وهذا الحديث نص في المسألة، ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصائمين إلى العصيان لأنه عزم عليهم فخالفوا وهو شاهد لمن قال: إن الفطر أفضل لمن شق عليه الصوم، ويتأكد ذلك إذا كان يحتاج إلى الفطر للتقوي على لقاء العدو.
* وروى الطبري في تهذيبه من طريق خيثمة سألت أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن الصوم في السفر فقال: لقد أمرت غلامي أن يصوم، قال فقلت له: فأين هذه الآية (فعدة من أيام أخر) فقال: إنها نزلت ونحن نرتحل جياعًا وننزل على غير شبع، وأما اليوم فنرتحل شباعًا وننزل على شبع" فأشار أنس إلى الصفة التي يكون فيها الفطر أفضل من الصوم.
* ما الجواب عن قول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس من البر الصيام في السفر" فسلك المجيزون فيه طرقًا:
* فقال بعضهم قد خرج على سبب فيقصر عليه وعلى من كان في مثل حاله، وإلى هذا جنح البخاري في ترجمته "باب قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن ظُلِّلَ واشتد عليه الحر "ليس من البر الصوم في السفر".
وساق الطبري سبب وروده الحديث ولفظه عنده من رواية كعب بن عاصم الاشعري: "سافرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن في حر شديد، فإذا رجل من القوم قد دخل تحت ظل شجرة وهو مضطجع كضجعة الوجع، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما لصاحبكم، أي وجع به؟ فقالوا: ليس به وجع، ولكنه صائم وقد اشتد عليه الحر، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذ: "ليس من البر أن تصوموا في السفر عليكم برخصة الله التي رخّص لكم"، ثم قال الطبري بعده: فكان قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك لمن كان في مثل هذه الحال.
قال ابن دقيق العيد: أخذ من هذه القصة أن كراهة الصوم في السفر مختصة بمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم ويشق عليه أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من الصوم من وجوه القرب، فينزل قوله: "ليس من البر الصوم في السفر" على مثل هذه الحالة، ثم قال ابن دقيق العيد: والمانعون في السفر يقولون: إن اللفظ عام، والعبرة بعمومه لا بخصوص السبب قال: وينبغي أن يتنبه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام(2/115)
وعلى مراد المتكلم، وبين مجرد ورود العام على سبب، فإن بين العامين فرقًا واضحًا، ومن أجراهما مجرى واحداً لم يصب، فإن مجرد ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به كنزول آية السرقة في قصة سرقة رداء صفوان، وأما السياق والقرائن الدالة على مراد المتكلم فهي المرشدة لبيان المجملات وتعيين المحتملات.
وقال ابن المنير: هذه القصة تشعر بأن من اتفق له مثل ما اتفق لذلك الرجل أنه يساويه في الحكم، وأما من سلم من ذلك ونحوه فهو في جواز الصوم على أصله والله أعلم.
وحمل الشافعي نفي البر المذكور في الحديث على من أبى قبول الرخصة فقال: معنى قوله: "ليس من البر" أن يبلغ رجل هذا بنفسه في فريضة صوم ولا نافلة، وقد أرخص الله تعالى له أن يفطر وهو صحيح وجزم ابن خزيمة وغيره بهذا المعنى.
وقال الطحاوي: المراد بالبر الكامل الذي هو أعلى مراتب البر، وليس المراد إخراج الصوم في السفر عن أن يكون برًّا لأن الإفطار قد يكون أبرّ من الصوم إذا كان للتقوى على لقاء العدو مثلاً، وهو نظير قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس المسكين بالطواف" ... الحديث، فإنه لم يرد إخراجه من أسباب المسكنة كلها، وإنما أراد أن المسكين الكامل المسكنة الذي لا يجد غنى يغنيه ويستحي أن يسأل ولا يفطن له.
***
المسألة الثانية [هل الصوم في السفر أفضل أم الفطر]
قال ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/167-168) :
"إذا قلنا أنه -أي المسافر- من أهل الفطر على مذهب الجمهور؛ فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة مذاهب:
* فبعضهم رأى الصوم أفضل، وممن قال بهذا القول: مالك وأبو حنيفة.(2/116)
* وبعضهم رأى أن الفطر أفضل، وممن قال بهذا القول: أحمد وجماعة.
* وبعضهم رأى أن ذلك على التخيير، وأنه ليس أحدهما أفضل".
* ذهب أكثر العلماء إلى أن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشق عليه وأطاقه بلا ضرر. وبه قال حذيفة بن اليمان وأنس بن مالك وعثمان بن أبي العاص -رضي الله عنهم-، وعروة بن الزبير والأسود بن يزيد وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وسعيد بن جبير والنخعي والفضيل بن عياض ومالك وأبو حنيفة والثوري وعبد الله بن المبارك وأبو ثور وآخرون. وبه قال الشافعي.
وهو مذهب الجمهور.
* وقال كثير منهم الفطر أفضل عملاً بالرخصة.
وهو قول ابن عباس وابن عمر وابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وعبد الملك بن الماجشون المالكي.
* وقال آخرون هو مخير مطلقًا وهما سواء.
* وقال آخرون: أفضلهما: أيسرهما وأسهلهما عليه وهذا قول مجاهد وِعمر ابن عبد العزيز وقتادة واختاره ابن المنذر لقوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر) فإن كان الفطر أيسر عليه فهو أفضل في حقه، وإن كان الصيام أيسر كمن يسهل عليه حينئذ ويشق جمليه قضاؤه بعد ذلك فالصوم في حقه أفضل والراجح: قول الجمهور.
قال ابن حجر في "الفتح" (4/216) : "الحاصل أن الصوم لمن قوى عليه أفضل من الفطر، والفطر لمن شق عليه أو أعرض عن قبول الرخصة أفضل من الصوم، وأنه من لم يتحقق المشقة بخير بين الصوم والفطر"، ثم قال بعد ذلك: "والذي يترجح قول الجمهور".
المسألة الثالثة
[هل الفطر الجائز للمسافر هو في سفر محدود أم غير محدود؟]
قال ابن رشد (2/169) .(2/117)
"وهل الفطر الجائز للمسافر هو في سفر محدود أو في سفر غير محدود؟
* فإن العلماء اختلفوا فيها:
فذهب الجمهور إلى أنه إنما يفطر في السفر الذي تقصر فيه الصلاة، وذلك على حسب اختلافهم في هذه المسألة. وذهب قوم إلى أنه يفطر في كل ما ينطلق عليه اسم سفر وهم أهل الظاهر.
* والسبب في اختلافهم معارضة ظاهر اللفظ للمعنى، وذلك أن ظاهر اللفظ أن كل ما ينطلق عليه اسم مسافر فله أن يفطر لقوله تعالى: (فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر) وأما المعنى المعقول من إجازة الفطر في السفر فهو المشقة، ولما كانت لا توجد في كل سفر، وجب أن يجوز الفطر في السفر الذي فيه المشقة، ولما كان الصحابة كأنهم مجمعون على الحد في ذلك، وجب أن يقاس ذلك على الحد في تقصير الصلاة".
* قال النووي في "المجموع" (6/269) : "فرع في مذاهب العلماء في السفر المجوز للفطر: مذهبنا أنه ثمانية وأربعون ميلاً بالهاشمي، وهذه المراحل مرحلتان قاصدتان وبهذا قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا في سفر يبلغ ثلاثة أيام كما قال في القصر، وقال قوم: يجوز في كل سفر وإن قصر".
***
المسألة الرابعة [متى يفطر المسافر ومتى يمسك؟]
* قال ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/170-171) : "متى يفطر المسافر ومتى يمسك؟ فإن قومًا قالوا: يفطر يومه الذي خرج فيه مسافرًا، وبه قال الشعبي والحسن وأحمد. وقالت طائفة: لا يفطر يومه ذلك، وبه قال فقهاء الأمصار. واستحب جماعة العلماء لمن علم أنه يدخل المدينة أول يومه ذلك أن يدخل صائماً، وبعضهم في ذلك أكثر تشديدًا من بعض، وكلهم لم يوجبوا على من دخل مفطرًا كفارة.
واختلفوا فيمن دخل وقد ذهب بعض النهار، فذهب مالك والشافعي إلى(2/118)
أنه يتمادى على فطره. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يكف عن الأكل، وكذلك الحائض عنده تطهر تكف عن الأكل.
* قال ابن عبد البر في "التمهيد" (22/49-54) : [مالكي]
"اتفق الفقهاء في المسافر في رمضان أنه لا يجوز له أن يبيت الفطر؛ لأن المسافر لا يكون مسافرًا بالنية، وإنما يكون مسافرًا بالعمل والنهوض في سفره، ويعمل عمل المسافر ويبرز عن الحضر فيجوز له حينئذ تقصير الصلاة وأحكام المسافر؛ ولا خلاف بينهم في الذي يؤمل السفر أنه لا يجوز له أن يفطر في الحضر حتى يخرج.
* واختلف أصحاب مالك في هذا إن أفطر قبل أن يخرج، فذكر ابن سحنون عن ابن الماجشون أنه قال: إن سافر فلا شيء عليه من الكفارة، وإن لم يسافر فعليه الكفارة. قال: وقال أشهب. لا شيء عليه من الكفارة سافر أو لم يسافر، وقال سحنون: عليه الكفارة سافر أو لم يسافر، ثم رجع إلى قول عبد الملك.
* قال ابن حبيب: إن كان قد تأهب لسفره وأخذ في الحركة فلا شيء عليه.
وحكى ذلك عن أصبغ وعن ابن الماجشون، فإن عاقه عن السفر عائق، كان عليه الكفارة؛ وحسبه أن ينجو إن سافر.
وروى عيسى عن ابن القاسم أنه ليس عليه إلا قضاء يوم لأنه متأول في فطره.
واختلف الفقهاء في الذي يصبح في الحضر صائماً في رمضان، ثم يسافر في صبيحة يومه ذلك وينهض في سفره: هل له أن يفطر ذلك اليوم أم لا؟
فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم إلى أنه لا يفطر ذلك اليوم بحال. وهو قول الزهري ويحيى بن سعيد والأوزاعي وبه قال أبو ثور.
__________
(1) وهو مروي عن عبد الله بن عمر والشعبي.
(2) وهو قول أنس.(2/119)
* اختلفوا -إن فعل- فكلهم قال: يقضي ولا يكفر، وروي عن بعض أصحاب مالك أنه يقضي ويكفر، وهو قول ابن كنانة والمخزومي، وليس قولهما هذا بشيء؛ لأن الله قد أباح له الفطر في الكتاب والسنة وإنما قولهم لا يفطر استحبابًا لتمام ما عقده، فإن أخذ برخصة الله كان عليه القضاء، وأما الكفارة فلا وجه لها، ومن أوجبها فقد أوجب ما لم يوجبه الله.
وروي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- في هذه المسألة أنه يفطر إن شاء في يومه ذلك إذا خرج مسافرًا، وهو قول الشعبي، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق: قال أحمد: يفطر إذا برز عن البيوت (1) ، وقال إسحاق، يفطر حين يضع رجله في الرحل -وهو قول داود-.
* وقال الحسن البصري: يفطر في بيته إن شاء يوم يريد أن يخرج (2) .
قال أبو عمر: قول الحسن شاذ، ولا ينبغي لأحد أن يفطر، وهو حاضر لا في نظر ولا في أثر، وقد روي عن الحسن خلاف ذلك.
ذكر عبد الرزاق عن معمر عمن سمع الحسن يقول: لا يفطر ذلك اليوم إلا أن يشتد عليه العطش، فإن خاف على نفسه أفطر. وقال إبراهيم: لا يفطر ذلك اليوم.
* واختلفوا في الذي يختار الصوم في السفر فيصوم ثم يفطر نهارًا من غير عذر، فكان مالك يوجب عليه القضاء والكفارة. وقد روي عنه: أنه لا كفارة عليه وهو قول أكثر أصحابه إلا عبد الملك -فإنه قال: إن أفطر بجماع كفّر؛ لأنه لا يقوى بذلك على سفره ولا عذر له؟ وعلى ذلك مذاهب سائر الفقهاء بالحجاز والعراق: أنه لا كفارة عليه.
وروى البويطي عن الشافعي قال: إن صح حديث الكديد (1) لم أر بأسا أن يفطر المسافر بعد دخوله في الصوم في سفره.
وروى المديني عنه -كقول مالك-: أنه لا يرى الكفارة على من فعل ذلك.
__________
(1) وقد صح.(2/120)
قال أبو عمر: الحجة في سقوط الكفارة واضحة من جهة النظر؛ لأنه متأول غير هاتك لحرمة صومه عند نفسه وهو مسافر قد دخل في عموم إباحة الفطر، ومن جهة الأثر أيضاً، ثم ساق الأحاديث وقال: "فهذه الآثار كلها تبين لك أن للصائم أن يفطر في سفره بعد دخوله في الصوم مختارًا له في رمضان.
* واختلفوا في المسافر يكون مفطرًا في سفره ويدخل الحضر في بقية يومه ذلك: قال مالك والشافعي وأصحابهما -وهو قول ابن علية وداود في المرأة تطهر والمسافر يقدم وقد أفطروا في السفر-: أنهما يأكلان ولا يمسكان.
قال مالك والشافعي: ولو قدم مسافر في هذه الحال فوجد امرأته قد طهرت، جاز له وطؤها؛ قال الشافعي: أحب لهما أن يستترا بالأكل والجماع خوف التهمة.
* وروى الثوري عن جابر بن زيد أنه قدم من سفر في شهر رمضان فوجد المرأة قد اغتسلت من حيضتها فجامعها.
وروي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "من أكل أول النهار فليأكل آخره".
قال سفيان: هو كصنيع جابر بن زيد، ولم يذكر سفيان عن نفسه خلافًا لهما.
وقال ابن علية: القول ما قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: من أكل أول النهار فليأكل آخره.
* وقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح وعبيد الله بن الحسن في المرأة تطهر في بعض النهار، المسافر يقدم وقد أفطر في سفره: أنهما يمسكان بقية يومهما وعليهما القضاء؛ واحتج لهم الطحاوي بأن قال: لم يختلفوا أن مَنْ غم عليه هلال رمضان فأكل، ثم علم أنه يمسك عما يمسك عنه الصائم.
وفرّق ابن شبرمة بن الحائض والمسافر: فقال في الحائض: تأكل ولا تصوم إذا طهرت بقية يومها، والمسافر إذا قدم ولم يأكل شيئًا يصوم يومه(2/121)
ويقضي" أ. هـ.
قال ابن رشد - رادًّا على الطحاوي في قياس السفر على يوم الشك وأنه يشبهه-: "من لم يشبهه به قال: لا يمسك عن الأكل؛ لأن الأول أكل لموضع الجهل، وهذا أكل لسبب مبيح أو موجب للأكل".
فائدة:
سُنَّة ميتة فتمسك بها:
عن محمد بن كعب قال: أتيت أنس بن مالك -رضي الله عنه- في رمضان وهو يريد سفرًا وقد رحلت راحلته ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل فقلت: سُنَّة؟ قال سنة ثم ركب" (1) .
وعند الدارمي والبيهقي والدارقطني بلفظ: "أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر، وقد رحلت دابته ولبس ثياب السفر، وقد تقارب غروب الشمس فدعا بطعام فأكل منه، ثم ركب فقلت له سنة؟ قال: "نعم".
* عن جعفر بن جبر قال: كنت مع أبي بصرة الغفاري صحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفينة من الفسطاط في رمضان فرفع، ثم قرب غداه، قالِ جعفر في حديثه: "فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة، قال: اقترب، قلت: ألست ترى البيوت، قال أبو بصرة: أترغب عن سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال جعفر في حديثه: فأكل" (2) .
__________
(1) رواه الترمذي واللفظ له، والضياء المقدسي في "المختارة" والدارمي، والبيهقي في "سننه"، والدارقطني، والطبراني في "المعجم الوسيط" وصحح الحديث: الترمذي وابن العربي والضياء المقدسي وابن القيم في "زاد المعاد"، وأبو المحاسن المقدسي في "مختصر أحاديث الأحكام" والألباني في رسالته القيمة "تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفره بعد الفجر والرد على من ضعفه" طبع المكتب الإسلامي.
وقال الألباني: "ويمكن أن يضم إليهما: الإمام أحمد وإسحاق بن راهوية فإنهما أخذا بالحديث وعملا به وذلك دليل على أن الحديث ثابت عندهما.
(2) رواه أبو داود وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" رقم (2109) .(2/122)
* عن دحية بن خليفة -رضي الله عنه- أنه خرج من قريته إلى قريب من قرية عقبة في رمضان، ثم إنه أفطر وأفطر معه ناس، وكره آخرون أن يفطروا، قال: فلما رجع إلى قريته، قال: "والله لقد رأيت اليوم أمرًا ما كنت أظن أن أراه! إن قومًا رغبوا عن هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه! يقول ذلك للذين صاموا، ثم قال عند ذلك: اللَّهم اقبضني إليك" (1) .
* عن اللجلاج وغيره قالوا: كنا نسافر مع عمر -رضي الله عنه- ثلاثة أميال فيتجوز في الصلاة ويفطر" (2) .
* وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال لي أبو موسى: ألم أنبِّأ أنّك إذا خرجت خرجت صائماً، وإذا دخلت دخلت صائماً؟ فإذا خرجت فاخرج مفطرًا. وإذا دخلت فادخل مفطرًا" (3) .
* وعن ابن عمر -رضي الله عنهم- أنه خرج في رمضان فأفطر (4) .
* وعن ابن عباس قال: "إن شاء صام وإن شاء أفطر" (5) .
* عن مغيرة قال: خرج أبو ميسرة في رمضان مسافرًا فمرّ بالفرات، وهو صائم، فأخذ منه حسوة فشربه وأفطر (6) .
* وعن سعيد بن المسيب والحسن البصري قالا: يفطر إن شاء (7) .
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود: قال الألباني: "رجاله ثقات محتج بهم في "الصحيحين" غير منصور الكلبي، قال فيه العجلي في "كتاب الثاقات": مصري تابعي ثقة. ووثقه ابن حبان وقال ابن المديني: مجهول وهذا هو الراجح عندي، وقال الحافظ فيه: "مستور".
(2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/151/2) بإسناد حسن أو قريب منه، كما قال الألباني في "تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفره" (ص 31) .
(3) رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد صحيح على شرط الستة.
(4) قال الألباني: رواه ابن أبي شيبة بإسناد رجاله ثقات.
(5) رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح.
(6) رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، ثم روى هو والبيهقي بسند آخر عنه مختصرًا وهو صحيح أيضاً.
(7) رواه ابن أبي شيبة وسنده صحيح.(2/123)
* وفي كتاب "المسائل" لإسحاق بن منصور المروزي ما نصه: "قلت - يعني للإمام أحمد-: إذا خرج مسافرًا متى يفطر؟ فقال: إذا برز عن البيوت، فقال إسحاق: يعني ابن راهوية-: بل حين يضع رجله فله الإفطار، كما فعل أنس بن مالك وسنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإذا جاوز البيوت قصر".
* يقول الألباني -حفظه الله-: "ولقد أنصف الإمام ابن العربي -رحمه الله تعالى-، فإنه ذهب إلى العمل بالحديث في هذه المسألة خلافًا لكثير من علماء المالكية، وتبعه على ذلك القرطبي وغيره، وسبقهم إلى الجهر بذلك الحافظ ابن عبد البر".
فقال ابن العربي في "عارضة الأحوذي" (4/13-16) - تعليقًا على الحديث: "وهذا صحيح، لم يقل به إلا أحمد بن حنبل!، فأما علماؤنا -يعني المالكية- فمنعوا منه، لكنهم اختلفوا إذا أكل هل عليه كفارة أم لا؟ فقال مالك في "كتاب ابن حبيب": لا كفارة عليه، وهو يقتضي جواز الفطر مع أهبة السفر".
* وقال القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (2/278-279) بعد أن حكى الخلاف الذي ذكره ابن العربي-: "قلت: قول أشهب في نفي الكفارة حسن؛ لأنه فعل ما يجوز له فعله، والذمهّ بريئة، فلا يثبت فيها شيء إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف، ثم إنه مقتضى قوله تعالى: (أو على سفر وقال أبو عمر ابن عبد البر: هذا أصح أقاويلهم في هذه المسألة، ولو كان الأكل مع نية الفطر يوجب عليه الكفارة، لأنه كان قبل خروجه ما أسقطها عنه خروجه، فتأمل ذلك تجده ذلك، إن شاء الله تعالى".
وهذا هو الذي استظهره العلامة الصنعاني في "سبل السلام" (2/926) ، وهو الذي نقطع به لهذا الحديث الصحيح فإنه نص في المسألة لا يقبل التأويل، مع تأيده بظاهر القرآن والآثار الصحيحة عن السلف -رضي الله عنهم" (1) .
__________
(1) رسالة "تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفره والردّ على من ضعفه " (للشيخ الألباني - طبع المكتب الإسلامي) .(2/124)
المسألة الخامسة
[هل يجوز للصائم أن ينشئ سفرًا ثم لا يصوم فيه]
قال ابن رشد (2/171- 172) :
"هل يجوز للصائم في رمضان أن ينشئ سفرا، ثم لا يصوم فيه؟ فإن الجمهور على أن يجوز ذلك له. وروي عن بعضهم وهو عبيدة السلماني وسويد بن غفلة وابن مجلز: أنه إن سافر فيه صام ولم يجيزوا له الفطر.
والسبب في اختلافهم: اختلافهم في مفهوم قوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)
وذلك أنه يحتمل أن يفهم منه أن من شهد بعض الشهر فالواجب عليه أن يصومه كله، ويحتمل أن يفهم منه أن من شهد أن الواجب أن يصوم ذلك البعض الذي شهده، وذلك أنه لما كان المفهوم باتفاق أن من شهده كله فهو يصومه كله، كان من شهد بعضه فهو يصوم بعضه، ويؤيد تأويل الجمهور إنشاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السفر في رمضان".
يريد الله بكم اليسر
"هذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها، فهي ميسرة لا عسر فيها، وهي توحي للقلب الذي يتذوقها، بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها، وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد.
سماحة تؤدي معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة الجادة وكأنما هي سيل الحياة الجاري، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين.
إن علينا أن نأخذ هذا الدين -كما أراده الله- بتكاليفه كلها، طاعة وتقوى، وأن نأخذه جملة بعزائمه ورخصه، متكاملاً متناسقا في طمأنينة(2/125)
إلى الله، ويقين بحكمته، وشعور بتقواه.
والأحاديث بمجموعها تساعد على تصور ما كان عليه السلف الصالح من إدراك للأمر وصورة سلوك أولئك السلف -رضوان الله عليهم- أملأ بالحيوية، وألصق بروح هذه الدين وطبيعته من البحوث الفقهية ومن شأن الحياة معها وفي جوها أن تنشئ في القلب مذاقًا حيًّا لهذه العقيدة وخصائصها" (1) .
صيام المريض
اختلفوا في المرض الذي يجيز الفطر:
* فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: هو المرض الذي تلحقه المشقة إن صام فيه أو يخاف زيادته.
* وقال أحمد: هو المرض الغالب.
* وقالت الظاهرية: إذا انطلق عليه اسم المريض أفطر.
وسبب اختلافهم: هل المراد بالآية مطلق المرض أم المرض الذي تلحق صاحبه المشقة، أو المرض المتعارف بين الناس أنه يقال لصاحبه مريض.
والراجح: ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة لقوله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) .
يقول الشيخ عمر الأشقر: "يجب أن نعلم أن المرض الذي يجوز الفطر به هو المرض الذي يزيد بالصوم، أو يتأخر برؤه به، أما المرض الذي لا يؤثر فيه الصوم فلا يجوز لصاحبه الفطر" (2) .
* قال ابن حجر في "فتح الباري" (8/28) : "اختلف السلف في الحد الذي إذا وجده المكلف جاز له الفطر، والذي عليه الجمهور: أنه المرض الذي يبيح له التيمم مع وجود الماء، وهو إذا خاف على نفسه لو تمادى على الصوم، أو على عضو من أعضائه أو زيادة في المرض الذي بدأ به أو تماديه. وعن ابن
__________
(1) "الظلال".
(2) "الصوم في ضوء الكتاب والسنة" (ص28) .(2/126)
سيرين: متى حصل للإنسان حال يستحق بها اسم المرض فله الفطر، وقال عطاء: يفطر من المرض كله، وعن الحسن والنخعي: إذا لم يقدر على الصلاة قائمًا يفطر".
الأمراض المبيحة للفطر:
ا- أمراض القلب كالجلطة الحديثة، والذبحة الصدرية غير المستجيبة للعلاج -وقصور الشرايين التاجية، وهبوط القلب والحمى الروماتيزمية، واضطراب النبض.
2- أمراض الصدر: الالتهاب الرئوي الشعبي -حالات الدرن الحاد - حساسية الصدر - النزلة الشعبية الحادة.
3- أمراض الجهاز الهضمي: تليف الكبد - القرحة الحادة المزمنة في العدة أو الاثنى عشر، مرض الإسهال الحاد، أو المزمن.
4- الحمّيات: كالحمى التيفودية، الحمى المالطية - الالتهاب الكبدي - الالتهاب السحائي - الحصبة - الجدري الكاذب - حمى النفاس - التهاب الغدد اللمفاوية.
5- أمراض الكلى: التهاب الكلى - البولينا.
6- الأمراض النفسية: الصرع - الفصام.
7- أمراض النساء والولادة: الحمل.
8- أمراض العيون: (الجلوكوما) أو المياه الزرقاء - مرض الشبكية السكري.
الحامل والمرضع ماذا عليها إذا أفطرت
* روى البخاري عن عطاء أنه سمع ابن عباس -رضي الله عنهما- يقرأ (وعلى الذين يُطوَقونه (1) فدية طعام مسكين) قال ابن عباس: ليست بمنسوخة
__________
(1) قال البخاري: (قراءة العامة يطيقونه وهو أكثر) -يعني: من أطاق يطيق-. وقرأ ابن عباس (يُطَوَّقونه) بفتح الطاء وتشديد الواو مبنيًا للمجهول مخفف الطاء من: طُوق. بضم أوله بوزن قطع، وهذه قراءة ابن مسعود أيضاً، وقد وقع عند النسائي عن عمرو بن دينار: يطوقونه: يكلفونه وهو تفسير حسن أي: يكلفون إطاقته.(2/127)
"هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعمان مكان كل يوم مسكينًا".
قال ابن حجر في "الفتح" (4/222) : "اتفقت الأخبار على أن قوله (وعلى الذين يطيقونه فدية) منسوخ، وخالف في ذلك ابن عباس فذهب إلى أنها محكمة لكنها مخصوصة بالشيخ الكبير ونحوه" وقال أيضًا في "الفتح" (8/29) : "قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة: -هذا مذهب ابن عباس-، وخالفه الأكثر، وفي هذا الحديث (1) ما يدل على أنها منسوخة. وهذه القراءة تضعف تأويل من زعم أن "لا" محذوفة من القراءة المشهورة، وأن المعنى: وعلى الذين لا يطيقونه فدية، وأنه كقول الشاعر "فقلت يمين الله أبرح قاعدًا" أي: لا أبرح قاعدًا، ورد بدلالة القسم على النفي بخلاف الآية، ويثبت هذا التأويل أن الأكثر على أن الضمير في قوله تعالى: (يطيقونه) للصيام فيصير تقدير الكلام وعلى الذين يطيقون الصيام فدية، والفدية لا تجب على المطيق إنما تجب على غيره، والجواب عن ذلك أن في الكلام حذفًا تقديره: وعلى الذين يطيقون الصيام إذا أفطروا فدية، وكان هذا في أول الأمر عند الأكثر، ثم نسخ وصارت الفدية للعاجز إذا أفطر وقد تقدم حديث ابن أبي ليلى قال: "حدثنا أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نزل رمضان شق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينًا ترك الصوم ممن يطيقه، ورخص لهم في ذلك فنسختها: (وأن تصوموا خير لكم) ، وأما على قراءة ابن عباس فلا نسخ لأنه يجعل الفدية على من تكلف الصوم وهو لا يقدر عليه فيفطر ويكفر، وهذا الحكم باق".
الحامل والمرضع إذا أفطرتا ماذا عليهما؟
هذه المسألة للعلماء فيها أربعة مذاهب:
__________
(1) عن سلمة بن الأكوع قال: "لما نزلت (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها" رواه البخاري قال ابن حجر: هذا صريح في دعوى النسخ وأصرح منه ما تقدم من حديث ابن أبي ليلى.(2/128)
* أحدها: أنهما يطعمان ولا قضاء عليهما، وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس وسعيد بن جبير.
* والقول الثاني: أنهما يقضيان فقط ولا يطعمان، وهو مقابل الأول، به قال عطاء بن أبي رباح والحسن والضحاك والنخعي والزهري وربيعة والأوزاعي وأبو حنيفة والثوري وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر: وبقول عطاء أقول.
* والثالث: أنهما يقضيان ويطعمان: "يفديان"، وهو قول الشافعي وأحمد وروي عن مجاهد.
* والقول الرابع: أن الحامل تفطر وتقضي ولا فدية، والمرضع تفطر وتقضي وتفدي. وبه قال مالك ورواية عن الشافعي.
وسبب اختلافهم تردد شبههما بين الذي يجهده الصوم وبين المريض، فمن شبّههما بالمريض؛ قال: عليهما القضاء فقط، ومن شبّههما بالذي يجهده الصوم؛ قال: عليهما الإطعام فقط بدليل قراءة من قرأ: (يطَوَّقونه فدية طعام مسكين) الآية.
* وأما من جمع عليهما الأمرين فيشبه أن يكون رأى فيهما من كل واحد شبها فقال: عليهما القضاء من جهة ما فيهما من شبه المريض، وعليهما الفدية من جهة ما فيهما من شبه الذين يجهدهم الصيام، ويشبه أن يكون شبههما بالمفطر الصحيح، لكن يضعف هذا، فإن الصحيح لا يباح له الفطر.
* ومن فرّق بين الحامل والمرضع ألحق الحامل بالمريض وأبقى حكم المرضع مجموعا من حكم المريض، وحكم الذي يجهده الصوم أو شبهها بالصحيح، ثم قال ابن رشد: "ومن أفرد لها أحد الحكمين أولى -والله أعلم- ممن جمع، كما أنّ من أفردهما بالقضاء أولى ممن أفردهما بالإطعام فقط؛ لكون القراءة غير متواترة، فتأمل هذا فإنه بيّن" (1) .
__________
(1) "بداية المجتهد" (2/176-177) .(2/129)
* قال الشيخ عمر الأشقر: "وممن يلحق بالمريض الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما، أو شق عليهما الصوم فلهما الفطر وعليهما قضاء عدة ما أفطرتاه، فعن أنس بن مالك الكعبي (1) قال: قال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة، والصوم عن المسافر وعن المرضع والحبلى" (2) .
وعن أنس بن مالك الكعبي قال: "غارت علينا خيل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتيت رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجدته يتغدى فقال: "أدْن فكل" فقلت: إني صائم فقال: "ادن أحدثك عن الصوم -أو الصيام-" إن الله تبارك وتعالى وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن الحامل والمرضع الصوم -أو الصيام" والله لقد قالهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كليهما أو أحدهما فيا لهف نفسي ألا أكون طعمت طعام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ".
وحصل الخلاف بين العلماء هل عليهما شيء آخر غير القضاء؟ فمن العلماء من أوجب أن يُطعما مسكينًا عن كل يوم أفطرتاه، ومن ذهب إلي وجوب الإطعام مع صيام عدة الأيام فليس لديه دليل يوجب الإطعام" (3) .
* قال ابن قدامة في "المغني" (4/395) : "قال ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم- ولا مخالف لهما في الصحابة-: لا قضاء عليهما؛ لأن الآية تناولتهما، وليس فيها إلا الإطعام، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن الله وضع عن الحامل والمرضع الصوم" ولنا أنهما يطيقان القضاء، فلزمهما كالحائض والنفساء، والآية أوجبت الطعام ولم تتعرض للقضاء فأخذناه من دليل آخر. والمراد بوضع الصوم: وضعه في مدة عذرهما ولا يشبهان الشيخ الهرمّ، لأنه عاجز عن القضاء وهما يقدران عليه.
قال أحمد: "أذهب إلى حديث أبي هريرة" يعني: ولا أقول بقول ابن
__________
(1) هو غير أنس بن مالك الأنصاري خادم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما رجل من بني عبد الله بن كعب، انظر "الإصابة" (1/114-115) "وتجريد أسماء الصحابة" (1/31) .
(2) أخرجه الترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه والبغوي، وأحمد، وجوّد إسناده الشيخ الألباني -حفظه الله- في "مشكاة المصابيح" (1/629) .
(3) "الصوم في ضوء الكتاب والسنة" (ص 29-30) .(2/130)
عباس وابن عمر في منع القضاء.
فرع: قال النووي في "المجموع" (6/274) : "إذا أوجبنا الفدية على المرضع إذا أفطرت للخوف على ولدها، فلو استؤجرت لإرضاع ولد غيرها فالصحيح بل الصواب الذي قطع به القاضي حسين في فتاويه وصاحب التتمة وغيرهما أنه يجوز لها الإفطار وتفدى، كما في ولدها، بل قال القاضي حسين: يجب عليها الإفطار إن تضرّر الرضيع بالصوم، واستدل صاحب التتمة بالقياس على السفر، فإنه يستوي في جواز الإفطار به من سافر لغرض نفسه وغرض غيره بأجرة وغيرها، وشذ الغزالي في فتاويه فقال: "ليس عليها أن تفطر ولا خيار لأهل الصبي" وهذا غلط ظاهر.
قال القاضي حسين: وعلى من تجب فدية فطرها في هذا الحال؟ فيه احتمالان أصحهما وجوبها على المرضع. قال القاضي: ولو كان هناك نسوة مراضع فأرادت واحدة أن تأخذ صبيًا ترضعه تقربًا إلى الله تعالى، جاز لها الفطر للخوف عليه، وإن لم يكن متعينًا عليها".
فرع: لو كانت المرضع أو الحامل مسافرة أو مريضة فأفطرت بنية الترخص بالمرض أو السفر فلا فدية عليها بلا خلاف.
بحث للألباني في "الحامل والمرضع"
* عن عمرو بن دينار (يطيقونه) : يكلّفونه، (فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً) طعام مسكين آخر، ليست بمنسوخة (فهو خير له وأن تصوموا خير لكم) لا يرخص في هذا إلا للذي لا يطيق الصيام أو مريض لا يشفى" (1) .
* عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "رخص للشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة في ذلك -وهما يطيقان الصوم- أن يفرطا إن شاءا، ويطعما كل يوم مسكينًا، ولا قضاء عليهما، ثم نسخ ذلك في هذه الآية:
__________
(1) رواه النسائي والدارقطني، وقال الدارقطني: إسناده صحيح ثابت، وقال الألباني في "إرواء الغليل" (912) (4/17) : إسناده صحيح.(2/131)
فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا كانا لا يطيقان الصوم، والحسبلى والمرضع إذا خافتا أفطرتا، وأطعمتا كل يوم مسكينًا" (1) .
* وعن ابن عباس قال: "إذا خافت الحامل على نفسها، والمرضع على ولدها في رمضان قال: يفطران، ويطعمان مكان كل يوم مسكينًا، ولا يقضيان صومًا" (1) .
* وعن ابن عباس: "أنه رأى أم ولد له حاملاً أو مرضعًا فقال: أنت بمنزلة الذي لا يطيق، عليك أن تطعمي مكان كل يوم مسكينًا ولا قضاء عليك" (3) .
* وعنه "أنت من الذين لا يطيقون الصيام، عليك الجزاء، وليس عليك القضاء" (4) .
* وعن ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهما- قالا: "الحامل والمرضع تفطر ولا تقضى" (5) .
* وعن ابن عمر: "أن امرأته سألته وهي حبلى، فقال: أفطري وأطعمي عن كل يوم مسكينًا ولا تقضي" (6) .
* وعن نافع قال: "كانت بنت لابن عمر تحت رجل من قريش، وكانت حاملاً، فأصابها عطش في رمضان، فأمرها ابن عمر أن تفطر وتطعم عن كل يوم مسكينًا" (7) .
__________
(1) رواه ابن جرير في "تفسيره" (2752، 2753) وبن الجارود في "المنتقى" والبيهقي عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
قال الألباني في "إرواء الغليل" (4/18) : إسناد هذه الرواية صحيح على شرط الشيخين.
(2) رواه الطبري في "تفسيره"، وقال الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم. انظر: "الإرواء" (4/19) .
(3) إسناده صحيح على شرط مسلم.
(4) رواه الدارقطني وقال: "إسناده صحيح".
(5) رواه الدارقطني وقال: هذا صحيح.
(6) قال الألباني في "إرواء الغليل" (4/20) : وإسناده جيد.
(7) رواه الدارقطني وقال الألباني في "الإرواء" (4/21) : إسناده صحيح.(2/132)
* وعن مجاهد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قرأ: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) يقول: "هو الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصيام فيفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا: نصف صاع من حنطة" (1) .
* وعن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إذا عجز الشيخ الكبير عن الصيام أطعم عن كل يوم مدا مدا" (2) .
* وعن قتادة أن أنسًا -رضي الله عنه- ضعف قبل موته فأفطر، وأمر أهله أن يطعموا مكان كل يوم مسكينًا (3) .
* وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه ضعف عن الصوم عامًا فصنع جفنة ثريد ودعا ثلاثين مسكينًا فأشبعهم (4) .
قال الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (4/22- 25) : "إن قول ابن عباس في هذه الآية: (وعلى الذين يطيقونه ... ) ليست منسوخة، وأن، المراد بها الشيخ الكبير المرأة الكبيرة لا يستطيعان الصيام إشكالاً كبيرًا؛ ذلك لأن معنى (يطيقونه) أي: يستطيعون بمشقة، فكيف تفسر حينئذ أن المراد بها من لا يستطيع الصيام؟ لا سيما وابن عباس -رضي الله عنهما- نفسه يذكر في رواية عزرة أن الآية نزلت في الشيخ الكبير والعجوز الكبير وهما يطيقان أي يستطيعان الصوم، ثم نسخت، فكيف تفسر الآية بتفسيرين متناقضين (يستطيعون) و (لا يستطيعون) ؟! وأيضًا فقد جاء عن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- قال: "لما نزلت (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) كان من أراد أن يفطر ويفتدي فعل حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها" أخرجه الستة إلا ابن ماجه. وفي رواية عنه قال: "كنا في رمضان على عهد. رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
__________
(1) رواه الدارقطني وصححه.
(2) رواه الدارقطني وصححه.
(3) رواه الدارقطني، وقال الألباني في "الإرواء" (4/21) : سنده صحيح.
(4) رواه الدارقطني، وقال الألباني في "الإرواء" (4/22) : سنده صحيح وعلقّ البخاري بنحوه.(2/133)
من شاء صام ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين، حتى نزلت هذه الآية: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) أخرجه مسلم.
فهذا يبيِّن لنا أن في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- إشكالاً آخر، وهو أنه يقول: أن الرخصة التي كانت في أول الأمر، إنما كانت للشيخ أو الشيخة وهما يطيقان الصيام، وحديث سلمة يدل على أن الرخصة كانت عامة لكل مكلف شيخًا أو غيره، وهذا هو الصواب قطعًا لأن الآية عامة، فلعل ذكر ابن عباس -رضي الله عنهما- للشيخ والشيخة لم يكن منه على سبيل الحصر، بل التمثيل، وحينئذ فلا اختلاف بين حديثه والحديث المذكور، ويبقى الخلاف في الإشكال الأول قائمًا لأن الحديث المشار إليه صريح في نسخ الآية، وابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: ليست بمنسوخة. ويحملها على الذين لا يستطيعون الصيام كما سبق بيانه، فلعل مراد ابن عباس -رضي الله عنهما- أن حكم الفدية الذي كان خاصًا بمن يطيق الصوم ويستطيعه، ثم نسخ دلالة القرآن، كان هذا الحكم مقررًا أيضاً في حق من لا يطيق الصوم ولا يستطيعه، غير أن الأول ثبت بالقرآن وبه نسخ، وأما الآخر فإنما يثبت مشروعيته بالسنة لا بالقرآن ثم لم ينسخ، بل استمرت مشروعيته إلى يوم القيامة، فأراد ابن عباس -رضي الله عنهما- أن يخبر عن الفرق بين الحكمين: بأن الأول نسخ، والآخر لم ينسخ، ولم يرد أن هذا يثبت بالقرآن بآية (وعلى الذين يطيقونه) وبذلك يزول الإشكال إن شاء الله تعالى.
ويؤيد ما ذكرته أن ابن عباس -رضي الله عنهما- في رواية عزرة بعد أن ذكر نسخ الآية المذكورة قال: "وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا كانا لا يطيقان الصوم، والحبلي والمرضع إذا خافتا أفطرتا، وأطعمتا كل يوم مسكينًا" ففي قوله: "ثبت" إشعار بأن هذا الحكم في حق من لا يطيق الصوم كان مشروعًا، كما كان مشروعًا في حق من يطيق الصوم، فنسخ هذا، واستمر الآخر، وكل من شرعيته واستمراره إنما عرفه ابن عباس -رضي الله عنهما- من السنة وليس من القرآن.
ويزيده تأييدًا، أن ابن عباس -رضي الله عنهما- أثبت هذا الحكم(2/134)
للحبلى والمرضع إذا خافتا ومن الظاهر جدًا أنهما ليسا كالشيخ والشيخة في عدم الاستطاعة، بل إنهما مستطيعتان، ولذلك قال لأم ولد له أو مرضع: "أنت بمنزلة الذي لا يطيق" فمن أين أعطاهما ابن عباس -رضي الله عنهما- هذا الحكم مع تصريحه بأن الآية (وعلى الذين يطيقونه) منسوخة؟ ذلك من السنة بلا ريب.
وبذلك يلتقي حديث سلمة مع حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، ويتبين أن في حديثه ما يوافق حديث سلمة، ويزيد على حديث سلمة وهو ثبوت الإطعام على العاجز عن الصيام، فاتفقت الأحاديث ولم تختلف والحمد لله على توفيقه.
وإذا عرفت هذا فهو خير مما ذكره الحافظ في "الفتح": "أن ابن عباس ذهب إلى أن الآية المذكورة محكمة، لكنها مخصوصة بالشيخ الكبير" لما عرفت أن ابن عباس -رضي الله عنهما- صرّح بأن الآية منسوخة، لكن حكمها منسحب إلى العاجز عن الصيام.
بدليل السنة لا الكتاب لما سبق بيانه، وقد توهم كثيرون أن ابن عباس -رضي الله عنهما- يخالف الجمهور الذين ذهبوا إلى نسخ الآية وانتصر لهم الحافظ ابن حجر في "الفتح" فقال (8/136) تعليقًا على رواية البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قرأ (فدية طعام مسكين) : "هو صريح في دعوي النسخ، ورجحه ابن المنذر من جهة قوله: (وأن تصوموا خير لكم) قال: لأنها لو كانت في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام لم يناسب أن يقال له: (وأن تصوموا خير لكم) مع أنه لا يطيق الصيام".
قلت: وهذه حجة قاطعة فيما ذكر، وهو يشير بذلك إلى الرد على ابن عباس -رضي الله عنهما-، ومثله لا يخفى عليه مثلها، ولكن القوم نظروا إلى ظاهر الرواية المتقدمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عند البخاري - الصريحة في نفي النسخ-، ولم يتأملوا في الرواية الأخرى الصريحة في النسخ-، ثم لم يحاولوا التوفيق بينهما، وقد فعلنا ذلك بما سبق تفصيله.
وخلاصته: أن يحمل النفي على نفي نسخ الحكم لا الآية، والحكم(2/135)
مأخوذ من السنة، ويحمل النسخ عليها، بذلك يتبين أن ابن عباس -رضي الله عنهما- ليس مخالفًا للجمهور.
وهذا الجمع مما لم أقف عليه في كتاب، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ من نفسي، وأستغفر الله من كل مالا يرضيه" انتهى قول الشيخ الألباني.
* وجاء في صفة صوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان لتلميذي الشيخ الألباني: سليم الهلالي وعلي حسن علي عبد الحميد: "قد يظن أن ابن عباس مخالف لجمهور الصحابة، أو أنه متناقض، وخاصة إذا عرفت أنه صرح بالنسخ في رواية أخرى. وقد نظر القوم إلى ظاهر الرواية المتقدمة عند البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه" الصريحة في نفي النسخ، فظنوا أن حبر الأمة مخالف لجمهور الصحابة، ولما صدموا بالرواية الصريحة في النسخ، زعموا أنه متناقض".
* والحق الذي لا ريب فيه أن الآية منسوخة لكن بمفهوم الأقدمين للنسخ، فقد كان السلف الصالح -رضوان الله عليهم- يطلقون النسخ على رفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد أو حمل مطلق على مقيد، وتفسيره وتبيينه، حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخًا لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ في لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه (1) .
ومعلوم أن من تأمل كلامهم رأى فيه ما لا يحصى من ذلك، وزال عنه إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر، والذي يتضمن أن يُرفع حكم شرعي متقدم بدليل شرعي متأخر بالنسبة للمكلفين. ويؤيد هذا المعنى أن الآية عامة لكل مكلف ...
والحديث صريح في أن الآية منسوخة بالنسبة للذي يطيق الصيام، غير منسوخة بالنسبة للذي لا يطيق الصيام أي: إن الآية مخصوصة لذلك، فإن ابن
__________
(1) انظر: "أعلام الموقعين" (1/35) ، و"الموافقات" (3/118) .(2/136)
عباس -رضي الله عنهما- موافق للصحابة، وحديثه موافق لحديثي عبد الله بن عمر وسلمة -رضي الله عنهم-، وكذلك غير متناقض فقوله: "ليست بمنسوخة أي: إن الآية مخصوصة، وبهذا يتبين أن النسخ في فهم الصحابة يقابل التخصيص والتقييد في مفهوم الأصوليين المتأخرين ولهذا الأمر أشار القرطبي -رحمه الله- في "تفسيره" (1) .
ولعلك أخي المسلم تظن أن ما ثبت عن ابن عباس ومعاذ (2) -رضي الله عنهما- مجود رأي واجتهاد وإخبار وهو لا يرقى إلى مصاف الحديث المرفوع الذي يخصص عام القرآن ويقيد مطلقه ويفسر مجمله، والجواب كالآتي:
1- إن هذين الحديثين لهما حكم المرفوع باتفاق أهل العلم بحديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يجوز لمؤمن يحب الله ورسوله أن يخالفهما إذا ثبتا لديه لأنهما جاءا في تفسير يتعلق لسبب نزول أي: إن هذين الصحابيين الذين شهدا الوحي والتنزيل أخبرا عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا فهذا حديث مسند لا ريب (3) .
2- أثبت ابن عباس -رضي الله عنهما- هذا الحكم للمرضع والحبلى فمن أين أعطاهما هذا الحكم؟ لاشك أنه من السنة، وخاصة أنه لم ينفرد بل وافقه عبد الله بن عمر الذي روى أن هذه الآية منسوخة.
3- لا مخالف لابن عباس -رضي الله عنهما- من الصحابة كما جاء في
__________
(1) "الجامع لأحكام القرآن" (2/228) .
(2) حديث معاذ "أما أحوال الصيام، فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم الدينة فجعل يصوم ثلاثة أيام من كل شهر وصيام عاشوراء، ثم إن الله فرض عليه الصيام فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ... ) الآية، ثم أنزل الله الآية الأخرى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) الآية، فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، فهذا حولان ... " رواه أبو داود والحاكم والبيهقي وأحمد. وقال الحَاكم "صحيح الإسناد ووافقه الذهبي" وأعله البيهقي والدارقطني والمنذري بأن هذا مرسل فعبد الرحمن ابن أبي ليلى لم يدرك معاذ بن جبل. قال الألباني في "الإرواء" (4/21) : لكن قد جاء بعضه من طريق غير السعودي.
(3) انظر: "تديب الراوي" (1/192-193) ومقدمة ابن الصلاح (ص24) .(2/137)
المغني" (3/21) .
4- هذا البيان يبين معنى وضع الصوم عن الحامل والمرضع الوارد في حديث أنس بن مالك والكعبي المتقدم -رضي الله عنهما-، وأنه مقيد بالخوف على نفسها أو ولدها، وأن عليها الجزاء لا القضاء.
5- من زعم أنه وضع الصوم على الحامل والمرضع كوضع الصيام عن المسافر ورتب على ذلك أن القضاء يلزمهما مردود عليه؛ لأن القرآن بين معنى وضع الصيام عن المسافر (فعدة من أيام أخر) وبين كذلك معنى وضعه عمن لا يطيقونه (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) وقد ثبت لديك أن الحامل والمرضع ممن تشملهم هذه الآية بل هي خاصة لهم.
القضاء
قضاء رمضان للمسافر والمريض، والحامل والمرضع علي قول الجمهور لا يجب على الفور بل يجب على التراخي وجوبًا موسعًا؛ لما ورد عن عائشة -رضي الله عنها-: "كان يكون عليّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان" (1) .
قال الحافظ في "الفتح" (4/191) : "وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان سواءً كان لعذر أو لغير عذر".
والمبادرة إلى القضاء أولى من التأخير قال تعالى: (وسارعوا إِلى مغفرة من ربكم) الآية.
وقال تعالى: (أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) [المؤمنون: 61] .
* ويتعلق بقضاء رمضان مسائل:
منها: هل يقضيان ما عليهما متتابعًا أم لا؟
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم.(2/138)
ومنها: ماذا عليهما إذا أخرا القضاء بغير عذر إلى أن يدخل رمضان آخر.
ومنها: إذا ماتا ولم يقضيا هل يصوم عنهما وليهما أو لا يصوم؟
المسألة الأولى [هل يقضى الصوم متتابعًا أم لا؟]
* ذهب جمهور الفقهاء على عدم وجوب التتابع في قضاء رمضان إلا أنه مستحب عندهم ويجوز تفريقه.
قال النووي في "المجموع" (6/413) : "مذهبنا أنه يستحب تتابعه ويجوز تفريقه، وبه قال علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وابن عباس وأنس وأبو هريرة والأوزاعي، والثوري وأبو حنيفة ومالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور -رضي الله عنهم-".
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لا بأس به أن يفرق" (1) .
وقال أبو هريرة -رضي الله عنه- "يواتره إن شاء" (2) .
قال أبو داود في مسائله (ص95) : "سمعت أحمد سُئل عن قضاء رمضان؟ قال: إن شاء فرّق وإن شاء تابع". ولا يختلف المجيزون للتفريق أن التتابع أولى.
* ونقل ابن المنذر وغيره عن علي وعائشة وجوب التتابع وهو قول بعض أهل الظاهر. وروى عبد الرزاق بسنده عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال "يقضيه تباعًا".
وعن عائشة -رضي الله عنها-: "نزلت (فعدة من أيام أخر متتابعات) فسقطت متتابعات" (3) .
وهذا إن صح يشعر بعدم وجوب التتابع فكأنه كان أولاً واجبًا ثم نسخ (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري معلقًا ووصله الدارقطني وعبد الرزاق وابن أبي شيبة بسند صحيح.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة والدارقطني وإسناده صحيح.
(3) خرجه عبد الرزاق في "المصنف" والدارقطني والبيهقي عن عائشة -رضي الله عنهما، وقال الدارقطني: صحيح وقال البيهقي: "قولها سقطت تريد: لا يصح له تأويل غير ذلك".
(4) "فتح الباري" (4/223) .(2/139)
قال النووي: "وعن ابن عمر وعائشة والحسن البصري وعروة بن الزبير والنخعي وداود الظاهري أنه يجب التتابع".
قال داود: هو واجب وليس بشرط.
وحكى صاحب البيان عن الطحاوي أنه قال: "التتابع والتفريق سواء، ولا فضيلة في التتابع".
* قال ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/173-174) : "وسبب اختلافهم تعارض ظواهر اللفظ والقياس، وذلك أن القياس يقتضي أن يكون الأداء على صفة القضاء، أصل ذلك الصلاة والحج.
أما ظاهر قوله تعالى: (فعدة من أيام أخر) فإنما يقتضي إيجاب العدد فقط لا إيجاب التتابع".
متى يقضى؟
قال ابن المسيب: "لا بأس أن يقضي رمضان في العشر".
ورواه البخاري معلقًا: "قال سعيد بن المسيب في صوم العشر: لا يصلح حتى يبدأ برمضان".
قال ابن حجر: "روى ابن المنذر عن علي -رضي الله عنه- أنه نهى عن قضاء رمضان في عشر ذي الحجة وإسناده ضعيف، قال: وروي بإسناد صحيح نحوه عن الحسن والزهري وليس مع أحد منهم حجة على ذلك، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عمر أنه كان يستحب ذلك" (1) .
قال النووي في "المجموع" (6/413) [شافعي] .: "يجوز قضاء رمضان عندنا في جميع السنة غير رمضان الثاني وأيام العيد والتشريق، ولا كراهة في شيء من ذلك سواء ذو الحجة وغيره، وحكاه ابن المنذر عن سعيد ابن المسيب وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وبه قال جمهور العلماء.
__________
(1) "فتح الباري" (4/223) .(2/140)
قال ابن المنذر: وروينا عن علي بن أبي طالب أنه كره قضاءه في ذي الحجة، قال: وبه قال الحسن البصري والزهري، قال ابن المنذر: وبالأول أقول لقوله تعالى: (فعدة من أيام أخر) .
ماذا على من أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر
* عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أي إنسان مرض في رمضان، ثم صح فلم يقضه حتى أدركه رمضان آخر فليصم الذي حدث، ثم يقض الآخر ويطعم مع كل يوم مسكينًا".
قال ابن جريج لعطاء: كم بلغك يُطْعَم؟ قال: مَدًا، زعموا".
* وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "من فرط في صيام رمضان حتى أدركه رمضان آخر فليصم هذا الذي أدركه، ثم ليصم ما فاته ويطعم مع كل يوم مسكينًا".
* قال النووي في "المجموع" (6/412-413) : "مذهب العلماء فيمن أخّر قضاء رمضان بغير عذر:
مذهبنا أنه يلزمه صوم رمضان الحاضر، ثم يقضي الأول ويلزمه عن كل يوم فدية، وهي مد من طعام، وبهذا قال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء بن أبي رباح والقاسم بن محمد والزهري والأوزاعي ومالك والثوري وأحمد وإسحاق، إلا أن الثوري قال: الفدية مُدّان عن كل يوم.
* وقال الحسن البصري وإبراهيم النخعي وأبو حنيفة والمزني وداود: يقضيه ولا فدية عليه.
أما إذا دام سفره ومرضه ونحوهما من الأعذار حتى دخل رمضان الثاني فمذهبنا أنه يصوم رمضان الحاضر، ثم يقضي الأول ولا فدية عليه لأنه معذور.
وحكاه ابن المنذر عن طاووس والحسن البصري والنخعي وحماد بن أبي سليمان والأوزاعي ومالك وأحمد وإسحاق، وهو مذهب أبي حنيفة والمزني(2/141)
وداود. قال ابن المنذر: وقال ابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وقتادة: يصوم رمضان الحاضر عن الحاضر، ويفدي عن الغائب ولا قضاء عليه".
قال العلامة ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/174) : "وسبب اختلافهم: هل تقاس الكفارات بعضها على بعض أم لا؟
فمن لم يجز القياس في الكفارات قال: عليه القضاء فقط. ومن أجاز القياس في الكفارات قال: عليه كفارة -قياسًا على من أفطر متعمدًا-؛ لأن كليهما مستهين بحرمة الصوم. أما هذا فيترك زمان القضاء، وأما ذلك فبالأكل في يوم لا يجوز فيه الأكل، وإنما كان يكون القياس مستندًا لو ثبت أن للقضاء زمانًا محدودًا بنص من الشارع؛ لأن أزمنة الأداء هي المحدودة في الشرع؛ وقد شدّ قوم فقالوا: إذا اتصل مرض المريض حتى يدخل رمضان آخر أنه لا قضاء عليه، وهذا مخالف للنص" ا. هـ.
* قال البخاري: "ولم يذكر الله تعالى الإطعام، إنما قال: (فعدة من أيام أخر) . قال ابن حجر (4/224) في رده على قول البخاري: "لكن إنما يقوى ما احتج به إذا لم يصح في السنة دليل الإطعام إذ لا يلزم من عدم ذكره في الكتاب أن لا يثبت بالسنة، ولم يثبت فيه شيء مرفوع وإنما جاء فيه عن جماعة من الصحابة -منهم من ذكر، ومنهم عمر -عند عبد الرزاق-، ونقل الطحاوي عن يحيى بن أكثم قال: وجدته عن ستة من الصحابة لا أعلم لهم فيه مخالفًا. انتهى وهو قول الجمهور.
وخالف في ذلك إبراهيم النخعي وأبو حنيفة وأصحابه، ومال الطحاوي إلى قول الجمهور في ذلك. وممن قال بالإطعام: ابن عمر، ولكنه بالغ في ذلك فقال: يطعم ولا يصوم.
وروى عبد الرزاق عن عمر: "من صام يوماً من غير رمضان وأطعم مسكينًا فإنهما يعدلان يوماً من رمضان" ونقله ابن المنذر عن ابن عباس وعن قتادة، وانفرد به ابن وهب بقوله: من أفطر يوماً في قضاء رمضان وجب عليه لكل يوم صوم يومين" اهـ.
وقول الجمهور هو الراجح.(2/142)
إذا مات وعليه صوم هل يصوم عنه وليه أم لا؟
سبق ذكر هذه المسألة في النيابات في النية. والراجح الذي تميل إليه النفس أنه لا يصوم الولي عن الميت إلا صوم النذر وبه قال الإمام أحمد كما جاء في "مسائل الإمام أحمد" رواية أبي داود (ص96) قال: سمعت أحمد ابن حنبل قال: لا يُصام عن الميت إلا في النذر، قال أبو داود: قلت لأحمد: فشهر رمضان؟ قال: يطعم عنه".
وذهبت عائشة -رضي الله عنها- وهي راوية الحديث - إلى الإطعام بدليل ما روته عمرة: أن أمها ماتت وعليها من رمضان، فقالت لعائشة -رضي الله عنها-: أقضيه عنها؟ قالت: لا، بل تصدقي عنها مكان كل يوم نصف صاع على كل مسكين" (1) .
ومن المقرر أن راوي الحديث أدرى بمعنى مَرْويِّه، وذهب إلى هذا التفصيل ابن عباس حبر الأمة -رضي الله عنهما-. "إذا مات الرجل في رمضان، ثم مات ولم يصم، أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه" (2) .
* ومن المعلوم أن ابن عباس -رضي الله عنهما- هو راوي الحديث الثاني-، وخاصة أنه روى حديثًا فيه نص على أن الولي يصوم عن الميت صوم النذر: "أن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- استفتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إن أمي مات وعليها نذر فقال: "اقضيه عنها" أخرجه الشيخان وغيرهما (1) .
قال ابن حجر في "الفتح" (4/228-229) : "اختلف المجيزون في المراد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وليه" فقيل: كل قريب، وقيل الوارث خاصة، وقيل عصبته، والأول أرجح، والثاني قريب، ويرد الثالث قصة المرأة التي سألت عن نذر أمها.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" ابن حزم في "المحلى" واللفظ له بسند صحيح.
(2) أخرجه أبو داود بسند صحيح، وابن حزم في "المحلى" وصح إسناده.(2/143)
واختلفوا أيضاً هل يختص ذلك بالولي؟ لأن الأصل عدم النيابة في العبادة البدنية ولأنها عبادة لا تدخلها النيابة في الحياة فكذلك في الموت إلا ما ورد فيه الدليل فيقتصر على ما ورد فيه ويبقى الباقي على الأصل وهذا هو الراجح، وقيل يختص بالولي فلو أمرَ أجنبيًّا بأن يصوم عنه أجزأ كما في الحج، وقيل يصح استقلال الأجنبي بذلك وذكر الولي لكونه الغالب وظاهر صنيع البخاري اختيار هذا الأخير، وبه جزم أبو الطيب الطبري وقوّاه بتشبيهه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك بالدَّيْن، والدين لا يختص بالقريب".
فرع: من مات وعليه صوم نذر صام عنه رجال بعدد الأيام التي عليه جاز، قال الحسن: "إن صام عنه ثلاثون رجلاً كل واحد يومًا جاز" (2) .
أما الإطعام فإن جمع وليه مساكين بعدد الأيام التي عليه وأشبعهم جاز، وكذلك فعل أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
الكفارة
من أفسد صوم يوم من رمضان بجماع تام أثم به، ولزمته الكفارة وبهذا قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وداود والعلماء كافة إلا الشعبي وسعيد بن جبير والنخعي وقتادة فإنهم قالوا: لا كفارة عليه، كما لا كفارة عليه بإفساد الصلاة وهذا مرجوح لأن الصوم يخالف الصلاة فإنه لا مدخل للمال في جبرانها.
والكفارة هي: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا.
هل هذه الكفارة مرتبة ككفارة الظهار أو على التخيير.
ونعني بالترتيب: ألا يتنقل المكلف إلى واحد من الواجبات المخيّرة إلا بعد العجز عن الذي قبله، وبالتخيير: أن يفعل منها ما شاء ابتداءً من غير عجز عن
__________
(1) يراجع في هذه المسألة قول ابن القيم في "تهذيب سنن أبي داود" (3/279-282) .
(2) أخرجه البخاري معلقًا ووصله الدارقطني في كتاب الذبح، وصحح إسناده الألباني في "مختصره" (1/58) .(2/144)
الآخر اختلفوا في ذلك.
* فقال الجمهور: هذه الكفارة على الترتيب: فيجب عتق رقبة فإن عجز فصوم شهرين متتابعين، فإن عجز فإطعام ستين مسكينًا، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد في أصح الروايتين عنه.
* وقال مالك: هو مخير بين الخصال الثلاث وأفضله عنده الإطعام.
* وعن الحسن البصري أنه مخير بين عتق رقبة ونحر بدنة.
* "وسبب اختلافهم في وجوب الترتيب: تعارض ظواهر الآثار في ذلك والأقيسة، وذلك أن ظاهر حديث الأعرابي المتقدم في باب الجماع يوجب أنها على الترتيب إذ سأله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الاستطاعة عليها مرتبًا، وظاهر ما رواه مالك من "أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينًا" أنها على التخيير. وأما الأقيسة المعارضة في ذلك فتشبيها تارة بكفارة الظهار وتارة بكفارة اليمين، لكنها أشبه بكفارة الظهار منها بكفارة اليمين، وأخذ الترتيب من حكاية لفظ الراوي.
وأما استحباب مالك الابتداء بالإطعام فمخالف لظواهر الآثار، وإنما ذهب إلى هذا من طريق القياس؛ لأنه رأى الصيام قد وقع بدلاً منه الإطعام في مواضع شتى من الشرع، وأنه مناسب له أكثر من غيره وهذا كأنه من باب ترجيح القياس الذي تشهد له الأصول على الأثر الذي لا تشهد له الأصول" (1) .
والراجح قول الجمهور وهي: أنها على الترتيب. ومما يرجح هذا:
* أن الذين رووا الترتيب أكثر فروايتهم أرجح لأنهم أكثر عددًا فمن روى الترتيب عن الزهري تمام ثلاثين نفسًا.
* ولأن معهم زيادة علم، حيث اتفقوا على أن الإفطار كان بالجماع، ولم يحدث هذا في الروايات الأخرى، ومن علم حجة على من لا يعلم.
* ومما يرجح الترتيب أنه أحوط.
* ولأن الأخذ به مجزئ سواء قلنا بالتخيير أو لا، بخلاف العكس.
__________
(1) "بداية المجتهد" (2/183-184) .(2/145)
* قال البيضاوي: ترتيب الثاني بالفاء على فقد الأول ثم الثالث بالفاء على فقد الثاني يدل على عدم التخيير، مع كونها في معرض البيان وجواب السؤال فينزل منزلة الشرط للحكم.
* قال ابن حجر في "الفتح" (4/197-198) في معرض الرد على مالك: "وقع في "المدونة" ولا يعرف مالك غير الإطعام ولا يأخذ بعتق ولا صيام. قال ابن دقيق العيد: وهي معضلة لا يهتدي إلى توجيهها مع مصادمة الحديث الثابت، غير أن بعض المحققين من أصحابه حمل هذا اللفظ وتأوله على الاستحباب في تقديم الطعام على غيره من الخصال.
وكل الوجوه التي ذكروها لا تقاوم ما ورد في الحديث من تقديم العتق على الصيام ثم الصيام، سواء قلنا الكفارة على الترتيب أو التخيير، فإن هذه البداءة إن لم تقتض وجوب الترتيب فلا أقل من أن تقتضي استحبابه. ومن المالكية من وافق على هذا الاستحباب، ومنهم من قال: إن الكفارة تختلف باختلاف الأوقات، ففي وقت الشدة يكون بالإطعام، وفي غيرها يكون بالعتق أو الصوم ونقلوه عن محققي المتأخرين ومنهم من قال: الإفطار بالجماع يكفر بالخصال الثلاثة، وبغيره لا يكفر إلا بالإطعام وهو قول أبي مصعب، وقال ابن جرير الطبري: هو مخيَّر بين العتق والصوم ولا يطعم إلا عند العجز عنهما".
* ولقد رجح ابن رشد قول الجمهور، ورجحه أيضًا ابن العربي شيخ المالكية فيقول: "إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نقله (1) من أمر بعد عدمه لأمر آخر وليس هذا شأن التخيير" (2) .
* قال ابن حجر في "الفتح" (4/197) :
"والمراد بالإطعام لإعطاء لا اشتراط حقيقة الإطعام من وضع المطعوم في الفم، بل يكفي الوضع بين يديه بلا خلاف، وفي إطلاق الإطعام ما يدل على الاكتفاء بوجود الإطعام من غير اشتراط مناولة وفي ذكر الإطعام ما يدل على
__________
(1) أي الأعرابي.
(2) "فتح الباري" (4/198) .(2/146)
وجود طاعمين فيخرج الطفل الذي لم يطعم كقول الحنفية، ونظر الشافعي إلى النوع فقال: يسلم لولية".
حكمة الأنواع الضعيفة في الكفارة
قال ابن حجر: "ذكر في حكمة هذه الخصال من المناسبة أن من انتهك حرمة الصوم بالجماع فقد أهلك نفسه بالمعصية فناسب أن يعتق رقبة فيفدي نفسه، وقد صح أن من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار.
* أما الصيام فمناسبته ظاهرة لأنه كالمقاصة بجنس الجناية، وأما كونه شهرين فلأنه لما أمر بمصابرة النفس في حفظ كل يوم من شهر رمضان على الولاء فلما أفسد منه يوماً كان كمن أفسد الشهر كله من حيث أنه عبادة واحدة بالنوع فكلف بشهرين مضاعفة على سبيل المقابلة لنقيض قصده.
وأما الإطعام فمناسبته ظاهرة لأنه مقابلة كل يوم بإطعام مسكين.
ثم إن هذه الخصال جامعة لاشتمالها علي حق الله وهو الصوم، وحق الأحرار بالإطعام، وحق الإرقاء بالعتق، وحق الجاني بثواب الامتثال" (1) .
* يشترط في صوم هذه الكفارة التتابع عند الجمهور وهو الراجح، وجوّز ابن أبي ليلى تفريقه. وحديث أبي هريرة مقيد بالتتابع فيحمل المطلق عليه.
* يجب على المكفر مع الكفارة قضاء اليوم الذي جامع فيه وهو قول جميع الفقهاء خلافًا للأوزاعي فقال: إن كفر بالصوم لم يجب قضاؤه، وإن كفر بالعتق أو الإطعام قضاه.
* لو جامع في صوم غير رمضان من قضاء أو نذر أو غيرهما فلا كفارة وبه قال الجمهور. وقال قتادة تجب الكفارة في إفساد قضاء رمضان.
اختلافهم في وجوب الكفارة على المرأة إذا طاوعته على الجماع
__________
(1) "فتح الباري" (4/197) .(2/147)
* ذهب الشافعي وأحمد وداود إلى أنه لا كفارة عليها. وذهب أبو حنيفة وأصحابه ومالك وأصحابه إلى وجوب الكفارة عليها وهو قول الجمهور.
قال ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/183) :
"وسبب اختلافهم معارضة ظاهر الأثر للقياس، وذلك أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر المرأة بكفارة في الحديث، والقياس أنها مثل الرجل إذا كان كلاهما مكلفًا".
قال ابن حجر: "استدل بإفراده بذلك (1) على أن الكفارة عليه وحده دون الموطوءة وكذا قوله في المراجعة "هل تستطيع" و"هل تجد" وغير ذلك، وهو الأصح من قولي الشافعية وبه قال الأوزاعي. وقال الجمهور وأبو ثور وابن المنذر تجب الكفارة على المرأة أيضاً على اختلاف وتفاصيل لهم في الحرة والأمة والمطاوعة والمكرهة وهل هي عليها أو على الرجل عنها، واستدل الشافعية بسكوته عليه الصلاة والسلام عن إعلام المرأة بوجوب الكفارة مع الحاجة، وأجيب بمنع وجود الحاجة إذ ذاك لأنها لم تعترف ولم تسأل واعتراف الزوج عليها لا يوجب عليها حكمًا ما لم تعترف، وبأنها قضية حال فالسكوت عنها لا يدل على الحكم لاحتمال أن تكون المرأة لم تكن صائمة لعذر من الأعذار، ثم إن بيان الحكم للرجل بيان في حقها لاشتراكما في تحريم الفطر وانتهاك حرمة الصوم كما لم يأمره الغسل. والتنصيص على الحكم في في بعض المكلفين كاف عن ذكره في حق الباقين، ويحتمل أن يكون سبب السكوت عن حكم المرأة ما عرفه في كلام زوجها بأنها لا قدرة لها على شيء.
قال القرطبي: ليس في الحديث ما يدل على شيء لأنه ساكت عن المرأة فيؤخذ حكمها من دليل آخر مع احتمال أن يكون سبب السكوت أنها كانت غير صائمة".
مسألة [مقدار الكفارة بالإطعام]
اختلفوا في مقدار الكفارة بالإطعام: فقال مالك والشافعي وأحمد في
__________
(1) وهي قوله: "خذ هذا فتصدق به".(2/148)
المشهور عنه: يطعم لكل مسكين مُدًا بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
* وقال أبو حنيفة: لا يجزيء أقل من مدين يعني نصف صاع.
وسبب الخلاف: معارضة القياس لمفهوم الحديث.
* أما القياس: هو قياس هذه الكفارة بفدية الأذى التي نص عليها.
* وأما الأثر فهو: ما روي في بعض طرق حديث أبي هريرة أن العرق الذي أتى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه خمسة عشر صاعًا.
والراجح ما ذهب إليه الجمهور لما رواه الدارقطني عن علي -رضي الله عنه- لكل مسكين مدّ والله أعلم.
مسألة [هل تسقط الكفارة بالإعسار، وهل يجب عليه الإطعام إذا أيسر وكان معسرًا في وقت الوجوب؟]
* اختلفوا هل تكون الكفارة في ذمته إذا كان معسرًا وإذا أيسر وجبت عليه أم لا؟
* فذهب الشافعي في المشهور عنه والأوزاعي إلى أنها تسقط عليه إذا كان معسرًا وقت الوجوب، وقال الأوزاعي: لا شيء عليه إن كان معسرًا.
* وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها لا تسقط عنه.
وسبب الخلاف: أن من أسقطها بالإعسار قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع العرق للأعرابي فأمره أن يطعمه أهله ولم يأمره بقضائها إذا أيسر فعلم بذلك أنها ساقطة عنه، وترك البيان وقت الحاجة لا يجوز عند أهل الأصول، ومن لم يسقطها شبهها بالديون التي تكون في الذمة. ورجّح النووي في "شرح مسلم" وجوبها في الذمة وهو الراجح لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فدين الله أحق أن يقضى" وأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحتمل أنه أمر الإعرابي بقضائها إذا أيسر ولم يذكره الراوي.
ويحتمل أنه لما كان أهله أحوج الناس إليها كفر عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتصدق بها على أهله لقوله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) .
* قال ابن حجر في "فتح الباري" (4/203) :(2/149)
"قال ابن دقيق العيد: تباينت في هذه القصة المذاهب: فقيل إنه دل على سقوط الكفارة بالإعسار المقارن لوجوبها لأن الكفارة لا تصرف إلى النفس ولا إلى العيال، ولم يبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استقرارها في ذمته إلى حين يساره، وهو أحد قولي الشافعية وجزم به عيسى بن دينار من المالكية. وقال الأوزاعي يستغفر الله ولا يعود. ويتأيد ذلك بصدقة الفطر حيث تسقط بالإعسار المقارن لسبب وجوبها وهو هلال الفطر، لكن الفرق بينهما أن صدقة الفطر لها أمد تنتهي إليه وكفارة الجماع لا أمد لها فتستقر في الذمة.
وليس في الخبر ما يدل على إسقاطها بل فيه ما يدل على استمرارها على العاجز، وقال الجمهور: لا تسقط الكفارة بالإعسار، والذي أذن له في التصرف فيه ليس على سبيل الكفارة. قيل لما كان عاجزًا عن نفقة أهله جاز له أن يصرف الكفارة لهم، وهذا هو ظاهر الحديث.
قال الشيخ تقي الدين: وأقوى من ذلك أن يجعل الإعطاء لا على جهة الكفارة بل على جهة أصدق عليه وعلى أهله بتلك الصدقة لما ظهر من حاجتهم، وأما الكفارة فلم تسقط بذلك، ولكن ليس استقرارها في ذمته مأخوذًا من هذا الحديث. وأما ما اعتلوا به من تأخير البيان فلا دلالة فيه لأن العلم بالوجوب قد تقدم. ولم يرد في الحديث ما يدل على الإسقاط لأنه لما أخبره بعجزه، ثم أمره بإخراج العرق دل على أن لا سقوط عن العاجز، ولعله أخر البيان إلى وقت الحاجة وهو القدرة أ. هـ.
وتصرف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مال الصدقة تصرف الإمام في إخراج مال الصدقة فلا يكون فيه إسقاط ولا أكل المرء من كفارة نفسه ولا إنفاقه على من تلزمه نفقتهم من كفارة نفسه".
خلافهم في الكفارة
اختلفوا في إيجاب الكفارة بالقبلة والنظر والمباشرة والإنعاظ.
ورأى الجمهور أقوى وأرجح أن لا كفارة.
واختلفوا في وجوب الكفارة على من أكل أو شرب متعمدًا فذهب مالك(2/150)
وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى وجوب القضاء والكفارة ورأى الجمهور وهو الأرجح أن لا كفارة.
فلا كفارة إلا في الجماع في رمضان متعمدًا.
* قال النووي في "روضة الطالبين" (2/379) : "هل تكون شدة الغلمة عذرًا في العدول عن الصيام إلى الإطعام؟ وجهان: أصحهما: أنها عذر".
الفدية
تكلمنا عنها في الكلام عن المريض الذي يرجى شفاؤه، والحامل والمرضع.
قال تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) .
قرأ ابن عمر فدية طعام مساكين. بالإضافة وبلفظ الجمع وهي قراءة نافع وابن زكوان.
وقرأ الباقون بتنوين "فديةٌ" وتوحيد "مسكين" و"طعامُ" بالرفع على البدلية، وأما الإضافة فهي من إضافة الشيء إلى نفسه، والمقصود به البيان مثل خاتم حديد، وثوب حرير، لأن الفدية تكون طعامًا وغيره. ومن جمع مساكين فلمقابلة الجمع بالجمع، ومن أفرد فمعناه فعلى كل واحد ممن يطيق الصوم. ويستفاد من الإفراد أن الحكم لكل يوم يفطر فيه إطعام مسكين، ولا يفهم ذلك من بالجمع، والمراد بالطعام الإطعام".
قال النووي في "روضة الطالبين" (2/380-385) :
"هي مد من الطعام لكل يوم من أيام رمضان. وجنسه جنس زكاة الفطر. فيعتبر غالب قوت البلد على الأصح. ولا يجزيء الدقيق والسويق.
ومصرفها: الفقراء أو المساكين.
وكل مد من ككفارة تامة فيجوز صرف عدد منها إلى مسكين واحد، بخلاف أمداد الكفارة فإنه يجب صرف كل مدّ إلى مسكين.
* وتجب الفدية بثلاثة طرق:
الأول: فوات نفس الصوم، كمن فاته صوم يوم من رمضان ومات قبل(2/151)
قضائه، بعد تمكنه من القضاء وترك الأداء بعذر أم بغيره.
فلابد من تداركه بعد موته، وفي صفة التدارك قولان: الجديد أنه يُطعم من تركته عن كل يوم مدًا" (1) .
* الشيخ الهرم الذي لا يطيق الصوم، أو تلحقه به مشقة شديدة.
لا صوم عليه. وفي وجوب الفدية عليه قولان أظهرها الوجوب ويجري القولان في المريض الذي لا يرجى برؤه.
* وإذا أوجبنا الفدية على الشيخ، فكان معسرًا، هل تلزمه إذا قدر؟
قولان كالكفارة.
الطريق الثاني لوجوب الفدية: ما يجب لفضيلة الوقت (2) .
* كالحامل والمرضع: [تجب عليهما الفدية فقط عند ابن عباس] (3) .
ولا تتعدد الفدية بتعدد الأولاد على الأصح.
* لو رأى مشرفًا على الهلاك بغرق أو غيره وافتقر في تخليصه إلى الفطر فيجب عليه الفطر ويلزمه القضاء، وتلزمه الفدية على الأصح أيضاً كالمرضع.
الطريق الثالث: ما يجب لتأخير القضاء:
فمن عليه قضاء رمضان، وأخّره حتى دخل رمضان السنة القابلة، نظر، فإن كان مسافرًا أو مريضاً، فلا شيء عليه، فإن تأخير الأداء بهذا العذر جائز فتأخير القضاء أولى، وإن لم يكن فعليه مع القضاء لكل يوم مد.
ولو أخّر حتى مضى رمضانان فصاعدًا، فهل تكرر الفدية؟ وجهان. قال في "النهاية": الأصح التكرر. فإن تكررت السنون زادت الأمداد.
ولو أفطر عدوانا وألزمناه الفدية فأخرّ القضاء فعليه لكل يوم فديتان واحدة للإفطار، وأخرى للتأخير، هذا هو المذهب".
__________
(1) "فتح الباري" بتصرف (8/29- 30) .
(2) وهو الأصح.
(3) ما بين [] ليس موجودًا في "الروضة"(2/152)
صوم النذر
النذر ضربان:
* أحدهما: نذر تبرر.
* والثاني: نذر لجاج وغضب.
* النوع الأول: نذر التبرر: ونوعان:
(1) أحدهما: نذر المجازاة: وهو أن يلتزم قربة كالصوم في مقابلة حدوث نعمة أو اندفاع بلية كقوله: إن شفى الله مريضي، أو رزقني ولدًا، أو نجانا من الغرق أو من العدو الظالم، ونحو ذلك فللَّه على صوم كذا أو صلاة كذا، فإذا حصل المعلق به لزمه الوفاء بما التزم، وهذا لا خلاف فيه لعموم الحديث الصحيح: "من نذر أن يطيع الله فليطعه".
(2) أن يلتزمه ابتداء من غير تعليق على شيء:
فيقول ابتداءً: لله على أن أصوم.
وفيه وجهان أصحهما أنه يصح نذره.
* النوع الثاني: "نذر اللجاج والغضب".
وهو أن يمنع نفسه من فعل أو يحثها عليه بتعليق التزام قربة بالفعل أو بالترك ويقال فيه يمين اللجاج والغضب، ويقال له أيضاً: يمين الغلق ويقال أيضاً: نذر الغَلقَ.
فإذا قال: إن كلمت فلانًا، أو إن دخلت الدار أو إن لم أخرج من البلد فللَّه على صوم شهر أو نحو ذلك.
وهذا يخيرّ بين ما التزم وكفارة اليمين.
* الصيغة قد تردد فتحتم نذر التبرر، وتحتمل نذر اللجاج فيرجع فيها إلى قصد الشخص وإرادته.
فإن قال: إن صليت فللَّه على صوم يوم معناه: إن وفقني الله للصلاة صمت فإذا وفق لها لزمه الصوم.(2/153)
ويتصور اللجاج بأن يقول له: صل فيقول لا أصلي وإن صليت فعليّ صوم فإذا صلى ففيما يلزمه الأقوال والطريق السابق.
* الملتزم بالنذر إن نذر واجبًا فلا يصح نذره لأنه واجب بإيجاب الشرع له، كمن نذر صوم رمضان لا يصح نذره.
* وإن نذر مستحبًا كنوافل الصوم لزمه بلا خلاف.
من نذر أن يصوم أيامًا فوافق النحر أو الفطر.
* عن حكيم بن أبي حُرة الأسلمي أنه "سمع عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- سئل عن رجل نذر أن لا يأتي عليه يوم إلا صام فوافق يوم أضحى أو فطر فقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، لم يكن يصوم الأضحى والفطر ولا يرى صيامهما" رواه البخاري.
قال ابن حجر في "الفتح" (11/599) : "انعقد الإجماع على أنه لا يجوز له أن يصوم يوم الفطر ولا يوم النحر لا تطوعًا، ولا عن نذر سواء عينهما أو أحدهما بالنذر، أو وقعا معا، أو أحدهما اتفاقًا، لو نذر لم ينعقد نذره عند الجمهور، وعند الحنابلة روايتان في وجوب القضاء، وخالف أبو حنيفة فقال: لو أقد فصام وقع ذلك عن نذره".
وفي سياق الحديث إشعار برجحان المنع عند ابن عمر.
وعن الحسن: يصوم يوماً مكانه.
قال النووي في "المجموع" (8/442-443) : "إذا نذر صوم يوم الفطر أو الأضحى أو التشريق وقلنا أنه لا يجوز صوم يوم التشريق لم ينعقد نذره ولم يلزمه بهذا النذر شيء.
هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد وجماهير العلماء. وخالفهم أبو حنيفة فقال: ينعقد نذره، ولا يصوم ذلك، بل يصوم غيره. قال: فإن صامه أجزأه وسقط عنه به فرض نذره "ورأى الجمهور هو الأصح والأرجح لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا نذر في معصية".(2/154)
مسائل من المجموع
(1) إذا أطلق التزام الصوم: فقال لله علىّ صوم أو أن: أصوم لزمه صوم يوم بناءً على أن النذر ينزل على أقل ما يصح من جنسه.
(2) هل يجب تبييت النية في الصوم المنذور أم يكفي بنية قبل الزوال؟
الأصح: اشتراط التبييت فالنذر واجب.
(3) إذا لزمه صوم يوم النذر فيستحب البادرة به، ولا تجب المبادرة، بل يخرج عن نذره بأي يوم صامه من الأيام التي تقبل الصوم غير رمضان.
* ولو نذر صوم يوم خميس ولم يعين صام أي خميس شاء، فإذا مضى خميس ولم يصم مع التمكن استقر في ذمته حتى لو مات قبل الصوم فدى عنه.
* ولو عين في نذره يوماً كأول خميس من الشهر أو أول خميس هذا الأسبوع تعيّن، وبه قطع الجمهور فلا يصح الصوم قبله، فإن أخرّه عنه صام قضاء، سواء أخره بعذر أم لا، لكن أن أخره بعذر أثم، وإن أخره بعذر سفر أو مرض لا يأثم.
(4) لوعيّن يوماً من أسبوع والتبس عليه فينبغي أن يصوم يوم الجمعة لأنه آخر الأسبوع، فإن لم يكن هو المعين في نفس الأمر أجزأه وكان قضاءً، ومما يدل على أن يوم الجمعة آخر الأسبوع ويوم السبت أوله حديث أبي هريرة رضي الله عنه- قال: "أخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدي فقال: "خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيه الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبعث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق، في آخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل" رواه مسلم.
(5) الصوم المعين بالنذر لا يثبت له خواص رمضان: سواءً عيناه بالنذر أم جوّزناه من الكفارة بالفطر بالجماع فيه، ووجوب الإمساك لو أفطر، وعدم قبول صوم آخر من قضاء أو كفارة أو غيرهما، بل لو صامه من قضاء أو كفارة صحّ بلا خلاف.(2/155)
(6) إذا نذر صوم أيام بأن قال: لله علي صوم عشرة أيام: يجوز صوم هذه الأيام متفرقة ومتتابعة لحصول الوفاء بالمسمى.
(7) وإن عيّن النذر بالتتابع لزمه. فإن أخلّ به فحكمه حكم صوم الشهرين المتتابعين.
(8) إذا نذر صوم شهر: نُظر: إن عيّنه كرجب أو شعبان، أو قال: أصوم شرًا من الآن، فالصوم يقع متتابعًا لتعين أيام الشهر ولو أفطر يوماً لا يلزمه الاستئناف.
* فلو شرط التتابع: فيه وجهان أصحهما: يلزمه، حتى لو أفسد يوم لزمه الاستئناف، وإذا فات لزمه قضاؤه متتابعًا.
(9) إذا نذر صوم سنة: فله حالان:
(أحدهما) أن يعين سنة متوالية بأن يقول أصوم سنة كذا أو سنة من أول شهر كذا أو من الغد فصيامها يقع متتابعًا لضرورة الوقت ويصوم رمضان عن فرصة ويفطر العيدين وكذا التشريق ولا يجب قضاء رمضان والعيدين والتشريق لأنها داخلة في النذر. ولو أفطرت المرأة فيها بحيض أو نفاس ففي وجوب القضاء قولان أصحهما لا يجب كالعيد وبه قال الجمهور.
* ولو أفطر بالمرض فيه الخلاف ورجح ابن حج وجوب القضاء لأنه لا يصح أن ينذر صوم أيام الحيض ويصح أن ينذر صوم أيام المرض.
ولو أفطر بالسفر فطريقان أصحهما: وجوب القضاء.
(الحال الثاني) : إذا نذر صوم سنة وأطلق، فإن لم يشترط التتابع صام ثلاثمائة وستين يوماً أو اثنى عشر شهرا بالأهلة أيهما شاء فعله وأجزأه، وكلشهر استوعبه بالصوم فناقصه كالكامل يحسب شهرًا، وإن انكسر شهر أتمه ثلاثين يوماً، وشوال وذو الحجة منكسران بسبب العيد والتشريق ولا يلزمه التتابع هنا بلا خلاف، فلو صام سنة متوالية قضى العيدين ورمضان ويجب قضاء أيام الحيض.
وإذا أفطر بلا عذر وجب الاستئناف بلا خلاف.(2/156)
(10) لو نذر صوم ثلثمائة وستين يوماً لزمه صوم هذا العدد ولا يلزمه فيه التتابع. ولو قال متتابعة لزمه التتابع ويقضي رمضان والعيدين والتشريق على الاتصال.
(11) إذا نذر أن يصوم في الحرم ففيه خلاف والأصح: لا يجزئه في غيره.
(12) إذا قال لله على صوم هذه السنة لزمة صوم باقي سنة التاريخ ولا يلزمه غير ذلك، لأن السنة تنصرف إلى المعهودة المشار إليها، وهي سنة التاريخ فكأنه قال: باقي هذه السنة.
(13) لو نذر صوم يوم الخميس مثلاً لم يجز الصوم قبله. وبه قال مالك وأحمد وداود وهو المشهور من مذهب الشافعي. وقال أبو يوسف يجزئه.
ودليل الجمهور أنه صوم متعلق بزمان، فلا يجوز قبله كرمضان.
(14) وإن نذر أن يصوم في كل اثنين لم يلزمه قضاء أثاني رمضان لأنه يعلم أن رمضان لابد فيه من الأثانين فلا يدخل في النذر فلم يجب قضاؤها وكذا أيام العيد إذا وافقت الإثنين.
* وإن لزمه صوم الاثنين بالنذر، ثم لزمه صوم شهرين متتابعين في كفارة.
بدأ بصوم الشهرين ثم يقضى صوم الأثانين، لأنه إذا بدأ بصوم الشهرين يمكنه بعد الفراغ من الشهرين، أن يقضي صوم الأثانين، وإذا بدأ بصوم الأثانين لم يمكنه أن يقضي صوم الشهرين فكان الجمع بينهما أولى.
(15) إن نذر صوم الدهر: انعقد نذره، ويستثنى منه العيدان والتشريق وقضاء رمضان، وكذا لو كان عليه كفارة حال النذر، ويلزمه صوم ما سوى ذلك من أيام الدهر، ولو لزمه كفارة بعد النذر فالمذهب أن يصوم عنها ويفدي عن النذر.
(16) إن نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان يصح نذره لأنه يمكنه أن يتحرى اليوم الذي يقدم فيه، فينوي صيامه من الليل، فإذا قدم صارما صامه قبل القدوم تطوعًا وما بعده فرضًا وذلك يجوز.(2/157)
فإن قلنا ينعقد نذره نظر إن قدم ليلاَّ فلا صوم على الناذر لأنه لم يوجد يوم قدوم. ولو عنى باليوم الوقت لم يلزمه أيضاً لأن الليل ليس بقابل للصوم، قال الشافعية: ويستحب (الفداء أو يصوم يوماً آخر) .
* وإن قدم بالنهار فللناذر أربعة أحوال:
(1) أن يكون مفطرًا فيلزمه أن يصوم عن نذره يوماً آخر.
(2) أن يقدم فلان والناذر صائم عن واجب من قضاء أو نذر فيتم ما هو فيه ويلزمه صوم يوم آخر لهذا النذر.
(3) أن يقدم وهو صائم تطوعًا أو غير صائم وهو ممسك وهو قبل زوال الشمس فيبني على أنه يجب الصوم من أول النهار فيلزمه صوم يوم آخر.
(4) أن يقدم فلان يوم العيد أو في رمضان، فهو كما لو قدم ليلاً.
(17) إذا قال: إن قدم فلان فلله على أن أصوم أمس يوم قدومه فلا يصح نذره.
(18) إذا اجتمع في يوم نذران بأن قال: إن قدم زيد لله على أن أصوم اليوم الذي يلي يوم مقدمه، وإن قدم عمرو فلله على أن أصوم أول خميس بعده، فإن قدم زيد وعمرو يوم الأربعاء، لزمه صوم يوم الخميس عن أول نذره، ثم يقضي عن الآخر.
(19) لو شرع في صوم تطوع، ثم نذر إتمامه فهل يلزمه إتمامه؟ فيه وجهان، الصحيح: أنه يلزمه.
عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(20) "كفارة النذر كفارة اليمين" رواه مسلم.
قال ابن حجر في "الفتح" (11/595) : "حمله الجمهور على نذر اللجاج وبعضهم على النذر المطلق".
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم" رواه مسلم.
واختلف فيمن وقع من النذر من ذلك هل تجب فيه كفارة؟ فقال الجمهور: لا، وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية وبعض الحنفية:(2/158)
نعم، ونقل الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك كالقولين. واتفقوا على تحريم النذر في المعصية، واختلافهم إنما هو في وجوب الكفارة.
صوم الكفارات
سبق ذكره في "الصوم على أربعين وجها":
قال تعالى: (لا يُؤَاخِذُكمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقدتُّمُ الأَيمَانَ فَكَفَّارَتُة إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِن أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكمْ أَوْ كِسْوَتُمْ أَوْ تحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّم يَجِدْ فَصِيَام ثَلاثةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفارَة أَيْمَانِكُم إِذَا حَلَفتُمْ وَاحْفَظوا أَيْمَانَكمْ كذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ) [المائدة: 89] .
وقال تعالى: (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) .
قال مجاهد: كل شيء في القرآن "أوْ" نحو قوله: (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) فهو فيه مخير، وما كان (فمن لم يجد) فهو على الولاء أي على الترتيب. رواه الطبراني بسند صحيح.
وقال عطاء: ما كان في القرآن (أو أو) فلصاحبه أن يختار أيها شاء.
سنده صحيح.
وقال عكرمة: كل شيء في القرآن "أو أو" فليتخير أي الكفارات شيء، فإذا كان (فمن لم يجد) فالأول الأول.
قال ابن بطال: هذا متفق عليه بين العلماء.
مسألة [اختلافهم في اشتراط تتابع الأيام الثلاثة في صوم الكفارة]
ذهب مالك والشافعي إلى عدم اشتراط التتابع ويجزئه التفريق وإن كانا استحباه ودليلهم أن التتابع صفة، تجب إلا بنص أو قياس على منصوص وقد عدما.
* وذهب أبو حنيفة والثوري والمزني وأحد قولي الشافعي إلى وجوب التتابع وسبب اختلافهم في ذلك شيئان: أحدها: هل يجوز العمل بالقراءة التي(2/159)
ليست في المصحف؟ وذلك أن في قراءة عبد الله بن مسعود (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) والسبب الثاني: اختلافهم هل يحمل الأمر بمطلق الصوم على التتابع أم ليس يحمل إذا كان الأصل في الصيام الواجب بالشرع إنما هو التتابع.
مسألة: "قال أبو حنيفة في الرجل يقول: هو يهودي أو نصراني أو برئ من الإسلام أو من النبي أو من القرآن إنها يمين تلزم فيها الكفارة، ولا تلزم فيها، إذا قال: واليهودية والنصرانية والنبي والكعبة إن كانت على صيغة الإيمان" (1) .
* عن كعب بن عجرة قال: أتيته - يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - فقال: ادن فدنوت، فقال: "أيؤذيك هوامك؟ " قلت: نعم. قال: "فدية من صيام أو صدقة أو نسك" رواه البخاري.
