتاب المغازي، باب قول الله تعالى وَيَوْمَ حنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكمْ كَثْرَتكمْ فَلَمْ تغْنِ عَنْكمْ شَيْئا وَضَاقَتْ عَلَيْكم الْأَرْض بِمَا رَحبَتْ ثمَّ وَلَّيْتمْ مدْبِرِينَ ثمَّ أَنْزَلَ اللَّه سَكِينَتَه إلى قوله غفور رحيم، 5 / 116، برقم 4315 و 4316 و 4317. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين، 3 / 1400، برقم 1776.
(4) الطرف رقم 2930.(1/365)
وفي رواية: «فَلَمَّا غَشِيَه المشْرِكون نَزلَ فَجَعَلَ يَقول: أَنا النَّبِي لَا كَذِبْ، أَنَا ابْن عَبْدِ المطَّلِبْ» ، قَالَ: " فَمَا رؤي مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدّ مِنْه " (1) يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: «كَانَتْ هَوَازِن رمَاة وإِنَّا لَمَّا حَملْنَا عَلَيْهم انْكَشَفوا فَأَكْبَبْنَا على الْغَنَائِمِ، فَاسْتقْبِلْنَا بِالسِّهَامِ. .» (2) .
وفي رواية: «يَا أَبَا عمَارَة أَتَولَّيْتَ يَوْمَ حنيْنِ؟ فَقَالَ: أَمَّا أنا فَأَشْهَد عَلَى النَّبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه لَمْ يولِّ، وَلَكِنْ عَجِلَ سَرَعَان الْقَوْمِ فرَشَقَتْهمْ هَوازِن. .» (3) .
* شرح غريب الحديث: * " وخفافهم " الأخفاء: السراع المسرعون (4) .
* " حسَّرا " الحسَّر: الذين لا دروع عليهم (5) .
* " فرشقوهم رشقا " هو الوجه من الرمي إذا رمى القوم كلهم دفعة واحدة، فإذا رمى القوم بأجمعهم، قالوا: رمينا رِشقا، وأما الرشق بفتح الراء فهو المصدر، يقال: رَشقت بالسَّهم رَشقا، والرَّشْق أيضا: الصوت، تقول: سمعت رَشْقَ كذا: أي صوته (6) .
* " سَرَعان القوم " السَّرَعان بفتح السين والراء: أوائل الناس الذين يتسارعون إلى الشيء ويقبلون عليه بسرعة (7) .
* " انكشفوا " أي انهزموا وانكشفت عنهم جنَّتهم (8) .
_________
(1) الطرف رقم 3042.
(2) الطرف رقم 4317.
(3) من الطرف رقم 4315.
(4) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 127.
(5) المرجع السابق ص 127.
(6) انظر: المرجع السابق ص 128، 538، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الشين، مادة: " رشق " 2 / 225.
(7) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع الراء، مادة " سرع " 2 / 361.
(8) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 128.(1/366)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحث على الشجاعة والثبات في الجهاد في سبيل الله عز وجل.
2 - شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وثباته.
3 - من أسباب نصر الدعاة: عدم الإِعجاب بالكثرة أو القوة.
4 - من صفات الداعية: حسن الأدب في الجواب.
5 - من صفات الداعية: الاستنصار بالله عز وجل.
6 - خطر حرص المدعو على الدنيا.
7 - من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم.
8 - من أساليب الدعوة: الرَّجَز.
9 - من أساليب الدعوة: بيان الداعية مناقبه عند الحاجة.
10 - من أساليب الدعوة: قول الداعية عند الحاجة: أنا فلان، وأنا ابن فلان.
11 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
12 - الابتلاء والاختبار في الدعوة إلى الله عز وجل.
13 - من أصناف المدعوين: المشركون.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على الشجاعة والثبات في الجهاد في سبيل الله عز وجل: دل الحديث على الحث على الشجاعة والثبات في الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أشجع الناس في الجهاد في سبيل الله عز وجل وأثبتهم قلبا وقدما، وهذا فيه تحريض وحث على الجهاد والثبات في المعركة؛ قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] (1) .
وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم أهل الشجاعة والثبات في الجهاد حثا على ذلك فقال
_________
(1) سورة الأنفال، الآية: 45.(1/367)
عن نبي الله داود صلى الله عليه وسلم: «كان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفر إذا لاقى» (1) .
فينبغي للداعية أن يحث الناس ويحضهم على الشجاعة والثبات في سبيل الله عز وجل.
ثانيا: شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وثباته: دل الحديث على شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وقوة قلبه في ذلك؛ ولهذا قاتل في معركة حنين قتالا عظيما، ومما يدل على شجاعته وإقدامه صلى الله عليه وسلم ما فعله في جميع غزواته التي قاتل فيها، فقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة، قاتل في ثمان منهن (2) بل ذكر الإِمام النووي وغيره أنه كان عدد سراياه التي بعثها ستا وخمسين سرية، وسبعا وعشرين غزوة، وقاتل في تسعِ من غزواته (3) .
ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدوِّ، وكان من أشدِّ الناس يومئذٍ بأسا» (4) .
وقال علي رضي الله عنه: «كنا إذا حمي البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يكون أحد منا أدنى إلى القوم منه» (5) وقال البراء رضي الله عنه: «كنا والله إذا احمر البأس (6) نتقي به وإن الشجاع منا للذي يحاذي به» ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم " (7) وركوبه على البغلة في معركة حنين وغيرها يدل على شجاعته؛ ولهذا ذكر العلماء: أن ركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة في موطن الحرب وعند اشتداد البأس: هو النهاية في الشجاعة والثبات؛ لأن ركوب الفحولة أو الفرس مظنة الاستعداد للفرار
_________
(1) البخاري، كتاب الصوم، باب حق الأهل في الصوم، 2 / 300، برقم 1977.
(2) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما، 3 / 1448، برقم 1814.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 436، وانظر: البداية والنهاية لابن كثير 3 / 241، 5 / 216 - 217، وزاد الميعاد لابن القيم 3 / 5.
(4) أحمد في المسند 1 / 86، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 2 / 143.
(5) الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي 2 / 143، وعزاه ابن كثير في البداية والنهاية 3 / 279 إلى النسائي.
(6) إذا احمر البأس: كناية عن شدة الحرب، واستعير ذلك؛ لحمرة الدماء الحاصلة فيها في العادة. انظر: شرح النووي 12 / 364.
(7) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين، 3 / 1401، برقم 1776.(1/368)
والتولي (1) ونزوله صلى الله عليه وسلم إلى الأرض حين غشوه يدل على المبالغة في الثبات، والشجاعة والصبر (2) دل على ذلك رواية لمسلم عن سلمة رضي الله عنه قال فيها: «مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما (3) وهو على بغلته الشهباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد رأى ابن الأكوع فزعا "، فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجمره القوم فقال: " شاهت الوجوه " (4) . فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة، فولّوا مدبرين، فهزمهم الله عز وجل، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين (5) » .
وقد كان صلى الله عليه وسلم شجاعا في حماية أصحابه في غير معارك القتال أيضا، فعن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قِبَلِ الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: " لم تراعوا، لم تراعوا " وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج. .» (6) .
وهذا كله يدل على شجاعته القلبية، أما شجاعته العقلية فلها صور كثيرة من أبرزها موقفه صلى الله عليه وسلم من تعنت سهيل بن عمرو وهو يملي وثيقة صلح الحديبية، إذ تنازل صلى الله عليه وسلم عن كلمة " بسم الله الرحمن الرحيم " إلى " باسمك اللهم "، وعن كلمة " محمد رسول الله " إلى " محمد بن عبد الله "، وقبوله شرط سهيل على أنه لا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم رجل من قريش حتى ولو كان مسلما إلا ردّد إلى أهل مكة، وقد استشاط الصحابة غيظا، وبلغ الغضب حدّاَ لا مزيد عليه، وهو صلى الله عليه وسلم صابر ثابت حتى انتهت الوثيقة، وكان الصلح بعد ذلك فتحا مبينا، فضرب صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الشجاعتين: القلبية والعقلية، مع بعد النظر
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 358، وفتح الباري لابن حجر 8 / 32.
(2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 358 وشرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 144.
(3) قال العلماء: قوله " منهزما " حال من ابن الأكوع، وليس النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: شرح النووي 12 / 364.
(4) شاهت الوجوه: أي قبحت، والله أعلم. وانظر: المرجع السابق 12 / 365.
(5) مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين 3 / 1402، برقم 1777.
(6) متفق عليه: البخاري، كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل، 7 / 108، برقم 6033، ومسلم، كتاب الفضائل، باب في شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وتقدمه للحرب 4 / 1802، برقم 2307.(1/369)
وأصالة الرأي وإصابته؛ فإن من الحكمة أن يتنازل الداعية عن أشياء لا تضره بأصل قضيته؛ لتحقيق أشياء أعظم منها (1) .
فينبغي للداعية أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في شجاعته وثباته، وصبره، وفى كل أحواله (2) .
ثالثا: من أسباب نصر الدعاة: عدم الإعجاب بالكثرة أو القوة: إن من أسباب النصر عدم الإِعجاب بالكثرة والقوة، بل ينبغي التواضع والتذلل لله عز وجل والتوكل عليه والاعتماد؛ لأن ما حصل من الفرار يوم حنين في أول المعركة بسبب الإِعجاب بالكثرة؛ قال الله عز وجل: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ - ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 25 - 26] (3) .
وكان من أسباب ذلك " أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قال: يا رسول الله، لن نغلب اليوم من قلة، وأعجبه كثرة الناس، وكانوا اثني عشر ألفا، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فَوكِلوا إلى كلمة الرجل فانهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير العباس، وأبي سفيان بن الحارث، وأيمن ابن أم أيمن قتل يومئذِ بين يديه. . " (4) وكانوا عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وألفين من الطلقاء الذين أسلموا يوم الفتح، وهم الذين فرّوا بالناس لحداثتهم بالإِسلام (5) .
وهذا يبيِّن للدعاة إلى الله عز وجل أن النصر بيد الله تعالى وأن الإِعجاب بالكثرة أو القوة من أسباب الهزيمة والخذلان.
_________
(1) انظر: وثيقة صلح الحديبية، في صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحروب، وكتابة الشروط 3 / 236، برقم 2731، 2732، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 5 / 333 - 352.
(2) وانظر: الحديث رقم 35، الدرس الخامس.
(3) سورة التوبة، الآيتان: 25 - 26.
(4) أخرجه الطبري بإسناده في جامع البيان عن تأويل آي القرآن 14 / 182.
(5) انظر: المرجع السابق 14 / 180.(1/370)
فينبغي الاستعداد بكل ما يستطيعه المسلمون من قوة ثم المّوكل على الله، والاعتماد عليه، والضراعة بين يديه، والافتقار إليه وذلك من أعظم أسباب النصر والتمكين.
رابعا: من صفات الداعية: حسن الأدب في الجواب: دل الحديث على أن من الصفات الحميدة: حسن الأدب في الجواب وذلك أن رجلا قال للبراء رضي الله عنه: يا أبا عمارة أفررتم يوم حنين؟ قال: " لا والله ما ولَّى رسول الله ولكنه خرج شبَّان أصحابه وخفافهم حسَّرا ليس بسلاح فأتوا قوما رماة. . " قال الإِمام النووي رحمه الله: هذا الجواب الذي أجاب به البراء رضي الله عنه من بديع الأدب؛ لأن تقدير الكلام: فررتم كلكم يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم وافقهم في ذلك، فقال البراء: " لا والله ما فر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن جماعة من الصحابة جرى لهم كذا وكذا " (1) وأوضح أن فرار من فر لم يكن على نية الاستمرار في الفرار، وإنما انكشفوا من وقع السهام (2) ؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث من الفوائد: حسن الأدب في الخطاب والإٍرشاد إلى حسن السؤال بحسن الجواب " (3) .
فينبغي للداعية أن يتحلَّى بحسن الأدب في الخطاب.
خامسا: من صفات الداعية: الاستنصار بالله عز وجل: إن من الصفات الحميدة الاستنصار وطلب الغوث والنصر من الله عز وجل؛ ولهذا قال البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتاله في معركة حنين: «فنزل واستنصر» أي دعا وطلب النصر من الله سبحانه وتعالى؛ قال الإِمام النووي رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " فيه استحباب الدعاء عند قيام الحرب " (4) وهذا من سننه صلى الله عليه وسلم في الحروب وغيرها من الأمور المهمة، ومن ذلك ما فعله في يوم بدر، فعن
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 359.
(2) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر 8 / 28.
(3) المرجع السابق 8 / 32.
(4) شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 360.(1/371)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مدَّ يديه فجعل يهتف بربه (1) " اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام لا تعبد في الأرض "، فمازال يهتف بربه مادا يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: " يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] (2) فأمده الله بالملائكة» (3) «وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش وهو يقول (4) . {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] (5) » .
وهذا يبيِّن للدعاة إلى الله عز وجل والمجاهدين في سبيله أهمية الاستنصار وطلب العون من الله عز وجل.
سادسا: خطر حرص المدعو على الدنيا: دل الحديث على أن الهزيمة في أول المعركة كانت على المشركين، فلما أقبل بعض المسلمين على الغنائم استقبلهم المشركون بالسهام فحصل ما حصل ثم أنزل الله نصره وتراجع المسلمون. قال البراء رضي الله عنه: " إن هوازن كانوا قوما رماة، وإنا لما لقيناهم حملنا عليهم فانهزموا، فأقبل المسلمون على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام "، وهذا يبين خطر الحرص على الدنيا، وفيه تحذير للمدعوين وغيرهم من الإِقبال على الحطام الفاني (6) .
_________
(1) يهتف بربه: أي يصيح ويستغيث بالدعاء. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 328.
(2) سورة الأنفال، الآية: 9.
(3) متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: البخاري مختصرا في كتاب المغازي، باب إِذْ تَسْتَغِيثونَ رَبَّكمْ فَاسْتَجَابَ لَكمْ، 6 / 6، برقم 3953، ومسلم بلفظه في كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، 3 / 1383، برقم 1763.
(4) البخاري، كتاب المغازي، باب قول الله تعالى إِذْ تَسْتَغِيثونَ رَبَّكمْ فَاسْتَجَابَ لَكمْ 6 / 6، برقم 3953.
(5) سورة القمر، الآية: 45.
(6) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر، 8 / 29، والمنهل العذب الفرات، لأحمد عبد العال 3 / 218، 221.(1/372)
فينبغي الحذر من ذلك والله المستعان.
سابعا: من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم: ظهر في هذا الحديث أسلوب التوكيد بالقسم، في قول البراء رضي الله عنه: " لا والله ما ولّى رسول الله صلى الله عليه وسلم "، ولا شك أن أسلوب التوكيد بالقسم يعطي القلوب قناعة وتصديقا، فيحصل بذلك سرعة التنفيذ (1) .
ثامنا: من أساليب الدعوة: الرجز: دل الحديث على أن استعمال الرجز من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل في بعض الأحوال، مع بعض المدعوين، وقد ظهر ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:
"
أنا النبي لا كَذبْ ... أنا ابن عبد المطلب
" (2) .
تاسعا: من أساليب الدعوة: بيان الداعية مناقبه عند الحاجة: ظهر في هذا الحديث أن بيان الداعية بعض مناقبه عند الحاجة لا حرج فيه، إذا كان فيه مصلحة راجحة تنفع المدعوين أو ترفع من شأن الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا والله أعلم قال صلى الله عليه وسلم: «أنا النبي لا كذب» .
قال الإِمام النووي رحمه الله: " أي أنا النبي حقا فلا أفرّ ولا أزول " (3) وهذا يعطي المدعو معرفة به صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله حقا وصدقا (4) .
عاشرا: من أساليب الدعوة: قول الداعية عند الحاجة أنا فلان وأنا ابن فلان: ظهر في هذا الحديث أسلوب بيان الداعية نسبه عند الحاجة، إذا كان في ذلك مصلحة للدعوة أو زيادة ثقة في قلوب المدعوين عند معرفتهم نسبه
_________
(1) انظر: الحديث رقم 10، الدرس الخامس.
(2) انظر: الحديث رقم 27، الدرس الثالث، ورقم 45، الدرس السادس، وانظر أيضا: شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 362، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 31.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 363.
(4) انظر: الحديث رقم 16، الدرس الرابع.(1/373)
ومكانته؛ ولهذا والله أعلم قال عليه الصلاة والسلام: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» .
وانتسب صلى الله عليه وسلم إلى جده دون أبيه؛ لشهرة عبد المطلب بين الناس؛ لما رزق من نباهة الذكر وطول العمر؛ ولأن عبد الله مات شابا ولم يشتهر؛ ولهذا كان كثير من العرب يدعون النبي صلى الله عليه وسلم ابن عبد المطلب، كما قال ضمام بن ثعلبة لما قدم عليه: " أيكم ابن عبد المطلب " (1) وقيل: لأنه اشتهر بين الناس أنه يخرج من ذرية عبد المطلب رجل يدعو إلى الله ويكون خاتم الأنبياء فانتسب إليه؛ ليذكر ذلك من كان يعرفه، وأنه لا بد أن يظهر على أعدائه، وأن العاقبة له؛ لتقوى نفوس أصحابه، وأعلمهم أيضا بأنه ثابت ملازم للحرب لم يولِّ مع من ولى، وعَرَّفهم موضعه؛ ليرجع إليه الراجعون والله أعلم، ولم يكن ذلك على جهة الافتخار بآبائه؛ فإن ذلك من خلقِ الجاهلية التي قد نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم وحرمها، وذَمَّ من انتمى إليها (2) ؛ وقد جاء في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه يرفعه: «من تَعزَّى بعزاء " (3) الجاهلية فأَعِضّوه (4) [بهنِ أبيه] ولا تكنوا» (5) ؛ وقال صلى الله عليه وسلم لرجل قال: ياللمهاجرين، ولآخر قال: ياللأنصار: «دعوها فإنها منتنة» (6) .
أما إذا كان الانتساب للآباء في المعارك والحروب على عادة الشجعان في
_________
(1) انظر: صحيح البخاري، كتاب العلم، باب القراءة والعرض على المحدث، 1 / 27، برقم 63 وصحيح مسلم، كتاب الإِيمان، باب السؤال عن أركان الإِسلام، 1 / 41، برقم 12 وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 3 / 618، وشرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 363، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 31.
(2) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 3 / 618، وشرح النووي على صحيح مسلم 12 / 363، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر 8 / 31.
(3) التعزي: الانتماء والانتساب إلى القوم، كأن يقول: يالَفلان، أو ياللأنصار، أو ياللمهاجرين. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب العين مع الزاي، مادة " عزا " 3 / 233.
(4) فأعضوه: أي من انتسب إلى الجاهلية فقولوا له: اعْضض بأير أبيك ولا تكنوا عن الأير بالْهَنِ تنكيلا له وتأديبا. انظر: المرجع السابق باب العين مع الضاد، مادة " عضض " 3 / 252.
(5) أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص 334 برقم 963، وأحمد في المسند 5 / 136 وما بين المعكوفين من رواية أحمد، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، ص 369، وانظر: فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد، لفضل الله الجيلاني 2 / 428، وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني برقم 269.
(6) متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: البخاري، كتاب التفسير، باب يَقولونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَة لَيخْرِجَنَّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّه الْعِزَّة وَلِرَسولِه وَلِلْمؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمنَافِقِينَ لَا يَعْلَمونَ 6 / 78 برقم 4907، ومسلم، في كتاب البر والصلة، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما 4 / 998، برقم 2584.(1/374)
انتسابهم؛ لإِظهار عز الإِسلام وإذلال أعداء الله فلا حرج (1) قال الإمام النووي رحمه الله تعالى على قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا النبي لا كذب. . أنا ابن عبد المطلب» : " في هذا دليل على جواز قول الإِنسان في الحرب: أنا فلان وأنا ابن فلان " (2) .
ومثل ذلك قول سلمة بن الأكوع في غزوة ذي قرد:
"
أنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع (3) " (4)
وقول عامر بن الأكوع في غزوة خيبر:
قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بَطَل مغامر (5)
وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة (6) ... كليث غابات كريه المنظرة (7)
أوفيهم بالصاع كيل السندرة (8) "
_________
(1) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 3 / 618، وشرح النووي على صحيح مسلم 12 / 362، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 31.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 363.
(3) يوم الرضع: جمع راضع وهو اللئيم، قيل: والأصل فيه أن رجلا كان شديد البخل فكان إذا أراد حلب ناقته رضع من ثديها ولا يحلبها؛ لئلا يسمع جيرانه صوت الحلب أو من يمر به فيطلبون منه اللبن، فَعَبَروا عن كلِّ لئيم بذلك، وقيل بل صنع ذلك لئلا يتبدد من اللبن شيء إذا حلب في الإِناء، وقيل غير ذلك.
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، باب الراء مع الضاد 2 / 230، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 3 / 673، وفتح الباري لابن حجر، 7 / 462.
(4) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة ذي قرد، 5 / 35، برقم 4194 ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها، 3 / 1433، برقم 1806.
(5) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة، ذي قرد وغيرها، 3 / 1440.
ومعنى: " شاكي السلاح " أي تام السلاح: من الشوكة والقوة. " مغامر ": يركب غمرات الحروب، ويقتحمها وشدائدها ويلقي بنفسه فيها وأصله من الغمر: وهو الماء الكثير. و " البطل ": الشجاع. انظر المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 3 / 681، وشرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 425.
(6) " حيدرة " من أسماء الأسد. انظر. المفهم للقرطبي 3 / 682، وشرح النووي 12 / 425.
(7) " الليث " من أسماء الأسد، والغابات. ملتف الشجر، وكريه المنظرة: أي أنه كريه المنظر في عين عدوه. و " السندرة " مكيال واسع، وقيل: السندرة العجلة: أي أقتلهم قتلا عاجلا. والمعنى: أقتل الأعداء قتلا واسعا ذريعا عاجلا. انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 3 / 683، وشرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 426.
(8) مسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها، 3 / 1441، برقم 1806.(1/375)
الحادي عشر: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: دل الحديث على أن القدوة الحسنة وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت قي المعركة ولم يتراجع مع من تراجع؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وإذا كان رأس الجيش قد وطَّن نفسه في الحرب على عدم الفرار وأخذ بأسباب ذلك، كان ذلك أدعى لأتباعه على الثبات " (1) .
فينبغي للداعية أن يكون قدوة حسنة للناس (2) .
الثاني عشر: الابتلاء والاختبار في الدعوة إلى الله عز وجل: دل هذا الحديث على الابتلاء والامتحان، وأن الله عز وجل يبتلي عباده بالسراء والضراء، وبالشدة والرخاء؛ ولهذا حصل للنبي صلى الله عليه وسلم ما حصل في غزوة حنين: من تراجع أصحابه عنه في أول القتال، واقتحام المشركين عليه عز وجل، ثم نصره الله وأمده بعونه، وهزم أعداءه (3) .
الثالث عشر: من أصناف المدعوين: المشركون: دل قتاله صلى الله عليه وسلم في معركة حنين على أن من أصناف المدعوين: أهل الشرك بالله عز وجل؛ وأنهم يدعون إلى الإِسلام، ويقاتلون إذا لم يدخلوا في الإِسلام، ولم يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ووقفوا في طريق الدعوة إلى الله عز وجل (4) .
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8 / 32، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 363.
(2) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث.
(3) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 16، الدرس الخامس، ورقم 46، الدرس الرابع.
(4) انظر: الحديث رقم 66، الدرس الحادي عشر.(1/376)
[باب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم]
[حديث ناقة النبي صلى الله عليه وسلم العضباء]
59 - باب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ ابْن عمَرَ: «أَرْدَفَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَلَى الْقَصْوَاءِ» ، وَقَالَ المسْوَر: قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: «مَا خَلأتِ القَصْوَاء» .
62 [ص:2871] حَدَّثَنَا عبد الله بْن محَمّدٍ: حَدَّثَنَا معَاوِيَة: حَدَّثَنَا أَبو إسحاق، عَنْ حمَيدٍ قَالَ: سَمِعْت أَنسا (1) رضي الله عنه يَقول: «كَانَتْ نَاقَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم يقَال لَهَا الْعَضْبَاء» (2) .
وفي رواية: «كَانَ للنَّبِي صلى الله عليه وسلم ناقَة تسَمَّى الْعَضْباءَ لاَ تسْبَق - قَالَ حمَيد: أَوْ لاَ تَكاد تسْبَق - فَجَاءَ أَعْرَابِي عَلَى قَعودٍ، فَسَبَقَهَا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى المسْلِمِينَ حَتّى عَرَفَه فَقَالَ: " حَقّ عَلَى الله أَنْ لَّا يَرْتَفعَ شيء مِنَ الدّنْيَا إِلَّا وَضَعَه» .
طَوَّله موسَى عَنْ حَمَّادٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنسٍ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم (3) .
وفي رواية: «إِنَّ حَقّا عَلَى الله أَن لَّا يرفَعَ شيئا مِنَ الدّنْيَا إِلَّا وَضَعَه» (4) .
* شرح غريب الحديث: * " العضباء ": علم من قولهم: ناقة عضباء: أي مشقوقة الأذن، ولم تكن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم مشقوقة الأذن وإنما كان هذا لقبا لها وهذا هو الصواب. والعضباء أيضا مكسورة القرن، وقد يكون العضب في الأذن قطعها. والعضب: السيف القاطع، والعضب القطع نفسه أيضا، فلعل ناقة النبي صلى الله عليه وسلم سميت باشتقاق من هذا لسرعتها وقطعها الأرض في سيرها (5) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 14.
(2) [الحديث 2871] ، طرفاه في: كتاب الجهاد والسير، باب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، 3 / 290، برقم 2872. وكتاب الرقاق، باب التواضع، 7 / 243، برقم 6501.
(3) الطرف رقم 2872.
(4) من الطرف رقم 6501.
(5) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 332، والفائق في غريب الحديث للزمخشري، باب العين مع الضاد، 2 / 444، النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب العين مع الضاد، مادة " عضب " 3 / 251.(1/377)
* " قعود " القعود من الإبل: ما أمكن أن يركب، وأدناه أن يكون له سنتان، ثم قعود إلى أن يثني فيدخل في السنة السادسة، ثم هو جمل، فالقعود: هو ما يقتعده الإِنسان للركوب والحمل، ولا يكون إلا ذكرا؛ لأن الأنثى بهذا السن يقال لها القلوص، وقيل يقال لها: القعودة (1) .
* " الأعرابي " ساكن البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة (2) . قال ابن حجر رحمه الله: " لم أقف على اسم هذا الأعرابي بعد التتبع الشديد " (3) .
* " حتى عرفه " أي حتى عرف أثر المشقة في وجوههم، فَسَّر ذلك الرواية الأخرى " فاشتد ذلك على المسلمين وقالوا: سبقت العضباء " (4) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحث على التواضع والتحذير من الكبر.
2 - من صفات الداعية: الزهد.
3 - من صفات الداعية: التواضع.
4 - من صفات الداعية: حسن الخلق.
5 - أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة.
6 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
7 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
8 - محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم.
9 - ذكاء النبي صلى الله عليه وسلم وفطنته.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
_________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع العين، مادة " قعد " 4 / 87، وجامع الأصول له، 5 / 40.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر، باب العين مع الراء، مادة " عرب " 3 / 202.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 74.
(4) الطرف رقم 6501، وانظر: فتح الباري لابن حجر 6 / 64، و 11 / 341.(1/378)
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على التواضع والتحذير من الكبر: إن الحث على التواضع والتحذير من الكبر من أهم موضوعات الدعوة، فهو دعوة للأمة للتحلي بالتواضع، والابتعاد عن الكبر، فإن العادة غالبا جرت أن الله لا يرفع شيئا من أمر الدنيا إلا حطَّه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه» ، وقد دعا صلى الله عليه وسلم أمته إلى ترك المباهاة والفخر بمتاع الدنيا، فإذا كان ذلك كذلك كان حقا على كل عاقل أن يحث الناس على التواضع ويحذرهم من الكبر والفخر، والله المستعان (1) .
ثانيا: من صفات الداعية: الزهد: دل هذا الحديث على أن الزهد من الصفات العظيمة التي ينبغي للمسلم أن يتصف بها؛ لأنه لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه الله، فإذا كان ذلك كذلك كان حقا على كل عاقل أن يزهد في الدنيا ومتاعها؛ لأنها ناقصة غير كاملة؛ ولهوانها على الله عز وجل، وهذا فيه تنبيه على ترك المباهاة والمفاخرة، وأن كل شيء هان على الله فهو محل الضعة، فحق على كل ذي عقل أن يزهد فيه، ويقل المنافسة في طلبه. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه التزهيد في الدنيا، للإشارة إلى أن كل شيء منها لا يرتفع إلا اتضع " (2) . والله المستعان (3) .
ثالثا: من صفات الداعية: التواضع: التواضع صفة عظيمة من صفات الدعاة إلى الله تعالى؛ لأن التواضع: هو تذلل وتخاشع لله تعالى؛ وقد مدِح الله تعالى الدعاة المتواضعين فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] (4) والمعنى أنهم يمشون في سكينة ووقار متواضعين غير أشرين، ولا متكبرين،
_________
(1) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 6 / 74، وعمدة القاري للعيني 14 / 162، وإرشاد الساري، للقسطلاني 5 / 80، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، لمحمد شمس الحق العظيم آبادي 13 / 158، وعون الباري لحل أدلة البخاري، لصديق حسن خان 3 / 501.
(2) فتح الباري، لابن حجر، 6 / 74، وانظر: 11 / 341.
(3) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الأول، ورقم 15، الدرس الأول.
(4) سورة الفرقان، الآية: 63.(1/379)
ولا مرحين، فهم دعاة علماء، حلماء؛ وأصحاب وقار وعفة، والتواضع فيه مصلحة الدين والدنيا؛ فإن الناس لو استعملوه في الدنيا لزالت بينهم الشحناء؛ ولاستراحوا من تعب المباهاة والمفاخرة (1) .
والدعاة إلى الله تعالى إذا تواضعوا رفعهم الله في الدنيا والآخرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفوٍ إلا عزّا، ومن تواضع لله رفعه» (2) وهذا مما يفتح الله به للداعية قلوب الناس؛ فإن الله يرفعه في الدنيا والآخرة، ويثبت له بتواضعه منزلة في قلوب الناس، ويرفعه عندهم، ويجلّ مكانه (3) أما إذا تكبر الداعية على الناس فقد توعده الله بالذلِّ والهوان في الدنيا والآخرة؛ فالله عز وجل: «العزّ إزاره، والكبرياء رداؤه فمن ينازعه ذلك عذبه» (4) . ففي حديث الباب حث على التواضع، وهذه صفة يجب على كل داعية أن يتَّصف بها في دعوته وفي كل أموره (5) ؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد» (6) .
رابعا: من صفات الداعية: حسن الخلق: دل الحديث على أن حسن الخلق من أعظم الصفات التي ينبغي أن يتصف بها الداعية إلى الله عز وجل، قال ابن حجر رحمه الله تعالى في حديث الباب: " وفيه حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه؛ لكونه رضي أن أعرابيّا يسابقه " (7) . ومعلوم عند العقلاء أن الخلق الحسن يحبب الداعية إلى الناس جميعا، فكل من جالسه أو خالطه أحبه؛ ولهذا يسهل على الداعية جذب قلوب الناس إلى دعوته؛ لأن من لم يتخلَّق بالخلق الحسن ينفر الناس من دعوته، ولا يستفيدون من
_________
(1) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 2 / 327، وفتح الباري لابن حجر 11 / 341.
(2) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، باب استحباب العفو والتواضع، 4 / 201، برقم 2588.
(3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 16 / 378.
(4) مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الكبر، 16 / 412، برقم 2620، ولفظه " فمن ينازعني عذبته ".
(5) انظر: فتح الباري، لابن حجر 6 / 74، وعمدة القاري للعيني، 14، 162، والرياض الناضرة للسعدي، ص 105.
(6) مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار 4 / 2199 برقم 2865.
(7) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 74، وانظر: 11 / 341.(1/380)
علمه وخبرته؛ لأن من طبائع الناس أنهم لا يقبلون ممن يستطيل عليهم، أو يبدو منه احتقارهم واستصغارهم ولو كان ما يقوله حقّا؛ قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] (1) . والخلق الحسن للداعية يشمل: التواضع وغيره من الأخلاق الجميلة الحميدة؛ كالحلم، والأناة، والجود والكرم، والعفو والصفح، والرفق واللين، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة التي يتأكد على كل داعية صادق أن يتصف بها (2) . والله الموفق سبحانه وتعالى (3) .
خامسا: أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة: إن المدعو ينبغي له أن يلتزم الأدب مع العلماء والدعاة، ولا يشق عليهم، والذي ظهر من هذا الحديث أن الأعرابي لم يراع الأدب في طلب مسابقة النبي صلى الله عليه وسلم على قعوده، ولكن لتواضع النبي صلى الله عليه وسلم وافقه على ذلك. فينبغي للمدعو أن يلتزم الأدب مع العلماء والدعاة وطلاب العلم (4) .
سادسا: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل الحديث على أن الترهيب أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله تعالى؛ لأن الترهيب يكون بما يخيف المدعو، ويحذره من عدم الاستجابة أو رفض الحق، أو عدم الثبات عليه بعد قبوله.
فقد دل هذا الحديث على الترهيب من الكبر وأن عاقبته وخيمة؛ لأنه كان حقّا على الله أن يضع المتكبر ولو بعد حين؛ وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث أنه: «حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه» وقد حذر الله عز وجل من الكبر والخيلاء فقال: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ - وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 18 - 19] (5)
_________
(1) سورة آل عمران، الآية: 159.
(2) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 10 / 658، ومدارج السالكين لابن القيم 2 / 308، والرياض الناضرة للسعدي ص 218.
(3) انظر: الحديث رقم 14، الدرس الأول، ورقم 21، الدرس الثاني.
(4) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الأول، ورقم، 40، الدرس الأول.
(5) سورة لقمان، الآيتان: 18-19.(1/381)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متَّبع، وإعجاب المرء بنفسه، وثلاث منجيات: العدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، ومخافة الله في السر والعلانية» (1) والله المستعان (2) .
سابعا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: في هذا الحديث تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وموافقته أن يسابق الأعرابي، ثم عندما شق ذلك على أصحابه بيَّن لهم أن حقّا على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه، فكان عليه الصلاة والسلام بهذا الفعل وهذا القول قدوة بالقول والعمل للدعاة إلى الله تعالى، فإن من وسائل التبليغ المهمة وجذب الناس إلى الإسلام التبليغ بالسيرة الطيبة للداعية إلى الله تعالى، وأفعاله الحميدة، وصفاته العالية، وأخلاقه الكريمة، والتزامه بالإِسلام ظاهرا وباطنا مما يجعله قدوة طيبة؛ لأن التأثير بالأفعال والسلوك أبلغ من التأثير بالكلام وحده، ويجمع ذلك كله: حسن الخلق، وموافقة العمل للقول (3) .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأسوة للدعاة، فقد كان متواضعا في دعوته للناس؛ وقد جاء رجل فكلمه فجعل ترعد فرائصه فقال له: «هوِّن عليكَ فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد في هذه البطحاء» (4) ثم تلا جرير: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] (5) . فعلى الدعاة إلى الله تعالى أن يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان متواضعا في دعوته مع الناس، فكان يمر بالصبيان فيسلم عليهم، وتأخذ بيده الأمَة فتنطلق به حيث شاءت،
_________
(1) الطبراني في الأوسط [مجمع البحرين برقم 141، 1 / 155] ، وأخرج الجزء الأول منه البزار [مختصر زوائد مسند البزار على الكتب الستة ومسند أحمد برقم 41، 1 / 98] ، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 1802، وصحيح الجامع الصغير 3 / 65.
(2) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر.
(3) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث.
(4) الطبقات الكبرى لابن سعد، 1 / 21، والحاكم بلفظه وصححه ووافقه الذهبي، من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه، 2 / 446، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 4 / 497.
(5) سورة ق الآية: 45.(1/382)
وكان في بيته في خدمة أهله، ولم يكن ينتقم لنفسه قط، وكان يخصف نعله ويرقع ثوبه، ويحلب الشاة لأهله، ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما، ويجيب دعوة من دعاه ولو إلى شيء يسير، فكان متواضعا من غير ذلة، جوادا من غير سرف، رقيق القلب رحيما بكل مسلم، خافض الجناح للمؤمنين، ليِّن الجانب لهم، فيجب على الدعاة أن يقتدوا به صلى الله عليه وسلم (1) .
ثامنا: محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: ظهر في هذا الحديث محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا شق عليهم ما حصل من سبق قعود الأعرابي لناقة النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال أنس رضي الله عنه: " فشق ذلك على المسلمين ".
ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم من علامات كمال الإيمان؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين» (2) .
فينبغي للداعية أن يحب الله ورسوله حبا كاملا؛ قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإِيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» (3) .
تاسعا: ذكاء النبي صلى الله عليه وسلم وفطنته: النبي صلى الله عليه وسلم أذكى البشر وأفطنهم، ولا يحتاج ذلك إلى استدلال، ولكن المقصود هو استنباط ما يدل عليه الحديث من الفوائد والدروس الدعوية. وهذه الفائدة مأخوذة من قول أنس رضي الله عنه: " فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه " أي حتى عرف صلى الله عليه وسلم أثر المشقة في وجوههم (4) .
_________
(1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم 2 / 328 -329، وفتح الباري لابن حجر 6 / 74، 11 / 341، وعمدة القاري للعيني، 14 / 162.
(2) متفق عليه: البخاري، 1 / 11، برقم 15، ومسلم، 1 / 67، برقم 44، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 9، الدرس العاشر، ص 114.
(3) متفق عليه: البخاري، 1 / 11، برقم 16، ومسلم، 1 / 66، برقم 43، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 9، الدرس الثالث، ص 109.
(4) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 64، 11 / 341.(1/383)
[باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال]
[حديث سقي عائشة وأم سليم الجرحى يوم أحد]
65 - باب غزوِ النساءِ وَقِتالهِنَّ معَ الرّجَالِ 63 [ص:2880] حَدَّثَنَا أَبو مَعْمَرٍ: حَدَّثَنَا عَبْد الْوَارِثِ: حَدَّثَنَا عَبْد الْعَزِيزِ، عنْ أنسٍ (1) رضي الله عنه قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْم أحدٍ انْهَزَمَ النَّاس عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: ولَقَدْ رَأَيْت عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ (2) . وَأمَّ سلَيْمٍ (3) . وَإِنَّهمَا لَمشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سوقِهِنَّ تَنْقزانِ القِرَبَ -وَقَالَ غَيره: تَنقلانِ القِرَبَ- عَلَى متونهِمَا ثمَّ تفْرِغَانِهِ في أَفْوَاهِ الْقَوْمِ، ثمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلآنِهَا ثمَّ تَجِيئَانِ فَتفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ " (4) » .
وفي رواية: «لَمّا كَانَ يَوْم أحدٍ انهَزَمَ النَّاس عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبو طَلْحَة (5) بَيْنَ يدَي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مجَوِّب عَلَيْهِ بِحجَفَةٍ لَه، وَكَانَ أَبو طَلْحَةَ رَجلا رَامِيا شَدِيدَ النَّزْع، كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثا، وَكَانَ الرَّجل يَمرّ مَعَه بِجَعْبَةٍ مِنَ النَّبْلِ فَيَقول: " انثرهَا لأَبِي طَلْحَةَ " قَالَ: ويشْرِف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ينْظر إِلَى الْقَوْمِ، فَيَقول أَبو طَلْحَةَ: بِأَبِي أنتَ وَأمِّي لَا تشْرِفْ يصِيبكَ سَهْم مِنْ سِهامِ الْقَوْمِ، نَحْرِي دونَ نَحْرِكَ، وَلَقَدْ رَأَيْت عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأمَّ سلَيْمٍ وَإِنَّهمَا لَمشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سوقِهِمَا تنْقِزَانِ القِرَبَ عَلَى متونهمَا، تفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ ثمَّ تَرْجِعَانِ فتَمْلآنِهَا ثمَّ تَجِيئانِ فَتفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْم، وَلَقَدْ وقَعَ السَّيْف مِن يَدِ أَبِي طَلْحَةَ إِمَّا مَرَّتَيْنِ وَإِمَّا ثَلاثا» (6) .
وفي رواية: «كَانَ أَبو طَلْحَةَ يَتَتَرَّس مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بترْسٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ أَبو طَلْحَةَ
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 14.
(2) تقدمت ترجمتها في الحديث رقم 4.
(3) تقدمت ترجمتها في الحديث رقم 50.
(4) [الحديث 2880] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب المجن، ومن يتترس بترس صاحبه، 3 / 399، برقم 2902. وكتاب مناقب الأنصار، باب مناقب أبي طلحة رضي الله عنه، 4 / 276، برقم 3811. وكتاب المغازي، باب إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّه وَلِيّهمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمؤْمِنونَ، 5 / 40، برقم 4064. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة النساء مع الرجال، 3 / 1443، برقم 1811.
(5) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 41.
(6) الطرف رقم 3811، ورقم 4064.(1/384)
حَسَنَ الرَّمْي، فَكَانَ إِذَا رَمَى يشْرِف النبِيّ صلى الله عليه وسلم فَيَنْظر إِلَى مَوْضِعِ نَبْلِهِ» (1) .
* شرح غريب الحديث: * " خَدَم سوقهِنَّ " الخدم: الخلاخيل، واحدتها خدمة، وخلخال والسوق: جمع ساق وقد يسمى الساقان خدمين؛ لأنهما موضع الخدمين، وهما الخلخالان، وسمي الخلخال خدمة؛ لأنه ربما كان من سيور مركبة فيه الذهب والفضة، والخدمة في الأصل السير الغليظ مثل الحلقة يشد في رسغ البعير، والرسغ، ما فوق الخف من أول القوائم، ويشد في هذا السير الذي كالحلقة سرائح نعل البعير (2) .
* " تنقزان القرب " أي تحملانها وتقفزان بها وثبا، والنقز: القفز، والوثب (3) .
* " متونهما " المتن من الظهر ما اكتنف أعلى الصلب من العصب واللحم، وهما متنان، والصلب: عظم من مغرس العنق إلى الذنب، ومن الإِنسان إلى العصعص، والعصعص: عَجْب الذنب (4) .
* " مجَوِّب عليه " أي ساتر له، قاطع بينه وبين العدو (5) .
* " بحجفة " الحجفة: الترس الصغير (6) .
* " شديد النزع " أصل النزع: الجذب والقلع، ومنه نزع الميت روحه، ونزع القوس إذا جذبها (7) .
* " جعبة " الجعبة: الكنانة التي تجعل فيها السهام (8) وهي خريطة النّشَّابِ من الجلود (9) .
_________
(1) الطرف رقم 2992.
(2) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 255، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير، باب الخاء مع الدال، مادة " خدم " 2 / 15، وأعلام الحديث للخطابي 2 / 1385، وشرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 152.
(3) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب النون مع القاف مادة " نقز " 5 / 106.
(4) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 251.
(5) المرجع السابق ص 255.
(6) انظر: المرجع السابق ص 255، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الجيم 1 / 345، 1 / 311.
(7) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب النون مع الزاي، مادة: " نزع "، 5 / 41.
(8) المرجع السابق، باب الجيم مع العين، مادة: " جعب " 1 / 274.
(9) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 255.(1/385)
* " نحري " النحر: أول الصدر، وهو موضع القلادة (1) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أهمية دفاع المدعو عن العلماء والدعاة.
2 - من صفات الداعية: الشجاعة.
3 - الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل.
4 - أهمية الإِشراف على المدعو وملاحظته.
5 - من وسائل الدعوة: إثارة غيرة الرجال.
6 - أهمية مشاركة النساء في الجهاد بالخدمة والعلاج عند الحاجة.
7 - تاريخ الدعوة في الأمر بالحجاب.
8 - محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم.
9 - الابتلاء والامتحان في الدعوة إلى الله عز وجل.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: أهمية دفاع المدعو عن العلماء والدعاة: دل هذا الحديث على أهمية دفاع المدعو عن العلماء والدعاة؛ ولهذا دافع أبو طلحة يوم أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم دفاعا عظيما، فكان يستر النبي صلى الله عليه وسلم عن الأعداء بترسه، وقاتل قتالا شديدا حتى كسر قوسين أو ثلاثا.
فينبغي للمدعو أن يدافع عن ولاة أمر المسلمين، وعلمائهم، ودعاتهم المخلصين: بالقول والفعل. والله المستعان (2) .
ثانيا: من صفات الداعية: الشجاعة: ظهر في هذا الحديث أن الشجاعة صفة عظيمة من صفات الداعية إلى الله
_________
(1) تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي، ص 255.
(2) انظر: الحديث رقم 4، الدرس الثالث.(1/386)
عز وجل؛ ولهذا برزت شجاعة أبي طلحة ومن معه من الصحابة في معركة أحد، بل قد اشترك في هذه الصفة حتى النساء كما فعلت عائشة وأم سليم رضي الله عنهما. فينبغي للداعية أن يتحلى بهذه الصفة الحميدة (1) .
ثالثا: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: لا شك أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين وقد أخذ بالأسباب وأقر أصحابه على الأخذ بها، فهذا أبو طلحة رضي الله عنه يدافع عنه بالسهام، والأقواس، ويستره بالترس، وهذه عائشة وأم سليم رضي الله عنهما تفرغان القرب في أفواه القوم؛ وقد ذكر ابن حجر رحمه الله: أن اتخاذ الآلات لا ينافي التوكل، والحذر لا يرد القدر، ولكن يضيِّق مسالك الوسوسة لما طبع عليه البشر (2) .
فينبغي للداعية أن يأخذ بالأسباب ويتوكل على الله عز وجل؛ لأن التوكل يقوم على ركنين: اعتماد القلب على الله عز وجل، والأخذ بالأسباب (3) .
رابعا: أهمية الإشراف على المدعو وملاحظته: دل الحديث على أنه ينبغي للداعية أن يشرف على المدعو ويلاحظه؛ لكي يطمئن على استقامته وإتقانه للعمل كما يحبه الله عز وجل، ومن ذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي طلحة رضي الله عنه في هذا الحديث كما قال أنس رضي الله عنه: " وكان أبو طلحة حسن الرمي فكان إذا رمى يشْرِف النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موضع نبله ".
خامسا: من وسائل الدعوة: إثارة غيرة الرجال: لا ريب أن إثارة غيرة الرجال من وسائل الدعوة، ففي غزوة أحد اشترك النساء في مداواة الجرحى وإسقاء المرضى وغير ذلك؛ قال الإِمام الأبي رحمه الله: " وفي حضور النساء معارك الحرب إثارة غيرة الرجال، وحمية
_________
(1) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الخامس، ورقم 61، الدرس الثاني.
(2) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 94.
(3) انظر: الحديث رقم 30، الدرس الخامس.(1/387)
الأنوف لصونهن. . . " (1) .
سادسا: أهمية مشاركة النساء في الجهاد بالخدمة والعلاج عند الحاجة: إن ما حصل من مشاركة بعض النساء في الجهاد في هذا الحديث يدل على أن هذه المشاركة لا حرج فيها عند الحاجة مع التزام الأوامر واجتناب النواهي، ويكون ذلك في حدود طاقة المرأة: كالمشاركة في خدمة المجاهدين، ومداواة الجرحى، مع المحافظة على الحجاب والبعد عن الفتنة، والخلوة، وكانت المرأة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تتأهب للدفاع عن نفسها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن أمَّ سليم اتخذت يوم حنين خنجرا، فكان معها فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، هذه أم سليم معها خنجر، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما هذا الخنجر؟ " قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، قالت: يا رسول الله، اقتل من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أم سليم إن الله قد كفى وأحسن» (2) .
أما ما حصل من النظر إلى عائشة وأم سليم يوم أحد فقد أجاب النووي رحمه الله عن ذلك فقال: " وهذه الرواية للخدم لم يكن فيها نهي؛ لأن هذا كان يوم أحد قبل أمر النساء بالحجاب، وتحريم النظر إليهن؛ ولأنه لم يذكر هنا أنه تعمد النظر إلى نفس الساق، فهو محمول على أنه حصلت تلك النظرة فجأة بغير قصد، ولم يستدمها " (3) .
سابعا: تاريخ الدعوة في الأمر بالحجاب: ظهر في هذا الحديث أن الأمر بالحجاب زمن معركة أحد لم ينزل بعد؛ ولهذا والله أعلم حصل ما حصل من النظر إلى الخلاخل والسوق؛ وقد ذكر الأبي رحمه الله بعض أقوال أهل العلم في ذلك ثم قال: " والقضية كانت يوم أحد
_________
(1) إكمال إكمال المعلم، شرح صحيح مسلم، 6 / 479.
(2) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة النساء مع الرجال، 3 / 1442 برقم 1809.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 430، وإكمال إكمال المعلم للأبي 6 / 479.(1/388)
أول الإِسلام قبل الأمر بالحجاب والستر، وقيل النهي عن إبداء الزينة، إلا لمن خصه الله في كتابه في سورة النور، وإنما نزل كثير منها بعد قصة الإِفك، وفي غزوة المريسيع بعدها سنة ست في قول ابن إسحاق، أو سنة أربع في قول ابن عقبة، أو في سنة خمس في قول الواقدي " (1) .
وهذا فيه دلالة على أن معركة أحد وقعت قبل الأمر بالحجاب الشرعي، فإذا حصل من النساء مشاركة في المعركة فلا بد من الالتزام بالحجاب، والبعد عن الخلوة بالرجال الأجانب.
ثامنا: محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: دل هذا الحديث على عظم محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا دافع عنه أبو طلحة، وأظهر هذه المحبة بقوله رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: " بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك " والمعنى أنه يقدم نحره وصدره ترسا حماية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ قال الإِمام النووي رحمه الله: " هذا من مناقب أبي طلحة الفاخرة " (2) .
فينبغي للداعية أن يحب رسول صلى الله عليه وسلم أكثر من محبة الولد، والوالد، والناس أجمعين (3) .
تاسعا: الابتلاء والامتحان في الدعوة إلى الله عز وجل: ظهر في هذا الحديث ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الابتلاء في معركة أحد، فصبروا، وصابروا، وجاهدوا (4) .
_________
(1) إكمال إكمال المعلم، 6 / 479.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 430.
(3) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثامن.
