من الفضة يعني مئةً وستين درهمًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم على أربع أواق كأنما تنحتون الفضة من عَرْض هذا الجبل ما عندنا ما نعطيك» وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا تغلوا صدق النساء فإنها لو كانت مكرمةً في الدنيا أو تقوى في الآخرة لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها الناس: إن في ازدياد المهور تركًا للأفضل والأنفع ومن مفاسدها إغلاق باب النكاح أمام قاصديه من الرجال والنساء فكم في البيوت من فتيات يردن النكاح وكم في الأسواق من فتيان يريدونه ولكن حال دونهم تلك المهور الباهظة ومن مفاسد زيادة المهور تصعيب الحياة الزوجية وتنكيدها فإن الزوج إذا لم يتلاءم مع زوجته لا تسمح نفسه بفراقها إلا بتعب وتنكيد وربما يأبى أن يفارقها حتى تبذل له ما أعطاها وهذا وإن كان لا يجوز أعني لا يجوز أن يحدها على المفارقة بعوض إذا كانت مستقيمةً وقائمةً بالواجب نحوه ومن مفاسد ازدياد المهور أنها قد تضطر الإنسان إلى شغل ذمته بالديون. ومن مفاسدها أنها قد تضطر الإنسان إلى أن يتزوج بنساء لا يتلاءمن مع عادات البلاد وتقاليدها فيحصل من المشقة عليها وعليه ما هو معلوم.
إن القلوب إذا استولى اليأس عليها قنطت ولم تصل إلى مطلوبها وإن الناس إذا تخاذلوا واستبعدوا الأمور وقالوا هذا بعيد هذا لا يمكن فلن يصلوا إلى غاية ألستم كلكم تعرفون مضرة المغالاة في المهور وفائدة تسهيلها وتيسيرها فمن الأجدر بكم أن تتساعدوا في كل طريق تؤدي إلى رفع المغالاة وحلول التيسير من الأجدر بكم أن تشجعوا وتحثوا بقولكم وفعلكم على ذلك لو كان الناس يقابلون كل فكرة إصلاحية بالفتور واليأس والاستبعاد لما وصلوا إلى صلاح ولا إصلاح ولكن القلوب الحية والأُمَّة الواعية هي التي تقابل الفكرة الإصلاحية بالقوة والعزيمة الصادقة والتصميم على الوصول إلى الغاية المطلوبة ما دامت تؤمن بصحة القصد وسلامة السبيل وأنا أقول أن العادات الراسخة لا يمكن تغييرها دفعةً واحدةً ولكنه يمكن القضاء عليها بالتدريج ما دمنا مصممين على تغييرها بحول الله. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] الآية.(8/572)
[الخطبة السادسة في التحذير من أخذ الصور في الأعراس]
الخطبة السادسة
في التحذير من أخذ الصور في الأعراس إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروا نعمة الله عليكم بهذا الدين الذي أكمله لكم وأتم عليكم به النعمة وبعث به محمدًا صلى الله عليه وسلم ليتمم به مكارم الأخلاق فكان هذا الدين دين عبادة ودين أخلاق ومعاملة ألا وأن من أفضل الأخلاق التي بعث بها نبيه خُلُق الحياء فإن الحياء من الإيمان والحياء خلق النبي صلى الله عليه وسلم فكان حييًّا سخيًّا كريم الخُلُق.
إن الحياء من الله والحياء من الناس من صميم دِينكم فاستحيوا أيها المؤمنون من الله واستحيوا أيها المؤمنون من الناس لا تضيعوا دِينكم أيها المؤمنون بالتهور والتدهور والانحطاط.
لقد سمعنا أيها الناس أنه حصل زواج دخل فيه مع النساء بعض شباب دخلوا لأخذ صور للحفل وأن هؤلاء المصورين كانوا بين النساء يلتقطون صورهن فيا سبحان الله كيف بلغ بنا الحد إلى هذا التدهور وفي هذه السرعة الخاطفة تصوروا عظم الفتنة في تجول هؤلاء الشباب وأخذهم صور النساء وهم في غمرة الفرح بالعرس تحت سيطرة نشوة النكاح وفي ظل التبرج والتطيب ماذا يحصل للجميع من الفتنة إنها لفتنة كبيرة ومحنة عظيمة. أما يستحي هؤلاء من الله أولًا ومن الناس ثانيًا ما الذي سوغ لهم وما الذي أباح لهم أن يتجولوا بين النساء لأخذ صورهن هل يرضى أحد من الناس أن تؤخذ صورة ابنته أو أخته أو زوجته لتكون بين هؤلاء يعرضونها متى شاؤوا على من يريدون أو يستمتعون بالنظر إليها متى يشاؤون هل يرضى أحد أن تكون نساؤه محلًا للسخرية عند عرض صورتها إن كانت قبيحةً أو محلًا للفتنة عند عرضها إن كانت جميلةً.
عباد الله ما بالنا ننحدر إلى الهاوية في تقاليد الكفار وأشباه الكفار الذين لا دين لهم ولا أخلاق كيف ندع تقاليدنا المبنية على التستر والحياء بوحي من شريعة الله ورسوله إلى تقاليد جلبناها من غيرنا وغيرنا تلقاها من اليهود والنصارى المستعمرين لأراضيهم مدةً طويلةً من(8/573)
الزمن كيف نرضى وقد سلم الله بلادنا من استعمار الأوطان أن تستسلم لاستعمار الأفكار والعقول والأديان كيف نرضى وقد مَنَّ الله علينا بالتقدم بهذا الدين أن نرجع إلى الوراء بتبرج الجاهلية الأولى وأعمال الكافرين كيف يليق بنا وقد أعطانا الله شهامة الرجولة وولاية العقل أن ننتكس فننقاد لسيطرة النساء والسفهاء.
أيها الناس إنكم إن سرتم وراء هذه التيارات بدون نظر ولا روية ولا تفكير في العواقب فسوف تندمون وستكون العاقبة وخيمةً وسيحل بالبلاد من العقوبة ما يعم الصالح والفاسد {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]
أيها الناس احذروا هذه التقاليد المنحرفة وهذه التيارات الجارفة الضالة وقابلوها بقوة الإيمان وسيطرة العقل لتندحر وتقبر في مهدها وإلا فهي كشرارة النار في المواد المشتعلة إن لقيت منكم قبولًا لها واتجاهًا إليها فأنتم ولله الحمد في بلاد محافظة على دِينها وعلى أخلاقها وعلى تقاليدها الطيبة فاحذروا أن تخرق سياجكم تلك العادات التي جاء بها من زُيِّن له سوء عمله فرآه حسنًا ومن سَنَّ سُنَّةً سيئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
إن أخذ صورة للزوج وزوجته عند أول لقاء لا يزيد الزوجين إيمانًا بالله ولا مودةً في القلب ولا صحةً في الجسم وإذا فُرِضَ أن المسألة من باب التقاليد المحضة أفليس من الأجدر بنا أن نعتز بتقاليدنا ونحمي كياننا ونربأ بأنفسنا عن أن نكون تبعًا لغيرنا هذا فضلًا عن كون هذه التقاليد هدمًا للأخلاق ونقصًا في الإيمان. إن أخذ الصور مع كونه سببًا للفتنة وتداول صور النساء فهو كذلك عرضة للعنة الله سبحانه والتعذيب بالنار لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من التصوير فقال صلى الله عليه وسلم «أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون» وقال «كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم» ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المصورين. وهذه الأحاديث ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليحذرِ المصور أن يكون داخلًا فيها فإنه معرض نفسه لذلك والصورة الفوتغرافية وإن كان من العلماء من أباحها فإن منهم من رأى أنها داخلة في الوعيد وقد قال صلى الله عليه وسلم «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وقال «من وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه» . وحتى إذا كانت(8/574)
الصور الفوتغرافية مباحة فإنها لا تحل إلا إذا لم يكن فيها محذور شرعي. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . إلخ.(8/575)
[الفرع التاسع في الجنايات والحدود والحسبة]
[الخطبة الأولى في عقوبة القاتل عمدا]
الفرع التاسع
في الجنايات والحدود والحسبة الخطبة الأولى
في عقوبة القاتل عمدا الحمد لله القوي العظيم الرءوف الرحيم يقضي بالحق ويحكم بالعدل وهو الحكيم العليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة من العذاب الأليم والفوز بالنعيم المقيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم على السراط المستقيم وسلم تسليما.
وأما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من حماية الدين والنفس والمال والعرض فلقد حمى الله لكم الدين بما أقام عليه من الآيات البينات حتى تتمسكوا به عن علم وبصيرة، وحماه لكم بما رتبه من الجزاء الوافر على فعل الحسنات لترغبوا فيها وتقيموها وحماه لكم بما حذركم به من عقوبة على المخالفات لترهبوا منها وتستقيموا على الأمر المطلوب منكم وحمى الله لكم الدين بما أقامه من الجهاد بالنفس والمال ولقد حمى الله لكم النفس فأكد تحريمها وحرمتها في كتابه وعلى لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقرن القتل بالشرك فقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151] إلى قوله، {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق» وذكر تمام الحديث، وقال النبي: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما» (رواه البخاري) . وقال النبي: «لزوال الدنيا - يعني كلها - أهون عند الله من قتل رجل مسلم» . ومن أجل حرمة النفس وتحريمها رتب الله على قتلها عقوبات في الآخرة وعقوبات في الدنيا. أما عقوبات الآخرة فقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] أربع عقوبات عظيمة كل واحدة منها توجل القلب وتفزع النفس - جهنم خالدا فيها فيا ويله ما أصبره على نار جهنم وقد فضلت على نار الدنيا كلها بتسعة وستين جزءا - وغضب الله عليه وبئسما حصل لنفسه من غضب الرب العظيم عليه - ولعنه فطرده وأبعده عن رحمته وأعد له عذابا(8/576)
عظيما. ويل لقاتل المؤمن المتعمد ويل له من هذه العقوبات النار وغضب الجبار واللعنة والعذاب العظيم، وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء» . وقال ابن عباس رضي الله عنه سمعت نبيكم يقول: «يأتي المقتول متعلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله باليد الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يأتي به إلى العرش فيقول المقتول يا رب هذا قتلني فيقول الله للقاتل تعست أي هلكت ويذهب به إلى النار» وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار» . هذه أيها المؤمنون عقوبة قاتل النفس بغير حق في الآخرة.
أما عقوبته في الدنيا فالقصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] النفس بالنفس جزاء وفاقا كما أعدم أخاه المؤمن وأفقده حياته فجزاؤه أن يفعل به كما فعل ولقد جعل الله لولي المقتول سلطانا قدريا أي قدره في شرع الله وفي قضائه وقدره على قتل القاتل كما قال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] فهذه الآية كما تدل على أن الله جعل لولي المقتول سلطانا شرعيا في قتل القاتل فقد يفهم منها أن الله جعل له أيضا سلطانا قدريا بحيث يكون قادرا على إدراك القاتل وقتله فيهيئ الله من الأسباب ما يتمكن به من إدراكه والله على كل شيء قدير وبكل شيء محيط.
أيها المسلمون وإن من حماية الله لأموالكم أن جعل عقوبة السارق قطع يده إذا تمت الشروط كما قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] حتى لو استعار منك شخص شيئا يساوي ما يقطع به السارق ثم جحده وقال ما استعرت منك شيئا فتثبت عليه العارية فإنها تقطع يده بسبب جحوده العارية. كما ثبت ذلك في الصحيحين «أن امرأة من بني مخزوم كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقطع يدها فأهم قريشا شأنها فكلمه أسامة بن زيد فيها فقال أتشفع في حد من حدود الله ثم قام فخطب الناس فقال إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله (يعني أقسم بالله) لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» .(8/577)
أما حماية الله للأعراض فقد ذكر الله جانبا كبيرا منها في سورة الحجرات في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات: 11] إلى آخر الآية التي بعدها. وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» وأوجب الحد ثمانين جلدة على من قذف محصنا بالفاحشة وأوجب الحد على الزاني إن كان محصنا فيرجم بالحجارة حتى يموت.
وإن كان غير محصن وهو الذي لم يتزوج فحده مائة جلدة وتغريب عام0 وأما حد اللواط وهو إتيان الذكر الذكر فإنه القتل بكل حال إذا كانا بالغين غير مجنون سواء كان متزوجين أو غير متزوجين لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» وأجمع الصحابة رضي الله عنهم على مقتضى هذا الحديث.
فاحمدوا الله أيها المؤمنون على هذه الحماية لدينكم وأنفسكم وأموالكم وأعراضكم واسألوه أن يوفق المسلمين جميعا للقيام بشكره وامتثال أمره واجتناب نهيه فإن ذلك خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . إلخ.(8/578)
[الخطبة الثانية في التحذير من أخطار السيارات]
الخطبة الثانية
في التحذير من أخطار السيارات الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما وقضى بما يريد حكمة وحكما، أنعم بالنعم ابتلاء وامتحانا فمن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الرسل وخلاصة العبيد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان على الرشد والتسديد وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وقيدوا نعمه عليكم بشكرها وحسن التصرف فيها فإن الشكر به ازدياد النعم وحسن التصرف فيها به تتمحض نعما. أما إذا كفرت النعم فذلك سبب زوالها ومعول هدمها. قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ - فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ - ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 15 - 17] وقال سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]
أيها الناس هذان مثلان لبلدين أنعم الله عليهما بنضارة الدنيا ورغد العيش بدلوا نعمة الله كفرا فأعرضوا عن دين الله وارتكبوا محارم الله فأبدلهم الله بنعمه نقما وبرغد العيش نكدا أفتظنون أنكم إذا كفرتم بنعم الله ناجون وعما وقع فيه أولئك مسلمون كلا فسنن الله في عباده واحدة وليس بين الله وبين أحد من الناس نسبا فيراعيه واسمعوا قول الله عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا - اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 42 - 43] وقول الله عز وجل: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10] وقول الله سبحانه في الحكم العام الشامل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7](8/579)
أيها الناس إن مما أنعم الله به علينا في هذا العصر تلك السيارات التي ملأت البلاد والبر وقادها الصغير والكبير والعاقل والسفيه فهل نحن شكرنا هذه النعمة وهل نحن أحسنا التصرف فيها؟ لننظر. لقد استعمل بعض الناس هذه السيارات في أغراضه السيئة والوصول إلى مآربه السافلة فصار يفر بها إلى البراري ليتناول ما تهواه نفسه بعيدا عن الناس وعن أيدي الإصلاح ويخرج بها عن البلد ليضيع ما أوجب الله عليه من إقامة الصلاة في وقتها فهل يصح أن يقال لمثل هذا إنه شاكر لنعمة الله وهل يصح أن نقول إنه سالم من عقوبة الله كلا فهو لم يشكر نعمة الله ولم يسلم من عقوبته وليس عقوبة الله للعبد أن تكون عقوبة دنيوية مادية فهناك عقوبة أشد وهي عقوبة قسوة القلب وكونه يرى ما هو عليه من انتهاك المحرمات وإضاعة الواجبات يراه وكأنه لم يفعل شيئا يعاقب عليه بعد موته فلا يكاد يقلع عنه.
ولقد استعمل بعض الناس هذه السيارات فلم يحسن التصرف فيها وكلها إلى قوم صغار السن أو صغار العقول تجده يقود السيارة وهو صغير السن لا يكاد يُرى من نافذتها وتراه يسوق السيارات وهو كبير السن لكنه صغير العقل متهور لا يراعي الأنظمة ولا يبالي بالأرواح، سرعة جنونية في البلد وخارج البلد ونعني بالسرعة الجنونية كل سرعة تزيد على ما كان ينبغي أن يسير عليه وتختلف بحسب المكان وازدحام السكان فليست السرعة في البلد كالسرعة خارجه وليست السرعة في مكان كثير المنعطفات والمنافذ الشارعة فيه كالسرعة في خط مستقيم ليس إلى جانبه منافذ وليست السرعة في مكان يكثر فيه الناس كالسرعة في مكان خال. تجده يسير مخالفا للأنظمة يحاول أن يجاوز من أمامه وهو لم يضمن السلامة يسير في الخط المعاكس لاتجاهه وهو لغيره فيوقع من قابله في الحيرة أو التلف.
إن كل عاقل ليعجب أن تعطي قيادة السيارات لهؤلاء الصغار الذين لا يستطيعون التخلص في ساعة الخطر وإن كل عاقل ليعجب من هؤلاء المتهورين الذين لا يراعون حرمة نظام الدولة ولا حرمة نفوس المسلمين مع أن الفرق في مراعاة النظام والسير المعتدل أمر بسيط فلو قدرنا أن شخصا أراد أن يسير بسرعة تبلغ مائة كيلو في الساعة فسار بسرعة تبلغ ثمانين فمعناه أنه لم يتأخر سوى اثنتي عشرة دقيقة في سير ساعة كاملة وست دقائق في سير(8/580)
نصف ساعة وثلاث دقائق في سير ربع ساعة وما أيسر هذا التأخر الذي به وقاية النفس والمال من الخطر والذي يمكن أن يزول بأن يتقدم في مشيه بمقدار هذا التأخر. أيها الناس لقد كثرت الحوادث من أجل هذه الأمور كثرة فاحشة فأصبح المصابون بها ما بين كسير وجريح وميت ليس بالأفراد فحسب ولكن بالأفراد أحيانا وبالجملة أحيانا ثم يترتب على هذه الحوادث: خسائر مالية وخسائر روحية وندم وحسرة في قلوب مسببي هذه الحوادث إن كانت قلوبهم حية تخشى الله وترحم عباد الله وتريد أن تسلك مع الناس بالسيرة الحسنة.
إن النفس إذا فقدت بهذه الحوادث لزم من ذلك: 1- إخراج هذا الميت من الدنيا وحرمانه من التزود بالعمل الصالح والاستعتاب من العمل السيئ. 2- فقد أهله وأصحابه بالتمتع معه في الحياة. 3- إرمال زوجته وإيتام أولاده إن كان ذا زوجة وعيال. 4- غرامة ديته تسلم إلى ورثته. 5- وجوب الكفارة حقا لله تعالى فكل من قتل نفسا خطأ أو تسبب لذلك أو شارك فيه فعليه الكفارة فلو اشترك اثنان في حادث وتلف به شخص فعلى كل واحد منهما كفارة كاملة والكفارة عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد كما هو الواقع في عصرنا فصيام شهرين متتابعين لا يفطر بينهما يوما واحدا إلا من عذر شرعي فإن أفطر قبل إتمامهما ولو بيوم واحد من دون عذر وجب استئنافها من جديد وهذه الكفارة حق لله تعالى لا تسقط بعفو أهل الميت عن الدية فأهل الميت إذا عفوا عن الدية إنما يملكون إسقاط الدية إن رأوا في إسقاطها مصلحة وأما الكفارة فلا يملكون إسقاطها لأنها حق لله عز وجل وهذه الكفارة أيضا تتعدد بتعدد الأموات بسبب الحادث فإن كان الميت واحدا فشهران وإن مات اثنان فأربعة أشهر وإن مات ثلاثة فستة أشهر وهكذا لكل نفس شهران متتابعان.
فاتقوا الله تعالى في أنفسكم واتقوا الله في إخوانكم المسلمين في أنفسهم وأموالهم واتقوا الله تعالى بطاعته وطاعة ولاة أموركم بالمعروف واعلموا أن مخالفة نظام الدولة ليس مخالفة لبشر فقط ولكن مخالفة للبشر ولخالق البشر فإن الله تعالى أمر بطاعة ولاة الأمور في غير معصية الله قال تعالى:(8/581)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]
وفقني الله وإياكم لطاعة الله ورسوله وطاعة ولاة الأمور والتمشي على ما فيه خيرنا وصلاحنا إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . إلخ.(8/582)
[الخطبة الثالثة في الحدود ووجوب إقامتها]
الخطبة الثالثة
في الحدود ووجوب إقامتها الحمد لله القوي العظيم العزيز الرحيم العليم الحكيم شرع عقوبة المجرمين منعا للفساد ورحمة للعالمين وكفارة لجرائم الطاغين المعتدين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل النبيين وقائد المصلحين وأرحم الخلق أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمته عليكم بهذا الدين القويم الكامل الجامع بين الرحمة والحكمة رحمة في إصلاح الخلق وحكمة في سلوك الطريق الموصل إلى الإصلاح.
أيها الناس إن من طبيعة البشر أن يكون لهم إرادات متباينة ونزعات مختلفة فمنها نزعات إلى الحق والخير ومنها نزعات إلى الباطل والشر كما قال تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2] وقال تعالى {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] ولما كانت النزعات إلى الباطل والشر في ضرورة إلى ما يكبح جماحها ويخفف من حدتها من وازع إيماني أو رادع سلطاني جاءت النصوص الكثيرة بالتحذير من الباطل والشر والترغيب في الحق والخير وبيان ما يترتب على الباطل والشر من مفاسد في الدنيا وعقوبة في الآخرة وما يترتب على الحق والخير من مصالح في الدنيا ومثوبات نعيم في الآخرة، ولكن لما كان هذا الوازع لا يكفي في إصلاح بعض النفوس الشريرة الموغلة في الباطل والشر وكبح جماحها والتخفيف من حدتها فرض رب العالمين برحمته وحكمته عقوبات دنيوية وحدودا متنوعة بحسب الجرائم لتردع المعتدي وتصلح الفاسد وتقيم الأعوج وتظهر الملة وتستقيم الأمة وتكفر جريمة المجرم فلا تجتمع له عقوبة الآخرة مع عقوبة الدنيا.
ففرض الله الحدود وأوجب على ولاة الأمور إقامتها على الشريف والوضيع والغني والفقير والذكر والأنثى والقريب منهم والبعيد ففي الحديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أقيموا حدود الله القريب والبعيد ولا تأخذكم في الله لومة لائم» ولقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأسامة بن زيد رضي الله عنه حين شفع إليه في امرأة من بني مخزوم كانت تستعير الشيء فتجحده فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقطع يدها فشفع فيها أسامة رضي الله عنه فأنكر عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال «أتشفع في حد من(8/583)
حدود الله» ثم قام ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاختطب وقال «إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله (أي أحلف بالله) لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (متفق عليه) . الله أكبر هكذا الحق أشرف النساء نسبا فاطمة بنت محمد سيدة نساء أهل الجنة ويقسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو الصادق البار أن لو سرقت لقطع يدها أين الثرى من الثريا أين هذا القول وما كان عليه الناس اليوم من المماطلات في إقامة الحدود والتعليلات الباردة والمحاولات الباطلة لمنع إقامة الحدود وفي الحديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره.
» لقد فرض الله عقوبة القاذف الذي يرمي الشخص المحصن البعيد عن تهمة الزنا فيقول يا زاني أو يا زانية فمن قال له ذلك قيل له إما أن تأتي بالبينة الشرعية على ما قلت وإما حد في ظهرك فإذا لم يأت بها عوقب بثلاث عقوبات يجلد ثمانين جلدة ولا تقبل له شهادة أبدا ويحكم بفسقه فيخرج عن العدالة إلا أن يتوب ويصلح يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 4 - 5]
وإنما أوجب الله عقوبته بتلك العقوبات حماية للأعراض ودفعا عن تهمة المقذوف البريء البعيد عن التهمة.
وفرض الله عقوبة الزاني وجعلها على نوعين نوع بالجلد مائة جلدة أمام الناس ثم ينفى عن البلد لمدة سنة كاملة وذلك فيما إذا لم يسبق له زواج تمتع فيه بنعمة الجماع المباح يقول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] ويقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» . والنوع الثاني من عقوبة الزناة الرجم بالحجارة حتى يموت ثم يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدعى له بالرحمة ويدفن مع المسلمين وتلك العقوبة فيمن سبق له زواج فيه بالجماع المباح وإن كان حين فعل الفاحشة لا زوج معه يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على منبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه(8/584)
الكتاب فكان فيما أنزل الله عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها فرجم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وإن الرجم حق في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل (يعني الحمل) أو الاعتراف هكذا أعلن أمير المؤمنين على منبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الملأ حتى لا ينكر الرجم إذا لم يجدوا الآية في كتاب الله تعالى والله تعالى يمحو ما يشاء ويثبت وقد نسخت آية الرجم من القرآن لفظا وبقي حكمها إلى يوم القيامة لتتميز هذه الأمة عن بني إسرائيل بالانقياد التام فبنو إسرائيل فرض عليهم رجم الزاني إذا أحصن ونصه في التوراة وحاولوا إخفاءه حين قرأ قارئهم التوراة عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذه الأمة نسخ الله لفظ آية الرجم فلا توجد فيه لفظا فعملوا بها لعلمهم ببقاء حكمها وتنفيذ رسولهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه الراشدين لهذا الحكم. وإنما كانت عقوبة الزاني المحصن بهذه الصورة المؤلمة دون القتل بالسيف لأن هذه العقوبة كفارة للذة محرمة اهتز لها جميع بدنه فكان من المناسب والحكمة أن تشمل العقوبة جميع بدنه بألم تلك الحجارة.
إن عقوبة الزاني بهذين النوعين من العقوبة لفي غاية الحكمة والمناسبة: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132] وإن إيجاب عقوبة الزاني من رجل أو امرأة لعين الرحمة للخلق لما فيه من القضاء على مفسدة الزنا المدمر للمجتمعات المفسد للأخلاق والسلوك الموجب لضياع الأنساب واختلاط المياه المحول للمجتمع الإنساني إلى مجتمع بهيمي لا يهتم إلا بملء بطنه وشهوة فرجه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء: 32]
أما اللواط وهو جماع الذكر للذكر فلذلكم الفاحشة العظمى والجريمة النكراء هدم للأخلاق ومحق للرجولة وقتل للمعنوية وجلب الدمار وسبب للخزي والعار وقلب للأوضاع الطبيعية تمتع في غير محله واستحلال في غير حله الفاعل ظالم لنفسه حيث جرها إلى هذه الجريمة والمفعول به مع ذلك مهين لنفسه حيث رضي أن يكون مع الرجال بمنزلة النسوان لا تزول ظلمة الذل والهوان من وجهه حتى يموت أو يتوب توبة نصوحا يستنير بها قلبه ووجهه وكلاهما الفاعل والمفعول به ظالم لمجتمعه حيث نزلوا بمستوى المجتمع إلى هذه الحال المقلوبة التي لا ترضاها ولا البهائم ومن أجل مفاسده العظيمة كانت عقوبته أعظم من عقوبة الزنا(8/585)
ففي الحديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: «من وجدتموه يعمل عمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعو ل به» . واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتل الفاعل والمفعول به، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يختلف أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قتله سواء كان فاعلا أم مفعولا به ولكن اختلفوا كيف يقتل، فقال بعضهم يرجم بالحجارة، وقال بعضهم يلقى من أعلى شاهق في البلد، وقال بعضهم يحرق بالنار وإنما كانت هذه عقوبة تلك الفاحشة لأنها قضاء على تلك الجرثومة الفاسدة التي إذا ظهرت في المجتمع فيوشك أن تدمره تدمير النار للهشيم، ففي القضاء عليها مصلحة الجميع وحماية المجرمين أن يملى لهم في البقاء في الدنيا فيزدادوا إثما وطغيانا والله عليم حكيم.
اللهم إنا نسألك أن تحمينا وأمتنا عن مساوئ الأخلاق وعن موجبات سخطك وعقابك، وأن تهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.(8/586)
[الخطبة الرابعة في أنواع الحدود]
الخطبة الرابعة
في أنواع الحدود الحمد لله القوي العظيم العزيز الحكيم شرع عقوبة المجرمين منعا للفساد ورحمة للعالمين وكفارة لجرائم الطاغين المعتدين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل النبيين وقائد المصلحين، وأرحم الخلق أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمته عليكم وحكمته فيما شرع لكم من هذا الدين القويم الكامل الجامع بين الرحمة والحكمة رحمة في إصلاح الخلق وحكمة في سلوك الطريق الموصل إلى هذا الهدف.
أيها الناس إن من طبيعة البشر أن يكون لهم أفكار متباينة ونزعات مختلفة فمنها نزعات إلى الحق والخير ومنها نزعات إلى الباطل والشر كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2] وقال تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] ولما كانت النفوس الشريرة والنزعات الباطلة والأعمال السيئة في حاجة ملحة إلى ما يكبح جماحها ويخفف من حدتها فرض رب العالمين برحمته وحكمته حدودا وعقوبات متنوعة بحسب الجرائم لتردع المعتدي وتصلح الفاسد وتقيم الأعوج وتكفر عن المجرم جريمته فلا يجمع له بين عقوبتي الدنيا والآخرة.
ففرض عقوبة القاذف الذي يصف المحصنين الأعفاء بالزنا فإذا قال المرء لرجل عفيف أو امرأة عفيفة عن الزنا يا زاني أو يا زانية طولب بالبينة التي تثبت ذلك فإن أتى بها وإلا جلد ثمانين جلدة ولم تقبل له شهادة أبدا وكان من الفاسقين إلا أن يتوب وإنما أوجب الله جلده ثمانين حماية للأعراض ودفعا عن تهمة المقذوف قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآيتين. وفرض الله عقوبة الزاني إذا لم يكن محصنا بأن يجلد مائة جلدة أمام الناس وينفى عن البلد مدة سنة كاملة، أما إذا كان الزاني محصنا وهو الذي قد تزوج وجامع زوجته فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت ثم يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن مع المسلمين. وإنما أوجب الله رجمه بالحجارة دون أن يقتل بالسيف لأن اللذة المحرمة شملت جميع بدنه فكان من الأنسب أن يرجم(8/587)
بالحجارة لينال العقاب جميع بدنه قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» وأما الرجم فكان متلوا في كتاب الله قرأه الصحابة رضي الله عنهم ولكن الله نسخ لفظه وبقي حكمه إلى يوم القيامة كما خطب بذلك عمر رضي الله عنه في يوم الجمعة فقال إن الله بعث محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها ورجم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورجمنا بعده.
أيها المسلمون وإنما كانت عقوبة الزنا على هذا الوجه لأنه فاحشة مفسد للأخلاق والسلوك {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] وإنه مفسد للمجتمع بضياع الأنساب واتباع الشهوات كالبهائم.
وأما اللواط وهو جماع الذكر بالذكر فهو الفاحشة العظمى والجريمة النكراء هدم للأخلاق ومحق للرجولة وقتل للمعنوية وجلب للدمار وسبب للخزي والعار، الفاعل ظلم نفسه حيث جرها إلى هذه الجريمة والمفعول به أهان نفسه حيث رضي أن يكون مع الرجال بمنزلة النسوان لا تزول ظلمة الذل والهوان من وجهه حتى يموت ولذلك كانت عقوبة اللواط القتل بكل حال سواء كان من محصن أم غير محصن يقتل الفاعل والمفعول به إذا كان راضيا وكان كل منهما بالغا غير مختل العقل لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» واتفق الصحابة على قتله قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يختلف أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قتله سواء كان فاعلا أم مفعولا به ولكن اختلفوا كيف يقتل فقال بعضهم يرجم بالحجارة وقال بعضهم يلقى من أعلى شاهق في البلد وقال بعضهم يحرق بالنار.
وفرض الله عقوبة السارق رجلا كان أو امرأة بقطع يده اليمنى من مفصل الكف قال تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «تقطع اليد يعني يد السارق في ربع دينار فصاعدا» وإنما فرض الله عقوبة السارق بقطع يده حفظا للأموال ومنعا للفوضى والعدوان في المجتمع.(8/588)
وفرض عقوبة المحاربين لله ورسوله وهم قطاع الطرق الذين يعرضون للناس بالقوة فيأخذون أموالهم أو يجمعون بين أخذ المال وقتل النفس فقال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] فإذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا بدون صلب وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم من مفصل الكف وأرجلهم اليسرى من مفصل العقب وإذا لم يأخذوا المال ولم يقتلوا بل أخافوا الناس فقط أبعدوا عن البلاد حتى ينكف شرهم فإن لم ينكف بذلك حبسوا. وإنما استحق قطاع الطريق هذه العقوبة لعظم جريمتهم وعدوانهم وإخلالهم بالأمن.
وأما شرب الخمر فجلد فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشارب نحو أربعين وجلد فيه أبو بكر أربعين وجلد فيه عمر أربعين في أول خلافته ثم لما عثا الناس في الخمر وفسقوا رفع الجلد فيها إلى ثمانين حين استشار الصحابة فقال عبد الرحمن أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر رضي الله عنه.