***
__________
(1) القرطبي (4/2268) .(2/160)
ما يباح للصائم فعله
من رحمه الله بعباده ورفعًا للحرج عن أمة حبيبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أباح الشارع للصائم فعل أشياء:
(1) الصائم يصبح جنبًا:
من أدركه الفجر وهو جنب من أهله، فيغتسل بعد الفجر ويصوم.
وكذلك الحائض والنفساء إذا انقطع الدم من الليل جاز لهما تأخير الغسل إلى الصبح وأصبحتا صائمتين.
عن عائشة وأم سلمة -رضي الله عنهما- "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم" (1) .
(2) السواك للصائم:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" (2) .
قال ابن حجر في "الفتح" (4/188) : "يقتضي إباحته في كل وقت وعلى كل حال".
قال ابن عمر يستاك أول النهار وآخره.
وقال ابن سيرين: لا بأس بالسواك الرطب. قيل له طعم. قال: والماء له طعم وأنت تمضمض به.
قال ابن حجر في "تلخيص الحبير" (2/202) : "روى الطبراني بإسناد جيد عن عبد الرحمن بن غنم. قال: سألت معاذ بن جبل أأتسوك وأنا صائم؟ قال: نعم. قلت: أي النهار؟ قال: غدوة أو عشية. قلت: إن الناس يكرهونه عشية ويقولون إن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" قال: "سبحان الله لقد أمرهم بالسواك، وما كان بالذي يأمرهم أن ييبسوا بأفواهم عمدًا، ما في ذلك من الخير شيء بل فيه شر".
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم ومالك.
(2) أخرجه البخاري.(2/161)
فالسواك عام قبل الزوال وبعده.
(3) المضمضة والاستنشاق:
إلا أنه تكره المبالغة فيهما. عن لقيط بن صبرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ... وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً" (1) .
قال ابن قدامة: "وإن تمضمض أو استنشق في الطهارة فسبق الماء إلي حلقه من غير قصد ولا إسراف فلا شيء عليه".
قال عطاء: إن استنثر فدخل الماء في حلقه لا بأس إن لم يملك.
(4) المباشرة والقبلة للصائم:
عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه" (2) .
(5) تحليل الدم وضرب الإبر والحقن التي في العضل أو الوريد:
ليست من المفطرات "لأنها ليست منصوصًا عليها ولا بمعنى المنصوص ولكن الاحتياط أن الإنسان لا يستعمل مثل هذه الإبرة وهو صائم إلا في حال مرض يبيح له الفطر وحينئذ يفطر ويستعملها". كما قال الشيخ ابن عثيمين.
(6) الحجامة:
وهو أخذ الدم من الرأس أو من عرق من العروق، وكذا القصد. فقد كانت من جملة المفطرات ثم نسخت، وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم لما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: " أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وهو صائم" (3) .
__________
(1) صحيح: أخرجه أصحاب السنن والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي والألباني وصححه الألباني في "إرواء الغليل": رقم (90) - (935) وفي "حقيقة الصيام" (ص 20) .
(2) أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. انظر: "إرواء الغليل" (4/80-85) .
(3) أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي.(2/162)
(7) الكحل والقطرة ونحوهما مما يدخل العين:
هذه الأمور لا تفطر سواء وجد طعمه في حلقه أم لم يجده لأن العين ليست بمنفذ للجوف، وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" وفي رسالته "حقيقة الصيام" وتلميذه ابن القيم في "زاد المعاد".
قال البخاري في "صحيحه": "لم ير أنس والحسن وإبراهيم بالكحل للصائم بأسًا".
(8) صب الماء البارد على الرأس والاغتسال:
بوّب البخاري في صحيحه: "باب اغتسال الصائم، وبلّ ابن عمر -رضي الله عنهما- ثوبًا فألقاه عليه وهو صائم" ودخل الشعبي الحمام وهو صائم.
وقال الحسن: لا بأس بالمضمضة والتبرد للصائم" (1) .
وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصب الماء على رأسه وهو صائم من العطش أو من الحر" (2) .
(9) ذوق الطعام: وهذا مقيد بعدم دخوله الحلق.
عن عطاء عن ابن عباس قال: "لا بأس أن يذوق الخل والشيء يريد شراءه" (3) .
وعن ابن عباس قال: "لا بأس أن يتطاعم الصائم العسل والسمن ونحوه يمجه" (4) .
__________
(1) صححها الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/182- 183) .
(2) صحيح: أخرجه أبو داود وأحمد. وصححه الألباني في "صحيح الجامع" و"صحيح سنن أبي داود".
(3) حسن: رواه أحمد والبخاري معلقًا ووصله ابن أبي شيبه وحسن الألباني إسناده في "إرواء الغليل" رقم (973) .
(4) رواه البيهقي وسكت عنه الحافظ في "الفتح"، وحسن سنده الألباني في "إرواء الغليل" (4/86) .(2/163)
(10) السلف للصائم الترفه والتجمل بالترجل والإدهان كما قال ابن حجر. وأيضاً التطيب.
عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إذا كان صوم أحدكم فليصبح دهينًا مترجلاً" (1) .
(11) ما لا يمكن الاحتراز منه كبلع الريق وغبار الطريق وغربلة الدقيق والنخامة ونحو ذلك.
(12) العلك: كل ما يمُضغ ويبقى في الفم كالمصطكي واللبان قال ابن حجر في "الفتح" (4/190) : "رخص في مضغ العلك أكثر العلماء إن كان لا يتحلب منه شيء فمان تحلب منه شيء فازدرده فالجمهور على- أنه يفطر.
(13) قال ابن المنذر: "أجمعوا على أنه لا شيء على الصائم فيما يبتلعه مما جرى مع الريق مما بين أسنانه مما لا يقدر على إخراجه" (2) .
***
__________
(1) رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم.
(2) "فتح الباري" (4/190) .(2/164)
الباب الخامس عشر
الاعتكاف(2/165)
الاعتكاف
"معنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق، وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال.
فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه وعكف قلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه، فما بقى له همّ سوى الله وما يرضيه عنه كما كان داود الطائي يقول في ليله: "همك عطّل عليّ الهموم وخالف بيني وبين السهاد، وشوقى إلى النظر إليك أوثق مني اللذات وحال بيني وبين الشهوات".
مال شغل سواه مالي شغل ... ما يصرف عن قلبي هواه عذل
ما أصنع إن جفان وخاب الأمل ... مني بدل ومنه مالي بدلْ
كان بعضهم لا يزال منفردًا في بيته خاليًا بربه فقيل له: أما تستوحش؟
قال: كيف أستوحش وهو يقول: "أنا جليس من ذكرني".
أوحشتني خلواتي ... بك من كل أنيسي
وتفردت فعاينـ ... تك بالغيب جليسي (1)
* الاعتكاف لغة: اللبث والحبس والملازمة.
قال الشافعي في "سنن حرملة": الاعتكاف لزوم المرء شيئًا، وحبس نفسه عليه برًا كان أو إثمًا، قال الله تعالى: (ما هَذِه التَمَاثيلُ الَّتِي أَنتمْ لَهَا عَاكِفُونَ) [الأنبياء: 52] .
قال تعالى: (فَاَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ) [الأعراف: 138] .
__________
(1) "لطائف المعارف".(2/167)
وقال تعالى: (وَأَنتُم عَاكِفونَ فِي المسَاجِدِ) [البقرة: 187] .
يقال: عكف يعكفُ ويعكف -بضم الكاف وكسرها- لغتان مشهورتان عكفا وعكوفا أقام على الشيء. وعَكفته أعكِفه عكفًا.
ويسمى الاعتكاف جوارًا كما جاء في الحديث قول عائشة: "وهو مجاور في المسجد".
الاعتكاف شرعًا: "المقام في المسجد على سبيل القربة من شخص مخصوص بصفة مخصوصة".
أو: "ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في مكان مخصوص".
أدلة مشروعيته:
1- القرآن: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) .
2- السنة: كقول عائشة -رضي الله عنها-: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده" (1) .
3- الإجماع: نقله ابن المنذر في "الإجماع" (ص 47) وأقره ابن قدامة في "المغني" (3/183) .
حكمه:
"الاعتكاف سنة بالإجماع ولا يجب إلا بالنذر بالإجماع. ويستحب ويتأكد استحبابه في العشر الأواخر من شهر رمضان طلبا لليله القدر" (2) .
قال الشافعي: من أراد الاقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اعتكافه العشر الأواخر من رمضان فينبغي أن يدخل المسجد قبل غروب الشمس ليلة الحادي والعشرين منه لكيلا يفوته شيء منه، ويخرج بعد غروب الشمس ليلة العيد، سواء تم الشهر
__________
(1)
رواه البخاري ومسلم.
(2) "المجموع" (6/501) .(2/168)
أو نقص. والأفضل أن يمكث ليلة العيد في المسجد حتى يخرج منه إلى المصلى لصلاة العيد.
أركان الاعتكاف أربعة:
1- اللبث في المسجد.
2- النية: قال ابن رشد: "أما النية فلا أعلم فيها خلافا".
3- المعتكف.
4- المعتكف فيه (1) .
المعتكف: شروط المعتكف ثلاثة:
(1) الإسلام.
(2) العقل.
(3) النقاء عن الحدث الأكبر وهو: الجنابة والحيض والنفاس، فلا يصح اعتكاف من كافر أصلي ولا مرتد، ولا اعتكاف زائل العقل بجنون أو إغماء أو مرض أو سكر، ولا صبي غير مميز لأنه لا نية لهم ويصح اعتكاف الصبي المميز والمرأة المزوجة وغيرها، والعبد والمكاتب، لكن يحرم على المرأة والعبد الاعتكاف بغير إذن الزوج والسيد، فلو خالفا صح مع التحريم (2) .
[مكان الاعتكاف]
* قال القرطبي في "تفسيره" (2/333) : "أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد لقول الله تعالى: (في المساجد) .
* وقال الموفق ابن قدامة في "المغني" (3/187) : "لا يصح الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكف رجلاً. لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافًا، والأصل في ذلك قول الله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) فخصها بذلك، فلو صح الاعتكاف في غيرها لم يختص تحريم المباشرة فيها،
__________
(1) "روضة الطالبين" (2/391) .
(2) "المجموع" (6/501) .(2/169)
فإن المباشرة محرمة في الاعتكاف مطلقا".
* ونقل الحافظ ابن حجر في "الفتح" عن محمد بن عمر بن لبابة المالكي جوزه في أي مكان، ولا عبرة بخلافه فإنه محجوج بالإجماع قبله؛ ولذا لم يأبه القرطبي -وهو مالكي مثله- بخلافه.
* اختلاف أهل العلم في المسجد المعتكف فيه على أقوال ستة:
الأول: أن الاعتكاف يصح في أي مسجد: ولو كان مهجورًا لا تقام فيه الجماعة-، هذا مذهب الإمام مالك والشافعي وداود (1) .
* واشترط مالك كون المسجد جامعًا إذا كانت الجمعة تتخلل فترة اعتكافه.
* واستحب الشافعي في هذه الحال أن يكون اعتكافه في مسجد جامع، ولو اعتكف في غيره لزمه الخروج إليها عنده، وهل يبطل اعتكافه؟ فيه قولان.
قال النووي في "المجموع" (6/513) : "وبطلان اعتكافه هو المشهور من نصوص الشافعي" أ. هـ.
الثاني: أنه لا يصح إلا في مسجد جامع:
وهو قول الزهري والحكم وحمّاد، وأول قوليْ عطاء، ورواية عن مالك.
الثالث: أنه لا يصحّ إلا في مسجد جماعة: وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو قول الحسن وعروة، ورواية عن الزهري.
واحتج له بحديث حذيفة مرفوعًا: "كل مسجد له إمام ومؤذن فالاعتكاف فيه يصلح" (2) . وهذا القول هو أعدل الأقوال وأقومها لا سيما عند
__________
(1) لكن يلزم عنده الخروج لكل صلاة إلى المسجد الذي تقام فيه الجماعة لقوله بوجوبها.
(2) ضعيف: رواه سعيد بن منصور والدارقطني، وقال الدارقطني: الضحاك لم يسمع من حذيفة. وقال ابن حزم: جويبر هالك، والضحّاك ضعيف، ولم يدرك حذيفة وقال النووي في "المجموع" (6/483) : وجويبر ضعيف باتفاق أهل الحديث، فهذا الحديث مرسل ضعيف لا يحتج به.(2/170)
من تحقّق لديه وجوب صلاة الجماعة على الأعيان.
قال ابن قدامة في "المغني" (3/187) : "إنما اشترط. ذلك لأن الجماعة واجبة، واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين: إما ترك الجماعة الواجبة، وإما خروجه إليها فيتكرر ذلك كثيرًا مع إمكان التحرز منه، وذلك مناف للاعتكاف".
"ويلزمه الخروج إلى الجمعة ولا يبطل اعتكافه لأنه خروج بعذر مشروع، ولا يتكرر إلا مرة في الأسبوع" (1) .
* قال ابن قدامة (3/192) : "وكذلك له الخروج إلى ما أوجبه الله تعالى عليه مثل من يعتكف في مسجد لا جمعة فيه فيحتاج إلى خروجه ليصلي الجمعة، ويلزمه السعي إليها فله الخروج إليها ولا يبطل اعتكافه. وبهذا قال أبو حنيفة ". وإلى عدم بطلان اعتكافه بالخروج إليها ذهب: سعيد بن جبير والحسن البصري والنخعي وأحمد وعبد الملك من أصحاب مالك وابن المنذر وداود، نقل ذلك عنهم: النووي في "المجموع" (6/514) .
وقال الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/114) : "وكذلك في الخروج في الجمعة ضرورة لأنها فرض عين، ولا يمكن إقامتها في كل مسجد فيحتاج إلى الخروج إليها كما يحتاج إلى الخروج لحاجة الإنسان فلم يكن الخروج إليها مبطلاً لاعتكافه".
الرابع: أنه لا يصح إلا في المسجد الحرام والمسجد النبوي: "وهو آخر قولى عطاء، فقد روى عبد الرزاق في "مصنفه" (4/349) عنه أنه قال: لا جوار إلا في مسجد جامع، ثم قال: لا جوار إلا في مسجد مكة ومسجد المدينة.
__________
(1) "المغني" (3/189) .(2/171)
الخامس: أنه لا يصح إلا في المسجد النبوي فقط:
وهو قول سعيد بن المسيب، فأخرج عبد الرزاق (4/346) : عن ابن المسيب قال: لا اعتكاف إلا في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ونسبه أيضاً ابن المنذر إليه، وعلق عليه النووي في "المجموع" (6/483) بقوله: "ما أظن أن هذا يصح عنه" أ. هـ.
ونسبه إليه ابن حزم في "المحلى" (5/194) وقال: "إن لم يكن قول سعيد فهو قول قتادة".
وقال الحافظ في "الفتح" (4/272) : "وخصه ابن المسيب بمسجد المدينة".
لكن روى ابن أبي شيبة عنه أنه قال: لا اعتكاف إلا في مسجد نبي.
بالتنكير. فيشمل المساجد الثلاثة، وكذا نقل عنه ابن حزم في "المحلى" (5/195) .
وابن قدامة (3/188) وولي الدين العراقي في "طرح التثريب" (4/171) وقال: "وهو بمعنى الذي قبله -يعني قول حذيفة الآتي- ولهذا جعلهما ابن عبد البر قولا واحد" أ. هـ.
السادس: أنه لا يصح إلا في المساجد الثلاثة:
وهو قول حذيفة وقد تفرد به.
"عن أبي وائل، قال، قال حذيفة لعبد الله -يعني ابن مسعود-: عكوفٌ بين دارك ودار أبي موسى لا يَضُر!؟ وقد علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة"!
فقال عبد الله: لعلك نسيت وحفظوا، أو أخطات وأصابوا!! (1) .
__________
(1) رواه الطحاوي في "مشكل الآثار" والذهبي في "سير أعلام النبلاء" (15/81) .
وشيخ الطحاوي قال عنه الذهبي في "الميزان" (3/ 575) : "صاحب مناكير" وأخرجه البيهقي (4/316) والطبراني في "الكبير" (9/349) ، وعبد الرزاق الصنعاني (4/347) ، وابن أبي شيبة (3/91) والإسماعيلي وصححه الالباني في "قيام رمضان" الطبعة الثانية (ص 36) .(2/172)
قال الحافظ الذهبي بعد روايته للحديث "صحيح غريب عال".
وقد عمل بعض السلف بهذا الحديث فقد روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (3/91) وابن حزم (5/194) بسند صحيح عن سعيد بن المسيب أنه قال: لا اعتكاف إلا في مسجد نبي.
* وممن يذهب إلى هذا القول في عصرنا: محدث ديار الشام الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -حفظه الله-.
قال في رسالته "قيام رمضان" (ص 36) : "وقد وقفت على حديث صحيح صريح يخصص (المساجد) المذكورة في الآية بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا اعتكاف إلا في الساجد الثلاثة".
وقد قال به من السلف فيما اطلعت عليه حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب وعطاء إلا أنه لم يذكر المسجد الأقصى.
وقال غيرهم بالمسجد الجامع مطلقا، وخالف آخرون. فقالوا: ولو في مسجد بيته.
ولا يخفى أن الأخذ بما وافق الحديث منها هو الذي ينبغي المصير إليه؛ والله سبحانه وتعالى أعلم.
السابع: لا اعتكاف إلا في مسجد مصر جامع.
الثامن: لا اعتكاف إلا في مسجد مكة أو مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس (1) .
__________
(1) انظر: رسالة "دفع الاعتساف عن محل الاعتكاف" لجاسم الفهيد الدوسري ضمن كتاب "زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء" وهي رسالة قيمة نقلنا معظمها ولخصناها، وانظر: رسالة الانصاف في أحكام الاعتكاف "لعلي حسن عبد الحميد الحلبي طبع الكتبة الإسلامية بالاردن، ورسالة إيضاح الدلالة في تخريج وتحقيق حديث لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة "تأليف محمد بن عبد الوهاب الوصابي العبدلي الناشر مكتبة الضياء" وانظر: "المحلى" لابن حزم (5/مسألة رقم 633) .(2/173)
الرد على فضيلة الشيخ الألباني
مولانا وسيدنا محدث ديار الشام فضيلة الشيخ الالباني لا ينكر علمه إلاَّ جاحد أو من يريد أن يستر الشمس بكف طفل صغير.
ياناطح الجبل العالي لِتُكْلمه ... أشفق على الرأس لاتشفق على الجبل
وهو مجدد عصرنا في الحديث النبوي كما يقول العلامة ابن باز، وهو "من خيرة أهل الحديث وقلّ رجل يكون مثله في الحديث في هذا الزمان".
كما يقول الشيخ ابن عثيمين. والشيخ في هذه المسألة مجتهد معذور وله أجر على اجتهاده، ومن الأمانة بعد هذا أن ننشر رد من أجادوا الرد ووافقوا مذهب الجمهور وعامة أهل الفقه في سائر الأمصار على اختلاف العصور.
وقد رد الشيخ جاسم الفهيد الدوسري في رسالته "دفع الاعتساف عن محل الاعتكاف" فيقول -حفظه الله-:
"الجواب عن هذا الخبر من وجوه ستة:
الأول: أنه اختلف في رفعه ووقفه والصواب وقفه: فقد رواه ثلاثة من الحفاظ عن ابن عيينة به موقوفًا من كلام حذيفة، وهم:
ا- عبد الرزاق الصنعاني في "مصنفه" ومن طريق الطبراني في "الكبير".
2- سعيد بن عبد الرحمن بن حسان المخزومي.
3- محمد بن أبي عمر العدني.
ومما يؤيد الوقف: ما أخرجه عبد الرزاق ومن طريق الطبراني، وابن أبي شيبة من طريق الثوري ... قال: جاء حذيفة فذكره موقوفًا.
قال الهيثمي في "المجمع": وإبراهيم النخعي لم يدرك حذيفة. ولكن نقل الأعمش عن إبراهيم أنه قال: إذا حدثتكم عن رجل عن عبد الله فهو الذي سمعت، وإذا قلت: قال عبد الله فهو عن غير واحد عن عبد الله "تهذيب" (1/177-178) .
وقال الحافظ العلائي في "التحصيل": "وجماعة من الائمة صححوا(2/174)
مراسيلة، وخص البيهقي ذلك بما أرسله عن ابن مسعود" وهذا منها، هذا من جهة الصناعة الحديثية.
* وأما من جهة النظر فإن ابن مسعود لم يقبل رواية حذيفة. بل ردها، ولو ثبت رفع الحديث لما تجاسر على ذلك، وهو من أئمة الصحابة وفقهائهم، وقد أفتى بخلاف ذلك.
فقد أخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة والطبراني بسند صحيح عن شداد ابن الأزمع قال: "اعتكف رجل في المسجد في خيمة له فحصبه الناس، قال: فأرسلني الرجل إلى ابن مسعود، فجاء عبد الله وطرد الناس، وحسن ذلك" أ. هـ فعُلِم أن حذيفة إنما قال ذلك اجتهادًا منه، ولم يكن ابن مسعود ملزمًا باجتهاده.
الثاني: مما يضعف الاستدلال بهذا الخبر قول ابن مسعود -رضي الله عنه- (لعلك نسيت وحفظوا، أو أخطأت فأصابوا) :وهذا تصريح منه بخطأ حذيفة ونسيانه في رواية الحديث وصواب عمل الآخرين بخلاف، فلعل حذيفة اشتبه عليه حديث "لا تشد الرحال ... " فإنه قريب منه، لا سيما أن الخطابي قد ذكر في "معالم السنن" (2/222) : أن بعض أهل العلم استنبط من حديث النهي عن شد الرحال أن الاعتكاف لا يصح إلا في المساجد الثلاثة.
* وقال الشوكاني في "نيل الأوطار": "قال عبد الله: (فعلّهم أصابوا وأخطأت) ؛ فهذا يدل على أنه لم يستدل على ذلك بحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى ان عبد الله يخالفه ويجوّز الاعتكاف في كل مسجد، ولو كان ثم حديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما خالفه".
الثالث: أن في متن الحديث اختلافًا وشكًا: قد رواه سعيد بن منصور في "سننه"، ومنتقى الأخبار للمجد عن شقيق قال: قال حذيفة لعبد الله بن
مسعود: قد علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة" أو قال: "مسجد جماعة".
ورواه الطبراني بسند صحيح عن النخعي وفيه: قال حذيفة: "أما أنا فقد(2/175)
علمت أنه لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة"، وأعله الهيثمي في "المجمع" والحافظ بالانقطاع فهذا الاختلاف مما يوهن الاستدلال بالحديث لأنه جمع حكمين مختلفين في مسألة واحدة، وقد استدل به أيضاً أصحاب القول الثالث.
* قال ابن حزم (5/195-196) : "قلنا: هذا شك من حذيفة أو ممن دونه، ولا يقطع على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشك، ولو أنه عليه الصلاة والسلام- قال: "لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة" لحفظه الله تعالى.
* وقال الشوكاني في "النيل" (4/360) : "وأيضاً الشك الواقع في الحديث مما يضعف الاحتجاج بأحد شقيه" أ. هـ.
الرابع: أنه منسوخ، قال أبو جعفر الطحاوي في "مشكل الآثار"
(4/20) : "فتأملنا هذا الحديث فوجدنا فيه إخبار حذيفة لابن مسعود أنه قد علم ما ذكره له عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتَرْك ابن مسعود إنكار ذلك وجوابه إياه بما أجابه في ذلك من قوله لهم: "حفظو" أي قد نسخ ما قد ذكرته من ذلك، وأصابوا فيما قد فعلوا. وكان ظاهر القرآن على ذلك وهو قول الله عز وجل (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) . فعمّ المساجد كلها بذلك، وكان المسلمون عليه في مساجد بلدانهم" أ. هـ.
الخامس: أن الحديث -إنْ صح- ومحمول على بيان الأفضلية: ذكره الكاساني في "البدائع" (2/113) وقال: "فأفضل الاعتكاف أن يكون في المسجد الحرام، ثم مسجد المدينة، ثم في المسجد الأقصى، ثم في المساجد العظام التي كثر أهلها" أ. هـ.
السادس: أنه لو ثبت رفع الحديث لما أجمعت الأمة على ترك العمل به: فلم ينقل عن أحد من الأئمة المتقدمين منهم والمتأخرين: أنه أخذ بظاهر هذا الحديث سوى رواية حذيفة -رضي الله عنه- فإن قيل: قد أخذ به سعيد ابن المسيب وعطاء؟
فالجواب: أن النقل عن سعيد قد اختلف كما تقدم في القول الخامس،(2/176)
وأما عطاء فقد استثنى المسجد الأقصى من ذلك، ولو كان قد أخذ بالحديث لما استثناه منه لأنه مذكور فيه، فعلم أن فتواه إنما هي اجتهاد منه، فقد روى عبد الرزاق (4/349) عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: فمسجد إيلياء؟ -يعني الأقصى- قال: لا يجاور إلا في مسجد مكة ومسجد المدينة- فعلم تفرد حذيفة بذلك.
* والقول الحقيق بالقبول هو أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد جماعة، وإن كان الاعتكاف تتخلله صلاة الجمعة فالأولى: أن يكون في مسجد جامع خروجًا من خلاف الإمامين: مالك والشافعي. والله أعلم" (1) .
* قال النووي في "المجموع" (6/507-508) : "إن الاعتكاف إنما يكون في المساجد، وإذا ثبت جوازه في المساجد صحّ في كل مسجد (2) ، ولا يقبل تخصيص من خصه ببعضها إلا بدليل، ولم يصح في التخصيص شيء صريح".
وقال جصَّاص في "أحكام القران" (1/243) : "وظاهر قوله: (وأنتم عاكفون في المساجد) يبيح الاعتكاف في سائر المساجد لعموم اللفظ، ومن اقتصر به على بعضها. فعليه بإقامة الدلالة، وتخصيص بمساجد الجماعات لا دلالة عليه. كما أن تخصيص من خصه بمساجد الأنبياء لا لم يكن عليه دليل سقط باعتباره" وقال: "فغير جائز لنا تخصيص عموم الآية بما لا دلالة فيه على تخصيصها".
* وكذا قال الإمام ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/427-428) .
فرع: قال ابن قدامة في "المغني" (3/189) .
"وإن كان اعتكافه مدة غير وقت الصلاة قليلة أو بعض يوم جاز في كل
__________
(1) انتهى تلخيص رسالة "دفع الاعتساف عن محل الاعتكاف" المنشورة ضمن كتاب "زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء" للشيخ جاسم الفهيد الدوسرى نشر دار البشائر الإسلامية ببيروت.
(2) وهو قول الجمهور كما قال ابن حجر في "الفتح" (4/319) .(2/177)
مسجد لعدم المانع". وكذا المعذور بترك الجماعة كامرأة مريض.
(فرع) : الجمهور على أن المرأة تعتكف في المسجد؛ وبه قال: الشافعي ومالك وأحمد وأبو داود. وجوز أبو حنيفة والثوري اعتكافها في مسجد بيتها.
(فرع) : قال النووي في "روضة الطالبين" (2/398-399) : "إذا نذر الاعتكاف في مسجد بعينه، فإن عيّن المسجد الحرام تعين، وكذا مسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو مسجد الأقصى، وإن عين غير هذه الثلاثة لم يتعين على الأصح. وإذا حكمنا بالتعيين، فإن عين المسجد الحرام لم يقم غيره مقامه، وإن عيّن مسجد المدينة، لم يقم مقامه إلا المسجد الحرام، وإن عيّن الأقصى لم يقم مقامه إلا المسجد الحرام، ومسجد المدينة، وإذا حكمنا بعدم التعيين فليس له الخروج بعد الشروع لينتقل إلى مسجد آخر، لكن لو كان ينتقل في خروجه لقضاء الحاجة إلى مسجد آخر على مثل تلك المسافة جاز على الأصح.
[وقت الاعتكاف]
يصح في أي وقت من أيام السنة، فقد ثبت أن النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتكف في العشر الأوائل من شوال، وفي رواية في العشر الأواخرْ" (1) . لكنه يتأكد في رمضان لمواظبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه، فقد اعتكف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فى العشر الوسط من رمضان.
وفي رواية "أنه كان يعتكف في كل رمضان". وأفضله العشر الأواخر لان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتكفها حتى توفاه الله عز وجل كما تقدم: عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ِ يعتكف في كل رمضان، فإذا صلى الغداة دخل مكانه الذي اعتكف فيه. قال: فاستأذنته عائشة أن تعتكف، فأذن لها فضربت فيه قبة، فسمعت بها حفصة فضربت قبة، وسمعت زينب بها فضربت قبة أخرى، فلما انصرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الغداة أبصر أربع قباب. فقال: "ما هذا؟ " فأخُبرَ خبرهن. فقال: "ما حملهن على هذا؟ آلبر؟ انزعوها فلا أراها"؛ فنزعت فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر
__________
(1) قطعة من حديث عائشة المتفق عليه.(2/178)
العشرين من شوال" رواه البخاري.
* "وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً".
* قال النووي في "المجموع" (6/516) : "مذهب العلماء فيمن نذر اعتكاف العشر الأواخر من رمضان أو غيره: متى يدخل في اعتكافه؟
مذهبنا اْنه يلزمه أن يدخل فيه ليلة الحادي والعشرين ويخرج عن نذره بانقضاء الشهر تم أو نقص، وبه قال مالك والثوري وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال الأوزاعي وإسحاق وأبو ثور: يجزئه الدخول في طلوع الفجر يوم الحادي والعشرين ولا يلزمه ليلة الحادي والعشرين، دليلنا أن العشر اسم لليالي والأيام والله أعلم.
* وقال آخرون: "السنة في مبتدأ الاعتكاف أن تكون بعد صلاة الفجر،
فقد روت السيدة عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله: "كان إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه".
ولفظ: "كان يقتضي الدوام عند أهل العلم".
قال ابن رشد في "بداية المجتهد" (1/430) : "والسبب في اختلافهم معارضة الأ-يسة بعضها بعضًا، ومعارضة الأثر لجميعها (1) ، وذلك أنه من رأى أن أول الشهر ليلة واعتبر الليالي قال: يدخل قبل مغيب الشمس، ومن لم يعتبر الليالي قال يدخل قبل الفجر".
الحق أن اسم اليوم في كلام العرب قد يقال على النهار مفردًا، وقد يقال على الليل والنهار معًا، لكن يشبه أن تكون دلالته الأولى إنما هي على النهار، ودلالته على الليل بطريق اللزوم.
وأما الأثر المخالف لهذه الأقيسة كلها فهو ما خرّجه البخاري وغيره من
__________
(1) قطعة من حديث متفق عليه.(2/179)
أهل الصحيح عن عائشة قالت ... " (1) .
* وبوب البخاري في "صحيحه" "باب من خرج من اعتكافه بعد الصبح"، ثم أورد فيه حديث أبي سعيد الخدري وفيه: "اعتكفنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العشر الأوسط، فلما كان صبيحة عشرين نقلنا متاعنا ... ".
فبهذا الحديث يترجح أن بداية الاعتكاف تكون بعد الفجر، ونهايته كذلك، حتى ينقض للمعتكف في معتكفه يوم وليلة بتمامها".
العمل الذي يخص الاعتكاف
* اختلفوا في الأعمال التي تخص الاعتكاف.
* فروى عن عائشة ورواية عن علي أنها: الصلاة وذكر الله وتلاوة القرآن.
وهو مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة والمشهور عن أحمد والأوزاعي وابن القاسم.
* "وروى عن علي -رضي الله عنه- وعن سعيد بن جبير والحسن والنخعي ورواية عن أحمد وابن وهب: أنها جميع ما يتقرب به إلى الله تعالى وهؤلاء أجازوا عيادة المريض وحضور الجنازة. وسبب الخلاف: أنه ثبت عن عائشة: "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يدخل البيت إلا لحاجة" رواه البخاري ومسلم وزاد: "إلا لحاجة الإنسان وفسرها الزهري بالبول والغائط، فمن فهم من فعله ذلك التشريع للأمة قال: لا يعمل إلا الأعمال الخاصة بالمساجد، واستدلوا أيضاً بما روى عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت:" السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد منه".
__________
(1) حديث عائشة السابق.(2/180)
ولذلك اختلفوا في قراءة الحديث والفقه: فاستحبه الشافعي وأبو حنيفة، ولم يستحبه مالك وأحمد.
ومن فهم الاعتكاف على أنه: "حبس النفس على الطاعات" أجاز له جميع القرب ولو كانت خارجة عن المعتكف.
* قال إسحاق: لا يعود المريض في الاعتكاف الواجب، وله أن يشترط عند ابتدائه في التطوع في عيادة المريض ومثله قال الشافعي في جواز الاشتراط.
ولأحمد قولان في جوازه وعدمه. ومنعه مالك والأوزاعي وهو اختيار ابن المنذر كما ثبت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه: لا يخرج إلا لما لا بد منه المجمع عليه مثل قضاء الحاجة وهو الراجح عندي.
ِ* قال ابن حجر: "لو خرج فتوضأ خارج المسجد لم يبطل، ويلتحق بهما -أي الأكل والشرب- القيء والفصد لمن احتاج إليه.
* وعن علي والنخعي والحسن البصري إن شهد المعتكف جنازة أو عاد مريضاً أو خرج للجمعة بطل اعتكافه" (1) .
* من الحاجات الضرورية التي تدعو المعتكف لخروجه من معتكفه الطعام والشراب إذا لم يكن هناك من يأتيه به. والاغتسال إذا لم يكن للمسجد مكان يمكنه أن يغتسل فيه. وصلاته على الجنازة وتغسيله الميت إذا تعين عليه ذلك كأن لم يوجد من يصلي عليها، أو يغسله. وكان بعض أزواجه يزرنه وهو معتكف، فإذا قامت من عنده قام فودعها، ولم يكن يباشر امرأة من نسائه بقبلة ولا غيرها.
قال ابن حزم في "مراتب الإجماع" (ص 48) : "واتفقوا على أن من خرج من معتكفه لغير حاجة ولا ضرورة ولا بر أمر به، أو ندب إليه فإن اعتكافه قد بطل".
"وقد استنبط بعض أئمة العلم مما ثبت عن السيدة عائشة -رضي الله
__________
(1) "فتح الباري" (4/321) .(2/181)
عنها-: أنها كانت ترّجل رسول الله وهو معتكف يناولها رأسه وهي في حجرتها والنبي في المسجد "أن المعتكف ممنوع من الخروج من المسجد إلا لغائط أو بول".
ووجهه أنه لو جاز له الخروج لغير ذلك لما احتاج إلي إخراج رأسه من المسجد خاصة، ولكان يخرج بجملته ليفعل حاجته من تسريح رأسه في بيته، وقد أكدت ذلك بقولها في بقية الحديث: "وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" وقد يقال: هذا فعل لا يدل على الوجوب.
وجوابه: أنه بيّن به الاعتكاف المذكور في القرآن، وذلك يدل على أن هذه طريقة الاعتكاف وهيئته المعروفة. والله أعلم" (1) .
الخروج إلى الجمعة
اختلفوا في خروجه إلى الجمعة:
* فقال مالك في رواية وأبو حنيفة: يخرج إليها ويبني.
* ومشهور مذهب مالك: أن من أراد اعتكاف عشرة أيام لزم اعتكافها في الجامع.
وإن اعتكف في غيره وخرج إلى الجمعة بطل اعتكافه.
* وقال سعيد بن جبير والحسن البصري والنخعي وأحمد وعبد الملك من أصحاب مالك وابن المنذر وداود وأبو حنيفة في رواية عنه: لا يبطل اعتكافه.
* وللشافعي قولان أشهرهما: أنه يبطل اعتكافه.
واتفقوا على أنه يخرج وإنما اختلفوا في البطلان.
الصوم في الاعتكاف.
هل الصوم شرط في الاعتكاف أم لا؟
* قال النووي في "الجموع" (6/511) : "مذهبنا أنه مستحب وليس
__________
(1) "طرح التثريب" (4/177) لأبي زرعة العراقي.(2/182)
شرطا لصحة الاعتكاف على الصحيح عندنا، وبهذا قال الحسن البصري وأبو ثور وداود وابن المنذر، وهو أصح الروايتين عن أحمد.
قال ابن المنذر وهو مروي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود.
* وقال ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير والزهري ومالك والاوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق في رواية عنهما: لا يصح إلا بصوم. قال القاضي عياض: وهو قول الجمهور وهو الأصح والراجح. لقول السيدة عائشة -رضي الله عنها-: "السنة فيمن اعتكف أن يصوم".
قال ابن التركماني في "الجوهر النقي" (4/317) : "مذهب المحدثين أن الصحابي إذا قال: السنة كذا، فهو مرفوع.
والسنة: السيرة والطريقة، وذلك قدر مشترك بين الواجب والسنة المصطلح عليها. ومثله حديث "سنّوا بهم سنة أهل الكتاب"، ولم تكن السنة المصطلح عليها معروفة في ذلك الوقت وذكر سنة الصوم للمعتكف مع ترك المس والخروج دليل على أن المراد الوجوب لا السنة المصطلح عليها".
* زد على ذلك ما قاله ابن القيم في "زاد المعاد" (2/87) أنه: "لم ينقل عن النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه اعتكف مفطرًا قط. ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلا مع الصوم، ولا فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا مع الصوم. فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف: "أن الصوم شرط في الاعتكاف، وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية".
* قال الإمام الجصّاص في "أحكام القرآن" (1/245) : "لما كان الاعتكلاف اسمًا مجملاً لما بينا، كان مفتقرًا إلى البيان، فكل ما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اعتكافه فهو وارد مورد البيان، فيجب أن يكون على الوجوب، لأن فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب إلا ما قام دليله، فلما ثبت عن
__________
(1) رواه أبو داود والبيهقي وسنده صحيح.(2/183)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجب أن يكون الصوم من شروطه التي لا يصح إلا بها كفعله في الصلاة لأعداد الركعات والقيام والركوع والسجود لما كان هذا كله على وجه البيان كان على الوجوب".
* شبهة:
إن قيل روى البخاري عن ابن عمر أن عمر -رضي الله عنه- سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال: "أوف بنذرك".
فلو كان الصوم شرطا لما صح اعتكافه الليل لأنه لا صيام فيه؟
فالجواب من وجوه:
أ- أن الروايات في الحديث اختلفت.
ففي إحداها: إنه كان عليه اعتكاف يوم في الجاهلية فأمره أن يفي به.
وفي ثانيهّ: سأل عمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نذر كان نذره في الجاهلية اعتكاف،
فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوفائه.
وفي ثالثة: اذهب فاعتكف يوماً.
وفي رابعة: فاعتكف ليلة.
والروايتان الأوليان في "الصحيحين" والثالث في "صحيح مسلم" والرابعة في "البخارى" فلا حجة في إيراده على ما ذكر لاختلاف الروايات.
ب- قال ابن حجر في "الفتح" (4/322) : "فمن أطلق ليلة أراد بيومها، ومن أطلق يوماً أراد بليلته" فإن: "الليلة تغلب في لسان العرب على اليوم حكى عنهم أنم قالوا: صمنا خمسًا والخمس يطلق على الليالي، فإنه لو أطلق علي الأيام لقيل خمسة، وأطلقت الليالي وأريدت الأيام" (1) .
* قال ابن عبد الهادي في "التنقيح": "ويمكن الجمع في حديث عمر
__________
(1) "إحكام الأحكام" (2/56) ابن دقيق العيد.(2/184)
بين اللفظين بأن يكون المراد اليوم مع الليلة، أو الليلة مع اليوم وحينئذ فلا يكون فيه دليل على صحة الاعتكاف بغير صوم فإن الاعتكاف لم يشرع إلا مع الصيام، وهذا القول هو القوي إن شاء الله وهو أن الصيام شرط في الاعتكاف، فإن الاعتكاف لم يشرع إلا مع الصيام، وغالب اعتكاف النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه إنما كان في رمضان" (1) .
جـ- روى الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر: "أن عمر نذر في الشرك أن يعتكف ويصوم فامره عليه الصلاة والسلام بعد إسلامه أن يفي بنذره"، وقد حسن الدارقطني إسناده.
* شبهة أخرى:
تقدم الحديث في اعتكافه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشر الأوائل من شوال، وهذا يتناول اعتكافه يوم العيد، ويوم العيد نُهى عن صومه.
* والجواب من وجهين:
(1) قال ابن عبد الهادي في "التنقيح": "هذا ليس بصريح في دخول يوم الفطر لجواز أن يكون أول العشر الذي اعتكف ثاني يوم الفطر بل هذا هو الظاهر. وقد جاء مصرحًا في حديث "فلما أفطر اعتكف" (2) .
(2) أن في إحدى روايتيه عند البخاري كما تقدم أنه صام "العشر الأواخر فلا حجة في هذه الشبهة البتة" (3) .
***
مذاهب العلماء في أقل الاعتكاف
أما زمان الاعتكاف فليس لأكثره عندهم حد واجب.
* أما أقل زمن الاعتكاف.
__________
(1، 2) نقله عند الزيلعي في "نصب الراية" (2/489) .
(3) "الإنصاف في أحكام الاعتكاف" (16-19) .(2/185)
* فعند الشافعي وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء أنه لا حد له، واختلف عند مالك في ذلك، فقيل: ثلاثة أيام وقيل يوم وليلة، وقال ابن القاسم عنه: أقله عشرة أيام، وعند البغدادين من أصحابه: أن العشرة استحباب، وأن أقله يوم وليلة.
* قال النووي في "المجموع" (6/515) : "الصحيح المشهور من مذهبنا: أنه يصح كثيره وقليله ولو لحظة وهو مذهب: داود (1) والمشهور عن أحمد ورواية عن أبي حنيفة.
* وقال مالك وأبو حنيفة في المشهور عنه: أقله يوم بكماله بناء على أصلهما في اشتراط الصوم.
"والسبب في اختلافهم معارضة القياس للأثر.
* أما القياس فإنه من اعتقد أن من شرطه الصوم قال: لا يجوز اعتكافه ليلة، فذا لم يجز اعتكافه ليلة فلا أقل من يوم وليلة، إذ انعقاد صوم النهار إنما يكون بالليل، وأما الأثر المعارض فما خرجه البخاري من حديث عمر ولا معنى للنظر مع الثابت من مذهب الأثر" (2) .
ما يباح للمعتكف
1- يجوز له الخروج لقضاء الحاجة وجلب طعامه وشرابه إن لم يجد من يحمله إليه، كما يجوز له الخروج إلى الغسل إن لم يكن بالمسجد مكان له.
2- يجوز له تسريح شعره وتمشيطه.
3- يجوز له التوضأ ونحوه في المسجد. وقد روى رجل من الصحابة قال: "حفظت لك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ في المسجد" (3) .
4- ويجوز له أن يتخذ خيمة صغيرة أو شبهها مثل خباء في مؤخرة
__________
(1) وابن علية.
(2) "بداية المجتهد" (2/205-206) .
(3) رواه أحمد بسند صحيح.(2/186)
المسجد ليعتكف فيها، فقد كانت عائشة -رضي الله عنها- تضرب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خباءً إذا اعتكف (1) وكان ذلك بأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) .
* وقد اعتكف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرة في قبة تركية على سدتها حصير.
قال ولي الدين العراقي في "طرح التثريب" (4/175) : "وفيه -أي حديث عائشة- في ترجيل شعر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتقدم أن الاشتغال بتسريح الشعر لا ينافي الاعتكاف.
قال الخطابي: وفي معناه حلق الرأس وتقليم الأظافر وتنظيف البدن من الشعث والدرن. ويؤخذ من ذلك جواز فعل سائر الامور المباحة كالأكل والشرب وكلام الدنيا وعمل الصنعة من خياطة وغيرها".
5- ورّخص الجمهور له في البيع والشراء لما لابد منه، إلا أنهم اتفقوا على أنه لا يشتغل بالتجارة ولا بالحرفة للاكتساب، لأن ذلك ينافي الاعتكاف.
6- قال ابنُ حجر في "الفتح" (4/329) : "جواز اشتغال المعتكف بالأمور المباحة من: تشييع زائره والقيام معه والحديث مع غيره، وإباحة خلوة المعتكف بالزوجة، وزيارة المرأة للمعتكف".
الجماع في الاعتكاف
* أجمع العلماء على أن الاعتكاف يفسد بالجماع عمداً قال الله تعالى: ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد قال الشوكاني في "السيل الجرار" (2/136) : "ودل عليه إجماع الأمة".
* فإن باشر فيما دون الفرج بشهوة قال مالك: يبطل مطلقًا وهو أصح القولين عند الشافعية.
وقال أبو حنيفة وأحمد: إن أنزل بطل اعتكافه وإلا فلا.
وقال عطاء: لا يبطل مطلقًا واختاره ابن المنذر.
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه مسلم.(2/187)
* المرأة المعتكفة كالرجل المعتكف في تحريم الجماع والمباشرة بشهوة وفي إفساده بهما. ويفرق بين العالمة الذاكرة المختارة والناسية والجاهلة والمكرهة.
* إذا استمنى بيده فإن لم ينزل لم يبطل اعتكافه بلا خلاف وإن أنزل فالأصح البطلان" (1) .
من جامع ناسيا في اعتكافه
ذهب الشافعية وداود إلى: أنه لا يفسد اعتكافه.
وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: يفسد.
والجميع متفقون على: عدم جواز المباشرة والقبلة للمعتكف.
هل تجب الكفارة على من جامع
* واختلفوا في وجوب الكفارة عليه، والجمهور على: أنه يقضى اعتكافه الذي أفسده بالجمع ولا شيء عليه.
وقال الحسن البصري والزهري: عليه مثل كفارة المجامع في رمضان هي مثلها.
وقال مجاهد: يتصدق بدينارين.
وسبب الخلاف: هل يجوز القياس في الكفارات أم لا؟
فمن قاس على كفّارة الجماع في رمضان قال: هي مثلها.
* وأما مجاهد فلعله قاسها على المجامع امرأته وهي حائض عند من أوجب الكفارة عليه. والله أعلم.
والراجح أنه ليس عليه إلا القضاء حتى يثبت دليل من الشارع على الوجوب.
هل يجوز للمعتكف أن يتزوج
قال النووي: "يجوز أن يتزوج وأن يُزوّج وقد نص عليه الشافعي في المختصر" (2) .
__________
(1) "المجموع" للنووي (6/556) .
(2) "المجموع" (6/559) .(2/188)
الطيب للمعتكف
قال النووي في "المجموع" (6/564) : "مذهبنا أنه لا كراهية فيه. قال ابن المنذر: وبه قال أكثر العلماء منهم: مالك وأبو حنيفة وأبو ثور.
* وقال عطاء لا تتطيب المعتكفة قال: فإن خالفت لم يقطع تتابعها قال: وقال معمر: يكره أن يتطيب المعتكف. قال ابن المنذر: لا معنى لكراهية ذلك قال: ولعل عطاء إنما كره طيبها لكونها في المسجد، كما يكره لغير المعتكفة الطيب إذا أرادت الخروج إلى المسجد".
المعتكفه إذا حاضت
قال النووي في "المجموع" (6/549) : "مذهبنا أنه يلزمها الخروج من المسجد، وإذا خرجت سكنت في بيتها كما كانت قبل الاعتكاف حتى ينقطع حيضها، ثم تعود إلى اعتكافها، وحكاه ابن المنذر عن عمرو بن دينار والزهري وربيعة والأوزاعي ومالك وأبي حنيفه.
* قال: وقال أبو قلابة: تضرب خبائها على باب المسجد قال النخعي: تضربه في دارها حتى تطهر فتعود إلى الاعتكاف".
* قال النووي: "المستحاضة المعتكفة لا يجوز لها الخروج من المسجد إن كان اعتكافها نذرًا سواء المتتابع وغيره، لأنها كالطاهرة لكنها تتحرز من تلويث المساجد وقد ثبت في "صحيح البخاري" عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "اعتكف مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة من أزواجه وهي مستحاضة فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي"، وممن ذكر المسألة صاحب "الحاوي" وابن المنذر وأشار إلى أنها مجمع عليها".
البيع والشراء للمعتكف
قال النووي في "المجموع" (6/564) : "الأصح من مذهبنا كراهيته إلا لما لابد منه. قال ابن المنذر: "وممن كرهه عطاء ومجاهد والزهري،(2/189)
البيع والشراء للمعتكف
قال النووي في "المجموع" (6/564) : "الأصح من مذهبنا كراهيته إلا لما لابد منه. قال ابن المنذر: "وممن كرهه عطاء ومجاهد والزهري،
ورخص فيه أبو حنيفة وقال سفيان الثوري وأحمد: يشتري الخبز إذا لم يكن له من يشتري.
* وعن مالك رواية كالثوري، ورواية يشتري ويبيع اليسير.
قال ابن المنذر: وعندي لا يبيع ولا يشتري، إلا ما لابد له منه إذا لم يكن له من يكفيه ذلك.
قال فأما سائر التجارات فإن فعلها في المسجد كره، وإن خرج لها بطل اعتكافه، وإن خرج لقضاء حاجة الإنسان فباع واشترى في مروره لم يكره والله أعلم.
* إذا خاط المعتكف ما تدعو الحاجة إليه جاز له ذلك.
* قال الشافعي: لا يفسد الاعتكاف سباب ولا جدال.
* إذا تعين عليه أداء شهادة جاز له الخروج لأدائها ولا يبطل اعتكافه.
مسألة
اختلفوا إذا اشترط التتابع في النذر أو كان التتابع لازمًا عند من يرى ذلك، فما الذي يقطعه؟
وهي: يبني أو يستأنف؟
ذهب الأئمة الأربعة إلى أنه إذا قطعه المرض يبني، وذهب الثوري إلى أنه يستأنف. والراجح إن شاء الله قول الجمهور لان المرض عذر شرعي. ومثل المريض المغمى عليه والمجنون.
* قال النووي: لو كثر خروج المعتكف للحاجة لعارض يقتضيه كإسهال ونحوه فوجهان أصحهما لا يضره.(2/190)
مرض المعتكف
المرض على أقسام:
الأول: المرض اليسير الذي لا تشق معه الإقامة في المسجد كصداع وحمى خفيفة ووجع الضرس والعين فلا يجوز بسببه الخروج من المسجد إذا كان الاعتكاف نذرًا متتابعًا، فإنا خرج بطل اعتكافه.
الثاني: مرض يشق معه الإقامة في المسجد لحاجته إلى الفرش والخدم وتردد الطبيب ونحو ذلك فيباح له الخروج، فإذا خرج ففي انقطاع التتابع طريقان أحدهما وهو ظاهر النص: لا ينقطع.
الثالث: مرض يخاف معه تلويث المسجد فله الخروج ولا ينقطع التتابع.
إذا أخرجه السلطان
قال النووي في "المجموع" (6/545) : "قال الشافعي في "المختصر": فإن مرض أو أخرجه السلطان اعتكافه واجب، فإذا برئ أو خُلي بني، فإن مكث بعد برئه شيئًا من غير عذر ابتدأه هذا نصه".
* يجوز للمعتكف أن يصعد منارة المسجد إن كانت مبنية في المسجد أو يكون بابها في المسجد للأذان أو غيره.
ويجوز له الصعود إلى سطح المسجد للأذان وغيره.
قضاء الاعتكاف
الجمهور على: وجوب قضاء الاعتكاف على المتطوع.
إذا قطعه بلا عذر لما ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يعتكف العشر الأواخر ولم يعتكف واعتكف عشرًا من شوال وأجمعوا على وجوب قضاء النذر والجمهور على: أن من فعل كبيرة فسد اعتكافه.
الأولى للمعتكف أن يبيت في المسجد(2/191)
حتى يخرج للمصلى
قال ابن عبد البر في "التمهيد" (23/54) : "قال مالك في "الموطأ" أنه رأى أهل الفضل إذا اعتكفوا العشر الأواخر من رمضان لا يرجعون إلى أهليهم حتى يشهدوا العيد مع الناس".
* وذكر ابن أبي شيبة في "مصنفه": من كان يحب أن يغدو المعتكف كما هو من مسجده إلى المصلى".
* خرج أبو قلابة إلى المصلى.
* وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا يستحبون للمعتكف أن يبيت ليلة الفطر في مسجده حتى يكون غدوه منه.
وعن أبي مجلز قال: "بت ليلة الفطر في المسجد الذي اعتكفت فيه حتى يكون غدوك إلى مصلاك منه" (1) .
* قال زياد بن السكن: كان زبيد اليامي ومعه جماعة إذا كان يوم النيروز ويوم المهرجان اعتكفوا في مساجدهم، ثم قالوا: إن هؤلاء قد اعتكفوا على كفرهم واعتكفنا على إيماننا فاغفر لنا (2) .
* يقول شيخ الإسلام ابن القيم: "لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفًا على جمعيته على الله ولم شعثه بالإقبال بالكلية على الله تعالى، وإن شعث القلب لا يلُمه إلا الإقبال على الله تعالى.
شرع الله الاعتكاف الذي مقصوده وروحه: عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه والخلوة به والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والأشتغال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه والاقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته فيستولى عليه بدلها ويصير الهم كله به والخطرات كلها بذكره والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق فيعده بذلك لأنسه
__________
(1) "مصنف ابن أبي شيبه" (2/504) طبع دار الفكر.
(2) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (رقم 3683) إسناده لا بأس به.(2/192)
به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه، فهذا هو مقصود الاعتكاف الأعظم" (1) .
***
__________
(1) "زاد المعاد" (2/86-87) .(2/193)
الباب السادس عشر
وداع رمضان
"إذا كنت تبكي وهم جيرة فكيف تكون إذا ودّعوا"(2/195)
العشر الأواخر من رمضان
* في "الصحيحين" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله" هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم: "أحيا الليل وأيقظ أهله وشدّ المئزر" (1) .
* وفي رواية لمسلم عنها قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره".
* كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر منها:
(1) إحياء الليل: فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله، ويحتمل أن يريد بإحياء الليل إحياء غالبه.
(2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوقظ أهله للصلاة: قال سفيان الثوري: أحبّ إلى إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك.
وقد صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يطرق فاطمة وعليًا ليلاً فيقول لهما: ألا تقومان فتصليان؟! وكان يوقظ عائشة بالليل إذا أقضى تهجده وأراد أن يوتر قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء" (2) .
وفي "الموطا" أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل من شاء الله أن يصلي حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة يقول لهم: الصلاة، الصلاة
__________
(1) قطعة من حديث عائشة المتفق عليه.
(2) صحيح: رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي وابن حبان والحاكم وابن خزيمة عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3494) وفي رواية: "فإن قاما من ليلتهما هذه كتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات".(2/197)
ويتلو هذه الآية: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) ... الآية.
* كانت امرأة حبيب العجمي أبي محمد تقول له بالليل: قد ذهب الليل، وبين أيدينا طريق بعيد وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدّامنا ونحن قد بقينا.
يا نائم الليل كم ترقد ... قم يا حبيبي قد دنا الموعد
وخذ من الليل وأوقاته ... وردا إذا ما هجع الرقد
من نام حتى ينقضي ليله ... لم يبلغ المنزل أو يجهد
قل لذوي الألباب أهل التقى ... قنطرة العرض لكم موعد
(3) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يشد المئزر واختلفوا في تفسيره: فمنهم من قال: هو كناية عن شدة جده واجتهاده في العبادة كما يقال: فلان يشد وسطه ويسعى في كذا، وهذا فيه نظر فإنها قالت: جد وشد المئزر وعطفت شد المئزر على جده، والصحيح أن المراد: اعتزاله للنساء. وبذلك فسره السلفُ والأئمة المتقدمون منهم: سفيان الثوري.
وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غالبًا يعتكف العشر الأواخر، والمعتكف ممنوع من قربان النساء بالنص والإجماع.
وقد قالت طائفة من السلف في تفسير قوله تعالى: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم) إنه طلب ليلة القدر، والمعنى في ذلك: أن الله تعالى لما أباح مباشرة النساء في ليالي الصيام إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر لئلا يشتغل المسلمون في طول ليالي الشهر بالاستمتاع المباح فيفوتهم طلب ليلة القدر. فأمر ذلك بطلب ليلة القدر بالتهجد من الليل خصوصًا في الليالي المرجوّ فيها ليلة القدر.
فمن هنا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصيب من أهله في العشرين من رمضان، ثم يعتزل نساءه ويتفرغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر.(2/198)
(4) تأخيره للفطور إلى السحور: في "الصحيحين" عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوصال في الصوم" فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله؟ فقال: "وأيكم مثلي إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني". ويتأكد تأخير الفطر في الليالي التي ترجى فيها ليلة، القدر.
(5) اغتساله بين العشاءين: قال ابن جرير: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر وكان النخعي يغتسل في العشر كل ليلة.
* ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر فأمر ذر بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع وعشرين من رمضان.
ورُوي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أنه إذا كان ليلة أربعين وعشرين اغتسل وتطيب ولبس حلة إزار ورداء، فإذا أْصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قبل.
* وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين ويلبس ثوبين جديدين ويستجمر. ويقول: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة أهل المدينة (1) والتي تليها ليلتنا، يعني: البصريين وقال حماد بن سلمة: كان ثابت البناني وحميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيبان ويطيبون المسجد بالنضوح والدخنة في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر. وقال ثابت: كان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر. فتبين بهذا أنه يستحب في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظف والتزين، والتطيب بالغسل والطيب واللباس الحسن كما يشرع ذلك في الجمع والأعياد وسائر الصلوات.
ولا يكمل تزين الظاهر إلا بتزين الباطن بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى وتطيره من الذنوب وأوضارها، فإن زينة الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئًا قال الله تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس
__________
(1) أي أرجى الليالي ليلة القدر عند أهل المدينة.(2/199)
التقوى ذلك خير) .
إذا المرء لم يلبس ثيابًا من التقى ... تقلب عريانا وإن كان كاسيًا
ويوصى الشاعر بترك زاد الدنيا بالصوم والحصول على زاد الآخرة وهو التقوى وذلك لقول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) .
زاد بزاد ويا شتّان بينهما ... تقوى الإله بصوم الشهر تشريها
لا يصلح لمناجاة الملك في الخلوات إلاَّ من زيّن ظاهره وباطنه وطهرهما خصوصًا لملك الملوك الذي يعلم السر وأخفى وهو لا ينظر إلى صوركم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
قالوا غدًا العيد ماذا أنت لابسه ... فقلت خلعة ساق حبه جرعا
فقر وصبر هما ثوبان تحتهما ... قلب يرى إلفه الأعياد والجمعا
أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به ... يوم التزاور بالثوب الذي خلعا
الدهر لي مأتم إن غبتَ يا أملي ... والعيد ما كنت لي مرأى ومستمعا
(6) الاعتكاف: ففي "الصحيحين" "عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله".
وإنما كان يعتكف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه العشر التي يطلب فيها ليلة القدر قطعًا لإشغاله وتفريغًا للياليه وتخليًا لمناجاة ربه وذكره ودعائه، وكان يحتجر حصيرًا يتخلى فيها عن الناس فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم" (1) .
فالمبادرة المبادرة إلى اغتنام العمل فيما بقى من الشهر فعسى أن يستدرك به ما فات من ضياع العمر.
__________
(1) "لطائف المعارف" (207-213) .(2/200)
تولى العمر في سهو ... وفي لهو وفي خسر
فيا ضيعة ما أنفقت في الأيام من عمري
ومالي في الذي ضيعت من عمري من عذر
فما أغفلنا عن واجـ ... ـبات الحمد والشكر
أما قد خصنا الله ... بشهر أيما شهر
بشهر أنزل الرحمن فيه أشرف الذكر
وهل يشبهه شهر ... وفيه ليلة القدر
فكم من خبر صحّ ... بما فيها من الخير
روينا عن ثقات أنها تطلب في الوتر
فطوبى لامرئ يطلبها في هذه العشر
ففيها تنزل الأملا ... ك بالأنوار والبر
وقد قال "سلام هي حتى مطلع الفجر"
ألا فادخروها إنها من أنفس الذكر
فكم من معتق فيها ... من النار ولا يدري (1)
في الليالي العشر ينال القوم مطلوبهم بخدمة محبوبهم. "رياح الأسحار تحمل أنين المذنبين وأنفاس المحبين وقصص التائبين ثم تعود بردّ الجواب بلا كتاب".
أعلتمُ أن النسيم إذ أسرى ... حمل الحديث إلى الحبيب كما جرى
جهل الحبيب بأنني في حبهم ... سهر الدجى عندي ألذ من الكرى
__________
(1) "لطائف المعارف" (207-213) .(2/201)
فإذا ورد بريد برد السحر يحمل ملطفات الألطاف لم يفهمها غير من كتبت إليه.
نسيم صبا نجد متى جئت حاملاً ... تحيتهم فاطو الحديث عن الركبِ
ولا تذع السر المصون فإنني ... أغار على ذكر الأحبة من صحبي
يا يعقوب الهجر قد هبت ريح يوسف الوصل، فلو استنشقت لعدت بعد العمى بصيرًا، ولوجدت ما كنت لفقده فقيرًا.
كان لي قلب أعيش به ... ضاع مني في تقلبه
رب فاردده عليّ فقد ... عيل صبري في تطلبه
واغث ما دام بي رمق ... يا غياث المستغيث به
قال يحيى بن معاذ: ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو.
إن كنت لا أصلح للقرب ... فشأنكم عفوٌ عن الذنب
كان مطرف يقول في دعائه: "اللَّهم ارض عنا، فإن لم ترض عنا فاعفَ عنا".
من عظمت ذنوبه في نفسه لم يطمع في الرضا وكان غاية أمله أن يطمع في العفو ومن كملت معرفته لم ير نفسه إلا في هذه المنزلة.
يا رب عبدك قد أتاك ... وقد أساء وقد هفا
يكفيه منك حياؤ ... هـ من سوء ما قد أسلفا
حمل الذنوب على ... الذنوب الموبقات وأسرفا
وقد استجار بذيل عفوك ... من عقابك ملحفا
رب اعف عنه ... فلانت أولى من عفا (1)
__________
(1) "لطائف المعارف".(2/202)
في وداع رمضان
إخوتاه:
إذا أكمل الصائمون صيام رمضان وقيامه فقد وفوا ما عليهم من العمل وبقى ما لهم من الأجر وهو المغفرة.
من وفّى ما عليه من العمل كاملاً وفّى له الأجر كاملاً، ومن سلم ما عليه موفرا تسلم ماله نقدًا لا مؤخرًا.
ما بعتكم مهجتي إلا بوصلكم ... ولا أسلمها إلا يدًا بيد
فإن وفيتهم بما قلتم وفيت أنا ... وإن أبيتم يكون الرهن تحت يدي
ومن نقص من العمل الذي عليه، نقص من الأجر بحسب نقصه فلا يلم إلا نفسه.
قال سلمان: الصلاة مكيال فمن وُفى وفيّ له ومن طفف فقد علمتم ما قيل في المطففين. فالصيام وسائر الأعمال على هذا المنوال من وفّاها فهو من خيار عباد الله الموفين، ومن طفف فيها فويل للمطففين، أما يستحيي من يستوفى مكيال شهواته ويطفف في مكيال صيامه وصلاته.
غدًا توفى النفوس ما كسبت ... ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم وإن أساؤا فبئس ما صنعوا
كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكمال، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده وهؤلاء الذين (يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) .
كانوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منهم بالعمل، وقد سمعوا قول الله عز وجل: (إِنما يتقبل الله من المتقين) .
عن فضالة بن عبيد قال: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إليّ من الدنيا وما فيها لأن الله يقول: (إِنما يتقبل الله من المتقين) .(2/203)
* وقال مالك بن دينار، الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل.
* وقال عبد العزيز بن أبي داود: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع عليهم الهمّ أيقبل منهم أم لا؟
* وخرج عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- في يوم عيد الفطر فقال في خطبته: "أيها الناس إنكم صمتم لله ثلاثين يومًا وقمتم ثلاثين ليلة وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم".
كان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر فيقال له: إنه يوم فرح وسرور فيقول: صدقتم، ولكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملاً فلا أدري أيقبله مني أم لا، ورأى وهيب بن الورد قومًا يضحكون في يوم عيد فقال: إن كان هؤلاء تقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان لم يتقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين!!
* وعن الحسن قال: إن الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون.
لعلك غضبان وقلبي غافل ... سلام على الدارين إن كنت راضيًا
فياليت شعري من هذا المقبول فنهنّيه، ومن هذا المحروم فنعزيه.
ماذا فات من فاته خير رمضان، وأي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان، كم بين من حظه فيه القبول والغفران، ومن كان حظه فيه الخيبة والخسران.
متى يغفر لمن لا يغفر له في هذا الشهر؟ من يقبل من رد في ليلة القدر.
متى يصلح من لا يصلح في رمضان؟ متى يصلح من كان فيه من داء الجهالة والغفلة مرضان؟!
إذا الروض أمسى مجدبًا في ربيعه ... ففي أي حين يستنير ويُخصِبُ
كل ما لا يثمر من الأشجار في أوان الثمار فإنه يقطع، ثم يوقد في النار.
* من فرط في الزرع في وقت البدار لم يحصد يوم الحصاد غير الندم والخسران.(2/204)
ترحل شهر الصبر والهفاه وانصرما ... واختص بالفوز في الجنات من خدما
وأصبح الغافل المسكين منكسرًا ... مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرما
من فاته الزرع في وقت البدار فما ... تراه يحصد إلا الهمّ والندما
* يا إخوتاه شهر رمضان يفاض على المتقين في أوله خلع الرحمة والرضوان، ويعامل أهل الإحسان بالفضل والإحسان، وأما أوسط الشهر فالأغلب عليه المغفرة، وأما آخر الشهر فيعتق فيه من النار من أوبقته الأوزار واستوجب النار بالذنوب الكبار، وإنما كان يوم الفطر من رمضان عيد لجميع الأمة لأنه تعتق فيه أهل الكبائر من الصائمين من النار، فيلتحق فيه المذنبون بالأبرار.
* رُؤى بعض العارفين ليلة عيد يبكي على نفسه وينشد:
بحرمة غربتي كم ذا الصدود ... ألا تعطف عليّ ألا تجودُ
سرور العيد قد عمّ النواحي ... وحزني في ازدياد لا يبيد
فإن كنت اقترفت خلال سوء ... فعذري في الهوى أن لا أعود
فيا أرباب الذنوب العظيمة: الغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة، فما منها عوض ولا لها قيمة فمن يعتق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة، والمنحة الجسيمة.
يا من أعتقه مولاه من النار: إياك أن تعود بعد أن صرت حرا إلى رق الأوزار، أيبعدك مولاك من النار وتتقرب منها، وينقذك منها وأنت توقع نفسك فيها ولا تحيد عنها.
وإن امرءًا ينجو من النار بعدما ... تزوّد من أعمالها لسعيدُ
إن كانت الرحمة للمحسنين فالمسيء لا ييأس منها، وإن تكن المغفرة للمتقين فالظالم غير محجوب عنها.
إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يرجو ويدعو المذنب(2/205)
فيا أيها العاصي وكلنا ذلك لا تقنط من رحمة الله بسوء أعمالك، فكم يعتق من النار في هذه الأيام من أمثالك، فأحسن الظن بمولاك وتب إليه فإنه لا يهلك على الله هالك
إذا أوجعتك الذنوب فداوها ... برفع يد بالليل والليل مظلمُ
ولا تقنطن من رحمة الله إنما ... قنوطك منها من ذنوبك أعظمُ
فرحمته للمحسنين كرامة ... ورحمته للمذنببن تكرمُ
كان بعض السلف إذا صلى استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه إذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم فكيف حال المسيئين مثلنا في عباداتهم ارحموا مَنْ حسناتهُ كلها سيئات وطاعاته كلها غفلات.
أستغفر الله من صيامي ... طول زماني ومن صلاتي
يوم يرى كله خروق ... وصلاته أيّما صلاة
مستيقظ في الدجى ولكن ... أحسن من يقظتي سباتي
من استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر ويعود، فصومه عليه مردود، وباب القبول عنه مسدود" (1) .
"كان حسان بن أبي سنان يصوم الدهر ويفطر على قرص ويتسحر بآخر، فنحل وسقم جسمه حتى صار كهيئة الخيال، فلما مات وأدخل مغتسلة ليغسل كشف الثوب عنه فذا هو كالخيط الأسود قال: وأصحابه يبكون حوله.
قال حُريث: فحدثني يحيى البكاء وإبراهيم بن محمد العُرنيّ قالا: لما نظرنا إلى حسان على مغتسله وما قد أبلاه الدءوب استدمع أهل البيت وعلت أصواتهم فسمعنا قائلاً يقول من ناحية البيت:
__________
(1) "لطائف المعارف".(2/206)
تجوع للإله لكي يراه ... نحيل الجسم من طول الصيام
فوالله ما رأينا في البيت إلا باكيًا ونظرنا فلم نجد أحدًا.
قال حريث بن طرفة: فكانوا يرون أن بعض الجن قد بكاه" (1) .
* أين من كان إذا صام صان الصيام، وإذا قام استقام في القيام، أحسنوا الإسلام ثم رحلوا بسلام، فما بقى إلا من إذا صام افتخر بصيامه وصال، وإذا قام عجب بقيامه وقال: كم بين خليّ وشجيّ، وواجد وفاقد، وكاتم ومبدي.
"عباد الله إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، فمن منكم أحسن فيه فعليه التمام، ومنْ فَرط فليختمه بالحسنى والعمل بالختام، فاستغنموا منه ما بقى من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملاً صالحاً يشهد لكم به عند الملك العلاّم، وودعوه عند فراقه بأزكى تحية وسلام.
سلام من الرحمن كل أوان ... على خير شهر قد مضى وزمانِ
سلام على شهر الصيام فإنه ... أمان من الرحمن كل أمان
لئن فنيت أيامك الغر بغتة ... فما الحزن من قلبي عليك بفان" (2)
"شهر رمضان، وأين هو شهر رمضان؟ ألم يكن منذ لحظات بين أيدينا، ألم يكن ملء أسماعنا وملء أبصارنا؟ ألم يكن هو حديث منابرنا، زينة منائرنا، وبضاعة أسواقنا، ومادة موائدنا، وسمر أنديتنا، وحياة مساجدنا فأين هو الآن!! " (3) .
* أي شهر رمضان، أي سلطان الشهور وجامع البشر والسرور جمع
__________
(1) "لطائف المعارف".
(2) "التبصرة" لابن الجوزي (1/199) .
(3) "وداع رمضان" لمحمد عبد الله دراز.(2/207)
البستان للزهور، أي شهر رمضان باث الأنس والحبور بث البدور للنور.
* أي شهرنا الكريم، وموسم خيرنا الوسيم، أي شهر المكرمات والكرامات، انجابت فيك الظلمات والظلامات، وتضاعفت فيك الحسنات، وفتحت أبواب السموات، لو لم يكن لك من الفضل إلا ليلة القدر، وتردد الملائكة حتى مطلع الفجر لكان كفاية في تفضيلك ونهاية في تبجيلك.
* أي شهر الأرواح، تهتز فيك وترتاح، وتطير بغير جناح.
* أي شهر النعيم ووددنا أن لو كان شهرك حجة (1) ويا ليتك فينا ما تزال مقيمًا.
* أي شهرنا الذي هيم نفوسنا، أي شهرنا المعظم قدره، المشرف ذكره.
"لقد ذهبت أيامه وما أطعتم، وكتبت عليكم فيه آثامه وما أضعتم، وكأنكم بالمشمرين فيه وقد وصلوا وانقطعتم، أترى ما هذا التوبيخ لكم أو ما سمعتم".
ما ضاع من أيامنا هل يغرمُ ... هيهات والأزمان كيف تقوّمُ
يوم بأرواح تباع وتشترى ... وأخوه ليس يسام فيه درهم
قلوب المتقين إلى هذا الشهر تحنُّ ومن ألم فراقه تئن.
دهاك الفراق فما تصنعُ ... أتصبر للبين أم تجزع
إذا كنت تبكي وهم جيرة ... فكيف تكون إذا ودّعوا
* كيف لا تجرى للمؤمن على فراقه دموع، وهو لا يدري هل بقى له في عمره إليه رجوع.
تذكرت أيامًا مضت ولياليا ... خلتْ فجرتْ من ذرهنّ دموعُ
ألا هل لها يوماً من الدهر عودة ... وهل لي إلى يوم الوصال رجوعُ
وهل بعد إعراض الحبيب تواصل ... وهل لبدور قد أفلن طلوعُ
__________
(1) سنة.(2/208)
* أين حرق المجتهدين في نهاره، أين قلق المتهجدين في أسحاره، كيف حال من خسر في أيامه ولياليه، ماذا ينفع المفرط فيه بكاؤه، وقد عظمت فيه مصيبتُ وجَل عزاؤه. كم نصح المسكين فما قبل النصح، كما دُعي إلى المصالحة فما أجاب إلى الصلح، كم يشاهد الواصلين فيه وهو متباعد، كم مرت به زمر السائرين وهو قاعد، حتى إذا ضاق به الوقت، وخاف المقت، ندم على التفريط حين لا ينفع الندم، وطلب الاستدراك في وقت العدم.
أتترك من تحب وأنت جار ... وتطلبهم وقدْ بعد المزار
وتبكي بعد نأيهم اشتياقا ... وتسأل في المنازل أين ساروا
تركت سؤالهم وهم حضور ... وترجو أن تخبرك الديارُ
فنفسك لُمْ ولا تلم المطايا ... ومتْ كمدا فليس لك اعتذارُ
* يا شهر رمضان تَدَققْ، دموع المحيين تَدفَّق، قلوبهم من ألم الفراق تَشَقَّقْ. عسى وقفة للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترفو من الصيام ما تخرّق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار يطلق، عسى من استوجب النار يُعتق.
عسى وعسى من قبل وقت التفرقِ ... إلى كلّ ما يرجو من الخير تلتقي
فيجبر مكسور ويقبل تائب ... ويعتق خطّاء ويسعد من شقى (1)
***
__________
(1) "لطائف المعارف" لابن رجب.(2/209)
مواعظ
موعظة ...
أخي: من صام عن الطعام والشراب فصومه عادة.
ومن صام عن الربا والحرام وأفطر على الحلال من الطعام فصومه عدة وعبادة.
ومن صام عن الذنوب والعصيان وأفطر على طاعة الرحمن فإنه صائم رضي.
ومن صام عن القبائح وأفطر على التوبة لعلام الغيوب فهو صائم تقى.
ومن صام عن الغيبة والبهتان وأفطر على تلاوة القرآن فهو صائم رشيد.
ومن صام عن المنكر والأغيار وأفطر على الفكرة والاعتبار فهو صائم سعيد.
ومن صام عن الرياء والانتقاص وأفطر على التواضع والإخلاص فهو سالم.
ومن صام عن خلاف النفس والهوى وأفطر على الشكر والرضا فهو صائم غانم.
ومن صام عن قبيح أفعاله وأفطر على تقصير آماله فهو صائم مشاهد.
ومن صام عن طول أمله وأفطر على تقريب أجله فهو صائمٌ زاهد.
قال ابن القيم: الصوم لجام المتقين وجنة المحاربين ورياضة الأبرار والمقربين وهو لرب العالمين.
***(2/210)
يا قادمًا بالتقى في عينك الحبّ ... طال اشتياقي فكم يهفو لكم قلبُ
صبرت عامًا أمني قرب عودتكم ... نفسي فهل يدنو لكم سرب
قل هل طيفكمو فاخضر عامرنُا ... والله أكرمنا إذ جاءنا الخصبُ
ففيكموا يرتقي الأبرار منزلةً ... والخاملون كسالى زرعهم جدب (1)
يقول الشاعر:
للعناق الألاّق قم اطلق ... الروح ... تُلقَّاهُ بكرة وعشيا
بانجذاب الأشواق رُح باشر ... الإقبال تَحسُو الأنوارَ.. طلقًا ظميا
وتزود بخير زاد -هي التقوى- ... اتخذ بُرْدَها المباركَ زيًا
عبْرَ روضاته الفسيحات فاسبح ... تقطف الهدى منه شهدًا جنيا
عند أعتاب بابه فتمسح ... تبلغ الروح منك سقف الثريا
واعمل الصالحات فيه فإن الأجر ... يربُو.. فاغنمه ربحا رضيا
وانصب الوجه للعلي تعالى ... (إنه كان وعده مأتيا)
وعلى عشرة الأواخر فانكبَّ دءوبًا ... وانهض بهن حفيا
شمر الساعدين.. أسرج قوى الإيمان ... تطوى بها السويعات طيا (2)
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يخلف قوم يحبون السَّمانة، يشهدون قبل أن يُستشهدوا" (3) .
__________
(1) المجلة الحربية رمضان (1414هـ) .
(2) المجلة الحربية رمضان (1411هـ) - للشاعر فريد قرني.
(3) رواه مسلم عن أبي هريرة.(2/211)
عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: كنا نغازي ومعنا عطاء الخرساني وكان يحيي الليل صلاة فإذا كان في جوف الليل نادى من فسطاطه يا يزيد ين جابر يا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر يا هشام بن الغاز قوموا فتوضئوا فصلوا، قيام هذا الليل وصيام هذا النهار أهون من مقطعات الحديد ولباس القطران الوحاء ثم الوحاء ثم الوحاء، النجاء ثم النجاء ثم يقبل على صلاته" (1) .
عن الهيثم بن جماذ قال: دخلت على يزيد الرقاشي وهو يبكي في يوم حار وقد عطش نفسه أربعين سنة فقال لي: أدخل تعالى نبكي على الماء البارد في اليوم الحار.
عن مالك قال: بلغني أن حسين بن رستم الأيلي دخل على قوم وهو صائم فقالوا له: أفطر فقال: إني وعدت الله وعدا، وأنا أكره أن أُخلف الله ما وعدته.
* قالوا: الصوم لذة الحرمان.
* وقالوا: الصوم رجولة مستعلنة وإرادة مستعلية (2) .
* قالوا: رمضان شهر الحرية عما سوى الله، "وفي الحرية تمام العبودية، وفي تحقيق العبودية تمام الحرية" كما يقول أحمد بن خضرويه.
* قالوا: رمضان شهر القوة فليس الشديد بالصرعة إما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.
"والصيام الذي فرضه الله على المسلمين فيه الجمع بين القوتين المعنوية والمادية جمعا رائعًا منسجمًا يعطي أحسن الثمار".
وهو من الناحية المعنوية يعطي المسلم ثلاث قوى معنوية لها أكبر الأثر في سعادة الأفراد والجماعات:
__________
(1) "شعب الإيمان".
(2) "أحكام الصيام وفلسفته في ضوء القرآن والسنة" للدكتور مصطفى السباعي المكتب الإسلامي.(2/212)
أولاهما- الصبر: وما أدراك ما الصبر وخاصة في ميدان المعركة.
ثاثيهما: الطاعة: امتثالاً لأمر الله وطاعة لرسوله.
"وهل كان خالد بن الوليد يصل إلى المثل الأعلى في القائد الذي يعزل وهو في قلب المعركة فيسلم القيادة إلى غيره، ثم ينخرط جنديًّا يقاتل بنفس الروح العالية التي كان يقاتل بها وهو قائد، ثم يقول قولتة المشهورة: "إنما أحارب لرب عمر لا لعمر".
ثالثها: النظام: فالمسلم في رمضان يأكل بنظام، وينام بنظام، ويستيقظ بنظام، والمجتمع الإسلامي في رمضان مجتمع يتجلّى فيه النظام بأروع مظاهره.
هذه هي الأخلاق التي يغرسها الصيام في نفس المسلم: الصبر والطاعة والنظام.
أترون أمة من الأمم تتحلى بهذه القوى المعنوية، ثم تجد سبيلها إلى الانهيار.
أترون جيشًا يتحلى أفراده بهذه الأخلاق القوية، ثم يجد نفسه على عتبة الهزيمة.
فلا تنس وأنت تصوم رمضان أن الله يريد أن يجعلك بالصيام مثال "القوي الأمين فحذار أن ينسلخ عنك رمضان وأنت "الضعيف الخائن" (1) .
وأنشد بعضهم:
الصوم جنة أقوام من النار ... والصوم حصن لمن يخشى من النار
والصوم ستر لأهل الخير كلهم ... الخائفين من الأوزار والعار
والشهر شهر آله العرش من به ... رب رحيم لثقل الوزر ستار
فصام فيه رجالٌ يربحون به ... ثوابهم من عظيم الشأن غفار
فأصبحوا في جنان الخلد قد نزلوا ... من بين حور وأشجار وأنهار
__________
(1) بتصرف من كلام الدكتور مصطفى السباعي في كتابه "أحكام الصيام وفلسفته".(2/213)
فضل الجوع:
رويُ عن يحيى بن معاذ -رضي الله عنه- أنه قال في شبع من الطعام عجز عن القيام، ومن عجز عن القيام افتضح بين الخدام، وإذا امتلأت المعدة رقدت الأعضاء عن الطاعات وقعدت الجوارح عن العبادات" وأنشدوا:
تجوع فإن الجوع يورث أهله ... عواقب خير عمها الدهر دائم
ولا تك ذا بطن رغيب وشهوة ... فتصبح في الدنيا وقلبك هائم
* وروي عن ذي النون المصري -رحمه الله تعالى- أنه قال: تجوع بالنهار وقم بالأسحار ترى عجبًا من الملك الجبار.
* وروي عن يحيى بن معاذ -رضي الله عنه- أنه قال: لو كان الجوع يباع في السوق لكان المريد محقوقًا إذا دخل السوق ألا يشتري شيئًا غيره.
والله تعالى قد فضلكم بدين الإسلام ومنَّ عليكم بشهر الصيام، والله أعلم، وأنشدوا:
وربك لو أبصرت يومًا تتابعت ... عزائمهم حتى لقد بلغوا الجهدَا
لأبصرت قومًا حاربوا النوم وارتدوا ... بأردية السهاد واستعملوا الكدّا
وصاموا نهارًا دائمًا ثم أفطروا ... على بلغ الأقوات واستقربوا البعدا
أولئك قوم حسّن الله فعلهم ... وأورثهم من حسن فعلهم الخلدا
* حج روح بن زنباع مرة فنزل على ماء بين مكة والمدينة فأمر فأصلحت له أطعمة مختلفة الألوان، ثم وضعت بين يديه. وبينما هو يأكل إذ جاء راع من الرعاة يرد الماء فدعاه روح بن زنباع إلى الأكل من ذلك الطعام فجاء الراعي فنظر إلى طعامه وقال: إني صائم فقال له روح: في مثل هذا اليوم الطويل الشديد الحر تصوم يا راعي؟ فقال الراعي: أفأغبن أيامي من أجل طعامك، ثم إن(2/214)
الراعي إرتاد لنفسه مكانًا فنزله وترك روح ابن زنباع فقال روح:
لقد ضننت بأيامك يا راعي ... إذ جاد بها روح بن زنباع
ثم إن روحًا بكى طويلاً وأمر بتلك الأطعمة فرفعت وقال: انظروا هل تجدون لها آكلا من هذه الأعراب أو الرعاة؟
ثم سار من ذلك المكان وقد أخذ الراعي بمجامع قلبه وصغرت إليه نفسه والله تعالى أعلم (1) .
وشهر الصوم شاهده علينا ... بأعمال القبائح والذنوب
فيا رباه عفوًا منك والطف ... بفضلك للمحير والكئيب
وهذا الصوم لا تجعله صومًا ... يصيرنا إلى نار اللهيب
سلام الله ما هبت عليه ... قبولٌ أو شمال أو جنوب
* قال صالح المرى: كان عطاء السلمي قد اجتهد حتى انقطع فقلت: له يوماً إني مكرمك بكرامة فلا ترد كرامتي فبعثت إليه شربة من سويق مع ولدي وقلت له لا تبرح حتى يشربها فجاء فقال: قد شربها فبعثت له في اليوم الثاني مثلها فجاء فقال: ما شربها، فأتيت إليه فلمته وقلت: رددت عليّ كرامتي وهذا يقويك على العبادة فقال: يا أبا بشر لقد شربتها في أول يوم واجتهدت في الثاني فلم أقدر كلما هممت بشربها ذكرت قوله تعالى: (وطعامًا ذا غصة) قال: فقلت: أنا في وادٍ وأنت في واد.
أطلتَ وعنفتني يا عزولْ ... بليت فدعني حديثي طويل
هوايَ هوىً باطن ظاهر ... قديم حديث لطيف جليل
ألا ما لذا الليل لا ينقضي ... كذا ليل كل محب طويل
أبيت أساهر نجم الدجى ... إلى الصبح وحدي ودمعي يسيل
__________
(1) "البداية والنهاية" (9/58-59) .(2/215)
أمت نفسك حتى تحييها، فعاقبة الصبر حلوة كم صبر بشر عن مشتهى حتى سمع: كل يا من لم يكل ما مد سجاف "نعم العبد" على قبة (ووهبنا له أهله) حتى جرب في أمانة (إِنا وجدناه صابرْا) .
إنَّ الألم ليحمد إذا كان طريقًا إلى الصحة، وإن الصحة لتذم إذا كانت سبيلاً إلى المرض، أي فائدة ساعة أوقعت غمًا طويلاً، ما فهم مواعظ الزمان من أحسن الظن بالأيام، إياك أن تسمع كلام الأمل فإنه غرور محض.
ألا خيراً لمقترح النواح ... أطير إليه منشور الجناح
فأسأله وألطفه عساه ... سيسلى ما بقلبي من جراح
ويجلو ما دجا من ليل جهلي ... بنور هدى كمنسلخ الصباح
سأصرف همتي بالكل عما ... نهاني الله من أمر المزاح
إلى شهر الخضوع مع الخشوع ... إلى شهر العفاف مع الصلاح
يجازي الصائمون إذا استقاموا ... بدار الخلد والحور الملاح
وبالغفران من رب عظيم ... وبالملك الكبير بلا براح
فيا أحبابنا اجتهدوا وجدّوا ... لهذا الشهر من قبل الرواح
عسى الرحمن أن يمحو ذنوبي ... ويغفر ذلتي قبل افتضاحي
قال الحسن: إن لله تعالى عبادًا، كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين وكمن رأى أهل النار في النار معذبين، قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة وأنفسهم عفيفة وحوائجهم خفيفة صبروا أيامًا قصارًا تعقب راحة طويلة، أما الليل فصافة أقدامهم تسيل دموعهم على خدودهم يجأرون إلى ربهم عز وجل ربنا ربنا، وأما النهار فعلماء حلماء بررة أتقياء ينظر إليهم الناظر فيحسبهم عرض أو قد خولطوا وما بهم مرض ولكن خالط القوم أمرٌ عظيم" (1) . يا قليل الصبر إنما هي مراحل فصابر لجة البلاء فالموت ساحل، تأمل تحت سجف ليل الصبر
__________
(1) "التبصرة" (1/200) .(2/216)
صبح الأجر، واحبس لسانك عن الشكوى في سجن الصبر، واقطع نهار اللأواء بحديث الفكر، وأوقد في دياجي الآلام مصباح الشكر، وقلب قلبك بين ذكر الثواب وتمحيص الوزر وتعلم أن البلاء يمزق ركام الذنوب تمزيق الشباك ويرفع درجات الفضائل إلى كاهل السماك ومن تفكر من سر- (إِن الله مع الصابرين) أنس بجليسه ومن تذكر- (إِنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) فرح بامتلاء كيسه.
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله ... وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
سجع على قوله تعالى: (إني جزيتهم اليوم بما صبروا)
لله أقوام امتثلوا ما أمروا وزجروا عن الزجر فانزجروا فإذا لاحت الدنيا غابوا وإذا بانت الأخرى حضروا فلو رأيتهم في القيامة إذا حشروا (إِني جزيتهم اليوم بما صبروا) .
جن عليهم الليل فسهروا، وطالعوا صحف الذنوب فانكسروا وطرقوا باب المحبوب واعتذروا وبالغوا في المطلوب، ثم حذروا فانظر بماذا وعدوا في الذكر وذكروا (إِني جزيتهم اليوم بما صبروا) .
ربحوا والله وما خسروا وعاهدوا على الزهد فما عذروا واحتالوا على نفوسهم فامتلكوا وأسروا، وتفقدوا نعم المولى فاعترفوا وشكروا (إِني جزيتهم اليوم بما صبروا) .
بيوتهم في خلوها كالصوامع، وعيونهم تنظر بالتقى من طرف خاشع، والأجفان قد سحت سُحْبَ المدامع تسقى بذر الفكر الذي بذروا (إِني جزيتهم اليوم بما صبروا) .
* استوحشوا عن كل جليس شغلا بالمعنى النفيس وذموا مطايا الجد فسارت العيس وبادروا الفرصة ففاتوا إبليس لا وقفوا ولا فتروا (إِني جزيتهم اليوم بما صبروا) .(2/217)
الباب السابع عشر
حيوانات تصوم
هذه حيوانات تمتنع عن الطعام أوقاتاً، أفلا تصوم أنت بعد ذلك أياماً(2/219)
حيوانات تصوم كالإنسان
إن الإمساك عن الطعام ليس بقاصر على الإنسان وحده ... فهناك حيوانات تصوم في ظروف معينة، وأغلب الطيور تمتنع عن تناول الطعام حينما تقوم بحضانة البيض.. والزواحف والثعابين تنطوي على نفسها مدة طويلة ولا تتناول طعامًا ... وذلك ما يُعرف بالبيات الشتوي.
معجزة الدب الأبيض:
ومن معجزات الله في خلقه ما أرويه للقارئ عن معجزة (الدب الأبيض) كما جاء في كتاب "غرائز الحيوانات" للأستاذ (محمد فياض) :
والدب الأبيض أقوي الحيوانات التي تعيش في المنطقة المتجمدة الشمالية، وأضخمها جثة وقد يبلغ طوله في بعض الحالات ثلاثة أمتار، ووزنه سبعة قناطير ... وهو يعوم بسهولة في الماء ويعدو بسرعة على الجليد ويتسلق أكوامه العالية، ومن دواعي الدهش أن مثل هذا الحيوان الكبير الجسم، الثقيل الوزن، يتحرك بخفة فوق الجليد الأملس دون أن ينزلق، ويرجع السبب في ذلك، إلى أن باطن قدمه العريضة، مزودة بخصلة من الشعر الطويل الخشن، الذي يثبتها فوق الجليد ويمنع انزالقها.
وهو يتغذى بالأسماك وعجول البحر ... التي يصطادها بنفسه ... وبجثث الحيتان الميتة التي يقذف بها البحر إلى الشاطئ.
وفي الصيف عندما تظهر الخضرة في البقاع الشمالية يضيف الدب إلى غذائه أثمار التوت وبعض البقول والأعشاب. وفي الشتاء حيث تنقرض الخضرة ويندر الغذاء يأكل الدب كل ما يصادفه من أعشاب بحرية وأوراق جافة وأخشاب وغير ذلك.
(والمبيت الشتوي) مقصور على الأنثى التي تدفن نفسها تحت الجليد، وتقضي شهور الشتاء في (سبات عميق) وفي هذه الفترة تلد ... وفي العادة تضع صغيرين وتغذيهما بلبنها الذي يتدفق من ثديها بغزارة.
وهي لا تخشى الاختناق تحت غطائها السميك من الجليد، لأنها تترك فيه(2/221)
منفذا يتسرب منه الهواء إليها ... ويظل هذا المنفذ مفتوحًا لا يسده الجليد، وذلك بتأثير أنفاسها الساخنة والحرارة المنبعثة من جسمها.
وبالرغم من أنها تصوم أثناء مبيتها الشتوي فإن لبنها يدر بغير انقطاع لتغذية ولديها ... وتعتبر هذه الظاهرة من المعجزات الإلهية ... إذ كيف يتيسر لها أن تدبر هذا السيل المستمر من الغذاء بدون أن تتناول شيئا من الطعام؟
والسر في ذلك يرجع إلى أنها أثناء الصيف تلتهم كميات وافرة من الغذاء الذي يتحول بعضه إلى طبقة سميكة من الدهن تحت جلدها ... وفي الشتاء يؤدي هذا الدهن ثلاث وظائف ضرورية لحياتها ولذريتها. فهو يقيها البرد أثناء رقادها تحت الجليد ... ويتحول جزء منه إلى غذاء صالح لها ويتحول جزء آخر إلى لبن يعول ولديها.
ووكالات الأنباء والصحافة العالمية، تطالعنا أحيانًا بخبر عن رجل هندي يرقد في صندوق معدني، مصنوع بطول جسمه وعرضه ... ويأتي أعوانه فيغطون الصندوق، ويحكمون إغلاقه ويضعونه في قاع حمام السباحة، ويتركونه تحت الماء ساعة كاملة، ثم يرفعونه ويفتحونه فيرى النظارة الرجل الهندي حيًّا لم يصبه أذى ... وقد حاول بعض العلماء تفسير هذه الظاهرة فقال: إن (الأوكسجين) المحتوي عليه الصندوق يكفي للتنفس طول المدة التي يظل فيها تحت الماء وإن بخار الماء وثاني أوكسيد الكربون المتولدين من التنفس في هذه الفترة لا يكفيان لإحداث الاختناق.
وربما كان هذا التعليل صحيحًا ولكن لم يجرؤ أحد على اختبار صحته بطريقة علمية ...