(4) انظر: الحديث رقم 66، الدرس الأول.(1/389)
[باب حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو]
[حديث أم سليط التي كانت تزفر القرب يوم أحد]
66 - باب حَمْلِ النّساء القرَب إلَى النّاسِ في الغزو 64 [ص:2881] حَدَّثَنَا عَبْدَان: أَخْبَرَنَا عبد الله: أَخْبَرَنَا يونس، عن ابْنِ شِهَابٍ قَالَ ثَعْلبَة بْن أَبِي مَالِكٍ: " إِنَّ عمَرَ بْنَ الخَطَّابِ (1) رضي الله عنه، قَسَمَ مروطا بَينَ نِساءٍ مِنْ نِسَاءِ الْمَدِينَة، فَبَقِيَ مِرْط جَيِّد، فَقَالَ لَه بَعْض مَنْ عِنْدَه: يَا أَمِيرَ الْمؤمِنِينَ أَعْطِ هَذا ابْنَةَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي عِنْدَكَ- يرِيدونَ أمَّ كلْثومٍ (2) بِنْتَ
_________
(1) عمر بن الخطاب بن نفيل أبو حفص أمير المؤمنين رضي الله عنه، ولد بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة، وكان من أشراف قريش، وإليه كانت السفارة في الجاهلية، فإذا وقع بين قريش وبين غيرهم حرب بعثوه سفيرا، أسلم رضي الله عنه بعد أربعين رجلا وإحدى وعشرين امرأة، وقيل غير ذلك، وأعز الله به الإسلام، وأظهر إسلامه علانية، وفرَّقَ الله به بين الحق والباطل، ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " مازلنا أعزة منذ أسلم " [البخاري رقم 3684] وقال رضي الله عنه: " كان إسلام عمر فتحا، وهجرته نصرا، وإمارته رحمة، والله ما استطعنا أن نصلي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا نصلي "، وعمر رضي الله عنه: أحد السابقين إلى الإِسلام، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد كبار علماء الصحابة وزهادهم، وهاجر إلى المدينة علانية؛ لقوته وشجاعته، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا، وأحدا، والخندق، وبيعة الرضوان، وخيبر، والفتح، وحنينا، والطائف، وتبوك، وسائر المشاهد، وكان شديدا على الكفار والمنافقين، ونزل القرآن على وفق قوله في عدة مواضع، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون فإن يكن في أمتي أحد، فإنه عمر " [البخاري برقم 3689] وكان من أزهد الناس، وأورعهم، وأكملهم دينا [البخاري برقم 3691] ، وأعلمهم [البخاري برقم 3681] ، ومن كمال دينه كان الشيطان يهرب منه [البخاري برقم 3683] روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة حديث وتسعة وثلاثون حديثا، اتفق البخاري ومسلم منها على ستة وعشرين، وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين، ومسلم بواحد وعشرين، وجعل الله الحق على لسانه وقلبه، وقام بالخلافة أتم قيام، وجاهد في الله حق جهاده: فجيَّش الجيوش، وفتح البلدان، ومصَّر الأمصار، وأعز الإِسلام وأذل الكفر أشد إذلال، فتح الشام، والعراق، ومصر، والجزيرة، وديار بكر، وأرمينية، وأذربيجان، وإيران، وبلاد الجبال، وبلاد فارس، وخوزستان، وحصلت في عهده المعارك الكثيرة التي نصر الله جيشه فيها، وهو أول من جمع الناس على صلاة التراويح وكان يسأل الله الشهادة بصدق فختم الله له بها، فطعنه أبو لؤلؤة المجوسي وهو يصلي بالناس صلاة الفجر يوم الأربعاء لأربع ليالِ بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، ودفن يوم الأحد هلال المحرم سنة أربع وعشرين، فكانت خلافته عشر سنين وخمسة أشهر، وواحدا وعشرين يوما، وحج بالناس عشر سنين متوالية رضي الله عنه. انظر: مناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 18- 19، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 3 -15، وسير أعلام النبلاء للذهبي [قسم سيرة الخلفاء الراشدين] ص 71 -145، وتاريخ الإسلام له 2 / 253، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 113.
(2) أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وهي بنت فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فولدت له زيدا، ورقية، وتوفيت هي وابنها زيد بن عمر في يوم واحد. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 365، والإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، 4 / 492.(1/390)
عَلِيٍّ - فَقَالَ عمَر: أمّ سَلِيطٍ أَحَقّ (1) . وَأمّ سَلِيطِ مِنْ نِسَاءِ الأنصَارِ مِمَّنْ بَايَعَ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ عمَر: فإِنهَا كَانَتْ تَزْفِر لَنَا الْقِرَبَ يَوْمَ أحدٍ " قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ: تَزْفِر: تَخِيط (2) .
* شرح غريب الحديث: * " مروطا " المروط الأكسية، من قطن أو صوف، أو خز، واحدها مرط، يؤتزر به (3) .
* " تزفر لنا القرب " زفر يزفر، وازدفر: حمل حملا فيه ثقل، والزفر حمل القرب الثقال، ويقال للقربة نفسها: الزِّفْر (4) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: العدل:
2 - من صفات الداعية: مكافأة المحسن وتشجيعه على إحسانه.
3 - أهمية الشورى مع الإِمام أو العلماء والدعاة.
4 - أهمية مشاركة النساء في الجهاد بالخدمة والعلاج عند الحاجة.
5 - من صفات الداعية: وضع كل شيء في موضعه.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: العدل: دل هذا الحديث على عدل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونزاهته، وإيثاره على
_________
(1) أمّ سليط: حضرت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، كناها عمر رضي الله عنه بابنها سليط بن أبي سليط بن أبي حارثة، وهي أم قيس بنت عبيد بن زياد، رضي الله عنهما انظر: الإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 4 / 460، 485.
(2) [الحديث 2881] طرفه في كتاب المغازي، باب ذكر أم سليط، 5 / 43، برقم 4071.
(3) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 48، 538، 548، وانظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الميم مع الراء، مادة: " مرط " 4 / 319.
(4) انظر: غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 48، والنهاية في غريب الحديث والأثر، باب الزاي مع الفاء، مادة " زفر " 2 / 304، وأعلام الحديث للخطابي 2 / 1385.(1/391)
نفسه وأهله، وتركه إعطاء أهله في سبيل العدل ومصلحة المسلمين، قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله: " وفيه أن عمَرَ آثر أمَّ سليط على أمِّ كلثوم، وما ذاك لأجل نسب أم سليط، ولكن لأنها بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تزفر القرب أي تحمل " (1) .
وهذا يبين للداعية أنه ينبغي العدل ومراعاة المصالح التي يحبها الله عز وجل ثم تقديمها على رغبة كل أحدٍ من الناس طاعة لله عز وجل (2) .
ثانيا: من صفات الداعية: مكافأة المحسن وتشجيعه على إحسانه: دل فعل عمر رضي الله عنه وقوله: " أم سليط أحق به، كانت تزفر لنا القرب يوم أحد " على أنه ينبغي تشجيع الأبطال ومكافأتهم على إحسانهم، فقد آثر عمر امرأة عربية على حفيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها عملت لصالح الأمة ما لم تعمله زوجة أمير المؤمنين وتقدمها بالإِسلام والنصرة والتأييد (3) .
ثالثا: أهمية الشورى مع الإمام أو العلماء والدعاة: ظهر في هذا الحديث أهمية المشورة بالرأي على الإمام، وذلك لأجل النصيحة له، كالوزير الصالح والكاتب المخلص، والعالم أو الداعية الصادق، وغيرهم ممن يستنير الإِمام برأيهم (4) ؛ ولهذا قال بعض من عند عمر رضي الله عنه: " يا أمير المؤمنين، أعط هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك، يريدون أمَّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه ".
رابعا: أهمية مشاركة النساء في الجهاد بالخدمة والعلاج عند الحاجة: دل الحديث على أهمية اشتراك النساء في الجهاد عند الحاجة بحسب طاقتهن: من خدمة المجاهدين ومداواة الجرحى، وسقي العطشى، والدفاع
_________
(1) الإفصاح عن معاني الصحاح، 1 / 185، وانظر. المنهل العذب الفرات لعبد العال 3 / 223.
(2) انظر: الحديث رقم 60، الدرس الثاني.
(3) انظر: عمدة القاري للعيني، 14 / 168، والمنهل العذب الفرات من الأحاديث الأمهات، لعبد العال 3 / 223.
(4) انظر: عمدة القاري للعيني، 14 / 68، والمنهل العذب الفرات في الأحاديث الأمهات 3 / 223.(1/392)
عن أنفسهن، مع التزام الأمور الشرعية في الحجاب، وعدم الخلوة بغير المحرم، وغير ذلك (1) والله المستعان (2) .
خامسا: من صفات الداعية: وضع كل شيء في موضعه: دل هذا الحديث على أن من الصفات التي تدل على حكمة الداعية وإصابته: وضع كل شيء في موضعه؛ ولهذا قسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه المروط على النساء دون الرجال؛ لأن هذه المروط تختص بالنساء، قال الوزير العالم ابن هبيرة رحمه الله: " وفيه من الفقه أن عمر قسم ما يصلح للنساء في النساء " (3) .
[باب مداواة النساء الجرحى في الغزو]
[حديث الربيع بنت معوذ كنا مع النبي نسقي ونداوي الجرحى ونرد القتلى] إلى المدينة
_________
(1) انظر: عمدة القاري للعيني، 14 / 168، والمنهل العذب الفرات في الأحاديث الأمهات، لعبد العال 3 / 223.
(2) انظر: الحديث رقم 63، الدرس السادس.
(3) الإفصاح عن معاني الصحاح، 1 / 185.(1/393)
67 - بَاب مداواةِ النِّساءِ الجرحى في الغزوِ 65 [ص:2882] حَدَّثَنَا عَليّ بْن عبد الله: حَدَّثَنَا بِشْر بْن الْمفَضَّلِ: حَدَّثَنَا خَالِد بْن ذَكْوَانَ عَنِ الرّبيِّع بِنْتِ معَوِّذٍ (1) قَالَتْ: «كنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَسْقِي، وَندَاوِي الْجَرْحَى، وَنَردّ الْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ» (2) .
وفي رواية: «كنَّا نَغْزو مَعَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم: نَسْقِي الْقَوْمَ، وَنَخْدمهمْ، وَنَردّ الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى إِلَى الْمَدِينَةِ» (3) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - مشاركة النساء في الجهاد بالخدمة والعلاج عند الحاجة.
2 - الابتلاء والامتحان.
والحديث عن هذين الدرسين والفائدتين الدعويتين على النحو الآتي:
أولا: مشاركة النساء في الجهاد بالخدمة والعلاج عند الحاجة: قال الكرماني رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفيه خروج النساء في الغزو، والانتفاع بهن بالسقي ونحوه، وإن كان المداواة لغير المحارم لا تمس البشرة إلا عند الحاجة " (4) وقال ابن حجر رحمه الله: ". . . فتجوز مداواة الأجانب عند الضرورة، وتقدر بقدرها، فيما يتعلق بالنظر، والجس باليد وغير ذلك " (5)
_________
(1) الرّبَيِّع بنت معَوِّذ بن عفراء الأنصارية، الصحابية رضي الله عنها، وهي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة بيعة الرضوان، وأبوها معوذ أحد الذين قتلوا أبا جهل بن هشام عدو الله يوم بدر، وقد زارها النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة عرسها صلة لرحمها، وقد عمرت، وروت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفيت في خلافة عبد الملك سنة بضع وسبعين رضي الله عنها. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 343، وسير أعلام النبلاء للذهبي 3 / 198، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 4 / 300.
(2) [الحديث 2882] طرفاه في: كتاب الجهاد والسير، باب رد النساء الجرحى والقتلى، 3 / 293، برقم 2883. وكتاب الطب، باب هل يداوي الرجل المرأة، والمرأة الرجل؟ ، 7 / 15، برقم 5679.
(3) الطرف رقم 5679.
(4) شرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 154.
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 10 / 136.(1/394)
ثم ذكر رحمه الله أن الرجل لا يغسل المرأة إذا ماتت، والفرق بين حال المداواة وتغسيل الميت: أن الغسل عبادة، والمداواة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات (1) .
وسمعت سماحة الشيخ ابن باز حفظه الله يقول: " يحتمل أن يكون ذلك قبل الحجاب، وإذا كان بعد الحجاب فعلى وجه لا محذور فيه، من التزام الحجاب، وعدم الخلوة، والنصوص يفسر بعضها بعضا، فيستعان بالنساء عند الحاجة من غير خلوة " (2) .
ثانيا: الابتلاء والامتحان: دل الحديث على ما أصاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الابتلاء والامتحان رضي الله عنهم؛ ولهذا قالت الربيع رضي الله عنها: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة ".
وفي هذا دلالة على ما أصابهم من الجهد والبلاء فصبروا في ذات الله تعالى رضي الله عنهم وأرضاهم (3) .
_________
(1) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 80.
(2) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 2882 من صحيح البخاري، في جامع الإمام تركي بن عبد الله (الجامع الكبير) .
(3) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 16، الدرس الخامس.(1/395)
[باب نزع السهم من البدن]
[حديث اللهم اغفر لعبيد أبي عامر]
69 - باب نَزْعِ السَّهْمِ مِنَ البدَنِ 66 [ص:2884] حَدَّثَنَا محَمَّد بْن الْعَلاَءِ: حَدَّثَنَا أَبو أسَامَةَ، عَنْ بريْدِ بْنِ عبد الله، عَنْ أَبِي برْدَة عَنْ أَبِي موسَى (1) رضي الله عنه قَالَ: «رمِيَ أَبو عَامِرٍ (2) فِي ركْبَتِهِ فانْتَهَيْت إِليْهِ، قَالَ: انْزَعْ هَذَا السَّهْمَ، فَنَزَعْته، فَنَزَا مِنْه الْمَاء، فَدَخَلْت عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فأَخْبَرته فَقَالَ: " اللَّهمَّ اغْفِرْ لِعبيدٍ أَبِي عَامِر» (3) .
وفي رواية: «لَمَّا فَرَغَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم منْ حنَيْنٍ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إِلَى أوْطَاسٍ، فلَقِيَ درَيْدَ بنَ الصِّمَّةِ فَقتِلَ درَيد وَهَزَمَ الله أصْحَابَه، قَالَ أَبو موسَى: وَبَعَثَنِي مَعَ أَبِي عَامِرٍ فَرمِيَ أَبو عَامِرٍ فِي ركْبَتِهِ، رَمَاه جشَمِيّ بِسَهْمٍ فَأَثْبَتَه فِي ركْبَتِهِ فَانْتَهَيْت إِلَيْهِ فَقلْت: يَا عَمِّ مَنْ رَمَاكَ؛ فَأَشَارَ إِلَى أَبِي موسَى، فَقَالَ: ذَاكَ قَاتِلِي الَّذِي رَمَانِي، فَقَصَدْت لَه فَلَحِقْته، فَلَمَّا رَآنِي وَلَّى فَاتَّبَعْته وَجَعَلْت أَقول لَه: ألَا تَسْتَحي؟ ألَا تَثْبت؟ فَكَفَّ فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ بِالسَّيْفِ فَقَتَلْته، ثمَّ قلْت لأَبِي
_________
(1) عبد الله بن قيس بن سليم، بن حضّار، بن حرب، الإِمام الكبير، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو موسى الأشعري التيمي، الفقيه المقرئ. قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هجرته إلى المدينة فأسلم، ثم هاجر إلى الحبشة، ثم هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحاب السفينتين بعد فتح خيبر، فأسهم لهم منها ولم يسهم منها لأحد غاب عن فتحها غيرهم، ولأبي موسى مع حسن صوته فضيلة ليست لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هاجر ثلاث هجرات: هجرة من اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهجرة من مكة إلى الحبشة، وهجرة من الحبشة إلى المدينة، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على زبيد، وعدن، وساحل اليمن، واستعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الكوفة، والبصرة، وكان حسن الصوت بالقرآن قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد أعطي مزمارا من مزامير آل داود " [مسلم برقم 793] قدم الأشعريون من اليمن فلما قدموا تصافحوا، فكانوا أول من أحدث المصافحة. [مسند أحمد 3 / 155، 223] روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وستون حديثا، اتفق البخاري ومسلم على خمسين، وانفرد البخاري بخمسة عشر، ومسلم بخمسة عشر، توفي بمكة وقيل بالكوفة سنة خمسين، وقيل سنة إحدى وخمسين، وقيل سنة أربع وأربعين ورجح الذهبي هذا القول. رضي الله عن أبي موسى ورحمه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 268، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 2 / 380 - 402، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 359.
(2) أبو عامر واسمه: عبيد بن سليم بن حضار عم أبي موسى الأشعري، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش إلى أوطاس بعد معركة حنين، فقتل رضي الله عنه. انظر: الإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 4 / 123.
(3) [الحديث 2884] طرفاه في: كتاب المغازي، باب غزاة أوطاس، 5 / 119، برقم 4323. وكتاب الدعوات، باب الدعاء عند الوضوء، 7 / 209، برقم 6383. وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين رضي الله عنهما، 4 / 1943، برقم 2498.(1/396)
عَامِرٍ: قَتَلَ الله صَاحِبَكَ، قَالَ فَانزع هَذَا السَّهْمَ، فَنَزَعْته فَنَزَا مِنْه الْمَاء، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أَقْرِئ النَّبِيَّ السَّلاَمَ وِقلْ لَه استَغْفِرْ لِي، واسْتَخْلَفَنِي أَبو عَامِرٍ عَلَى النَّاسِ فَمَكَثَ يَسِيرا ثمَ مَاتَ، فرَجَعْت فَدَخَلْت عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ عَلَى سَرِيرٍ مرْمَلٍ وَعَلَيهِ فِرَاش قَدْ أثَّر رِمَال السَّرِيرِ فِي ظَهْرٍهِ وَجَنبيْهِ، فَأَخْبَرْته بِخَبَرِنَا وَخَبَرِ أَبِي عَامِرٍ وَقَال: قل لَه اسْتَغْفِرْ لِي فَدَعَا بِمَاءٍ فتَوَضَّأَ ثمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: " اللَّهمَّ اغْفر لِعبيدٍ أَبِي عَامِرٍ " وَرَأَيْت بياضَ إبْطَيْهِ ثمَّ قَالَ: " اللَّهمَّ اجْعَلْه يَوْمَ الْقيَامَةِ فَوْقَ كَثيرٍ مِنْ خَلْقِكَ مِنَ النَّاسِ " فَقلْت وَلي فَاسْتَغْفِرْ، فَقَالَ: " اللَّهمَّ اغْفر لِعَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَه، وَأَدْخِلْه يَوْمَ الْقِيَامَةِ مدْخَلا كَرِيْما " قَالَ أَبو برْدَةَ: إحْدَاهمَا لأَبِي عَامِرٍ وَالأخْرَى لأَبِي موسَى (1) » .
* شرح غريب الحديث: * " فنزا منه الماء " يقال: نزِف دمه، ونزِيَ: إذا جرى ولم ينقطع (2) .
* " سرير مرمَل " أي منسوج في وجه السرير بالسعف (3) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - الابتلاء والامتحان للدعاة إلى الله عز وجل.
2 - من صفة الداعية: التعاون على البر والتقوى.
3 - من وسائل الدعوة: إرسال الدعاة والمجاهدين في سبيل الله عز وجل.
4 - من صفات الداعية: الشجاعة.
5 - حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
6 - من أساليب الدعوة: التبشير والتهنئة.
_________
(1) الطرف رقم: 4323.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر، باب النون مع الزاي، مادة " نزا " 5 / 43.
(3) انظر: المرجع السابق، باب الراء مع الميم، مادة " رمل " 2 / 265، وتفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 80.(1/397)
7 - من صفات الداعية: الزهد.
8 - من صفات الداعية: التواضع.
9 - من صفات الداعية: الرحمة.
10 - من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله عز وجل.
11 - من أصناف المدعوين: المشركون.
12 - من أساليب الدعوة: الدعاء للمدعو.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: الابتلاء والامتحان للدعاة إلى الله عز وجل: دل هذا الحديث على أن من سنن الله تعالى ابتلاء عباده المؤمنين بالسراء والضراء، ومن هذا الابتلاء ما حصل لأبي عامر رضي الله عنه من رميه بالسهم ثم موته شهيدا رضي الله عنه بعد ابتلائه وصبره؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة» (1) . وقال صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السّخْط» (2) ؛ قال الله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] (3) وقال عز وجل: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] (4) وقال سبحانه وتعالى: {الم - أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ - وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3] (5) .
_________
(1) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، 4 / 601، برقم 2398 وقال: " هذا حديث حسن صحيح "، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، 2 / 1334، برقم 403، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 143.
(2) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، 4 / 601، برقم 2396 وحسنه، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، 2 / 1338، برقم 4031، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي 2 / 286.
(3) سورة البقرة، الآية: 214.
(4) سورة آل عمران، الآية: 179.
(5) سورة العنكبوت، الآيات: 1-3.(1/398)
ثانيا: من صفات الداعية: التعاون على البر والتقوى: ظهرت هذه الصفة الحميدة في هذا الحديث؛ لأن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، جاء إلى أبي عامر فقال: يا عمِّ من رماك؟ فأشار أبو عامر إلى قاتله, وقال: ذاك قاتلي الذي رماني، قال أبو موسى الأشعري: فقصدت له فلحقته, فلما رآني ولَّى فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألا تثبت؟ وعند ذلك وقف ثم قاتله أبو موسى حتى قتله.
فينبغي للداعية أن يكون متعاونا على البر والتقوى كما قال عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] (1) .
ثالثا: من وسائل الدعوة: إرسال الدعاة والمجاهدين في سبيل الله عز وجل: دل هذا الحديث على أن من الوسائل النافعة إرسال الدعاة والمجاهدين في سبيل الله عز وجل، للدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عامر على جيش إلى أوطاس ومعهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وهذه سنته صلى الله عليه وسلم أن يرسل السرايا ويبعث البعوث؛ وقد ذكر أهل العلم أنه بعث منذ هجرته حتى وفاته صلى الله عليه وسلم: ستا وخمسين سرية، وغزا سبعا وعشرين غزوة، قاتل في تسع منها؛ وما ذاك إلا من أجل الدعوة إلى الله عز وجل (2) .
رابعا: من صفات الداعية: الشجاعة: ظهرت صفة الشجاعة في هذا الحديث، وذلك بما قام به أبو موسى
_________
(1) سورة المائدة، الآية: 2.
(2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 436، والبداية والنهاية لابن كثير، 3 / 241، 5 / 216- 217، وزاد المعاد لابن القيم 3 / 5، 122- 592.(1/399)
الأشعري رضي الله عنه، من قتال من قتل أبا عامر حتى قتله، وقد ظهرت حكمته وبراعته في القتال حيث قال له: " ألا تستحي؟ ألا تثبت؟ " حتى وقف له خجلا من عار الفرار، قال أبو موسى رضي الله عنه: " فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته ".
فينبغي للداعية أن يتحلى بالشجاعة والثبات (1) .
خامسا: حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دل هذا الحديث على عظم حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال أبو عامر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: " يا ابن أخي أقرئ النبي السلام وقل له استغفر لي ".
وهذا يدل على محبته العظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وهو يلفظ أنفاسه عند نزع الموت لروحه. فينبغي لكل مسلم أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة كاملة صادقة (2) .
سادسا: من أساليب الدعوة: التبشير والتهنئة: وقد ظهر هذا الأسلوب في هذا الحديث؛ لأن أبا موسى بَشَّرَ أبا عامر وأعلمه أنه قتل من رماه بالسهم فقال: " قتل الله صاحبك " وهذا يدل أيضا على حسن الأدب، فإنه أسند الأمر إلى الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه الذي أعانه على قتله.
فينبغي للدعاة إلى الله عز وجل أن يعرفوا أهمية التهنئة والتبشير، وأن يلتزموا الآداب الحسنة (3) .
سابعا: من صفات الداعية: الزهد: إن الزهد من أهم صفات الداعية، وقد ظهر في هذا الحديث من فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين نام على السرير المرمل حتى أثَّرَ في جنبيه، قال أبو موسى رضي الله عنه: " فرجعت فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته على سرير مرمل. . . قد أثَّر رمال السرير في ظهره وجنبيه ".
_________
(1) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الخامس، ورقم 61، الدرس الثاني.
(2) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثامن، ورقم 63، الدرس الثامن.
(3) انظر: الحديث رقم 9، الدرس التاسع.(1/400)
فينبغي للداعية أن ينظر إلى هذا الزهد العظيم، فيعلم أن الدنيا دار ممر ومتاع زائل (1) .
ثامنا: من صفات الداعية: التواضع: التواضع من أجمل الصفات وأحسنها وقدوة الداعية في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دل هذا الحديث على ذلك حينما وصل الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بموت أبي عامر شهيدا وطلبه رضي الله عنه الاستغفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بماءٍ فتوضأ ثم رفع يديه فدعا لأبي عامر دعوات عظيمة. فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يتصف بالتواضع اتباعا لسيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم (2) .
تاسعا: من صفات الداعية: الرحمة: ظهرت صفة الرحمة في هذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأبي عامر بقوله: «اللهم اغفر لعبيد أبي عامر» ورفع يديه في الدعاء حتى رأى أبو موسى رضي الله عنه بياض إبطيه ثم قال: «اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس» فالمبالغة في رفع الأيدي (3) .
وتكرير الدعاء وتنويعه يدل على رحمته صلى الله عليه وسلم (4) .
عاشرا: من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله عز وجل: إن من أجل الأعمال الصالحة وأجمل الصفات الحميدة: الرغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى، وقد ظهرت هذه الصفة الكريمة في طلب أبي عامر الاستغفار له من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت هذه الرغبة أيضا عند أبي موسى رضي الله عنه عندما سمع استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي عامر، فقال: " ولي فاستغفر " فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما» .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الأول، ورقم 15، الدرس الأول.
(2) انظر: الحديث رقم 65، الدرس الثالث.
(3) انظر: مواطن رفع الأيدي في الدعاء: صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب رفع الأيدي في الدعاء، 7 / 198، وكتاب رفع اليدين في الصلاة، للإمام البخاري أيضا، ص 17- 161.
(4) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الأول، ورقم 50، الدرس الرابع.(1/401)
فينبغي لكل مسلم أن يرغب ويطمع في رحمة الله وفيما عنده من الخيرات (1) .
الحادي عشر: من أصناف المدعوين: المشركون: دل هذا الحديث على أن من أصناف المدعوين أهل الشرك، ولهذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا عامر على جيش إلى أوطاس، وقبل ذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي مكة، وقاتلهم في معركة بدر، وأحد، وغير ذلك من سراياه وبعوثه التي أرسل بها وبعثها صلى الله عليه وسلم إلى أهل الشرك؛ لدعوتهم إلى التوحيد الخالص (2) .
الثاني عشر: من أساليب الدعوة: الدعاء للمدعو: إن من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله عز وجل: الدعاء للمدعو؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري: «اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما» ، وهذا يؤكد أهمية الدعاء للمدعو؛ لما فيه من تأليف القلوب ونفع المدعوين (3) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 13، الدرس الثاني، ورقم 16، الدرس الثالث، ورقم 21، الدرس السادس، ورقم 28، الدرس الثالث.
(2) انظر: الحديث رقم 91، الدرس الثامن.
(3) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الخامس، ورقم 45، الدرس الثامن.(1/402)
[باب الحراسة في الغزو في سبيل لله]
[حديث ليت رجلا من أصحابي صالحا يحرسني الليلة]
70 - باب الحراسة في الغزو في سبيل لله 67 [ص:2885] حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن خَلِيلٍ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن مسْهِرٍ: أَخْبَرَنَا يحيى بْن سَعِيدٍ: أَخْبَرَنَا عبد الله بْن عَامرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: سَمِعْت عَائِشَةَ (1) . رضي الله عنها تَقول: «كانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم سَهِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَالَ: " ليت رَجلا مِن أَصْحَابِي صَالِحا يَحْرسنِي اللَّيلةَ "، إِذْ سَمعْنَا صَوتَ سِلاح، فَقَالَ: " مَنْ هَذَا؟ " فَقَالَ: أنا سَعْد بْن أَبِي وقَاصٍ (2) جِئْت لأَحرسَكَ: " فَنَامَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم» (3) .
وفي رواية: «أَرِقَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: " لَيْتَ رَجلا صَالِحا مِنْ أَصْحَابِي يَحرسنِي اللَّيْلَةَ "، إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ السِّلاحِ، قَالَ: " مَنْ هَذَا؟ " قِيلَ: سَعْد يَا رَسولَ اللهِ، جِئْت أَحْرسكَ ". فَنَامَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى سمعنا غَطِيطَه، قَالَ أَبو عبد الله: وَقَالَتْ عَائِشَة قَالَ بلال: ألا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَة بَوادٍ وَحَوْلِي إِذْخِر وَجَلِيل، فَأَخْبَرْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم» (4) .
* شرح غريب الحديث: * " غطيطه " الغطيط: الصوت الذي يخرج مع نفس النائم (5) .
* " إذخر " الإذخر حشيشة طيبة الرائحة تسقف بها البيوت فوق الخشب (6) .
* " وجليل " الجليل: الثمام واحده جليلة، وقيل: هو الثمام إذا عظم وجل (7) .
_________
(1) تقدمت ترجمتها في الحديث رقم 4.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 36.
(3) [الحديث 2885] طرفه في كتاب التمني، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ليت كذا وكذا " 8 / 164، برقم 7231. وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، 4 / 1875، برقم 2410.
(4) من الطرف رقم 7231 أما قول عائشة رضي الله عنها قال بلال: ألا ليت. . فقال الحافظ ابن حجر: " هذا حديث آخر تقدم موصولا بتمامه. " قلت: أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، 2 / 318، برقم 3926.
(5) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الغين مع الطاء، مادة: " غطط " 3 / 372، وانظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي 544.
(6) النهاية في غريب الحديث والأثر، باب الهمزة مع الذال، مادة: " إذخر " 1 / 33.
(7) المرجع السابق، باب الجيم مع اللام، مادة: " جلل " 1 / 289.(1/403)
* " أرق " الأرق: السهر، يقال: رجل أرق إذا سهر لعلة، فإن كان السهر من عادته قيل: أرق (1) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل.
2 - الابتلاء والامتحان لأولياء الله عز وجل.
3 - حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 - من وظائف المدعو الصالح: حراسة السلطان المسلم والعالم العامل بعلمه.
5 - أهمية اختيار الرجل الصالح للأمور المهمة.
6 - من أساليب الدعوة: الثناء على من تبرع بالخير.
7 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: دل الحديث على أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله عز وجل، ولهذا قال أعظم وسيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم: «ليت رجلا من أصحابي صالحا يحرسني الليلة» ، قال الإِمام النووي رحمه الله: " فيه جواز الاحتراس من العدو، والأخذ بالحزم، وترك الإِهمال، في موضع الحاجة إلى الاحتياط " (2) . وقد قال بعض العلماء: كانت حراسة النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر قبل أن ينزل عليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] (3) ومعلوم أن هذه الآية نزلت بعد حراسة سعد بأزمان (4) وقال الإِمام القرطبي رحمه الله: " ويحتمل أن
_________
(1) انظر: المرجع السابق، باب الهمزة مع الراء، مادة: " أرق " 1 / 40، وتفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 544.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم، 15 / 191.
(3) سورة المائدة، الآية: 67.
(4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 15 / 191.(1/404)
يقال: إن قول الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] ليس فيه ما ينافي احتراسه من الناس، ولا ما يمنعه، كما أن إخبار الله تعالى عن نصره وإظهاره لدينه، ليس فيه ما يمنع الأمر بالقتال، وإعداد العَدَد والعدَد، والأخذ بالجد والحزم، والحذر. . . ولما بحثت عن ذلك وجدت الشريعة طافحة بالأمر له ولغيره بالتحصن، وأخذ الحذر، ومدافعتهم بالقتل، والقتال، وإعداد الأسلحة، والآلات، وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأخذ به، فلا تعارض في ذلك، والله الموفق المفهم ما هنالك " (1) . وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله بعد أن ساق كلام القرطبي هذا: " وعلى هذا فالمراد العصمة من الفتنة والإِضلال، أو إزهاق الروح والله أعلم " (2) .
فينبغي لكل مسلم أن يعتمد بقلبه على الله عز وجل ويعمل بالأسباب النافعة (3) .
ثانيا: الابتلاء والامتحان لأولياء الله عز وجل: دل هذا الحديث على أن الابتلاء سنة من سنن الله عز وجل، فهو يبتلي عباده بالسراء والضراء، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصاب بالسهر حتى حرسه سعد رضي الله عنه. فينبغي للعبد إذا أصابه البلاء أن يصبر ويسأل الله عز وجل العافية في الدنيا والآخرة (4) .
ثالثا: حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ظهر في هذا الحديث عظم حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذه المحبة العظيمة جاء سعد في الليل، ليفدي بنفسه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وليسهر عينيه وينام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فينبغي لكل مسلم أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من حبه ولده، ووالده، ونفسه والناس أجمعين (5) .
_________
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 6 / 280 بتصرف يسير جدا.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 62.
(3) انظر: الحديث رقم 30، الدرس الخامس.
(4) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثامن، ورقم 66، الدرس الأول.
(5) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثامن، ورقم 63، الدرس الثامن.(1/405)
رابعا: من وظائف المدعو الصالح: حراسة السلطان المسلم والعالم العامل بعلمه: لا شك أنه ينبغي للناس أن يعتنوا بحراسة السلطان المسلم والعالم العامل بعلمه النافع للناس؛ ولهذا حرس سعد رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث الأخذ بالحذر والاحتراس من العدو، وأن على الناس أن يحرسوا سلطانهم خشية القتل " (1) .
خامسا: أهمية اختيار الرجل الصالح للأمور المهمة: دل الحديث على أنه ينبغي أن يختار الرجل الصالح للأمور المهمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليت رجلا من أصحابي صالحا يحرسني الليلة» ، قال الإِمام القرطبي رحمه الله في ذكره لفوائد هذا الحديث: " فيه دليل على مكانة نبينا صلى الله عليه وسلم وكرامته على الله؛ فإنه قضى أمنيته وحقق في الحين طلبته، وفيه دليل على أن سعدا رضي الله عنه من عباد الله الصالحين، المحدَّثين، الملهمين، وتخصيصه بهذه الحالة كلها وبدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له من أعظم الفضائل وأشرف المناقب " (2) .
فينبغي لأهل الحل والعقد من ولاة أمر المسلمين أن يسندوا جميع الأعمال المهمة العظيمة لأهل الصلاح والتقوى.
سادسا: من أساليب الدعوة: الثناء على من تبرع بالخير: إن من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل الثناء على من تبرع بالخير، وتسميته صالحا، دل على ذلك ثناء النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاح على من يحرسه؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه الثناء على من تبرع بالخير وتسميته صالحا " (3) . وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يَشْكر اللهَ من لا يشكر النَّاسَ» (4) .
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 82.
(2) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 6 / 280.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 82.
(4) أبو داود، كتاب الأدب، باب في شكر المعروف 4 / 255، برقم 4811، والترمذي بنحوه، كتاب البر والصلة باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك 4 / 339، برقم 1954، ولفظه: " من لا يشكر الناس لا يشكر الله "، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأحمد 2 / 295، 5 / 211، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 3 / 913، وصحيح الترغيب والترهيب، 1 / 405.(1/406)
فينبغي الثناء على من فعل خيرا إذا أمن من الفتنة والإعجاب، والله المستعان.
سابعا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: دل مفهوم الحديث على أن القدوة الحسنة وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل، فاتخاذه صلى الله عليه وسلم حارسا يحرسه يدل على أن من فعل ذلك عند الحاجة اقتداء به صلى الله عليه وسلم فقد عمل أمرا مشروعا؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وإنما عانى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع قوة توكله للاستنان به في ذلك، وقد ظاهر بين درعين مع أنهم كانوا إذا اشتدَّ البأس كان أمام الكل، وأيضا فالتوكل لا ينافي تعاطي الأسباب؛ لأن التوكل عمل القلب، وهي عمل البدن " (1) .
فينبغي الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، وأن يكون الداعية أيضا قدوة لغيره من الناس (2) .
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 82.
(2) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث، ورقم 8، الدرس الخامس.(1/407)
[حديث تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة]
68 [ص:2886] حَدَثَّنَا يَحْيَى بْن يوسفَ: أَخْبَرَنَا أَبو بَكْرٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عن أَبِي هرَيْرَةَ (1) رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تَعِسَ عَبْد الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَم، وَالْقَطِيفَةِ، وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أعْطِيَ رَضِيَ وَإِن لَمْ يعْطَ لَمْ يرضَ» لَمْ يَرْفَعْه إِسْرَائِيل وَمحَمَّد بْن جحَادَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ (2) .
وفي رواية: «تَعِسَ عَبْد الدِّينَارِ، وَعَبْد الدِّرْهَم، وَعَبْد الخَمِيصَةِ: إِن أعْطِيَ رضِيَ وَإِنْ لَم يعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانتكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انتقَشَ. طوبَى لِعَبْدٍ آخذٍ بِعَنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَشْعَثَ رَأْسه مغْبَرَّةٍ قَدَمَاه، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ. إِن اسْتَأذَنَ لَمْ يؤْذَنْ لَه، وإِنْ شَفَعَ لَمْ يشَفَّعْ» .
قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ: لَمْ يَرْفَعْه إِسْرَائِيل وَمحَمَّد بْن جحَادَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ. وَقَالَ: " تَعْسا "، فَكأَنه يَقول: فَأَتْعَسَهم الله. " طوبَى ": فعْلى مِنْ كلِّ شَيْءٍ طَيِّبٍ وَهِيَ يَاء حوِّلَتْ إِلَى الْوَاوِ وَهِيَ مِنْ يَطِيب (3) .
* شرح غريب الحديث: * " تعس " أي سقط وعثر وانكب لوجهه (4) .
* " القطيفة " هي كساء له خمْل، أي انكب لوجهه الذي يعمل لها ويهتمّ بتحصيلها (5) .
* " الخميصة " وهي ثوب معلم من خزٍ أو صوف، وقيل: لا تسمى خميصة
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 7.
(2) [الحديث 2886] طرفاه في كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله 3 / 293، 294، برقم 2887. وكتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال، 7 / 224، برقم 6435.
(3) الطرف رقم 2887.
(4) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 530، 532، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب التاء مع العين مادة: " تعس " 1 / 190.
(5) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع الطاء مادة: " قطف " 4 / 84.(1/408)
إلا أن تكون سوداء معلَّمة، وكانت من لباس الناس قديما، وجمعها الخمائص (1) .
* " انتكس " أي انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة؛ لأن من انتكس في أمره فقد خاب وخسر (2) .
* " وإذا شيك فلا انتقش " أي إذا دخلت فيه الشوكة لا أخرجها من موضعها وبه سمّي المنقاش الذي ينقش به (3) .
* " طوبى " طوبى اسم الجنة، وقيل: شجرة فيها (4) .
* " بعنان فرسه " العنان: سير اللجام الذي تمسك به الدابة (5) .
* " الساقة " جمع سائق وهم الذين يسوقون بجيش الغزاة ويكونون من ورائه يحفظونه (6) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: التحذير من إرادة الدنيا دون الآخرة.
2 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
3 - من صفات الداعية: القناعة.
4 - من صفات الداعية: الإِخلاص.
5 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
6 - من صفات الداعية: الزهد.
7 - من صفات الداعية: إتقان العمل.
_________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الخاء مع الميم، مادة: " خمص " 2 / 81.
(2) انظر: المرجع السابق، باب النون مع الكاف، مادة: " نكس " 5 / 115.
(3) المرجع السابق، باب النون مع القاف، مادة " نقش " 5 / 106.
(4) المرجع السابق، باب الطاء مع الواو، مادة: " طوب " 3 / 141.
(5) انظر: المرجع السابق، باب العين مع النون، مادة: " عنن " 3 / 313، وانظر: المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية ص 633.
(6) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع الواو مادة: " سوق " 2 / 424.(1/409)
8 - من صفات الداعية: التواضع.
9 - من أساليب الدعوة: التشبيه.
10 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار.
11 - من أساليب الدعوة: تعظيم الأمر.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: التحذير من إرادة الدنيا دون الآخرة: إن من موضوعات الدعوة تحذير الناس من إرادة الدنيا وإيثارها على الآخرة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار» . . "، وقد حذر الله عز وجل من ذلك فقال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18] (1) .
فينبغي للداعية أن يبين للناس خطر إرادة الدنيا ويحذرهم من ذلك؛ لأن إرادة الدنيا والعمل لأجلها شرك ينافي كمال التوحيد الواجب ويحبط العمل، وإرادة الدنيا أعظم من الرياء؛ لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل ولا يسترسل معه، والمؤمن يكون حذرا من هذا وهذا (2) .
فمن كانت الدنيا هَمّه وطلبه، ولها يعمل، ولها يسعى، وإياها يبتغي، ولا يرجو ثوابا من ربه، ولا يخاف عقابا على عمله، عجَّل له فيها ما يشاء وما له في الآخرة من نصيب (3) ؛ قال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] (4) .
وهذه حال من عبد المال، وقدَّمَ الاهتمام به على أمور الآخرة، ورضي من
_________
(1) سورة الإسراء، الآية: 18.
(2) انظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، لعبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب 2 / 626.
(3) انظر: تفسير الطبري: " جامع البيان عن تأويل آي القرآن " 17 / 409.
(4) سورة الشورى، الآية: 20.(1/410)
أجْلِهِ وسخط من أَجْلِهِ؛ قال الله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] (1) .
فرضاهم لغير الله، وسخطهم لغير الله، وهكذا حال من كان متعلقا برئاسة أو بغير ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له؛ لأن الرق والعبودية في الحقيقة رق القلب وعبوديته، فما استرقَّ القلب واستعبده فهو عبده؛ لأن العبد حرّ ما قَنِعَ، والحر عبد ما طَمِعَ، وطالب المال الذي لا يريد إلا المال يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان: منها ما يحتاجه العبد: من طعامه، وشرابه، ومسكنه، ومنكحه، ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه مع بذل الأسباب، ويكون المال عنده يستعمله في حاجاته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده، ومنها ما لا يحتاج العبد إليه، فهذه ينبغي أن لا يعلق قلبه بها (2) .
ثانيا: من أساليب الدعوة: الترهيب: لا شك أن أسلوب الترهيب من أساليب الدعوة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة» فدعا عليه صلى الله عليه وسلم بأن يسقط وينكب على وجهه، وكرر ذلك بقوله: «تعس وانتكس» وهذا دعاء عليه بأن ينقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة والخسارة، ثم قال: «وإذا شيك فلا انتقش» وفي الدعاء بذلك إشارة إلى عكس مقصوده؛ لأن من عثر فدخلت في رجله الشوكة فلم يجد من يخرجها يصير عاجزا عن الحركة والسعي في تحصيل الدنيا (3) قال ابن حجر رحمه الله: " وسوغ الدعاء عليه لكونه قصر عمله على جمع الدنيا، واشتغل بها عما أمر به من التشاغل بالواجبات والمندوبات " (4) .
_________
(1) سورة التوبة، الآية: 58.
(2) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية 10 / 180- 190، وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن، 2 / 632.
(3) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح 10 / 3274، وفتح الباري لابن حجر 6 / 83.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 11 / 255.(1/411)
فينبغي للداعية أن يستخدم أسلوب الترهيب في دعوته إلى الله عز وجل (1) .
ثالثا: من صفات الداعية: القناعة: دل الحديث على أن من صفات الداعية القناعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض» ، وهذا يؤذِن في شدة حرصِ طالب الدنيا عليهما وجمعه لأموالها، وطمعه فيما في أيدي الناس (2) أما العبد الصادق مع الله عز وجل فهو يعلم أن الدنيا متاع زائل؛ لقوله عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60] (3) ؛ وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب أحب أن له واديا آخر، ولن يملأ فاه إلا التراب والله يتوب على من تاب» (4) وقال صلى الله عليه وسلم: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب» (5) وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» (6) .
فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يقنع بما أعطاه الله ويذكر دائما قوله صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من أسلم، ورزِق كفافا وقنعه الله بما آتاه» (7) .
رابعا: من صفات الداعية: الإخلاص: ظهر في مفهوم هذا الحديث أن من صفات المسلم الصادق مع الله عز وجل الإِخلاص؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة،
_________
(1) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر.
(2) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح 10 / 3274.
(3) سورة القصص، الآية: 60.
(4) متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه: البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال إِنَّمَا أَمْوَالكمْ وَأَوْلَادكمْ فِتْنَة 7 / 225 برقم 6438، ومسلم كتاب الزكاة، باب " لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثا " 2 / 725، برقم 1048.
(5) متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال، 7 / 224 برقم 6436، ومسلم، كتاب الزكاة، باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثا 2 / 725، برقم 1049.
(6) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب الرقاق، باب الغنى غنى النفس 7 / 228 برقم 6446، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ليس الغنى عن كثرة العرض، 2 / 726، برقم 1051.
(7) مسلم، 2 / 730، برقم 1054، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 15، الدرس الأول، ص 144.(1/412)
إن أعطي رضي وإن لم يعطَ لم يرضَ» يدل على أن المتحتم على العبد أن يجعل نيته ومقصده لله وحده لا شريك له؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإِيمان» (1) .
فينبغي للعبد المسلم أن يجعل همه طاعة الله ورسوله، يبتغي ثواب الله، ويخشى عقابه، ويطمع في رضاه (2) .
خامسا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «طوبى لعبد اخذ بعنان فرسه في سبيل الله» وهذا فيه ترغيب وحث على العمل بما ينفع المسلم ويعود عليه بالخير، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي قوله صلى الله عليه وسلم: " طوبى " " إشارة إلى الحض على العمل بما يحصل به خير الدنيا والآخرة " (3) فقد دعا صلى الله عليه وسلم بالجنة لمن عمل هذه الأعمال.
فينبغي للداعية أن يرغب المدعوين في كل ما يعود عليهم بالنفع في الدارين (4) .
سادسا: من صفات الداعية: الزهد: إن المسلم الصادق هو الزاهد في الدنيا الذي لا يرغب في رئاستها، ولا حب الشهرة والظهور بدون عمل؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه» فقد انصرف عن حظوظ وخواص نفسه إلى الجهاد وما يقتضيه، حتى إن شعره لم يدهن، وعلى قدميه الغبار (5) .
_________
(1) أبو داود، كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإِيمان ونقصانه، 4 / 220، برقم 4681، عن أبي أمامة رضي الله عنه، والترمذي من حديث أنس رضي الله عنه، في كتاب صفة القيامة، باب: حدثنا عمرو بن علي، 4 / 670، برقم 2521، وحسنه، وزاد فيه: ". . وأنكح لله "، وأحمد في المسند، مثل حديث الترمذي، عن معاذ الجهني رضي الله عنه، 3 / 438، 440 وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 380.
(2) انظر: الحديث رقم 48، الدرس الثالث.
(3) فتح الباري، بشرح صحيح البخاري، 1 / 83.
(4) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر.
(5) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 10 / 3274، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 83، وعمدة القاري، للعيني، 14 / 171، والمنهل العذب الفرات من الأحاديث الأمهات، لعبد العال، 3 / 227.(1/413)
فينبغي أن يكون الداعية زاهدا في الدنيا راغبا فيما عند الله عز وجل (1) .
سابعا: من صفات الداعية: إتقان العمل: إن من الصفات الحميدة: إتقان العمل كما يحبه الله عز وجل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة» أي يكون كاملا في تلك الحالة، فلا يخاف الانقطاع، ولا يهتم بالسبق بل يلازم عمله، وما هو لأجله (2) وهذا يدل على عنايته بما أمر به، وملازمته لعمله وإتقانه له، فإن كان في الحراسة في مقدمة الجيش أتقنها لئلا يهجم عليهم العدو، وإن كان في الساقة في مؤخرة الجيش أقام حيث أقيم لا يفقد من مكانه بحال (3) .
فينبغي للداعية إذا عمل عملا أن يتقنه؛ لأن الله عز وجل يحب ذلك.
ثامنا: من صفات الداعية: التواضع: ظهر في الحديث أن من الصفات الجميلة التواضع؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفّع» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " فيه ترك حب الرئاسة والشهرة، وفضل الخمول والتواضع " (4) فهو إن استأذن لم يؤذن له؛ لعدم ماله وجاهه، وإن شفع في ما يحبه الله ورسوله لم تقبل شفاعته (5) . قال الطيبي رحمه الله: «إن استأذن لم يؤذن له» ، " إشارة إلى عدم التفاته إلى الدنيا وأنهَا بهَا بحيث يعتني بكليته في نفسه: لا يبتغي مالا ولا جاها عند الناس، بل يكَون عند الله وجيها، ولم يقبل الناس شفاعته، وعند الله يكون شفيعا مشفعا " (6) .
وهذا يبين فضل التواضع لله عز وجل (7) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 52، الدرس الأول، ورقم 15، الدرس الأول.
(2) انظر: مرقاة المفاتيح للملا علي القاري 9 / 13.
(3) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح 10 / 3275.
(4) فتح الباري 6 / 83.
(5) انظر: فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد، لعبد الرحمن بن حسن بن عبد الوهاب 2 / 639.
(6) شرح الطيبي على مشكاة المصابيح 10 / 3275، ومرقاة المفاتيح لملا علي القاري 9 / 14، قال صلى الله عليه وسلم: " رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره " صحيح مسلم برقم 2622 و 2854.
(7) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثالث.(1/414)
تاسعا: من أساليب الدعوة: التشبيه: ظهر التشبيه في هذا الحديث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار» ؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " أي طالبه الحريص على جمعه، القائم على حفظه، فكأنه لذلك خادمه وعبده " (1) وقال الطيبي رحمه الله: " خص العبد بالذكر؛ ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا، وشهواتها، كالأسير الذي لا خلاص له عن أسره. ولم يقل: مالك الدنيا أو جامع الدنيا؛ لأن المذموم من الدنيا الزيادة على قدر الحاجة، لا قدر الحاجة " (2) . فقد ظهر في كلامه رحمه الله بيان أسلوب التشبيه (3) .
عاشرا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار: ظهر هذا الأسلوب في قوله صلى الله عليه وسلم: " تعس " ثم في وسط الحديث كرر فقال: " تعس وانتكس " قال العلامة الملا علي القاري رحمه الله: " كرر للتأكيد؛ وليعطف عليه للتشديد " (4) .