أيها المسلمون هذه هي الحدود والعقوبات جعلها الله مناسبة لجرائمها شرعها الله رحمة بالحق وصونا لدمائهم وأعراضهم وأموالهم وصلاحا لمجتمعهم وأمر بإقامتها فور ثبوتها فلا يجوز تأخير إقامة الحد بعد ثبوته إلا لعذر شرعي مثل المرض الذي يرجى زواله أو المرأة الحامل حتى تضع ويأمن حملها. وقد كان أعداء الإسلام والملحدون من المنتسبين إليه يعيبون الإسلام بهذه الحدود ويقولون إن هذا وحشية ولكنهم هم المعيبون الجاهليون وهم الوحشيون الأحمقون يضعون الرحمة في غير أهلها ويدافعون عن المجرم ليتمادى في جرمه فيكون المجتمع كالوحوش يعدو بعضهم على بعض وينتهك بعضه حرمة بعض بلا حدود ولا رادع وفي الواقع أكبر شاهد لذلك فالبلاد التي لا تقام فيها الحدود تنتشر فيها الفوضى ويسودها الخوف والذعر.
وإنا لنرجو للأمة الإسلامية أن يوفقها الله رجالا مخلصين لا تأخذهم في الله لومة لائم لا يراعون الأمم الكافرة ولا يخافون عيبها ولا إرجافها ولا يغترون بمدنيتها الزائفة الباطلة ولا يراعون شريفا لشرفه ولا قريبا لقربه يقيمون حدود الله ويغارون لحرماته حتى يستتب الأمن وتحصل البركات إنه جواد كريم.(8/589)
[الخطبة الخامسة في التحذير من الخمر]
الخطبة الخامسة
في التحذير من الخمر الحمد لله الذي أباح لنا جميع الطيبات وحرم علينا الخبائث والمضرات أباح لنا الطيبات تفضلا منه وولاية وحرم علينا الخبائث والمضرات عناية منه ووقاية وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتمتعوا بما أحل لكم من الطيبات واشكروه عليها بالقيام بطاعته فإن الشكر سبب للمزيد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] واجتنبوا ما حرم عليكم من المطاعم والمشارب لعلكم تفلحون فإن الله لم يحرمها عليكم إلا لضررها ولو كانت خيرا ما حرمها عليكم فإن الله ذو الفضل العظيم. فلم يحرم عليكم إلا ما فيه ضرر في دينكم أو دنياكم أو فيهما جميعا قال الله تعالى في وصف نبيكم ـ صلى الله عليه وسلم ـ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]
أيها المسلمون، أيها المؤمنون بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن من الخبائث التي حرم الله عليكم على لسان نبيكم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالوحي الذي أوحي إليه ذلكم الشراب الخبيث (الخمر) وهو كل شيء مسكر من مطعوم أو مشروب قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «كل مسكر خمر» وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على منبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخمر ما خامر العقل (متفق عليهما) ومعنى خامر العقل غطاه بالسكر والذهول فالخمر ليس من نوع معين مخصوص بل هو كل ما أسكر وغطى العقل واختل به التمييز سكرا وتلذذا.
أيها المسلمون إن الخمر حرام بكتاب الله تعالى حرام بسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حرام بإجماع المسلمين إجماعا قطعيا معلوما بالضرورة من دين الإسلام لا خلاف فيه ولا نزاع ولا إشكال ولا لبس قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90 - 91](8/590)
وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «كل خمر (وفي رواية كل مسكر) حرام» (رواه مسلم) . وأجمع علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وقديم الزمان وحديثه على أن الخمر حرام إجماعا قطعيا لا ريب فيه فمن قال إنها حلال فهو كافر يستتاب فإن تاب وأقر بتحريمها ترك وإلا قتل كافرا مرتدا لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين وإنما يرمس بثيابه في حفرة بعيدة لئلا يتأذى المسلمون برائحته وأقاربه بمشاهدته ولا يرث أقاربه من ماله وإنما يصرف ماله في مصالح المسلمين ولا يدعى له بالرحمة ولا النجاة من النار لأنه كافر مخلد في نار جهنم: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا - خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا - يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 64 - 66] أيها المسلمون إن من اعتقد أن الخمر حلال فهو مضاد لله مكذب لرسوله خارج عن إجماع المسلمين {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] أما من شرب الخمر وهو يؤمن ويعتقد بأنها حرام ولكن سولت له نفسه بها فشربها فهو عاص لله فاسق عن طاعته مستحق للعقوبة عقوبته في الدنيا أن يجلد بما يراه ولاة الأمور رادعا له ولغيره بشرط أن لا ينقص عما جاء عن السلف الصالح. كان شارب الخمر في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يضرب نحو أربعين ولم يسنه بقدر معين بل كان الناس يقومون إليه فيضربونه بالأيدي والجريد والأردية والنعال فلما عثا الناس فيها وفسقوا جمع عمر الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم في عقوبة تكون أردع للناس الفاسقين بشربها فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أخف الحدود ثمانين فجعله عمر ثمانين، فإذا تكرر من الشارب الشرب وهو يعاقب ولا يرتدع، فقال ابن حزم: يقتل في الرابعة وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: يقتل في الرابعة عند الحاجة إليه إذا لم ينته الناس بدون القتل وهذا عين الفقه؛ لأن الصائل على الأموال إذا لم يندفع إلا بالقتل قتل، فما بالكم بالصائل على أخلاق المجتمع وصلاحه وفلاحه؛ لأن ضرر الخمر لا يقتصر على صاحبه بل يتعداه إلى نسله ومجتمعه.
هذه عقوبة شارب الخمر في الدنيا أما عقوبته في الآخرة فقال أنس بن مالك رضي الله عنه: «لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه(8/591)
وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له» (قال في الترغيب رواته ثقات) ، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة» (رواه مسلم) ، وقال: «ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق بالسحر» (رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن» (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح قاله في الترغيب) .
فاتقوا الله أيها المسلمون، واجتنبوا الخمر لعلكم تفلحون، فلقد وصفت الخمر بأقبح الصفات في كتاب الله وفي سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وصفها الله بأنها رجس من عمل الشيطان وقرنها بالميسر والأزلام وعبادة الأوثان {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر» (رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد) وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن الخمر مفتاح كل شر وجماع الإثم كله. إن شاربها يفقد عقله ويلتحق بالمجانين، إنه ربما يقتل نفسه وهو لا يشعر وربما يزني وهو لا يشعر وربما يعتدي على غيره وهو لا يشعر. روى البيهقي بإسناد صحيح «عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: (اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث) » ، كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس فأحبته امرأة غوية، فأرسلت إليه جارتها أن تدعوه لشهادة فجاء البيت ودخل معها فكانت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى وصل إلى امرأة وضيئة (أي حسناء جميلة) ، جالسة عندها غلام وإناء خمر فقالت له إنها ما دعته لشهادة وإنما دعته ليقع عليها أو يقتل الغلام أو يشرب الخمر، فلما رأى أنه لا بد من أحد هذه الأمور تهاون بالخمر فشربه فسكر ثم زنى بالمرأة وقتل الغلام، قال أمير المؤمنين عثمان: فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه. ومصداق ما قاله أمير المؤمنين رضي الله عنه قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» (متفق عليه) ، (وللنسائي) : فإذا فعل ذلك فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه فإن تاب تاب الله عليه، (وللحاكم) من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه.
أيها المسلمون إن الخمر نقص في الدين وضرر في العقل والنفس والمجتمع أما نقص الدين فقد بان لكم من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه الراشدين ما فيه كفاية(8/592)
وأما ضررها في العقل فإنها تمحوه حين شربها إذا سكر وتضعف العقل بعد الصحو وربما أدى شربها إلى الجنون الدائم كما هو معلوم من أقوال أهل الطب.
وأما ضرر الخمر في النفس فإن شارب الخمر تجده دائما في ضيق وغم وقلق نفس كل كلمة تثيره وكل عمل يضجره لأن قلبه معلق بالخمر لا يسر إلا بتناولها ولا يفرح إلا بالاجتماع عليها فلا يتقن عملا ولا يثمر نتيجة.
وأما ضرر الخمر في المجتمع فهو إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس وقتل المعنويات العالية والأخلاق الفاضلة والإغراء بالزنا واللواط وكبائر الإثم والفواحش كما شهد بذلك الخبيرون بالجرائم وأسبابها.
فاتقوا الله عباد الله واسألوه العصمة من كبائر الإثم والفواحش والتوبة من جميع الإثم والمعاصي وتعاونوا على البر والتقوى ومنه الإثم والعدوان.
اللهم جنبنا منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء ووفقنا للتوبة النصوح والإنابة إليك واغفر لنا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.(8/593)
[الخطبة السادسة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
الخطبة السادسة
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحمد لله القوي العظيم الرقيب الشهيد يدبر خلقه كما يشاء بحكمته فهو الفعال لما يريد أحكم ما شرع وأتقن ما صنع فهو الولي الحميد حد لعباده حدودا ونظم لهم تنظيما وقال لهم {هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] فصار الناس على أقسام فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك القهار فلا ضد له ولا نديد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله القائم بأمر الله الناصح لعباد الله على الرشد والتسديد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 - 2] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33] {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281] {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]
عباد الله لا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور لا تغرنكم الأموال وكثرتها لا يغرنكم رغد العيش ونضارة الدنيا وزهرتها لا يغرنكم ما أنعم الله به عليكم من العافية والأمان ولا يغرنكم إمهاله لكم مع تقصيركم في الواجب والعصيان. إن اغتراركم بهذا من الأماني الباطلة والآمال الكاذبة: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]
عباد الله لقد انتشرت المعاصي في مجتمع الأمة الإسلامية وأصبح ما كان منكرا بالأمس معروفا اليوم، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات تعاملوا بالربا ومنعوا الزكاة ابتعدوا عن الحياء(8/594)
وانتهكوا الحرمات صاروا كالبهائم يطلبون متع الدنيا وإن أضاعوا الدين صدوا عن سبيل الله واتبعوا سبل الكافرين زين لهم سوء أعمالهم فظنوا ذلك تحررا وتقدما وتطورا وما علموا أن ذلك هو الرق تحت قيود الهوى والتأخر عن الفضائل إلى الورى والتدهور إلى الهاوية والردى.
أيها المسلمون المؤمنون بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن أسباب هذا التدهور ترجع إلى أمرين: أحدهما ضعف الدين في النفوس وقوة الداعي إلى الباطل والثانية ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمداهنة في دين الله عز وجل وأن حماية الدين لا تكون إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأمر بما أمر الله به رسوله والنهي عما نهى الله عنه ورسوله بقصد النصيحة لله ولعباد الله.
أيها المسلمون إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة على هذه الأمة التي هي أفضل الأمم وأكرمها على الله إن استقامت على دينه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 104 - 105]
أيها المسلمون إنكم إن قمتم بهذا الذي أمركم الله به كنتم خير أمة أخرجت للناس وإن تركتم ذلك كنتم من شرار الأمم إنه لا نسب بين الله وبين عباده ولكن من اتقاه فهو الكريم عنده وأكرم الناس عند الله اتقاهم له. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقتصر على فئة معينة من الناس إنه واجب على الناس جميعا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» .
أيها المسلمون إن، منا من يظن أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاص بفئة معينة وهذا ظن فاسد فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال «من رأى منكم منكرا» وهذا عام لكل من رأى المنكر يجب أن يغيره بيده بالضرب أو غيره فإن لم يستطع فبلسانه بالكلام والنصح والإرشاد أو الكلام مع ولاة الأمور إن لم ينفع الكلام معه وكل واحد منا يستطيع أن يتكلم مع المسئولين في منع المنكر، ويجب على المسئولين إذ بلغهم أن يقوموا بما أوجب الله عليهم من الإصلاح، ولأن يجتمعوا على ذلك لينالوا الفوز والفلاح إن عليهم أن يتركوا الدعة والسكون وأن يقوموا(8/595)
لله مخلصين له الدين وسوف تكون العاقبة لهم إن العاقبة للمتقين.
أيها المسلمون، إن الأمة لا يمكن أن تكون أمة قوية مرموقة حتى تتحد في أهدافها وأعمالها ولن يمكنها ذلك حتى تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتكون على دين واحد في العقيدة والقول والعمل صراطا مستقيما صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض. أما إذا لم تقم بذلك فإنها تتفكك وتنفصم عراها يكون لكل واحد هدف ولكل واحد طريق وعمل يتفرقون أحزابا كل حزب بما لديهم فرحون {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159]
أيها المسلمون، إذا لم نقم بأمر الله ونسعى في إصلاح مجتمعنا بالالتزام بدين الله فمن الذي يقوم ويسعى بذلك وإذا لم نتكاتف على منع الشر والفساد فكلنا هالك. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون جليسه أو يأكل معه فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوبهم بعضهم على بعض ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكان يعتدون» ، ثم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ «والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم» ولما فتح المسلمون جزيرة قبرص فرق أهلها فبكى بعضهم إلى بعض فرئى أبو الدرداء رضي الله عنه يبكي فقيل له ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، فقال ويحك ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا هم أضاعوا أمره بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.
أيها المسلمون، إن من المؤسف المروع أن نرى مجتمعنا الإسلامي أمة محمد هكذا شعبا متفككا، لا يغارون لدين ولا يخافون من وبال، لا يتفقد الرجل أهله وولده ولا ينظر في جيرانه، بل تراه يرى المعاصي فيهم لا ينهاهم عنها ويرى التقصير في الواجب فلا يتداركه وهذا أيها المسلمون ينذر بالحظر لا سيما مع كثرة النعم والانغماس في الترف يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16](8/596)
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]
اللهم ألهمنا رشدنا وهيئ لنا الخير واجمع كلمتنا على الحق وأبرم لأمتنا أمرا يؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر، يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . إلخ.(8/597)
[الخطبة السابعة في الصبر على الأذى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
الخطبة السابعة
في الصبر على الأذى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر واصبروا على ما أصابكم إن ذلك من عزم الأمور، إن المعروف إذا لم يؤمر به ولم يحي بالعمل به والتواصي فيه ضاع واضمحل، فانهدم بذلك جانب من دينكم وصار العمل به بعد ذلك منكرا مستغربا بين الناس وإن المنكر إذا لم ينه عنه ويحذر الناس بعضهم بعضا منه شاع وانتشر بين الناس وأصبح معروفا لا ينكر ولا يستغرب وقيسوا ذلك بما انتشر بينكم من منكرات كنتم تنكرونها من قبل وتستغربون وجودها بينكم.
إن كثيرا من الناس لا يشكون في فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يمترون في فائدته للأمة ولدينها في الحاضر والمستقبل ولكنهم يتقاعسون عن ذلك، إما تهاونا وتفريطا، وإما اعتمادا على غيرهم وتسويفا، وإما جبنا يلقيه الشيطان في قلوبهم وتخويفا والله يقول: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] وإما يأسا من الإصلاح وقنوطا.
أيها المسلمون ويا أيها المؤمنون إن تخويف الشيطان إياكم أولياءه أو تسليطهم عليكم لا ينبغي أن يمنعكم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ذلك أمر لا بد منه إلا أن يشاء الله امتحانا من الله وابتلاء إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قائم مقام الرسل كما قال الله تعالى في وصف خاتمهم وسيدهم محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] فإذا كان قائما مقام الرسل فلا بد أن يناله من الأذى ما يناله كما قد لاقى الرسل.
ولقد لاقى الأنبياء والرسل من أقوالهم أشد الأذى وأعظمه حتى بلغ ذلك إلى حد القتل قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] فهذا أول الرسل نوح عليه الصلاة(8/598)
والسلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر فكان ملؤهم وأشرافهم يسخرون منه ولكنه صامد في دعوته يقول: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ - فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود: 38 - 39] حتى قالوا متحدين له {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: 32] وقالوا مهددين له {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116] أي من المقتولين رجما بالحجارة.
وهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن وإمام الحنفاء لبث في قومه ما شاء الله، يدعوهم إلى الله تعالى، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبوت: 24] فما ثنى ذلك عزمه ولا أوهنه عن دعوته، مضى في سبيل دعوته إلى ربه بعزم وثبات وأزال منكرهم بيده فغدا على أصنامهم فكسرها حتى جعلها جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون، فلما رجعوا إلى أصنامهم وعلموا أن الذي كسرها إبراهيم طلبوا أن يؤتى به ليوبخوه على أعين الناس فيشهد الناس ما يقول فهل جبن أن يقول قول الحق في هذا المقام العظيم كلا بل قال لهم موبخا: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ - أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66 - 67] فعزموا على تنفيذ ما هددوه به و {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68] فأضرموا نارا عظيمة وألقوا إبراهيم فيها وهي أشد ما تكون اتقادا ولكن رب العزة قال لها {كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] فكانت بردا لا حر فيه وسلاما لا أذى فيه.
وهذا موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ماذا حصل له من فرعون المتكبر الجبار دعاه موسى إلى الله العلي الأعلى وقال {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] فقال فرعون ساخرا به {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] وقال لملئه {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] ثم توعد موسى قائلا {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] فهل خاف موسى من ذلك وهل وهنت عزيمته عن الدعوة إلى الله عز وجل، بل مضى في ذلك حتى بين لفرعون من آيات الله ما يهتدي به أولو الألباب ولكن فرعون استمر في غيه واستكباره وقال مهددا موسى بالقتل ومتحديا له أن يدعو ربه: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26](8/599)
وقال لوزيره هامان ساخرا بالله رب العالمين: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ - أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] ولكن موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ صبر على كل ما لاقاه من فرعون وقومه حتى كانت العاقبة له وكانت نتيجة فرعون وقومه ما ذكر الله: {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ - كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ - وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ - كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 24 - 28]
وهذا عيسى عليه الصلاة والسلام وأوذي من جانب اليهود فكذبوه ورموا أمه بالبغاء أي الزنا وعزموا على قتله واجتمعوا عليه فألقى الله شبهه على رجل فقتلوا ذلك الرجل وصلبوه وقالوا: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [النساء: 157] قال الله تعالى مكذبا لما ادعوه من القتل والصلب: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا - بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157 - 158]
وهذا خاتم الرسل وأفضلهم وسيدهم أعظم الخلق جاها عند الله هل سلم من الأذى في دعوته إلى الله وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؟ لا بل ناله على ذلك من الأذى القولي والفعلي ما لا يصبر عليه إلا من كان مثله ولم ينته عن دعوته إلى الله عز وجل، دعاهم إلى عبادة إله واحد {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ - أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 4 - 5] وكانوا إذا رأوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اتخذوه هزوا وقالوا ساخرين به: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا - إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 41 - 42] {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرقان: 8] {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] فآذوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكل ألقاب السوء والسخرية ولم يقتصروا على ذلك فحسب بل آذوه بالأذى الفعلي فكان أبو لهب وهو عمه وجاره يرمي بالقذر على باب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيزيله ويقول «يا بني عبد مناف أي جوار هذا» . وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «بينما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائم يصلي عند الكعبة وأبو جهل وأصحاب له جلوس إذ قال قائل منهم أيكم يذهب إلى جزور آل فلان أي ناقتهم فيجيء بسلاها ودمها وفرثها فيضعه على ظهر محمد إذا سجد فذهب أشقى القوم فجاء به فلما(8/600)
سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه قال ابن مسعود رضي الله عنه وأنا أنظر لا أغني شيئا لو كانت لي منعة فجعل أبو جهل ومن معه يضحكون حتى يميل بعضهم إلى بعض من الضحك ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ساجد لا يرفع رأسه حتى جاءت ابنته فاطمة تسعى وهي جويرية حتى ألقته عنه فلما قضى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصلاة قال اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش ثم سمى فلانا وفلانا» . وفي صحيح البخاري أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: «بينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر رضي الله عنه فأخذ بمنكبي عدو الله ودفعه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم، ولما اشتد به الأذى من قومه خرج إلى الطائف رجاء أن يؤوه ويمنعوه من قومه فلقي منهم أشد ما يلقى من أذى، وقالوا اخرج من بلادنا وأغروا به سفاءهم يقفون له في الطريق ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب» .
أيها المسلمون: إن هذا الصبر العظيم على هذا الأذى الشديد الذي لقيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإخوانه لأكبر عبرة يعتبرها المؤمنون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ليصبروا على ما أصابهم ويحتسبوا الأجر من الله ويعلموا أن للجنة ثمنا {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214](8/601)
[الفرع العاشر في الأمانة]
[الخطبة الأولى في المحافظة على الأمانة]
الفرع العاشر
في الأمانة الخطبة الأولى
في المحافظة على الأمانة الحمد لله الذي جعل الأمانة في قلوب الرجال بعد أن أبى عن حملها السماوات والأرض والجبال، جعل الأمانة في قلوب بني آدم ذكورا وإناثا لأنه ركب فيهم عقولا بها يفقهون وبصائر بها يهتدون فتحملوا الأمانة مخاطرين ليعلوا بأدائها إلى درجة المؤمنين المتقين أو لينزلوا بإضاعتها إلى أسفل السافلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، خلق فأتقن وشرع فأحكم وهو أحكم الحاكمين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بلغ رسالة ربه وأدى أمانته على الوجه الأكمل وعبد ربه حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وأدوا ما حملتم من الأمانة فحملتموه لقد عرض الله الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا أدوا الأمانة بالقيام بما أوجب الله عليكم من عبادته وحقوق عباده ولا تخونوا الله ورسوله وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون لا تخونوا في ذلك بإفراط أو تفريط بزيادة أو نقص فإن الخيانة نقص في الإيمان وسبب للخسران والحرمان. وفي الحديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال «لا إيمان لمن لا أمانة له» . وقال «آية المنافق ثلاث» - أي علامته التي يتميز بها وخلقه الذي يتخلق به - «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم» . وقال «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان ابن فلان» يرفع له هذا اللواء فضيحة له بين الخلائق وخزيا وعارا.
أيها المسلمون: إن الأمانة في العبادة والمعاملة، فالأمانة في العبادة أن تقوم بطاعة الله تعالى مخلصا له متبعا لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تمتثل أوامره وتجتنب نواهيه تخشى الله في السر والعلانية تخشاه حيث يراك الناس وحيث لا يرونك لا تكن ممن يخشى الله في العلانية ويعصيه في السر فإن هذا هو الرياء ألم تعلم أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ألم تعلم أن الله أنكر على من هذه حاله بقوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 77]- {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108](8/602)
وأما الأمانة في المعاملة فأن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به في النصح والبيان، وأن تكون حافظا لحقوقهم المالية وغير المالية من كل ما استؤمنت عليه لفظا أو عرفا. فتكون الأمانة بين الرجل وزوجته، يجب على كل منهما أن يحفظ الآخر في ماله وسره، فلا يحدث أحدا بذلك. فقد صح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: «إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر أحدهما سر صاحبه» . وتكون الأمانة بين الرجل وصاحبه، يحدثه بحديث سر يعلم أنه لا يحب أن يطلع عليه أحد ثم يفشي سره ويحدث به الناس. وفي الحديث «إذا حدث الرجل رجلا بحديث ثم التفت فهو أمانة» لأن التفاته دليل على أنه لا يحب أن يسمعه أحد.
وتكون الأمانة في البيع والشراء والإجارة والاستئجار، فلا يجوز للبائع أن يخون المشتري بنقص في الكيل أو الوزن أو زيادة الثمن أو كتمان العيب أو تدليس في الصفة، ولا يجوز للمشتري أن يخون البائع بنقص في الثمن أو إنكار أو مماطلة مع القدرة على الوفاء. ولا يجوز للمؤجر أن يخون المستأجر بنقص شيء من مواصفات الأجرة أو غير ذلك. ولا يجوز للمستأجر أن يخون المؤجر بنقص الأجرة أو إنكارها أو تصرف يضر المستأجر من دار أو دكان أو آلة أو مركوب.
وتكون الأمانة في الوكالات والولايات، فيجب على الوكيل أن يتصرف بما هو أحسن ولا يجوز أن يخون موكله فيبيع السلعة الموكل في بيعها بأقل من قيمتها محاباة للمشتري، أو يشتري السلعة الموكل في شرائها بأكثر من قيمتها محاباة للبائع. وفي الولايات كل من كان واليا على شيء خاص أو عام فهو أمين عليه، يجب أن يؤدي الأمانة فيه، فالقاضي أمين والأمير أمين ورؤساء الدوائر ومديروها أمناء، يجب عليهم أن يتصرفوا فيما يتعلق بولايتهم بالتي هي أحسن في ولايتهم، وفيما ولوا عليه حسبما يستطيعون، وأولياء اليتامى وناظرو الأوقاف وأوصياء الوصايا كل هؤلاء أمناء يجب عليهم أن يقوموا بالأمانة بالتي هي أحسن.
ألا وإن من الأمانة ما يتصل بالثقافة والإرشاد والتعليم فعلى القائمين على ذلك من(8/603)
مخططي المناهج ومديري الأقسام والمشرفين عليها أن يراعوا الأمانة في ذلك باختيار المناهج الصالحة، والمدرسين الصالحين المصلحين، وتثقيف الطلبة علميا وعمليا دينا ودنيا عبادة وخلقا.
وإن من الأمانة في ذلك حفظ الاختبار من التلاعب والتهاون حفظه في وضع الأسئلة، بحيث تكون في مستوى الطلبة عقليا وفكريا وعلميا؛ لأنها إن كانت فوق مستواهم أضرت بهم وحطمتهم وأضاعت كل عامهم الدراسي، وإن كانت الأسئلة دون مستواهم أضرت بمستوى الثقافة العامة في البلاد. وحفظ الاختبار وقت الإجابة على الأسئلة بحيث يكون المراقب فطنا حازما لا يدع فرصة للتلاعب ولا يحابي ابنا لقريب ولا لصديق لأنهم هنا على درجة واحدة، كلهم في ذمة المراقب وعهدته سواء. وحفظ الاختبار وقت تصحيح الأجوبة بحيث يكون التصحيح دقيقا لا يتجاوز فيه ما يسمح به النظام، حتى لا يظلم أحد على حساب الآخر ولا ينزل طالب إلا في المنزلة التي يستحقها.
إننا إذا حافظنا على هذه الأمانة في الاختبار في مواضعه الثلاثة فهو من مصلحة الأمة كلها ومن مصلحة العلم فهو من مصلحة القائمين على الاختبارات بأداء الواجب عليهم وإبراء ذممهم، ومن مصلحة الطلبة حيث يحصلون على مستوى علمي رفيع ولا يكون حظهم من العلم بطاقة يحملونها أو لقبا لا يستحقون معناه، وهو من مصلحة العلم حيث يقوى ويزداد حقيقة، ولا يهمنا عند ضبط الاختبار أن يكون الناجحون قليلا؛ لأن العبرة بالكيفية لا بالكمية، وإذا كانوا قليلا في عام كانوا كثيرا في العام الذي يليه حيث يعتادون على الجد ويستعدون له.
وفقني الله وإياكم لأداء الأمانة وإبراء الذمة وحفظنا من إضاعتها والتساهل فيها إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . إلخ.(8/604)
[الخطبة الثانية فيما تكون فيه الأمانة]
الخطبة الثانية
فيما تكون فيه الأمانة الحمد لله الذي فرض على العباد أداء الأمانة، وحرم عليكم المكر والخيانة وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من يرجو بها النجاة يوم القيامة وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي ختم به الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الموصوفين بالعدالة وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وأدوا الأمانة التي حملتموها وتحملتم مسئوليتها حملتموها بما وهبكم الله من العقل وأرسل إليكم من الرسل. أدوا الأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا. أدوا الأمانة فإنكم عنها مسئولون وعلى حسب القيام بها. أو التفريط فيها مجزيون، فإما مغتبطون بها مسرورون، وإما نادمون في إضاعتها حزنون، أدوا الأمانة فيما بينكم وبين الله وأدوها فيما بينكم وبين عباد الله.
أما أداؤها فيما بينكم وبين ربكم فأن تقوموا بطاعته مخلصين له الدين وتتعبدوا بما شرعه متبعين لرسوله غير زائدين عليه ولا ناقصين فلن يقبل الله عملا حتى يكون خالصا لوجهه موافقا لشرعه.
وأما أداء الأمانة فيما بينكم وبين العباد فأن تقوموا بما أوجب الله عليكم من حقوقهم بحسب ما يقتضيه العمل الذي التزم به الإنسان نحو غيره من الناس. فولاة الأمور صغارا كانوا أو كبارا رؤساء أو مديرين أمانتهم أن يقوموا بالعدل فيما ولوا عليه، وأن يسيروا في ولايتهم حسبما تقتضيه المصلحة في الدين والدنيا وأن لا يحابوا في ذلك قريبا ولا صديقا ولا قويا ولا غنيا ولا شريفا، فلقد أقسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو الصادق بدون قسم لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع يدها. أقسم على ذلك علنا وهو يخطب الناس، حينما شفع إليه في رفع الحد عن المرأة التي من بني مخزوم، أقسم على ذلك تشريعا للأمة وتبيانا للمنهج السليم الذي يجب أن يسير عليه ولاة الأمور. وعلى ولاة الأمور أن يولوا الأعمال من هو أحق بها وأجدر وأقوم وأنفع. إن من خيانة الأمة وخيانة العمل أن يولى على المسلمين أحد وفيهم من هو خير منه في ذلك العمل.(8/605)
والموظفون أمانتهم في وظائفهم أن يقوموا بها على الوجه المطلوب، وأن لا يتأخروا في أعمالهم أو يتشاغلوا بغيرها إذا حضروا مكان العمل وأن لا يتعدوا في أمر لا يعنيهم فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. إن بعض الموظفين يخدعون أنفسهم حينما يحدثونها إذا تأخروا عن واجبهم بأن هذه الأنظمة ليست أمورا دينية أو أن الأجرة أو الراتب الذي يأخذه من بيت المال ونحو ذلك، وهذه خدعة يغترون بها. أما النظام فما دام ولاة الأمور قد نظموه وهو لا يخالف الشريعة فإن الواجب طاعتهم فيه، وطاعتهم فيه من طاعة الله قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وأما الراتب الذي تأخذه من بيت المال فإنما تستحقه في مقابلة عمل، فإن قمت بالعمل كان الراتب حلالا لك وإلا فما الذي يحلله لك ويحرمه على الآخرين الذين ليسوا في وظيفة عن من لا يقوم بواجب وظيفته هو في استحقاق ما يستحقه من بيت المال ومن ليس بموظف على حد سواء. فاتق الله أيها المسلم، وقم بما يلزمك نحو وظيفتك طاعة لله واتقانا للعمل، وإبراء للذمة وتحليلا لراتب وظيفتك.
وإن من واجب الأمانة في الوظيفة أن لا تقدم معاملة أحد على أحد أولى منه، لأنه قريبك أو صديقك أو أهدى إليك هدية أو دفع إليك رشوة، أو ترجو منه أن يسهل لك مهمة أخرى من قبله أو لغير ذلك من الاعتبارات غير الشرعية، فإن بعض الناس يتهاون بذلك وهو من خيانة الوظيفة ومن ظلم الخلق تجد شخصين يقدمان كل منهما معاملة فتنتهي معاملة أحدهما في أيام ولا تنتهي معاملة الثاني إلا في شهور من غير اعتبار شرعي يخول ذلك التقديم، ربما يتعلل بأن هذا شرس يجب أن يفتك منه أو نحو ذلك، وهذا غير مبرر للتقديم ولولا واجب العدالة لقلت إن الشرس ينبغي أن يؤخر عقوبة له على شراسته.
ورعاة الأمور الذين شرفهم الله برعاية مصالح البلد ورزقهم من الوجاهة والحسب ما استحقوا به أن يكون رعاة لمصالح بلدهم أمانتهم، أن يقوموا بهذه الرعاية حق رعايتها، مشيرين فيما لا يستطيعون الإلزام به، وملزمين فيما لهم حق الإلزام به وأن يراعوا المصالح الدينية والدنيوية فيما رفع إليهم وما لم يرفع لأنهم، رعاة مصلحة البلد ومتى بذلوا الجهد مخلصين لله تعالى مبتغين مصلحة بلدهم سالكين سبيل الحكمة والعزم فسيوفقهم الله تعالى(8/606)
ويهيئ لهم من المسئولين آذانا صاغية وأعمالا جادة فإن الله لا يضيع أجر المصلحين.