ومهما كان السر في هذه العملية ... فإن هذا الساحر الهندي يعجز عن محاكاة أنثى الدب الأبيض، لأنه لا يستطيع أن يدفن نفسه في الجليد طول شهور الشتاء، ويعمل على استمرار تنفسه، ويدبر أمر تغذيته مع طفلين راقدين بجانبه ... ، ثم يخرج بعد ذلك حيًّا لم يمسه الضرر ... إلا أن في خلق الله أسرارًا تحار في إدراكا عقول البشر ونواميسِ أحكم الله وضعها وتنسيقها وصدق الله إذ يقول: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه: 49، 50] .(2/222)
طائر البطريق ومدرسة الحضانة:
في الأقاليم الباردة الجنوبية يعيش نوع من الحيوان يسمى (البنجوين) أو (طائر البطريق) وأشهر مواطنه (رأس هورن) بجنوبي أمريكا وجزائر (فرلكلاند) ورأس الرجاء الصالح و (نيوزيلاندة) واستراليا.. وجزر المحيط المتجمد الجنوبي، وبالرغم من أنه يعتبر من الطيور فهو لا يستطيع الطيران، لأن جناحيه لا يقويان على حمله وهي أشبه بزعنفتين كبيرتين، وقد يستعين بهما وبقدميه العريضتين ذات الأغشية الممتدة بين الأصابع، على السباحة في الماء.
ومن دأبه أنه يقف منتصبًا على قدميه ويمشي على هذه الصورة ... وإذا حاول السير بسرعة اختل توازنه وهوى على الأرض ... وهو إذا غضب ضرب بمنقاره وبجناحيه القويين الثقيلين ... وغذاؤه مقصور على الأسماك وهو يستطيع صيدها بسهولة لأن له قدرة عجيبة على السباحة والغوص في الماء.
وبما أنه يعيش في أشد بقاع العالم برودة فقد وهبه الله -سبحانه- وقاء يحميه من البرد القارس، فتحت كسائه الخارجي من الريش طبقة سميكة من الدهن، كما غطى ريشه بغشاء زيتي يحول دون وصول المطر إلى جلده.
وهو يقضي أيامه ولياليه في البحر بين الثلوج والأمواج المتلاطمة، ولا يقيم على البر إلا عندما يضطر لوضع البيض وتربية الصغار وفي الغالب يكون هذا في أوائل صيف المنطقة المتجمدة الجنوبية ... وتضع الأنثى بيضتين في وكر من الحصى، وتحتضنهما بالتناوب مع زوجها ... وبعض مضي خمسة أسابيع يخرج منهما فرخان كبيران شرهان.
يغذيهما والداهما من الأسماك والحيوانات المائية الرخوة التي يحملانها إليهما من البحر، وينمو جسدهما إلى عشرة أمثاله في أسبوعين ... ومثل هذا النمو السريع يستلزم كميات وافرة من الغذاء ... ولذا يصرف الوالدان معظم وقتهما بين البحر والوكر منهمكين في صيد كميات كبيرة من الأسماك ... وفي غيبتهما قد يتعرض الفرخان لخطر كبير، فقد تخطفهما بعض الطيور الجارحة،(2/223)
وقد يتحركان خارج الوكر ويضلان السبيل فلا يستطيعان العودة إليه ويموتان جوعا لندرة وجود الغذاء على الصخور والثلوج وقد تدوسهما أقدام الطيور الكبيرة.
ولدفع هذه الأخطار يلجأ طيور (البنجوين) إلى حيلة غريبة تصون بها صغارها التي بدأ النشاط يدب فيها.. فتجمعها في مكان خاص، ويتعهد فريق من كبار الوالدين بحراساتها والدفاع عنها مع السماح لها بالتحرك واللعب، داخل نطاق محدود.. بينما يتعهد فريق آخر بشئون التغذية، وقد يكون بين الفريق الأول متطوعون ليس لهم أبناء.. وقد يقوم أفراد من الفريق الثاني بتغذية صغار لا تجمعها به صلة.. مثل هذه الطريقة في الحراسة والتغذية لا تبعد كثيرًا عن النظم المتبعة في مدارس الحضانة عند الإنسان فسبحان الله (الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى) .
وعندما يكتمل نمو الأفراخ تصوم عن الأكل وتذهب إلى شاطئ البحر ... وتبقى هناك حتى تسقط عنها آخر خصلة من الزغب، ويصبح جسمها مغطى بالريش، وعندئذ تثب في الماء والثلوج، وترحل عن البر مبتعدة عنه مئات الأميال، وتعيش على الأسماك التي تلتقطها من البحر.. وبعد مضي سنتين تدفعها الغريزة نحو البر، لوضع البيض وتنشئة الصغار.. وإذ ذاك تصوم عن الأكل شهرًا كاملاً حتى تظهر الأفراخ.. وبعد أن يهجرها أبناؤها إلى البحر يسقط عنها ريشها وينمو غيره، وأثناء هذه الفترة من التغيير الجثماني تنقطع عن الغذاء.. فهذا الطيور تصوم قبل أن تلقى عليها مسئولية الأبوة.. وتصوم قبل أن تستقل بالجهاد في حياتها.. وتصوم بعد أن يتركها أبناؤها.
ولا شك أن الصيام ضروري لها كما هو ضروري لبعض المخلوقات، ومنها الإنسان.
الصحة والجمال والرشاقة:
ذكر المؤرخ الاجتماعي المشهور (عبد الرحمن بن خلدون) في مقدمة تاريخه المعروفة فضلاً كاملاً ذكر فيه (أثر الجوع في صلاح البشر وأخلاقهم)(2/224)
نقتطف منها للقارئ هذه السطور:
"إن كثرة الأغذية ورطوبتها، تولد في الجسم فضلات رديئة ينشأ عنها بعد أقطارها وضخامتها من غير نسبة كما ينشأ عنها كثرة الأخلاط الفاسدة، ويتبع ذلك انكشاف الألون، وقبح الأشكال من كثرة اللحم -كما قلنا- وتغطي الرطوبات على الأذهان والأفكار، بما يصعد على الدماغ من أبخرتها الرديئة فتجيء البلادة والغفلة والانحراف عن الاعتدال والجمال..
واعتبر ذلك في حيوانات القفر.. ومواطن الجدب.. (من الغزال، والزرافة والمها، والحمر الوحشية، والبقر الوحشي) مع أمثالها من حيوان التلول والأرياف، والمراعي الخصبة كيف تجد بينها بونًا بعيدًا، في صفاء أديمها، وحسن رونقها وأشكالها، وتناسب أعضائها، وحدة مداركها؟
فالغزال أخو الماعز، والزرافة أخت البعير، والحمار والبقر.. أخو الحمار والبقر. والبون بينهما ما رأيت..
"وما ذاك إلا لأجل أن الخصب في التلول فعل في أبدان هذه من الفضلات الرديئة والأخلاط الفاسدة ما ظهر عليها أثره.. والجوع لحيوان القفر حسن في خلقها وأشكالها ما شاء" (واعتبر ذلك أيضاً في الآدميين) ويؤكد ما ذكره (ابن خلدون) ما جاء في الحديث الصحيح: "ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًا من بطنه. بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه.. فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه" [رواه أحمد عن المقدم ابن معد يكرب] (1) .
(1) صوم بعض الحيوانات آثناء فترة النزو الجنسي:
مثل ذلك: سمك السلمون.
إن هذا النوع من السمك، حين يبدأ بالهجرة من البحار نحو الأنهار للتكاثر، وتكون عضلاته محملة بكميات كبيرة من الشحوم، لذلك تراه يصوم خلال فترة الهجرة والرحلة هذه، يكون جسمه قد هزل وطرأت عليه نحافة
__________
(1) من مقالة الصوم ضرورة صحية واجتماعية للإنسان والحيوان والطيور البرية والبحرية "الوعي الإسلامي" العدد 337 رمضان 1414هـ.(2/225)
شديدة، هذا وإن تخلص هذا الحيوان من هذه الشحوم يكسب هذه العضلات مرونة وقوة فريدتين، الأمر الذي يساعد على اجتياز المسافات البعيدة ومعاكسة مجرى تيارات الأنهار.
* وهناك بعض الطيور تصوم أيضاً أثناء فترة التكاثر والنزو، ومنها طائر البنغوان وذكر الأوز.
* صوم الثديات: "حيوان الفقمة":
ونذكر هنا صوم ذكر حيوان الفقمة ذى الفرو، الذي يعيش في منطقة آلاسكا إن هذا الحيوان يبقى من منتصف شهر آيار وحتى آخر شهر تموز دون طعام أو شراب بل ودون نوم أيضاً، وهذه الفترة تتوافق مع فترة التكاثر عند هذا الحيوان وهو يمضي كل وقته ساهرًا يرعى زوجاته اللاتي يتراوح عددهن بين 5-6 زوجات. بعد هذه الفترة الطويلة من الصوم، ينام هذا الحيوان مدة ثلاثة أسابيع متواصلة إذا لم يزعجه أحد، وبعد ذلك يأخذ بتناول غذائه على الشكل المعتاد.
* أسد البحر.
وكذلك أسد البحر الذي يصوم أيضاً أثناء فترة النزو، وحياة هذا الحيوان تشبه تمامًا حياة حيوان الفقمة.
(2) الصوم بعد الولادة.
* بعض أنواع العنكبوت لا تأكل شيئا خلال فترة الأشهر الستة التي تعاقب الولادة.
* كما أن الصيصان: لا تأكل ولا تشرب شيئا خلال الأيام الثلاثة التي تلي خروجها من البيضة.
* وكذلك الحال عند كثير من الثديات، حيث لا يبدأ الثدي بإفراز الحليب إلا بعد ثلاثة أيام من ولادة الأم لصغيرها.
(3) صوم الخادرة:
الخادرة هي حشرة في الطور الانتقالي بين اليرقة والحشرة الكاملة. وهذه(2/226)
المرحلة عند الحشرات هي المرحلة التي تلي تمامًا مرحلة اليرقة. وفي هذه المرحلة لا تتحرك الحشرة إلا قليلاً جدا، ولا تأكل شيئًا على الإطلاق، إذا تعتمد على مدخراتها الموجودة لديها قبل الدخول في هذه المرحلة.
(4) الصوم حين يكون حس الجوع غائبًا:
إن كثيرا من الحيوانات تتناول وجبات غذائية متباعدة جدا، والسبب في ذلك أنه ليس لديها شعور بالجوع، فمثلا بعض أنواع الثعابين لا تأكل وجباتها الغذائية إلا بعد فاصل زمني طويل.
(5) الصوم في حالات الغضب:
ونذكر في هذا المجال، الصوم الذي تمارسه الكلاب حزنًا على صاحبها حين يموت.
(6) الصوم في حالة الأسر:
بعض الحيوانات ترفض تناول الطعام أسيرة مقيدة، فهي تفضل الموت جوعًا، كما يقول العالم "باتريك هنري": "أعطني الحرية أو أعطني الموت".
(7، 8) الصوم في حالة المرض، أو حين الإصابة بجرح.
كما يفعل الحصان عند مرضه، والكلب عند إصابته بكسر.
(9) الصوم عند فقدان الغذاء.
(10) السبات الشتوي عند الحيوان: الأفاعي - الحلزون - الذباب - الزلاقط - الدببة - التمساح:
هذه أصناف من الحيوانات تدخر ما يلزمها لفصل الشتاء في داخل عضويتها، وهذا ما نسميه بالمدخرات الداخلية.
وتقضي هذه الحيوانات فصل الشتاء وهي شبه نائمة ما يقلل الحاجة إلى المواد الغذائية إلى حد كبير.
(11) السبات الشتوي عند النباتات:
"بعض النباتات تدخر في أجسامها كمية كبيرة من الغذاء كاللفت والبصل(2/227)
مثلا، وهذه المدخرات تكفيها لتبقى حية فترة طويلة من الزمن دون غذاء" (1) .
أخي: إن كانت الحيوانات تمتنع أحيانًا عن الطعام أفلا تصوم أنت، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي من بعدهم قوم يتسمنون ويحبون السِّمن، ويعطون الشهادة قبل أن يسألوها" (2) .
***
__________
(1) نقل باختصار من كتاب "التداوي بالصوم" (17-22) تأليف هـ. م شيلتون دار الرشيد دمشق بيروت.
(2) صحيح: رواه الترمذي والحاكم عن عمران بن حصين وصححه الألباني "صحيح الجامع" رقم (3294) .(2/228)
الباب التاسع عشر
الصوم علاج رباني
(وإذا مرضت فهو يشفين)
"لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب"
حديث حسن(2/229)
الصموم علاج رباني
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما ملأ آدمى وعاء شرًا من بطنه بحسب ابن آدم أُكُلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه" (1)
وفي رواية "لقيمات" وهو جمع قلة أقل من عشرة.
وقبل أن نتكلم عن أثر الصوم في علاج الأمراض نقول بداية إن الصوم عبادة نفعلها تعبدًا لله تعالى واستسلامًا لأمره، لا نعللها بأغراض مادية ولا نجعل من هذه غاية التشريع ومقصد المشرع فالعبادة أسمى من هذا بكثير.
يقول الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر في كتابه "من توجيهات الإسلام": "من الخير للمؤمنين أن ينظروا إلى ما طلبه الله منهم نظرة غير هذه النظرة، نظرة أسمى منها وأجل ذلك أنهم عباد لله خاضعون، وأنهم مربوبون لرب العالمين، فمن شانه أن يأمر بما شاء أمرًا مطلقًا لا تقييد فيه بما يفهمه الناس أو لا يفهمونه، بل لا تقيد فيه بما يشتمل في ذاته على فائدة للناس أو لا يشتمل.
هذا هو سبيل العبادة كما يريدها الله: إخلاص في التقبل، وإخلاص في الامتثال والتنفيذ وثقة واطمئنان ورضا بحكم الله كما أمر به الله".
فمن قصد بالوضوء النظافة فهجرته إلى غير الله، ومن قصد بالصوم العلاج الصحي فهجرته إلى غير الله.
وليس معنى ما ذكرته لكم أيضاً عن العبادات أنه لا يترتب عليها شيء من الآثار النافعة المفيدة، كلا فإن لها آثارًا نشهدها ونراها وندركها بعقولنا، لا أريد أن أتكلم عنِ الآثار الصحية، فإن ذلك شأن الأطباء وهم أهل الاختصاص فيه
(وَمَا أَرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نّوحِي إليهم فَاسْأَلُوا أهْلَ الذكرِ إِن كُنتُمْ لا تعْلمُونَ) [النحل: 43] .
__________
(1) صحيح: رواه أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه عن المقدام بن معد يكرب، ورواه أيضاً ابن المبارك وابن سعد وابن عساكر، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5674) .(2/231)
ولهذا فنحن في هذه الورقات القليلة نحاول إيجاز ما كتبه الأطباء عن الصوم وإن كان ذلك يحتاج إلى مجلدات: "قيل للحارث بن كلدة طبيب العرب: ما أفضل الدواء؟ قال: الأزم. يريد قلة الأكل" (1) .
* لقد أقيمت للصوم مشاف ومصحات خاصة في معظم الدول الأوربية والأمريكية فيما يعرف "بالصوم الطبي" لقد كانت النتائج مذهلة حقا بينما المعالجات الكيماوية لا تخلو من أضرار جانبية، والصوم الطبي كالعمليات الجراحية ولكنه بدون مشرط فلابد فيه من الإشراف الطبي.
والصوم الطبي معناه "الامتناع عن تناول كل غذاء ما عدا الماء".
* "لقد كان ابن سينا وهو من عمالقة الأطباء يفرض صوم ثلاثة أسابيع في كثير من الحالات المرضية التي كانت تعرض له".
مع أشهر أطباء العالم:
* يقول الطبيب العالمي الكسيس كاريل الحائز على جائزة نوبل في الطب والجراحة في كتابه "الإنسان ذلك المجهول" وهذا الكتاب حجة عند الأطباء: "إن كثرة وجبات الطعام، وانتظامها، ووفرتا تعطل وظيفة أدت دورًا عظيمًا في بقاء الأجناس البشرية، وهي وظيفة التكيف على قلة الطعام، ولذلك كان الناس يلتزمون الصوم في بعض الحالات".
ويقول: "إن الأديان كافة لا تفتأ تدعو إلى وجوب الصوم والحرمان من الطعام، إذ يحدث أول الأمر الشعور بالجوع، ويحدث أحيانًا التهيج العصبي، ثم يعقب ذلك شعور بالضعف، بَيْد أنه يحدث إلى جانب ذلك ظواهر خفية أهم بكثير منه، فإن سكر الكبد سيتحرك، ويتحرك معه أيضاً الدهن المخزون تحت الجلد، وبروتينات العضل والغدد، وخلايا الكبد، وتضحى جميع الأعضاء بمادتها الخاصة للإبقاء على كمال الوسط الداخلي وسلامة القلب، وإن الصوم لينظف ويبدل أنسجتنا".
* كتب الدكتور روبرت بارتولو وهو طبيب أمريكي من أنصار العلاج
__________
(1) "التداوي بالصيام" (ص56) لمحمد إبراهيم سليم. مكتبة ابن سينا.(2/232)
الدوائي للزهري قال "لا شك في أن الصوم من الوسائل الفعالة في التخلص من الميكروبات، وبينها مكروب الزهري، لما يتضمنه من إتلاف للخلايا، ثم إعادة بنائها من جديد، وتلك هي "نظرية- التجويع في علاج الزهري".
* استخدم "الدكتور آلان" الصوم بنجاح في علاج السكر والنقرس.
* واستخدمه "الدكتور كارلسون" في تجديد الشباب، والدكتور "جننجز" في حالات مرضية كانت تعرض له.
* ويقول "بانار مكفادن" زعيم الثقافة البدنية في أمريكا "الصوم يستطيع أن يُبرئ كل علة خابت في علاجها الوسائل الأخرى".
* ويقول الدكتور ماك فادون وهو أحد علماء الطب الكبار في أمريكا في كتابه الذي ألفه عن الصيام بعد أن ظهرت له نتائج عظيمة من أثر الصيام وتبين له مفعوله في القضاء على الأمراض المستعصية "إن كل إنسان يحتاج إلى الصيام، وإن لم يكن مريضاً، لأن سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض، ويثقله ويقل نشاطه، فإذا صام خفّ وزنه وتحللت هذه السموم من جسمه، بعد أن كانت مجتمعة، فتذهب عنه حتى يصفو صفاء تامًا، ويستطيع أن يسترد وزنه، ويجدد جسمه في مدة لا تزيد على العشرين يوماً بعد الإفطار، ولكنه يحس بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل".
والجدير بالذكر أن هذا الطبيب عالج بالصوم كثيرًا من المرضى بأمراض مختلفة، وذكر أسماءهم وأمراضهم وتواريخ معالجتهم، إلا أنه قرر أن انتفاع المرضى بالصوم بتفاوت حسب أمراضهم.
فأكثر الأمراض تأثرًا بالصيام أمراض المعدة "فالصوم لها مثل العصا السحرية يسارع في شفائها، ويرى المعالج به العجب العجاب، وتليها أمراض الدم، ثم أمراض العروق كالروماتيزم مثلاً".
الصوم والأمراض الجلدية:
يقول الدكتور محمد الظواهري أستاذ الأمراض الجلدية -بطب القصر العيني- "إن علاقة التغذية بالأمراض الجلدية متينة" فالامتناع عن الغذاء(2/233)
والشراب مدة ما يقلل من الماء في الجسم والدم، وهذا بدوره يدعو إلى قلة الماء في الجلد، وحينئذ تزداد مقاومة الجلد للأمراض الجلدية المؤذية والميكروبية.
وقلة الماء من الجلد تقلل أيضاً من حدة الأمراض الجلدية الالتهابية والحادة والمنتشرة بمساحات كبيرة في الجسم، وأفضل علاج لهذه الحالات من الوجهة الغذائية هو الامتناع عن الطعام والشراب فترة ما".
تتحسن حالة مرضى البشرة الدهنية، وحب الشباب وقشور الشعر ويكتمل هذا التحسن مع الامتناع عن المواد السكرية والأطعمة الدسمة.
* أما حالات التهاب الجلد، وأكزيما الجلد، وحساسية الجلد فتتحسن مع الصيام مع تجنب الملح والدهنيات.
* العظام:
يقول الدكتور مصطفى إسماعيل حافظ المدرس بقسم جراحة العظام بطب الأزهر "إن الصيام مفيد جدًا للمرضى الذين يعانون من خشونة المفاصل وآلام الركبة بالإضافة إلى أنه يساعد على تقليل الوزن الذي هو سبب أساسي لآلام المفاصل ويقول: إن تنوع الطعام وكثرته يزيد من آلام الروماتيزم ويأتي الشهر الكريم ليحد من هذه المعاناة".
* الحميات:
يقول الدكتور محمد أحمد ضرغام استشاري الحميات وعضو الجمعية المصرية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة: "إن من الفوائد التي توصل إليها العلم الحديث مؤخراً أن الصيام يحمي المسلم من متاعب المرارة واحتمال تكون الحصوات، كما يساعد على القضاء على أمراض عسر الهضم الذي يؤدي إلى الانتفاخ ويرهق القولون، وذلك لأن المعدة تبدأ في الارتياح بعد عناء طويل.
* وعن أمراض القلب والدورة الدموية:
يقول الدكتور محمد ضرغام "إن مرضى الذبحة الصدرية وتصلب الشرايين وارتفاع ضغط الدم لا تعاودهم الأزمات في هذا الشهر الكريم. كما يؤدي العامل النفسي والهدوء الروحي إلى إقلال ارتفاع ضغط الدم المرتفع.(2/234)
ويقول د. ضرغام "إن مرضى السكر منهم من يتحسن في شهر رمضان وهم غالبًا من المرضى المصابين بالسمنة، فالصيام بالنسبة لهؤلاء يعتبر نوعًا من الرجيم يقلل من تناول الطعام مما يؤدي إلى تحسن مستوى السكر بالإضافة إلى انخفاض الوزن".
* ويقول الدكتور سالم نجم الأستاذ بطب عين شمس: الصوم يعطي راحة للجهاز الهضمي والقولون والكبد وغدة البنكرياس من دورهم في إفراز المواد الهاضمة بكل أنواعها.
* يقول الدكتور محمود عزت أستاذ التحاليل الطبية بطب الزقازيق "إن الصيام يحول دون تحول كمية كبيرة من الدم إلى الجهاز الهضمي.. وبذلك يوزع الدم توزيعًا متوازنًا بين أجزاء الجسم وخاصة المخ والعضلات".
ويضيف: "إلى أهمية عدم الربط بين الصوم وضعف القدرة على بذل الجهد لأن الجسم يتكيف مع الوضع الجديد ويصبح أكثر قدرة على الحركة أكثر من أيام الإفطار إذ تزيد كمية الدم إلى العضلات" (1) .
* في بحث للطبيب عصام العريان في مصر على 120 صائماً من الرجال والنساء في مختلف الأعمار ما يأتي:
* إن الصيام ضبط متوسط معدل الجلوكوز في الدم طول الشهر (80-120مللي في اللتر) .
* إن الصيام يحدث انخفاضًا في معدل الكولتسرول للصائمين الذين بدءوا الصيام بكولسترول مرتفع، بينما لم يتأسر معدل الكولتسرول للذين بدءوا الصيام وهو طبيعي لديهم (150-250 مللي جرام في اللتر) .
* إن الصيام يحدث انخفاضا في مستوى حمض البوليك بينما لم يحدث أي تغير في مستوي البولينا بالدم أثناء الصيام" (2) .
__________
(1) "رمضان طبيب بلا أجر" مقال (ص57) في مجلة لواء الإسلام العدد الأول للسنة الثامنة والأربعين رمضان 1414هـ فبراير 1994م.
(2) "التداوي بالصيام" (ص102) .(2/235)
يقول دكتور ضرغام: "أكدت الأبحاث العلمية التي أجريت على بعض المرضى انتظام ضغط الدم ووصوله إلى المعدل الطبيعي ما بين 120-80 بحد أقصى 140-90 وعودة الصفاء الذهني إلى طبيعته".
* يقول الدكتور أنور المفتي وهو يتحدث عن الإفطار على مادة سكرية: "إن الأمعاء تمتص الماء المحلى بالسكر في أقل من خمس دقائق، فيرتوي الجسم، وتزول أعراض نقص السكر والماء فيه.
في حين أن الصائم الذي يملأ معدته مباشرة بالطعام أو الشراب يحتاج إلى ثلاث أو أربع ساعات حتى تمتص أمعاؤه ما يكون في إفطاره من سكر وعلى هذا تبقى عنده أعراض ذلك النقص، ويكون حتى بعد أن يشبع كمن لا يزال يواصل صومه" ومن هنا يكشف الطب الحديث عن حكمة التوجيه النبوي الكريم في الإفطار على التمر أو الماء.
* الصوم ومستوى جديد من الصحة:
يقول العالم: "آيتون سنكلير": "إن أكبر شيء يعطينا إياه الصوم هو مستوى جديد من الصحة، وهذا التجدد في الصحة ينعم به الكبار في السن والشباب على السواء، بالنسبة ذاتها وذلك أن البنية تتجدد بكاملها فتتحسن وظائفها العديدة وتنشط زد على ذلك أن الصوم يمنح الجسم الفرص المثلى للتخلص من السموم والفضلات المتراكمة بين ثناياه في صميم نسيجه العضوي".
كما أنه بالإضافة إلى ذلك يعمل على طرد جميع العوامل المؤدية إلى الهرم والشيخوخة والاستحالة العضوية، وبذلك لن تكون نتيجة الصوم إلا صحة وفيرة وبأعلى مستوى.
هذا وإن أثر التجدد العضوي والحيوية يبدو واضحًا جليًا على بشرة الإنسان فالتجمعات الجلدية، والارتخاء، والبقع، والحبوب تختفي تمامًا بالصوم كما أن الجلد يصبح أكثر نضارة وحيوية".
* سئل "ميشيل انجلو" شيخ المعمرين مرة عن السر في صحته الجيدة وتمتعه بنشاط غير عادي بعد أن تجاوز سن الستين فقال: إنني أعزو احتفاظي(2/236)
بالصحة والقوة والنشاط في سنوات كهولتي إلى أني أمارس الصوم بين حين وآخر، ففي كل عام أصوم شهرًا، وفي كل شهر أصوم أسبوعًا، وفي كل أسبوع أصوم يوماً ... وفي كل يوم آكل وجبتين بدلاً من ثلاث".
* قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإن الله يطعم ويسقيهم" (1) .
قال المناوي: (6/420) "أي يحفظ قواهم ويمدهم بما يقع موقع الطعام والشراب في حفظ الروح وتقويم البدن، ذكره البيضاوي".
نتائج طبية هامة
نتائج باهرة في "التداوي بالصوم" لشيلتون:
في كتاب "التداوي بالصوم" لصاحبه هـ. م شيلتن نتائج باهرة نوردها على سبيل الإجمال
(1) الصوم والقلب:
هناك ثلاث فوائد هامة للصوم بالنسبة إلى القلب:
أ- الصوم يحذف المنبهات الدائمة للقلب.
ب- يسمح للقلب بالراحة.
ج- ينقي الدم، وبذلك يتاح للقلب أن يتغذى بدم نقي ونظيف.
__________
(1) حسن رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن عقبة بن عامر، وابن عدي والروياني والحاكم عن عبد الرحمن بن عوف، وصححه الحاكم، وقال الترمذي: حديث حسن غريب: وأشار السيوطي إلى صحته قال المناوي في "فيض القدير" (6/420) : قال في المنار: ولم يبين علته المانعة من تصحيحه وهي عندي موجبة لضعفه لأن فيه بكير بن يونس أو يونس بن بكير، قال أبو حاتم: منكر الحديث ضعيفه اهـ. قال الذهبي: ضعفوه، وقال البيهقي: تفرد به بكر وهو فيما قال البخاري منكر الحديث. وفي الميزان: عن أبي حاتم هذا حديث باطل، وأورده ابن الجوزي من عدة طرق وأعلها. وفي الأذكار: فيه بكر بن يونس وهو ضعيف، وحسنه السيوطي والألباني في صحيح الجامع رقم (7439) .(2/237)
إن القلب بضرب 80 ضربة في الدقيقة الواحدة أي ما يعادل 115200 مرة في الـ 24 ساعة وقد لوحظ في الأيام الأولى من الصوم تناقص عدد ضربات القلب، بحيث تصل إلى أقل من 60 ضربة في الدقيقة، وبعد ذلك يعود نبض القلب ليثبت على 60 ضربة بالدقيقة طيلة فترة الصوم.
وإن هذا النقص في عدد دقات القلب يوفر 28800 دقة في الـ 24 ساعة وهذا معناه أن القلب يرتاح من ربع العمل الذي كان يقوم به.
هذا من الناحية الكمية، أما من الناحية الكيفية، فالصوم يحسن قوة دقات القلب وشدتها، ونستطيع أن نقول إن الصوم هو طور راحة وعطلة صيفية يستفيد منها كثيرًا ويستعيد أثناءها وبعدها نشاطه على الوجه الأكمل.
(2) الصوم وتجدد الأعضاء والأنسجة:
يقول هـ. م شيلتون:
"لقد أثبت عدد من الباحثين أن الجروح الطارئة تكون أسرع التئامًا وشفاء أثناء الصوم منها خارج أوقات الصوم. وكذلك بالنسبة إلى الكسور الطارئة على العظام فإن سرعة التئامها خلال فترة الصوم أكبر مما هو عليه خارج هذه الفترة.
(3) الصوم راحة فيزيولوجية ويحسّن التنفس:
* إن جميع العلياء الذين عملوا في هذا المجال أثبتوا أن الصوم هو دور راحة فيزيولوجية لا شك فيه وأن الغدد الصماء وجهاز التنفس والجملة العصبية ترتاح أثناء الصوم.
* أما التنفس فيعتبر من أهم الوظائف العضوية التي تتحسن بالصوم، وإن تأثيرات الصوم المفيدة لوظيفة التنفس يمكن مشاهدتها بسهولة عند المرضى المصابين بالربو والتي تتحسن حالتهم كثيرًا أثناء الصوم.
-أما الفضلات والسموم فالصوم الطبي يحذف تمامًا مصدر السموم هذا، فتتخلص القناة الهضمية تمامًا من جراثيمها، لذلك فإن أسبوعًا واحداً من الصوم يكفي لتتخلص المعدة والأمعاء من الجراثيم.(2/238)
(4) الخلل العقلي والتشاؤم والصرع وفاعلية الصوم لها:
إن جميع حالات الخلل العقلي يمكن السيطرة عليها بواسطة الصوم، فلقد تم تحسن جميع الحالات تحسنًا كبيرًا.
فالتشاؤم قد اختفى تمامًا أثناء الصوم (1) .
وللصوم تأثير كبير وفائدة جليلة في علاج حالات الصرع.
(5) الصوم وأعضاء الحس والشعور: العين - اللمس - الذوق - الشم - الأذن:
* قوة الإبصار تزداد خلال الصوم ازدياد ملحوظًا، وحالات من ضعف البصر الشديد قد تحسنت تحسنًا كبيرًا خلال الصوم، ومما لا شك فيه أنه خلال الصوم تصبح العين أكثر جلاء وبريقًا.
غير أنه في حالات الصوم الطويل جدًا، يلاحظ أن حسّ الرؤية يضعف، ولكن هذه الحالات مؤقتة، إذ تختفي بعد انتهاء الصوم مباشرة.
* حاسية اللمس تشتد وتزداد أثناء الصوم.
* أما الذوق فكثير من الصائمين يقولون إن حس الذوق يزداد لديهم ويصبح أكثر قوة بعد انتهاء الصوم.
* أما التحسن الذي يطرأ على حاسة السمع فيمكن ملاحظته بسهولة أكثر بكثير من التحسن الذي يطرأ على بقية الحواس.
* مقدرة حاسة الشم تتحسن تحسنًا ملحوظًا خلال الصوم وبعده.
(6) الحموضة المعدية:
في الحقيقة لا يوجد وسيلة أخرى أكثر فائدة من الصوم لمعالجة حالات فرط الحموضة المعدية.
(7) عصارة الصفراء:
آلاف التجارب التي أجريت على الصائمين دلت على أنه كلما كانت كمية
__________
(1) تقول الدكتورة زينب البشري الأستاذ بمركز الطب النفسي: إن الصيام يعطي شعورًا للمسلم بالارتياح والصفاء الذهني.(2/239)
الصفراء مزدادة وكبيرة في بدء الصوم، زادت الكمية المطروحة منها في الأمعاء، وبالتالي فإننا نشاهد أن المريض يستعيد صحته بسرعة أكبر".
(8) التهابات القولون والصوم:
في حالات إلتهابات القولون تكون كمية المفرزات المخاطية كبيرة ولزجة، تتناقص تدريجيا خلال الصوم إلى أن تنتهي بالشفاء التام.
(9) الإفرازات الحامضية للمهبل:
المفرزات الحامضية التي يفرزها المهبل عند المرأة، والإفرازات البيضاء تجف وتختفي أثناء الصوم لتعود إلى الشكل الطبيعي والعادي في الحالات السليمة.
(10) الصوم والخصوبة الجنسية عند النساء:
يقول هـ. م شيلتون: "إن الصوم كان كافيًا لاستعادة الخصب الجنسي عندهن، وهناك كثير من النساء توجد لديهن صعوبة في الحمل مع قلة في الإخصاب، استطعن عن طريق الصوم إنجاب أطفال، كما تحسن وضعهن العام تحسنًا كبيرًا".
(11) الصوم والتجدد:
أشارت تجارب كل من الدكتور، "كارلسون" والدكتور "كوند" في قسم الفيزيولوجيا بجامعة "شيكاغو" أن صومًا لمدة أسبوعين فقط كاف لأن يجدد مؤقتًا الأنسجة إلى حالة فيزيولجية تشبه ما هي عليه لدى من عمره سبعة عشر عامًا. والصوم يبعد الشيخوخة ويزيد في القوة العضلية.
إن التجارب التي أجريت على الإنسان والكلاب في المختبر الحيوي بجامعة "شيكاغو" والتي نشرت نتائجها في مجلة، "الأبحاث الاستقلالية" قد أظهرت أن صومًا لمدة 30-40 يوماً يعطي زيادة في الاستقلاب مقدارها 5-6%، وإذا ما علمنا أن النقص في درجة الاستقلاب هو مظهر من مظاهر الشيخوخة عرفنا أن الصوم بزيادته معدل الإستقلاب في الجسم يعمل على إعادة الشباب إليه.(2/240)
يقول الدكتور "تيلدن" إنه يجب أن يمضي وقت طويل حتى نستطيع أن نفهم أن التوقف عن تناول الأطعمة والأغذية يعطي القوة كما يعطيها تناول الغذاء.
وهذا التناقض العجيب يبدو فقط للأشخاص الذين لم يجربوا الصوم كطريقة من طرق العلاج.
لقد أجريت تجارب عديدة بواسطة جهاز خاص يدعي جهاز قياس القوة "الدينامومتر" أثبتت أن القوة المعضلية تبقى ثابتة أثناء الصوم، كما أنه وجدت عند بعض المرضى زيادة في القوة العضلية لدى إجراء المقارنة بين ما هي عليه في اليوم الأول من الصوم وما تغدو عليه في اليوم الحادي والعشرين.
* إن أحد الأبطال العالميين وهو "فريدي ولش" وهو بطل العالم للوزن الخفيف في المصارعة، كان يبدأ تدريبه بالصوم لمدة أسبوع، وذلك أثناء استعداده لخوض مباراة هامة.
* في بدء الصوم وفي الأيام الثلاثة أو الأربعة الأولى من الصوم يحس الإنسان بالانكسار في القوة الفعلية وبعد ذلك تتحسن حالته ويحس بقوة متزايدة وبحيوية أشد وأقوى إذا استمر في الصوم.
(13) كسب الوزن وخسارته أثناء الصوم:
استنتج كارنتون الطبيب العالمي أن الأشخاص يفقدون 750 جرام كل يوم في بدء صومهم، 250 جرام في نهار الصوم.
ويستطيع الشخص الصائم أن يفقد 40% من وزنه دون أن تتعرض حياته للخطر وإن تعجب فاعجب أن هناك بعض الحالات القليلة جدًا زاد وزنها عندما صامت مثلما حدث مع بطل الألعاب السويدية صام سبعة أيام وزاد وزنه 1350ج وهذه الحالات النادرة لها تفسير علمي كما قال الدكتور "كارنتون" ليس هذا مجاله. ولكنها حالات نادرة.
(15) الصوم مفيد في حالات الحمى التيفية.
(16) حالات نقص التغذية الشديدة لا تشاهد مطلقًا أثناء الصوم الطبي مهما(2/241)
طالت مدته: مثل مرض البري بري والبلاجرا.
(17) يرى الدكتور "ج. هـ بحيلوج" وهو من كبار معارضي الصوم الطبي أن الصوم:
(1) يحذف الزائد من الشحوم في الجسم.
(2) وكل تراكم من الآزوت الحر والفضلات يختفي بسرعة أثناء الصوم.
(3) يولد الشاهية، ويزيد في قابلية التمثيل الغذائي للأنسجة.
(4) يجدد نشاط أنسجة الجسم ويعيد إليها شبابها.
(5) يورث شعورًا متزايدًا، بالنشاط والراحة.
(18) يقول الدكتور "جيو. س. ويجر":
"أثناء خبرتي الشخصية المتعلقة بالصوم فإنني لم أر أي حالة من حالات التدرن تظهر في الجسم نتيجة الصوم، بل على العكس من ذلك فقد رأيت عدة مرضى كانوا مصابين بالتدرن تقدمت حالتهم الصحية تقدمًا ملموسًا وتماثلوا نحو الشفاء بعد صوم أعقبه تغذية صحيحة.
(19) الصوم ومقاومة الجسم:
الصوم يزيد في مقاومة الجسم ولا ينقصها.
يقول العالم "بيرزون": إنه بعد أن صام مدة طويلة، فإن لدغ البعوض لم يكن يحدث لديه الحكة الشديدة والاحمرار الذي كان يحصل عنده قبل الصوم ولقد عالج المؤلف (هـ. م شيلتون) أحد المرضى المصابين بفقر دم شديد بصيام مدة 12يوم فقط، فوجد أن الكريات الحمر زادت من 000، 500، 1 إلى 3.200.000 كما أن الخضاب قد زاد من 55% إلى 85% والكريات البيض قد نقصت من 17.000 إلى 14.000.
* لقد أثبت العالم "روجر جوس" بتجربته التي أجرها على الأرانب، أن المقاومة عند هذه الحيوانات تزداد بفعل الصوم، فقد أخذ مجموعة من الأرانب، وقام بتصويمها مدة أسبوع كامل، وبعد انتهاء صومها بيومين أو ثلاثة قام(2/242)
بتلقيحها بالعصبات الكولونية، ثم أخذ مجموعة أخرى من الأرانب وقام بنقل الجرثوم نفسه إليها ولكن من غير أن يصومها هذه المرة، فوجد أن مجموعة الأرانب الثانية قد ماتت بسرعة متأثرة من الجرثوم، في حين أن أرانب المجموعة الأولى قد أصيبت بالمرض ولكنها استطاعت أن تتغلب عليه وتشفى منه.
(20) الأمور التي لا يحدثها الصوم على الإطلاق:
(1) الصوم لا يؤدي إلى ضمور المعدة.
(2) ولا يكون سببًا في أن تهاجم العصارة الهضمية أعضاء الهضم نفسها.
(3) لا يسبب الصوم شللاً في الأمعاء.
(4) ولا يكون سببًا في فقر الدم.
(5) ولا يسبب الأحمضاض.
(6) ولا يضعف العضلة القلبية ولا يؤدي إلى استرخائها.
(7) ولا يسبب الأزمات التي تلاحظ في سوء التغذية.
(8) ولا يسبب مرض السل ولا يمهد له الطريق أبدًا.
(9) ولا ينقص المقاومة للأمراض.
(10) ولا يتلف الأسنان.
(11) ولا يضعف الغدد.
(12) ولا يسئ إلى الجملة العصبية.
(13) ولا يسبب الشذوذ النفسي.
(21) أشار العالم "كارينتون" إلى أن هناك حالات من الشلل وبعض الأمراض الأخرى يحصل فيها تحسن يومي طيلة فترة الصوم، ولكن اعتبارا من اللحظة التي يقطع فيها الصوم بشكل مبكر، فإن هذا التحسن يتوقف.
(22) في حالات السل المتقدم فإن الصوم غير مستطب ولا ينصح به.
(23) اضطرابات والتهابات الطرق التنفسية لا تختفي عادة في صوم قصير المدة.(2/243)
(24) إن الصوم لفترة قصيرة قد أعطى بعض التحسن الجزئي والقليل في حالات السرطان.
(25) الداء السكري عند المرضى البدينين يتطلب صومًا طويلاً نسبيًا:
يقول الدكتور السوري محمود برشه أخصائي الصوم الطبي معلقًا: "أحب أن أضيف هنا أن المريض بالسكري الذي لم يمض على مرضه خمس سنوات "وهو المسمى بالداء السكري الحديث" هو الذي يستفيد من عملية الصوم الطبي، وعندي حوادث عديدة من هذه الحالة، أما المريض بالسكري القديم الذي مضى على مدته أكثر من خمس سنوات فلا يستفيد من صيامه ولو صام عدة مرات ولفترات طويلة، وقد أشرفت على صيام العديد من الأشخاص صاموا أكثر من أربعين يوماً ولم يستفيدوا من صومهم" ولكل من ديوي وهازارد وكاينتون ومافون تجاربهم على مرضى الداء السكري وأثر الصوم الحسن عليه.
"يقول الدكتور مراد عبد الكريم المراد استشاري ورئيس قسم السكري والغدد بالمستشفى المركزي بالرياض: "مريض سكري النضوج الذي يعالج بالحمية الغذائية فقط هذا النوع من المرضى يستطيع صوم شهر رمضان ونحثه على الصيام في رمضان وفي غير رمضان. أما مريض السكري الذي لا يستطيع الصوم فهو:
* مريض مصاب بالسكري غير المستقر وهذه حالة نادرة.
* مريض دون الثلاثين عامًا وهو الذي يكتشف عنده السكري في أوائل شهر رمضان لا يستطيع الصوم عادة لأن مرضه يحتاج إلى متابعة مستمرة بغية الوصول إلى توازن السكر في الدم.
* المريض المسن المصاب بالسكري منذ أكثر من ثلاثين عامًا ويعاني من مضاعفات مرض السكري المتقدمة مثل فشل القلب، الفشل الكلوي لا يستطيع الصوم.
* المريضة الحامل المصابة بالسكري لا تستطيع الصوم عادة.
ثم يقول بعد ذلك "إن غالبية مرضى السكري يستطيعون الصوم" (1) .
__________
(1) "مرضى السكري وصيام" رمضان للدكتور عبد الكريم المراد - المجلة العربية العدد 200 رمضان 1414هـ.(2/244)
وللدكتور الشهير "آلان" تجاربه الشهيرة التي نشرت حول علاج الداء السكري بالصوم والتي أسماها "معالجة آلان".
(26) يقول العالم "سنكلير": "إنه قبل شروعه بالصوم، كان يوجد لديه صداع شديد كان يستمر أحيانًا أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، وحين شرع في الصوم ظل يشكو من هذا الصداع في اليوم الأول فقط ثم اختفى دون رجعة.
(27) يقول "بلوتارك": بدلاً من استعمال العقاقير والأدوية، صم ولو يوماً واحداً".
(28) الصوم والوقاية من المرض:
يقول "تيلدن" إن جميع الأمراض الحادة يمكن الوقاية منها إذا سبقت بصوم طويل نسبيًا، يسمح بإنقاص السموم المتراكمة، الأمر الذي يدل على أن الصوم الوقائي يضمن لنا مناعة فعالة ضد أي مرض. إن هذه المقولة إذا أخذت مأخذ الجد لابد وأن نجني منها الكثير من الثمار الحسنة.
(29) يقول البروفسور "وود" أستاذ الكيمياء في جامعة مونتريال في كندا:
"إن الصوم كعلاج في حالات الروماتيزم المفصلي الحاد قد طبق على سبعة من المرضى، وقد شفى هؤلاء المرضى بسرعة كبيرة بعد 4-8 أيام فقط من الصوم، كذلك طبق هذا البروفسور طريقة الصوم عند 40 مريضًا يشكون من المرض نفسه، واستنتج أن للصوم فائدة كبيرة في هذا المرض ذلك أنه لم تفشل هذه الطريقة من العلاج عند أي مريض من المرضى المذكورين كما أنه لم يعط هؤلاء المرضى أي دواء أثناء الصوم.
كما ذكر هذا البرفسور أيضاً أن الصوم في حالات الروماتيزم يجنب حدوث الاختلاطات القلبية التي تحدث عادة إبان سير هذا المرض.
(30) أغلب أنواع السعال يمكن إيقافها بصوم لا يتجاوز ثلاثة أيام، وإذا ما تم تجنب الأخطاء الغذائية، فإن السعال سيختفي تمامًا ولن يعود أما المرضى(2/245)
المصابون بالربو القصبي المعند فإن للصوم تأثيراً واضحًا في تحسين حالة المريض.
(31) حالات الزحار "الإسهال" لا يكون العلاج السليم بإعطاء أدوية مسكنة بل إنما يتم بالصوم.
(32) يقول الدكتور "شو": إنه من النادر جدًا أن لا تختفي آلام الأسنان بعد صوم 24 ساعة فقط، كما قال أيضًا: إذا كان لدينا شخص مصاب بآلام في أسنانه، فمهما كانت شدتها، فإنها ستختفي أو تخف حدتها بعد 24 ساعة من امتناعه عن كل طعام وشراب ما عدا الماء، ودلك شريطة ألا يكون هناك تورم في الوجه أو ترفع حروري، وفي جميع الحالات لا توجد طريقة علاج مكللة بالنجاح التام مثل الصوم.
(33) هناك أمراض أيضاً تتحسن بالصوم كالتهاب الأنف والتهاب القصبات والربو والتهاب القولون والتهاب المثانة.
(34) أثر الصوم وفائدته الكبرى في شفاء الداء الإفرنجي غير مختلف فيه. إذ ليس هناك ما هو أشد فعالية من الصوم في الطور الأولى والثانوي للداء الأفرنجي كما أثبت فعاليته في شفاء الطور الثلاثي من هذا المرض.
(35) هناك حالات من الصمم التام والعمى شفيت بالصوم:
يقول شيلتون "لقد أتاني مريض وهو مصاب بالصمم في أذن واحدة، وقد لازمه ذلك الصمم مدة 25 عامًا، صام هذا المريض مدة 30 يوماً وبعدها كانت النتائج مرضية جدًا، فقد استعاد سمعه كالمعتاد في الأذن المصابة.
(36) الصوم أحسن علاج للمصابين بطنين الأذن، ودوار منيير والصمم الشيخي.
(37) قال كارينتون: لقد صام عدد من المرضى من أجل التخلص من أمراض رئوية مزمنة أو متكررة فاختفت هذه الأمراض.(2/246)
وأخص بالذكر: مريض الربو والسعال التحسسي والتهاب القصبات المزمن.
(38) تحسن الذاكرة والانتباه من آثار الصوم:
والصوم في حالات الصرع مفيد كما قال الدكتور رابا غلياني.
(39) الصوم والإدمان الكحولي:
لقد كان "ديوي" أول من أشار إلى قيمة الصوم الكبير في مكافحة الإدمان الكحولي وقال كارينتون: إن الصوم هو أحد الطرق الأكثر سهولة من أجل معالجة الكحولية.
وقال ماك فاون في كتابه "الموسوعة العامة الفيزيائية": إنه ليس هناك نقدمها كنصيحة لمريض الإدمان أفضل من أن ننصحه بالصوم التام.
(40) الصوم أفضل علاج للمعتادين على التبغ والتدخين.
(41) وينصح أيضًا، المعتادين على القهوة والشاي والكاكاو التي تحوي الكافئين بالصوم.
(42) تعالج حالات إدمان الأفيون والمورفين والكاكائين بالصوم:
كما قال ماك فاوق: إن الصوم هو العلاج ذو القيمة الكبيرة جدًا.
يقول شليتون: وفي كل الحالات التي عالجتها بنفسي لم أذكر ولا حالة واحدة عاد فيها المدمن إلى ما كان يدمن عليه قبل أن يقوم بالصوم.
الصوم الطبي:
يقول الدكتور السوري محمود البرشة المختص بالصوم الطبي: "لا يزال موضوع الصوم الطبي في بلادنا، موضوعًا حديثًا في تطبيقاته الوقائية والعلاجية على حد سواء، في حين أنه أقيمت للصوم مشاف ومصحات خاصة في معظم الدول الأوربية والأمريكية.. ومن حين لآخر تصدر أبحاث علمية جديدة تزيد المعرفة بهذا الموضوع وتطبيقاته العلمية وفوائده السريرية.
وقد أشرفت بنفسي في عيادتي الخاصة على ما يزيد عن ثلاثة آلاف صائم(2/247)
كانت الغاية من الصوم عندهم مختلفة.. وبنتيجة هذه الإحصائية التطبيقية أستطيع أن أقول: إن النتائج كانت مذهلة حقًا. ففي هذه الحالات التي زادت على الثلاثة آلاف لم أشاهد حالة واحدة أدت إلى نتيجة سيئة وسأذكر بعض هذه الحالات التي شفيت أو تحسن أصحابها بالصوم من خلال مشاهداتي السريرية الخاصة.
(1) في حالة البدانية "السمنة" استطاع الصوم الطبي أن ينقص الوزن أسبوعيًّا ما بين (5-7) كيلو جرام دون أن يشعر الصائم بالجوع أو الوهن.
ويعتبر الصوم الطبي من أنجح الوسائل المستعملة حديثًا في إنقاص الوزن في التحضير للعمليات الجراحية، فمن الممكن أن تنخفض نسبة الكوليسترول من 900 ملج/ لتر لتصل إلى الرقم الطبيعي خلال صوم أسبوعين فقط.
(2) الروماتيزم: تزول الآلام الروماتيزمية بعد صيام أسبوع واحد، ويمكن لهجمات الروماتيزم أن تختفي بعد صوم ثلاثة أسابيع فقط.
(3) التهاب الوريد المزمن: عندي كثير من المشاهدات السريرية التي لم يشف أصحابها إلا على الصوم. ويعتبر الصوم الطبي أسرع علاج إذ أن الشفاء يتم بعد صيام أسبوعين فقط.
(4) القرحات الدوالية: كان عندي مريض مصاب بقرحة دوالية 10سم ووصف له في النهاية بترساقه، وقد شفيت هذه القرحة على صوم أربعين يوماً.
وقد أشرفت على عدد من مثل هذه الحالات، وهذا من عجائب الصوم الطبي ومن نتائجه الباهرة التي لا تضاهي.
(5) التهاب المفاضل التنكسي: عند المسنين والسمن عند العوام بالعصبي لدى كثير من الحالات التي تحسن أصحابها بعد صوم أسبوعين فقط.
(6) حب الشباب المعند يزول بعد صوم ثلاثة أسابيع وكأن صاحبه قد أجري عملية تجميل رائعة.
(7) ارتفاع حالات الكوليسترول وتراي جليسيريد يكفيها صوم أسبوعين حتى تنخفض كل المقادير المرتفعة إلى أقل من رقمها الطبيعي.(2/248)
(8) الحبسة الدماغية: وهي عدم القدرة على الكلام من منشأ دماغي قد شفى أصحابها على صوم ثلاث حالات شفوا تمامًا بعد صيام ثلاثة أسابيع وعادت لهم القدرة على الكلام تمامًا.
(9) عسر الهضم وسوء الامتصاص والنفخة المزمنة وحس الطعم الكريه في الفم كل ذلك قد شفى تمامًا أثناء الصوم.
(10) التهاب القولون المزمن قد تحسن بعد صوم عدة مرات، وذلك من خلال العشرات من الصائمين.
(11) أشرفت على صوم عدة مرضى مصابين بالداء السكري الذي لم يمض عليه خمس سنوات فزال المرض تمامًا ولم نحتج إلى استعمال أي معالجة كيماوية بعد ذلك.
(12) المصابين بارتفاع التوتر الشرياني، يكفيهم صيام ثلاثة أيام حتى يبدأ الرقم بالانخفاض تدريجيًا.
(13) داء القلاع المزمن: من جملة الأمراض التي أشرفت عليها وتحسن أصحابها بعد صوم أسبوع واحد فقط.
(14) من غريب المشاهدات التي لاحظتها أثناء إشرافي على الصائمين تجدد نمو الشعر في رؤوسهم.
(15) التهاب الجيوب المزمنة واللوزات المزمنة: تتحسن بعد صوم أسبوعين فقط.
(16) عالجت بالصوم الطبي المرضى المصابين بداء الصدف فكانت النتيجة التحسن بنسبة تزيد عن 70% بعد صيام أربعين يوماً.
(17) المصابون بأمراض تحسسية سواء منها الشرى أم الربو أم السعال التحسسي المعند على المعالجة، فقد كانت النتيجة رائعة وعجيبة بعد صيام ثلاثة أسابيع فقط وقد عالجت الكثير من هؤلاء المرضى، بعد أن يئسوا من كافة العلاجات الأخرى، فلنم يجدوا شفاءً إلا بالصوم الطبي.(2/249)
(18) أشرفت على صوم الكثير من المريضات المصابات بالتهابات نسائية مزمنة مضرة فكان الشفاء حليفهن.
(19) الشقيقة (صداع منتصف الرأس) المزمنة هي إحدى الأمراض التي تستجيب بسرعة للصوم الطبي.
(20) الذين يشكون من آلام فقرية سواء كانت رقبية أم قطنية عجزية لم تصل إلى حد انفتاق النواة اللبية، فإن الصيام الطبي كفيل بضمان شفائهم بعد مدة ثلاثة أسابيع فقط. وأنا كفيل بهذه النتيجة الحتمية إن شاء الله حيث أنه لم تفشل معالجة مريض واحد من هؤلاء المرضى الذين أشرفت عليهم، وقد بلغ عددهم المئات.
(21) قد يستغرب قارئ هذه الفقرات وخصوصًا الأطباء منهم، ولكن الواقع العملي التطبيقي هو الحقيقة القاطعة لذلك، وعندي من المشاهدات العملية ما تكفي لأن تكون مناظرة فاصلة قاطعة" (1) .
* وفي نهاية القرن السابع عشر كتب الدكتور "هوفمان" كتابًا شهيرًا حول العلاج بالصوم عنوانه "وصف النتائج الخيالية والسحرية الناتجة عن الصوم في جميع الأمراض".
* أما الدكتور الروسي "ثون سيلاند" فقد كتب يقول: "عقب جميع التجارب التي أجريتها، توصلت إلى أن الصوم ليس فقط واسطة علاجية من نوعية جيدة جدًا، بل أنه يستحق الاحترام من وجهة النظر الثقافية".
* كما أن الدكتور "وولف باير" وهو طبيب مشهور من الأطباء الألمان أشار في كتابه "العلاج بالصوم علاج المعجزات" إلى أنه يؤكد بأن الصوم هو الواسطة الأكثر فعالية من أجل القضاء على أي مرض من الأمراض، ثم أضاف يقول: إن الصوم والجراحة هما الأمران الكبيران والهامان اللذان نملكهما في عتادنا الطبي.
* وكذلك الأمر فإن الدكتور "سولد" رئيس مصحة "كلوزفيتز" يقول:
__________
(1) من تعليق الدكتور محمود البرشة على كتاب "التداوي بالصوم" تأليف هـ. م شيلتون.(2/250)
إن الصوم هو الطريقة الوحيدة ذات التطور الطبيعي التي تستطيع بواسطة التنظيف الكامل أن تعيد العضوية إلى وضع فيزيولوجي عادي.
ويقول الدكتور "أوزبك" أستاذ الجراحة في أوبسالا: لقد حصلت على نتائج باهرة في أغلب الحالات المرضية التي عالجتها بالصوم. ولقد بلغ نجاحه هذا حدًا جعل الإدارة المسؤولة عن الأبحاث تخصص له جائزة مقدارها خمسة آلاف دولار بالإضافة إلى خمسمائة دولار تقدم له كل عام تشجيعًا له على أبحاثه.
وهكذا يستعمل الصوم في الوقت الحاضر في كثير من المصحات الأوربية وفي بريطانيا، وفي جميع أنحاء المعمورة (1) .
***
__________
(1) كتاب التداوي بالصوم تأليف هـ. م شيلتون. تصدير سماحة الشيخ أحمد كفتارو المفتي العام لسوريا - دار الرشيد دمشق.(2/251)
الفرق بين الصيام الإسلامي والتجويع [الصوم الطبي] (1)
عرف علماء التغذية الصيام بأنه الامتناع الكلي أو الجزئي عن تناول المأكولات والمشروبات معًا، أو عن تناول المأكولات فقط لفترة من الزمن طالت أم قصرت.
وقد دخل التجويع (Starvation) في هذا المفهوم للصيام، ويلاحظ أن هذا المفهوم يختلف اختلافًا جوهريًّا عن تعريف الصيام الإسلامي، والذي هو إمساك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية، ولا تذكر المراجع الطبية غالبًا الصيام إلا تحت عنوان التجويع (Starvation) ، وقد حصل لذلك خلط ولبس بين الصيام الإسلامي والتجويع، مما جعل الكثيرين من متلقى العلوم الحديثة وخصوصًا الأطباء لا يفرقون بينهما، ويسقطون أخطار التجويع على الصيام الإسلامي، لأن المدرسة الطبية الغربية التي تتلمذ فيها الجميع، لا تشير من قريب أو بعيد إلى الصيام الإسلامي، وتكتفي بالتعميم، هذا وقد أصبح للتجويع مدرسة طبية وأقيمت له مصحات عالمية في كثير من بلدان العالم، يعالجون به عددًا من الأمراض المزمنة، وقد سموه الصيام الكلي أو الطبي (2) فكان لزامًا علينا في هذا البحث أن نتعرف على
__________
(1) هذا البحث بأكمله من كتاب "الصيام معجزة علمية" للدكتور عبد الجواد الصاوي - نشر المجلس الأعلى للمساجد - هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة برابطة العالم الإسلامي، وفيه أبحاث من كبار الأطباء وأساتذة كلية الطب جامعة الملك سعود بالرياض وأساتذة كلية الطب جامعة الملك عبد العزيز في ندوتين لهيئة الإعجاز العلمي بينها وبين الأساتذة والباحثين من خارج وداخل المملكة السعودية في جمادي الآخرة سنة 1411هـ.
(2) وفي هذا النوع من الصيام كما يسمونه يمتنع فيه عن الطعام فقط دون الماء، لفترة من الزمن تطول أو تقصر، وتقوم فكرته على حقيقة مقدرة الطاقة المختزنة في الجسم على إمداد الإنسان بالحياة والحركة فترة تتراوح من شهر إلى ثلاثة شهور.(2/252)
كل من الصيام الإسلامي والتجويع، وأن نبين الفروق الجوهرية بينهما.
وظائف الأعضاء في الصيام الإسلامي
تتراوح الفترة الزمنية التي يمتنع فيها المسلم عن تناول الطعام والشراب من 12-16 ساعة، وتقابل هذه الفترة في علم وظائف الأعضاء بمرحلتين في تمثيل الغذاء داخل الجسم:
1- مرحلة امتصاص الغذاء وتتراوح من 3-5 ساعات تبعًا لكمية ومحتويات الوجبة الغذائية المتناولة في السحور.
2- مرحلة ما بعد الامتصاص: والتي تبدأ بعد امتصاص جميع المواد الغذائية في وجبة السحور من الأمعاء الدقيقة.
يتكون التمثيل الغذائي من مرحلتين: مرحلة بناء، ومرحلة هدم، وأثناء مرحلة البناء تستخدم المواد الغذائية في البناء، وتقابل مرحلة امتصاص الغذاء، وأثناء مرحلة الهدم تكسر المواد الغذائية بواسطة عمليات الأكسدة لإنتاج الطاقة، في صورة حرارة أو عمل أو طاقة مختزنة، وتقابل مرحلة ما بعد الامتصاص.
1- مرحلة امتصاص الغذاء: وهي مرحلة البناء
بعد تناول الطعام في وجبة السحور، يرتفع مستوى الجلوكوز والدهون والأحماض الأمينية في الدم، وتبدأ مرحلة البناء والترميم كالتالي:
أولاً: امتصاص الكربوهيدرات:
تمتص الكربوهيدرات في صورة جلوكوز بصورة رئيسية، وتمر أولاً إلى الكبد عبر الدورة البابية.
يزيل الكبد حوالي 60-80% من الكربوهيدرات، وتخزن بعضها في صورة جليكوجين، عن طريق تشجيع عملية تكون الجليكوجين الكبدي (Glycogenesis) ، ويحول الباقي إلى أحماض دهنية وثلاثي الجليسرول، حيث تخزن الأحماض الدهنية تباعًا في النسيج الشحمي، ويدخل باقي الجلوكوز (من 20-40%) إلى الأنسجة الطرفية، حيث يختزن كجليكوجين في العضلات، أو(2/253)
يؤكسد ليعطي مسافة كيمائية في صرة مركب (أدينوزين ثلاثي الفوسفات) وأشباهه.
وتحفظ الكربوهيدرات معدل جلوكوز الدم ثابتًا، ولو هبط عن معدله لتأثرت جميع الأنسجة التي تعتمد عليه كمصدر أساسي للطاقة، مثل المخ والجهاز العصبي، ويحدث لها حالة مثل التي تحدث لمرضى السكري غير المتحكم فيه.
ينبه ارتفاع الجلوكوز في الدم إفراز الأنسولين، ويقلل من إفراز هرمون الجلوكاجون، والذي يقل بوضوح شديد بعد وجبة غنية بالكربوهيدات.
تتحول الكربوهيدرات إلى دهون، تختزن في العضلات المخططة والكبد والنسيج الشحمي، كما تتحول إلى أحماض أمينية غير أساسية، عندما لا تتوفر هذه الأحماض في الغذاء.
ثانيًا: امتصاص الدهون:
أما الدهون من وجبة السحور، فتمتص وتصل إلى الدورة الدموية عن طريق القناة السليمفاوية الصدرية، لتختزن في خلايا الأنسجة الشحمية، على هيئة ثلاثي الجليسرول (Triacylgiycerol) ، تحت الجلد، وفي العضلات، وفي الأحشاء، وهذا الخلايا تكبر ثم تنكمش، حينما تحدث تغيرات تخزينية لمستوى الدهن فيها، ويعتبر الدهن مخزنا للطاقة ومادة عازلة في الجسم.
ثالثًا: امتصاص الأحماض الأمينية (البروتينات) :
تتحول البروتينات إلى مكوناتها من الأحماض الأمينية، بفعل العصارات الهضمية في المعدة والأمعاء، ثم تمتص هذه الأحماض ولا تختزن كما هي، ولكن تستخدم في تكوين البروتين الذي يزداد نتيجة لتثبيط عملية تصنيع جلوكوز جديد (Gluconeogenesis) في الكبد فور تناول الوجبة؛ كما يؤكسد الكبد مزيدًا منها.
تتحلل الأحماض الأمينية الزائدة إلى جزء آزوتي، يتحول إلى بولينا تخرج معه البول، وإلى جزء غير آزوتي قد يتحول إلى جليكوجين يخزن في(2/254)
الكبد، أو يتحول إلى دهن، يخزن في الجسم لوقت الحاجة.
والخلاصة أن التأثير الكلي لوجبة الغذاء - (في السحور) ، بناء على ما سبق-، هو تقديم مخزون للجسم من الكربوهيدرات في الكبد، والعضلات، ومخزون من الدن (ثلاثي الجليسرول) في النسيج الشحمي، والكبد، واستخدام الأحماض الأمينية في تصنيع البروتين في كل أنسجة الجسم، وخاصة الكبد، وتقديم الأحماض الدهنية الأساسية والفيتامينات والمعادن، والتي لا يمكن للجسم أن يصنعها بداخله، وتتوقف عليها عمليات الاستقلاب الأساسية.
2- فترة ما بعد الامتصاص: وهي مرحلة الهدم:
تبدأ هذه المرحلة بعد تناول وجبة السحور بحوالي 4-6 ساعات بعدما تمتص جميع محتويات الأمعاء الدقيقة، وتتراوح فترة ما بعد الامتصاص من (6-12) ساعة من امتصاص الطعام، وقد تمتد حتى 40 ساعة، وبما أن الصيام الإسلامي يبدأ من بداية مرحلة الامتصاص، وعلى اعتبار أن الصوم في المناطق المدارية حوالي 15 ساعة، فإن عدد ساعات الصيام الإسلامي لن تتعدى غالبًا فترة ما بعد الامتصاص.
ويمكن تلخيص أهم الأحداث في هذه المرحلة فيما يلي:
1- تتوقف جميع المواد الغذائية التي تصل الجسم من خلال الأمعاء خلال هذه الفترة، ويعتمد الجسم البشري على المخزون من الغذاء للحصول منه على الطاقة، ويحرك هذا المخزون هبوط تركيز جلوكوز الدم، وفي بداية هذه المرحلة يكون مصدر الجلوكوز في الدم ناتج من تحلل الجليكوجين الكبدي، وتأخذ جميع أنسجة الجسم الطاقة منه.
2- يهبط مستوى الجلوكوز في الدم، فيؤدي إلى نقص إفراز الإنسولين (الذي كان مرتفعًا في فترة الامتصاص) ، وهذا يعمل كمنبه لإفراز هرمون الجلو-كاجون، وهذه التغيرات الهرمونية تؤدي إلى ازدياد تحلل الجليكوجين الكبدي، وتثبيط تكونه، وازدياد تصنيع جلوكوز جديد في الكبد، لأن تحلل الجليكوجين بمفرده لا يكون قادرًا على إنتاج الجلوكوز الكافي، خصوصًا كلما(2/255)
اتجهنا لنهاية هذه المرحلة، فيصنع جلوكوز إضافي من الأحماض الأمينية في الكبد، وخصوصًا من حمض الألانين لذلك فالكبد يقدم خلال هذه المرحلة كل جولكوز الجسم، (75% منه من تحلل الجليكوجين، 25% من عملية تصنيع جلوكوز جديد) ، وبالتالي فالأنسجة التي تعتمد اعتمادًا أساسيًا على الجلوكوز مثل المخ، وكرات الدم الحمراء، تستهلك الجلوكوز، ولا تتأثر بتاتًا بأي نقص فيه في مرحلتي الامتصاص وما بعد الامتصاص، وهما يمثلان فترة الصيام الإسلامي.
3- ينقص تكون الدهن (ثلاثي الجليسرول) وتخزينه، ويزداد تحلله، بسبب ارتفاع هرمون الجلوكاجون، وهبوط الإنسولين والجلوكوز في الدم، مما يؤدي إلى تنشيط إطلاق الأحماض الدهنية الحرة من النسيج الشحمي، والتي تؤكسد لتمد معظم الأنسجة باحتياجاتها من الطاقة، مثل العضلات والقلب، وتحفظ بهذا معظم الجلوكوز للأنسجة الأخرى، وفي نهاية هذه المرحلة يعتمد الجسم أساسًا على أكسدة هذه الدهون.
4- معدل تحلل الدهون وهبوط الإنسولين في الدورة البابية خلال هذه الفترة، لا يكون بالقدر الذي يشجع الكبد لتحويل الأحماض الدهنية الحرة إلى أجسام كيتونية، ولا يزال المخ في هذه الفترة يستخدم الجلوكوز فقط.
5- تبدأ الأحماض البروتينية في الانطلاق تحت تأثير هبوط الإنسولين، كنتيجة للنقص الشديد في تصنيع بروتين العضلات، وخصوصًا حمضي الجلوتامين والألانين، حيث يشاركان في عملية تصنيع الجلوكوز الجديد في الكبد، الذي يعزز الجلوكوز المنتج بواسطة تحلل الجليكوجين) ، والنتيجة النهائية للتغيرات في تركيز هرموني (الإنسولين والجلوكاجون، هو توفير الجلوكوز، وإطلاق الأحماض الدهنية الحرة من النسيج الشحمي، فتستهلك العضلات الطرفية والنسيج الشحمي، جلوكوزًا أقل في نهاية هذه المرحلة، وتعتمد أكثر على الأحماض الدهنية كمصدر رئيسي للطاقة.
هناك علاقة بين نسبة أكسدة الأحماض الدهنية واستهلاك الجلوكوز بواسطة(2/256)
الأنسجة في هذه المرحلة، فكلما زادت أكسدة الدهون، قل استهلاك الجلوكوز، والعكس با-لعكس، لذلك فعندما -تقل نسبة الأكسدة للأحماض الدهنية، لا يتأخر نفاد الجليكوجين عن حوالي 10 ساعات، وعندما تزداد أكسدة هذه الأحماض، فلربما يتأخر نفاذه إلى حوالي 24 ساعة، وبما أنه في نهاية هذه الفترة تتسارع أكسدة الأحماض الدهنية، وفي بدايتها يستهلك الجلوكوز بكميات أكبر، فمعظم الأنسجة تستهلك الجلوكوز أثناء فترة الصيام الإسلامي.
أما في نهايتها فيستهلكه المخ والجهاز العصبي وكرات الدم الحمراء فقط وهذه الأجهزة التي تعتمد أساسًا على الجلوكوز لا تحصل على الطاقة إلا منه خلال فترة الصيام الإسلامي، من ذلك ندرك بعض الحكمة في حرص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يلتزم المسلمون بتناول السحور وتأخيره إلى نهاية الليل (طلوع الفجر) ، ثم حرصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيضاً على تعجيل الفطر، حتى تختصر فترة ما بعد الامتصاص إلى القدر غير المرهق للعمليات الحيوية، وبما لا يمثل أدنى شدة على الجسم البشري.
وظائف الأعضاء في التجويع المطلق:
قسمت المراجع الطبية التجويع إلى ثلاث مراحل: مبكر، ومتوسط الأجل، وطويل الأجل، والمرحلة المبكرة منه هي مرحلة ما بعد امتصاص الغذاء، وقد تقدم الحديث عنها في الصيام الإسلامي، واعتبرها البعض مرحلة مستقلة، وقسم التجويع إلى مرحلتين: قصير الأجل، وطويل الأجل.
1- التجويع قصير الأجل:
تتراوح مدة هذه المرحلة من يومين إلى سبعة أيام، والتغيرات الاستقلابية التي تحدث خلال هذه الفترة، عبارة عن استمرار وتسريع للعمليات التي بدأت في فترة ما بعد الامتصاص.
يحدث انخفاض تدريجي في تركيز جلوكوز الدم والإنسولين في هذه المرحلة مع ارتفاع لهرمون الجلوكاجون، فيؤدي إلى زيادة إفراز الأحماض الأمينية في العضلات، و (خصوصًا حمضي الجلوتامين والألانين) وزيادة انحلال الدهن في الأنسجة الشحمية، ويتحول بعض الجلوتامين الذي تفرزه(2/257)
العضلات بواسطة الخلايا الماصة في الأمعاء إلى حمض الألانين، الذي يساهم مع حمض اللاكتيك الذي تفرزه الكريات الحمراء والأنسجة الأخرى، وكذلك الجليسرول الذي يتم إفرازه من تحلل الدهن تساهم كلها في زيادة معدل تكوين الجلوكوز الجديد في الكبد، ويزيد إنتاج هذا الجلوكوز في هذه المرحلة من ضعفين إلى ثلاثة أضعاف إنتاجه في فترة ما بعد الامتصاص، وهو مسئول عن كل كمية الجلوكوز التي يفرزها الكبد، وتقترن زيادة إنتاج الجلوكوز إبان فترة التجويع قصير الأجل، بارتفاع تحلل البروتين، ويحدث بذلك توازن نتروجيني سلبي هام، يتم فيه إفراز معظم النتروجين على شكل بولينا، ويأخذ الكبد في هذه المرحلة مساهمة كبيرة في إمداد الأنسجة المختلفة بالطاقة التي تحتاجها؛ وتوفر 20% من الطاقة اللازمة للعضلات والدماغ.
وهكذا فإن الاستقلاب الحاصل خلال فترة التجويع قصير الأجل، يتصف بارتفاع معدلات استقلاب البروتين، وتصنيع الجلوكوز الجديد بكميات كبيرة، وتكون الأجسام الكيتونية لتأمين حاجة الجسم من الطاقة.
2- التجويع لفترات طويلة:
تتراوح مدة هذه المرحلة من أسبوعين إلى ستة أسابيع، ينخفض خلالها معدل تحلل البروتين وإفراز النتروجين، ويزداد تحلل الدهون، ويعتمد على ثلاثي الجليسرول القادم من الأنسجة الشحمية لتأمين الطاقة، وينخفض إنتاج جلوكوز الكبد من حوالي 200 جم يوميًّا خلال فترة ما بعد الامتصاص، إلى حوالي 50 جم/ في اليوم، خلال هذه المرحلة، ويعتمد حوالي 75% من جلوكوز الكبد على مصادر الأحماض غير الأمينية (لاكتات، بيروفات، جليسرول) ، ويعني ذلك أن عملية تصنيع الجلوكوز الجديد لا يكون وقودها الأساسي الأحماض الأمينية كما في الفترة السابقة.
وفي الوقت ذاته تشارك الكليتان في إنتاج الجلوكوز الجديد، إذ تكون الكلية حوالي 40 جم/ في اليوم (تؤخذ من الأحماض الأمينية) ، مع إفراز النيتروجين الزائد على شكل أمونيا لا على شكل بولينا، وينخفض لذلك فقدان النيتروجين بصورة تدريجية خلال هذه المرحلة، ومع انخفاض الطلب على(2/258)
الجلوكوز في هذه الفترة ينخفض أيضاً معدل إفراز الأحماض الأمينية من العضلات إلى حوالي ثلث الكمية المفرزة في فترة ما بعد الامتصاص.
ومع ازدياد معدل انحلال الدهن تزداد الأحماض الدهنية التي تصل إلى الكبد، فيرتفع معدل إنتاج الأجسام الكيتونية، وتزداد تدريجيًّا في الدم وتصل إلى مستوى ثابت، يعتمد عنده الدماغ للحصول على الطاقة منها، لتحل محل الجلوكوز كمصدر رئيسي للطاقة، إذ توفر من (60-80%) من كمية الطاقة التي يحتاجها الدماغ.
هذا وقد وجد أن ارتفاع مستوى الأجسام الكيتونية في مصل الدم لا ينتج زيادة في حموضة الدم، وذلك لأن الأمونيا الناجمة عن تكون الجلوكوز الجديد في الكلية (من الجلوتامين أساسًا) تسبب زيادة تعويضية في إفراز البروتينات.
ويبدو أيضاً أن ارتفاع مستويات الأجسام الكيتونية يساهم في انخفاض تكون الجلوكوز الجديد الملازم لهذه المرحلة، وذلك يمنع انحلال بروتينات العضلات؛ لذا فإن الأجسام الكيتونية تعمل على خفض إنتاج جلوكوز الكبد، وتعمل بمثابة طاقة بديلة للدماغ، وتحافظ على بروتينات الجسم، ومع نفاذ كمية الدهون القابلة للنقل والتحريك في نهاية هذه المرحلة، فإنه تحدث زيادة في استقلاب البروتينات في المراحل قبل النهائية، وهكذا فإن القدرة على تحمل التجويع أو الصيام الطبي لفترات طويلة، يعتمد على كمية الدهون المخزونة في الأنسجة الشحمية.
أوجه الاتفاق والاختلاف بين الصيام الإسلامي والتجويع:
هناك أوجه اتفاق واختلاف بين الصيام الإسلامي، وبين ما يعرف بالصيام الطبي (التجويع المطلق) ، وتتيح أوجه الاتفاق بينهما مساحة مشتركة تجعل كل الفوائد الثابتة علميًا للصيام الطبي، تتحقق بالصيام الإسلامي المثالي، التي تقل فيه فترة الهضم والامتصاص، وذلك بالاعتدال في الطعام أثناء السحور والإفطار وتتاح فيه فرصة أكبر لعملية تحلل المدخرات الغذائية وذلك ببذل الجهد والعمل الدائب والتخلص من الكسل وكثرة النوم أثناء الصيام.(2/259)
وبناء على ذلك فقد استشهدنا ببعض الأبحاث التي أجريت على الصيام الطبي لعلاج بعض الأمراض، ولإثبات بعض الحقائق التي أخبرها عنها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصيام، ولتكن هذه الأبحاث حافزًا للباحثين على إجرائها في الصيام الإسلامي.
ويمكن تلخيص أوجه الاتفاق والاختلاف بين الصيام الطبي والصيام الإسلامي في النقاط التالية:
1- يتفق الإثنان في تحقيق هدف مشترك، هو إراحة الجسم من هضم الغذاء، وإتاحة الفرصة لاستهلاك المدخر منه، وطرح السموم المتراكمة فيه، وتنشيط عمليات الاستقلاب الحيوية.
2- كلاهما يمتنع فيه عن تناول المواد الغذائية في فترة زمنية محددة.
3- ويختلفان في أن للصيام الإسلامي فترة زمنية محددة بنهار اليوم، ومتتابعة لمدة شهر، ودورية كل سنة على وجه الإلزام للمسلم، ولعدة أيام متفرقة في بقية العام على وجه الاختيار (صيام التطوع) ، أما في الصيام الطبي: فهو امتناع عن الغذاء فترة زمنية متصلة تحدد لكل إنسان حسب ظروفه، أو مرضه، وهي على وجه الاختيار.
4- الصيام الإسلامي يستطيعه كل المكلفين الأصحاء في شتى الأقطار والأزمان، وهو سهل ميسور، وليس فيه أية أخطار على الجسم، ولا يمثل أية شدة، والمسلمون يصومون طائعين، فرحين، محبين، أما الصوم الطبي فلا يستطيعه الناس جميعًا وهو قهر شديد للنفس، ويمثل مشقة وعنتًا للجسم، ولا يقبل عليه إلا من طغى عليه المرض، أو استيقن بفائدة يجنيها من ممارسته، ويصوم محاطا بالأطباء والممرضين وأجهزة الإسعاف والطوارئ.
5- للتجويع أْخطاء لا توجد في الصيام الإسلامي: يحرم الجسم في أثناء التجويع من إمداده بالأحماض الدهنية الأساسية، والأحماض الأمينية الأساسية (Essential Naimo and Fatty Acids) ، والتي لا تتوافر إلا في الغذاء، وتتجمع كميات كبيرة من الأحماض الدهنية في الكبد، نتيجة لتحلل الدهن(2/260)
المختزن في أنسجة الجسم بمعدلات كبيرة، مما يؤدي إلى ترسب الدهن بكثرة (ثلاثي الجليسرول Triaclyglycerol) في خلاياه، الأمر الذي ينجم عنه حالة تشمع للكبد (Fatty Liver) فتضطرب وظائفه ويصاب الجسم بالعلل.
وهذا بفضل الله لا يحدث في الصيام الإسلامي، حيث يمد الجسم بالأحماض الدهنية الأساسية والأحماض الأمينية الأساسية في وجبتي السحور والفطور، ويقوم الكبد بتركيب البروتين والمواد الدهنية والفوسفورية، بمعدل كاف لعملية تصنيع البروتين الشحمي (Lipoprotin) منخفض الكثافة جدًا، وهو المركب الذي يسهل نقل الدهون من الكبد، وحتى لا تتجمع بكميات كبيرة تعوق هذه العملية الحيوية، فلا يحدث التشمع الكبدي كما في حالة التجويع.
والحرمان من الأ-حماض الأمينية والد-هنية يؤدي إلى خلل -في الجسم فلا تتكون بعض البروتينات، والهرمونات، والأنزيمات الهامة، والتي يتوقف تكونها على توافر الأحماض الأساسية، كما أن الحرمان من الأحماض الأمينية في الغذاء يؤدي إلى تهدم مزيد من خلايا الجسم، وخصوصًا العضلات لإنتاج هذه الأحماض واستخدامها في تصنيع الجلوكوز، أو إنتاج الطاقة بعد تحويلها إلى أحماض أكسجينية، ويحدث بذلك توازن نتروجيني سلبي (Negative Nitrogen Balance) .
كما أنه في حالة التجويع تحدث أكسدة كثيفة للأحماض الدهنية المتجمعة في الكبد، مما ينتج عنه كميات كبيرة من الأجسام الكيتونية (Acito Acetic and Sever Metavolic Acidosis) والتي تؤدي بدورها إلى حموضة شديدة بالدم، (Sever Metavolic Acidosis) .
6- للصيام الإسلامي مميزات لا توجد في التجويع:
أ- يحدث توازن لدورتي البناء والهدم أثناء الصيام الإسلامي، وذلك بتناول الطعام في المساء، والامتناع عنه أثناء النهار، ويصب في مجمع الأحماض الأمينية كمية كبيرة من هذه الأحماض القادمة مع الغذاء، مما يساعد على التجديد السريع لخلايا، ومكوناتها، وتوفير القدر اللازم منها لإنتاج(2/261)
جلوكوز الدم أثناء النهار، وتوفير الأحماض الأمينية الحرة في بلازما الدم.
ب- وجود كمية مخزونة من البروتين في خلايا الكبد، بواسطة التضخم (Hypertrophy) ، وفرط التنسج (Hyperplasia) ، بعد وجبتي الفطور والسحور يجعل الجسم قادرًا على تكوين البروتينات الحيوية اللازمة كبروتينات البلازما (الألبيومين والجلوبيولين والفيبرونوجين) ، وعوامل تخثر الدم، وكثير من البروتينات اللازمة لنقل المواد والمركبات الحيوية فيما بين الأعضاء والأنسجة المختلفة، وذلك كالبروتين اللازم لنقل الحديد، وفيتامين ب 12، والأدوية، وغير ذلك، وهذا لا يتوفر بكميات كافية أثناء التجويع لفترات طويلة، مما يسبب سيولة في الدم، وتورمًا في الجسم، وانخفاضًا في الأجسام المضادة، وظهور أعراض نقص فيتامين ب 12، وبعض المعادن الحيوية الأخرى.
ج- يحدث مزيدًا من إنتاج اليوريا من الأمونيا المتكونة من الأحماض الأمينية، بعد تناول الغذاء في المساء، ولا يحدث غالبًا أي خلل في التوازن النتروجيني أثناء النهار، نتيجة لتخزين الكبد الكمية من البروتين في خلاياه بعد وجبتي السحور والإفطار.
د- يتخلص الجسم من الدهون بطريقة طبيعية آمنة في الصيام الإسلامي، فلا تؤدي إلى تشمع الكبد، حيث لا تتجمع كميات كبيرة منها كما في التجويع.
هـ- تنشط عمليات الكبد الحيوية في الصيام الإسلامي، فيقوم بتصنيع البروتين، والمواد الدهنية الفوسفورية، لتكوين البروتين الشحمي، الحيوي
للجسم (VDLP) ، والذي يقوم بنقل الدهون من الكبد، بعكس التجويع الذي يثبط هذه العملية الحيوية.
و تتأكسد الأحماض الدهنية ببطء، ولا تتجمع الأجسام الكيتونية في الدم، وتحدث حموضة الدم الخطيرة كما في حالة التجويع.
***(2/262)
نظريات علمية في بعض فوائد الصيام الإسلامي وآدابه
الصيام والتخلص من السموم
يتعرض الجسم البشري لكثير من المواد الضارة، والسموم التي قد تتراكم في أنسجته، وأغلب هذه المواد تأتي للجسم عبر الغذاء الذي يتناوله بكثرة، وخصوصًا في هذا العصر، الذي عمت فيه الرفاهية مجتمعات كثيرة، وحدث وفر هائل في الأطعمة بأنواعها المختلفة، وتقدمت وسائل التقنية في تحسنها وتهيئتها وإغراء الناس بها، فانكب الناس يلتهمونها بينهم، مما كان له أكب الأثر في إحداث الخلل لكثير من العمليات الحيوية داخل خلايا الجسم، وظهر -نتيجة لذلك- ما يسمى بأمراض الحضارة: كالسمنة، وتصلب الشرايين، وارتفاع الضغط الدموي، وجلطات القلب، والمخ، والرئة، ومرض السرطان، وأمراض الحساسية والمناعة.
وتذكر المراجع الطبية: أن جميع الأطعمة تقريبًا في هذا الزمان تحتوي على كميات قليلة من المواد السامة، وهذه المواد تضاف للطعام أثناء إعداده، أو حفظه: كالنكهات، والألوان، ومضادات الأكسدة، والمواد الحافظة، أو الإضافات الكيميائية للنبات أو الحيوان: كمنشطات النمو، والمضادات الحيوية، المخصبات، أو مشتقاتها، وتحتوي بعض النباتات في تركيبها على بعض المواد الضارة، كما أن عددًا كبيرًا من الأطعمة تحتوي على نسبة من الكائنات الدقيقة، التي تفرز سمومها فيها وتعرضها للتلوث، هذا بالإضافة إلى السموم التي نستنشقها مع الهواء، من عوادم السيارات، وغازات المصانع، وسموم الأدوية التي يتناولها الناس بغير الناس بغير ضابط، إلى غير ذلك من سموم الكائنات الدقيقة، التي تقطن في أجسامنا بأعداد تفوق الوصف والحصر، وأخيرًا مخلفات الاحتراق الداخلي للخلايا، والتي تسبح في الدم، كغاز ثاني أكسيد(2/263)
الكربون، واليوريا، والكرياتنين، والأمونيا، والكبريتات، وحمض اليوريك.. إلخ، ومخلفات الغذاء المهضوم، والغازات السامة التي تنتج من تخمره وتعفنه، مثل الأندول والسكاتول والفينول.
كل هذه السموم جعل الله سبحانه وتعالى للجسم منها فرجًا ومخرجًا، فيقوم الكبد وهو الجهاز الرئيسي في تنظيف الجسم من السموم، بإبطال مفعول كثير من هذه المواد السامة، بل قد يحولها إلى مواد نافعة، مثل: اليوريا، والكرياتين، وأملاح الأمونيا، غير أن للكبد جهدًا وطاقة محدودة، وقد يعتري خلاياه بعض الخلل لأسباب مرضية، أو لأسباب طبيعية كتقدم السن فيترسب جزء من هذه المواد السامة في أنسجة الجسم، وخصوصًا في المخازن الدهنية.
وتذكر المراجع الطبية، أن الكبد يقوم بتحويل مجموعة واسعة من الجزئيات السمية، والتي غالبًا ما تقبل الذوبان في الشحوم، إلى جزئيات تذوب في الماء غير سامة، يمكن أق يفرزها الكبد عن طريق الجهاز الهضمي، أو تخرج عن طريق الكلى.
وفي الصيام تتحول كميات هائلة من الشحوم المختزنة في الجسم إلى الكبد حتى تؤكسد، وينتفع بها، وتستخرج منها السموم الذائبة فيها، وتزال سميتها ويتخلص منها مع نفايات الجسد.
كما أن هذه الدهون المتجمعة أثناء الصيام في الكبد، والقادمة من مخازنها المختلفة، يساعد ما فيها من الكوليستيرول على التحكم وزيادة إنتاج مركبات الصفراء في الكبد، والتي بدورها تقوم بإذابة مثل هذه المواد السامة، والتخلص منها مع البراز.
ويؤدي الصيام خدمة جليلة للخلايا الكبدية، بأكسدته للأحماض الدهنية، فيخلص هذه الخلايا من مخزونها من الدهون، وبالتالي تنشط هذه الخلايا، وتقوم بدورها خير قيام، فتعادل كثيرًا من المواد السامة، بإضافة حمض الكبريت أو حمض الجلوكونيك، حتى تصبح غير فعالة ويتخلص منها الجسم.
كما يقوم الكبد بالتهام أية مواد دقيقة، كدقائق الكربون التي تصل إلى الدم(2/264)
ببلعمة جزيئاتها، بواسطة خلايا خاصة تسمى خلايا "كوبفر"، والتي تبطن الجيوب الكبدية، ويتم إفرازها مع الصفراء.
وفي أثناء الصيام يكون نشاط هذه الخلايا في أعلى معدل كفائتها، للقيام بوظائفها، فتقوم بالتهام البكتريا، بعد أن تهاجمها الأجسام المضادة المتراصة.
وبما أن عمليات الهدم (Catabolis) في الكبد أثناء الصيام تغلب عمليات البناء في التمثيل الغذائي، فإن فرصة طرح السموم المتراكمة في خلايا الجسم تزداد خلال هذه الفترة، ويزداد أيضاً نشاط الخلايا الكبدية في إزالة سمية كثير من المواد السامة، وهكذا يعتبر الصيام شهادة صحية لأجهزة الجسم بالسلامة.
يقول الدكتور "ماك فادون" وهو من الأطباء العالميين، الذين اهتموا بدراسة (1) الصوم وأثره، "إن كل إنسان يحتاج إلى الصوم، وإن لم يكن مريضاً، لأن سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم، فتجعله كالمريض وتثقله، فيقل نشاطه، فإذا صام الإنسان تخلص من أعباء هذه السموم، وشعر بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل".
***
__________
(1) الصوم الطبي الذي هو الجوع المطلق والتجويع.(2/265)
هل الأفضل في الصيام الحركة أم السكون؟
ذكرت المراجع، أن الحركة العضلية في فترة ما بعد امتصاص الغذاء - (أثناء الصوم) - تؤكسد مجموعة خاصة من الأحماض الأمينية (ليوسين وأيسولوسين والفالين) ، وتسمى الأحماض ذات السلسلة المتفرعة (BrCAAs) ، وبعد أن تحصل الخلايا العضلية على الطاقة المنبعثة من هذا التأكسد، يتكون داخل هذه ا-لخلايا حمضين أمينيين -في غاية الأهمية، وهما حمضا الألانين والجلوتامين، ويعتبر الأول وقودًا أساسيًا في تصنيع الجلوكوز الجديد في الكبد، ويدخل الثاني في تصنيع الأحماض النووية، ويتحول جزء منه إلى الحمض الأول، كما يتكون أثناء النشاط والحركة حمضًا البيروفيت واللاكتيت، من أكسدة الجلوكوز. في الخلايا العضلية واللذان يعتبران أيضاً الوقود الأولي لتصنيع جلوكوز الكبد.
تتأكسد الأحماض الأمينينة ذات السلسلة المتفرعة أساسًا في العضلات، حيث يوجد الأنزيم الخاص بتحويل مجموعة الأمين (Amino Transteraset) بكثرة في جهازي الاحتراق (الميتوكندريا) والسيتوزول (Cytosol) في الخلايا العضلية، وتزداد هذه الأكسدة بالحركة، لذلك فعملية تصنيع جلوكوز جديد في الكبد تزداد بازدياد الحركة العضلية، وربما تصل إلى ثلاثة أضعافها في حالة عدم الحركة، ويعتبر حمض الألانين أهم الأحماض الأمينية المتكونة في العضلات أثناء الصيام، إذ يبلغ 30% منها، وتزيد هذه النسبة بالحركة والنشاط، ويتكون من أكسدة بعض الأحماض الأمينية ومن البيروفيت، كما يتحول هو أيضاً إلى البيروفيت عبر دائرة تصنيع الجلوكوز في الكبد، وأكسدته في العضلات.
ويستهلك الجهاز العضلي الجلوكوز القادم من الكبد، للحصول منه على الطاقة، فإن زادت الحركة وأصبح الجلوكوز غير كاف لإمداد العضلات بالطاقة، حصلت على حاجتها من أكسدة الأحماض الدهنية الحرة القادمة من تحلل الدهن في الأنسجة الشحمية؛ فإن قلت الأحماض الدهنية حصلت العضلات على الطاقة من الأجسام الكيتونية الناتجة من أكسدة الدهون في الكبد؛ والذي يؤكد(2/266)
أن النشاط والحركة تنشط جميع علميات الأكسدة لكل المركبات التي تمد الجسم بالطاقة؛ وتنشط عملية تحلل الدهون، كما تنشط أيضاً عملية تصنيع الجلوكوز بالكبد، من الجليسرول الناتج من تحلل الدهون في النسيج الشحمي ومن اللاكتيب الناتج من أكسدة الجلوكوز في العضلات.
لذلك فالحركة والنشاط أثناء الصيام الإسلامي عمل إيجابي وحيوي يزيد من كفاءة عمل الكبد والعضلات؛ ويخلص الجسم من الشحوم، ويحميه من أخطار زيادة الأجسام الكيتونية.
كما أن الحركة العضلية تثبط تصنيع البروتين في الكبد والعضلات، وتتناسب درجة التثبيط مع قوة الحركة ومدتها، وهذا بدوره يوفر طاقة هائلة تستخدم في تكوين البروتين، حيث تحتاج كل رابطة فن الأحماض الأمينية إلى مخزون الطاقة في خمسة جزئيات للأدينوزين والجوانين ثلاثي الفوسفات (ATP & GTP) وإذا كان كل جزيء من هذين المركبين يحتوي على كمية من الطاقة -تتراوح من 5-10 كيلو كا-لوري، وإذا علمنا أن أبسط أ-نواع البروتين لا يحتوي ا-لجزيء منه على أقل من 100 حمض أميني، فكم تكون إذًا الطاقة المتوفرة من تثبيط تكوين مجموعة البروتينات المختلفة بأنواعها المتعددة؟
وفي أثناء الحركة أيضاً يستخدم الجلوكوز والأحماض الدهنية والأحماض الأمينية في إنتاج الطاقة للخلايا العضلية، وهذا بدوره يؤدي إلى تنبيه مركز الأكل في الوساد تحت البصري (Hypothalamus) ، وذلك لوجود علاقة عكسية (Freed Back) بين هذه المواد في الدم ودرجة الشبع وتنبيه مركز الأكل في الدماغ.
لذلك فالحركة العضلية تنبه مركز الأكل وتفتح الشهية للطعام.
كما أن الحركة والنشاط العضلي الزائد، يحلل الجليكوجين إلى جلوكوز في عدم وجود الأكسجين، وينتج من جراء التمثيل الغذائي للسكر الناتج حمض اللا-كتيك، الذي -يمر إلى الدم ويتحول بدوره إ-لى جلو-كوز، وجليكوجين بواسطة الكبد، ففي العضلات لا يتحلل الجليكوجين إلى جلوكوز في حالة السكون كما في الكبد، وذلك لغياب أنزيم فوسفاتاز -6- الجلوكوز(2/267)
(Glusose 6 Phosphatase) ، فالحركة إذن عامل هام لتنشيط استقلاب المخزون من الجليكوجين العضلي إلى جلوكوز، وتقديمه للأنسجة التي تعتمد عليه كالمخ، والجهاز العصبي، وخلايا الدم، ونقيُ العظام، ولب الكلى.