وأسلوب التأكيد يوضح المعاني ويحمل القلوب على الفهم والتصديق. فينبغي العناية به في الدعوة إلى الله عز وجل (5) .
الحادي عشر: من أساليب الدعوة: تعظيم الأمر: من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله عز وجل: تعظيم الأمور في نفس المدعو، التي يدعى إليها، أو ينهى عنها، فقوله صلى الله عليه وسلم: «إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " هذا من المواضع التي اتحد فيها الشرط والجزاء لفظا؛ لكن المعنى مختلف، والتقدير: إن كان المهم في الحراسة كان فيها، وقيل: معنى " فهو
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 11 / 254.
(2) شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 10 / 3274.
(3) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الرابع.
(4) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 9 / 12.
(5) انظر: الحديث رقم 4، الدرس الخامس.(1/415)
في الحراسة " أي فهو في ثوب الحراسة، وقيل هو للتعظيم: والمراد منه لازمه: أي فعليه أن يأتي بلوازمه، ويكون مستقلا بخويصة عمله " (1) وقال الطيبي رحمه الله: " تقرر في علم المعاني أن الشرط والجزاء إذا اتحدا دل على فخامة الجزاء وكماله، والشريطتان مؤكدتان للمعنى السابق؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم: «آخذ بعنان فرسه» يدل على اهتمامه بشأن ما هو فيه من المجاهدة في سبيل الله، وليس له هم سواه، لا الدراهم ولا الدنانير، بله (2) نفسه، فتراه أشعث رأسه مغبرة قدماه. فإن كان في الحراسة يبذل جهده فيها لا يفتر عنها بالنوم والغفلة ونحوهما؛ لأنه ترك نصيبه من الراحة والدعة، وإن كان في ساقة الجيش لا يخاف الانقطاع، ولا يهتم إلى السبق، بل يلازم ما هو لأجله، فعلى هذه القرينة إلى آخرها جاءت مقابلة للقرينة الأولى، فدلت الأولى على اهتمام صاحبها بعيش العاجلة، والثانية على اهتمام صاحبها بعيش الآجلة " (3) .
_________
(1) فتح الباري 6 / 83. وانظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري 2 / 156.
(2) بَلهَ: بمعنى دع واترك، تقول: بله زيدا. وقد يوضع موضع المصدر ويضاف، فيقال: بله زيدٍ: أي: تركَ زيد. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الباء مع اللام، مادة: " بله " 1 / 154.
(3) شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 10 / 3275.(1/416)
[باب فضل الخدمة في الغزو]
[حديث جرير رأيت الأنصار يصنعون شيئا لا أجد أحدا منهم إلا أكرمته]
71 - باب فضل الخدمة في الغزو 69 [ص:2888] حَدَّثَنِي محَمَّد بْن عَرْعَرةَ: حَدَّثَنِي شعْبَة، عَنْ يونسَ بْن عبَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ البنانيِّ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ (1) رضي الله عنه قَالَ: " صَحِبْت جَرِيرَ (2) ابْنَ عبد الله فَكَانَ يَخْدمنِي وَهوَ أَكبَر مِنْ أنسٍ. قَالَ جَرِير: إِنِّي رَأَيْت الأنصَارَ يَصْنَعونَ شيئا لاَ أَجِد أَحَدا مِنْهمْ إِلاَّ أَكْرَمْته " (3) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: حسن الصحبة.
2 - من صفات الداعية: التواضع.
3 - محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم.
4 - من أساليب الدعوة: ذكر الصفات الحسنة للمدعوين.
5 - من صفات الداعية: مكافأة المحسن على إحسانه.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: حسن الصحبة: دل هذا الحديث على أن من الصفات الحميدة: حسن الصحبة؛ ولهذا خدم جرير بن عبد الله أنس بن مالك في السفر، وبوَّب بعض شرَّاح صحيح
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 14.
(2) جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك البجلي من أعيان الصحابة رضي الله عنهم، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر من الهجرة في شهر رمضان فبايعه وأسلم، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صنم " خثعم " ذي الخلصة، وكان يسمى الكعبة اليمانية فخربه جرير رضي الله عنه، وكان لا يثبت على الخيل فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا " روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة حديث، اتفق البخاري ومسلم على ثمانية منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بستة. نزل جرير رضي الله عنه الكوفة، ثم تحول إلى قرقيسياء، وتوفي بها سنة إحدى وخمسين، وقيل أربع وخمسين. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 146، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 2 / 530 - 537، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1 / 232.
(3) وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب في حسن صحبة الأنصار رضي الله عنهم، 4 / 1951، برقم 2513.(1/417)
مسلم لهذا الحديث بباب قال فيه: " باب في حسن صحبة الأنصار " (1) وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على حسن الصحبة فقال: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» (2) .
فينبغي للداعية أن يحسن الصحبة لمن صحبه أو كان بجواره في سفر أو حضر؛ لأن خير الناس أنفعهم للناس (3) .
ثانيا: من صفات الداعية: التواضع: دل الحديث على صفة التواضع؛ لما فعله جرير بن عبد الله رضي الله عنه؛ فإنه كان يخدم أنس بن مالك في السفر وأنس أصغر منه؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " في هذا الحديث فضل الأنصار، وفضل جرير، وتواضعه، ومحبته للنبي صلى الله عليه وسلم " (4) . فينبغي للداعية أن يكون متواضعا لله عز وجل (5) .
ثالثا: محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: ظهر في هذا الحديث محبة جرير بن عبد الله للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد بلغ هذا الحب إلى أنه أقسم على نفسه أن يخدم الأنصار إذا صحبهم؛ لأنهم خدموا النبي صلى الله عليه وسلم (6) .
فينبغي للداعية أن يقتدي بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من حب الأهل، والمال، والناس أجمعين (7) .
رابعا: من أساليب الدعوة: ذكر الصفات الحسنة للمدعوين: إن من الأساليب التي يستفيد منها الداعية في دعوته للناس، ذكر الأخلاق
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 16 / 340.
(2) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حق الجوار، 4 / 332، برقم 1944، وصححه الألباني في صحيح الترمذي 2 / 184، والأحاديث الصحيحة برقم 1030.
(3) انظر: مسند الشهاب للقضاعي 1 / 108، برقم 129، تحقيق عبد المجيد السلفي، وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني برقم 426.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 84، وانظر: عمدة القاري للعيني 14 / 173.
(5) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثالث.
(6) انظر: صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب في حق صحبة الأنصار رضي الله عنهم، 16 / 304، برقم 2513.
(7) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثامن، ورقم 63، الدرس الثامن.(1/418)
الجميلة لبعض السلف الصالح، وما كانوا عليه من التقوى والتواضع، والخشية لله عز وجل، ومن هذا الأسلوب ما قاله أنس رضي الله عنه: " صحبت جرير بن عبد الله فكان يخدمني وهو أكبر من أنس "؛ لأن في ذكر هذه الأخلاق ما يفتح قلوب السامعين، ويرغبهم وينشطهم على العمل.
خامسا: من صفات الداعية: مكافأة المحسن على إحسانه: إن من الصفات التي ينبغي أن يتصف بها الداعية إلى الله عز وجل: مكافأة المحسن على إحسانه: بالثناء الحسن، والدعاء الخالص، وبغير ذلك على حسب الحاجة وأحوال الناس، ومن هذا ما فعله أنس رضي الله عنه حيث أثنى على جرير بن عبد الله فقال: " صحبت جرير بن عبد الله فكان يخدمني " ولا شك أن من لم يشكر الناس لا يشكر الله عز وجل (1) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 64، الدرس الثاني.(1/419)
[حديث ذهب المفطرون اليوم بالأجر]
70 [ص:2890] حَدَّثَنَا سلَيْمَان بْن دَاودَ أَبو الرَّبيعِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنَ زَكَرِيَّا: حدَّثَنَا عَاصِم، فَيْ موَرِّقٍ الْعِجْليِّ، عَنْ أَنَسٍ (1) رضي الله عنه قَالَ: «كنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أكثَرنَا ظِلّا الَّذِي مَنْ يَسْتَظِلّ بِكِسَائهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ صَاموا فَلَمْ يَعْمَلوا شيئا، وَأَمَّا الَّذِينَ أَفْطَروا فَبَعَثوا الرِّكَابَ. وامْتَهَنوا وَعَالَجوا، فَقَال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: " ذَهَبَ الْمفْطِرونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ» (2) .
* شرح غريب الحديث: * " فبعثوا الركاب " أثاروا الإبل؛ لخدمتها، وسقيها، وعلفها (3) .
* " وامتهنوا وعالجوا " أي خدموا وزاولوا الخدمة (4) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: حسن الصحبة وخدمة الرفيق في السفر.
2 - من صفات الداعية: التعاون على البر والتقوى.
3 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: حسن الصحبة وخدمة الرفيق في السفر: دل هذا الحديث على أن من الصفات الجميلة حسن الصحبة وخدمة الرفيق في السفر، ولهذا خدم المفطرون الصائمين في هذا الحديث، وأثنى
_________
(1) تقدمت ترجمته، في الحديث رقم 14.
(2) وأخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل، 2 / 788، برقم 1119.
(3) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي، ص 43، و 200، و 288، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الباء مع العين، مادة: " بعث " 1 / 138، وفتح الباري لابن حجر 6 / 84.
(4) انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس ص 694، وتفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 543، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الميم مع الهاء، مادة: " مهن " 4 / 376، وفتح الباري لابن حجر 6 / 84 وعمدة القاري للعيني 14 / 174.(1/420)
عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فينبغي للداعية أن يحسن صحبة من رافقه بأدب وحسن خلق (1) .
ثانيا: من صفات الداعية: التعاون على البر والتقوى: ظهر في هذا الحديث التعاون في الجهاد على طاعة الله بخدمة المجاهدين، والذي دل عليه مفهوم الحديث أن جميع المفطرين تعاونوا على خدمة المجاهدين الصائمين، فأثاروا الإِبل، وقاموا بسقيها، وعقلها، وعلفها، وزاولوا خدمة إخوانهم.
فينبغي للدعاة التعاون على كل ما فيه مصلحة الدعوة وأصحاب الدعوة (2) قال ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفيه الحض على المعاونة في الجهاد، وأن الفطر في السفر أولى من الصيام " (3) .
ثالثا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للمجاهدين: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر» قال ابن حجر رحمه الله: " أي بالأجر الوافر، وليس المراد نقص أجر الصوّام، بل المراد أن المفطرين حصل لهم أجر عملهم ومثل أجر الصوام؛ لتعاطيهم أشغالهم وأشغال الصوام " (4) .
فينبغي للداعية أن يستخدم أسلوب الترغيب في دعوته؛ لما له من الأهمية والتأثير في نفوس المدعوين (5) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 69، الدرس الأول.
(2) انظر: الحديث رقم 66، الدرس الثاني.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 84.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 84، وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 3 / 182، وعمدة القاري للعيني، 14 / 174.
(5) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر.(1/421)
[باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب]
[حديث هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم]
76 - باب من اسْتعان بالضعَفاء والصالحِينَ في الحربِ وَقَالَ ابْن عَبَّاسٍ: أَخْبَرنيِ أَبو سفْيانَ قَالَ: " قَالَ لِي قَيْصَر: سَأَلْتكَ أَشْرَاف النَّاسِ اتبعوه أَمْ ضعَفَاؤهمْ؟ فزَعَمْتَ ضعَفَاؤهمْ، وَهمْ أَتْباع الرّسلِ ".
71 [ص:2896] حَدَّثَنَا سلَيْمان بْن حَرْبٍ: حَدَّثَنَا محَمَد بْن طَلْحَةَ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ مصعَب بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: رَأى سَعْد (1) رضي الله عنه أَنَّ لَه فَضْلا عَلَى مَنْ دونَه، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تنْصَرونَ وَترْزقونَ إِلَّا بضعَفَائِكم» ؟ ".
* شرح غريب الحديث: * " رَأَى سعد " أي ظن (2) وقد جاء هذا المعنى صريحا في رواية النسائي: «ظنَّ أن له فضلا على من دونه» (3) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحث على العناية بالفقراء والضعفاء.
2 - من أسباب النصر والرزق: الإِحسان إلى الضعفاء.
3 - من صفات الداعية: التواضع.
4 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
5 - من أساليب الدعوة: الاستفهام الإِنكاري.
6 - من أساليب الدعوة: الحكمة.
7 - من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث: رقم 36.
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الهمزة، مادة: " رأى " 2 / 177.
(3) سنن النسائي، كتاب الجهاد، باب الاستنصار بالضعيف، 6 / 45، برقم 1378.(1/422)
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على العناية بالفقراء والضعفاء: ظهر في هذا الحديث أن من موضوعات الدعوة: الحث على العناية بالضعفاء والمساكين؛ ولهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله: «هل تنصرون وترزقون إلا ضعفائكم» والله عز وجل قد جعل الإِحسان إلى الفقراء والمساكين من صفات المتقين فقال عز وجل: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] (1) وقال عز وجل: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الروم: 38] (2) {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] (3) .
فينبغي الحث على الإِحسان إلى الفقراء والضعفاء، والله يحب المحسنين.
ثانيا: من أسباب النصر والرزق: الإحسان إلى الضعفاء: دل هذا الحديث على أنه لا ينبغي للأقوياء القادرين أن يستهينوا بالضعفاء العاجزين: لا في أمور الجهاد والنصرة، ولا في أمور الرزق وعجزهم عن الكسب؛ لأن النصر على الأعداء وبسط الرزق قد يكون بسبب الضعفاء؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم» ؟ " وهم يكونون من أسباب النصر والرزق من عدة وجوهٍ، منها:
1 - قد يكون النصر على الأعداء، وبسط الرزق بأسباب توجه الضعفاء إلى الله عز وجل وطلبهم النصر والرزق؛ لأنهم أشدّ إخلاصا في الدعاء، وأكثر خشوعا في العبادة، وأقوى توكلا وثقة بالله عز وجل؛ لسلامة قلوبهم وعدم تعلقها بزخارف الدنيا، فإذا دعوا الله على هذه الحال استجاب لهم، فينصر
_________
(1) سورة البقرة، الآية: 177.
(2) سورة الروم، الآية: 38.
(3) سورة الإسراء، الآية: 26.(1/423)
الله الأمة بسببهم، ويرزقهم من أجلهم.
2 - جعل الله أرزاق هؤلاء الضعفاء على أيدي القادرين والأغنياء، فإذا أعطوهم حقهم وأنفقوا عليهم رغبة فيما عند الله؛ فإن الله عز وجل يفتح لهم من أسباب النصر والرزق ما لم يكن لهم ببال ولا دار لهم في خيال، فكم من إنسانٍ كان رزقه قليلا فكثرت عائلته والمتعلقون به فقام بالواجب وأنفق عليهم، ونصره الله على أعدائه، وأمد الله وَوَسَّعَ في رزقه (1) ؛ قال الله عز وجل: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أَحدهما: اللهم أعطِ منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكا تلفا» (3) وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: " قال الله تعالى: «يا ابن آدم أنفق أنفق عليك» (4) وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انفحي، أو انضحي (5) أو أنفقي، ولا تحصى فيحصي الله عليك (6) ولا توعي فيوعي (7) الله عليك» (8) وفي صحيح البخاري (9) «لا توكي فيوكي الله عليك» (10) .
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 8 / 89، وبهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخبار في شرح جوامع الأخبار، للعلامة عبد الرحمن السعدي ص 244، وشرح رياض الصالحين، للعلامة ابن عثيمين 5 / 131.
(2) سورة سبأ، الآية: 39.
(3) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: صحيح البخاري، كتابِ الزكاة، باب قول الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحسْنَى فَسَنيَسِّره لِلْيسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحسْنَى فَسَنيَسِّره لِلْعسْرَى 2 / 147، برقم 1442، ومسلم، كتاب الزكاة، باب المنفق والممسك، 2 / 700، برقم 1010.
(4) متفق عليه من حديث أبى هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة هود، باب قوله: وكان عرشه على الماء، 5 / 254 برقم 4684، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف، 2 / 690، برقم 993.
(5) انفحي، أو انضحي: أي أعطي، والنضح والنفح العطاء، وفي رواية " وارضخي ما استطعت " البخاري برقم 1434، والرضخ العطاء أيضا. انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 569.
(6) لا تحصي: أي لا تبخلي فتجازين علي بخلك، وأصل هذا من الإحصاء الذي هو العد، وَعبِّرَ عن البخل بالإِحصاء؛ لأن البخيل يعد ماله ويتحرَز بِهِ، ويغار عليه. انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي 3 / 74.
(7) ولا توعي فيوعي الله عليك: أي لا تجمعي وتشحي بالنفقة، يشَحّ عليك، وتجازي بتضييق رزقك " انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع العين، مادة: " وعا " 5 / 208.
(8) متفق عليه: البخاري، كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها، 2 / 145، برقم 1433، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث علي الإنفاق وكراهية الإحصاء، 2 / 713 برقم 1029.
(9) البخاري، كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها 2 / 44، برقم 1433.
(10) لا توكي: أي لا تدَّخري وتشدي ما عندك وتمنعي ما في يديك، فتنقطع مادة الرزق عنك، انظر: النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، باب الواو مع الكاف مادة: " وكا " 5 / 223.(1/424)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان أخوان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم والآخر يحترف فشكى المحترف أَخَاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " لعلك ترزق بِه» (1) .
3 - دعاء المستضعفين المنفق عليهم؛ فإنهم يدعون الله عز وجل في كل أحوالهم لمن قام بمساعدتهم وأعانهم على فقرهم وضعفهم.
فينبغي أن يعلم الدعاة أن إعانة الضعفاء والعطف عليهم، والإِحسان إليهم، بالقول والفعل من أسباب النصر والرزق والتوفيق.
ثالثا: من صفات الداعية: التواضع: دل الحديث على التواضع؛ لأن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ظن أن له فضلا على من دونه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بسبب شجاعته، ونحو ذلك من جهة الغنى وكثرة المال، فقال صلى الله عليه وسلم: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟» وهذا فيه حث على التواضع ونفي الكبر والفخر، وترك احتقار المسلم في كل حالة (2) .
فينبغي للمسلم التواضع وعدم الترفع على إخوانه المسلمين (3) .
رابعا: من أساليب الدعوة: الترغيب: ظهر أسلوب الترغيب في هذا الحديث؛ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟» وهذا فيه ترغيب في الإِحسان إلى هؤلاء وعدم احتقارهم، وهذا ليس فيه ما يعارض الأحاديث الأخرى التي مدح فيها الأقوياء، وأن المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وإنما المراد أن ذلك من أعظم أسباب الرزق والنصر، وقد يكون لذلك أسباب أخرى؛ فإن الكفار والفجار قد يرزقون وينصرون استدراجا، وقد يخذل المؤمنون؛ ليتوبوا
_________
(1) الترمذي، كتاب الزهد، باب في التوكل، 4 / 474، برقم 2345، وقال: " هذا حديث حسن صحيح "، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2 / 274.
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 89، وعمدة القاري للعيني، 14 / 179.
(3) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثالث.(1/425)
ويخلصوا، ولكن العاقبة الحميدة لهم، فيجمع لهم بين مغفرة الذنب وتفريج الكرب، وليس كل إنعام كرامة ولا كل امتحان عقوبة (1) .
فينبغي استخدام الترغيب في الدعوة إلى الله عز وجل (2) .
خامسا: من أساليب الدعوة: الاستفهام الإنكاري: الاستفهام الإِنكاري من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل وقد ظهر هذا الأسلوب في قوله صلى الله عليه وسلم: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟» فقد أنكر صلى الله عليه وسلم على سعدٍ رضي الله عنه ما ظنه وبيَّن فضل الضعفاء على الأمة، وأبرز ذلك في صورة الاستفهام؛ ليدل على مزيد التعزير والتوبيخ (3) . وهذا يؤكد أهمية هذا الأسلوب. (4) .
سادسا: من أساليب الدعوة: الحكمة: دل هذا الحديث على حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير المنكر وتأليف القلوب، وتوجيهها إلى ما يحبه الله ويرضاه؛ فإنه أنكر على سعدٍ رضي الله عنه ببيان فضل الضعفاء وأن وجودهم بين المسلمين من أسباب النصر والرزق، وقد استخدم صلى الله عليه وسلم الاستفهام الإِنكاري. وهذا يبين للدعاة إلى الله عز وجل أهمية أسلوب الحكمة؛ قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (5) وحقيقة الحكمة: وضع كل شيء في موضعه بإحكام وإتقان، والإِصابة في الأقوال والأفعال (6) .
_________
(1) انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي 6 / 354.
(2) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر.
(3) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح 10 / 3310، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للملا علي القاري، 9 / 84.
(4) انظر: الحديث رقم 4، الدرس الرابع، ورقم 31، الدرس الخامس.
(5) سورة النحل، الآية: 125.
(6) انظر: مدارج السالكين لابن القيم 2 / 478، وتفسير ابن كثير، 1 / 184، وفتح الباري لابن حجر 1 / 67، 6 / 531، 7 / 100، 10 / 522، والحكمة في الدعوة إلى الله تعالى، لسعيد بن علي، ص 23 -31.(1/426)
سابعا: من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى: دل هذا الحديث على أن من أصناف المدعوين أهل الصلاح والاستقامة؛ لأن المسلم قد يخطئ ويحتاج إلى التنبيه والتوجيه؛ ولأن العصمة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولمن عصمه الله من عباده المخلصين؛ ولهذا لما رأى سعد رضي الله عنه أن له فضلا على من دونه، وجهه النبي صلى الله عليه وسلم وأرشده بقوله: «هل تنصرون وترزقون لا بضعفائكم؟» .
فينبغي للداعية أن يقبل النصيحة ممن وجهها إليه من العلماء والدعاة، أو حتى ممن هو دونه، وينبغي له أن لا يستحي من توجيه إخوانه الدعاة إلى الخير إذا رأى ما يوجب ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوَّابون» (1) وهذا يؤكد أن كل مسلم يحتاج إلى توجيه ونصيحة مهما ارتفعت منزلته (2) .
_________
(1) الترمذي، كتاب القيامة، باب: حدثنا هناد، 4 / 659، برقم 2499، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، 2 / 1420، برقم 4251، والدارمي، كتاب الرقاق، باب في التوبة، 2 / 213، برقم 2730. وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه 2 / 418، وفي مشكاة المصابيح 2 / 724 برقم 2341.
(2) انظر: الحديث رقم 76، الدرس الرابع.(1/427)
[حديث يأتي زمان يغزو فئام من الناس فيقال فيكم من صحب النبي]
72 [ص:2897] حَدَّثَنَا عبد الله بْن محَمَّدٍ: حَدَّثَنَا سفْيَان، عَنْ عَمْرو: سَمِعَ جَابِرا (1) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدْرِيِّ (2) رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «يَأْتِي زَمَان يَغْزو فِئام مِنَ النَّاسِ، فَيقَال: فِيكمْ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟ فيقَال: نَعَمْ، فيفتح عَلَيْهِ. ثمَّ يأتي زَمَان فَيقَال: فِيكمْ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَيقَال: نَعَمْ، فَيفْتَح. ثمَّ يأتِي زَمَان فَيقَال: فِيكمْ مَنْ صَحِبَ صَاحِبَ أَصْحَاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَيقَال: نَعَمْ، فَيفْتَح» (3) .
وفي رواية: «يأتِي عَلَى النَّاسِ زَمَان فَيغْزو فِئَام مِنَ النَّاسِ فيَقولونَ: فِيكمْ مَنْ صاحَبَ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقولونَ لَهمْ: نَعَمْ، فَيفتح لَهمْ، ثمَّ يأتِي عَلَى النَّاسِ زمَان فَيَغْزو فِئَام مِنَ النَّاسِ فَيقَال: هَلْ فِيكمْ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَيَقولونَ: نَعَمْ، فَيفْتَح لَهمْ. ثمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَان فَيَغْزو فِئَام مِنَ النَّاسِ فَيقَال: هَلْ فِيكمْ مَنْ صَاحَبَ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فيَقولونَ: نَعَمْ، فَيفتح لَهمْ» (4) .
* شرح غريب الحديث: * " فئام من الناس " الفئام: الجماعة الكثيرة (5) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإِخبار بالغيوب.
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 32.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 19.
(3) [الحديث 2897] طرفاه في: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإِسلام، 4 / 211، برقم 3594. وكتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، 4 / 228، برقم 3649. وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، 4 / 1962، برقم 2532.
(4) الطرف رقم 3649.
(5) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الفاء مع الهمزة، مادة: " فأم " 3 / 406، وانظر: غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 480.(1/428)
2 - من أسباب النصر: استقامة المجاهدين والدعاة على دين الله عز وجل.
3 - من موضوعات الدعوة: بيان فضل السلف الصالح للتأسي بهم.
أولا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار بالغيوب: دل هذا الحديث على صدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر بأمور غيبية لا يعلمها إلا الله، فوقعت كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فنصر الله أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم، وأتباعهم، وتابعيهم، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أن الله أرسله وأنه رسول الله حقّا وصدقا (1) .
فينبغي للداعية أن يبين للناس علامات النبوة؛ لما لها من الأثر في النفوس وحملها على تصديق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم (2) .
ثانيا: من أسباب النصر: استقامة المجاهدين والدعاة على دين الله عز وجل: لا شك أن استقامة المجاهدين والدعاة على دين الله عز وجل من أعظم أسباب النصر والتمكين؛ وقد أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بنصر الجيش الذي يغزو معه بعض الصحابة والتابعين، وأتباعهم؛ وذكر ابن حجر رحمه الله عن ابن بطال رحمه الله أنه " يفتح للصحابة لفضلهم، ثم للتابعين لفضلهم، ثم لتابعيهم لفضلهم. . . ولذلك كان الصلاح والفضل والنصر للطبقة الرابعة أقل، فكيف بمن بعدهم والله المستعان " (3) وقد وعد الله عز وجل من استقام من عباده على طاعته بالنصر والتمكين فقال سبحانه وتعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41] (4) وقوله سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40] أي ينصر دينه ونبيه (5) .
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 16 / 317، وإكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم للأبي 8 / 457، وعمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني 14 / 180.
(2) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع، ورقم 55، الدرس الثالث.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 89 بتصرف يسير جدا.
(4) سورة الحج، الآيتان: 40-41.
(5) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 12 / 78، وانظر: تفسير الطبري، " جامع البيان عن تأويل آي القرآن " 18 / 651.(1/429)
وقال الله سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] (1) . وقال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ - وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 7 - 8] (2) . وهذه الآيات الكريمات تبين أن المجاهدين والدعاة وغيرهم إذا أطاعوا الله ورسوله نصرهم الله عز وجل وأمدهم بعونه وتوفيقه.
ثالثا: من موضوعات الدعوة: بيان فضل السلف الصالح؛ للتأسي بهم: إن من الموضوعات المهمة في الدعوة إلى الله عز وجل: بيان فضل السلف الصالح؛ للتأسي بهم والسير على هديهم؛ ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: فضل الصحابة، والتابعين، وأتباعهم، وأن الله عز وجل ينصرهم على عدوِّهم. قال العلامة العيني رحمه الله: " الصحابة، والتابعون، وأتباع التابعين حصلت بهم النصرة؛ لكونهم ضعفاء فيما يتعلق بأمر الدنيا، أقوياء فيما يتعلق بأمر الآخرة " (3) .
فينبغي للداعية أن يبين للناس فضل الصحابة وأتباعهم من أهل العلم والإِيمان؛ ليقتدي بهم الناس ويستفيدوا من فضائلهم؛ ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم بعض الفضائل لهؤلاء السلف فقال: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن» (4) .
_________
(1) سورة النور، الآية: 55.
(2) سورة محمد، الآيتان 7-8.
(3) عمدة القاري شرح صحيح البخاري 14 / 179.
(4) متفق عليه من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما: البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن صحب النبي أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه، 4 / 228 برقم 3650، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب بيان بقاء النبي صلى الله عليه وسلم أمان لأصحابه، وبقاء أصحابه أمان للأمة، 4 / 1964 برقم 2535.(1/430)
وقال صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم, ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته» (1) .
وهذا يبين فضائل الصحابة وأنه ينبغي التأسي بهم في الاستقامة على دين الله عز وجل. وسمعت العلامة سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز حفظه الله يقول: " بعد هذه القرون تتغير الأحوال، ويضعف الإِيمان حتى إنهم يظهر فيهم، السمن؛ لميلهم إلى الشهوات " وقال عن الفائدة من إيراد هذه الأحاديث في فضائل الصحابة: " والمقصود التأسي بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " (2) .
وفضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا تحصر في هذه الأسطر، ولكن أشملها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه» (3) .
وهذا يبيّن للدعاة إلى الله عز وجل أهمية تذكير الناس بفضائل الصحابة رضي الله عنهم وبقية القرون الثلاثة المفضلة؛ قال الإِمام القرطبي رحمه الله: " هذه القرون الثلاثة: أفضل مما بعدها إلى يوم القيامة، وهذه القرون في أنفسها متفاضلة، فأفضلها: الأول، ثم الذي بعده، ثم الذي بعده. . " (4) . وقد بين الحافظ ابن حجر آخر القرون الثلاثة فقال: " واتفقوا على أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورا فاشيا " (5) .
_________
(1) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه، 4 / 229 برقم 3651، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب بيان بقاء النبي صلى الله عليه وسلم أمان لأصحابه، وبقاء أصحابه أمان للأمة، 4 / 1962 برقم 2533.
(2) سمعت ذلك من سماحته حفظه الله: أثناء شرحه لصحيح البخاري، الحديث رقم 3650، و 3651 في جامع الإمام تركي بن عبد الله " الجامع الكبير " بالرياض.
(3) متفق عليَه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه، 4 / 236، برقم 3673، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم، 4 / 1967، برقم 2540.
(4) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 6 / 486.
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7 / 6.(1/431)
[باب لا يقول فلان شهيد]
[حديث إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار]
77 - باب لا يقول: فلان شهِيد وَقَالَ أَبو هرَيْرَةَ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «الله أَعْلَم بِمَنْ يجَاهِد فِي سَبِيلِهِ، الله أَعْلَم بِمَنْ يكْلَم فِي سَبِيلِهِ» .
73 [ص:2898] حَدَّثَنَا قتَيْبَة: حَدَّثَنَا يَعْقوب بْن عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الساعِدِيِّ (1) رضي الله عنه: «أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْتَقَى هوَ والْمشْرِكونَ فَاقْتَتَلوا، فَلَمَّا مَالَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى عَسْكَرِهِ وَمَالَ الآخَرونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي أَصْحَابِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجل لَا يَدَع لَهمْ شَّاذَّة وَلَا فَاذَّة إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضرِبها بِسَيْفِهِ، فَقَالوا: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَومَ أَحَد كَمَا أَجْزَأَ فلان، فَقَال رِسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: " أَمَا إِنَّه مِنْ أَهْلِ النَّارِ "، فَقَالَ رَجل مِنَ الْقَوْمِ: أنا صَاحِبه، قَالَ فخَرَجَ مَعَه كلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَه، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَه، قالَ: فَجرِحَ الرَّجل جرْحا شَدِيدا، فَاسْتَعْجَلَ الْموتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الأَرْضِ، وَذبَابَه بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفهِ فَقَتَلَ نَفْسَه، فخَرَجَ الرَّجل إِلَى رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: أَشْهد أنكَ رَسول اللهِ، قَالَ: " وَمَا ذَاك؟ " قَال: الرَّجل الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفا أنه مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فأَعْظَمَ النَّاس ذَلِكَ، فَقلْت: أَنا لَكمْ بِهِ، فَخَرَجْت فِي طَلَبِهِ، ثمَّ جرِح جرْحا شَدِيدا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الأَرْضِ وَذبَابَه بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَه. فَقَالَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: " إِنَّ الرَّجلَ لَيَعْمَل عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ فِيمَا يَبْدو للنَّاسِ وَهو مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجلَ ليَعْمَل عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدو لِلنَّاسِ وَهوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ» (2) .
وفي رواية: ". . «أَيّنَا مِنْ أَهْلِ الجَنَّة إِذَا كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ؛ فَقَالَ رَجل
_________
(1) تقدمت ترجمته، في الحديث رقم 25.
(2) [الحديث 2898] أطرافه في: كتاب المغازي، باب غزوة خبير، 5 / 88، برقم 4202. و 5 / 90، برقم 4207. وكتاب الرقاق، باب الأعمال بالخواتيم وما يخاف منها، 7 / 240، برقم 6493. وكتاب القدر، باب العمل بالخواتيم، 7 / 270، برقم 6607. وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، 1 / 106، برقم 112.(1/432)
مِنَ الْقَوْمِ لأَتَّبعَنَّه» . . " (1) .
وفي رواية. «نَظَرَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَجل يقَاتِل الْمشْرِكِينَ- وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ المسْلِمينَ غَنَاء عَنْهمْ- فَقَالَ: " مَنْ أَحَبَّ أنْ يَنْظرَ إِلَى رَجل مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظر إِلَى هَذَا "، فَتَبِعَه رَجل فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَقَالَ بِذبَابَةِ سَيْفِهِ فَوَضَعَه بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْن كتِفَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَل- فِيمَا يَرَى النَّاس- عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ وَإِنَّه لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَل- فِيمَا يَرَى النَّاس- عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَهوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الأَعمَال بِخَوَاتِيمِهَا» (2) .
وفي رواية: «وَإِنَّمَا الأَعْمَال بِالْخَوَاتِيم» (3) .
* شرح غريب الحديث: * " شاذة ولا فاذة " هما بمعنى واحد، والشذوذ: الانفراد: أي لا يسلم منه أحد إلا قتله، وهي كلمة تقال للشجاع: لا يدع شاذة ولا فاذة (4) .
* " ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان " أي ما ناب أحد منابه، ولا قام أحد مقامه، ولا قضى ما قضاه (5) . * " نصل سيفه " نصل السيف: حديده، والنصل: حديدة السهم والسيف (6) .
* " ذبابه بين ثدييه " ذباب السيف: طرفه الذي يضرب به وهو الحدّ (7) .
* " تحامل على سيفه " مال عليه واتَّكأَ، والتحامل: تكلف الشيء على مشقة (8) .
_________
(1) من الطرف رقم 4207.
(2) من الطرف رقم 6493.
(3) من الطرف رقم 6607.
(4) مشارق الأنوار على صحاح الآثار، للقاضي عياض بن موسى، حرف الشين مع الذال، مادة: " شذذ " 2 / 246، وانظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 135.
(5) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 135.
(6) المرجع السابق ص 79، 135.
(7) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 135، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الذال مع الباء، مادة: " ذبب " 2 / 152.
(8) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 135.(1/433)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الإِيمان بالقدر والعمل بأسباب النجاة.
2 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الاغترار بالأعمال.
3 - من صفات الداعية: الجمع بين الخوف والرجاء.
4 - من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإِخبار بالمغيبات.
5 - من صفات الداعية: الأخذ بالظاهر والله يتولَّى السرائر.
6 - من أساليب الدعوة: الترغيب والترهيب.
7 - من موضوعات الدعوة: الحث على النية الصالحة.
8 - من موضوعات الدعوة: حث الناس على طلب حسن الخاتمة بالقول والعمل.
9 - عظم يقين الصحابة رضي الله عنهم بما يخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
10 - قد يؤيد الله عز وجل الإِسلام بالمدعو الفاجر.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الإيمان بالقدر والعمل بأسباب النجاة: ظهر في هذا الحديث أهمية الإِيمان بالقدر؛ (1) ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل ظاهره الصلاح والشجاعة في الجهاد: " إنه من أهل النار " وقال: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة» وهذا يدل على أن الله عز وجل قد قدر المقادير، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا كتِبَ مَكَانهَا من الجنة والنار، وإلا قد كتِبَتْ شقية أو سعيدة " فقال رجل؛ يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منَّا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة, وأما من كان مِنَّا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟ قال: " أمَّا أهل السعادة فييَسَّرون
_________
(1) انظر: كتاب الإيمان للحافظ إسحاق بن يحيى بن منده، 1 / 126 -132، والإِبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، للإمام محمد بن بطة العبكري، " كتاب القدر "، 1 / 253.(1/434)
لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسَّرون لعمل الشقاوة. ثم قرأ» {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى - وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى - وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10] (1) قال ابن رجب رحمه الله: " ففي هذا الحديث أن السعادة والشقاوة قد سبق الكتاب بهما، وأن ذلك مقدر بحسب الأعمال، وأن كلّا ميسر لما خلِقَ له من الأعمال التي هي سبب السعادة أو الشقاوة " (2) .
ولا شك أن الله عز وجل إنما يهدي من كان أهلا للهداية، ويضل من كان أهلا للضلالة، قال عز وجل: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] (3) وقال سبحانه وتعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13] (4) .
فبين سبحانه أن أسباب الضلالة لمن ضل إنما هي بسَبَبٍ من العبد نفسه، والله عز وجل لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] (5) وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] (6) ويجمع الإِيمان بالقضاء والقدر أربع مراتب إذا آمن بها العبد فقد استكمل الإيمان بهذا الأصل العظيم:
المرتبة الأولى: العلم، فيؤمن العبد إيمانا جازما أن الله عز وجل علم بما الخلق عاملون، بعلمه الأزلي، وعلم جميع أحوالهم وأعمالهم: من الطاعات والمعاصي، والأرزاق والآجال. قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت: 62] (7)
_________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب موعظة المحدث عند القبر، وقعود أصحابه حوله، 2 / 121 برقم 1362، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه وعمله وشقاوته وسعادته، 4 / 2039 برقم 2647. والآيات من سورة الليل: 5-10.
(2) جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، 1 / 169.
(3) سورة الصف، الآية: 5.
(4) سورة المائدة، الآية: 13.
(5) سورة النساء، الآية: 40.
(6) سورة يونس، الآية: 44.
(7) سورة العنكبوت، الآية: 62.(1/435)
وقال عز وجل: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] (1) فبنى تقديره سبحانه وتعالى لمقادير الخلائق على هذا العلم السابق الأزلي، وقدر مقادير الخلائق: من السعادة والشقاوة وغير ذلك بحسب الأعمال التي سبق علمه بها من خير وشر (2) .
المرتبة الثانية: كتابة الله عز وجل لجميع الأشياء والمقادير في اللوح المحفوظ: الدقيقة والجليلة، ما كان وما سيكون، قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70] (3) وقد جمعت هذه الآية بين المرتبتين السابقتين. وقال عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] (4) وقال سبحانه وتعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] (5) ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة» قال: «وكان عرشه على الماء» (6) . وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه لابنه: يا بني، إنك لن تجد طعم حقيقة الإِيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: ربِّ وماذا أكتب؛ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة» يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مات على غير هذا فليس مني» (7) وفي لفظ للإِمام أحمد: «إن أول ما خلق الله تبارك وتعالى القلم، ثم قال اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة» (8) .
_________
(1) سورة الطلاق، الآية: 12.
(2) انظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب 1 / 169.
(3) سورة الحج، الآية: 70.
(4) سورة الحديد، الآية: 22.
(5) سورة يس، الآية: 12.
(6) صحيح مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم موسى، 4 / 2044، برقم 2653. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(7) سنن أبي داود، كتاب السنة، باب في القدر، 4 / 225، برقم 4700، واللفظ له، والترمذي، كتاب القدر، باب، حدثنا قتيبة، 4 / 457، برقم 2154، وأحمد في المسند، 3 / 317، وصححه العلامة الألباني، في صحيح سنن أبي داود 3 / 890.
(8) المسند 3 / 317.(1/436)
المرتبة الثالثة: مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة التي لا يعجزها شيء فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وما في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] (1) .
المرتبة الرابعة: الخلق، فالله عز وجل خالق كل شيء، وما سواه مخلوق له سبحانه وتعالى، لا إله غيره ولا رب سواه. قال عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62] (2) ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يحب المحسنين، والمتقين، والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد، وهو الحكيم العليم (3) وعلى العبد أن يبذل الأسباب، ويسأل الله التوفيق والهداية، ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولا يظلم مثقال ذرة، قال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] (4) .
فينبغي للداعية أن يبيِّن للناس هذا الأصل معتمدا على الأدلة من الكتاب والسنة، ولا يخوض فيما لا علم له به، ويحث الناس على النشاط والقوة، والاستعانة بالله وتفويض المقادير إلى الله عز وجل، وأن يتركوا العجز والكسل؛ (5) قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء
_________
(1) سورة التكوير، الآية: 29.
(2) سورة الزمر، الآية: 62.
(3) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية 3 / 148.
(4) سورة الزلزلة، الآيتان: 7-8.
(5) انظر: الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية، للإمام ابن بطة، " كتاب الإيمان "، 1 / 218- 220، و " كتاب القدر " 1 / 267، 273، 323، 333، و 2 / 307، وأصول السنة لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الأندلسي، الشهير بابن أبي زمنين، 197 -206.(1/437)
فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتِح عمل الشيطان» (1) ولهذه العقيدة السليمة قال الله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51] (2) .
ثانيا: من موضوعات الدعوة: التحذير من الاغترار بالأعمال: إن من الموضوعات التي ينبغي للداعية أن يعتني بها ويوجه الناس إلى الحذر منها: الاغترار بالأعمال؛ ولهذا عندما قتل الرجل نفسه أعظم الصحابة رضي الله عنهم ذلك؛ لأنهم نظروا إلى شجاعته، وقتاله العظيم، ولم يعرفوا الباطن، ولا المآل فأعلم الله الخبير العليم النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعاقبة هذا الرجل؛ لسوء مقصده وخبث نيته (3) قال الإِمام القرطبي رحمه الله في فوائد هذا الحديث: ". . فيه التنبيه على ترك الاعتماد على الأعمال، والتعويل على فضل ذي العزة والجلال " (4) وقال الإِمام النووي رحمه الله: " فيه التحذير من الاغترار بالأعمال، وأنه ينبغي للعبد أن لا يتكل عليها، ولا يركن إليها، مخافة انقلاب الحال للقدر السابق، وكذا ينبغي للعاصي أن لا يقنط ولغيره أن لا يقنطه من رحمة الله " (5) ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «سددوا وقاربوا، وأبشروا، فإنه لن يدخل الجنة أحدا عمله " قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمته. واعلموا أن أحبَّ العمل إلى الله أدومه وإن قلَّ» (6) . وقد مدح الله الخائفين على أعمالهم الصالحة يخشون أن لا تقبل منهم، فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] (7) قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: «أهو الذي يزني ويسرق
_________
(1) أخرجه مسلم، 4 / 2052، برقم 2664، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 1، الدرس الثاني، ص 50.
(2) سورة التوبة، الآية: 51.
(3) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 1 / 318.
(4) المرجع السابق 1 / 318.
(5) شرح النووي على صحيح مسلم 2 / 486.
(6) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها: البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، 7 / 233، برقم 6464، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل الجنة أحد بعمله بل برحمة الله، 4 / 2171، برقم 2818.
(7) سورة المؤمنون، الآية: 60.(1/438)
ويشرب الخمر؛ قال: " لا يا بنت أبي بكر [أو يا بنت الصديق] ولكنه الرجل يصوم، ويتصدق، ويصلي، ويخاف أن لا يتقبل منه» (1) .
فينبغي للداعية أن يبيِّن للناس أن الاعتماد على الله عز وجل في كل شيء، والطمع في رحمته مع إحسان العمل وإخلاصه لله عز وجل، وعدم الغرور والإِعجاب بالأعمال. والله المستعان.
ثالثا: من صفات الداعية: الجمع بين الخوف والرجاء: يظهر من هذا الحديث أنه ينبغي للمسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل أن يجمع بين الخوف والرجاء؛ لأن الإِنسان لا يدري هل هو من أهل الجنة أو من أهل النار، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله عن ابن بطال رحمه الله أنه قال: " في تغييب خاتمة العمل عن العبد حكمة بالغة، وتدبير لطيف؛ لأنه لو علم وكان ناجيا أعجِب وكسِل، وإن كان هالكا ازداد عتوّا، فحجب عنه ذلك؛ ليكون بين الخوف والرجاء " (2) فالأمن من مكر الله عز وجل ينافي كمال التوحيد؛ ولهذا قال الله عز وجل: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] (3) .
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج " (4) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] (5) » والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله ينافي كمال التوحيد أيضا؛ ولهذا قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56] (6)
_________
(1) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب التوقي في العمل، 2 / 1404، برقم 4198، والترمذي كتاب تفسير القرآن، باب " ومن سورة المؤمنون " 5 / 327، برقم 3175، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 162، وفي صحيح ابن ماجه 2 / 409، وصحيح الترمذي 3 / 80.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 11 / 330.
(3) سورة الأعراف، الآية: 99.
(4) أحمد في مسنده، 4 / 145، وفي الزهد ص 27 برقم 62، وابن جرير في تفسيره 11 / 361، برقم 13240، و 13241، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 414، وفي تحقيقه لمشكاة المصابيح 3 / 1436، قال: " إسناده جيد ".
(5) سورة الأنعام: الآية: 44.
(6) سورة الحجر، الآية: 56.(1/439)
وقال عز وجل: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] (1) والقنوط: استبعاد الفرج واليأس منه، وهو يقابل الأمن من مكر الله وكلاهما ذنب عظيم (2) وعن ابن عباس رضي الله عنهمَا «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر؛ فقال: " الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله» (3) . وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح اللَّه» (4) . ومعنى الأمن من مكر الله: أي أمن الاستدراج بما أنعم الله به على عباده من صحة الأبدان، ورخاء العيش، وهم على معاصيهم (5) .
واليأس من روح الله: أي قطع الرجاء من رحمة الله ومن تفريجه للكربات (6) .
والقنوط من رحمة الله: هو أشدّ اليأس (7) .
وهذا فيه التنبيه على الجمع بين الرجاء والخوف، فإذا خاف فلا يقنط ولا ييأس بل يرجو رحمة الله (8) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال: " كيف تجدك؟ " قال: أرجو الله يا رسول الله، وأخاف ذنوبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف» (9) .
_________
(1) سورة يوسف، الآية: 87.
(2) انظر: فتح المجيد، لشرح كتاب التوحيد، لعبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب 2 / 598.
(3) أخرجه البزار في مسنده 1 / 106، برقم 55، [مختصر زوائد مسند البزار على الكتب الستة ومسند أحمد] وقال الهيثمي في مجمع الزوائد رواه البزار، والطبراني ورجاله موثوقون 1 / 104.
(4) أخرجه عبد الرزاق في المصنف، 10 / 459، برقم 19701، والطبراني في المعجم الكبير 9 / 156، برقم 8783، 8784، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: إسناده صحيح 1 / 104.
(5) انظر: تفسير الطبري [جامع البيان عن تأويل آي القرآن] 12 / 579، وانظر: 12 / 95 -97.
(6) انظر: المرجع السابق، 16 / 233.
(7) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع النون، مادة: " قنط " 4 / 113.
(8) انظر: فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد، للعلامة محمد بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب 2 / 601.
(9) الترمذي، كتاب الجنائز، باب: حدثنا عبد الله بن أبي زياد، 3 / 302، برقم 983، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، 2 / 1423 برقم 4261، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 1051.(1/440)
فينبغي للداعية أن يكون بين الرجاء والخوف، وقد ذكر بعض علماء نجد أنه يغلِّب في الصحة جانب الخوف؛ لأنه إذا غَلَّب الرجاء على الخوف فسد القلب، أما في حالة المرض فيغلِّب الرجاء، لكن مع الجمع بين الرجاء والخوف في جميع الأحوال (1) .
ولا بد أن يكون الرجاء والخوف مع المحبة الكاملة؛ قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: " وكان بعض السلف يقول: من عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة فهو موَحِّد مؤمن، وسبب هذا أنه يجب على المؤمن أن يعبد الله بهذه الوجوه الثلاثة: المحبة، والخوف، والرجاء، ولا بد له من جميعها، ومن أخل ببعضها فقد أخل ببعض واجبات الإِيمان " (2) . وكلام بعض الحكماء يدل على أن الحب ينبغي أن يكون أغلب من الخوف والرجاء (3) .
وأسأل الله عز وجل أن يرزقني وجميع المسلمين خشيته في السر والعلانية.
رابعا: من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإخبار بالمغيبات: إن من أعلام النبوة التي دلت على صدق النبي صلى الله عليه وسلم: إخباره بالمغيبات، وقد ظهرت هذه المعجزة في هذا الحديث؛ حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل الشجاع أنه من أهل النار، فتحقق ما قاله فقتل الرجل نفسه، قال ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفي الحديث إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات، وذلك من معجزاته الظاهرة " (4) وقال القرطبي رحمه الله: " وكان ذلك من أدلة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحة رسالته " (5) .
_________
(1) انظر: فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد، لمحمد بن حسن، 2 / 602، وتيسير العزيز الحميد، لسليمان بن عبد الله بن عبد الوهاب ص 511.
(2) التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار، للحافظ أبي الفرج زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب، ص 25.
(3) انظر: المرجع السابق، ص 25.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7 / 474، وانظر: عمدة القاري للعيني 14 / 181.
(5) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 1 / 318.(1/441)
فينبغي للداعية أن يبين للمدعوين أعلام النبوة عند الحاجة لتثبيت المدعوين أو زيادة إيمانهم؛ ولإِظهار صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب الريب والشك أو التكذيب (1) .
خامسا: من صفات الداعية؛ الأخذ بالظاهر والله يتولَّى السرائر: دل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بظواهر الناس ويكل سرائرهم إلى الله عز وجل، ففي هذا الحديث لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل على ما ظهر له من عدم صدقه وإخلاصه بإخبار الله له عن طريق الوحي.
وهكذا ينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يأخذ بالظاهر ويكل سرائر الناس إلى خالقهم العالم بما في نفوسهم (2) .
سادسا: من أساليب الدعوة: الترغيب والترهيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب؛ لأن فيه الترغيب في طلب حسن الخاتمة بالأعمال الصالحة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة» ، أما الترهيب؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار» ولا شك أن ذلك أوجد الخوف في قلوب الصحابة حتى قال بعضهم: «وأيّنا من أهل الجنة إذا كان هذا من أهل النار» وهذا الترهيب يثمر محاسبة العبد نفسه، والنظر والتأمل في صدقه مع الله وحسن نيته أو خبثها، ثم يلتزم بما يحبه الله ويرضاه، ويسأله سبحانه العفو والعافية في الدنيا والآخرة. أسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة: لي ولأهل بيتي ومشايخي وجميع المسلمين (3) .