وولاة الأمور الخاصة كالرجل في أهله وولده، أمانتهم أن يقوموا بتربية أولادهم وتوجيههم وإرشادهم ومراقبتهم مراقبة تامة، لا سيما في الوقت الذي تكثر فيه الفتن وتشتد فيه المنكرات، فإن الأمانة تحتم عليهم الرقابة أكثر مما إذا خفت الفتن وقلت المنكرات، ألسنا في أموالنا إذا كثرت السرقة وكثرت الخيانة نتحفظ فيها أكثر ونطلب لها المكان الأحرز فكذلك يجب علينا في أولادنا، بل ملاحظة أولادنا أوجب علينا من ملاحظة المال، لما في إهمالهم من الخطر علينا وعلى أنفسهم وعلى الأجيال المقبلة كلها، إن أولادنا وليس أموالنا هم الذين يصحبوننا في الجنة إذا تبعونا في الإيمان: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] إن كل واحد من الناس لا يرضى أن يكون منعما في الجنة وأولاده معذبين في النار. إننا نجزم أن الشخص لو رأى النار في الدنيا تأكل ولده أو قريبه لسعى بكل جهده في دفعها عنه، أفلا يعقل ويقيس كيف يرى ولده يسعى في المعاصي التي هي أسباب دخول النار ثم لا يبالي بذلك مع أن إهماله يوجب أن يعذب عليه لأنه عاص لله حيث قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]
فاتقوا الله أيها المسلمون وأدوا أمانة الله التي حملتموها فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27 - 28]
وفقني الله وإياكم لأداء الأمانة وحمانا جميعا من الإضاعة والخيانة وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.(8/607)
[الخطبة الثالثة في أمانة اختبار الطلاب]
الخطبة الثالثة
في أمانة اختبار الطلاب الحمد لله أحمده وأشكره وأتوب إليه سبحانه وأستغفره قضى بالحق وأمر بالعدل وهو السميع البصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي قام بعبادة ربه ونصح أمته وبلغ البلاغ المبين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون فقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] وقال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] سبحان الله، ما أظلم الإنسان وما أجهله، تعرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فيمتنعن عن حملها ثم يأتي الإنسان فيتحملها نعم إن الإنسان هو الذي تحملها بما وهبه الله من عقل وما أعطاه من إرادة وتصرف: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]
إن الأمانة مسئولية عظيمة وعبء ثقيل على غير من خففه الله عليه، إنها التزام الإنسان بالقيام بحق الله وعبادته على الوجه الذي شرعه مخلصا له الدين وهي كذلك التزام بالقيام بحقوق الناس من غير تقصير، كما تحب أن يقوموا بحقوقك من غير تقصير، ونحن بني الإنسان قد تحملنا الأمانة وحملناها على عواتقنا والتزمنا بمسئوليتها وسنسأل عنها يوم القيامة، فيا ليت شعري ما هو الجواب إذ سئلنا في ذلك اليوم العظيم اللهم تثبيتا وصوابا.
أيها المسلمون، إن الله أمرنا أن نؤدي الأمانات إلى أهلها وأمرنا إذا حكمنا بين الناس أن نحكم بالعدل، هذان أمران لا تقوم الأمانة إلا بهما، أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل، وإننا الآن على أبواب اختبارات الطلبة من ذكور وإناث وإن الاختبارات أمانة وحكم فهي أمانة حين وضع الأسئلة وأمانة حين المراقبة وحكم حين التصحيح. أمانة حين وضع الأسئلة يجب على واضعي الأسئلة مراعاتها بحيث تكون على مستوى الطلبة المستوى الذي(8/608)
يبين مدى تحصيل الطالب في عام دراسته بحيث لا تكون سهلة لا تكشف عن تحصيل ولا صعبة تؤدي إلى التعجيز.
والاختبارات أمانة حين المراقبة فعلى المراقب أن يراعي تلك الأمانة التي ائتمنته عليها إدارة المدرسة، ومن ورائها وزارة أو رئاسة وفوق ذلك دولة بل ائتمنه عليها المجتمع كله، فعلى المراقب أن يكون مستعينا بالله يقظا في رقابته مستعملا حواسه السمعية والبصرية والفكرية يسمع وينظر ويستنتج من الملامح والإشارات، على المراقب أن يكون قويا لا تأخذه في الله لومة لائم يمنع أي طالب من الغش أو محاولة الغش؛ لأن تمكين الطالب من الغش غش، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «من غش فليس منا» . وتمكين الطالب من الغش ظلم لزملائه الحريصين على العلم، المجدين في طلبه، الذين يرون من العيب أن ينالوا درجة النجاح بالطرق الملتوية. إن المراقب إذا مكن أحدا من هؤلاء المهملين الفاشلين في دراستهم إذا مكنهم من الغش، فأخذ درجة نجاح يتقدم بها على الحريصين المجدين كان ذلك ظلما لهم وكان كذلك ظلما للطالب الغاش، وهو في الحقيقة مغشوش حيث انخدع بدرجة نجاح وهمية لم يحصل بها على ثقافة ولا علم، ليس له من ثقافته ولا علمه سوى بطاقة يحمل بها شهادة زيف لا حقيقة، وإذا بحثت معه في أدنى مسألة مما تنبئ عنه هذه البطاقة لم تحصل منه على علم. إن تمكين الطالب من الغش خيانة لإدارة المدرسة، وللوزارة أو الرئاسة التي من ورائها، وخيانة للدولة وخيانة للمجتمع كله. وإن تمكين الطالب من الغش أو تلقينه الجواب بتصريح أو تلميح ظلم للمجتمع، وهضم لحقه حيث تكون ثقافته مهلهلة يظهر فشلها عند دخول ميادين السباق، ويبقى مجتمعنا دائما في تأخر وفي حاجة إلى الغير، وذلك لأن كل من نجح عن طريق الغش لا يمكن - إذا رجع الأمر إلى اختياره - أن يدخل مجال التعليم والتثقيف لعلمه أنه فاشل فيه. وإن تمكين الطالب من الغش كما يكون خيانة وظلما من الناحية العلمية والتقديرية، يكون كذلك خيانة وظلما من الناحية التربوية لأن الطالب بممارسته الغش يكون مستسيغًا له هينًا في نفسه فيتربى عليه ويربى عليه أجيال المستقبل، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
إن على المراقب أن لا يراعي شريفا ولا قريبا لقرابته ولا غنيا لماله إن عليه(8/609)
أن يراقب الله عز وجل الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، عليه أن يؤدي الأمانة كما تحملها لأنه مسئول عنها يوم القيامة. ولربما قال مراقب إذا أديت واجب المراقبة إلى جنب من يضيع ذلك فقد أرى بعض المضايقات، فجوابنا عليه أن نقول اتق الله تعالى فيما وليت عليه واقرأ قول الله تعالى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] وقوله {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]
أيها المسلمون: إن الاختبارات حكم حين التصحيح فإن المعلم الذي يقدر درجات أجوبة الطلبة، ويقدر درجات سلوكهم هو حاكم بينهم لأن أجوبتهم بين يديه بمنزلة حجج الخصوم بين يدي القاضي، فإذا أعطى طالبا درجات أكثر مما يستحق فمعناه أنه حكم له بالفضل على غيره مع قصوره، وهذا جور في الحكم، وإذا كان لا يرضى أن يقدم على ولده من هو دونه فكيف يرضى لنفسه أن يقدم على أولاد الناس من هو دونهم. إن من الأساتذة من لا يتقي الله تعالى في تقدير درجات الطلبة فيعطي أحدهم ما لا يستحق، إما لأنه ابن صديقه أو قريبه أو ابن شخص ذي شرف أو مال أو رئاسة، ويمنع بعض الطلبة ما يستحق إما لعداوة شخصية بينه وبين الطالب أو بينه وبين أبيه أو غير ذلك من الأسباب وهذا كله خلاف العدل الذي أمر الله به ورسوله فإقامة العدل واجبة بكل حال على من تحب ومن لا تحب، فمن استحق شيئا وجب إعطاؤه إياه ومن لا يستحق شيئا وجب حرمانه منه. أرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبد الله بن رواحة إلى اليهود في خيبر ليخرص عليهم الثمار والزروع ويضمنهم ما للمسلمين منها، فأراد اليهود أن يعطوه رشوة فقال رضي الله عنه منكرا عليهم تطعموني السحت والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلى، يعني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولأنتم أبغض إليّ من عدتكم من القردة والخنازير ولا يحملني بغضي لكم وحبي إياه أن لا أعدل عليكم، فقالوا بهذا قامت السماوات والأرض. تأملوا رحمكم الله هذا الكلام العظيم من عبد الله بن رواحة رضي الله عنه كان يحب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعظم من محبة أي إنسان، ويبغض اليهود أشد من بغض القردة والخنازير، حب بالغ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبغض شديد لليهود يصرح بذلك رضي الله عنه لليهود ثم يقول لهم لا يحملني بغضي لكم وحبي إياه أن لا أعدل عليكم رضي الله عنك وعن جميع الصحابة.
إن العدل أيها الإخوة لا يجوز أن يضيع بين عاطفة الحب(8/610)
وعاصفة البغض يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8] ويقول سبحانه: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] ويقول تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] القاسطون هم الجائرون وهم من حطب جهنم والمقسطون هم العادلون وهم من أحباب الله، وفي الحديث الصحيح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» . وقال صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم وعفيف متعفف ذو عيال» (رواهما مسلم) . فاتقوا الله عباد الله وكونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين.
وفقني الله وإياكم لأداء الأمانة والحكم بالعدل والاستقامة وثبتني وإياكم على الهدى وجنبنا أسباب الهلاك والردى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(8/611)
[الخطبة الرابعة في وجوب رعاية الأولاد والأهل]
الخطبة الرابعة
في وجوب رعاية الأولاد والأهل الحمد لله الذي من علينا بنعمة الأولاد، وفتح لنا من أسباب الهداية كل باب، ورغب في طرق الصلاح وحذر من طرق الفساد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الكريم الوهاب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الخلق بلا ارتياب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من نعمة الأولاد واعلموا أن هذه النعمة فتنة للعبد واختبار، فإما منحة تكون قرة عين في الدنيا والآخرة سرور للقلب وانبساط للنفس وعون على مكابد الدنيا وصلاح يحدوهم إلى البر في الحياة وبعد الممات، اجتماع في الدنيا على طاعة الله، واجتماع في الآخرة في دار كرامة الله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] وإن من أسباب هذه المحنة أن يقوم الوالد من أم وأب والأب هو المسئول الأول، لأنه راع في أهله ومسئول عن رعيته أن يقوم كل من الوالدين على أولاده وفي أولاده بما يجب عليه من رعاية وعناية وتربية صالحة ليخلف بعده ذرية صالحة تنفعه وتنفع المسلمين فإن العبد متى أصلح ما بينه وبين ربه أصلح الله له ما بينه وبين الخلق ومع حسن النية والاستعانة بالله وكثرة دعائه، واللجوء إليه يحصل الخير الكثير والتربية الصالحة. يقول الله تعالى في وصف عباد الرحمن {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] فوالله ما سألوا ذلك وقعدوا عن فعل الأسباب فإن العقل والشرع كل منهما يقتضي أنك إذا سألت الله شيئا فلا بد أن تفعل ما تقدر عليه من أسبابه فإن كل أحد لو سأل الله رزقا لسعى في أسبابه لأنه يعلم أن السماء لا تمطر ذهبا ولو سأل الله ذرية لسعى في حصول الزوجة لأن الأرض لا تنبت أولادا وهكذا إذا سأل الله صلاح ذريته، وأن تكون قرة عين له فلا بد أن يسعى بما يقدر عليه من أسباب ذلك؛ لتكون نعمة الأولاد منحة. أما الشطر الثاني من نعمة الأولاد فأن تكون محنة وعناء وشقاء وشؤما على أهلهم ومجتمعهم، وذلك فيمن لم يقم بما أوجب الله عليه لهم من رعاية وعناية وتربية صالحة، أهملهم فلم يبال بهم أكبر همه نحوهم حين كانوا شهوة قذفها في رحم الأم أضاع حق الله فيهم فأضاعوا حق الله فيه(8/612)
لم يحسن إليهم بالتربية فلم يحسنوا إليه بالبر جزاء وفاقا ففاته نفعهم في الدنيا والآخرة، وأصبح من الخاسرين وليكونن من النادمين {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15]
لقد ضل أقوام اعتنوا بتنمية أموالهم ورعايتها وصيانتها وحفظها فأشغلوا أفكارهم وأبدانهم وانشغلوا بها عن راحتهم ومنامهم ثم نسوا أهلهم وأولادهم وما هي قيمة هذه الأموال بالنسبة للأهل والأولاد أليس من الأجدر بهؤلاء أن يخصصوا شيئا من قواهم الفكرية والجسمية لتربية أهلهم وأولادهم، حتى يكونوا بذلك شاكرين لنعمة الله ممتثلين لأمره حيث يقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] لقد جعل الله لكم الولاية، وحملكم مسئولية الأهل، أمركم بأن تقوا أنفسكم وأهليكم تلك النار المزعجة، لم يأمركم أن تقوا أنفسكم فحسب بل أنفسكم وأهليكم، ومن عجب أن هؤلاء المضيعين لأمر الله في حق أولادهم وأهليهم لو أصابت نار الدنيا طرف من ولده أو كادت، لسعى بكل ما يستطيع لدفعها وهرع إلى كل طبيب للشفاء من حرقها، أما نار الآخرة فلا يحاول أن يخلص أولاده وأهله منها.
أيها الناس: إن على كل واحد منا أن يراقب أهله وأولاده في حركاتهم وسكناتهم، في ذهابهم وإيابهم في أصحابهم وأخلائهم، حتى يكون على بصيرة من أمرهم، ويقين في اتجاهاتهم وسيرهم، فيقر ما يراه من ذلك صالحا وينكر ما يراه فاسدا ويكلمهم بصراحة ويأخذ منهم ويرد عليهم ولا يغضب فيجفوهم، ويعرض عنهم فإن ذلك يزيد من البلاء والفساد.
إن الإنسان إذا لم يقم على مراقبة أهله وأولاده وتربيتهم تربية صالحة فمن الذي يقوم عليها؟ هل يقوم عليها أباعد الناس ومن لا صلة له فيهم، أو يترك هؤلاء الأولاد والأغصان الغضة تعصف بها رياح الأفكار المضللة، والاتجاهات المنحرفة والأخلاق الهدامة، فينشأ من هؤلاء جيل فاسد لا يرعى الله ولا للناس حرمة ولا حقوقا جيل فوضوي متهور لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا متحررا من كل رق إلا من رق الشيطان، منطلقا من كل قيد إلا من قيد الشهوة والطغيان، نعم لا بد أن تكون هذه هي النتيجة إلا أن يشاء الله. إن بعض(8/613)
الناس يقول معتذرا أنا لا أستطيع تربية أولادي إنهم كبروا وتمردوا علي، وجوابنا على هذا أن تقول لو سلمنا هذا العذر جدلا أو حقيقة واقعة ثم فكرنا لوجدنا أنك أنت السبب في سقوط هيبتك من نفوسهم، لأنك أضعت أمر الله فيهم في أول أمرهم، فتركتهم يتصرفون كما يشاءون، لا تسألهم عن أحوالهم، ولا تأنس بالاجتماع إليهم، لا تجتمع معهم على غداء ولا عشاء ولا غيرهما، فوقعت الجفوة بينك وبين أولادك فنفروا منك ونفرت منهم فكيف تطمع بعد ذلك أن ينقادوا لك أو يأخذوا بتوجيهاتك، ولو أنك اتقيت الله في أول أمرك وقمت بتربيتهم على الوجه الذي أمرت لأصلح لك أمر الدنيا والآخرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]
أيها الناس: لقد كانت المدارس تأخذ وقتا كثيرا من أوقات الأولاد، وتتحمل عبئا ثقيلا من تربيتهم، والآن وقد أوشكت المدارس على إغلاق أبوابها لهذا العام وأقبلت أيام عطلة الصيف فإن الأولاد سيجدون فراغا كبيرا، فكريا وزمنيا فعلينا أن نحاول ملء هذا الفراغ واستغلال هذه الفرصة من أعمال شبابنا بما يكون نافعا لهم، حتى لا تخمل أفكارهم أو يستغلوها بما يكون لغوا أو ضارا. إنه يمكن استغلال هذه الفرصة بقراءة الكتب النافعة كل بحسب طبقته، وما يتحمله عقله أو بمراجعة مقررات السنة التي نجح إليها أو بأعمال نافعة من بيع وشراء ومساعدة أبيه في أعماله. علينا أن نضاعف جهودنا في مراقبتهم وتربيتهم، وأن نشعر بأن العبء ثقيل علينا حتى ننمي هذه المضاعفة.
وبهذه المناسبة أود أن أنبه إلى أمر خطير يفعله بعض الطلاب في كتب دروسهم حين ينتهون منها، إنهم يرمون هذه الكتب في الأسواق تداس بالأرجل والنعال، بل يرمونها في المزابل مع الأقذار والأوساخ إنهم يرمون هذه الكتب غير مبالين بما فيها قد تكون كلام الله أو تفسيرا لكلام الله، أو حديثا عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو شرحا لذلك، أو كلاما لأهل العلم يتضمن شرح أحكام الله، وكل هذا إهانة لهذه الكتب ووضع لقدرها.
فعلى المؤمن أن يتقي ربه وأن يعظم ما أوجب الله عليه تعظيمه حتى يكون قائما بشكر الله عز وجل، ليزيده من فضله وإذا انتهى من هذه الكتب فليدخرها عنده أو يهدها لمن ينتفع بها،(8/614)
أو يبعها، وإن لم تكن صالحة لذلك فليحرقها إن شاء إحراقا كاملا لا يبقى منها شيء، أما أن يرمي بهذه الكتب في المزابل والأسواق فهذا غير لائق وليس من شكر نعمة الله عليك الذي سهلها لك حتى أكملت دراستك بها.
اللهم وفقنا للقيام بما أوجبت علينا من عبادتك، وحقوق عبادك واهدنا صراطك المستقيم، واغفر لنا وللمسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.(8/615)
[الخطبة الخامسة في حفظ وقت الشباب وقت عطلة المدارس]
الخطبة الخامسة
في حفظ وقت الشباب وقت عطلة المدارس إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما خولكم من الأموال والأولاد واعلموا أن هذه النعمة إما منحة يسعد بها الإنسان في دنياه وآخرته، وإما محنة تكون سببا لخسارته وشقوته، فإن راعى الإنسان هذه النعمة وقام بما أوجب الله عليه فيها فهي منحة وسعادة وإن ضيع واجب الله فيها وأهملها صارت محنة وشقوة.
أيها الناس: في هذه الأيام يختتم الشباب عامه الدراسي الذي أمضى فيه جهدا كبيرا في النظر والعمل، وسوف يعاني من مشكلة الفراغ التي قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ» وهاتان النعمتان متوفرتان الآن لشبابنا فما أدري أيكون شبابنا من الكثير المغبون فيهما أم سيكون من ذوي الحزم والقوة الذين يربحون أوقات صحتهم وفراغهم؟ .
أيها الناس إن هذا الفراغ الذي حصل للشباب بعد انقضاء العام الدراسي الذي كانوا فيه مشتغلين مستغلين أوقاتهم وقواهم العقلية والفكرية والجسمية، هذا الفراغ الذي حصل لا بد أن ينعكس آثاره على نفوسهم وتفكيرهم وسلوكهم، فإما أن يستغلوه في خير وصلاح، فيكون ربحا وغنيمة للفرد والمجتمع يربح فيه النفس والوقت ويستغل قواه فيما يسعده ويسعد أمته وإما أن يستغلوه في شر وفساد، فيكون خسارة وغبنا للفرد والمجتمع يخسر فيه نفسه ووقته، ويستغل قواه فيما يشقى به وتشقى به الأمة وإما أن يمضوا أوقاتهم ويضيعوها سدى لا يعملون ولا يفيدون يتجولون في الأسواق والمجالس بأذهان خاوية وأفكار ميتة ينتظرون طلوع الشمس وغروبها ووجبات غذائهم فتتجمد أفكارهم وتتبلد أذهانهم ويصيرون عالة على المجتمع.
إن الشباب بعد الجهد الجهيد الذي أمضاه في عامه الدراسي إذا صارت العطلة فسيجد الفجوة الواسعة بين حالته وحالته بالأمس وسيحس بالفراغ النفسي والفكري سيقول(8/616)
ماذا أعمل بماذا أمضي هذه العطلة ولكن الشباب المتطلع إلى المجد والعلى يستطيع أن يستغل هذه العطلة بما يعود عليه وعلى أمته بالخير.
يمكن أن يستغل وقت العطلة بمذاكرة العلم ودراسته سواء في دروسه الرسمية الماضية أو المستقبلة، أو في دروس أخرى يتثقف بها ثقافة، فيقرأ في كتب التفسير القيمة السالمة من الزيغ في تحريف معاني القرآن ويقرأ في كتب الحديث الصحيحة مثل صحيح البخاري ومسلم، ويقرأ في كتب التاريخ المعتمدة البعيدة عن الأهواء، لا سيما تاريخ صدر الإسلام كسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه الراشدين، لأنها سيرة وسلوك تزيد القارئ علما بأحوال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه ومحبة لهم، وفقها في الدين والأسرار أحكامه وتشريعاته. وليحذر الشباب من النظر أو القراءة فيما يخشى منه على عقيدته وأخلاقه وسلوكه سواء كانت كتبا مؤلفة أو صحفا يومية أو مجلات أسبوعية، فإن كثيرا من الناس ينظر في مثل هذا أو يقرؤه يظن أنه واثق من نفسه ثم لا يزال الشر يتجارى به فلا يستطيع الخلاص منه.
وإن الشباب إذا لم يمكنه استغلال العطلة بالقراءة والنظر، فإنه يمكنه أن يستغلها بالعمل البدني يكون مع أبيه في دكانه أو فلاحته أو مصنعه، أو أية مهنة مباحة يمارسها أو يشتغل في عمل حكومي أو شعبي ليكسب من ذلك ويفيد غيره، ويسلم من خمول الذهن وتبلبل الفكر واضطراب المنهج والسلوك فإن ذلك ينتج عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع.
إن الشباب إذا لم يمكنه استغلال العطلة بالقراءة والنظر ولا بالعمل البدني فإنه يمكنه أن يقضي وقتا في رحلة يكسب بها استطلاعا على البلاد، وتعرفا على إخوانه ودعوة إلى دين الله بشرط أن يحافظ على دينه وخلقه، فيصلي الصلاة بوقتها على الوجه المطلوب ويتجنب كل رذيلة وخلق سافل، ويستصحب القرناء الصالحين الذين يذكرونه إذا نسي ويقومونه إذا اعوج. أيها الناس إننا نتحدث عن الشباب؛ لأنهم جيل المستقبل ورجال الغد، وأمانة في أعناق من فوقهم وفي أعناق أوليائهم بالذات، ولقد كان للمدرسة أثناء الدراسة دور كبير في حفظهم ورعايتهم، أما الآن فقد أصبح العبء الثقيل والمسئولية على أولياء أمورهم من الآباء والأمهات والأخوة والأعمام فعلى هؤلاء مراعاة أولادهم، وحمايتهم من ضياع الوقت وانحراف العمل والسلوك عليهم، أن يتفقدوهم كل وقت وأن يمنعوهم من معاشرة ومصاحبة من يخشى(8/617)
عليهم منه الشر والفساد، فإنهم عنهم مسئولون وعلى إهمالهم رعايتهم وتأديبهم معاقبون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27 - 28]
أعانني الله وإياكم على أداء الأمانة وحسن التوجيه والرعاية ووهب لنا منه رحمة وجعلنا هداة مهتدين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . إلخ.(8/618)
[الفرع الحادي عشر في القضاء والشهادة]
[الخطبة الأولى في التحذير من الرشوة]
الفرع الحادي عشر
في القضاء والشهادة الخطبة الأولى
في التحذير من الرشوة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وقوموا بما أوجب الله عليكم من أداء الأمانة في الأمور كلها قوموا بذلك مخلصين لله متبعين لأمره قاصدين بذلك إبراء ذمتكم وإصلاح مجتمعكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27 - 28]
أيها المؤمنون: إن الأمانة ليست بالأمر الهين، إنها دين وذمة ومنهج وطريقة، إنها حمل ثقيل وعبء جسيم ومسئولية عظيمة إنها عرضت على السماوات والأرض والجبال، وما أعظمها قوة وصلابة فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وتحملتها أنت أيها الإنسان، تحملتها بما أنعم الله به عليك من العقل والفهم وبما أنزل الله إليك من الوحي والعلم، فبالعقل والفهم تدركون وتميزون وبالوحي والعلم تستنيرون وتهتدون، وبذلك كنتم أهلا لتحمل مسئولية الأمانة والقيام بأعبائها، فأدوا الأمانة كما حملتموها أدوها على الوجه الأكمل المطلوب منكم، لتنالوا بذلك رضا ربكم وصلاح مجتمعكم فإن بضياع الأمانة فساد المجتمع واختلال نظامه وتفكك أواصره.
أيها المسلمون: إن من حماية الله لهذه الأمانة أن حرم على عباده كل ما يكون سببا لضياعها أو نقصها، فحرم الرشوة وهي بذل المال للتوصل به إلى باطل، إما بإعطاء الباذل ما ليس من حقه أو إعفائه مما هو حق عليه، يقول الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] ويقول سبحانه في ذم اليهود: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] والرشوة من السحت، كما فسر الآية به ابن مسعود وغيره وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الراشي والمرتشي، وفي لفظ لعنة الله على الراشي والمرتشي. وهذا إما خبر من(8/619)
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو دعاء على الراشي والمرتشي بلعنة الله، وهي الطرد والإبعاد عن رحمة الله كما لعن الشيطان فطرد وأبعد عن رحمة الله عز وجل، أيها المسلمون إن لعنة الله ورسوله لا تكون إلا على أمر عظيم ومنكر كبير وإن الرشوة لمن أكبر الفساد في الأرض، لأنها بها تغيير حكم الله وتضييع حقوق عباد الله وإثبات ما هو باطل ونفي ما هو حق. إن الرشوة فساد في المجتمع وتضييع للأمانة، وظلم للنفس يظلم الراشي نفسه ببذل المال لنيل الباطل ويظلم المرتشي نفسه بالمحاباة في أحكام الله يأكل كل منهما ما ليس من حقه ويكتسب حراما لا ينفعه بل يضره ويسحت ماله أو بركة ماله إن بقي المال.
إن الرشوة تكون في الحكم فيقضى من أجلها لمن لا يستحق، أو يمنع من يستحق أو يقدم من غيره أحق بالتقديم، وتكون الرشوة في تنفيذ الحكم فيتهاون من عليه تنفيذه بتنفيذه من أجل الرشوة، سواء كان ذلك بالتراخي في التنفيذ، أو بعمل ما يحول بين المحكوم عليه وألم العقوبة إن كان الحكم عقوبة.
إن الرشوة تكون في الوظائف والمسابقة فيها، فيقدم من أجلها من لا ينجح أو تعطى له أسئلة المسابقة قبل الامتحان فيولى الوظيفة من غيره أحق منه، وفي الحديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: «من استعمل رجلا من عصابة - أي من طائفة - وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» (رواه الحاكم وصحح إسناده) . وإن الرشوة تكون في تنفيذ المشاريع ينزل مشروع عمل في المناقصة فيبذل أحد المتقدمين رشوة، فيرسو المشروع عليه مع أن غيره أنصح قصدا وأتقن عملا ولكن الرشوة عملت عملها. وإن الرشوة تكون في التحقيقات الجنائية أو الحوادث أو غيرها، فيتساهل المحققون في التحقيق من أجل الرشوة، وفي الحديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول (رواه أبو داود ومن حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه) والغلول إثمه عظيم، فقد «جاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: استشهد مولاك أو قال: غلامك فلان، قال: بل يجر إلى النار في عباءة غلها» (رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح) . وأغرب من ذلك أن تدخل الرشوة في التعليم والثقافة، فينجح من أجلها من لا يستحق النجاح، أو تقدم له أسئلة الامتحان أو يشار إلى أماكنها من المقررات، أو يتساهل المراقب في مراقبة الطالب من أجلها فيتقدم هذا الطالب مع(8/620)
ضعف مستواه العلمي ويتأخر من هو أحق منه لقوة مستواه العلمي.
عباد الله لقد سمعتم عقوبة الراشي والمرتشي في الآخرة، وهي اللعن والطرد عن رحمة الله، وسمعتم شيئا من مفاسدها في المجتمع أفلا يكون في ذلك رادع عنها لكل مؤمن يخشى الله ويخاف عقابه، ولكل مخلص يحافظ على دينه ومجتمعه كيف يرضى أن يعرض نفسه لعقوبة الله كيف يرضى أن يذهب دينه وأمانته من أجل حطام من الدنيا لا يدري لعله لا يأكله فيموت قبل أن ينعم به، كيف يليق بالعاقل أن يسعى في فساد المجتمع وهلاكه. إن الأعمال أيها المسلمون دروس يأخذها الناس بعضهم من بعض، فإذا فشت الرشوة في جهة من جهاته انتشرت في بقية الجهات وصار على من عمل بها أولا وزرها ووزر من عمل بها مقتديا به إلى يوم القيامة.
فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا على دينكم وأمانتكم، وفكروا قليلا أيما خير لكم أن تكونوا قائمين بالعدل، بعيدين عن الدناءة حائزين لرضا الله ومثوبته، أم تكونوا جائرين مخلدين إلى الأرض متعرضين لسخط الله وعقوبته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا - إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا - لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 70 - 73]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . إلخ.(8/621)
[الخطبة الثانية في التحذير من التهاون بالشهادة]
الخطبة الثانية
في التحذير من التهاون بالشهادة الحمد لله الملك العظيم العزيز الحكيم، له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يعلم ما تخفون وما تعلنون {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ - وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 19 - 20] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الملك والحكم والتدبير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي بين لأمته ما فيه خيرها وسعادتها وحذرها من سوء العاقبة والمصير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، وأقيموا الشهادة لله أقيموها لله وحده، لا تقيموها لقريب من أجل قرابته، ولا لصديق من أجل صداقته، ولا لغني من أجل غناه، ولا لفقير من أجل فقره، ولا تقيموها على بعيد من أجل بعده، ولا على عدو من أجل عدواته، أقيموا الشهادة لله وحده، أقيموها كما أمركم بذلك ربكم وخالقكم ومدبر أموركم والحاكم بينكم والعالم بسركم وعلانيتكم أقيموها كما قال الله سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]
أيها المسلمون: إن الشهادة أمرها عظيم وخطرها جسيم في تحملها وأدائها فلا يحل كتمانها {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283] ولا يحل أن يشهد إلا أن يكون عالما بما يشهد به علما يقينا، وأنه مطابق للواقع تماما فلا يحل أن يشهد بما لا يعلم، ولا بما يعلم أن الأمر بخلافه بل لا يحل أن يشهد، ولا بما يغلب على ظنه حتى يعلمه يقينا كما يعلم الشمس فعلى مثلها فليشهد أو ليترك.
أيها المسلمون: إن من الناس اليوم من يتهاون بالشهادة فيشهد بالظن المجرد، أو بما لا يعلم أو بما يعلم أن الواقع بخلافه يتجرأ على هذا الأمر المنكر العظيم مراعاة لقريب، أو توددا لصديق أو محاباة لغني، أو عطفا على فقير يقول إنه يريد الإصلاح بذلك زين له سوء عمله فرآه حسنا(8/622)
كما زين لغيره من أهل الشر والفساد سوء عمله فرآه حسنا فالمنافقون زين في قلوبهم النفاق: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] فقال الله فيهم: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] عباد الأصنام زين في قلوبهم عبادتها، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] وهي في الواقع لا تزيدهم من الله إلا بعدا.
أيها الناس: إن كل مفسد ربما يدعي أنه مصلح أو ربما يظن أنه مصلح بسبب شبهة عرضت له فالتبس عليه الإفساد بالإصلاح أو بسبب إرادة سيئة زينت له، فاتبع هواه ولكن الصلاح كل الصلاح باتباع شريعة الله وتنفيذ أحكامه والعمل بما يرضيه.
أيها المسلمون: إن من الناس من يشهد لشخص بما لا يعلم أنه يستحقه بل بما يعلم أنه لا يستحقه يدعي أنه عاطف عليه وراحم له بذلك والحق أن هذا الشاهد لم يرحم المشهود له ولم يرحم نفسه، بل أكسبها إثما بما شهد به وأكسب المشهود له إثما فأدخل عليه ما لا يستحقه وظلم المشهود عليه إن كان فاستخرج منه ما لا يجب عليه.
إن من الناس من يشهد للموظف المهمل لوظيفته بمبررات لإهماله لا حقيقة لها فيشهد له بالمرض وهو غير مريض، أو يشهد له بشغل قاهر وهو غير مشغول، أو يشهد له بنقل أهله إلى مقر عمله الجديد وهو لم ينقلهم، أو باستئجاره سيارة وهو لم يستأجر، أو يشهد بأجرة أكثر مما استأجرها به، وكل هذا من الشهادة بالباطل. وإن من الناس من يشهد لشخص بأنه قام بالوظيفة منذ وقت كذا وهو لم يقم بها ولم يباشرها، يزعم الشاهد بذلك أنه يريد الإصلاح بنفع المشهود له ولم يدر أنه بهذه الشهادة ضر نفسه وضر المشهود له وأفسد على نفسه وعلى المشهود له ما أفسد من دينه.
لقد قال الله تعالى بعد أن أمر بإقامة الشهادة بالقسط، قال: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135] فلا تشهد لغني من أجل غناه ولا لفقير من أجل فقره، فإن الله أولى بهما بل أقم الشهادة لله وحده.