كما يمكن أن تكون للحركة العضلية علاقة بتجديد الخلايا المبطنة للأمعاء، فتحسن بذلك الهضم والامتصاص للمواد الغذائية، إذ تحتاج هذه الخلايا لحمض الجلوتامين لتصنيع الأحماض النووية (Nucleotide Synthesis) والذي تنتجه العضلات بكثرة أثناء الحركة.
ويتجدد شباب الخلايا المبطنة للأمعاء (Mucosal) كل يومين إلى 6 أيام، وتفقد يوميًا 17 بليون خلية (15) ، فهل يمكن أن تكون الحركة العضلية علاجًا لاضطرابات الهضم وسوء الامصاص؟
إن فلسفة الصيام مبنية على ترك الطعام والشراب، وتشجيع آليات الهدم (العمليات الكيمائية الحيوية) أساسًا في عملية التمثيل الغذائي، والنهار هو الوقت الذي تزداد فيه عمليات التمثيل الغذائي، وخصوصًا عمليات الهدم، لأنه وقت النشاط والحركة واستهلاك الطاقات في أعمال المعاش، وقد هيأ الله سبحانه وتعالى للجسم البشري ساعة بيولوجية تنظم هرمونات الغدد الصماء، وكثيرًا من آليات التمثيل الغذائي بما يتوافق ونشاط هذه الآليات أثناء النهار.
ولنضرب مثلاً بهرمون الكورتيزول والأدرينالين، فالأولى يكون في أقصى زيادة له عند التاسعة صباحًا تقريبًا -في الشخص الذي ينام ليلاً-، ويقل تدريجيًا حتى يصل إلى خمس معدل تركيزه عند منتصف الليل، وهذا الهرمون هو من هرمونات الهدم، إذ يعمل على تكسير اليروتينات إلى أحماض أمينية، والثاني هرمون الأدرينالين، إذ يصل إلى أقصى معدل له في نهاية فترتي الصباح والظهيرة (حوالي التاسعة صباحًا والثانية ظهرًا) . وهذا الهرمون يرفع معدل تركيز الجلوكوز والأحماض الدهنية، ويزيد من معدل هدمها، كما يساعد في تثبيط كون البروتين، وأكسدة الأحماض الأمينية في العضلات، ويحرك الألانين إلى الكبد، لتكوين جلوكوز جديد فيه وتقديم المزيد من الطاقة للجسم، كما ينبه الجهاز العصبي.(2/268)
لذلك فقد يكون هذا أحد الأسرار التي جعل الله من أجلها الصيام في النهار، وقت النشاط والحركة والسعي في مناكب الأرض، ولم يجعله بالليل وقت السكون والراحة!
من أجل هذا يمكننا أن نقول وبكل ثقة إن النشاط والحركة أثناء الصيام يوفر للجسم من الجلوكوز المصنع أو المخزون في الكبد، وهو الوقود المثالي، لإمداد المخ، وكرات الدم الحمراء، ونقيُ العظام، والجهاز العصبي، بالطاقة اللازمة، لتجعلها أكثر كفاءة لأداء وظائفها، كما توفر الحركة طاقة للجسم البشري، تستخدم في عملياته الحيوية، فهي تثبط تكون البروتين من الأحماض الأمينية، وتزيد من تنشيط آليات الهدم أثناء النهار، فتستهلك الطاقات المختزنة، وتنظف المخازن من السموم التي يمكن أن تكون متماسكة أو ذائبة في المركبات الدهنية، أو الأمينية، وإن الكسل والخمول والنوم أثناء نهار الصيام ليعطل كل هذه الفوائد، بل قد يصيب صاحبه بكثير من العلل ويجعله أكثر خمولاً وتبلدًا.
كما أن النوم أثناء النهار والسهر طوال ليل رمضان، يؤدي إلى اضطراب عمل الساعة البيولوجية في الجسم، مما يكون له أثر شيء على الاستقلاب الغذائي داخل الخلايا.
ولقد أجريت دراسة أثبتت هذا الاضطراب على هرمون الكورتيزول، قام بها الدكتور محمد الحضرامي في كلية الطب جامعة الملك عبد العزيز، وقد أجرى الدراسة على 10 أشخاص أصحاء مقيمين خارج المستشفى، وأظهرت الدراسة أن أربعة منهم حصل عندهم اضطراب في دورة الكورتيزول اليومية، وذلك خلال الأسبوعين الأخيرين من شهر رمضان، مع انقلاب النسب المعهودة في الصباح وفي منتصف الليل، فقد لوحظ أن المستوى الصباحي قد انخفض، والمستوى المسائي قد ارتفع، وهذا على عكس الوضع الاعتيادي اليومي، وقد عزا الباحث هذا الاضطراب إلى تغير العادات السلوكية عند هؤلاء الصائمين، الذين يقضون النهار في النوم، والليل في السهر، وقد عاد الوضع الطبيعي للكورتيزول بعد 4 أسابيع من نهاية شهر الصيام، وبعد أن استقر نظام النوم ليلاً والنشاط نهارًا، عند هؤلاء الأشخاص.(2/269)
من أجل هذا كان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحبه والمسلمون الأولون لا يفرقون في الأعمال بين أيام الصيام وغيرها، بل قد يعقدون ألوية الحرب ويخوضونها صائمين متعبدين، فهل يتحرر المسلمون من أوهام الخوف من الحركة والعمل أثناء الصيام!! وهل يهبون قائمين لله عاملين ومنتجين ومجاهدين، مقتدين بنبيهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسلفهم الصالح رضوان الله عليهم!
الصيام والتخلص من الشحوم
ترتبط السمنة بالإفراط في تناول الطعام وخصوصًا الأطعمة الغنية بالدهون، هذا بالإضافة إلى وسائل الحياة المريحة، والسمنة مشكلة واسعة الانتشار، وقد وجد أن السمنة تقترن بزيادة خطر الأمراض القلبية الوعائية، مثل قصور القلب، والسكتة القلبية، ومرض الشريان التاجي، ومرض انسداد الشرايين المحيطة بالقلب.
وتحدث السمنة نتيجة لاضطراب العلاقة بين ثلاثة عناصر من الطاقة وهي: الكمية المستهلكة من الطعام، والطاقة المبذولة في النشاط والحركة، والطاقة المختزنة على هيئة دهون بصفة أساسية، فالإفراط في تناول الطعام مع قلة الطاقة المبذولة في الحركة يؤدي إلى ظهور السمنة.
إن الإنسان العادي يستهلك حوالي 20 طنًا من الطعام في فترة حياته، وحدوث نسبة 25% من الخطأ في توازن الطاقة يؤدي إلى زيادة في الوزن تبلغ 50 كجم، أو زيادة عند شخص بالغ يزن 70 كجم فيصبح وزنه 120 كجم، وهذا من شأنه أن يبين مدى الدقة المطلوبة في تنظيم تناول الطعام للمحافظة على استقرار وزن الجسم.
ومن المعتقد أن السمنة تنجم إما عن خلل استقلابي (خلل في التمثيل الغذائي) ، أو عن ضغوط بيئية، أو اجتماعية، وقد تنجم البدانة أيضًا عن خلل في الغدد الصماء، أو عن أسباب نفسية واجتماعية متضافرة، تظهر على شكل إفراط في الأكل، وكثيرًا ما يتزامن حدوث الاضطرابات الاستقلالية، واالضغوط البيئية، بحيث يكمل أحدهما الآخر فتتفاقم الحالة.(2/270)
وفي المقابل يرى كثير من العلماء أن الاضطراب النفسي الذي يفضي إلى الشراهة في تناول الطعام، والذي يتسبب في السمنة، قد يؤدبَ إلى ظهور اضطرابات في عملية الاستقلاب أو التمثيل الغذائي، وبالتالي فمن المتعذر تفسير الاضطرابات الرئيسية في توازن الطاقة -في حالة السمنة- بأنها عبارة عن التغير في أحد العناصر، ولكن يظل واضحًا تمامًا أن الإفراط في الأكل هو أحد العوامل الرئيسية في حدوث السمنة.
وهناك تغيرات كيميائية حيوية تصاحب السمنة، أهمها تغير نمط استقلاب الدهون، إذ تزداد البروتينات الشحمية (نوع بيتا) في البلازما، والأحماض الدهنية الحرة؛ ويزداد تركيز الإنسولين في الدم زيادة كبيرة، مما يؤدي إلى
تضخم البنكرياس، أو زيادة أنسجته، فيؤدي إلى زيادة إنتاج الإنسولين الذي يتسبب في تكون الأحماض الدهنية في الكبد من المواد الكربوهيدراتية، وزيادة ترسب المواد الدهنية في الأنسجة الشحمية، وهذا يؤد إلى ظهور أعراض مرض السكري، حيث تفقد مستقبلات الإنسولين الموجودة على الأنسجة الاستجابة للإنسولين.
لقد حاول كثيرون علاج السمنة فوضعت أنظمة غذائية كثيرة، كان أغلبها مزيفًا، وغير مبني على أسر علمية، إذ لا تعمل هذه الأنظمة إلا على فقدان كمية كبيرة نسبيًا من ماء الجسم، فيعطي الانطباع بانخفاض الوزن، وبعض هذه الأنظمة أدت إلى فقدان الجسم لكمية من الدهون، لكنها أدت أيضاً إلى ظهور الأجسام الكيتونية.
أما الصيام الإسلامي المثالي يعتبر. النموذج الفريد للوقاية والعلاج من السمنة في آن واحد، حيث يمثل الأكل المعتدل، والامتناع عنه مع النشاط والحركة، عامدين مؤثرين في تخفيف الوزن، وذلك بزيادة معدل استقلاب الغذاء بعده وجبة السحور، وتحريك الدهن المختزن لأكسدته في إنتاج الطاقة اللازمة بعد منتصف النهار.
ويرجع العلماء الزيادة في معدل استقلاب الغذاء (BMR) بعد تناول وجبة الطعام إلى ارتفاع الأدرينالين والنورادرينالين، وازدياد السيالات السمبثاوية(2/271)
(Sympathetic Discharge) ، نتيجة لنشاط الجهاز العصبي الودي، وعمل القوة المتحركة النوعية (Specific Dynamic Action) ، حيث يستهلك كل نوع من محتويات الطعام طاقة حتمية أثناء عمليات التمثيل الغذائي، فتستهلك كمية البروتين التي يمكن أن تعطي الجسم 100 كيلو كالوري، 30 كيلو كالوري، وتستهلك نفس الكمية من الكربوهيدرات والدهون 6 ك. ك، و4 ك. ك على التوالي، يستمر نشاط عمليات الاستقلاب لمدة 6 ساعات، أو أكثر، بعد تناول وجبة الطعام.
ويعتبر بذلك الجهد العضلي من أهم الأشياء التي تؤدي إلى زيادة معدل الاستقلاب (Metabotion) ، والذي يظل مرتفعًا ليس أثناء الجهد العضلي فقط، ولكن بعد ذلك بفترة طويلة كافية.
وبهذا يحقق الصيام الإسلامي المثالي المتمثل في الحفاظ على وجبة السحور، والاعتدال في الأكل والحركة والنشاط أثناء الصيام، نظامًا غذائيًا ناجحًا في علاج السمنة، أما نظام التجويع الطويل بالانقطاع الكلي عن الطعام فيؤدى إلى هبوط الاستقلاب، نتيجة لتثبيط الجهاز الودي (السمبشاوي) ، وهبوط الأدرينالين والنورأدرينالين السابح في الجسم، وهذا يفسر لماذا يهبط وزن الشخص الذي يريد تخفيف وزنه، بواسطة التجويع بشدة في البداية، ثم يقل بالتدريج بعد ذلك، ويكون معظم الوزن المفقود في الأيام الأولى هو في الواقع من الماء الموجود داخل الجسم، المليء بالطاقة المختزنة والأملاح المرافقة لها.
الصيام وتجدد الخلايا
اقتضت حكمة الله تعالى أن يحدث التغيير والتبديل في كل شيء وفق سنة ثابتة، فقد اقتضت هذه السنة في جسم الإنسان أن تتبدل محتوى خلاياه على الأقل كل ستة أشهر، وبعض الأنسجة تتجدد خلاياها في فترات قصيرة تعد بالأيام، والأسابيع، مع الاحتفاظ بالشكل الخارجي الجيني، وتتغير خلايا جسم الإنسان وتتبدل، فتهرم خلايا ثم تموت، وتنشأ أخرى جديدة تواصل مسيرة الحياة، هكذا باضطراد، حتى يأتي أجل الإنسان، إن عدد الخلايا التي(2/272)
تموت في الثانية الواحدة في جسم الإنسان يصل إلى 125 مليون خلية وأكثر من هذا العدد يتجدد يوميًّا في سن النمو، ومثله في وسط العمر، ثم يقل عدد الخلايا المتجددة مع تقدم السن.
وبما أن الأحماض الأمينية هي التي تشكل البنية الأساسية في الخلايا، ففي الصيام الإسلامي تتجمع هذه الأحماض القادمة من الغذاء مع الأحماض الناتجة من عملية الهدم، في مجمع الأحماض الأمينية في الكبد (Amino Acid) ، ويحدث فيها تحول داخلي واسع النطاق، وتدخل في دورة السترات) (Citrate Cycle) ، ويتم إعادة توزيعها بعد عملية التحول الداخلي (Interconversion) ، ودمجها في جزئيات أخرى، كالبيورين (Purines) ، والبيريميدين، أو البروفرين (Prophyrins) ، ويصنع منها كل أنواع البروتينات الخلوية، وبروتين البلازما، والهرمونات، وغير ذلك من المركبات الحيوية، أما أثناء التجويع فتتحول معظم الأشخاص الأمينية القادمة من العضلات وأغلبها حمض الألانين، تتحول إلى جلوكوز الدم، وقد يستحمل جزء منها لتركيب البروتين، أو يتم أكسدته لإنتاج الطاقة بعد أن يتحول إلى أحماض أكسجينية (Oxoacids) ، وهكذا نرى أنه أثناء الصيام يحدث تبدل وتحول واسع النطاق داخل الأحماض الأمينية المتجمعة من الغذاء، وعمليات الهدم للخلايا، بعد خلطها وإعادة تشكليها ثم توزيعها حسب احتياجات خلايا الجسم، وهذا يتيح لبنات جديدة للخلايا ترمم بناءها، وترفع كفاءتها الوظيفية، مما يعود على الجسم البشري بالصحة، والنماء، والعافية، وهذا لا يحدث في التجويع، حيث الهدم المستمر لمكونات الخلايا، وحيث الحرمان من الأحماض الأمينية الأساسية، فعندما تعود بعض اللبنات القديمة لإعادة الترميم تتداعي القوى، ويصير الجسم عرضة للأسقام، أو الهلاك، فنقص حمض أميني أساسي واحد، يدخل في تركيب بروتين خاص، يجعل هذا البروتين لا يتكون، والأعجب من ذلك أن بقية الأحماض الأمينية التي يتكون منها هذا البروتين تتهدم وتدمر.
كما أن إمداد الجسم بالأحماض الدهنية الأساسية (Essential Fatty Acids) في الغداء، له دور هام في تكوين الدهون الفوسفاتية،(2/273)
(Phospholipids) ، والتي مع الدهن العادي (Triacylgycerol) تدخل في تركيب البروتينات الشحمية، (Lipoproteins) ويقوم النوع منخفض الكثافة جدا منها (Very Low Density Lipoprotein) بنقل الدهون الفوسفاتية والكليستيرول من أماكن تصنيعها بالكبد، إلى جميع خلايا الجسم، حيث تدخل في تركيب جدر الخلايا الجديدة، وتكوين بعض مركباتها الهامة، ويعرقل هذه العملية الحيوية كل من الأكل الغني جدًا بالدهون والحرمان المطلق من الغذاء كما في حالة التجويع، حيث تتجمع كميات كبيرة من الدهون في الكبد تجعله غير قادر على تصنيع الدهون الفوسفاتية والبروتين بمعدل يكفي لتصنيع البروتين الشحمي، فلا تنتقل الدهون من الكبد إلى أنحاء الجسم، لتشارك في بناء الخلايا الجديدة، وتتراكم فيه، وقد تصيبه بحالة التشمع الكبدي، (Fatty Liver) فتضطرب وظائفه، وينعكس هذا بالقطع على تجدد خلاياه هو أولاً، ثم على خلايا الجسم كله فخلايا الكبد التي تبلغ من (200-300) مليار خلية تتجدد كل أربعة شهور، وتعتبر هذه الخلايا من أهم وأنشط خلايا الجسم، وتقدم أجل وأعظم الخدمات في تجديد وإصلاح خلايا الجسم كله، إذ تقوم بإنتاج بروتينات البلازما كلها تقريبًا (من 30-50 جم يوميًّا) وتكوين الأحماض الأمينية المختلفة، بعمليات التحول الداخلي وتحويل البروتين والدهن والكربوهيدرات كل منها للآخر، وتقديمها خلايا الجسم، حسب احتياجها، وصناعة الجلوكوز وتخزينه لحفظ تركيزه في الدم، وأكسدة الجلوكوز الأحماض الدهنية بمعدلات مرتفعة لإمداد الجسم وخلاياه بالطاقة اللازمة في البناء والتجديد؛ إذ تحتوي على كل خلية كبدية من الوحدات المولدة للطاقة (Mitochondria) حوالي 1000 وحدة، كما تكون الخلايا الكبدية الكوليسترول، والدهون الفوسفاتية، التي تدخل في تركيب جدر الخلايا، وفي المركبات الدقيقة داخل الخلية، وفي العديد من المركبات الكيميائية الهامة، واللازمة لوظيفة الخلية، كما تقوم خلايا الكبد بصناعة إنزيمات حيوية وهامة لخلايا الجسم، كخميرة الفوسفتاز القلوية (Alikaline Phosphatase) ، والتي بدونها لا تستخدم الطاقة المتولدة من الجلوكوز والأكسجين، ولا يتم عدد كثير من عمليات الخمائر والهرمونات وتبادل(2/274)
الشوارد، فيتأثر تجدد الخلايا وتضطرب وظائفها، كما تقدم خلايا الكبد خدمة جليلة في بناء الخلايا الجديدة، حيث تختزن في داخلها عددًا من المعادن والفيتامينات الهامة واللازمة في تجديد خلايا الجسم كالحديد والنحاس وفيتامين أ، ب2، ب12، وفيتامين د، وتقدم خلايا الكبد أيضاً أعظم الخدمات في تجديد الخلايا، حيث تزيل من الجسم المواد السامة والتي تعرقل هذا التجديد، أو حتى تدمر الخلايا نفسها، كما في مادة الأمونيا والتي تسمم خلايا المخ، وتدخل مريض تليف الكبد إلى غيبوبة تامة.
إن الصيام الإسلامي هو وحده النظام الغذائي الأمثل في تحسين الكفاءة الوظيفية للكبد، حيث يمد بالأحماض الدهنية والأمينية الأساسية، خلال وجبتي الإفطار والسحور، فتتكون لبنات البروتين، والدهون الفوسفاتية والكوليسترول وغيرها، لبناء الخلايا الجديدة، وتنظيف خلايا الكبد من الدهون التي تجمعت فيه بعد الغذاء، خلال نهار الصوم، فيستحي بذلك أن يصاب الكبد بعطب التشمع الكبدي، أو تضطرب وظائفه، بعدم تكوين المادة الناقلة للدهون منه، وهي الدهن الشحمي منخفض الكثافة جدًا (VLDL) والذي يعرقل تكونها التجويع، أو كثرة الأكل الغني بالدهون كما بينا.
وعلى هذا يمكن أن نستنتج أن الصيام الإسلامي يمتلك دورًا فعالاً في الحفاظ على نشاط ووظائف خلايا الكبد، وبالتالي يؤثر بدرجة كبيرة في سرعة تجدد خلايا الكبد، وكل خلايا الجسد، وهو ما لا يفعله الصيام الطبي ولا الترف في الطعام الغني بالدهون.
لماذا الإفطار على التمر؟
عند نهاية مرحلة ما بعد الامتصاص -في نهاية يوم الصوم- يهبط مستوى تركيز الجلوكوز والإنسولين من دم الوريد البابي الكبدي، وهذا يقلل بدوره نفاذ الجلوكوز، وأخذه بواسطة خلايا الكبد والأنسجة الطرفية كخلايا العضلات، وخلايا الأعصاب، ويكون قد تحلل كل المخزون من الجيلكوجين الكبدي أو(2/275)
كاد، وتعتمد الأنسجة حينئذ في الحصول على الطاقة من أكسدة الأحماض الدهنية، وأكسدة الجلوكوز المصنع في الكبد من الأحماض الأمينية والجليسرول، لذلك فإمداد الجسم السريع بالجلوكوز في هذا الوقت له فوائد جمة، إذ يرتفع تركيزه بسرعة في دم الوريد البابي الكبدي، فور امتصاصه، ويدخل إلى خلايا الكبد أولاً ثم خلايا المخ، والدم، والجهاز العصبي، والعضلي، وجميع الأنسجة الأخرى، والتي هيأها الله تعالى لتكون السكريات غذاؤها الأمثل والأيسر للحصول منها على الطاقة، ويتوقف بذلك تأكسد الأحماض الدهنية ليقطع الطريق على تكون الأجسام الكيتونية الضارة، وتزول أعراض الهمود، والضعف العام، والاضطراب البسيط في الجهاز العصبي، إن وجدت لتأكسد كميات كبيرة من الدهون، كما يوقف تناول الجلوكوز عملية تصنيع الجلوكوز في الكبد، فيتوقف هدم الأحماض الأمينية وبالتالي حفظ بروتين الجسم.
ويعتبر التمر من أغنى الأغذية بسكر الجلوكوز وبالتالي فهو أفضل غذاء يقدم للجسم حينئذ إذ يحتوي على -نسبه عالية من السكر-يات، تتراوح ما بين (75-87%) ، يشكل الجلوكوز 55% منها، والفركتوز 45%، علاوة على نسبة من البروتينات، والدهون، وبعض الفيتامينات، أهمها: أ، ب2، ب12 وبعض المعادن الهامة، أهمها: الكالسيوم، والفوسفور، والبوتاسيوم، والكبريت، والصوديوم، والمغنسيوم، والكوبالت، والزنك، والفلورين، والنحاس، والمنجنيز، ونسبة من السليولوز، ويتحول الفركتوز إلى جلوكوز بسرعة فائقة ويمتص مباشرة من الجهاز الهضمي ليروى ظمأ الجسم من الطاقة، وخصوصًا تلك الأنسجة التي تعتمد عليه أساسًا، كخلايا المخ، والأعصاب، وخلايا الدم الحمراء وخلايا نقي العظام.
وللفركتوز مع السليولوز تأثير منشط للحركة الدودية للأمعاء، كما أن الفوسفور مهم في تغذية حجرات الدماغ، ويدخل في تركيب المركبات الفوسفاتية، مثل الأدينوزين والجوانين ثلاثي الفوسفات، والتي تنقل الطاقة وترشد(2/276)
وترشد استخدامها في جميع خلايا الجسم، كما أن جميع الفيتامينات التي يحتوي عليها التمر لها دور فعال في عمليات التمثيل الغذائي (أ، ب1، ب2 والبيوتين والريبوفلافين ... إلخ) ، ولها أيضاً تأثير مهدئ للأعصاب، وللمعادن دور أساسي في تكوين بعض الأنزيمات الهامة في عمليات الجسم الحيوية، ودور حيوي في عمل البعض الآخر، كما أن لها دورًا هامًا في انقباض وانبساط العضلات والتعادل الحمضي القاعدي في الجسم، فيزول بذلك أي توتر عضلي، أو عصبي، ويعم النشاط والهدوء والسكينة سائر البدن.
وعلى العكس من ذلك لو بدأ الإنسان فطره بتناول المواد البروتيتنية، أو الدهنية، فهي لا تمتص إلا بعد فترة طويلة من الهضم والتحلل، ولا تؤدي الغرض في إسعاف الجسم لحاجته السريعة من الطاقة، فضلاً على أن ارتفاع الأحماض الأمينية في الجسم نتيجة للغذاء الحالي من السكريات، أو حتى الذي يحتوي على كمية قليلة منه، يؤدي إلى هبوط سكر الدم.
لهذا الأسباب يمكن أن ندرك الحكمة في أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإفطار على التمر؟
عن سلمان بن عامر رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على ماء، فإنه طهور "رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح (1) .
وعن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يفطر قبل أن يصلي على رطبات فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء" رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن (2) .
أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصائم بالهدوء والبعد عن الشجار وتفسير ذلك طبيًا:
إذا اعترى الصائم غضب وانفعل وتوتر، ازداد إفراز الأدينالين في دمه،
__________
(1) أبو داود (2/764) رقم (3355) ، والترمذي (3/46) حديث رقم (658) ، وأيضًا صفحة (78) حديث رقم (695) .
(2) أبو داود (2/764) حديث رقم (2356) ، والترمذي (3/79) حديث رقم (696) .(2/277)
زيادة كبيرة، وقد يصل إلى 20 أو 30 ضعفًا عن معدله العادي، أثناء الغضب الشديد أو العراك، فإن حدث هذا في أول الصوم أثناء فترة الهضم والامتصاص، اضطراب هضم الغذاء وامتصاصه، زيادة على الاضطراب العام في جميع أجهزة الجسم، ذلك لأن الأدرينالين يعمل على ارتخاء العضلات الملساء في الجهاز الهضمي، ويقلل من تقلصات المرارة ويعمل على تضييق الأوعية الدموية الطرفية وتوسيع الأوعية التاجية كما يرفع الضغط الدموي الشرياني، ويزيد كمية الدم الواردة إلى القلب، وعدد دقاته.
وإن حدث الغضب والشجار في منتصف النهار، أو آخره، أثناء فترة ما بعد الامتصاص، تحلل ما تبقى من مخزون الجليكوجين في الكبد، وتحلل بروتين الجسم إلى أحماض أمينية، وتأكسد المزيد من الأحماض الدهنية، كل ذلك ليرتفع مستوى الجلوكوز في الدم، فيحترق ليمد الجسم بالطاقة اللازمة في الشجار والعراك، وبهذا تستهلك الطاقة بغير ترشيد، كما أن بعض الجلوكوز قد يفقد مع البول إن زاد عن المعدل الطبيعي، وبالتالي يفقد الجسم كمية من الطاقة الحيوية الهامة في غير فائدة تعود عليه، ويضطر إلى استهلاك الطاقة من الأحماض الدهنية التي يؤكسد المزيد منها، وقد تؤدي إلى تولد الأجسام الكيتونية الضارة في الدم.
كما أن الازدياد الشديد للادرينالين في الدم يعمل على خروج كميات كبيرة من الماء من الجسم، بواسطة الإدرار البولي (Diuresis) .
كما يرتفع معدل الاستقلاب الأساسي (Basal Metabolic Pate) عند الغضب والتوتر، نتيجة لارتفاع الأدرينالين والشد العضلي.
وارتفاع الأدرينالين قد يؤدي لنوبات قلبية، أو موت الفجاءة عند بعض الأشخاص المهيئين لذلك، نتيجة لارتفاع ضغط الدم، وارتفاع حاجة عضلة القلب للأكسجين، من جراء ازدياد سرعته، وقد يتسبب الغضب أيضاً في النوبات الدماغية، لدى المصابين بارتفاع ضغط الدم وتصلب الشرايين.
كما أن ارتفاع الأدرينالين نتيجة للضغط النفسي في حالات الغضب والتوتر(2/278)
يزيد في تكون الكوليستيرول من الدهن البروتيني منخفض الكثافة، والذي قد يزداد أثناء الصيام، وثبتت علاقته بمرض تصلب الشرايين.
لهذا، ولغيره مما عرف، ومما لم يعرف بعد، وصى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصائم بالسكينة، وعدم الصخب، والانفعال، أو الدخول في عراك مع الآخرين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخبن فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني صائم" متفق عليه.
من فوائد عدم شرب الماء في الصيام
يشكل ا-لماء (60-70%) من وزن الجسم للبا-لغين، وينقسم إ-لى قسمين رئيسيين: قسم داخل الخلايا، وقسم خارجها بين الخلايا: في الأنسجة والأوعية الدموية والعصارات الهضمية وغير ذلك، وبين القسمين توازن دقيق، والتغير في تركيزات الأملاح -وخصوصًا الصوديوم الذي يتركز وجوده في السائل خارج الخلايا- ينبه أو يثبط عمليتين حيويتين داخل الجسم، وهما آلية إفراز الهرمون المضاد لإدرار البول (ADH) ، وآلية الإحساس بالعطش، واللتان تؤثر كل منهما في تهيئة الجسم للحفاظ على الماء داخله وقت الشدة، وذلك بتأثير الهرمون المضاد لإدرار البول على زيادة نفاذية الأنابيب الكلوية البعيدة، والأنابيب والقنوات الجامعة، حيث يسرع امتصاص الماء ويقلل من إخراجه، كما يتحكمان معًا في تركيزات الصوديوم خارج الخلايا، وكلما زاد تركيز الصوديوم زاد حفظ الماء داخل الجسم.
ولقد درس مصطفى وزملاؤه في السودان سنة 1978م توازن الماء والأملاح في جسم الصائم، وقد ثبت من خلال هذا البحث أن الإخراج الكلي للصوديوم يقل، وخصوصًا أثناء النهار.
إن تناول الماء أثناء الامتناع عن الطعام (في الصيام) يؤدي إلى تخفيف التناضح (في السائل خارج الخلايا وهذا بدوره يؤدي إلى تثبيط إفراز الهرمون المضاد لإدرار البول، فيزداد الماء الخارج من الجسم في البول، مع ما يصحبه من(2/279)
الصوديوم وبعض الأملاح الأخرى، وفي هذا تهديد لحياة الإنسان إن لم تعوض هذه الأملاح، حيث يعتبر الصوديوم عنصرًا حيويًا في توطيد الجهد الكهربائي عبر جدر الخلايا العصبية وغير العصبية، كما أن له دورًا حيويًا في تنبيه وانقباض العضلات وعند نقصانه يصاب الإنسان بضعف عام في جسمه.
وقد وجدت علاقة بين العطش وبين تحلل الجليكوجين، إذ يسبب العطش إفراز جرعات. تتناسب وقوة العطش من هرموني الأنجوتنسين 2 (Abgiotensin II) والهرمون القابض للأوعية الدموية (Vasopression) واللذان يسببان تحلل الجليكوجين في إحدى مراحل تحلل بخلايا الكبد.
فكلما زاد العطش زاد إفراز هذين الهرمونين بكميات كبيرة مما يساعد في إمداد الجسم بالطاقة وخصوصًا في نهاية اليوم.
كما أن زيادة الهرمون المضاد لإدرار البول (ADH) المستمر طوال فترة الصيام في شهر رمضان، قد يكون له دور هام في تحسين القدرة على التعلم وتقويه الذاكرة، وقد ثبت ذلك على حيوانات التجارب.
لذلك فالقدرة العقلية قد تتحسن عند الصائمين بعكس ما يعتقد عامة الناس.
كما أن الحرمان من الماء أثناء الصيام، يسبب زيادة كبيرة في آليات تركيز البول في الكلي، مع ارتفاع في القوة الأزموزية البولية قد يصل من 1000 إلى 12 ألف مل أزمو/كجم ماء، وهكذا تنشط هذه الآليات الهامة لسلامة وظائف الكلى.
كما أن عدم شرب الماء خلال نهار الصيام يقلل من حجمه داخل الأوعية الدموية، وهذا بدوره يؤدي إلى تنشيط الآلية المحلية بتنظيم الأوعية وزيادة إنتاج البروستاجلاندين (Postaglandine) والذي له تأثيرات عديدة وبجرعات قليلة إذ أن له دورًا في حيوية ونشاط خلايا الدم الحمراء، وله دور في التحكم في تنظيم قدرة هذه الخلايا لتعبر من خلال جدران الشعيرات الدموية، وبعض أنواعه له دور في تقليل حموضة المعدة، ومن ثم تثبيط تكون القرح المعدية كما ثبت في(2/280)
حيوانات التجارب، كما أنه له دورًا في علاج العقم حيث يسبب تحلل الجسم الأصفر، ومن ثم فمن الممكن أن يؤدي دورًا في تنظيم دورة الحمل عند المرأة، كما يؤثر على عدة هرمونات داخل الجسم فينبه إفراز هرمون الرينين، وبعض الهرمونات الأخرى مثل الهرمون الحاث للقشرة الكظرية غيره (SH ACTH) ، كما يزيد من قوة استجابة الغدة النخامية (Pitutary Gland) للهرمونات المفرزة من منطقة تحت الوساد في المخ (Hypothalamus) ، كما يؤثر على هرمون الجلوكاجون، والكاتيكولامين (الأدرينالين والنور أدرينالين) ، وبقية الهرمونات التي تؤثر على إطلاق الأحماض الدهنية الحرة، كما يوجد البروستجلاندين في المخ، ومن ثم له تأثير في إفراز الناقلات للإشارات العصبية، كما أن له دورًا في التحكم في إنتاج أحادى فوسفات الأدينوزين الحلقي (CAMP) والتي يزداد مستواها لأسباب عديدة، وتؤدي دورًا هامًا في تحلل الدهن المختزن، لذلك فالعطش أثناء الصيام له فوائد عديدة بطريق مباشر أو غير مباشر نتيجة لزيادة مادة البروستجلاندين، حيث يمكن أن يحسن كفاءة خلايا الدم، ويحمي الجسم من قرحة المعدة، ويشارك في علاج العقم، ويسهل الولادة ويحسن الذاكرة، ويحسن آليات عمل الكلى، وغير ذلك.
كما أن الله سبحانه وتعالى جعل للجسم البشري مقدرة على صنع الماء من خلال العمليات والتحولات الكيمائية العديدة، التي تحدث في جميع خلايا الجسم، إذ يتكون أثناء عمليات استقلاب الغذاء، وتكوين الطاقة في الكبد، والكلى، والمخ، والدم، وسائر الخلايا تقريبًا جزئيات ماء، وقد قدر العلماء كمية هذا الماء في اليوم من ثلث إلى نصف لتر، ويسمى الماء الذاتي أو الداخلي (Intrinsic Water) .
وكما خلق الله للإنسان ماء داخليًا، خلق له طعامًا داخليًا أيضاً فمن نفايات أكسدة الجلوكوز يصنع الجلوكوز مرة أخرى، حيث يتحول كل من حمض اللاكتيك والبيروفيت، وهما نتاج أكسدة الجلوكوز إلى جلوكوز مرة أخرى، حيث تتوجه هذه النفايات إلى الكبد، فيجعلها وقودًا لتصنيع جلوكوز جديد في الكبد، ويتكون يوميًا حوالي 36 جرامًا من هذا الجلوكوز الجديد من(2/281)
هذين الحمضين، غير الذي يتكون من الجليسررول والأحماض الأمينية.
وبهذا يمكن أن ندرك سر نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس عن إكراه مرضاهم على الطعام والشراب، حيث كان معتقد الناس -وللأسف ما يزال- أن الجسم البشري كالآلة الصماء، لا تعمل إلا بالإمداد الدائم بالغذاء، وأن في الغذاء الخارجي فقط تكمن مقاومة ضعف المرض.
وأخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله يطعمهم ويسقيهم فقال عليه الصلاة والسلام: "لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإن الله عز وجل يطعمهم ويسقيهم" رواه ابن ماجه والحاكم وصححه هو والألباني (1) .
***
__________
(1) ابن ماجه (2/1140) حديث رقم (3444) ، والحاكم (4/410) ، وراجع الصحيحة للألباني (2/364) حديث رقم (727) .(2/282)
أبحاث تجريبية ودراسات على الصيام في الصحة والمرض
أجرى بعض الباحثين أبحاثًا حول تأثير الصيام الإسلامي، والصيام الطبي على الجسم البشري في الصحة والمرض، وقد شجعت هذه الأبحاث كثيرًا من الباحثين، ليهتموا بإجراء مزيد منها عن الصوم الإسلامي، وسنرى ثروة طيبة من هذه الأبحاث في القريب العاجل بإذن الله.
سنعرض ملخصًا لبعض هذه الأبحاث كنماذج والتي تؤكد فوائد الصوم المحققة للجسم أثناء صحته ومرضه.
الصيام وجهاز المناعة
أجرى الدكتور رياض البيبي، والدكتور القاضي في الولايات المتحدة الأمريكية تجارب مخبرية على متطوعين أثناء صيام شهر رمضان، وأجريت لهم تحليلات الدم قبل بداية الصيام، وأثناء الشهر، وبعد انتهاء الصيام، وشملت الفحوص التحليلات الكيميائية للدم، بما في ذلك تحديد نسبة البروتينات الشحمية (Lipoproteins) إضافة إلى فحوص متخصصة لتقويم كفاءة جهاز المناعة في الجسم، وقد شملت الفحوصات تحديد عدد الخلايا الليمفاوية في الدم (Lymphoctes) ، ونسبة أنواعها المختلفة بعضها إلى بعض، ومدى حسن أداء كل منها هذا إضافة إلى قياس نسبة الأجسام المضادة في الدم (Antibodies) ، وقد أظهرت هذه التجارب أثرًا إيجابيًّا واضحًا للصيام على جهاز المناعة في الجسم، حيث تحسن المؤشر الوظيفي للخلايا اللمفاوية عشرة أضعاف، وبالرغم من أن العدد الكلي للخلايا اللمفاوية لم يتغير، إلا أن نسبه النوع المسئول عن مقاومة الأمراض (خلايات) ، ازداد كثيرًا بالنسبة إلى الأنواع الأخرى، هذا بالإضافة إلى ارتفاع محدود في أحد فصائل البروتين في الدم (IGE) ، وهو أحد أعضاء مجموعة البروتينات المكونة للأجسام المضادة في الدم، وكانت التغيرات(2/283)
التي طرأت على البروتين الدهني، على شكل زيادة في النوع منخفض الكثافة (LdL) ، دون أي زيادة في النوع عالي الكثافة (HDL) ، وهذا نمط له تأثير منشط على الردود المناعية.
الصيام ومكونات الدم
أجرى الدكتور محمد منيب وزملاؤه من تركيا بحثًا على مائة شخص من المسلمين، أخذت منهم عينات من الدم قبل رمضان وفي نهايته؛ لتحليل وتقويم البروتين، والدهن الكلي، والدهون الفوسفاتية، والأحماض الدهنية الحرة، والكوليستيرول، والألبيومين، والجلوبيولين، وسكر الدم، واليوريا، وثلاثي الجليسرول، وأشياء أخرى.
وكانت النتائج كالتالي:
1- لم يحدث أي تغير في مستويات البروتين الكلي في مصل الدم، ولا في مجموع الدهون، لا مجموع الكوليستيرول بشقيه عالي الكثافة ومنخفض الكثافة، ولا حمض اليوريك أو اليوريا.
2- حدثت ارتفاعات هامة في الدهون الفوسفاتية، والصوديوم، والبوتاسيوم.
3- حدث هبوط عام في مقادير السكر للصائم وثلاثي الجليسرول.
4- حدث هبوط جزئي بسيط في وزن الجسم.
5- ثبت في هذا البحث أن نسبة ألفا: بيتا (Ratio Of: B Phosholipids) في الدهون الفوسفاتية انخفضت بعد الصيام، حيث كانت قبل صيام رمضان 3.1: 68 وصارت بعده 9.8: 45 والفرق بينهما له أهمية من الناحية الإحصائية.
6- لم يشاهد أسيتون في البول، لا في أول الشهر، ولا في آخره، وهذا يؤكد عدم تكون الأجسام الكيتونية أثناء الصيام الإسلامي.
7- يتجدد بفضل صوم رمضان، الجلايكوجين في جسم الإنسان(2/284)
باستمرار، كما تنشط حركة الدهون المختزنة، ويزداد استخدامها في الحصول على الطاقة.
ثم ذكر الباحث في نهاية بحثه، أن الجسم يُمنع بالصيام من أن يأخذ طعامًا زائدًا عن الحاجة، فيؤدي ذلك إلى مكان تقليل فضلات الاستقلاب في خلايا الجسم، وبالتالي ينال الجسم راحة نسبية لمدة شهر واحد في السنة، متمثلاً في راحة الجهاز الهضمي، والكبد، والكليتين، وأجهزة أخرى عديدة.
كما أجرى الدكتور محمود أبو المكارم، وزملاؤه في كلية طب الأزهر، بحثًا قريبًا من البحث السابق، حول تأثير صيام رمضان على بروتينات ودهون الدم، أظهرت نتائجه أن مجموع البروتين الكلي، الألبيومين، ونوع ب من مقدم البروتين الدهني (Apoprotien) ، والأحماض الدهنية، لم يحدث فيها أي تغيير هام، كما أن الكوليستيرول وثلاثي الجليسرول زادًا زيادة طفيفة، وأن الجزء من الكوليستيرول عالي الكثافة، ونوع (أ) من مقدم البروتين الدهني (Apoprotien A) زادًا زيادة واضحة، وهما عاملان وقائيان ضد مرض تصلب الشرايين، ومرض جلطة القلب.
ودرس الحازمي تأثيرات صيام رمضان على بعض المكونات الكيميائية الحيوية ومكونات الدم عند 36 شخصًا سليمًا، لاحظ زيادة قليلة في مستوى الكوليستيرول، وسجل هذه الزيادة كلِّ من جمعه وشكري، غير أن الزيادة كانت في البروتين الدهني منخفض الكثافة ومنخفض الكثافة جدًا (LDL & VLDL) وعزا الدكتور رياض سليماني هذا الزيادة إلى تناول الدهون والسكريات بكثرة أثناء الصيام، والتحرك السريع للدهون المختزنة في الأنسجة الدهنية، وزيادة تصنيع الكوليستيرول الداخلي في الجسم.
ونقول ربما تكون هذه الزيادة مفيدة، لأن الكوليستيرول يدخل في تركيب غشاء الخلايا التي تكون حديثًا، كما تصنع منه خلايا الغدد الصماء، الهرمونات الأستيرويدية ذات الأهمية الحيوية للجسم، وربما تفيد الزيادة في البروتين الدهني منخفض الكثافة أيضاً، في علاج مرض زيادة الكوليستيرول في الدم، بتثبيطه(2/285)
للخلايا المصنعة للكوليستيرول، بواسطة التحكم الاسترجاعي (Feed Back) ، بعد فترة في الصيام المثالي، الذي يبذل أثناءه الجهد والنشاط المعتاد، ويلتزم فيه بالحمية من كثرة تناول الدهون الحيوانية، كما تفيد هذه الزيادة في هذا البروتين الدهني منخفض الكثافة أيضاً، في الردود المناعية داخل الجسم، فتزيد مقاومته للأمراض.
كما درس الحازمي تأثير الصيام على مكونات الدم الأساسية، فلم يلاحظ أي تغير هام في الهيموجلوبين، وقياسات خلايا الدم الحمراء، غير أنه لاحظ نقصًا في مستوى الحديد في البلازما، والمقدرة الكلية لترابط الحديد (Totalion - Bonding - Capacity) ، وهذا يثبت كما يقول الباحث، أن المخزون من الحديد لا يستهلك بالصيام، كما أثبت سكوت (Scott) أنه لا يوجد تغير في كرات الدم البيضاء، أو سرعة الترسيب أثناء الصوم.
وعلى العموم فإن مكونات الدم الكيميائية، أو الفسيولوجية كما يقول الأستاذ الدكتور رياض سليماني، لا يوجد فيها أثناء الصيام تغيرات كبيرة، وإذا وجدت هذه التغيرات فإنها قليلة، وقابلة للعودة إلى طبيعتها بسهولة.
الصيام وهرمونات المرأة
أجرى الدكتور حسن نضرت والدكتور منصور سليمان، بجامعة الملك عبد العزيز بحثًا حول تأثير صيام رمضان على مستوى البروجستيرون والبرولاكتين في مصل الدم، لنساء صحيحات، تتراوح أعمارهن بين 22-25 عامًا، لتحديد ما إذا كان صيام رمضان يؤثر على فسيولوجيا الخصوبة عند المرأة، وقد أظهرت النتائج أن ثمانين بالمائة قد نقص عندهن مستوى البرولاكتين في المصل، ولم يتغير مستوى البروجستيرون، وقد نصح الباحثان المرضعات بالإفطار (1) .
وهذا البحث يؤكد أهمية الصوم لعلاج العقم عند المرأة المتسبب من زيادة هرمون البرولاكتين، فحينما ينقص بالصيام تتهيأ المرأة لحالتها الطبيعية في الخصوبة.
__________
(1) لذلك ندرك سر الشارع الحكيم في إباحة الفطر للمرضع.(2/286)
الصيام ومرضى الجهاز البولي
أجرى الدكتور فاهم عبد الرحيم وزملاؤه بكلية طب الأزهر، بحثًا عن تأثير صيام شهر رمضان على عمل وظائف الكليتين عند الأشخاص العاديين، وعند المرضى المصابين ببعض أمراض الجهاز البولي، أو بمرض تكون الحصى الكلوي (Renal Calculi) ، وشملت الدراسة عشرة من مرضى الجهاز البولي، وخمسة عشر مريضاً بالحصى، بالإضافة إلى عشرة أشخاص عاديين للمقارنة، وتم خلال كل من فترتي الصيام والإفطار أخذ عينات من البول، وتحليلها لمعرفة نسبة الكالسيوم، والصوديوم، والبوتاسيوم، واليوريا، والكرياتينين، والحامض البولي.
وكانت نتيجة تأثير الصيام على هذه العناصر على النحو التالي:
حدث نقص هام في حجم البول، وزيادة في كثافته النوعية، لدى كل المجموعات التي شملتها الدراسة، وحدثت تغيرات طفيفة جدًا في مكونات المصل من الكالسيوم، والصوديوم، والبوتاسيوم، والحامض البولي، والكرياتينين، واليوريا لدى الجميع.
وحدثت زيادة طفيفة في الكالسيوم في البول لدى الجميع.
بالإضافة إلى زيادة لا تذكر في الحامض البولي واليوريا لدى الجميع، وحدوث تغير طفيف في الصوديوم والبوتاسيوم في مجموعة المقارنة، وفي الكرياتينين البولي لدى المرضى، فضلاً عن حدوث زيادة كبيرة في الصوديوم والبوتاسيوم لدى مجموعة المرضى، وفي كرياتينين البول لدى مجموعة المقارنة.
وعليه فقد كان التغير الحاصل في عناصر المصل لدى المجموعات التي شملتها الدراسة طفيفًا، عديم الأهمية، بيد أن التغيرات التي طرأت على مكونات البول خلال الصيام، قد تمنع تكون الحصى، نظرًا لنقص الكالسيوم في البول، وزيادة الصوديوم والبوتاسيوم، التي كانت نسبتها أكبر لدى من يعانون من الحصى، ولدى المصابين بأمراض الجهاز البولي.(2/287)
وقد استنتج الباحثون من ذلك أن الصيام لم يؤثر سلبيًّا على مجموعة المرضى الذين شملتهم هذه الدراسة، والذين يعانون إما من تكون الحصى في الكلية، أو من أمراض الجهاز البولي، فضلاً عن التأثير المحتمل للصيام في منع تكوين حصيات الكلى، عكس ما هو شائع عند الأطباء وغيرهم، إذ أن زيادة الكثافة النوعية للبول ترجع إلى زيادة إفراز البولة، التي تكون 80% من المواد المذابة في البول، والبولينا مادة غروية تنتشر فتساعد على عدم ترسب أملاح البول التي تكون حصيات المسالك البولية.
كما أجرى قادر وزملاؤه سنة 1988م، دراسة على المرضى الذين يعيشون على غسيل كلوي مزمن، ويصومون شهر رمضان، وأثبتوا أنه لا يوجد تغير يذكر في نسبة اليوريا، والكرياتينين، والصوديوم، والبيكربونات، والفوسفر والكالسيم، ولكن وجد ارتفاع ملحوظ على نسبة البوتاسيوم في الدم، وعزا الباحثون ذلك إلى تناول المشروبات الغنية بالبوتاسيوم بعد الإفطار.
كما أثبتا سكوت (Scott) أنه لا يوجد تغير يذكر في اليوريا والكرياتينين أثناء الصيام.
الصيام وعمل الغدة الدرقية
أجرى الدكتور رياض سليماني، دراسة تناولت أثر صيام شهر رمضان على عمل الغدة الدرقية عند مجموعة من الرجال الأصحاء، وجرى في الدراسة تحديد مستوى كل من ثيروكسين البلازما (Plasma) والثيروكسين الحر، والثرونين
ثلاثي اليود (Triiodo - Thyronin:T3) والهرمون المنشط للغدة الدرقية (TSH) ، عند 28 من الذكور الأصحاء قبل رمضان وبعده، كما تمت دراسة آثار الامتناع عن تناول الطعام على المدى القصير من بزوغ الفجر إلى غروب الشمس، ولم تسجل أية اختلافات هامة بين هذه المستويات في الصباح المساء، (بعد فترة صيام لمدة 14 ساعة) في اختبارات عمل الغدة الدرقية.
ولم تظهر بالإضافة إلى ذلك أية اختلافات هامة، في نتائج اختبارات عمل الغدة الدرقية، التي أجريت قبل رمضان وفي نهايته، واستنتج الباحث أن(2/288)
صيام شهر رمضان من قبل رجال يتمعتون بصحة جيدة، لم يغير النسب القياسية لعمل الغدة الدرقية.
الصيام وهرمونات الشدة
أجرى الدكتور صباح الباقر وزملاؤه بكلية الطب -جامعة الملك سعود- دراسة عن تأثير صيام شهر رمضان على هرمونات البرولاكتين، والإنسولين، والكورتيزول.
وقد أخذت قياسات مستى البرولاكتين، والإنسولين، والكورتيزول، عند الساعة 9 صباحًا، 4 عصرًا، 9 ليلاً، 4 صباحًا لدى سبعة أشخاص أصحاء أثناء صيامهم شهر رمضان، كما أخذت قياسات مماثلة في الأيام العادية خارج شهر الصيام للمقارنة.
وقد لوحظ من ذلك حدوث تغيرات هامة في هذه الهرمونات في النهار، ففي الأيام العادية، لوحظ أن مستوى البرولاكتين يرتفع عند الساعة 4 عصرًا، ولا توجد فروق هامة بين القياسات الثلاثة الأخرى، وفي أثناء رمضان بلغت مستويات البرولاكتين ذروتها عند الساعة التاسعة مساء (188.5 68.3 MIU/L) ،
ووصلت مستوياتها إلى أدنى حد لها عند الساعة الرابعة صباحًا (±©94.3 42.3 MIU/ L) ، ووصل الإنسولين في اليوم العادي أعلى مستوياته عند الساعة 4 عصرًا (23.6u U/ML) ، بينما سجلت أعلى المستويات خلال شهر رمضان عند الساعة التاسعة صباحًا (320.2 121.4u Mol/L) ، وبلغت المستويات الدنيا ذروتها عند
الساعة التاسعة ليلاً (71.7 35.9 Uol/L) ، ولم تسجل أية تقلبات ذات شأن في مستويات الكروتيزول خلال شهر رمضان.
واستنادًا إلى الحد الأدنى من التغيرات الطفيفة في مستوى الكورتيزول وانخفاض مستوى البرولاكتين عند الساعة 4 عصرًا (بعد 12 ساعة صيام) ، وذلك خلال شهر رمضان ومقارنة بيوم عادي لا صيام فيه، استنتج الباحثون أن صيام رمضان لا يعتبر عملاً شاقًا.
هذا وقد درس خاليكو (Khaleque) وزملاؤه عام 1961 م عدد كرات(2/289)
الدم البيضاء حمضية النوع (Fosinophil) ، كمؤشر للضغط النفسي، قبل وبعد صيام رمضان، وخصوصًا في اليوم الأول من الصيام، والذي يفترض فيه أن أنسب الأيام لحدوث الشدة العصبية، إن وجدت، وقد ثبت من خلال البحث أنه لا يوجد تغيير هام في عدد هذه الخلايا البيضاء، أثناء اليوم الأول من الصيام ولا في غيره، مع أنها تزداد عند التعرض لشدة نفسية أو عصبية، مما يؤكد أن الصيام ليس صورة الضغط العصبي، الذي يفضي بصاحبه إلى اضطرابات نفسيه من أي نوع كان.
الصيام وخلايا الدم الحمراء
أجرى الدكتور محمد الحضرامي بكلية الطب جامعة الملك عبد العزيز، بحثًا عن تأثير صيام شهر رمضان على حياة خلايا الدم الحمراء خلال شهر الصيام.
وكان الفريق الذي خضع للدراسة يتكون من ستة أشخاص بالغين عاديين، بالإضافة إلى ثلاثة أشخاص يعانون من مرض الخلايا المنجلية.
وقام الأشخاص التسعة بصيام شهر رمضان، وكان معدل مقدار مادة الكروم المشعة والتي استخدمت في الاختبار، لتحديد عمر خلايا الدم الحمراء (51CrT 50) عند الأشخاص العاديين، أثناء رمضان، من 25-40 يوماً وعند الأشخاص المرضى من 10-5 و12 يومًا.
كما لم يلاحظ أي تغيرات تذكر في خلايا الدم الأولية غير الناضجة (Reticulocytes) ، وحجم كرات الدم الحمراء، ومعدل تركيز الهيموجلوبين بها (MCH, MCHC) .
وهذه الأرقام تماثل تلك الأرقام المنشورة الخاصة بالأشخاص غير الصائمين، الأصحاء منهم ومرضى الخلايا المنجلية، ولم تلاحظ الدراسة وجود أية آثار ضارة للصيام، على قدرة الخلايا الحمراء على البقاء لدى هؤلاء المتطوعين يبرر نصحهم بعدم الصيام.(2/290)
الصيام وتجلط الدم
أجرى الدكتور جلال ساعور أستاذ الأمراض الباطنية بمستشفى الملك فيصل التخصصي، بحثًا عن تأثير الصيام على مرضى القلب، الذين يتناولون علاجًا مضادًا لتجلط الدم، وقد كتب الدكتور ملخصًا لبحثه فقال: تقبل الغالبية العظمى من المسلمين على صيام شهر رمضان كل سنة، مما يترتب عليه حدوث تغيرات رئيسية في النشاط الجسمي وأنماط النوم، فضلاً عن تغير أوقات تناول الطعام والشراب، ونوعه، وكميته، وعليه فمن الممكن أن يؤثر الصيام تأثيرًا سلبيًا على التحكم في منع التجلط من خلال الفقدان النسبي لسوائل الجسم، وانخفاض النتاج القلبي، وزيادة الإجهاد، ولزوجة الدم، فضلاً عن التغيرات التي تطرأ على امتصاص الأدوية واستقلابها.
وفي الفترة الواقعة بين 1981م إلى 1985م تم فحص ما مجموعة 289 مريضًا في عيادة منع تخثر الدم بمستشفى الملك فيصل التخصصي، تلقى 247 مريضاً منهم العلاج المضاد لتجلط الدم، نظرًا لحالة القلب لديهم، و42 نظرًا للتجلط الشديد للأوردة، مع أو بدون الانسداد الرئوي.
وبينما كان المرضى تحت العلاج، صام 106 منهم 309 شهرًا رمضانيًا واختار 183 منهم عدم الصيام، خلال 594 شهرًا (1) .
وقد لوحظ أن حدوث مضاعفات الانسداد التجلطي والنزيف متماثلة في المجموعتين، وكان متوسط الجرعة من الوارفمارين (2) اللازمة لإحداث أفضل تأثير لمنع التجلط في المجموعتين خلال شهر رمضان متماثلاً: 6.5 ± 2.1 ملجم مقابل 6،7 ± 2،2 ملجم.
ومنذ عام 1986م أخذنا ننصح مرضانا الذين يتناولون علاجًا ضد التجلط
__________
(1) عدد أشهر الصيام ا-لمحسوبة هنا -هي مجموع ا-لشهور التي صامها جميع هؤلاء الصائمين خلال فترة الاختبار (4 سنوات) فمنهم من صام 4 أشهر ومنهم من صام ثلاثة أو اثنين وهكذا..، وبالمقابل المفطرين أيضاً، فهي مجموع الشهور التي أفطروها جميعًا خلاك فترة الاختبار.
(2) اسم دواء.(2/291)
عن طريق الفم، بأنه لا ضرر من صومهم شهر رمضان، وقام خلال هذه الفترة 277 مريضاً يحملون صمامات بديلة، بصيام ما مجموعه 1045 شهرًا، ولم تظهر على أي منهم في هذه الفترة مضاعفات الانسداد التجلطي.
الصيام ومرضى السكري
أجرى الدكتور رياض سليماني وزملاؤه -كلية الطب بمستشفى الملك خالد الجامعي، دراسة على تأثير صيام رمضان على التحكم في مرض السكري، عند 47 من مرضى النوع الثاني (1) ، وعند مجموعة من الأشخاص الذين لا يعانون من هذا المرض، وتم تحديد وزن الجسم، والبروتين السكري، وخضاب الدم السكري، قبل رمضان وفور انتهائه، عند كل من المجموعتين.
وتم قياس البروتين السكري، (Gylycosylated Protiein) عند 9 من مرضى السكري، وقد لوحظ أنه لم يطرأ أي تغير على الوزن عند هؤلاء المرضى إذ كان قبل رمضان (75.2 ± 12.8) في مقابل، (75.1 ± 12.4) كلجم بعده، كما لم يطرأ تغير على خضاب الدم السكري، (Glycosylated Hemoplonin) ، إذ كان قبل رمضان (10.9 ± 3.1) في مقابل (10.5 ± 2.8) مجم/100 مل بعده، ولم يطرأ تغير على البروتين السكري (Glycosylated Protein) حيث كان (1.19 ± 0.35) مقابل (1.17 ± 0.39) ، ملجم/100 مل، (بعد) انتهاء صيام رمضان.
أما في المجموعة التي لا يعاني أفرادها من مرض السكري، فقد لوحظ انخفاض هام في الوزن خلال الصيام (74.2 ± 10.4) كلجم، مقابل (72.5 ± 10.2) كلجم، بيد أنه لم يسجل أي تغيير يذكر في خضاب الدم السكري (Glycosylated Hemoplonin) .
واستنتج الباحثون من ذلك أن صيام شهر رمضان لا يسبب أي فقدان هام في وزن الجسم، وليس له أي أثر يذكر على التحكم في مرض السكري لدى مرضى النوع الثاني.
__________
(1) هو النوع الذي لا يعتمد المريض فيه على تناول دواء الإنسولين.(2/292)
كما قام الدكتور ألفونشو (Olu1fonsho) وزملاؤه بكلية الطب مستشفى الملك خالد الجامعي بالرياض، بتوزيع استبيان على 203 من مرضى السكري، (89 من الذكور و114 من الإناث) وذلك لتقويم مفاهيمهم، ومواقفهم، وممارساتهم، خلال صيامهم شهر رمضان.
وتراوحت أعمار هؤلاء المرضى بين 14 و18 عامًا.
وقد قام أكثر هؤلاء (89%) بصيام رمضان، وكان أقل نسبة للصيام (72%) عند من هم دون سن الخامسة والعشرين، اعترف 12% فقط بأنهم يتناولون قدرًا أكبر من الطعام في رمضان، بينما ذكر عدد أكبر منهم 27% أنهم يستهلكون قدرًا أكبر من الحلويات، وذكر أكثر من الثلث (37%) أن نشاطهم الجسمي يقل في رمضان، كما أن ضعف هذا النشاط كان أكثر شيوعًا لدى أولئك الذين لم يصوموا رمضان (61%) منه لدى الذين صاموه، (35%) ، وأعرب عدد كبير (59%) أنهم شعروا بتحسن صحتهم خلال شهر رمضان، ولم يتردد على المستشفيات في حالات طارئة، سوى (6.5%) منهم، في حين لم تتجاوز نسبة من دخلوا المستشفى بسبب مرض السكري (5%) .
أما بالنسبة للأشخاص الذين لم يصوموا، فقد كانت هذه النتائج أقل إيجابية، إذ أعرب (10%) منهم فقط عن تحسن الصحة، فيما ارتفعت المراجعات الطارئة للمستشفى (15%) وبلغت حالات دخول المستشفى (15%) .
وكان هناك اعتقاد سائد لدى (75% من المرضى) بأن صيام شهر رمضان يؤدي إلى تحسن الصحة، وكان هذا الشعور قويًا لدى المرضى الذين صاموا الشهر (80%) مقابل المرضى الذين أفطروه (26%) .
وقد أظهرت الدراسة أن معظم مرضى السكري، يفضلون صيام شهر رمضان، وأنهم يعتقدون أن لذلك أثرًا إيجابيًا على مرضهم.
وقد أثبت باربر (Barber SG) وزملاؤه سنة 1979م في برمنجهام، أن هناك تغيرًا قليلاً في تحكم مرض السكري عند المسلمين الصائمين، وأن عدد المرضى المراجعين لعيادات السكر قد تناقص، ولا توجد زيادة في معدل احتجاز(2/293)
مرضى السكري المرتفع وغير المتحكم فيه، داخل المستشفى خلال شهر رمضان.
وقد قام خوقير وزملاؤه سنة 1987م بدراسة شملت 52 مريضاً من مرضي السكري، 20 منهم يعتمدن على الأنسولين في العلاج، و32 منهم لا يعتمدون على الإنسولين، وقد وجد أن 15 مريضاً من الذين لا يعتمدون على الإنسولين قل وزنهم وانخفضت مستويات السكر (Glucose Levels) لديهم بعد الصيام، عنه قبل أن يصوموا.
كما قلت جرعة الإنسولين بنسبة 10% عن المعتاد عند المجموعة التي تعتمد على الإنسولين في العلاج، وقل وزن سبعة منهم، بينما ارتفع معدل السكر عند باقي المجموعة، لذلك نصح الباحثون بعناية خاصة لهؤلاء المرضى، إذا أرادوا أن يصوموا كل أيام شهر رمضان، ولا حرج عليهم بعد ذلك.
أما مرضى السكري الذين ينصحون بعدم الصيام فقد حددتهم دراسة التقييم الشامل الذي أجراه الدكتور سليماني وزملاؤه عن مرضى السكري وصيام رمضان سنة 1988م وهم كالتالي:
1- المرضى المعرضون لزيادة الأجسام الكيتونية في دمائهم (Prone To Ketosis) .
2- المرضى الذين يعانون من تأرجح كبير وسرعة تغير في مستوى الجلوكوز لديهم.
3- الحوامل.
4- الأطفال الصغار المصابون بمرض السكري.
5- مرضى السكري الذين يعانون من مضاعفات مرضية خطيرة مثل الفشل الكلوي أو الذبحة الصدرية.
6- مرضى السكري الذين يعانون من أمراض خطيرة مثل التسمم الدموي الشديد، (Sever Sepsis) ، أو فشل القلب الاحتقانى (congestive Heart Failuer) .(2/294)
تأثير الصيام على الحمل والرضاعة
أجريت دراسة (74) في إحدى القرب في غرب أفريقيا لمعرفة تأثير صيام شهر رمضان على الأحداث الاستقلابية عند النساء الحوامل والمرضعات، وقد وجد الدارسون أن كل المرضعات في هذه القرية، وتسعين بالمائة من الحوامل يصومون شهر رمضان كاملاً، وقد جرى قياس كل من جلوكوز المصل، والأحماض الدهنية الحرة، وثلاثي الجليسرول، والأجسام الكيتونية، وبيتاهيدروكسي بيوتيريت (Beta Hydroxy Butyrate) والألانين، والإنسولين، والجلوكاجون، ومستوى هرمون الثروكسين (T3) ، وقد أخذت العينات عند السابعة صباحًا والسابعة مساء من 22 امرأة حاملاً، وعشر نساء مرضعات وعشر أخريات غير حوامل وغير مرضعات كمجموعة مقارنة، وقورنت النتائج بالقياسات التي حددت لهذه المركبات، بعد الامتناع الطبيعي عن الطعام طول الليل خارج أيام رمضان، وكانت النتائج النهاية كالتالي:
1- لم تختلف هذه القياسات عند المرضعات عن مجموعة المقارنة أي النساء غير المرضعات وغير الحوامل، برغم ما تتعرض له المرضع من مشقة الرضاعة، ومشقة الصيام، الذي يصل إلى 19 ساعة.
2- كانت نسبة الجلوكوز في المراحل الأخيرة من الحمل 11± 3.01 مل مول/لتر، وهي أقل من جميع المجموعات الأخرى.
3- مستوى الأحماض الدهنية الحرة والأجسام الكيتونية (بيتاهيدروكسي بيوتيريت) كانت عند الحوامل أعلى أثناء صيام شهر رمضان، وكان مستوى الألانين أقل في المراحل الأخيرة من الحمل، عنه في المراحل الأولى.
واستنتج الباحثون أن عمليات الهدم تتسارع في المراحل الأخيرة من الحمل فقط أثناء شهر رمضان، فتظهر بعض آثار التجويع، وعزوا نقص سكر الدم إلى الدخل الاقتصادي المتدني، الذي يعاني منه سكان هذه المناطق.
كما أجرى الدكتور سمير عباس وزملاؤه بكلية الطب -جامعة الملك عبد العزيز - بحثًا لمعرفة أثر صيام شهر رمضان على النساء السعوديات الحوامل،(2/295)
وذلك بدراسة 4 عوامل دموية، هي نسبة اليهموجلوبين، وعدد كرات الدم الحمراء والبيضاء، ونسبة الهيماتوكرينت، وثلاثة عشر مركبًا كيميائيًا في البلازما، هي: الصوديوم، والبوتاسيوم، والكلورايد، واليوريا، والكرياتينين، إنزيمات الكبد (Scot, SGpt, Phoshatase) والبليروبين، والبروتينات، والكوليستيرول، والجلوكوز، والكورتيزول.
وقد أجريت الدراسة على مائة امرأة حامل صائمة، وخمسين امرأة حاملاً غير صائمة، وخمسين امرأة غير حامل وغير صائمة، كمجموعة مقارنة، وتتراوح أعمارهن من 17-37 سنة، وحالتهن الصحية طبيعية، ومتقاربات من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، وجرى تحديد هذه المركبات خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل، والثلاثة الثانية، والأخيرة، لمعرفة تأثير الصيام على مراحل الحمل المختلفة، وقد حدث تغيير هام ومرتفع في أربعة مركبات عند الحوامل الصائمات، وهي: إثنين من إنزيمات الكبد (©Sgot , SGpt) والبليروبين، والكلورايد، وقد هبط الإنزيم الكبدي الأول (SGpt) عن المعدل المعتاد، وازداد الهبوط في الأشهر الثلاثة الثانية، وازداد الإنزيم الكبدي الثاني (SGot) في الأشهر الثلاثة الأولى، وبنسبة أقل في الأشهر الباقية، أما البيلوربين، فقد هبط هبوطا ملحوظا في الثلاثة أشهر الأولى، ولم يكن ثابتًا أو متساويًا خلال الأشهر التالية، كما هبط أيضاً الكلورايد (CI) ، وكان هذا الهبوط ثابتًا طوال أشهر الحمل.
وقد حدث تغيير هام فقط في ثلاث مركبات أخرى هي: الكرياتينين، وإنزيم الفوسفات القلوي (Alkalin Phoshatase) ، والكوليستيرول، وقد حصل هبوط في الكرياتينين، وخصوصًا في الأشهر الثلاثة الأولى، وارتفاع متدرج في إنزيم الفوسفات القلوي، والكوليستيرول في الأشهر الثلاثة الأولى وحتى نهاية الحمل.
وقد حدث أيضاً تغيير أقل أهمية في ثلاثة مركبات، هي: كرات الدم الحمراء، والبيضاء، والكورتيزول، فحدث نقص بسيط في عدد كريات الدم الحمراء، ولم تتغير نسبة الهيموجلوبين خلال أشهر الحمل المختلفة، أما كريات(2/296)
الدم البيضاء، فقد نقصت قليلاً عن معدلها الطبيعي، واستمرت في زيادة طفيفة طوال أشهر الحمل، أما الكرتيزول فقد ازداد قليلاً، واستمرت هذه الزيادة مع تقدم أشهر الحمل.
ولم يحصل أي تغيير يذكر في سبعة عوامل وهي: الهيموجلوبين، وقياس حجم الكرية الحمراء، واليوريا، والصوديوم، والبوتاسيوم، والبروتين الكلي، وسكر الدم.
ثم قال الباحثون: إن التغير الذي حدث في العوامل العشرة الأولى، لم يتجاوز الحدود الطبيعية للقياسات المخبرية، وقد تكون بعض هذه التغيرات نافعة والبعض الآخر قد يكون ضارًا إذا كانت المرأة مريضة بمرض أخر.
وعلى الجملة فهذا البحث قد أثبت أن الصيام الإسلامي لا يسبب أدنى ضرر للمرأة الحامل الصحيحة.
تأثير الصيام الإسلامي على وزن الجسم
تفاوتت الأبحاث الطبية في هذا الموضوع، فبعضها أثبت تأثيرًا هامًا، والبعض الآخر لم يثبت ذلك، ففي دراسة قام بها فيدايل وزملاؤه (76) (Fedail) على 28 شخصًا صحيحًا صاموا شهر رمضان، أثبت أن هناك نقصًا في وزن جسم كل صائم منهم، بلغ في المتوسط 66 يم ± 8يم1 للمجموعة كلها، في -حين لم تثبت الدراسة التي قام بها شكري على -ثلاثين فردًا رجالاً ونساء (19 امرأة و11 رجلاً) لم تثبت هذه الدراسة نقصًا هامًا في وزن الرجال، ما عدا بعض النساء اللاتي عزي النقص عندهن إلى حدوث الدورة الشهرية.
وعلى العموم فإن هذه الدراسات تثبت التوازن الذي يحدثه الصيام الإسلامي في عمليتي البناء والهدم، وأن القدر الضئيل الذي قد يفقده الحسم، ربما يكون ضروريِّا ولازمًا لحفظ الصحة، ولابد من توجيه الأبحاث وإجرائها على أجسام مرضى السمنة، حتى نرى أثر الصيام المباشر على مثل هذه الأوزان الزائدة، وقد طالب بذلك الأستاذ الدكتور رياض سليماني، في بحثه "حقائق صيام رمضان في الصحة والمرض".(2/297)
الصيام والإخصاب عند الرجل
أجرى الدكتور سمير عباس والدكتور عبد الله باسلامة، بكلية الطب جامعة الملك عبد العزيز دراسة على واحد وعشرين شخصًا، ثمانية منهم أصحاء وعشرة يعانون من نقص المنويات (Oligospermia) ، وثلاثة ليست لديهم منويات (Azospermia) ، وأخذت منهم عينات من الدم، والمني، في خلال شهر شعبان ورمضان، وشوال، لتحليل المني، والهرمونات التالية.
- التيستوستيرون Testosterone.
- البرولاكتين Prolactin.
- الهرمون الملوتن L.H.
- الهرمون المنبه للجريب FSH.
وذلك لمعرفة تأثير صيام شهر رمضان على خصوبة الرجل، وقد أظهرت نتائج البحث، أن هناك "تغيرات حيوية بين الأشخاص الطبيعيين، حيث يتحسن أداء هرمون الذكورة (Testosterone) ، لكن لم يحصل في مستواه أي ارتفاع حيوي خلال الأشهر الثلاثة من البحث، كما أن حجم المني، والعدد الكلي للمنويات، ازداد ازديادًا ملحوظا أثناء شهر الصيام، ولاحظ الباحثان من إحصائيات المستشفى الجامعي أن عدد حالات الحمل تصل إلى معدل كبير في شهر شوال، كما وجد أن هناك تحسنًا في نسبة المنويات الحية وانخفاضًا في نسبة المنويات الميتة أثناء شهر الصيام.
كما أن الهرمون المنبه للجريب (FSH) ، يزداد ازديادًا ملحوظًا خلال شهر رمضان، مقارنة بمستواه قبل وبعد الصيام في الأشخاص الطبيعيين، ويقل عن شهر شوال في الأشخاص الذين يعانون من نقص المنويات، أو انعدامها، وهذا الهرمون له علاقة بتصنيع المركبات الاستيرويدية في نسيج الخصية، كما يمكن أن يعزى التغير في مستوى التيستوستيرون إلى التغير في مستوى هذا الهرمون، كما أن الهرمون الملوتن (L.H) ازداد زيادة ملحوظة أثناء الصيام، ونقص بعده في الأشخاص الطبيعيين، كما أنه لم تسجل له أي تغيرات هامة عند الأشخاص(2/298)
المرضى بنقص المنويات، وحدث نقص هام عند المرضى بانعدام المنويات، وهذا الهرمون له علاقة بتكون المنويات الحية في الخصية، ما سجلت زيادة في البرولاكتين، أثناء وبعد رمضان عند الأشخاص الطبيعيين، ونقص بعد الصيام عند المرضى بقلة المنويات، وارتفاع عالٍ عند المرضى بانعدام المنويات، بالمقارنة مع المجموعات الأخرى، وهذا الهرمون له تأثير مثبط على تكون الإندروجين الناتج من الخصية. وخلص الباحثان على أن للصيام أثرًا مفيدًا على تكون المنويات، إما عن طريق محور التأثير الهرموني (Hyplthalamo-pitutary Testicular) ، أو عن طريق التأثير المباشر على الخصيتين.
تأثير الصيام المتواصل على مرضى التهاب المفاصل الشبيه بالرثية
تم فحص ثلاثة عشر مريضًا من مرضى التهاب المفاصل الشبيه بالرثية، أو الروماتيزم (Rheumatoidarthritis) ، بعد صيام تام لمدة أسبوع، مع مجموعة ضابطة، لمعرفة تأثير الصيام "المتواصل" على وظائف الخلايا المتعادلة في الدم (Neutrophil) ومحلى سير الحالة المرضية في هؤلاء المرضى.
وكانت نتائج البحث كالتالي:
- نقص وزن المرضى بمقدار يتراوح من 1-5 كجم.
- تحسنت الالتهابات في المفاصل، ونقصت سرعة الترسيب.
- ازدادت في فترة الصيام القدرة على قتل وسحق البكتيريا.
وخلص البحث على أن هناك علاقة بسن الالتهابات في المفاصل
وازدياد المقدرة للخلايا البيضاء المتعادلة على سحق البكتيريا، وتحسن الحالة الإكلينيكية لمرضى الروماتويد بالصيام.
تأثير الصيام على قرحة المعدة
أجرى الباحثون معظم وعلى، وحسين، دراسة كان الهدف منها التعرف على تأثير صيام شهر رمضان على حموضة المعدة "زيادة الحموضة وقلتها"،(2/299)
وقد وجد الباحثون أن الحموضة في المعدة اعتدلت (Isochlorhydria) عند كل المرضى الذين يعانون من قلة الحموضية (Hypochlorhydria) أو زيادتها (Hyperchlorhydria) ، مما يؤكد أن صيام شهر رمضان يخفف ويمنع حدوث الحموضة الزائدة، والتي تكون سببًا رئيسيًّا في حدوث قرحة المعدة.
تأثير الصيام المتواصل على الغدد الجنسية
نشرت مجلة الغدد الصماء والاستقلاب الإكلينيكية في العدد 53 عام 1981م (1) ، بحثًا لمجموعة من العلماء والأطباء، قاموا فيه بدراسة تأثير الصوم على الغدد الجنسية في الذكور.
وقد أجريت الدراسة في مستشفى ماستشوست بالولايات المتحدة على ستة أشخاص أصحاء بدينين، وتتراوح أعمارهم بين 26 و45 عامًا.
وقد قسمت الدراسة إلى ثلاث مراحل:
1- المرحلة الأولى للتقويم: (Control) وتستمر ثلاثة أيام، ويأكل فيها هؤلاء الأشخاص حسب نظامهم العادي اليومي.
2- المرحلة الثانية "فترة الصوم" (2) : يصوم هؤلاء الأشخاص صيامًا كاملاً لمدة عشرة أيام، والصيام الكامل يعني عدم تناول أي طعام أو شراب لا بالليل ولا بالنهار، ما عدا الماء القراح الذي يسمح بتناوله ليلاً ونهارًا.
3- المرحلة الثالثة "إعادة التغذية": وتستمر لمدة خمسة أيام.
وقد أجري فحص الدم لمعاينة الهرمونات الجنسية في الأيام التالية:
1- اليوم الثاني "أي أثناء فترة التقويم".
2- اليوم الحادِي عشر "أي أثناء فترة الصيام، والتي توافق اليوم الثامن للصوم".
__________
(1) كان للدكتور محمد علي البار الفضل في الحصول على هذا البحث وترجمته.
(2) يقصد بالصوم هنا التجويع أو الصيام المتواصل.(2/300)
3- اليوم السادس عشر "أي اليوم الثالث من إعادة التغذية".
ويعاد فحص الدم بعد تنبيه الغدة النخامية بواسطة هرمون (LRH) ، وذلك في اليوم الثالث، واليوم الثاني عشر، واليوم السابع عشر وقد درست الهرمونات الجنسية التالية:
1- هرمون الذكورة، التيستوستيرون (Testosterone) .
2- الهرمون المنبه للجريب F.S.H.
3- الهرمون الملوتن L.H.
يعتبر الهرمون المنبه للجريب، والهرمون الملوتن، من الهرمونات المنمية للغدة التناسلية (Gonadotropins) .
وقد كانت نتائج البحث كالتالي:
1- انخفض هرمون الذكورة "التيستوستيرون" انخفاضًا كبيرًا أثناء الصوم، واستمر الانخفاض لمدة ثلاثة أيام بعد إعادة التغذية، وفي اليوم الرابع من إعادة التغذية، ارتفع مستوى هذا الهرمون ارتفاعًا كبيرًا، بحيث تجاوز مستواه الطبيعي قبل الصوم.
2- ازداد إفراز الهرمونات المنمية للغدة التناسلية في البول، لكلا الهرمونين: الهرمون المنبه للجريب (F.S.H) والهرمون الملوتن بصورة كبيرة أثناء الصيام واستمر كذلك لمدة ثلاثة أيام بعد انتهاء الصوم.
3- ازداد إفراز الهرمون الملوتن (L.H) في الدم أثناء فترة الصيام، وهو أمر متوقع نتيجة انخفاض إفراز هرمون الذكورة "التيستوستيرون".
4- انخفض الهرمون المنبه للجريب (F.S.H) أثناء الصوم، وكان المتوقع أن يزداد الإفراز، ولعل ذلك يوضح أن تأثير الصوم تأثير محدود في خفض القدرة الجنسية.
مناقشة النتائج:
اتضح أن صيام مدة محدودة "عشرة أيام" صيامًا متواصلاً أدى إلى خفض كبير في مستوى هرمون الذكورة "التيستوستيرون"، وبالتالي أدى إلى(2/301)
إضعاف الرغبة الجنسية، ولكن هذا التأثير مؤقت، ولا يؤثر على الأنسجة الخاصة بالخصوبة، وقد انتهى مفعوله بعد ثلاثة أيام من التغذية، وارتفع مستوى هرمون الذكورة في اليوم الرابع من إعادة التغذية إلى مستوى أعلى مما كان عليه قبل بدء الصوم.
وهذا يوضح أن تأثير الصوم على الرغبة الجنسية يمر بمرحلتين:
الأولى: خفض الرغبة الجنسية أثناء فترة الصيام ولأيام قليلة بعدها.
الثانية: رفع مستوى القدرة الجنسية وتحسينها بعد انتهاء فترة الصوم، إلى مستوى أفضل مما كانت عليه قبل بدء الصوم.
صيام رمضان وأثره على بعض أمراض الأوعية الدموية الطرفية
توجد هناك أمراض عديدة تصيب الأوعية الدموية الطرفية، والتي تبدو أن لها علاقة بنشاط الجهاز العصبي الودي "ا-لسمبثاوي" الزائد في نهايات الشرايين الدموية (Arterioles) ، ويعتبر مرض الرينود (Raynoud's Disease) أحد هذه الأمراض، حيث تنقبض فيه عضلات جدر الشرايين الدقيقة انقباضًا ذاتيًّا شديدًا، مسببة آلامًا مبرحة، وتهجم هذه الآلام عند التعرض للبرد، أو الضغط العصبي، ولو استمر المرض لعدة سنوات فقد يؤدي إلى فقدان الأطراف، ولعلاج هذا المرض يمنع التعرض للبرد ما أمكن، ويتحاشى التدخين، ويعطى بعض الأدوية كموسعات للأوعية الدموية، كما يستأصل العصب السمبثاوي الموضعي المغذي للأطراف، ويتحاشى التعرض للضغوط العصبية والنفسية، وهناك مرض آخر (Buerger's Disease) من نفس هذا النوع، يؤثر على الشرايين والأوردة الطرفية، والتدخين ينشط هذا المرض ويزيده سوءًا، وعند منع التدخين يتحسن المريض تحسنًا ملحوظ، وقد يحتاج بعض المرضى إلى استئصال العصب الودي "السمبثاوي" المغذي للأطراف، وأحيانًا يحتاج هذا المريض إلى بتر أطرافه لو استمر في التدخين.
وفد ذكر الدكتور صباح الباقر في دراسة له سنة 1991م أن الصيام(2/302)
الإسلامي يؤدي دورًا هامًا في علاج أمراض الأوعية الدموية الدقيقة، ولخص هذا الدور في النقطتين التاليتين:
1- تحريم التدخين أثناء ساعات الصيام، يقدم خدمة جليلة في علاج المرض.
2- لا يشكل الصيام أي مشقة أو ضغط على الجسم بل على العكس، يعتبر عاملاً مهدئًا، حيث تزداد العوامل المنشطة للإيمان في الصلاة والذكر وقراءة القرآن.
وقد ذكر خاليكو وزملاؤه عام 1961م في دراسة لهم عن الضغط أو الشدة في صيام رمضان، أن الصيام يقلل من نشاط الجهاز العصبي الودي "السمبثاوي"، وتمثل هذا في انخفاض عدد ضربات القلب، أثناء الراحة في صيام رمضان انخفاضا ملحوظًا، عنه في غير رمضان، وخصوصًا عند الرجال، وقل حجم الأكسجين في الأوردة (VO 2) في كل الأشخاص الذين أجريت عليهم التجربة كما حصل نقص في الطاقة المستهلكة يتراوح من 7-23%.
وأثبتت الدراسات على حيوانات التجارب أن هناك نقصًا ملحوظا في نشاط الجهاز العصبي الودي "السمبثاوي" أثناء فترات الحرمان من الغذاء لهذه الحيوانات.
وخلص الدكتور الباقر إلى أن تثبيط الجهاز القصبي الودي "السمبثاوي" أثناء الصيام، يلغي العامل الثاني المسبب للمرض، وبالتالي تظهر فائدة الصيام الإسلامي في الشفاء من مثل هذه الأمراض.
تأثير الصيام على الوارد الكهربائية والتناضح في البول والدم
أجرى الدكتور صباح الباقر دراسة على عشرة أشخاص أصحاء في كلية الطب -جامعة الملك سعود بالرياض- أثناء شهر رمضان، ووجد أن هناك زيادة هامة في تركيز الصوديوم، والبوتاسيوم في البول، وهذا راجع إلى قدرة الكلى على تركيز البول وزيادة عمل الهرمون المضاد لإدرار البول(2/303)
(Antidiuretic Hormpne) ، ولم توجد زيادة هامة في قوة التناضح أو النافذ (Osmosis) في البول.
كما وجدت زيادة هامة أيضاً في تركيز الصوديوم، والبوتاسيوم في الدم ولم يظهر تغيير هام في قوة التناضح في الدم، وبرغم وجود بعض هذه التغيرات أثناء الصيام، فقد ذكر الباحث أنها تقع داخل المعدل الطبيعي المسموح به.
وهكذا يتضح أن الصيام عامل هام في تنشيط أجهزة الجسم للعمل "زيادة قدرة الكلى على تركيز أملاح البول، وزيادة عمل الهرمون المضاد لإدرار البول"، مع المحافظة على معدلات الأملاح والتناضح في المستوى الطبيعي، وبالتالي فلا يشكل الصوم أي خطر على مكونات الدم من العناصر التي تكوّن الشوارد الكهربائية، ولا على قوة التناضح أو الأزموزية في البول أو الدم.
كما وجد الحازمي زيادة طفيفة أيضاً في مستوى الصوديوم، والبوتاسيوم، والكلورايد، والفوسفات، وتعود هذه الزيادة إلى معدلها الطبيعي سريعًا بالفطر، وهذه الزيادة أيضاً داخل المعدل الطبيعي، ولم تسجل زيادة تذكر في الكالسيوم.
***(2/304)
وجوه الإعجاز في الصوم
الوجه الأول من الإعجاز الوقاية من العلل والأمراض
أخبر الله سبحانه وتعالى أنه فرض علينا الصيام وعلى كل أهل الملل قبلنا، لتكتسب به التقوى الإيمانية، والتي تحجزنا عن المعاصي والآثام، ولنتوقى به كثيرًا من الأمراض والعلل الجسمية والنفسية، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصيام جُنة" أي: وقاية وستر.
وقد ثبت من خلال هذا البحث بعض الفوائد الوقائية للصيام ضد كثير من الأمراض والعلل الجسمية والنفسية، منها على سبيل المثال لا الحصر:
1- يقوي الصيام جهاز المناعة، فيقي الجسم من أمراض كثيرة، حيث يتحسن المؤشر الوظيفي للخلايا اللمفاوية عشرة أضعاف، كما تزداد نسبة الخلايا المسئولة عن المناعة النوعية زيادة كبيرة، كما ترتفع بعض أنواع الأجسام المضادة في الجسم وتنشط الردود المناعية نتيجة لزيادة البروتين الدهني منخفض الكثافة.
2- الوقاية من مرض السمنة وأخطارها، حيث إنه من المعتقد أن السمنة كما قد تتتج عن خلل في تمثيل الغذاء، فقد تتسبب عن ضغوط بيئية أو نفسية أو اجتماعية، وقد تتضافر هذه العوامل جميعًا في حدوثها، وقد يؤدي الاضطراب النفسي إلى خلل في التمثيل الغذائي، وكل هذه العوامل التي يمكن أن تنجم عنها السمنة، يمكن الوقاية منها بالصوم: من خلال الاستقرار النفسي والعقلي الذي يجني بالصوم نتيجة للجو الإيماني الذي يحيط. بالصائم، وكثرة العبادة في الذكر، وقراءة القرآن، والإنفاق في سبيل الله، والبعد عن الانفعال والتوتر، وضبط النوازع والرغبات، وتوجيه الطاقات النفسية الجسمية توجيهًا إيجابيًا نافعًا.
هذا فضلاً عن تأثير الصيام المثالي في استهلاك الدهون المختزنة، ووقاية الجسم من أخطار أمراض السمنة: كالأمراض القلبية الوعائية، مثل قصور(2/305)
القلب، والسكتة القلبية، وانسداد الشرايين المحيطة بالقلب، وكمرض تصلب الشرايين.
3- يقي الصيام الجسم من تكون حصيات الكلى، إذ يرفع معدل الصوديوم في الدم، فيمنع تبلور أملاح الكالسيوم، كما أن زيادة مادة البولينا في البول، تساعد في عدم ترسب أملاح البول، التي تكون حصيات المسالك البولية.
4- يقي ا-لصيام الجسم من أخطار ا-لسموم المتراكمة في -خلاياه، وبين أنسجته من جراء تناول الأطعمة خصوصًا المحفوظة والمصنعة منها، تناول الأدوية واستنشاق الهواء الملوث بهذه السموم.
5- يخفف الصيام ويهدئ ثورة الغريزة الجنسية خصوصًا عند الشباب، وبذلك يقي الجسم من الاضطرابات النفسية والجسمية، والانحرافات السلوكية، انظر بحث تأثير الصيام المتواصل على الغدد الجنسية، حيث يمكن الاستفادة من هذا البحث في بيان وجه الإعجاز في حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" إذا التزم الشباب الصيام وأكثر منه، وذلك لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "فعليه بالصوم"، أي: فليكثر من الصوم، كما ذكر السلف، والإكثار من الصوم مع الاعتدال في الطعام والشراب، وبذل الجهد يقترب من الصيام الكلي، ويجني الشباب فائدته في تثبيط غرائزه المتأججة بيسر، ما لا يتعرض إلى أخطار هذا النوع من الصيام، والذي ذكرناه تحت أخطار التجويع.
وهذا البحث يجلي بوضوح الإعجاز في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فإنه له وجاء" من وجهين:
الأول: الإشارة إلى أن الخصيتين هما مكان إنتاج عوامل الإثارة الجنسية، حيث أن معنى الوجاء أن ترض أنثيا الفحل (خصيتيه) رضًا شديداً، يذهب شهوة الجماع، ويتنزل في قطعه منزلة الخصي.
وقد ثبت أن في الخصيتين خلايا متخصصة في إنتاج هرمون التيستوستيرون (Testosterone) ، وهو "الهرمون المحرك والمثير للرغبة الجنسية، وأن قطع الخصيتين (الخصي) يذهب هذه الرغبة ويخمدها تمامًا.(2/306)
الثاني: أن الإكثار من الصوم مثبط للرغبة الجنسية وكابح لها، وقد ثبت في هذا البحث هبوط مستوى هرمون الذكورة (التيستوستيرون) هبوطا كبيرًا أثناء الصيام المتواصل، بل وبعد رعادة التغذية بثلاثة أيام، ثم ارتفع ارتفاعًا كبيرًا بعد ذلك، وهذا يؤكد أن الصيام له القدرة على كبح الرغبة الجنسية مع تحسينها بعد ذلك، وهذا يؤكد فائدة الصوم في زيادة الخصوبة عند الرجل بعد الإفطار، فهل كان يستطيع أن يتحدث بهذه العبارة الموجزة والتي تحوي كل هذه الدقة العلمية، إلا نبي يوحى إليه من خالق الإنسان العليم بدقائق تكوينه!.
6- يعتبر الصيام وقاية من الأمراض العقلية والنفسية، فقد ثبت تأثيره على مرض انفصام الشخصية، فقد أشار الدكتور يوري نيكولايوف، من المعهد النفسي بموسكو، إلى أن الأمراض العقلية يمكن السيطرة عليها بمفعول الصيام والحمية، وقد تبين عند مراجعة 1000 مريض عقلي التزموا الصيام (1) ، أن التحسن كان ملحوظًا لدى 65% منهم، وقد وقع فحص نصف هؤلاء المرضى بعد 6 سنوات، واتضح أنهم لا يزالون يتمتعون بصحة طيبة، كما أن الدكتور آلان كوت قد ألزم 35 مريضاً ببرنامج صيام، تخلص 24 منهم من مرضهم.
الوجه الثاني من الإعجاز منافع وفوائد الصيام
بعد أن أخبرنا الله سبحانه وتعالى، وأخبرنا رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الصيام يحقق لنا وقاية من العلل الجسمية والنفسية، ويشكل حاجزًا وسترًا لنا من عقاب الله، أخبرنا -جل في علاه- أن في الصيام خيرًا ليس للأصحاء المقيمين فقط، بل أيضًا للمرضى والمسافرين، والذين يستطيعون الصوم بمشقة، ككبار السن ومن في حكمهم، قال تعالى: (أيامًا معدودات فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) .
ذكر الفخر الرازي: أن للعلماء ثلاثة وجوه في قوله تعالى: (وأن
__________
(1) الصيام الطبي.(2/307)
تصوموا خير لكم)
أحدها: أن يكون هذا خطابًا مع الذين يطيقونه فقط، ويكون التقدير: وأن تصوموا أيها المطيقون، وتحملتم المشقة فهو خير لكم من الفدية، وقد اختار هذا القاسمي في محاسن التأويل.
الثاني: أن هذا خطاب مع كل من تقدم ذكرهم، أعني المريض والمسافر والذين يطيقونه، وهذا أولى؛ لأن اللفظ عام ولا يلزم من اتصاله بقوله (وعلى الذين يطيقونه) أن يكون مختصًا بهم؛ لأن اللفظ عام ولا منافاة في رجوعه إلى الكل فوجب الحكم بذلك.
الثالث: أن يكون معطوفًا على أول الآية فالتقدير: كتب عليكم الصيام، وأن تصوموا خير لكم، والخير اسم تفضيل على غير قياس، وهو الحسن لذاته، ولما يحقق من لذة أو نفع أو سعادة، فالصيام حسن لذاته، ولما يحصل للمؤمن من المنافع واللذة الروحية والسعادة في الدنيا والآخرة.
ومعنى (إن كنتم تعلمون) أي: فضيلة الصوم وفوائده.
ومما سبق يتبين لنا أن الله سبحانه وتعالى قرر أن للصوم منافع وفوائد هي متحققة حتمًا على كل من افترضه عليه، من الأصحاء المقيمين، والذين يصومون بلا مشقة زائدة، وأن هذه الفوائد والمنافع تعم أهل الرخص إن صاموا، ما لم يتحقق الضرر، ولا منافاة -فيما نعلم- بين تقرير الله هذا، وبين قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) بعد قوله: (فمن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر) فاليسر هنا هو رفع الإلزام، وتشريع الرخصة، والعسر خلافه، قال القاسمي في محاسن التأويل: يريد الله بكم اليسر أي: تشريع السهولة بالترخيص للمريض والمسافر، وبقصر الصوم على شهر (ولا يريد بكم العسر) في جعله عزيمة على الكل، وزيادته على شهر.
إن المولى عز وجل قد بين أن ترك حرية الاختيار بين الصيام والفطر، للمرضى، والمسافرين، والمطيقين، مع حثهم على الصيام لفوائده وفضائله -والتي لا يعلمونها في الغالب- أن هذا هو التشريع الذي أراده لهم، وهو تشريع سهل ميسور، وأن في إبقاء فرضية الصيام على المرضى، والمسافرين،(2/308)
والمطيقين عنت ومشقة وعسر، لم يشرعه الله، فليس هناك تعارض بين تقرير خيرية الصيام لهؤلاء وقوله سبحانه (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) فما قال أحد بأن العسر هو الصيام بل يكون الخلاف دائمًا بين علماء المسلمين في الخيار والأفضلية بين ما هو الأيسر أو الأفضل، الصيام أم الفطر؟ فمن قائل: الفطر، ومن قائل: الصيام، ومن قائل: بأنه أيسرهما على المرء، لقوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)
إذن فقد يكون الصيام هو الأيسر لبعض هؤلاء من الفطر.