سابعا: من موضوعات الدعوة: الحث على النية الصالحة: ظهر في هذا الحديث أن الرجل الذي قتل نفسه لم تكن نيته صالحة، فهو
_________
(1) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع.
(2) انظر: الحديث رقم 9، الدرس السادس.
(3) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر، ورقم 12، الدرس الثالث.(1/442)
كان يقاتل إما انتصارا لقومه، أو رياء وسمعة؛ قال الإمام القرطبي رحمه الله في هذا الحديث: " دليل على أن ذلك الرجل لم يكن مخَلصا في جهاده، وقد صرح الرجل بذلك فيما يروى عنه أنه قال: إنما قاتلت عن أحساب قومي، فيتناول هذا الخبر أهل الرياء " (1) .
فيتأكد على الداعية؛ أن يخلص نيته وأن يصلح قصده، وينبغي له أن يحث الناس على إصلاح النية وإخلاصها لله الواحد القهار؛ لأن الاعتبار بالنيات (2) .
ثامنا: من موضوعات الدعوة: حث الناس على طلب حسن الخاتمة بالقول والعمل: لا شك أن من الموضوعات المهمة في الدعوة إلى الله عز وجل حض المدعوين على طلب حسن الخاتمة بالدعاء، وبعمل جميع الأسباب المؤدية إلى حسن الختام؛ لأن من رغب في شيء وحرص عليه جد في طلبه بالدعاء والضراعة إلى الله عز وجل، واجتهد في بذل الأسباب؛ قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] (3) وقد ظهر في هذا الحديث: أن الأعمال بالخواتيم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وإنما الأعمال بخواتيمها» .
ومما يعين المسلم على طلب حسن الخاتمة معرفته بعض ما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حسن الخاتمة وسوئها ومن ذلك: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات: فيكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح. فإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق
_________
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 1 / 319.
(2) انظر: الحديث رقم 22، الدرس السادس.
(3) سورة العنكبوت، الآية: 69.(1/443)
عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار» (1) .
وقد يعمل الرجل الزمن الطويل بالطاعات ويبتعد عن المعاصي والسيئات ثم قبل موته يرتكب الجرائم والموبقات ويترك الواجبات، فيهجم عليه الموت فجأة فيختم له بخاتمة السوء، وبالعكس؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة» (2) .
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله على حديث الباب: " وقوله: " فيما يبدو للناس " إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس. . . من جهة عمل سيءٍ ونحو ذلك فتلك الخصلة الخفية توجب سوءَ الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره، فتوجب له حسن الخاتمة " (3) .
وينبغي للمسلم أن يعمل بالأسباب التي توصل إلى حسن الخاتمة ويبتعد عن جميع الأسباب التي تنشأ عنها سوء الخاتمة، ومن ذلك ما يأتي:
1 - خوف الله عز وجل، والخشية من سوء الخاتمة، فقد كان السلف الصالح يخافون من سوء الخاتمة، فيحسنون العمل؛ لأن الخوف مع الرجاء يبعث على إحسان العمل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» (4) ؛ ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من السلف يخافون على أنفسهم النفاق،
_________
(1) متفق علبه: البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، 4 / 94 برقم 3208، واللفظ له برقم 3332، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، 4 / 2036 برقم 2643.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه، وأجله وعمله، وشقاوته، وسعادته، 4 / 2042 برقم 2651، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) جامع العلوم والحكم، 1 / 172، وانظر: المفهم لما أشكل في تلخيص كتاب مسلم للقرطبي 1 / 319.
(4) الترمذي، وحسنه، في كتاب صفة القيامة، باب: حدثنا محمد بن حاتم المؤدب، 4 / 633، برقم 2450، والحاكم من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه 4 / 308، و 2 / 421، 513، وأحمد في المسند 5 / 136 وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 954، وبرقم 2335، وانظر: صحيح سنن الترمذي للألباني 2 / 297.(1/444)
ويشتد قلقهم منه؛ لأن المؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر؛ لأن دسائس السوء من أسباب سوء الخاتمة (1) . وقد ذكِرَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لحذيفة رضي الله عنه: " نشدتك بالله هل سمّاني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم؟ " - يعني من المنافقين- قال: لا، ولا أبرئ بعدك أحدا، يعني لا يكون مفشيا سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) . وقال عبد الله بن أبي مليكة: " أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، وما منهم من أحد يقول: إن إيمانه على إيمان جبريل وميكائيل " (3) . وقال إبراهيم التيمي رحمه الله: " ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا " (4) . ويذكر عن الحسن: " ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق " (5) .
ويذكر عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: " لأن أستيقن أن الله تقبل لي صلاة واحدة أحب إليَّ من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] (6) .
2 - التوبة من جميع الذنوب والمعاصي وإتباعها بالأعمال الصالحة؛ لأن التسويف في التوبة من أسباب سوء الخاتمة؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] (7) . وقال سبحانه وتعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49 - 50] (8) . ولا شك أن: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (9) .
_________
(1) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب 1 / 174، و 172.
(2) ذكره الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 5 / 19.
(3) البخاري، كتاب الإِيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، معلقا مجزوما به، 1 / 21.
(4) المرجع السابق في الكتاب والباب المذكور، 1 / 21، معلقا مجزوما به.
(5) المرجع السابق في الكتاب نفسه والباب، 1 / 21، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري 1 / 111 " وصله جعفر الفريابي في كتاب صفة المنافقين،، وأشار الحافظ رحمه الله إلى صحته.
(6) ذكره ابن كثير في تفسيره، 2 / 41، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وانظر: المنار المنيف في الصحيح والضعيف، لابن القيم، ص 32، والآية من سورة المائدة: 27.
(7) سورة النور، الآية: 31.
(8) سورة الحجر، الآيتان: 49-50.
(9) رواه ابن ماجه برقم 2450، والطبراني في المعجم الكبير، برقم 10281، وتقدم تخريجه في الدرس الثاني من الحديث رقم 39، ص 268.(1/445)
ولا بد مع التوبة من الأعمال الصالحة؛ لقوله عز وجل: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] (1) وقال سبحانه وتعالى بعد أن ذكر عقاب المشرك، وقاتل النفس بغير حق، والزاني: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70] (2) .
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله " فقيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال؛ " يوفقه لعمل صالح قبل الموت» (3) وعن عمرو بن الحَمقِ رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أراد الله بعبدٍ خيرا عَسَلَه " قالوا: وكيف يعسله؛ قال: " يفتح الله عز وجل له عملا صالحا بين يدي موته حتى يرضى عنه جيرانه، أو من حوله» (4) .
3 - الدعاء بحسن الخاتمة وإظهار الافتقار إلى الله عز وجل؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر الدعاء بالثبات على دين الله عز وجل، فعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان أكثر دعائه: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " قالت: قلت: يا رسول الله ما أكثر دعاءك: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ قال: " يا أم سلمة إنه ليس آدميّ إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ» فتلا معاذ: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] (5) .
_________
(1) سورة طه، الآية: 82.
(2) سورة سورة الفرقان، الآية: 70.
(3) الترمذي، كتاب القدر، باب ما جاء أن الله كتب كتابا لأهل الجنة وأهل النار، وقال: " هذا حديث حسن صحيح "، 4 / 450 برقم 2142، والحاكم 1 / 340، وقال صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، قال الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح للتبريزي 3 / 1454، برقم 5288: " وهو كما قالا ".
(4) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار، 7 / 52 -53، برقم 4640، و 4641، وأحمد في المسند، 5 / 224، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 1 / 340، وعمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني في كتاب السنة 1 / 176، برقم 401، وذكر له شواهد برقم 400، 402، 403. وابن حبان في صحيحه 2 / 54، برقم 342، وانظر: موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان للهيثمي برقم 1822. ونقل الألباني تصحيحه على شرط مسلم في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 1114.
(5) الترمذي، كتاب الدعوات، باب: حدثنا أبو موسى الأنصاري، وقال: " وهذا حديث حسن "، 5 / 538، برقم 3522، وأحمد في المسند من حديث النواس بن سمعان، 4 / 182، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 1 / 525، 528، وصححه الألباني في صحيح الترمذي 3 / 171 وفي ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم 1 / 100 برقم 223.(1/446)
وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " فقلت: يا رسول الله، آمنّا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: " نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف شاء» (1) .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» (2) .
وكان صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة» (3) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من: " جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء» (4) .
فينبغي للمسلم أن يكثر من هذه الأدعية التي هي من أسباب حسن الخاتمة، وعليه أن يكثر من " لا حول ولا قوة إلا بالله " فعن عبد الله بن قيس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ " فقلت: بلى يا رسول الله، قال: " قل لا حول ولا قوة إلا بالله» (5) .
4 - قصر الأمل من أسباب حسن الخاتمة، وطول الأمل ضد ذلك؛ لأن قصر الأمل يحث صاحبه على اغتنام الأوقات والأعمال الصالحة؛ ولهذا
_________
(1) الترمذي، كتاب القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن، وقال: " وهذا حديث حسن "، 4 / 448، برقم 2140، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، 2 / 1260، برقم 3834، وصححه الألباني في صحيح الترمذي 2 / 225، وصحيح سنن ابن ماجه 2 / 325، وفي ظلال الجنة في تخريج السنة 1 / 101، برقم 225.
(2) مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، 4 / 2045، برقم 2654.
(3) أخرجه الإمام أحمد في المسند 4 / 181 من حديث بسر بن أرطاة رضي الله عنه، والطبراني في المعجم الكبير، 2 / 33، بأرقام: 1196 - 1198، وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال أحمد وأحد أسانيد الطبراني ثقات، 10 / 178.
(4) متفق عليه: البخاري، كتاب الدعوات، باب التعوذ من جهد البلاء، 7 / 199 برقم 6347، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، 4 / 2080 برقم 2707.
(5) متفق عليه: البخاري، كتاب القدر، باب " لا حول ولا قوة إلا بالله " 7 / 271، برقم 6610، ومسلم كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب خفض الصوت بالذكر 4 / 2076، برقم 2704.(1/447)
أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكبي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك (1) .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: " هذا الإِنسان، وهذا أجله محيط به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا» (2) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين: في حب الدنيا وطول العمر» (3) . وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يهرم ابن آدم وتشبّ منه اثنتان؛ الحرص على المال، والحرص على العمر» (4) .
0 - فينبغي للمسلم أن لا يركن إلى الدنيا؛ فإنها متاع زائل، والله المستعان.
5 - بغض المعاصي والابتعاد عنها من أسباب حسن الخاتمة، وضد ذلك حبها وإلفها. فينبغي للمسلم أن يبغض كل ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإِنسان إذا أصرَّ على المعاصي ومات على ذلك كان ذلك من أسباب سوء الخاتمة، وبعِثَ على ما مات عليه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من مات على شيء بعثه الله عليه» (5) .
6 - الصبر عند المصائب من أسباب حسن الخاتمة، وضد ذلك الجزع أو الانتحار من أسباب سوء الخاتمة أسأل الله العفو والعافية لي ولأهل بيتي وجميع المسلمين، فينبغي للمسلم الصبر ابتغاء وجه الله عز وجل، فعن صهيب
_________
(1) البخاري، 7 / 218، برقم 6416، وتقدم تخريجه في الحديث رقم ا، الدرس الثالث، ص 52.
(2) البخاري، كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله، 7 / 219، برقم 6417.
(3) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، 7 / 220، برقم 6420، ومسلم، كتاب الزكاة، باب كراهية الحرص على الدنيا، 2 / 724، برقم 1046.
(4) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، 7 / 220، برقم 6421، ومسلم بلفظه في كتاب الزكاة، باب كراهة الحرص على الدنيا، 2 / 724، برقم 1047.
(5) أخرجه الإمام أحمد في المسند 3 / 314 عن جابر رضي الله عنه، والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذَهبي 1 / 340، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 283.(1/448)
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (1) ولا شك أن المصائب تكفر الخطايا والسيئات.
فينبغي للعبد الصبر والثبات واحتساب الأجر والثواب على الله عز وجل، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقَهَا» (2) وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما يصيب المؤمن من وصب (3) ولا نصب (4) ولا سقم، ولا حَزَنٍ، حتى الهمّ يهَمّه إلا كفِّر به من سيئاته» (5) .
7 - حسن الظن بالله عز وجل من أسباب حسن الخاتمة، وسوء الظن بالله من أسباب سوء الخاتمة، فينبغي للعبد أن يعلم أن الله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة، ولا يظلم الناس شيئا، وهو عند ظن عبده به؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني» . . " (6) .
وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بثلاث يقول: «لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» (7) .
8 - معرفة ما أعده الله عز وجل من النعيم المقيم للمؤمنين، من أسباب حسن
_________
(1) مسلم، في كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، 4 / 2295، برقم 2999.
(2) متفق عليه: البخاري كتاب المرضى، باب أشذّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأوَّل فالأوَّل، 7 / 4 برقم 5648، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن، أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها، 4 / 1991، برقم 2571.
(3) الوصب: الوجع اللازم. شرح النووي على صحيح مسلم 16 / 366.
(4) النصب: التعب. المرجع السابق 16 / 366.
(5) متفق عليه: البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، 7 / 3، برقم 5641، ومسلم واللفظ له، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصببه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها، 4 / 1993، برقم 2573.
(6) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ويحذركم الله نفسه آل عمران: 30، 8 / 216، برقم 7405، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، 4 / 2061، برقم 2675.
(7) مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، 4 / 2205 برقم 2877.(1/449)
الخاتمة؛ لأن هذا العلم يحث على العمل، والاستقامة على طاعة الله عز وجل، رغبة فيما عنده عز وجل من الثواب؛ قال الله عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60] (1) . فينبغي للمسلم أن يعلم أن مستقر أرواح المؤمنين في الحياة البرزخية في الجنة، فعن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن الشافعي، عن مالك، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه» (2) أما أرواح الشهداء فهي أعظم من ذلك، فقد ثبت في الصحيح أن: «أرواحهم في جوف طير خضرٍ، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل» . . " (3) .
فينبغي للداعية أن يبين للناس هذه الأمور حتى يحذِّرهم ويرغِّبهم، ويدلّهم على طرق حسن الخاتمة. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحسن لنا جميعا الخاتمة وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
تاسعا: عِظَم يقين الصحابة رضي الله عنهم بما يخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم: دل حديث سهل بن سعد رضي الله عنه على عظم يقين الصحابة رضي الله عنهم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به؛ ولهذا عندما سمع الصحابة رضي الله عنهم قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: «إنه من أهل النار " قال رجل منهم أنا صاحبه، فخرج معه كلما وقف وقف معه؛ لعلمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقّا وصدقا؛ وقد جاء في الرواية الأخرى أن هذا الصحابي رضي الله عنه عندما رأى أن الرجل قتل نفسه جاء
_________
(1) سورة القصص، الآية: 60.
(2) أخرجه أحمد في المسند، 3 / 455، والنسائي في كتاب الجنائز، باب أرواح المؤمنين، 4 / 108، برقم 2073، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى، 2 / 1428، برقم 4271، وموطأ الإمام مالك، كتاب الجنائز، باب جامع الجنائز، 1 / 240، برقم 49. وصححه الألباني في سلسَلة الأحاديث الصحيحة 2 / 730 برقم 995، وفي صحيح سنن النسائي 2 / 445.
(3) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب ببان أن أرواح الشهداء في الجنة وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، 3 / 1502، برقم 1887، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(1/450)
إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسرعا فقال: أشهد أنك رسول الله، فقال: " وما ذاك؟ " قال: قلت لفلان: " من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه " وكان أعظمنا غناء عن المسلمين " فعرفت أنه لا يموت على ذلك» (1) فقول الصحابي رضي الله عنه " فعرفت أنه لا يموت على ذلك " يدل دلالة واضحة على يقينه بما قال النبي صلى الله عليه وسلم وأن هذا الرجل لا يموت على الإِخلاص لله عز وجل.
فينبغي للداعية إلى الله- وكل مسلم- أن يتصف باليقين الكامل في كل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عاشرا: قد يؤيد الله عز وجل الإسلام بالمدعو الفاجر: إن الله عز وجل قد يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وقد جاء ذلك صريحا من قول النبي صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه لهذا الحديث وفيها: ". . . «فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: " الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله " ثم أمر بلالا فنادى في الناس " إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» (2) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " الله قد يؤيد دينه بالفاجر وفجوره على نفسه " (3) .
_________
(1) من الطرف رقم: 6607.
(2) متفق عليه: البخاري برقم 3062، ومسلم، برقم 111، ويأتي تخريجه برقم [138- 3062] .
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 179، وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 1 / 320، وعمدة القاري للعيني، 14 / 181.(1/451)
[باب التحريض على الرمي]
[حديث ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا]
78 - باب التَّحرِيض على الرمي، وقَوْلِ الله تعالى {وَأَعِدّوا لَهمْ مَا اسْتَطَعْتمْ مِنْ قوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ترْهِبونَ بِهِ عَدوَّ اللَّهِ وَعَدوَّكمْ} [الأنفال: 60] (1) .
74 [ص:2899] حَدَّثَنَا عَبْد اللهِ بْن مَسْلَمَةَ: حَدَّثَنَا حَاتِم بْن إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنٍ أَبِي عبَيدٍ قَالَ: سَمِعْت سَلَمَةَ بْنَ الأَكْوَعِ (2) رضي الله عنه قَالَ: «مَرَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم علَى نَفرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنتَضِلونَ، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: " ارْموا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكمْ كَانَ رَامِيا، ارْموا وَأَنَا مَعَ بَنِي فلَانٍ ". قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَد الفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا لَكمْ لَا تَرْمون؟ " قَالوا: كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهمْ؛ قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: " ارْموا فأنا مَعَكمْ كلِّكمْ» (3) .
وفي رواية: «خَرَجَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم علَى قَوْمٍ مِنْ أَسْلَمَ يَتَنَاضلونَ بالسّوقِ. .» (4) .
* شرح غريب الحديث: * " ينتضلون " أي يرتمون بالسهام، يقال: انتضل القوم، وتناضلوا: أي رموا للسبق، وناضله إذا رماه، وفلان يناضل عن فلان؛ إذا رمى عنه،
_________
(1) سورة الأنفال، الآية: 60.
(2) سلمة بن الأكوع، هو سلمة بن عمرو، بن الأكوع، واسم الأكوع سنان بن عبد الله. شهد سلمة بيعة الرضوان بالحديبية، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلاث مرات: في أول الناس، ووسطهم وآخرهم، وكان شجاعا، راميا، محسنا، خيَّرا، فاضلا، غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، ويقال: شهد غزوة مؤتة. روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة وسبعون حديثا اتفق البخاري ومسلم على ستة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بتسعة، وكان رضي الله عنه يسبق الفرس عدوا. وقد سكن المدينة ثم تحول إلى الربذة بعد قتل عثمان رضي الله عنه، وتزوج هناك، وولد له، فلم يزل بها حتى قبل وفاته بليالٍ عاد إلى المدينة، فتوفي بها سنة أربع وسبعين وهو ابن ثمانين سنة. رضي الله عنه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 229، وسير أعلام النبلاء للذهبي 3 / 326، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 2 / 66.
(3) [الحديث 2899] طرفاه في: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ) [سورة مريم: 54] 4 / 143، برقم 3373. وكتاب المناقب، باب نسبة اليمن إلى إسماعيل، 4 / 189، برقم 3507.
(4) من الطرف، رقم 3507.(1/452)
وحاجج، وتكلَّم بعذره، ودفع عنه (1) .
* " فأمسك أحد الفريقين بأيديهم " أي تركوا الرمي وامتنعوا عنه (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الإِعداد للجهاد والحض عليه.
2 - من صفات الداعية: الشجاعة.
3 - من صفات الداعية: حسن الخلق.
4 - حسن أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
5 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
أولا: من موضوعات الدعوة: الإعداد للجهاد والحض عليه: إن من الموضوعات المهمة: الإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل والحض عليه، وتدريب المجاهدين على الأعمال القتالية في وقت السلم: كالتدريب على الرمي، وغيره من الوسائل الحديثة: كالدبابات، والمدرعات، والطائرات، والسفن الحربية، وغير ذلك من أنواع القوة، التي أمر الله بها؛ ولهذا أمر صلى الله عليه وسلم أصحابه في هذا الحديث تدريبا لهم وتعليما فقال: «ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا» .
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» (3) والقوة كل ما يحتاج إليه المجاهدون في إهلاك عدوهم، إلا أنه لما كان الرمي أنكاها على العدو وأنفعها، فسرها صلى الله عليه وسلم
_________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب النون مع الضاد، مادة: " نضل " 5 / 72.
(2) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الكاف، فصل الميم، مادة: " أمسك " 10 / 487، وانظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 8 / 2666.
(3) مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه، وذم من علمه ثم نسيه، 3 / 522، برقم 1917.(1/453)
وخصصها بالذكر، وأكدها ثلاثا؛ لأن النكاية بالسهام تبلغ العدو من الشجاع وغيره، بخلاف السيف والرمح؛ فإن النكاية لا تحصل بهما إلا من الشجعان الممارسين، وليس كل أحد كذلك، والرمي قد يحصل به إصابة رئيس الكتيبة فينهزم أصحابه، إلى غير ذلك مما يحصل في الرمي من الفوائد (1) .
فينبغي أن يعتني المسلمون بالإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل (2) .
ثانيا: من صفات الداعية: الشجاعة: دل هذا الحديث على أن الشجاعة صفة حميدة ينبغي أن يتصف بها الداعية إلى الله عز وجل؛ ولهذا، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن إسماعيل صلى الله عليه وسلم كان راميا، وهذا يدل على شجاعته، ومعرفته بأمور الحرب (3) عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم (4) .
ثالثا: من صفات الداعية: حسن الخلق: ظهر في هذا الحديث حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وتواضعه مع أصحابه، ومشاركته معهم في الرمي، وتشجيعهم على ذلك؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ارموا وأنا مع آل فلان» فلما رأى أن الفريق الثاني تأثروا رغبة منهم في اشتراك النبي صلى الله عليه وسلم معهم في الرمي قال صلى الله عليه وسلم: «ارموا وأنا معكم كلكم» والمعنى: معية القصد إلى الخير وإصلاح النية (5) . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ذكره لفوائد هذا الحديث: " وفيه حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفته بأمور الحرب " (6) .
فيحسن لكل مسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل الاتصاف بالخلق الحسن والله المستعان (7) .
_________
(1) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي 3 / 759، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 91، وعمدة القاري للعيني 14 / 181.
(2) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الثاني، ورقم 18، الدرس الثاني.
(3) انظر: بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني، لأحمد بن عبد الرحمن البناء، 20 / 64.
(4) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الخامس، و 61، الدرس الثاني.
(5) انظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري، 12 / 164، وعمدة القاري للعيني 14 / 32.
(6) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 92.
(7) انظر: الحديث رقم 14، الدرس الأول، ورقم 62، الدرس الرابع.(1/454)
رابعا: حسن أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم: في هذا الحديث الدلالة الواضحة على أدب الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا أمسكوا عن الرمي؛ لكون الرسول صلى الله عليه وسلم مع الفريق الآخر، خشية أن يغلبوهم، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم مع من وقعت عليه الغلبة، فأمسكوا عن ذلك تأدبا معه صلى الله عليه وسلم، وقد يكون إمساكهم؛ لعلمهم أن من كان معه الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن قلبه يقوى فينتصر؛ لأن ذلك من أعظم الوجوه المشعرة بالنصر (1) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه حسن أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم " (2) .
خامسا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: إن القدوة الحسنة وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مدح إسماعيل صلى الله عليه وسلم؛ لكونه راميا، وهذا فيه إشارة إلى الاقتداء به في المحافظة على الرمي، والاقتداء بالآباء في الخصال المحمودة والعمل بمثلها (3) ؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفيه أن الجد الأعلى يسمى أبا، وفيه التنويه بذكر الماهر في صناعته ببيان فضله، وتطييب قلوب من هم دونه " (4) .
فينبغي للداعية أن يكون قدوة صالحة للمدعوين، ويرشد إلى أعمال الأنبياء والصالحين؛ ليقتدى بهم (5) .
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 92، وعمدة القاري للعيني 14 / 181.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 92.
(3) انظر: المنهل العذب الفرات من أحاديث الأمهات من صحيح البخاري لعبد العال، 3 / 233، وبهجة الناظرين شرح رياض الصالحين، لسليم بن عيد الهلالي، 2 / 239.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 92.
(5) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث، ورقم 8، الدرس الخامس.(1/455)
[حديث إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل]
75 [ص:2900] حَدَّثَنَا أَبو نعْيم: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن الغَسِيلِ (1) عَنْ حمْزَةَ بْنِ أَبِي أسَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ (2) قَالَ: «قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ صَفَفْنَا لقرَيْشٍ وَصَفّوا لَنَا: " إِذا أَكْثَبوكم فَعَلَيْكمْ بِالنَّبْلِ» (3) .
وفي رواية: «إِذَا أَكْثَبوكمْ فَارْموهمْ وَاسْتَبْقوا نَبْلَكمْ» (4) .
وفي رواية: «إِذَا أَكْثَبوكمْ: يَعْنِي: أكثَروكمْ. .» (5) .
* شرح غريب الحديث: * " أكثبوكم " أي إذا قربوا منكم، والكثب القرب (6) أما رواية يعني «أكثروكم» فقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " هو تفسير لا يعرفه أهل اللغة وكأنه من بعض رواته " أي الحديث. (7) .
* " النبل " السهام العربية لا واحد لها من لفظها، فلا يقال: نبلة، وإنما يقال: سهم ونشَّابة (8) .
_________
(1) هو عبد الرحمن، بن سليمان، بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حنظلة الغسيل، وهو المعروف بغسيل الملائكة يوم أحد، فالغسيل هو جد أبيه، وقد عرف عبد الرحمن هذا بابن الغسيل نسبة إلى جد أبيه. انظر: تهذيب الكمال في أسماء الرجال، للحافظ جمال الدين يوسف المزي، 17 / 145، وميزان الاعتدال في نقد الرجال، للحافظ محمد بن أحمد الذهبي، 4 / 288، لسان الميزان لابن حجر، 8 / 490، وتهذيب التهذيب له، 6 / 172.
(2) أبو أسيد: هو مالك بن ربيعة، بن البَدَنَ، بن عامر، الخزرجي الأنصاري، الساعدي، مشهور بكنيته، شهد بدرا وأحدا وما بعدها، وكان معه راية بني ساعدة يوم الفتح، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث منها هذا الحديث، مات سنة ستين وهو ابن ثمان وسبعين، وقيل: خمس وسبعين، وقيل: ثمانين، وقيل غير ذلك، وهو آخر البدريين موتا، على قول من قال: إنه مات في التاريخ السابق. والله عز وجل أعلم. انظر: الإِصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني 3 / 344، وتهذيب التهذيب له، 10 / 14.
(3) [الحديث 2900] ، طرفاه في: كتاب المغازي، باب، 5 / 13 و 14، برقم 3984 و 3985.
(4) الطرف رقم 3984.
(5) من الطرف رقم 3985.
(6) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي ص 111، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الكاف مع الثاء، مادة: " كثب " 4 / 151.
(7) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7 / 306، وانظر: 6 / 92.
(8) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب النون مع الباء، مادة: " نبل " 5 / 10.(1/456)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحث على الإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل.
2 - من صفات الداعية: وضع كل شيء في موضعه.
والحديث عن هذين الدرسين والفائدتين الدعويتين على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل: ظهر في هذا الحديث التحريض على الرمي والإِعداد للجهاد بأي وسيلة من وسائله، سواء كان ذلك بالسهام كما في العصور السابقة العظيمة، أو بالرصاص والقذائف النارية، والقنابل اليدوية كما في هذا العصر؛ لأن الرمي أحد عناصر القوة التي أمرنا الله عز وجل بإعدادها، ويفسر في كل عصر بحسبه، وما وجد فيه من عناصر القوة بقدر الاستطاعة؛ ولهذا ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: " باب التحريض على الرمي " (1) .
فينبغي الإِعداد للجهاد وحث المسلمين عليه (2) .
ثانيا: من صفات الداعية: وضع كل شيء في موضعه: دل قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «إذا أكثبوكم فارموهم واستبقوا نبلكم» على أنه ينبغي للمجاهد والداعية أن يضع كل شيء في موضعه المناسب؛ لأن معنى الحديث: الأمر بترك الرمي حتى يقرب العدو؛ لأنهم إذا رموا على بعد قد لا تصل إليهم السهام ولا تصيبهم، فتضيع دون فائدة، وإلى هذا أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: «واستبقوا نبلكم» والمراد بالقرب المطلوب في الرمي: قرب نسبي بحيث تصل إليهم السهام وتصيبهم، وليس المراد بالقرب التلاحم الذي لا ينفع فيه
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 92، وعمدة القاري للعيني 14 / 182، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، لمحمد شمس الحق العظيم أبادي 7 / 324، ومنار القاري في شرح مختصر البخاري، لحمزة بن محمد قاسم، 4 / 106.
(2) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الثالث، ورقم 18، الدرس الثاني.(1/457)
إلا السيوف. وهذا كله يدل على استعمال السلاح المناسب في الوقت المناسب؛ من أجل المحافظة على القوة وعدم تضييعها في غير منفعة (1) .
فينبغي للداعية إلى الله سبحانه وتعالى أن يضع كل شيء في موضعه بإحكام وإتقان (2) .
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 92، وعمدة القاري للعيني 14 / 83، ومنار القاري في شرح مختصر صحيح البخاري لحمزة بن محمد قاسم 4 / 106.
(2) انظر: الحديث رقم 64، الدرس الخامس.(1/458)
[باب اللهو بالحراب ونحوها]
[حديث بينا الحبشة يلعبون عند النبي]
79 - باب اللَّهوِ بالحِرَابِ وَنَحوِهَا 76 [ص:2901] حَدَّثَنَا إِبْراهِيم بْن موسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَام، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ المسيِّبِ، عَنْ أَبِي هرَيْرَةَ (1) رضي الله عنه، قَالَ: «بَيْنَا الحَبَشَة يَلْعَبونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، دَخَلَ عمَر فَأَهْوَى إِلَى الْحَصْبَاء فَحَصَبَهمْ بِهَا، فَقَالَ: " دَعْهمْ يَا عمَر» . وَزَادَ عَليّ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّزَّاقِ: أَخبرنا معْمر «في المسجدِ» (2) .
* شرح غريب الحديث: * " الحصباء ": الحصى الصغار (3) .
* " فحصبهم ": رماهم بالحصباء (4) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: تدريب المجاهدين والإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل.
2 - من ميادين الدعوة: المسجد.
3 - من صفات الداعية: الرفق.
4 - من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والاستقامة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: تدريب المجاهدين والإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل: دل هذا الحديث على أن الإِعداد للجهاد والتحريض عليه من الأمور المهمة؛ ولهذا لم ينكر صلى الله عليه وسلم على الحبشة حينما لعبوا في المسجد بالحراب؛ لأن ذلك من باب التدريب على الجهاد، والإِعداد له؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " واللعب
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 7.
(2) وأخرجه مسلم في كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه، في أيام العيد، 2 / 610، برقم 893.
(3) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، حرف الحاء مع الصاد، مادة: " حصب " 1 / 393.
(4) المرجع السابق، حرف الحاء مع الصاد، مادة: " حصب " 1 / 394.(1/459)
بالحراب ليس لعبا مجردا، بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدوِّ " (1) وقال رحمه الله: " واستدل به على جواز اللعب بالسلاح على طريق التواثب للتدريب على الحرب والتنشيط عليه، واستنبط منه جواز المثاقفة؛ (2) لما فيها من تمرين الأيدي على آلات الحرب " (3) . فينبغي إعداد العدَد، والعدد، والتدريب على أمور الجهاد، وأخذ الأهبة والحذر، والله الموفق (4) .
ثانيا: من ميادين الدعوة: المسجد: دل هذا الحديث على أن المسجد ميدان من ميادين الدعوة إلى الله عز وجل، ولهذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم الحبشة على التدرب على الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، وأنكر صلى الله عليه وسلم على عمر رضي الله عنه حصبهم بالحصباء؛ لأن اللعب بالحراب من أجل الجهاد عبادة لله عز وجل؛ وقد ذكر الإِمام السيوطي رحمه الله: " أن لعب الحبشة كان بالسلاح واللعب بالسلاح مندوب إليه للقوة على الجهاد، فصار ذلك من القرب، كإقراء علم، وتسبيح، وغير ذلك " (5) وهذا ظاهر واضح؛ لأن كل فعل مباح قصِدَ به وجه الله والدار الآخرة يكون طاعة لله عز وجل، (6) ورجَّح الإِمام عبد الله بن أبي جمرة أن لعب الحبشة في المسجد كان " للضرورة لضيق المدينة وضيق البيوت، ولعب الثقاف لا بد منه في وقتهم ذلك؛ لضرورة التدريب للقتال، فإذا كانت ضرورة مثل هذه جاز وإلا فلا " (7) وهذا هو الأولى، أن يكون التدريب على السلاح والرمي والكر والفر في ميادين خاصة، تعدَّ لتدريب المجاهدين إلا إذا اضطر الناس إلى تدريب المجاهدين في المسجد. والله الموفق للصواب.
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 1 / 549.
(2) المثاقفة: يقال: ثاقفه فثقفه، كنصره: غالبه فغلبه في الحذق، ويقال: ثاقفه مثاقفة وثِقافا: خاصمه وجالده بالسلاح، ولاعبه إظهارا للمهارة والحذق، انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الفاء فصل الثاء، 9 / 19، والقاموس المحيط للفبروز آبادي، باب الفاء فصل الثاء، ص 1027، والمعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية، باب الثاء، مادة: " ثقف " 1 / 98.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 2 / 445.
(4) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الثاني.
(5) شرح جلال الدين السيوطي على سنن النسائي 3 / 196.
(6) انظر: بهجة النفوس، لعبد الله بن أبي جمرة 3 / 127.
(7) انظر: المرجع السابق، 3 / 125.(1/460)
ولا شك أن المسجد ميدان عظيم من ميادين الدعوة إلى الله عز وجل، فينبغي للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أن يجعلوه ميدانا: للمحاضرات العلمية، والندوات، والخطب، والكلمات الوعظية، وإقامة الدروس، وتعليم الناس أمور دينهم، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل وصحابته من بعده، ومن سار على نهجهم واقتدى بهديهم (1) .
ثالثا: من صفات الداعية: الرفق: دل هذا الحديث على صفة الرفق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفق في نهيه لعمر رضي الله عنه حينما حصب الحبشة بالحصباء، فقال صلى الله عليه وسلم له: «دعهم يا عمر» وهذا يدل على رفق النبي صلى الله عليه وسلم ولينه الحكيم؛ قال الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] (2) فظهر من هذه الآية أن حقيقة الرفق: لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل والأيسر، وحسن الخلق، وكثرة الاحتمال، وعدم الإِسراع بالغضب والعنف (3) وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه» (4) .
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» (5) وعنها رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من يحرم الرفق يحرم الخير» (6) وعنها رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «إنه من أعطي
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 6 / 433 -437، وبهجة النفوس لابن أبي جمرة، 3 / 224 - 226، " وإكمال إكمال المعلم، شرح صحيح مسلم، للأبي 3 / 271 -273، وفتح الباري لابن حجر، 1 / 156، 186، 187، 192، 230.
(2) سورة آل عمران، الآية: 159.
(3) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب الراء مع الفاء، مادة: " رفق " 2 / 246، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، 10 / 449.
(4) مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق، 4 / 2004، برقم 2593 عن عائشة رضي الله عنها.
(5) المرجع السابق، في الكتاب والباب المشار إليهما، 4 / 2004، برقم 2593.
(6) المرجع السابق في الكتاب والباب المشار إليهما 4 / 4003، برقم 2592.(1/461)
حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم، وحسن الخلق وحسن الجوار: يعمران الديار ويزيدان في الأعمار» (1) .
فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يكون رفيقا في دعوته وفي جميع أموره.
رابعا: من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والاستقامة: دل الحديث على أن من أصناف المدعوين أهل الصلاح والاستقامة والتقوى؛ لأن المعصوم من عصمه الله عز وجل؛ ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعله مع الحبشة في المسجد فقال له: " دعهم يا عمر " ويحتمل أن عمر رضي الله عنه لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعلم أنه رآهم، أو ظن أنه رآهم واستحيا أن يمنعهم (2) وهذا أولى؛ لقوله في الحديث " وهم يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال ابن حجر رحمه الله: " وهذا لا يمنع الاحتمال المذكور أولا، ويحتمل أن يكون إنكاره لهذا شبيه إنكاره على المغنيتين، وكان من شدته في الدين ينكر خلاف الأولى والجد في الجملة أولى من اللعب المباح " (3) .
ولا شك ولا ريب أن الداعية العظيم - غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - قد يحتاج إلى التوجيه ممن هو فوقه من الدعاة والعلماء، وقد ينكِر عليه أيضا من هو دونه في العلم فلا حرج في ذلك وينبغي للدعاة أن ينصح بعضهم بعضا، ويقبلوا النصيحة والتوجيه والحق ممن جاء به؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته (4) ويحوطه من ورائه» (5) والله عز وجل المستعان (6) .
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند، 6 / 159، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: " رجاله ثقات " 10 / 415، وصحح إسناده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 519.
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 93.
(3) المرجع السابق، 6 / 93.
(4) الضيعة: الحرفة، وكفها جمعها عليه وردّها إليه، ومعنى " يحوطه " أي يحفظه، ويصونه من ورائه، من حيث لا يعلم، وفيما يغيب عنه من أموره، جامع الأصول، لابن الأثير 6 / 563 غريب الحديث رقم 4794.
(5) أخرجه أبو داود، في كتاب الأدب، باب النصيحة والحياطة، 4 / 280 برقم 4918 عن أبي هريرة رضي الله عنه، والبخاري في الأدب المفرد ص 93 برقم 239. وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 926.
(6) انظر: الحديث رقم 71، الدرس السابع.(1/462)
[باب المجن ومن يتترس بترس صاحبه]
[حديث كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله]
80 - باب المِجَنِّ ومَن يتَتَرَّس بترس صاحبه 77 [ص:2904] حَدَّثَنَا عَليّ بْن عبد الله: حَدَّثَنَا سفْيَان، عَنْ عَمرو، عَن الزهري، عَنْ مَالِكِ بْن أَوسِ بْنِ الحَدثَانِ (1) عَنْ عمَر (2) رضي الله عنه قَالَ: «كَانَتْ أَمْوال بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ الله عَلَى رَسولِهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَمْ يوجِفِ المسْلِمونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلاَ رِكَاب، فَكَانَتْ لِرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّة، وَكَانَ ينْفِق عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثمَّ يَجْعَل ما بقِيَ فِي السِّلاحِ وَالْكرَاعِ عدَّة فِي سَبِيلِ اللهِ» (3) .
وفي رواية: حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن محَمّدٍ الفَرَوِيّ: حَدَّثَنَا مَالِك بْن أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مَالِك بْنِ أَوْسِ بْنِ الحَدَثانِ - وَكَانَ محَمَّد بْن جبَيْرٍ ذَكَرَ لِي ذِكْرا مِنْ حَدِيثِهِ ذَلِكَ، فَانْطَلَقْت حَتَّى أَدْخلَ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ فَسَأَلته عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ- فَقَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا جَالِس فِي أَهْلِي حِينَ مَتَعَ النَّهار، إِذَا رَسول عمَرَ بْنِ الخَطَّاب يَأْتِينِي فَقَالَ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمؤمِنِينَ، فَانْطَلَقْت مَعَه حَتَّى أَدخلَ عَلَى عمَرَ، فَإِذَا هوَ جَالِس عَلَى رمَالِ سَرِيرٍ لَيْسَ بَيْنَه وَبَيْنَه فِراش، متكئ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ. فَسَلَّمْت عَلَيْهِ ثمَّ جَلَسْت، فَقَالَ: يَا مَالِك، إِنَّه قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ قَوْمِكَ أَهْل أَبْيَاتٍ، وَقَدْ أَمَرْت فِيهِمْ بِرَضْخٍ، فَاقْبِضه، فَاقْسِمْه بَيْنَهمْ، فَقلْت:
_________
(1) مالك بن أوس بن الحدثان، بن الحارث بن عوف، النصري الحجازي المدني، يقال: أدرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وجمهور العلماء على أنه تابعي، وحدث عن عمر، وعلي، وعثمان، وطلحة، رضي الله عنهم، وحدث عن غيرهم. وشهد الجابية وفتح بيت المقدس مع عمر. وقيل: قد ركب الخيل في الجاهلية، وكان مشهورا بالبلاغة والفصاحة وهو قليل الحديث. مات سنة اثنتين وتسعين، وقيل: سنة إحدى وتسعين. قال الإمام الذهبي: لعله عاش مائة سنة. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 2 / 79، وسير أعلام النبلاء للذهبي 4 / 171، وتهذيب التهذيب لابن حجر، 10 / 9.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 64.
(3) [الحديث 2904] أطرافه في: كتاب فرض الخمس، باب فرض الخمس، 4 / 53، برقم 3094. وكتاب المغازي، باب حديث بني النضير، 5 / 28، برقم 4033. وكتاب تفسير القرآن، سورة الحشر 59، باب " ما أفاء الله على رسوله "، 6 / 69، برقم 4885. وكتاب النفقات، باب حبس (نفقة) الرجل قوت سنة على أهله، وكيف نفقات العيال؟ ، 6 / 233، برقم 5357 و 5358. وكتاب الفرائض، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا نورث ما تركنا صدقة "، 8 / 4، برقم 6728. وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق، 8 / 185، برقم 7305. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب حكم الفيء، 3 / 1376، برقم 1757.(1/463)
يَا أَمِيرَ الْمؤمِنِينَ، لَوْ أَمَرْتَ لَه غَيْري؟ قَالَ: فَاقْبِضْه أَيّهَا المَرْء، فَبَيْنَمَا أنا جَالِس عِنْدَه أتاه حَاجِبه يَرْفَأ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عثْمَانَ وَعبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ والزّبَيْرِ، وَسْعدِ بْنِ أَبِي وقَاصٍ يَسْتأْذنونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهمْ، فَدَخَلوا، فَسَلَّموا وَجَلَسوا. ثمَّ جَلَسَ يَرْفأ يَسِيرا، ثمَّ قَالَ: هَلْ لَكَ فِي عَليٍّ (1) وعبَّاس (2) ؟ قَالَ: نَعم، فَأَذنَ لَهمَا، فَدَخَلا، فَسَلَّمَا فَجَلَسَا فَقَالَ عَباس: يَا أَمِيرَ الْمؤمِنِينَ، اقْضِ بَينِي وَبَيْن هَذَا - وَهمَا يَخْتَصِمَانِ فِيمَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَالِ بَنِي النَّضِيرِ- فَقَالَ الرَّهْط - عثْمَان وَأَصْحَابه- يَا أَمِيرَ الْمؤمِنِينَ اقْضِ بَيْنَهمَا وَأَرِحْ أَحَدَهمَا مِنَ الآخَرِ. فَقَال عمَر: تَيْدَكمْ؛ أنشدكمْ باللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقوم السَّمَاء وَالأَرْض، هَلْ تَعْلَمونَ أَن رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: " لَا نورَث، مَا تَرَكْنَا صَدَقة؟ " يريد رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَه؛ قَالَ الرَّهْط: قَدْ قَالَ ذَلِكَ. فَأَقْبَلَ عمَر عَلَى عَلِيٍّ وَعَبّاسٍ فَقَالَ: أَنشدكمَا اللهَ أَتَعْلَمَانِ أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا: قَدْ قَالَ ذَلِكَ؛ قَال عمَر: فَإِنِّي أحدِّثكمْ عَنْ هَذَا الأَمْر: إِنَّ اللهَ قَدْ خَصَّ رَسولَه صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْفَيءِ بشَيْءٍ لَمْ يعْطهِ أَحَدا غَيْرَه. ثمَّ قَرَأَ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: 6] إلى قوله: {قَدِيرٌ} [الحشر: 6] فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَة لِرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والله مَا احْتازَهَا دونَكمْ، وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكمْ، قَدْ أَعْطَاكموه وَبَثَّهَا فِيكمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَال، فَكَانَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ينفِق عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ، ثمَّ يَأْخذ مَا تقِيَ فَيَجْعَله مَجْعَلَ مَالِ اللهِ. فَعَمِلَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ حَيَاتَه. أَنشدكمْ بِاللهِ، هَلْ تَعْلَمونَ ذَلِكَ؟ قَالوا: نَعَمْ. ثمَّ قَالَ لِعَليٍّ وَعَبَّاسٍ: أَنْشدكمَا اللهَ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ؛ قَالَ عمَر: ثمَّ تَوَفَّى الله نَبيَّه صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبو بَكْرٍ: أَنَا وَليّ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَبَضَهَا أَبو بَكْرٍ فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، والله يَعْلم إِنَّه فِيهَا لَصَادِق بَارّ رَاشد تَابع لِلْحَقِ. ثمَّ تَوَفَّى الله أَبَا بَكْرٍ، فَكنْت أنا وَلِيَّ أَبِي بَكْرٍ، فَقَبَضْتهَا سَنَتَين مِن إِمَارَتي أَعْمَل فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا عَمِلَ فِيهَا أَبو بَكْرٍ،
_________
(1) ترجم له في الحديث رقم 78.
(2) ترجم له في الحديث رقم 105.(1/464)
وَالله يَعْلَم إِنِّي فِيهَا لَصَادِق بَارّ رَاشد تَابع لِلْحَقِ. ثم جِئْتمَانِي تكَلِّمَانِي، وَكَلِمَتكمَا وَاحِدَة وَأمركمَا وَاحِد، جِئْتَنِي يَا عَبَّاس تَسْألنِي نَصِيبَكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ، وَجَاءَنِي هَذَا- يرِيد عَليّا - يرِيد نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا. فَقلْت لَكمَا: إِنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: " لَا نورَث، مَا تَرَكْنَا صَدَقَة ". فَلَمَّا بَدَا لِي أَنْ أَدْفَعَه إِليْكمَا قلْت: إِنْ شِئتمَا دَفَعْتهَا إِليْكمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكمَا عَهْدَ اللهِ ومِيثَاقَه لتَعْمَلاَنِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبو بَكْرٍ، وبِمَا عَمِلت فِيهَا منْذ وَليْتهَا. فَقلْتمَا: ادْفعهَا إِلَيْنَا، فَبِذَلِكَ دَفَعْتهَا إِلَيْكمَا. فَأَنشدكمْ بِاللهِ هَلْ دَفَعْتها إِلَيْهمَا بِذَلِكَ؟ قَالَ الرَّهْط: نَعَمْ. ثمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبّاسٍ فَقَالَ: أَنشدكمَا بِاللهِ هَلْ دَفَعْتها إِلَيْكمَا بِذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ، قَالَ: فَتَلْتَمسَانِ مِنِّي قَضاء غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَوَاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقوم السَّمَاء وَالأَرْض، لَا أَقْضي فِيهَا قَضاء غَيْرَ ذَلِكَ؛ فإِنْ عَجَزْتمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ، فإِنِّي أَكْفِيكمَاهَا» (1) .
وفي رواية: «اتَّئِدوا أَنشدكمْ بِاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقوم السَّمَاء وَالأَرْض. .» (2) .
وفي رواية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يَبيع نَخْلَ بَنِي النَّضيرِ، ويَحْبس لأَهْلِهِ قوتَ سَنَتِهِمْ» (3) .
* شرح غريب الحديث: * " أفاء الله على رسوله " الفيء: هو ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد. وأصل الفيء: الرجوع من جهة إلى جهة، أو من مفارقة إلى موافقة (4) .
* " يوجف " الإِيجاف سرعة السير، يقال: أوجف دابته يوجفها إيجافا،
_________
(1) الطرف رقم 3094.
(2) من الطرف رقم: 4033.
(3) الطرف رقم: 5357.
(4) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 43، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الفاء مع الياء، مادة: " فيأ " 3 / 482.(1/465)
إذا حثها، ويقال: أوجف في الشيء: اجتهد وأسرع (1) .
* " الكراع " اسم يجمع أنواع الخيل (2) .
* " متع النهار " أي طال وامتدَّ وتعالى (3) .
* " رمَالِ سرير " الرّمال: ما رمل: أي نسِجَ من حصير وغيره، يقال: رمل الحصير وأرمله فهو مرمول، ومرْمَل، كأنه أراد أنه لم يكن تحته فراش، ولا حائل دون الحصير (4) . * " من أدَم " جمع أَدِيم: وهو الجلد (5) .
* " برضخ " الرضخ: العطية القليلة (6) .
* " يرفأ " يقال: رفوت الرجل ورفأته: إذا سكنته، ويقال: يرفؤه: يسكنه ويلين له القول، ويترضاه (7) .
* " تيدكم ": أي على رسلكم، وهو التّؤَدة، كأنه قال: الزمو تؤَدَتكم، وكذلك قوله: " اتئدوا " أمر بالتؤدة والتأني (8) .
* " أنشدكم بالله " أي أسألكم بالله (9) .
_________
(1) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 44، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الواو مع الجيم، مادة: " وجف " 5 / 157.
(2) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 44.
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الميم مع التاء، مادة: " متع " 4 / 293، وانظر: مشارق الأنوار للقاضي عياض، حرف الميم مع التاء، 1 / 372.
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الميم مادة: " رمل " 2 / 265، وانظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 42.
(5) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 537، وانظر: مشارق الأنوار للقاضي عياض، حرف الهمزة مع الدال، 1 / 24.
(6) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الضاء، مادة: " رضخ " 2 / 228، وانظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 43.
(7) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 430، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الفاء، مادة: " رفأ " 2 / 241.
(8) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب التاء مع الهمزة، مادة: " تئد " 1 / 178.
(9) انظر: المرجع السابق، باب النون مع الشين، مادة: " نشد " 5 / 52، وتقدم في شرح غريب الحديث رقم 16، ص 147.(1/466)
* " ما احتازها دونكم " أي ما امتلكها ولا ضمها إلى نفسه (1) .
* " بثها فيكم " أي أشاعها ونشرها (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: إعداد العدد للجهاد في سبيل الله عز وجل.
2 - الادخار لا ينافي التوكل على الله عز وجل.
3 - من صفات الداعية: الزهد.
4 - أهمية الحرص على طلب الحديث وتحصيله من مصادره الأصلية.
5 - من وسائل الدعوة: أن يتولى أمر كل قبيلة كبيرهم الصالح.