أيها المسلمون: إن شهادة الإنسان بما لا يعلمه علما يقينا مثل الشمس أو بما يعلم أن الواقع بخلافه سواء شهد للشخص أو عليه هي من شهادة الزور التي حذر منها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعلها من أكبر الكبائر، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ثلاثا ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قالوا بلى يا رسول الله قال(8/623)
الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قالوا لا يسكت أو قالوا ليته سكت» . وقال أنس بن مالك رضي الله عنه ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الكبائر، فقال «الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس، وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو قال شهادة الزور» .
أيها المسلمون: إن هذين الحديثين الصحيحين الثابتين عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليتبين بهما تعظيم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لشهادة الزور والتحذير منها، لقد عظم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التحذير منها بقوله وفعله عظمه بفعله حيث كان يتحدث عن الشرك والعقوق متكئا، فلما ذكر شهادة الزور جلس ليبين فداحتها وعظمها. وعظمه بقوله حين جعل يكرر القول بها حتى قال الصحابة لا يسكت، أو تمنوا أن يسكت، وعظمه أيضا حين صدر القول عنها بأداة التنبيه (ألا) وحين فصلها في حديث أنس عما قبلها من الكبائر، وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر.
أيها المسلمون: أيها المؤمنون بالله ورسوله أيها الراجون لرحمة الله أيها الخائفون من عذابه أيها المؤمنون بيوم الحساب يوم تقفون بين يدي الله عز وجل لا مال ولا بنون تنظرون أيمن منكم فلا ترون إلا ما قدمتم وتنظرون أشأم منكم فلا ترون إلا ما قدمتم وتنظرون أمامكم فلا ترون إلا النار تلقاء وجوهكم. إنكم ستسألون عما شهدتم به وعمن شهدتم عليه أو شهدتم له فاتقوا واحذروا.
أيها المؤمنون تصوروا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو المبلغ عن الله القائم بأمر الله الناصح لعباده تصوروه وهو يعرض على أمته بنفسه أن ينبئهم بأكبر الكبائر ليحذروها ويبتعدوا عنها وتصوروه كأنه أمامكم كان متكئا ثم يجلس عند ذكر شهادة الزور وتصوروه يكرر ويؤكد أن شهادة الزور من أكبر الكبائر لو تصورتم ذلك لعرفتم حقيقة شهادة الزور. لقد تحدث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الشرك والعقوق وهو متكئ لم يجلس، لأن الداعي إلى الشرك والعقوق ضعيف في النفوس لأنه مخالف للفطرة لكنه جلس حينما تحدث عن شهادة الزور لأن الداعي إليها قوي، وكثير فالقرابة والصداقة والغنى والفقر كلها قد تحمل ضعيف العقل والدين على أن يشهد بالزور، لكن المؤمن العاقل حينما يعلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحذر من شهادة الزور هذا التحذير البليغ لا يمكنه أن يقدم على شهادة الزور، مهما كانت الأسباب والدواعي.(8/624)
أيها المسلمون: إن شهادة الزور مفسدة للدين والدنيا وللفرد والمجتمع، إنها معصية لله ورسوله إنها كذب وبهتان وأكل للمال بالباطل فالمشهود له يأكل ما لا يستحق والشاهد يقدم له ما لا حق له فيه. إن شهادة الزور سبب لانتهاك الأعراض وإزهاق النفوس فإن الشاهد بالزور إذا شهد مرة هانت عليه الشهادة ثانية، وإذا شهد بالصغير هانت عليه الشهادة بالكبير لأن النفوس بمقتضى الفطرة تنفر من المعصية، وتهابها فإذا وقعت فيها هانت عليها وتدرجت من الأصغر إلى ما فوقه.
أيها المسلمون: إن شهادة الزور ضياع للحقوق وإسقاط للعدالة وزعزعة للثقة والأمانة، وإرباك للأحكام وتشويش على المسئولين والحكام، فهي فساد الدين والدنيا والآخرة وفي الحديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: «لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النار» (رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد) .
فالحذر الحذر أيها المسلمون من شهادة الزور، وإن زينها الشيطان في قلوبكم ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ولا تصرفكم عن الحق ظنون كاذبة، أو إرادات آثمة فتشاقوا الله ورسوله وتتبعوا غير سبيل المؤمنين.
وفقني الله وإياكم لإقامة الحق والعدل والبيان وجنبنا الباطل والجور والبهتان وحمانا عما يضرنا في ديننا ودنيانا إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(8/625)
[القسم الخامس في الفتن]
[الخطبة الأولى في شيء من الفتن قبل قيام الساعة]
القسم الخامس
في الفتن الخطبة الأولى
في شيء من الفتن قبل قيام الساعة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واحذروا الفتن ما ظهر منها وما بطن احذروا كل ما يصدكم عن دينكم من مال وأهل وولد: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28] احذروا فتنة القول، وفتنة العمل وفتنة العقيدة والآراء الهدامة والمشاهدات السيئة، فإن ذلك كله يصدكم عن دينكم ويوجب هلاككم انظروا إلى سلفكم الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، واسلكوا طريقهم فإنكم بذلك أمرتم وبذلك تفلحون إن تمسكتم. قد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمته بما سيكون إلى قيام الساعة، فأخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمته بفتن في آخر الزمان لعلهم يحذرون ويتقون ويرجعون إلى ما كان أسلافهم ويتمسكون. أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن فتن الدين بما يحدث من المغريات المادية والفكرية، فقال: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا» (رواه مسلم) . وأخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن فتنة الجهل والطمع والفوضى، فقال صلى الله عليه وسلم: «يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج قالوا يا رسول الله وما الهرج قال القتل» (متفق عليه) لقد قبض العلم وقل العلماء الربانيون قل العلماء أهل الخشية لله وأهل الهداية إن العلم حقيقة هو العلم النافع الذي يكون صاحبه قدوة في الخير والصلاح، والزهد والورع واتباع سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه الراشدين، ولقد ظهرت الفتن شتى من كل نوع ومن كل وجه ظهر الطعن في الإسلام والتشكيك في الدين وتزهيد الناس فيه وسلب محبته من قلوب الناشئين، تصاعدت الفتنة من جزئيات الدين وفرعياته إلى أصوله وأركانه وتطورت الفتنة من الأفراد، والأقليات إلى أن نسبت إلى الزعماء والرؤساء وتلك طامة كبرى ومصيبة عظمى أن تتدرج الفتن هذا التدرج وتتوسع هذا التوسع في حجمها وشكلها.(8/626)
نسأل الله الثبات والسلامة. «سأل حذيفة بن اليمان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هل بعد الخير الذي جاء به من شر قال نعم وهل بعد هذا الشر من خير قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نعم، وفيه دخن قلت وما دخنه، قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر قلت فهل بعد ذلك من شر قال نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتا» . ولقد ألقي الشح والطمع في قلوب العباد حتى منعت الزكاة المفروضة والنفقات الواجبة وطمع الإنسان فيما ليس له به حق وكثرت الفوضى والقتل. لقد أخبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن فتنة الأمانة وأنها سترفع فلا تكاد ترى أمينا يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه قال ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال إن في بني فلان رجلا أمينا ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان» (متفق عليه) . ولقد صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقد قبضت الأمانة فلا تكاد ترى أمينا ولقد صار الأمناء يعدون بالأصابع فترى القبيلة ليس فيها إلا أمين واحد وترى الرجل يعجبك في عقله وظرفه وجلده لكن ليس في قلبه إيمان، لأن الأمانة نزعت منه جاء أعرابي إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: «متى الساعة فقال إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال وكيف إضاعتها قال إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» (رواه البخاري) .
ألا وإن من الفتن الكبيرة العظيمة فتنة المال التي قل من يسلم منها قل من يأخذ المال من وجهه ويصرفه في وجهه فكان الحلال عند كثير من الناس ما حل في يده بأي طريق كان والمصروف منه ما صرفه في هواه ولو في الحرام. قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن الحلال أم من الحرام» (رواه البخاري) . ولقد صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن كثير من الناس لا يبالون بالمال من أي وجه اكتسبوه كأنما خلقوا للمال والدنيا ولا حساب عليهم في ذلك ولا عقوبة يكسبون المال بالغش وبالكذب وبالرشوة وبالربا صريحا أو خداعا وحيلة ويكتسبون المال بالدعاوي الباطلة فيدعون ما ليس لهم أو يجحدون ما كان عليهم ولا خير في مال عاقبته العذاب والنكال. فاحذروا أيها المسلمون هذه الفتن واجتنبوها فإنها إذا ظهرت عمت المجتمع كله وأصابت الصالح والفاسد قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25](8/627)
وقالت زينب أم المؤمنين رضي الله عنها: «استيقظ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من النوم محمرا وجهه يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها، قيل أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث» (رواه البخاري) . ولقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الفرار من الفتن خير للعبد ولو أن يكون صاحب غنم فقال: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» (رواه البخاري) .
وأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمته أن يستعيذوا من الفتن في كل صلاة فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إذا تشهد أحدكم أي قرأ التحيات فليستعذ بالله من أربع يقول أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال، وأمر بالصلاة لمدافعة الفتن» كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها، قالت: «استيقظ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة فزعا يقول سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن وماذا أنزل من الفتن من يوقظ صواحب الحجرات، يعني زوجاته لكي يصلين، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة» .
اللهم نجنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن اللهم بصرنا بالحق وارزقنا الثبات عليه اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه يا رب العالمين.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(8/628)
[الخطبة الثانية في شيء من الفتن أيضا]
الخطبة الثانية
في شيء من الفتن أيضا إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وأنيبوا إليه واثبتوا على دينه واستقيموا إليه فإن دين الله دين الحق ووسيلة الصلاح في الدنيا والآخرة واحذروا الزيغ والضلال عنه فإن في ذلك الفساد والشقاوة في الدنيا والآخرة واحذروا الفتن احذروا الفتن ما ظهر منها وما بطن. إن الفتن كل ما يصد عن دين الله من مال أو أهل أو ولد أو عمل: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ - فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن: 15 - 16] اتقوا فتنة ينتشر شرها وفسادها إلى الصالحين كما أصاب الظالمين {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] احذروا فتنة العقيدة الباطلة والآراء المنحرفة والأخلاق السافلة، واحذروا كل فتنة في القول أو في الفعل فإن الفتن أوبئة فتاكة سريعة الانتشار إلى القلوب والأعمال إلى الجماعة والأفراد، فتصيب الصالح والطالح في آثارها وعقوباتها. فلقد حذر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمته من الفتن، فقال: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا» (رواه مسلم) . إنها فتن مظلمة لا نور فيها كقطع الليل المظلم تؤثر في عقيدة المسلم بين عشية وضحاها يصبح مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا؛ وذلك لأنها فتن قوية ترد على إيمان ضعيف أضعفته المعاصي وأنهكته الشهوات، فلا يجد مقاومة لتلك الفتن ولا مدافعة فتفتك به فتكا وتمزقه كما يمزق السهم رميته.
أيها الناس إننا في هذا العصر، بما فتح علينا من الدنيا فتداعت علينا الأمم من أجلها فاختلطوا بنا. إننا بهذا الفتح الدنيوي لعلى مفترق طرق، وفي دور تحول نرجو ألا يكون تحورا فعلى دينكم أيها المؤمنون فاثبتوا ولطريق نبيكم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسلفكم الصالح رضي الله عنهم فاسلكوا. يقول ربكم تبارك وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153](8/629)
فهذه عباد الله وصية الله تعالى إليكم أن تتبعوا صراطه المستقيم وأن لا تتبعوا سبيلا يخالفه فتفرق بكم الطرق عن سبيله وتجترفكم الأهواء.
أيها الناس: إن نسمع ونشاهد في كل وقت فتنا تترى علينا بدون فتور أو ضعف؛ لأنها -وللأسف - تجد مكانا متسعا ومربعا مرتعا فتنا توجب الإعراض عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن العلم بهما والعمل، فتنا تتوارد لا أقول من هناك فحسب ولكن من هناك ومن ههنا من أعدائنا ومن بني جلدتنا.
نسمع (مثلا) من يدعو إلى اختلاط النساء بالرجال وإلغاء الفوارق بينهم، إما بصريح القول أو بالتخطيط الماكر البعيد والعمل من وراء الستار وكأن هذا الداعي يتجاهل، أو يجهل أن دعوته هذه خلاف الفطرة والجبلة التي خلق الله عليها الذكر والأنثى وفارق بينهما خلقة وخلقا، كأن هذا الداعي يتجاهل أو يجهل أن هذا خلاف ما يهدف إليه الشرع من بناء الأخلاق الفاضلة، والبعد عن الرذيلة فلقد شرع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يوجب بعد المرأة عن الاختلاط بالرجل فكان يعزل النساء عن الرجال في الصلاة ويقول خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها لماذا؟ لماذا يكون شر صفوف النساء أولها أقرب إلى الرجال من آخرها، فكان شرها وآخرها أبعد عن الرجال من أولها فكان خيرها، إذن فكلما ابتعدت المرأة عن الاختلاط بالرجال فهو خير، وكلما قربت من ذلك فهو شر. كأن هذا الداعي إلى اختلاط النساء بالرجال يتجاهل أو يجهل ما حصل لأمة الاختلاط من الويلات والفساد وانحطاط الأخلاق وانتشار الزنا وكثرة أولاد الزنا حتى أصبحوا يتمنون الخلاص من هذه المفاسد فلا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
ونسمع من يدعو إلى سفور المرأة وتبرجها وإبراز وجهها ومحاسنها وخلع جلباب الحياء عنها يحاول أن تخرج المرأة سافرة بدون حياء، وكأن هذا الداعي يجهل أو يتجاهل أن الحياء من جبلة المرأة التي خلقت عليها، وأن الحياء من دينها الذي خلقت له. قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «الحياء من الإيمان» . وقال: «مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت» . كأن هذا الداعي إلى السفور يجهل أو يتجاهل ما يفضي إليه من الشر والفساد واتباع النساء(8/630)
الجميلات ومحاولة غير الجميلة أن تجمل نفسها لئلا تبدو قبيحة مع من يمشي من الجميلات في السوق، فيبقي مجتمع النساء الإسلامي معرض أزياء. ومن عجب أني قرأت لكاتب من دعاة السفور كلاما ساق فيه حديثا ضعيفا، قال فيه: إنه حديث صحيح متفق على صحته وهذا الحديث رواه أبو داود «أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: (دخلت على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه» . لكن هذا الحديث ضعيف لأنه غير متصل السند ولا موثوق بجميع رواته.
ونسمع من الفتن ما يروجه أعداء الإسلام من الدعاية الكاذبة العارمة لتفخيمهم وترويج بضاعة مدنيتهم الزائفة وحضارتهم المنهارة يروجون ذلك باسم التقدم والرقي والتطور والتثقيف العالمي وما أشبه ذلك من العبارات الفخمة الجزلة التي تنبهر بها عقول كثير من الناس، فيصدقون بما يقال ثم يلهثون وراء هؤلاء الأعداء المروجين بالتقليد الأعمى والتبعية غير المعقولة، بدون تأمل أو نظر في الفوارق والعواقب: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ - مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 - 36] فرويدك أيها المخدوع رويدك.
إن كل شيء نافع في حضارة هؤلاء الذين أغرتك دعايتهم وغرتك إن كل نافع فيها إن قدر ففي الدين الإسلامي ما هو خير منه وأنفع، وأضبط للمجتمع وأجمع فارجع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيرته وسيرة خلفائه وسلف الأمة لترى فيها كل خير نافع للعالم في معاشهم ومعادهم في حاضرهم ومستقبلهم: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] ارجع إلى ذلك لترى ما يحاول هؤلاء الأعداء بكل قواهم أن يصدوك عنه لأنهم يعلمون أنك لو طبقته تماما لملكت عواصم بلادهم: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]
أيها المسلمون: أيها المؤمنون إن أعداءنا ليهونون هذه الفتن في نفوسنا فيجلبونها إلينا بعد أن أفسدتهم ليفسدونا بها كما فسدوا {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89] وما زال الناس في عصرنا هذا يشاهدون ويسمعون كل وقت مظهرا جديدا من مظاهر الفتن كل فتنة يستنكرها الناس ويشمئزون حتى إذا لانت نفوس بعضهم إليها جاءت فتنة أخرى أعظم منها.(8/631)
وإن السعيد لمن وقي الفتن ومن ابتلي بها فليصبر على دينه وليثبت عليه. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ «إن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضا وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه» .
فاتقوا الله عباد الله ولا تنخدعوا بهذه الفتن ولا بكثرة الداعين إليها فإن الهدى هدى الله ودين الله لا يتغير بتغير الزمن والباطل لا ينقلب حقا بكثرة الداعين إليه والعاملين به.
اللهم أصلح لنا ديننا. . إلخ.(8/632)
[الخطبة الثالثة في أمور أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم محذرا منها]
الخطبة الثالثة
في أمور أخبر بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ محذرا منها الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وأعطاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، شهادة له بصدقه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وملكه، وحكمه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي بلغ ما أنزل إليه من ربه على أكمل وجه وأتمه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعه في هديه وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واحذروا أسباب سخطه وعقابه، وتوبوا إلى ربكم بالرجوع عن معصيته إلى طاعته وعن أسباب سخطه إلى بلوغ مرضاته. احذروا ما حذركم منه نبيكم ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه الناصح الأمين المبلغ، فلقد حذركم ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أمور فيها هلاككم لتحذروها وبينها لكم لتعلموها وجاء عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ التحذير من أمور أصبحتم اليوم واقعين فيها أو في أكثرها. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إذا اتخذ الفيء دولا - والأمانة مغنما - والزكاة مغرما - وتعلم لغير الدين - وأطاع الرجل امرأته وعق أمه -وأدنى صديقه - وأقصى أباه - وظهرت الأصوات في المساجد - وساد القبيلة فاسقهم - وكان زعيم القوم أرذلهم - وأكرم الرجل مخافة شره - وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور - ولعن آخر هذه الأمة أولها. فارتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتتابع كنظام قطع سلكه فتتابع» (رواه الترمذي) . وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند لكن له شاهد من الحديث، وشاهد من الواقع، فإن الخصال المذكورة في هذا الحديث صارت في زمننا حقائق مشهودة ملموسة فاستمعوا. الخصلة الأولى: اتخاذ الفيء دولا، والفيء ما أفاءه الله على المؤمنين فإذا صرف عن أهله المستحقين له إلى آخرين لا يستحقونه من أهل الشرف والجاه والغنى والقوة فقد اتخذ دولا قال الله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]
الخصلة الثانية: اتخاذ الأمانة مغنما وهذه ذات معان كثيرة منها أن يخون المؤمن في أمانته التي اؤتمن عليها فينكرها أو يتصرف فيها كما يتصرف الغانم في غنيمته.
الخصلة الثانية: اتخاذ الزكاة مغرما فيؤديها كأنها غرامة وضريبة خسرها لا يؤديها بطيب(8/633)
نفس واحتساب أجر وتعبد لله عز وجل وقيام بفريضة من فرائض الإسلام. ومن أجل اتخاذ الزكاة مغرما تجده يبخل بها ما يؤدي منها بتثاقل، ونقص وربما وضعها في غير أهلها.
الخصلة الرابعة: أن يتعلم العلوم الشرعية لغير الدين فلا يتعلمها تقربا إلى الله ولا حفظا لشريعة الله ولا رفعا للجهل عن نفسه وعن عباد الله وإنما يتعلمها لنيل المال والشهادة والجاه والرئاسة.
الخصلة الخامسة والسادسة: أن يطيع الرجل امرأته ويعق أمه، فإذا أمرته زوجته بشيء لبى جميع طلبها سريعا، وإذا أمرته أمه به أعرض أو تثاقل أو أتى به ناقصا.
الخصلة السابعة والثامنة: أن يدني الرجل صديقه ويقصي أباه تجده ملازما لصديقه يظهره على أسراره ويستشيره في أموره أما مع أبيه، فمتباعد عنه كاتم عنه أسراه لا يأنس بالجلوس عنده ولا ينبسط بالتحدث معه.
الخصلة التاسعة: ظهور الأصوات في المساجد حتى تصبح لا قيمة لها ولا احترام يزعق الناس فيها ويصرخون كما يزعقون في بيوتهم وأسواقهم غير مبالين ببيوت الله التي بنيت لعبادته وذكره.
الخصلة العاشرة: أن يسود القبيلة فاسقهم أي أن يكون الفاسق العاصي لله ورسوله سيد قبيلته. إما لظهور الفسق فيهم، وكونه ذا قيمة في نفوسهم، فيكون السيد فيهم من بلغ غاية الفسق. وإما لكون الدين لا أثر له في السيادة والقيادة والأثر كله للمال والجاه فصاحبهما هو السيد وإن كان فاسقا.
الخصلة الحادية عشرة: أن يكون زعيم القوم أرذلهم والزعيم الرئيس وكان ينبغي له أن يكون أعلى قومه دينا وخلقا ورجولة وشهامة ولكن تنعكس الأمور فيكون أرذل القوم في ذلك.
الخصلة الثانية عشرة: أن يكرم الرجل مخافة شره فلا يكرم الرجل لأنه أهل للإكرام في دينه أو خلقه أو جاهه أو إحسانه إلى الناس بل هو خال عن ذلك كله فليس أهلا للإكرام ولكن لشره وعدوانه يكرمه الناس خوفا منه. الخصلة الثالثة عشرة: ظهور القينات والمعازف والقينات المغنيات والمعازف آلات العزف(8/634)
والطرب. ولقد ظهرت القنيات والمعازف في زمننا الحاضر ظهورا فاحشا، ما ظهرت مثله قط ظهورا مسموعا بالآذان ومشهودا بالعيان في كل وقت، وفي كل مكان في البيت والسوق والدكان، وفي وقت الصلاة ومع الأذان حتى صارت المعازف متعة كثير من الناس، ومنتهى أنسهم أنسوا بما يصرفهم عن ذكر الله ونسوا ما خلقوا له من عبادة الله وتعلقت قلوبهم بمعصية الله وسيجدون غب هذا الأنس وحشة، وبعد هذا التعلق انقطاعا وزوالا.
أيها المسلمون إن الحليم من الرجال ليقف حيران أمام هذا الانسياب الجارف إلى آلات اللهو والمعازف، وأمام هذا التغير السريع في مجتمعنا يجلس الواحد من رجل أو امرأة ليستمع إلى صوت مغن أو مغنية، أو يشاهد صورته غير مبال بذلك. إن الحليم ليقف حيران لا يدري أشيء ران على القلوب حتى التبس الأمر عليها وغشى بصائرها ما يمنع الرؤية فصارت لا ترى الحق وشكت في تحريم ذلك. أم شيء أزاغ القلوب فانصرفت عن الحق مع علمها به وارتكبت المعصية على بصيرة هما أمران أحلاهما مر.
أيها المسلمون: إن كل من عرف نصوص كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يشك في تحريم المعازف حتى إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرنها بالزنا والخمر والحرير. ففي صحيح البخاري عن أبي عامر أو أبي مالك الأشعري، أنه سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة (يعني الفقير) فيقولوا ارجع إلينا غدا، فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة» . قال ابن القيم رحمه الله تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية: بيان تحريم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصريح لآلات اللهو والمعازف ثم ساق الأحاديث الدالة على ذلك وهي كثيرة ساقها في إغاثة اللهفان.
أيها المسلمون: لقد كنا إلى زمن قريب ننكر آلات اللهو وتكسر أمام المساجد بعد صلاة الجمعة إتلافا لها ومنعا لانتشارها، فصار الوضع إلى ما ترون فلا أدري أنزل وحي بحلها لكم، فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين أم أنها التبعية لأكثر الناس بلا روية فاقرءوا إن شئتم قول ربكم عز وجل: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116](8/635)
فاللهم عفوا وغفرا وهداية وصلاحا.
الخصلة الرابعة عشرة: شرب الخمور وهي المسكرات من أي نوع كانت قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «كل مسكر خمر» ، ولقد شربت الخمر وكثر شاربوها حتى صارت في بعض بلاد المسلمين تباع علنا وتشرب بالأسواق، وربما سموها بغير اسمها خداعا وتزيينا في النفوس حتى سموها (الشراب الروحي) . ألا قاتلهم الله أين المتعة للروح في شراب يسلبها عقلها، ثم يعقب تلك السكرة هم وغم لا يزول إلا بالعودة للشرب ثانية وثالثة، حتى يقضي على العقل والجسم والروح فأين الشراب الروحي أنى يؤفكون.
الخصلة الخامسة عشرة: أن يلعن آخر هذه الأمة أولها، واللعن إما أن يكون بلفظه، وقد وجد من هذه الأمة من يصب اللعنات على بعض السلف الصالح، وإما أن يكون بمعناه بالقدح في السلف الصالح وذمهم وذم طريقتهم واعتقاد أنها طريق رجعية لا تصلح لهذا العصر.
أيها المسلمون إن هذه الخصال إذا حصلت فنحن مهددون بتلك العقوبة بريح عاصفة حمراء تحمل الرمال، وتدمر المساكن وبزلزلة تصدع الأرض، وتفسد العمران وبخسف تتغير به معالم الأرض، وتزول به جبال عن أماكنها، وبمسخ يمسخ به الإنسان قردا وخنزيرا، وبقذف بحجارة من السماء كما أرسل على قوم لوط، وبآيات أخر من العقوبات من حروب طاحنة وسيول جارفة وغير ذلك.
فاتقوا الله عباد الله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]
اللهم جنبنا أسباب سخطك وعقابك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين وصلى الله عليه وعلى نبينا محمد وعلى آله وصحبته أجمعين.(8/636)
[الخطبة الرابعة في شيء من المغيبات يكون قبل قيام الساعة]
الخطبة الرابعة
في شيء من المغيبات يكون قبل قيام الساعة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد: فقد قال الله سبحانه وتعالى لرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا - عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا - إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا - لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 25 - 28] أمر الله نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو أشرف الخلق عنده أن يعلن للملأ بأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يعلم متى يقع ما يوعدون به من العذاب سواء ما يقع في القيامة أو عند الموت، لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يعلم متى الساعة ولا متى يموتون، وإنما علم ذلك عند عالم الغيب والشهادة رب العالمين، ولكنه سبحانه قد يظهر على غيبه من يرتضيه من خلقه من الرسل ليبلغوا رسالات ربهم ولقد أظهر الله نبيه محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ على غيب كثير مجمل ومفصل فيما أوحاه إليه من الكتاب والسنة، وليس يعلم ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا ما أوحاه إليه ربه فمن ذلك ما في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعوتهما واحدة وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن، ويكثر الهرج (وهو القتل) وحتى يكثر فيكم المال، فيفيض حتى يهم رب المال من يقبض صدقته، وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه لا إرب لي به، وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه، وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا. ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته، فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه، فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها» .(8/637)
في هذا الحديث أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن اثني عشرا أمرا يكون قبل قيام الساعة. أخبر أنه لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعوتهما واحدة، وفسر هذا بما جرى في زمن علي ومعاوية رضي الله عنهما حيث كان كل من الفئتين يدعو إلى ما يرى أنه الحق، فقتل منهم نحو سبعين ألفا على ما قيل. أخبر أنه لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون يزعم كل منهم أنه نبي، وقد ظهر كثير منهم ولا رسول بعد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]
أخبر أنه لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم والمراد به العلم الشرعي علم كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وكيفية قبضه أن يقبض العلماء كما في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» . أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لا تقوم الساعة حتى تكثر الزلازل وهي نوعان زلازل حسية تهز الأرض، فتدمر القرى والمساكن، وزلازل معنوية تزلزل الإيمان والعقيدة والأخلاق والسلوك، حتى يضطرب الناس في عقائدهم وأخلاقهم وسلوكهم، فيعود الحليم العاقل حيران، والحديث محتمل لكل منهما وهو في الأول أظهر. أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنه لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فيقرب أوله من آخره وذلك بكثرة الغفلة، وفشل الأعمال والأوقات حتى يمضي الزمن الكثير وما صنع الإنسان إلا شيئا قليلا، أو أن معناه سرعة إنجاز الأمور التي لا تنجز إلا بزمان كثير كما يشاهد في وسائل النقل، ووسائل الإعلام والله أعلم بما أراد رسوله. وأخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنه لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن، فتن الدين والدنيا أما فتن الدين فكل ما يصد عن الإيمان بالله والقيام بأمره واتباع هدي نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من العقائد الفاسدة والأفكار الهدامة والسلوك المنحرف، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة بالاشتغال بالشهوات واللذائذ المحرمة.
وأما فتن الدنيا فما يحصل من القتل والخوف والسلب والنهب وظهور الفتن، دليل على ضعف العلم الصحيح والإيمان الخالص والولاية العادلة. أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنه لا تقوم الساعة حتى يكثر القتل سواء كان ذلك بالحروب، أم بالاغتيالات وقد جرى ذلك. أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنه لا تقوم الساعة حتى يكثر المال، وقد كثرت الأموال وسوف تزداد حتى يهم الرجل من يقبض صدقته، وحتى يعرض الرجل المال على الرجل هبة أو صدقة، فيقول لا حاجة لي به. أخبر(8/638)
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنه لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان، سواء كان التطاول بجمال البنيان وتشييده والاعتناء به، أو بارتفاعه كل ذلك من التطاول وهو دليل على اشتغال الخلق في أحوال دنياهم دون أحوال دينهم، لأن التطاول في ذلك يشغل القلب والبدن، فيلهو به الإنسان عن مصالح دينه. أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنه لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول ليتني مكانه. قال العلماء لما يرى من الأمور العظام التي يفضل الموت عليها من عظيم البلاء ورئاسة الجهلاء وخمول العلماء، واستيلاء الباطل في الأحكام، وعموم الظلم واستحلال الحرام. أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنه لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ويختل نظام سيرها فيعلم الناس حينئذ أنها تسير بتقدير الله وأمره فيؤمنون، ولكن الإيمان لا ينفع إلا من كان مؤمنا من قبل أو كاسبا في إيمانه خيرا.
ثم أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أن الساعة تقوم بغتة وضرب لذلك أربعة أمثال: تقوم والرجلان بينهما ثوب قد فلاه يتبايعانه، فلا يمكنهما البيع ولا طي الثوب. وتقوم والرجل قد انصرف بلبن ناقته ليشربه فلا يتمكن من شربه. وتقوم والرجل يصلح حوض إبله ليسقيها فلا يسقي فيه. وتقوم وقد رفع اللقمة إلى فمه فلا يطعمها.
فاتقوا الله عباد الله وآمنوا برسوله وأعدوا ليوم القيامة عدته قبل أن يفاجئكم الموت فلا تدركون النجاة ولا الغوث.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب. . إلخ.(8/639)
[الخطبة الخامسة في التحذير مما يكون في بعض الصحف والمجلات]
الخطبة الخامسة
في التحذير مما يكون في بعض الصحف والمجلات إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واحذروا الفتن ما ظهر منها وما بطن احذروا ما يفتنكم عن دينكم وشرفكم وأخلاقكم فإن الفتن تسري إلى القلوب، فتصدها عن ذكر الله وعن الصلاة. تسري إلى القلوب النقية البيضاء فتكسبها شبهة وظلمة. تسري إلى القلوب التي تلين لذكر الله، وتخشع لعظمته فتكسبها قسوة واستكبارا. تسري إلى القلوب فتفتك بها كما يسري السم إلى الجسم فيفتك به. احذروا أيها المؤمنون الفتن كلها، لا تقولوا نحن مؤمنون نحن مستقيمون ولن تؤثر علينا أسباب الفتن، لا تقولوا هكذا فإن سهام إبليس نافذة لقد أمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالفرار من الدجال خوفا من فتنته، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه بما يبعث به من الشبهات» (رواه أبو داود) ، إن هذا الحديث أيها المؤمنون لعلم نهتدي به في كل مواقع الفتن، أن نبتعد عنها وإن كنا نظن أننا نخرج منها بسلام فإن الرجل لا يأمن على نفسه الفتنة.
أيها المؤمنون: لقد كثرت في عصرنا هذا أسباب الفتن وتنوعت أساليبها، وانفتحت أبوابها من كل ناحية، فتحت الدنيا فتنافسها كثير من الناس فأهلكتهم، وجاءت الوسائل الإعلامية ما بين مسموعة ومشاهدة، وفي وقت كثر فيه الفراغ فعكف الناس عليها، فضاعت بها مصالح دينهم ودنياهم وأردتهم.