لقد ذكر علماء المسلمين أن من الأمراض ما ينقصه الصوم أو يكون علاجًا له أو مساعدًا على زواله، لذلك قرر أكثر الفقهاء أن رخصة الإفطار في المرض ليست على الإطلاق، فقالوا: إن المرض المبيح للفطر هو الذي يؤدي إلى ضرر في النفس، أو زيادة في العلة، وكلام ابن الجوزي كان أكثر تحديدًا، إذ قال: "وليس المرض والسفر على الإطلاق، فإن المريض إذا لم يضر به الصوم لم يجز له الإفطار، وإنما الرحمة موقوفة على زيادة المرض بالصوم.
إن قضية الضرر والمشقة التي يمكن أن يعاني منها المريض، أو المسافر، أو كبير السن، ومن في حكمه، نتيجة للصيام - قضية نسبية، تختلف من فرد لآخر، ومن بيئة لأخرى، وتتأثر بالحالة النفسية والمزاجية للأشخاص، والعرف الاجتماعي العام، وظنون الأطباء، والعاملين في الحقل الصحي.
ونستطيع أن نقول: إنه ليس هناك ما يثبت أن للصيام الإسلامي ضررًا محققًا على معظم الأمراض، أو على وظائف الأعضاء في الشيخوخة، أو أثناء الحمل، أو الرضاعة، أو أثناء السفر، حتى يظل الصيام خير لمعظم المرضى، والمسافرين والمطيقين للصيام، محققًا لهم من الفوائد والمنافع الشيء الكثير الذي لا يعلمونه.
ولو قرض وتحقق الضرر في بعض الحالات، أو بعض الظروف، فيكون هذا هو العسر الذي يعود فيه التشريع تلقائيًا إلى اليسر، والذي هو هنا وجوب الفطر لا الرخصة.
ولقد عرف الحرالي اليسر بأنه: عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم(2/309)
والعسر ما يجهد النفس ويضر الجسم.
إن العسر هو ما يصيب النفس من جهد شديد لا تتحمله عادة، فيجهدها ويثبط عملها، أو كل ما يصيب الجسم بضرر محقق أو ضعف يؤدي إلى ضرر، أو يفوت مصلحة راجحة. إن هذا العسر قد أبدلنا الله عنه بتشريع اليسر، وهو كل عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم، وهو هنا الرخصة، وحرية الاختيار بين الصيام والإفطار، لمطلق من يسمى مريضًا، أو على سفر، أو شيخا كبيرًا في العادة وتظل قاعدة (وأن تصوموا خير لكم) ، برغم مشقة المرض أو السفر، أو ازدياد مشقة الحرمان من الغذاء للشيخ الكبير، ومن في حكمه تحت هؤلاء على الصيام ليجنوا منه الفوائد الجسدية والنفسية، وليكون العلم بأسرار الصيام وفوائده، معينًا لهؤلاء وميسرًا لهم تحمل هذه المشقات الاختيارية والممكنة، والناس متفاوتون في هذا، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
أما إذا حصل الضرر أو ترجح وقوعه، عاد التشريع إلى تحريم الصيام ووجوب الفطر، فهذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم في السفر ويفطر، ويقول لرجل سأله عن الصيام في السفر: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر".
وها هو ذا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوجب الفطر على الناس في سفر الحرب، حينما رآهم يتساقطون من شدة الحر، ويفطر أمامهم، ويأمر الناس جميعًا بالفطر، ويقول لمن صام منهم: "أولئك العصاة" أولئك العصاة"، وهو هو ذا أيضًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سافر مع أصحابه إلى مكة صائمين، فنزلوا منزلاً، فقال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم! "إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم" فكانت رخصة، فمنهم من صام، ومنهم من أفطر، بعد أن كانوا جميعًا صائمين، ثم نزلوا منزلاً آخر فقال: "إنكم مصبحوا عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا"، فكانت عزمة، فأفطروا، ثم قال راوي الحديث: لقد رأيتنا نصوم مع رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك في السفر.
فالصيام للمرض والمسافرين والمطيقين هو الأولى والأنفع، ما لم تضعف النفس عن لمحمل المشقة، أو يصيبها أو يصيب الجسد ضرر محقق أو متوقع، في الأولى تكون الرخصة، وفي الثنية تكون العزمة، ويستعين الإفطار، بهذا قال بعض أهل التفسير وجمهور الفقهاء كلما ذكرنا.(2/310)
ونخلص مما تقدم أن الله سبحانه أثبت للصيام منافع وفوائد جسمية، نفسية، علاوة على المنافع الأخروية، لمن ثبتت لهم رخصة الإفطار من المرضى، والمسافرين، وكبار السن، ومن في حكمهم، وأن هذه المنافع والفوائد للأصحاء أولى وأثبت، لعموم اللفظ في قوله تعالى (وأن تصوموا خير لكم) والذي يرجع إلى كل من سبق ذكرهم من أصحاب الأعذار.
وقد تجلت هذه الفوائد واستقر خبرها في زماننا هذا، لمن أوجب الله عليهم الصيام، ولمن أطاقوه من أهل الرخص، الذين يستطيعون تناول وجبتي الفطور والسحور كالأصحاء.
ولا يفوتنا إثبات أنه لا يوجد بحث علمي أجري على الصائمين الأصحاء، في الظروف الطبيعية إلا وأفاد أحد أمرين:
(أ) إما عدم تأثير الصيام على وظائف الأعضاء ومكونات الجسم بأي قدر يشكل خطورة على الجسم.
(ب) أو أنه يظهر فائدة جلية في بعض هذه الوظائف، أو تحسين بعض مكونات الجسم.
ولا يوجد بحث علمي -فيما أعلم- في تأثير الصيام الإسلامي على المرضى، أثبت خطرًا محققًا على مريض استطاع الصيام في الظروف الاعتيادية للإنسان، وقد كثفت البحث عن هذا، واطلعت على ملخصات لعدة قوائم للأبحاث، من مراكز عالمية في هذا الموضوع، بالإضافة إلى ما توفر لنا من الأبحاث المنشورة في المجلات، والمراجع الطبية، وأعمال الندوات والمؤتمرات العلمية، وكانت كل الأبحاث التي وقعت تحت يدي إما لا تثبت ضررًا للمرضى، أو أنها تثبت فائدة لهم.
وهذه أمثلة على بعض الأمراض الخطوة:
1- كان وما زال الأطباء يعتقدون أن الصيام يؤثر على مرضى المسالك البولية، وخصوصًا الذين يعانون من تكون الحصيات أو الذين يعانون من فشل كلوي، فينصحون مرضاهم بالفطر، وتناول كميات كبيرة من السوائل.(2/311)
وقد ثبت خلاف ذلك، إذ ربما كان الصيام سببًا في عدم تكون بعض الحصيات، وإذابة بعض الأملاح، ولم يؤثر الصيام مطلقًا حتى على من يعانون من أخطر أراض الجهاز البولي، وهو مرض الفشل الكلوي مع الغسيل المتكرر.
2- كان يعتقد أن الفقدان النسبي لسوائل الجسم، وانخفاض عدد ضربات القلب، وزيادة الإجهاد أثناء الصوم، يؤثر تأثيرًا سلبيًّا على التحكم في منع تجلط الدم، وهو من أخطر الأمراض، وقد ثبت أن الصيام الإسلامي لا يؤثر على ذلك في المرضى الذين يتناولون الجرعات المحددة من العلاج.
3- ثبت أن الصيام لا يشكل خطرًا على معظم مرضي السكري، إن لم يكن يفيد الكثيرين منهم.
4- يعالج الصيام عددًا من الأمراض الخطيرة أهمها:
أ- الأمراض الناتجة عن السمنة: كمرض تصلب الشرايين، وضغط الدم، وبعض أمراض القلب.
ب- يعالج بعض أمراض الدورة الدموية الطرفية مثل: مرض الرينود (Raynaud's Disease) ، ومرض برجر.
ج- يعالج كثيرًا من الأمراض التي تنشأ من تراكم السموم، والفضلات الضارة في الجسم.
د- يعالج الصيام المتواصل مرض التهاب المفاصل المزمن (الروماتويد)
هـ- يعدل الصيام الإسلامي ارتفاع حموضة المعدة، وبالتالي يساعد في التئام قرحة المعدة مع العلاج المناسب.
و لا يسبب الصيام أي خطر على المرضعات، أو الحوامل، ولا يغير من التركيب الكيميائي، أو التبدلات الاستقلابية في الجسم عند المرضعات، خلال الشهور الأولى والمتوسطة من الحمل.
أما الفوائد التي يجنيها الصائمون عمومًا، فهي أكثر من أن تحصى، وقد ذكرنا طرفًا منها عند الحديث عن الأثر الوقائي للصيام، في أول هذا الباب،(2/312)
وسنشير هنا إلى بعض الحقائق العلمية العامة، وبعض الأبحاث الخاصة، التي تؤكد فوائد الصوم ومنافعه للإنسان، والتي ثبتت من خلال هذا البحث.
1- يمكن الصيام آليات الهضم والامتصاص في الجهاز الهضمي وملحقاته، من أداء وظائفها على أتم وأكمل وجه، وذلك بعدم إدخال الطعام والشراب على الوجبة الغذائية، أثناء هضمها وامتصاصها.
كما يتيح الصيام راحة فسيولوجية للجهاز الهضمي وملحقاته، وذلك بمنع تناول الطعام والشراب لفترة تتراوح من 9-11 ساعة بعد امتصاص الغذاء، فتستريح الغدد اللعابية، والمعدة، ويستريح الكبد أيضاً من إفراز جزء كبير من عصارته الصفراوية، بما فيها من أملاح وأحماض وأصباغ صفراوية هاضمة للدهون، ويستريح الجهاز الهضمي من إفراز هرموناته وإنزيماته من المعدة والأمعاء، كما تستريح آليات الامتصاص في الأمعاء طوال هذه الفترة من الصيام.
وتتمكن الانقباضات الخاصة (Mingrationg Motor Complex) بتنظيف الأمعاء، لعملها المستمر دون توقف.
2- يمكّن الصيام الغدد ذات العلاقة بعمليات الاستقلاب، في فترة ما بعد الامتصاص، من أداء وظائفها، في تنظيم وإفراز هرموناتها الحيوية على أتم حال، وذلك بتنشيط آليات التثبيط والتنبيه لها يوميًا، ولفترة دورية ثابتة، ومتغيرة طوال العام، وبالتالي يحصل توازن بين الهرمونات المتضادة في العمل، مثل هرموني: النمو والإنسولين، كهرمونات بناء من ناحية، وهرموني: الجلوكاجون والكورتيزول، كهرمونات هدم من ناحية أخرى، والذي يتوقف على توازنها الدقيق، تركيز الأحماض الأمينية في الدم، وتوازن الاستقلاب.
3- ينشط الصيام آليات الاستقلاب، أو التمثيل الغذائي للجلوكوز، والدهون، والبروتينات في الخلايا، لتقوم بوظائفها على أكمل وجه، فآلية احتراق الجلوكوز في دائرة حمض الستريك لإنتاج الطاقة، وآلية تخزينه إلى جليوكوجين، وآلية تحويل الجليوكوجين إلى جلوكوز مرة أخرى، وآلية تخزين(2/313)
الدهون، وآلية تجمع الأحماض الأمينية لتكوين بروتين الخلايا، والأنسجة، والبلازما، والهيموجلوبين، وتكوين الهرمونات والإنزيمات المختلفة، وآلية تثبيط هذه العملية الحيوية، وآلية تكوين أحماض أمينية، مثل الألانين من البيروفيت وغيره، وآلية تصنيع جلوكوز جديد في الكبد من هذه الأحماض الأمينية، والآليات الدقيقة التي تربط بين هذه الآليات في العمليات الكيميائية المعقدة، وما يصاحبها من إنزيمات، وهرمونات، وأملاح معدنية، وخلاف ذلك، والتوازن الحاصل لمكونات الخلايا والأنسجة والجسم عمومًا، كل ذلك يتم على أكمل وأتم وجه في الصيام كما سبق وأن شرحناه.
أما إذا اقتصر الجسم على البناء فقط، وكان همه التخزين للغذاء في داخله، فإن آليات البناء تغلب آليات الهدم، فيعتري الأخيرة -لعدم استعمالها بكامل طاقتها-، وهن تدريجي، تظهر ملامحه عند تعرض الجسم لشدة مفاجئة، بانقطاع الطعام عنه في الصحة، أو المرض، فقد لا يستطيع هذا الإنسان مواصلة حياته، أو مقاومة مرضه.
4- يحسن الصيام خصوبة المرأة والرجل على السواء.
5- يستفيد الإنسان من العطش أثناء الصيام استفادة كبيرة، حيث يساعد في إمداد الجسم بالطاقة، وتحسين القدرة على التعلم، وتقوية الذاكرة.
6- تتهدم الخلايا المريضة والضعيفة في الجسم عندما يتغلب الهدم على البناء أثناء الصيام، وتتجدد الخلايا أثناء مرحلة البناء.
7- إن أداء الصيام الإسلامي طاعة لله وخشوعًا له، ورجاء فيما عنده سبحانه من الأجر والمثوبة، لعلم ذو فائدة جمة لنفس الإنسان وجسمه، حيث يبث في النفس السكينة والطمأنينة، وينعكس هذا بدوره على آليات الاستقلاب، فيجعلها تتم في أوفق وأيسر وأنفع السبل، مما يعود بالنفع والفائدة على الجسم.
إن الصيام كاقتناع فكري وممارسة عملية، يقوي لدى الإنسان كثيرًا من جوانبه النفسية، فيقوى لديه الصبر، والجلد، وقوة الإرادة، وضبط النوازع والرغبات، ويضفي على نفسه السكينة والرضا والفرح.. وقد أخبر بذلك(2/314)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه" (1) . متفق عليه، وما يدخله السرور على الصائم بوعد الله له بأنه يدخل الجنة من باب الريان، وأن من صام يومًا في سبيل الله، باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا، وأن من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه.. إلى آخر ما أشارت إليه أحاديث الباب، وتلك الأحاديث المبشرة المشجعة وا-لمفرحة لنفس الصائم، وهذه لذة وسعادة لا يحققها في النفس إلا الصيام.
الوجه الثالث من الإعجاز يسر الصيام الإسلامي وسهولته
1- تشير الدراسات العلمية المحققة في وظائف أعضاء الجسم أثناء مراحل التجويع على يسر الصيام الإسلامي وسهولته.
لقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن حقيقة علمية أخرى وهي أن الصيام الذي فرضه علينا وحدد لنا مدته الزمنية طلوع الفجر إلى غروب الشمس، في قوله تعالى: (وكلُوا واشْرَبوا حتّى يتبيّن لكُم الْخيْطُ الأبْيضُ منَ الخيطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجرِ ثمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَيلِ) [البقرة: 1187] ، أخبرنا بأن هذا الصيام سهل ويسير، لا مشقة فيه ولا ضرر، قال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ... ) قال الفخر الرازي في تفسير الآية: "إن الله تعالى أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر، وما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة، ثم ما أوجب هذا القليل على المريض، ولا على المسافر".
فالصيام الإسلامي صيام سهل ميسور للأصحاء المقيمين، لا مشقة للنفس فيه، ولا ضرر يلحق الجسم من جرائه، على وجه القطع واليقين.
وتتمثل مظاهر يسر الصيام في النقاط التالية:
1- الصيام المفروض أيام قليلة معدودة وهو شهر في السنة، ولم
__________
(1) "صحيح مسلم" ج2 (كتاب الصيام رقم الحديث 163، ص807) .(2/315)
يفرض الله صيام الدهر. كله ولا صيام أكثر، ولو شاء سبحانه لفرضه، ولكن رحمته وسعت جميع الأمم، وسهلت عليهم أمر هذا التكاليف.
2- الصيام الإسلامي مفروض وملزم للأصحاء المقيمين (1) ، وشعور الفرد بإلزامية الصيام على الجميع: السابقين منهم والحاضرين، ميسر له ومخفف عنه توهم المشقة النفسية، الناتجة عن الحرمان المؤقت من الطعام والشراب، وتغيير الإلف والعادة، كما أن ترجّى الحصول على منافع وفوائد الصيام، يهون هذه المشقة النفسية المتوهمة ويزيلها.
3- تشريع رخصة الفطر للمرضى، والمسافرين، والمطيقين، برغم الفوائد والمنافع التي يجنونها من الصيام إن صاموا، تخفيفًا وتيسيرًا لهم من مشقات المرض والسفر، ومشقة الحمل والرضاعة، وقلة الصبر على الحرمان من الغذاء لكبار السن، وتحريم الصيام عليهم إن تحقق لهم ضرر، أو فاتت مصلحة حيوية عامة أو خاصة بصيامهم.
4- إلزام ذوي الأعذار الموقوتة، كالمرضى والمسافرين، بإعادة الصيام في وقت آخر من العام حتى لا يحرموا من فوائده ومنافعه، وإسقاط هذا الإلزام لذوي الأعذار الدائمة ككبار السن -باتفاق-، ولذوي الأعذار شبه الدائمة: كالحوامل والمرضعات، وذوي الأمراض المزمنة التي لا يرجي برؤها في الغالب، تيسيرًا ورأفة ورحمة بهم.
5- يتجلى يسر الصيام الإسلامي في إمداد الجسم بجميع احتياجاته الغذائية، وعدم حرمانه من كل ما هو لازم ومفيد له، فالإنسان في هذا الصيام، يمتنع عن الطعام والشراب فترة زمنية محدودة، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وله حرية المطعم والمشرب من جميع الأغذية والأشربة المباحة ليلاً، ويعتبر الصيام الإسلامي بهذا تغيير لمواعيد تناول الطعام والشراب فحسب، فلم يفرض الله سبحانه الانقطاع الكلي عن الطعام لمدد طويلة، أو حتى لمدة يوم وليلة، تيسيرًا وتخفيفًا على أمة خاتم الأنبياء، عليه الصلاة
__________
(1) هذا على العموم وإلا فهناك شروط أخرى كالإسلام والبلوغ، وتراجع كتب الفقه في ذلك.(2/316)
والسلام، وقد تجلى هذا اليسر بعد تقدم وسائل المعرفة والتقنية في هذا العصر، وبعدما عرف الإنسان دقيق تركيبه، ومكونات جمسه، وشاهد الخلايا البشرية بالمجاهر العملاقة، وعرف مكوناتها ووظائفها، وقدرًا كبيرًا من أسرارها، وتوصل بعلومه إلى معرفة مكونات جميع الأغذية والأشربة، وكيف يستفيد منها الجسم والكائن الحي، كما عرف الأخطار الناجمة من كثرة الإسراف في تناولها وغير ذلك مما أثبتناه في هذا البحث.
وهذه هي الأدلة العلمية القاطعة والبراهين الواضحة، على يسر الصيام الإسلامي وسهولته.
ففي خلال المرحلة الأولى من الامتناع عن الطعام (مرحلة ما بعد الامتصاص) : تنشط جميع آليات الاستقلاب، فتتسارع عملية تحلل الجليوكوجين إلى جلوكوز، وتنشط آلية استقلاب الدهون، فتتحلل إلى أحماض دهنية وجليسرول، ثم تتأكسد الأحماض الدهنية، في دائرة حمض الستريك لإنتاج الطاقة، ويدخل الجيسرول في دائرة تصنيع جلوكوز جديد، كما تنشط أيضًا آلية استقلاب فتستهلك الأحماض الأمينية في عملية تصنيع الجلوكوز الجديد أيضاً وينتج الكبد (200جم) في اليوم منه، وذلك لحفظ معدل تركيز الجلوكوز في الدم، في مستوى ثابت لإمداد الأنسجة التي تعتمد على التغذية به، من الطاقة اللازمة لها، وتنشط عملية تحلل الجليوكوجين إلى جلوكوز بمعدل أكبر في الساعات الأولى من هذا الصيام، وأما عملية تحلل الدهون وأكسدتها، مع عملية تحول الأحماض الأمينية إلى جلوكوز، فتحدثان بمعدلات أكبر في نهاية هذه الفترة (1) .
وأهم أحداث هذه المرحلة -والتي يقع فيها الصيام الإسلامي- هي:
1- الجلوكوز هو الوقود الوحيد للمخ.
2- لا تتأكسد الدهون بالقدر الذي يولد أجسامًا كيتونية زائدة بالدم.
3- لا يستهلك البروتين في إنتاج الطاقة، بالقدر الذي يحدث خللاً في
__________
(1) وظائف الأعضاء في التجويع المطلق.(2/317)
التوازن النتروجيني في الجسم.
وهذه الحقائق تجعل الصيام الإسلامي متفردًا في يسره وسهولته، حتى إن بعض العلماء لم يعد فترة ما بعد الامتصاص، أو الفترة المبكرة من توقف الغذاء، من مراحل التجويع.
أما في المرحلة الثانية (التجويع المتوسط) : فتنبه أكثر عملية تصنيع الجلوكوز الجديد، وتحدث عملية الأكسدة للدهون بصورة أكبر من المرحلة الأولى، وتنتج الأجسام الكيتونية لإمداد عدد من الأنسجة بالطاقة اللازمة، فمثلاً يستهلك المخ من الطاقة من -هذه الأجسام- حوالي من 10-20% من احتياجاته، والجلوكوز المنتج في هذه المرحلة، ضعفا المنتج منه في المرحلة السابقة أو ثلاثة أضعافه، وبرغم توفر وقود من الجليسرول، واللاكتات، لعملية تصنيع الجلوكوز الجديد، إلا أنه في هذه الفترة يرتفع معدل تحلل البروتين، وينتج توازن نتروجيني سلبي، يفرز فيه النتروجين على هيئة بولينا، كما يأخذ الكبد كميات متزايدة من الأحماض الدهنية الحرة، ويتأكسد جزء كبير منها، وهذا يؤدي إلى تولد مزيد من الأجسام الكيتونية.
وأهم ما يحدث في هذه المرحلة هو:
1- ارتفاع معدل استقلاب البروتين وحدوث توازن نتروجيني سلبي.
2- تزداد عملية تصنيع جلوكوز جديد بأكسدة المزيد من الدهون.
3- تكوين الأجسام الكيتونية، واعتماد المخ على جزء منها للحصول على الطاقة.
وفي المرحلة الثالثة: (التجويع طويل الأجل) يحدث الآتي:
1- انخفاض معدل تحلل البروتين وإخراج النتروجين.
2- زيادة الاعتماد على ثلاثي الجليسرول (الدهون) لإنتاج الطاقة.
3- تنشيط عملية تصنيع جلوكوز جديد، وإنتاج حوالي 75% من الجلوكوز في الكبد بهذه العملية، من أحماض غير أمينية مثل اللاكتات، والبيروفات والجليسرول، وينتج الكبد بهذه العملية 50جم في اليوم، بدلا من(2/318)
200جم يوميًّا في المرحلة الأولى، كما تشارك الكلى في تصنيع الجلوكوز، حيث تنتج الكلية 40 كم/يوميًا.
4- ينخفض الطلب على الجلوكوز خلال هذه المرحلة، ويعتمد المخ على الأجسام الكيتونية، بنسبة 70-80% للحصول منها على الطاقة نتيجة لازدياد تحلل الدهون.
من خلال عرض الحقائق السابقة، ندرك أن مدة الصيام الإسلامي والتي تتراوح من 12-16 ساعة في المتوسط، يقع جزء منها في فترة الامتصاص، ويقع معظمها في فترة ما بعد الامتصاص، ويتوفر فيها تنشيط جميع آليات الامتصاص والاستقلاب بتوازن، فتنشط آلية تحلل الجليوكوجين، وأكسدة الدهون، وتحللها وتحلل البروتين، وتكوين الجلوكوز الجديد منه، ولا يحدث للجسم البشري أي خلل في أي من وظيفة وظائفه، فلا تتأكسد الدهون بالقدر الذي يولد أجسامًا كيتونية تضر الجسم، ولا يحدث توازن نتروجيني سلبي لتوازن استقلاب البروتين، ويعتمد المخ البشري، وخلايا الدم الحمراء والجهاز العصبي، على الجلوكوز وحده للحصول منه على الطاقة.
بينما التجويع أو الصيام الطبي، القصير والطويل منه، لا يقف عند تنشيط هذه الآليات، بل يشتد حتى يحدث خللاً في بعض وظائف الجسم.
الفرق بين الصيام الإسلامي والتجويع:
أ- التوازن بين البناء والهدم في الصيام الإسلامي، حيث يتحسن البناء عن معدل الهدم، بخلاف التجويع، حيث يزداد معدل الهدم عن معدل البناء، والذي يكون على حساب تدمير خلايا العضلات.
ب- لا توجد أجسام كيتونية في الصيام الإسلامي، حيث تتأكسد الأحماض الدهنية باعتدال، لكنها توجد في التجويع، حيث يكون التأكسد لهذه الأحماض بكثافة عالية.
ج- يتحسن إنتاج الطاقة في دائرة حمض الستريك أثناء الصيام الإسلامي، أفضل من غير الصائمين، وأفضل بكثير منه في التجويع.(2/319)
د- التوازن في إنتاج جلوكوز الدم وتحول الجليوكوجين إليه، وبالعكس أثناء الصيام الإسلامي عنه في التجويع، وكل هذا يؤكد تفوق الصيام الإسلامي على الصيام الطبي، مع تحقيقه لكل فوائده، حيث يشتركا معًا في تنشيط عمليات الهدم، وتخليص الجسم من الأنسجة المريضة، والفضلات السامة.
إن الفترة الزمنية التي وقتها الله سبحانه وتعالى من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، هي فترة زمنية كافية، لتنشيط كافة العمليات الحيوية داخل الجسم البشري، وإن في الزيادة عليها جهد ومشقة وحرج، ولا يجني منها ثمرة حقيقية، لذلك نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوصال في الصوم، وهو: التجويع المطلق الذي لا يتناول فيه المرء طعامًا وشرابًا لأكثر من يوم؛ لأنه لن يحقق فائدة زائدة، بل سيحطم الأنسجة لحفظ توازن الطاقة في الجسم، وقد يتشمع الكبد، وتضطرب وظائفه، وترتفع الأجسام الكيتونية، فتحدث حموضة الدم الخطرة.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، قال: إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى" رواه البخاري.
إن هذا الحديث يؤكد أهمية الطعام والشراب في الصيام، وأن في مواصلة الانقطاع عنهما ضرر وحرج، وأن ما يراه أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من انقطاعه عنهما، إنما هو أمر خاص به، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطعم ويسقى بطريق آخر، غير معتاد للبشر، كما أخبر بذلك.
* يعتبر الصيام الإسلامي تمثيلاً غذائيًّا فريدًا؛ إذ يشتمل على مرحلتي البناء والهدم، فبعد وجبتي الإفطار والسحور، يبدأ البناء للمركبات الهامة في الخلايا، وتجديد المواد المختزنة، والتي استهلكت في إنتاج الطاقة، وبعد فترة امتصاص وجبة السحور، يبدأ الهدم، فيتحلل المخزون الغذائي من الجليوكوجين والدهون، ليمد الجسم بالطاقة اللازمة، أثناء الحركة والنشاط في نهار الصيام.
تتراوح فترة الهدم أثناء الصيام الإسلامي من 8-13 ساعة، وهذه الفترة تقع على وجه القطع في الفترة التي سماها العلماء فترة ما بعد الامتصاص،(2/320)
والتي تتراوح من 6-12 ساعة وقد تمتد إلى 40 ساعة، حسب تقسيم المدارس المختلفة لمراحل التجويع، أو الصوم المطلق (Starvation) ويعتبر العلماء هذه الفترة فترة أمان كامل، ولا يحصل منها أي ضرر على الإطلاق للجسم، بل على العكس يستفيد الجسم منها فوائد عديدة، قد ذكرنا طرفا منها.
لذلك كان تأكيد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحثه على ضرورة تناول وجبة السحور، لإمداد الجسم بوجبة بناء يستمر لمدة 4 ساعات، محسوبة من زمن الانقطاع عن الطعام، وبهذا أيضاً يمكن تقليص فترة ما بعد الامتصاص إلى أقل زمن ممكن، كما أن حث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على تعجيل الفطر، وتأخير السحور، يقلص فترة الصيام أيضًا إلى أقل حد ممكن؛ حتى لا يتجاوز فترة ما بعد الامتصاص ما أمكن، وبالتالي فإن الصيام الإسلامي لا يسبب شدة، ولا يشكل ضغطا نفسيًا ضارًا على الجسم البشري، بحال من الأحوال.
روى زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: تسحرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قمنا إلى الصلاة، قيل: كم كان بينهما؟ قال خمسون آية (متفق عليه) (1) .
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤذنان: بلال وابن أم مكتوم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" قال: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا".
(متفق عليه) (2) .
عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: دعاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى السحور في رمضان فقال: "هلم إلى الغداء المبارك" (3) .
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هو الغداء
__________
(1) راجع فتح الباري (4/138) حديث رقم (1921م) ، ومسلم (2/771) حديث رقم (47) .
(2) راجع فتح الباري (2/99) حديث رقم (617) ، ومسلم (2/768) حديث رقم (36-38) .
(3) أبو داود (2/757) ، حديث (2344) ، والنسائي (4/145) ، وابن حبان (5/194) حديث رقم (56) .(2/321)
المبارك" يعني: السحور (1) .
عن عبد الله بن حارث عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دخلت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يتسحر فقال: "إنها بركة أعطاكم الله إياها فلا تدعوه" رواه النسائي بإسناد حسن (2) .
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه، وهو صحيح (3) .
وعن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فرق ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" رواه مسلم (4) .
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تسحروا فإن في السحور بركة". متفق عليه (5) .
روى سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" متفق عليه (6) .
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون" أبو داود وابن ماجه وابن خزيمة وهو صحيح (7) .
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) ابن حبان (5/193) حديث رقم (3455) .
(2) راجع النسائي (4/145) .
(3) راجع ابن حبان (5/194) حديث رقم (3458) .
(4) مسلم (2/770-771) حديث رقم (46) .
(5) البخاري (2/36) حديث (1923) ، ومسلم (2/770) حديث رقم (45) .
(6) مسلم (ج2 ص771) حديث رقم (48) ، والبخاري مع الفتح (4/189) .
(7) سنن أبي داود (2/363) حديث (2353) ، وابن ماجه في الصوم، في باب تعجيل الإفطار، حديث رقم (1698) ، وابن خزيمة (3/275) حديث رقم (2060) .(2/322)
قط صلى صلاة المغرب حتى يفطر، ولو على شربة ماء" أبو يعلى في مسنده وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وهو حديث حسن (1) .
* وجود مخزون من الطاقة في الجسم البشري، يكفي الإنسان حينما يمتنع عن تناول الطعام امتناعًا تامًا، لمدة شهر إلى ثلاثة شهور، لا يتناول فيها أي طعام قط، ولقد هيأ الله سبحانه هذا المخزون الهائل في جسم الإنسان ليمده بأسباب الحياة في وقت الحاجة، كما في الصيام، والمرض وفي أوقات الشدة، والحرمان من الغذاء، فالجلوكوز المختزن في صورة جليوكوجين في الكبد، والعضلات، يمد الجسم بالطاقة اللازمة له خلال الفترة الأولى من الامتناع عن الطعام، بينما تقدم الدهون المختزنة في الأنسجة الشحمية، والبروتينات المختزنة في العضلات، الطاقة اللازمة للجسم، في الفترات المتوسطة والطويلة من التوقف عن تناول الطعام (التجويع المطلق) .
وبناء على هذه الحقيقة يمكننا أن نؤكد أن الذي يتوقف أثناء الصيام، هو عمليات الهضم والامتصاص، وليست عمليات التغذية، فخلايا الجسم تعمل بصورة طبيعية، وتحصل على جميع احتياجاتها اللازمة لها، من هذا المخزون بعد تحلله، والذي يعتبر هضمًا داخل الخلية، فيتحول الجليوكوجين إلى سكر الجلوكوز، والدم والبروتينات إلى أحماض دهنية وأحماض أمينية، بفعل شبكة معقدة من الإنزيمات، والتفاعلات الكيمائية الحيوية الدقيقة، والتي يقف الإنسان أمامها مشدوها معترفًا بجلال الله وعلمه، وعظيم قدرته وإحكام صنعه.
ويمارس الإنسان بعد 4 أيام من انقطاعه عن الطعام في المصحات الطبية - التي تعالج بالصوم الطبي، أو الانقطاع الكلي عن الطعام- حياته العادية، من السير والقراءة والكتابة، بل ويمارس التمارين الرياضية والسباحة، ولكن تحت إشراف طبي دقيق، ولا يشعر الإنسان بالتعب والإعياء إلا في الأيام الأربعة الأولى من انقطاعه عن الطعام، ولا يحس بالجوع المعتاد إلا في خلال هذه
__________
(1) ابن خزيمة (3/276) حديث رقم (2063) ، وابن حبان (5/207) حديث رقم (3494) ، وأبو يعلى في مسنده (4/50) حديث رقم (3780) .(2/323)
الأيام، ثم يختفي بعد ذلك، وقد شرح الدكتور (بريزتنس) ذلك بقوله: "إن الشعور بالتعب والإرهاق الذي يترافق مع الجوع هو حالة فيزيائية صرف، وبناء على تجارب عديدة أجريت في المخابر، فإن الصوم بحد ذاته لا يؤدي إلى هذه الأعراض، ولا إلى الآلام والضعف وخصوصًا في الأيام الأولى منه، وإنما ذلك يرجع إلى أسباب عديدة، ليس الصوم واحداً منها، وإن غياب هذه الأعراض مع استمرار الصوم، يبرهن على أن الصوم ليس له علاقة بذلك، وأهم هذه الأسباب: التوقف المفاجئ عن تناول المنبهات التي اعتاد المرء تناولها، والعادات السيئة في الطعام، وعلى رأسها الإسراف فيه، وقد وجد أن الأشخاص البدينين والذين يعيشون في حالة من الرخاء، هم الذين يشكون من هذه الأعراض أكثر من غيرهم، وفرق بين هذا، وبين الجوع الحقيقي الذي هو ظاهرة فسيولوجية، ونداءات للحصول على الغذاء الضروري للجسم، والذي لا يحدث إلا بعد نفاد جزء كبير من مخزون الغذاء في الجسم.
ولكن مع كل هذه الإمكانية الهائلة التي هيأها الله سبحانه للجسم الإنساني، في مقدرته على حفظ حياته، عند انقطاعه التام عن تناول الطعام، مع كل هذا، فقد فرض علينا سبحانه وتعالى صيامًا لا ننقطع فيه عن الطعام إلا فترة زمنية لا تتعدى -في الغالب- نصف يوم، فكم هي سهلة ميسورة! يمكن أن يمارس فيها الصائم أشق الأعمال وأشدها، من غير ضرر يلحق به، أو حتى شدة يتعرض لها، فالطاقة المحركة متوفرة وبكثرة، وبناء الخلايا وتجديد التالف منها لن يتأثر مطلقًا، فالمركبات الثلاثة الهامة: البروتينات، والكربوهيدرات، والدهون، يمكن أن يتحول كل منها للآخر داخل الخلايا، وتبنى منها جمع مركبات الخلية، وعليه فلن يتأثر أي عمل حيوي داخل الجسم، بل تستفيد كل أجهزة الجسم بالصيام، فينشط لمزيد من العمل والحركة، كما أن تناول الطعام في الفطور والسحور، يجدد مخزون الطاقة التي استهلكت في العمل، ويمد الجسم باحتياجاته من الأحماض الأمينية، والدهنية الأساسية، والتي لا يستطيع الجسم تصنيعها بداخله، ويمده أيضًا باحتياجاته اليومية من الفيتامينات والمعادن، والتي لابد له من الحصول عليها في الغذاء، وبذلك يستطيع الإنسان أن يصوم السنة(2/324)
كلها صيامًا إسلاميًا، يتناول فيه وجبتي السحور والفطور، من غير ضرر يهدد حياته، ولكن رحمة الله بالإنسان أبت إلا تخفيف ذلك عليه بإلزامه شهرًا واحداً في السنة، وتركته حرًا مختارًا فيما بعد ذلك، في السنن والنوافل التي أمر بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو حافظ عليها، كصيام ثلاثة أيام من كل شهر، أو الاثنين والخميس من كل أسبوع، وكصيام ستة أيام من شوال، ويوم عاشوراء، وعرفة، ومنع الإنسان من قهر نفسه وتعذيبها بإلزامها صوم السنة كلها، وقد اعترض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أحد الصحابة الذي ألزم نفسه بصيام السنة كلها، حتى نحل جسمه وتغيرت ملامحه، فقال له: لم "عذبت نفسك"! وأمره بالاعتدال فأي تخفيف أيسر من هذا التخفيف! وصدق الله العظيم القائل: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28] ، وأي يسر أعظم من هذا اليسر! قال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا وريد بكم العسر)
وهكذا يتجلى الإعجاز العلمي في الصيام الإسلامي بظهور الحقائق العلمية في هذا الزمان والتي ما كان في مقدور بشر منذ أربعة عشر قرنًا أن يخبر عنها وأن يجزم بها، هذا وقد نشأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيئة لا تعرف هذا الصيام ولا تمارسه.
وبعد أن استبانت الحقائق عن الجسم البشري والتمثيل الغذائي فيه، وأخطار كثرة الأكل، نادى العلماء بالاعتدال في الطعام، والشراب، وضرورة الصيام للإنسان وقاية وعلاجًا، وتحقيقًا لمنافع وفوائد شتى، لخصها الدكتور (آلان كوت) (1) في الفصل الأول من كتابه "الصوم الطبي" إجابة عن سؤال، لماذا نصوم؟ قال: لتخفيف الوزن بأسرع وأسهل طريقة، ولنعطي أجهزة الجسم فترة راحة مناسبة، ولتنظيف أجسامنا وتطهيرها بخراج الخبث والسموم منها، ولنترك لأجسامنا فرصة كي ترمم نفسها بنفسها، ولنعالج به عددًا من الأمراض الشائعة، ولنتخلص به من التوتر النفسي، ولنصقل به الحواس ونوقظ المواهب، ولنكتسب به القدرة على ضبط النفس والسمو الروحي، فتتحسن بذلك أجسامنا وعقولنا، وتتباطء عملية السير نحو الشيخوخة، ثم سرد في فصول كتابه
__________
(1) انظر كتاب الصوم الطبي، النظام الغذائي الأمثل.(2/325)
تفصيلاً لهذا، ودعى الأطباء لاعتماد الصوم في العلاج والوقاية من الأمراض.
وهذا (هـ. م شيلتون) في كتابه (التداوي بالصوم) (1) ، يؤكد أن الصوم يعطي راحة تامة للأعضاء الحيوية الهامة، ويوقف امتصاص الأغذية التي تتحلل داخل الأمعاء، ويفرغ القناة الهضمية، ويخلصها من الجراثيم والتخمرات، ويعطي لأجهزة الإفراغ الفرصة كي تستعيد نشاطها، ويصلح ويجدد الكيمياء الفيزيولوجية والإفرازات الطبيعية، ويسهل امتصاص الترسبات والتراكمات والبوارز الشاذة، ويحسن الوظائف العامة في الجسم، ويعيد الشباب للخلايا والأنسجة، ويجدد العضوية بإزالة الأنسجة الميتة والضعيفة، وإحلال أنسجة جديدة شابة وفتية بدلاً منها. ثم يفرد فصلين في كتابه يتحدث فيهما عن علاج الأمراض الحادة والمزمنة بالصوم.
وها هي الحقائق العلمية المبثوثة في الكتب والأبحاث الطبية تؤكد منافع الصيام الإسلامي وفوائده:
* فهو وسيلة وقائية من الأمراض والعلل، الناتجة من كثرة الأكل ودوامه بلا توقف على مدار العام.
* وهو وسيلة علاجية لبعض الأمراض الحادة والمزمنة.
* وهو منشط لسائر العمليات الحيوية داخل الجسم ورافع لمعدل أدائها، ومجدد لمكونات الخلايا الأساسية، ومخزون الطاقة فيها، لتكون أكثر قوة وقدرة في مواجهة الشدائد، عندما يقل الطعام أو يحرم منه تحت أي ظرف طارئ.
* وهو كابح للرغبات الجنسية المتأججة، ومثبط لها وخصوصًا عند الشباب.
* وهو صيام سهل ميسور يستطيعه كل الناس في أي مكان، وتحت أي ظرف
__________
(1) هـ. م شيلتون "التداوي بالصوم". الفصل (34، 35) ص (154-177) .(2/326)
ظرف مناخي على الأرض، ولا يحدث أثناءه أو بسببه أي خلل أو اضطراب، في أي من العمليات الحيوية، أو المركبات الضرورية للجسم؛ ذلك لأن الجسم البشري يمتلك من الطاقة المختزنة فيه ما تجعله على مواصلة الانقطاع التام عن الأكل لفترة زمنية تتراوح من شهر إلى ثلاثة شهور متصلة.
فالتغذية لا تتوقف أبدًا عن خلايا الجسم، بل الذي يتوقف فقط -بعد فترة امتصاص الغذاء-، هو عمليات الهضم والامتصاص.
* وهو صيام لا يسبب مشقة للجسم أو شدة عليه، وإنما المشقة المتوهمة هي مخالفة الإلف والعادة في تناول الطعام، والجوع الذي يشعر به الصائم، وهو أحد مظاهر هذه المشقة، إنما هو جوع وهمي أو اعتيادي، وسببه عادة تناول الطعام في أوقات معينة وتعود تناول المنبهات، ولا يعبر هذا الإحساس دائمًا عن حاجة الخلايا الملحة للغذاء.
* وهو صيام يشتمل على عمليتي البناء والهدم في آن واحد فيوفر الجلوكوز كوقود وحيد لخلايا الدماغ، وكوقود أساسي لبقية الأنسجة الأخرى، ويحفظ الجسم من أخطار تنشيط عمليات الهدم بمفردها، من الأكسدة الشديدة والسريعة للدهون وتحلل بروتينات الخلايا وتحطم مكوناتها، وتراكم الأجسام الكيتونية في الدم، وحدوث التوازن النتروجيني السلبي في الجسم، كما يحدث في الصيام الطبي أو التجويع طويل الأجل وقصيره، كما لا يحرم الجسم من إمداده بالمواد الضرورية له في الغذاء كالأحماض الأمينية والدهنية الأساسية والمعادن، وبعض الفيتامينات، والتي لا يستطيع تصنيعها داخل خلاياه، لذلك فهو صيام آمن بكل المقاييس العلمية، ويحقق كل منافع وفوائد الصيام الطبي، بل ويتفوق عليه خصوصًا إن توفرت فيه شروط الصيام المثالي الذي أمر به الشارع الحكيم.
فمن أخبر محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن في الصيام وقاية للإنسان من أضرار نفسية وجسدية؟ ومن أخبره أن فيه منافع وفوائد يجنيها الأصحاء؟ بل ومن يستطيع الصيام من المرضى وأصحاب الأعذار!! ومن أخبره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن الصيام سهل ميسور، لا يضر بالجسم ولا يجهد النفس؟ ومن أطلعه على أن كثرة الصوم تثبط(2/327)
الرغبة الجنسية، وتخفف من حدتها وثورتها خصوصًا عند الشباب!! فيصير الشاب كالخصي آمنًا من الاضطرابات الغريزية والنفسية ومحصنًا ضد الانحرافات السلوكية!!
إن الله -جل في علاه- هو الذي أخبر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأطلعه على هذه الحقائق فهو سبحانه خالق الإنسان العليم بدقيق تركيبه، والخبير بما يصحه ويصلحه (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) .
إن أسرار الصيام ستتجلى بظهور الحقائق العلمية يوماً بعد يوم، ويرى العلماء بأعينهم ويدركوا بأدواتهم صدق الوحي الذي بهذا التشريع اليسير النافع، كما أخبر الله عنهم قوله تعالى: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [سبأ: 6] .
لقد تجلت في هذا الزمان حقيقة الصيام، وأنه معجزة علمية وضرورة إنسانية، وستتجلى هذه ا-لحقيقة أكثر وأكثر، كلما ازداد الإنسان علمًا بسنن الخلق، وسيعلم المعاندون والمستكبرون أن هذا القرآن وحي الله العليم بأسرار خلقه، قال تعالى: (قلْ أنزلَه الَذي يَعْلَم السِّرَّ فِي السَّمَوَات وَالأرْضِ) [الفرقان: 6] ، وقال تعالى: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون) [النساء: 166] ، وسيروا بيقين آيات الله في أنفسهم ومن حولهم، شاهدة بذلك، حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، قال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق * أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد)
فالحمد لله الذي عرّفنا بعض أسرار الصيام، معرفة يقينية تعيننا على مغالبة شهواتنا، وتزيل عنا كثير، من أوهام نفوسنا، وتدفعنا إلى المضي في طريق ربنا مستمسكين بها عاضين عليها بالنواجذ.
***(2/328)
دفاع العقاد عن الصيام ردًا على المستشرقين
دائمًا وأبدًا يمكر أعداء دين الله بالمسلمين ويلمزون أغلى شيء عندهم وهو دينهم ويسخرون من نور عباداتهم فهذا الصليبي القديم الذي ما كان يفيق من شرب الخمر.. هذا الأخطل ... يعيب شعائر الإسلام فيقول في قحة وتطاول:
ولست بصائم رمضان عمري ... ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عنسًا بكورًا ... إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بصائح في جنح ليل ... كمثل العير حيّ على الفلاح
فمات على كفره وأمّه الهاوية
واليوم يطعنون في الصيام ...
جاء في موسوعة الحضارات الصادرة عن هيئة اليونسكو على لسان مستشرق صليبي ما يعتبر أن صيام شهر رمضان مرهق وشاق للغاية إلى غير ذلك من المفتريات وهو معذور فإنه لو ذاق لعرف، ويرحم الله الأستاذ العقاد فقد أغنانا في رده المسهب على ذلك المستشرق الفرنسي وأمثاله من خلال كتابه "ما يقال عن الإسلام" ومن المجدي هنا أن انقل لك فقرات من هذا الرد.
يقول -رحمه الله- للرد عليه: "قد ثبت للعبادات الروحية من الفضائل ما لم يثبت لها قبل القرن العشرين بغير فضيلة الطاعة الواجبة لأوامر الدين أو بغير الأسباب التي ينفرد الدينيون بتفسيرها وإقامة الأدلة على لزومها فلا تدخل في نطاق البحوث التي يتصدى لها علماء الماديات أو علماء المحسوسات، والصيام في مقدمة هذه الأوامر المادية التي أعيد فيها النظر على أيدي أبناء القرن العشرين فظهرت لها مزاياها الكثيرة إلى جانب مزايا العبادة والإيمان بحقوق الغيب مع حقوق الشهادة والعيان فقد أصبح أبناء القرن العشرين جميعًا يزاولون نوعًا من أنواع الصيام في وقت من الأوقات لصلاح البنية أو صلاح الخلق أو(2/329)
صلاح الذوق والجمال، ومعنى الصيام أنه هو الكف عن شهوات الطعام وسائر الشهوات الجسدية وقتاً من الأوقات.
وهذا هو الصيام الذي تدعو إليه الحاجة في تحقيق أغراض التربية النفسية والتربية الاجتماعية وسائر دروب التربية النافعة على حالة من الحالات:
1- فمن الصيام "ما يتقرر اليوم لتربية الأخلاق الفدائية في الجنود" ومن يؤدون عملاً يستدعي من الشجاعة ورياضة النفس على تقلبات الحياة ما تستدعيه أعمال الجنود الفدائيين.
وقد يستدعي عمل الجندي الفدائي أن يكف عن الطعام بضعة أيام، أو يستدعي أن يقبل الطعام الذي تعافه نفسه أيامًا، أو يستدعي أن يرفض الطعام الجيد المشتهى وهو حاضر بين يديه.
2- ومن الصيام الذي ثبت لزومه في هذا العصر "صيام الرياضيين" وهم يملكون بإرادتهم زمام وظائفهم الجسدية، ويتجنبون كل طعام يحول بينهم وبين رشاقة الحركة أو يحول بينهم وبين الصبر على الحركة العنيفة والحركة تتعاقب على انتظام إلى مسافة طويلة من المكان أو من الزمان ولا يستطيعها من يجهل نظام الصيام ويروض نفسه وجسده على نوع من أنواعه طوال الحياة.
3- ومن الصيام العصري "صيام التجميل" وقد يصبر عليه من لا يصبرون عادة على "صيام الرياضة النفسية"، أو "صيام الرياضة البدنية"، وقد يقضي على الصائم من الرجال والنساء أن يلتزم الحمية في تناول الغذاء المستطاب وإن يكن صالحًا للتغذية موفور الفائدة للبنية الحية، ولكنه يؤخذ بمقدار لا يزيد عليه من يحرص على الوسامة واعتدال الأعضاء.
4- ومن الصيام الشائع في العصر الحديث "صيام الاحتجاج على الظلم" والتنبيه إلى القضايا والحقوق التي يهملها الظالمون، ولا يعطونها نصيبها لواجب من الفهم والعناية.
وهذه الأنواع من الصيام كلها صالحة لغرض من أغراض التربية العامة أو الخاصة يهتدي إليه أبناء القرن العشرين، ويعلمون منه أن الآداب الدينية تسبق(2/330)
التحقيق العلمي إلى خلق العادات الصالحة واشتراع الآداب الضرورية لمطالب الجسد والروح في الجانب الخاص أو الجانب العام في حياة الإنسان.
ولعل الفضيلة العصرية -فضيلة القرن العشرين- التي تحسب من الأخبار الصادقة ولا تحسب من الإشاعات المسجاة أنه يعرض مسائل الحياة للبحث والتقرير، ويجمع الأشتات والمتفرقات من معلومات الأقدمين ليجري عليها حكم العقل والعلم في نسق جديد، وعلى هذا النسق يتناول الباحثون العصريون أنواع الصيام ويقسمو-نها إلى أقسامها على حسب أغراضها ا-لعامة أو الخاصة من قديم العصور إلى العصر الحديث.
وقد أحسنوا تقسيمها حقا حين حصروها في هذه الأقسام الخمسة التي تحيط بها ولا تستثني نوعًا منها وهي:
1- صيام التطهير الذي يكف الصائم عن الإلمام بالخبائث والمحظورات من شهوات النفوس أو الأجسام.
2- وصيام العطف، ومنه صيام الحداد في أيام الحزن أو المحنة ليشعر الصائم بأنه يذكر أحبابه الذاهبين أو الغائبين ولا يبيح لنفسه ما حرموه بفقدان الحياة أو فقدان النعمة والحرية.
3- وصيام التكفير عن الخطايا والذنوب تطوعًا من الصائم يعاقب نفسه على الذنب الذي يندم على وقوعه، ويعتزم التوبة منه والتماس العذر فيه.
4- وصيام الاحتجاج والتنبيه، وهو صيام المظلومين وأصحاب القضايا العامة التي لا تلقى من الناس نصيبها الواجب من الاهتمام أو الإنصاف.
5- وصيام الرياضة النفسية أو البدنية التي تمكن الصائم من السيطرة بإرادته على وظائف جسمه تصحيحًا لعزيمته أو طلبًا للنشاط واعتدال الأعضاء.
كل هذه الأنواع الصومية تستدعي الكف عن الطعام وشهوات الجسد تارة بالامتناع عن الطعام كله بعض الوقت وتارة بالامتناع عن بعضه في جميع الأوقات، وتارة بالإقلال من جميع مقاديره، والمباعدة بين وجباته أو بالقدرة على مخالفة العادات المتبعة في تقديره وتوقيته على جميع الأحوال وشريطته(2/331)
العامة التي تلاحظ في جميع أنواعه هي: تحكيم الإرادة في شهوات النفس والجسد أو تربية العزيمة على قيادة الإنسان لنفسه حيث يريد، والمتواتر من أقوال البا-حثين من عادات الأجناس البشرية أن ا-لصيام بجميع أنواعه -قديمًا في أمم العالمين القديم والجديد.
مزايا الصيام الإسلامي:
وعند المقابلة بين أنواع الصيام نتبين مزايا الصيام الإسلامي بين جميع هذه الأنواع فإنه واف بالشريطة العامة للصيام المفروض بحكم الدين أو المتبع لرياضة الأخلاق، وهو على ذلك صالح لمقاصد التطهير والعطف والتوبة والتكفير.
ولا جدال في رجحان الصيام بنظامه الإسلامي على نظام الصيام الذي يتحرى الصائم فيه اجتناب بعض الألوان من الأطعمة الفاخرة أو الأطعمة الشهية فإن اجتناب بعض الألوان لا يكفي لترويض وظائف الجسد وتغليب حكم الإرادة عليها.
ولا جرم كان الصيام في الإسلام نظاما لا يَفْضُله نظام بين شتى الأنظمة التي تقدمت بها فرائض الصيام" (9) .
***
__________
(1) "ما يقال عن الإسلام ". عباس محمود العقاد.(2/332)
الباب التاسع
زكاة الفطر
"طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين"
حديث شريف(2/333)
يُودع الضيف الكريم ويجهز بالهدايا والتحف والعطايا والطرف.
أتدرون ما تحفة ضيفكم؟ إنها زكاة فطركم طهرة صومكم، وزكاة نفوسكم وصلاح أمركم.
* وقد فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر (طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين) (1) .
زكاة الفطر (صدقة الفطر)
يقال: زكاة الفطر، وصدقة الفطر. ويقال للمُخْرَج فطرة، وكأنها من الفطرة، أي: الخلقة، أي: زكاة الخلقة.
حكمها:
زكاة الفطر فرض لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر [من رمضان على الناس] ، (2) . ولحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر" (3) .
هي واجبة عند جمهور أهل العلم: الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد، خلافًا لمن شذ، كالأصم، وابن علية، وابن اللبان، من الشافعية، وأصبغ، من المالكية، وبعض أصحاب داود، بل قال البيهقي- فيما نقله عنه النووي في المجموع (6/62) -: "أجمع العلماء على وجوب صدقة الفطر، وكذا نقل الإجماع ابن المنذر في "الإشراف" وهذا يدل على ضعف الرواية عن ابن علية، والأصم، وإن كان الأصم لا يعتد به في الإجماع".
__________
(1) جزء من حديث رواه أبو داود، وابن ماجه، والحكم، والبيهقي والدراقطني، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال الدارقطني: رواته ليس فيهم مجروح. وحسنه النووي في "المجموع"، وابن قدامه في "المغني"، وقواه ابن دقيق العيد في "الإلمام"، انظر "إرواء الغليل" (3/332) .
(2) رواه الشيخان، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وما بين المعكوفتين عند مسلم والنسائي.
(3) جزه من حديث صحيح، أخرجه ابو داود وابن ماجه، والبيهقى، والحاكم، والدارقطني.(2/335)
* قال ابن عبد البر في التمهيد (14/322-324) : "قال أبو جعفر الطبري: أجمع العلماء جميعًا -لا اختلاف بينهم- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بصدقة الفطر، ثم اختلفوا في نسخها فقال قيس بن سعد بن عبادة: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بها قبل نزول الزكاة، فلما نزلت آية الزكاة لم يأمرنا، ولم ينهنا عنها، ونحن نفعله" (1) . قال: وقال جل أهل العلم: هي فرض لم ينسخها شيء.
قال: وهو قول مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وأبي ثور.
قال ابن عبد البر: والقول بوجوبها من جهة اتباع سبيل المؤمنين واجب أيضاً؛ لأن القول بأنها غير واجبة شذوذ أو ضرب من الشذوذ.
قال النووي رادِّا على حديث قيس بن سعد في المجموع (6/62) : "هذا الحديث مداره على أبي عمار، لا يعلم حاله في الجرح والتعديل، فإن صح فجوابه أنه ليس فيه إسقاط الفطرة لأنه سبق الأمر به، ولم يصرح بإسقاطها والأصل بقاء وجوبها".
قال الحافظ- ابن حجر في الفتح (3/368) : "إن في إسناده راويًا مجهولاً، وعلى تقدير الصحة فلا دليل على النسخ لاحتمال الاكتفاء بالأمر الأول؛ لأن نزول فرض لا يوجب سقوط فرض آخر".
وقال الخطابي في معالم السنن (2/214) : "وهذا لا يدل على زوال وجوبها، وذلك أن الزيادة في جنس العبادة لا يوجب نسخ الأصل المزيد عليه، غير أن محل الزكوات الأموال، ومحل زكاة الفطر الرقاب".
فيمَنْ تجب عليه، وعمن تجب؟
تجب زكاة الفطر عَلى الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، من المسلمين لحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "فرض رسول الله
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائي، وابن ماجه، وأحمد، وابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي، وضعفه النووي، وابن حجر، وصححه الألباني.(2/336)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين" (1) .
* قال ابن رشد في بداية المجتهد (2/130) : "وأجمعوا على أن المسلمين مخاطبون بها ذكرانًا كانوا أو إناثاً، صغارًا أو كبارًا.، عبيدًا أو أحرارًا إلا ما شذ فيه الليث فقال: ليس على أهل العمود زكاة الفطر، إنما هي على أهل القرى، ولا حجة له، وما شذ أيضاً من قول من لم يوجبها على اليتيم".
* ذهب بعض أهل العلم إلى وجوبها على العبد الكافر لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر" رواه مسلم، وأحمد، وهذا الحديث عام، وحديث ابن عمر خاص، ومعلوم أن الخاص يقضي على العام. وقال آخرون: لا تجب إلا على الصائم، لحديث ابن عباس: " ... طهرة للصائم ... ".
* قال الخطابي في معالم السنن (3/214) : "وهي واجبة على كل صائم غني ذي جدة يجدها عن قوته، إذا كان وجوبها لعلة التطهير، وكل الصائمين محتاجون إليها، فإذا اشتركوا في العلة اشتركوا في الوجوب".
وأجاب الحافظ -رحمه لله-: "إن ذكر التطهير خرج على الغالب كما أنها تجب عمن لا يذنب كمتحقق الصلاح، أو من أسلم قبل غروب الشمس بلحظة".
* وذهب بعضهم إلى وجوبها على الجنين، وليس لهم دليل على ذلك.
قال ابن رشد: "أما عمن تجب فإنهم اتفقوا على أنها تجب على المرء في نفسه إذا لم يكن لهم مال، وكذلك في عبيده إذا لم يكن لهم مال.
* ذهب الشافعي ومالك أنها تلزم الرجل عمن ألزمه الشرع النفقة عليه، وخالفه أبو حنيفة في الزوجة وقال تؤدي عن نفسها، وخالفهم أبو ثور في العبد إذا كان له مال، فقال: إذا كان له مال زكى عن نفسه ولم يزك عنه سيده، وبه
__________
(1) أخرج الجماعة، والبيهقي، والدارمي، والطحاوي من طريق مالك.(2/337)
قال أهل الظاهر والجمهور على أنه لا تجب على المرء في أولاده الصغار إذا كان لهم مال زكاة الفطر، وبه قال الشافعي أبو حنيفة ومالك.
* والإسلام شرط في جوب الفطرة: فلا تجب على الكافر عن نفسه اتفاقًا، وهل يخرجها عن غيره كمستولدته المسلمة مثلاً؟ نقل ابن المنذر الإجماع على عدم الوجوب.
* والعبد الكافر هل يخرجها سيده المسلم عنه؟ قال ابن حجر: "قال الجمهور لا، خلافًا لعطاء والنخعي والثوري والحنيفة وإسحاق".
* وعبيد التجارة: ذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أن على السيد فيهم زكاة الفطر، وقال أبو حنيفة وغيره: ليس في عبيد التجارة صدقة.
اليسار شرط لوجوب الفطرة:
قال النووي في ا-لمجموع (6/67) : "مذهبنا أنه يشترط أن يملك فاضلاً عن قوته وقوت من يلزمه نفقته ليلة العيد ويومه، حكاه العبدري عن أبي هريرة وعطاء والشعبي وابن سيرين وأبي العالية والزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وأبي ثور".
* قال أبو حنيفة: لا تجب إلا على من يملك نصابًا من الذهب أو الفضة وقيمته نصابًا فاضلاً عن مسكنه وأثاثه الذي لا بد منه.
قال العبدري: ولا يحفظ هذا عن أحد غير أبي حنيفة، قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن من لا شيء له فلا فطرة عليه.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبيد ممن تمونون".
مسألة: قال النووي في المجموع (6/107) : "تجب فطرة العبد على سيده. وبه قال جميع العلماء إلا داود، فأوجبها على العبد، قال: ويلزم السيد تمكينه من الكسب لأدائها لحديث ابن عمر "على كل حر وعبد" قال(2/338)
الجمهور: على بمن "عن".
* مسألة: لا يلزمه فطرة زوجته وعبده الكافِرَيْن عند علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله وابن المسيب والحسن ومالك والشافعي وأحمد وأبي ثور وابن المنذر. وقال أبو حنيفة: تجب عليه فطرة عبده الذمي، وحكاه ابن المنذر عن عطاء ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وسعيد ين جبير والنخعي والثوري إسحاق وأصحاب الرأي.
* مسألة: العبد الآبق تجب فطرته عند الشافعي وبه قال أبو ثور وابن المنذر.
* وقال عطاء والثوري وأبو حنيفة: "لا تجب".
* وقال الزهري وأحمد إسحاق: تجب إن كان في دار الإسلام.
* وقال مالك: تجب إن لم تطل غيبته ويؤيس منه.
* مسألة: لو كان بين الزوج وزوجته عبد أو عبيد كثيرون مشتركون مناصفة وجب عن كل صاع، يلزم كل واحد من الشريكين نصفه. وهذا مذهب مالك والشافعي وعبد الملك بن الماجشون إسحاق وأبي ثور ومحمد بن الحسن وابن المنذر.
* وقال الحسن البصري وعكرمة وا-لثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف: لا شيء على واحد منهما. وعن أحمد روايتان.
* مسألة: إذا لم يكن للطفل مال ففطرته على أبيه بالإجماع، نقله ابن المنذر وغيره. وإن كان للطفل ماله ففطرته فيه وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال محمد: تجب في مال الأب.
* واليتيم الذي له مال فتجب فطرته فيه عند الجمهور وبه قال به مالك والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف بن المنذر، وقال محمد بن الحسن: لا تجب، وأما الجد فعليه فطرة ولد ولده الذي تلزمه نفقته، وبه قال الشافعي وأبو ثور وقال أبو حنيفة: لا تلزمه.(2/339)
* مسألة: تجب الفطرة بغروب الشمس ليلة. عيد الفطر وبه قال الثوري وأحمد وإسحاق وهو الصحيح عند الشافعية.
* وقال أبو حنيفة بطلوع فجر يوم الفطر به قال صاحباه وأبو ثور وداود.
* وعن مالك روايتان كالمذهبين.
* مسألة وقت خروجها:
قال العبدري: أجمعوا على أن الأفضل أن يخرجها يوم الفطر قبل صلاة العيد، وجوز مالك وأحمد والكرخي -الحنفي- أن يخرجها قبل الفطر بيوم أو يومين، وجوز الشافعية تقديمها في جميع رمضان لا قبله، وعن أبي حنيفة تقدم: سنة أو سنتين.
والأرجح أنه يجوز تقديمها بيوم أو يومين لما ورد من فعل ابن عمر، وراوي الحديث أدرى بمعنى روايته.
* وإن تاخرت عن الصلاة كانت صدقة من الصدقات لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- " ... من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد صلاة فهي صدقة من الصدقات".
* وقال الجمهور: إن أخرها عن الصلاة أثم ولزمه إخراجها وتكون قضاء وبه قال مالك وأبو حنيفة والليث وأحمد.
* وعند الشافعي: أنه لو أخرها عن صلاة الإمام وفعلها في يومه لم يأثم وكانت أداء. وإن أخرها عن يوم الفطر أثم ولزم إخراجها قضاء.
* وعن ابن سيرين والنخعي: أنه يجوز تأخيرها عن يوم الفطر.
* وعن داود والحسن بن زياد: إن لم يؤدها قبل صلاة العيد سقط فلا يؤديها بعد كالأضحية.
* دفع الزكاة إلى كافر أو ذمي:
قال ابن المنذر: أجمعت الأمة أنه لا يجزيء دفع زكاة المال إلى ذمي، واختلفوا في زكاة الفطر.(2/340)
* فذهب الجمهور: مالك والليث وأحمد وأبو ثور والشافعي إلى أنه لا يجوز دفعها إلى الكافر أو الذمي.
* وعن عمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل -ومرة الهمداني- أنهم كانوا يعطون منها الرهبان.
* وجوّز أبو حنيفة دفع الفطرة إلى الكافر.
أصناف زكاة الفطر:
تخرج زكاة الفطر. صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من زبيب، أو سلت؛ لحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير أو صاعًا من تمر أو صاعًا من أقط أو صاعًا من زبيب" (1) ، ولحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صدقة الفطر صاعًا من شعير أو صاعًا من تمر أو صاعًا من سلت" (2) .
وقد اختلف في تفسير لفظ الطعام الوارد في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- فقيل: الحنطة، قيل: غير ذلك، والذي تطمئن إليه النفس أنه عام يشمل كل ما كيل من الطعام كالحنطة والأصناف المذكورة آنفا والدقيق والسويق، وكل ذلك فعل زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نؤدي زكاة رمضان صاعًا من طعام عن الصغير والكبير والحر والمملوك من أدى سلتًا قُبل منه، وأحسبه قال: من أدى دقيقًا قبل منه ومن أدى سويقًا منه" (3) . وعنه -رضي الله عنه- أنه كان يقول: "صدقة رمضان صاع من طعام، من جاء ببر قبل منه ومن جاء بشعير قبل منه، ومن جاء بتمر قبل منه، ومن جاء بسلت منه، ومن جاء بزبيب قبل منه، وأحسبه قال: من جاء بسويق قبل منه" (4) .
__________
(1) أخرجه الستة وأحمد.
(2) أخرجه ابن خزيمة (4/80) ، والحاكم (1/48-410) بإسناد صحيح، والسلت: نوع من الشعير لا قشر له.
(3) (4) أخرجه ابن خزيمة بإسناد صحيح، ولذلك ترجم له ابن خزيمة -رحمه لله- بـ "باب إخراج جمع الأطعمة في صدقة الفطر".(2/341)
أما الاحاديث التي تنفي وجود الحنطة أو أن معاوية -رضي الله عنه- رأى إخراج مدين من سمراء الشام وأنها تعدل صاعًا، فيحمل ذلك على ندرتها وكثرة الاصناف الباقية وكونها الغالبة على طعاعهم، ويؤيد هذا المعنى قول أبي سعيد: "وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر" (1) .
ويقطع جهيزة المخالف ما يأتي في بيان مقدارها من الأحاديث الصحيحة الصريحة بوجود الحنطة وأن مدين منها تعدل صاعًا ليعلم المسلم الذي يقدّر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حق قدرهم أن رأى معاوية لم يكن اجتهاداً رآه بل يستند إلى حديث مرفوع إلى الصادق المصدوق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
مقدارها:
يخرجها المسلم صاعًا من طعام من الأصناف الآنفة الذكر وقد اختلف في الحنطة فقيل: نصف صاع، وهو الأرجح والاصح لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأدَّوا صاعًا من بر أو قمح اثنين أو صاعًا من تمر أو صاعًًا من شعير عن كل حر وعبد وصغير وكبير" (2) .
والصاع المعتبر هو صاع أهل المدينة؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الوزن وزن أهل مكة، والمكيال ميكال أهل المدينة" (3) .
عمن يؤديها الرجل؟
يخرجها المسلم عن نفسه وكل من يمونه من صغير وكبير وذكر وأنثى وحر وعبد لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون" (4) .
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) صحيح أخرجه الدارقطني وأحمد، وانظر "سلسلة الأحاديث الصحيحة" لشيخنا (1157) ، "صحيح الجامع الصغير" (3655) .
(3) سلسلة الأحاديث الصحيحة (165) .
(4) إرواء الغليل (835) .(2/342)
* قال النووي في المجمع (6/110) : "الواجب في الفطرة عن كل شخص صاع من أي جنس أخرج، سواء البر والتمر والزبيب والشعير وغيرها من الأجناس المجزئة، ولا يجزي دون صاع من شيء منها، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وأكثر العلماء، وممن قال به أبو سعيد الخدري والحسن البصري وأبو العالية وأبو الشعثاء وإسحاق وغيرهم.
* قال ابن المنذر: وقالت طائفة يجزيء من البر نصف صاع ولا يجزيء من الزبيب والتمر وسائر الأشياء إلا صاع،-قاله الثوري وأكثر أهل الكوفة إلا أبا حنيفة فقال: يجزيء نصف صاع زبيب كنصف صاع بر.
* الصاع المجزيء في الفطرة: خمسة أرطال وثلث بالبغدادي وبه قال جمهور أهل العلم: الشافعي ومالك وأحمد وأبو يوسف وفقهاء الحرمين وأكثر فقهاء العراقيين، وقال أبو حنيفة ومحمد: ثمانية أرطال.
جهة إخراجها:
لا تدفع إلا لمستحقيها وهم المساكين، لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- "فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين". وهذا ما اختاره شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (25/71-78) وتلميذه ابن القيم في كتابه القيم "زدا المعاد" (2/44) .
قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وابن المنذر: يجوز صرفها إلى مسكين واحد.
ذهب بعض أهل العلم أنها تصرف للاصناف الثمانية وهذا مما لا دليل عليه وقد رده شيخ الإسلام في المصدر المذكور آنفًا فراجِعْه فإنه مهم جداً.
من السُنة أن يكون لها من تجمع عنده؛ فقد وكل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا هريرة رضي الله عنه قال: "أخبرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أحفظ زكاة رمضان" (1) .
وقد كان ابن عمر -رضي الله عنه- يعطيها للذين يقبلونها وهم العمال الذين ينصبهم الإمام لجمعها وذلك قبل الفطر ييوم أو يومين. أخرج ابن خزيمة (4/83) من طريق عبد الوارث عن أيوب: "قلت: متى كان ابن عمر يعطي
__________
(1) رواه البخاري.(2/343)
الصاع؟ قال: إذا قعد العامل، قلت: متى كان يقعد العامل؟ قال: قبل الفطر بيوم أو يومن".
هل تجزيء القيمة في الزكاة (1)
من أجاز إخراج القيمة في الزكاة:
قال ابن قدامة -رحمه لله- وقال الثوري وأبو حنيفة: يجوز. وقد روى ذلك عن عمر بن عبد العزيز والحسن وقد روى عن أحمد مثل قولهم فيما عدا الفترة اهـ (2) . قال النووي وهو الظاهر من مذهب البخاري في صحيحه (3) وقال ابن رشيد: وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم لكنه قاده إلى ذلك الدليل (4) .
وقد روى سعيد بن منصور في سننه عن عطاء قال: كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يأخذ العروض في الصدقة من الدراهم (5) .
وروى ابن أبي شيبة عن عون قال: سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز يقرأ إلى عدي بالبصرة "يؤخذ من أهل الديوان من أعطياتهم من كل إنسان نصف درهم (6) .
وعن الحسن قال: لا بأس أن تعطى الدراهم في صدقة الفطر (7) .
وعن أبي إسحاق قال: أدركتهم وهم يؤدو في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام (8) .
__________
(1) هذا البحث بأكمله من رسالة "هل تجزيء القيمة في الزكاة؟ " لحبيبنا وشيخنا محمد إسماعيل -حفظه الله-.
(2) المغني (3/65) .
(3) المجموع (5/429) .
(4) فتح الباري (3/212) .
(5) المغني (3/65) .
(6) (7) (8) مصنف ابن أبي شيبه (4/37-38) .(2/344)
وعن عطاء أنه كان يعطي في صدقة الفطر ورقا (دراهم فضيه) (1) .
* قال ا-لنووي -في المجموع (6/112) : "قال إسحاق وأ-بو ثور: لا تجزيء إلا عند الضرورة".
المانعون وأدلتهم
من هم المانعون؟.
قال الخرقي -رحمه لله-: ومن أعطى القيمة لم تجزئه (2) .
قال ابن قدامه -رحمه لله- قال أبو داد: قيل لأحمد -وأنا أسمع-: أعطي دراهم -يعني في صدقة الفطر- قال: أَخاف ألا يجزئه؛ خلاف سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال أبو طالب -رضي الله عنهما- قال لي أحمد: لا يُعطي قيمته.
قيل له: قوم يقولون عمر بن عبد العزيز كان يأخذ بالقيمة قال: يدعون قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويقولون قال فلان.
قال ابن عمر: فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال الله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وقال: قوم يردون السنن يقولون. قال فلان وقال فلان وظاهر مذهبه أنه لا يجزئه إخراج القيمة في شيء من الذكوات، وبه قال مالك والشافعي (3) .
أدلة المانعين وهم جمهور أهل العلم
(1) زكاة الفطر قربة وعبادة مفروضة من جنس متعين فلا يجزيء إخراجها من غير الجنس المعين، كما لا يجزي إخراجها في غير الوقت المعين.
قال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني -رحمه لله-: "الشائع المعتمد في الدليل لأصحابنا: أن الزكاة قربة لله تعالى، وكل ما كان كذلك فسبيله أن يتبع
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (4/37-38) .
(2) المغني لابن قدامه (3/65) .
(3) المغني لابن قدامه (3/65) .(2/345)
فيه أمر الله تعالى، ولو قال إنسان لوكيله: اشتر ثوبًا، وعلم الوكيل أن غرضه التجارة، وجد سلعة هي أنفع لموكله، لم يكن له مخالفته وإن رآه أنفع، فما يجب لله تعالى بأمره أولى بالاتباع.
كما لا يجوز في الصلاة إقامة السجود على الخد والذقن مقام السجود على الجبهة والأنف والتعليل فيه بمعنى الخضوع؛ لأن ذلك مخالفة للنص وخروج على معنى التعبد، كذلك لا يجوز في الزكاة إخراج قيمة الشاة أو البعير أو الحب أو الثمر المنصوص على وجوبه؛ لأن ذلك خروج على النص وعلى معنى التعبد، والزكاة أخت الصلاة" (1) اهـ.
وبيان ذلك أن الله سبحانه أمر بإيتاء الزكاة في كتابه أمراً مجملاً بمثل قوله تعالى: (وآتوا الزكاة) وجاءت السنة ففصلت ما أجمله القرآن وبينت المقادير المطلوبة بمثل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "في كل أربعين شاة شاة" وقوله: "في كل خمسة من الإبل شاة" إلخ، فصار كأن الله تعالى قال: وآتوا الزكاة من كل أربعين شاة شاة فتكون الزكاة حقًا للفقير بهذا النص، فلا يجوز الاشتغال بالتعليل لإبطال حقه من العين.
(2) إخراج القيمة خلاف ما أمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفرضه، وقد روى أبو داود وابن ماجة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقر من البقر" (2) . وهو نص يجب الوقوف عنده، فلا يجوز تجاوزه إلى أخد القيمة لأن في هذه الحال سيأخذ من الحب شيئًا غير الحب، ومن الغنم شيئًا غير الشاة ... إلخ، وهو خلاف ما
__________
(1) المغني (-5/430) .
(2) صححه الحاكم على شرطهما إن صح سماع عطاء عن معاذ، ولم يسمع منه لانه ولد بعد موته أو في سنة موته أو بعد موته بسنة، وقال البزار: "لا نعلم أن عطاء سمع من معاذ".
انظر "فيض القدير" للمناوي (3/433) ، وكذا ضعيف الجامع الصغير رقم (2835) .
قال المناوي -رحمه لله-: (والمراد أن الزكاة من جنس المأخوذ منه، هذا هو الأصل، وقد يعدل عنه لموجب) اهـ من "فيض القدير" (3/433) .(2/346)
قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله تعالى (1) -:"ولنا قول ابن عمر: فرض رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر صاعًا من تمر، وصاعًا من شعير، فإذا عدل عن ذلك فقد ترك للفروض، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "في أربعين شاة شاةٌ، وفي مائتي درهم خمسة دراهم وهو وارد بيانًا لمجمل قوله تعالى: وآتوا الزكاة فتكون الشاة المذكورة هي الزكاة المأمور بها، والأمر يقتضي الوجوب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض الصدقة على هذا الوجه، وأمر بها أن تؤدى، ففي كتاب أبي بكر الذي كتبه في الصدقات أنه قال: "هذه الصدقة التي فرضها رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر بها أن تؤدى" ا. هـ.
وفي رواية: "إن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين التي أمر الله بها ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها".. الحديث قال الحافظ: "على وجهها" أي: "على الكيفية المبينة في هذا الحديث" ا. هـ.
أما حديث معاذ -رضي الله عنه- وفيه: "خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم" ... الحديث. فقد قال ابن قدامة -رحمه لله- "ولأن مخرج القيمة قد عدل عن المنصوص فلم يجزئه كما لو أخرج الرديء مكان الجيد" (2) . ا. هـ.
وقال الشوكاني -رحمه لله-: وقد استدل بهذا الحديث من قال إنها تجب الزكاة من العين، لا يعدل عنها إلى القيمة إلا عند عدمها، وعدم الجنس، وقال أيضاً: "فالحق أن الزكاة واجبة من العين لا يعدل عنها إلى القيمة إلا لعذر" (3) .
وقال الشوكاني أيضاً في السيل الجرار: "أقول: الثابت في أيام النبوة أن الزكاة كانت تؤخذ من عين المال الذي تجب فيه، وذلك معلوم لا شك فيه، وفي أقواله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يرشد إلى ذلك، ويدل عليه كقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ لما بعثه إلى
__________
(1) المغني 3/65- 66.
(2) المغني 3/66.
(3) نيل الأوطار 4/171.(2/347)
اليمن: "خذ الحب من الحب" ا. هـ.
(3) ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عينها من أجناس مختلفة وأقيامها مختلفة غالبا، فلو كانت القيمة معتبرة لكان الواجب صاعًا من جنس وما يقابل قيمته من الأجناس الأخرى، وقال النووي -رحمه لله-: "ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشياء قيمها مختلفة، وأوجب في كل نوع منها صاعًا فدل على أن المعتبر صاع ولا نظر إلى قيمته" (1) ا. هـ.
(4) ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي وهو "أن التكليف والابتداء لإخراج الزكاة ليس بنقص الأموال فقط -كما فهم أبو حنيفة- فإن هذا ذهول عن التوفية لحق التكلف في تعيين الناقص، وهو يوازي التكليف في قدر ناقص، فإن المالك يريد أن يبقي ملكه بحاله، ويخرج من غيره عنه، فإذا مالت نفسه إلى ذلك وعلقت به كان التكليف قطع تلك العلاقة التي هي -بين القلب وبين ذلك الجزء من المال، فوجب إخراج ذلك الجزء بعينه" (2) ا. هـ.
(5) أن الزكاة وجبت لدفع حاجة الفقير وشكرًا لله على نعمة المال، والحاجات متنوعة فينبغي أن يتنوع الواجب ليصل إلى الفقير من كل نوع ما تدفع به حاجته ويحصل شكر النعمة بالمواساة من جنس ما أنعم الله عليه به" (3) .
(6) قال الشيخ محمد بن صالح آل عثيمين: "ولأن إخراج القيمة مخالف لعمل الصحابة -رضي الله عنهم- حيث كانوا يخرجونها صاعًا من طعام وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عليكلم بستتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" ا. هـ.
وقد روى البخاري عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "كنا نعطيها في زمان النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير أو صاعًا من زبيب". قال الحافظ: "كنا نعطيها" أي: زكاة الفطر (في زمان
__________
(1) "شرح النووي" 7/60.
(2) "أحكام القرآن" 2/945.
(3) "المغني" 3/373.(2/348)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) هذا حكمه: الرفع؛ لإضافته إلى زمنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ففيه إشعار باطلاعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، وتقريره له ولا سيما في هذه الصورة التي كانت توضع عنده، وتجمع بأمره، وهو الآمر بقبضها وتفرقتها (1) ا. هـ.
وقال الباجي في "المنتقى" عند هذا الحديث: قوله: "كنا نخرج زكاة الفطر" يلحق عند أكثر أهل العلم بالمسند، وهو مذهب مالك والشافعي؛ لأن الصحابي إذا أخبر بفعل من الشرع، وأضاف ذلك إلى زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالظاهر أْنه أضافه إلى زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن هذا الحديث رواه داود بن قيس عن عياض ابن عبد الله فقال: "وكنا نخرج إذ كان فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر"، فذكره فصرح برفعه، فإذا كان الأمر المضاف مما يظهر ويتبين ولا يخفى مثله على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم ينكره، وأقر عليه فإنه حجة؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقر على المنكر، وإخراج زكاة الفطر يكثر المخرجون لها والآخذون ويتكرر ذلك حتى لا يمكن أن يخفى أمرها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بين أظهرهم، فثبت أن الخبر حجة، وأنه مسند" (2) .
وقد حكى الحافظ رواية الطحاوي عن عياض، وقاله فيه: "ولا يخرج غيره" أي: غير الشعير والزبيب والأقط والتمر" ا. هـ.
وفي حديث أبي سعيد: "فقال له رجل من القوم: أو مُدّين من قمح؟ فقال: لا، تلك قيمة معاوية مطوية لا أقبلها، ولا أعمل بها".
قال الشيخ أبو بكر الجزائري: "الواجب أن تخرج زكاة الفطر من أنواع الطعام، ولا يعدل عنه إلى النقود إلا لضرورة إذ لم يثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخرج بدلها نقودًا، بل لم ينقل حتى عن الصحابة إخراجها نقودًا" (3) ا. هـ.
وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرني بحفظ زكاة رمضان، فاتاني آت فجعل يحثوا من الطعام فأخذته، وقلت:
__________
(1) "الفتح" 3/373.
(2) "المنتقى" 2/87.
(3) "منهاج المسلم" 259.(2/349)
والله لأرفعنك إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... " الحديث.
وفي رواية أبي المتوكل عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنه كان على تمر الصدقة"، ولابن الضريس: "فإذا التمر قد أخذ منه ملء الكف".
(7) وفي حديث أنس المشهور: "ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده وعنده ابن لبون فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين، إن استيسرتا له، أو عشرين درهمًا".
وقال ابن تيمية الجد في "المنتقى": "والجُبرانات المقدرة في حديث أبي بكر تدل على أن القيمة لا تشرع وإلا كانت تلك الجبرانات عبثًا" ا. هـ.
وقال الشوكاني في "نيل الأوطار": قوله "والجبرانات" بضم الجيم جمع جبران، وهو ما يُجبر به الشيء، وذلك نحو قوله في حديث أبي بكر السابق "ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهمًا" فإن ذلك ونحوه يدل على أن الزكاة واجبة في العين، ولو كانت القيمة هي الواجبة لكان ذكر ذلك عبثًا؛ لأنها تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فتقدير الجبران بمقدار معلوم لا يناسب تعلق الوجوب بالقيمة" ا. هـ.
وقال الإمام ابن قدامة في "المغني": "ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض الصدقة على هذا الوجه، وأمر بها أن تؤدى، ففي كتاب أبي بكر الذي كتبه في الصدقات أنه قال: "هذه الصدقة التي فرضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر بها أن تؤدى"، وكان فيه: "في خمس عشرين من الإبل بنت مخاض فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر"، وهذا يدل على أنه أراد عينها لتسميته إياها، وقوله: فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر"، ولو أراد المالية أو القيمة لم يجز؛ لأن خمسًا وعشرين لا تخلو عن مالية بنت مخاض وكذلك قوله "فابن لبون ذكر"، فإنه لو أراد المالية للزمه مالية بنت مخاض دون مالية ابن لبون" (1) ا. هـ.
(8) والقول بالقيمة فيه مخالفة للأصول من جهتين:
__________
(1) "المغني" 3/66.(2/350)
الجهة الأولى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ذكر تلك الأصناف لم يذكر معها القيمة، ولو كانت جائزة لذكرها مع ما ذكر، كما ذكر العوض في زكاة الإبل وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أْشفق وأرحم بالمساكين من كل إنسان (1) .
الجهة الثانية: وهي القاعدة العامة أنه لاينتقل إلى البدل إلا عند فقد المبدل عنه، وأن الفرع إذا كان يعود على الأصل بالبطلان هو باطل -كما رد ابن دقيق العيد على الحنابلة قولهم: إن الأشنان يجزيء عن التراب في الولوغ- أي: لأنه ليس من جنسه فيسقط العمل به.
وكذلك لو أن كل الناس أخذوا بإخراج القيمة لتعطل العمل بالأجناس المنصوصة، فكأن الفرع الذي هو القيمة سيعود على الأصل الذي هو الطعام بالإبطال فيبطل.
ومثل ما يقوله بعض الناس اليوم في الهدي بمنى مثلاً بمثل ففي القول بالقيمة جزء الناس على ما هو أعظم، وهو القول بالقيمة في الهدي، ولم يقل به أحد من العلماء، علمًا بان الأحناف أنفسهم لا يجيزون القيمة في الهدي؛ لأن الهدي فيه جانب تعبد وهو النسك.
(9) ويمكن أن يقال لهم أيضاً: إن زكاة الفطر فيها جانب تعبد طهرة الصائم وطعمة للمساكين، كما أن عملية شرائها ومكيلها وتقديمها فيه إشعار بهذه العبادة، أما تقديمها نقدم فلا يكون فيه فرق عن أي صدقة. من الصدقات من حيث الإحساس بالواجب والشعور بالإطعام، فإخراج القيمة يخرج الفطرة "زكاة
__________
(1) إذ السكوت في مقام البيان يفيد الحصر، وإلى هذه القاعدة المقررة يشير ابن حزم في كثير من استدلاته بقوله تعالى: (وما كان ربك نسيا) وذلك لأنه إذا كان الله لا ينسى- وتنزه ربنا عن النسيان وعن كل نقص- فسكوته سبحانه أو سكوت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المبلغ عنه في معرض البيان لشيء من أفعال الكلفين عن شيء آخر يشبهه أو يجانسه، لا يكون نسيانا أو ذهولاً -تعالى الله عن ذلك- ولكنه يفيد قصر الحكم عن ذلك الشئ المبين حكمه، ويكون ما عداه وهو المسكوت عنه مخالفًا له في الحكم، فإن كان المنصوص عليه بالبيان فمأذونًا فيه كان المسكوت عنه ممنوعًا، وان كان العكس فالعكس، وهو معنى قولهم: السكوت في معرض البيان يفيد الحصر، وهي قاعدة عظيمة بنى عليها العلماء كثيرًا من الأحكام.(2/351)
الفطر" من كونها شعيرة ظاهرة إلى كونها صدقة خفية، فإن إخراجها صاعًا من طعام يجعلها ظاهرة بين المسلمين معلومة للصغير والكبير يشاهدون كيلها وتوزيعها ويتبادلونها بينهم بخلاف ما لو كانت دراهم يخرجها الإنسان خفية بينه وبين الآخذ.
قال ابن حجر في "الفتح" (4/437) : "وكان الأشياء التي ثبت ذكرها في حديث أبي سعيد لمُّا كانت متساوية في مقدار ما يخرج منها مع ما يخالفها في القيمة دل على أن المراد إخراج هذا المقدار من أي جنس كان.
تنبيهات:
أولاً- كيف يقدر الصاع؟
1- الصاع النبوي يبلغ وزنه أربعمائة وثمانين مثقالاً من البر الجيد، أي ألفي جرام "40 جرامًا و 2 كيلو" فذا أراد أن يعرف الصاع النبوي عليه أن يزن 2040 جرام برًا ثم يضعها في إناء بقدرها فيعلمه ثم يكيل به.
وقال بعض العلماء: الصاع- (سدس) كيلة مصرية أي قدح وثلث مصري وهو يساوي بالجرامات. 2176 "وذلك حسب وزن القمح".
وقال جماعة من العلماء: الصاع أربع حفنات بكفي رجل معتدل الكفين.
ومن لم يكن عنده مكيال ولا ميزان فليخرج أربعة أمداد ... ومن تطوع خيرًا فهو خير له.
2- وقد شرعت في شعبان من السنة الثانية من الهجرة لتكون طهرة للصائم مما عسى أن يكون وقع فيه من اللغو، والرفث، ولتكون طهرة للصائم.
* قال شيخ الإسلام: لا ينبغي أن يعطي الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله، فإن الله فرضها معونة على طاعته لمن يحتاج من المؤمنين كالفقراء أو الغارمين أو كمن يعاود المؤمنين فمن لم يصلَّ من أهل الحاجات لا يعطي شيئًا حتى يتوب ويلتزم آداء الصلاة.
ويجب صرف الزكاة إلى الأصناف الثمانية إن كانوا موجودين وإلا صُرفت(2/352)
إلى الموجود منهم إلى حيث يوجدون" ا. هـ (1) .
قال شيخ الإسلام في "الاختيارات الفقهية": ويجزئه في الفطرة من قوت بلده مثل الأرز وغيره، ولو قدر على الأصناف المذكورة في الحديث -وهو رواية عن أحمد، وقول أكثر العلماء-، ولا يجوز دفع زكاة الفطر إلا لمن يستحق الكفارة، وهو من يأخذ لحاجته لا في الرقاب والمؤلفة قلوبهم وغير ذلك، ويجوز دفعها إلى الفقير وهو مذهب أحمد.
* ولا يعتبر في زكاة الفطر ملك النصاب بل تجب على من ملك صاعًا فاضلاً عن قوته يوم العيد وليله وهو قول الجمهور.
وإذا كان عليه دين وصاحبه لا يطالبه به أدَّى صدقة الفطر وقت وجوبها عليه كما يطعم عياله يوم العيد وهو مذهب أحمد" ا. هـ (2) .
* وقال -رحمه الله أيضاً- ويجوز إخراج القيمة في زكاة لعدم العدول عن الحاجة والمصلحة مثل أن يبيع ثمرة بستانه أو زرعه فهنا إخراج عشر الدراهم يجزئه ولا يكلف أن يشتري ثمرًا أو حنطة فإنه قد يساوي الفقير بنفسه وقد نص أحمد على جواز ذلك، ومثل أن تجب عليه في الإبل وليس عنده شاة فإخراج القيمة كاف، ولا يكلف السفر لشراء شاة، أو أن يكون المستحقون طلبوا القيمة لكونها أنفعً لهم فهذا جائز" (3) اهـ (4) .
***
__________
(1) الفتاوى الكبرى ص 456.
(2) الفتاوى الكبرى 4/445.
(3) الفتاوى الكبرى ص 456، وكتاب الاختبارات العلمية.
(4) راجع رسالة "هل تجزيء القيمة في الزكاة" لشيخنا محمد إسماعيل -حفظه الله-، فلقد أكثرنا النقل منها.(2/353)
الباب العشرون
العيد لمن طاعاته تزيد(2/355)
"العيد هو موسم الفرح والسرور، وأفراح المؤمنين وسرورهم في الدنيا إنما هو بمولاهم إذا فازوا بكمال طاعته، وحازوا ثواب أعمالهم بوثوقهم بوعده لهم عليها بفضله ومغفرته كما قال تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) [يونس: 58] .
قال بعض العارفين: ما فرح أحد بغير الله إلا بغفلته عن الله، فالغافل يفرح بلهوه وهواه والعاقل يفرح بمولاه.
وكان فؤادي خاليًا قبل حبكم ... وكان بذكر الخلق يلهو ويمرحُ
فلما دعا قلبي هواك أجابه ... فلست أراه عن فنائك يبرحُ
رُميتُ ببُعد منك إن كنت كاذبًا ... وإنْ كنت في الدنيا بغيرك أفرحُ
وإن كان شيء في البلاد بأسرها ... إذا غبتَ عن عيني لعيني يملحُ
فإن شئت واصلني وإن شئت لم تصل ... فلست أرى قلبي لغيرك يصلُح
ليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن طاعاته تزيد، ليس العيد لمن تجمل باللباس والركوب، إنما العيد لمن غُفرت له الذنوب، في ليلة العيد تفرق خلع العتق والمغفرة على العبيد، فمن ناله منها شيء فله عيد، وإلا فهو مطرود بعيد" (1) .
للناس فطر وعيد ... إني فريد وحيد
يا غايتي ومُنايَ ... أتمّ لي ما أريد
ويقول عابد:
ليس عيد المحب قصد المصلى ... وانتظار الأمير والسلطان
إنما العيد أن تكون لدى الحب كريمًا ... مقربا في أمان
__________
(1) "لطائف المعارف".(2/357)
وأنشد:
إذا ما كنت لي عيدًا ... فما أصنع بالعيد
جرى حبك في قلبي ... كجري الماء في العود
وأما أعياد المؤمنين في الجنة فهي أيام زيارتهم لربهم عز وجل فيزرونه ويكرمهم غاية الكرامة ويتجلى لهم وينظرون إليه، ليس للمحب عيد سوى قرب محبوبه.
إن يومًا جامعًا شملي بهم ... ذاك عيدي ليس لي عيد سواه
كل يوم كان للمسلمين عيدًا في الدنيا فإنه عيد لهم في الجنة يجتمعون فيه على زيارة ربهم ويتجلى لهم فيه، ويوم الجمعة يدعى في الجنة يوم المزيد، ويوم الفطر والأضحى يجتمع أهل الجنة فيهما للزيارة، وروي أنه يشارك النساء الرجال فيهما كما كن يشهدان العيدين مع الرجال دون الجمعة فهذا لعموم أهل الجنة فأما خواصهم فكل يوم لهم عيد يزورن ربهم كل يوم مرتين بكرة وعشيا؛ الخاص كانت كلها لهم أعيادًا فصارت أيامهم في الآخرة كلها أعياد.