6 - أهمية الشفاعة الحسنة في الدعوة إلى الله عز وجل.
7 - من أساليب الدعوة: الحوار.
8 - من أساليب الدعوة: استشهاد من حضر لتقوى الحجة.
9 - أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة.
10 - من صفات الداعية: عدم الحرص على الإِمارة والعلوِّ في الأرض والجاه.
11 - أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية.
12 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
13 - من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض مناقبه عند الحاجة انتصاراَ للحق.
14 - لا ينكر أن يغيب عن العالم أو الداعية بعض العلم.
15 - أهمية العمل بمقتضى الدليل الشرعي.
16 - من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
_________
(1) انظر: المعجم الوسيط، مادة: " حاز " 1 / 206.
(2) مشارق الأنوار للقاضي عياض، حرف الباء مع الثاء، مادة: " بثث " 1 / 78.(1/467)
أولا: من موضوعات الدعوة: إعداد العدد للجهاد في سبيل الله عز وجل: دل هذا الحديث على أن الإِعداد للجهاد والحث عليه من موضوعات الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا كان النبي ينفق على أهله نفقة سنته مما أفاءَ الله عليه مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله عز وجل (1) . وهذا يبين للمسلمين اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم في إعداد العدَد والتأهب للجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى (2) .
ثانيا: الادخار لا ينافي التوكل على الله عز وجل: ظهر في هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان ينفق على أهله نفقة سنتهِ ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله» وفي الرواية الأخرى: «كان يبيع نخل بني النضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم» وهذا يدل على أن الادخار لا ينافي التوكل على الله عز وجل؛ لأن سيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم ادخر كما في هذا الحديث؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه جواز الادخار خلافا لقول من أنكره من متشدِّدي المتزهدين، وأن ذلك لا ينافي التوكل " (3) ولا شك أن هذا من عمل الأسباب المشروعة التي لا تنافي التوكل (4) .
ثالثا: من صفات الداعية: الزهد: ظهر في هذا الحديث زهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يجعل ما بقي بعد نفقة أهله سنتهِ، في السلاح والكراع عدة في سبيل الله عز وجل، وظهر في الحديث أيضا زهد عمر بن الخطاب وهو أمير المؤمنين رضي الله عنه، فقد جاءه مالك بن أوس بن الحدثان وهو جالس على رمال سرير ليس بينه وبينه فراش وهو متكئ على وسادة من جلد. وهذا يبين للدعاة إلى الله عز وجل عظم زهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 94، وعمدة القاري للعيني 14 / 185.
(2) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الثالث.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 208، و 9 / 503، وانظر: الإِفصاح عن معاني الصحاح للوزير العالم ابن هبيرة، 1 / 142، وبهجة النفوس لابن أبي جمرة، 3 / 90.
(4) انظر: الحديث رقم 30، الدرس الخامس.(1/468)
رضي الله عنهم؛ لأنهم قد علموا أن الدنيا وما فيها متاع زائل؛ ولهذا قال سهل بن سعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» (1) .
فينبغي للداعية أن يكون زاهدا في الدنيا كما زهد أهل العلم والإِيمان (2) ؛ لأن الزهد في الحقيقة ليس من شرطه خروج المال عن اليد؛ وإنما خروج المال عن القلب، وأن لا يتعلق به، وأن يصرف فيما يرضي الرب سبحانه وتعالى (3) .
رابعا: أهمية الحرص على طلب الحديث وتحصيله من مصادره الأصلية: دل فعل ابن شهاب رحمه الله في عدم اعتماده على ما ذكر له محمد بن جبير عن مالك بن أوس، بل ذهب بنفسه حتى أخذ الحديث من مصدره الأصلي، فسمعه من مالك بن أوس عن عمر؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي صنيع ابن شهاب ذلك أصل في طلب علوِّ الإِسناد؛ لأنه لم يقتنع بالحديث عنه، حتى دخل عليه؛ ليشافهه به، وفيه حرص ابن شهاب على طلب الحديث وتحصيله " (4) .
فينبغي للداعية أن يحرص على أخذ العلم وخاصة علم الكتاب والسنة من المصادر الأصلية المعتمدة عند العلماء، حتى يكون علمه صحيحا موثقا.
خامسا: من وسائل الدعوة: أن يتولى أمر كل قبيلة كبيرهم الصالح: ظهر في هذا الحديث أن من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل أنه ينبغي أن يولَّى أمر كل قبيلة سيدهم الصالح، وتفوض إليه مصالحهم؛ لأنه أعرف بهم، وأرفق بهم، وفي الغالب أنهم ينقادون له، ويقبلون دعوته، وتوجيهاته، ولهذا قال عمر رضي الله عنه في هذا الحديث لمالك بن أوس: " يا مالك إنه قد قدم
_________
(1) أخرجه الترمذي، في كتاب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله عز وجل، وقال: " هذا حديث صحيح. . "، 4 / 560، برقم 2320، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب: مثل الدنيا، 4 / 1376، برقم 4110، وأخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق، عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، 1 / 428، برقم 470، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 943.
(2) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الأول، ورقم 15، الدرس الأول.
(3) انظر: بهجة النفوس، لعبد الله بن أبي جمرة، 3 / 90.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 204.(1/469)
علينا من قومك أهل أبيات، وقد أمرت فيهم برضخ فاقبضه، فاقسمه بينهم "، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي حديث عمر أنه يجب أن يتولى أمر كل قبيلة كبيرهم؛ لأنه أعرف باستحقاق كل رجل منهم " (1) .
فينبغي أن يولىّ على القبائل ساداتهم، الذين قد عرِفوا بالصلاح وسداد الرأي.
سادسا: أهمية الشفاعة الحسنة في الدعوة إلى الله عز وجل: دل هذا الحديث على أهمية الشفاعة الحسنة؛ لأن عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم قالوا لعمر رضي الله عنه: " يا أمير المؤمنين اقضِ بينهما وأرح أحدهما من الآخر "، فقضى عمر رضي الله عنه بين عباس وعلي رضي الله عنهما فحصل الصلح والخير، وهذا يبين أهمية الشفاعة الحسنة، وما يترتب عليها من المصالح (2) .
فينبغي للداعية أن يشفع في كل ما فيه خير للإِسلام والمسلمين، حتى يحصل علي الثواب العظيم، قال الله عز وجل: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85] (3) .
وقال صلى الله عليه وسلم: «اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء» (4) .
سابعا: من أساليب الدعوة: الحوار: ظهر أسلوب الحوار في هذا الحديث؛ لأن عمر رضي الله عنه استخدمه في الإِصلاح بين العباس وعلي رضي الله عنهما، فأقبل على جميع الحاضرين، فسألهم بالله هل يعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» ؟ "، فقال الرهط: قد
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 208، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 318، وعمدة القاري للعيني، 15 / 25.
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 208، وعمدة القاري، 15 / 26، وعارضة الأحوذي بشرح سنن الترمذي، لابن العربي المالكي، 4 / 176.
(3) سورة النساء، الآية: 85.
(4) متفق عليه من حديث أبي موسى رضي الله عنه: البخاري، كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها، 2 / 145، برقم 1432، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب الشفاعة فيما ليس بحرام، 4 / 2026، برقم 2627.(1/470)
قال ذلك. ثم أقبل عمر على عباس وعليّ فقال لهما مثل ما قال للرهط فقالا: قد قال ذلك. ثم لم يزل يحاورهما حتى أصلح الله بينهما. وهذا يدل على أهمية الحوار في الدعوة إلى الله عز وجل (1) .
ثامنا: من أساليب الدعوة: استشهاد من حضر لتقوى الحجة: ظهر هذا الأسلوب في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعثمان وأصحابه رضي الله عنهم: «أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث ما تركنا صدقة» ؟ " فقالوا: قد قال ذلك. وكان العباس وعليّ يسمعان هذا الاستشهاد، ثم أقبل عمر رضي الله عنه على الخصمين بعد أن أقام الحجة باستشهاد من حضر ". وهذا أسلوب نافع عند الحاجة إليه؛ قال الإِمام النووي رحمه الله: " وفيه استشهاد الإِمام على ما يقوله -بحضرة الخصمين- العدول؛ لتقوى حجته في إقامة الحق وقمع الخصم، والله أعلم " (2) .
تاسعا: أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة: دل هذا الحديث على أهمية الأدب مع العلماء والدعاة؛ ولهذا عندما دخل عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم على أمير المؤمنين رضي الله عنه، سلموا وجلسوا، ولم يتكلَّموا؛ لأنهم رأوا أن أمير المؤمنين رضي الله عنه غير مرتاح البال، وهذا من حسن الأدب مع العلماء والأئمة والدعاة؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ويؤخذ منه. . أن الأتباع إذا رأوا من الكبير انقباضا لم يفاتحوه حتى يفاتحهم بالكلام " (3) .
وقال الوزير العالم ابن هبيرة رحمه الله: " وفيه. . ما يدل على أنه لما دخل عثمان، وعبد الرحمن، والزبير، وسعد، فرأوا جِدَّ عمر لم يفاتحوه؛ وهكذا ينبغي لمن أراد أن يخاطب في أمر إذا رأى من مقدمات الحال ما يستدر به
_________
(1) انظر: الحديث رقم 29، الدرس السادس.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 318.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، بتصرف بسير جدّا، 6 / 208.(1/471)
على أن ليس لخطابه وجه، أن يمسك " (1) .
عاشرا: من صفات الداعية: عدم الحرص على الإمارة والعلوِّ في الأرض والجاه: لا شك أن في هذا الحديث الدلالة على أن من صفات الداعية المخلص: عدم حب العلوِّ في الأرض والجاه، وقد ظهر ذلك لمالك بن أوس عندما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " يا مالك إنه قد قدم علينا من قومك أهل أبيات، وقد أمرت فيهم برضخ فاقبضه، فاقسمه بينهم، فقال مالك: يا أمير المؤمنين لو أمرت له غيري؛ فقال عمر رضي الله عنه: فاقبضه أيها المرء "، وهذا يدل على عدم رغبة مالك رضي الله عنه في العلوِّ والجاه، ويدل أيضا على حكمته ولطف كلامه مع إمام المسلمين؛ ولهذا قال: " يا أمير المؤمنين لو أمرت له غيري؟ " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه استعفاء المرء من الولاية، وسؤاله الإِمام ذلك بالرفق " (2) .
فينبغي للداعية أن لا يرغب في الجاه ولا ينازع الأمر أهله، ولا يحب العلوَّ في الأرض؛ قال الله عز وجل: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] (3) . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن طلب الإِمارة، فعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعِنْتَ عليها» (4) ؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّا والله لا نولِّي هذا العمل أحدا سأله، ولا أحدا حرص عليه» (5) وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: «قلت يا رسول الله، ألا تستعملني؛ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: " يا أبا ذر إنك ضعيف،
_________
(1) الإِفصاح عن معاني الصحاح، 1 / 142.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 208.
(3) سورة القصص، الآية: 83.
(4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، 7 / 275، برقم 6622، ومسلم، في كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإِمارة والحرص عليها، 3 / 1456، برقم 1652.
(5) مسلم، كتاب الإِمارة، باب النهي عن طلب الإِمارة، 3 / 1456، برقم 1733.(1/472)
وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدّى الذي عليه فيها» (1) ولكن لو صلحت النية وكان قصد الإِنسان نفع الإِسلام والمسلمين وعنده القدرة على ذلك، فلا حرج أن يقتدي بيوسف عليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: إخبارا عن سؤاله ذلك: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] (2) ؛ لأنه يريد الإِصلاح وهداية الناس وعنده القدرة على ذلك.
الحادي عشر: أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية: دل الحديث على أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية على ما يقول الداعية؛ لما في ذلك من وقع في نفس المدعو؛ ولأنه أقرب لقبول ما يقول الداعية؛ ولهذا استدل عمر رضي الله عنه على ما يقول بحديث وآية من كتاب الله عز وجل، فقال: «أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث ما تركنا صدقة» ثم قرأ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر: 6] (3) "، فبيَّن وجهة حكمه رضي الله عنه ودليله من الكتاب والسنة (4) .
الثاني عشر: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: إن القدوة الحسنة من أهم وسائل الدعوة؛ ولهذا أرشد عمر رضي الله عنه العباس وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما إلى الاقتداء بمن قبلهما، فذكر عمل النبي صلى الله عليه وسلم في الفيء في حياته ثم قال: " أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك؟ " ثم قال عمر رضي الله عنه: " ثم توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله، فقبضها أبو بكر فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يعلم إنه فيها لصادق، بارّ، راشد تابع للحق ". وهذا يدل على أهمية القدوة الحسنة في الدعوة إلى الله عز وجل (5) .
_________
(1) مسلم، كتاب الإمارة، باب كراهية الإِمارة بغير ضرورة، 3 / 1457، برقم 1825.
(2) سورة يوسف، الآية: 55.
(3) سورة الحشر، الآية: 6.
(4) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 208.
(5) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث، ورقم 8، الدرس الخامس.(1/473)
الثالث عشر: من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض مناقبه عند الحاجة انتصارا للحق: ظهر من هذا الحديث أن ذكر الداعية بعض مناقبه، أو فضائله، أو ثنائه على عمله من أساليب الدعوة عند الحاجة لذلك وصلاح النية، إذا كان المدعو يستفيد من ذلك؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للعباس وعلي بن أبي طالب: " ثم توفى الله أبا بكر فكنت أنا وليَّ أبي بكر، فقبضتها سنتين من إمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عمل فيها أبو بكر، والله يعلم إني فيها لصادق بارّ، راشد، تابع للحق "؛ قال العلامة العيني رحمه الله: " وفيه أنه لا بأس أن يمدح الرجل نفسه ويطريها إذا قال الحق " (1) .
وهذا إذا كان في ذلك نفع للمدعو وإلا فيحذر الإِنسان من الإِعجاب بالنفس فإن ذلك من المهلكات، والله المستعان.
الرابع عشر: لا ينكر أن يغيب عن العالم أو الداعية بعض العلم: لا شك أن علم البشر محدود، وقد فضل الله بعضهم على بعض، فقد يغيب عن بعض العلماء بعض المسائل ويعرفها الآخرون، ولهذا حصل ما حصل من بعض الصحابة رضي الله عنهم في ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبا بكر وعمر وغيرهما كثير من الصحابة لم يغب عنهم ذلك وفقهوه حق الفقه والمعرفة؛ قال العلامة العيني رحمه الله: " وفيه أنه لا ينكر أن يخفى على الفقيه والعالم بعض الأمور مما علمه غيره " (2) .
فينبغي للدعاة أن لا يتهموا أحدا من العلماء أو الدعاة إذا غابت عنهم بعض المسائل، وعليهم أن يسلكوا مسلك الصحابة رضي الله عنهم.
الخامس عشر: أهمية العمل بمقتضى الدليل الشرعي: دل عمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أنه إذا قام الدليل الشرعي لا يعدل إلى غيره بل يلزم العمل بمقتضاه؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه في مسألة تركة النبي صلى الله عليه وسلم:
_________
(1) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 25 / 26.
(2) المرجع السابق، 15 / 26.(1/474)
" فتلتمسان مني قضاء غير ذلك؟ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك "، والمعنى غير قضاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه أن الإِمام إذا قام عنده الدليل صار إليه وقضى بمقتضاه، ولم يحتج إلى أخذه من غيره " (1) .
السادس عشر: من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى: ظهر في هذا الحديث أن من أصناف المدعوين أهل الصلاح والاستقامة على طاعة الله عز وجل؛ لأن العصمة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ولهذا حصل ما حصل بين علي والعباس رضي الله عنهما عن حسن قصد ورغبة في القيام بأداء الأمانة، فحاورهما عمر وأصلح الله به ما بينهما (2) وهذا يدل على أن من أصناف المدعوين أهل الصلاح والاستقامة (3) .
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 208.
(2) ذكر الإمام القرطبي رحمه الله أن منازعة علي والعباس رضي الله عنهما لم تكن في أصل الميراث، ولا طلبا أن يتملكا ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم وإنما قد كانا ترافعا إلى أبي بكر في ذلك فمنعهما أبو بكر مستدلّا بالحديث " لا نورث ما تركنا صدقة "، فلما سمعاه أذعنا، وسكنا، وسلَّما، إلى أن توفي أبو بكر وولي عمر، فجاءاه فسألاه أن يوليهما على النظر فيها، والعمل بأحكامها، وأخذها من وجوهها، وصرفها في مواضعها، فدفعها إليهما على ذلك، وعلى أن لا ينفرد أحدهما عن الآخر بعمل حتى يستشيره ويكون معه فيه، فعملا كذلك إلى أن شق عليهما العمل فيها مجتمعين، فجاءا إلى عمر رضي الله عنه مرة أخرى يطلبان منه أن يقسمها بينهما حتى يستقل كل واحد منهما بالنظر فيما يكون في يديه منها، فأبى عليهما عمر ذلك؛ لئلا يظن ظان أن ذلك قسمة ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، فمنع ذلك حسما للذريعة، ولما ولي عليّ رضي الله عنه الخلافة لم يغيرها عما عمِلَ فيها في عهد أبي بكر، وعمر، وعثمان، ولم يتعرض لتملكها ولا لقسمة شيء منها، بل كان يصرفها في الوجوه التي كان مَن قبله يصرفها فيها. انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 3 / 563.
(3) انظر: الحديث رقم: 76، الدرس الرابع.(1/475)
[حديث ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفدي رجلا بعد سعد]
78 [ص:2905] حَدَّثَنَا مسَدَّد: حَدَّثَنَا يَحْيى، عَنْ سفيانَ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعْد بن إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عبد الله بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَليٍّ. حَدَّثَنَا قَبِيصَة: حَدَّثَنَا سفْيَان، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي عبد الله بْن شَدَّادٍ قَالَ: سَمِعْت عَلِيّا (1) . رضي الله عنه يَقول: «مَا رَأَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يفَدِّي رَجلا بَعْدَ سَعْدٍ (2) سَمِعْته يَقول: " ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأمِّي» (3) . وفي رواية: ". . «مَا سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جمَعَ أَبَوَيْهِ لأَحَدٍ إلَّا لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنِّي سَمعْته يَقول يَوْمَ أحدٍ: " يَا سعد، ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأمِّي» (4) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
_________
(1) علي بن أبي طالب، بن عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف، القرشي الهاشمي، المكي المدني، الكوفي، أمير المؤمنين، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. أبو الحسن، وهو أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة، وصهره على فاطمة سيدة نساء العالمين، وأول هاشمي ولد بين هاشميين، وأول خليفة من بني هاشم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد العلماء الربانيين والشجعان المشهورين، والزهاد المذكورين، وأحد السابقين إلى الإسلام، وأول من أسلم من الصبيان، واستخلفه النبي صلى الله عليه وسلم حين هاجر من مكة إلى المدينة أن يقيم بعده بمَكة، يؤدي عنه أماناته، والودائع، والوصايا التي كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يلحقه بأهله، ففعل ذلك ثم لحقه مهاجرا، وشهد معه كل المشاهد إلا مشهد تبوك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة، وله في جميع المشاهد آثار مشهورة تدل على شجاعته وبطولته العظيمة، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم اللواء في مواطن كثيرة، وكان من أهل العلم البارزين، فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة وستة وثمانين حديثا، اتفق البخاري ومسلم على عشرين منها، وانفرِد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر، ومن أعظم فضائله أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له أنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، وكفاه ذلك شرفا، ولي الخلافة رضي الله عنه خمس سنين، بويع سنة خمس وثلاثين، وله في قتال الخوارج عجائب ثابتة مشهورة. وقتل شهيدا، قتله عدوانا وظلما عبد الرحمن بن ملجم ليلة سبع عشرة من رمضان، وهي ليلة الجمعة سنة أربعين بسيف مسموم فمات ليلة الأحد التاسع عشر من رمضان في السنة المذكورة. وتوفي رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وستين سنة: قال النووي على الأصح. ودفن بالكوفة رضي الله عنه، وجزاه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء. انظر تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 344- 350، وسير أعلام النبلاء للذهبي " سيرة الخلفاء الراشدين " ص 225- 290، وتاريخ الإِسلام له، 2 / 621، والإِصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 507.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 36.
(3) [الحديث 2905] أطرافه في: كتاب المغازي، باب إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّه وَلِيّهمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمؤْمِنونَ، 5 / 39، برقم 4058 و 4059. وكتاب الأدب، باب قول الرجل: فداك أبي وأمي، 7 / 150، برقم 6184. وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، 4 / 1876، برقم 2411.
(4) الطرف رقم 4059.(1/476)
1 - من موضوعات الدعوة الحث على الرمي والترغيب فيه.
2 - من أساليب الدعوة: الدعاء لمن فعل خيرا.
3 - من صفات الداعية: الشجاعة.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على الرمي والترغيب فيه: دل هذا الحديث على الحث على الرمي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به سعد بن مالك فقال: «ارم فداك أبي وأمي» ؛ قال الإمام النووي رحمه الله: ". . فيه فضيلة الرمي والحث عليه " (1) . فينبغي العناية بالرمي وتعليمه للمجاهدين بالتدرب عليه استعدادا للجهاد في سبيل الله عز وجل. (2) .
ثانيا: من أساليب الدعوة: الدعاء لمن فعل خيرا: ظهر في هذا الحديث أن الدعاء لمن فعل خيرا- أو نفعا عاما أو خاصا- من أساليب الدعوة إلى الله - عز وجل - ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لسعد: «ارم فداك أبي وأمي» ، قال الإمام النووي رحمه الله: " وفيه فضيلة الرمي والحث عليه والدعاء لمن فعل خيرا " (3) . وقال الخطابي رحمه الله: " التفدية من النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء، وأدعية النبي - صلى الله عليه وسلم - خليق أن تكون مستجابة. . " (4) .
وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول عن هذا الدعاء: " فيه تشجيع للشجعان " (5) .
أما قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " ما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع أبويه لأحد إلا لسعد بن مالك "، فهذا يحمل على نفي علم نفسه (6) . وإلا فقد ثبت عن
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم، 15 / 192، وانظر: الإفصاح عن معاني الصحاح للوزير بن هبيرة 1 / 252.
(2) انظر: الحديث رقم 74، الدرس الأول.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم، 15 / 192.
(4) أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، للخطابي 2 / 1397، وانظر: الإفصاح عن معاني الصحاح للوزير بن هبيرة، 1 / 252.
(5) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 2905 من صحيح البخاري.
(6) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 15 / 193، وفتح الباري لابن حجر، 7 / 84.(1/477)
الزبير بن العوام - رضي الله عنه - أنه قال: «جمع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أبويه فقال: " فداك أبي وأمي» (1) .
قال النووي رحمه الله: " فيه جواز التفدية بالأبوين وبه قال جماهير العلماء، وكرهه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - والحسن البصري رحمه الله، وكرهه بعضهم في التفدية بالمسلم من أبويه، والصحيح الجواز مطلقا؛ لأنه ليس فيه حقيقة فداء وإنما هو كلام وإلطاف وإعلام بمحبته له ومنزلته، وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالتفدية مطلقا " (2) .
وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول في التفدية بالأبوين: " يجوز إذا كان الأبوان غير مسلمين، أما إذا كان الوالدان مسلمين فالتفدية بهما لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - تحتاج إلى نظر، والجمهور يرون أنه لا بأس به " (3) .
ثالثا: من صفات الداعية: الشجاعة: دل مفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم - لسعد رضي الله عنه: «ارم فداك أبي وأمي» ، على شجاعة سعد رضي الله عنه؛ لأنه دافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد دفاعا عظيما، وحثه - صلى الله عليه وسلم - على الاجتهاد في الرمي (4) .
فينبغي أن يكون الداعية شجاعا: قلبيا وعقليا (5) .
_________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب مناقب الزبير بن العوام - رضي الله عنه - 4 / 254، برقم 3720. ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل طلحة والزببر - رضي الله عنهما - 4 / 1879 برقم 2416.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم، 15 / 193، وانظر: أعلام الحديث للخطابي 2 / 1397، وعمدة القاري للعيني 14 / 186.
(3) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 2905 من صحيح البخاري، وانظر: شرح مشكل الآثار، للطحاوي 14 / 285.
(4) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 93، 7 / 83، 358، 10 / 568.
(5) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الخامس، ورقم 61، الدرس الثاني.(1/478)
[باب حلية السيوف]
[حديث لقد فتح الفتوح قوم ما كانت حلية سيوفهم الذهب ولا الفضة]
83 - باب حلية السيوف 79 [ص:2909] حدثنا أحمد بن محمد: أخبرنا عبد الله: أخبرنا الأوزاعي قال: سمعت سليمان بن حبيب قال: سمعت أبا أمامة (1) . يقول: " لقد فتح الفتوح قوم ما كانت حلية سيوفهم الذهب ولا الفضة، إنما كانت حليتهم العلابي والآنك والحديد ".
* شرح غريب الحديث: * " العلابي " العصب، الواحد علباء، وكانت العرب تشد بالعلابي الرطبة أجفان سيوفها، فتجف عليها، وتشد بها الرماح إذا تصدعت فتيبس عليها وتقوى. والعلابي جمع علباء: وهو عصب في العنق يأخذ إلى الكاهل، وهما علباوان ويقال: علباآن، يمينا وشمالا، وما بينها منبت عرف الفرس (2) .
* " الآنك " قيل: هو الرصاص الأبيض، وقيل: الأسود، وقيل هو الخالص منه (3) . وقال الحميدي رحمه الله: " الآنك أشد صلابة من الرصاص، وهو نوع منه، يزيد عليه بالصلابة وزيادة البياض، ويسمى في بعض البلاد: القصدير " (4) .
_________
(1) أبو أمامة، صدي بن عجلان الصحابي الجليل الباهلي مشهور بكنيته، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علما كثيرا، فقد كان له مائتان وخمسون حديثا، عند البخاري خمسة منها ومسلم ثلاثة. ويذكر عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسله إلى باهلة يدعوهم إلى الإسلام، فامتنعوا، ولم يطعموه، وكان ظمآن جائعا، فنام فأوتي في منامه بشراب لبن فشرب فشبع وعظم بطنه، ثم إن قومه أتوه بطعام وشراب فقال لا حاجة لي فيه إن الله قد أطعمني وسقاني، فنظروا إلى بطنه وحاله، فأسلموا عن آخرهم. [انظر: مستدرك الحاكم 3 / 641، وذكره الهيثمي في المجمع 9 / 387، وقال: رواه الطبراني بإسنادين والإسناد الأول حسن] قال أبو أمامة - رضي الله عنه - عن عمره يوم حجة الوداع: " أنا يومئذ ابن ثلاثين سنة " وتوفي - رضي الله عنه - سنة ست وثمانين، عن مائة وست سنين، وقيل توفي سنة إحدى وثمانين. رضي الله عنه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 176، وسير أعلام النبلاء للذهبي 2 / 359 -363، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 2 / 182.
(2) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 441، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب العين مع اللام، مادة: " علب " 3 / 285.
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر، باب الهمزة مع النون، مادة: " أنك " 1 / 77، وانظر: أعلام الحديث للخطاب، 2 / 1400.
(4) تفسير غريب ما في الصحيحين ص 441.(1/479)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: قوة الإيمان.
2 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
3 - من موضوعات الدعوة: الحث على الإعداد للجهاد بكل مباح يسبب إرهاب العدو. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: قوة الإيمان: دل هذا الحديث على قوة إيمان الصحابة - رضي الله عنه -م - ولهذا كانوا لا يعتنون بتجميل السيوف، وإنما كانوا يشدونها بالعصب؛ لعدم مبالاتهم بالعدو؛ ولثقتهم بالله - عز وجل - وإيمانهم أن الله - عز وجل - ينصر عباده المؤمنين، إذا اتقوا الله سبحانه وتعالى وأخذوا بالأسباب؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي هذا الحديث أن تحلية السيوف وغيرها من آلات الحرب بغير الفضة والذهب أولى. وأجاب من أباحها بأن تحلية السيوف بالذهب والفضة إنما شرع لإرهاب العدو، وكان لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك غنية؛ لشدتهم في أنفسهم وقوتهم في إيمانهم " (1) . - رضي الله عنه -م وأرضاهم (2) .
ثانيا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: ظهر في هذا الحديث أن القدوة الحسنة من وسائل الدعوة؛ ولهذا أرشد أبو أمامة المجاهدين إلى الاقتداء بمن فتح الفتوح من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " لقد فتح الفتوح قوم ما كانت حلية سيوفهم الذهب ولا الفضة "، فأرشد - رضي الله عنه - إلى الاقتداء بهم في قوله هذا (3) .
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 96، وانظر: عمدة القاري للعيني 14 / 188.
(2) انظر: الحديث رقم 8، الدرس الرابع، ورقم 52، الدرس الرابع.
(3) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث، ورقم 8، الدرس الخامس.(1/480)
ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحث على الإعداد للجهاد بكل مباح يسبب إرهاب العدو: كان بعض السلف الصالح يحلون سيوفهم بالفضة وغيرها مما يسبب إرهاب العدو وإذلاله؛ ولهذا كان سبب ورود الحديث ما جاء عن سليمان بن حبيب قال: دخلنا على أبي أمامة فرأى في سيوفنا شيئا من حلية فضة، فغضب وقال: " لقد فتح الفتوح قوم ما كان حلية سيوفهم من الذهب ولا من الفضة، ولكن الآنك والحديد " (1) .
وذكر العلامة العيني رحمه الله: أن الحلية المباحة من الذهب والفضة في السيوف إنما كانت؛ ليرهب بها على العدو، فاستغنى الصحابة بشدتهم وقوتهم في إيمانهم في الإيقاع بهم والنكاية لهم. (2) .
فينبغي إعداد العدد، والعدد، والحث على ذلك، واستخدام كل وسيلة مباحة ترهب أعداء الإسلام (3) .
_________
(1) أخرجه ابن ماجه، في كتاب الجهاد، باب السلاح، 2 / 938، برقم 2807، وأصله في صحيح البخاري في حديث الباب.
(2) انظر: عمدة القاري شرح صحيح البخاري 14 / 188.
(3) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الثالث.(1/481)
[باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة]
[حديث إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم]
84 - باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة 80 [ص:2910] حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: حدثني سنان بن أبي سنان الدؤلي وأبو سلمة بن عبد الرحمن: «أن جابر بن عبد الله (1) - رضي الله عنهما - أخبر أنه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل نجد، فلما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفرق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت سمرة وعلق بها سيفه، ونمنا نومة، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال: " إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله (ثلاثا) ". ولم يعاقبه، وجلس» (2) .
وفي رواية: «كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء رجل من المشركين وسيف النبي معلق بالشجرة، فاخترطه فقال له: تخافني؟ فقال له: " لا ". قال: فمن يمنعك مني؟ قال: " الله " فتهدده أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، وكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربع وللقوم ركعتان» ، وقال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر: " اسم الرجل غورث بن الحارث. وقاتل فيها محارب خصفة " (3) .
وفي رواية: «إن هذا اخترط سيفي فقال: من يمنعك؟ قلت: الله، فشام السيف، فها هو ذا جالس " ثم لم يعاقبه» (4) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 32.
(2) [الحديث 2910] ، أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والاستظلال بالشجر، 3 / 302، برقم 2913. وكتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، 5 / 64، برقم 4134 و 4135 و 4136. وكتاب المغازي، باب غزوة بني المصطلق من خزاعة وهي غزوة المريسيع، 5 / 65، برقم 4139، وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف، 1 / 576، برقم 843.
(3) الطرف رقم، 4136.
(4) من الطرف رقم، 2913.(1/482)
* شرح غريب الحديث: * " قفل " أي عاد من سفره، يقال قفل المسافر: إذا أخذ في الرجوع والانصراف (1) .
* " القائلة " نصف النهار. يقال: قال يقيل، وقائلة وقيلولة. فالقائلة الظهيرة، يقال: أتانا عند القائلة، وقد يكون بمعنى القيلولة: وهي النوم في الظهيرة. (2) .
* " العضاه " شجر من شجر الشوك، كالطلح والعوسج، وكل شجر عظيم له شوك، الواحدة: عضة بالتاء (3) .
* " سمرة " السمرة: نوع من شجر الطلح، والجمع: سمر بوزن رجل: وسمرات، وأسمر في جمع القلة (4) .
* " اخترط " يقال: اخترط السيف: استخرجه من غمده (5) .
* " صلتا " أي مسلولا من غمده ومهيئا للضرب به، يقال: أصلت السيف إذا جرده من غمده (6) .
* " فشام السيف " أدخله في غمده، هذا معناه هنا في قصة الأعرابي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو من الأضداد: يقال: شامه يشيمه: إذا أغمده، ويقال: شامه: إذا سله أيضا (7) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
_________
(1) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي ص 204، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب القاف مع الفاء، مادة: " قفل " 4 / 92.
(2) انظر: القاموس المحيط، لفيروز آبادي، باب اللام، فصل القاف، ص 359، ومختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر الرازي، مادة: " قيل " ص 233.
(3) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 204، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب العين مع الضاد، مادة " عضه " 3 / 255، وانظر: شرح غريب الحديث رقم 35، ص 244.
(4) انظر: القاموس المحيط، باب الراء، فصل السين، ص 525، ومختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر الرازي، ص 132، والمعجم الوسيط، مادة. " سمر " 1 / 448، وانظر: شرح غريب الحديث رقم 35، ص 244.
(5) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 204.
(6) انظر: المرجع السابق، ص 573، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الصاد مع اللام، مادة: " صلت " 3 / 45.
(7) انظر: مشارق الأنوار، للقاضي عياض، حرف الشين، مادة: " شيم " 2 / 261، والنهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، باب الشين مع الياء، مادة: " شيم " 2 / 521.(1/483)
1 - أهمية اجتماع المجاهدين والدعاة وعدم تفرقهم.
2 - من صفات الداعية: قوة اليقين.
3 - من صفات الداعية: العفو والصفح، ومقابلة السيئة بالحسنة.
4 - من صفات الداعية: الشجاعة.
5 - من وظائف المدعو الصالح: حراسة الإمام المسلم والعالم العامل بعلمه.
6 - أهمية تكرار لفظ الجلالة عند الاستغاثة والاستعانة.
7 - من أساليب الدعوة: الاستفهام الإنكاري.
8 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: ثبات القلب وعدم الخوف والجزع.
9 - من وسائل الدعوة: التطبيق العملي في التعليم.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: أهمية اجتماع المجاهدين والدعاة وعدم تفرقهم: لا شك أن هذا الحديث يدل على جواز الانتشار للمجاهدين والدعاة أثناء النوم في السفر، ولكن الأحاديث يفسر بعضها بعضا؛ وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن التفرق في السفر، فعن أبي ثعلبة الخشني قال: كان الناس إذا نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلا تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان» ، فلم ينزل بعد ذلك منزلا إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى يقال: لو بسط عليهم ثوب لعمَّهم " (1) . قال الإمام القرطبي - رحمه الله - في فوائد حديث جابر وتفرق الصحابة - رضي الله عنهم - في الشجر: " وفيه جواز نوم المسافر إذا أمن على نفسه، وأما مع الخوف فالواجب التحرز والحذر " (2) .
فينبغي للمجاهدين والدعاة إلى الله - عز وجل - أن ينضم بعضهم إلى بعض أثناء النزول في السفر، ولا يضيق بعضهم على بعض بل الانضمام الذي يحصل به
_________
(1) أبو داود، كتاب الجهاد، باب ما يؤمر من انضمام العسكر وسعته، 3 / 41، برقم 2628، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2 / 498.
(2) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 6 / 62.(1/484)
التكاتف والتعاون بدون ضرر على أحد منهم (1) .
وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز - حفظه الله - يقول في فوائد حديث جابر - رضي الله عنه -: " الحديث يدل على جواز التفرق عند الحاجة، وهناك نصوص تدل على الحذر عند الحاجة " (2) . كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] (3) .
ثانيا: من صفات الداعية: قوة اليقين: من المعلوم يقينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم الخلق يقينا وثباتا، وتوكلا، ومراقبة لله - عز وجل - باستحضار عظمته وقدرته، ونصرته لأوليائه؛ ولهذا لما قال له الأعرابي: من يمنعك مني؟ فقال: " الله "، وهذا يدل على يقينه الصادق وعلمه الكامل بالله عز وجل. فينبغي لكل مسلم الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - وخاصة الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى (4) .
ثالثا: من صفات الداعية: العفو والصفح، ومقابلة السيئة بالحسنة: دل هذا الحديث على أن العفو والصفح من أبرز الصفات الحميدة وأكثرها وأعظمها أثرا في نفس المدعو؛ ولهذا لم يعاقب النبي - صلى الله عليه وسلم - الأعرابي: غورث بن الحارث على فعله القبيح، بل عفا عنه وصفح؛ لرغبته العظيمة في الاستئلاف؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " فمن عليه لشدة رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في استئلاف الكفار؛ ليدخلوا في الإسلام ولم يؤاخذه بما صنع بل عفا عنه " (5) .
ولا شك أن هذا العفو قد أثر في حياة هذا الرجل، فقد قيل: إنه أسلم ورجع
_________
(1) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 6 / 97، و 7 / 427 -428، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، لمحمد شمس الحق 7 / 292، وبذل المجهود في حل سنن أبي داود، لخليل أحمد السهار نفوري 12 / 138.
(2) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 2913 من صحيح البخاري.
(3) سورة النساء، الآية: 71.
(4) انظر: الحديث رقم 28، الدرس الرابع.
(5) فتح الباري، بشرح صحيح البخاري، 7 / 427.(1/485)
إلى قومه، وقال: جئتكم من عند خير الناس، فاهتدى به خلق كثير (1) . وهذا يؤكد أهمية العفو والصفح؛ قال الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] (2) وقال عز وجل: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13] (3) .
فينبغي للداعية أن يعفو ويصفح ويقابل السيئة بالحسنة، قال الله عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] (4) . وقال سبحانه وتعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] (5) .
رابعا: من صفات الداعية: الشجاعة: دل هذا الحديث على شجاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوة قلبه، وثباته؛ ولهذا عندما سل الأعرابي السيف وقال: من يمنعك مني؛ لم يجزع ولم يسأله العفو؛ وإنما قال: " الله "، وهذا يوضح للدعاة، بل وللناس جميعا عظم شجاعته - صلى الله عليه وسلم - قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وكأن الأعرابي لمّا شاهد ذلك الثبات العظيم، وعرف أنه حيل بينه وبينه، تحقق صدقه، وعلم أنه لا يصل إليه، فألقى السلاح وأمكن من نفسه " (6) . فينبغي لكل مسلم أن يقتدي به - صلى الله عليه وسلم - في قوة قلبه، وشجاعته وفي كل أحواله التي لم تكن من خصائصه دون أمته. (7) .
خامسا: من وظائف المدعو الصالح: حراسة الإمام المسلم والعالم العامل بعلمه: يظهر من مفهوم هذا الحديث أنه ينبغي للمدعو الصالح أن يحرس الإمام المسلم، والعالم العامل بعلمه الذي يعلم الناس الخير ويوجههم إلى مصالح دينهم ودنياهم؛ لما يحصل بذلك من المنافع، وحفظ أمن الناس؛ قال
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 15 / 49، وإكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم، للأبي 8 / 13، وفتح الباري لابن حجر، 7 / 428، وعمدة القاري للعيني 14 / 195، وإرشاد الساري للقسطلاني، 5 / 99.
(2) سورة الأعراف، الآية: 199.
(3) سورة المائدة، الآية: 13.
(4) سورة الشورى، الآية: 40.
(5) سورة الشورى، الآية: 43.
(6) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7 / 427، وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 6 / 61، ومكمل إكمال الإكمال شرح صحيح مسلم، للسنوسي، 3 / 197، وعمدة القاري للعيني، 14 / 189.
(7) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الخامس، ورقم 61، الدرس الثاني.(1/486)
العلامة العيني - رحمه الله - في ذكره لفوائد هذا الحديث: " وفيه أن حراسة الإمام في القائلة وفي الليل من الواجب على الناس، وأن تضييعه من المنكر والخطأ " (1) .
فينبغي للمدعو الصالح العناية بهذا الأمر (2) .
سادسا: أهمية تكرار لفظ الجلالة عند الاستغاثة والاستعانة: دل هذا الحديث على أهمية تكرار الاستغاثة بالله - عز وجل - وتكرار لفظ الجلالة " الله " عند الالتجاء إلى الله - عز وجل - وقد قال الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: من يمنعك مني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " الله، الله، الله "، قال العلامة الملا علي القاري رحمه الله: " وفيه إيماء إلى أنه يستحب تثليث لفظ الجلالة، حالة الاستغاثة والاستعانة " (3) . فينبغي للداعية أن يكرر في الاستغاثة والاستعانة بالله " يا الله يا الله يا الله، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم.
سابعا: من أساليب الدعوة: الاستفهام الإنكاري: دل هذا الحديث على أن أسلوب الاستفهام الإنكاري من أساليب الدعوة؛ ولهذا عندما أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - السيف من الأرض- عند سقوطه من يد الأعرابي- قال لغورث هذا: " من يمنعك مني؟ " قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عن هذا الاستفهام: " استفهام إنكاري، أي لا يمنعك مني أحد " (4) .
فينبغي العناية بهذا الأسلوب في الحال المناسبة لاستعماله (5) .
ثامنا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: ثبات القلب وعدم الخوف والجزع: دل هذا الحديث على أن النبي محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله ورسوله، وأن الله - عز وجل - نصره، وكفاه، وخذل أعداءه، وهذا من دلائل صدق نبوته؛ قال الإمام القرطبي - رحمه الله - عند كلامه على قوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي: " الله " ثلاثا:
_________
(1) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 14 / 189.
(2) انظر: الحديث رقم 67، الدرس الرابع.
(3) مرقاة المفاتيح، شرح مشكاة المصابيح، 9 / 168.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7 / 427، وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي 6 / 62.
(5) انظر: الحديث رقم 4، الدرس الرابع، ورقم 31، الدرس الخامس.(1/487)
" وهذا من أعظم الخوارق للعادة؛ فإنه عدو متمكن، بيده سيف شاهر، وموت حاضر، ولا حال تغيرت، ولا روعة حصلت. هذا محال في العادات، فوقوعه من أبلغ الكرامات، ومع اقتران التحدي به يكون من أوضح المعجزات " (1) . فينبغي للداعية أن يوضح للناس ويبلغهم معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فيها من دلائل صدق نبوته صلى الله عليه وسلم (2) .
تاسعا: من وسائل الدعوة: التطبيق العملي في التعليم: إن من الوسائل المهمة في الدعوة إلى الله عز وجل: التطبيق العملي في تعليم الناس دينهم؛ لأن مشاهدة المدعو للتطبيق العملي أنفع له من الكلام المجرد عن التطبيق؛ ولهذا علَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه صلاة الخوف في هذا الحديث عن طريق التطبيق العملي، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكان له - صلى الله عليه وسلم - أربع، وللقوم ركعتان، وهذا نوع من أنواع صلاة الخوف التي علَّم فيها - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالتطبيق العملي (3) .
وهكذا كان - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه كثيرا من العلم والأحكام عن طريق التطبيق العملي؛ قال صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (4) . وكان - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: «لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه» (5) . وهذا إرشاد منه - صلى الله عليه وسلم - وأمر بالاستفادة من التطبيق العملي.
فينبغي للداعية إلى الله - عز وجل - أن يعلم المدعوين - وخاصة العامة- عن طريق التطبيق العملي: كالوضوء، والصلاة، والحج، وغير ذلك مما يحتاج إليه العامة عن طريق التعليم العملي.
_________
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 6 / 63، وانظر: إرشاد الساري، للقسطلاني 5 / 99.
(2) انظر: الحديث رقم، 21، الدرس الرابع، ورقم 55، الدرس الثالث.
(3) انظر: للتفصيل في ذلك: صحيح البخاري، كتاب الخوف، باب صلاة الخوف، 1 / 256، برقم 942- 947، وكتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، 5 / 62، برقم 4125 - 4136.
(4) البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة، 1 / 175، برقم 631، من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
(5) صحيح مسلم، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا وبيان قوله صلى الله عليه وسلم: " لتأخذوا مناسككم " 2 / 943، برقم 1297 من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.(1/488)
[- باب ما قيل في درع النبي - صلى الله عليه وسلم والقميص في الحرب]
[حديث اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم]
89 - باب ما قيل في درع النبي - صلى الله عليه وسلم - والقميص في الحرب وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما خالد فقد احتبس أدراعه في سبيل الله» .
81 [ص:2915] حدثنا محمد بن المثنى: حدثنا عبد الوهاب: حدثنا خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس (1) . - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في قبة: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك. اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم ". فأخذ أبو بكر (2) . بيده فقال: حسبك يا رسول الله، فقد ألححت على ربك. وهو في الدرع، فخرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ - بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 45 - 46] » (3) .
وقال وهيب: حدثنا خالد " يوم بدر " (4) .
وفي رواية: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: " اللهم. . . " الحديث (5) .
* شرح غريب الحديث: * " قبة " القبة من الخيام بيت صغير مستدير، وهو من بيوت العرب، والمقصود بالقبة هنا: العريش الذي كان فيه - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر (6) .
* " أنشدك ": أسألك (7) .
* " حسبك ": كافيك (8) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 5.
(2) ترجم له في الحديث رقم 147.
(3) سورة القمر، الآية: 45-46.
(4) [الحديث 2915] أطرافه في: كتاب المغازي، باب قول الله تعالى: إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم [الأنفال: 9] ، 5 / 6، برقم 3953. وكتاب تفسير القرآن، 54 سورة اقتربت الساعة، باب قوله: سيهزم الجمع ويولون الدبر [القمر: 45] ، 6 / 63، برقم 4875. وكتاب تفسير القرآن، 54 سورة اقتربت الساعة، باب قوله: بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر [القمر: 46] ، 6 / 4 6، برقم 4877.
(5) الطرف رقم: 3953.
(6) انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، باب القاف مع الباء، مادة: " قبب " 4 / 3، والمصباح المنير، للفيومي مادة: " القبة " 2 / 487، وفتح الباري، لابن حجر 7 / 289.
(7) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب النون مع الشين، مادة " نشد " 5 / 53.
(8) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 147.(1/489)
* " ألححت ": يقال: ألح على الشيء: إذا لزمه وأصر عليه (1) .
* " الدرع ": الزردية، وهي قميص من حلقات من الحديد متشابكة، يلبس وقاية من السلاح (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحث على الالتجاء إلى الله - عز وجل - والإلحاح في الدعاء.
2 - من صفات الداعية: الشجاعة.
3 - من صفات الداعية: قوة اليقين والثقة بالله تعالى.
4 - الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث كل الالتجاء إلى الله - عز وجل - والإلحاح في الدعاء: إن الالتجاء إلى الله - عز وجل - والإلحاح في الدعاء من أهم الموضوعات التي ينبغي أن لا يغفلها الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، وقد ظهر ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك» . . ". فقد حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على الدعاء والإلحاح فيه؛ حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: " حسبك يا رسول الله، فقد ألححت على ربك ".
وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالدعاء ووعد بالإجابة فقال: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ - وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 55 - 56] (3) وقال عز وجل:
_________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير باب اللام مع الحاء، مادة: " لحح " 4 / 236، والمصباح المنير، للفيومي مادة: " ألح " 2 / 550.
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الدال مع العين، مادة: " درع " 2 / 114، والمعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، مادة: " درع " 1 / 280.
(3) سورة الأعراف، الآيتان: 55-56.(1/490)
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] (1) . فينبغي للدعاة إلى الله أن يحثوا المدعوين على الدعاء والضراعة إلى الله عز وجل في الرخاء والشدة؛ لأن ذلك من أسباب السعادة والتوفيق (2) .
ثانيا: من صفات الداعية: الشجاعة: ظهر في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من قبة العريش إلى المعركة وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] وهذا يدل على شجاعته وقوة قلبه؛ ولهذا اشترك في المعركة، وكان أقرب المقاتلين المجاهدين إلى العدو, وكان الشجاع من أصحاب النبي يتقي به أثناء القتال، كما قال على بن أبي طالب، والبراء رضي الله عنهما (3) .
ثالثا: من صفات الداعية: قوة اليقين والثقة بالله تعالى: إن قوة اليقين والثقة بالله تعالى من أبرز الصفات التي يلزم الداعية إلى الله - عز وجل - الاتصاف بها، وقد ظهرت هذه الصفة الحميدة في هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك» ، فإن الله - عز وجل - قد أخبر أنه ينصر رسله والذين آمنوا فقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ - إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ - وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173] (4) وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ - يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 51 - 52] (5) وقد وعد الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإحدى الطائفتين: إما عير قريش وما عليها من التجارة، وإما هزيمة قريش، فقال عز وجل: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 7] (6)
_________
(1) سورة البقرة، الآية: 186.
(2) انظر: الحديث رقم 22، الدرس السابع.
(3) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الخامس، ورقم 61، الدرس الثاني، وبلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني، لأحمد البنا، 1 / 35.
(4) سورة الصافات، الآيات: 171-173.
(5) سورة غافر، الآيتان: 51-52.
(6) سورة الأنفال، الآية: 7.(1/491)
وقد حصل للنبي اليقين بذلك كله؛ ولهذا خرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ومما يدل على اليقين أيضا ما قاله أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك "، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم الناس يقينا وأقواهم ثقة بالله تعالى (1) . ولا يشك في ذلك مسلم والحمد لله (2) .
رابعا: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: دل هذا الحديث على أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد المتوكلين، وقد أخذ بالأسباب: من دخوله في قبة العريش، ودعائه العظيم الذي هو من أعظم أسباب النصر، ولبسه للدرع، وقتاله مع المجاهدين، وغير ذلك. ولا شك أن التوكل يقوم على ركنين: اعتماد القلب على الله - عز وجل - والأخذ بالأسباب المشروعة أو المباحة (3) .
_________
(1) انظر: أعلام الحديث للخطابي، 2 / 51403.
(2) انظر: الحديث رقم 28، الدرس الرابع.
(3) انظر: الحديث رقم 30، الدرس الخامس.(1/492)
[باب الحرير في الحرب]
[حديث رخص النبي لعبد الرحمن بن عوف في قميص من حرير]
91 - باب الحرير في الحرب 82 [ص:2919] حدثنا أحمد بن المقدام: حدثنا خالد بن الحارث: حدثنا سعيد، عن قتادة: أن أنسا (1) . حدثهم: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لعبد الرحمن بن عوف (2) . والزبير (3) . في قميص من حرير من حكة كانت بهما» (4) .