إن وسائل الإعلام في الصحف والمجلات وغيرها لوسائل فعالة في المجتمع عقيدة وسلوكا وأخلاقا. إن استعملت في الخير وتبصير الناس في دينهم ومصالح دنياهم، كانت من أفضل الوسائل وأنفعها، وإن استعملت في ضد ذلك كانت من أضر الوسائل وأفسدها. وإن من المؤسف أن يكون في هذه الوسائل الإعلامية - الصحف والمجلات وغيرها - من المؤسف أن يكون فيها ما يدعو إلى الشر والفساد إلحاد في آيات الله، وتحريف لكتاب الله ودعوة إلى انحطاط الأخلاق والتحلل من الفضيلة. لقد كنت أسمع الكثير عن ذلك أسمع الكثير عن مجلات(8/640)
الأخلاق والتحلل من الفضيلة. لقد كنت أسمع الكثير عن مجلات معينة وكنت أقدم رجلا وأؤخر أخرى عن إضاعة الوقت في قراءة مثل هذه المجلات حتى رأيت من الواجب أن أمر مرورا عابرا على شيء من تلك الصحف لأعرف ما فيها من شر أتقيه وأحذر منه فأتحت الفرصة لنفسي في المرور على مجلة النهضة التي تصدر في الكويت وتدخل إلى بلادنا وتباع في أسواقنا وتقع في أيدي شبابنا من ذكور وإناث فوجدت المنظر شرا من المسمع. وجدت أقوالا نابية في الحب والغرام منظومة ومنثورة. وجدت صورا من النساء جميلة تثير الشهوة وتفتن القلب إلى حد أنها أجرت مسابقة لعرض الأجمل من النساء والمعبر عنها بملكة الجمال فصورت أجمل من تقدم لها على الغلاف بصورة مغرية. وجدت تصوير عناق وضم بين رجل وامرأة تحت عنوان (رسول الحب) وتحته قصيدة كلها غرام بالحب. وجدت أزياء وأشكالا من الألبسة على تلك الصور لا يقرها دين سماوي ولا ضمير شريف. وجدت دعاية للتدخين عليها صور الرجال ونساء في أيديهم سجائر. وجدت هذا كله في لمحة سريعة لسبعة أعداد فقط وما فاتني من صفحاتها وأعدادها الأخرى أكثر هذه المجلة أنموذج واحد من كثير من المجلات التي ربما تكون أقبح من هذه وأخبث.
فيا أيها المواطنون يا أيها المؤمنون إنني أدعوكم باسم الإيمان بالله وباسم الإسلام وبكل وصف تستحقونه من شرف وفضيلة أن لا تتسرب إلى بيوتكم وإلى أيديكم مثل هذه المجلات التي تصرفكم عن الصراط المستقيم وتحرفكم عن أخلاقكم وقيمكم إن كل ما يعرض فيها لا بد أن يؤثر على من قرأها مقتنعا بها وبما تنشره من أفكار ومظاهر.
فاتقوا الله عباد الله وإياكم أن تبذلوا الأموال في شرائها والمساهمة فيها فإن في ذلك مفاسد كثيرة منها إضاعة المال حيث يبذله فيما لا نفع فيه بل فيه مضرة وقد جعل الله المال للناس قياما تقوم به مصالح دينهم ودنياهم: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] فمن صرف المال في غير ذلك فقد غيره عما خلق من أجله وصرفه في غير محله وصدق عليه أنه أضاعه وارتكب ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إضاعة المال ومن مفاسدها إضاعة الوقت الذي هو عند العقلاء أثمن من المال لأنه ظرف العمل ونتيجته وسعادة المرء وشقاوته وهو مسؤول عنه كما يسأل عن المال فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم(8/641)
قال «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وماذا عمل فيما علم» (رواه الترمذي وقال غريب قال الألباني ولكنه صحيح لشواهده) ولو أمضى الإنسان وقته في قراءة ما ينفعه كالقرآن وتفسيره والحديث وشرحه وتاريخ حياة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين لحصل له خير كثير وكسب عمره في هذه الدنيا. ومن مفاسد هذه المجلات ما يحدث للقلب من هيام في الحب وإغراق في الخيال الذي لا حقيقة له فيه كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. يسيح قلبه في خيال فارغ لا يحصل به إلا قلق النفس وتشتيت الفكر ونسيان مصالح دينه ودنياه. ومن مفاسدها تأثيرها على الفكر والأخلاق والعادات حيث يألف ما يقرؤه من أفكار منحرفة وما يشاهده من مظاهر فاتنة في الصور وأزياء الألبسة وغيرها فيتأثر بذلك الفرد والمجتمع وينطبعان بهذا الطابع الفاسد. ومن مفاسدها إغراء ناشريها على نشرها وتقوية رصيدهم المالي لينشروا ما هو أفظع من ذلك وأقبح متى سنحت لهم الفرصة فيكون المشتري والمشترك والمتقبل لها مشاركا في نشر الفساد وعليه من إثمه نصيب.
فيا أيها المؤمنون قاطعوا هذه المجلات وجانبوها وإياكم واقتناءها واحذروها أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]
أعاذني الله وإياكم من مضلات الفتن وحمانا جميعا بقوته وعزته من الزيغ والزلل وجعلنا دعاة إلى الخير والرشاد نهاة عن الشر والفساد. إنه هو الكريم الجواد وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(8/642)
[القسم السادس في أحوال القيامة]
[الخطبة الأولى في بعض أهوال يوم القيامة]
القسم السادس
في أحوال القيامة الخطبة الأولى
في بعض أهوال يوم القيامة الحمد لله الملك القهار العزيز الجبار خلق السماوات والأرض وما بينهما من غير تعب ولا اضطرار وأنزل على عبده في الكتاب والفرقان: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 6 - 7] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أقوم الناس طاعة بفعل المأمور وترك المحظور صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحشر والنشور وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وفكروا في دنياكم وآخرتكم في حياتكم وموتكم في حاضركم ومستقبلكم فكروا في هذه الدنيا فيمن مضى من السابقين الأولين منهم والآخرين ففيهم عبرة لمن اعتبر عمروا في هذه الدنيا فعمروها وكانوا أكثر منا أموالا وأولادا وأشد منا قوة وتعميرا فذهبت بهم الأيام كأن لم يكونوا وأصبحوا خبرا من الأخبار وأنتم على ما ساروا عليه سائرون وإلى ما صاروا إليه صائرون سوف تنتقلون عن هذه الدنيا إلى القبور بعد القصور وسوف تنفردون بها بعد الاجتماع بالأهل والسرور سوف تنفردون بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر إلى يوم النشور وحين ذلك ينفخ في الصور فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة بلا نعال وعراة بلا ثياب وغرلا بلا ختان حدث النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث فقالت عائشة «يا رسول الله الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض فقال صلى الله عليه وسلم يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض» . وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض إن الأمر أشد من أن ينظر الرجال إلى النساء أو النساء إلى الرجال إنه أعظم من أن تسأل الأم عن ولدها والابن عن أبيه: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 - 2] هنالك قلوب واجفة وأبصار خاشعة هنالك تنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال فيأخذ المؤمن كتابه بيمينه ويأخذ الكافر كتابه بشماله من وراء ظهره فأما من(8/643)
أوتي كتابه بيمينه فيقول فرحا وسرورا {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول حزنا وغما {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 25] ويدعو ثبورا وهناك توضع الموازين فتوزن فيها أعمال العباد من خير وشر {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] في ذلك اليوم يموج الناس بعضهم في بعض ويلحقهم من الغم والكرب ما لا يطيقون فيقول الناس ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم فيأتون آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى عليهم الصلاة والسلام وكلهم يقدم عذرا ثم يأتون إلى عيسى صلى الله عليه وسلم فيقول لست لها ولكن ائتوا محمدا عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول مفتخرا بنعمة الله أنا لها فيستأذن من ربه عز وجل ويخر له ساجدا ويفتح الله عليه من محامده وحسن الثناء وعليه ما لم يفتحه على أحد قبله فيدعه الله ما شاء الله أن يدعه ثم يقول يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع وسل تعطه. وفي ذلك اليوم ينزل الله للقضاء بين عباده وحسابهم فيخلو بعبده المؤمن وحده ويضع عليه سترة ويكلمه ليس بينه وبينه ترجمان فيخبره بما عمل من ذنوبه حتى يقر ويعترف فيظهر الله عليه فضله فيقول قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. وفي ذلك اليوم الحوض المورود لمحمد صلى الله عليه وسلم ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وأطيب من ريح المسك طوله شهر وعرضه شهر وآنيته كنجوم السماء كثرة وإضاءة لا يرده إلا المؤمنون به المتبعون لسنته من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا أول الناس ورودا عليه فقراء المهاجرين. في ذلك اليوم تدنى الشمس من الخلق حتى تكون قدر ميل فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمهم العرق إلجاما. ويظل الله من يشاء في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
في ذلك اليوم يقول الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير كله في يديك فيقول أخرج بعث النار من ذريتك قال وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون فعند ذلك يشيب الصغير.
في ذلك اليوم يوضع الصراط على متن جهنم أدق من الشعرة وأحد من السيف وترسل(8/644)
الأمانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا فيمر الناس عليه على قدر أعمالهم تجري بهم أعمالهم فمنهم من يمر كلمح البصر ومنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر بزحف ومنهم ما بين ذلك ونبيكم صلى الله عليه وسلم قائم على الصراط يقول يا رب سلم سلم. قال النبي صلى الله عليه وسلم «فأكون أول من يجوز أن يعبر من الرسل بأمته ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل وكلام الرسل يومئذ اللهم سلم سلم» . وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة تأخذ من أمرت به فمخدوش ناج ومكروس في النار.
في ذلك اليوم يتفرق الناس إلى فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ - فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ - وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم: 14 - 16]
فاتقوا الله عباد الله وخذوا لهذا اليوم عدته فإنه مصيركم لا محالة وموعودكم لا ريب فيه وإنه على عظمه وشدته وهوله ليكون يسيرا على المؤمنين المتقين لأن الله يقول: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26]
فآمنوا بالله واتقوه واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه.
اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم خفف عنا أهوال ذلك اليوم واجعلنا فيه من السعداء وألحقنا بالصالحين يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(8/645)
[الخطبة الثانية في عذاب النار]
الخطبة الثانية
في عذاب النار الحمد لله مستحق الحمد وأهله الجازي خلقه جزاء دائرا بين فضله وعدله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه وحكمه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومتبعي هديه وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون اتقوا النار بطاعة الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فإنه لا نجاة لكم من النار إلا بهذا. اتقوا النار فإنها دار البوار دار البؤس والشقاء والخزي والعار دار من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ساكنوها شرار خلق الله تعالى من الشياطين وأتباعهم قال الله تعالى مخاطبا لإبليس: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ - لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 84 - 85] دار فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف وغيرهم من طغاة الخلق وفجارهم دار عبد الله بن أبي وأحزابه من منافقي هذه الأمة وخونتها. هؤلاء سكانها كفار فجرة وطغاة ظلمة ومنافقون خونة ولئن سألتم عن مكانها فإنها في أسفل السافلين وأبعد ما يكون عن رب العالمين فهي دار عقاب الله فأبعدت عن رحمة الله وعن دار أولياء الله يؤتى بها يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها حرها شديد وقعرها بعيد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ناركم هذه ما يوقد بنو آدم جزء واحد من سبعين جزءا من نار جهنم قالوا يا رسول الله إنها أي نار الدنيا لكافية قال إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا وجبة أي صوت شيء سقط فقال النبي صلى الله عليه وسلم أتدورن ما هذا قالوا الله ورسوله أعلم قال حجر أرسله الله في جهنم منذ سبعين خريفا يعني سبعين سنة فالآن حين انتهى إلى قعرها» (رواه مسلم) . وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقال لليهود والنصارى وهم الذين يتسمون الآن بالمسيحيين «يقال لليهود والنصارى ماذا تبغون فيقولون عطشنا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار قال الله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم: 86] عباد الله ما ظنكم بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف عام لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة قد تقطعت أكبادهم جوعا واحترقت(8/646)
أجوافهم عطشا ثم انصرف بهم إلى النار وهم يطمعون في الشراب فلا يجدون إلا النار يلقون فيها: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ} [الملك: 7] قد ملأها الله غيظا وحنقا عليهم: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: 8] يلقون فيها أفواجا يقابلون بالتقريع والتوبيخ: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ - قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ - وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ - فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 8 - 11] هذا ما يقابلون به عند دخولهم النار توبيخ وتقريع وإهانة وتنديم فتتقطع قلوبهم أسفا وتذوب أكبادهم كمدا وحزنا ولكن لا ينفعهم ذلك فإذا دخلوها فما أعظم عذابهم وما أشد عقابهم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16] طعامهم الزقوم وهو شجر خبيث مر الطعم نتن الريح كريه المنظر يتزقمونه تزقما لكراهته وقبحه ولكن يلجئون إلى ذلك لشدة جوعهم فلا يسمنهم ولا يغني من جوع. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال اتقوا الله حق تقاته فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معيشتهم» (رواه النسائي والترمذي وقال حسن صحيح) فإذا ملئوا بطونهم من هذا الطعام الخبيث الذي لا يسمن ولا يغني من جوع التهبت أكبادهم عطشا فلا يهيأ لهم الشراب وإنهم ليستغيثون: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الكهف: 29] وهو الرصاص المذاب {يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29] حتى تتساقط لحومها {بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف: 29] يشربونه على كره واضطرار شرب الهيم وهي الإبل العطاش التي لا تروى من الماء فإذا سقط في أجوافهم قطع أمعاءهم هذا شرابهم كالمهل في حرارته وكالصديد في نتنه وخبثه قال الله تعالى: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ - مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ - يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 15 - 17] أما لباسهم فلباس الشر والعار {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج: 19] على قدر أبدانهم لا تقيهم حر جهنم ولكن تزيدها اشتعالا فيها وحرارة {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 50] في عذاب مستمر دائم {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 75] {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56] وكلما خبت نارها زادها الله سعيرا(8/647)
{كَلَّا إِنَّهَا لَظَى - نَزَّاعَةً لِلشَّوَى - تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى - وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج: 15 - 18] يرتفع بهم لهبها إلى أعلاها: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20] ينوع عليهم العذاب فلا يستريحون فيقولون: {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر: 49] والله لا يطعمون في التخفيف الدائم ولا في الانقطاع ولو ساعة وإنما يسألون أن يخفف عنهم يوما واحدا من العذاب ولكن لا تجيبهم الملائكة إلا بالتوبيخ والتهكم تقول لهم {أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: 50] أي بالأدلة الواضحات فيقولون بلى فتقول الملائكة {فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 50] فلن يستجاب لهم لأنهم لم يستجيبوا للرسل حين دعوهم إلى الله وعبادته في الدنيا وحينئذ يتمنون الموت من شدة العذاب فيقولون {يَا مَالِكُ} [الزخرف: 77] وهو خازن النار {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] أي ليهلكنا ويميتنا فيقول لهم {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] ويقال لهم: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 78] {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167] يتوجهون إلى رب العالمين ذي العظمة والجلال والعدل في الحكم والفعال فيقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ - رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 106 - 107] فيقول لهم أحكم الحاكمين: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ - إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ - فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون: 108 - 110]
عباد الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل يعني القدر» . ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا وإنه لأهونهم عذابا. وقال صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في النار صبغة أي يغمس فيها ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط فيقول لا والله يا رب» . إنه والله لينسى كل نعيم مر به في الدنيا وقد غمس في النار غمسة واحدة فكيف به وهو مخلد فيها أبدا. يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا - إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 168 - 169] ويقول تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} [الأحزاب: 64](8/648)
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا - يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا - وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا - رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 65 - 68]
اللهم أنجنا من النار وأدخلنا الجنة دار المتقين الأبرار واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.(8/649)
[الخطبة الثالثة في نعيم الجنة]
الخطبة الثالثة
في نعيم الجنة الحمد لله الذي جعل جنات الفردوس لعباده المؤمنين نزلا ونوع لهم الأعمال الصالحة ليتخذوا منها إلى تلك الجنات سبلا وجعل ميعاد دخولها يوم القدوم عليه وضرب مدة الحياة الفانية دونه أجلا أودعها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وكملها بدوام نعيمها فأهلها خالدون فيها أبدا لا يبغون عنها حولا. والحمد لله الذي أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ولم يترك عباده هملا غير مأمورين ولا منهيين فقامت الحجة وانتفت الشبهة وبانت الطريق لمن أراد سلوكها غير أنه بحكمته زين لهم هذه الدار فكانت فتنة افتتن بها قوم فغفلوا عما أريد بهم ونسوا دار القرار وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له فاطر السماوات والأرض وجامع الناس ليوم الميعاد والعرض ليجزيهم بما عملوا من خير وشر: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه بعثه الله تعالى للإيمان مناديا وإلى دار السلام داعيا وبالمعروف آمرا وعن المنكر ناهيا وفرض على العباد طاعته والقيام بحقوقه وسد جميع الطرق إلى الجنة فلم يفتحها لأحد إلا من طريقه فبلغ رسالة ربه ونصح لعباده حتى لحق بالرفيق الأعلى وترك أمته على المحجة البيضاء فسلكها الراغبون في جنات النعيم وعدل بها المخذولون إلى طريق الجحيم فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ - وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 133 - 135] سارعوا إلى جنة لا يفنى نعيمها ولا يبيد وليس في نعيمها انقطاع ولا تنغيص ولا تنكيد ساكنوها أفضل عباد الله الرسل والأنبياء والأولياء والأصفياء والصالحون والشهداء إخوانا على سرر متقابلين قد نزع الله ما في صدورهم من الغل فكانت صفاء وطهر الله ألسنتهم من السوء فقالت صوابا: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا - إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة: 25 - 26] يتحدثون(8/650)
بينهم فيما جرى عليهم في الدنيا وما من الله به عليهم من الهدى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 50] {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ - فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ - إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 26 - 28]
لهم فيها أزواج مطهرة من كل عيب ودنس خيرات الأخلاق حسان الوجوه قاصرات الطرف مقصورات في الخيام كأنهن الياقوت والمرجان أنشأهن الله إنشاء كاملا بديعا فجعلهن أبكارا دائما عربا يتحببن إلى أزواجهن بتحسين الظاهر والباطن أترابا على سن واحدة: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ - لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ - سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 56 - 58] لهم فيها فواكه كثيرة منها يأكلون قطوفها دانية يتناولها من اشتهاها بكل سهولة قائما وقاعدا وعلى كل حال لا مقطوعة ولا ممنوعة كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى يطوف عليهم ولدان مخلدون منعمون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا يطوفون عليهم بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير، قوارير من فضة قدروها تقديرا مقدرة ما يشتهيه الشارب بحيث لا تزيد على مقدار ما يشتهيه فيبقى منه فضلة ولا تنقص عما يريده فيحتاج إلى تكملة وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] يحل الله عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا ويتجلى لهم فينظرون إليه فلا يجدون نعيما أكمل من النظر إلى الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا. أيها المسلمون إن هذه الدار مضمونة لكل من آمن بالله واستقام على أمره سامعا مطيعا راغبا فيما عند الله زاهدا فيما يبعده عن الله:(8/651)
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ - نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ - نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32]
فبؤسا لقوم آثروا الدنيا عليها فباعوا عيشا لا يفنى ولا يزول بعيش زائل مملوء بالتنكيد إن أضحك قليلا أبكى كثيرا وإن سر يوما أحزن شهورا آماله آلام وحقائقه أحلام وأوله مخاوف وآخره متالف بؤسا لقوم نعموا في الدنيا كأنما خلقوا لها وسلكوا في تحصيلها كل طريق من حلال أو حرام كأنما خلدوا لها وهم يعلمون ما فيها من الهموم والأحزان ومن تقلبات الأحوال وتغيرات الأزمان بؤسا لقوم نسوا الآخرة وأهملوها وتركوا أوامر الله وأضاعوها غدا يقال لهم: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ} [السجدة: 14]
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل الجنات وأن تباعدنا عن النار دار الهلكات وأن تتوفانا على الإيمان والتوحيد وتعيذنا من الكفر والشرك والتنديد إنك جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(8/652)
[القسم السابع في مواضيع مختلفة]
[الخطبة الأولى في التوبة وشروطها]
القسم السابع
في مواضيع مختلفة الخطبة الأولى
في التوبة وشروطها الحمد لله الملك الوهاب الرحيم التواب خلق الناس كلهم من تراب وهيأهم لما يكلفون به مما أعطاهم من الألباب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بلا شك ولا ارتياب وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أنزل عليه الكتاب تبصرة وذكرى لأولي الألباب صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآب وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله ربكم وتوبوا إليه فإن الله يحب التوابين واستغفروه من ذنبوكم فإنه خير الغافرين توبوا إلى ربكم مخلصين به بالإقلاع عن المعاصي والندم على فعلها والعزم على أن لا تعودوا إليها فهذه التوبة النصوح التي أمرتم بها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم: 8] ليست التوبة أن يقول الإنسان بلسانه أتوب إلى الله أو اللهم تب علي وهو مصر على معصية الله. وليست التوبة أن يقول ذلك وهو متهاون غير مبال بما جرى منه من معصية وليست التوبة أن يقول ذلك وهو عازم على أن يعود إلى معصية ربه ومخالفته.
أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل غلق باب التوبة عنكم فإن الله يقبل التوبة من عبده ما لم يغرغر بروحه فإذا بلغت الروح الحلقوم فلا توبة: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا - وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 17 - 18] فبادروا أيها المسلمون بالتوبة فإنكم لا تدرون متى يفاجئكم الموت ولا تدرون متى يفاجئكم عذاب الله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ - أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ - أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97 - 99] عباد الله هل أمنتم مكر الله يمدكم بالنعم المتنوعة وأنتم تبارزونه بالمعاصي. أما ترون ما وقع بالعالم في كثير منهم من الضيق في العيش والمحن. إن المجاعة والطوفان ونقص المحاصيل والقحط أحاطت بكثير(8/653)
من البلاد ولا يزال المفكرون يبحثون في تأمين الغذاء للعالم أفلا تخافون أن يحل ذلك بكم. إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]
إن من عظم العقوبات قسوة القلوب ومرضها وإن الكثير الآن قلوبهم قاسية يسمعون المواعظ والزواجر ويقرءونها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكأنهم لا يسمعون الجيد منهم إذا سمع الموعظة وعاها حين سماعها فقط فإذا فارقها خمدت نار حماسه واستولت الغفلة على قلبه وعاد إلى ما كان عليه من عمل يسمع المواعظ تقرع أذنيه في عقوبة تارك الصلاة وإضاعتها: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا - إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم: 59 - 60] ولكنه لا يتوب وكأنه لا يسمع. يسمع المواعظ في عقوبة مانع الزكاة ومن يتبع الرديء من ماله فيزكي به: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ - الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 - 7] زكاة النفس بالبراءة من الشرك وزكاة المال حيث قدموا الشح على البذل في طاعة الله: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267] يسمعون هذا كله وهم مصرون على منع الزكاة يحرمون أنفسهم خيرات أموالهم ويدخرونها لغيرهم وفي الحديث ما ظهرت الفاحشة في قوم لوط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوا من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى إلا جعل بأسهم بينهم.
أيها الناس إنه لا توبة مع الإصرار كيف يكون الإنسان تائبا من ذنب وهو يصر عليه وكيف يكون تائبا من الغش وهو لا يزال يغش في بيعه وإجارته وجميع معاملاته كيف يكون تائبا من الغيبة أكل لحوم الناس وهو يغتابهم في كل مجلس سنحت له الفرصة فيه كيف يكون تائبا من أكل أموال الناس بغير حق وهو يأكلها تارة بدعوى ما ليس له وتارة بإنكار ما عليه وتارة بالكذب في البيع وغيره وتارة بالبقاء في ملك غيره رضاه وتارة بالربا الصريح أو التحيل عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم «من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض(8/654)
فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات» .
أيها المسلمون إن التوبة الكاملة كما تتضمن الإقلاع عن الذنب والندم على فعله والعزم على ألا يعود إليه تتضمن كذلك العزم على القيام بالمأمورات ما استطاع العبد فبذلك يكون من التوابين الذين استحقوا محبة الله ورضاه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] فتوبوا أيها المسلمون إلى ربكم واستغفروه بطلب المغفرة منه بألسنتكم وقلوبكم: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] بادروا بالتوبة قبل أن يأخذكم الموت فيحال بينكم وبينها وتموتون على معصية الله. إن بعض الناس تغره الأماني ويغره الشيطان فيسوف بالتوبة ويؤخرها حتى يقسو قلبه بالمعصية والإصرار عليها فتغلق دونه الأبواب أو يأخذه الموت قبل المهلة في وقت الشباب.
اللهم وفقنا للمبادرة بالتوبة من الذنوب والرجوع إلى ما يرضيك عنها في السر والعلانية فإنك علام الغيوب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . . . الخ.(8/655)
[الخطبة الثانية في التوبة وشروطها أيضا]
الخطبة الثانية
في التوبة وشروطها أيضا الحمد لله الملك الوهاب الغفور التواب يتوب على التائبين مهما عظمت ذنوبهم إذا تابوا إليه ويبدل سيئاتهم حسنات إذا أصلحوا أعمالهم وأنابوا إليه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا ربكم وتوبوا إليه توبوا إليه بالرجوع إليه من معصيته إلى طاعته ومن البعد عنه إلى التقرب إليه ومن رجس الذنوب إلى التطهر منها فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
إن التوبة من الذنوب واجبة على الفور لا يجوز تأخيرها أو التكاسل فيها فإن تأخير التوبة ذنب يحتاج إلى توبة. التوبة واجبة لأن الله أمر بها في كتابه وأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم ورتب عليها الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة قال الله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مئة مرة» (رواه مسلم) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (رواه البخاري) .
أيها المسلمون إن التوبة إلى الله واجبة على الفور لأن أوامر الله ورسوله كلها على الفور إذا لم يقم دليل على جواز تأخيرها. وتأخير التوبة سبب لتراكم الذنوب والرين على القلوب في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها وإن زاد زادت حتى يغلف بها قلبه فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه» . {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]
أيها المسلمون توبوا إلى الله توبة نصوحا يمحو الله بها ذنوبكم ويكفر عنكم سيئاتكم ويرفع درجاتكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8](8/656)
وإن التوبة لن تكون نصوحا مقبولة حتى يتم فيها خمسة شروط:
لن تكون مقبولة حتى تكون خالصة لله عز وجل بأن يكون الباعث لها حب الله تعالى وتعظيمه ورجاء ثوابه والخوف من عقابه فلا يريد بها تزلقا إلى مخلوق ولا عرضا من الدنيا. ولن تكون التوبة مقبولة حتى يكون نادما أسفا على ما فعل من المعصية بحيث يتمنى أنه لم يفعل المعصية لأن هذا الندم يوجب الانكسار بين يدي الله عز وجل والإنابة إليه. ولن تكون التوبة مقبولة حتى يقلع عن المعصية فإن كانت المعصية بفعل محرم تركه في الحال وإن كانت بترك واجب فعله في الحال إن كان ما يمكن قضاؤه وإن كانت مما يتعلق بحقوق الخلق تخلص منها وأداها إلى أهلها واستحلهم منها فلا تصح التوبة من الغيبة وهو مستمر عليها ولا تصح التوبة من الربا وهو مستمر على التعامل به. إن كثيرا من الناس عندما تنصحه ليلقع من المعصية يقابلك بقول الله يعيننا على أنفسنا ونعم ما قال فإن الله إذا لم يعن العبد فلا خلاص له ولكنها كلمة حق أريد بها باطل أريد بها الاعتذار عن الاستمرار في المعصية وليست بعذر لأن العبد مأمور مع الاستعانة بالله أن يحرص على ما ينفعه قال النبي صلى الله عليه وسلم احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز. فلا تقبل التوبة من ترك صلاة الجماعة مثلا وهو مستمر على ترك الجماعة ولا تقبل التوبة من الغش والخيانة وهو مقيم على ذلك. إن من يدعي التوبة من ذنب وهو مقيم عليه فتوبته استهزاء بالله عز وجل لا تزيده من الله إلا بعدا كمن اعتذر إليك من فعل شيء وهو مقيم عليه فإنك لا تعتبره إلا مستهزئا بك لاعبا عليك.
فاتقوا الله أيها المسلمون وتوبوا إلى ربكم وأقلعوا من ذنوبكم واعزموا أن لا تعودوا في المستقبل فلن تكون التوبة مقبولة حتى يعزم التائب أن لا يعود في المستقبل لأنه لم يعزم على ذلك فتوبته مؤقتة يتحين فيها الفرص المواتية لا تدل على كراهيته للمعصية وهربه منها إلى طاعة الله عز وجل. وأن تكون التوبة مقبولة حتى تصدر في زمن قبولها وهو ما قبل حضور الأجل وطلوع الشمس من مغربها فإن كانت التوبة بعد حضور الأجل ومعاينة الموت لم تقبل قال الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر يعني بروحه» (رواه أحمد(8/657)
والترمذي وقال حديث حسن) . وإذا كانت التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها لم تقبل لقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] والمراد بذلك طلوع الشمس من مغربها إذا رآها الناس طالعة منه آمنوا أجمعون فلا ينفع نفسا إيمانها إذا لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال التوبة تقبل حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه» (قال ابن كثير حسن الإسناد) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه» (رواه مسلم) . فتوبوا أيها المسلمون إلى الله وأسلموا له وثقوا بأن التوبة النصوح تجب ما قبلها من الذنوب مهما عظمت قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ - وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ - أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ - أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ - أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ - بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 53 - 59]
اللهم وفقنا للتوبة النصوح التي تمحو بها ما سلف من ذنوبنا وتيسر بها أمورنا وترفع بها درجاتنا إنك جواد كريم.(8/658)
[الخطبة الثالثة في حقوق الرعية والرعاة]
الخطبة الثالثة
في حقوق الرعية والرعاة الحمد لله القهار القوي العزيز الجبار ذلت لعظمته الصعاب وحسرت عن بلوغ غاية حكمته الألباب وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العظمة والكبرياء والاقتدار وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المختار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار وعلى التابعين لهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله شرع لعباده على لسان أفضل خلقه شريعة كاملة في نظامها وتنظيمها كاملة في العبادات والحقوق والمعاملات كاملة في السياسة والتدبير والولايات جعل الولاية فيها فرض كفاية سواء كانت تشريعية كالقضاء أو تنفيذية كالإمارة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فلا بد من ولي أمر ولا بد من طاعته وإلا فسد الناس وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم» (رواه أحمد في المسند ص 177 ج2) وقال «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» (رواه أبو داود ص 34 ج2) فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم التأمير في السفر مع أنه اجتماع عارض غير مستقر فكيف بالاجتماع الدائم المستقر. وجاءت هذه الشريعة الكاملة التي أوجبت الولاية لقيام الناس بالعدل جاءت بواجبات على الولاة وعلى الرعية وألزمت كل واحد منها بالقيام بها حتى يستتب الأمن ويحل النظام والتآزر بين الحاكمين والمحكومين.
أما حقوق الولاة على رعيتهم فهي النصح والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة بسلوك أقرب الطرق إلى توجيههم وإرشادهم وأن لا يتخذ من خطئهم - إذا أخطأوا - وهم معرضون للخطأ كغيرهم من بني آدم لكن لا يتخذ من هذا الخطأ سلما للقدح فيهم ونشر عيوبهم بين الناس فإن هذا يوجب التنفير عنهم وكراهيتهم وكراهية ما يقومون به من أعمال وإن كانت حقا ويوجب بالتالي التمرد عليهم وعدم السمع والطاعة وفي ذلك تفكيك المجتمع وحدوث الفوضى والفساد.
ومن حقوق الولاة على رعيتهم السمع والطاعة بامتثال ما أمروا به وترك ما نهوا عنه ما لم يكن في ذلك مخافة لشريعة الله فإن كان في ذلك مخالفة لشريعة الله فلا سمع لهم ولا طاعة(8/659)
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وفي الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال «بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار فلما خرجوا غضب عليهم في شيء فقال أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تطيعوني قالوا بلى قال فاجمعوا لي حطبا فجمعوا له ثم دعا بنار فأضرمها فيه ثم قال عزمت عليكم لتدخلنها فقال لهم شاب منهم إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا إنما الطاعة في المعروف» . وقال صلى الله عليه وسلم: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» . وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله قال إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان» .
أيها الناس إن من طاعة ولاة الأمور التي أمر بها أن يتمشى المؤمن على أنظمة حكومته المرسومة إذا لم تخالف الشريعة فمن تمشى على ذلك كان مطيعا لله ورسوله ومثابا على عمله ومن خالف ذلك كان عاصيا لله ورسوله وآثما بذلك.