قال الحسن كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد:
عيدي مقيم وعيد الناس منصرف ... والقلب مني عن اللذات منحرف
ولي قرينان مالي منهما خلف ... طول الحنين وعين دمعها يكفُ
وكيف لا يكون يوم الفطر عيدًا، بعد الصيام والاعتكاف والعشر الأواخر من رمضان، وغفران الذنوب، وطول التهجد والقيام.
كل ما في الدنيا يذكر بالآخرة فمواسمها وأعيادها وأفراحها تذكر بمواسم الآخرة وأعيادها وأفراحها.
صنع عبد الواحد بن زيد طعامًا لإخوانه يوماً، فقام عتبة الغلام على رؤوس الجماعة يخدمهم وهو صائم فجعل عبد الواحد ينظر إليه ويسارقه النظر ودموع عتبة تجري، فسأله بعد ذلك عن بكائه حينئذ، فقال: ذكرت موائد الجنة والولدان قائمون على رؤوسهم، فغشى على عبد الواحد.(2/358)
أبدان العارفين في الدنيا وقلوبهم في الآخرة:
جسمي معي غير أن الروح عندكم ... فالجسم في غربة والروح في وطن
أخي: يومنا هذا يوم العيد، قد ميز فيه الشقي والسعيد، فكم فرح بهذا اليوم مسرور وهو مطرود مهجور.
* قال بعض أصحاب سفيان الثوري: خرجت معه يوم عيد فقال: إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا غض البصر. ورجع حسان بن أبي سنان من عيده فقالت امرأته: كم من امرأة حسناء قد رأيت؟ فقال: ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت إلى أن رجعت!
* يا من يفرح في العيد بتحسين لباسه، ويوقن بالموت وما استعد لبأسه، ويغتر بإخوانه وأقرانه وُجلاسه، وكأنه قد أمن سرعة اختلاسه، كيف تقر بالعيد عين مطرود عن الصلاح، كيف يضحك سن مردود عن الفلاح، كيف يُسَر من يُصر على الأفعال القباح، كيف لا يبكي من قد فاته جزيل الأرباح.
* فيا من وفى في رمضان على أحسن حال، لا تتغير بعده في شوال، يا من رأي العيد ووصل إليه، متى تشكر المنعم وتثنى عليه، فكم من صحيح هيأ طيب عيده صار ذلك الطيب في تلحيده.
يا من يصلح في رمضان وعزمه على الزلل في شوال أفسدت رمضان، ويحك! رب الشهرين واحد.
* أخي: ليس العيد ثوبًا يجرّ الخيلاء جره، ولا تناول مطعم بكف شره لا يؤمن شره، إنما العيد لبس توبة عاص تائب يسر بقدوم قلب غائب.
* والله ما عيد يعقوب إلا لقاء يوسف، ولا أيام تشريق الصديق إلا أيام الغار.
يا راكبا تطوى المهامة عيسهُ ... فتريه رضراض الحصى مُترضرضا
بلغ رعاك الله سكان الغَضَى ... مني التحية إن عَرْصت مُعرضا
وقل انقضى زمن الوصال وودُّنا ... باق على مر الليالي ما انقضى(2/359)
ليس المحب من غيره انقضاء رمضان وتوليه، فالجليل باق لا يزول، ورب الشهر لا يحول.
قد يبلغ الشوق إلى الله بالمشتاق أن يقول:
الناس بالعيد قد سُروا وقد فرحوا ... وما فرحتُ به والواحد الأحد
لما تيقنت أني لا أعاينكم ... غَضَّمتُ عيني فلم أنظر إلى أحد
رمضانهم دائم وشوالهم صائم، أعيادهم سرور القوم بالمحبوب، وأفراحهم بكمال التقوى وترك الذنوب، إذا جن عليهم الليل عادت القلوب بالمناجاة جُدُدا وإذا جاء النهار سلكوا من الصوم جددا (1) .
يجمعون هممهم فيما أهمهم إذا بات هم الغافل بددا، جزموا على ما عزموا، أبدا أعيادهم بقرب القلوب إلى الحبيب دائمة، وأقدامهم في الدجى على باب اللجأ قائمة، وأرواحهم بالاشتياق إلى الملك الخلاق هائمة، قربهم مولاهم فالنفوس عن الفاني الأدنى صائمة.
مغزى العيد الاجتماعي والإنساني:
"أما مغزاه الاجتماعي فهو ما يضيفه على القلوب من أنس، وعلى النفوس من بهجة وعلى الأجسام من راحة، وما يدعو إليه من تجديد أواصر الحب بين الأصدقاء، والتراحم بين الأقرباء.
في العيد تتقارب القلوب على الود، وتجتمع على الألفة، ويتناسى الناس أضغانهم، يجتمعون بعد افتراق، ويتصافون بعد كدر.
* وفي العيد من المغزى الاجتماعي تذكير أبناء المجتمع بحق الضعفاء والعاجزين عليهم حتى تشتمل الفرحة بالعيد كل بيت، وتعم النعمة كل أسرة، وإلى هذا المغزى الاجتماعي العظيم يرمز تشريع "صدقة الفطر" في عيد الفطر، ونحو "الأضاحى" في عيد الأضحى، إن في تقديم صدقة الفطر ليلته إطلاقًا للأيدي الخيّرة، فلا تشرق الشمس العيد إلا والبسمة تعلو شفاه الناس جميعًا.
__________
(1) الجدد: الأرض الغليظة المستوية.(2/360)
* أما المعنى الإنساني في العيد، فهو أن يشرك أعدادًا لا حصر لها من أبناء الشرق والغرب بالفرح والسرور في وقت واحد، فإذا بالأمة تلتقي على الشعور المشترك بالغبطة، وإذا بأبناء الأمة الواحدة على اختلاف ديارهم يشتركون في السراء كما يشتركون في الضراء، ففي العيد تقوية لهذه الروابط الفكرية والروحية التي يعقدها الدين بين أبناء من مختلف اللغات والأقوام.
* تلك هي بعض المعاني الاجتماعية والإنسانية في العيد، ومن ثم كانت الأعياد مظهرًا واضحًا لهذه المعاني في كل مجتمع.
ومن أراد معرفة أخلاق الأمة فليراقبها في أعيادها إذ تنطلق فيها السجايا على فطرتها، وتبرز العواطف والميول على حقيقتها، والمجتمع السعيد هو الذي تسمو أخلاقه في العيد إلى أرفع ذروتها، ويمتد شعوره إلى أبعد مدى.
يوم كانت أمتنا تتذوق طعم السعادة في مجتمعاتنا، كان الأخ يفكر في ليلة العيد بجاره قبل أن يفكر بنفسه، ويقدم حاجة أولاد صديقه على حاجة أولاده.
* حدّث الواقدي قال: كان لي صديقان أحدهما هاشمي، وكنا كنفس واحدة، فنالتني ضائقة شديدة، وحضر العيد فقالت امرأتي: أما نحن في أنفسنا فنصبر على البأس والشدة، وأما صبياننا هؤلاء فقد قطعوا قلبي -رحمة لهم- لما عليهم من الثياب الرثة، فانظر كيف تعمل لكسوتهم؟.
قال الواقدي: فكتبت إلى صديق الهاشمي أسأله التوسعة علي، فوجه إلي كيسا مختومًا فيه ألف درهم، فما استقر في يدي حتى كتب إليّ الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوت إلى صديقي الهاشمي، فوجهت إليه الكيس بختمه، ثم أخبرت امرأتي بما فعلته فاستحسنته ولم تعنفني عليه، فينما أنا كذلك إذا وافاني صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته، فقال لي: اصدقني عما فعلت بالكيس الذي وجهته إليك، فعرّفته الخبر فقال لي: إنك حين طلبت مني المال لم أكن أملك إلا ما بعثت به إليك، ثم أرسلت إلى صديقي الثالث أساله المواساة فوجه إلي الكيس الذي بعثت به إليه.(2/361)
قال الواقدي: فتواسينا الألف درهم فيما بيننا: كل واحد ثلاثمائة، ثم أخرجنا للمرأة مائة درهم، ونمى الخبر إلى المأمون، فدعاني وسألني فشرحت له الخبر، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار، لكل واحد منا آلفا دينار، وللمرأة ألف دينار" هذا هو التعبير الصادق عند سمو الأخلاق الاجتماعية في كل أمة.
أريد أن نظهر في أعيادنا بمظهر الأمة الواعية التي لا يحول احتفاؤها بأعيادها دون الشعور بمصائبها.
أريد أن نقتصد في ضحكنا فتبدو على وجوهنا مسحة من الحزن الكريم الوقور ينم على مبلغ عنايتنا بقضايانا واهتمامنا بما يجري في وطننا من أحداث ونكبات (1) .
ما العيد إلا أن نعود لديننا ... حتى يعود قدسنا المفقودُ
ما العيد إلا أن نكون أمة ... فيها محمد لا سواه عميدُ
ما العيد إلا أن نعدَّ نفوسنا ... للحرب حيث بها هناك نجودُ
ما العيد إلا أن تكون قلوبنا ... نحو العدو كأنها جلمودُ
كونوا أشداءًا على أعدائكم ... والله إن عدوكم لعنيدُ
فالمسلمون مكلفون بواجب ... لم يلههم عنه هوى وجمودُ
والمسلمون كبيرهم وصغيرهم ... بين الخلائق عالم محمود (2)
***
__________
(1) "أحكام الصيام وفلسفته" (ص90-93) تأليف الدكتور مصطفى السباعي - المكتب الإسلامي.
(2) "منكرات الأفراح" (ص 67) لمحمود مهدي استنابولي.(2/362)
عيد بأي حال جئت يا عيد:
أقبلت يا عيد، والأحزانُ أحزانُ ... وفي ضمير القوافي ثار وبركانُ
أقبلت يا عيد، والرمضاء تلفحني ... وقد شَكَت من غبار الدرب أجفانُ
أقبلت يا عيد، هذي أرض حسرتنا ... تموج موجًا وأرض الأنس قيعانُ
أقبلتَ يا عيد، والظلماء كاشفة ... عن رأسها، وفؤاد البدر حيرانُ
أقبلت يا عيد، أجري اللحن في شفتي ... رَطبًا، فيغبطني أهل وإخوانُ
أزف تهنئتي للناس أشعرهم ... أني سعيد وأن القلبَ جَذلانُ
وأرسل البسمة الخضراء تذكرة ... إلى نفوسهمو تزهو وتزدانُ
قالوا وقد وجّهوا نحوي حديثهمو ... هذا الذي وجهه للبشر عنوان
هذا الذي تصدر الآهات عن دمه ... شعرًا رصينًا له وزن وألحانُ
لا لن أعاتبهم، هم ينظرون إلى ... وجهي، وفي خاطري للحزن كتمانُ
والله لو قرأوا في النفس ما كتتبت ... يَدُ الجراح، وما صاغتْه أشجانُ
ولو رأوا كيف بات الحزن متكئًا ... على ذراعي، وفي عينيه نُكرانُ
لأغمضوا أعينًا مبهورةً وبكوا ... حالي، وقد نالني بؤس وحرمانُ
أقبلتَ يا عيد، والأحزان نائمة ... على فراشي، وطرف الشوق سهرانُ
من أين نفرح يا عيد الجِرَاح وفي ... قلوبنا من صنوف الهم ألوانُ؟
ومن أين نفرح والأحداث عاصفة ... وللدُمى مقِل ترنو وآذانُ؟
من أين.. والمسجد الأقصى محطمة ... آماله، وفؤاد القدس ولهانُ؟
من أين.. نفرح يا عيد الجراح وفي ... دروبنا جُدُر قامت وكثبان؟(2/363)
من أين ... والأمة الغراء نائمة ... على سرير الهوى، والليل نشوان؟
من أين.. والذل يبني ألف منتجع ... في أرض عزّتنا، والربح خُسْرانُ؟
من أين نفرح والأحباب ما اقتربوا ... منا، ولا أصبحوا فينا كما كانوا؟
يا من تسرب منهم في الفؤاد هوى ... قامت له في زوايا النفس أركان
أصبحت في يوم عيدي والسؤال على ... ثغري يئنّ وفي الأحشاء نيرانُ
أين الأحبة.. لا غيم ولا مطر ... ولا رياض ولا ظل وأغصانُ؟
أين الأحبة.. لا نجوى معطرة ... بالذكريات ولا شيح وريحانُ
أين الأحبة.. لا بدر يلوح لنا ... ولا نجوم بها الظلماء تزدانُ؟
أين الأحبة.. لا بحر ولا جزر ... تبدو، ولا سفن تجري وشطآنُ؟
أين الأحبة.. وارتد السؤال إلى ... صدري سهامًا لها في الطعن إمعانُ (1) ؟
***
__________
(1) قصيدة "عندما يحزن العيد" من ديوان "شموخ في زمن الإنكسار" لعبد الرحمن صالح العشماوي.(2/364)
عندما يحزن العيد
سنن العيد
قال ابن عابدين "سمي العيد بهذا الاسم لأن لله تعالى فيه عوائد الإحسان، أي أنواع الإحسان العائدة على عباده في كل يوم، منها: الفطر بعد المنع عن الطعام، وصدقة الفطر" (1) .
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا أبا بكر، إن لكل قومٍ عيداً، وهذا عيدنا" (2)
"وشبه الجملة من الجار والمجرور خبر إن المقدم على اسمها يفيد الحصر والقصر".
قال ابن رجب الحنبلي في "لطائف المعارف" (287) :
* "قال مخنف بن سليم وهو معدود من الصحابة "الخروج يوم الفطر يعدل عمرة والخروج يوم الأضحى يعدل حجة" اهـ.
قال الصديق -رضي الله عنه- "لست تاركًا شيئًا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعمل به إلا عملت به إني أخشى إن تركت شيئًا أن أزيغ".
وهذه جملة من هديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(1) التجمل في العيد:
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ عمر جبة من استبرق، تباع في السوق، فأخذها، فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، ابتع هذه، تجمل بها للعيد والوفود، فقال له رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنما هذه لباس من لا خلاق له"، فلبث عمر ما شاء الله أن يلبث، ثم أرسل إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجبة ديباج، فاقبل بها عمر، فأتى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إن قلت: "إنما هذه لباس من لا خلاق له" وأرسلت إلي بهذه الجبة، فقال له
__________
(1) "حاشية ابن عابدين" (2/165) .
(2) رواه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجه.(2/365)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تبيعها أو تصيب بها حاجتك" (1)
قال الإمام السندي: "منه عُلم أن التجمل يوم العيد كان عادة متقررة بينهم، ولم ينكرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعُلم بقاؤها" (2) .
* وكان ابن عمر "يلبس أحسن ثيابه في العيدين" (3)
* قال الإمام مالك -رحمه الله-: "سمعت أهل العلم يستحبون الطيب والزينة في كل عيد".
(2) الاغتسال يوم العيد قبل الخروج:
عن نافع: "أن عبد الله بن عمر كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى" (4) .
قال الإمام سعيد بن المسيب "سنة الفطر ثلاث: المشي إلى المصلى، والاكل قبل الخروج والاغتسال" (5) .
* قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (2/370) : "يستحب أن يتطهر بالغسل للعيد، وكان ابن عمر يغتسل يوم الفطر، وروي ذلك عن علي -رضي الله عنه-، وبه قال علقمة، وعروة، وعطاء، والنخعي، والشعبي، وقتادة، وأبو الزناد، ومالك، والشافعي، وابن المنذر".
"وأما الذي روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فهو ضعيف" (6) .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأحمد.
(2) حاشية السندي على النسائي (3/181) .
(3) رواه البيهقي وابن أبي الدنيا وصحح إسناده ابن حجر في "فتح الباري" (2/439) .
(4) أخرجه الإمام مالك ورواه أيضاً الشافعي وعبد الرزاق وسنده صحيح.
(5) رواه الفريابي بإسناد صحيح، انظر "إرواء الغليل" (2/104) .
(6) "كما عند ابن ماجة وفي إسناده جبارة بن المغلس وشيخه وهما ضعيفان ورواه أيضاً وفيه يوسف بن خالد السمتي، كذبه غير واحداً".
انظر الرسالة القيمة "أحكام العيدين في السنة المطهرة" لعلي حسن عبد الحميد - المكتبة الإسلامية- الأردن.(2/366)
(3) الخروج إلى المصلى:
* عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة" (1) .
* عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغدو إلى المصلى في يوم العيد، والعترة تُحمل بين يديه، فإذا بلغ المصلى نصبت بين يديه، فيصلي إليها وذلك أن المصلى كان فضاء ليس فيه شيء يستتر به" (2) .
* وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قيل له: أشهدت العيد مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟، قال: نعم، ولولا مكاني من الصغر ما شهدته، حتى أتى العَلَم الذي عند دار كثير بن الصلت فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء ومعه بلال فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة، فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال ثم أنطلق هو وبلال إلى بيته" (3) .
وزاد مسلم في روايته عن ابن جريج: "قلت لعطاء أحقًا على الإمام الآن أن يأتي النساء حين يفرغ فيذكرهن؟ قال: أي لعمري إن ذلك لحق عليهم، وما لهم لا يفعلون ذلك؟! ".
فالسنة في صلاة العيدين أن تؤدي في المصلى وبذلك قال جمهور العلماء.
قال البغوي في "شرح السنة": "السنة أن يخرج الإمام لصلاة العيدين، إلا من عذر، فيصلي في المسجد".
وقال النووي "هذا دليل لمن قال باستحباب الخروج لصلاة العيد إلى المصلى، وأنه أفضل من فعلها في المسجد، وعلى هذا عمل الناس في معظهم الأمصار".
وقال ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (2/450) : "استدل به على استحباب الخروج إلى الصحراء لصلاة العيد، وأن ذلك أفضل من صلاتها
__________
(1) رواه البخاري ومسلم والنسائي.
(2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة واللفظ له.
(3) رواه البخاري والسياق له، ومسلم وابن أبي شيبة وأبو نعيم في مستخرجه.(2/367)
في المسجد، لمواظبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك مع فضل مسجده.
وقال الشافعي في "الأم": "بلغنا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج في العيدين إلى المصلى بالمدينة، وكذا من بعده، إلا من عذر مطر ونحوه، وكذا عامة أهل البلدان إلا أهل مكة".
* قال ابن الحاج. في "المدخل" (283) : "والسنة الماضية في صلاة العيدين أن تكون في المصلى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام" (1) . ثم هو مع هذه الفضيلة العظيمة خرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المصلى وتركه".
وقال ابن قدامة في "المغني" (2/229) : "السنة أن يصلي العيد في المصلى".
وقال العلامة العيني الحنفي: "وفيه البروز إلى المصلى والخروج إليه، ولا يصلى في المسجد إلا عن ضرورة".
قال الألباني "صلاة العيدين الآن في المساجد: بدعة حتى على قول الشافعي لأنه لا يوجد مسجد واحد في بلادنا يسع أهل البلد الذي هو فيه".
عن أم عطية: "أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نخرجهن في الفطر والأضحى
العواتق، والحيّض وذوات الخدور، فأما الحيّض فيعتزلن الصلاة - وفي لفظ المصلى -، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين" (2) .
والسنة مشروعية خروج النساء إلى المصلى لصلاة العيدين، بل ذهب كثير من أهل العلم إلى الوجوب ومنهم الصنعاني والشوكاني، وصديق حسن خان، وهو ظاهر كلام ابن حزم، ومال إليه ابن تيمية في "اختياراته" عن أبى بكر الصديق -رضي الله عنه- قال "حق على كل ذات نطاق الخروج إلى العيد" (3) .
__________
(1) يبلغ درجة التواتر.
(2) رواه مسلم واللفظ له، والبخاري والترمذي، والنسائي وابن ماجة وأحمد.
(3) رواه ابن أبي شيبة وسنده صحيح.(2/368)
* يقول محدث الشام الشيخ الألباني عن حكمة الصلاة في المصلى: "إن هذه السنة -سنة الصلاة في الصحراء- لها حكمة عظيمة بالغة: أن يكون للمسلمين يومان في السنة، يجتمع فيها أهل كل بلدة، رجالاً ونساء وصبيانا.
يتوجهون إلى الله بقلوبهم، تجمعهم كلمة واحدة، ويصلون خلف إمام واحد ويكبرون ويهللون، ويدعون الله مخلصين، كأنهم على قلب رجل واحد، وقد أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخروج النساء لصلاة العيد مع الناس ولم يستثن منهن أحد، حتى أنه لم يرخص لمن لم يكن عندها ما تلبس في خروجها، بل أمر أن تستعير ثوبًا من غيرها، وحتى أنه أمر من كان عندهن عذر يمنعهن بالصلاة، بالخروج إلى المصلى "ليشهدن الخير ودعوة المسلمين" (1) .
* ومقصد آخر: قول الدهلوي: "إن كل أمة لابد لها من عرضة ويجتمع فيها أهلها لتظهر شوكتهم وتعلم كثرتهم، ولذلك كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخالف في الطريق ذهابا وإيابًا ليطلع أهل كلتا الطريقين على شوكة المسلمين".
(4) من السنة إتيان المصلى ماشيا:
قال علي -رضي الله عنه- "إن من السنة أن تأتي العيد ماشيًا" (2) .
قال ابن القيم في "الزاد" "وكان ابن عمر -رضي الله عنه- مع شدة اتباعه للسنة- لا يخرج حتى تطلع الشمس ويكبر من بيته إلى المصلى".
(5) التكبير في العيدين:
قال البغوي "ومن السنة إظهار التكبير ليلتي العيدين مقيمين وسفرا في منازلهم ومساجدهم وأسواقهم وبعد الغدو في الطريق، وبالمصلى إلى أن يحضر الإمام، كان ابن عمر -رضي الله عنه- - يغدو إلى المصلى يوم الفطر إذا طلعت الشمس فيكبر حتى يأتي المصلى ثم يكبر بالمصلى حتى إذا جلس الإمام ترك التكبير" (3) .
__________
(1) كل ما ذكرناه في الخروج إلى المصلى فهو من رسالة "صلاة العيدين في المصلى هي السنة" للشيخ المحدث الألباني - المكتب الإسلامي.
(2) أخرجه الترمذي وحسنه، وابن ماجه، وصححه الألباني.
(3) أخرجه الحاكم والبيهقي وصححه، رواه الدارقطني وابن أبي شيبة بإسناد صحيح، انظر "إرواء الغليل" (650) .(2/369)
وكان ابن المسيب وعروة وأبو سلمة وأبو بكر يكبرون ليلة الفطر في المسجد يجهرون بالتكبير.
وقد ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان يخرج يوم الفطر فيكبر حتى يأتي المصلى، وحتى يقضي الصلاة، فإذا قضى الصلاة قطع التكبير" (1) .
* قال الشيخ المحدث الألباني: "وفي الحديث دليل على مشروعية ما جرى عليه عمل المسلمين من التكبير جهرًا في الطريق إلى المصلى، وإن كان كثير منهم بدؤوا يتساهلون بهذه السنة حتى كادت تصبح في خبر كان ... ومما يحسن التذكير به بهذه المناسبة، إن الجهر بالتكبير هنا لا يُشرع فيه الاجتماع عليه بصوت واحد كما يفعله البعض، وكذلك كل ذكر يشرع فيه رفع الصوت أو لا يشرع، فلا يشرع فيه الاجتماع المذكور فلنكن على حذر من ذلك" (2) .
* سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن وقت التكبير في العيدين فقال رحمه الله: "الحمد لله"، أصح الأقوال في التكبير الذي عليه جمهور السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة: أن يكبر في فجر يوم عرفة، إلى آخر أيام التشريق عقب كل صلاة، ويُشرع لكل أحد أن يجهر بالتكبير عند الخروج إلى العيد، وهذا باتفاق الأئمة الأربعة.
(6) صيغ التكبير:
* "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد" (3) .
* "الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد" (4) .
* "الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرًا" (5) .
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" والمحاملي في "صلاة العيدين" وصححه الألباني في الصحيحة رقم (170) .
(2) السلسلة الصحيحة (1/12) .
(3) رواه ابن أبي شيبة بإسناد صححه الألباني عن ابن مسعود.
(4) عن ابن مسعود وابن عباس بسند صحيح.
(5) رواه عبد الرازق بسند صحيح عن سلمان.(2/370)
* "الله أكبر الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر وأجلّ، الله أكبر على ما هدانا" (1) .
فقال أبو عبد الرحمن السلمي: كانوا في الفطر أشد منهم في الأضحى فقال وكيع: يعني في التكبير.
عن أنس رضى الله عنه قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات" (2) . قال المهلب: الحكمة في الأكل قبل الصلاة: أن لا يظن ظان لزوم الصوم حتى يصلي العيد، فكأنه أراد سد هذه الذريعة (3) .
(7) مخالفة الطريق في الذهاب والإياب إلى المصلى:
عن جابر -رضي الله عنه- فقال: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان يوم عيد خالف الطريق" (4) .
قال الإمام النووي: "وإذا لم يعلم السبب، استحب التأسي قطعًا، والله أعلم" (5) .
(8) لا يصلي قبل العيد شيئا:
عن ابن عباس "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى يوم الفطر ركعتين، لم يصل قبلها ولا بعدها" (6) .
قال ابن حجر في "فتح الباري" (2/476) : "والحاصل أن صلاة العيد لم يثبت لها سنة قبلها ولا بعدها، خلافًا لمن قاسها على الجمعة".
وعن أبي سعيد الخدري: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يصلي قبل العيد شيئا،
__________
(1) رواه البيهقي، وصحح إسناده الألباني عن ابن عباس.
(2) رواه البخاري والترمذي وابن ماجه وأحمد.
(3) فتح الباري (2/447) .
(4) رواه البخاري.
(5) روضة الطالبين (2/77) .
(6) رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه.(2/371)
فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين" (1) .
* حكم صلاة العيدين:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا رجحنا أن صلاة العيد واجبة على الأعيان، كقول أبي حنيفة وغيره وهو أحد أقوال الشافعي، وأحد القولين في مذهب أحمد، وقول من قال: لا تجب، في غاية البعد؛ فإنها من أعظم شعائر الإسلام، والناس يجتمعون لها أعظم من الجمعة، وقد شرع فيها التكبير، وقول من قال: هي فرض على الكفاية لا ينضبط" (2) .
قال العلامة صديق حسن خان: "من الأدلة على وجوبها أنها مسقطة للجمعة إذا اتفقتا في يوم واحد" (3) ، وما ليس بواجب لا يسقط ما كان واجبًا، وقد ثبت أنه لازمها جماعة منذ شرعت إلى أن مات، وانضم إلى هذه الملازمة الدائمة أمره للناس بأن يخرجوا إلى الصلاة" (4) .
وقت صلاة عيد الفطر:
عن عبد الله بن بُسر صاحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه خرج مع الناس يوم فطر أو أضحى، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح" (5) . أي وقت صلاة النافلة إذا مضى وقت الكراهة.
قال ابن القيم: "يؤخر صلاة عيد الفطر، ويعجل الأضحى".
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسنه الحافظ والألباني.
(2) مجموع الفتاوى (23/161) .
(3) كما في حديث أبي هريرة - عندما اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون" رواه أبو داود وابن ماجة وسنده حسن.
انظر المغنى (2/358) ، ومجموع الفتاوى (24/212) .
(4) انظر الروضة الندية (1/142) ، الموعظة الحسنة (42-43) ، نيل الأوطار (3/383- 383) وتمام المنة (2/37) .
(5) علقه البخاري في صحيحه، ووصله أبو داود وابن ماجه والحاكم والبيهقي وسنده صحيح.(2/372)
وقال صديق حسن خان: وقتهما بعد ارتفاع الشمس قيد رمح إلى الزوال.
وقال الشيخ أبو بكر الجزائري في "منهاج المسلم" (278) : "وقتهما من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى الزوال، والأفضل أن تؤخر صلاة الفطر ليتمكن الناس من إخراج صدقاتهم".
(9) لا أذان ولا إقامة للعيدين:
عن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة" (1) .
وعن ابن عباس وجابر رضي الله عنهما قال: "لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى" (2) .
قال ابن القيم في "زدا المعاد" (1/442) : "وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا انتهى إلى المصلى أخذ في الصلاة من غير أذان، ولا إقامة، ولا قول: الصلاة جامعة، والسنة أنه لا يفعل شيء من ذلك.
قال الصنعاني في "سبل السلام" (2/67) : "عدم شرعيتها في صلاة العيد فإنها بدعة".
(10) صلاة العيد ركعتان:
* عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- "صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر، على لسان محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (3) .
* الركعة الأولى تبدأ بتكبيرة الإحرام ثم يكبر فيها سبع تكبيرات، وفي الركعة الثانية خمس تكبيرات، سوى تكبيرة الانتقال.
عن عائشة رضي الله عنها "إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر في الفطر
__________
(1) رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه أحمد والنسائي والطحاوي في "شرح معاني الآثار" والبيهقي وسنده صحيح.(2/373)
والأضحى: في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمسًا سوى تكبيرتي الركوع" (1) .
قال الإمام البغوي: "وهذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم، أنه يكبر في صلاة العيد في الأول سبعًا سوى تكبيرة الافتتاح، وفي الثانية خمسًا سوى تكبيرة القيام قبل القراءة رُوي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي".
* والسنة في التكبير أن يكون قبل القراءة لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال "كبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة العيد: سبعًا في الأولى، ثم قرأ، ثم كبر فركع، ثم سجد، ثم قام فكبر خمسًا، ثم قرأ، ثم كبر فركع ثم سجد" (2) .
* لم يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يرفع يديه مع تكبيرات العيد (3) ، لكن قال ابن القيم: "وكان ابن عمر - مع تحريه للاتباع يرفع يديه مع كل تكبيرة" (4) . قال: الإمام مالك: "ارفع يديك مع كل تكبيرة" وهذا قول عطاء.
* لم يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر معين بين تكبيرات العبد، ولكن ثبت عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال عن صلاة العيد "بين كل تكبيرتين حمد لله عز وجل، وثناء على الله" (5) .
وفيه أيضاً عن ابن مسعود أنه قال "يحمد الله ويثني عليه، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (6) .
* عن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه-: "سألني عمر بن الخطاب عما
__________
(1) إسناده صحيح: رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد والبيهقي.
(2) حسن بشواهد: رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد. انظر إرواء الغليل (3/108- 112) وزاد المعاد (1/443-444) .
(3) إرواء الغليل (3/112-114) .
(4) زاد المعاد (1/441) .
(5) رواه البيهقي والمحاملي وجوده الألباني.
(6) صححه الألباني.(2/374)
قرأ به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العيد؟ فقلت: بـ (اقتربت الساعة) و (ق) أخرجه مسلم.
قال ابن القيم "وربما قرأ فيهما (سبح اسم ربك الأعلى) ، (هل أتاك حديث الغاشية) أخرجه مسلم من حديث النعمان بن بشير. صح عنه هذا وهذا ولم يصح عنه غير ذلك.
وباقي هيئاتها، كغيرها من الصلوات المعتادة.
(11) من فاتته صلاة العيد جماعة، يصلي ركعتين:
قال البخاري -رحمه الله- "باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين". وهو قول عطاء ومذهب الشافعي.
(12) الخطبة بعد الصلاة: السنة في خطبة العيد أن تكون بعد الصلاة؛ خلافًا لما فعله مروان بن الحكم عن ابن عباس قال "شهدت العيد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم-، فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة" (1) .
(13) التخيير بحضور الخطبة:
وخطبة العيد كسائر الخطب، تفتتح بالحمد والثناء على الله عز وجل.
قال ابن القيم في "زاد المعاد" (1/447-448) : "وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفتتح خطبة كلها بالحمد لله، ولم يحفظ عنه في حديث واحد أنه كان يفتتح خطبتي العيد بالتكبير، وإنما روى ابن ماجة في "سننه" (2) . عن سعد القرظ مؤذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يكثر التكبير بين أضعاف الخطبة، ويكثر التكبير في خطبتي العيدين، وهذا لا يدل على أنه كان يفتتحها به".
وحضور الخطبة ليس واجبًا كالصلاة: قال عبد الله بن السائب: شهدت
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأحمد.
(2) ورواه الحاكم والبيهقي وسنده ضعيف، عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد المؤذن ضعيف، وأبوه وجده مجهولان.(2/375)
العيد مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما قضى الصلاة قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنا نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب" (1) .
قال ابن القيم في "زاد المعاد" (1/448) : "ورخص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن شهد العيد أن يجلس للخطبة أو أن يذهب".
(14) التهنئة بالعيد:
قال جبير بن نفير "كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك" (2) .
* سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن التهنئة يوم العيد فأجاب: "أما التهنئة يوم العيد، بقول بعضهم لبعض إذا لقيه بعد صلاة العيد: تقبل الله منا ومنكم، وأحال الله عليك ونحو ذلك، فهذا قد روي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه، ورخص فيه الأ-ئمة كأحمد وغيره، لكن قال أحمد: أنا لا ابتدئ أحدًا، فإن ابتدأني أحد أجبته، وذلك لأن جواب التحية واجب، وأما الابتداء بالتهنئة فليس سنة مأمورًا بها، ولا هو أيضاً مما نهى عنه، فمن فعله فله قدوة، ومن تركه فله قدوة، والله أعلم" (3) .
(15) السنة أن يخرج المعتكف فقط من المسجد إلى المصلى: قال إبراهيم النخعي: "كانوا يستحبون للمعتكف فقط أن يبيت ليلة الفطر في مسجده حتى يكون خروجه منه" وبوب ابن أبي شيبة في مصنفه "من كان يحب أن يغدو المعتكف كما هو من مسجده إلى المصلى".
__________
(1) إسناده صحيح: رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم، وصححه الحاكم والذهبي وابن خزيمة والألباني في إرواء الغليل (3/96-98) .
(2) قال ابن حجر في "فتح الباري" (2/446) : أدينا في "المحامليات بإسناد حسن عن جبير بن نفير" وحسنه أيضاً السيوطي في "وصل الأماني بأصول التهاني".
(3) مجموع الفتاوى (24/253) .(2/376)
(16) الإذن بسماع الدف من الجويريات وتركه أولى: عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث (1) ، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمار الشيطان عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فاقبل عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال "دعهما" فلما غفل غمزتهما فخرجتا.
وفي رواية أخرى "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا" (2) .
قال ابن حجر في "فتح الباري" (2/443) : "وفي هذا الحديث من الفوائد مشروعية التوسعة على العيال في أيام الأعياد بأنواع ما يُحَصِّل لهم بسط النفس وترويح البدن من كلف العبادة، وأن الإعراض عن ذلك أولى، وفيه أن إظهار السرور في الأعياد من شعار الدين.
***
__________
(1) كان فيه حرب بين الأوس والخزرج، وبعاث: اسم لحصن الأوس.
(2) الروايتان للبخاري ومسلم وأحمد وابن ماجه.(2/377)
الباب الحادي والعشرون
فتاوى الصيام
إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم(3/5)
من فتاوى الصيام
- سئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين حفظه الله:
ما هي أركان الصيام:
فأجاب: "الصيام له ركن وهو: التعبد لله عز وجل بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
والمراد بالفجر هنا: الفجر الثاني دون الأول.
* ويتميز الفجر الثاني عن الفجر الأول بثلاثة مميزات:
الميزة الأولى: أن الفجر الثاني يكون معترضًا في الأفق، والفجر الأول يكون مستطيلاً -أي: ممتدًا من المشرق إلى المغرب- وأما الفجر الثاني فيمتد من الشمال إلى الجنوب.
الميزة الثانية: أن الفجر الثاني لا ظلمة بعده بل يستمر النور في الازدياد حتى طلوع الشمس، وأما الفجر الأول فيظلم بعد أن يكون له شعاع.
الميزة الثالثة: أن الفجر الثاني متصل بياضه بالأفق، وأما الفجر الأول فبينه وبين الأفق ظلمة.
والفجر الأول ليس له حكم في الشرع فلا تحل به صلاة الفجر ولا يحرم به الطعام على الصائم بخلاف الفجر الثاني" (1) .
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله (2) :
بماذا يثبت دخول شهر رمضان وخروجه.. وما حكم من رأى الهلال وحده عند دخول الشهر أو خروجه؟
فأجاب: يثبت دخول الشهر وخروجه بشاهدي عدل فأكثر.. وِيثبت دخوله فقط بشاهد واحد؛ لأنه ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "فإنْ شهِدَ شاهِدان فصُومُوا وَأَفْطِروا"
__________
(1) "فقه العبادات لابن عثيمين" (ص 172، 173) .
(2) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" لسماحة الشيخ ابن باز (162، 163) .(3/7)
وثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر الناس بالصيام بشهادة ابن عمر -رضي الله عنهما- وبشهادة أعرابي، ولم يطلب شاهدا آخر عليه الصلاة والسلام.
والحكمة في ذلك والله أعلم: الاحتياط للدين في الدخول والخروج، كما نص على ذلك أهل العلم.
ومن رأى الهلال وحده في الدخول أو الخروج ولم يعمل بشهادته، فإنه يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس، ولا يعمل بشهادة نفسه -في أصح أقوال أهل العلم-؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "الصوم يَوْم تَصُومُون، والفِطْرُ يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون"، والله ولي التوفيق.
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1) :
ما هي الطريقة التي يثبت بها أول كل شهر قمري؟
فأجابت: دلت الأحاديث الصَّحيحة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن الهلال متى رآه ثقة بعد غروب الشمس في ليلة الثلاثين من شعبان أو ثقات ليلة الثلاثين من رمضان فإن الرؤية تكون مُعتبرة، ويعرف بها أول الشهر من غير حاجة إلى اعتبار المدة التي يمكُثها القَمَر بعد غروب الشمس، سواء كانت عشرين دقيقة أم أقل أو أكثر؛ لأنه ليس هناك في الأحاديث الصحيحة ما يدل على التحديد بدقائق معينة لغروب القمر بعد غروب الشمس. وقد وافق مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة على ما ذكرنا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب ... رئيس اللجنة الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
- سئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
ما حكم من رأى الهلال وحده، ولم يصم مع الناس؟
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (2031) .(3/8)
فأجاب: من رأى الهلال وَحْدَهُ، فيجب عليه أن يبلِّغ به المحكمة الشرعية ويشهد به.
ويثبت دخول شهر رمضان بشهادة واحد، إذا ارتضاه القاضي وحكم بشهادته، فإن رُدّت شهادته فقد قال بعض العلماء: إنه يلزمه أن يصوم لأنه تيقن أنه رأى الهلال، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا لرؤيته" وهذا قد رآه وقال بعض أهل العلم: لا يلزمه أن يصوم؛ لأن الصوم يوم يصوم الناس والفطر يوم يفطر الناس، وموافقته للجماعة خير من انفراده وشذوذه، وفصَّل آخرون فقالوا: يلزمه الصوم سرًّا، فيلزمه الصوم لأنه رأى الهلال، ويكون سرًّا لئلا يظهر مخالفة الجماعة (1) .
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
كيف يمكن معرفة دخول هلال أي شهر مثل شهر رمضان؟
فأجاب: الهلال هو رؤية القمر متأخرًا عن الشمس غائبا بعدها، فإذا رؤي الهلال بعد غروب الشمس، فإنه يَتَحَقَّق من دخول الشهر الثاني، ولا يتمَكَّن من رؤيته إلا حديد البصر.
أما في الليلة الثانية، فإنه يراه الجميع، حيث إنه يتأخر عن الشمس ساعة إلا ربعًا، وفي الليلة الثالثة يغيب وقت العشاء.
ثبت عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: "أنا أعلم الناس بوقت صلاة العشاء كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّيها لمغيب القمر الثالثة". -أي: إذا غاب القمر الليلة الثالثة- أي: بعد مغيب الشمس بساعة ونصف وهو وقت غروب الشفق.
أما إذا رؤي الهلال محاذيا للشمس أو سابقا لها فهو تابع للشهر الذي قبله، كذلك عندما يكون آخر الشهر يُرى القمر في الأفق وهو متقوس ورأساه إلى أسفل فإذا هلّ صارت رأساه إلى أعلى. والله أعلم (2) .
__________
(1) "فقه العبادات" لابن عثيمين (ص 172) .
(2) "فتاوى الصيام" لابن جبرين (ص 23) .(3/9)
- وسئل حفظه الله:
بماذا يثبت هلال شهر رمضان وبماذا يثبت هلال شهر شوال؟
فأجاب: يثبُت هلال رمضان برؤية عدل واحد -ولو أنثى-. أما هلال شوال فلا يثبت إلا برؤية شاهدين عدلين وذلك من باب الاحتياط؛ لأن كثيرا من الناس -والعياذ بالله- يحرصون على رؤيته خروجًا ولا يحرصون على رؤيته دخولاً (1) .
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
إذا تيقن شخص من دخول الشهر برؤية الهلال ولم يستطع إبلاغ المحكمة فهل يجب عليه الصيام؟
فأجاب: اختلف العلماء في هذا فمنهم من يقول: إنه يلزمه؛ وذلك بناء على أن الهلال هو ما استهل واشتهر بين الناس، أو أن الهلال هو ما رؤي بعد غروب الشمس، سواء اشتهر بين الناس أم لم يشتهر.
والذي يظهر لي: أن من رآه وتيقن رؤيته وهو في مكان ناء لم يشاركه أحد في الرؤية أو لم يشاركه أحد في الترائي فإنه يلزمه الصوم.
لعموم قوله تعالى (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إِذَا رَأَيْتُموه فَصُومُوا".
ولكن إن كان في البلد وَشَهد به عند المحكمة، وردت شهادته فإنه في هذه الحال يصوم سِرًّا لئلا يُعلن مُخَالفة الناس (2) .
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3) :
هل يجوز للمسلم الاعتماد في بدء الصوم ونهايته على الحساب الفلكي، أو لابد من رؤية الهلال؟
__________
(1) "فتاوى الصيام" لابن جبرين (ص 28) .
(2) "فتاوى ابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/149) .
(3) فتوى رقم (386) .(3/10)
فأجابت: الشريعة الإسلامية شريعة سمحة وهي عامة شاملة أحكامها جميع الثقلين الإنس والجن، على اختلاف طبقاتهم: علماء وأميين أهل الحضر وأهل البادية، فلهذا سهَّل الله عليهم الطريق إلى معرفة أوقات العبادات، فجعل لدخول أوقاتها وخروجها أمارات يشتركون في معرفتها، جعل زوال الشمس أمارة على دخول وقت المغرب وخروج وقت العصر، وغروب الشفق الأحمر أمارة على دخول وقت العشاء مثلا، وجعل رؤية الهلال بعد استتاره آخر الشهر أمارة على ابتداء شهر قمري جديد وانتهاء الشهر السابق، ولم يكلفنا معرفة بدء الشهر القمري بما لا يعرفه إلا النزر اليسير من الناس، وهو علم النجوم، أو علم الحساب الفلكي.
وبهذا جاءت نصوص الكتاب والسنة بجعل رؤية الهلال ومشاهدته أمارة على بدء صوم المسلمين شهر رمضان، والإفطار منه برؤية هلال شوال، وكذلك الحال في ثبوت عيد الأضحى ويوم عرفات قال الله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] وقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة: 189] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" فجعل -عليه الصلاة والسلام- الصوم لثبوت رؤية هلال شهر رمضان والإفطار منه لثبوت رؤية هلال شوال، ولم يربط ذلك بحساب النجوم وسير الكواكب، وعلى هذا جرى العمل زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وزمن الخلفاء الراشدين والأئمة الأربعة والقرون الثلاثة التي شهد لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفضل والخير، فالرجوع في إثبات الشهور القمرية إلى علم النجوم في بدء العبادات والخروج منها دون الرؤية من البدع التي لا خير فيها، ولا مستند لها من الشريعة، وإن المملكة العربية السعودية متمسكة بما كان عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والسلف الصالح من إثبات الصيام والإفطار والأعياد وأوقات الحج ونحوها برؤية الهلال، والخير كل الخير في اتباع من سلف في الشئون الدينية والشر كل الشر في البدع التي أحدثت في الدين.
حفظنا الله وإياك وجميع المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(3/11)
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (1) :
ما هي الطريقة الشرعية التي يثبت بها دخول الشهر؟ وهل يجوز اعتماد حساب المراصد الفلكية في ثبوت الشهر وخروجه؟ وهل يجوز للمسلم أن يستعمل ما يسمى (بالدربيل) في رؤية الهلال؟
فأجاب: الطَّريقة الشرعية لِثُبُوت دخول الشهر أن يتراءى الناس الهلال وينبغي أن يكون ذلك ممن يوثق به في دينه وفي قوة نظره، فإذا رأوه وجب العمل بمقتضى هذه الرؤية صومًا إن كان الهلال هلال رمضان وإفطارًا إن كان الهلال هلال شوال، ولا يجوز اعتماد حساب المراصد الفلكية إذا لم يكن رؤية فإن كان هناك رؤية -ولو عن طريق المراصد الفلكية- فإنها معتبرة لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا". أما الحساب: فإنه لا يجوز العمل به ولا الاعتماد عليه.
وأما استعمال ما يسمى (بالدربيل) -وهو: المنظار المقرب- في رؤية الهلال فلا بأس به ولكن ليس بواجب؛ لأن الظاهر من السنة أن الاعتماد على الرؤية المعتادة لا على غيرها. ولكن لو استعمل -فرآه من يوثق به-، فإنه يُعمل بهذه الرؤية، وقد كان الناس قديمًا يستعملون ذلك لما كانوا يصعدون (المنائر) في ليلة الثلاثين من رمضان فيتراءونه بواسطة هذا المنظار، على كل حال: متى ثبتت رؤيته- بأي وسيلة- فإنه يجب العمل بمقتضى هذه الرؤية لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا رَأَيْتُمُوه فَصُوموا وَإذا رَأَيْتُموه فَأَفْطِروا".
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
هل يجوز الاعتماد على الحساب في رؤية شهر رمضان؟
فأجاب: جاءت الشريعة بالاعتماد على الرؤية لا على الحساب.
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنا أُمة أُمية لا نَحْسِب وَلاَ نَكْتُب، صُوموا لِرُؤْيتهِ وَأَفْطِروا لِرؤيته، فإِن غُم عَلَيكُم فَأكمِلوا العِدَّة".
__________
(1) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/150، 151) .(3/12)
وفي رواية: "فَأقْدِرُوا لَه".
فأخذ العلماء من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّا أمة أمية ... " أنه لا يجوز الاعتماد في شهر شعبان ورمضان إلا على الرؤية فقط.
ولكن قال بعضهم: إذا وُجد زمان قد زالت فيه الأمية التي ذكرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه يصح أن يعتمد الحساب، وهو: أنهم يجعلون شهرا تاما ثلاثين يوما، وشهرا ناقصا تسعة وعشرين يوما، وهذا في السنة البسيطة. أما في السنة الكبيسة: فيكون سبعة أشهر تامة وخمسة ناقصة.
أما الجمهور، فيقولون: إن الحكم باقٍ ولو زالت الأمية، وصار الناس يحسبون ويكتبون؛ لأنه جعله حكمًا عامًا، وما كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحابته فهو باقٍ لمن بعدهم (1) .
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
إذا رأيت هلال رمضان وتقدمت للإفادة بذلك، ولم يؤيدني أحد فهل أصوم أم لا؟
فأجاب: إذا تقدم الإنسان وذكر للقَاضِي أو المسؤول أنه رأى هلال رمضان ولم يُقْبَل منه ولم يُعْمَل برؤيته.
فهذا فيه خلاف بين العلماء:
- فقد ذهب الأكثرون إلى أنه يصوم؛ لأنه ثبت الشهر في حقه برؤيته، فيصوم ويسبق الناس بيوم ويفطر معهم إذا أفطروا.
وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنه لا يصوم إذا لم يعمل برؤيته؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصَوم يَومَ تَصومُون وَالإِفْطَار يَوْم تُفْطِرون وَالأَضْحَى يَوم تُضَحُون" وهذا اليوم لم يصمه المسلمون فلا يصومه هو، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وجماعة من أهل العلم وهو أظهر في الدليل، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصوم يَوْم تَصُومُون"
__________
(1) "فتاوى الصيام" لابن جبرين (ص 21) .(3/13)
والمسلمون لم يَصُوموا فتصبح شهادته لاغية في حَقِّه وحق غيره فلا يصوم. هذا هو الأرجح. والله ولي التوفيق (1) .
- وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
عن أهل المدينة رأى بعضهم هلال ذي الحجة، ولم يَثْبُت عند حاكم المدينة؛ فهل لهم أن يَصُوموا اليوم الذي في الظَّاهر التاسع. وإن كان في الباطن العاشر؟
فأجاب: نعم. يَصُومون التَّاسع في الظاهر المعروف عند الجماعة، وإن كان في نفس الأمر يكون عاشرا، ولو قُدِّر ثبوت تلك الرؤية.
فإن في "السنن" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "صَوْمُكُم يوم تَصُومُون، وفِطركم يَوْم تُفْطِرُون، وَأَضْحَاكُم يَوم تُضحُّون" أخرجه أبو داود، وابن ماجة، والترمذي وصححه، وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الفِطْر يَوْم يُفْطِر النَّاس، والأَضْحَى يَوم يُضح النَّاس" رواه الترمذي. وَعَلى هذا العمل عند أئمة المسلمين كلهم، فإنَّ الناس لو وقفوا بعرفة في اليوم العاشر خطأ أجزاهم الوقوف بالاتفاق، وكان ذلك اليوم يوم عرفة في حقهم، ولو وقفوا الثامن خطأ ففي الإجزاء نزاع، والأظهر صحة الوقوف أيضًا، وهو أحد القولين في مذهب مالك، ومذهب أحمد وغيره.
قالت عائشة رضي الله عنها: "إِنما عَرَفة اليوم الّذي يَعرفُه النَّاس". وأصل ذلك: أن الله سبحانه وتعالى عَلَّق الحكم بالهلال والشهر فقال تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) [البقرة: 189] . والهلال اسم لما يستهل به: أي يعلن به، ويجهر به فإذا طلع في السماء ولم يعرفه الناس ويستهلوا لم يكن هلالا.
وكذا الشهر مأخوذ من الشهرة، فإن لم يشتهر بين الناس لم يكن الشهر قد دخل، وإنما يغلط كثير من الناس في مثل هذه المسألة؟ لظنهم أنه إذا طَلَع في السَّماء كان تلك الليلة أَوَّل الشهر، سَواء ظهر ذلك للناس واستهلوا به أو لا. وليس كذلك: بل ظهوره للناس واستهلالهم به لابد منه ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صَوْمُكُم يَوْم تَصُومُون، وَفِطْرُكم يَوْم تُفْطِرُون وَأَضْحَاكُم يَوْم تُضَحون" أي هذا اليوم الذي تعلمون أنه وقت الصوم، والفطر،
__________
(1) "مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز" (3/176، 177) .(3/14)
والأضحى، فإذا لم تعلموه لم يترتب عليه حكم.
وصوم اليوم الذي يشك فيه: هِل هو تاسع ذي الحجة؟ أو عاشر ذي الحجة؟ جائز. -بلا نزاع بين العلماء-؛ لأن الأَصل عدَم العاشر، كما أنهم لو شكوا ليلة الثلاثين من رمضان: هل طلع الهلال؟ أم لم يطلع؟ فإِنهم يَصُومون ذلك اليوم المشكوك فيه باتفاق الأئمة. وإنما يوم الشك -الذي رويت فيه الكراهة- الشك في أول رمضان، لأن الأصل بقاء شعبان.
وإنما الذي يشتبه في هذا الباب مسألتان:
إحْدَاهما: لو رأى هلال شوال وحده، أو أخبره به جماعة يعلم صدقهم هل يفطر؟ أم لا؟
والثانية: لو رأى هلال ذي الحجة، أو أخبره جماعة يعلم صدقهم، هل يكون في حقه يوم عرفة، ويوم النحر هو التاسع، والعاشر بحسب هذه الرؤية التي لم تشتهر عند الناس؟ أو هو التاسع والعاشر الذي اشتهر عند الناس؟
فأما المسألة الأولى: فالمنفرد برؤية هلال شوال، لا يفطر علانية، باتفاق العلماء. إلا أن يكون له عذر يبيح الفطر كمرض وسفر، وهل يفطر سرًا؟ ذلك على قولين للعلماء أصحهما: لا يُفطِر سرا، وهو مذهب مالك، وأحمد في المشهور في مذهبهما.
وفيهما قول: أنه يُفطِر سرًّا كالمشهور في مذهب أبي حنيفة، والشافعي وقد روي أن رجلين في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رأيا هلال شوال، فأفطر أحدهما، ولم يفطر الآخر. فلما بلغ ذلك عمر قال للذي أفطر: "لولا صَاحِبك لأَوجَعْتُك ضَربًا".
والسبب في ذلك أن الفطر يوم يفطر الناس وهو يوم العيد، والذي صامه المنفرد برؤية الهلال ليس هو يوم العيد الذي نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صومه، فإنه نهى عن صوم يوم الفطر، ويوم النحر، وقال: (أَما أَحَدُهما فَيَوم فِطْرِكُم من صَوْمِكمْ، وأَما الآخر فيوم تأكلون فيه من نُسُكِكُم". فالذي نهى عن صومه هو اليوم الذي يفطره المسلمون، وينسك فيه المسلمون.
وهذا يظهر بالمسألة الثانية، فإنه لو انفرد برؤية ذي الحجة لم يكن له أن يقف قبل الناس في اليوم الذي هو في الظاهر الثامن، وإن كان بحسب رؤيته هو التاسع، وهذا لأن(3/15)
في انفراد الرجل في الوقوف، والذبح، من مخالفة الجماعة ما في إظهاره للفطر.
وأما صوم يوم التاسع في حق من رأى الهلال، أو أخبره ثقتان أنهما رأيا الهلال، وهو العاشر بحسب ذلك، ولم يثبت ذلك عند العامة، وهو العاشر بحسب الرؤية الخفية، فهذا يخرج على ما تقدم.
فمن أمره بالصوم يوم الثلاثين الذي هو بحسب الرؤية الخفية من شوال ولم يأمره بالفطر سرًّا، سوّغ له صوم هذا اليوم، واستحبه لأن هذا هو يوم عرفة، كما أن ذلك من رمضان، وهذا هو الصحيح الذي دَلَّت عليه السنَّة والاعتبار.
ومن أمره بالفِطْر سرًّا لرؤيته، نهاه عن صوم هذا اليوم عند هذا القائل كهلال شوال الذي انفرد برؤيته.
فإن قيل: قد يكون الإمام الذي فوض إليه إثبات الهلال مقصرا، لرده شهادة العدول، إما لتقصيره في البحث عن عدالتهم، وإما رد شهادتهم لعداوة بينه وبينهم، أو غير ذلك من الأسباب، التي ليست بشرعية، أو لاعتماده على قول المنجم الذي زعم أنه لا يرى.
قيل: ما يثبت من الحكم لا يختلف الحال فيه بين الذي يؤتم به في رؤية الهلال، مجتهدا مُصِيبا كان أو مخطئا، أو مُفرطا، فإنه إذا لم يظهر الهلال ويشتهر بحيث يتحرى الناس فيه.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الأئمة: "يُصَلون لَكُم فإن أَصَابُوا فَلَكُم وَلَهُم، وِإن أَخْطَأُوا فَلَكُم وَعَلَيهِم".
فخطؤه وتفريطه عليه، لا على المسلمين الذين لم يفرطوا، ولم يخطئوا. ولا ريب أنه ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق الصحابة أَنَّه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم، كما ثبت عنه في "الصحيحين" أنَّه قال: "إِنا أُمة أُمية لا نَكْتُب، وَلاَ نَحْسِب، صُومُوا لِرُؤْيتهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتهِ".
والمعتمد على الحساب في الهلال -كما أنه ضال في الشريعة-، مبتدع في الدين، فهو مخطيء في العقل، وعِلم الحساب، فإِن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرُّؤية لا تَنْضَبط بأمر حسابي، وإنما غاية الحساب منهم إذا عدل أن يعرف كم بين الهلال والشَّمس من(3/16)
درجة وقت الغروب مثلاً: لكن الرؤية ليست مَضْبُوطة بدرجات محدودة، فإنها تختلف باختلاف حدة النظر وكلاله، وارتفاع المكان الذي يتراءى فيه الهلال، وانخفاضه، وباختلاف صفاء الجو وكدره، وقد يراه بعض الناس لثمان درجات، وآخر لا يراه لثنتي عشر درجة.
ولهذا تنَازع أهل الحساب في قوس الرؤية تنازعا مضطربا، وآلمتهم -كبطليموس-، لم يتكلموا في ذلك بحرف، لأن ذلك لا يقوم عليه دَليل حِسَابي، وإنما يتكلم فيه بعض متأخريهم، مثل كوشيار الدّيلمي، وأمثاله.
لما رأوا الشريعة عَلَّقت الأحكام بالهلال، فرأوا الحساب طريقًا تنضبط فيه الرؤية، وليست طريقة مستقيمة، ولا معتدلة، بل خطؤها كثير، وقد جرب، وهم يختلفون كثيرًا: هل يرى؟ أم لا يرى؟
وسَبَبُ ذلك: أنهم ضَبَطُوا بالحساب ما لا يعلم بالحساب، فأخطأوا طريق الصواب، وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وبينت أن ما جاء به الشَّرع الصَّحيح هو الذي يوافقه العقل الصَّريح، كما تكلمت على حد اليوم أيضًا، وبينت أنه لا ينضبط بالحساب؛ لأن اليوم يظهر بسبب الأبخرة المتَصَاعِدة، فمن أراد أن يأخذ حصة العشاء من حصة الفجر، إنما يَصِحُّ كلامه لو كان الموجب لظهور النُّور وخفائه مجرد محاذاة الأفق التي تُعلَم بِالحساب.
فأما إذا كان للأبخرة في ذلك تأثير، والبخار يكون في الشتاء والأرض الرطبة أكثر مما يكون في الصَّيف والأرض اليابسة، وكان ذلك لا ينضبط بالحساب، فسدت طريقة القياس الحسابي.
ولهذا تُوجد حصة الفجر في زمان الشتاء أطول منها في زمان الصيف.
والآخذ بمجرد القياس الحسابي يشكل عليه ذلك؛ لأن حِصة الفجر عنده تتبع النَّهار، وهذا أيضًا مَبسُوط في موضعه، والله سبحانه أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم (1) .
__________
(1) "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/202-208) .(3/17)
وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
ما حكم الذي لا يصوم في أول رؤية هلال رمضان إذا رؤي حتى يرى بنفسه، ويستدل بالحديث القائل: "صُومُوا لِرُؤْيَته وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَته" وهل صحيح استدلالهم بهذا الحديث؟
فأجابت: الواجب الصيام إذا ثبتت رؤية الهلال ولو بواحد عدل من المسلمين، كما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصيام عندما شهد الأعرابي برؤيته الهلال، وأما الاستدلال بحديث: "صوموا لرؤيته" على أن كل فرد لا يصوم إلا برؤيته بنفسه فغير صحيح؛ لأن الحديث خطاب عام بالصيام عند تَحقق الرؤية ولو من واحد عَدل من المسلمين (1) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
إنه من غير الممكن رؤية الهلال بالعين المجردة قبل أن يصبح عمره ثلاثين ساعة، وبعد فإنه من غير الممكن رؤيته بسبب حالة الجو، آخذين بعين الاعتبار هذا الوضع، فهل يمكن لسكان انجلترا استعمال المعلومات الفلكية لهذه البلاد في حساب الموعد المحتمل لرؤية القمر الجديد وموعد بدء شهر رمضان، أم يجب علينا رؤية القمر الجديد قبل بدئنا بصوم شهر رمضان المبارك؟
فأجابت: تجوز الاستعانة بآلات الرصد في رؤية الهلال ولا يجوز الاعتماد على العلوم الفلكية في إثبات بدء شهر رمضان المبارك أو الفطر؛ لأن الله لم يشرع لنا ذلك، لا في كتابه ولا في سنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما شرع لنا إثبات بدء شهر رمضان ونهايته برؤية هلال شهر رمضان في بدء الصوم ورؤية هلال شوال في الإفطار والاجتماع لصلاة عيد الفِطْر وجعل الأهلة مواقيت للناس وللحج.
فلا يجوز لمسلم أن يؤقِّت بغيرها شيئًا من العبادات من صوم رمضان والأعياد وحج البيت، والصوم في كفارة القتل خطأ وكفارة الظهار ونحوها.
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة" فتوى رقم (7753) .(3/18)
قال الله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] ، وقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة: 189] ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صُومُوا لِرُؤْيَته وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَته فَإِن غُمَّ عَلَيكُم فَأكمِلوا العِدَّة ثَلاَثْين".
وعلى ذلك: يجب على من لم ير الهلال في مطلعهم في صحو أو غيم أن يتموا العِدة ثلاثين إن لم يره غيرهم في مطلع آخر فإن ثبت عندهم رؤية الهلال في غير مطلعهم لزمهم أن يتبعوا ما حكم به ولي الأمر العام -المسلم- في بلادهم من الصوم أو الإفطار؛ لأن حكمه في مثل هذه المسألة يرفع الخلاف بين الفقهاء في اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره، فإن لم يكن ولي أمرهم الحاكم في بلادهم مسلمًا عملوا بما يحكم به مجلس المركز الإسلامي في بلادهم من الصوم تبعًا لرؤية الهلال في غير مطلعهم أو الإفطار: عملاً باعتبار اختلاف المطالع.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) .
- وسئل العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله-:
عن إخبار مخبر، أن أهل بلد رأوا هلال شوال، وعيّدوا؟
فأجاب: أما إخبار مخبر أن أهل البلد الفلانية أفطروا يوم كذا، فلابد من شهادة اثنين: وهذا فيه تفصيل: إن كان البلد فيه قاض، فأخبر رجلان أن أهل البلد أفطروا كلهم وعيدوا.
فالذي نرى: الاعتماد على مثل هذا، وإن كان البلد ليس فيه قاض، ولا يدري سبب فطرهم، فلا أرى الاعتماد على فعلهم (2) .
- وسئل العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله-:
عن اختلاف الأهلة بالكبر.. الخ؟
فأجاب: وأما اختلاف الأهلة بالكبر والصغر، وارتفاع المنازل وانخفاضها فلا حكم له؛ لأن ذلك يختلف اختلافًا كثيرًا (3) .
__________
(1) فتاوى اللجنة الدائمة، فتوى رقم (319) .
(2) "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" (5/310) .
(3) المصدر السابق (5/306) ، ولقد بوب الإمام النووى في شرح مسلم: (باب بيان أنه لا اعتبار بكبر الهلال
وصغره) .(3/19)
- وسئل العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله-:
عن هلال شوال، إذا شهد به شاهدان ... الخ؟
فأجاب: أما مسألة الرؤية لهلال شوال، إذا شهد به شاهدان، ولم يشهدا عند الحاكم، أو شهدا عنده فلم يحكم بشهادتهما، فهل لهما ولمن عرف عدالتهما الفطر، أم لا؟ أما إذا انفرد واحد بالرؤية، فنص أحمد: أنه لا يفطر. وهو قول مالك وأبي حنيفة، وهو مروي عن عائشة -رضي الله عنها-، لحديث: "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون" وقيل: يفطر سرًّا وهو قول الشافعي، قال المجد: ولا يجوز إظهاره بالإجماع.
وكذلك الحكم إذ رآه عدلان، ولم يشهدا عند الحاكم، أو شهدا عنده ورُدَّت شهادتهما، لجهله بحالهما، فالمذهب: أنه لا يجوز لهما، ولا لمن عرف عدالتهما الفطر، للحديث السابق، ولما فيه من تشتيت الكلمة وجعل مرتبة الحكم لكل أحد، وهذا القول اختيار الشيخ تقي الدين، واختار الموفق: أنه يجوز له الفطر؛ لحديث "وإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا" رواه أحمد وغيره.
وأجاب أيضًا: ومن رأى هلال شوال وحده بيقين فالمشهور في مذهب أحمد: أنه لا يفطر، وهو قول مالك وأبي حنيفة، وقيل: يفطر، وهو قول الشافعي، وقاله بعض أصحاب أحمد، واستحسنه في الإقناع، وأما إظهار الفطر والحالة هذه، فلا يجوز، حكاه بعضهم إجماعا (1) .
وأجاب أيضًا: ولو انفرد رجل برؤية هلال شوال، لم يجز لغيره الفطر بشهادته، لا أهله ولا غيرهم، عند من لا يجوز له الفطر.
- وسئل العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله-:
عن شهادة الأعراب؟
فأجاب: وأما قبول شهادة الأعراب بالهلال، فحكمهم حكم الحضر، لا يحكم شهادة مجهول الحال.
والأعرابي الذي عمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشهادته، يحتمل أنه يعرف حاله، والعلماء لم يفرقوا في هذه المسألة بين الحاضرة والبادية (2) .
__________
(1) (2) "الدرر السنية في الأبوبة النجدية" (5/315) .(3/20)
- وسئل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-:
هل يعمل بالبرقية وأصوات المدافع والبواريد في ثبوت الصوم والفطر؟
فأجاب: لا ريب أن كل أمر مُهم عمومي، يُرَاد إعلانه وإشاعته والإخبار به على وجه السرعة والتعميم، يسلك فيه طريق يحصل به هذا المقصود.
فتارة ينادي فيه على وجه التصريح، أو الإجمال القولي. وتارة يعبر عنه بأصوات عالية كالرمي ونحوه مما له نفوذ وسريان إلى المحال والأماكن البعيدة، وتارة بالبرقيات المتنوعة.
ولم يزل الناس على هذا يُعَبرون ويخبرون عن مثل هذه الأمور بأسرع وسيلة يتعمم ويشيع فيها الخبر، وعلى هذا المعنى مُجْتمعون، وبالعمل به في الأمور الدينية والدنيوية متفقون، وكلما تجدَّد لهم وسيلة أسرع وأنجح مما قبلها، أسرعوا إليها.
وقد أقَرَّهم الشارع على هذا الجنس والنوع، ووردت أدلة وأصول في الشريعة تدل عليه، فكل ما دل على الحق والصدق والخبر الصحيح مما فيه نفع للناس في أمور دينهم ودنياهم، فإن الشارع يقره ويقبله، ويأمر به أحيانًا، ويجزيه أحيانًا، بحسب ما يؤدي إليه من المصلحة.
فالشارع لا يرد خبرًا صحيحًا بأي طريق وَصَل، ولا ينفي حقًّا وصدقًا بأي وسيلة ودلالة اتصال، وخصوصًا إذا استفاض ذلك واحتفت به القرائن المتنوعة، فاستمسك بهذا الأصل الكبير، فإنه نافع في مسائل كثيرة ويمكنك إذا فهمته أن تطبق عليه كثيرًا من الأفراد والجزئيات الواقعة، والتي لا تزال تقع، ولا يقصر فهمك عنه فيفوتك خير كثير، وربما ظننت كثيرًا من الأشياء بدعًا محرمة إذا كانت حادثة ولم تجد لها تصريحًا في كلام الشارع فتخالف بذلك الشرع والعقل وما فطر عليه الناس.
فصل
فإذا فهمت هذا الأصل، فقد عُلِم وتَقَرر: أن الناس في كل قطر وبلد يجرون في أمورهم على الأحكام الشرعية في صومهم وفطرهم وعباداتهم وعندهم حاكم شرعي.(3/21)
فإنه متى ثبت عنده بالطريق الشرعي وجوب الصوم والفطر، فإنه في الغالب لا يطلع على مستند هذا الحاكم الشرعي إلا من باشره من قاض ومباشر للقصة، ومن حضرها.
وأما من سواهم من أهل البلد، فضلاً عن أهل القطر، فضلاً عن بقية الأقطار، فإنما يصل إليهم الخبر بما يثبت به ذلك الخبر ويشاع من قالةٍ يتناقلونه أو نداء في الأمكنة المرتفعة وغيرها، أو رمي بمدافع ونحوها، أو ببرقيات ليصل الخبر إلى القريب والبعيد، فهذا عمل متصل جنسه في جميع قرون الأمة من غير نكير، وإن كان بعض أفراده لم تحدث إلا من قريب، كالبرقيات ونحوها، فعلم أن الأمة مجمعة على العمل بهذا النوع من الأدلة المعتادة.
ومما يدل على ذلك أن الاستفاضة في الأخبار من جملة الطرق الشرعية التي تفيد صدق مخبرها، حتى إن الفقهاء -رحمهم الله- جعلوا شهادة الشهود تارة تستند إلى ما يراه الشاهد ويسمعه من المشهود عليه، وتارة على ما يسمعه من أخبار الاستفاضة، فيشهد بما استفاض مستندًا على الاستفاضة، وقد ذكروا لذلك أمثلة كثيرة.
ومن المعلوم أن الاستفاضة الحاصلة من رمي المدفع ونحوه والبرقيات ونحوها، أبلغ بكثير من الاستفاضات المفيدة للعلم، خصوصًا وقد أيد ذلك شاهد الحال، واحتفت به القرائن الكثيرة التي تدل دلالة يقينية على ثبوت ذلك الخبر، وكذلك العادة المطردة، والعرف المستقر الذي جرى عليه الناس في بث هذه الأخبار مع قرينة تشوف الناس، والاشتباه في الوقت مع أن الإخبار بالرمي والبرق ونحوها من الأمور الرسمية التي لا يجرؤ عليها أحد من العامة، إلا عن طريق أمر الحكام وأولياء الأمور وإذنهم، فمتى عرفت الواقع، لم يبق عندك في ذلك الخبر شك، وعرفت أنه خبر يفيد العلم، وإذا كانت أخبار الآحاد إذا احتفت بها القرائن، أفادت العلم فكيف بمثل هذه الأخبار المستفيضة المؤيدة من الحكام الشرعيين؟!!
ومما يدل على ذلك من الأصول الشرعية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما قدم المدينة وتشاور المسلمون في تعيين أمر يعرفون به الوقت والحضور للصلوات الخمس في أوقاتها، فمنهم من أشار بالبوق، ومنهم من أشار بالناقوس، ومنهم من أشار بإيقاد النار، ومنهم من أشار ببعث من ينادي للصلاة والحضور إليها، فاختار الله سبحانه وتعالى هذا الأذان المبارك(3/22)
الذي لا تعدُّ خيراته ومصالحه -ولله الحمد- والمقصود أنهم اتفقوا على أن هذه الأشياء التي ذكروها متى اتفق الناس على واحدٍ منها، أفادتهم العلم بدخول الوقت، وبعضها أصوات تسمع، وبعضها نار تشاهد، فعلم أنه قد تقرر عندهم حصول المقصود بها، ولكنهم يبحثون أيها أنسب، ومثل هذا لا يخفى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلو كانت هذه الأمور ونحوها لا يحصل بها العلم المطلوب الإعلام به، لأخبرهم بذلك، ولَما أقرهم على هذا البحث.
ونفس الأذان الذي اختاره الله للمسلمين لمعرفة دخول الوقت، هو من هذا القبيل، فإن المؤذنين ينادون في أوقات الصلاة بألفاظ الأذان وهي ثناء على الله، وشهادة له بالتوحيد، ودعاء مطلق للصلاة والفلاح، فيكون هذا كالتصريح بقولهم: دخل الوقت، ومسألة رمي المدافع، وإرسال البرقيات المعتمدة في الخبر عن ثبوت الأشهر، من هذا الجنس، وهي بسبب تحريرها والعناية التامة بها أقرب إلى الصواب؛ لأنها لا تكون إلا بعد الثبوت والتروي من الخبر الذي لا تردد فيه، وبعد أن يعتمد عليها ولاة الأمر وحكام الشرع، فالتحقيق بها أتم والغلط فيها أبعد.
يؤيد هذا: أن من قواعد الشريعة، أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وما يحصل المأمور أو لا يتم إلا به فهو مأمور، وهذه الأمور متى ثبتت عند أولياء الأمر، تعين عليهم أن يخبروا بها الناس ويبثوها بينهم، بحسب قدرتهم بأسرع وقت يمكن ليصوموا، ويفطروا، ويصلوا ويقيموا الأمور الشرعية.
ومن المعلوم أن الرمي، وإِرسال البرقيات، أبلغ من مجرد نداء المصوتين بثبوت الشهر، ويشيع الخبر بها بأسرع وقت، فأقل الحالات فيها أنها مستحبة، والقاعدة الشرعية تقتضي وجوبها مع القدرة عليها، إذا تباعدت الأقطار ولم يحصل المقصود إِلا بها.
هذا من جهتها في نفسها، وأما المبُلِّغُون المخبَرُون بها، فإنه يتعينَّ عليهم العمل بمضمون ما دلت عليه، من الصيام، والفطر، ودخول الأوقات وغيرها. ومما يدل على ذلك أن مقصود الإخبار بالرمي والإبراق ونحوه هو ترجمة وتعبير عما تقرر عليه الأمر عند أهل الحكم الشرعي، وهي ترجمة يفهمها كل أحد، لأنها تعبير عن أمر يتفق عليه(3/23)
أولو الأمر والحكام على الناس ويَعْرِفُه الناس معرفة لا يشكون فيها وفي المراد منها، وما كان هكذا فالشريعة لا ترده، بل تقبله، وتأمر به عند تيسره، والترجمة التي يحصل بها العلم، لم يزل العمل بها على أي طريقة وصفة كانت.
ويَدُلُّ على هذا أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أمر بالتبليغ عنه وتبليغ شرعه وحث على ذلك بكل وسيلة وطريقة.
والتبليغ أنواع متعددة:
فتارةً تبليغ ألفاظ الكتاب والسنة.
- وتارة تبليغ معانيها.
- وتارة تبليغ الأحكام الثابتة شرعًا: لِيَصِل علمها إلى الناس، فيتمكنون من العمل بما شَرَعَهُ الله.
والإخبار بالرمي والإبراق من هذا النوع، فإنه إذا ثبت بالطُّرق الشرعية وجوب الصيام والفطر على الناس، أو وجوب شريعة من الشرائع، تعين على ولاة الأمر تبليغ الناس بأسرع ما يقدرون عليه، ليقوم الناس بما أمر الله به ورسوله في الصيام، والفطر، والصلاة وغيرهما.
وكلما كان الطريق للتبليغ به أقوى وأسرع أو أشمل، كان أولى من غيره وكان داخلا في تبليغ الأحكام الشرعية. فدخل في هذا: تبليغهم بجميع المقربات. وبذلك يعلم حكمِ إيصال أصوات المبُلِّغين عن الشارع من الخُطَباء والوعاظ وغيرهم بالآلات الموُصلة للأصوات إلى مَسَامع الخلق.
وهذه المسألة أوضح من أن يحتج لها، لكن لما حصل الاشتباه فيها على كثير من الناس احتيج إلى بيان الأصول الشرعية التي أخذت منها.
* ومما يؤيد ذلك، ويوضحه: أن الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر من أكبر واجبات الدين، ومن أعظم ما يدخل في ذلك أنه إذا ثبتت الأحكام الشرعية التي يتوقف عمل الناس بها على بلوغ الخبر، فإنه يتعين على القادرين إيصالها إلى الناس بأسرع طريق وأَحْسَن وسيلة يتمكنون بها من أداء الواجبات، وتوقي المحرمات، ولا يشك أحد أن(3/24)
إِشاعة الأحكام وتعميمها إِذا ثبتت بالأصوات والرمي، وما هو أبعد مدى منه وأبلغ انتشارا مما يدخل في هذا الأصل الكبير.
* ومما يدل على ذلك: أن صُدُور هذه الأخبار بالإِبراق ونحوه، تقع محررة منقحة يندر جدا وقُوع الخَطَأ والغلط فيها، فضلا عن التعمد ومخالفة ما ثبت عند ولاة الأمر، والناس قد عرفوا واصطلحوا أنها إذا حصلت فإنها لا تصدر إلا بعد عرضها على الحكَّام الشرعيين وتنقيحها وثبوتها ثبوتا لا تردد فيه، وأنها أبلغ من شهادة الشهود التي تحتمل السَّهو والغلط أكثر من هذا، وهذه الأشياء لا يمكن التقول أو الافتئات فيها على ولاة الأمر وإذا كان الناس يعتمدونها في أمور دينهم ودنياهم، كالولايات والوكالات في النكاح، والعقود، والمواريث، وموت الأزواج، ويثبتون مقتضى ذلك من العدة، والإحداد، والميراث وغير ذلك، وكإخراج الزكاة والكفارات، وكالحوالات والتنقل من محل إلى محل، ونحو ذلك مما لا يحصى، فما المانع من قبولها في ثبوت الأشهر، والصَّيام، والفطر ونحوه، وهي في هذه الحال قد احتف بها من القرائن المحققات والضبط والتحرير ما لا يوجد في غيرها، خصوصا الصادر في مقر الحاكم الشرعي.
وهذا واضح -ولله الحمد- فالشارع لا يرد خبرا صادقا ولا يَنْفي طريقا يحصل به الثبوت، ولا يفرق بين المتماثلات، وإنما يتوقف في خبر المجهول ومن لا يوثَق بخبره، أو من محل لا حاكم فيه، فهذا النوع يجب التَّثبت في خبره.
والحاصل: أن إِيصال الأخبار بالرمي والبرقيات ونحوها مما يوصل الخبر إلى الأماكن البعيدة، هو عبارة وتعبير عما اتَّفق عليه ولاة الأمر، وثبت عندهم مُقْتَضَاه، وهو من الطُّرق التي لا يرتاب الناس فيها، ولا يَحْصُل لهم أدنى شك في ثبوت خبرها، ومن توقَّف فيها في بعض اَلأمور الشرعية فلم يتوقف لشكه في أنها أفادت العلم، وإنما ذلك لظنه أن هذا الطريق المعين لم يكن من الطرق المعتادة في الزمان الأول وهذا لا يوجب التوقف، فكم من أمور حدثت لم يكن لها في الزمان الأول وُجُود، وصارت أَولى وأحق بالدخول من كثير من الأمور الموجودة قبل ذلك والله أعلم" (1) .
__________
(1) "الفتاوى السعدية" للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي (ص 218-226) .(3/25)
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
1- هل يعتبر المذياع وسيلة من الوسائل الشرعية التي يتم الصوم بناءً على إعلانها بثبوت الرؤية، وهل تتحقق في المذياع الشروط الواجب توافرها في شاهد إثبات الرؤية حتى يمكن الصوم بناءً على إخباره بذلك.
2- هل يعتبر التليفون والبرقيات من وسائل الإعلام الشرعية التي يعتمد عليها في ذلك، على الرغم من عدم معرفة الشخص المتحدث أو المبرق؟
وأما بالنسبة لخبر المذياع أو البرقيات بثبوت الهلال دخولا أو خروجًا فنظرًا إلى أنهما منسوبان إلى الدولة ولا يمكن أن يجرأ أحد أن يختلق خبرًا بذلك أو يغيره بزيادة أو نقص مؤثرة لا سيما وقد جرت العادة من المسئولين عنهما -منذ كان استخدامها كوسيلة إعلام- بتحري الدِّقة التامة في النَّقل فلا يظهر مانع يَحُول دُون قَبُول خبرهما، وإن لم يكن متولي النقل معروفا معرفة تزكية.
وأما التليفون فيحتاج إلى مزيد تحقيق وتأكد عن شخص ناقل الخبر وحاله من حيث العدالة والتَّحري في نقل الأخبار؛ لأن التّليفون ليس شأنه كشأن الإذاعة أو اللاسلكي؛ لكون استخدامه عامًّا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) .
للقاضي إذا تحقق من خبر الإذاعة إعلان دخول الشهر
وسئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- (2) :
عن حكم الصيام والفطر على خبر الإذاعة؟
فأجاب: يجوز للقاضي أو من يقوم مقامه إذا تحقق من خبر الإذاعة السعودية إعلان دخول الشهر أو خروجه رسميا: أن يقرر ثبوت ذلك شرعًا ويأمر الناس بالعمل بمقتضاه، سواء سمعه بنفسه من الراديو أو ثبت عنده بخبر ثقة عدل ممن له فهم فيما يذاع وتمييز
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (256) .
(2) "فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (4/168، 169) .(3/26)
للإذاعة السعودية من غيرها، ويكتفي بواحد؛ لأن ذلك من باب الخبر والرواية وليس من باب الشهادة، فإن لم يكن في البلد قاض ولا من يقوم مقامه فالأمير المنصوب يقوم بذلك بعد استشارته من يثق به من أعيان أهل البلد.
وأما المحلات التي لا يوجد فيها قاضي ولا أمير.. -كبعض القرى الصغار ومن هم في قصر نائي أو في برية ونحو ذلك- فيجوز للإنسان إذا تيقن ما ذكر من الإذاعة أن يعمل بموجب ما تيقنه، ومن صدقه من رفقته وغيرهم ووثق بخبره جاز له أن يعمل بموجب خبره، ومن لم يصدقه فلا يلزمه أن يقبل قوله حتى يتيقن ثبوت ذلك.
أما مع وجود القاضي فلا يجوز لأحد أن يفتات ويطلق الرمي بالرصاص إشعارًا بدخول الشهر بمجرد سماعه الخبر من الإذاعة؛ لأن ذلك مما يسبب الفوضى بين الناس، وقد يخطيء فهم الإنسان، أو تكون الإذاعة التي سمعها غير الإذاعة السعودية، أو غير ذلك، وهذا فيه عدة مفاسد، مع ما فيه من الافتيات على المسئولين، فلا لإشعاركم.
العمل بخبر المذياع (الراديو) في دخول رمضان
- وسئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- (1) :
عن العمل بخبر المذياع (الراديو) في دخول رمضان، وخروجه -إذا لم يكن في البلد ولا قريب منها برقية-، وإذا علم صدق نفسه ولم يقبل خبره في دخوله أو خروجه..؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه.
وبعد:
فكل بلد ليس بها برقية ولا قريبة من البلد التي بها برقية إذا لم يبلغهم هلال دخول رمضان أو هلال خروجه إلا عن طريق الراديو نقلا عن الإذاعة السعودية فإنه يسوغ لهم بل يلزمهم صيام ذلك اليوم، ويشرع في حقهم قيام تلك الليلة. وكذا حكم خروج رمضان لكن ليس ذلك على الإطلاق، بل الذي يتعين على من سمع الخبر عن الإذاعة السعودية أن يرفع ذلك إلى من إليه مرجع تلك البلد في ثبوت الأهلة من طلبة العلم والأمراء. وحينئذ على من هم المرجع في ذلك النظر في حال ذلك الخبر.
__________
(1) "فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (4/164-167) .(3/27)
فإذا كان مسلما عدلا ولو ظاهرا، وكان من أهل الثقة والتثبت فيما ينقله ويخبر به تعين على طالب العلم أو الأمير الذي هو المرجع العمل بذلك والأمر بالصيام والقيام، وكذا حكم الإفطار سواء كان ذلك الخبر الذي اجتمعت فيه الشروط المنوه عنها رجلاً واحدًا أو أكثر، وسواء كان حرا أو عبدا، أو رجلاً أو امرأة، وسواء كان بلفظ الشهادة، أو لا؛ لأن ذلك من باب الخبر لا من باب الشهادة، وإنما هو إخبار أن الهلال ثبت عند قاض من قضاة المسلمين معتبر وحكم به وعمل بحكمه ونفذ في أنحاء المملكة.
والدليل على أن جنس هذا من باب الخبر لا من باب الشهادة حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن رجلاً أعرابيًا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره أنه رأى هلال رمضان فقَال: "أتَشْهَدُ أنْ لاَ إِلَه إلا الله وَأني رَسُولُ الله. قَالَ: نَعَم. فَأمَرَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلاَلاً أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِأنْ يَصُومُوا مِن الغد" وفي رواية: "وَأَنْ يَقُومُوا تِلْكَ الَّليلة" رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة.
ووجه الدلالة منه: أن من سمع نداء بلال بذلك اكتفى به شرعا في ثبوت الهلال، وكذا من لم يسمع نداء بلال وأخبره شخص بذلك فإنه يثبت عنده الهلال بمجرد ذلك، وهلم جَرّا. ولا يشترط في ثبوته في حقه أن يكون شهد عنده بذلك اثنان، وهذا بين بحمد الله.
ويدل عليهَ أيضًا في مسألة خروج رمضان حديث أبي عمير بن أنس -رضي الله عنهما-: "أنَّ رَكْبا جَاءُوا إلى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَهِدُوا أَنَّهُم رَأَوْا هِلاَلَ الفِطْرِ بِالأمْسِ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُفْطِرُوا، وَإذا أصبحوا أن يَغدوا إلى مُصلاهم" رواه أحمد وأبو داود، وهذا لفظه، وإسناده صحيح.
فأفطر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمر بالإفطار ومن المعلوم أن المسلمين بالمدينة أفطروا بذلك ومستند إفطار أكثرهم ليس هو سماع لفظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإفطار، وإنما تبلغه الناس بعضهم من بعض، واكتفوا بمجرد ذلك من غير احتياج إلى أمر آخر وراء ذلك.
والنبي صلوات الله وسلامه عليه مُرَادُه من أَمْرِ الناس بذلك ليس هو أن يذهب اثنان ممن سمعوا أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقفان على كل فرد - من المسلمين يخبرانه بذلك.(3/28)
وأما إن لم يكن المخبر الآخذ من الراديو مستكمل الشروط التي تقدمت لم يسغ العمل بخبره.
لكن إذا علم صدق نفسه وكان ذلك هلال دخول رمضان فإنه يصوم وحده على ما صرح به الفقهاء -رحمهم الله- في كتبهم، إلا أن الشيخ تقي الدين ابن تيمية -قدس الله روحه- يرى الصوم. فهي مسألة خلاف، وهو مبني على أن الهلال هل هو اسم لما ظهر في السماء أو اسم لما اشتهر بين الناس؟ واختار هو رحمه الله الثاني.
وإن كان الهلال الذي لم يقبل خبره عنه هلال الفطر، فإنه يتعين عليه الصيام مع الناس. لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضحُونَ".
وعلم مما تقدم: أنه ليس لسامع الإذاعة السعودية عن طريق الراديو أن يعمل في نفسه بذلك، بل يرد الأمر إلى مرجعه كما تقدم؛ بل هذا حكم من رأى الهلال رؤية عين أن لا يعمل بذلك، بل عليه أن يرد ذلك إلى مرجعه، فإن ثبت برؤيته هلال فذاك، وإلا ففيه التفصيل السابق.
وإذا كان هذا في رؤية الهلال بالعين فكذلك في مسألة أخذه عن الإذاعة بطريق الراديو.
وأما كون الطريق في التبليغ بعض هذه الآلات المودعة القوى الكهربائية مثل اللاسلكي والإذاعة والراديو فلا يضر ذلك الخبر شيئًا، ولا يفت في اعتباره، لوجود القرائن الدالة الواضحة القوية على صدور ذلك.
وقد كان من المعلوم الاكتفاء بصوت الآلات النارية كالمدفع ونحوه وقد كان مما يستعمل سابقًا عند ملوك المسلمين إشعال نيران في مواضع خاصة منتظمة بعيد بعضها عن بعض بقدر ما يدرك من في الموضع الثاني ضوء تلك النار التي في الموضع الأول، ثم الثالث مع الثاني كذلك، وهكذا إلى آخر موضع، يعلمون بإشعال تلك النار أمورًا هامة بناءً على تعميد واعتماد من يشعل تلك النار، ومن يراها أن ذلك الأمر الهام قد حصل، وكإخبار بمسير عدو، وأمر مخوف، وغير ذلك.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه(3/29)
الاعتماد على الإذاعة في ثبوت الصوم والفطر
- وسئل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله (1) :
هل يعتمد في الأخبار الدينية كثبوت صوم وفطر، على الإذاعة السعودية، وهل حكمه كالبرقية في الاعتماد عليه؟
فأجاب: المسألة عندي فيها إشكال: لأني إذا نظرت إلى مجرد خبر المذيع، وأنه يخبر عن ثبوت ذلك الخبر الدِّيني، فالمُذِيع في الغالب مجهولة حالته من عدالة وغيرها وتثبت أو تسرع، وهذا مما يوقف عن الجزم بالاعتماد عليه، وإن نظرت إلى أن المذيع -من محطة جدة أو مكة- عليه مراقبة شديدة، ولا يجسر على مثل هذا الخبر إلا بعد ثبوته عند الحكومة ثُبوتًا رسميا، قربت خبره من خبر البرقية، فعلى هذا. أما القرينة والاحتياط إذا أمكن فهو اللازم، والجزم بِأَحَد الأمرين أتوقف فيه، وربما فيما يستقبل تعمل الحكومة عملا للمحال التي لا برقية فيها يتمكنون بها من الجزم بخبره.
إذا استمرت العادة أن لا يذاع إلا ما هو محقق
وما حكم من سمع الخبر من الإذاعة ولم يأخذ به
وسئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله (2) :
عن خبر الراديو في دخول رمضان وخروجه إذا كان في بلد ليس فيه لاسلكى: فهل يجب الصيام بقول إذاعة مكة؟
وكذلك ما حكم من سمع الإذاعة فأصبح مفطرًا؟
وكذلك ما حكم من لم يبلغه خبر الصيام بعد طلوع الشمس وهو لم يأكل ولم يشرب؟
فأجاب: الحمد لله. لا بأس من اعتماد خبر الراديو إذا استمرت العادة أنه لا يذاع إلا ما هو محقق وثابت؛ لأن القصد فيه الثبوت والتحقيق.
__________
(1) "الفتاوى السعدية" للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ص (217، 218) .
(2) "فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (4/169، 170) .(3/30)
فكل خبر يغلب على الظن صدقه لما حف به من القرائن وشواهد الأحوال فإنه يقبل.
وكل خبر يغلب على الظن كذبه لما يحف به من القرائن وشواهد الحال فإنه يرد.
لكن يشترط في سامع الخبر من الراديو عدالته ويقظته وتحققه عمّا سمعه وعن مصدره، وعن الإذاعة التي سمعه عنها؛ لاختلاف المحطات الصادر عنها ذلك الخبر في القبول وعدمه وذلك بسبب اختلاف المراجع، إذ منها ما يعتمد على خبره في أمور الدين ومنها ما هو بخلاف ذلك.
أما حكم من سمع الخبر من الإذاعة ولم يلتفت إليه بل أصبح مفطرًا فهذا يعذر؛ لخفاء مثل ذلك عليه، ولعدم استقرار الفتوى في ذلك.
أما الذي لم يبلغه الخبر إلا بعد طلوع الشمس وهو لم يأكل ولم يشرب فإنه يمسك حال وصول الخبر إليه، ويقضي هذا اليوم.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
- وسئل العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله-:
عن كتاب الحكم برؤية الهلال؟
فأجاب: الذي يظهر لي العمل به، والاعتماد عليه في ذلك، لأن الفقهاء ذكروا أنه إذا رؤي هلال رمضان بمكان، لزم جميع الناس الصوم، وإنما يثبت ذلك غالبًا في حق غير أهل موضع الرؤية، بإخبار الثقات فرعًا عن الأصل، وخطوط القضاة، بل أهل موضع الرؤية ليسوا كلهم يأتون إلى الشاهد برؤية الهلال ليسمعوا شهادته، بل يعتمدون على إخبار بعضهم بعضًا عن الشاهد، كشهادة الفرع على الأصل.
فإذا تقرر قبول خبر الفرع أو شهادته في ذلك، فكذلك كتاب القاضي لأن الفقهاء ذكروا أنه لا تقبل الشهادة على الشهادة، إلاَّ فيما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، وأن كتاب القاضي حكمه كالشهادة على الشهادة.
وكلامه في الكافي صريح في قبول الشهادة على الشهادة في ذلك، لما ذكر وجهين في قبول قول المرأة في هلال رمضان، قال في تعليل الوجه الثاني: ولهذا يقبل فيه شهادة(3/31)
الفرع مع الإمكان، ونظَّره صاحب الفروع، بقوله: كذا قال، والذي يظهر لي: أن تنظيره إنما هو لاعتبار لقبول شهادة الفرع، مع عدم إمكان شهادة الأصل، وكما قدمنا: أن المسلمين يعتمدون على ذلك مع الإمكان وعدمه، ولعلك وقفت على قول شارح الإقناع، عند قول الماتن، في حكم كتاب القاضي: لا يقبل في حد لله تعالى: كزنا ونحوه قال الشارح: وكالعبادات، ووجه ذلك: أنه لا مدخل لحكمه في عبادة، فكذا كتابه.
قال الشيخ تقي الدين: أمور الدين والعبادات المشتركة، لا يحكم فيها إلاَّ الله تعالى، ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إجماعًا، قال في الفروع عقيبه: فدل على أن إثبات سبب الحكم، كرؤية الهلال، والزوال، ليس بحكم ... الخ: فدل ذلك: أن كتاب القاضي بإثبات رؤية الهلال، ليس حكمًا في عبادة، ولا إثباتا لها وإنما هو لإثبات سببها، فلا ينافي كونه لا يقبل في عبادة، وكونه لا يحكم فيها: وقد صرحوا بأنه لا مدخل لحكمه في عبادة ووقت، وإنما هو فتوى، فدل كلامهم على أن إثباته لرؤية الهلال مثلاً فتوى، والفتوى يعمل فيها بالحظ، وإن كان كتابه: شهد عندي فلان وفلان مثلاً برؤية الهلال، ففرع على الأصل، لا فتوى (1) .
الصيام برؤية واحدة
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (2) :
هل يلزم المسلمين جميعًا في كل الدول الصيام برؤية واحدة؟
وكيف يصوم المسلمون في بعض بلاد الكفار التي ليس فيها رؤية شرعية؟!