وفي رواية: «أن عبد الرحمن بن عوف والزبير شكوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني القمل- فأرخص لهما في الحرير، فرأيته عليهما في غزاة» (5) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 14.
(2) عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن الحارث، القرشي الصحابي الجليل - رضي الله عنه - أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، وأحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، وأحد الستة الذين هم أهل الشورى، الذين أوصى إليهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالخلافة، وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي وهو عنهم راض، وكان أحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر، وكان من المهاجربن الأولين. شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشاهد كلها، وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى دومة الجندل، وصلى - صلى الله عليه وسلم - خلفه الركعة الثانية من صلاة الفجر في غزوة تبوك [صحيح مسلم برقم 81] جرح يوم أحد إحدى وعشرين جراحة، وجرح في رجله وسقطت ثنيتاه، وكان كثير الإنفاق في سبيل الله تعالى، قيل: إنه أعتق في يوم واحد: واحدا وثلاثين عبدا، وتصدق في يوم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشطر ماله: أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألفا، ثم تصدق. بخمسمائة فرس في سبيل الله، ثم بخمسمائة راحلة، وأوصى لأمهات المؤمنين بحديقة بيعت بأربعمائة ألف، وأوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله تعالى، وأوصى لمن بقي ممن شهد بدرا لكل رجل بأربعمائة دينار، وكانوا مائة، وأوصى بألف فرس في سبيل الله. وخلف مالا عظيما من الذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منها، وترك ألف بعير، ومائة فرس، وثلاثة آلاف شاة، وكان له أربع نسوة صالحت امرأة منهن عن نصيبها بثمانين ألفا؛ ولهذا قال الذهبي رحمه الله: " هذا هو الغني الشاكر، وأويس فقير صابر، وأبو ذر أو أبو عبيدة زاهد عفيف ". وقد ذكر أنه أعتق ثلاثين ألف بيت. [سير أعلام النبلاء1 / 92] . وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علما كثيرا: خمسة وستين حديثا انفق البخاري ومسلم على حديثين، وانفرد البخاري بخمسة. توفي سنة ثلاث وثلاثين، وقيل إحدى وثلاثين وهو ابن خمس وسبعين سنة، لأنه ولد بعد عام الفيل بعشر سنين. وقيل: وهو ابن اثنتين وسبعين، وقيل: ثمان وسبعين، ودفن بالبقيع رضي الله عنه.
انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1 / 300- 302، وسير أعلام النبلاء للذهبي 1 / 68- 92، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 416.
(3) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 52.
(4) [الحديث 2919] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب الحرير في الحرب، 3 / 304، برقم 2920، و 2921 و 2922. وكتاب اللباس، باب ما يرخص للرجال من الحرير للحكة، 7 / 59، برقم 5839. وأخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها، 3 / 1646، برقم 2076.
(5) الطرف رقم 2920.(1/493)
* شرح غريب الحديث: حكة
الحكة: الجرب. وقيل داء يكون بالجسد يحدث تحت الجلد. (1) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من خصائص الإسلام: يسر الدين وسماحة الشريعة.
2 - من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين.
3 - العمل بالأسباب لا ينافي التوكل على الله عز وجل.
4 - أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من خصائص الإسلام: يسر الدين وسماحة الشريعة: دل هذا الحديث على يسر الإسلام، وسماحة الشريعة، ورفع الحرج عن الناس؛ ولهذا رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام - رضي الله عنهما - في لبس الحرير؛ لحكة كانت بهما؛ لأن الحرير فيه برودة ولطافة للجسم (2) . فينبغي للداعية أن يبين للناس يسر الدين وسماحة الشريعة الإسلامية، على حسب الأحوال والحاجة والمصلحة الشرعية. (3) .
ومما يدل على رفع الحرج أيضا: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في مقدار أربع أصابع من الحرير، فإذا كان في الثوب خياطة بالحرير في مواضع متفرقة، أو في موضع واحد، ولم تزد على أربع أصابع فقد رفع الله الحرج، فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير إلا موضع: إصبعين، أو ثلاث،
_________
(1) انظر: المصباح المنير، للفيومي، كتاب الحاء، مادة: " حككت " 1 / 145، والقاموس المحيط، لفيروز آبادي، باب الكاف فصل الحاء، ص 1209.
(2) انظر: شرح رياض الصالحين، للعلامة محمد بن صالح العثيمين، 7 / 247، وبهجة الناظرين شرح رياض الصالحين للهلالي 2 / 101.
(3) انظر: الحديث رقم: 1، الدرس الخامس، ورقم 32، الدرس الأول، ورقم 44، الدرس السادس.(1/494)
أو أربع» (1) .
ثانيا: من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين: ظهر في هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى حال عبد الرحمن بن عوف والزبير - رضي الله عنهما - وحاجتهما إلى العلاج، فراعى أحوالهما وخصهما ومن كان مثل حالهما، فأجاز لهما لبس الحرير؛ للضرورة، وهذا يدل على معرفته - صلى الله عليه وسلم - بطب الأبدان كما كان عارفا بطب الأديان؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرخص لهذين الصحابيين إلا لمنفعة (2) .
وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول في ذكره لفوائد حديث الباب: " وهذا يدل على جواز لبس الحرير للعلاج، فالحرير محرم تحريما خاصا على الرجال، ويجوز لهم مقدار أربع أصابع فأقل، وهذا الحديث يدل على جوازه للعلاج للضرورة. أما المحرم تحريما عاما على الرجال والنساء، فلا يجوز العلاج به كالخمر " (3) .
فينبغي للداعية أن يراعي أحوال المدعوين وييسر عليهم على ضوء ما أباح الله لهم عند الحاجة والضرورة (4) .
ثالثا: العمل بالأسباب لا ينافي التوكل على الله عز وجل: إن العمل بالأسباب من التوكل على الله عز وجل؛ لأن التوكل يقوم على ركنين: العمل بالأسباب، واعتماد القلب على الله عز وجل؛ ولهذا رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام في العلاج بالحرير من الحكة،
_________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب اللباس، باب لبس الحرير للرجال، وقدر ما يجوز منه، 7 / 56، برقم 5828، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، وخاتم الذهب والحرير على الرجال وإباحته للنساء وإباحة العلم ونحوه للرجال ما لم يزد على أربع أصابع، 3 / 1644، برقم 2069 واللفظ له.
(2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 14 / 292، وبهجة النفوس، لعبد الله بن أبي جمرة، 3 / 129، وفتح الباري، لابن حجر، 6 / 101، وشرح رياض الصالحين، للعثيمين 7 / 348.
(3) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 2921 من صحيح البخاري.
(4) انظر: الحديث رقم 19، الدرس الثالث، ورقم 58، الدرس السابع.(1/495)
وهذا يدل على أن العمل بالأسباب لا ينافي التوكل؛ لأن سيد المتوكلين قد شرع الأخذ بالأسباب صلى الله عليه وسلم.
فينبغي للدعاة إلى الله - عز وجل - العمل بالأسباب مع الاعتماد على الله سبحانه وتعالى (1) .
رابعا: أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه: ظهر في هذا الحديث أن سؤال المدعو عما أشكل عليه من الأمور المهمة؛ ولهذا عندما أصابت الحكة عبد الرحمن بن عوف والزبير - رضي الله عنهما - شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذن لهما بلبس الحرير من باب الضرورة والعلاج، وهذا يبيِّن أهمية السؤال عما أشكل ليجد المدعو الجواب والعلاج لما أصابه (2) .
* * * *
[باب قتال اليهود]
[حديث تقاتلون اليهود حتى يختبئ أحدهم وراء الحجر فيقول يا عبد الله] هذا يهودي ورائي فاقتله
_________
(1) انظر: الحديث رقم 30، الدرس الخامس.
(2) انظر: الحديث رقم 19، الدرس الرابع، ورقم 30، الدرس الرابع.(1/496)
94 - باب قتال اليهود 83 [ص:2925] حدثنا إسحاق بن محمد الفروي: حدثنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر (1) . رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تقاتلون اليهود حتى يختبئ أحدهم وراء الحجر فيقول يا عبد الله، هذا يهودي ورائي فاقتله» (2) . وفي رواية: «تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم، حتى يقول الحجر: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله» (3) .
[حديث لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يقول الحجر وراءه اليهودي] يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله
84 [ص:2926] حدثنا إسحاق بن إبراهيم: أخبرنا جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة عن أبي هريرة (4) . - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله» .
* شرح غريب الحديثين: فتسلطون عليهم: تمكنون منهم، يقال: تسلط: تمكن وتحكم (5) .
* الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من أساليب الدعوة: البشارة (6) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 1.
(2) [الحديث 2925] طرفه في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 4 / 211، برقم 3593. وأخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب " لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء "، 4 / 2238، برقم 2921.
(3) الطرف رقم 3593.
(4) تقدمت ترجمته في الحديث رقم: 7.
(5) المصباح المنير، للفيومي، كتاب السين مادة: " تسلط " 1 / 285.
(6) البشارة: يقال للخبر السار: البشارة، والبشرى. مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني، كتاب الباء، مادة: " بشر " ص 125، وانظر: المصباح المنير، للفيومي كتاب الباء، مادة: " بشر " 1 / 49.(1/497)
2 - من خصائص الإسلام: البقاء إلى قيام الساعة.
3 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار بالأمور الغيبية.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من أساليب الدعوة: البشارة: إن البشارة بالخير من أساليب الدعوة التي تجذب قلوب المدعوين، وقد ظهر هذا الأسلوب في قوله صلى الله عليه وسلم: «تقاتلون اليهود حتى يختبئ أحدهم وراء الحجر فيقول: يا عبد الله، [وفي الرواية الأخرى: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله» ، وهذا فيه بشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته أن الله - عز وجل - سوف ينصرهم على اليهود، ويسلطهم عليهم، فيتمكنون من قتلهم وإبادتهم، وأن الساعة لا تقوم حتى يكون ذلك القتال والنصر على أعداء الله عز وجل (1) .
فينبغي للداعية أن يستخدم أسلوب البشارة بالخير للمدعوين (2) .
ثانيا: من خصائص الإسلام: البقاء إلى قيام الساعة: دل هذا الحديث على أن الإسلام يبقى إلى قيام الساعة؛ لأن هؤلاء اليهود هم أتباع الدجال؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا. .» (3) . وهؤلاء يتبعون الدجال آخر الزمان، وينزل عيسى - صلى الله عليه وسلم - ويقتل الدجال، فيهزم الله اليهود، فلا يبقى شجر ولا حجر يتوارى به يهودي - إلا الغرقد؛ فإنه من شجرهم- إلا قال: يا عبد الله المسلم، هذا يهودي فتعال اقتله (4) . وثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدد بقاء الإسلام بعد قتل عيسى ابن
_________
(1) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 6 / 103، 610، وعمدة القاري للعيني، 14 / 199، وإرشاد الساري، للقسطلاني، 5 / 105.
(2) انظر: الحديث رقم 9، الدرس التاسع.
(3) صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب في بقية من أحاديث الدجال، 4 / 2266، برقم 2944. عن أنس رضي الله عنه.
(4) انظر: سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، باب فتنة الدجال وخروج عيسى ابن مريم، 2 / 1361، برقم 4077، من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - وانظر: فتح الباري، لابن حجر 6 / 610.(1/498)
مريم - صلى الله عليه وسلم - للدجال فقال صلى الله عليه وسلم: «ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته. .» ثم يبين صلى الله عليه وسلم: أن بعد ذلك يبقى شرار الخلق فعليهم تقوم الساعة (1) .
وهذا كله يبين أن الإسلام يبقى إلى قبيل قيام الساعة، والحمد لله رب العالمين (2) .
ثالثا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار بالأمور الغيبية: دل هذا الحديث على أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسول الله حقا؛ لأنه أخبر بأمور غيبية كثيرة وقعت كما أخبر، وأمور غيبية أخرى لم تقع وستقع لا محالة كما أخبر - صلى الله عليه وسلم -، ومنها قتل اليهود، وتطهير الأرض منهم، وتخليص المسلمين من شرهم؛ قال العلامة العيني - رحمه الله - في فوائد هذا الحديث: " وفيه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر بما سيقع عند نزول عيسى عليه السلام: من تكلم الجماد والإخبار والأمر بقتل اليهود، وإظهاره إياهم في مواضع اختفائهم " (3) . وسيقع ذلك كما أخبر صلى الله عليه وسلم (4) .
* * * *
_________
(1) صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب خروج الدجال ومكثه في الأرض ونزول عيسى وقتله إياه، وذهاب أهل الخير والإيمان، وبقاء شرار الناس وعبادتهم الأوثان، والنفخ في الصور، وبعث من في القبور، 4 / 2259، برقم 2940.
(2) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 7 / 293، وانظر أيضا: الحديث رقم 55، الدرس الرابع.
(3) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 14 / 199، و 16 / 134، وانظر: فتح الباري، لابن حجر 6 / 103، 610، وإرشاد الساري للقسطلاني 5 / 105.
(4) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع.(1/499)
[باب قتال الترك]
[حديث إن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما ينتعلون نعال الشعر]
95 - باب قتال الترك 85 [ص:2927] حدثنا أبو النعمان: حدثنا جرير بن حازم قال: سمعت الحسن يقول: حدثنا عمرو بن تغلب (1) . قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما ينتعلون نعال الشعر، وإن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما عراض الوجوه كأن وجوههم المجان المطرقة» (2) .
[حديث لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك]
86 [ص:2928] حدثنا سعيد بن محمد: حدثنا يعقوب: حدثنا أبي، عن صالح، عن الأعرج قال: قال أبو هريرة (3) . - رضي الله عنه - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك، صغار الأعين، حمر الوجوه، ذلف الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة. ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر» (4) . وفي رواية: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا: خوزا وكرمان من الأعاجم، حمر الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين، كأن وجوههم المجان المطرقة، نعالهم الشعر» (5) .
_________
(1) عمرو بن تغلب العبدي، يرجع نسبه إلى أسد بن ربيعة، فهو ربعي بالاتفاق، رضي الله عنه. صحب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سكن البصرة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثين رواهما البخاري، وذكر الأكثرون أنه لم يرو عنه إلا الحسن البصري. وقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن تغلب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بمال أو سبي فقسمه، فأعطى رجالا فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله ثم أثنى عليه ثم قال: " أما بعد: فوالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكن أعطي أقواما لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، فيهم عمرو بن تغلب " فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمر النعم [صحيح البخاري برقم 923] وذكر أنه عاش - رضي الله عنه - إلى خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 2 / 25، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 526.
(2) [الحديث 2927] طرفه في: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 4 / 211، برقم 3592.
(3) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 7.
(4) [الحديث 2928] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب قتال الذين ينتعلون الشعر، 3 / 356، برقم 2929. وكتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 4 / 210 و 211، برقم 3587 و 3590 و 3591. وأخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب " لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء "، 4 / 2233، برقم 2912.
(5) الطرف رقم 3590.(1/500)
وفي رواية: " صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنين لم أكن في سني أحرص على أن أعي الحديث مني فيهن، سمعته يقول - وقال هكذا بيده-: «بين يدي الساعة تقاتلون قوما نعالهم الشعر، وهو هذا البارز» وقال سفيان مرة: «وهم أهل البارز» (1) .
* شرح غريب الحديثين: * " أشراط الساعة " الأشراط: العلامات، واحدها: شرط، وبه سميت شرط السلطان؛ لأنهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها (2) .
* " المجان المطرقة " جمع مجن، والمجن: الترس، والمطرقة: التي ألبست بالعقب شيئا فوق شيء، ويقال: طارق النعل: إذا صيرها طاقا فوق طاق، وركب بعضها فوق بعض (3) .
* " ذلف الأنوف " الذلف: قصر الأنف وانبطاحه، وقيل: ارتفاع طرفه مع صغر أرنبته (4) .
* " فطس الأنوف " والفطس: انخفاض قصبة الأنف وانفراشها، وقيل: انفراش الأنف، وطمأنينة وسطه (5) .
* " أهل البارز " قيل: المراد الأكراد الذين سكنوا في البارز: أي الصحراء، ويحتمل أن يراد به الجبل؛ لأنه بارز عن وجه الأرض، وقيل: هم: الديالمة (6) .
_________
(1) الطرف رقم 3591.
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الشين مع الراء، مادة: " شرط " 2 / 460.
(3) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 273، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الطاء مع الراء، مادة: " طرق " 3 / 122.
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الذال مع اللام، مادة: " ذلف " 2 / 165، وانظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 274.
(5) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 274، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الفاء مع الطاء، مادة: " فطس " 3 / 458.
(6) انظر: شرح صحيح البخاري للكرماني، 12 / 163.(1/501)
* الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار بالمغيبات.
2 - من أساليب الدعوة: التشبيه.
3 - أهمية قصر الأمل في الدنيا والمسارعة إلى ما ينجي من الفتن.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار بالمغيبات: دل هذان الحديثان على صدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك» ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر» ، وقد وقع ذلك كما أخبر صلى الله عليه وسلم؛ قال العلامة العيني رحمه الله: " وهذا الخبر من جملة معجزاته - صلى الله عليه وسلم - عن أمر سيكون، وقد وقع بعض ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - سنة سبع عشرة وستمائة، وقد خرج جيش عظيم من الترك، فقتلوا أهل ما وراء النهر وما دونه من جميع بلاد خراسان، ولم ينج منهم إلا من اختفى في المغارات والكهوف. . . " (1) .
ويبين الإمام القرطبي - رحمه الله - أن قتال الترك قد امتد إلى زمنه فقال: " وهذا الخبر قد وقع على نحو ما أخبر صلى الله عليه وسلم، فقد قاتلهم المسلمون في عراق العجم مع سلطان خوارزم - رحمه الله - وكان الله قد نصره عليهم، ثم رجعت لهم الكرة فغلبوا على عراق العجم وغيره، وخرج منهم في هذا الوقت أمم لا يحصيهم إلا الله، حتى كأنهم يأجوج ومأجوج أو مقدمتهم، فنسأل الله تعالى أن يهلكهم ويبدد جمعهم. . . " (2) .
وهذا يبين صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن وقوع ذلك من معجزاته الباهرة (3) .
_________
(1) عمدة القاري، شرح صحيح البخاري، 14 / 201، وانظر: بهجة النفوس، لابن أبي جمرة 3 / 130.
(2) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 7 / 248، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 104.
(3) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع.(1/502)
ثانيا: من أساليب الدعوة: التشبيه: ظهر في هذين الحديثين أسلوب التشبيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «كأن وجوههم المجان المطرقة» ؛ قال الطيبي رحمه الله: " شبه وجوههم بالترس؛ لبسطها وتدويرها، وبالمطرقة؛ لغلظها وكثرة لحمها " (1) .
وهذا يبين للدعاة إلى الله - عز وجل - أهمية استخدام أسلوب التشبيه عند الحاجة إليه، والله المستعان (2) .
ثالثا: أهمية قصر الأمل في الدنيا والمسارعة إلى ما ينجي من الفتن: دل هذان الحديثان على أن خروج هؤلاء القوم- الذين يلبسون نعال الشعر، وعراض الوجوه كأن وجوههم المجان المطرقة- علامة على اقتراب الساعة ويوم القيامة، فينبغي لكل مسلم أن يقصر أمله في الدنيا، فلا تكون أكبر همه؛ فإن من مات قامت قيامته وساعته، كما ينبغي المبادرة إلى عمل جميع الأسباب التي تنجي من الفتن، والمسارعة إلى فعل الخيرات وترك المنكرات؛ لأن الفتن المضلة لا تقع إلا لضعف في الإيمان أو قلة في كماله (3) . قال الله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] (4) وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] (5) .
[باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة]
[حديث ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا شغلونا عن صلاة الوسطى حين غابت] الشمس
_________
(1) شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 11 / 3423، وانظر: معالم السنن للخطابي، 6 / 167، وإكمال إكمال المعلم للأبي 9 / 362.
(2) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الرابع، ورقم 19، الدرس الخامس.
(3) انظر: بهجة النفوس، لعبد الله بن أبي جمرة، 3 / 131.
(4) سورة الروم، الآية 41.
(5) سورة الشورى، الآية: 30.(1/503)
98 - باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة 87 [ص:2931] حدثنا إبراهيم بن موسى: أخبرنا عيسى: حدثنا هشام، عن محمد، عن عبيدة، عن علي (1) - رضي الله عنه قال: لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، شغلونا عن صلاة الوسطى حين غابت الشمس» (2) .
وفي رواية: «ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس» (3) .
وفي رواية: «حبسونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس ملأ الله قبورهم وبيوتهم - أو أجوافهم- نارا» شك يحيى (4) .
وفي رواية: «. . وهي صلاة العصر» (5) .
* شرح غريب الحديث: * " حبسونا ": منعونا (6) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 78.
(2) [الحديث 2931] أطرافه في: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، 5 / 58، برقم 4111. وكتاب تفسير القرآن، 2 سورة البقرة، باب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [البقرة: 238] ، 5 / 190، برقم 4533. وكتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين 7 / 213، برقم 6396. وأخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب التغليظ في تفويت صلاة العصر، 1 / 436، برقم 627. وكتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، 1 / 436، برقم 627.
(3) الطرف رقم 4111.
(4) الطرف رقم 4533.
(5) الطرف رقم 6396.
(6) انظر: المصباح المنير، للفيومي، كتاب الحاء، مادة: " حبس " 1 / 118.(1/504)
1 - من موضوعات الدعوة: الحث على أداء الصلاة في وقتها.
2 - حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أداء الصلاة في وقتها.
3 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث.
4 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
5 - من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة الأحزاب.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على أداء الصلاة في وقتها: دل هذا الحديث على أهمية حث المصلين على المحافظة على الصلاة في وقتها؛ ولهذا دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - على المشركين؛ لكونهم السبب في إشغال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى فاتتهم صلاة العصر؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا شغلونا عن صلاة الوسطى» .
قال الله عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] (1) . وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال «سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: " الصلاة في وقتها " قال: ثم أي؟ قال: " بر الوالدين " قال: ثم أي؟ قال: " الجهاد في سبيل الله» (2) .
فينبغي للدعاة أن يحضوا الناس على المبادرة إلى الصلاة في وقتها؛ لقوله عز وجل: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] (3) .
ثانيا: حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أداء الصلاة في وقتها: ظهر في هذا الحديث حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على المحافظة على الصلاة وأدائها في أول وقتها؛ ولهذا غضب على المشركين غضبا شديدا عندما شغلوه عن
_________
(1) سورة البقرة، الآية: 238.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري واللفظ له، في كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، 1 / 152، برقم 527، ومسلم، في كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، 1 / 89، برقم 85.
(3) سورة النساء، الآية: 103.(1/505)
صلاة العصر، فدعا عليهم وقال: «ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس» وثبت عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن «عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جعل يوم الخندق يسب الكفار، وقال يا رسول الله، ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت أن تغرب الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فوالله إن صليتها " (1) . فنزلنا إلى بطحان (2) . فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوضأنا، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب» (3) . فينبغي لكل مسلم وخاصة الداعية إلى الله سبحانه وتعالى أن يحرص على أداء الصلاة في وقتها.
ثالثا: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث: ظهر في هذا الحديث حرص السلف الصالح على الدقة في نقل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يحيى بن سعيد القطان في قوله صلى الله عليه وسلم: «ملأ الله قبورهم وبيوتهم- أو أجوافهم نارا-» فشك رحمه الله هل قال بيوتهم أو قال أجوافهم، وهذا يدل على تحريه للصدق والدقة (4) .
فينبغي للداعية أن يحرص على الدقة في نقل الحديث (5) .
رابعا: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل مفهوم هذا الحديث على الترهيب عن تأخير الصلاة عن وقتها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا على من كان سببا في تأخيرها فقال: «ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس» قال الطيبي - رحمه الله - على قوله: " بيوتهم وقبورهم " " خصهما بالذكر؛ لأن أحدهما مسكن الأحياء،
_________
(1) فوالله إن صليتها: أي والله ما صليتها. شرح النووي على صحيح مسلم، 5 / 136.
(2) بطحان: هو واد بالمدينة. المرجع السابق 1 / 137.
(3) متفق عليه: البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب قضاء الصلوات، الأولى فالأولى، 1 / 167، برقم 598، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة 1 / 438، برقم 631.
(4) انظر: شرح صحيح البخاري للكرماني، 17 / 40، وفتح الباري لابن حجر، 8 / 198.
(5) انظر: الحديث رقم 21، الدرس العاشر.(1/506)
والآخر مضجع الأموات: أي جعل الله النار ملازمة لهم، بحيث لا تنفك عنهم لا في حياتهم ولا في مماتهم " (1) . فدعا عليهم بعذاب الدارين من خراب بيوتهم في الدنيا بنهب أموالهم، وسبي ذراريهم، وهدم دورهم، ومن عقابهم في الآخرة باشتعال قبورهم نارا (2) . وهذا الدعاء على من كان سببا في تأخير صلاة العصر حتى خرج وقتها، فكيف بعقاب من أخرها متعمدا مستهينا بها حتى يخرج وقتها؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر (3) . أهله وماله» (4) . وهذا الوعيد لمن فاتته صلاة العصر، أما من تركها متعمدا فقال في حقه صلى الله عليه وسلم: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» (5) .
فينبغي للداعية أن يخوف الناس من تأخير الصلاة عن وقتها ومن تركها (6) .
خامسا: من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة الأحزاب: إن من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة الأحزاب؛ لأهمية ذلك، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا شغلونا عن صلاة الوسطى» ، وهذا يبين للداعية أهمية ذكر الحوادث التي تجذب قلوب المدعوين، ولا شك أن غزوة الأحزاب كانت في السنة الخامسة من الهجرة (7) .
[حديث اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اللهم اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم] وزلزلهم
_________
(1) شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 3 / 900.
(2) انظر: المرجع السابق، 3 / 900.
(3) وتر أهله وماله: أي انتزع منه أهله وماله، فبقي بلا أهل ولا مال، انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5 / 130.
(4) متفق عليه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما: البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب إثم من فاتته العصر، 1 / 156، برقم 552، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب التغليظ في تفويت صلاة العصر، 1 / 435، برقم 626.
(5) البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب من ترك العصر، 1 / 156، برقم 553.
(6) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر، ورقم 12، الدرس الثالث.
(7) انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، 3 / 269.(1/507)
88 [ص:2933] حدثنا أحمد بن محمد: أخبرنا عبد الله: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد أنه سمع عبد الله بن أبي أوفى (1) - رضي الله عنهما - يقول: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب على المشركين فقال: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم» (2) .
وفي رواية: عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، وكان كاتبا له قال: كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنهما - فقرأته: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه التي لقي فيها انتظر حتى مالت الشمس» . (3) .
وفي رواية: ثم قام في الناس فقال: «أيها الناس لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» ، ثم قال: «اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم، وانصرنا عليهم» . (4) .
* شرح غريب الحديث: * " الجنة تحت ظلال السيوف " هو كناية عن الدنو من القتال في الجهاد، حتى يعلوه السيف ويصير ظله عليه، والظل: الفيء الحاصل من الحاجز بينك وبين الشمس (5) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 3.
(2) [الحديث 2933] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، 4 / 11، برقم 2965. وكتاب الجهاد والسير، باب لا تمنوا لقاء العدو، 4 / 30، برقم 3025. وكتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، 5 / 59، برقم 4115. وكتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين، 7 / 212، برقم 6392. وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: أنزله بعلمه والملائكة يشهدون [النساء: 166] ، 8 / 247، برقم 7489. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو، 3 / 1363، برقم 1742.
(3) الطرف رقم 2965.
(4) من الطرف رقم 3025.
(5) انظر: غريب الحديث رقم 33، ص 232.(1/508)
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من أسباب نصر الداعية: الدعاء.
2 - من وسائل الدعوة إلى الله: الكتابة.
3 - من وسائل الدعوة: مراعاة أوقات نشاط المدعو.
4 - من أساليب الدعوة: التشبيه.
5 - من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد.
6 - من موضوعات الدعوة: الحث على الدعاء.
7 - من صفات الداعية: الصبر.
8 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
9 - من وسائل الدعوة: اغتنام التذكير عند الحوادث الملمة.
10 - من وسائل الدعوة: الخطابة.
11 - من موضوعات الدعوة: الحث على سلوك الأدب.
12 - من صفات الداعية: التواضع (1) .
_________
(1) انظر: الدروس الدعوية للحديث رقم 33؛ فإن جميع هذه الدروس سبق الحديث عنها هناك بالتفصيل.(1/509)
[حديث إن الله يحب الرفق في الأمر كله]
89 [ص:2935] حدثنا سليمان بن حرب: حدثنا حماد، عن أيوب عن ابن أبي مليكة، عن عائشة (1) - رضي الله عنها: «أن اليهود دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليك، فلعنتهم. فقال: " مالك؟ " قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: " فلم تسمعي ما قلت؟ وعليكم» (2) .
وفي رواية: «دخل رهط من اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليكم. قالت عائشة - رضي الله عنها ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله " فقلت: يا رسول الله أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد قلت: وعليكم» (3) .
وفي رواية: «أن يهود أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة: عليكم ولعنكم الله وغضب الله عليكم. قال: " مهلا يا عائشة عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش " قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: " أولم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في» (4) .
وفي رواية: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله» (5) .
* شرح غريب الحديث: * " السام ": الموت وهو الذي كانت اليهود تقصده في سلامهم. أما السأم
_________
(1) تقدمت ترجمتها في الحديث رقم 4.
(2) الحديث 2935] أطرافه في: كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، 7 / 105، برقم 6024. وكتاب الأدب، باب لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحشا ولا متفحشا، 7 / 107، برقم 6030. وكتاب الاستئذان، باب كيف يرد على أهل الذمة السلام؟ ، 7 / 172، برقم 6256. وكتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين، 7 / 212، برقم 6395. وكتاب الدعوات، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ " يستجاب لنا في اليهود، ولا يستجاب لهم فينا "، 7 / 214، برقم 6401. وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب إذا عرض الذمي وغيره بسب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يصرح نحو قوله. " السام عليك "، 8 / 65، برقم 6927. وأخرجه مسلم في كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم؟ ، 4 / 1706، برقم 2165.
(3) الطرف رقم: 6024.
(4) الطرف رقم: 6030.
(5) من الطرف رقم: 6927.(1/510)
فمعناه أنكم تسأمون دينكم. (1) .
* " الفحش ": المقصود بالفحش في هذا الحديث: التعدي في القول والجواب. وقد يكون الفحش بمعنى: الزيادة والكثرة، كما يقال في دم البراغيث: إن لم يكن فاحشا فلا بأس: أي إن لم يكن كثيرا. و " الفاحش " ذو الفحش في كلامه وفي فعاله. و " المتفحش " الذي يتكلف ذلك ويتعمده (2) . و " الفحش والفاحشة والفواحش ": " كل ما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي، وكثيرا ما ترد الفاحشة بمعنى الزنا، وكل خصلة قبيحة فهي فاحشة: من الأقوال والأفعال " (3) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحض على لين الجانب بالقول والفعل.
2 - من صفات الداعية: الرفق.
3 - من آداب الداعية: إفشاء السلام ورده على المسلمين، ورده عل أهل الكتاب، بقوله: (وعليكم) .
4 - من أساليب الدعوة: البشارة.
5 - من صفات الداعية: الحلم.
6 - من صفات الداعية: التغافل عن سفه المبطلين إذا أمنت المفسدة.
7 - أهمية تدريب الداعية نفسه ولسانه على الأدب.
8 - من وسائل الدعوة: التأليف بالعفو مكان الانتقام.
9 - من أصناف المدعوين: أهل الإيمان الكامل.
10 - من أصناف المدعوين: اليهود مع خبثهم وسوء أدبهم.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
_________
(1) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 196، ص 219، وانظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب السين مع الهمزة، مادة: " سئم " 3 / 328.
(2) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 426.
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الفاء مع الحاء، مادة: " فحش " 3 / 415.(1/511)
أولا: من موضوعات الدعوة: الحض على لين الجانب بالقول والفعل: ظهر في هذا الحديث الحض والحث على لين الجانب مع المدعوين بالقول والفعل؛ ولهذا عندما قال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: السام عليك لم يعاقبهم، ولم يزد على قوله صلى الله عليه وسلم: " وعليكم " بل أنكر على عائشة - رضي الله عنها قولها: «عليكم ولعنكم الله وغضب الله عليكم " فقال صلى الله عليه وسلم: " مهلا يا عائشة، عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش» . فينبغي للداعية أن يحض المدعوين على لين الجانب واللطف؛ قال الله - عز وجل - لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى - فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 - 44] (1) وقال سبحانه وتعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] (2) .
ثانيا: من صفات الداعية " الرفق: إن الرفق من الصفات المهمة التي ينبغي أن يتصف بها الداعية؛ ولهذا رفق النبي - صلى الله عليه وسلم - باليهود في هذا الحديث، ولم يقابل قولهم القبيح ومقصدهم الفاسد بالعنف ولا بالفحش، وإنما رفق بهم ورد عليهم ما قالوا من حيث لا يشعرون بحكمة ولطف فقال: " وعليكم ". فينبغي للداعية أن يكون رفيقا، لينا سهلا؛ لأن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله (3) .
ثالثا: من آداب الداعية: إفشاء السلام ورده علي المسلمين،
ورده علي أهل الكتاب بقوله: " وعليكم ": إن إفشاء السلام ورده على كل مسلم من الآداب العظيمة، أما أهل الكتاب فلا يبْدَؤون بالسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» (4) . ولكن إذا سلم أهل الكتاب فيرد عليهم
_________
(1) [سورة طه، الآيتان: 43-44] .
(2) [سورة آل عمران، الآية: 159] .
(3) انظر: الحديث رقم 76، الدرس الثالث.
(4) أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، في كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يرد عليهم، 4 / 1707 برقم 2167.(1/512)
السلام بالصيغة التي رد بها عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة - رضي الله عنها - وهي قوله: " وعليكم " أو " عليكم " وقد رجح النووي رحمه الله أن إثبات الواو وحذفها جائزان، وأكثر الروايات بإثباتها، وعلى هذا فيكون في معناه وجهان: أحدهما: أنه على ظاهره، فقالوا: عليكم الموت، فقال: " وعليكم " أيضا أي نحن وأنتم فيه سواء، وكلنا نموت.
والوجه الثاني: أن الواو هنا للاستئناف لا للعطف والتشريك، وتقديره: " وعليكم " ما تستحقونه من الذم، وأما من حذف الواو فتقديره: بل عليكم السام، وإثبات الواو أجود كما في أكثر الروايات (1) .
وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بهذه الصيغة فقال: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم» (2) . فثبت ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله.
فينبغي للمسلم أن يسلم على كل جمع فيهم مسلمون وكفار، أو مسلم وكافر، ويقصد بالسلام ورده المسلمين أو المسلم (3) . أما السلام على المسلمين ورده على من سلم منهم، فهذا فيه أحاديث عظيمة تبين أهميته وآدابه، وتأكده، ومن ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حق المسلم على المسلم ست " قيل: وما هن يا رسول الله، قال: " إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه» (4) . ومن آداب السلام ما ثبت في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد،
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 394- 395.
(2) متفق عليه: من حديث أنس رضي الله عنه، البخاري، كتاب الاستئذان، باب كيف يرد على أهل الذمة السلام، 7 / 173، برقم 6258، ومسلم، في كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم، 4 / 1705، برقم 2163.
(3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 14 / 396.
(4) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز، 2 / 88، برقم 1240، ولفظه؛ " حق المسلم على المسلم خمس " ولم يذكر " إذا استنصحك فانصح له " وأخرجه مسلم بلفظه، في كتاب السلام، باب من حق المسلم على المسلم رد السلام، 4 / 1704 برقم 2162.(1/513)
والقليل على الكثير» (1) . وعنه - رضي الله عنه - أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير» (2) . وللسلام آداب كثيرة جميلة، وفضائل عظيمة لا يتسع المقام لذكرها في هذا الموضع. فينبغي للداعية أن يعتني بها ويراجعها (3) .
رابعا: من أساليب الدعوة: البشارة: ظهر هذا الأسلوب في قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «أو لم تسمعي ما قلت؟ يستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في» وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «وإنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا» (4) . وهذه بشارة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة ولجميع المسلمين أن الدعاء بالحق على الظالم يستجاب، ولا يستجاب دعاء الظالم على المظلوم؛ لأنه دعاء بالباطل والظلم؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ويستفاد منه أن الداعي إذا كان ظالما على من دعا عليه لا يستجاب دعاؤه " (5) .
خامسا: من صفات الداعية: الحلم: إن الحلم من الصفات الكريمة الجميلة التي ينبغي أن يتصف بها الداعية إلى الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا لم يغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما قال اليهود: " السام عليك " وإنما ضبط نفسه، وأعرض عنهم، ورد عليهم ما يناسبهم " وعليكم " وقد أمره الله - عز وجل - بالإعراض عن الجاهلين فقال سبحانه وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] (6)
_________
(1) متفق عليه: البخاري، في كتاب الاستئذان، باب تسليم الراكب على الماشي، 7 / 165، برقم 6232، ومسلم، كتاب السلام، باب يسلم الراكب على الماشي والقليل على الكثير، 4 / 1703 برقم 2160.
(2) البخاري، كتاب الاستئذان، باب تسليم القليل على الكثير، 7 / 165، برقم 6231.
(3) انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح المقدسي 1 / 350 -417، وغذاء الألباب لشرح منظومة الآداب، لمحمد السفاريني 1 / 474- 300.
(4) أخرجه مسلم، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - في كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم، 4 / 1707 برقم 2166. من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -.
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 11 / 200.
(6) سورة الأعراف، الآية: 199.(1/514)
فينبغي للداعية أن يضبط نفسه عند هيجان الغضب، وهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة وصبر عظيم؛ لما في كظم الغيظ من كتمان ومقاومة (1) .
سادسا: من صفات الداعية: التغافل عن سفه المبطلين إذا أمنت المفسدة: دل هذا الحديث على أن من الصفات الحميدة أن يتغافل الداعية عن سفه المبطلين والمعارضين لدعوته، وإذا سمع كلاما قبيحا وفحشا من القول فكأنه لم يسمعه إعراضا عن الجاهلين؛ ولهذا أعرض - صلى الله عليه وسلم - عن اليهود عندما قالوا " السام عليك " ولم يزد على قوله صلى الله عليه وسلم: " وعليكم "؛ قال النووي رحمه الله: " وفي هذا الحديث استحباب تغافل أهل الفضل عن سفه المبطلين إذا لم تترتب عليه مفسدة " (2) . فالكيس العاقل هو الفطن المتغافل عن الزلات، وسقطات اللسان إذا لم يترتب على ذلك مفاسد، والله المستعان (3) . وقد مدح الله - عز وجل - المؤمنين الذين يدرؤون بالحسنة السيئة فقال سبحانه وتعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 54 - 55] (4) . وقال - عز وجل - في صفات عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] (5) .
سابعا: أهمية تدريب الداعية نفسه ولسانه على الأدب: دل هذا الحديث على أهمية تدريب الداعية نفسه ولسانه على الآداب الحميدة، والألفاظ الكريمة؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها: «عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش» فقد حذر - صلى الله عليه وسلم - عن التعدي في القول والجواب؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " والذي يظهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن لا يتعود لسانها بالفحش، أو أنكر عليها الإفراط في السب " (6) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الثاني.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم، 14 / 398.
(3) انظر: المرجع السابق 14 / 398.
(4) سورة القصص، الآيتان: 54-55.
(5) سورة الفرقان، الآية: 63.
(6) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 11 / 43.(1/515)
فينبغي للداعية أن يضبط نفسه ولسانه عن كل ما لا يحسن ولا يجمل والله المستعان.
ثامنا: من وسائل الدعوة: التأليف بالعفو مكان الانتقام: التأليف بالعفو مكان الانتقام من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل، وقد ظهر ذلك في عفو النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اليهود الذين قالوا: " السام عليك " ومع ذلك عفا عنهم - صلى الله عليه وسلم - استئلافا، وإلا فالصواب أن من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكفار ينتقض عهده، فيهدر دمه ويقتل إلا أن يسلم، فإن أسلم فالحمد لله؛ الإسلام يهدم ما كان قبله.
أما من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين فإنه يقتل، والصواب أنه لا يستتاب، بل يقتله ولي أمر المسلمين؛ لأن شره عظيم وخطير- ولا شك أن من تاب تاب الله عليه- فإن كان صادقا في توبته قبلت عند الله عز وجل، ولكن لا يكون معصوم الدم في الدنيا، بل يقتل، والله المستعان وعليه التكلان (1) . والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل اليهود الذين قالوا: " السام عليك " استئلافا لهم وترغيبا لهم في الإسلام، والله أعلم. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " والذي يظهر أن ترك قتل اليهود إنما كان لمصلحة التأليف، أو لكونهم لم يعلنوا به، أو لهما جميعا وهو أولى والله أعلم " (2) . وهذا يبين حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إيصال الإسلام لكافة الناس، ولهذا أراد أن يتألفهم، مع فطنته ورده عليهم قولهم من حيث لا يشعرون (3) . فينبغي للداعي أن يتألف بالعفو مكان الانتقام اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم (4) .
تاسعا: من أصناف المدعوين: أهل الإيمان الكامل: دل هذا الحديث على أن من أصناف المدعوين أهل الإيمان الكامل؛ ولهذا أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على عائشة - رضي الله عنها - ونصحها بالرفق واللطف عندما شددت بالقول القوي على اليهود ولعنتهم فقال صلى الله عليه وسلم: «مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله» .
_________
(1) انظر: الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص 3 -23، وص 379- 405، وفتح الباري لابن حجر، 12 / 281.
(2) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 12 / 281.
(3) انظر: بهجة الناظرين شرح رياض الصالحين، لسليم الهلالي 1 / 683.
(4) انظر: الحديث رقم 80، الدرس الثالث.(1/516)
فينبغي للداعية أن يعلم أن من أصناف المدعوين أهل الصلاح والاستقامة، وقد يكون هو منهم في بعض الأحيان (1) .
عاشرا: من أصناف المدعوين: اليهود مع خبثهم وسوء أدبهم: دل استئلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهود في هذا الحديث على أنهم من أصناف المدعوين؛ ولهذا لم يعاقبهم على قولهم القبيح: " السام عليك " رغبة منه - صلى الله عليه وسلم - في إسلامهم كما بين ذلك ابن حجر رحمه الله. (2) .
واليهود لهم أعمال خبيثة قبيحة، منها قولهم: " السام عليك "؛ فإنهم قد أوهموا أنهم يقولون: " السلام عليك " ولكنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وقصدوا الموت قبحهم الله، ومن خبثهم قولهم: " راعنا " وقد ذكر كثير من أهل العلم أنها كلمة تقولها اليهود على وجه الاستهزاء والمسبة. (3) .
قال الله عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 46] (4) ؛ ولهذا نهى الله المؤمنين أن يخاطبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104] (5) .
ولا شك أن اليهود قلوبهم قاسية ويحرفون الكلم عن مواضعه، ولكن لإقامة الحجة عليهم ينبغي للداعية أن يسلك معهم في دعوتهم إلى الله - عز وجل -خمسة مسالك:
1 - يبين لهم بالأدلة العقلية والنقلية أن الإسلام قد نسخ جميع الشرائع السابقة.
_________
(1) انظر: الحديث رقم 71، الدرس السابع ورقم 76، الدرس الرابع.
(2) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 12 / 281، وانظر: الدرس الثامن من هذا الحديث.
(3) انظر: تفسير الطبري " جامع البيان عن تأويل آي القرآن " 8 / 435، 2 / 459-467.
(4) سورة النساء، الآية: 46.
(5) سورة البقرة، الآية: 104.(1/517)
2 - يذكر لهم الأدلة القطعية على وقوع التحريف والتبديل في التوراة.
3 - إثبات اعترافات المنصفين من علماء اليهود.
4 - الأدلة على إثبات رسالة عيسى صلى الله عليه وسلم.
5 - الأدلة العقلية والنقلية والحسية على إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم (1) .
_________
(1) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم 1 / 177 -287، والداعي إلى الإسلام، لكمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري ص 317 -353، وتلبيس إبليس لعبد الرحمن بن الجوزي البغدادي ص 73، ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 5 / 78 -83، 7 / 27، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2 / 321 -362، وهداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، لابن القيم ص 522- 582، وإظهار الحق، لرحمة الله الهندي 1 / 93-509.(1/518)
[باب هل يرشد المسلم أهل الكتاب أو يعلمهم الكتاب]
[حديث كتاب النبي إلى قيصر فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين]
99 - باب هل يرشد المسلم أهل الكتاب أو يعلمهم الكتاب؟ 90 [ص:2936] حدثنا إسحاق: أخبرنا يعقوب بن إبراهيم: حدثنا ابن أخي ابن شهاب، عن عمه قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أن عبد الله بن عباس (1) . - رضي الله عنهما - أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى قيصر وقال: «فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين» (2) .
وفي رواية: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، وبعث بكتابه إليه مع دحية الكلبي (3) وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدفعه إلى عظيم بصرى؛ ليدفعه إلى قيصر وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لما أبلاه الله، فلما جاء قيصر كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حين قرأه: التمسوا لي هاهنا أحدا من قومه، لأسألهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " (4) .
* شرح غريب الحديث: * " قيصر " هو هرقل، ولقبه قيصر، وكل من ملك الروم يقال له قيصر (5) .
* " توليت " أعرضت وامتنعت عن الدخول في الإسلام (6) .
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 5.
(2) [الحديث 2936] طرفه في: كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى الإسلام والنبوة، 4 / 3، برقم 2940.
(3) دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه، أسلم قديما، وأول مشاهده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشهد أحد، ثم شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشاهد كلها، وكان يضرب به المثل في حسن الصورة والجمال، وكان جبريل يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية رضي الله عنه، وأرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتاب إلى عظيم بصرى؛ ليدفعه إلى قيصر " هرقل " فلقيه بحمص أول سنة سبع أواخر سنة ست. قال الإمام النووي رحمه الله: " روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أحاديث "، وقال الحافظ ابن حجر: " يجتمع لنا عنه نحو ستة " وشهد - رضي الله عنه - معركة اليرموك، وقد نزل إلى دمشق وسكن المزة - القرية المعروفة بجانب دمشق- وبقي إلى خلافة معاوية رضي الله عنهما. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1 / 185، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1 / 473.
(4) الطرف رقم 2940.
(5) شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 346، وانظر: شرح الطيبي على مرقاة المفاتيح 8 / 2691.
(6) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 3 / 609، وشرح النووي على صحيح مسلم 12 / 352.(1/519)
* " عظيم بصرى " أي أمير بصرى (1) .
* " بصرى " هي مدينة حوران، ذات قلعة وأعمال، قريبة من طرف البرية التي بين الشام والحجاز. (2) .
* " إيلياء " بيت المقدس، وقيل معناه: بيت الله، وحكي أنه يقال بالقصر أيضا " إيليى " ولغة ثالثة بحذف الياء الأولى " إلياء " وهو المسجد الأقصى أيضا (3) .
* " أبلاه الله " أي: أنعم عليه (4) .
* " الأريسيين " هم الأكّارون والزارعون، والفلاحون. الواحد: أريس وهي لغة شامية، وقيل: هم الخدم، وقيل غير ذلك. والمعنى أن على قيصر مثل إثم هؤلاء؛ لأنه صدهم عن الإسلام (5) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الدعوة إلى كلمة التوحيد.
2 - من وسائل الدعوة: الكتب والرسائل وإرسال الرسل والدعاة.
3 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
4 - من أصناف المدعوين: النصارى.
5 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
6 - حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على هداية جميع الناس إلى الإسلام.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 346، وشرح الطيبي على مشكاة المصابيح 8 / 2692.
(2) انظر: مشارق الأنوار، للقاضي عياض، حرف الباء مع الصاد، 1 / 116، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 3 / 602، وشرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 346.
(3) انظر: مشارق الأنوار، للقاضي عياض، حرف الهمزة مع اللام، 1 / 59.
(4) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 3 / 611.
(5) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 162، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الهمزة مع الراء، مادة: " أرس " 1 / 38.(1/520)
أولا: من موضوعات الدعوة: الدعوة إلى كلمة التوحيد:
دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة: الدعوة إلى كلمة التوحيد، وهي " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا كتب - صلى الله عليه وسلم - إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام أي إلى الشهادتين كما ثبت فيما تضمنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضا ففي الرواية الأخرى: أن قيصر " هرقل " دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل " قيصر " فقرأه، وفي رواية: " فقرئ " فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام (1) . أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] (2) فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده» (3) . وهذا مضمون الكتاب قد اتضح فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا هرقل وأتباعه إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله. وهذا يبين للدعاة إلى الله - عز وجل - أهمية العناية بالشهادتين، ودعوة الكفار إليهما قبل كل شيء، وبيان معناهما، ومقتضاهما، وشروطهما وأركانهما، ونواقضهما، وخاصة بعد دخول الكفار في الإسلام (4) .
ثانيا: من وسائل الدعوة: الكتب والرسائل وإرسال الرسل والدعاة: دل هذا الحديث على أن من وسائل الدعوة كتابة الرسائل والكتب، وإرسالها
_________
(1) أدعوك بدعاية الإسلام: أي بدعوته وهي كلمة التوحيد. شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 352، وقال الطيبي: " وهي كلمة الشهادة التي يدعى إليها أهل الملل الكافرة " شرح الطيبي لمشكاة المصابيح 8 / 2692، وقال القرطبي: " هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " المفهم 3 / 608.
(2) سورة آل عمران، الآية: 64.
(3) متفق عليه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن أبي سفيان رضي الله عنه: البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى الإسلام والنبوة، 4 / 3، برقم 2941، وطرفه الأول عند البخاري في كتاب الوحي، باب حدثنا أبو اليمان، 1 / 6 برقم 7، وأخرجه مسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، 3 / 1396، برقم 1773.
(4) انظر: الحديث رقم 93، الآتي بعد حديثين، الدرس الأول.(1/521)
إلى المدعوين مع السفراء والرسل؛ ولهذا كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قيصر- كما في هذا الحديث- يدعوه إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك والجبابرة يدعوهم إلى الإسلام، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: " أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى (1) . وإلى قيصر (2) . وإلى النجاشي (3) . وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ". (4) .