أما حقوق الرعية على ولاتهم فالمسؤولية كبيرة والأمر خطير فليس المقصود بالولاية بسط السلطة ونيل المرتبة إنما المقصود بها تحمل مسؤولية عظيمة تتركز على إقامة الحق بين الخلق بنصر دين الله وإصلاح عباد الله دينيا ودنيويا فيجب على الولاة صغارا أو كبارا إخلاص النية لله سبحانه والاستعانة به في جميع أمورهم على ما حملهم من هذه الأمانة وعليهم أن يطبقوا أحكامه سبحانه وتعالى بحسب استطاعتهم على الشريف والوضيع والقريب والبعيد لا يحابوا شريفا لشرفه ولا قريبا لقربه متمشين في ذلك على ما رسم لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم حيث قال معلنا ومقسما وهو البار الصادق بدون قسم: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» فمن قام بذلك من ولاة الأمور الصغيرة أو الكبيرة كان مطيعا لله ورسوله مؤديا لأمانته نائلا ثواب الله ورضا الخلق عليه فإن الله يحب المقسطين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» . رواه مسلم. وقال: «أهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى مسلم(8/660)
وعفيف متعفف ذو عيال» . رواه مسلم.
فاتقوا الله أيها المسلمون من ولاة ورعية وقوموا بما أوجب الله عليكم ليستتب الأمن ويحصل التآلف فإن تفرطوا يسلط الله بعضكم على بعض فتسلط الولاة على الرعية بالظلم وإهمال الحقوق وتسلط الرعية على الولاة بالمخالفة والفوضى والاعتزاز بالرأي فلا ينضبط الناس ولا يصلح لهم حال.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . الخ.(8/661)
[الخطبة الرابعة في الأطوار التي مر بها المسجد الأقصى]
الخطبة الرابعة
في الأطوار التي مر بها المسجد الأقصى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس فلقد مضى على احتلال اليهود المسجد الأقصى أكثر من ثماني سنوات وهم يعيثون به فسادا وبأهله عذابا وفي هذه الأيام أصدرت محكمة يهودية حكما بجواز تعبد اليهود في نفس المسجد الأقصى ومعنى هذا الحكم الطاغوتي إظهار شعائر الكفر في مسجد من أعظم المساجد الإسلامية حرمة. إنه المسجد الذي أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ليعرج من هناك إلى السماوات العلى إلى الله جل وتقدس وعلا. إنه لثاني مسجد وضع في الأرض لعبادة الله وتوحيده ففي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت «يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول قال المسجد الحرام قلت ثم أي قال المسجد الأقصى قلت كم بينهما قال أربعون سنة» . إنه لثالث المساجد المعظمة في الإسلام التي تشد الرحال إليها لطاعة الله وطلب المزيد من فضله وكرمه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى» . إنه المسجد الذي يقع في الأرض المقدسة المباركة مقر أبي الأنبياء إبراهيم وابنيه سوى إسماعيل. مقر إسحاق ويعقوب إلى أن خرج وبنيه إلى يوسف في أرض مصر فبقوا هنالك حتى صاروا أمة بجانب الأقباط الذين يسومونهم سوء العذاب حتى خرج بهم موسى صلى الله عليه وسلم فرارا منهم وقد ذكر الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل بهذه النعمة الكبيرة وذكرهم موسى نعم الله عليهم بذلك وبغيره إذ جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكا وآتاهم ما لم يؤت أحد من العالمين في وقتهم وأمرهم بجهاد الجبابرة الذين استولوا على الأرض المقدسة وبشرهم بالنصر حيث قال: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21] وإنما كتبها الله لهم لأنهم في ذلك الوقت أحق الناس بها حيث هم أهل الإيمان والصلاح والشريعة القائمة: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ - إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105 - 106] ولكنهم نكلوا عن الجهاد(9/622)
: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} [المائدة: 22] وقالوا: {يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ولنكولهم عن الجهاد ومواجهتهم نبيهم بهذا الكلام النافر حرم الله عليهم الأرض المقدسة فتاهوا في الأرض ما بين مصر والشام أربعين سنة لا يهتدون سبيلا حتى مات أكثرهم أو كلهم إلا من ولدوا في التيه فمات هارون وموسى عليهما الصلاة والسلام وخلفهما يوشع فيمن بقي من بني إسرائيل من النشء الجديد وفتح الله عليهم الأرض المقدسة وبقوا فيها حتى آل الأمر إلى داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام فجدد بناء بيت المقدس وكان يعقوب قد بناه قبل ذلك. ولما عتا بنو إسرائيل عن أمر ربهم وعصوا رسله سلط الله عليهم ملكا من الفرس يقال له بختنصر فدمر بلادهم وبددهم قتلا وأسرا وتشريدا وخرب بيت المقدس للمرة الأولى ثم اقتضت حكمة الله عز وجل بعد انتقامه من بني إسرائيل أن يعودوا إلى الأرض المقدسة وينشأوا نشأ جديدا وأمدهم بأموال وبنين وجعلهم أكثر نفيرا فنسوا ما جرى عليهم وكفروا بالله ورسوله {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70] فسلط الله عليهم بعض ملوك الفرس والروم مرة ثانية واحتلوا بلادهم وأذاقوهم العذاب وخربوا بيت المقدس وتبروا ما علوا تتبيرا. كل هذا بسبب ما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله عز وجل ورسله عليهم الصلاة والسلام: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129] ثم بقي المسجد الأقصى بيد النصارى من الروم من قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ثلثمائة سنة حتى أنقذه الله من أيديهم بالفتح الإسلامي على يد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السنة الخامسة عشرة من الهجرة فصار المسجد الأقصى بيد أهله ووارثيه بحث وهم المسلمون: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] وبقي في أيدي المسلمين حتى استولى عليه النصارى من الفرنج أيام الحروب الصليبية في الثالث والعشرين من شعبان سنة 492 هـ فدخلوا القدس في نحو مليون مقاتل وقتلوا من المسلمين نحو ستين ألفا ودخلوا المسجد واستولوا على ما فيه من ذهب وفضة وكان يوما عصيبا على المسلمين(9/663)
أظهر النصارى شعائرهم في المسجد الأقصى فنصبوا الصليب وضربوا الناقوس وحلت فيه عقيدة إن الله ثالث ثلاثة - أن الله هو المسيح ابن مريم والمسيح ابن الله - وهذا والله من أكبر الفتن وأعظم المحن وبقي النصارى في احتلال المسجد الأقصى أكثر من تسعين سنة حتى استنقذه الله من أيديهم على يد صلاح الدين الأيوبي يوسف بن أيوب رحمه الله في 27 رجب سنة 583هـ، وكان فتحا مبينا ويوما عظيما مشهودا أعاد الله فيه إلى المسجد الأقصى كرامته وكسرت الصلبان ونودي فيه بالأذان وأعلنت فيه عبادة الواحد الديان ثم إن النصارى أعادوا الكرة على المسلمين وضيقوا على الملك الكامل ابن أخي صلاح الدين فصالحهم على أن يعيد إليهم بيت المقدس ويخلوا بينه وبين البلاد الأخرى وذلك في ربيع الآخر سنة 626هـ، فعادت دولة الصليب على المسجد الأقصى مرة أخرى وكان أمر الله مفعولا واستمرت أيدي النصارى عليه حتى استنقذه الملك الصالح أيوب ابن أخي الكامل سنة 642هـ، وبقي في أيدي المسلمين وفي ربيع الأول سنة 1387هـ ـ احتله اليهود أعداء الله ورسوله بمعونة أوليائهم من النصارى ولا يزال تحت سيطرتهم ولن يتخلوا عنه وقد قالت رئيسة وزرائهم فيما بلغنا إن كان من الجائز أن تتنازل إسرائيل عن تل أبيب فليس من الجائز أن تتنازل عن أورشليم القدس نعم لن تتنازل إسرائيل عن القدس إلا بالقوة ولا قوة إلا بنصر من الله عز وجل ولا نصر من الله إلا بعد أن ننصره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] وإن نصرنا لله لا يكون بالأقوال البراقة والخطب الرنانة التي تحول القضية إلى قضية سياسية وهزيمة مادية ومشكلة إقليمية وإنها والله لمشكلة دينية إسلامية للعالم الإسلامي كله، إن نصر الله عز وجل لا يكون إلا بالإخلاص له والتمسك بدينه ظاهرا وباطنا والاستعانة به وإعداد القوة المعنوية والحسية بكل ما نستطيع ثم القتال لتكون كلمة الله هي العليا وتطهر بيوته من رجس أعدائه.
أما أن نحاول طرد أعدائنا من بلادنا ثم نسكنهم قلوبنا بالميل إلى منحرف أفكارهم والتلطخ بسافل أخلاقهم أما أن نحاول طردهم من بلادنا ثم يلاحقهم رجال مستقبل أمتنا يتجرعون أو يستمرئون صديد أفكارهم ثم يرجعون يتقيؤونه بيننا. أما أن نحاول طردهم من بلادنا ثم نستقبل ما يرد منهم من أفلام فاتنة وصحف مضلة. أما أن نحاول طردهم من(9/664)
بلادنا مع ممارسة هذه الأمور فذلك التناقض البين والمسلك غير السليم والفجوة السحيقة بيننا وبين النصر: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41] نعم أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر لا كما قال بعض المذيعين أيام الحرب مع اليهود في عام 87هـ غدا تغني أم كلثوم في قلب تل أبيب. صلى الله على رسوله وسلم لقد صلى غداة فتح مكة ثماني ركعات إما شكرا لله تعالى على الفتح خاصة أو تعبدا بصلاة الضحى والعبادة من الشكر وهكذا حال الفاتحين في الإسلام يعقبون الفتح بالشكر والتقوى فاتقوا الله أيها المسلمون وأنيبوا إلى ربكم وأقيموا شريعته وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين وطهر المسجد الأقصى من اليهود والنصارى والمنافقين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنك جواد كريم.(9/665)
[القسم الثامن في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه]
[الخطبة الأولى في مجمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم]
القسم الثامن
في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الخطبة الأولى
في مجمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتعلموا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يكون به عبرة لكم واطلاع على حكمة ربكم في تقديره وتشريعه. فلقد بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين وإمامهم وأفضلهم في أشرف بقاع الأرض في أم القرى ومقصد العالمين فدعا إلى توحيد الله تعالى ثلاث عشرة سنة كلها في مكة وحدث له في تلك المدة تلك الآية الكبرى أن أسرى الله به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرج به في تلك الليلة من الأرض إلى السماوات العلى بصحبة جبريل الروح الأمين فارتقى به سماء سماء حتى بلغ سدرة المنتهى ووصل إلى مستوى سمع فيه صريف أقلام القضاء والتدبير وفي تلك الليلة فرض عليه الصلوات الخمس فصلاهن فريضة على ركعتين ركعتين إلا المغرب فثلاث ركعات لتوتر صلاة النهار وبقي على ذلك ثلاث سنوات قبل الهجرة ولما هاجر زيدت الظهر والعصر والعشاء فصارت أربعا أربعا للمقيمين وبقيت ركعتين للمسافرين وفي السنة الأولى من الهجرة شرع الله للمسلمين الأذان والإقامة وفي السنة الثانية فرضت مقادير الزكاة وبينت الأنصباء وفرض الله صيام رمضان وفي السنة التاسعة فرض الله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا.
ولقد أذن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بالقتال بعد الهجرة حيث كان للإسلام دولة وللمسلمين قوة ففي رمضان من السنة الثانية كانت غزوة بدر الكبرى حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم بثلثمائة وبضعة عشر رجلا من أصحابه لأخذ عير قريش الذي توجه أبو سفيان من الشام إلى مكة فبعث أبو سفيان إلى أهل مكة يستصرخهم لإنقاذ عيرهم فخرجوا بصناديدهم وكبرائهم ما بين تسعمائة وألف رجل فجمع الله بين رسوله صلى الله عليه وسلم وبينهم على غير ميعاد في بدر فنصره(9/666)
الله عليهم وقتل منهم سبعين رجلا من بينهم الكبراء والرؤساء وأسر سبعين وكان في ذلك مشركو قريش بنحو ثلاثة آلاف رجل ليأخذوا بالثأر من النبي صلى الله عليه وسلم فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بهم خرج إليهم فقاتلهم بنحو سبعمائة من أصحاب وكان النصر لهم حتى ولى المشركون الأدبار إلا أن الرماة الذين جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم في ثنية الجبل يحمون ظهور المسلمين ولا يبرحون عن مكانهم تركوه حين ظنوا أن المعركة انتهت بظهور هزيمة المشركين ولكن الفرسان من المشركين كروا على المسلمين حين رأوا الثنية خالية فانتكس الأمر وصار كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152]
وفي ربيع الأول من السنة الرابعة كانت غزوة بني النضير وهم إحدى قبائل اليهود الثلاث الذين كانوا في المدينة وعاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم حين قدمها فنقضوا العهد فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فتحصنوا بحصونهم: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] وخرجوا منها أذلة فنزل بعضهم في خيبر وبعضهم في الشام.
وفي شوال من السنة الخامسة كانت غزوة الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش وغيرهم بتحريض من اليهود من بني النضير الذين أرادوا أن يأخذوا بالثأر من النبي صلى الله عليه وسلم حين أجلاهم من المدينة فعسكروا حول المدينة بنحو عشرة آلاف مقاتل فضرب النبي صلى الله عليه وسلم الخندق على المدينة من الناحية الشمالية فحماها الله تعالى من الأعداء فأرسل الله عليهم ريحا شرقية عظيمة باردة: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25] وفي ذي القعدة من هذه السنة حاصر النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة آخر قبائل اليهود في المدينة فقتل رجالهم وسبى ذريتهم ونساءهم لنقضهم العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فأورث الله نبيه والمؤمنين أرضهم وديارهم وأموالهم.(9/667)
وفي ذي القعدة من السنة السادسة كانت غزوة الحديبية التي كانت فيها بيعة الرضوان حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ألف وثلثمائة رجل من أصحابه يريد العمرة فصده المشركون عن ذلك مع أن عادتهم أن لا يصد أحد عن البيت فأرسل إليهم عثمان بن عفان ليفاوضهم فأشيع أنه قد قتل فبايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لقتال قريش وفي ذلك أنزل الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا - وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 18 - 19]
وفي محرم من السنة السابعة كانت غزوة خيبر وهي حصون اليهود ومزارعهم في الحجاز فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم فيها لنقضهم العهد وتحريضهم كفار قريش وغيرهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم فحاصرهم حتى فتح الله عليه فغنم النبي صلى الله عليه وسلم أرضهم وقسمها بين المسلمين.
وفي رمضان من السنة الثامنة كانت غزوة فتح مكة حين نقضت قريش العهد الذي كان بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية فخرج إليهم في نحو عشرة آلاف من أصحابه ففتح الله عليهم وطهر أم القرى من الشرك وأهله ودخل الناس به في دين الله أفواجا.
غير أن هوازن وثقيف ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فرغ من قتال قريش ولا ناهية له فاجتمعوا له في حنين فخرج إليهم في شوال من السنة الثامنة لقتالهم في نحو اثني عشر ألفا وأعجب بعض الناس بكثرتهم وقالوا لن نغلب اليوم من قلة فأراهم الله تعالى أن النصر من عنده لا بسبب الكثرة وأنزل في ذلك: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ - ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 25 - 26]
وفي السنة التاسعة من شهر رجب كانت غزوة تبوك حين بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن الروم قد جمعوا له يريدون غزوه فخرج صلى الله عليه وسلم إليهم في زمن عسرة وفي أيام شدة الحر وطيب الثمار وقت الرطب والمسافة بعيدة فنزل في تبوك نحو عشرين يوما ولم يكن قتال ثم رجع إلى(9/668)
المدينة وأقام فيها وكاتب من حوله من زعماء الكفار يدعوهم إلى الإسلام وصارت الوفود تأتي إليه من كل وجه يعلنون إسلامهم ويتعلمون منه دينهم.
هكذا كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم حياة جهاد وعمل ودعوة إلى الله ودفاع عن دينه حتى توفاه الله عز وجل بعد أن أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على المؤمنين وكانت وفاته يوم الاثنين في الثاني عشر أو الثالث عشر من شهر ربيع الأول. فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين.(9/669)
[الخطبة الثانية في مبدأ حياة النبي صلى الله عليه وسلم]
الخطبة الثانية
في مبدأ حياة النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي أرسل الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه بالحق المبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى الخلق أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به على عباده من إرسال الرسل وإنزال الكتب ونشر الحق بين الخلق فإن العقل البشري لا يمكن أن يهتدي إلى معرفة الخالق تفصيلا ولا يمكنه أن يتعبد لله بما لا يدركه تحصيلا ولا يمكنه أن يعامل غيره بطريق الحق والعدل إلا بالوحي الذي بين الله به كيف يعرف العبد ربه وكيف يقيم عبادته وكيف يعامل غيره فكان الرسل عليهم الصلاة والسلام مبينين لعبادة الخلاق ومتممين لمكارم الأخلاق.
كان الناس على ملة واحدة دين أبيهم آدم فلما كثروا تفرقت كلمتهم واختلفت آرائهم فبعث الله إليهم رسله ليقوم الناس بالقسط فبدأ الله الرسالة بنوح عليه الصلاة والسلام وختمها بمحمد صلى الله عليه وسلم. فمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وأفضلهم أرسله الله تعالى على حين فترة من سلالة إسماعيل بن إبراهيم من صميم العرب فكان أكرم الناس نسبا وأطيبهم مولدا فولد صلى الله عليه وسلم بمكة في يوم الاثنين في الثاني من شهر ربيع الأول وقيل في الثامن وقيل في التاسع وقيل في العاشر وقيل في الثاني عشر وقيل في السابع عشر وقيل في الثاني والعشرين في العام الذي أهلك الله به أصحاب الفيل اللذين أرادوا هدم الكعبة فأنزل الله فيهم سورة من القرآن. ولدته أمه آمنة من أبيه عبد الله بن عبد المطلب وقد رأت أمه قبل ولادته أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام فمات أبوه في المدينة قبل أن يولد صلى الله عليه وسلم وماتت أمه بالأبواء في طريق المدينة وهو في السادسة من عمره فكفله جده عبد المطلب ثم مات ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الثامنة من عمره فنشأ صلى الله عليه وسلم يتيم الأبوين والجد ولكن الله تعالى آواه وهو نعم المولى ونعم النصير فيسر الله له عمه أبا طالب شقيق أبيه فضمه إلى عياله وأحسن كفالته وأحبه حبا شديدا وبارك الله(9/670)
له بسبب النبي صلى الله عليه وسلم في ماله وحاله. ولقد اشتغل صلى الله عليه وسلم بما اشتغل به الأنبياء من قبل، اشتغل يرعى الغنم وما من نبي إلا رعى الغنم ليعتاد بذلك حسن الرعاية والتصريف فيما يكون راعيا له في المستقبل ثم اشتغل صلى الله عليه وسلم بالتجارة فاشتهر عند الناس بالصدق والأمانة وحسن المعاملة ثم لما بلغ الخامسة والعشرين من عمره تزوج خديجة رضي الله عنها ولها أربعون سنة وقد تزوجت قبله برجلين وكانت رضي الله عنها من شريفات نساء العرب موصوفة بالعقل والحزم والذكاء ورزقها الله منه ابنين وبنات أربع وكان أولاده كلهم منها إلا إبراهيم فإنه من أم ولده مارية القبطية وكلهم ماتوا في حياته إلا فاطمة. ولم يتزوج عليها صلى الله عليه وسلم حتى ماتت رضي الله عنها في السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين فتزوج بعدها عائشة.
وكان صلى الله عليه وسلم معظما في قومه محترما يحضر معهم في مهمات الأمور فحضر حلف الفضول الذي تعاقدوا به على درء المظالم ورد الحقوق إلى أهلها وكان حكما في قريش عند نزاعها في وضع الحجر الأسود في مكانه حين هدمت الكعبة فتنازعوا أيهم يضع الحجر مكانه فقيض الله لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكموه بينهم وانقادوا لقضائه فبسط صلى الله عليه وسلم رداءه ووضع الحجر فيه ثم قال لأربعة من رؤساء قريش ليأخذ كل واحد منكم بجانب من هذا الرداء فحملوه حتى إذا أدنوه من موضعه أخذه صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة فوضعه في مكانه فكان له صلى الله عليه وسلم بهذا الحكم العادل شرف كبير ونبأ عظيم وكان صلوات الله وسلامه عليه محفوظا من عبادة الأوثان وشرب الخمور وعمل الميسر. ولما بلغ الأربعين من عمره جاءه الوحي من الله تعالى فكان أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب الله إليه الخلاء وهو الانفراد عن ذلك المجتمع الفوضوي في عقيدته وعبادته فكان يخلو بغار حراء وهو الجبل الذي عن يمين الداخل إلى مكة من طريق الشرائع ويتعبد فيه «حتى نزل عليه الوحي هناك فجاءه جبريل فقال اقرأ فقال ما أنا بقارئ أي لا أحسن القراءة وفي الثالثة قال له جبريل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ - خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ - اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ - الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ - عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5] فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهله يرجف فؤاده لأنه رأى أمرا عظيما لم يكن معهودا له من قبل فدخل على خديجة فقال لها وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل رحمك وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري(9/671)
الضيف وتعين على نوائب الحق» . فاستدلت رضي الله عنها بأفعاله الجميلة على أن حكمة الله تأبى أن يلحق العار والخزي مثل هذا. وبنزول هذه الآيات على محمد صلى الله عليه وسلم صار نبيا فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5]
وبذلك صار نبيا رسولا إلى جميع الثقلين فدعا إلى الله وبشر وأنذر فخص وعم فأنذر عشيرته الأقربين ثم بقية الخلق أجمعين حتى أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على المؤمنين وأظهر دينه ونصره وهم نعم المولى ونعم النصير وفي هذا يقول الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.(9/672)
[الخطبة الثالثة في مبدأ حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة]
الخطبة الثالثة
في مبدأ حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أنزل الله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5] قام صلى الله عليه وسلم ممتثلا لأمر ربه متوكلا عليه واثقا به فدعا الناس إلى عبادة الله وكان بدء الدعوة سرا فآمن به رجال من قريش وكان أولهم إسلاما أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأسلم على يديه رضي الله عنه خمسة من المبشرين بالجنة عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وهؤلاء الخمسة مع أبي بكر وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة هم الثمانية الموصوفون بالسبق إلى الإسلام. وأسلم غيرهم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمع بهم سرا ويرشدهم إلى ما أرشده الله إليه من الإسلام في دار الأرقم بن أبي الأرقم لمدة ثلاث سنين حتى أنزل الله عليه قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] «فصعد صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي يا بطون قريش فاجتمع الناس إليه حتى كان الرجل إذا لم يستطع أن يأتي أرسل رسولا لينظر الخبر فلما اجتمعوا قال لهم صلى الله عليه وسلم إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة» فقال له عمه أبو لهب تبا لك ألهذا جمعتنا وسخر به وبما قال فأنزل الله فيه سورة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] ثم أنزل الله على رسوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] فجمعهم صلى الله عليه وسلم وقال «والله لو كذبت الناس كلهم ما كذبتكم والله إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة والله لتموتن ولتبعثن ولتحاسبن ولتجزون وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا» فتكلم القوم كلاما لينا لكن أبا لهب قال خذوا على يديه قبل أن تجتمع العرب عليه فإن سلمتموه ذللتم وإن منعتموه قتلتم فمانعه أبو طالب وقال لنمنعنه ما بقينا. ثم انصرف الجمع بدون طائل ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظل يدعو إلى الله تعالى علنا وجهرا وكان الناس يسخرون به يقولون هذا غلام عبد المطلب يكلم من السماء هذا ابن أبي كبشة. ثم إنه صلى الله عليه وسلم جعل يسفه(9/673)
عقول المشركين ويبين بطلان عبادتهم للأصنام فكلمت قريش أبا طالب أكثر من مرة ليمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وهددوه فأشار أبو طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبقي عليه وعلى نفسه فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه سيخذله فشق ذلك عليه وقال «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه» ثم بكى وانصرف فناداه عمه وقال يا ابن أخي قل ما أحببت فوالله لا أسلمك إليهم أبدا. فاستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة وازداد أذى قومه له بالقول والفعل فكان أبو جهل إذا رآه يصلي نهاه وأغلظ عليه القول وقال ألم أنهك. وكان يوما يصلي وحوله ملأ من قريش فقال بعضهم لبعض أيكم يعمد إلى جزور آل فلان فيأتي بدمها وسلاها فيضعه بين كتفيه إذا سجد فانبعث أشقى القوم به فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه فثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدا والقوم يضحكون ويسخرون حتى جاءت ابنته فاطمة وهي جويرية صغيرة فألقته عنه وكانوا يرمون القذر على بابه فيخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحه ويقول أي جوار هذا. واشتد أذى قريش لمن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يعذبونهم بالطعن والضرب والنار فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوي أصحابه ويشجعهم على الصبر قال لعمار بن ياسر وأهله وهم يعذبون «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» ولما رأى اشتداد الأمر بأصحابه أذن لهم بالهجرة وقال «تفرقوا في الأرض فإن الله سيجمعكم» وأشار إلى الحبشة فهاجر إليها في السنة الخامسة من البعثة عشرة رجال وخمس نساء ثم رجعوا بعد ثلاثة أشهر ولكن المشركين ما زال أذاهم يستمر وشرهم يستفحل فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة مرة ثانية إلى الحبشة في السنة السابعة من البعثة فهاجر إليها فوق الثمانين من الرجال ودون العشرين من النساء فأكرمهم النجاشي وجعل لهم الحرية في دينهم.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فبقي في مكة يلاقي الشدائد والبلايا من أذية كفار قريش له وهو صابر محتسب منفذ لأمر الله وقد مات عمه أبو طالب وزوجته خديجة في السنة العاشرة من البعثة فاشتد الأمر عليه ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعو قبائل ثقيف إلى الإسلام فلم يجد منهم إلا السخرية والأذى ورموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ودخلها في جوار المطعم بن عدي وصار يعرض نفسه على القبائل في المواسم كل عام يتتبع الناس في منازلهم(9/674)
يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له. فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا فعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن فلما رجعوا إلى قومهم بالمدينة أخبروهم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلما كان العام المقبل قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلا منهم فبايعوه وبعث معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام فكثر الإسلام في المدينة فلما كان العام المقبل قدم من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو سبعين رجلا وامرأتان فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم إذا هاجر إليهم فكان في ذلك فاتحة خير للإسلام والمسلمين وفخر عظيم للأنصار رضي الله عنهم.
عباد الله إن فيما جرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ دعوة الإسلام من الأذى والتعب والمشقة لعبرة لأولي الأبصار.
فاتقوا الله أيها المسلمون واعتبروا واصبروا على ما يصيبكم في الدعوة إلى دين الله وانتظروا فإن العاقبة للمتقين وإن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير.(9/675)
[الخطبة الرابعة في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم]
الخطبة الرابعة
في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي أرسل رسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله والشكر له على ما أولانا من واسع كرمه وفضله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هدى من هدى بفضله وأضل من أضل بحكمته وعدله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى من جميع خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وصحبته وسلم تسليما.
أما بعد: ففي هذا الشهر شهر ربيع الأول من العام الثالث عشر من البعثة وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا من مكة البلد الأول للوحي وأحب البلاد إلى رسول الله ورسوله خرج من مكة مهاجرا بإذن ربه بعد أن قام بمكة ثلاث عشرة سنة يبلغ رسالة ربه ويدعو إليه على بصيرة فلم يجد من أكثر قريش وأكابرهم سوى الرفض لدعوته والإعراض عنها والإيذاء الشديد للرسول صلى الله عليه وسلم ومن آمن به حتى آل الأمر بهم إلى تنفيذ خطة المكر والخداع لقتل النبي صلى الله عليه وسلم حيث اجتمع كبراؤهم في دار الندوة وتشاوروا ماذا يفعلون برسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوا أصحابه يهاجرون إلى المدينة وأنه لا بد أن يلحق بهم ويجد النصرة والعون من الأنصار الذين بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم وحينئذ تكون له الدولة على قريش فقال عدو الله أبو جهل الرأي أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جلدا ثم نعطي كل واحد سيفا صارما ثم يعمدوا إلى محمد فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه ونستريح منه فيتفرق دمه في القبائل فلا يستطيع بنو عبد مناف يعني عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن يحاربوا قومهم جميعا فيرضون بالدية فنعطيهم إياها.
الله أكبر هكذا يخطط أعداء الله للقضاء على رسول الله وبهذا القدر من المكر والخديعة ولكنهم يمكرون ويمكر الله كما قال الله عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] فأعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما أراد المشركون وأذن له بالهجرة وكان أبو بكر رضي الله عنه قد تجهز من قبل للهجرة إلى المدينة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي» فتأخر أبو بكر رضي الله عنه ليصحب النبي صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة رضي الله عنها «فبينما نحن في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة في منتصف النهار إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم على الباب متقنعا فقال أبو بكر فداء له أبي وأمي والله(9/676)
ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وقال لأبي بكر أخرج من عندك فقال إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن لي في الخروج فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله قال نعم فقال يا رسول الله فخذ إحدى راحلتي هاتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم بالثمن» ثم خرجا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فأقاما في غار جبل ثور ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وكان غلاما شابا ذكيا واعيا فينطلق في آخر الليل إلى مكة فيصبح مع قريش فلا يسمع بخبر حول النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلا وعاه حتى يأتي به إليهما حين يختلط الظلام فجعلت قريش تطلب النبي صلى الله عليه وسلم من كل وجه وتسعى بكل وسيلة ليدركوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى جعلوا لمن يأتي بهما أو بأحدهما ديته مئة من الإبل ولكن الله كان معهما يحفظهما بعنايته ويرعاهما برعايته حتى إن قريشا ليقفون على باب الغار فلا يرونهما. قال أبو بكر رضي الله عنه قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا فقال «لا تحزن إن الله معنا ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما» . حتى إذا سكن الطلب عنهما قليلا خرجا من الغار بعد ثلاث ليال متجهين إلى المدينة على طريق الساحل فلحقهما سراقة بن مالك المدلجي على فرس له فالتفت أبو بكر فقال يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تحزن إن الله معنا» فدنا سراقة منهما حتى إذا سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم غاصت يدا فرسه في الأرض حتى مس بطنها الأرض وكانت أرضا صلبة فنزل سراقة وزجرها فنهضت فلما أخرجت يديها صار لأثرهما عثان ساطع في السماء مثل الدخان قال فوقع في نفسي أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فناديتهم بالأمان فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه فركبت فرسي حتى جئتهم وأخبرتهم بما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع وقال للنبي صلى الله عليه وسلم إنك تمر على إبلي وغنمي بمكان كذا فخذ منها حاجتك فقال لا حاجة لي في ذلك وقال أخف عنا فرجع سراقة وجعل لا يلقى أحدا من الطلب إلا رده وقال كفيتم هذه الجهة فسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر رجل ينطلق على فرسه طالبا للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه ليظفر بهما فيفخر بتسليمهما إلى أعدائهما من الكفار فلم ينقلب حتى عاد ناصرا معينا مدافعا يعرض عليهما الزاد والمتاع وما يريدان من إبله وغنمه ويرد عن جهتهما كل من أقبل نحوها وهكذا كل من كان الله معه فلن يضره أحد وتكون العاقبة له.(9/677)
ولما سمع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم كانوا يخرجون صباح كل يوم إلى الحرة ينتظرون قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه حتى يطردهم حر الشمس فلما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعالى النهار واشتد الحر رجعوا إلى بيوتهم وإذا رجل من اليهود على أطم من آطام المدينة ينظر لحاجة به فأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مقبلين يزول بهم السراب فلم يملك أن نادى بأعلى صوته يا معشر العرب هذا جدكم يعني هذا حظكم وعزكم الذي تنتظرون فهب المسلمون للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم السلاح تعظيما وإجلالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذانا باستعدادهم للجهاد والدفاع دونه رضي الله عنهم فتلقوه صلى الله عليه وسلم بظاهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين ونزل في بني عمرو بن عوف في قباء وأقام فيهم بضع ليال وأسس المسجد ثم ارتحل إلى المدينة والناس معه آخرون يتلقونه في الطرقات قال أبو بكر رضي الله عنه خرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون الله أكبر جاء رسول الله الله أكبر جاء محمد. وقال أنس بن مالك رضي الله عنه إني لأسعى بين الغلمان وأنا يومئذ غلام والناس يقولون جاء محمد جاء محمد هكذا يردد الناس هذه الكلمات فرحا بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أحب الناس إليهم. فيا له من مقدم ملأ القلوب فرحا وسرورا وملأ الآفاق بهجة ونورا.
«فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكل قبيلة من الأنصار تنازع الأخرى زمام ناقته النزول عندنا يا رسول الله في العدد والعدة والمنعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول دعوها فإنها مأمورة وإنما أنزل حيث أنزلني الله عز وجل فلما انتهت به إلى مكان مسجده بركت فلم ينزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وثبت ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أطلق لها الزمام فسارت غير بعيد ثم التفتت خلفها فعادت إلى مكانها الأول فبركت فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا إن شاء الله المنزل وكان هذا المكان لغلامين يتيمين فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فساومهما ليشتريه منهما فيتخذه مسجدا فقالا بل نهبه لك يا رسول الله فأبى أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما وقال أي بيوتنا أقرب قال أبو أيوب أنا يا رسول الله هذه داري وهذا بابي قال فانطلق فهيئ لنا مقيلا ففعل ثم جاء فقال قوما على بركة الله ثم جاء عبد الله بن سلام وكان حبرا من أحبار اليهود فقال أشهد أنك رسول الله وأنك جئت بحق وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم فادعهم فاسألهم عني(9/678)
قبل أن يعلموا أني أسلمت فإنهم إن علموا به قالوا في ما ليس في فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فأتوا إليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا معشر يهود ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا وأني جئتكم بحق قالوا ما نعلم ذلك قال فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام فقالوا سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا قال أرأيتم إن أسلم قالوا حاش لله ما كان ليسلم فأعاد فأعادوا وكان عبد الله بن سلام قد اختبأ لينظر ما يقولون فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا ابن سلام اخرج عليهم فخرج فقال يا معشر اليهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق فقالوا له كذبت فأخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله للنبي صلى الله عليه وسلم ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور» . هذه أيها المسلمون هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من بلدة ليقيم دعوة الله ويصلح بها عباد الله. فاتقوا الله عباد الله واهجروا المعاصي لتقوموا بإحدى الهجرتين ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ومن اتقى وأحسن كان الله معه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . الخ.(9/679)
[الخطبة الخامسة في غزوة الحديبية]
الخطبة الخامسة
في غزوة الحديبية الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن من أهم العلوم وأنفعها علم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتاريخ حياته ومعرفة ما هو عليه في عباداته ومعاملاته في أهله وأصحابه وأوليائه وأعدائه لأنه صلى الله عليه وسلم الأسوة والإمام تهتدون بنور شريعته وتسيرون على سنته وفي هذا الشهر أعني شهر ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة يريد العمرة ومعه من أصحابه نحو ألف وأربعمائة فأحرم من ذي الحليفة فلما علمت قريش بذلك جمعوا له جموعا ليصدوه عن البيت ويقاتلوه على ذلك «فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان في الثنية التي يهبط عليهم منها بركت ناقته واسمها القصواء فزجرها الناس لتقوم فلم تقم فقالوا خلأت القصواء خلأت القصواء أي حزنت فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت فعدل عن قريش حتى نزل بأقصى الحديبية وفزعت قريش لنزوله عليهم فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم عثمان بن عفان رضي الله عنه ليخبرهم بما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعوهم إلى الإسلام فبلغ عثمان رضي الله عنه أبا سفيان وعظماء قريش ما بعثه به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به فقال ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتبست قريش عثمان عندها فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن عثمان قتل فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى البيعة على القتال وأن لا يفروا إلى الموت وجلس تحت شجرة سمرة في الحديبية فجعلوا يبايعونه وأخذ بيد نفسه فقال هذه عن عثمان وفي ذلك يقول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا - وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 18 - 19] وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل النار واحد بايع تحت الشجرة فبينما هم كذلك جاء بديل بن ورقاء الخزاعي وكانت خزاعة(9/680)
ذوي نصح للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما أعدت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم سيقاتلونه ويصدونه عن البيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لم نجئ لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين وإن قريشا قد أنهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره فأخبر بديل قريشا بما قال له النبي صلى الله عليه وسلم فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال لقريش إن هذا يعني النبي صلى الله عليه وسلم قد عرض خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته فقالوا ائته فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم كلما تكلم بكلمة أهذ بلحية النبي صلى الله عليه وسلم وكان المغيرة بن شعبة ابن أخي عروة قائما على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر فكلما أهوى عروة بيده ضربها المغيرة بنعل السيف وقال أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عروة للنبي صلى الله عليه وسلم إني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك فقال أبو بكر رضي الله عنه لعروة أمصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه ثم جعل عروة يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فوالله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف واحد منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه أي على فضل ماء وضوئه وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما له. فلما رجع عروة قال والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي فما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه مثل ما يعظم أصحاب محمد محمدا. ثم ذكر لهم ما شاهده من الصحابة وأنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها فقام رجل من بني كنانة فقال دوني آته فقالوا ائته فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن أي الإبل المهداة إلى البيت فابعثوها إليه فبعثوها إليه وأقبل الناس إليه يلبون فقال سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو بن عبد شمس وكان خطيب قريش ليصالح النبي صلى الله عليه وسلم فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب فقال اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل اكتب باسمك اللهم لأنهم ينكرون اسم الرحمن فقال المسلمون والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب باسمك اللهم ثم قال هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله(9/681)
فقال سهيل والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله» ، وإنما تساهل النبي صلى الله عليه وسلم في موافقة سهيل لما في ذلك من تعظيم حرمات الله بحقن الدماء الحاصل بهذا الصلح وقد قال صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» ثم جرى الصلح العظيم الذي سماه الله فتحا على أن لا يدخل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة هذا العام وعلى أن يعتمر في العام المقبل فيخلوا بينه وبين مكة ثلاثة أيام ليس معه إلا سلاح الراكب والسيوف في القراب وعلى أن من جاء من قريش إلى المسلمين ردوه إلى قريش وإن كان مسلما ومن جاء إلى قريش من المسلمين لم يردوه وعلى وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنين وعلى أن من أحب أن يدخل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل فيه فراجع المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «نعم إن من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاء منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا» . وقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم «يا رسول الله ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قال فلم نعطي الدنية في ديننا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري وراجع عمر أبا بكر فقال له مثل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال استمسك بغرزه فوالله إنه على الحق قال عمر فعملت لذلك أعمالا» ما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خير. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن ينحروا ما معهم من الهدي وأن يحلقوا رؤوسهم ونحر هديه وأمر حالقه فحلق رأسه. فلما رأى الصحابة ذلك قاموا فنحروا وحلق بعضهم بعضا حتى كاد يقتل بعضهم بعضا من الغم مما صنع بهم المشركون من صدهم عن بيت الله الذي أولى الناس به رسول الله وأصحابه وفي العام المقبل خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة معتمرا في ذي القعدة وأمر أصحابه أن يكشفوا عن المناكب اليمنى وأن يرملوا في طوافهم ليرى المشركون جلدهم وقوتهم وكان صلى الله عليه وسلم يحب إغاظة المشركين بكل ما يستطيع ولقد كان في غزوة الحديبية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ما كان من آيات الله فلقد شكى الصحابة قلة الماء وبين يديه إناء يتوضأ منه فوضع يده فيه فجعل الماء يفور من بين يديه كأمثال العيون فشربوا وتوضأوا وكانوا نحو ألف وأربعمائة.(9/682)
أيها المسلمون هكذا كان أعداء الإسلام يحاولون صد المسلمين عن دينهم وشعائر دينهم تارة بالقوة وتارة بالمكر والخديعة فاحذروهم واعرفوا مكرهم وخديعتهم وقابلوهم بما هو أشد فإنهم يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
اللهم اجعلنا ممن يعرفون أعداءهم ويحذرونهم اللهم اجعلنا أشداء على الكفار رحماء بيننا اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.(9/683)
[الخطبة السادسة في بعض آيات النبي صلى الله عليه وسلم]
الخطبة السادسة
في بعض آيات النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي أرسل رسوله بالحق المبين وأيده بالآيات البينات لتقوم الحجة على المعاندين: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
أما بعد: فإن الله تعالى أرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ولذلك أيدهم بالآيات البينات الدالة على صدقهم وصحة رسالتهم قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] وقال النبي صلى الله عليه وسلم «ما من الأنبياء نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» فأيدهم الله تعالى بالبينات لتقوم الحجة على كل معاند وليؤمن من آمن عن اقتناع وبصيرة فينشرح صدره للإيمان ويطمئن إليه قلبه. ولقد كان لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من هذه الآيات أعظمها وأجلها كانت آياته صلى الله عليه وسلم آيات شرعية وآيات كونية. أما الآيات الشرعية فأعظمها هذا القرآن العظيم يقول الله تعالى للذين يطلبون آيات للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم «وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» . نعم إن هذا القرآن العظيم لآية كبرى للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه جاء مصدقا لكتب الله السابقة وحاكما عليها وناسخا لها: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48] كان هذا القرآن آية كبرى للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان على وصف رسالته في عمومها وشمولها وصلاحها وإصلاحها فهو كتاب عام شامل صالح لكل زمان ومكان مصلح لأمور الدنيا والآخرة فهو أساس الشريعة والشريعة شاهدة له كان القرآن آية كبرى للنبي صلى الله عليه وسلم لما يشتمل عليه من الأخبار الصادقة الهادفة والقصص الحسنى المملوءة عبرة وتربية والأحكام العادلة المرضية والإصلاحات الاجتماعية والفردية. وكان القرآن آية كبرى في لفظه ومعناه وأثره في النفوس وآثاره في الأمة فهو آية للأمة كلها من أولها إلى(9/684)
آخرها كل المسلمين يتلونه كما يتلوه أول هذه الأمة ويمكنهم أن ينهلوا من معين أحكامه وحكمه كما نهل منها الرعيل الأول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ومن آيات النبي صلى الله عليه وسلم هذه الشريعة الكاملة في العقيدة والعبادة والأخلاق والآداب والمعاملات وتنظيم سلوك العبد فيما بينه وبين ربه وفيما بينه وبين الخلق لو اجتمع العالم كلهم على أن يأتوا بمثل هذه الشريعة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا لأنها شريعة الله العليم بما يصلح خلقه الحكيم بما يشرعه لهم الرحيم بما يكلفهم به. وإن كل ما جاء من صلاح أو إصلاح في أي نظام من النظم فإن الشريعة المحمدية الإسلامية ما هو أصلح منه وأنفع للخلق. وإن كان البشر لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذه الشريعة في صلاحها وإصلاحها كان ذلك آية وبرهانا على أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم هي شريعة الله تعالى.
وأما الآيات الكونية الدالة على رسالته صلى الله عليه وسلم فكثيرة جدا لا تمكن الإحاطة بها فمنها ما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق ومعالي الآداب ومحاسن الأعمال قال ملك غسان وقد دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والله لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له وأنه يغلب فلا يبطر ويغلب فلا يضجر ويفي بالعهد وينجز بالموعود وأشهد أنه نبي. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) وهو كتاب قيم ينبغي للمسلم قراءته لا سيما في هذا العصر الذي كثر فيه انتشار النصارى بين المسلمين في القطاع الحكومي والشعبي ليكون الإنسان على بصيرة من أمرهم قال شيخ الإسلام إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته فإنه كان من أشرف أهل الأرض نسبا من صميم سلالة إبراهيم وكان من أكمل الناس تربية ونشأة لم يزل معروفا بالصدق والبر والعدل ومكارم الأخلاق وترك الفواحش والظلم لا يعرف له شيء يعاب به ولا جرت عليه كذبة قط ولا ظلم ولا فاحشة بل كان أصدق الناس وأعدلهم وأوفاهم بالعهد مع اختلاف الأحوال عليه من حرب وسلم وأمن وخوف وغنى وفقر وظهور على العدو تارة وظهور العدو عليه تارة.
ومن آيات النبي صلى الله عليه وسلم الكونية ما شاهده الناس في الآفاق السماوية والآفاق الأرضية ففي الآفاق السماوية كثرت الشهب في السماء لإحراق الشياطين التي تستمع أخباء السماء كثرت(9/685)
الشهب حماية لوحي الله الذي ينزله على محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى عن الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9] وطلبت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم القمر شقين حتى رأوا غار حراء بينهما وكانت كل شقة منه على حذاء جبل وأسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى واجتمع إليه الأنبياء فصلى بهم إماما ثم عرج به إلى السماوات وقابل في كل سماء من قابل من الأنبياء والرسل وسلم عليهم فردوا عليه وحيوه وبلغ سدرة المنتهى ومكانا سمع فيه صريف الأقلام وكلمه الله تعالى بما أراد وتراجع بين الله تعالى وبين موسى فيما فرض الله عليه من الصلوات وعرضت عليه الجنة وأدخلها وعرضت عليه النار فرآها كل هذا كان في ليلة بل في بعض ليلة وهو من أعظم آيات الله الدالة على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] وجاءه رجل وهو يخطب يوم الجمعة فقال ادع الله أن يغيثنا فدعا فثار السحاب أمثال الجبال فما نزل عن المنبر حتى كان المطر يتحادر على لحيته فبقي أسبوعا حتى دخل رجل في الجمعة الأخرى فقال ادع الله أن يمسكها عنا فدعا وجعل يشير إلى السحاب فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت فخرج الناس يمشون في الشمس.
وفي الآفاق الأرضية شاهد الناس من آيات النبي صلى الله عليه وسلم شيئا كثيرا فمنها ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال «عطش الناس وكان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ركوة - والركوة إناء من جلد - فجهش الناس نحوه فقال ما لكم قالوا ليس عندنا ماء نشرب ولا نتوضأ إلا ما بين يديك فوضع يده في الركوة فجعل الماء يفور بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا قيل لجابر كم كنتم قال كنا ألفا وخمسمائة ولو كنا مائة ألف لكفانا» . وأتى أنس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في جملة من أصحابه قد عصب بطنه من الجوع فذهب أنس إلى أبي طلحة وهو زوج أمه فأخبره بما شاهد من النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو طلحة لأم سليم زوجته هل من شيء قالت نعم كسر من خبز وتمرات إن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده أشبعناه وإن جاء معه آخر قل عنهم قال أنس فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلي فقلت أجب أبا طلحة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن معه قوموا فإذا أبو طلحة على الباب فقال يا رسول الله إنما هو شيء يسير فقال هاته فإن الله سيجعل فيه البركة ثم أمر بسمن فصب عليه ودعا فيه ثم قال ائذن لعشرة فقال كلوا وسموا الله ثم أدخلهم(9/686)
عشرة عشرة وكانوا ثمانين حتى شبعوا ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل البيت حتى شبعوا وأهدوا البقية للجيران.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة إلى جذع نخلة في المسجد فلما صنع له المنبر وقام عليه أول جمعة حن الجذع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تحن العشار حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم إليه فوضع عليه يده يسكنه حتى سكن. وكان من آياته صلى الله عليه وسلم ما أخبر به من أمور الغيب التي وقعت طبقا لما أخبر صلى الله عليه وسلم كأنما يشاهدها بعينه كقوله صلى الله عليه وسلم «يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم» . وقوله صلى الله عليه وسلم «لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك» فقد كان ذلك ولله الحمد فما زال في هذه الأمة أمة قائمة بأمر الله تعالى لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم على كثرة ما غزى دينهم من أعدائهم حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى والمشركين فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان رجل نصرانيا فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد نصرانيا فكان يقول ما يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا له وأعمقوا فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا له وأعمقوا في الأرض ما استطاعوا فأصبح وقد لفظته الأرض فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه وتركوه منبوذا وهكذا ينتصر الله من أعداء الله تعالى ويري الناس فيهم آياته حتى يتبين لهم الحق.
فاتقوا الله أيها المسلمون وثقوا بوعد الله إن كنتم صادقين ولا تيأسوا من روح الله. إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . . الخ.(9/687)
[الخطبة السابعة في معراج النبي صلى الله عليه وسلم]
الخطبة السابعة
في معراج النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي أنعم علينا بنعم لا تحصى ودفع عنا من النقم ما لا يعد ولا يستقصى وسبحان الذي أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعرج به بصحبة جبريل الأمين إلى السماوات العلى وأراه من آياته العظيمة الكبرى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا الذي خلق الأرض والسماوات العلى وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي فضله الله بالعلم والرشد فما ضل وما غوى وأدبه فأحسن تأديبه فما زاغ بصره وما طغى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرماء وعلى التابعين لهم بإحسان ما دامت الأرض والسماء وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من النعم الكبرى والآلاء الجسيمة العظمى فإن نعم الله علينا سابغة وآلاءه متوالية متتابعة لقد جعلنا الله خير أمة أخرجت للعالمين وفضل نبينا على سائر الأنبياء والمرسلين واختصه بخصائص لما ينلها أحد من البشر ولن يصل إليها أحد ممن تقدم أو تأخر. فمن خصائصه العظيمة ذلك المعراج الذي فضله الله به قبل أن يهاجر من مكة فبينما هو نائم في الحجر في الكعبة أتاه آت فشق ما بين ثغرة نحره إلى أسفل بطنه ثم استخرج قلبه فملأه حكمة وإيمانا تهيئة لما سيقوم به ثم أتي بدابة بيضاء دون البغل وفوق الحمار يقال لها البراق يضع خطوه عند منتهى طرفه فركبه صلى الله عليه وسلم وبصحبته جبريل الأمين حتى وصل بيت المقدس فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماما كل الأنبياء والمرسلين يصلون خلفه ليتبين بذلك فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرفه وأنه الإمام المتبوع ثم عرج به جبريل إلى السماء الدنيا فاستفتح فقيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح له فوجد فيها آدم فقال جبريل هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلم عليه فرد عليه السلام وقال مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح وإذا على يمين آدم أرواح السعداء وعلى يساره أرواح الأشقياء من ذريته فإذا نظر إلى اليمين سر وضحك وإذا نظر قبل شماله بكى ثم عرج به جبريل إلى السماء الثانية فاستفتح. . . إلخ. فوجد فيها يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وهما ابنا الخالة كل واحد منهما ابن خالة الآخر فقال جبريل هذان يحيى وعيسى فسلم عليهما فسلم عليهما فردا السلام وقالا مرحبا(9/688)
بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم عرج به جبريل إلى السماء الثالثة فاستفتح. . الخ. فوجد فيها يوسف عليه الصلاة والسلام فقال جبريل هذا يوسف فسلم عليه فسلم عليه فرد السلام وقال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم عرج به جبريل إلى السماء الرابعة فاستفتح. . الخ. فوجد فيها إدريس صلى الله عليه وسلم فقال جبريل هذا إدريس فسلم عليه فسلم عليه فرد السلام وقال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم عرج به جبريل إلى السماء الخامسة فاستفتح. . الخ. فوجد فيها هارون بن عمران أخا موسى صلى الله عليه وسلم فقال جبريل هذا هارون فسلم عليه فسلم عليه فرد عليه السلام وقال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم عرج به جبريل إلى السماء السادسة فاستفتح. . إلخ. فوجد فيها موسى صلى الله عليه وسلم فقال جبريل هذا موسى فسلم عليه فسلم عليه فرد عليه السلام وقال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح فلما تجاوزه بكى موسى فقيل له ما يبكيك قل أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي فكان بكاء موسى حزنا على ما فات أمته من الفضائل لا حسدا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ثم عرج به جبريل إلى السماء السابعة فاستفتح. . . الخ. فوجد فيها إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم فقال جبريل هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه فسلم عليه فرد السلام وقال مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح. وإنما طاف جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الأنبياء تكريما له وإظهارا لشرفه وفضله صلى الله عليه وسلم وكان إبراهيم الخليل مسندا ظهره إلى البيت المعمور في السماء السابعة الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون ويصلون ثم يخرجون ولا يعودون في اليوم الثاني يأتي غيرهم من الملائكة الذين لا يحصيهم إلا الله ثم رفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى فغشيها من أمر الله من البهاء والحسن ما غشيها حتى لا يستطيع أحد أن يصفها من حسنها ثم فرض الله عليه الصلاة خمسين صلاة كل يوم وليلة فرضي بذلك وسلم ثم نزل فلما مر بموسى قال ما فرض ربك على أمتك قال خمسين صلاة في كل يوم فقال إن أمتك لا تطيق ذلك وقد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك قال النبي صلى الله عليه وسلم فرجعت فوضع عني عشرا وما زال يراجع ربه حتى استقرت الفريضة على خمس فنادى مناد أمضيت فريضتي وخففت على عبادي.
وفي هذه الليلة أدخل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة فإذا فيها قباب اللؤلؤ وإذا ترابها المسك ثم نزل(9/689)
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى مكة بغلس وصلى فيها الصبح فلما أصبح أخبر قريشا بما رأى فكان في ذلك امتحان لهم وزيادة في الطغيان والتكذيب وقالوا كيف تزعم يا محمد أنك أتيت بيت المقدس ورجعت في ليلة ونحن نضرب إليه أكباد الإبل شهرا في الذهاب وشهرا في الرجوع فهات صف لنا بيت المقدس فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصفه لهم حيث جلاه الله له فجعل ينظر إليه وينعته لهم فبهتوا وقالوا أما الوصف فقد أصاب وجاء الناس إلى أبي بكر فقالوا إن صاحبك يقول كذا وكذا فقال إن كان قاله فقد صدق. ثم جاءه وحوله المشركون يحدثهم فكلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قال أبو بكر صدقت فسمي الصديق من أجل ذلك رضي الله عنه وأرضاه.
فاعتبروا أيها المؤمنون بهذه الآيات العظيمة واشكروا الله على هذه النعم الجسيمة واسألوه أن يثبتكم على الإيمان إلى الممات وأن يحشركم في زمرة أوليائه وحزبه فإن حزب الله هم المفلحون أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (بسم الله الرحمن الرحيم) {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] إلى قوله {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.(9/690)
[الخطبة الثامنة في صفات النبي صلى الله عليه وسلم]
الخطبة الثامنة
في صفات النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي من على من شاء من عباده بصفات الكمال ورفع بعضهم على بعض درجات ليبلوهم فيما أعطاهم من تلك الخصال وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الكبير المتعال وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث ليتمم مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الأيام والليال وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا ربكم واعلموا ما له من الحكم البالغة في شرعه وخلقه وجزائه فله الحكمة البالغة الصادرة عن علم تام ورحمة واسعة شرع الشرائع فأحكمها وخلق المخلوقات فأتقنها ووضع الجزاء على وقف الحكمة والعدل والفضل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] وضع الرسالة العظمى في محمد صلى الله عليه وسلم و: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وضعها فيمن أكمله الله خلقة حيث جاء جسده كاملا متناسبا حسنا جميلا فكان صلى الله عليه وسلم ربعة من الرجال ليس بالطويل البائن ولا القصير بعيد ما بين المنكبين ضخم الأعضاء بتناسب رحب الصدر وكان أحسن الناس وجها أزهر اللون مشربا بحمرة مستدير الوجه مع سهولة الخدين أكحل العينين أدعجهما أسبغ الحواجب في غير قرن بينهما دقيق الأنف حسن الفم مفلج الأسنان براق الثنايا كث اللحية حسنها. قال أنس بن مالك رضي الله عنه توفاه الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء إنما كان شمط عند العنفقة وفي الصدغين والرأس يسيرا له شعر يبلغ شحمة أذنيه إلى مكنبيه كان يسدله ثم عدل إلى تفريقه على جانبي الرأس هذه صفاته الخلقية أكمل صفات الرجال بينتها لكم لتكون لكم آية عندما ترونه في النوم لأن من رآه في المنام على صفته الثابتة عنه فقد رآه حقا لأن الشيطان لا يتمثل به.
أما صفاته الخلقية فكان أكمل الناس خلقا في جميع محاسن الأخلاق قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ففي الكرم كان صلى الله عليه وسلم أكرم الناس يعطي عطاء لا تبلغه الملوك سأله رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى فاقة قال جابر رضي الله عنه ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقال لا وعلق به الأعراب يسألونه أن يقسم بينهم في مرجعه من حنين فقال صلى الله عليه وسلم لو كان لي عدد هذه العضاه(9/691)
نعما - يعني عدد هذه الأشجار إبلا- لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا. وكان يؤثر على نفسه فيعطي العطاء ويمضي عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار. أهديت إليه شملة فلبسها وهو محتاج إليها فسأله إياها رجل فأعطاه إياها فلامه الناس فقالوا كان محتاجا إليها وقد علمت أنه لا يرد سائلا فقال إنما سألتها لتكون كفني. وكان كرمه صلى الله عليه وسلم في محله ينفق المال لله وفي الله إما لفقير أو محتاج أو في سبيل الله أو تأليفا على الإسلام أو تشريعا للأمة.
وفي الشجاعة كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأمضاهم عزما وإقداما كان الناس يفرون وهو ثابت قال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه لما التقى المسلمون والكفار يعني في حنين وولى المسلمون مدبرين طفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته نحو الكفار وأنا آخذ بلجامها أكفها إرادة أن لا تسرع وكان يقول حينئذ «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» وقال علي رضي الله عنه كنا إذا اشتد البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه. قال أنس رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا قد سبقهم إلى الصوت واستبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري والسيف في عنقه وهو يقول «لن تراعوا» ومع هذه الشجاعة العظيمة كان لطيفا رحيما فلم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا في الأسواق ولا يجزئ بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح قال أنس خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف ولا لشيء صنعته لم صنعته ولا لشيء تركته لما تركته. وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويضعهم في حجره وربما بال الصبي في حجره فلا يعنف. وكان يجيب دعوة الحر والعبد والغني والفقير ويعود المرضى في أقصى المدينة ويقبل عذر المعتذر وكان يسمع بكاء الصبي فيسرع في الصلاة مخافة أن تفتن أمه وكان يحمل ابنة بنته وهو يصلي بالناس إذا قام حملها وإذا سجد وضعها وجاء الحسن والحسين ورسول الله يخطب الناس فجعلا يمشيان ويعثران فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال «صدق الله ورسوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما» . قال الحسين بن علي رضي الله عنهما(9/692)
سألت أبي عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في جلسائه فقال كان دائم البشر سهل الخلق لين الجانب يتغافل عما لا يشتهي ولا يؤيس راجيه لا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه وإذا تكلم عنده أنصتوا له حين يفرغ وكان يصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوزه فيقطعه بانتهاء أو قيام. وكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا وأرغبهم في الآخرة خيره الله بين أن يكون ملكا نبيا أو عبدا نبيا فاختار أن يكون عبدا نبيا. قال أنس دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على سرير مزمول بالشريط وتحته وسادة من أدم وحشوها ليف ودخل عمر وناس من الصحابة فانحرف النبي صلى الله عليه وسلم فرأى عمر أثر الشريط في جنبه فبكى فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ما يبكيك يا عمر قال ومالي لا أبكي وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا وأنت على الحال الذي أرى فقال يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة قال بلى قال هو كذلك» .
هذه أيها المسلمون درر من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذوها نبراسا لكم تأتمون بها وتأخذون وتسيرون عليها وتهتدون فإن الله جبله على مكارم الأخلاق وأمرنا بالاقتداء به: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] رزقنا الله وإياكم محبة هذا النبي الكريم ووفقنا لاتباع هديه وسننه حتى يأتينا اليقين أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . . . الخ.(9/693)
[الخطبة التاسعة في حياة أبي بكر رضي الله عنه]
الخطبة التاسعة
في حياة أبي بكر رضي الله عنه الحمد لله الذي بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في خير القرون واختار له من الأصحاب أكمل الناس عقولا وأقومهم دينا وأغزرهم علما وأشجعهم قلوبا قوما جاهدوا في الله حق جهاده فأقام بهم الدين وأظهرهم على جميع العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم النبيين وإمام المتقين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا ما من الله به على نبيكم من الصحابة الكرام ذوي الفضائل العديدة والخصال الحميدة الذين نصر الله بهم الإسلام ونصرهم به وكان منهم الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون الذين قاموا بالخلافة بعد نبيهم خير قيام فحافظوا على الدين وساسوا الأمة بالعدل والحزم والتمكين فكانت خلافتهم أفضل خلافة في التاريخ في مستقبل الزمان وماضيه تشهد بذلك أفعالهم وتنطق به آثارهم وكان أجلهم قدرا وأعلاهم فخرا أبا بكر الصديق رضي الله عنه عبد الله بن عثمان فما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين خير من أبي بكر خلف النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بإشارة من النبي صلى الله عليه وسلم. فقد ثبت في صحيح البخاري «أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأمرها أن ترجع إليه فقالت أرأيت إن لم أجدك قال فائتي أبا بكر» وهم صلى الله عليه وسلم أن يكتب كتابا لأبي بكر ثم قال «يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر» ، وفي رواية: معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر وخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على الناس في الصلاة والحج فقد أمر أن يصلي أبو بكر بالناس حين مرض النبي صلى الله عليه وسلم وجعله أميرا على الناس في الحج سنة تسع من الهجرة وكل هذا إشارة إلى أنه الخليفة من بعده ولو كان أحد يستحق الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم سوى أبي بكر لخلفه النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والحج.
كان أبو بكر رضي الله عنه من سادات قريش وأشرافهم وأغنيائهم شهد له ابن الدعنة (سيد القارة) أمام أشراف قريش بما شهدت به خديجة للرسول صلى الله عليه وسلم حين قال له إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق. فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بادر رضي الله عنه إلى الإيمان به وتصديقه ولم يتردد حين دعاه إلى الإيمان ولازم النبي صلى الله عليه وسلم طول إقامته بمكة وصحبه في هجرته ولازمه في المدينة وشهد معه جميع الغزوات أسلم على(9/694)
يديه خمسة من العشرة المبشرين بالجنة وهم عثمان بن عفان والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عوف. واشترى سبعة من المسلمين يعذبهم الكفار بسبب إسلامهم فأعتقهم منهم بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعامر بن فهيرة الذي صحبهما في هجرتهما ليخدمهما. كان رضي الله عنه أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم ومدلول كلامه وفحواه. فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته وقال «إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله» ففهم أبو بكر رضي الله عنه أن المخير رسول الله فبكى فعجب الناس من بكائه لأنهم لم يفهموا ما فهم. وكان رضي الله عنه أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس «إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته» . وجاء مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى فأقبلت إليك فقال النبي صلى الله عليه وسلم «يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا» ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل أثم أبو بكر قالوا لا فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر ما يكره فجثا على ركبتيه فقال يا رسول الله والله أنا كنت أظلم مرتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركون لي صاحبي مرتين» فما أوذي بعدها. وكان رضي الله عنه أثبت الصحابة عند النوازل والكوارث ففي صلح الحديبية لم يتحمل كثير من الصحابة الشروط التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش حتى إن عمر راجع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وشق عليه الأمر وراجع أبا بكر فكان جواب أبي بكر كجواب النبي صلى الله عليه وسلم سواء بسواء. ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم اندهش المسلمون لذلك حتى قام عمر رضي الله عنه وأنكر موته وقال والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم (من خلاف) ولكن أبا بكر رضي الله عنه جاء فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله وقال بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا ثم خرج إلى الناس فصعد المنبر فخطب الناس بقلب ثابت وقال ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وتلا: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30](9/695)
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] ولما أراد أن ينفذ جيش أسامة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم راجعه عمر وغيره من الصحابة أن لا يسير الجيش من أجل حاجتهم إليه في قتال أهل الردة ولكنه رضي الله عنه صمم على تنفيذه وقال والله لا أحل راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أن الطير تخطفنا. ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد من العرب ومنعوا الزكاة عزم على قتالهم فراجعه من راجعه في ذلك فصمم على قتالهم قال عمر فعرفت أن ذلك هو الحق. وصفه علي رضي الله عنه فقال كنت أول القوم إسلاما وأخلصهم إيمانا وأحسنهم صحبة وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم هديا وسمتا وأكرمهم عليه خلفته في دينه أحسن خلافة حين ارتدوا ولزمت منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف متواضعا في نفسك عظيما عند الله أقرب الناس عندك أطوعهم لله وأتقاهم.
تولى أبو بكر الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار الناس سيرة حميدة وبارك الله في مدة خلافته على قلتها فقد كانت سنتين وثلاثة أشهر وتسع ليال ومات ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء ليلة ثلاث وعشرين من جمادى الثانية سنة ثلاث عشرة من الهجرة. ومن بركته أن خلف على المسلمين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإن هذا من حسناته رضي الله عنهما وعن جميع الصحابة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.(9/696)
[الخطبة العاشرة في حياة عمر بن الخطاب رضي الله عنه]
الخطبة العاشرة
في حياة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا حكمته البالغة في شرعه وخلقه وتقديره فإنه سبحانه اختار نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم للرسالة إلى الخلق بهذا الدين الكامل لينشره بين العالمين واختار له من الأصحاب أفضل الناس بعد النبيين أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقومها عملا وأقلها تكلفا جاهدوا في الله حق جهاده في حياة نبيهم وبعد وفاته فنصر الله بهم الدين ونصرهم به وأظهرهم على كل الأديان وأهلها.