فأجاب: هذه المسألة اختلف فيها أَهْلُ العلم أي إذا رُؤي الهلال في بلد من بلاد المسلمين وثَبتَت رؤيته شرعًا فهل يَلْزَم بقية المسلمين أن يعملوا بمقتضى هذه الرؤية فمن أهل العلم من قال إنه يلزمهم أن يعملوا بمقتضى هذه الرؤية واستدلوا بعموم قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] وبقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا رَأَيْتُمُوه فَصومُوا" قالوا والخطاب عام لجميع المسلمين.
__________
(1) "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" (5/310-312) .
(2) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/152-156) .(3/32)
ومن المعلوم أنه لا يراد به رؤية كل إنسان بنفسه لأن هذا متعذر وإنما المراد بذلك إذا رآه من يثبت برؤيته دخول الشهر.
وهذا عام في كل مكان، وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنه إذا اختلفت المطالع فلكل مكان رؤيته. وإذا لم تختلف المطالع، فإنه يجب على من لم يروه إذا ثبتت رؤيته بمكان يوافقهم في المطالع أن يعملوا بمقتضى هذه الرؤية.
واستدل هؤلاء بنفس ما استدل به الأولون فقالوا: إن الله تعالى يقول (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) .
ومن المعلوم أنه لا يراد بذلك رؤية كل إنسان بمفرده، فيعمل به في المكان الذي رؤي فيه، وفي كل مكان يوافقهم في مطالع الهلال أما من لم يوافقهم في مطلع الهلال فإنه لم يره لا حقيقة ولا حكما..
قالوا: وكذلك نقول في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا" فإن من كان في مكان لا يوافق مكان الرائي في مطالع الهلال لم يكن رآه لا حقيقة ولا حكما.
قالوا: والتوقيت الشهري كالتوقيت اليومي، فكما أن البلاد تختلف في الإمساك والإفطار اليومي فكذلك يجب أن تختلف في الإمساك والإفطار الشهري، ومن المعلوم أن الاختلاف اليومي له أثره، باتفاق المسلمين.
فمن كانوا في الشرق فإنهم يمسكون قبل من كانوا في الغرب ويفطرون قبلهم أيضًا.
فإذا حكمنا باختلاف المطالع في التوقيت اليومي، فإن مثله تماما في التوقيت الشهري.
ولا يمكن أن يقول قائل أن قوله تعالى: (فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] .
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا أَقْبَلَ الَّليل مِن هَاهُنا وأَدْبَر النَّهار من هَاهُنا وَغَرَبَت الشَّمْس فَقَد أَفْطَر الصَّائم" لا يمكن لأحد أن يقول: إن هذا عام لجميع المسلمين في كل الأقطار.(3/33)
وكذلك نقول في عموم قوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا".
وهذا القول كما ترى له قوته بمقتضى اللفظ والنظر الصحيح والقياس الصحيح أيضًا قياس التوقيت الشهري على التوقيت اليومي.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الأمر معلق بولي الأمر في هذه المسألة فمتى رأى وجوب الصوم أو الفطر مستندًا بذلك إلى مستند شرعي فإنه يُعمل بمقتضاه لئلا يختلف الناس ويتفرقوا تحت ولاية واحدة.
واستدل هؤلاء بعموم الحديث: "الصوم يوم يَصُوم الناس والفِطْر يوم يُفْطِر الناس".
وهناك أقوال أخرى ذكرها أهل العلم الذين ينقلون الخلاف في هذه المسألة.
وأما الشِّق الثاني من السؤال: وهو كيف يصوم المسلمون في بعض بلاد الكفار التي ليس بها رؤية شرعية. فإن هؤلاء يمكنهم أن يثبتوا الهلال عن طريق شرعي وذلك بأن يتراؤوا الهلال إذا أمكنهم ذلك فإن لم يمكنهم هذا فإنه متى ثبتت رؤية الهلال في بلد إسلامي فإنهم يعملون بمقتضى هذه الرؤية سواء رأوه أو لم يروه.
وإن قُلنا بالقول الثاني وهو اعتبار كل بلد بنفسه إذا كان يخالف البلد الآخر في مطالع الهلال ولم يتمكنوا من تحقيق الرؤية في البلد التي هم فيها فإنهم يعتبرون أقرب البلاد الإسلامية إليهم؛ لأن هذا أعلى ما يمكنهم العمل به.
إذا رؤي الهلال في المملكة هل يجب الصيام على أهل البلاد الأخرى؟
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله- (1) :
إذا رؤي الهلال في المملكة مثلاً، هل يجب على أهل البلاد الأخرى الصيام أم أنه يعتبر لكل أهل بلدة رؤيتهم؟
فأجاب: هذه مسألة خلافية.
__________
(1) "فتاوى الصيام" لابن جبرين ص (26، 27) .(3/34)
القول الأول: أنه إذا رؤي الهلال في بلد لزم أهل البلاد الأخرى أن يصوموا.
والذين قالوا هذا القول اعتبروا الشهر شهرًا واحدًا، ولم يعتبروا اختلاف المطالع، فإذا أهلّ الهلال على أهل المشرق صام برؤيته أهل المغرب، وكذا بالعكس هذه البلاد.
وقالوا: كيف نجعل شهر بلاد يتقدم على شهر البلاد الأخرى بيوم أو بيومين أو نحو ذلك مع أنهم كلهم مسلمون ويدينون بدين موحد.
القول الثاني: أن لكل أهل بلدة رؤيتهم.
وقد ذهب إلى هذا القول بعض العلماء منهم الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله-، وألّف في ذلك رسالة أيدها كذلك بالأحاديث.
ومن الأحاديث التي استدل بها أصحاب هذا القول قصة كريب: حيث سافر إلى الشام ثم رجع إلى المدينة في آخر رمضان، فسأله ابن عباس -رضي الله عنه- عما لقي حتى سأله عن الهلال.
فقال: متى رأيتموه؟ قال: رأيناه ليلة الجمعة وصمناه.
ثم قال: وهل صام أمير المؤمنين؟ قال: نعم.
فقال ابن عباس: لكنا لم نره إلا ليلة السبت فصمنا ولا نزال نصوم حتى نراه أو نكمله ثلاثين.
قال كريب: أولا تكتفي برؤية أمير المؤمنين وصيامه؟
قال: هكذا أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ففي هذا الحديث: أن ابن عباس جعل لأهل الشام رؤيتهم ولأهل المدينة رؤيتهم وأن كلاَّ منهم يصوم إذا أهلّ عليه الهلال.
القول الثالث: أن رؤية أهل المشرق رؤية لأهل المغرب ولا عكس؛ والسبب أنه إذا رؤي في المشرق لزم أن يُرى في المغرب ولابد؛ وذلك لأنه لا يغيب عن أهل المشرق قبل أن يغيب عن أهل المغرب.
وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وغيره.(3/35)
والراجح: القول الثاني: وهو أن لكل أهل بلدة رؤيتهم إذا كان هناك مسافة بين البلدتين يمكن أن يُرى في البلدة الأخرى. وهذا ما عليه العمل.
وبالله التوفيق.
رؤية الهلال في بلد هل تلزم البلاد الأخرى بالصيام؟
وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله- (1) :
إذا رأى المسلمون الهلال في بلد فهل يجب على المسلمين في البلاد الأخرى الصيام؟
فأجاب: لا نشك في اختلاف المطالع وتفاوت ما بين البلدين في رؤية الهلال، ولأجل هذا الاختلاف ترجّح عند كثير من العلماء أن لكل أهل بلد رؤيتهم إذا كان هناك تفاوت محسوس.
ودليلهم: قصة كريب مولى ابن عباس لما أهلّه رمضان وهو بالشام، فصام أهل الشام يوم الجمعة، ولم يُرَ الهلال في المدينة إلا ليلة السبت، فأخبر ابن عباس بأن معاوية وأهل الشام صاموا يوم الجمعة، فقال ابن عباس: لكنا صمنا يوم السبت فلا نزال نصومه حتى نرى الهلال أو نكمل ثلاثين، كذلك أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد رجَّح شيخ الإسلام ابن تيمية وجوب الصيام على أهل البلاد التي رأت الهلال، وعلى من كان أمامهم من البلاد، وحقّق أنه متى رؤي في بلدة فلا بد أن يرى في البلاد بعدها؛ لأنه يتأخر غروبه عن الشمس، وكلما تأخر ازداد بُعدا عن الشمس وتجليًّا وظهورًا، فإذا رؤي في البحرين مثلا وجب الصيام على البلاد التي بعدها كنجد والحجاز ومصر والمغرب، ولم يجب على ما قبلها كالهند والسند وما وراء النهر.
أهل القرية يلزمهم رؤية العاصمة
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2) :
هل يصح الصوم في قرية بعيدة من العاصمة على رؤية العاصمة، أم يجب علىَّ أن أتقيد برؤية أهل قريتي؟
__________
(1) "فتاوى الصيام" لابن جبرين ص (21) .
(2) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (6486) .(3/36)
فأجابت: إذا ثبتت الرؤية في العاصمة فإن أهل القرية المذكورة يعتمدون على هذه الرؤية ويصومون مع المسلمين.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
كيف يصوم الناس إذا اختلفت المطالع؟
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
كيف يصوم الناس إذا اختلفت المطالع؟ وهل يلزم أهل البلاد البعيدة كأمريكا واستراليا أن يصوموا على رؤية أهل المملكة، لأنهم لا يتراءون الهلال؟
فأجاب: الصَّواب اعتماد الرؤية وعدم اعتبار اختلاف المطالع في ذلك لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر باعتماد الرؤية ولم يفصّل في ذلك..
وذلك فيما صحّ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "صُومُوا لِرُؤيته وَأفطِرُوا لِرُؤْيته، فَإِن غُمَّ عَلَيكُم فَأكمِلوا العِدَّة ثَلاَثين" متفق علي صحته.
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تَصُوموا حَتَّى تَرَوا الهِلال أو تُكملوا العدة ولا تُفْطِروا حتى تَرَوا الهِلال أو تُكْمِلوا العِدَّة". والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ولم يشر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اختلاف المطالع، وهو يعلم ذلك.
وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أن لكل بلد رؤيته إذا اختلفت المطالع.
واحتجوا بما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه لم يعمل برؤية أهل الشام.
وكان في المدينة -رضي الله عنه- وكان أهل الشَّام قد رأوا الهلال ليلة الجمعة وصاموا بذلك في عهد معاوية -رضي الله عنه- أما أهل المدينة فلم يروه إلا ليلة السبت، فقال ابن عباس -رضي الله عنهما- لما أخبره كُريب برؤية أهل الشام وصيامهم: نحن رأيناه ليلة(3/37)
السبت فلا نزال نصوم حتى نراه أو نكمل العدة. واحتج بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "صُومُوا لِرُؤْيَتهِ
وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيتهِ" الحديث.
وهذا قول له حَظُّه من القُوة..
وقد رأى القول به أعضاء مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية.
جمعًا بين الأدلة والله ولي التوفيق (1) .
الصوم مع الدولة التي تقيم فيها
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله به باز -حفظه الله-:
إذا ثبت دخول شهر رمضان في إحدى الدول الإسلامية، كالمملكة العربية السعودية، وأعلن ذلك، ولكنه في الدولة التي أقيم بها لم يعلن عن دخول شهر رمضان، فما الحكم؟ هل نصوم بمجرد ثبوته في المملكة؟ أم نفطر معهم ونصوم معهم متى ما أعلنوا دخول شهر رمضان؟ وكذلك بالنسبة لدخول شهر شوال -أي يوم العيد- ما الحكم إذا اختلف الأمر في الدولتين وجزاكم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء؟
فأجاب: على المسلم أن يصوم مع الدولة التي هو فيها ويفطر معها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصَّوم يَوْم تَصُومون، وَالفِطْر يوم تُفْطِرون، والأَضْحَى يَوْم تضَحُّون" وبالله التوفيق (2) .
كل مسلم يصوم ويفطر مع مسلمي بلده
- وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله- (3) :
إذا ثبت دخول رمضان في إحدى الدول الإسلامية: كالمملكة مثلاً، في بلاد أخرى لم يعلن دخوله: فما الحكم؟ هل نصوم مع المملكة؟ وما الأمر إذا اختلف الأمر في الدولتين؟
فأجاب: كل مسلم يصوم ويفطر مع المسلمين الموجودين في بلده، وعلى المسلمين أن يهتموا برؤية الهلال في قطرهم الذي هم فيه، ولا يصوموا برؤية قطر آخر يبعد عن
__________
(1) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" لسماحة الشيخ ابن باز (163، 164) .
(2) "مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز" (3/175) .
(3) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/124) .(3/38)
قطرهم؛ لأن المطالع تختلف، وإذا قُدِّر أن بعض المسلمين في دولة غير إسلامية، وليس حولهم من المسلمين من يهتم برؤية الهلال: فلا بأس أن يصوموا مع المملكة العربية السعودية.
هل يمكن لأهل أفريقيا أن يصوموا برؤية أهل مكة
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية الإفتاء (1) :
هل يمكن أن يصوم أهل أفريقيا برؤية أهل مكة؟
فأجابت: قد صدر بهذه المسألة قرار من هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية هذا مضمونه:
أولاً: اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حسًّا وعقلاً ولم يختلف فيها أحد من العلماء، وإنما وقع الاختلاف بين علماء المسلمين في: اعتبار خلاف المطالع، وعدم اعتباره.
ثانيًا: مسألة اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال، والاختلاف فيها واقع ممن لهم الشأن في العلم والدين، وهو من الخلاف السائغ الذي يؤجر فيه المصيب أجرين: أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة، ويؤجر فيه المخطئ أجر الاجتهاد.
وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
- فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع.
- ومنهم من لم ير اعتباره.
واستدل كل فريق منهم بأدلة من الكتاب والسنة.
وربما استدل الفريقان بالنص الواحد كاشتراكهما في الاستدلال بقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة: 189] .
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (3686) .(3/39)
وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صُومُوا لِرُؤْيتهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيته" الحديث.
وذلك لاختلاف الفهم في النص وسلوك كل منهما طريقًا في الاستدلال به.
ونظرًا لاعتبارات رأتها الهيئة وقدرتها، ونظرًا إلى أن الاختلاف في هذه المسألة ليست له آثار تخشى عواقبها، فقد مضى على ظهور هذا الدين أربعة عشر قرنًا، لا نعلم فيها فترة جرى فيها توحيد الأمة الإسلامية على رؤية واحدة، فإن أعضاء مجلس هيئة كبار العلماء يرون بقاء الأمر على ما كان عليه، وعدم إثارة هذا الموضوع، وأن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما في المسألة، إذ لكل منهما أدلته ومستنداته.
ثالثًا: نظر مجلس الهيئة في مسألة ثبوت الأهلة بالحساب، وما ورد في الكتاب والسنة، واطلعوا على كلام أهل العلم في ذلك، فقرروا بإجماع عدم اعتبار حساب النجوم في ثبوت الأهلة في المسائل الشرعية.
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صُومُوا لِرُؤْيتهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيته" الحديث.
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْه، وَلاَ تفْطِرُوا حَتَّى تَرُوه.." الحديثَ وما في معنى ذلك من الأدلة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1) :
ما رأي الإسلام في اختلاف أعياد المسلمين الدينية عيد الفطر وعيد الأضحى علما بأن ذلك يؤدي إلى صوم يوم يحرم صيامه يوم عيد الفطر أو الإفطار في يوم يجب صومه؟ نرجو جوابًا شافيًا في هذه المسألة الخطيرة يكون حجة عند الله، وإذا كان ذلك الاختلاف محتمل حدوثه في يومين فإنه يحتمل في ثلاثة أيام وإذا كان الإسلام يرفض الاختلاف؛ فما الطريق الصحيح لتوحيد أعياد المسلمين؟
فأجابت: اتفق العلماء على أن مطالع الأهلة مختلفة وأن ذلك مما علم بالضرورة حسًّا
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتاوى رقم (388) .(3/40)
وعقلاً، ولكنهم اختلفوا في اعتبار ذلك في بدء صوم رمضان ونهايته، وعدم اعتباره على قولين:
- فمن أئمة الفقهاء من رأى اعتبار اختلاف المطالع في بدء صوم رمضان ونهايته.
- ومنهم من لم ير اعتباره في ذلك.
واستدل كل فريق بأدلة من الكتاب والسنة والقياس.
وربما استدل الفريقان بالنص الواحد كاشتراكهما في الاستدلال بقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] ، وقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة: 189] ، وبقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صُومُوا لِرُؤْيَتهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتهِ" الحديث، وذلك لاختلاف الفهم في النصوص وسلوك كل من الفريقين طريقًا في الاستدلال بها.
وبالجملة: فموضوع الاستفتاء في المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال، ولهذا اختلف فيه الفقهاء قديما وحديثًا، ولا حرج على أهل أي بلد إذا لم يروا الهلال ليلة الثلاثين أن يأخذوا برؤيته في غير مطلعهم متى ثبت ذلك لديهم، فإذا اختلفوا فيما بينهم أخذوا بحكم الحاكم في دولتهم -إن كان الحاكم مسلما- فإن حكمه بأحد القولين يرفع الخلاف، ويلزم الأمة العمل به، وإن لم يكن مسلمًا أخذوا بحكم مجلس المركز الإسلامي في بلادهم محافظة على الوحدة في صومهم رمضان وصلاتهم العيد في بلادهم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1) :
هناك خلاف كبير بين علماء المسلمين في تحديد بدء صوم رمضان وعيد الفطر المبارك، فمنهم من عمل بحديث "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، ومن العلماء من يعتمد على آراء الفلكيين حيث يقولون: إن علماء الفلك قد وصلوا إلى القمة في علم الفلك بحيث يمكنهم معرفة بداية الشهور القمرية، وعلى ذلك يتبعون التقويم؟
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (2036) .(3/41)
فأجابت: أولاً: القول الصحيح الذي يجب العمل به هو ما دل عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صُومُوا لِرُؤْيَتهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤيَتهِ فَإِن غُمَّ عَلَيكُم فَأكمِلوا العِدَّة) مع أن العبرة في بدء شهر رمضان وانتهائه برؤية الهلال فإن شريعة الإسلام التي بعث الله بها نبينا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامة خالدة مستمرة إلى يوم القيامة.
ثانيًا: أن الله تعالى علم ما كان وما سيكون من تقدم علم الفلك وغيره من العلوم، ومع ذلك قال (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] وبينه رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" الحديث. فعلق صوم شهر رمضان والإفطار منه برؤية الهلال ولم يعلقه بعلم الشهر بحساب النجوم مع علمه تعالى بأن علماء الفلك سيتقدمون في علمهم بحساب النجوم وتقدير سيرها.
فوجب على المسلمين المصير إلى ما شرعه الله لهم على لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من التعويل في الصوم والإفطار على رؤية الهلال.
وهو كالإجماع من أهل العلم، ومن خالف في ذلك وعول على حساب النجوم فقوله شاذ لا يعول عليه.
اختلاف مطالع الأهلة وأي الجهات أولى بالاتباع
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1) :
نحن الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة وكندا، يصادفنا في كل بداية لشهر رمضان مشكلة تسبب انقسام المسلمين إلى ثلاث فرق:
1- فرقة تصوم بتحري الهلال في البلدة التي يسكنون فيها.
2- فرقة تصوم مع بداية الصيام في المملكة العربية السعودية.
3- فرقة تصوم عند وصول خبر من اتحاد الطلبة المسلمين في أمريكا وكندا الذي يتحرى الهلال في أماكن متعددة في أمريكا، وفور رؤيته في إحدى البلاد يعمم على المراكز المختلفة برؤيته فيصوم مسلموا أمريكا كلهم في يوم واحد على الرغم من المسافات الشاسعة التي بين المدن المختلفة.
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء" فتوى رقم (1657) .(3/42)
فأي الجهات أولى بالاتباع والصيام برؤيتها وخبرها؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله؟
فأجابت: قد سبق أن نظر مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية هذه المسألة وأصدر فيها قرارًا مضمونه ما يلي:
أولاً: اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حسًّا وعقلا ولم يختلف فيها أحد من العلماء وإنما وقع الاختلاف بين علماء المسلمين في اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره.
ثانيًا: مسألة اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال والاختلاف فيها واقع ممن لهم الشأن في العلم والدين وهو من الخلاف السائغ الذي يؤجر فيه المصيب أجرين أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، ويؤجر فيه المخطيء أجر الاجتهاد.
وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع، ومنهم من لم ير اعتباره.
واستدل كل فريق منهم بأدلة من الكتاب والسنة، وربما استدل الفريقان بالنص الواحد، كاشتراكهما في الاستدلال بقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة: 189] وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صُومُوا لِرُؤْيَتهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤيَتهِ" الحديث، وذلك لاختلاف الفهم في النص وسلوك كل منهما طريقًا في الاستدلال به.
ونظرًا لاعتبارات رأتها الهيئة وقدرتها، ونظرًا إلى أن الاختلاف في هذه المسألة ليست له آثار تخشى عواقبها فقد مضى على ظهور هذا الدين أربعة عشر قرنًا، لا نعلم فيها فترة جرى فيها توحيد الأمة الإسلامية على رؤية واحدة، فإن أعضاء مجلس كبار العلماء يرون بقاء الأمر على ما كان عليه وعدم إثارة هذا الموضوع، وأن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما في المسألة، إذ لكل منهما أدلته ومستنداته.
ثالثًا: نظر مجلس الهيئة في مسألة ثبوت الأهلة بالحساب وما ورد في ذلك من أدلة في الكتاب والسنة واطلعوا على كلام أهل العلم في ذلك فقرروا بإجماع: عدم اعتبار(3/43)
حساب النجوم في ثبوت الأهلة في المسائل الشرعية لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صُومُوا لِرُؤْيَتهِ وأَفْطِرُوا
لِرُؤْيَتهِ" الحديث، وما في معنى ذلك من الأدلة.
وترى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أن اتحاد الطلبة المسلمين في الدول التي حكوماتها غير إسلامية يقوم مقام حكومة إسلامية في مسألة إثبات الهلال بالنسبة لمن يعيش في تلك الدول من المسلمين.
وبناء على ما جاء في الفقرة الثانية من قرار مجلس الهيئة يكون لهذا الاتحاد حق اختيار أحد القولين: إما اعتبار اختلاف المطالع، وإما عدم اعتبار ذلك، ثم يعمم ما رآه على المسلمين في الدولة التي هو فيها، وعليهم أن يلتزموا بما رآه وعممه عليهم؛ توحيدًا للكلمة، ولبدء الصيام وخروجًا من الخلاف والاضطراب، وعلى كل من يعيش في تلك الدول أن يتراءوا الهلال في البلاد التي يقومون فيها، فإذا رآه ثقة منهم أو أكثر صاموا بذلك، وبلغوا الاتحاد ليعمم ذلك. وهذا في دخول الشهر. أما في خروجه فلابد من شهادة عدلينْ برؤية هلال شوال أو إكمال رمضان ثلاثين يوما، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صُومُوا لِرُؤْيَتهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتهِ فَإِن غُم عَلَيكُم فَأكمِلوا العُدة ثَلاِثين يَومًا".
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
البلاد التي فيها النهار أطول من الليل والصيام
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1) :
تلقت رابطة العالم الإسلامي رسالة من الشيخ محمد دير منجى مبعوثها في كوبنهاجن -الدانمارك- يفيد فيها بأنه في بعض جهات الدول الاسكندنافية يكون النهار أطول من الليل بكثير على مدار السنة، حيث يكون الليل ثلاث ساعات فقط، في حين يكون النهار واحد وعشرين ساعة، وذكر أنه إذا صادف أن قدم شهر رمضان في الشتاء فإن المسلمين فيها يصومون مدة ثلاث ساعات فقط، وأما إذا كان شهر رمضان في فصل الصيف فإنهم يتركون الصوم لعدم قدرتهم عليه نظرًا لطول النهار. وطلب الشيخ دير منجى فتوى تحدد مواعيد الإفطار والسحور، والمدة
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (1442) .(3/44)
التي يصام فيها شهر رمضان لإعلانها للمسلمين في هذه البلاد، ويرجو التكرم بإصدار بيان شرعي في هذا الموضوع حتى يتسنى له على ضوئه إجابة المذكور باللازم؟
فأجابت: شريعة الإسلام كاملة وشاملة قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا) [المائدة: 3] وقال تعالى: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام: 19] وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) [سبأ: 28] .
وقد خاطب الله المؤمنين بفرض الصيام فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183] . وبين ابتداء الصيام وانتهائه، فقال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] ، ولم يخصص هذا الحكم ببلد ولا بنوع
من الناس، بل شرعه شرعًا عاما، وهؤلاء المسئول عنهم داخلون في هذا العموم، والله جل وعلا لطيف بعباده شرع لهم من طرق اليسر والسهولة ما يساعدهم على فعل ما وجب عليهم، فشرع للمسافر والمريض -مثلاً- الفطر في رمضان لدفع المشقة عنهما قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) الآية [البقرة: 185] فمن شهد رمضان من المكلفين وجب عليه أن يصوم سواء طال النهار أو قصر، فإن عجز عن إتمام صيام يوم وخاف على نفسه الموت أو المرض جاز له أن يفطر بما يَسُد رمقه ويدفع عنه الضرر، ثم يمسك بقية يومه وعليه قضاء ما أفطره في أيام أخر يتمكن فيها من الصيام.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
صيام من يطول نهارهم جدًا وكذا من يقصر نهارهم
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (1) :
__________
(1) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" لسماحة الشيخ ابن باز (164، 169) .(3/45)
كيف يصنع من يطول نهارهم إلى إحدى وعشرين ساعة هل يقدرون قدرًا للصيام وكذا ماذا يصنع من يكون نهارهم قصيرا جدًّا، وكذلك من يستمر عندهم النهار ستة أشهر والليل ستة أشهر؟
فأجاب: من عندهم لَيل ونهار في ظرف أربعٍ وعشرين ساعة فإنهم يصومون نهاره سواء كان قصيرًا أو طويلاً ويكفيهم ذلك والحمد لله ولو كان النهار قصيرًا.
أما من طال عندهم النهار أو الليل أكثر من ذلك كستة أشهر: فإنهم يقدرون للصيام وللصلاة قدرهما، كما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك في يوم الدجال الذي كسنة، وهكذا يومه الذي كشهر أو كأسبوع، يقدر للصلاة قدرها في ذلك.
وقد نظر مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة في هذه المسألة وأصدر القرار رقم: 61 بتاريخ 12/4/1398هـ ونصه ما يلي:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد: فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الثانية عشرة المنعقدة بالرياض في الأيام الأولى من شهر ربيع الآخر عام 1398هـ كتاب معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة رقم 555 وتاريخ 16/1/1398هـ المتضمن ما جاء في خطاب رئيس رابطة الجمعيات الإسلامية في مدينة (مالو) بالسويد الذي يفيد فيه بأن الدول الاسكندنافية يطول فيها النهار في الصيف ويقصر في الشتاء نظرًا لوضعها الجغرافي كما أن المناطق الشمالية منها لا تغيب عنها الشمس إطلاقًا في الصيف، وعكسه في الشتاء ويسأل المسلمون فيها عن كيفية الإفطار والإمساك في رمضان، وكذلك كيفية ضبط أوقات الصلوات في هذه البلدان. ويرجو معاليه إصدار فتوى في ذلك ليزودهم بها. ا. هـ.
وعرض على المجلس أيضًا ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ونقول أخرى عن الفقهاء في الموضوع، وبعد الاطلاع والدراسة والمناقشة قرر المجلس ما يلي:
أولاً: من كان يقيم في بلاد يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع فجر وغروب شمس إلا أن نهارها يطول جدُّا في الصيف، ويقصر في الشتاء، وجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعًا.(3/46)
لعموم قوله -تعالى-: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء: 78] وقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) [النساء: 103] .
ولما ثبت عن بريدة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن رجلاً سأله عن وقت الصلاة، فقال له: "صَلّ مَعَنا هَذَيْن" يعني اليومين، فلما زالت الشمس أمر بلالاً فأذن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر والشَمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر، فأنعم أن يبرد بها، وصلى العصر والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها. ثم قال: "أين السَّائِل عن وَقْت الصَّلاة؟ " فقال الرجل: أنا يا رسول الله. قال: "وَقت صَلاَتكم بَيْن مَا رَأَيْتُم" رواه البخاري ومسلم.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "وَقت الظُّهر إذا زَالَت الشَّمْس، وَكَان ظِلُّ الرَّجُل كَطُوله مَا لَم يَحْضُر العَصْر، وَوَقت العَصْر ما لم تصفر الشَّمْس، وَوَقت صَلاة المغرِب مَا لم يَغِب الشَّفَق، وَوَقت صَلاة العِشَاء إلى نِصف الَّليل الأَوْسَط، وَوَقت صَلاة الصبح من طُلُوع الفَجْر مَا لم تَطْلُع الشَّمس، فإذا طلعت الشمس، فَأمْسك عن الصَّلاة، فإنها تَطْلُع بين قَرني شيطان" أخرجه مسلم في "صحيحه".
إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في تحديد أوقات الصلوات الخمس قولاً وفعلاً، ولم تفرق بين طول النهار وقصره وطول الليل وقصره ما دامت أوقات الصلوات متمايزة بالعلامات التي بينها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هذا بالنسبة لتحديد أوقات صلاتهم وأما بالنسبة لتحديد أوقات صيامهم شهر رمضان.
فعلى المكلفين أن يمسكوا كل يوم منه عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في بلادهم ما دام النهار يتمايز في بلادهم من الليل، وكان مجموع زمانهما أربعًا وعشرين ساعة. ويحل لهم الطعام والشراب والجماع ونحوها في ليلهم فقط وإن كان قصيرًا فإن شريعة الإسلام عامة للناس في جميع البلاد.(3/47)
وقد قال الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] .
ومن عجز عن إتمام يوم بطوله أو علم بالأمارات أو التجربة أو إخبار طبيب أمين حاذق، أو غلب على ظنه أن الصوم يفضي إلى إهلاكه أو مرضه مرضًا شديدًا، أو يفضي إلى زيادة مرضه أو بطء برئه أفطر، ويقضي الأيام التي أفطرها في أي شهر تمكن فيه من القضاء.
قال تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] .
وقال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286] . وقال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَليْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج) [الحج: 78] .
ثانيًا: من كان يقيم في بلاد لا تغيب عنها الشمس صيفًا، ولا تطلع فيها الشمس شتاء أو في بلاد يستمر نهارها إلى ستة أشهر، ويستمر ليلها ستة أشهر مثلاً، وجب عليهم أن يصلوا الصلوات الخمس في كل أربع وعشرين ساعة، وأن يقدروا لها أوقاتها، ويحددوها معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم تتمايز فيها أوقات الصلوات المفروضة بعضها من بعض.
لما ثبت في حديث الإسراء والمعراج من أن الله تعالى فرض على هذه الأمة خمسين
صلاة كل يوم وليلة فلم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل ربه التخفيف حتى قال: "يَا محمد إِنَّهن خَمْسُ صَلَوات كُلّ يَوم وَلَيلة لِكُلِّ صَلاة عَشْر فَذَلِك خَمْسُون صَلاَة.." إلى آخره.
ولما ثبت من حديث طلحة بن عبيد الله -رضى الله عنه- قال: "جَاءَ رَجُل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أَهْل نجد ثَائِر الرأس، نَسمَعُ دَوِي صَوته وَلاَ نَفْقَه مَا يَقُول، حتى دنا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خَمْسُ صَلَواتٍ فِي اليَوْم والَّليلة"، فقال: هَل عَلَيَّ غَيرَهُنَّ؟ قال: "لاَ، إِلاَّ أن تَطَّوع.." الحديثَ.
ولما ثبت من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: نُهِينَا أَن نَسأَلَ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شيء فكان يُعْجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن(3/48)
نسمع فجاء رجل من أهل الباديةَ فقال: يا محمد أتانا رَسُولُك فَزَعَم أَنَّك تزعم أَنَّ الله أَرْسَلَك قال: "صَدَق" إلى أن قال: وَزَعَم رَسُولك أَنَّ عَلَينَا خَمْسُ صَلَوَاتٍ في يَوْمِنَا وَلَيلَتَنَا قال: "صَدَق"، قال: فَبَالَّذي أَرْسَلَك. آلله أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ: "نَعَم.." الحديث. وثبت أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدث أصحابه عن المسيح الدَّجال، فقالوا: ما لبثه في الأرض؟ قال: "أَربَعُونَ يوما: يَوْم كَسَنَة، وَيَوم كَشَهر، وَيَوم كَجُمُعَة وَسَائِر أَيامِه كَأَيَّامِكُم"، فقيل: يَا رَسولَ الله! اليَوم الذي كَسَنَة أَيَكْفِينا فِيه صَلاة يَوم؟ قال: "لا، أَقْدِرُوا لَهُ قَدْرَه".
فلم يعتبر اليوم الذي كسنة يومًا واحدًا يكفي فيه خمس صلوات، بل أوجب فيه خمس صلوات في كل أربع وعشرين ساعة، وأمرهم أن يوزعوها على أوقاتها اعتبارا بالأبعاد الزمنية التي بين أوقاتها في اليوم العادي في بلادهم، فيجب على المسلمين في البلاد المسئول عن تحديد أوقات الصلوات فيها أن يحددوا أوقات صلاتهم معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم يتمايز فيها الليل من النهار وتعرف فيها أوقات الصلوات الخمس بعلاماتها الشرعية في كل أربع وعشرين ساعة.
وكذلك يجب عليهم صيام شهر رمضان، وعليهم أن يقدروا لصيامهم فيحددوا بدء شهر رمضان ونهايته، وبدء الإمساك والإفطار في كل يوم منه ببدء الشهر ونهايته، وبطلوع فجر كل يوم وغروب شمسه في أقرب البلاد إليهم يتميز فيها الليل من النهار، ويكون مجموعهما أربعا وعشرين ساعة لما تقدم في حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المسيح الدجال وإرشاده أصحابه فيه عن كيفية تحديد أوقات الصلوات فيه إذ لا فارق في ذلك بين الصوم والصلاة.
والله ولي التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
"هيئة كبار العلماء"
حكم صوم من لا تطلع عندهم الشمس أيام الشتاء مطلقا
- وسئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله (1) :
__________
(1) "فتاوى وسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (4/160-161) .(3/49)
عن رجل يدرس في ألمانيا الغربية ويقول أن الشمس لا تطلع عندهم أيام الشتاء مطلقًا، وأما الصيف فالنهار عندهم تسع ساعات فقط ويسأل متى يكون فطرهم ومتى يكون إمساكهم؟
فأجاب: الحمد لله. أما الإمساك فقد قال الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] .
فما دام الليل باقيًا فلا حرج على من أكل أو شرب، والأصل بقاء الليل، فإذا تبين الفجر لزم الإمساك مع الاحتياط ببضع دقائق قبل تبين الفجر احتياطًا للعبادة.
وأما الفطر فالأصل بقاء النهار، فلا يفطر حتى يغلب على الظن غروب الشمس ويعرف ذلك بغشيان الظلام واختفاء أنوار الشمس، فإذا غلب على ظن الإنسان ذلك باجتهاده أو بخبر ثقة جاز له الفطر. ا. هـ
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ "ذكر الفقهاء حكم ما إذا اشتبهت الأشهر على أسير أو مطمور أو بمفازة ونحوها فإنه يتحرى ويجتهد في معرفة شهر رمضان وجوبًا كاستقبال القبلة. فإن وافق الشهر أو بعده أجزأ صيامه وإن وافق قبله لم يجزه. نص عليه الإمام أحمد، لأنه أدي العبادة قبل وقتها فلم يجزه كالصيام (1) .
العبرة في ابتداء الصيام في البلدة التي سافر منها وفي نهايته في البلدة التي قدم إليها
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2) :
ما دامت عدة ثلاثين يومًا على الأكثر. فهل عليه أن يلتزم بإكمال صيامه الذي بدأه في السعودية حسب رؤية شهر شوال في المملكة فقط حتى بعد وصوله إلى الهند، أو يواصل الصوم مع المسلمين هناك وبذلك يصوم اليوم الحادي والثلاثين واليوم الثاني والثلاثين وإذا أفطر خلال الرحلة مدة الفرق هذه مع المسلمين في الهند بعد وصوله؟ أفتوني مما علمكم الله وجزاكم الله خيرًا وأمدكم بالصحة والعافية؟
__________
(1) المصدر السابق (4/161-162) .
(2) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (5084) .(3/50)
فأجابت العبرة في ابتداء الصِّيام في البلد التي سافر منه، وفي نهايته في البلد التي قدم إليها. وإذا كان مجموع ما صامه ثمانية وعشرين يومًا وَجَبَ عليه قضاء يوم؛ لأن الشهر القمري لا يكون أقل من 29 يومًا، وإن كان قد أتم صيام ثلاثين يومًا في البلد الذي سافر إليه وبقى على أهل هذا البلد صيام يوم مثلاً وَجَبَ عليه أن يصوم معهم حتى يفطر بفطرهم يوم العيد ويُصَلِّي معهم يوم العيد. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله (1) :
ما الحكم في قوم يصومون رمضان ثلاثين يوما باستمرار؟
فأجاب: قد دلت الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإجماع أصحاب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين لهم بإحسان من العلماء على أن الشهر يكون ثلاثين ويكون تسعا وعشرين فمن صامه دائما ثلاثين من غير نظر في الأهلة فقد خالف السنة والإجماع، وابتدع في الدين بدعة لم يأذن بها الله. قال الله سبحانه: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) الآية [الأعراف: 3] . وقال سبحانه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) الآية [آل عمران: 31] .
وقال: (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر: 7] ، وقال عز وجل: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) [النساء: 13، 14] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وفى الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "صُومُوا لِرُؤْيَتهِ فَإِن غُم عَلَيكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ" متفق عليه. وفي رواية لمسلم: "فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلاَثين" وفي لفظ آخر في الصحيحين: "إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ فَصُومُوا وَإذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِن غُم عَلَيكُم فَعُدوا ثَلاَثين".
وفى صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "صُومُوا
__________
(1) "الفتاوى لابن باز - كتاب الدعوة" (2/155-157) .(3/51)
لِرُؤْيَتهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَته فَإِن غُم عَلَيكُم فَصُومُوا ثَلاَثين" وفي لفظ آخر "فَأكمِلوا العِدّة ثَلاَثين" وفي لفظ آخر "فَأكمِلوا شَعْبَان ثَلاَثين يومًا" وعن حذيفة -رضي الله عنه- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لاَ تَصُوموا حَتى تَرَوْا الهِلاَل أو تُكْمِلوا العِدة وَلا تفْطِروا حَتى تَرَوا الهِلاَل أو تكْمِلوا العِدة" رواه أبو داود والنسائي، بإسناد صحيح.
متى قامت البينة على دخول رمضان وجب الصوم
- سئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله- (1) :
إذا قامت البينة على دخول شهر رمضان، ولم يعلم الناس بهذه البينة إلا بعد أن أصبحوا مفطرين؟
فأجاب: إذا قامت البينة بدخول شهر رمضان، وجب الإمساك، والقضاء على كل من صار في أثناء ذلك اليوم مفطرًا وهو أهل للوجوب.
وقد ثبت أن أعرابيا قدم المدينة، وأخبر أنه رأى الهلال فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصوموا لرؤيته اعتمادًا على رؤية الأعرابي.
فأهل تلك البلدة إذا أصبحوا مفطرين ثم جاءهم الخبر في النهار وتحقق أن ذلك اليوم من رمضان، فإنهم يمسكون بقية النهار؛ لحرمة الزمان، ثم يقضون بعد ذلك.
ولا يقول أحد ما دمت سأقضي فلا حاجة إلى الإمساك بل نقول له يمسك لحرمة الزمان، فإن شهر رمضان له حرمة، فيمسك بقية النهار ولو لم يبق إلا ساعة واحدة، ثم يجب القضاء على من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه.
هذا هو الصحيح -إن شاء الله- وهو ما عليه الفتوى.
رأى هلال رمضان ورد القاضي شهادته مخافة الخطأ هل يصوم؟
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله- (2) :
__________
(1) "فتاوى الصيام" لابن جبرين (ص 22) .
(2) "فتاوى الصيام، لابن جبرين (ص 28-29) .(3/52)
إذا رأى إنسان هلال شهر رمضان وتحقق من رؤيته، ولما ذهب إلى القاضي رده ولم يقبل شهادته مخافة أنه قد أخطأ، فهل يجب عليه الصيام أم أنه يفطر؟
فأجاب: هذه مسألة خلافية بين أهل العلم:
فمنهم من قال: إنه يصوم حتى ولو أصبح الناس مفطرين؛ لأنه قد تحقق من دخول الشهر.
والقول الثاني: أنه إذا رأى هلال رمضان فإنه يفطر إذا كان الناس مفطرين واستدلوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صَوْمُكم يوم تَصُومون وفِطْرُكم يوم تُفْطِرون".
والراجح إن شاء الله: القول الثاني لاستدلالهم بالحديث المذكور.
لا يجوز للمسلم صيام يوم الثلاثين من شعبان إذا لم تثبت رؤية الهلال
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1) :
لو صام رجل يوم الثلاثين من شعبان من غير رؤية الهلال أو أفطره فهل يصح صومه أو لا مع الدليل؟
فأجابت: لا يجوز للمسلم صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم تثبت رؤية الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، إلا أن يوافق صومه إياه صوما كان يصومه، مثل من عادته صوم يوم الاثنين أو الخميس فيوافق ذلك يوم الثلاثين فله صومه مع أيام صامها من شعبان قبله، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تَقَدَّمُوا رَمَضَان بِصَوْم يوم ولا يومين إِلاَّ أن يَكُون رَجُل كَانَ يَصُوم صيامًا فَلُيَصُمه" رواه البخاري ومسلم.
نِيّة الصِّيام
- وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2) :
عن إمام جماعة بمسجد مذهبه حنفي ذكر لجماعته أن عنده كتابًا فيه أن الصيام في شهر
__________
(1) "مجموع فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (4442) .
(2) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/214) .(3/53)
رمضان إذا لم ينو بالصيام قبل عشاء الآخرة، أو بعدها أو وقت السحور، وإلاَّ فما له في صيامه أجر: فهل هذا صحيح؟ أم لا؟
فأجاب: الحمد لله. على كل مسلم يعتقد أن الصوم واجب عليه، وهو يريد أن يصوم شهر رمضان النية، فإذا كان يعلم أن غدا من رمضان فلابد أن ينوي الصوم، فإن النية محلها القلب، وكل من علم ما يريد فلابد أن ينويه. والتكلم بالنية ليس واجبا بإجماع المسلمين، فعامة المسلمين إنما يصومون بالنية، وصومهم صحيح بلا نزاع بين العلماء والله أعلم.
صائم رمضان هل يفتقر كل يوم إلى نية؟
- وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (1) :
ما يقول سيدنا في صائم رمضان، هل يفتقر كل يوم إلى نية؟ أم لا؟
فأجاب: كل من علم أن غدًا من رمضان، وهو يريد صومه، فقد نوى صومه، سواء تلفظ بالنية، أو لم يتلفظ. وهذا فعل عامة المسلمين، كلهم ينوي الصيام.
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين حفظه الله (2) :
هل نية الصيام كافية عن نية صوم كل يوم على حدة؟
فأجاب: من المعلوم أن كل شخص يقوم في آخر الليل ويتسحر، فإنه قد أراد الصوم ولا شك في هذا لأن كل عاقل يفعل الشيء باختياره لا يمكن أن يفعله إلا بإرادة، والإرادة هي النية فالإنسان لا يأكل في آخر الليل إلا من أجل الصوم ولو كان مجرد الأكل لم يكن من عادته أن يأكل في هذا الوقت. فهذه هي النية ولكن يحتاج إلى مثل هذا السؤال فيما لو قدر أن شخصا نام قبل غروب الشمس في رمضان وبقي نائمًا لم يوقظه أحد حتى طلع الفجر من اليوم التالي فإنه لم ينو من الليل لصوم اليوم التالي فهل نقول أن صومه اليوم التالي صوم صحيح بناء على النية السابقة؟
__________
(1) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمة" (25/215) .
(2) "الفتاوى لابن عيثمين - كتاب الدعوة" (1/144-145) .(3/54)
أو نقول: إن صومه غير صحيح لأنه لم ينوه من ليلته؟
نقول: إن صومه صحيح فإن القول الراجح أن نية صيام رمضان في أوله كافية لا يحتاج إلى تجديد النية لكل يوم اللهم إل أن يوجد سبب يبيح الفطر فيفطر في أثناء الشهر فحينئذ لابد من نية جديدة لاستئناف الصوم.
تَبيِيتُ النِّيَّة في الصوم
وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (1) :
رجل نام وبعد نومه أُعلن عن ثبوت رؤية هلال رمضان، ولم يكن قد بيَّت نية الصوم، وأصبح مفطرًا لعدم علمه بثبوت الرؤية، فما هو الواجب عليه؟
فأجاب: هذا الرجل نام أول ليلة من رمضان قبل أن يثبت الشهر ولم يبيت نية الصوم ثم استيقظ وعلم بعد أن طلع الفجر أن اليوم من رمضان فإنه إذا علم يجب عليه الإمساك، ويجب عليه القضاء، عند جمهور أهل العلم، ولم يخالف في ذلك -فيما أعلم- إلا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه قال: إن النية تتبع العلم، وهذا لم يعلم فهو معذور، فهو لم يترك تبييت النية بعد علمه ولكنه كان جاهلاً، والجاهل معذور، وعلى هذا فإذا أمسك من حين علمه فصومه صحيح ولا قضاء عليه. وأما جمهور العلماء فقالوا: إنه يجب عليه الإمساك، ويجب عليه القضاء وعللوا ذلك بأنه فاته جزء من اليوم بلا نية. والذي أرى أن الاحتياط في حقه أن يقضي هذا اليوم.
النية الجازمة للفطر بدون أكل أو شرب هل تفطر؟
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (2) :
هل النية الجازمة للفطر دون أكل وشرب هل يفطر بها الإنسان؟
فأجاب: من المعلوم أن الصوم جامع بين النية والترك فينوي الإنسان بصومه التقرب
__________
(1) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/473-474) .
(2) "فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (1/474-475) .(3/55)
إلى الله عز وجل بترك المفطرات، فإذا عزم على أنه قطع صومه فعلا فإن الصوم ينقطع ولكنه إذا كان في رمضان يجب عليه الإمساك حتى تغيب الشمس لأن كل من أفطر في رمضان بغير عذر لزمه الإمساك والقضاء وأما إذا لم يعزم ولكن تردد فموضع خلاف بين العلماء فمنهم من قال: إن صومه يبطل لأن التردد ينافي العزم، ومنهم من قال: إنه لا يبطل لأن الأصل بقاء نية الصوم حتى يعزم على تركها وإزالتها.
لا يجوز لمن نوى صوم القضاء وشرع فيه أن يقطعه
- وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان -حفظه الله- (1) :
من صام يوم القضاء: فهل يجوز قطعه، وكذلك صوم يوم النفل؟
فأجاب: لا يجوز للإنسان إذا نوى صوم القضاء وشرع فيه أن يقطعه؛ لأنه إذا نواه وبدأه وجب عليه إكماله؛ لأن الفرض الموسع إذا دخل فيه الإنسان فإنه يجب عليه إكماله، ولا يجوز له قطعه، وإنما التوسعة قبل أن يدخل فيه، فإذا دخل فيه فلا يجوز قطعه.
أما إذا صام النفل: فإنه يجوز له أن يقطعه، لأن صيام النفل لا يلزمه إتمامه ولكن الأفضل له إتمامه، وله أن يفطر، ولا حرج عليه في ذلك: فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل بيته وهو صائم صيام نفل، ولما وجد فيه طعاما أهدي إليهم أكل منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقطع صومه، فدل على أن صوم النافلة لا يلزم إتمامه.
حكم تعليق النية في صيام النفل
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله- (2) :
ما حكم تعليق النية في صيام النفل؟
فأجاب: تعليق النية في صيام النفل لا بأس به.
__________
(1) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/135) .
(2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 37) .(3/56)
كأن يقول: سوف أصوم حتى أجهد فإذا رأيت جهدًا أو مشقة أفطرت.
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
هل يصح أن ينوي الصائم -صيام نفل- نية الصيام بعد الزوال؟
فأجاب: صوم النَّفل مُوَسع فيه فيصح أن ينويه من النهار، واختلف الفقهاء: هل يصح بعد الزوال أو لا؟
من الفقهاء كصاحب "زاد المستقنع" من صحَّح نيته بعد الزوال، ومنهم من قال: لا يصح إلا قبل الزوال.
والراجح: أنه لا يكون إلا قبل الزوال أما بعد الزوال فقد مضى أكثر النهار والصوم بنية إنما يكون بنية معظم النهار، فإذا لم يبق إلا أقله فلا يحسب صيامه. ولابد من شرط وهو أن لا يكون أكل أول النهار.
فإذا أصبح المسلم ونيته الإفطار ولكن لم يتناول مفطِرًا، ولما كان في أثناء النهار عزم على إتمام ذلك النهار بإمساك: جاز ذلك.
ودليله: الحديث المشهور عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "هل عندكم شيء؟ " قالت: لا. قال: "إني إذًا صائم". فنوى الصيام في أثناء النهار مع أنه طلب الطعام ولو وجده لأكله، فلما لم يجده عزم على إكمال نهاره صائمًا (1) .
وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
هل يثاب الصائم نفلاً على الوقت الذي سبق نيته: مثلاً إذا نوى الصائم نفلاً الصوم بعد الزوال فهل الوقت الذي قبل الزوال يثاب عليه أم لا؟
فأجاب: الصَّحيح أن الثواب من النية فما بعد، لأن أول النهار الذي تركه لعدم الطعام يعتبر كترك عادي، فهو يثاب من حين العزم على الصيام لأنه بعد هذا العزم لو جاءه لتركه، لكونه قد عزم مع أن المتطوع أمير نفسه يجوز له أن يفطر بعدما نوى الصيام.
__________
(1) "فتاوى الصيام" لابن جبرين ص (38) .(3/57)
قالت عائشة رضي الله عنها: "دَخَلَ عَلَينا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنا: يَا رَسولَ الله أُهدِي لنا حيس. فقال: قربيه. فلقد أَصْبَحْتُ صَائِمًا. فأكل" (1) .
هل من نوى الإفطار يفطر؟
سئل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله (2) :
قولهم: ومن نوى الإفطار أفطر، هل هو وجيه؟
فأجاب: نعم هو وجيه؛ وذلك أن الصِّيام مركب من حقيقتين: النية وترك جميع المفطرات، فإذا نوى الإفطار، فقد اختلت الحقيقة الأولى وهي أعظم مقومات العبادة، فالأعمال كلها لا تقوم إلا بها.
ومعنى قولهم: أفطر، معناه: أنه حكم له بعدم الصيام، لا بمنزلة الآكل والشارب، كما فسروا مرادهم.
ولذلك لو نوى الإفطار وهو في نفل، ثم بعد ذلك أراد أن ينوي الصيام قبل أن يحدث شيئًا من المفطرات، جاز له ذلك، ولكن أجره وصيامه المثاب عليه من وقت نيته فقط، وإن كان الذي نوى الإفطار في فرض، فإن ذلك اليوم لا يجزئه ولو أعاد النية قبل أن يفعل مفطرا؛ لأن الفرض شرطه أن النية تشمل جميعه من طلوع فجره إلى غروب شمسه، بخلاف النفل.
وهنا فائدة يحسن التنبيه عليها، وهي أن قطع نية العبادة نوعان:
* نوع لا يضره شيء: وذلك بعد كمال العبادة. فلو نوى قطع الصلاة بعد فراغها أو الصيام، أو الزكاة، أو الحج أو غيرها بعد الفراغ، لم يضر؛ لأنها وقعت وحلت محلها، ومثلها لو نوى قطع نية طهارة الحدث الأكبر أو الأصغر بعد فراغه من طهارته، لم تنتقض طهارته.
* والنوع الثاني: قطع نية العبادة في حال تلبسه بها، كقطعه نية الصلاة وهو فيها،
__________
(1) المصدر السابق ص (38-39) .
(2) "الفتاوى السعدية" للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ص (228، 229) .(3/58)
والصيام وهو فيه، أو الطهارة وهو فيها، فهذا لا تصح عبادته ومتى عرفت الفرق بين الأمرين، زال عنك الإشكال.
- وسئل سماحة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله حفظه الله (1) :
من المعلوم أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حث على صيام الأيام البيض، وصيام من كل شهر ثلاث أيام:
فكيف نجمع بينهما؟ هل نصوم ستة أيام أم ثلاثة؟ وجزاكم الله خيرا.
فأجاب: نعم: قد حث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على صيام ثلاثة أيام من كل شهر وحث على صيام أيام البيض، وهي اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر.
وسميت أيام البيض: لبياض لياليها بالقمر.
وقد اختلف العلماء في الجمع بين الحديثين الواردين في فضل صيام هذه الأيام: فقيل: المراد أن الأفضل أن يجعل هذه الثلاثة في أيام البيض، وإن صامها في غيرها من الشهر فلا بأس.
وقيل: إن المراد أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ويصوم أيام البيض أيضًا، فيكون المجموع ستة أيام من الشهر.
والأول أرجح، والله أعلم؛ لأن من صام أيام البيض فقد صام ثلاثة أيام من كل شهر.
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
هل يجوز للشخص أن يشرك النية في عمل واحد أو لعمل واحد فمثلاً يكون عليه قضاء يوم من شهر رمضان وجاء عليه يوم وقفة عرفة فهل يجوز أن ينوي صيام القضاء والنافلة في هذا اليوم وتكون نيته أداء القضاء ونيته الأخرى للنافلة، أو أن يجمع الحج والعمرة في وقت الحج؟ أفتونا أفادكم الله وجزاكم الله خير الجزاء؟
فأجابت: لا حرج أن يصوم يوم عرفة عن القضاء ويجزئه عن القضاء ولكن لا يحصل له مع ذلك فضل صوم عرفة؛ لعدم الدليل على ذلك.
وأما دخول العمرة في الحج فقد نص عليه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دَخَلَت العُمْرة في
__________
(1) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/149، 150) .(3/59)
الحَجِّ إلى يَوْم القيامة".
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
وقت الإمساك، والأكل بعد طلوع الفجر
وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية الإفتاء:
قرأت في تفسير المنار للشيخ رشيد رضا "الجزء الأول" وذكر فيه أن الصائم يمسك قبل أذان الفجر بثلث ساعة، أي بمقدار عشرين دقيقة ويسمي ذلك إمساكًا احتياطيًّا، فما هو المقدار بين الإمساك وأذان الفجر في رمضان، وما حكم من يسمع المؤذن يقول الصلاة خير من النوم ويشرب ما دام لم ينته من الأذان فهل يصح؟
ما حكم من يسمع المؤذن يؤذن لصلاة الصبح ويشرب هل يصح صومه أم لا، والبعض من الناس يجلس على الكيرم والورق وشرب الدخان إلى وقت الأذان، وقام يشرب بدليل أنه يجوز وقد أخبرني بعض الشباب أنه يسمعني وأنا أؤذن للصبح ويقوم إلى الماء يشرب فما حكم من يفعل ذلك عمدًا؟
فأجابت: الأصل في الإمساك للصائم وإفطاره، قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] .
فالأكل والشرب مباح إلى طلوع الفجر وهو الخيط الأبيض الذي جعله الله غاية لإباحة الأكل والشرب فإذا تبين الفجر الثاني حرم الأكل والشرب وغيرها من المفطرات، ومن شرب وهو يسمع أذان الفجر فإن كان الأذان بعد طلوع الفجر الثاني فعليه القضاء وإن كان قبل الطلوع فلا قضاء عليه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (2) .
__________
(1) "فتاوى اللجنة" فتوى رقم: (13019) .
(2) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (6468) .(3/60)
الأكل والشرب بعد الأذان
وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (1) :
هل يجوز للإنسان أن يأكل ويشرب بعد الأذان؟
فأجاب إذا كان المؤذن لا يؤذن إلا بعد طلوع الفجر فإنه لا يجوز الأكل بعده لقول الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة: 187] .
ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ بِلاَلاً يُؤَذن بِلَيلٍ فَكُلوا واشْرَبُوا حَتى يِؤذن ابن أُمّ مَكْتُوم فَإنه لا يُؤذن حَتَّى يَطْلع الفَجْر".
أما إذا كان المؤذن يؤذن بالتحري وليس يشاهد الفجر فإن الاحتياط ألا تأكل بعد سماع الأذان.
ولكن الجزم بأن هذا -الأكل بعد الأذان المبني على التحري- الجزم بأن صومه فاسد غير مستطاع لدي، لأن الفجر لم يتبين تبينًا يمتنع معه الأكل لكن لا شك أن الاحتياط أن يتوقف الإنسان إذا سمع أذان الفجر.
الكف عن السحور عند بدء أذان الفجر
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
هل يجب علينا الكف عن السحور عند بدء أذان الفجر، أم يجوز لنا الأكل والشرب حتى ينتهي المؤذن؟
فأجاب إذا كان المؤذن معروفًا بأنه لا ينادي إلا على الصبح فإنه يجب الكف عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من حين يؤذن.
أما إذا كان الأذان بالظن والتحري حسب التقاويم فإنه لا حرج في الشرب أو الأكل
__________
(1) "فتاوى ابن عثيمين" (1/525-526) .(3/61)
وقت الأذان. لما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إِن بِلالاً يُؤَذن بِلَيل، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادي
ابن أم مَكْتُوم".
قال الراوي في آخر هذا الحديث "وكَان ابْن أمّ مكْتوم رَجلا أَعْمَى، لا ينَادِي حَتّى يُقَال له: أَصْبَحْت أصْبَحْت" متفق على صحته.
والأحوط للمؤمن والمؤمنة الحرص على إنهاء السحور قبل الفجر عملا بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دع ما يريبك إلا ما لا يريبك".
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من اتَّقَى الشُبُهات فَقَد استَبرَأ لِدِينه وَعِرضِه".
أما إذا علم أن المؤذن ينادي بليل لتنبيه الناس على قرب الفجر، كفعل بلال فإنه لا حرج في الأكل والشرب حتى ينادي المؤذنون الذين يؤذنون على الصبح عملا بالحديث المذكور (1) .
لا يمسك عن الطعام حتى نهاية الأذان
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
يحدث ومن عدة سنوات أنهم لا يمسكون عن الطعام حتى نهاية الأذان، فما حكم عملهم هذا؟
فأجاب: الأذان لصلاة الفجر إما أن يكون بعد طلوع الفجر أو قبله، فإن كان بعد طلوع الفجر فإنه يجب على الإنسان أن يمسك بمجرد سماع النداء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِنَّ بِلاَلا يُؤَذن بِلَيل فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسمَعُوا أَذَانْ ابن أُم مَكتُوم، فإنه لا يُؤَذنَ حَتَّى يَطْلُع الفَجْرُ" فإذا كنت تعلم أن هذا المؤذن لا يؤذن إلا إذا طلع الفجر، فأمسك بمجرد أذانه، أما إذا كنت تعلم أن هذا المؤذن يؤذن بناء على ما يعرف من التوقيت أو بناء على ساعته، فإن الأمر في هذا أهون.
وبناء على هذا، نقول لهذا السائل: إن ما مضى لا يلزمكم قضاؤه، لأنكم لم تتيقنوا
__________
(1) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" لسماحة الشيخ ابن باز (ص 170) .(3/62)
أنكم أكلتم بعد طلوع الفجر، لكن في المستقبل ينبغي للإنسان أن يحتاط لنفسه، فإذا سمع المؤذن فليمسك (1) .
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
نود أن نعرف حكم أكل وشرب من شك في طلوع الفجر؟
فأجاب: يجوز للإنسان أن يأكل ويشرب حتى يتبين له الفجر؛ لقول الله تعالى: (فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] .
فما دام لم يتيقن أن الفجر قد طلع، فله الأكل، ولو كان شاكا حتى يتيقن، بخلاف من شك في غروب الشمس، فإنه لا يأكل حتى يتيقن غروب الشمس أو يغلب على ظنه غروب الشمس (2) .
هل للصائم الفطر بمجرد الغروب؟
- وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
عن غروب الشمس: هل يجوز للصائم أن يفطر بمجرد غروبها؟
فأجاب: إذا غاب جميع القرص أفطر الصائم، ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق.
وإذا غاب جميع القرص ظهر السواد من المشرق، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا أَقْبَل الليل مِن هَهُنا، وأَدْبَر النَهار مِن هَهُنَا وغَرَبت الشَّمْس فَقَد أَفْطَر الصَّائم" (3) .
هل يتابع الصائم المؤذن في الأذان أم يستمر في فطره؟
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
__________
(1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/533) .
(2) "فقه العبادات" لابن عثيمين (ص 190) .
(3) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/215، 216) .(3/63)
هل هناك دعاء مأثور عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند وقت الإفطار وما هو وقته؟
وهل يتابع الصائم المؤذن في الأذان أم يستمر في فطره؟
فأجاب نقول إن وقت الإفطار موطن إجابة للدعاء لأنه في آخر العبادة ولأن الإنسان أشد ما يكون غالبًا من ضعف النفس عند إفطاره.
وكلما كان الإنسان أضعف نفسًا وأرق قلبًا كان أقرب إلى الإنابة والإخبات إلى الله عز وجل.
والدعاء المأثور: "اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرت".
ومنه أيضًا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلت العُرُوق وَثَبُتَ الأَجْرُ إنْ شاء الله".
وهذان الحديثان، وإن كان فيهما ضعف لكن بعض أهل العلم حسَّنهما.
وعلى كل حال: فإذا دعوت بذلك، أو بغيره عند الإفطار فإنه موطن إجابة، وأما إجابة المؤذن وأنت تفطر: فنعم مشروعة؛ لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذَا سَمِعْتُم المؤُذِّنَ فَقُولوا مِثْلَمَا يَقُول" يشمل كل حال من الأحوال إلا ما دل الدليل على استثنائه، والذي دل على استثنائه إذا كان يصلي وسمع المؤذن، فإنه لا يجيب المؤذن، لأن في الصلاة شغلاً، كما جاء به الحديث.
على أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله عليه- يقول: إن الإنسان يجيب المؤذن ولو كان في الصلاة لعموم الحديث، ولأن إجابة المؤذن ذكرٌ مشروع ولو أن الإنسان عطس وهو يصلي يقول: الحمد لله، ولو بشر بولد أو بنجاح ولد وهو يصلي يقول: الحمد لله نعم: يقول الحمد لله ولا بأس وإذا أصابك نزغ من الشيطان وفتح عليك باب الوساوس فتستعيذ بالله منه وأنت تصلي.
لذا نأخذ من هذا قاعدة: وهو أن كل ذكر وُجِدَ سببه في الصلاة فإنه يقال؛ لأن هذه الحوادث يمكن أن نأخذ منها عند التتبع قاعدة.
لكن مسألة إجابة المؤذن -وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول بها- أنا في نفسي منها شيء، لماذا؟(3/64)
لأن إجابة المؤذن طويلة توجب انشغال الإنسان في صلاته انشغالاً كثيرًا والصلاة لها ذكرٌ خاص لا ينبغي الشغل عنه.
فنقول: إذا كنت تفطر وسمعت الأذان تجيب المؤذن.
بل قد تقول: إنه يتأكد عليك أكثر لأنك تتمتع الآن بنعمة الله وجزاء هذه النعمة الشكر ومن الشكر إجابة المؤذن فتجيب المؤذن ولو كنت تأكل ولا حرج عليك في هذا.
وإذا فرغت من إجابة المؤذن فصلِّ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقل: "اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامة والصّلاة القَائِمَة آتِ مُحَمدًا الوَسِيلَة وَالفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مقَامًا مَحْمُودًا الذي وَعَدته" (1) .
بلاد يتأخر فيها الغروب كيف يفطر أهلها؟
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
نحن في بلاد لا تغرب الشمس فيها إلا الساعة التاسعة والنصف مساءًا أو العاشرة فمتى نفطر؟
فأجاب: تفطرون إذا غربت الشمس فما دام لديكم ليل ونهار في 24 ساعة فيجب عليكم الصوم ولو طال النهار (2) .
الإفطار بغروب الشمس
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
يطول النهار في بعض البلاد طولاً غير معتاد يصل إلى عشرين ساعة أحيانًا، هل يطالب المسلمون في تلك البلاد بصيام جميع النهار؟
فأجاب: نعم يطالبونْ بصيام جميع النهار؛ لقول الله تعالى: (فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] .
__________
(1) "فتاوى ابن عثيمين" (1/531، 532) .
(2) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/160-161) .(3/65)
ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا أَقْبَل الليل مِن هَهنَا وَأَدْبَر النَّهار مِن هَهنا وغَرَبَت الشَّمْس فَقَد أَفْطَر
الصُّائم" (1) .
راكب الطائرة متى يفطر؟
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (*) :
الصائم إذا كان في الطائرة واطلع بواسطة الساعة وبالتليفون عن إفطار البلد القريب منه فهل له الإفطار؟ علمًا بأنه يرى الشمس بسبب ارتفاع الطائرة،أم لا؟ ثم كيف الحكم إذا أفطر بالبلد ثم أقلعت به الطائرة فرأى الشمس؟
فأجابت: إذا كان الصائم في الطائرة واطلع بواسطة الساعة والتليفون عن إفطار البلد القريبة منه وهو يرى الشمس بسبب ارتفاع الطائرة فليس له أن يفطر: لأن الله تعالى قال: (ثُم أَتمُّوا الصيَامَ إِلَى الَّليلِ) [البقرة: 187] .
وهذه الغاية لم تتحقق في حقه ما دام يرى الشمس. وأما إذا أفطر بالبلد بعد انتهاء النهار في حقه فأقلعت الطائرة ثم رأى الشمس فإنه يستمر مفطرًا لأن حكمه حكم البلد التي أقلع منها وقد انتهى النهار وهو فيها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
المسافر في الطائرة متى يفطر؟
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية الإفتاء (* *) :
شخصان من سكان الدمام أقلعت بهما الطائرة من مطار الظهران ضمن ركابها قبل غروب الشمس بعشر دقائق في شهر رمضان متجهة إلى جازان، وارتفعت الطائرة بنحو تسعة وعشرين ألف قدم عن سطح الأرض، وبعد مضي خمس وثلاثين دقيقة والطائرة تحلق في سماء الرياض.
وبهذا التوقيت أهل الرياض يفطرون وركاب الطائرة لا يزالون يشاهدون الشمس وربما يمضي
__________
(1) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/160-161) .
(*) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (1693) .
(* *) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (2254) .(3/66)
أكثر من ربع ساعة وهم لا يزالون يشاهدونها. فهل يحل لركاب الطائرة الإفطار وأمثالهم؟ أفتونا أثابكم الله.
فأجابت: الأصل أن لكل شخص في إمساكه في الصيام وإفطاره وأوقات صلاته حكم الأرض التي هو عليها أو الجو الذي يسير فيه.
فمن غربت عليه الشمس في مطار الظهران مثلاً أفطر أو صلى المغرب وأقلعت به الطائرة متجهة إلى الغرب ورأى الشمس بعد باقية فلا يلزمه الإمساك، ولا إعادة صلاة المغرب؟ لأنه وقت الإفطار أو الصلاة له حكم الأرض التي هو عليها.
وإن أقلعت به الطائرة قبل غروب الشمس بدقائق واستمر معه النهار فلا يجوز له أن يفطر ولا أن يصلي المغرب حتى تغرب شمس الجو الذي يسير فيه حتى ولو مر بسماء بلد أهلها قد أفطروا وصلوا المغرب وهو في سمائها يرى الشمس، كما ورد في السؤال من حال الشخصين اللذين مرا صائمين بسماء الرياض وقت الإفطار، وركاب الطائرة لا يزالون يشاهدون الشمس وهذا هو مقتضى الأدلة الشرعية.
قال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخيطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثم أَتمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ) [البقرة: 187] .
وقال تعالى: (أقم الصلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّليلِ وَقرآنَ الْفَجرِ إِنَّ قرآنَ الفجرِ كَانَ مَشْهودًا) [الإسراء: 78] .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا أَقْبَلَ الَّليل مِن هَا هُنا وَأَدْبَر النَّهَار مِنْ هَا هُنا، وَغَربَت الشَّمْس: فَقَد أَفْطَر الصَّائِم".
ولكن لو نزلوا في مكان قد غربت فيه الشمس صار لهم حكم أهل ذلك المكان في الصوم مدة وجودهم فيه.
وباللَّه التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والاٍفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(3/67)
لا يلزمه الإفطار
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
من ركب الطائرة وقد غربت الشمس فأفطر ثم رآها بعد إقلاع الطائرة فهل يمسك؟
فأجاب: جوابنا على هذا: أنه لا يلزمهم الإمساك؟ لأنه حان وقت الإفطار وهم في الأرض فقد غربت الشمس وهم فى مكان غربت منه.
وقد قال بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أقْبَل الَّليلُ مِنْ هَا هُنا وَأَدْبَر النَهار مِنْ هَا هُنا وَغرَبَتِ الشَمْس فَقَدْ أفْطَر الصائِم".
فإذا كانوا قد أفطروا فقد انتهى يومهم وإذا انتهى يومهم فإنه لا يلزمهم الإمساك إلا في اليوم الثاني.
وعلى هذا: فلا يلزمهم الإمساك في هذه الحالة لأنهم أفطروا بمقتضى دليل شرعي فلا يلزمهم الإمساك إلا بدليل شرعي.
كيف يفطر من يؤذن المغرب في بلده وهو في الطائرة يرى الشمس لم تغرب
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله- (*) :
ستقلع بنا الطائرة بإذن الله تعالى من الرياض في رمضان قبل أذان المغرب بساعة تقريباً، وسيؤذن للمغرب ونحن في أجواء السعودية، فهل نفطر؟
وإذا رأينا الشمس ونحن في الجو وهذا -هو الغالب- فهل نظل على صيامنا ونفطر في بلدنا، أم نفطر بمجرد الأذان في السعودية؟
فأجاب: إذا أقلعت الطائرة من الرياض مثلا قبل غروب الشمس إلى جهة المغرب، فإنك لا تزال صائما حتى تغرب الشمس وأنت في الجو أو تنزل في بلد قد غابت فيها الشمس.
__________
(*) "مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز" (3/195، 196) .(3/68)
لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر
الصائم) . متفق على صحته.
من أسلم وسط نهار رمضان وجب عليه الإمساك
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظهْ الله- (1) :
إذا أسلم رجل بعد مضي أيام من شهر رمضان، فهل يطالب بصيام الأيام السابقة؟!
فأجاب: هذا لا يطالب بصيام الأيام السابقة لأنه كان كافرًا فيها، والكافر لا يطالب بقضاء ما فاته من الأعمال الصالحة لقول الله تعالى (قُل للَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَر لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ) [الأنفال: 38] ، ولأن الناس كانوا يسلمون في عهد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يكن يأمرهم بقضاء ما فاتهم من صوم ولا صلاة ولا زكاة. ولكن لو أسلم في أثناء النهار فهل يلزمه الإمساك والقضاء؟ أو الإمساك دون القضاء؟ أو لا يلزمه إمساك ولا قضاء؟ في هذه المسألة خلاف يين أهل العلم.
والقول الراجح: أنه يلزمه الإمساك دون القضاء، فيلزمه الإمساك لأنه صار من أهل الوجوب، ولا يلزمه القضاء لأنه قبل ذك ليس من أهل الوجوب. فهو كالصبي إذا بلغ في أثناء النهار، فإنه يلزمه الإمساك ولا يلزمه القضاء على القول الراجح في هذه المسألة.
إذا أفطر لعذر وزال العذر في نفس النهار هل يواصل أم يمسك؟
- وسئل فضيلة الضيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
إذا أفطر لعذر وزال العذر في نفس النهار فهل يواصل الفطر أم يمسك؟
فأجاب: إنه لا يلزمه الإمساك لأن هذا الرجل استباح هذا اليوم بدليل من الشرع فحرمة هذا اليوم غير ثابتة في حق هذا الرجل ولكن عليه أن يعيده وإلزامنا إياه أن يمسك بدون فائدة له شرعاً ليس بصحيح.
__________
(1) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/158، 159) .(3/69)
ومثال ذلك: رجل رأى غريقا في الماء وقال إن شربت أمكنني إنقاذه وإن لم أشرب لم أتمكن من إنقاذه.
فنقول: اشرب وأنقذه فإذا شرب وأنقذه فهل يأكل بقية يومه؟ نعم يأكل بقية يومه؛ لأن هذا الرجل استباح هذا اليوم بمقتضى الشرع فلا يلزمه الإمساك. ولهذا لو كان عندنا إنسان مريض هل نقول لهذا المريض لا تأكل إلا إذا جعت ولا تشرب إلا إذا عطشت؟ لا. لماذا؟ لأن هذا المريض أبيح له الفطر، فكل من أفطر في رمضان بمقتضى دليل شرعي فإنه لا يلزمه الإمساك والعكس بالعكس.
لو أن رجلاً أفطر بدون عذر وجاء يستفتينا: أنا أفطرت وفسد صومي هل يلزمني الإمساك أو لا يلزمني؟ قلنا يلزمك الإمساك لأنه لا يحل لك بأن تفطر فقد انتهكت حرمة اليوم بدون إذن من الشرع فنلزمك بالبقاء على الإمساك وعليك القضاء لأنك أفسدت صوماً واجباً شرعت فيه.
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (1) :
ينتشر عند كثير من الناس أن الإنسان إذا رأى صائما يأكل أن لا يذكره فما مدى صحة هذا الكلام، وكيف يصنع من يرى صائماً يأكل؟
فأجاب: إذا رأى صائماً يأكل فليذكره؛ لأن هذا من باب التعاون على البر والتقوى، كما لو رأى الإنسان شخصًا مصليّا إلى غير القبلة، أو رأى شخصا يريد أن يتوضأ بماء نجس، أو ما أشبه ذلك، فإنه يجب عليه تبيين الأمر له، والصائم وإن كان معذورا لنسيانه لكن أخوه الذي يعلم بالحال يجب عليه أن يذكره.
ولعل هذا يؤخذ أيضًا من قول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني"
فإنه إذا كان يذكر الناسي في الصلاة فكذلك الناسي في الصوم يذكر.
__________
(1) "فقه العبادات لابن عثيمين" (ص 195-196) .(3/70)
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (*) :
إذا رؤي صائم يأكل أو يشرب في نهار رمضان ناسيا فهل يذكر أم لا؟
فأجاب: من رأى صائمًا يأكل أو يشرب في نهار رمضان فإنه يجب عليه أن يذكره لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين سها في صلاته: "فَإِذا نَسِيت فَذَكروني" والإنسان الناسي معذور لنسيانه، لكن الإنسان الذاكر الذي يعلم أن هذا الفعل مبطل لصومه ولم يدل عليه يكون مقصراً لأن هذا أخوه فيجب أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
والحاصل: أن من رأى صائماً يأكل أو يشرب في نهار رمضان ناسياً فإنه يذكره، وعلى الصائم أن يمتنع من الأكل فوراً.
ولا يجوز له أن يتمادى في أكله أو شربه، بل لو كان في فمه ماء أو شيء من طعام فإنه يجب عليه أن يلفظه، ولا يجوز له ابتلاعه بعد أن ذَكَرَ أو ذُكِّر أنه صائم.
وأنني بهذه المناسبة أود أن أبين أن المفطرات التي تفطر الصائم، لا تفطره في ثلاث
حالات:
1- إذا كان ناسيًا. 2- وإذا كان جاهلاً. 3- وإذا كان غير قاصد.
فإذا نسي فأكل أو شرب فصومه تام لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه".
وإذا أكل أو شرب يظن أن الفجر لم يطلع أو يظن أن الشمس قد غربت ثم تبين أن الأمر خلاف ظنه فإن صومه صحيح لحديث أسماء بنت أبي بكر- رضي الله عنهما- قالت: "أفطرنا في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم غيم ثم طلعت الشمس، ولم يأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقضاء".
ولو كان القضاء واجبًا لأمرهم به ولو أمرهم به لنقل إلينا لأنه إذا أمرهم به صار من شريعة الله وشريعة الله لابد أن تكون محفوظة بالغة إلى يوم القيامة.
وكذلك إذا لم يقصد فعل ما يفطر فإنه لا يفطر، كما لو تمضمض فنزل الماء إلى جوفه فإنه لا يفطر بذلك لأنه غير قاصد.
__________
(*) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/164-166) .(3/71)
وكما لو احتلم وهو صائم فأنزل فإنه لا يفسد صومه لأنه نائم غير قاصد وقد قال الله عز وجل: (وَلَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأتم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) [الأحزاب: 5] .
هل يؤمر الصبي المميز بالصيام؟
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
هل يؤمر الصبي المميز بالصيام؟
وهل يجزئ عنه لو بلغ في أثناء الصيام؟
فأجاب: الصبيان والفتيات إذا بلغوا سبعًا فأكثر يؤمرون بالصيام ليعتادوه وعلى أولياء أمورهم أن يأمروهم بذلك كما يأمرونهم بالصلاة فإذا بلغوا الحلم وجب عليهم الصوم.
وإذا بلغوا في أثناء النهار أجزأهم ذلك اليوم، فلو فرض أن الصبي أكمل الخامسة عشرة عند الزوال وهو صائم ذلك اليوم أجزأه ذلك، وكان أول النهار نفلاً وآخره فريضة إذا لم يكن بلغ قبل ذلك بإنبات الشعر الخشن حول الفرج وهو المسمى العانة، أو بإنزال المني عن شهوة.
وهكذا الفتاة الحكم فيهما سواء، إلا أن الفتاة تزيد أمرًا رابعًا يحصل به البلوغ وهو الحيض (1) .
حكم صيام من يعقل زمنًا ويُجَن زمنًا آخر
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (*) :
ما حكم صيام من يعقل زمنا ويجن زمنا آخر، أو يعقل زمنا ويخرف أو يهذري مرة أخرى؟
فأجاب: الحكم يدور مع علته، ففي الأوقات التي يكون فيها صاحيًا عاقلاً، يجب عليه الصوم، وفي الأوقات التي يكون فيها مجنونًا مهذريًا لا صوم عليه، فلو فرض أنه يجن يومًا ويفيق يومًا، أو يهذري يومًا ويصحو يومًا، ففى اليوم الذي يصحو فيه يلزمه الصوم، وفي اليوم الذي لا يصحو فيه لا يلزمه الصوم (2) .
__________
(1) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" لسماحه الشيخ ابن باز (ص 160، 161) .
(*) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/179، 180) .
(2) "فقه العبادات" لابن عثيمين (ص 187) .(3/72)
وسئل أيضا فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (*) :
لكن لو حدث له أثناء النهار مثلاً: كان عاقلاً ثم ذهب عقله؟
فأجاب: فإذا جُنَّ في أثناء النهار بطل صومه؟ لأنه صار من غير أهل العبادة، وكذلك إذا هذر في أثناء اليوم فإنه لا يلزمه الإمساك ولكنه يلزمه القضاء، وكذلك الذي جن في أثناء النهار يلزمه القضاء، لأنه فى أول النهار كان من أهل الوجوب.
فاقد الذاكرة والمعتوه والصبي والمجنون هل يجب عليهم الصوم؟
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (* *) :
فاقد الذاكرة هل يجب عليه الصيام والمعتوه والصبي والمجنون؟
فأجاب إن الله سبحانه وتعالى أوجب على المرء العبادات إذا كان أهلاً للوجوب بأن يكون ذا عقل يدرك به الأشياء، وأما من لا عقل له، فإنه لا تلزمه العبادات، وبهذا لا تلزم المجنون، ولا تلزم الصغير الذي لا يميز، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى، ومثله المعتوه الذي أُصيب بعقله على وجه لم ييلغ حد الجنون.
ومثله أيضا: الكبير الذي بلغ فقدان الذاكرة كما قال هذا السائل، فإنه لا يجب عليه صوم ولا صلاة ولا طهارة؟ لأن فاقد الذاكرة هو بمنزلة الصبي الذي لم يميز، فتسقط عنه التكالف فلا يلزم بطهارة، ولا يلزم بصلاة، ولا يلزم أيضا بصيام.
وأما الواجبات المالية، فإنها تجب في ماله وإن كان في هذه الحال فالزكاة مثلاً يجب على من يتولى أمره أن يخرجها من مال هذا الرجل الذي بلغ هذا الحد؛ لأن وجوب الزكاة يتعلق بالمال كما قال الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِم صَدَقَةً تُطَهرهُم وَتزَكيهِم بِهَا) [التوبة: 103] ، قال تعالى: (خذ من أموالهم) ولم يقل خذ منهم.
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ حينما بعثه إلى اليمن: "أعلمهم أن الله فرض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم".
__________
(*) "فقه العبادات" لابن عثيمين (ص 187) .
(* *) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/490، 491) .(3/73)
فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صدقة في أموالهم" فبين أنها في المال وإن كانت تؤخذ من صاحب المال.
وعلى كل حال: الواجبات المالية لا تسقط عن شخص هذه حاله، أما العبادات البدنية كالصلاة والطهارة والصوم: فإنها تسقط عن مثل هذا الرجل لأنه لا يعقل.
وأما من زال عقله بإغماء من مرض، فإنه تجب عليه الصلاة، على قول أكثر أهل العلم، فإذا أُغمي على المريض لمدة يوم أو يومين فلا قضاء عليه لأنه ليس عليه عقل وليس كالنائم الذي قال فيه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها"؛ لأن النائم معه إدراك بمعنى أنه يستطع أن يستيقظ إذا أوقظ وأما هذا المغْمي عليه فإنه لا يستطيع أن يفيق إذا أوقظ -هذا إذا كان الإغماء ليس بسبب منه-.
أما إذا كان الإغماء بسبب منه كالذي أغمي عليه من البنج فإنه يقضي الصلاة التي مضت عليه وهو في حال الغيبوبة.
كلما أراد أن يصوم أغمى عليه هل له الفطر؟!
- وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (1) :
عن رجل كلما أراد أن يصوم أُغمى عليه، ويَزبد ويخبط، فيبقى أيامًا لا يفيق، حتى يتهم أنه جُنُون. ولم يتحقق ذلك منه؟
فأجاب: الحمد لله. إن الصوم يوجب له مثل هذا المرض، فإنه يفطر ويقضي، فإن كان هذا يصيبه في أي وقت صام، كان عاجزًا عن الصيام، فيطعم عن كل يوم مسكينًا، والله أعلم.
صيام المرأة الكبيرة التي يشق عليها الصوم
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (2) :
المرأة الكبيرة إذا كان الصيام يضرها هل تصوم؟
__________
(1) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/217) .
(2) "فتاوى الشيخ صالح العثيمين" (1/488-489) .(3/74)
فأجاب: إذا كان الصوم يضر بها كما ذكر السائل فإنه لا يجوز لها أن تصوم؛ لأن الله تعالى يقول في القرآن: (وَلاَ تَقْتُلُو أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء: 29] .
(وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلى الْتَّهْلُكَة) [البقرة: 195] .
فلا يجوز لها أن تصوم والصوم يضر بصحتها، وما دامت طاعنة في السن فإن الغالب أنها لن تقدر على الصوم في المستقبل.
وحينئذٍ تطعم عن كل يوم مسكينًا، فإما أن تدفع إلى المساكين ذلك الطعام ومقداره ربع صاع من البُر أو نصف صاع من غيره والأرز مثل البُرّ؛ لأن انتفاع الناس به كانتفاعهم بالبر بل أبلغ إذ أنه لا يحتاج إلى كلفة ولا مشقة كما يحتاج إليها البر وإما أن تصنع طعاما ويدعى إليه مساكين بعدد أيام الشهر وبذلك تبرأ ذمتها والله أعلم.
متى يسقط صيام رمضان عن الكبير
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله- (1) :
متى يسقط صيام رمضان عن الكبير؟
فأجاب: متى عجز الكبير عن الصيام سقط عنه وانتقل إلى الإطعام، وعليه يُحْمَل قوله تعالى: (وعَلَىَ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسكِين) [البقرة: 184] ، فإن بلغ سنًا لا عقل ولا معرفة لديه سقط عنه على الصحيح إلى غير بدل لإلحاقه بمن رُفِعَ عنه القلم، فهو أولى بالسقوط عن الصغير.
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
يوجد عندنا امرأة كبيرة السن لا تطيق الصوم فماذا تفعل؟
فأجاب: عليها أن تطعم مسكينًا عن كل يوم نصف صاع من قوت البلد من تمر أو أرز أو غيرهما، مقداره بالوزن كيلو ونصف على سبيل التقريب كما أفتى بذلك جماعة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومنهم ابن عباس -رضي الله عنه وعنهم-، فإن كانت فقيرة لا
__________
(1) "فتاوى الصيام" لابن جبرين (ص 80) .(3/75)
تستطيع الإطعام فلا شيء عليها، وهذه الكفارة يجوز دفعها لواحد أو أكثر في أول الشهر أو وسطه أو آخره وبالله التوفيق (1) .
صيام المريض الذي لا يرجى برؤه
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
هل يجب الصيام على المريض الذي لا يرجى برؤه؟
فأجاب: المريض الذي لا يرجى برؤه يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا.
قال تعالى: (وَعَلَى الذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسكِين) [البقرة: 184] .
يقول بعض العلماء: إن هذه الآية في الشيخ الكبير والمريض الذي لا يرجى بُرؤُه فيفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا.
وقد نُقِل ذلك عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- كابن عباس وغيره من الصحابة، وفعل ذلك أنس في آخر حياته.
فدل ذلك على أن عندهم فيه دليلاً: فإن أنسا لما كبر سنه، قبل موته بسنتين أو بثلاث صعب عليه الصوم، فكان إذا دخل رمضان جمع ثلاثين مسكينا، وأطعمهم حتى يشبعوا وأكتفى بذلك عن الصوم (2) .
- وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-:
الدكتور الذي يأمر بالإفطار، هل يسمع أي دكتور كان أو يشترط فيه أن يكون مسلمًا؟
فأجاب: إذا كان الطيب متخصصا في المهنة وصادقا فيها، وقال للمريض إن الصوم يضرك فإنه يفطر ولو كان الطيب غير مسلم -إذا لم يوجد غيره- وخصوصًا إذا كان المريض بحاجة إلى الفطر (3) .
__________
(1) "مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز" (3/235، 236) .
(2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (81، 82) .
(3) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (1/34) .(3/76)
قبول خبر الطبيب المسلم العدل. وغير المسلم والمسلم غير العدل
- وسئل العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله-:
عن رجل يذكر أنه مصاب بمرض السل، ويعالج منه مدة سنتين وألزمه الأطباء بترك الصيام شهري رمضان، وخوفوه بأنه إذا صام انتكس عليه المرض، وكذلك أعطوه تقريرًا بترك الصيام خمس سنوات. إلى آخر ما ذكر. ويستفتي عن حكم ترك الصيام هذه المدة؟
فأجاب: الحمد لله. قال الله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمهَ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَو عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ منْ أَيام أُخَرَ) [البقرة: 185] . أي ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام أو يؤذيه أو كان في حال سفر فله أن يفطر، وعليه قضاء عدة ما أفطره من الأيام، ولهذا قال الله تعالى: (يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسرَ وَلاَ يرُيدُ بِكُمُ الْعُسرَ) [البقرة: 185] ونص العلماء على أنه إذا أخبر طبيب مسلم ثقة بأن الصيام مما يضر بهذا المريض أو يمكن منه العلة أو يبطئ البُرء ونحو ذلك فإن ترك الصيام في مثل هذه الحالة جائز شرعاً. فإن كان الطبيب غير مسلم أو مسلما لكنه غير عدل فلا يقبل قوله إلا عند الضرورة مثل ألا يتمكن من سؤال غيره فإذا وجدت الضرورة وحفت القرائن على صدق غير المسلم ونحوه بأن يحس المريض من نفسه بذلك أو يكون مشتهرا أن هذا المرض مما يتمكن بالصيام ويصعب برؤه، فحينئذ يجوز ترك الصيام حتى يعافيه الله ويقوى عليه بدون ضرر. أما ما مضى من الأشهر فعليك قضاؤها بعد البرء ولا كفارة في تأخيرها لأن تركك لها لاستمرار المرض معك. والسلام عليكم (1) .
- وسئل أيضًا العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله-:
مريض مصاب بدرن رئوي، ومعه شهادة من الطبيب المختص ينصحه بعدم الصيام خمس سنوات متتاليات، ويسأل عن الحكم في ذلك؟
فأجاب: الحمد لله. قبول قول الطيب المسلم الثقة في هذه الأمور سائغ يجوز تأخير الصيام في المدة المذكورة عملا بقوله. وأما غير المسلم الثقة فلعله يسوغ قبول قوله في مثل
__________
(1) "فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (4/182، 183) .(3/77)
هذه المسألة مدة المعالجة وما بعدها بزمن غير طويل للضرورة وهي عدم وجود الطبيب المسلم الثقة، وبخلاف ما بعد المعالجة بزمن طويل، لا سيما مع إحساس الإنسان من نفسه بتمام البرء والنشاط والقوة على الصيام وغلبة ظنه أن الصيام لا يسبب زيادة المرض أو تأخير البرء (1) .
وسئل أيضًا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله- (2) :
أيهما أفضل: الصوم أم الفطر في السفر؟
فأجاب: يجوز في السفر الصوم والفطر ولا يعيب من صام على من أفطر ولكن مع المشقة والتعب يفضل الفطر لقوله تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185] ، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحابته صاموا سنة ثمانٍ حتى قيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، ثم أفطروا ليتقوّوا على قتال عدوهم، فإذا احتاج الصائم إلى خدمة غيره فالفطر أفضل ما دام مسافرا، وعليه يُحْمَل حديث: "ذهب المفطرون اليوم بالأجر".
سفر القصر، وسفر الطاعة والمعصية، والسافر في رمضان هل ينكر عليه؟
- وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
عن المسافر في رمضان، ومن يصوم يُنْكر عليه، ويُنْسب إلى الجهل، ويقال له: الفطر أفضل؟
وما هو مسافة القصر؟
وهل إذا أنشأ السفر من يومه يفطر؟
وهل يفطر السفار من المكارية والتجار والجمال والملاح وراكب البحر؟
وما الفرق بين سفر الطاعة، وسفر المعصية؟
فأجاب: الحمد لله. الفطر للمسافر جائز باتفاق المسلمين، سواء كان سفر حج، أو
__________
(1) "فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (4/183، 184) .
(2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 77) .(3/78)
جهاد، أو تجارة أو نحو ذلك من الأسفار التي لا يكرهها الله ورسوله.
وتنازعوا في سفر المعصية كالذي يسافر ليقطع الطريق ونحو ذلك، على قولين مشهورين، كما تنازعوا في قصر الصلاة.
فأما السفر الذي تقصر فيه الصلاة: فإنه يجوز فيه الفطر مع القضاء باتفاق الأئمة، ويجوز الفطر للمسافر باتفاق الأمة، سواء كان قادرًا على الصيام أو عاجزًا، وسواء شق عليه الصوم، أو لم يشق، بحيث لو كان مسافرًا في الظل والماء ومعه من يخدمه جاز له الفطر والقصر.
ومن قال: إن الفطر لا يجوز إلا لمن عجز عن الصيام فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكذلك من أنكر على المفطر، فإنه يستتاب من ذلك.
ومن قال: إن المفطر عليه إثم، فإنه يستتاب من ذلك، فإن هذه الأحوال خلاف كتاب الله، وخلاف سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخلاف إجماع الأمة.
وهكذا السنة للمسافر أنه يصلي الرباعية ركعتين، والقصر أفضل له من التربيع عند الأئمة الأربعة: كمذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد والشافعي في أصح قوليه.
ولم تتنازع الأمة في جواز الفطر للمسافر؛ بل تنازعوا في جواز الصيام للمسافر: فذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الصائم فى السفر كالمفطر في الحضر، وأنه إذا صام لم يجزه بل عليه أن يقضي، ويروى هذا عن عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وغيرهما من السلف، وهو مذهب أهل الظاهر.
وفي "الصحيحين" عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس من البر الصوم فى السفر" لكن مذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز للمسافر أن يصوم، وأن يفطر، كما في الصحيحين عن أنس قال: كنا نسافر مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان فمنا الصائم، ومنا المفطر، فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم".
وقد قال الله تعالى: (مَن كَانَ مَرِيضا أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّْة مْن َأيَّام أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسرَ) [البقرة: 185] .(3/79)
وفي المسند عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن الله يحب أن يؤخذ برخصه. كما يكره أن تؤتى معصيته".
وفي الصحيح أن رجلا قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني رجل أكثر الصوم أفأصوم في السفر؟
فقال: "إن أفطرت فحسن، وإن صمت فلا بأس".
وفي حديث آخر "خياركم الذين في السفر يقصرون ويفطرون".
وأما مقدار السفر الذي يقصر فيه ويفطر:
- فمذهب مالك والشافعي وأحمد أنه مسيرة يومين قاصدين بِسَير الإبل والأقدام، وهو ستة عشر فرسخا، كما بين مكة وعسفان، ومكة وجدة.
- وقال أبو حنيفة: "مسيرة ثلاثة أيام".
- وقال طائفة من السلف والخلف: بل يقصر ويفطر في أقل من يومين.
وهذا قول قوي، فإنه قد ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بعرفة، ومزدلفة ومنى، يقصر الصلاة، وخلفه أهل مكة وغيرهم يصلون بصلاته، لم يأمر أحدا منهم بإتمام الصلاة.
وإذا سافر في أثناء يوم، فهل يجوز له الفطر؟
على قولين مشهورين للعلماء، هما روايتان عن أحمد.
أظهرهما: أنه يجوز ذلك.