وأرسل - صلى الله عليه وسلم - الرسل يحملون الرسائل والكتب إلى ملوك الأرض، وأرسل الدعاة إلى الله يبلغون الناس الإسلام، ويدعونهم قبل كل شيء إلى الشهادتين، ثم يدعونهم بالتدرج إلى شرائع الإسلام، ومن ذلك «أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذ بن جبل إلى اليمن وقال له: " إنك تأتي قوما أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله [وفي رواية: " فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل] ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» (5) .
وهذا يبين أهمية إرسال الكتب وبعث الرسل والدعاة لدعوة الناس إلى الإسلام، وتبليغهم كل ما أمر الله به عباده عن طريق التدرج (6) .
ثالثا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: دل مفهوم هذا الحديث على أهمية القدوة الحسنة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في كتابه
_________
(1) كِسْرى: وهو لقب لكل من ملك من ملوك الفرس. شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 355.
(2) قيصر: لقب لكل من ملك الروم. انظر: المرجع السابق، 2 / 355.
(3) النجاشي: لقب لكل من ملك الحبشة، كما أن: خاقان لكل من ملك الترك، وفرعون لكل من ملك القبط، والعزيز لكل من ملك مصر، وتبع لكل من ملك حمير. انظر: المرجع السابق، 12 / 355.
(4) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الله عز وجل، 3 / 1397، برقم 1774.
(5) متفق عليه: البخاري، 2 / 133، برقم 1395، ومسلم، 1 / 50، برقم 19، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 52، الدرس الثاني، ص 323.
(6) انظر: الحديث رقم 66، الدرس الثالث.(1/522)
لهرقل: «فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين» وهذا فيه دلالة واضحة على أن الله - عز وجل - لو شاء هداية قيصر لأسلم من معه جميعا: من الفلاحين والزارعين وغيرهم (1) . وهذا يبين بمفهومه أهمية القدوة الحسنة وأثرها في نفوس المدعوين (2) .
رابعا: من أصناف المدعوين: النصارى: ظهر في هذا الحديث أن من أصناف المدعوين النصارى؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب الرسائل والكتب إليهم، وأرسل الرسل والدعاة يدعونهم إلى الله عز وجل، كما في هذا الحديث في كتابه لقيصر مع دحية الكلبي رضي الله عنه.
ولا شك أن دعوة النصارى إلى الله تحتاج إلى أساليب ووسائل متخصصة؛ لمراعاة أحوالهم ومعتقداتهم، فينبغي أن يسلك معهم الداعية إلى الله - عز وجل - مسالك سبعة كالآتي:
1 - إبطال عقيدة التثليث بالأدلة العقلية والنقلية، وإثبات الوحدانية لله عز وجل.
2 - البراهين بالأدلة العقلية والنقلية على إثبات بشرية عيسى - صلى الله عليه وسلم - وعبوديته لله عز وجل.
3 - الأدلة العقلية والنقلية على إبطال قضية الصلب والقتل لعيسى صلى الله عليه وسلم.
4 - البراهين بالأدلة العقلية والنقلية على أن الإسلام قد نسخ جميع الشرائع السابقة.
5 - البراهين بالأدلة الحسية والنقلية على إثبات وقوع التحريف في الإنجيل.
6 - إثبات اعترافات المنصفين من علماء النصارى.
7 - البراهين الحسية والعقلية والنقلية على إثبات الرسالة المحمدية وعمومها لكافة الناس.
وإذا سلك الداعية إلى الله - عز وجل - مع النصارى هذه المسالك وفق للحكمة في دعوة النصارى إن شاء الله تعالى (3) .
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 352.
(2) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث، ورقم 8، الدرس الخامس.
(3) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم، 1 / 110 - 112، 2 / 13، 139، 228، والملل والنحل للشهرستاني 1 / 221- 222، والداعي إلى الإسلام، للأنباري ص 359- 461، وتلبيس إبليس لعبد الرحمن بن الجوزي ص 73، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لشيخ الإسلام ابن تيمية 1 / 120- 420، 2 / 30 -421، 3 / 49 -495، 4 / 5- 403، 5 / 5 -449، 6 / 5- 481، ودرء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، 1 / 198، ودقائق التفسير له، 2 / 324 -346، 3 / 28- 31، وإغاثة اللهفان لابن القيم، 2 / 85، 270-273، وهداية الحيارى له، ص 620- 640، وإظهار الحق لرحمة الله الهندي 1 / 93 -583، والمناظرة بين الإسلام والنصرانية بعناية الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية، ص 173- 494، 477.(1/523)
خامسا: من أساليب الدعوة: الترهيب: إن الترهيب أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في كتابه إلى قيصر: «فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين» .
فبين له - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا امتنع من الدخول في الإسلام فإن عليه إثم أتباعه من الفلاحين وغيرهم (1) . لأنه السبب في عدم دخولهم في دين الله عز وجل (2) .
سادسا: حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على هداية جميع الناس إلى الإسلام: دل هذا الحديث على حرص محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - على هداية الناس جميعا إلى الإسلام، وإخراجهم من الظلمات إلى النور؛ ولهذا كتب لقيصر كما في هذا الحديث، وكتب إلى سائر ملوك الدنيا وجبابرتها، يدعوهم إلى كلمة التوحيد (3) . وقد مدحه الله - عز وجل - وأثنى عليه، وأكرمه بقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (4) .
وهو شديد الحرص على المؤمنين أعظم من غيرهم قال الله عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] (5) .
فينبغي للداعية إلى الله - عز وجل - أن يحرص على هداية الناس اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 352.
(2) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر، والحديث رقم 12، الدرس الثالث.
(3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 354 -355، وشرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 8 / 2691، 2708.
(4) سورة الأنبياء، الآية: 107.
(5) سورة التوبة، الآية: 128.(1/524)
[باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم]
[حديث اللهم اهد دوسا وائت بهم]
100 - باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم 91 [ص:2937] حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب: أخبرنا أبو الزناد: أن عبد الرحمن قال: قال أبو هريرة (1) . رضي الله عنه: قدم طفيل بن عمرو الدوسي (2) . وأصحابه على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله إن دوسا عصت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس: قال: «اللهم اهد دوسا وائت بهم» (3) .
وفي رواية: " جاء الطفيل بن عمرو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن دوسا قد هلكت: عصت وأبت فادع الله عليهم " (4) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 7.
(2) الطفيل بن عمرو: هو الطفيل بن عمرو بن طريف، وقيل: ابن عبد الله الدوسي، نسبة إلى دوس بن عدثان بن عبد الله بن زهران. كان شاعرا سيدا في قومه، وقدم مكة، وقالت له رجال قريش: إنك امرؤ شاعر سيد، وإنا قد خشينا أن يصيبك هذا الرجل ببعض حديثه؛ فإنما حديثه كالسحر، فاحذره أن يدخل عليك وعلى قومك؛ فإنه فرق بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وابنه، فما زالوا به حتى سد أذنيه بقطن، ومر بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمسجد، وإذا هو قائم بالمسجد فقام قريبا، فسمع بعض قوله، ثم فتح أذنيه واستمع فما سمع كلاما أحسن من كلامه، وذهب معه إلى بيته وعرض عليه الإسلام فأسلم، وأرسله إلى قومه داعيا، وسأل الله أن يجعل له آية، فلما ذهب وأشرف على قومه جعل الله له بين عينيه نورا، فسأل الله أن يجعله في غير وجهه، فتحول النور في رأس عصاه، ووصل إلى قومه فبدأ بدعوة أبيه وأمه، وزوجته إلى الإسلام، فأسلموا، وذكر ابن حجر في الفتح والإصابة أن أمه لم تسلم، وذكر الذهبي أنها أسلمت، ثم دعا قومه إلى الإسلام فلم يسلموا، فرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادع الله عليهم، فدعا لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهداية، ثم رجع إليهم، فدعاهم وبقي فيهم حتى قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة خيبر بثمانين أو تسعين أسرة مسلمة، منهم أبو هريرة رضي الله عنه، وبقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى فتح مكة، وطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبعثه إلى ذي الكفين " صنم عمرو بن حممة " فخرج إليه وأحرقه بالنار وهو يقول: يا ذا الكفين لست من عبادكا ميلادنا أكبر من ميلادكا، إني حشوت النار في فؤادكا. ثم رجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبقي معه حتى قبض صلى الله عليه وسلم، ثم شهد يوم اليمامة في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وقتل شهيدا. انظر: اللباب في تهذيب الأنساب، لعلي بن أبي الكرم محمد بن محمد المعروف بابن الأثير 1 / 513، وسير أعلام النبلاء للذهبي 1 / 344- 347، وزاد المعاد لابن القيم، 3 / 495، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 225.
(3) [الحديث 2937] طرفاه في: كتاب المغازي، باب قصة دوس والطفيل بن عمرو الدوسي، 5 / 144، برقم 4392. وكتاب الدعوات، باب الدعاء للمشركين، 7 / 213، برقم 6397.
(4) من الطرف، رقم 4392.(1/525)
1 - من صفات الداعية: الحلم.
2 - من صفات الداعية: التأني والتثبت.
3 - من صفات الداعية: رحمة المدعو والشفقة عليه.
4 - من صفات الداعية: الحرص على هداية الناس.
5 - من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين.
6 - من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء.
7 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة.
8 - من أصناف المدعوين: المشركون.
9 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: إجابة دعواته.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: الحلم: ظهر في هذا الحديث حلم النبي - صلى الله عليه وسلم - العظيم؛ لأن الطفيل - رضي الله عنه - حينما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن دوسا قد عصت وأبت فادع الله عليهم، فدعا لهم - صلى الله عليه وسلم - بالهداية، وحلم عليهم فلم يغضب، فالطفيل - رضي الله عنه - ومن معه يطلبون من النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء عليهم بالهلاك ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو لهم بالهداية، وهذا يدل على حلمه العظيم، قال الكرماني رحمه الله: " ودعا لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهداية في مقابلة العصيان، والإتيان بهم في مقابلة الإباء " (1) .
فينبغي للداعية أن يتصف بالحلم ولا يغضب ولا يجزع إذا لم تقبل دعوته، والله المستعان (2) .
ثانيا: من صفات الداعية: التأني والتثبت: دل هذا الحديث على تثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدم عجلته؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - عندما قال له
_________
(1) شرح صحيح البخاري للكرماني 16 / 204، وانظر: عمدة القاري للعيني 23 / 20، ومرقاة المفاتيح، لملا علي القاري، 10 / 354.
(2) انظر: الحديث رقم، 35، الدرس الثاني، و 89، الدرس الخامس.(1/526)
الطفيل - رضي الله عنه -: يا رسول الله، إن دوسا عصت وأبت فادع الله عليهم تأنى - صلى الله عليه وسلم - فلم يعجل بالعقوبة بالدعاء، وإنما دعا لهم فقال: «اللهم اهد دوسا وائت بهم» قال العلامة العيني رحمه الله " كان يحب دخول الناس في الإسلام، فكان لا يعجل بالدعاء عليهم ما دام يطمع في إجابتهم إلى الإسلام " (1) . وهذا يدل على كمال أناته وتثبته صلى الله عليه وسلم.
فينبغي للداعية أن يتصف بالتثبت والأناة؛ لأن الله - عز وجل - أمر بالأناة والتثبت فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] (2) .
ولا شك أن الأناة: هي التبين والتثبت في الأمور، والتبصر والتأمل، ويقال: تبصر الشيء، وتأمل في رأيه: تبين ما يأتيه من خير أو شر (3) .
فالأناة: التأني والتثبت وترك العجلة، حتى يستبين الصواب (4) . يقال: تثبت في الأمر والرأي واستثبت: تأنى فيه ولم يعجل، واستثبت في أمره، إذا شاور وفحص عنه (5) . والأناة في الحقيقة: التصرف الحكيم بين العجلة، والتباطؤ، وهي من صفات أصحاب العقل والرزانة، بخلاف العجلة؛ فإنها من صفات أصحاب الرعونة والطيش، وهي تدل على أن صاحبها لا يملك الإرادة القوية القادرة على ضبط نفسه تجاه انفعالاته العجولة، وبخلاف التباطؤ والتواني فهما من صفات أصحاب الكسل والتهاون في الأمور، ويدلان على أن صاحبهما لا يملك الإرادة القوية على دفع همته للقيام بالأعمال التي تحقق له ما يرجوه، أو ليس له همة عالية تنشد الكمال، فهو يرضى بالدنيات إيثارا للراحة، وكسلا عن القيام بالواجب.
فينبغي للداعية أن يكون متثبتا متأنيا، ولا يكون عجولا ولا كسولا؛ فإن الأناة تعينه على وضع الأمور في مواضعها، بخلاف العجلة؛ فإنها تعرضه لكثير
_________
(1) عمدة القاري، شرح صحيح البخاري، 14 / 208.
(2) سورة الحجرات، الآية: 6.
(3) انظر: القاموس المحيط، للفيروز آبادي، باب الراء فصل الباء، ص 448.
(4) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 161.
(5) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب التاء فصل الثاء، مادة: " ثبت " 2 / 19.(1/527)
من الأخطاء والإخفاق، والتعثر، والارتباك، ثم تعرضه للتخلف من حيث يريد السبق، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه. وبخلاف التباطؤ والكسل، فهو أيضا يعرضه للتخلف والحرمان من تحقق النتائج التي يرجوها.
ولا شك أنه ينبغي للداعية أن يكون متأنيا في جميع أموره، ولا يكون مستعجلا في جميع أموره، ولا يكون متباطئا كسولا، ولا يزال الرجل يجني من ثمرة العجلة الندامة (1) . والعجلة لها أسباب ينبغي أن يجتنبها الداعية، من أعظمها الشيطان عدو الإنسان، فعن أنس - رضي الله عنه - يرفعه: «التأني من الله والعجلة من الشيطان» (2) . لأنه الحامل عليها بوسوسته، فيمنع من التثبت والنظر في سنن الله في الكون، ويمنع النظر في العواقب، فيقع المستعجل في المعاطب والفشل (3) . ولكن ينبغي أن يعلم الداعية أن العجلة المذمومة ما كان في غير طاعة الله - عز وجل - مع عدم التثبت، أما المسارعة إلى الخير فهي محمودة، وقد قيل لبعض السلف: لا تعجل فالعجلة من الشيطان، فقال: لو كان ذلك كذلك لما قال موسى (4) {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84] (5) .
فعلم بأنه يستثنى من العجلة ما لا شبهة في خيريته، بشرط مراعاة الضوابط والشروط التي أمر الله بها حتى تكون المسارعة مما يحبه الله ويرضاه؛ ولهذا مدح الله المسارعين في الخيرات فقال عز وجل: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] (6) .
وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال الأعمش ولا أعلمه إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «التؤدة (7) . في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة» (8) . وعن عبد الله بن سرجس
_________
(1) انظر: تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، للمباركفوري 6 / 153، والأخلاق الإسلامية وأسسها، لعبد الرحمن الميداني، 2 / 367.
(2) أخرجه أبو يعلى في مسنده، 3 / 1054، والبيهقي في السنن الكبرى، 10 / 1040، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4 / 404: " هذا إسناد حسن رجاله ثقات ".
(3) انظر: شرح السنة، للبغوي 13 / 176، وفيض القدير، شرح الجامع الصغير، للمناوي 3 / 184.
(4) انظر: تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي، 6 / 153.
(5) سورة طه، الآية: 84.
(6) سورة الأنبياء، الآية: 90.
(7) التؤدة: التأني: انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي، 3 / 277.
(8) أبو داود، كتاب الأدب، باب الرفق، 4 / 255، برقم 4810، والحاكم بلفظه 1 / 64، وقال صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 3 / 913.(1/528)
المزني رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «السمت الحسن (1) . والتؤدة، والاقتصاد (2) . جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة» (3) .
ومعلوم أن الأناة محبوبة عند الله عز وجل، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - للأشج: «فإن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة» (4) .
ثالثا: من صفات الداعية: رحمة المدعو والشفقة عليه: دل هذا الحديث على رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفقته على المدعوين؛ ولهذا لم يدع على قبيلة دوس عندما طلب منه الدعاء عليهم، ولكن دعا لهم فقال: «اللهم اهد دوسا وائت بهم» ؛ قال الكرماني رحمه الله: " فإن قلت هم طلبوا الدعاء عليهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا لهم، قلت: هذا من كمال خلقه العظيم ورحمته بالعالمين " (5) . وقد قال الله - عز وجل - في حقه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (6) . وهذا من كمال رحمته، ورأفته بأمته - صلى الله عليه وسلم - (7) .
رابعا: من صفات الداعية: الحرص على هداية الناس: ظهر في هذا الحديث حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على هداية الناس، ولهذا دعا لدوس ولم يدع عليهم حينما طلب منه ذلك؛ لحرصه على هدايتهم ودخولهم في الإسلام؛ قال العلامة العيني رحمه الله: " وفيه حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على من يسلم على يديه " (8) .
_________
(1) السمت الحسن: حسن الهيئة والمنظر. انظر: فيض القدير للمناوي 3 / 277.
(2) الاقتصاد: التوسط في الأمور، والتحرز عن طرفي: الإفراط والتفريط. انظر: المرجع السابق 3 / 277.
(3) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في التأني والعجلة، وحسنه، 4 / 366، برقم 2010، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2 / 195.
(4) أخرجه مسلم، في كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله، 1 / 18، برقم 17.
(5) شرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 184، 22 / 179.
(6) سورة الأنبياء: 107.
(7) انظر: الحديث رقم 5، الدرس الأول، ورقم 50، الدرس الرابع، وعمدة القاري للعيني 14 / 2080، وإرشاد الساري للقسطلاني، 5 / 110.
(8) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 18 / 34.(1/529)
فينبغي للداعية أن يحرص على هداية المدعوين إلى دين الله عز وجل (1) .
خامسا: من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين: إن مراعاة أحوال المدعوين من صفات الداعية المسلم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدع على دوس؛ لرغبته في دخولهم الإسلام، ودعا على بعض المشركين من غيرهم فدل ذلك على مراعاته - صلى الله عليه وسلم - لأحوال المدعوين، ولهذا ترجم البخاري رحمه الله بتراجم تدل على مراعاة أحوال المدعوين فقال: " باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة " (2) . وقال في موضع آخر: " باب الدعاء على المشركين " (3) . وقال في موضع ثالث: " باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم " (4) . قال ابن حجر رحمه الله: " كان تارة يدعو عليهم وتارة يدعو لهم، فالحالة الأولى حيث تشتد شوكتهم ويكثر أذاهم، والحالة الثانية حيث تؤمن غائلتهم ويرجى تألفهم " (5) .
وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " الدعاء على الكفار على حسب الأحوال، فكل مقام له مقال، فيراعى ما هو الأنسب: تارة يدعى عليهم بالهلاك والدمار، وتارة يدعى لهم بالهداية، وتارة يعلمون " (6) . فينبغي للداعية أن يراعي أحوال المدعوين على ما يكون فيه الصلاح (7) .
سادسا: من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء: من أساليب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى التأليف بالدعاء الطيب الذي يجذب قلوب المدعوين، ومن أعظم ذلك الدعاء بالهداية، ولهذا استنبط
_________
(1) انظر: الحديث رقم 90، الدرس السادس.
(2) البخاري، كتاب الجهاد والسير، 3 / 307، ترجمة على الحديث رقم 2931.
(3) المرجع السابق، كتاب المغازي، 7 / 212، ترجمة على الحديث رقم 6392.
(4) المرجع السابق، كتاب الجهاد والسير، 3 / 308، ترجمة على الحديث رقم 2937، وكتاب الدعوات، 7 / 313، ترجمة على الحديث رقم 6397.
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 108، وانظر: 11 / 196، عمدة القاري للعيني 14 / 207.
(6) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 2937 من صحيح البخاري، بالجامع الكبير بالرياض.
(7) انظر: الحديث رقم 19، الدرس الثالث.(1/530)
الإمام البخاري رحمه الله من هذا الحديث أن الدعاء من أنواع التأليف، فقال: " باب الدعاء للمشركين بالهدى؛ ليتألفهم " (1) قال ابن حجر رحمه الله: " وقوله ليتألفهم من تفقه المصنف رحمه الله إشارة إلى التفريق بين المقامين " (2) . أي الدعاء لهم والدعاء عليهم. ولا شك أن الدعاء للمدعو مما يشرح صدره، ويجذب قلبه للدين الإسلامي. فينبغي للداعية أن يعتني بهذا الأسلوب (3) .
سابعا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: دل الحديث بمفهومه على أن القدوة الحسنة من وسائل الدعوة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما طلب منه الدعاء على دوس بالهلاك دعا لهم بالهداية؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قدوة الدعاة إلى الله عز وجل، فهو قد تأنى، وصبر، وحلم، وعفا، ودعا بالهداية للمدعوين. فينبغي للداعية أن يقتدي به صلى الله عليه وسلم (4) .
ثامنا: من أصناف المدعوين: المشركون: دل هذا الحديث على أن المشركين من أصناف المدعوين؛ لأن قبيلة دوس من المشركين، وقد دعاهم الطفيل إلى الله عز وجل ودعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يعتني بدعوة المشركين إلى الله عز وجل ويسلك معهم في دعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى تسعة مسالك:
1 - إثبات ألوهية الله تعالى بالأدلة العقلية والنقلية، وأنه - عز وجل - المستحق للعبادة وحده.
2 - ضعف جميع ما عبد من دون الله - عز وجل - من جميع الوجوه.
3 - ضرب الأمثال التي تثبت العبادة لله - عز وجل - وحده وتقرر التوحيد.
4 - الكمال المطلق من جميع الوجوه لله عز وجل.
_________
(1) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الدعاء للمشركين ليتألفهم، 3 / 308، ترجمة للحديث رقم 2937.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 108.
(3) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الخامس، ورقم 45، الدرس الثامن.
(4) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثالث، ورقم 8، الدرس الخامس، ورقم 9، الدرس الثالث عشر.(1/531)
5 - التوحيد دعوة جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام.
6 - الغلو في الصالحين سبب كفر بني آدم.
7 - بيان الشفاعة المثبتة والمنفية.
8 - الإله الحق سخر جميع ما في الكون لعباده، فهو - عز وجل - المستحق للعبادة وحده.
9 - الأدلة العقلية والنقلية على إثبات البعث والنشور.
فإذا سلك الداعية إلى الله - عز وجل - هذه المسالك مع هؤلاء تفصيلا وتوضيحا وإبلاغا برفق، ولين، وحلم، وحكمة نجح بإذن الله عز وجل (1) .
تاسعا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: إجابة دعواته: دل هذا الحديث على أن من المعجزات ودلائل نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - إجابة دعواته، ومن ذلك دعوته لدوس حينما قال: «اللهم اهد دوسا وائت بهم» فهدى الله - عز وجل - هذه القبيلة وجاء الطفيل منهم في غزوة خيبر بتسعين أو ثمانين أسرة كلهم قد دخل الإسلام (2) . وقد دعا - صلى الله عليه وسلم - أدعية كثيرة استجاب الله له فيها، وكانت من الدلائل القاطعة على أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقا، وأن الله - عز وجل - أرسله صلى الله عليه وسلم (3) .
[باب دعاء النبي إلى الإسلام والنبوة وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا] من دون الله
_________
(1) انظر: تفسير البغوي، 3 / 241، 316، ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 9 / 337 -382، 1 / 35 -37، وتفسير ابن كثير 3 / 255، والتفسير القيم لابن القيم ص 368، وأمثال القرآن لابن القيم ص 47، وفتح المجيد لشرح كتاب التوحيد، لعبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب 2 / 553 -855، وأضواء البيان للشنقيطي، 2 / 482، 3 / 101، 322، 598، 5 / 44، 6 / 268، ومناهج الجدل في القرآن الكريم، للدكتور، زاهر عواض الألمعي ص 158- 161.
(2) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 1 / 346.
(3) انظر: أمثلة كثيرة جدا على أن إجابة دعواته - صلى الله عليه وسلم - من أعلام نبوته. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لابن تيمية، 6 / 296 -322.(1/532)
[حديث لأعطين الراية رجلا يفتح الله على يدي]
102 - باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام، والنبوة
وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} [آل عمران: 79] (1) .
92 [ص:2942] حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد (2) . رضي الله عنه: «سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم خيبر: " لأعطين الراية رجلا يفتح الله على يديه "، فقاموا يرجون لذلك أيهم يعطى، فغدوا كلهم يرجو أن يعطى، فقال: " أين علي؟ " فقيل: يشتكي عينيه، فأمر فدعي له، فبصق في عينيه، فبرأ حتى كأنه لم يكن به شيء، فقال: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. فقال: " على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأن يهدى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم» (3) .
وفي رواية: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: " لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله " فبات الناس يدوكون ليلتهم: أيهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: " أين علي بن أبي طالب؟ "، فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: " فأرسلوا إليه " فأتي به فبصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: " انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن
_________
(1) سورة آل عمران، الآية: 79.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 25.
(3) [الحديث 2942] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب فضل من أسلم على يديه رجل، 4 / 25، برقم 3009. وكتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب علي بن أبي طالب، القرشي الهاشمي أبي الحسن رضي الله عنه، 4 / 246، برقم 3701. وكتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 5 / 91، برقم 4210 وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، 4 / 1872، برقم 2406.(1/533)
يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم» (1) .
* شرح غريب الحديث: * " الراية " الراية هاهنا: العلم. يقال: ريَّيْت الراية: أي ركزتها (2) .
* " على رسلك " تأن ولا تعجل. (3) .
* " حمر النعم " النعم: الإبل، والحمر منها أنفسها عند أهلها (4) .
* " انفذ " امض (5) .
* " يدوكون " أي يخوضون ويموجون فيمن يدفعها إليه، يقال: وقع الناس في دوْكَة ودوكة: أي في خوض واختلاط (6) .
* " ساحتهم ": أي ناحيتهم، ويقال: ساحة الدار: الموضع المتسع أمامها، والجمع ساحات (7) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: شفاء المرضى والإخبار بالغيوب.
2 - من صفات الصحابة رضي الله عنهم: الرغبة فيما عند الله عز وجل.
3 - من صفات الداعية: محبة الله - عز وجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم.
_________
(1) الطرف رقم 4210.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الراء مع الياء، مادة: " رايا " 2 / 291.
(3) المرجع السابق، باب الراء مع السين، مادة: " رسل " 2 / 223، وانظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 550.
(4) تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 556، و " حمر النعم " حمر: بضم الحاء وسكون الميم، والنعم: بفتحتين، انظر: فتح الباري لابن حجر 7 / 478، وعمدة القاري للعيني 16 / 215.
(5) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب النون مع الفاء، مادة: " نفذ " 5 / 92.
(6) المرجع السابق، باب الدال مع الواو، مادة: " دوك " 2 / 140.
(7) انظر: المصباح المنير، للفيومي، مادة: " سوح " 1 / 294، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 6 / 275.(1/534)
4 - أهمية سؤال الداعية عما يشكل عليه.
5 - من صفات الداعية: التثبت والأناة.
6 - من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء.
7 - من موضوعات الدعوة: الدعوة إلى كلمة التوحيد.
8 - من موضوعات الدعوة: الحث على نشر العلم وتعليم الناس الخير.
9 - من أساليب الدعوة: التشبيه.
10 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
11 - من وسائل الدعوة: بعث المجاهدين والدعاة.
12 - من صفات الداعية: الشجاعة.
13 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم.
14 - من أصناف المدعوين: اليهود.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: شفاء المرضى والإخبار بالغيوب: دل هذا الحديث على أن من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: شفاء المرضى والإخبار بالغيوب: أما معجزة شفاء المرضى فمنها ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في هذا الحديث حيث بصق في عينيه، فشفاه الله عاجلا على الفور، وهذا يدل على أن الله عز وجل أرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالحق، وقد وقع على يديه من شفاء المرضى الوقائع الكثيرة، ذكر هنها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله خمس وقائع شفي المرضى فيها على الفور (1) .
أما إخباره بالغيوب فكثير لا يعد ولا يحصى، ومن ذلك ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بقوله: «لأعطين الراية رجلا يفتح الله على يديه» ، ووقع الفتح على نحو ما أخبر به صلى الله عليه وسلم (2) .
_________
(1) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 6 / 201 -208.
(2) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 6 / 274، وشرح النووي على صحيح مسلم 15 / 187، وشرح الكرماني على صحيح البخاري 12 / 242.(1/535)
فينبغي للداعية أن يبين للناس عند الحاجة أنواع هذه الدلائل التي تدل على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) .
ثانيا: من صفات الصحابة رضي الله عنهم: الرغبة فيما عند الله عز وجل: ظهر في هذا الحديث رغبة الصحابة - رضي الله عنهم - فيما عند الله سبحانه وتعالى، ولهذا عندما سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» باتوا ليلتهم يخوضون فيمن يدفعها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وما ذلك إلا لرغبتهم فيما عند الله عز وجل؛ ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - عندما سمع هذا الخبر العظيم، ومحبة هذا الرجل لله ورسوله، ومحبة الله ورسوله له: " ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، فتساورت لها رجاء أن أدعى لها " (2) . قال النووي رحمه الله: " إنما كانت محبته لها؛ لما دلت عليه الإمارة من محبته لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومحبتهما له، والفتح على يديه " (3) . فينبغي للداعية إلى الله - عز وجل - أن يرغب فيما عند الله عز وجل (4) .
ثالثا: من صفات الداعية: محبة الله - عز وجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم: دل هذا الحديث على أن محبة الله ورسوله من أعظم صفات الداعية الصادق مع الله عز وجل؛ ولهذا الفضل العظيم مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب؛ لاتصافه بمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن محبة الله ورسوله من أعظم الواجبات على كل مسلم، وخاصة الداعية إلى الله عز وجل، ولا يكمل الإيمان إلا بالمحبة الكاملة؛ ولهذا «قال عمر - رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك " فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي
_________
(1) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الرابع.
(2) مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، 4 / 1871، برقم 2405.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم، 15 / 186.
(4) انظر: الحديث رقم 13، الدرس الثاني، ورقم 16، الدرس الثالث.(1/536)
من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: " الآن يا عمر» (1) . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " أي الآن عرفت فنطقت بما يجب " (2) .
فينبغي للداعية أن يحب الله ورسوله أكثر من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين (3) .
رابعا: أهمية سؤال الداعية عما يشكل عليه: دل هذا الحديث على أهمية السؤال عما يشكل على الإنسان المسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل؛ ولهذا قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في هذا الحديث: " يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ " فبين له - صلى الله عليه وسلم - وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام أولا ويخبرهم بما يجب عليهم.
فينبغي لكل مسلم أن يسأل عن كل ما أشكل عليه، حتى يكون على بصيرة (4) .
خامسا: من صفات الداعية: التثبت والأناة: إن الأناة في الأمور والتثبت فيها من أعظم الصفات الحميدة، وقد دل هذا الحديث على الأمر بالتثبت وعدم العجلة فقال - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «انفذ على رسلك» وهذا فيه أمر بالأناة وعدم العجلة.
فينبغي للداعية أن يكون متأنيا متثبتا في أموره كلها (5) .
سادسا: من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء: ظهر في هذا الحديث أن من أساليب الدعوة التأليف بالدعاء للمدعو؛ ليدخل الداعية السرور عليه، وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب عندما بصق في عينيه، فبرئ من الرمد بإذن الله عز وجل.
_________
(1) البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم 7 / 277، برقم 6632.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 11 / 528، وانظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري 14 / 142.
(3) انظر: الحديث رقم 9، الدرس الثاني، ورقم 62، الدرس الثامن، ورقم 63، الدرس الثامن.
(4) انظر: الحديث رقم 19، الدرس الرابع، ورقم 30، الدرس الرابع.
(5) انظر: الحديث رقم 91، الدرس الثاني.(1/537)
فينبغي للداعية أن يتألف المدعوين بالدعاء لهم (1) .
سابعا: من موضوعات الدعوة: الدعوة إلى كلمة التوحيد: إن من الموضوعات المهمة الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه» والروايات يفسر بعضها بعضا؛ فإن هذه الدعوة تكون قبل القتال إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. فهذا هو حق الله المذكور في هذا الحديث (2) .
فينبغي أن يعتني الدعاة إلى الله - عز وجل - بالدعوة إلى كلمة التوحيد (3) .
ثامنا: من موضوعات الدعوة: الحث على نشر العلم وتعليم الناس الخير: إن الحث على نشر العلم وتعليم الناس الخير من أهم موضوعات الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم» .
وهذا يبين أهمية تعليم الناس الخير، ونشر العلم بينهم؛ قال الإمام الخطابي - رحمه الله - في معنى الحديث: " لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك أجرا وثوابا من أن يكون لك حمر النعم، فتتصدق بها " (4) . وقد ذكر القرطبي والأبي والسنوسي - رحمهم الله - " أن في هذا الحديث الشريف: حضا عظيما على تعلم العلم وبثه في الناس وعلى الوعظ والتذكير، ويعني أن ثواب تعليم رجل واحد وإرشاده أفضل من ثواب الصدقة بهذه الإبل النفيسة؛ لأن ثواب
_________
(1) انظر: الحديث رقم 21، الدرس الخامس، ورقم 45، الدرس الثامن، ورقم 91، الدرس الثامن.
(2) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي 6 / 276.
(3) انظر: الحديث رقم 90، الدرس الأول، والحديث الآتي برقم 93، الدرس الأول.
(4) أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، 2 / 1408.(1/538)
الصدقة بها ينقطع بموتها، وثواب العلم والهدى لا ينقطع إلى يوم القيامة " (1) . لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (2) . وقال صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» (3) . وقال صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء» (4) .
وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» (5) . وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - يرفعه: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير» (6) .
فينبغي للداعية أن يجد ويجتهد في تعليم الناس الخير وحضهم عليه.
تاسعا: من أساليب الدعوة: التشبيه: ظهر أسلوب التشبيه في هذا الحديث؛ قال الإمام الكرماني رحمه الله: " الإبل الحمر، هي أحسن أموال العرب، فيضربون بها المثل في نفاسة الشيء، وليس عندهم شيء أعظم منه، وتشبيه أمور الآخرة بأعراض الدنيا إنما هو للتقريب
_________
(1) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 6 / 276، وإكمال إكمال المعلم، للأبي 8 / 231، ومكمل إكمال الإكمال، للسنوسي 8 / 231.
(2) مسلم، 3 / 1255، برقم 1631، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 2، الدرس الرابع، ص 60.
(3) مسلم، 3 / 1506، برقم 1893، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 49، الدرس الثالث، ص 309.
(4) مسلم، كتاب العلم، باب من سن في الإسلام سنة حسنة أو سيئة؛ ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، 4 / 2059 برقم 1017، من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
(5) مسلم، في كتاب العلم، الباب السابق، 4 / 2060، برقم 2674.
(6) الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، 5 / 50، برقم 2685، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2 / 343، وانظر: مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني 1 / 74، برقم 213.(1/539)
إلى الفهم، وإلا فذرة من الآخرة خير من الدنيا وما فيها بأسرها وأمثالها معها " (1) . والله المستعان (2) .
عاشرا: من أساليب الدعوة: الترغيب: إن هذا الحديث ظهر فيه أسلوب الترغيب في قوله صلى الله عليه وسلم: " فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم "، والترغيب في الحقيقة له تأثير عجيب في نفوس المدعوين. فينبغي للداعية أن يعتني به كثيرا (3) .
الحادي عشر: من وسائل الدعوة: بعث المجاهدين والدعاة: دل هذا الحديث على أن من وسائل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بعث المجاهدين والدعاة، وإرسالهم إلى أقطار الأرض للدعوة إلى الله عز وجل، وقد ظهر في هذا الحديث من بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب إلى يهود خيبر؛ لدعوتهم إلى الله عز وجل، وقتالهم إن رفضوا الدعوة، وبعث - صلى الله عليه وسلم - كثيرا من السرايا، والبعوث والدعاة، لنشر الإسلام وتبليغه للناس (4) .
الثاني عشر: من صفات الداعية: الشجاعة: إن في هذا الحديث الدلالة على أهمية اتصاف الداعية بالشجاعة؛ لأن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - اتصف بها في هذا الحديث؛ قال الإمام النووي رحمه الله: " فيه فضائل ظاهرة لعلي، وبيان شجاعته، وحسن مراعاته لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبه لله ورسوله صلى الله عليه وسلم " (5) . وهذه الشجاعة مما نال بها محبة الله له ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فينبغي للداعية أن يتصف بهذه الصفة الحميدة (6) .
_________
(1) شرح صحيح البخاري للكرماني 14 / 242، وانظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح 12 / 3883، وعمدة القاري للعيني 16 / 215.
(2) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الرابع، ورقم 19، الدرس الخامس.
(3) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 8، الدرس الرابع.
(4) انظر: الحديث رقم 66، الدرس الثالث، ورقم 90، الدرس الثاني.
(5) شرح النووي على صحيح مسلم، 15 / 187، وانظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري، 14 / 242.
(6) انظر: الحديث رقم 35، الدرس الخامس، ورقم 61، الدرس الثاني.(1/540)
الثالث عشر: من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: دل هذا الحديث على أن التأكيد بالقسم من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل؛ «لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب: " فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» وهذا أسلوب تأكيد (1) . فينبغي للداعية أن يعتني بهذا الأسلوب عند الحاجة إليه (2) .
الرابع عشر: من أصناف المدعوين: اليهود: إن اليهود من أصناف المدعوين مع خبثهم وشرهم، وقد دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرا وقاتلهم؛ ليسلموا، ومن ذلك ما فعله في هذا الحديث من أمره لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بدعوتهم وقتالهم إن أبوا.
فينبغي العناية بدعوتهم وإقامة الحجة عليهم، والله المستعان (3) .
_________
(1) انظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملّا علي القاري، 10 / 459.
(2) انظر: الحديث رقم 10، الدرس الخامس، ورقم 14، الدرس الخامس.
(3) انظر: الحديث رقم 89، الدرس العاشر.(1/541)
[حديث أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله]
93 [ص:2946] حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري: حدثني سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة (1) - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله» . رواه عمر وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الدعوة إلى كلمة التوحيد.
2 - من صفات الداعية: العمل بالظاهر والله يتولى السرائر.
3 - النطق بالشهادتين والعمل بهما: أمان للمدعو المخلص ظاهرا وباطنا.
4 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
5 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
6 - من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد في سبيل الله عز وجل.
والحديث عن هذه الفوائد والدروس الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الدعوة إلى كلمة التوحيد: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة: الدعوة إلى الشهادتين " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وهذا الحديث لم يذكر فيه إلا قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» ولم يذكر: «وأن محمدا رسول الله» ، وقد أجاب العلامة الإمام القرطبي على ذلك فقال رحمه الله: " ظاهره أن من نطق بكلمة التوحيد فقد حكم له بحكم الإسلام، وهذا ظاهر متروك قطعا، إذ لا بد مع ذلك من النطق بالشهادة بالرسالة، أو بما يدل عليها، لكنه سكت عن كلمة الرسالة؛ لدلالة كلمة التوحيد عليها؛ لأنهما متلازمتان،
_________
(1) تقدمت ترجمته، في الحديث رقم 7.
(2) وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. . 1 / 52، برقم 21.(1/542)
فهي مرادة قطعا، ثم النطق بالشهادتين يدل على الدخول في الدين والتصديق بكل ما تضمنه، وعلى هذا فالنطق بالكلمة الأولى يفيد إرادة الثانية ". (1) .
ومع ما قال القرطبي رحمه الله، فإن الأحاديث يفسر بعضها بعضا، فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله» (2) . فهذا الحديث قد بين ما أجمل في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فاتضح أن كلمة لا إله إلا الله عند إطلاقها تتضمن وتستلزم الشهادة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة.
ولا شك أن هذه الشهادة لا تنفع قائلها إلا بشروط بينها أهل العلم: وهي: العلم المنافي للجهل، واليقين المنافي للشك، والقبول المنافي للرد، والانقياد المنافي للترك، والإخلاص المنافي للشرك، والصدق المنافي للكذب، والمحبة المنافية للبغض (3) . وأضيف إلى ذلك: الكفر بما يعبد من دون الله عز وجل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، فقد حرم ماله ودمه، وحسابه على الله» (4) .
فينبغي أن يبين الداعية للناس هذه الشهادة، ومعناها وشروطها، ومقتضاها، ونواقضها؛ لأنها لا تنفع قائلها إلا بالعمل بالشروط، والابتعاد عن النواقض (5) .
ثانيا: من صفات الداعية: العمل بالظاهر والله يتولى السرائر: إن من نطق بالشهادتين، وعمل بما دلتا عليه ظاهرا، فإن ذلك يمنع ماله
_________
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 1 / 187.
(2) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، 1 / 14 برقم 25، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، 1 / 53، برقم 20.
(3) انظر: فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد، لمحمد بن حسن، 1 / 190.
(4) مسلم، في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حنى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، 1 / 53، برقم 22، من حديث أبي مالك [سعد] عن أبيه [طارق بن أشيم الأشجعي رضي الله عنه] .
(5) انظر: الحديث رقم 90، الدرس الأول، ورقم 92، الدرس السابع.(1/543)
ويحفظه له، ويمنع نفسه، فيكون معصوم الدم والمال، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» ، وليس للمسلمين إلا الظاهر؛ قال الإمام القرطبي رحمه الله: " وحسابهم على الله. أي حساب سرائرهم على الله؛ لأنه تعالى هو المطلع عليها، فمن أخلص في إيمانه وأعماله جازاه الله عليها جزاء المخلصين، ومن لم يخلص في ذلك كان من المنافقين يحكم له في الدنيا بأحكام المسلمين وهو عند الله من أسوأ الكافرين " (1) .
فينبغي أن يعامل من أظهر العمل بالشهادتين بالظاهر والله يتولى السرائر (2) .
ثالثا: النطق بالشهادتين والعمل بهما: أمان للمدعو المخلص ظاهرا وباطنا: دل الحديث على أن من نطق بالشهادتين، وعمل بهما وبما دلتا عليه؛ فإنهما أمان له ظاهرا؛ لأنه معصوم الدم والمال، وباطنا؛ لأنه أخلص لله رب العالمين وصدق فيما قال، فحصل له اليقين في الدنيا والثواب العاجل والآجل على إخلاصه وصدقه مع ربه الكريم سبحانه وتعالى (3) .
رابعا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل الحديث على أسلوب الترغيب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن من نطق بالشهادتين فقد عصم ماله ودمه، وحسابه على ربه عز وجل، ولا شك أن من قالها صدقا من قلبه فقد حصل على الثواب العظيم في الآخرة، مع ما يحصل له في الدنيا من عصمة المال والدم.
فينبغي أن يستخدم أسلوب الترغيب في الدعوة إلى الله عز وجل (4) .
_________
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 1 / 189، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم 1 / 361، وبهجة النفوس لعبد الله بن أبي جمرة الأندلسي، 3 / 133.
(2) انظر: الحديث رقم 9، الدرس السادس، ورقم 73، الدرس الخامس.
(3) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 1 / 88، وبهجة النفوس لابن أبي جمرة، 3 / 133، وفتح الباري لابن حجر، 1 / 77.
(4) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 8، الدرس الرابع.(1/544)
خامسا: من أساليب الدعوة: الترهيب: ظهر أسلوب الترهيب في هذا الحديث؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين بمفهوم حديثه أن من لم ينطق بالشهادتين ويعمل بمقتضاهما ظاهرا وباطنا؛ فإنه لا يكون معصوم الدم والمال، بل يكون دمه مهدورا وماله غير معصوم، وكذلك لو نطق بهما وعمل بهما ولكن لم يقم بحقهما، فهو معرض لإقامة الحد عليه إن وقع فيما يوجب الحد؛ لأن من قالها فقد دخل في الإسلام ولزمه حقه، وحق ما في الأبدان من حدود، وما في الأموال من حقوق (1) . ولهذا - والله أعلم - قال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة» (2) . فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب عند الحاجة إليه (3) .
سادسا: من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد في سبيل الله عز وجل: إن الحث على الجهاد في سبيل الله عز وجل، والاستمرار فيه من أهم الموضوعات التي ينبغي العناية بها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله» ، وهذا يؤكد أهمية الحث على الجهاد حتى يدخل الناس في الإسلام ويستقيموا على ذلك (4) .
_________
(1) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 1 / 189، وبهجة النفوس، لابن أبي جمرة 3 / 133.
(2) متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص. . [المائدة: 45] ، 8 / 48، برقم 6878، ومسلم، في كتاب القيامة، باب ما يباح به دم المسلم، 3 / 1302، برقم 1676.
(3) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر، ورقم 12، الدرس الثالث.
(4) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الثالث، ورقم 8، الدرس الثاني.(1/545)
[- باب التوديع]
[حديث إن النار لا يعذب بها إلا الله]
107 - باب التوديع 94 [ص:2954] وقال ابن وهب أخبرني عمرو، عن بكير، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة (1) - رضي الله عنه - أنه قال: «بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث وقال لنا: " إن لقيتم فلانا وفلانا- لرجلين من قريش سماهما- فحرقوهما بالنار ". قال: ثم أتيناه نودعه حين أردنا الخروج فقال: " إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا بالنار، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن أخذتموهما فاقتلوهما» (2) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من وسائل الدعوة: بعث المجاهدين والدعاة.
2 - من موضوعات الدعوة: التحذير من التعذيب بعذاب الله عز وجل.
3 - من صفات الداعية: الرجوع عن الحكم والفتوى إذا ظهر الدليل.
4 - من وظائف الإمام المسلم: قتل كل من آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدون استتابة.
5 - من أدب المدعو: توديع العلماء والدعاة إذا أراد سفرا.
6 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
7 - أهمية استنابة الإمام أو الداعية من يقوم مقامه في الأمور المهمة.
8 - أهمية ذكر الدليل عند الفتوى لرفع الإلباس.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من وسائل الدعوة: بعث المجاهدين والدعاة: ظهر في هذا الحديث أن من وسائل الدعوة: بعث المجاهدين والدعاة للدعوة إلى الله عز وجل؛ لقول أبي هريرة - رضي الله عنه - في هذا الحديث: «بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث. .» . فينبغي العناية بإرسال الدعاة إلى الله عز وجل لتبليغ الدعوة
_________
(1) تقدمت ترجمته في حديث رقم 7.
(2) [الحديث 2954] طرفه في كتاب الجهاد والسير، باب لا يعذب بعذاب الله، 4 / 27، برقم 3016.(1/546)
الإسلامية ونشر العلم بين الناس (1) .
ثانيا: من موضوعات الدعوة: التحذير من التعذيب بعذاب الله عز وجل: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة التحذير من التعذيب بعذاب الله عز وجل لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن النار لا يعذب بها إلا الله» ، «وقد ثبت أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حرق قوما فبلغ ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تعذبوا بعذاب الله "، ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه» (2) وعلي - رضي الله عنه - فعل ما فعل غضبا لله عز وجل؛ لأن هؤلاء الذين أحرقهم بالنار جعلوه إلها من دون الله، فغضب لله وحرقهم؛ ولأنه - رضي الله عنه - لم يبلغه النهي عن التعذيب بالنار، وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " فعل علي رضي الله عنه؛ لأنه لم يبلغه الحديث، وفعل ذلك لأنهم فعلوا أمرا شنيعا حيث ألّهوه من دون الله، فغضب لله، وفعل ما فعل رضي الله عنه، وهذه قاعدة: أن العالم إذا خالف السنة حمل على أنه لم يبلغه الحديث " (3) . فينبغي للداعية أن يحذر الناس من التعذيب بالنار؛ لأنه لا يعذب بها إلا الله. قال الإمام ابن العربي رحمه الله: " والنار لا يعذب بها إلا الله سبحانه، إلا أن يحرق رجل رجلا بالنار فيحرق بها قصاصا " (4) .
وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عذب العرنيين الذين قتلوا راعي الإبل بشيء من النار، ففي حديث أنس رضي الله عنه: «. . فقطع أيديهم وأرجلهم، ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها وطرحهم بالحرة يستسقون فما سقوا حتى ماتوا» (5) . وفي رواية لمسلم: «إنما سمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أعين هؤلاء؛ لأنهم سملوا أعين
_________
(1) انظر: الحديث رقم 66، الدرس الثالث، ورقم 90، الدرس الثاني.
(2) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب لا يعذب بعذاب الله، 4 / 27، برقم 3017.
(3) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3016، ورقم 3017، من صحيح البخاري.
(4) عارضة الأحوذي بشرح سنن الترمذي 4 / 74.
(5) متفق عليه: البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب إذا أحرق المشرك المسلم هل يحرق، 4 / 27، برقم 3018، ومسلم، كتاب القسامة، باب حكم المحاربين والمرتدين، 3 / 1296، برقم 1671.(1/547)
الرعاء» (1) . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " إنما كان ذلك على سبيل القصاص " (2) . وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن باز حفظه الله يقول: " والأقرب والله أعلم أنه يجوز تعذيب من قتل بالنار أن يقتل بالنار؛ لأنه من باب المقاصة، كما لو عذبه بقطع لسانه، أو قطع رجله، أو أنفه جاز أن يقتص منه بقطع ما قطع، فكذلك التحريق بالنار من باب المقاصة " (3) . {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] (4) {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] (5) فاتضح من ذلك أنه لا يعذب بالنار في كل حيوان حتى النملة والبعوضة، إلا أن يكون قصاصا (6) .
ثالثا: من صفات الداعية: الرجوع عن الحكم والفتوى إذا ظهر الدليل: إن من الصفات العظيمة التي ينبغي أن يتصف بها كل مسلم وخاصة الدعاة إلى الله عز وجل: الأخذ بالدليل من الكتاب والسنة، والرجوع إلى ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث قال: «إن لقيتم فلانا وفلانا- لرجلين من قريش سماهما- فحرقوهما بالنار» ، ثم رجع عن ذلك تعظيما لله عز وجل؛ لئلا يعذب بعذابه فقال صلى الله عليه وسلم: «إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا بالنار، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن أخذتموهما فاقتلوهما» ، فدل ذلك على أن العالم أو الداعية إذا صدر منه فتوى ثم رأى أن الأفضل أو الأولى أو الواجب خلافها رجع عن قوله وأفتى بما يوافق الدليل، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث جواز الحكم بالشيء اجتهادا ثم الرجوع عنه " (7) .
_________
(1) مسلم، كتاب القسامة، باب حكم المحاربين والمرتدين، 3 / 1296، برقم 1671.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 153.