كان منهم الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون فكانت خلافتهم أفضل خلافة في مستقبل الزمان وماضيه تشهد بذلك أفعالهم وتنطق به آثارهم أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان وأبو حفص الفاروق عمر بن الخطاب وأبو عبد الله ذو النورين عثمان بن عفان وأبو الحسن ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. وكان أفضلهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفيقه في الغار الذي نطق بما نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حين اشتد الأمر على كثير من المهاجرين والأنصار وثبت الله به المسلمين يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ونصر الله به الإسلام حين ارتد من ارتد من العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم. وكان من بركته على هذه الأمة ونصحه لها ووفور عقله وصدق فراسته أن استخلف على الأمة بعده وزيره وقرينه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم «لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يك في أمتي فإنه عمر» . وقال صلى الله عليه وسلم يخاطب عمر «والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك» وسأل عمرو بن العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الرجال إليه فقال أبو بكر «قال ثم من قال ثم عمر بن الخطاب وعد رجالا» . وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينزع من بئر فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين - يعني دلوا أو دلوين - قال ثم أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكر(9/697)
فاستحالت في يده غربا فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن ولقد صدق الله ورسوله الرؤيا فتولى الخلافة عمر بن الخطاب بعد أبي بكر رضي الله عنهما وقوي سلطان الإسلام وانتشر في مشارق الأرض ومغاربها ففتحت بلاد الشام والعراق ومصر وأرمينية وفارس حتى إنه قيل إن الفتوحات في عهده بلغت ألفا وستا وثلاثين مدينة مع سوادها بنى فيها أربعة آلاف مسجد وكان رضي الله عنه مع سعة خلافته مهتما برعيته قائما فيهم خير قيام قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إن الله أعز به الإسلام وأذل به الشرك وأهله وأقام شعائر الدين الحنيف ومنع من كل أمر فيه نزوع إلى نقض عرى الإسلام مطيعا في ذلك الله ورسوله وقافا عند كتاب الله ممتثلا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم متحذيا حذو صاحبيه مشاورا في أموره السابقين الأولين مثل عثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم ممن له علم أو رأي أو نصيحة للإسلام وأهله حتى إن العمدة في الشروط على أهل الذمة على شروطه فقد شرط رضي الله عنه على أهل الذمة من النصارى وغيرهم ما ألزموا به أنفسهم من إكرام المسلمين والتميز عنهم في اللباس والأسامي وغيرها وأن لا يظهروا الصليب على كنائسهم ولا في شيء من طرق المسلمين وأن لا ينشروا كتبهم أو يظهروها في أسواق المسلمين ولقد كان رضي الله عنه يمنع من استعمال الكفار في أمور الأمة أو إعزازهم بعد أن أذلهم الله قال أبو موسى الأشعري قلت لعمر رضي الله عنه إن لي كاتبا نصرانيا فقال ما لك قاتلك الله أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] ألا اتخذت حنيفا يعني مسلما قال قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه قال لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذا أقصاهم الله. وكتب إليه خالد بن الوليد يقول إن بالشام كاتبا نصرانيا لا يقوم خراج الشام إلا به فكتب إليه عمر لا تستعمله فكتب خالد إلى عمر أنه لا غنى بنا عنه فرد عليه لا تستعمله فكتب إليه خالد إذا لم نستعمله ضاع المال فكتب إليه عمر مات النصراني والسلام. ولقد كانت هذه السياسة الحكيمة لعمر من منع تولي غير المسلمين لأمور المسلمين وإن كانت شيئا بسيطا كانت هذه السياسة مستوحاة من سياسة النبي صلى الله عليه وسلم حيث لحقه مشرك ليقاتل معه فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إني لا أستعين بمشرك» . ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مع هذا الحزم والحيطة لأمور المسلمين في مجانبة(9/698)
أعدائهم والغلظة عليهم سببا قويا لنصر الإسلام وعزة المسلمين وكان يكتب إلى عماله يحذرهم من الترفع والإسراف كتب إلى عتبة بن فرقد وهو في أذربيجان فقال يا عتبة إنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك وإياك والتنعم وزي أهل الشرك ولباس الحرير. وكان لا يحابي في دين الله قريبا ولا صديقا. الناس عنده سواء. يروى عنه أنه كان إذا نهى عن شيء جمع أهله فقال إني نهيت الناس عن كذا وكذا وإنهم لينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم والله لا أجد أحدا منكم فعل ما نهيت عنه إلا أضعفت عليه العقوبة وكان يقوم في الناس في مواسم الحج فيقول إني لا أبعث عليكم عمالي ليضربوا جلودكم ولا ليأخذوا أموالكم ولكن أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم ويحكموا فيكم بسنة نبيكم فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي. وكان رضي الله عنه مهتما بأمور الرعية صغيرها وكبيرها. خرج ذات ليلة إلى الحرة ومعه مولاه أسلم فإذا نار تسعر فقال يا أسلم ما أظن هؤلاء إلا ركبا قصر بهم الليل والبرد فلما وصل مكانها إذا هي امرأة معها صبيان يتضاغون من الجوع قد نصبت لهم قدر ماء على النار تسكتهم به ليناموا فقال عمر السلام عليكم يا أهل الضوء وكره أن يقول يا أهل النار ما بالكم وما بال هؤلاء الصبية يتضاغون قالت المرأة يتضاغون من الجوع قال فأي شيء في هذا القدر قالت ماء أسكتهم به أوهمهم أني أصنع طعاما حتى يناموا والله بيننا وبين عمر فقال يرحمك الله وما يدري عمر بكم قالت أيتولى أمرنا ويغفل عنا فبكى عمر رضي الله عنه ورجع مهرولا فأتى بعدل من دقيق وجراب من شحم وقال لأسلم أحمله على ظهري قال أنا أحمله عنك يا أمير المؤمنين فقال أنت تحمل وزري يوم القيامة فحمله حتى أتى المرأة فجعل يصلح الطعام لها وجعل ينفخ تحت القدر والدخان يتخلل من لحيته حتى نضج الطعام فأنزل القدر وأفرغ منه في صحفة لها فأكل الصبية حتى شبعوا وجعلوا يضحكون ويتصارعون فقالت المرأة جزاك الله خيرا أنت أولى بهذا الأمر من عمر فقال لها عمر قولي خيرا.
أيها المسلمون هكذا كانت سيرة الخلفاء في صدر هذه الأمة حين كانت الرعية قائمة بأمر الله خائفة من عقابه راجية لثوابه فلما بدلت الرعية وغيرت وظلمت نفسها تبدلت أحوال الرعاة وكما تكونون يولى عليكم.(9/699)
أيها المسلمون مع هذه السيرة العظيمة فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قتل شهيدا في آخر شهر ذي الحجة من السنة الثالثة عشرة من الهجرة فقد خرج لصلاة الصبح وكان إذا مر بين الصفين قال استووا حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس فما هو إلا أن كبر فطعنه غلام مجوسي فتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه في الصلاة. فرضي الله عن عمر وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا لقد كان من خير الصحابة الذين قال الله فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} [التوبة: 100] إلى آخرها) .(9/700)
[القسم التاسع في التوقيت وخصائص بعض الأيام]
[الخطبة الأولى في ابتداء التاريخ]
القسم التاسع
في التوقيت وخصائص بعض الأيام الخطبة الأولى
في ابتداء التاريخ إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس فإننا هذا الأسبوع نستقبل عاما جديدا إسلاميا هجريا ابتداء عقد سنواته من أجل مناسبة في الإسلام ألا وهي هجرة النبي صلى الله عليه وسلم التي ابتدأ بها تكوين الأمة الإسلامية في بلد إسلامي مستقل يحكمه المسلمون ولم يكن التاريخ السنوي معمولا به في أول الإسلام حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ففي السنة الثالثة أو الرابعة من خلافته رضي الله عنه كتب إليه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ فجمع عمر الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم فيقال إن بعضهم قال أرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكها كلما هلك ملك أرخوا بولاية من بعده فكره الصحابة ذلك فقال بعضهم أرخوا بتاريخ الروم فكرهوا ذلك أيضا فقال بعضهم أرخوا من مولد النبي صلى الله عليه وسلم وقال آخرون من مبعثه وقال آخرون من مهاجره فقال عمر الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها فأرخوا من الهجرة واتفقوا على ذلك تشاوروا من أي شهر يكون ابتداء السنة فقال بعضهم من رمضان لأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن وقال بعضهم من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا واختار عمر وعثمان وعلي أن يكون من المحرم لأنه شهر حرام يلي شهر ذي الحجة الذي يؤدي المسلمون فيه حجهم الذي به تمام أركان دينهم والذي كانت فيه بيعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم والعزيمة على الهجرة فكان ابتداء السنة الإسلامية الهجرية من الشهر المحرم الحرام.
أيها المسلمون إن من المؤسف حقا أن يعدل المسلمون أكثرهم اليوم عن التاريخ الإسلامي الهجري إلى تاريخ النصارى الميلادي الذي لا يمت إلى دينهم بصلة ولئن كان(9/701)
لبعضهم شبهة من العذر حين استعمر بلادهم النصارى وأرغموهم على أن يتناسوا تاريخهم الإسلامي الهجري فليس لهم الآن أي عذر في البقاء على تاريخ النصارى الميلادي وقد أزال الله عنهم كابوس المستعمرين وظلمهم وغشمهم ولقد سمعتم ما قيل من أن الصحابة رضي الله عنهم كرهوا التأريخ بتاريخ الفرس والروم.
أيها المسلمون إننا اليوم نستقبل عاما جديدا إسلاميا هجريا شهوره الشهور الهلالية التي هي عند الله تعالى في كتابه كما قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] الشهور التي جعلها الله تعالى مواقيت للعالم كلهم قال الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] مواقيت للناس كلهم بدون تخصيص لا فرق بين عرب وعجم ذلك لأنها علامات محسوسة ظاهرة لكل أحد يعرف بها دخول الشهر وخروجه فمتى رؤي الهلال من أول الليل دخل الشهر الجديد وخرج الشهر السابق. ليست كالشهور الإفرنجية شهورا وهمية غير مبنية على مشروع ولا معقول ولا محسوس بل هي شهور اصطلاحية مختلفة بعضها واحد وثلاثون يوما وبعضها ثمانية وعشرون يوما وبعضها بين ذلك لا يعلم لهذا الاختلاف سبب حقيقي معقول لكنها عورضت من قبل الأحبار والرهبان فتأمل أيها المسلم كيف يعارض رجال دين اليهود والنصارى في تغيير أشهر وهمية مختلفة إلى اصطلاح أضبط لأنهم يعلمون ما لذلك من خطر ورجال دين الإسلام ساكتون بل مقرون لتغيير التوقيت بالشهور الإسلامية بل العالمية التي جعلها الله لعباده حيث عدل عنها المسلمون أكثرهم إلى التوقيت بالشهور الإفرنجية وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله فقيل له إن الفرس أياما وشهورا يسمونها بأسماء لا تعرف فكره ذلك أشد الكراهة وروي عن مجاهد أنه كان يكره أن يقال آذارماه.
أيها المسلمون إننا هذه الأيام نستقبل عاما جديدا إسلاميا هجريا ليس من السنة أن نحدث عيدا لدخوله أو نعتاد التهاني ببلوغه فليس الغبطة بكثرة السنين وإنما الغبطة بما أمضاه العبد منها في طاعة مولاه فكثرة السنين خير لمن أمضاها في طاعة ربه شر لمن أمضاها في معصية الله والتمرد على طاعته وشر الناس من طال عمره وساء عمله، إن علينا أن نستقبل(9/702)
أيامنا وشهورنا وأعوامنا بطاعة ربنا ومحاسبة أنفسنا وإصلاح ما فسد من أعمالنا ومراقبة من ولانا الله تعالى عليه من الأهل من زوجات وأولاد بنين وبنات وأقارب.
فاتقوا الله عباد الله وقوموا بما أنتم به معنيون وعنه يوم القيامة مسؤولون: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] قوموا بذلك على الوجه الأتم الأكمل أو على الأقل بالواجب واعلموا أن أعضاءكم ستكون عليكم بمنزلة الخصوم يوم القيامة يوم يختم على الأفواه وتكلم الأيدي والأرجل بما كسب الإنسان قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ - وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ - وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 20 - 23] عباد الله إن كل عام يجد يعد المرء نفسه بالعزيمة الصادقة والجد ولكن تمضي عليه الأيام وتنطوي الساعات وحاله لم تتغير إلى أصلح فيبوء بالخيبة والخسران ثم لا يفلح ولا ينجح فاغتنموا الأوقات عباد الله بطاعة الله وكونوا كل عام أصلح من العام الذي قبله فإن كل عام يمر بكم يقربكم من القبور عاما ويبعدكم عن القصور عاما يقربكم من الانفراد بأعمالكم ويبعدكم من التمتع بأهليكم وأولادكم وأموالكم.
عباد الله والله ما قامت الدنيا إلا بقيام الدين ولا نال العز والكرامة والرفعة إلا من خضع لرب العالمين ولا دام الأمن والطمأنينة والرخاء إلا باتباع منهج المرسلين ولئن استمرت زهرة الدنيا مع المعاصي والانحراف إن ذلك لاستدراج يعقبه الإهلاك والإتلاف فاعتصموا بطاعة الله عن عقوبتكم: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]
اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد يا منان يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم نسألك أن تجعل عامنا هذا وما بعده عام أمن وطمأنينة عام علم نافع وعمل صالح عاما تسبغ به علينا نعمك وترزقنا شكرها عاما تصلح به ولاة أمورنا ورعيتنا عاما تيسرنا فيه للهدى وتيسر الهدى لنا إنك جواد كريم رؤوف رحيم.(9/703)
[الخطبة الثانية في الأشهر الحرم]
الخطبة الثانية
في الأشهر الحرم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتيقنوا أن لله تعالى الحكمة البالغة فيما يصطفي من خلقه فالله تعالى يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ويفضل من الأوقات ومن الأمكنة أماكن ففضل الله تعالى مكة على سائر البقاع ثم من بعدها المدينة مهاجر خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ثم من بعدهما بيت المقدس مكان غالب الأنبياء الذين قص الله علينا نبأهم وجعل لمكة والمدينة حرما دون بيت المقدس وفضل الله تعالى بعض الشهور والأيام والليالي على بعض فعدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاثة متوالية وشهر رجب الفرد بين جمادى وشعبان وخير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة وليلة القدر خير من ألف شهر فعظموا رحمكم الله تعالى ما عظمه الله فلقد ذكر أهل العلم أن الحسنات تضاعف في كل زمان ومكان فاضل وأن السيئات تعظم في كل زمان ومكان فاضل وشاهد هذا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] وقال تعالى في المسجد الحرام: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]
وإنكم اليوم تستقبلون الأشهر الحرم الثلاثة فلا تظلموا فيهن أنفسكم التزموا حدود الله تعالى أقيموا فرائض الله واجتنبوا محارمه أدوا الحقوق فيما بينكم وبين ربكم وفيما بينكم وبين عباده واعلموا أن الشيطان قد قعد لابن آدم كل مرصد وأقسم الله ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا يجد أكثرهم شاكرين أقسم لله بعزة الله ليغوينهم أجمعين إلا عباد الله المخلصين إن الشيطان لحريص كل الحرص على إغواء بني آدم وإضلالهم يصدهم عن دين الله يأمرهم بالفحشاء والمنكر يحبب إليهم المعاصي ويكره إليهم الطاعات يأتيهم من كل جانب ويقذفهم بسهامه من كل جبهة إن رأى من العبد رغبة في الخير ثبطه(9/704)
عنه وأقعده فإن عجز عنه من هذا الجانب جاءه من جانب الغلو والوسواس والشكوك وتعدي الحدود في الطاعة فأفسدها عليه فإن عجز عنه من جانب الطاعات جاءه من جانب المعاصي فينظر أقوى المعاصي هدما لدينه فأوقعه فيها فإن عجز عنه من هذا الجانب حاوله من جانب أسهل فأوقعه فيها دونها من المعاصي فإذا وقع في شرك المعاصي فقد نال الشيطان منه بغيته فإن المرء متى كسر حاجز المعصية أصبحت المعصية هينة عليه صغيرة في عينه يقللها الشيطان في نفسه تارة ويفتح عليه باب التسويف تارة يقول له هذه هينة افعلها هذه المرة وتب إلى الله تعالى فباب التوبة مفتوح وربك غفور رحيم فلا يزال به يعده ويمنيه وما يعده إلا غرورا فإذا وقع في هذه المعصية التي كان يراها من قبل صعبة كبيرة وهانت عليه تدرج به الشيطان إلى ما هو أكبر منها وهكذا أبدا حتى يخرجه من دينه كله ولقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا التدرج فيما رواه الإمام أحمد عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وذا بعود حتى أنضجوا خبزهم وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه» .
عباد الله احذروا مكايد الشيطان ومكره فإنه يتنوع في ذلك ويتلون فهذا يأتيه من قبل الإيمان والتوحيد فيوقعه في الشك أحيانا وفي الشرك أحيانا وهذا يأتيه من قبل الصلاة فيوقعه في التهاون بها والإخلال وهذا يأتيه من قبل الزكاة فيوقعه في البخل بها أو صرفها في غير مستحقها وهذا يأتيه من قبل الصيام فيوقعه فيما ينقضه من سيء الأقوال والأفعال وهذا يأتيه من قبل الحج فيوقعه في التسويف به حتى يأتيه الموت وما حج وهذا يأتيه من قبل حقوق الوالدين والأقارب فيوقعه في العقوق والقطيعة وهذا يأتيه من قبل الأمانة فيوقعه في الغش والخيانة وهذا يأتيه من قبل المال فيوقعه في اكتسابه من غير مبالاة فيكتسبه عن طريق الحرام بالربا تارة وبالغرور والجهالة تارة ويأخذ الرشوة أحيانا وبإهمال عمله تارة إلى غير ذلك من أنواع المعاصي وأجناسها التي يغر بها الشيطان بني آدم ثم يتخلى عنهم أحوج ما يكونون إلى المساعد والمعين اسمعوا قول الله تعالى في غرور الشيطان لأبوينا آدم وحواء حين أسكنهما الله تعالى الجنة وأذن لهما أن يأكلا رغدا من حيث شاءا من أشجارها وثمارها سوى شجرة واحدة عينها لهما بالإشارة {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] ولكن الشيطان وسوس لهما وقال:(9/705)
: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ - وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ - فَدَلَّاهُمَا} [الأعراف: 20 - 22] أي أنزلهما من مرتبة الطاعة وعلو المنزلة {بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22] واسمعوا خداعه لقريش في الخروج إلى بدر وتخليه عنهم حيث يقول الله تعالى في ذلك: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] واسمعوا قول الله تعالى في خداع الشيطان لكل إنسان وتخليه عنه حيث يقول الله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ - فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر: 16 - 17] {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22]
عباد الله إن كل ما تجدون في نفوسكم من تكاسل عن الطاعات وتهاون بالمعاصي فإنه من وساوس الشيطان ونزغاته فإذا وجدتم ذلك فاستعيذوا بالله منه فإن في ذلك الشفاء والخلاص قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 200 - 201] اللهم أعذنا من الشيطان الرجيم واجعلنا من عبادك المخلصين الذين ليس له سلطان عليهم وعلى ربهم يتوكلون واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين إنك جواد كريم غفور رحيم.
[الخطبة الثالثة في قصة موسى مع فرعون(9/706)
الخطبة الثالثة في قصة موسى مع فرعون الحمد لله العلي الكبير المتفرد بالخلق والتدبير الذي أعز أولياءه بنصره وأذل أعداءه بخذله فنعم المولى ونعم النصير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واذكروا أيام الله لعلكم تذكرون اذكروا أيام الله بنصر أنبيائه وأتباعهم لعلكم تشكرون واذكروا أيام الله بخذل أعدائه ومن والاهم لعلكم تتقون واذكروا أيام الله إذا أنزل للقضاء بين عباده يوم القيامة لعلكم توقنون. أيها الناس إن نصر الله تعالى لأوليائه في كل زمان ومكان وأمة انتصار للحق وذلة للباطل وأخذ للمتكبر ونعمة على المؤمنين إلى يوم القيامة لأنهم يسرون بذلك وينعمون به بالا. وفي هذا الشهر كانت نجاة موسى عليه السلام وقومه من فرعون وجنوده فلقد أرسله الله تعالى إلى فرعون بالآيات البينات والبرهان القاطع على نبوته إلى فرعون وقومه فرعون الذي تكبر على الملأ وقال أنا ربكم الأعلى فجاءه موسى بالآيات العظيمة ودعاه إلى توحيد الله تعالى خالق السماوات والأرض رب العالمين فقال فرعون منكرا ومكابرا: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] أنكر الرب العظيم الذي قامت بأمره السماء والأرض وفي كل شيء له آية تدل على وجوده وربوبيته وعلمه وقدرته وحكمته وأنه الرب الواحد الذي يجب إفراده بالعبادة كما هو متفرد بالخلق والتدبير فأجابه موسى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 24] فإن في السماوات والأرض وما بينهما من الآيات ما يوجب الإيمان واليقين فرد فرعون ساخرا بموسى ومستهزئا به ومحتقرا له قائلا لمن حوله: {أَلَا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 25] فأجاب موسى مذكرا لهم أصلهم وأنه مخلوقون مربوبون وكما خلقوا فهم صائرون إلى العدم طريقة آبائهم الأولين فقال: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 26] وحينئذ بهت فرعون فادعى دعوى الكاذب المغبون فقال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] فطعن بالرسول وبمن أرسله فأجاب موسى مبينا من الأحق بوصف الجنون أهو المؤمن بالله خالق السماوات والأرض ومالك المشرق والمغرب أم المنكر لذلك فقال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28](9/707)
فلما عجز فرعون عن مقاومة الحق وأفحمه موسى بالحجة والبرهان لجأ إلى ما لجأ إليه العاجزون المتكبرون من الإرهاب والوعيد فتوعد موسى بالاعتقال والسجن قائلا: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] ولم يقل لأسجننك ليزيد في إرهاب موسى حيث إن له من القوة والسلطان ما مكنه من سجن الناس الذين سيكون موسى من جملتهم على حد تهديده إن اتخذ إلها غيره وما زال موسى صلى الله عليه وسلم يأتي بالآيات واضحة وضوح النهار وفرعون يحاول بكل جهوده ودعاته أن يقضي عليها بالرد والكتمان حتى قال لموسى: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى - فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [طه: 57 - 58] مستويا لا يحجب عن الرؤية فيه واد ولا جبل فواعدهم موسى موعد الواثق بنصر الله تعالى واعدهم يوم الزينة وهو يوم عيدهم في رابعة النهار ضحى فاجتمع الناس وأتى فرعون بكل ما يستطيع من كيد ومكر فقال لهم موسى: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه: 61] فوقعت هذه الكلمة الواحدة الصادرة عن إيمان ويقين وقعت بين الناس أشد من السلاح الفتاك فتنازعوا أمرهم بينهم وتفرقت كلمتهم وصارت العاقبة لنبي الله موسى صلى الله عليه وسلم وأعلن خصومه من السحرة إيمانهم به: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ - قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ - رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء: 46 - 48] وقالوا لفرعون حين توعدهم: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 72 - 73] وما زال فرعون ينابذ دعوة موسى صلى الله عليه وسلم حتى استخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين قال الله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ - فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 55 - 56] وكان من قصة إغراقهم أن الله أوحى إلى موسى أن يسري بقومه ليلا من مصر فاهتم لذلك فرعون اهتماما عظيما فأرسل في جميع مدائن مصر أن يحشر الناس للوصول إليه لأمر يريده الله عز وجل فاجتمع الناس إليه فخرج بهم في إثر موسى وقومه ليقضي عليهم حتى أدركهم عند البحر الأحمر: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] البحر أمامنا فإن خضنا غرقنا وفرعون وقومه خلفنا وسيأخذوننا فقال لهم موسى كلا أي لستم مدركين: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] أي سيدلني على ما فيه النجاة(9/708)
وهذا والله غاية الإيمان والثقة بوعد الله ونصره فأوحى الله تعالى إلى موسى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء: 63] فضربه {فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63] بإذن الله عز وجل اثنى عشر طريقا صار هذا الماء السيال بينهما ثابتا كأطواد الجبال فدخل موسى وقومه يمشون بين جبال الماء في طرق يابسة أيبسها الله بلحظة آمنين فلما تكاملوا خارجين وتبعهم فرعون بجنوده داخلين أمر الله البحر أن يعود إلى حاله فانطبق على فرعون وجنوده حتى غرقوا عن آخرهم فلما أدرك فرعون الغرق: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90] ولكن لم ينفعه الإيمان حينئذ فقيل له توبيخا: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] قال الله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ - وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ - كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ - فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 25 - 29] فأورث الله بني إسرائيل أرض فرعون وقومه المجرمين لأن بني إسرائيل حينذاك كانوا على الحق سائرين ولوحي الله الذي أنزله على موسى متبعين فكانوا وارثين لأرض الله كما وعد الله: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]- {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ - إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105 - 106] أيها الناس إن نجاة نبي الله موسى وقومه من عدو الله فرعون وجنوده لنعمة كبرى تستوجب الشكر لله عز وجل ولهذا «لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون اليوم العاشر من هذا الشهر شهر المحرم فقال ما هذا قالوا يوم صالح نجى الله فيه موسى وقومه من عدوهم فصامه موسى فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه» «وسئل عن فضل صيامه فقال أحتسب على الله يكفر السنة التي قبله» . إلا أنه صلى الله عليه وسلم أمر بعد ذلك بمخالفة اليهود بأن يصام العاشر ويوما قبله وهو التاسع أو يوما بعده وهو الحادي عشر. وعليه فيكره أن يصوم يوم العاشر وحده بل يضيف إليه يوما قبله أو يوما بعده وإضافة التاسع إليه أفضل من الحادي عشر. وفقني الله وإياكم لشكر نعمته وحسن عبادته وحمانا من شرور أنفسنا برعايته إنه جواد كريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . . الخ.](9/709)
[الخطبة الرابعة في بعض خصائص يوم الجمعة]
الخطبة الرابعة
في بعض خصائص يوم الجمعة الحمد لله الذي جعل يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع وجعل فيه ساعة الدعاء فيها مجاب ومسموع وخصه بخصائص ليعرف الناس قدره فيقوموا به على الوجه المشروع وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القوي القهار مبيد الأجناد والجموع وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أتقى عابد وأهدى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان في القنوت والخضوع وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه أن جعلكم من هذه الأمة وخصكم بهذه الملة فأصبحتم بذلك خير الأمم وأكرمها على الله عز وجل وإن مما ادخره الله لكم من الفضائل هذا اليوم المبارك يوم الجمعة فقد أضل الله عنه اليهود والنصارى وهداكم له قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة هدانا الله له وضل الناس عنه فالناس لنا فيه تبع هو لنا ولليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد» .
فاعرفوا أيها المسلمون حق هذا اليوم المبارك وما اختص به من الفضائل لعلكم تقومون بتعظيمه وتعرفون أهميته ففيه تمام خلق السماوات والأرض فقد خلقهما الله في ستة أيام أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة وفيه خلق أبوكم آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة. ففي هذا اليوم ابتداء الدنيا وانتهاؤها في هذا اليوم ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ما لم يسأل إثما وأرجى الساعات للإجابة ساعتكم هذه وما بعد العصر فساعتكم هذه فيها صلاة الجمعة وانتظارها وساعة بعد العصر فيها صلاة تحية المسجد وانتظار صلاة المغرب ومن كان في المسجد ينتظر الصلاة فهو في صلاة. فتحروا أيها المسلمون ساعة الإجابة في هذا اليوم لعلكم تدركونها فتفوزون بما تسألون.
ومن خصائص هذا اليوم تأكد الاغتسال فيه لصلاة الجمعة قال النبي صلى الله عليه وسلم «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» أي على كل بالغ فلا ينبغي للمسلم أن يترك الاغتسال ليوم الجمعة لأنه أمر مؤكد جدا. قال ابن القيم رحمه الله ووجوبه أقوى من وجوب الوضوء من مس النساء ومس الذكر والرعاف والحجامة والقيء وأقوى من وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد.(9/710)
وينبغي أن يتطيب ويلبس أحسن ثيابه ويبكر إلى المسجد فيشتغل بالصلاة والقراءة والذكر حتى يأتي الإمام. وينبغي أن يتقدم في المكان كما تقدم في الزمان فيدنو من الإمام ولا يتأخر. ولقد رأيت بعض المحسنين المحبين للخير يأتون مبكرين للمسجد لكنهم يصلون في مؤخرة المسجد وهذا خلاف السنة بل السنة أن يتقدموا ويكملوا الصف الأول فالأول قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تقدموا وائتموا بي وليأتم بكم من وراءكم لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله» (رواه مسلم) .
ومن خصائص هذا اليوم صلاة الجمعة وخطبتها التي أمر الله بالسعي إليها في كتابه فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] وأجمع المسلمون على فرضيتها وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من التهاون بها فقال صلى الله عليه وسلم: «من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه» . وقال صلى الله عليه وسلم: «لينتهين أقوام عن تركهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم فليكونن من الغافلين» فما أعظم حرمان هؤلاء الذين اتخذوا يوم الجمعة يوما للنزهة في البر يخرجون فيدعون صلاة الجمعة أما يخشى هؤلاء أن يشملهم هذا الحديث أما يخشون أن يطبع الله على قلوبهم فيكونوا من الغافلين عن ذكره المعرضين عن أمره أما يخافون أن يبدلهم الله بهذا الأمن والرخاء خوفا وشدة. لقد حرموا أنفسهم الاجتماع بالمسلمين في هذا اليوم العظيم وحرموا أنفسهم هذه الصلاة التي تكفر ما قبلها من صغائر الذنوب وحرموا أنفسهم ذكر الله ودعاءه في الصلاة وفي الخطبة والله لقد حرموا أنفسهم خيرا كثيرا وعرضوها إثما كبيرا ففي الأيام غير يوم الجمعة متسع لنزهاتهم وشغل لفراغهم الفكري والنفسي وحل لمللهم الحاصل بالعمل فإن عندهم نصف النهار الأخير واسع صالح للنزهة ولكن إذا كانوا يخرجون يوم الجمعة ويؤدون صلاة الجمعة في المساجد مع المسلمين فلا حرج عليهم.
ومن خصائص هذا اليوم أنه لا يجوز لمن تلزمه الجمعة أن يسافر بعد الأذان لها حتى يصلي إلا أن يؤديها في بلد في طريقه أو يخاف فوت سفره مثل أن يريد السفر في الطائرة ويخشى أن تفوته إن تأخر.
ومن خصائص هذا اليوم استحباب كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه.(9/711)
ومن خصائصه أن الله تعالى يتجلى فيه لأوليائه المؤمنين في الجنة ويزورونه فيكون أقربهم منه أقربهم إلى الإمام وأسبقهم إلى زيارة الله أسبقهم إلى الجمعة، خرج عبد الله بن مسعود إلى الجمعة فوجد ثلاثة قد سبقوه رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الناس يجلسون يوم القيامة من الله على قدر رواحهم إلى الجمعة» . وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه «أن الله اتخذ في الجنة واديا أفيح من مسك أبيض يجتمع فيه أهل الجنة يوم الجمعة فيجيء النبيون فيجلسون على منابر من نور ثم يجيء الصديقون والشهداء فيجلسون على منابر من ذهب ثم يجيء أهل الغرف فيجلسون على كثبان المسك فيتجلى لهم ربهم عز وجل فينظرون إليه فيقول لهم أنا الذي صدقتكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي وهذا محل كرامتي فسلوني فيسألونه الرضى فيقول رضاي أنزلكم داري وأن لكم كرامتي فسلوني فيسألونه الرضى فيشهد لهم بالرضا ثم يسألونه حتى تنتهي رغبتهم ثم يفتح لهم يوم الجمعة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا من كرامة الله والنظر إلى وجهه الكريم فذلك يوم المزيد» .
أيها المسلمون إن يومكم هذا يوم عظيم فعظموه وإن خيره جسيم فاغتنموه.
وفقني الله وإياكم لتعظيم شعائره العظيمة ونيل ذخائره الجسيمة إنه جواد كريم.(9/712)
وإلى هنا انتهى ما أردنا انتفاءه من الخطب مراعين فيه ما كان أنسب للوقت وأشد في الحاجة والله نسأل أن ينفع به من قرأه وسمعه إنه جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
(تم كتاب الخطب والحمد لله رب العالمين) .(9/713)