(3) سمعته من سماحته، أثناء شرحه لحديث رقم 3018 من صحيح البخاري، بالجامع الكبير بالرياض.
(4) سورة النحل، الآية: 126.
(5) سورة الشورى، الآية: 40.
(6) انظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 151.
(7) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6 / 150، وانظر: عمدة القاري للعيني 14 / 221.(1/548)
رابعا: من وظائف الإمام المسلم: قتل كل من آذى الله ورسوله بدون استتابة: دل هذا الحديث على أن من صدر منه أذى لله أو لرسوله صلى الله عليه وسلم، فإن إمام المسلمين يأمر بقتله نصرة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل هذين الرجلين بدون استتابة؛ لما صدر منهما من الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال الإمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: " إن من سب الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - قتل ولم يستتب؛ لأن فلانا وفلانا المذكورين في الحديث قد سميا في حديث غير هذا، وقيل: سبب ذلك أنهما كانا يؤذيان الله ورسوله " (1) . ولا شك أنه يفرق بين الكافر الأصلي والمسلم المرتد بذلك، وقد سبق التفصيل (2) .
خامسا: من أدب المدعو: توديع العلماء والدعاة إذا أراد سفرا: ظهر في هذا الحديث أن من الأدب توديع العلماء والدعاة قبل السفر؛ ولهذا قال أبو هريرة - رضي الله عنه - في هذا الحديث في شأن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثم أتيناه نودعه حين أردنا الخروج» .
فينبغي أن يعتني المدعو وكذلك الداعية بتوديع العلماء في بلده؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه مشروعية توديع المسافر لأكابر أهل بلده، وتوديع أصحابه له أيضا " (3) .
سادسا: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترهيب؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل من آذى الله ورسوله، بقوله: " فاقتلوهما "؛ قال الإمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: " إن إطالة الزمان لا تمنع رفع العقاب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل هذين حين رجا القدرة عليهما، وقيل ذلك حين كانت الأذية منهما صادرة ولو لم ترج القدرة للمسلمين عليهما لم يأمر فيهما بشيء " (4) .
_________
(1) بهجة النفوس، شرح مختصر صحيح البخاري 3 / 154.
(2) انظر: الحديث رقم 89، الدرس الثامن، ص 516.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 151، وانظر: عمدة القاري للعيني 14 / 221.
(4) بهجة النفوس، شرح مختصر البخاري 3 / 154، وانظر: فتح الباري لابن حجر 6 / 150.(1/549)
فينبغي للداعية أن يبين للناس أن من وقع في شيء يوجب العقاب ثم ستر الله عليه - عز وجل - وأسبغ عليه نعمه وأمهله، فلا يغتر بذلك بل عليه أن يبادر بالتوبة قبل مفاجأة المنايا أو النقم؛ لأن الله - عز وجل - يقول: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ - ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ - مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 205 - 207] (1) وقال عز وجل: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33] (2) وهو الشيطان (3) . ولا شك أن الله - عز وجل - يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته (4) . والله المستعان.
سابعا: أهمية استنابة الإمام أو الداعية من يقوم مقامه في الأمور المهمة: دل هذا الحديث على أهمية استنابة الإمام أو العالم أو الداعية من يقوم مقامه في الأمور المهمة؛ ولهذا استناب النبي - صلى الله عليه وسلم - على قتل هذين الرجلين؛ قال الإمام ابن أبي جمرة رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " جواز النيابة في الأحكام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل هذين ولم يأمر بأن يؤتى إليه بهما " (5) .
ثامنا: أهمية ذكر الدليل عند الفتوى لرفع الإلباس: دل هذا الحديث على أهمية ذكر الدليل عند الفتوى أو الحكم؛ لرفع الإلباس؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا بالنار، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما» ، فقد استدل سيد الخلق عليه الصلاة والسلام بكون النار لا يعذب بها إلا الله؛ قال ابن حجر رحمه الله إن من فوائد هذا الحديث: " استحباب ذكر الدليل عند الحكم؛ لرفع الإلباس " (6) . فينبغي للداعية العناية بذكر الأدلة من الكتاب والسنة أو من أحدهما على ما يقول ويفتي به؛ ليكون لذلك الأثر في نفوس المدعوين، والله - عز وجل - الموفق (7) .
[باب السمع والطاعة للإمام]
[حديث السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بالمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع] ولا طاعة
_________
(1) سورة الشعراء، الآيات: 205-207.
(2) سورة لقمان، الآية: 33.
(3) الغرور هو الشيطان، والغرور بضم الغين هو ما يلقيه من تسويلاته وتخيلاته من ترك الخوف والطمأنينة بما أظهر الله - عز وجل - من إمهاله وإدراره نعمه. انظر: بهجة النفوس لابن أبي جمرة. 3 / 154.
(4) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الثالث عشر.
(5) بهجة النفوس، شرح مختصر البخاري، 3 / 153، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 6 / 150.
(6) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 150، وانظر: عمدة القاري للعيني، 14 / 221.
(7) انظر: الحديث رقم 77، الدرس الحادي عشر.(1/550)
108 - باب السمع والطاعة للإمام 95 [ص:2955] حدثنا مسدد: حدثنا يحيى، عن عبيد الله قال: حدثني نافع، عن ابن عمر (1) - رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحدثنا محمد بن الصباح، عن إسماعيل بن زكريا، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «السمع والطاعة حق، ما لم يؤمر بالمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (2) .
وفي رواية: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (3) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: حض الناس على طاعة ولاة الأمر بالمعروف.
2 - من صفات الداعية: الصبر على جور الولاة والأمراء.
والحديث عن هذين الدرسين والفائدتين الدعويتين على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: حض الناس على طاعة ولاة الأمر بالمعروف: دل هذا الحديث على أن السمع لولاة الأمر بإجابة أقوالهم، والطاعة لأوامرهم حق واجب ما لم يأمروا بمعصية؛ فإن فعلوا ذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» ، وقد أمر الله - عز وجل - بطاعة ولاة
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 1.
(2) [الحديث 2955] طرفه في كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، 8 / 134، برقم 7144. وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، 3 / 1469، برقم 1839.
(3) الطرف رقم 7144.(1/551)
الأمر فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] (1) وولاة الأمر هم: العلماء، والولاة، والأمراء (2) .
فينبغي للداعية أن يحض الناس على طاعتهم في غير معصية الله عز وجل؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فطاعة الله ورسوله واجبة؛ لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم، وإن منعوه عصاهم فما له في الآخرة من خلاق " (3) وذكر الإمام الطيبي رحمه الله: ". . أن سماع كلام الحاكم وطاعته واجب على كل مسلم، سواء أمره بما يوافق طبعه، أو لم يوافقه، بشرط أن لا يأمره بمعصية، فإن أمره بها فلا تجوز طاعته، ولكن لا يجوز له محاربة الإمام " (4) .
ثانيا: من صفات الداعية: الصبر على جور الولاة والأمراء: دل هذا الحديث على أن من صفات المسلم، وخاصة الداعية إلى الله - عز وجل - أن يصبر على جور الولاة والأمراء؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بطاعة ولاة الأمر وإن جاروا ماداموا لم يكفروا، فعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: «دعانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه فكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله» (5) وقال:
_________
(1) سورة النساء، الآية: 59.
(2) انظر: تفسير ابن جرير الطبري " جامع البيان عن تأويل آي القرآن "، 8 / 497، وتفسير القرطبي، " الجامع لأحكام القرآن "، 5 / 261، وتفسير ابن كثير 1 / 519، وفتاوى ابن تيمية 11 / 551.
(3) فتاوى ابن تيمية، 35 / 16 - 17.
(4) شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 8 / 2559.
(5) وفي رواية لمسلم " وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم " برقم 1709، ويأتي تخريجه في الذي بعده.(1/552)
«إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان» (1) وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله، كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم» (2) وعن حذيفة - رضي الله عنه - يرفعه: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس "، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: " تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع» (3) وهذا كله يؤكد وجوب طاعة الإمام أو الأمير في غير معصية الله ما لم يخرج عن الإسلام بكفر بواح عند المسلم من الله فيه برهان؛ قال الإمام النووي رحمه الله: " وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين وقد تظاهرت الأحاديث على معنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة على أنه لا ينعزل السلطان بالفسق. . . قال العلماء: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن، وإراقة الدماء، وفساد ذات البين فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه ". (4) .
* * * *
_________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب الفتن، باب " سترون بعدي أمورا تنكرونها " 8 / 112، برقم 7056، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة ولاة الأمر في غير معصية الله وتحريمها في المعصية، 3 / 1470، برقم 1709.
(2) متفق عليه: البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 4 / 214، برقم 3603، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول، 3 / 1472، برقم 1843.
(3) مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة، 3 / 1475، برقم 1847.
(4) شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 469 بتصرف يسير جدا، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 13 / 123.(1/553)
[باب يقاتل من وراء الإمام ويتقى به]
[حديث من أطاعني فقد أطاع الله]
109 - باب يقاتل من وراء الإمام، ويتقى به حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب: حدثنا أبو الزناد: أن الأعرج حدثه أنه سمع أبا هريرة (1) - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:. . الحديث.
96 [ص:2957] وبهذا الإسناد: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني. وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به. فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا، وإن قال بغيره فإن عليه منه» (2) .
وفي رواية: «ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري ففد عصاني» (3) .
* شرح غريب الحديث: * " جنة " الجنة: الوقاية، ويقال: الإمام جنة؛ لأنه يقي المأموم الزلل والسهو (4) والمعنى هنا: الإمام كالترس يقاتل من ورائه: أي يقاتل معه الكفار والبغاة، وينصر عليهم ويتقى به شر العدو (5) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من موضوعات الدعوة: الحث على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
2 - من موضوعات الدعوة: الحث على طاعة ولاة أمر المسلمين.
3 - أهمية القتال مع إمام المسلمين وحمايته من الأعداء.
_________
(1) تقدمت ترجمته في حديث رقم 7.
(2) [الحديث 2957] طرفه في كتاب الأحكام، باب وقول الله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59] ، 8 / 133، برقم 7137، وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، 3 / 1466، برقم 1835.
(3) من الطرف رقم 7137.
(4) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الهمزة مع الجيم، مادة: " جنن " 1 / 308.
(5) انظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري، 12 / 197.(1/554)
4 - من صفات الإمام والداعية: العدل.
5 - من أساليب الدعوة: التشبيه.
6 - من أساليب الدعوة: الترغيب.
7 - من أساليب الدعوة: الترهيب.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة الحض على طاعة الله - عز وجل - وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله» ، قال الإمام القرطبي رحمه الله: " هذا منتزع من قوله تعالى {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] (1) وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لما كان مبلغا أمر الله وحكمه، وأمر الله بطاعته، فمن أطاعه فقد أطاع أمر الله ونفذ حكمه " (2) فينبغي للداعية أن يحث الناس ويرغبهم في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا - ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69 - 70] (3) وقال سبحانه وتعالى بعد أن ذكر أحكام الفرائض والمواريث: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13] (4) .
وينبغي للداعية أن يحذر الناس من معصية الله ورسوله؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «ومن عصاني فقد عصى الله» ، وهذا مقتبس من القرآن الكريم، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] (5) .
_________
(1) سورة النساء، الآية: 80.
(2) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 4 / 35، وانظر: فتح الباري لابن حجر 13 / 112، ومرقاة المفاتيح، للملا علي القاري 7 / 244، وشرح السندي على سنن ابن ماجه 1 / 10.
(3) سورة النساء، الآيتان: 69-70.
(4) سورة النساء، الآية: 13.
(5) سورة النساء، الآية: 14.(1/555)
وقال عز وجل: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] (1) وقال عز وجل: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] (2) والآية الجامعة لطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والنهي عن معصيته في كل شيء، هي قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7] (3) .
ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحث على طاعة ولاة أمر المسلمين: دل هذا الحديث على أن الحث على طاعة ولاة أمر المسلمين من موضوعات الدعوة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ". . «ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني» قال القرطبي رحمه الله: " ووجهه: أن أمير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو منفذ أمره، ولا يتصرف إلا بأمره، فمن أطاعه فقد أطاع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فكل من أطاع أمير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أطاع الرسول، ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله، فينتج أن من أطاع أمير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أطاع الله، وهو حق صحيح، وليس هذا الأمر خاصا بمن باشره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتوليه الإمارة، بل هو عالم في كل أمير للمسلمين عدل، ويلزم منه نقيض ذلك في المخالفة والمعصية " (4) . فينبغي للداعية أن يحث الناس على طاعة ولاة أمر المسلمين في غير معصية، طاعة لله - عز وجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم (5) .
ثالثا: أهمية القتال مع إمام المسلمين وحمايته من الأعداء: ظهر في هذا الحديث أهمية القتال مع إمام المسلمين وحمايته من كيد أعداء الدين؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به» وهذا
_________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 36.
(2) سورة الجن، الآية: 23.
(3) سورة الحشر، الآية: 7.
(4) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 4 / 36، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12 / 465، ومرقاة المفاتيح للملا علي القاري 7 / 245.
(5) انظر: الحديث رقم 95، الدرس الأول.(1/556)
واضح في الأمر بمساعدته والشد من أزره طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الإمام النووي رحمه الله: " الإمام جنة: أي كالستر؛ لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويمنع الناس بعضهم من بعض، ويحمي بيضة الإسلام، ويتقيه الناس ويخافون سطوته، ومعنى: " يقاتل من ورائه " أي يقاتل معه الكفار، والبغاة، والخوارج، وسائر أهل الفساد والظلم مطلقا " (1) .
فينبغي للداعية أن يحث الناس على أهمية هذا الأمر، والله المستعان.
رابعا: من صفات الإمام والداعية: العدل: دل الحديث على أن العدل من صفات الإمام والداعية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإن أمر بتقوى الله وعدل؛ فإن له بذلك أجرا» . قال الإمام الأبي رحمه الله: " العدل أخص أوصاف الإمام " (2) .
فينبغي الحكم بالعدل، وينبغي للداعية أن يلتزم صفة العدل في كل أموره (3) .
خامسا: من أساليب الدعوة: التشبيه: ظهر في هذا الحديث أسلوب التشبيه في قوله صلى الله عليه وسلم: «الإمام جنة» قال الإمام الكرماني رحمه الله: " أي كالترس يقاتل من ورائه: أي يقاتل معه الكفار والبغاة " (4) . وقال الملا علي القاري رحمه الله: " فهو تشبيه بليغ " (5) .
فينبغي أن يعتني الداعية عند الحاجة بأسلوب التشبيه في دعوته إلى الله عز وجل (6) .
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 12 / 472، وانظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 8 / 2557، وإكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم، للأبي 6 / 536، وفتح الباري لابن حجر، 6 / 116، ومرقاة المفاتيح لملا علي القاري 7 / 245.
(2) إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم، 6 / 537، وانظر: مرقاة المفاتيح للملا علي القاري 7 / 245.
(3) انظر: الحديث رقم 60، الدرس الثاني، ورقم 64، الدرس الأول.
(4) شرح الكرماني على صحيح البخاري، 12 / 197.
(5) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 7 / 244.
(6) انظر: الحديث رقم 18، الدرس الرابع، ورقم 19، الدرس الخامس.(1/557)
سادسا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا» ، وهذا يدل على أن الإمام أو الداعية إذا أمر بالتقوى؛ وقضى بحكم الله - عز وجل - فإن له أجرا عظيما (1) .
وهذا فيه ترغيب في العدل في القضاء والحكم والفتوى وغير ذلك (2) .
سابعا: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترهيب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وإن قال بغيره فإن عليه منه» أي إن أمر وقال بغير التقوى والعدل في الحكم والقضاء بين الناس؛ «فإن عليه منه» أي وزرا ثقيلا (3) وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الظلم والجور، فقال صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة، واحد في الجنة واثنان في النار: فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» (4) .
وهذا فيه تخويف من الوقوع في الظلم والجور، والحكم بغير العدل، والله المستعان.
[باب البيعة في الحرب أن لا يفروا]
[حديث سألنا نافعا على أي شيء بايعهم على الموت قال لا بل بايعهم على] الصبر
_________
(1) انظر: مرقاة المفاتيح، للملا علي القاري، 7 / 245.
(2) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الرابع عشر، ورقم 8، الدرس الرابع.
(3) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 8 / 2558، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي القاري 7 / 245.
(4) أخرجه أبو داود بلفظه، في كتاب الأقضية، باب: القاضي يخطئ، 3 / 299، برقم 3573، من حديث بريدة رضي الله عنه. والترمذي، كتاب الأحكام، باب: ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القاضي، 3 / 604، برقم 1322، وابن ماجه، في كتاب الأحكام، باب: الحاكم يجتهد فيصيب الحق، 2 / 776، برقم 2315، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 8 / 235.(1/558)
110 - باب البيعة في الحرب أن لا يفروا وقال بعضهم: على الموت لقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] (1) .
97 [ص:2958] حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا جويرية، عن نافع قال: قال ابن عمر (2) . رضي الله عنهما: «رجعنا من العام المقبل، فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله. فسألنا نافعا: على أي شيء بايعهم، على الموت؛ قال: لا، بل بايعهم على الصبر» . * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من وسائل الدعوة: إزالة الأماكن التي يفتن بها الناس.
2 - من صفات الداعية: الثبات والصبر.
3 - محبة الصحابة - رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 - من وسائل الدعوة؛ مبايعة إمام المسلمين.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من وسائل الدعوة: إزالة الأماكن التي يفتن بها الناس: ظهر في هذا الحديث أن إزالة أو إخفاء الأماكن التي يفتتن بها الناس من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا قال ابن عمر - رضي الله عنهما: «رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها كانت رحمة من الله» قال الإمام النووي رحمه الله: " قال العلماء: سبب خفائها أن لا يفتتن الناس
_________
(1) سورة الفتح، الآية: 18.
(2) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 1.(1/559)
بها؛ لما جرى تحتها من الخير، ونزول الرضوان، والسكينة، وغير ذلك، فلو بقيت ظاهرة معلومة لخيف تعظيم الأعراب إياها وعبادتهم لها، فكان خفاؤها رحمة من الله تعالى " (1) وقال ابن حجر رحمه الله: " كانت رحمة من الله: أي كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمة من الله تعالى، ويحتمل أن يكون معنى قوله " رحمة من الله " أي كانت الشجرة، موضع رحمة الله ومحل رضوانه؛ لنزول الرضا عن المؤمنين عندها " (2) وحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - هذا يدل على أن الصحابة - رضي الله عنهم - قد أنسوا مكان الشجرة، وقد وافق ابن عمر - رضي الله عنهما - على أن الشجرة خفي عليهم مكانها من العام الذي بعد صلح الحديبية، المسيب والد سعيد، قال سعيد رحمه الله: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة، قال: فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها " (3) وقال ابن حجر رحمه الله: " لكن إنكار سعيد بن المسيب على من زعم أنه عرفها معتمدا على قول أبيه أنهم لم يعرفوها في العام المقبل لا يدل على رفع معرفتها أصلا " (4) وقد ثبت أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هو الذي قطعها، فعن نافع قال: " بلغ عمر بن الخطاب أن ناسا يأتون الشجرة التي بويع تحتها، قال: فأمر بها فقطعت " (5) .
وسمعت سماحة العلامة ابن باز حفظه الله يقول: " أنسيها المسيب - رحمه الله - ولكن عمر - رضي الله عنه - علمها وقطعها " (6) .
وهذا يبين أهمية إزالة المواضع التي يخشى على الناس من الافتتان بها، وأن ذلك من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل.
_________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 13 / 9.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 118.
(3) متفق عليه: البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، وقول الله تعالى: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة. [الفتح 18] 5 / 77 برقم 4163، 4164، ومسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال، وبيان بيعة الرضوان تحت الشجرة، 3 / 1485 برقم 1859.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7 / 448.
(5) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الصلوات، 2 / 375، وابن سعد في الطبقات الكبرى 2 / 375، وقال ابن حجر في فتح الباري 7 / 448: إسناده صحيح.
(6) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 4164 من صحيح البخاري.(1/560)
ثانيا: من صفات الداعية: الثبات والصبر: ظهر في هذا الحديث أن الصبر والثبات صفة حميدة من صفات الدعاة إلى الله عز وجل، ولهذا جاء في هذا الحديث: «فسألنا نافعا على أي شيء بايعهم، على الموت؟ قال: لا، بايعهم على الصبر» ، وقد ثبت في غير هذا الحديث أن الصحابة بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية على الموت، فعن مولى سلمة بن الأكوع قال: «سألت سلمة على أي شيء بايعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية؟ قال: على الموت» (1) قال ابن حجر - رحمه الله - على حديث سلمة هذا: " فدل ذلك على أنه لا تنافي بين قولهم بايعوه على الموت، وعلى عدم الفرار؛ لأن المراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا ولو ماتوا، وليس المراد أن يقع الموت ولابد، وهو الذي أنكره نافع وعدل إلى قوله: " بل بايعهم على الصبر " أي على الثبات وعدم الفرار، سواء أفضى بهم ذلك إلى الموت أم لا، والله أعلم " (2) .
فينبغي للداعية أن يتحلى بالصبر والثبات في جميع المواطن (3) .
ثالثا: محبة الصحابة - رضي الله عنهم - لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دل هذا الحديث على محبة صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له، محبة عظيمة فاقت محبة النفس، والولد، والوالد، والناس أجمعين؛ ولهذا بايعوه - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية على الثبات وعدم الفرار، ولو وصل بهم هذا الثبات إلى الموت رضي الله عنهم، ولهذا فازوا برضوان الله. قال الله عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] (4) .
وهذا كله يدل على المحبة العظيمة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم وأرضاهم وحشرنا جميعا في زمرتهم (5) .
_________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، 5 / 78، برقم 4169، ومسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الجيش عند إرادة القتال وبيان بيعة الرضوان تحت الشجرة، 3 / 1486 برقم 1860.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 118.
(3) انظر: الحديث رقم 27، الدرس الأول، ورقم 28، الدرس السادس.
(4) سورة الفتح، الآية: 18.
(5) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثامن، ورقم 63، الدرس الثامن أيضا.(1/561)
رابعا: من وسائل الدعوة: مبايعة إمام المسلمين: مبايعة إمام المسلمين من أهم وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا ظهر في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بايع الصحابة يوم الحديبية على الصبر، ولا شك أن المبايعة معاقدة ومعاهدة على القيام والالتزام بما حصلت البيعة عليه؛ لأن البيعة عبارة عن المعاقدة والمعاهدة: كأن كل واحد من المبايعين باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه، وطاعته، ودخيلة أمره (1) ولا ريب أن التعاهد والتعاضد يعطي بإذن الله - عز وجل - العزيمة القوية على الثبات في الدعوة إلى الله عز وجل، وفي الجهاد، وفي كل أمور الإسلام؛ ليكون ذلك وسيلة إلى الجهاد والدعوة ومن ذلك: البيعة على السمع والطاعة، وعلى أن لا ينازع الأمر أهله، وعلى القول بالحق، وبالعدل، وعلى النصح لكل مسلم، والثبات في القتال، والبيعة على الجهاد، وعلى الهجرة، وأعظم ذلك البيعة على الإيمان والإسلام، والنصرة وغير ذلك (2) .
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» (3) .
وهذا يبين أهمية مبايعة إمام المسلمين، وخطر الخروج عليه، وأن المبايعة من أعظم وسائل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
_________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الباء مع الياء، مادة: " بيع " 1 / 174.
(2) انظر: تراجم النسائي - رحمه الله - في كتاب البيعة من سننه، 7 / 137 -162.
(3) مسلم، كتاب الإمارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة، 3 / 1478، برقم 1851.(1/562)
[حديث عبد الله بن زيد لا أبايع أحدا على الموت بعد رسول الله]
98 [ص:2959] حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا وهيب: حدثنا عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد (1) - رضي الله عنهما قال: «لما كان زمن الحرة أتاه آت فقال له: إن ابن حنظلة (2) . يبايع الناس على الموت. فقال: لا أبايع على هذا أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم» (3) .
وفي رواية: «لما كان يوم الحرة، والناس يبايعون لعبد الله بن حنظلة فقال ابن زيد: على ما يبايع ابن حنظلة؟ قيل له: على الموت، قال لا أبايع على ذلك أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم» . وكان شهد معه الحديبية " (4) .
* شرح غريب الحديث: * " زمن الحرة " الحرة: أرض ذات حجارة سود كثيرة، وهي بظاهر المدينة،
_________
(1) عبد الله، بن زيد، بن عاصم، بن كعب، بن عمرو، بن عوف، بن مبذول، بن غنم، بن مازن، بن النجار الأنصاري المازني، الصحابي رضي الله عنه، وهو غير عبد الله بن زيد صاحب الأذان. اختلف في شهوده بدرا، وقال ابن عبد البر: شهد أحدا وغيرها ولم يشهد بدرا. وقد شارك في قتل مسيلمة الكذاب، رماه وحشي بالحربة وقتله عبد الله بن زيد بسيفه، وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث الوضوء، وعدة أحاديث، قيل: قتل يوم الحرة بالمدينة سنة ثلاث وستين وهو ابن سبعين سنة. وهو وأبوه: صحابيان، رضي الله عنهما. انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر، 2 / 312، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1 / 267، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 2 / 377، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 312.
(2) عبد الله بن حنظلة - الغسيل - بن أبي عامر الأنصاري المدني، من صغار الصحابة رضي الله عنهم، استشهد أبوه يوم أحد، فغسلته الملائكة؛ لكونه جنبا. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورآه يطوف بالبيت على ناقة، كان مولده سنة أربع من الهجرة، بعد أحد بسبعة أشهر، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن سبع سنين، أمر على الأنصار، يوم الحرة، وأمر على قريش عبد الله بن مطيع العدوي، وعلى باقي المهاجرين معقل بن سنان الأشجعي، فجهز لهم يزيد بن معاوية جيشا عليهم مسلم بن عقبة المري في اثني عشر ألفا، واعتزل بعض الصحابة في المدينة الفتنة: كعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وعبد الله بن زيد رضي الله عنهما، وغيرهم من الصحابة، وأصيب من قريش ثلاثمائة وستة رجال، ولم يخرج في الفتنة أحد من بني عبد المطلب، لزموا بيوتهم، وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: قتل يوم الحرة من حملة القرآن سبعمائة. وقتل عبد الله بن حنظلة في هذا اليوم سنة ثلاث وستين. وكانت وقعة وفتنة عظيمة. أسأل الله العافية لي ولجميع المسلمين في الدنيا والآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! انظر: تاريخ الطبري 3 / 352 -369، والكامل في التاريخ لابن الأثير، 3 / 310- 315، وسير أعلام النبلاء للذهبي 3 / 321 -325، والبداية والنهاية لابن كثير، 8 / 217 - 224، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2 / 299.
(3) [الحديث 2959] طرفه في كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، 5 / 78، برقم 4167. وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال، 3 / 1486، برقم 1861.
(4) الطرف رقم 4167.(1/563)
ويوم الحرة يوم مشهور في الإسلام أيام يزيد بن معاوية، لما انتهب المدينة عسكره من أهل الشام الذين ندبهم لقتال أهل المدينة: من الصحابة والتابعين، وأمر عليهم مسلم بن عقبة المري، وذلك في ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وعقيبها هلك يزيد (1) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: الثبات والصبر.
2 - محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم.
3 - من صفات الداعية: الابتعاد عن الفتن وعدم الخروج على الإمام المسلم.
4 - من وسائل الدعوة: مبايعة إمام المسلمين.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: من صفات الداعية: الثبات والصبر: دل هذا الحديث على أهمية الصبر والثبات؛ ولهذا قال عبد الله بن زيد - رضي الله عنهما - حينما بايع الناس عبد الله بن حنظلة على الموت: «لا أبايع على ذلك أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، وكان شهد معه الحديبية، فدل ثبات الصحابة - رضي الله عنهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومبايعته على الثبات - حتى ولو ماتوا على ذلك- على صبرهم وثباتهم وقوة إيمانهم رضي الله عنهم. (2) .
ثانيا: محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: ظهر في هذا الحديث محبة الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهذا قال عبد الله بن زيد - رضي الله عنهما - حينما أخبر أن الناس يبايعون عبد الله بن حنظلة على الموت: «لا أبايع على ذلك أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
_________
(1) انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ص 73، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الراء، مادة: " حرر " 1 / 365.
(2) انظر: الحديث رقم 27، الدرس الأول، ورقم 97، الدرس الأول.(1/564)
فدل ذلك على محبة الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى عاهدوه على أن لا يفروا ولو وصل بهم الثبات إلى الموت، رضي الله عنهم (1) .
ثالثا: من صفات الداعية: الابتعاد عن الفتن وعدم الخروج على الإمام المسلم: دل هذا الحديث على أن من الصفات الحميدة الابتعاد عن الفتن وعدم الخروج على الإمام المسلم، ولو كان فاسقا؛ لأن عبد الله بن زيد رأى عدم المبايعة على الموت في يوم الحرة، وقد امتنع من حضور فتنة الحرة عبد الله بن عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، وحصل شر عظيم وفتنة باهرة أسأل الله العافية في الدنيا والآخرة لي ولجميع المسلمين، وقتل في يوم الحرة ألف وسبعمائة من وجوه الناس، ومن أخلاط الناس عشرة آلاف، وذكر عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: " قتل يوم الحرة من حملة القرآن سبعمائة "، وهذا مما يؤكد على الناس عدم الخروج على الإمام المسلم، ولو كان فاسقا ظالما؛ لأن الخروج يحصل به شرور كثيرة: من سفك الدماء، وانتهاك الأعراض، وقتل النساء والصبيان، وتدمير الأموال، وإثارة الفتن المتلاطمة (2) والله المستعان (3) .
رابعا: من وسائل الدعوة: مبايعة إمام المسلمين: دل هذا الحديث على أن البيعة وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأن المبايع إذا بايع ولي الأمر على أمر من أمور الدعوة والجهاد ثبت على عهده، ولم ينقض ما أبرم من العهد والميثاق؛ ولهذا بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة يوم الحديبية على الموت: أي على أن لا يفروا ولو أدى الثبات إلى الموت، وهذا ما دل عليه قول عبد الله بن زيد - رضي الله عنهما في هذا الحديث (4) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثامن، ورقم 63، الدرس الثامن.
(2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 8 / 217- 224، وعمدة القاري بشرح صحيح البخاري للعيني 14 / 224.
(3) انظر: الحديث رقم 95، الدرس الثاني، ورقم 96، الدرس الثاني.
(4) انظر: الحديث رقم 97، الدرس الرابع.(1/565)
[حديث يا ابن الأكوع ألا تبايع]
99 [ص:2960] حدثنا المكي بن إبراهيم: حدثنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة (1) . - رضي الله عنه - قال: «بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عدلت إلى ظل الشجرة، فلما خف الناس قال: " يا ابن الأكوع ألا تبايع؟ " قال: قلت قد بايعت يا رسول الله، قال: " وأيضا ". فبايعته الثانية. فقلت له: يا أبا مسلم، على أي شيء، كنتم تبايعون يومئذ؟ قال: على الموت» (2) .
وفي رواية: «على أي شيء بايعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية؟ قال: على الموت» (3) .
وفي رواية: «بايعنا النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة فقال لي: " يا سلمة ألا تبايع؟ " قلت يا رسول الله: قد بايعت في الأول، قال: " وفي الثاني» (4) .
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - من صفات الداعية: الثبات والصبر.
2 - عظم محبة الصحابة - رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
3 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار.
4 - من وسائل الدعوة: مبايعة إمام المسلمين.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
_________
(1) تقدمت ترجمته في الحديث رقم 74.
(2) [الحديث 2960] أطرافه في: كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، 5 / 78، برقم 4169، وكتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس، 8 / 156، برقم 7206. وكتاب الأحكام، باب من بايع مرتين، 8 / 157، برقم 7208. وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال، 3 / 1486، بر قم 1860.
(3) الطرف رقم 4169.
(4) الطرف رقم 7208.(1/566)
أولا: من صفات الداعية: الثبات والصبر: دل هذا الحديث على أن الصبر والثبات من الصفات الحميدة؛ ولهذا بين سلمة بن الأكوع أنهم بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية على الموت، والمقصود بالمبايعة على الموت: أي المبايعة على الصبر والثبات وعدم الفرار وإن أدى ذلك إلى الموت، فيكون مؤدى البيعة على الموت، والبيعة على عدم الفرار واحد (1) . وهذا يؤكد صبر الصحابة - رضي الله عنهم - وشجاعتهم التي لا نظير لها عند غيرهم (2) .
ثانيا: عظم محبة الصحابة - رضي الله عنهم - لرسول الله صلى الله عليه وسلم: بين هذا الحديث عظم محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا عاهدوه وبايعوه على أن يثبتوا ولا يفروا، ويصبروا ولا يجزعوا، ولو آل ذلك إلى الموت، وهذه المبايعة الصادقة على الموت تدل على المحبة الصادقة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والرغبة العظيمة في الذود والدفاع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوته (3) .
ثالثا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار: دل هذا الحديث على أن من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار؛ ولهذا «قال - صلى الله عليه وسلم - لسلمة بن الأكوع: " يا ابن الأكوع ألا تبايع؟ " قال: قد بايعت يا رسول الله، قال: " وأيضا» قال: فبايعته الثانية.
قال ابن حجر رحمه الله: " بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - لسلمة مكررا. قيل: لأنه كان مقداما في الحرب، فأكد عليه احتياطا، أو لأنه كان يقاتل قتال الفارس والراجل فتعددت البيعة بتعدد الصفة " (4) . وقال العيني رحمه الله: " إنما قال ذلك مع أنه بايع مع الناس؛ لأنه أراد تأكيد بيعته؛ لشجاعته وشهرته بالثبات؛ فلذلك أمره بتكرير المبايعة " (5) .
_________
(1) انظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري، 12 / 99، وإكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم، للأبي، 6 / 577، وفتح الباري لابن حجر 7 / 450، وحاشية السندي على سنن النسائي، 7 / 141.
(2) انظر: الحديث رقم 97، الدرس الثاني، ورقم 98 الدرس الأول.
(3) انظر: الحديث رقم 62، الدرس الثامن، ورقم 63، الدرس الثامن.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 119.
(5) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 14 / 224، وانظر: 24 / 274.(1/567)
وهذا يبين أهمية أسلوب التكرار في الدعوة إلى الله - عز وجل - عند الحاجة لذلك (1) .
رابعا: من وسائل الدعوة: مبايعة إمام المسلمين: ظهر في هذا الحديث أن المبايعة من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأن سلمة بن الأكوع قيل له: «يا أبا مسلم على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ - أي يوم صلح الحديبية - فقال: على الموت.
» وهذا يؤكد أهمية المعاهدة والمعاقدة على الثبات؛ ولهذا كانت المبايعة من أهم وسائل الدعوة (2) .
* * * *
_________
(1) انظر: الحديث رقم 4، الدرس الخامس.
(2) انظر: الحديث رقم 97، الدرس الرابع، 98، الدرس الخامس.(1/568)
[حديث مضت الهجرة لأهلها]
100 -، 101 -[2962, 2963] حدثنا إسحاق بن إبراهيم: سمع محمد بن فضيل، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن مجاشع (1) - رضي الله عنه - قال: «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا وأخي، فقلت: بايعنا على الهجرة، فقال: " مضت الهجرة لأهلها ". فقلت: علام تبايعنا؟ قال: " على الإسلام والجهاد» (2) .
وفي رواية: " جاء مجاشع بأخيه مجالد بن مسعود (3) . إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذا مجالد يبايعك على الهجرة فقال: «لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإسلام» (4) .
وفي رواية: «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأخي بعد الفتح فقلت: يا رسول الله، جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة. قال: " ذهب أهل الهجرة بما فيها " فقلت: على أي شيء تبايعه؟ قال: " أبايعه على الإسلام، والإيمان، والجهاد» فلقيت معبدا (5) .
_________
(1) مجاشع بن مسعود بن ثعلبة بن وهب السلمي رضي الله عنه، له أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، في صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن ابن ماجه، قيل: إنه غزا كابل من بلاد الهند فصالحه الأصيهد، فدخل مجاشع بيت الأصنام فأخذ جوهرة من عين الصنم، وقال لم آخذها إلا لتعلموا أنه لا يضر ولا ينفع. قتل يوم الجمل سنة ست وثلاثين رضي الله عنه. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 3 / 362، وتهذيب التهذيب له، 10 / 35، وتقريب التهذيب له ص 920.
(2) [الحديث 2962] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب لا هجرة بعد الفتح، 4 / 48، برقم 3078. وكتاب المغازي، باب، 5 / 114 و 115، برقم 4305 و 4307. وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير، وبيان معنى " لا هجرة بعد الفتح "، 3 / 1487، برقم 1863. و [الحديث 2963] أطرافه في: كتاب الجهاد والسير، باب لا هجرة بعد الفتح، 4 / 48، برقم 3079. وكتاب المغازي، باب، 5 / 114 و 115، برقم 4306، 4308. وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير، وبيان معنى " لا هجرة بعد الفتح " 3 / 1487برقم 1863.
(3) مجالد بن مسعود السلمي أبو معبد أخو مجاشع رضي الله عنه، وقيل: أول من قص بالبصرة الأسود بن سريع فارتفعت الأصوات، فجاء مجالد بن مسعود السلمي، فقالوا: أوسعوا له، فقال: ما أتيتكم لأجلس إليكم، ولكني رأيتكم صنعتم شيئا أنكره المسلمون. قيل: قتل يوم الجمل، وقال ابن حجر: وهذا فيه نظر فإن الذي قتل يوم الجمل أخوه مجاشع، أما مجالد فبقي إلى سنة أربعين على الصحيح. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، 3 / 363، وتهذيب التهذيب له، 10 / 38 وتقريب التهذيب له أيضا، ص 921.
(4) الطرف رقم 3078، 3079.
(5) قيل: هو معبد بن مسعود أخو مجالد ومجاشع، وقيل هو مجالد لأن كنيته: أبو معبد قال ابن حجر: ويحتمل أن يكون لمجاشع أخوان: مجالد ومعبد، فالذي جاء به مجاشع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هو معبد، والذي لقيه أبو عثمان النهدي فقال: صدق مجاشع هو مجالد وكنيته أبو معبد، والله أعلم. ورجح العلامة العيني في عمدة القاري 17 / 291 أن قوله: " فلقيت معبدا " فقال: الصواب " فلقيت أبا معبدا فعلى هذا يكون أبو معبد هو مجالد كما هو واضح من كنيته التي لا خلاف فيها. والله أعلم. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 3 / 440، وتقريب التهذيب له ص 1207. وانظر: فتح الباري لابن حجر، 8 / 26.(1/569)
بعد- وكان أكبرهما- فسألته فقال: صدق مجاشع (1) .
وفي رواية: عن أبي عثمان النهدي عن مجاشع بن مسعود: «انطلقت بأبي معبد إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ليبايعه على الهجرة قال: " مضت الهجرة لأهلها، أبايعه على الإسلام والجهاد» فلقيت أبا معبد فسألته؟ فقال: صدق مجاشع (2) .
* الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها:
1 - أهمية السؤال في تحصيل العلم.
2 - من موضوعات الدعوة: الحض على أصول الإسلام.
3 - من موضوعات الدعوة: الحض على أصول الإيمان.
4 - من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد.
5 - من صفات الداعية: الحرص على هداية الأقربين.
6 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار ببقاء مكة دار إسلام.
7 - من موضوعات الدعوة: البيان ببقاء الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام.
8 - من صفات الداعية: الحرص على التثبت في طلب الحديث.
9 - من صفات الداعية: الصدق.
10 - من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة الفتح.
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي:
أولا: أهمية السؤال في تحصيل العلم: ظهر في هذين الحديثين أهمية السؤال في تحصيل العلم، لأن مجاشع بن
_________
(1) الطرف رقم 4305، 4306.
(2) الطرف رقم 4307، 4308.(1/570)
مسعود - رضي الله عنه - «سأل النبي عن الهجرة لأخيه مجالد، فقال صلى الله عليه وسلم: " مضت الهجرة لأهلها " فقال مجاشع: على أي شيء تبايعه فقال صلى الله عليه وسلم: " أبايعه على الإسلام، والإيمان، والجهاد» .
وهذا يدل على أهمية السؤال في تحصيل العلم النافع، وما يترتب عليه من الفوائد والعلم بأمور الإسلام (1) .
ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحض على أصول الإسلام: دل هذان الحديثان على أن الحث على أصول الإسلام من موضوعات الدعوة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " أبايعه على الإسلام. . . " والمقصود ملازمة الإسلام بأركانه الخمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا؛ ولهذا «عندما سأل جبريل عليه السلام النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» (2) .
فينبغي للداعية أن يحض الناس على هذه الأصول التي بني عليها الإسلام (3) .
ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحض على أصول الإيمان: إن أصول الإيمان أعظم الموضوعات التي ينبغي للداعية أن يبينها للناس، ويوضحها توضيحا مفصلا؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمجاشع في هذا الحديث عند المبايعة لأخيه مجالد: " أبايعه على الإسلام والإيمان. . . " والمقصود بالمبايعة على الإيمان هنا: ملازمة أصول الإيمان الستة كما فسرته النصوص الأخرى؛ ولهذا «عندما سأل جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان أجابه بقوله صلى الله عليه وسلم: " أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» (4) .
_________
(1) انظر: الحديث رقم 3، الدرس الثاني، ورقم 19، الدرس الرابع، ورقم 30، الدرس الرابع، ورقم 92، الدرس الرابع.
(2) مسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان، والإسلام، والإحسان، 1 / 37، برقم 8، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(3) انظر: الحديث رقم 22، الدرس الثاني.
(4) مسلم، في الكتاب والباب السابقين، 1 / 37، برقم 8.(1/571)
وهذا يؤكد على الداعية إلى الله - عز وجل - أن يعتني بإبلاغ الناس هذه الأصول على وجه التفصيل والإيضاح (1) .
رابعا: من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد في سبيل الله عز وجل: إن الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى من أهم الموضوعات التي ينبغي أن يعتني بها أهل العلم والدعوة إلى الله عز وجل؛ لما في ذلك من إظهار شعائر الإسلام، وقمع الكفر، وأهل البغي والفساد؛ ولهذا بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث مجالد بن مسعود - رضي الله عنه - على الجهاد، فقال - صلى الله عليه وسلم - لأخيه مجاشع: «أبايعه على: الإسلام، والإيمان، والجهاد» .
فينبغي العناية بالحث على الجهاد؛ لأنه ذروة سنام الإسلام كما «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: " ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه؟ " قال معاذ رضي الله عنه: قلت: بلى يا رسول الله، قال: " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد» . . . " (2) . والجهاد يكون باليد، واللسان، والمال؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم» (3) . فينبغي العناية الفائقة بالحث على الجهاد في سبيل الله عز وجل (4) .
خامسا: من صفات الداعية: الحرص على هداية الأقربين: لا شك أن الحرص على هداية الأقربين وحب الخير لهم من الأمور المهمة التي ينبغي العناية بها؛ ولهذا اعتنى مجاشع بن مسعود - رضي الله عنه - بأخيه مجالد، وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليبايعه على الهجرة، فبايعه - صلى الله عليه وسلم - على: الإسلام، والإيمان، والجهاد، والداعية الصادق يكون حريصا على هداية الناس
_________
(1) انظر المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 4 / 70، وانظر: الحديث رقم 22، الدرس الأول.
(2) الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، 5 / 12، برقم 2616، وقال: " هذا حديث حسن صحيح "، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، 2 / 1314، برقم 3973، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2 / 138، برقم 413.
(3) أبو داود، كتاب الجهاد، باب كراهية ترك الغزو، 3 / 10، برقم 2504، عن أنس رضي الله عنه، وصححه الألباني، في صحيح سنن أبو داود، 2 / 475.
(4) انظر: الحديث رقم 2، الدرس الثالث، ورقم 18، الدرس الثاني.(1/572)
جميعا، ولكنه يعتني عناية خاصة بأقربائه؛ لأن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة (1) .
سادسا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار ببقاء مكة دار إسلام: دل الحديثان على معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم تدل على صدق نبوته ورسالته، وهي أن مكة تبقى دار إسلام إلى آخر الدنيا؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإِسلام» . قال الإِمام النووي رحمه الله: " وهذا يتضمن معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها تبقى دار إسلام لا يتصور منها الهجرة ". (2) .
سابعا: من موضوعات الدعوة: البيان ببقاء الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإِسلام: الناظر في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث مجاشع بن مسعود رضي الله عنه: «لا هجرة بعد فتح مكة ولكن أبايعه على الإِسلام» يتصور بأن الهجرة قد انقطعت إلى يوم القيامة، ولكن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر بعضها بعضا؛ قال الإِمام النووي رحمه الله: " قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإِسلام باقية إلى يوم القيامة، وتأوَّلوا هذا الحديث تأويلين:
أحدهما: لا هجرة بعد الفتح من مكة؛ لأنها أصبحت دار إسلام فلا تتصور منها الهجرة.
والثاني: وهو الأصح: أن معناه أن الهجرة الفاضلة المهمة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازا ظاهرا انقطعت بفتح مكة ومضت لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة؛ لأن الإِسلام قويَ وعز بعد فتح مكة عزا ظاهرا بخلاف ما قبله (3) .
وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: " المقصود لا هجرة من مكة إلى غيرها؛ لأنها أصبحت دار إسلام فلا حاجة إلى الهجرة
_________
(1) انظر: الحديث رقم 7، الدرس الأول، ورقم 36، الدرس الخامس.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم، 9 / 132، و 13 / 11، وانظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح 6 / 2041، وبهجة الناظرين شرح رياض الصالحين، لسليم الهلالي، 1 / 35.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم، 13 / 81.(1/573)
منها، وأما الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإِسلام بنية الفرار بدينه فهي باقية إلى يوم القيامة " (1) وقد صحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تفسر حديث مجاشع وغيره، فعن عبد الله بن واقد السعدي رضي الله عنه قال: وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفدٍ كلنا يطلب حاجته، وكنت آخرهم دخولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني تركت من خلفي، وهم يزعمون أن الهجرة قد انقطعت، قال: «لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفَّار» (2) وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه في مبايعته للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له: «أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين» (3) وعن جرير رضي الله عنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين " قالوا: يا رسول الله، لِمَ؟ قال: " لا تَراءَى نَارَاهمَا» (4) وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» (5) .
وهذه الأحاديث تبين أن الهجرة باقية إلى يوم القيامة من بلد المشركين إلى بلد المسلمين، وقد فَصَّل في ذلك أهل العلم، قال ابن حجر رحمه الله: " لا تجب الهجرة من بلد فتحه المسلمون أما قبل فتح البلد فمن به من المسلمين أحد ثلاثة: الأول قادر على الهجرة لا يمكنه إظهار دينه، ولا أداء واجباته، فالهجرة منه واجبة. الثاني: قادر لكنه يمكنه إظهار دينه وأداء واجباته، فمستحبة لتكثير
_________
(1) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 3078، و 3079 من صحيح البخاري.
(2) النسائي، كتاب البيعة، باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة، 7 / 146، برقم 4172، وأحمد في المسند، 1 / 192، وصححه الألباني في صحيح النسائي 3 / 874، وقال عنه أحمد محمد شاكر في شرحه للمسند وترقيمه 3 / 1671، برقم 1671: " إسناده صحيح ".
(3) النسائي، كتاب البيعة، باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة، 7 / 148، برقم 4177، وأحمد 4 / 365، والبيهقي في السنن الكبرى، 9 / 13، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 5 / 31.
(4) أبو داود، في كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، 3 / 45، برقم: 2645، والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين، 4 / 155، برقم 1604، وصححه الألباني في إرواء الغليل 5 / 29.
(5) أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الهجرة هل انقطعت، 3 / 3، برقم 2479، وأحمد في المسند، 4 / 99، والبيهقي في السنن الكبرى، 9 / 17، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 5 / 23، وفي صحيح سنن أبي داود 2 / 470، وفي صحيح الجامع الصغير 6 / 186.(1/574)
المسلمين بها ومعونتهم، وجهاد الكفار، والأمن من غدرهم، والراحة من رؤية المنكر بينهم.
الثالث: عاجز يعذر: من أسرٍ، أو مرضٍ أو غيره، فتجوز له الإقامة، فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أجر " (1) .
وقد قال القرطبي رحمه الله: " ولا يختلف في أنه لا يحلّ لمسلم المقام في بلاد الكفار، مع التمكّن من الخروج منها؛ لجريان أحكام الكفار عليه؛ ولخوف الفتنة على نفسه، وهذا حكم ثابت، مؤبَّد إلى يوم القيامة. وعلى هذا فلا يجوز لمسلم دخول بلاد الكفار لتجارة أو غيرها، مما لا يكون ضروريا في الدين: كالرسل، وكافتكاك المسلم، وقد أبطل مالك رحمه الله شهادة من دخل بلاد الهند (2) للتجارة " (3) .
فإذا علم المسلم شأن الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإِسلام، فهل يهاجر المسلم من بلاد المسلمين التي تقام فيها المعاصي ولا يستطيع تغييرها؟ قال الإِمام ابن العربي رحمه الله: " فأما الهجرة من بلد الكفر فهي فريضة إلى يوم القيامة، وكذلك الهجرة من أرض الحرام والباطل بظلم أو فتنة. . . فإن قيل: فإن لم يوجد بلد إلا كذلك؛ قلنا: يختار المرء أقلها إثما، مثل أن يكون بلد فيه كفر فبلد فيه جور خير منه، أو بلد فيه عدل وحرام، فبلد فيه جور وحلال خير منه للمقام. . . " (4) ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفرّ بدينه من الفتن» (5) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: " والهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإِسلام باقية إلى قيام الساعة وكذلك الهجرة من بلاد المعاصي إلى بلاد الطاعات، إذا كانت أحسن من بلده، فله الهجرة، إلا إذا كان بقاؤه في بلاد المعاصي فيه خير: كالدعوة إلى الله،
_________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6 / 190.
(2) في نقل الأبي عن القرطبي في إكمال إكمال المعلم 6 / 581 " وقد أبطل مالك شهادة من دخل بلاد الحرب للتجارة " وهو الأقرب والله أعلم.
(3) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 4 / 69.
(4) عارضة الأحوذي، بشرح سنن الترمذي 4 / 89.
(5) البخاري، 7 / 241 برقم 6495، وتقدم تخريجه في الحديث رقم 19، الدرس الثاني، ص 167.(1/575)