كما ثبت في السنن أن من الصحابة من كان يفطر إذا خرج من يومه ويذكر أن ذلك سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نوى الصوم في السفر، ثم إنه دعا بماء فأفطر، والناس ينظرون إليه.
وأما اليوم الثاني: فيفطر فيه بلا ريب، وإن كان مقدار سفره يومين في مذهب جمهور الأئمة والأمة.
وأما إذا قدم المسافر في أثناء يوم ففي وجوب الإمساك نزاع مشهور بين العلماء، لكن عليه القضاء سواء أمسك أو لم يمسك.(3/80)
ويفطر من عادته السفر، إذا كان له بلد يأوي إليه، كالتاجر الجلاب الذي يجلب الطعام، وغيره من السلع، وكالمكاري الذي يكري دوابه من الجلاب وغيرهم وكالبريد الذي يسافر في مصالح المسلمين، ونحوهم، وكذلك الملاح الذي له مكان في البر يسكنه.
فأما من كان معه في السفينة امرأته، وجميع مصالحه، ولا يزال مسافرا فهذا لا يقصر، ولا يفطر.
وأهل البادية: كأعراب العرب، والأكراد، والترك، وغيرهم الذين يشتون في مكان، ويصيفون في مكان، إذا كانوا في حال ظعنهم من المشتى إلى المصيف، ومن المصيف إلى المشتى: فإنهم يقصرون.
وأما إذا نزلوا بمشتاهم، ومصيفهم، لم يفطروا، ولم يقصروا. وإن كانوا يتتبعون المراعي، والله أعلم (1) .
السفر المبيح للفطر
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (2) :
ما السفر المبيح للفطر؟
فأجاب: السفر المبيح للفطر وقصر الصلاة هو 83 كم تقريبا، ومن العلماء من لم يحدد مشاقة للسفر بل كل ما هو في عرف الناس سفر فهو سفر، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سافر ثلاثة فراسخ قصر الصلاة، والسفر المحرم ليس مبيحا للقصر ولا للفطر لأن سفر المعصية لا تناسبه الرخصة، وبعض أهل العلم لا يفرق بين سفر المعصية وسفر الطاعة لعموم الأدلة، والعلم عند الله.
متى يبدأ المسافر بالفطر؟
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
__________
(1) "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/209-213) .
(2) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/179-180) .(3/81)
متى يبدًا المسافر بالفطر؟ هل يفطر إذا شد رحله أو يفطر إذا فارق البلد؟
فأجاب: روي عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنه أفطر عندما شد رحله قبل أن يفارق البلد، وقال: إن ذلك السنة، فقال له صحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف تفطر وأنت ترى الدور ولا تزال بين القصور؟ فقال: أترغبون عن سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
وآخرون قالوا: ما دام يمشي بين البيوت المسكونة فإنة لا يكون على سفر والله تعالى يقول: (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) [البقرة: 184] . ولا يكون على سفر حتى يفارق العامر، ومثله القصر في الصلاة يقول الفقهاء في تحديد بداية القصر: إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه.
وأما قول أبي الدرداء: إن هذا من السنة. المراد به: الفطر في جنس السفر، فالاختيار أنه يفطر إذا فارق البلد.
ولعل عذر أبي الدرداء، مشقة النزول إذا خرج من البلد، ومشقة حط الرحل وإصلاح الأكل، ولعل ذلك كان في شدة الحر أو في آخر النهار وقد شق عليهم جمع الرحل ورفق على الدواب ونحو ذلك (1) .
الصيام في السفر بالوسائل المريحة
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله-:
نحن الآن في زمن توفرت فيه وسائل النقل المريحة من طائرات وسيارات وقطارات، والصائم بحمد الله يسافر المسافات الطويلة دون أن يحس بتعب وخاصة إذا سافر بالطائرة. فما الأفضل له في هذه الحالة، الصيام أم الفطر؟ فأجاب: المسافر مخير بين الصوم والفطر وظاهر الأدلة الشرعية أن الفطر أفضل، ولا سيما إذا شق عليه الصوم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "ليس من البر الصوم في السفر": وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته"، ومن صام، فلا حرج عليه إذا لم يشق عليه الصوم فإن شق عليه الصوم كره له ذلك والله ولي التوفيق (2) .
__________
(1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 80) .
(2) "الفتاوى لابن باز - كتاب الدعوة" (2/168-169) .(3/82)
- وسئل أيضًا فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-:
نعيش الآن في زمن توفرت فيه وسائل النقل المريحة، ويمكن للصائم أن يسافر لمسافات طويلة دون أن يحس بتعب، فما الأفضل للإنسان المسافر أن يصوم أو يفطر؟
فأجاب: رُخَص السفر من قصر الصلاة والإفطار في رمضان رخص عامة في جميع حالات السفر ولو اختلفت وسائله، وتوفر الراحة أحيانًا بسبب ما استجد من وسائل السفر لا تغير هذا الحكم؛ لأن هذه الوسائل المريحة لا تدوم ولأن الراحة لا تحصل لكل المسافرين؛ فقد يعرض لهذه الوسائل من الخلل والعطل أو تغير الاتجاه ما يتعب المسافرين أكثر مما لو كانوا على الوسائل القديمة.
وعلى كل حال: فمسألة الترخص للمسافر تتبع الأرفق به، فإن كان الأرفق به الإفطار؛ أفطر، وإن كان الأرفق به الصيام؛ صام، كلا الأمرين جائز بالنسبة إليه، والأفضل في كل حال الأخذ بالرخصة، لأن الله سبحانه يحب أن تؤتى رخصه (1) .
- وسئل أيضًا فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
يقول إذا كنت مسافرًا في رمضان وكنت مفطرًا في سفري وعند وصولي إلى البلد الذي سأمكث فيه عدة أيام أمسكت بالصيام في بقية ذلك اليوم وفي الأيام التالية فهل لي رخصة في الإفطار في نهار هذه الأيام وأنا في بلد ليس في بلدي الأصلي أم لا؟
فأجاب: نعم يجوز للمسافر إذا صام في سفره أن يفطر في أثناء النهار ولا حرج عليه كما أفطر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حال السفر (2) .
نوى الصيام ثم سافر في أثناء النهار هل له أن يفطر؟
- وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-:
إذا نوى حاضر صوم يوم، ثم سافر في أثنائه؛ فهل له أن يفطر فى ذلك اليوم؟
فأجاب: إِذا نوى الإنسان الصيام وصام، ثم عرض له السفر أثناء النهار فإن له أن
__________
(1) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/148-149) .
(2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/481) .(3/83)
يفطر، إذا خرج من البلد مسافرا السفر الذي ييلغ ثمانين كيلو مترا فأكثر.
وإن أكمل اليوم الذي صام أوله فهو أحسن وأحوط، نظرا لأن بعض العلماء يرى وجوب إكمال اليوم الذي سافر فيه وعدم الإفطار فيه (1) .
حكم من جامع زوجته في نهار رمضان وهو على سفر
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
قدم من أبْهَا إلى مكة ليلاً، وفي الصباح وسوس له الشيطان فجامع زوجته فما الحكم؟
فأجاب: هذا الرجل قدم هو وزوجته للعمرة، واعتمرا في الليل وأصبحا صائمين، وفي ذلك اليوم الذي أصبحا فيه صائمين جامعها.
نقول: ليس عليه شيء إلا قضاء ذلك اليوم فقط، فليس عليه إثم ولا كفارة، وإنما عليه قضاء ذلك اليوم فقط؛ لأن المسافر يجوز أن يقطع صومه سواء قطعه بأكل أو شرب أو جماع؛ لأن صوم المسافر ليس واجبا عليه. كما قال تعالى: (فَمَن كانَ مِنْكُم مريضا أَوْ عَلَى سَفرٍ فَعِدَّةٌ منْ أَيَّام أُخَرَ) [البقرة: 184] .
ولهذا أحب من الأخوة الذين يُستفتون في مكة مثلاً إذا جاء سائل يسأل: أنه وطيء زوجته وهو صائم، فما حكم ذلك؟
ينبغي أن نستفصل منه ونقول: هل أنت مسافرا أم لا؟
إذا قال: إنه مسافر. فنقول: ليس عليك إلا القضاء، لكن لو جامع زوجته وهو في بلده في نهار رمضان وهما صائمان ترتب عليه أمور:
أولاً: فساد الصوم.
ثانيا: وجوب الإمساك بقية اليوم.
ثالثا: قضاء ذلك اليوم.
رابعا: الإثم.
__________
(1) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/148) .(3/84)
خامسًا: الكفارة، وهي عتق رقبة، فإذا لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا (1) .
المقيم في بلد أكثر من أربعة أيام يصوم
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
إذا كنت مسافرًا في رمضان وكنت مفطرا في سفري، وعند وصولي إلى البلد الذي سوف أمكث فيه عدة أيام، أمسكت بالصيام في بقية ذلك اليوم وفي الأيام التالية، فهل لي رخصة بالإفطار في نهار هذه الأيام وأنا في بلد ليس بلدي الأصلي أم لا؟
فأجاب: إذا مر المسافر ببلد غير بلده وهو مفطر، فليس عليه أن يمسك إذا كانت إقامته فيها أربعة أيام، فأقل.
أما إن كان قد عزم على الإقامة فيها أكثر من أربعة أيام، فإنه يمسك ذلك اليوم الذي قدم فيه مفطرًا ويقضيه ويلزمه الصوم في بقية الأيام؛ لأنه بنيته المذكورة صار في حكم المقيمين لا في حكم المسافرين كما تقدم في جواب السؤال الأول.. والله ولي التوفيق (2) .
هل للفطر في السفر أيامًا معدودة؟
وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
نود أيضًا أن نعرف هل للفطر في السفر أيامًا معدودة؟
فأجاب: لا ليس له أيام معدودة (3) .
- وسئل أيضًا فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
يعني لو كان الإنسان يريد أن يسافر مثلاً، أو يبقى في مدينة غير مدينته مثلا أكثر من خمسة أيام أو ستة أيام؟
فأجاب: فله أن يفطر؛ لأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فتح مكة دخلها في رمضان في العشرين منه ولم يصم بقية الشهر كما صح ذلك. أي: صح أنه لم يصم بقية الشهر
__________
(1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/480-481) .
(2) "الفتاوى لابن باز - كتاب الدعوة" (2/169) .
(3) "فقه العبادات لابن عثيمين" (ص 199) .(3/85)
من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- فيما أخرجه البخاري عنه، وبقي بعد ذلك تسعة أيام أو عشرة، فبقي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة وأفطر في رمضان (1) .
إذا سافر مسافة 400 كم هل يحق له الأفطار؟
- وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-:
إذا سافر الصائم مسافة أربع مئة كيلو متر: هل يحق له الإفطار؟
وكم هي المدة المقررة للصائم أو المسافر أن يفطر فيها؟
فأجاب: نعم؛ من سافر سفرًا مباحًا مسافة تبلغ أربع مئة كيلو متر؛ فإنه يجوز له الإفطار؛ لأن هذا أكثر من المسافة المقدرة للإفطار؛ لأن المسافة هي ثمانون كيلو مترًا؛ فإذا سافر ثمانين كيلو مترًا فأكثر -سفرًا مباحًا-؛ فإنه يجوز له الترخيص للإفطار وقصر الصلاة.
أما المدة التي يجوز للمسافر فيها أن يقصر الصلاة، فلا تحديد لها، فإنه يجوز للمسافر أن يقصر الصلاة طيلة سفره؛ إلا إذا نوى إقامة تزيد على أربعة أيام فإنه يأخذ أحكام المقيمين.
أما إذا نوى إقامة دون ذلك، أو لم ينو إقامة محددة فإنه لا يزال يجوز له الإفطار وقصر الصلاة إلى أن يرجع إلى بلده، والله أعلم (2) .
- المسافة التي يجب عندها الإفطار
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
على مسافة كم من الكيلو مترات يجب الإفطار؟ وماذا لو صام ولم يفطر؟
فأجابت: رخَص بعض العلماء في قصر الصلاة الرباعية والفطر في نهار رمضان في كل ما يسمى سفرًا وحدد جمهور العلماء المسافة بثمانين كيلو متر تقريبًا.
__________
(1) "فقه العبادات لابن عثيمين" (ص 199) .
(2) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/148) .(3/86)
ومن صام في السفر الذي يشرع فيه الإفطار فصيامه صحيح للأدلة الدالة على ذلك، ولا حرج عليه إلا إذا أضر به الصوم فإنه يتأكد عليه الإفطار لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس من البر الصوم في السفر".
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) .
مسافر وصل إلى أهله قبيل العصر مفطرًا هل يمسك بقية اليوم؟
- سئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
إذا كنت في سفر وأفطرت خلال سفري هذا، وفي أحد الأيام وصلت إلى أهلي قبيل العصر. هل يجب على الإمساك أم الإفطار؟
فأجاب: يجب الإمساك على من انتهى السبب الذي أفطر لأجله.
فإذا انتهى السفر في أثناء النهار، وجب إمساك بقية النهار؛ لأن الله تعالى قال: (أَوْ عَلى سَفَر) [البقرة: 184] فقد انتهى السفر، وكذا يقال في المريض إذا أفطر ثم شفي وبريء في وسط النهار، فعليه إمساك بقية يومه لزوال العذر مع وجوب قضاء ذلك اليوم كاملاً (2) .
إذا رجع المسافر إلى بلده مفطرًا هل يستمر في فطره أم يمسك؟
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
إذا رجع المسافر إلى بلده وهو مفطر هل يستمر في فطره، أم يجب عليه أن يمسك؟
فأجاب: المسافر إذا وصل من سفره إلى بلده وهو مفطر فيجب أن يمسك بقية نهاره، ويقضي يومه كله، وإذا أفطر يعتبر آثما؛ حيث إِن الرخصة للمسافر. كما قال تعالى:
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (7652) .
(2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 76) .(3/87)
(أَوْ عَلَى سَفَر) [البقرة: 184] ، وهو ليس بمسافر فيمسك حرمة لرمضان (1) .
- وسئل أيضا فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
المسافر إذا وصل مكة صائمًا، فهل يفطر ليتقوى على أداء العمرة؟
فأجاب: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة عام الفتح في اليوم العشرين من رمضان وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مفطرَا وكان يصلي ركعتين في أهل مكة ويقول لهم: "يا أهل مكة أتموا فإنا قوم سفر".
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مفطرا في ذلك العام أي أنه أفطر عشرة أيام في مكة في غزوة الفتح، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر".
كما أنه بلا شك كان يصلي ركعتين في هذه المدة، لأنه كان مسافرا فلا ينقطع سفر المعتمر بوصوله إلى مكة، فلا يلزمه الإمساك إذا قدم مفطرا بل قد نقول له: الأفضل -إذا كان ذلك أقوى على أداء العمرة- أن لا تصوم ما دمت إذا أديت العمرة تعبت.
وقد يكون بعض الناس مستمرا على صيامه حتى في السفر نظرا لأن الصيام في السفر في الوقت الحاضر ليس بمشق على الأمة، فيستمر في سفره صائما ثم يقدم مكة ويكون متعبا، فيقول في نفسه: هل أستمر على صيام أو أؤجل أداء العمرة إلى ما بعد الفطر أي إلى الليل أو الأفضل أن أفطر لأجل أن أؤدي العمرة فور وصولي إلى مكة؟
نقول له في هذه الحال: الأفضل أن تفطر حتى لو كنت صائما، فأفطر لأجل أن تؤدي العمرة فور وصولك إلى مكة، وأنت نشيط؛ لأن الأفضل فيمن قدم إلى مكة لأداء النسك أن يبادر فورا بأدئه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل مكة وهو في النسك بادر إلى المسجد حتى كان يُنيخَ راحلته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند المسجد ويدخله حتى يؤدي النسك الذي كان متلبسا به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكونك تفطر لتؤدي العمرة بنشاط في النهارأفضل من كونك تبقى صائما ثم إذا أفطرت في الليل قضيت عمرتك.
وقد ثبت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان صائما في سفره لغزوة الفتح فجاء إليه أناس فقالوا يا رسول الله: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنهم ينتظرون ماذا تفعل -وكان هذا بعد
__________
(1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 78) .(3/88)
العصر- فدعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بماء فشرب والناس ينظرون، فأفطر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أثناء السفر بل أفطر في آخر اليوم.
كل هذا من أجل أن لا يشق الإنسان على نفسه بالصيام وتكلف بعض الناس في الصوم في السفر مع المشقة لا شك أنه خلاف السنة، وإنه ينطق عليهم قول النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "ليس من البر الصيام في السفر" (1) .
المبتعث مسافر يفطر ولو امتد ابتعاثه سنوات
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
نحن مجموعة من المبتعثين في بلاد أخرى بعضنا له سنة والبعض الآخر سنتان أو ثلاث أو أربع فهل لنا حكم المسافر في الصيام؟
فأجاب: هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم.
والجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة يقولون: إنهم في حكم المقيم يلزمهم الصوم، ولا يجوز لهم قصر الصلاة، ولا أن يمسحوا على الخفين ثلاثة أيام بل يوم وليلة.
وبعض أهل العلم يقول: إنهم في حكم المسافرين، وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهو ظاهر النصوص فهي لم تُحدِّد مدة السفر.
وذُكر أن ابن عمر -رضي الله عنهما- أقام في أذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة.
وهذا الرأي واضح الرجحان ولكن من كان في نفسه حرج منه ورأى أن يأخذ بقول الجمهور وهو إتمام الصلاة ووجوب الصوم فلا حرج عليه في ذلك وهذا ما نراه ورآه شيخ الإسلام ابن تيمية.
وقال أيضًا: الحمد لله رب العالمين كثيرا كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بالإحسان وسلم تسليما كثيرا.
__________
(1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/478-479) .(3/89)
وبعد: فقد نشر لي في (المسلمون) يوم السبت 28 شعبان 1405 هـ جواب حول ترخص المبتعث برخص السفر من القصر والفطر ومسح الخفين ثلاثة أيام وكان الجواب مختصرًا وقد طلب مني بعض الإخوان أن أبسط القول في ذلك بعض البسط فأقول -وبالله التوفيق ومنه الهداية والصواب-:
المغتربون عن بلادهم لهم ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يَنْووا الإقامة المطلقة بالبلاد التي اغتربوا إليها كالعمال المقيمين للعمل والتجار المقيمين للتجارة ونحوهم ممن يقيمون إقامة مطلقة فهؤلاء في حكم المستوطنين في وجوب الصوم عليهم في رمضان وإتمام الصلاة والاقتصارعلى يوم وليلة في مسح الخفين، لأن إقامتهم التي اغتربوا إليها لا يخرجون منها إلا أن يخرجوا.
الحالة الثانية: أن ينووا الإقامة المقيدة بغرض معين لا يدرون متى ينتهي، ومتى انتهى
رجعوا إلى بلادهم، كالتجار الذي يقدمون لبيع السلع أو شرائها ثم يرجعون، وكالقادمين لمراجعة دوائر حكومية أو غيرها لا يدرون متى ينتهي غرضهم حتى يرجعوا إلى بلادهم فهؤلاء في حكم المسافرين فلهم الفطر وقصر الصلاة الرباعية ومسح الخفين ثلاثة أيام ولو بقوا سنوات. هذا قول جمهور العلماء بل حكاه ابن المنذر إجماعًا لكن لو ظن هؤلاء أن الغرض لا ينتهي إلا بعد المدة التي ينقطع بها حكم السفر فهل لهم الفطر والقصر؟ على قولين.
الحالة الثالثة: أن ينووا الإقامة المقيدة بغرض معين يدرون متى ينتهي، ومتى انتهى رجعوا إلى بلادهم بمجرد انتهائه، فقد اختلف أهل العلم -رحمهم الله- في حكم هؤلاء فالمشهور عن مذهب الإمام أحمد أنهم إن نووا إقامة أكثر من أربعة أيام أتموا وإن نووا دونها قصروا، قال في "المغني" (صفحة 288 المجلد الثاني) وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور قال: وروى هذا القول عن عثمان -رضي الله عنه- وقال الثوري وأصحاب الرأي إن أقام خمسة عشر يومًا مع اليوم الذي يخرج فيه أتم، وإن نوى دون ذلك قصر -انتهى- وهناك أقوال أخرى ساقها النووي في "شرح المُهَذب" (صفحة 220 المجلد الرابع) تبلغ عشرة أقوال وهي أقوال اجتهادية متقابلة ليس فيها نص يفصل بينها ولهذا(3/90)
ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، إلى أن هؤلاء في حكم المسافرين لهم الفطر وقصر الصلاة الرباعية والمسح على الخفين ثلاثة أيام. انظر "مجموع الفتاوى - جمع ابن قاسم" صفحة (137، 138، 184) مجلد (24) و"الاختيارات" صفحة (73) وانظر "زاد المعاد لابن القيم" صفحة (29) مجلد (3) أثناء كلامه على فقه غزوة تبوك.
وقال في "الفروع" لابن مفلح -أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية- صفحة (64) مجلد (2) بعد أن ذكر الخلاف فيما إذا نوى مدة فوق أربعة أيام قال: "واختار شيخنا وغيره القصر والفطر وأنه مسافر ما لم يجمع على إقامة ويستوطن بها قامته لقضاء حاجة بلا نية إقامة". انتهى.
واختار هذا القول الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. انظر صفحة (372، 375) مجلد (4) من "الدرر السنية"، واختاره أيضًا الشيخ محمد رشيد رضا صفحة (1180) المجلد الثالث من "فتاوى المنار"، وكذلك اختاره شيخنا عبد الرحمن بن ناصر السعدي صفحة (47) من "المختارات الجلية".
وهذا القول هو الصواب، لمن تأمل نصوص الكتاب والسنة.
فعلى هذا: يفطرون ويقضون كأهل الحال الثانية، لكن الصوم أفضل إن لم يشق، ولا ينبغي أن يؤخروا القضاء إلى رمضان ثان؛ لأن ذلك يوجب تراكم الشهور عليهم فيثقل عليهم القضاء أو يعجزوا عنه.
والفرق بين هؤلاء وأهل الحال الأولى: أن هؤلاء أقاموا لغرض معينّ ينتظرون انتهاءه، ولم ينووا الإقامة المطلقة، بل لو طلب منهم أن يتموا بعد انتهاء غرضهم لأبوا ذلك، ولو انتهى غرضهم قبل المدة التي نووها ما بقوا في تلك البلاد.
أما أهل الحال الأولى: فعلى العكس من هؤلاء، فهم عازمون على الإقامة المطلقة مستقرون في محل الإقامة لا ينتظرون شيئًا معينا ينهون إقامتهم بانتهائه، فلا يكادون يخرجون من مغتربهم هذا إلا بقهر النظام فالفرق ظاهر للمتأمل، والعلم عند الله تعالى.
فمن تبين له رجحان هذا القول فعمل به فقد أصاب ومن لم يتبين له فأخذ بقول الجمهور فقد أصاب؛ لأن هذه المسألة من مسائل الاجتهاد التي من اجتهد فيها فأصابَ(3/91)
فله أجران، ومن اجتهد فيها فأخطأ فله أجر واحد والخطأ مغفور.
قال الله تعالى: (لاَ يُكَلفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286] .
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا حَكَم الحاكِمُ فاجْتهد ثُمَّ أصَابَ فَلَهُ أجْرَانِ وإذا حَكَمَ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أخْطَأَ فَلَهُ أجْرٌ" أخرجه البخاري.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا الصواب عقيدة وقولاً وفعلاً، إنه جواد كريم والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين (1) .
وسأل أيضًا -حفظه الله-:
هل السائقون خارج المدن بصفة مستمرة ينطبق عليهم حكم السفر؟
فأجاب: نعم ينطبق حكم السفر عليهم فلهم القصر والجمع والفطر.
فإذا قال قائل: متى يصومون وعملهم متواصل؟
قلنا: يصومون في أيام الشتاء لأنها قصيرة وباردة.
أما السائقون داخل المدن فليس لهم حكم المسافر ويجب عليهم الصوم.
- وسئل أيضًا -حفظه الله-:
سائق شاحنة لسافات طويلة كيف يصوم ومتى؟
فأجاب: جوابنا على هذا السؤال أن نقول:
إن الله تعالى قد بين حكم هذه المسألة في قوله: (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَة مِّنْ أَيَّام أُخَرَ) [البقرة: 185] .
فأنت أيها الأخ المشتغل في هذه الشاحنة ما دمت مسافرا، لك أن تترخص بجميع رخص السفر من القصر والجمع والفطر في رمضان والمسح على الخفين ثلاثة أيام وغيرها من ما هو معروف في أحكام السفر.
__________
(1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/481-485) .(3/92)
وعلى هذا فنقول يجوز لك أن تفطر في هذه الحال.
فإن الله تعالى قد أطلق في الآية (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ) [البقرة: 185] .
ولم يقيده بشيء، وما أطلقه الله ورسوله، فإنه يجب العمل بمطلقه.
فإذا قلت: كيف أصنع وأنا دائمًا في هذه المهنة أسافر دائمًا شتاءً وصيفًا؟
نقول لك: إذا كنت في أهلك في رمضان وجب عليك أن تصوم، وإذا كنت في غير أهلك، فأنت مسافر لا يجب عليك أن تصوم.
ثم إنه من الممكن بأن نقول لك فائدة عظيمة، وهي: أنك بدل أن تصوم في هذا الحر الشديد تصوم في أيام الشتاء القصيرة المدة الباردة، وذلك أسهل لك والله أعلم (1) .
لا يجوز الفطر في رمضان إلا لعذر
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
إذا كنت على سفر من أجل أعمال تجارية فوصلت إلى البلاد التى قصدتها في نهاية شهر شعبان فبقيت في هذا البلد حتى منتصف شوال هل يجوز لي الإفطار أم لا؟
فأجاب: لا يجوز الفطر في رمضان إلا لعذر كمشقة السفر والمرض، مع أن المسافر يفضل له أن يصوم، وهو الأكثر من فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لكن مع المشقة له أن يفطر أخذًا برخصة الله.
فأما المقيم في غير بلده: فإن كان على أهبة السفر فله القصر والفطر كما لو لم يستقر في البلد، بل بنى له خيمة في خارج البلد أو بقي في سيارته فهو يتضرر بالحر والشمس والريح، والتردد في قضاء حاجاته.
أما إن استقر به النوى وسكن في فندق مكيف أو فى قصر منيف أو عمارة أو نحو ذلك وكملت عليه الحوائج والمرفهات وتمتع بما يتمتع به المقيمون من الفرش والسرر والأطعمة والمكيفات والخدمة التامة، فإنه في هذه الحالة مقيم ولا يصدق عليه السفر
__________
(1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/489) .(3/93)
الذي هو قطعة من العذاب.
فمثل هذا لا أرى له الفطر ولا القصر بل هو أسوة المقيمين. والله أعلم (1) .
حكم السفر في شهر رمضان تحايلاً على الإفطار
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
ما حكم السفر في شهر رمضان من أجل الإفطار، ونود أن نعرف كيف يكون ذلك؟
فأجاب: الصيام في الأصل واجب على الإنسان، بل هو فرض وركن من أركان الإسلام كما هو معروف.
والشيء الواجب في الشرع، لا يجوز للإنسان أن يفعل حيلة ليسقطه عن نفسه، - فمن سافر من أجل أن يفطر كان السفر حراما عليه، وكان الفطر كذلك حراما عليه.
فيجب عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وأن يرجع عن سفره ويصوم.
فإن لم يرجع: وجب عليه أن يصوم وولو كان مسافرا.
وخلاصة الجواب: أنه لا يجوز للإنسان أن يتحيَّل على الإفطار في رمضان بالسفر؛ لأن التحيل على إسقاط الواجب لا يسقطه، كما أن التحيل على المحرم لا يجعله مباحا (2) .
حكم صيام الحائض النفساء
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
ما حكم الصيام للمرأة الحائض والنفساء، ويد أخرتا القضاء إلى رمضان آخر، فماذا يلزمهما؟
فأجاب: على الحائض والنفساء أن تفطر وقت الحيض والنفاس، ولا يجوز لهما الصوم ولا الصلاة في حال الحيض والنفاس، ولا يصحان منهما وعليهما قضاء الصوم دون الصلاة.
__________
(1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 75-76) .
(2) "فقه العبادات لابن عثيمين" (ص 200، 201) .(3/94)
لما ثبت عن عائشة -رضي الله عنها-: "أنها سُئِلت: هَل تَقْضِي الحَائِض الصوم والصَّلاة؟ فَقَالت: كُنَّا نُؤْمَر بِقَضَاء الصَّومَ ولاَ نُؤْمَر بِقَضَاء الصَّلاة" متفق على صحته.
وقد أجمع العلماء -رحمهم الله- على ما ذكرته عائشة -رضي الله عنها- من وجوب قضاء الصوم وعدم قضاء الصلاة في حق الحائض والنفساء، -رحمة من الله سبحانه لهما وتيسيرا عليهما-؛ لأن الصلاة تتكرر كل يوم خمس مرات، وفي قضائها مشقة عليهما. أما الصوم فإنما يجب في السنة مرة واحدة وهو صوم رمضان فلا مشقة في قضائه عليهما.
ومن أخرت القضاء إلى ما بعد رمضان آخر لغير عذر شرعي، فعليها التوبة إلى الله من ذلك مع القضاء وإطعام مسكين عن كل يوم. وهكذا المريض والمسافر إذا أخرا القضاء إلى ما بعد رمضان آخر من غير عذر شرعي فإن عليهما القضاء والتوبة وإطعام مسكين عن كل يوم.
أما إن استمر المرض أو السفر إلى رمضان آخر، فعليهما القضاء فقط دون الإطعام، بعد البرء من المرض، والقدوم من السفر (1) .
- وسئل أيضًا فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-:
إذا كانت المرأة حائضًا في رمضان أو في آخر فترة نفاس وطهرت من ذلك بعد الفجر من أحد أيَّام رمضان، فهل عليها أن تكمل صيام ذلك اليوم أم لا؟ وماذا عليها أن تفعل لو اغتسلت وبدأت في الصيام ثم ظهر شيء من ذلك بعد انتهاء المدة المعتادة لكل من الحيض والنفاس، هل تقطع صيامها، أم لا يؤثر ذلك عليه؟
فأجاب: أما بالنسبة للنقطة الأولى من السؤال: وهي ما إذا طهرت الحائض في أثناء النهار، أو النفساء طهرت في أثناء النهار، فإنها تغتسل وتصلي وتصوم بقية صومها، ثم تقضي هذا اليوم في فترة أخرى. هذا الذي يلزمها.
وأما النقطة الثانية: وهي إذا انقطع دمها من الحيض ثم اغتسلت ثم رأت بعد ذلك
__________
(1) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" لابن باز (ص 172-173) .(3/95)
شيئًا: فإنها لا تلتفت إليه؛ لقول أم عطية -رضي الله عنها-: "كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئًا": فلا تلتفت إلى ذلك.
أما بالنسبة للنفساء: فإذا كانت انقطع دمها قبل الأربعين، ثم اغتسلت، ثم عاد إليها شيء فإنها تعتبر نفساء، وهذا الذي عاد يعتبر من النفاس، لا يصح معه صوم ولا صلاة ما دام موجودًا؛ لأنه عاد في فترة النفاس.
أما إذا كانت تكاملت الأربعين، واغتسلت، ثم عاد إليها شيء بعد الأربعين: فإنها لا تلتفت إليه إلا إذا صادف أيام عادتها قبل النفاس: فإنه يكون حيضًا.
الحاصل: أن هذا لابد فيه من تفصيل:
- إذا أكملت عادة الحائض، واغتسلت، ثم رأت شيئًا بعد ذلك: لا تلتفت إليه.
- وإذا كانت عادتها لم تكمل، ورأت طهرًا في أثناء العادة، واغتسلت ثم عاد إليها الدم فإنها تعتبره حيضًا؛ لأنه جاءها في أثناء العادة.
- وكذلك النفساء إذا كان عاد إليها في فترة الأربعين: فإنه يعتبر نفاسًا وإن كان عاد إليها بعد تمام الأربعين: فإنها لا تعتبره شيئًا، إلا إذا صادف أيام حيضها قبل النفاس وقبل الحمل (1) .
جاءها الحيض في سن الحادية عشرة هل يلزمها الصوم؟
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
فتاة أتاها الحيض في السنة الحادية عشر من عمرها فهل يلزمها الصيام مع ملاحظه أنها لا تتمتع بصحة جيدة وفى حالة عدم قدرتها على الصيام ما الذي يترتب عليها؟
فأجابت: إذا كان الواقع كما ذكرت لزمها الصيام؛ لأن الحيض من علامات بلوغ النساء إذا جاءها وهي في التاسعة من عمرها فأكثر.
فإذا استطاعت الصيام وجب عليها أداؤه في وقته، وإذا عجزت أو نالها منه مشقة
__________
(1) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/131-132) .(3/96)
شديدة أفطرت ووجب عليها قضاء ما أفطرته من الأيام عند القدرة على ذلك (1) .
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
ما الحكم إذا طهرت الحائض في أثناء نهار رمضان؟
فأجاب: عليها الإمساك في أصح قولي العلماء لزوال العذر الشرعي وعليها قضاء ذلك اليوم كما لو ثبت رؤية رمضان نهارًا، فإن المسلمين يمسكون بقية اليوم، ويقضون ذلك اليوم عند جمهور أهل العلم.
ومثلها المسافر: إذا قدم في اثناء النهار في رمضان إلى بلده، فإن عليه الإمساك في أصح قولي العلماء: لزوال حكم السفر مع قضاء ذلك اليوم. والله ولي التوفيق (2) .
- وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
هل يجوز لي أن آكل حبوب منع العادة الشهرية في أواخر شهر رمضان المبارك لكي أكمل بقية الصيام؟
فأجاب: يجوز أكل دواء لمنع الحيض إذا كان القصد هو العمل الصالح، فإذا قصدت فعل الصيام في زمنه والصلاة مع الجماعة كقيام رمضان والاستكثار من قراءة القرآن وقت الفضيلة فلا بأس بأكل الحبوب لهذا القصد، فإن كان القصد مجرد الصيام حتى لا يبقى دينًا فلا أراه حسنًا، وإن كان مجزئًا للصوم بكل حال (3) .
النفساء والصوم
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
أنا فتاة متزوجة ورزقني الله بولدين توأمين. انتهيت من الأربعين في اليوم السابع من رمضان ولكن الدم لا يزال مستمرا ولكن تغير لونه على ما قبل الأربعين فما حكم صلاتي وصيامي؟
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (3325) .
(2) "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (3/213) .
(3) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 130/131) .(3/97)
فأجاب: المرأة النفساء إذا بقي الدم معها فوق الأربعين وهو لم يتغير فإن صادف ما زاد عن الأربعين عادة حيضتها السابقة جلست وإن لم يصادف عادة حيضتها السابقة فقد اختلف العلماء في ذلك فمنهم من قال تغتسل وتصلي وتصوم ولو كان الدم يجري عليها؛ لأنها تكون حينئذٍ كالمستحاضة ومنهم من قال: إنها تبقى حتى تتم ستين يومًا؛ لأنه وجد من النساء من يبقى في النفاس ستين يوما، ويقال: إن بعض النساء كانت عادتها في النفاس ستين يومًا وبناءً على ذلك، فإنها تنتظر حتى تتم ستين يومًا ثم بعد ذلك ترجع للحيضة المعتادة (1)
الدم الخارج بعد السقط هل يفطر
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
الدم الذي يخرج من الحامل إذا أسقطت الجنين هل يفطر؟
فأجاب: إن الحامل لا تحيض -كما قال الأمام أحمد- إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الحيض، والحيض كما قال أهل العلم: خلقه الله تبارك وتعالى لحكمة غذاء الجنين في بطن أمه، فإذ نشأ الحمل انقطع الحيض.
لكن بعض النساء قد يستمر الحيض على عادته كما كان قبل الحمل فإذا كان ذلك فإن الحامل لا تصوم ولا تصلي لأن هذا حيض.
وأما الدم الذي يخرج من الحامل إذا أسقطت الجنين:
- فإن كان الجنين قد تبين فيه خلق إنسان، فالدم نفاس، فلا تصوم ولا تصلي وإذا اسقطت أثناء الصوم بطل صومها.
- وإن كان الجنين أُسْقِط علقة أو مضغة لم يتبين أنها ابتداء خلق إنسان فالدم ليس نفاسًا، فتصوم وتصلي ولا حرج (2) .
__________
(1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/499) .
(2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/498-499) .(3/98)
حكم صيام من أجهضت
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
حدث في يوم من الأيام في رمضان هذا - أن سقط الجنين إثر إجهاض حصل لها وذلك نهارًا، وأتمت صيام هذا اليوم الذي حدث فيه سقوط الجنين، فما حكم صيامها هذا اليوم؟ وبعد الإفطار ذهبت للمستشفى وتم إجراء عملية تنظيف لأرحامها ولم تصم ذلك اليوم، فما حكم ذلك؟ والآن بعد خروجها من المستشفى هل تنتظر لحين طهرها أو تصوم؟ وإذا كانت تنتظر فما المدة المحددة لذلك؟ وهل تقضي فقط أو مع الإطعام؟
فأجابت: إذا كان الجنين الذي وضعته فيه خلق إنسان كاليد والرجل ونحوهما: فإنها تجلس مدة النفاس حتى تطهر أو تكمل أربعين يوما ثم تغتسل وتصلي وتقضي اليوم الذي وضعت فيه وما بعده من ايام الصيام الواجبة عليها، ولا إطعام عليها إن قضت الصيام قبل دخول رمضان الآخر، فإن طهرت قبل تمام الأربعين: اغتسلت وصلت وصامت؛ لزوال المانع من ذلك.
فإن لم يكن شيء من خلق الإنسان: فإن صومها صحيح، ويعتبر الدم دم فساد، تصلي وتصوم معه، وتتوضأ لكل صلاة حتى تأتيها العادة المعروفة (1) .
حكم صيام من أسقطت في الشهر الثالث
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
أسقطت امرأة في الشهر الثالث من حملها أول رمضان، وأفطرت خمسة أيام بعد الإسقاط لوجود الدم من أثر الإسقاط الظاهر استمر معها الدم في نفس الفرج وهو غير خارج منه، وقد استمرت على الصوم والصلاة خلال خمسة وعشرين يومًا فهل يصح الصوم والصلاة وهي على هذه الحالة مع العلم أنها تتوضأ وضوءاً كاملاً لكل صلاة ولاتزال على هذه الحالة حتى الان حيث تجد الدم والبلل منه في الفرج وتذكر أنها كانت تستعمل حبوب منع الحمل والحيض قبل أن تحمل؟
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (10653) .(3/99)
فأجابت: إذا كان الواقع كما ذكرت من إسقاطها الحمل في الشهر الثالث من حملها فلا يعتبر دم نفاس؛ لأن ما نزل منها من الحمل إنما هو علقة لا يتبين فيها خلق آدمي، وعلى ذلك يصح صومها وتصح صلاتها وهي ترى الدم في الفرج ما دامت تتوضأ لكل صلاة كما ذكر في السؤال وعليها أن تقضي ما فاتها من الصوم والصلاة في الأيام الخمسة التي أفطرتها ولم تُصَلَّ فيها، مع العلم بأن هذا الدم يعتبر دم استحاضة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) .
وسئل سماحة الشيخ عبد العزنر بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
إذا طهرت النفساء خلال أسبوع ثم صامت مع المسلمين في رمضان أياما معدودة ثم عاد إليها الدم، هل تفطر في هذه الحالة وهل يلزمها قضاء الأيام التي صامتها والتي أفطرتها؟
فأجاب: إذا طهرت النفساء في الأربعين، فصامت أياما ثم عاد إليها الدم في الأربعين، فإن صومها صحيح، وعليها أن تدع الصلاة والصيام في الأيام التي عاد فيها الدم -لأنه نفاس- حتى تطهر أو تكمل الأربعين، ومتى أكملت الأربعين وجب عليها الغسل وإن لم تر الطهر؛ لأن الأربعين، هي نهاية النفاس في أصح قولي العلماء، وعليها بعد ذلك أن تتوضأ لوقت كل صلاة حتى ينقطع عنها الدم، كما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك المستحاضة، ولزوجها أن يستمتع بها بعد الأربعين وإن لم تر الطهر؛ لأن الدم -والحال ما ذكر- دم فساد لا يمنع الصلاة ولا الصوم، ولا يمنع الزوج من استمتاعه بزوجته، لكن إن وافق الدم بعد الأربعين عادتها في الحيض، فإنها تدع الصلاة والصوم وتعتبره حيضا.
والله ولي التوفيق (2) .
متى طهرت النفساء فإنها تصوم وتصلي
- وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
إذا وضعت قبل رمضان بأسبوع مثلاً وطهرتُ قبل أن أكمل الأربعين هل يجب عليّ الصيام؟
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (1795) .
(2) "مجموع فتاوي الشيخ ابن باز" (3/123) .(3/100)
فأجاب: نعم، متى طهرت النفساء وظهر منها ما تعرفه علامة على الطهر وهي القصة البيضاء أو النقاء الكامل، فإنها تصوم وتصلي ولو بعد الولادة بيوم أو اسبوع، فإنه لا حد لأقل النفاس، فمن النساء من لا ترى الدم بعد الولادة أصلاً، وليس بلوغ الأربعين شرطًا، وإذا زاد الدم على الأربعين ولم يتغير فإنه يعتبر دم نفاس تترك لأجله الصوم والصلاة. والله أعلم (1) .
صيام الحامل والمرضع
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
هل يباح الفطر للمرأة الحامل والمرضع وهل يجب عليهما القضاء أم هناك كفارة عن فطرهما؟
فأجاب: الحامل والمرضع حكمها حكم المريض، إذا شق عليهما الصوم شرع لهما الفطر، وعليهما القضاء عند القدرة على ذلك، كالمريض، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يكفيهما الإطعام، عن كل يوم: إطعام مسكين، وهو قول ضعيف مرجوح، والصواب أن عليهما القضاء كالمسافر والمريض، لقول الله عز وجل: (فَمَن كَانَ مِنكُم مًرِيضا أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدةٌ منْ أَيَّام أُخَرَ) [البقرة: 184] ، وقد دل على ذلك أيضًا حديث أنس ابن مالك الكعبي: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَ الله وَضَعَ عن المُسافر الصَّوم وَشَطر الصلاة، وعن الحبلى والمُرضِع الصَّوم" رواه الخمسة (2) .
حكم الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما
- وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
من المشهور فى مذهب الحنابلة أن الجاهل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينًا ولا تقضيان. ما قول فضيلتكم في ذلك؟
فأجاب: أما كونها تفطر وتكفِّر فهذا هو المشهور، وأما كونها لا تقضي فهذا ليس
__________
(1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 130) .
(2) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" لابن باز (ص 171) .(3/101)
بصحيح؛ بل الصحيح أنها تقضي وتطعم. وهذا مروي عن ابن عباس وعليه فسر الآية وهي قول الله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطيقونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسكِين) [البقرة: 184] .
فروي عن ابن عباس وغيره من السلف: أن هذه الآية باقية لم تُنْسَخ وأنها إما في حقِّ الكبير الذي يشق عليه الصيام مع كونه يطيقه فَيُطْعم ولا صيام عليه، وكذا المريض الذي لا يرجى برؤه، وإما في حق المرأة الحامل أو المرضع التي تخاف على ولدها؟ جنينها في بطنها أو رضيعها، تخاف عليه ألا يجد لبنًا أو لا يجد قوتًا وغذاء فتفطر لأجل غيرها، ففي هذه الحال إذا افطرت فإنها تكفر لكونها أفطرت من غير مرض ولكونها تطيق الصيام، بعد زوال العذر تصومه أي تقضي وتطعم.
هذا هو المشهور، والرواية التي فيها أنها لا تطعم رواية ضعيفة؟ لأنها لا تقضي، أما الرواية التي فيها أن تطعم وتقتصر على الإطعام، فهي رواية ضعيفة، سواء كانت عن ابن عباس أو كانت عن الإمام أحمد فلا تثبت بل الثابت والمشهور أنه لابد من القضاء مع الإطعام (1) .
حكم الحامل إذا خافت على نفسها أو خافت على ولدها
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
الحامل إذا خافت على نفسها أو خافت على ولدها فهل لكل حال حكم في الصيام؟
فأجاب بقول: المرأة الحامل لا تخلو من حالين:
إحداهما: أن تكون قوية نشيطة لا يلحقها في الصوم مشقة ولا تأثير على جنينها، فهذه المرأة يجب عليها أن تصوم؟ لأنه لا عذر لها في ترك الصيام.
والحالة الثانية: أن تكون المرأة غير مُتَحَمِّلة للصيام لثقل الحمل عليها أو لضعفها في جسمها أو لغير ذلك. وفي هذا الحال تفطر لا سيما إذا كان الضرر على جنينها، فإنه يجب عليها الفطر حينئذٍ.
وإذا افطرت فإنها كغيرها ممن يفطر بعذر، يجب عليها قضاء الصوم متى زال ذلك العذر عنها، فإذا وضعت وجب عليها قضاء الصوم بعد أن تطهر من النفاس.
__________
(1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (131/132) .(3/102)
ولكن أحيانا يزول عذر الحمل ويخلفه عذر آخر وهو عذر الرضاع فإن المرضع قد تحتاج الأكل والشرب لا سيما في أيام الصيف الطويلة النهار الشديد الحر، فإنها قد تحتاج إلى أن تفطر لتتمكن من تغذية ولدها بلبنها وفي هذه الحالة نقول لها: أفطري وإذا زال عنك العذر فإنك تقضين ما فاتك من الصوم.
وقد ذكر بعض أهل العلم أنه إذا كان إفطار الحامل والمرضع من أجل الخوف على الولد فقط دون الأم، فإنه يجب عليها مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم يدفعه من عليه نفقة هذا الطفل.
وفي معنى ذلك -أي في معنى الحامل والمرضع التي تفطر خوفا على الولد- من أفطر لإنقاذ غريق أو حريق ممن يجب إنقاذه فإنه يفطر ويقضي.
مثلاً: رأيت النار تلتهم هذا البيت وفيه أناس مسلمون ولا يمكنك أن تقوم بالواجب -واجب الإنقاذ- إلا إذا أفطرت وشربت لتتقوى على إنقاذ هؤلاء فإنه يجوز لك بل يجب عليك في بهذا الحال أن تفطر لإنقاذهم.
ومثله: هؤلاء الذين يشتغلون بالإطفاء: فإنهم إذا حصل حريق بالنهار وذهبوا لإنقاذه ولم يتمكنوا منه إلا أن يفطروا ويتناولوا ما تقوى به أبدانهم فإنهم يفطرون ويتناولون ما تقوى به أبدانهم؛ لأن هذا شبيه تماما بالحامل التي تخاف على جنينها أو المرضع التي تخاف على طفلها.
والله تبارك وتعالى حكيم لا يفرق بين شيئين متماثلين في المعنى بل يكون حكمهما واحدا، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية، وهو عدم التفريق بين المتماثلين وعدم الجمع بين المختلفين والله عليم حكيم (1) .
صيامك وأنت حامل ومعك نزيف لا يؤثر على الصيام
- وسئلت أيضًا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
في شهر رمضان الكريم كنت حاملاً وصار معي نزيف في 20 رمضان وأنا لا أكلت ولا
__________
(1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/487-488) .(3/103)
شربت صائمة، وأفطرت أربعة أيام وأنا في المستشفى وبعد رمضان صمت الذي أفطرت، هل أصوم ثانية والطفل لا زال في بطني أفيدوني أفادكم الله.
فأجابت: صيامك وأنت حامل ومعك نزيف لا يؤثر على الصيام كالاستحاضة، والصيام صحيح، والأيام الأربعة التي أفطرتها في المستشفى ثم قضيتها بعد رمضان يكفيك ذلك ولا يلزمك صيامها مرة ثانية.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) .
حكم المرأة الحامل التي لا تطيق الصوم
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
امرأة حامل لا تطيق الصوم فماذا تفعل؟
فأجاب: حكم الحامل التي يشق عليها الصوم حكم المريض، وهكذا المرضع إذا شق عليهما الصوم تفطران وتقضيان، لقول الله سبحانه (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَير فَعِدَة منْ أَيَّام أُخَرَ) [البقرة: 185] .
وذكر بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أن عليهما الإطعام فقط.
والصواب الأول، وأن حكمهما حكم المريض؛ لأن الأصل وجوب القضاء ولا دليل يعارضه. ومما يدل على ذلك: ما رواه أنس بن مالك الكعبي -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن الله وَضَعَ عن المسُافر الصَّوم وشَطر الصلاة وعن الحُبلَى والمُرضِع الصَّوم" رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربع بإسناد حسن، فدل على أنهما كالمسافر في حكم الصوم تفطران وتقضيان.
أما القصر فهو حكم يختص بالمسافر لا يشاركه فيه أحد، وهو صلاة الرباعية ركعتين وبالله التوفيق (2) .
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (13168) .
(2) "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (3/207-308) .(3/104)
الحكم إذا رأت الحامل الدم في رمضان وصامت
وسئل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-:
إذا رأت الحامل الدم في رمضان، وصامت، فما الحكم؟
فأجاب: هذا مبني على أن الدَّم الذي يأتي المرأة الحامل، دم فساد، كما هو المشهور في المذهب، فعليه: لا تفطر بل يجب عليها الصيام والصلاة، أو هو حيض كما هو في الرواية الثانية عن الإمام أحمد، وهي الصحيحة فيكون حيضاً، تترك له الصلاة والصيام، فإن صامت قضت، وهذا هو المختار، والله أعلم (1) .
لم تصم ثلاث رمضانات بسبب الولادة والحمل
- وسئلت أيضا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
منذ ثلاث سنوات وزوجتي تلد في بداية شهر رمضان المبارك ولم تصم ثلاثة شهور من رمضان، أفيدونا ما هي الكفارة؟
فأجابت: يجب عليها أن تبادر إلى قضاء ما عليها من صيام رمضان للسنوات الثلاث الماضية، كما يجب عليها أن تطعم عن كل يوم مسكينا مقدار نصف صاع من بُرًّ أو أرز ونحوهما من قوت البلد: وذلك لتأخيرها القضاء حتى دخل رمضان آخر إذا كانت أخرت القضاء وهى قادرة عليه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (2) .
حكم من رؤي مفطرًا في مكة في رمضان
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
__________
(1) "الفتاوى السعدية للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي" (ص 228) .
(2) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (10727) .(3/105)
عمن رؤي مفطرًا في مكة في رمضان؟
فأجاب: وجود شخص يُفْطر في مكة، في مثل هذا اليوم ليس بغريب؛ لأن مكة فيها الآفاقي، وفيها المواطن الذي من أهل مكة.
والآفاقي يجوز له إذا كان قد أتى إلى العمرة وسيرجع إلى بلده، يجوز له أن يُفْطر، فهذا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلم الناس بالله وأخشاهم له فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة في اليوم العشرين من رمضان، فصادف بقاؤه في مكة العشر الأواخر من رمضان ولم يصم.
ثبت ذلك عنه في صحيح البخاري من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، وهو قد بقي في مكة تسعة عشر يوما يقصر الصلاة، عشرة منها في رمضان وتسعة في شوال.
فهذا الرجل الذي يفطر الآن ليس بغريب. وهذه المسألة مسألة يَجْهَلُها الناس يظن الناس أن من قدم إلى مكة لزمه الإمساك وأنه لا يجوز أن يفطر وهذا ظن غير صحيح بل للمسافر أن يفطر حتى يرجع إلى بلده (1) .
هل يفطر من يعمل في الأفران
وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
في قريتنا شخص يعمل في طابونة (فرن) للرغيف وهو رجل يصلي ويصوم رمضان والحمد لله ولكنه سألني هل يجوز له أن يفطر في رمضان؟ علمًا بأنه يواجه حر النار الشديد وهو يصنع الرغيف طوال ساعات النهار وهو صائم، لذلك فهو يواجه عطشًا شديدًا وإرهاقًا في العمل، فأرجو من سماحتكم التكرم بالإجابة الشافية على ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى.
فأجابت: لا يجوز لذلك الرجل أن يفطر بل الواجب عليه الصيام وكونه يخبز في نهار رمضان، ليس عذرًا للفطر، وعليه أن يعمل حسب استطاعته.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (2) .
__________
(1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/491-492) .
(2) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء" رقم (13489) .(3/106)
وسئلت أيضًا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
نحمد الله تعالى ونصلي ونسلم على نبيه الكريم ونسأله جل شأنه أن يعز الإسلام والمسلمين وأن يحمي الدين من أعداء الله، والمركز الإسلامي -كما تعلمون- واجهة للإسلام والمسلمين في هذه البلاد وقد وصلتنا من أحد المعاهد العلمية التابعة لجامعة توينجن في ألمانيا الغربية (معهد دراسات طب العمل والطب الاجتماعي) رسالة فيها بعض الاستفسارات الفقهية بما يخص شهر رمضان والصيام فيه، ونحن لشعورنا بأهمية هذا الموضوع وبحساسية الأمر آثرنا استشارتكم وسؤالكم رغبة منا في الوصول إلى أكبر قدر من الصواب بتوفيق من الله سبحانه. والأسئلة التي وصلتنا كالتالي: ما حكم الشرع الإسلامي في حالة العمال الذين يعملون في أعمال مرهقة بدنيًّا خاصة في شهور الصيف، أعطي مثالاً لمن يعملون أمام أفران صهر المعادن صيفًا، ما حكم الشرع في الصيام في المناطق الشمالية من الكرة الأرضية حيث لا تغيب الشمس إلا غيابًا قصيرًا جدًا قد لا يتعدى دقائق أو حيث لا تغيب الشمس مطلقًا في البلاد الاسكندنافية؟ ونريد أن نلفت نظر فضيلتكم إلى أن الأمر قد يستغل من جانب السلطات هنا لاستخراج أو لاستصدار قوانين لتطبيقها على العمال الأجانب في ألمانيا والذين يتراوح عدد المسلمين منهم أكثر من مليون ونصف على أضعف التقديرات، ونحن نخشى أن إجابة هذه الأسئلة -دون الالتفات إلى هذا الأمر- قد يؤدي إلى فتنة المسلمين المقيمين في هذه البلاد وأغلبهم ممن يجهلون الأحكام الشرعية في دينهم.
فأجابت: من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن صيام شهر رمضان فرض على كل مكلف وركن من أركان الإسلام، فعلى كل مكلف أن يحرص على صيامه تحقيقًا لما فرض الله عليه، رجاء ثوابه وخوفا من عقابه دون أن ينسى نصيبه من الدنيا، ودون أن يؤثر دنياه على أخراه، وإذا تعارض أداء ما فرضه الله عليه من العبادات مع عمله لدنياه وجب عليه أن ينسق بينهما حتى يتمكن من القيام بهما جميعا، ففي المثال المذكور في السؤال يجعل الليل وقت عمله لدنياه، فإن لم يتيَسَّر ذلك أخذ إجازة من عمله شهر رمضان ولو بدون مرتب فإن لم يتيسر ذلك بحث عن عمل آخر يمكنه فيه الجمع بين أداء الواجبين ولا يؤثر جانب دنياه على جانب آخرته، فالعمل كثير وطرق كسب المال ليست قاصرة على مثل ذلك النوع من الأعمالْ الشاقة ولن يعدم المسلم وجهًا من وجوه الكسب المباح الذي يمكنه معه القيام بما فرضه الله عليه من العبادة بإذن الله، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُُ مخْرَجًا(3/107)
وَيرزُقْهُ مِنْ حَيثُ لاَ يَحْتَسِبْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللُّهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيء قَدْرًا) [الطلاق: 2، 3] .
وعلى تقدير أنه لم يجد عملاً دون ما ذكر مما فيه حرج وخشي أن تأخذه قوانين جائرة وتفرض عليه ما لا يتمكن معه من إقامة شعائر دينه أو بعض فرائضه فليفر بدينه من تلك الأرض إلى أرض يتيسر له فيها القيام بواجب دينه ودنياه ويتعاون فيه مع المسلمين على البر والتقوى فأرض الله واسعة، قال الله تعالى: (وَمَن يُهَاجِر فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الأَرْضْ مُرَاغَمًا كثيَرًا وَسَعَة) الآية [النساء: 100] وقال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيرِ حِسَاب) [الزمر: 10] .
فإذا لم يتيسر له شيء من ذلك كله واضطر إلى مثل ما ذكر في السؤال من العمل الشاق صام حتى يحس بمباديء الحرج فيتناول من الطعام والشراب ما يحول دون وقوعه في الحرج ثم يمسك وعليه القضاء في أيام يسهل عليه فيها الصيام (1) .
صوم العاملين في مجال الحديد والصلب
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
نطلب من سماحة الشيخ النظر في الفتوى التي جاءت ضمن التوصيات بخصوص ما يرخصه الشرع للعاملين في معامل مركبات الحديد والصلب بالإفطار في رمضان؟
فأجاب: نفيدكم أن الأصل وجوب صوم رمضان، وتبييت النية له من جميع المكلفين من المسلمين قبل أن يصبحوا صائمين، إلا من رخّص لهم الشارع بأن يصبحوا مفطرين، وهم المرضى والمسافرون ومن في معناهم.
أما أصحاب الأعمال الشاقة فإنهم داخلون ضمن المكلفين، وليسوا في معنى المرضى والمسافرين، فيجب عليهم تبييت نية صوم رمضان بأن يصبحوا صائمين. ومن اضطر منهم للفطر أثناء النهار فيجوز له أن يفطر بما يدفع اضطراره، ثم يمسك بقية يومه في
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء" رقم (4316) .(3/108)
الوقت المناسب. ومن لم تحصل له ضرورة وجب عليه الاستمرار في الصيام، هذا ما تقتضيه الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، وما دلَّ عليه كلام المحققين من أهل العلم من جميع المذاهب وعلى ولاة أمور المسلمين الذين يوجد عندهم أصحاب أعمال شاقة كالمسألة المسؤول عنها أن ينظروا في أمرهم إذا جاء رمضان، فلا يكلفوهم من العمل -إن أمكن- ما يضطرهم إلى الفطر في نهار رمضان بأن يجعل العمل ليلاً أو تُوَزَّعَ ساعات العمل في النهار بين العمال توزيعًا عادلاً يستطيعون به الجمع يين العمل والصيام.
أما الفتوى المشار إليها فهي في قضية فردية أفتوا فيها باجتهادهم مشكورين إلا أنه فاتهم ذكر القيود التي ذكرنا والتي قرَّرها المحققون من أهل العلم في كل مذهب. نسأل الله أن يوفق الجميع لما فيه الخير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1) .
من أخذ شيء من ماله ولا يقدر عليه إلا بالفطر
وسئل العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله-:
عن فطر من أخذ شيء من ماله، ولا يقدر عليه إلا بالفطر؟
فأجاب: أما إذا أخذ غنم أو غيرها لأهل بلد، ولا يقدر أهل البلد على لحوق المأخوذ إلا بالفطر، فإنه جائز فيما نرى (2) .
يفطر لإنقاذ غيره من مهلكة
وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-:
هل يقاس على الحامل إذا خافت على ولدها -هل يقاس عليها- من أفطر مثلاً لإنقاذ غيره، يعني: بأن يقضي وعليه إطعام؟
فأجاب: نعم؛ يفطر لإنقاذ غيره من مهلكة إذا استدعى الأمر أن يفطر ولا يتمكن من إنقاذ غيره من المهلكة إلا بالإفطار؛ فله أن يفطر ويقضي (3) .
__________
(1) "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (3/233-234) .
(2) "الدرر السنية في الفتاوى النجدية" (5/348) .
(3) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح فوزان" (3/141) .(3/109)
الفطر بسبب الامتحانات لا يجوز
وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
هل الامتحان عذر يبيح الإفطار في رمضان؟ لأنه انتشرت عندنا بعض الفتاوى بإباحة الفطر في رمضان لمن خاف شرود ذهنه وعدم تركيزه، وهل يجوز طاعة الوالدين في الفطر لسماعهم هذه الفتاوى التي تجيز الفطر؟ نرجو من فضيلتكم الرد بسرعة لعموم البلوى بهذه الفتاوى وجزاكم الله خيرًا.
فأجابت: الامتحان المدرسي ونحوه لا يعتبر عذرًا مبيحًا للإفطار في نهار رمضان، ولا يجوز طاعة الوالدين في الإفطار للامتحان؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما الطاعة بالمعروف، كما جاء بذلك الحديث الصَّحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) .
- وسئل أيضًا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
إذا كان امتحان الشهادة الثانوية في رمضان فهل يجوز للطالب أن يفطر في رمضان حتى يستطيع أن يركز في الامتحان؟
فأجاب: لا يجوز للمكلف الإفطار في رمضان من أجل الامتحان، لأن ذلك ليس من الأعذار الشرعية بل يجب عليه الصوم وجعل المذاكرة في الليل إذا شق عليه فعلها في النهار.
وينبغي لولاة أمر الامتحان أن يرفقوا بالطلبة وأن يجعلوا الامتحان في غير رمضان، جمعًا بين مصلحتين:
1- مصلحة الصيام.
2- التفرغ للإعداد للامتحان.
وقد صحَّ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "اَّللهم مَن وَلِي مِن أَمْر أُمتي شَيئًا فَرَفَقَ بِهِم فَارفق
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (9601) .(3/110)
به، وَمَن وَلِي مِن أَمْر أمتي شيئًا، فشق عليهم فاشقق عليه" أخرجه مسلم في "صحيحه".
فوصيتي للمسؤولين عن الامتحان أن يرفقوا بالطلبة والطالبات وألا يجعلوه في رمضان بل قبله أو بعده ونسأل الله للجميع التوفيق (1) .
وسئل أيضًا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
عما وقع من رجل في حال الجهل، وهو أنه جامع زوجته في نهار رمضان وهو صائم عدة مرات، ثم سمع بعد ذلك أنه لا يجوز الجماع في حال الصوم؟
فأجاب: لا شك أن الله سبحانه قد حرم على عباده في نهار رمضان الأكل والشرب والجماع، وكل ما يفطر الصائم، وأوجب على من جامع في نهار رمضان -وهو مكلف صحيح مقيم غير مريض ولا مسافر- الكفارة، وهو عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا لكل مسكين نصف صاع من قوت البلد.
أما من جامع في نهار رمضان، وهو ممن يجب عليه الصيام، لكونه بالغا صحيحًا مقيما -جهلا منه- كمثل ما وقع منك.
فقد اختلف أهل العلم في شأنه:
- فقال بعضهم: عليه الكفارة؛ لأنه مفرط في عدم السؤال، والتفقه في الدين.
- وقال آخرون من أهل العلم: لا كفارة عليه من أجل الجهل.
وبذلك تعلم أن الأحوط لك هو الكفارة، من أجل تفريطك وعدم سؤالك عما يحرم عليك قبل أن تفعل ما فعلت.
لاذا كنت لا تستطيع العتق والصيام، كفاك إطعام ستين مسكينًا عن كل يوم جامعت فيه، فإذا جامعت في يومين فكفارتان، وإن كنت جامعت في ثلاثة أيام فثلاث كفارات.
__________
(1) "الفتاوى لابن باز - كتاب الدعوة" (1/162-163) .(3/111)
وهكذا كل جِماع في يوم عنه كفارة، أما الجِمَاعات المتعددة في يوم واحد فيكفي عنها كفارة واحدة، هذا هو الأحوط لك والأحسن، حرصًا على براءة الذمة، وخروجا من خلاف أهل العلم، وجبرًا لصيامك.
وإذا لم تحفظ عدد الأيام التي جامعت فيها، فاعمل بالأحوط وهو الأخذ بالزائد، فإذا شككت هل هي ثلاثة أيام أو أربعة، فاجعلها أربعة وهكذا ولكن لا يتأكد عليك إلا الشيء الذي تجزم به.
وفقنا الله وإياك لما فيه رضاه، وبراءة الذمة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1) .
حكم من جامع زوجته في نهار رمضان وهي حائض
وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
امرأة في الكويت تسأل قالت: جامعني زوجي في النهار في يوم من أيام شهر رمضان المبارك وأنا حائض وزوجي صائم فما الحكم؟
فأجابت: هذا السؤال يشتمل على مسألتين:
الأولى: أن هذا الزوج جامع زوجته في نهار شهر رمضان.
والجواب عن ذلك: أن عليه القضاء والكفارة، مع التوبة إلى الله سبحانه فيقضي يومًا بدلاً عن اليوم الذي جامع فيه.
وأما الكفارة: فعتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا.
أما وجوب القضاء: فمما رواه ابن ماجه بسنده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للأعرابي الذي جامع زوجته في نهار رمضان: "وصُم يَوْما مَكَانَه"
وأما وجوب الكفارة: فلما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السنن وغيرها أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال
__________
(1) "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (3/199-200) .(3/112)
للأعرابي الذي جاء زوجته في نهار رمضان "أعتق رقبة".
قال: لا أجد، قال: "صم شَهْرَين مُتتابِعَين"، قال: لا أستطيع، قال: "أَطْعِم سِتِّين مِسكينًا" الحديث.
وليس على المرأة شيء؛ لأن وجوب أداء الصيام ساقط في حقها للحيض.
وأما المسألة الثانية، فهي: أنه جامع زوجته وهي حائض.
والجواب: عليه دينار أو نصفه؛ لحديث ابن عباس: "يَتَصَدَّق بِدِينار أو نِصْفُه" رواه أحمد والترمذي وأبو داود، وقال: هكذا الرواية الصحيحة والمراد بدينار: مثقال من الذهب مضروبًا كان أو غيره، أو قيمته من الفضة.
وهذه المرأة إن كانت مطاوعة، فعليها الكفارة كالرجل، وعليهما جميعًا التوبة إلى
الله سبحانه من الجماع في الحيض.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1)
حكم الصائم إذا جامع وهو مسافر
- وسئل العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله-:
"إن الله سبحانه وتعالى أباح الفطر على المسافر. إن كان أهله معه ثم جامع أهله وهو بالسفر نهارًا، فما يكون الحكم الشرعي؟
أفيدونا جزاكم الله خيرًا، ونسترحم إفادتنا، ننتظر ذلك بفارغ الصبر؟
فأجاب: إذا كان مسافرًا سفر قصر، وكان ذلك السفر غير سفر معصية فإن له الفطر في نهار رمضان، دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، بل عند طائفة من العلماء أنه لا يجزيه لو صام عن صيام رمضان والنصوص من الكتاب والسنة الدالة على فطره بالسفر المذكور لم تفرق في تعاطيه المفطرات بين أكل وشرب وجماع، بل له تعاطي الجميع من غير فرق، وحينئذ فهذا المجامع المذكور فى السؤال لا يلزمه شيء.
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (305) .(3/113)
بل هنا مسألة أبلغ من ذلك: وهي أنه لو صام في السفر ثم جامع في هذا الصيام فسد صومه فقط، ولا كفارة عليه لوطئه المذكور: لأنه محكوم بفطره من حين عزم على الجماع. والله أعلم (1) .
استعمال العادة السرية في نهار رمضان مفسد للصوم
وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
في رمضان السابق وأنا صائم وقعت في العادة السرية فماذا يجب علي؟
فأجاب: عليك أن تتوب إلى الله من هذه العادة لأنها محرمة على أصح القولين لأهل العلم لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُم لِفُرُوجِهِم حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمَانُهُمْ فَإِنَهم غَيرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [المؤمنون: 5- 7] ، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يَا مَعْشَر الشَّبَابِ، مَنْ اسْتَطَاع مِنْكُم البَاءَة فَلْيتزوج فَإِنهُ أَغَض للبَصَر وَأَحْصَن للفَرج فَمَن لَم يَستَطِع فَعَلَيه بالصُّوم فإنه لَهُ وِجاء"
فأرشد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشباب الذين لا يستطيعون الباءة إلى الصوم، والصوم فيه نوع من المشقة بلا شك، ولو كانت العادة السرية جائزة لأَرشدَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليها، لأنها أهون على الشباب، ولأن فيها شيئا من المتعة، وما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعدل عن الأسهل إلى الأشق لو كان الأسهل جائزا، لأنه كان من عادته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما (2) .
فَعُدُول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأيسر في هذه المسألة يدل على أنه ليس بجائز.
أما بالنسبة لعمله إياها وهو صائم في رمضان، فإنه يزداد إثما لأنه بذلك أفسد صومه، فعليه أن يتوب إلى الله توبتين، توبة من عمل العادة السرية، وتوبة لافساد صومه.
وعليه أن يقضي هذا اليوم الذي أفسده.
__________
(1) "فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (4/196-197) .
(2) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/171-172) .(3/114)
وسئل أيضًا -حفظه الله-:
شاب استمنى في رمضان جاهلاً بأنه يفطر وفي حالة غلبت عليه شهوته، فما الحكم؟
فأجاب: الحكم أنه لا شيء عليه، لأننا قررنا فيما سبق أنه لا يفطر الصائم إلا بثلاثة شروط: العلم -الذكر- الإرادة.
ولكني أقول: أنه يجب على الإنسان أن يصبر على الاستمناء، لأنه حرام لقول الله تعالى: (وَالذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِم أَوْ مَا مَلَكَتْ آَيمَانُهُم فَإِنَّهُم غَير مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [المؤمنون: 5- 7] .
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يَا مَعْشَر الشَّبَاب، مَنْ اسْتَطاعَ مِنكُم الباءَة فَلْيتَزَوج، فإنه أَغَضّ للبَصَر، وَأَحْصَن للفَرْج، وَمَن لَم يَسْتَطِع فَعَلَيه بِالصَّوم"
ولو كان الاستمناء جائزا لأرشد إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأنه أيسر على المكلف، ولأن الإنسان يجد فيه متعة، بخلاف الصوم ففيه مشقة، فلما عدل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الصوم، دلَّ هذا على أنه ليس بجائز (1) .
خروج المني في نهار رمضان
وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين حفظه الله:
رجل عنده سلس البول فأراد أن يجفف ذَكَره فخرج منه منى في نهار رمضان؟
فأجاب: إذا كان هذا الذي خرج منه شهوة يعني إذا حاول أن يفْرِغ البول من المكان فحصلت عنده شهوة فأنزل فإن صومه يفسد، لأن إنزال المني بشهوة بفعل من الصائم من المفطرات أما إذا كان هذا بغير شهوة فإن صومه صحيح ولا قضاء عليه (2) .
وسئلت أيضًا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
أشكو نزول السائل المنوي في أيام رمضان أثناء الصيام بدون أي احتلام أو ممارسة العادة السرية فهل في هذا تأثير على الصوم؟ أفيدونا أفادكم الله.
__________
(1) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/172/173) .
(2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/507) .(3/115)
فأجابت: إذا كان الأمر كما ذكر فإن نزول المني منك بدون لذة في نهار رمضان لا يؤثر على صيامك وليس عليك القضاء (1) .
حكم من قبَّل أو لمس وهو صائم فأمنى أو أمذى
وسئل العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله-:
عمن قَبل أو لمس وهو صائم فأمنى أو أمذى.. إلخ؟
فأجاب: المشهور في مذهب أحمد، أنه يفطر بذلك، وفقا لمالك، واختار الشيخ تقى الدين أنه لا يفطر بذلك، وفقا لأبي حنيفة والشافعي والله أعلم (2) .
حكم من قبل زوجته فأمذى هل يفسد صومه؟
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
عما إذا قبل زوجته، أو ضمها، فأمذى، هل يفسد ذلك صومه أم لا؟
فأجاب: يفسد الصوم بذلك، عند أكثر العلماء (3) .
- وسئل أيضا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
هل خروج المذي لأي سبب كان يفطر الصائم أم لا؟
فأجاب: لا يفطر الصائم بخروجه منه في أصح قولي العلماء (4) .
- وسئل أيضًا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
هل خروج المذي يعد ناقضا من نواقض الصيام يوجب القضاء؟
فأجاب: فيه خلاف، والذي يميل إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن من
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (10645) .
(2) "الدرر السنية فى الأجوبة النجدية" (5/352) .
(3) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/265) .
(4) "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (3/245) .(3/116)
خرج منه المذي فإنه لا يقضي لأنه قد يكون أمرا أغلبيا يكثر فى الشباب ونحوهم بمجرد نظر أو لمس أو غير ذلك فيعظم الضرر بإلزامهم بالقضاء.
والصحيح أن نقول: إن كان خروجه عن تسبب وتعمد فإنه يقضي، وإن كان عن غير تسبب كنظر الفجاءة أو لمس من غير قصد فثارت منه الشهوة فإنه لا يقضي. والله أعلم (1) .
حكم من سحب منه دم وهو صائم
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
ما حكم من سحب منه دم وهو صائم في رمضان وذلك بغرض التحليل من يده اليمنى ومقداره (برواز) متوسط؟
فأجاب: مثل هذا التحليل لا يفسد الصوم بل يعفى عنه، لأنه مما تدعو الحاجة إليه وليس من جنس المفطرت المعلومة من الشرع المطهر (2) .
- وسئل أيضًا فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
هل سحب الدم بكثرة يؤدي إلى إفطار الصائم؟
فأجاب: سحب الدم بكثرة إذا كان يؤدي إلى ما تؤدي إليه الحجامة من ضعف البدن واحتياجه للغذاء، حكمه كحكم الحجامة، وأما ما يخرج بغير اختيار الإنسان مثل أن تجرح الرجل فتنزف دما كثيرا فإن هذا لا يضر لأنه ليس بإرادة الإنسان (3)
التبرع بالدم: هل يفطر الصائم؟
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين حفظه الله:
إذا أخذ شيء من الدم لغرض؟
__________
(1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (53) .
(2) "الفتاوى لابن باز - كتاب الدعوة" (2/163) .
(3) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/175) .(3/117)
فأجاب: إذا أخذ الإنسان شيئًا من الدم قليلاً لا يؤثر في بدنه ضعفًا فإنه لا يفطر بذلك سواء أخذه للتحليل أو لتشخيص المرض، أو أخذه للتبرع به لشخص يحتاج إليه.
أما إذا أُخذ من الدم كمية كبيرة يلحق البدن بها ضعف فإنه يفطر بذلك، قياسا على الحجامة التي ثبتت السنة بأنها مفطرة للصائم.
وبناء على ذلك فإنه لا يجوز للإنسان أن يتبرع بهذه الكمية من الدم وهو صائم صومًا واجبًا، إلا أن يكون هناك ضرورة فإنه في هذا الحال يتبرع به لدفع الضرورة ويكون مفطرًا يأكل ويشرب بقية يومه ويقضي بدل هذا اليوم.
وذكرت هذا التفصيل وإن كان السؤال يختص بنهار رمضان..
وبناء على ذلك فإنه إذا كان صائمًا في نهار رمضان فإنه لا يجوز أن يتبرع بدم كميته كثيرة بحيث يلحق بدنه منها ضعف إلا عند الضرورة فإنه يتبرع بذلك، ويفطر بقية يومه ثم يقضي بدله يومًا آخر (1) .
هل الفصاد في نهار رمضان يفسد الصوم؟
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
عن الفصاد في شهر رمضان، هل يفسد الصوم أم لا؟
فأجاب: إن أمكنه تأخير الفصاد أخَّره، وإن احتاج إليه لمرض افتصد وعليه القضاء في أحد قولي العلماء. والله أعلم (2) .
وسئل أيضًا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
هل الحجامة من مبطلات الصيام؟
فأجاب: هذه مسألة خلافية:
ذهب "الإمام أحمد" إلى أن الحاجم والمحجوم يفطران إذا ظهر من المحجوم دم؛ إذا كانا -الحاجم والمحجوم- عامدين ذاكرين لصومهما.
__________
(1) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/174-175) .
(2) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/268) .(3/118)
واستدل -رحمه الله- بأحاديث مرفوعة وردت في ذلك عن جماعة من الصحابة بلفظ: "أَفْطَر الحَاجِم والمحجُوم". وهذا الحديث قال فيه بعضهم: إنه يبلغ حد التواتر رواه اثنا عشر من الصحابة.
وعلَّل أصحاب هذا القول إفطار الحاجم لأنه يمتص الدم.
وأما المحجوم فلأنه يظهر منه دم كثير فيفطر كما أن خروج دم الحائض يسبب فطرها، وقد يكون الدم الذي يخرج من الحائض في بعض النساء أقل من الذي يخرج من المحتجم، ولأن خروج الدم قد يضعف البدن، وقد يكون استفراغًا كالقيء.
ولو لم تصدق عليه هذه العلل فإن الحديث صحيح رواه جماعة من الصحابة منهم ثوبان وشداد بن أوس ورافع بن خديج.
وهؤلاء الثلاثة روى أحاديثهم "الإمام أحمد" في "مسنده" وأهل "السنن" وكذلك معقل بن يسار وبلال بن رباح وعائشة وأبو هريرة -ورواه أيضًا صاحب القصة الذي ورد فيه الحديث- رضي الله عنهم.
وخالف فى ذلك الأئمة الثلاثة، وقد أخذ أصحابهم يتكلفون في الإجابة عن
الأحاديث التي استدل بها الإمام أحمد -رحمه الله- قال بعضهم: إنما قال: "افطر الحاجم والمحجوم" لأنهما كانا يغتابان الناس. ولما نقل هذا القول الإمام أحمد -رحمه الله- قال: لو كانت الغيبة تفطر ما بقي منّا أحد إلا وهو مفطر.
وأجاب آخرون بأجوبة، منها: أن الحديث منسوخ وقالوا: إنه ورد في أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخَّص في الحجامة للصائم والرخصة تدل على أن حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" منسوخ. ولكن الحديث الذي فيه الرخصة فيه ضعف، وعلى تقدير صحته فلعل الرخصة هي السابقة للمنع، فليس عندنا دليل على أنها متأخرة عن هذا الحديث.
وأقوى ما تمسك به أصحاب هذا القول حديث ابن عباس الذي رواه البخاري قال: "احْتَجَم النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو صَائِم واحْتَجَم وهو مُحْرم".
ولكن جميع الرواة قالوا فيه: احتجم وهو صائم محرم. هذا هو اللفظ الصحيح وأكثر تلامذة ابن عباس لم يذكروا الصيام، وإنما اقتصروا على الإحرام. ولما نقل الحديث للإمام أحمد قال: ليس فيه الصيام إنما انفرد بذكره فلان وفلان ...(3/119)
أما تلامذة ابن عباس كسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة وكريب فلم يذكروا الصيام وإنما قالوا: احتجم وهو محرم. فدلَّ على أن الصيام زيادة من بعض الرواة، ولكن ما دامت الزيادة من ثقة فهي مقبولة.
وقد أجاب بعض العلماء عن هذه الزيادة فقال: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن محرما إلا في سفر، والمسافر مباح له الفطر فيكون احتجم وهو مفطر، وأجاب أصحاب القول الثاني بأن قوله: "صائم" يدل على أنه بقي على صيامه، فإنه لو كان مفطرا لما صح أن يقال: "وهو صائم" فدل على أنه احتجم وهو صائم ولم يتأثر صيامة بذلك الاحتجام.
والصحيح: إن شاء الله: ما ذهب إليه الإمام أحمد -رحمه الله- وهو أن الحجامة تفطر الحاجم والمحجوم لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أفطر الحاجم والمحجوم".
والله أعلم (1)
وسئل أيضًا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
ما هى الحالات التي يبطل فيها خروج الدم الصيام؟
فأجاب: الصيام لا يبطل إلا بالحجامة على الصحيح، مع الخلاف القوي فيها والأكثرون يرون أنه يبطل حتى بالحجامة، لكن الأرجح بطلانه بالحجامة (2) .
حكم تغيير الدم لمريض الكلى وهو صائم
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
ما حكم تغيير الدم لمريض الكلى وهو صائم، هل يلزمه القضاء أم لا؟
فأجاب: يلزمه القضاء بسبب ما يزود به من الدم النقي، فإن زود مع ذلك بمادة أخرى فهي مفطر آخر (3) .
__________
(1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (54-56) .
(2) "فتاوى الشيخ ابن باز" (3/254) .
(3) "فتاوى الأخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الأسلام" للشيخ ابن باز (182) .(3/120)
- وسئلت أيضًا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
يوجد بعض المرضى شفاهم الله تتعطل كلاهم عن العمل مما يضطرهم إلى ما يسمى بالغسيل وهو: أنه هناك كلية صناعية تقوم بتطهير الدم وتنقيته من الشوائب وذلك في الأسبوع مرتين أو ثلاث بحيث يخرج دم الإنسان كله من جسده بأنبوب آخر بعد التنقية مع أنه يضاف للدم داخل الكلية الصناعية بعض المواد المطهرة ولولا هذا العمل لتعرضت حياة الإنسان للموت بسبب تعطل الكلى فهذا الأمر ضروري.
والسؤال: هل يؤثر الغسيل على الصيام إذا كان الإنسان صائما؟
علمًا بأن هذا ضرورة له ويشق عليه أن يفطر ويقفي وجسمه لا يستفيد سوى تنقية الدم من الشوائب وقد كثر التساؤل، أرجو من سماحتكم الإفادة جزاكم الله خيرا؟
فأجابت: غسيل الكلى عبارة عن إخراج دم المريض إلى آلة (كلية صناعية) تتولى تنقيته ثم إعادته إلى الجسم بعد ذلك، وأنه يتم إضافة بعض المواد الكيماوية والغذائية كالسكريات والأملاح وغيرها إلى الدم.
وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء والوقوف على حقيقة الغسيل الكلوي بواسطة أهل الخبرة أفتت اللجنة بأن الغسيل المذكور للكلى يفسد الصيام (1) .
قلع الضرس وبلع الريق هل يفطر الصائم؟
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظة الله-:
قلع الضرس للصائم هل يفطر؟ وبلع الريق وتحليل الدم؟
فأجاب: الدَّم الخارج بقلع الضرس ونحوه لا يفطر؟ فإنه لا يؤثر تأثير الحجامة فلا يفطر به أبدًا.
كذلك أيضًا: لا يفطر الصائم بإخراج الدم من أجل التحليل؟ فإن الطبيب قد يحتاج إلى الأخذ من دم المريض ليختبره، يختبر هذا الدم وينظر ما هو المرض الذي أصابه فهذا
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (9944) .(3/121)
أيضًا لا يفطر؛ لأنه دم يسير لا يؤثر على البدن تأثير الحجامة فلا يكون مفطرا والأصل بقاء الصيام ولا يمكن أن نفسده إلا بدليل شرعي.
وهنا لا دليل على أن الصائم يفطر بمثل هذا الدم اليسير.
وأما أخذ الدم الكثير من الصائم من أجل حَقْنه في رجل محتاج إليه مثلاً، فإنه إذا أخذ منه الدم الكثير الذي يفعل بالبدن مثل فعل الحجامة فإنه يفطر بذلك.
وعلى هذا: فإذا كان الصوم واجبا فإنه لا يجوز لأحدٍ أن يتبرع بهذا الدم الكثير لأحد إلا أن يكون هذا المتبرع له في حالة خطرة لا يمكن أن يصبر إلى ما بعد الغروب وقرر الأطباء أن دم هذا الصائم ينفعه ويزيل ضرورته فإنه في هذه الحال لا بأس أن يتبرع بدمه ويفطر ويأكل ويشرب حتى تعود إليه قوته ويقضي هذا اليوم الذي أفطره والله أعلم (1) .
- وسئل أيضًا الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
لو تسبب في خروج الدم كأن يخلع ضرسه؟
فأجاب: لا حرج عليه أيضًا، لأنه لم يخلع ضرسه ليخرج الدم، وإنما خلع ضرسه لألم فيه، فهو إنما يريد إزالة هذا الضرس، ثم إن الغالب أن الدم الذي يخرج بخلع الضرس، الغالب أنه دم يسير لا يكون له معنى الحجامة (2) .
حكم أخذ الحقنة الشرجية للصائم
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
ما حكم أخذ الحقنة الشرجية عند الصائم للحاجة؟
فأجاب: حكمها عدم الحرج في ذلك إذا احتاج إليها المريض في أصح قولي العلماء، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وجمع كثير من أهل العلم لعدم مشابهتها للأكل والشرب (3) .
__________
(1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/511) .
(2) "فقة العبادات لابن عثيمين" (196) .
(3) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" للشيخ ابن باز (182) .(3/122)
استعمال الإبر في الوريد وفي العضل هل يفطر الصائم؟
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
ما حكم استعمال الإبر التي في الوريد والإبر التي في العضل.. وما الفرق بينهما وذلك للصائم؟
فأجاب: الصحيح أنهما لا تفطران، وإنما التي تفطر في إبر التغذية خاصة. وهكذا أخذ الدم للتحليل لا يفطر به الصائم لأنه ليس مثل الحجامة أما الحجامة فيفطر بها الحاجم والمحجوم في أصح أقوال العلماء لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفْطَر الحَاجِم والمحجُوم" (1) .
- وسئل أيضًا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله:
هل يجوز استعمال الطيب، كدهن العود والكولونيا والبخور في نهار رمضان؟
فأجاب: نعم يجوز استعماله بشرط ألا يستنشق البخور (2) .
استعمال الصائم الروائح العطرية في نهار رمضان
- وسئل أيضًا فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-:
ما حكم استعمال العطر في نهار رمضان؟
فأجاب: لا بأس باستعمال العطر للصائم في بدنه وثيابه، إلا إذا كان الطيب بخورًا أو مسحوقًا فإنه لا يتعمَّد شمهما، لأنه يدخل إلى أنفه شيء من أجزائها، ويصل إلى دماغه، فيؤثر ذلك على صيامه كما نص على ذلك أهل العلم (3) .
الكحل هل يبطل الصيام
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
__________
(1) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" للشيخ ابن باز (175) .
(2) "مجموع فتاوى للشيخ ابن باز" (3/352) .
(3) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/130) .(3/123)
قرأت في بعض كتب الفقهاء أن الكحل من مبطلات الصيام، أرجو التوضيح مع بيان القول الراجح؟
فأجاب: اختلف العلماء في هذه المسألة:
فعدَّه بعضهم من المفطرات وقالوا: إن في العين عروقًا تتصل بالحلق، وإن العلاج الذي يصبّ في العين له قوة سريان يحس به في الحلق. فلأجل ذلك جعلوا العين منفذًا للجوف، فمنعوا الاكتحال الذي له حرارة وقوة وألحقوا به العلاجات الحديثة مثل المَراهِم والقطرات، فإنها بمجرد ما توضع على العين تنفذ في العروق وتصل إلى الحلق، ويحس بطعمه، ولذلك قالوا إنها مفطرة؛ لأن كل شيء وصل طعمه إلى الحلق وأحس بطعمه واختلط بالريِّق، فلابد أنه يدخل في الجوف، ولو لم يكن شيئًا محسوسًا.
واستدلوا أيضًا بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالإثمد عند النوم، وقال: "لِيتقه الصائم" رواه أبو داود وغيره.
القول الثاني: وهو اختيارالشيخ تقي الدين: أن الاكتحال لا يفطر، لأن العين ليست منفدًا محسوسًا كالفم والأنف، ولو كان فيها عروق داخلة، فإذا كانت العين منفدا غير محسوس، فلا يضر الاكتحال ووصول طعم الكحل إلى الحلق، ولو كان الاكتحال منهيًا عنه لورد ذكر النهي في السنة، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابد وأنه قد بين لأمته كل شيء يخل بعباداتهم كالصيام، ثم إن الاكتحال شيء معتادون على العلاج به ولو كان علاج العين ينافي الصيام أو يفطر لنقل لنا، فلما لم ينقل دل على أنه باقي على الأصل وهو الإباحة.
أما الحديث الذي استدل به أصحاب القول الأول فهو ضعيف، والأولى تأخير الاكتحال إلى الليل، فإن كان هناك ضرورة وعالج عينه نهارًا فلا بأس. والله أعلم (1) .
استخدام مراهم للأنف للصائم
- وسئل الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
__________
(1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (52-53) .(3/124)
هناك بعض الناس من الصُوام يجد نشوفة في أنفه أو في شفتيه فيستعمل بعض المراهم أو المرطبات لذلك: فما حكمه؟
فأجاب: يجد بعض الصوام نشوفة في أنفه ونشوفة في شفتيه، فلا بأس أن يستعمل الإنسان ما يندي الشفتين والأنف من مرهم، أو يبله بالماء بخرقة أو شبه ذلك، ولكن يحترس من أن يصل شيء إلى جوفه من هذا الشيء الذي أزال به النشوفة (1) .
حكم القطرة والمرهم في العين للصائم
- وسئل الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
ما حكم القطرة والمرهم في العين؟
فأجاب: لا بأس للصائم أن يكتحل وأن يقطر في عينه كذلك في أذنيه حتى وإن وجد طعمه في حلقه، فإنه لا يفطر بهذا، لأنه ليس بأكل ولا شرب ولا بمعنى الأكل والشرب، والدليل إنما جاء في منع الأكل والشرب فلا يلحق بهما ما ليس في معناهما، وهذا الذي ذكرناه هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وهو الصواب (2) .
القطرة في الأنف والأذن والعين في نهار رمضان
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
ما حكم استعمال معجون الأسنان، وقطرة الأذن، وقطرة الأنف، وقطرة العين للصائم؟
واذا وجد الصائم طعمهما في حلقه فماذا يصنع؟ أثابكم الله.
فأجاب: بسم الله والحمد لله.. تنظيف الأسنان بالمعجون لا يفطر به الصائم كالسواك، وعليه التحرز من ذهاب شيء منه إلى جوفه، فإن غلبه شىء من ذلك بدون قصد فلا قضاء عليه. وهكذا قطرة العين والأذن لا يفطر بهما الصائم في أصح قولي العلماء.
__________
(1) "فقة العبادات لابن عثيمين" (193) .
(2) "فقة العبادات لابن عثيمين" (191-192) .(3/125)
فإن وجد "طعم القطور في حلقه، فالقضاء أحوط ولا يجب؛ لأنهما ليسا منفذين للطعام والشراب، أما القطرة في الأنف فلا تجوز، لأن الأنف منفذ.
ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وبالغ فِي الاسْتِنْشَاق إلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا"
وعلى من فعل ذلك القضاء لهذا الحديث، وما جاء في معناه إن وجد طعمهما في حلقه، والله ولي التوفيق (1) .
- وسئل أيضًا الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
قطرة العين والأنف والاكتحال والقطرة في الأذن هل تفطر الصائم؟
فأجاب: جوابنا على هذا أن نقول: قطرة الأنف إذا وصلت إلى المعدة أو إلى الحلق فإنها تفطر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في حديث لقيط بن صبرة: "بَالِغْ فِي الاسْتِنْشَاق، إلا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا"
فلا يجوز للصائم أن يقطر في أنفه ما يصل إلى معدته أو إلى حلقه وأما مالا يصل إلى ذلك من قطرة الأنف فإنها لا تفطر.
وأما قطرة العين ومثلها أيضًا الاكتحال وكذلك القطرة في الأذن: فإنها لا تفطر الصائم؛ لأنها ليست منصوصًا عليها ولا بمعنى المنصوص عليه، والعين ليست منفذا للأكل والشرب.
وكذلك الأذن فهي كغيرها من مسام الجسد.
وقال أهل العلم: لو لَطَّخَ الإنسان قدميه ووجد طعمه في حلقه لم يفطره ذلك؛ لأن ذلك ليس منفذاً.
وعليه: فيكون إذا اكتحل أو قطر في عينه أو قطر في أذنه لا يفطر بذلك ولو وجد طعمه في حلقه ومثل هذا لو تَدَهن بدهن للعلاج أو لغير العلاج فإنه لا يضره وكذلك لو كان عنده ضيق تنفس فاستعمل هذا الغاز الذي يبخ في الفم لأجل تسهيل التنفس عليه فإنه لا يفطر؛ لأن ذلك لا يصل إلى المعدة، فليس أكلاً ولا شربا والله أعلم (2) .
__________
(1) "فتاوى الشيخ ابن باز" (3/247-248) .
(2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/520) .(3/126)
شرب الدخان حرام ومن المفطرات
- وسئل الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
إذا كان الدخان ليس بطعام ولا شراب ولا يصل إلى الجوف فهل هو من المفطرات؟
فأجاب: فنقول له: إن شرب الدخان حرامٌ عليك في رمضان وفي غير رمضان وفي الليل والنهار.
فاتق الله في نفسك وأقلع عن هذا الدخان، واحفظ صحتك وأسنانك ومالك وأولادك ونشاطك مع أهلك؛ حتى ينعم الله عليك بالصحة والعافية، وأما قوله: "إنه ليس بشراب" فإني أقول له: هل يقال فلان يشرب الدخان؟ يقال يشرب الدخان؛ وشرب كل شىء بحسبه، فهذا شراب بلا شك ولكنه شراب ضار محرم.
ونصيحتي له ولأمثاله: أن يتقي الله في نفسه وماله وولده وفي أهله؛ لأن كل هذه الأشياء يصحبها ضرر من تعاطي هذا الدخان، وأسأل الله سبحانه وتعالى له ولإخواننا المسلمين العصمة مما يغضب الله وبهذا تبين أن شرب الدخان يفطر الصائم مع ما فيه من الإثم (1) .
بلع البلغم هل يفطر الصائم؟
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
هل بلع البلغم يفطر؟
فأجاب: البلغم أو النخامة، إذا لم تصل إلى الفم فإنها لا تفطر -قولاً واحدا في المذهب-، فإن وصلت إلى الفم ثم ابتلعها.
ففيه قولان لأهل العلم:
- منهم من قال: إنها تفطر إلحاقًا لها بالأكل والشرب.
__________
(1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (87) .(3/127)
- ومنهم من قال: لا تفطر إلحاقًا لها بالريق، فإن الريق لا يبطل به الصوم حتى لو جمع ريقه وبلعه فإن صومه لا يفسد.
وهذا هو الراجح، لأنه لا يوجد دليل على إفساد صومه (1) .
ابتلاع النخامة هل يفطر الصائم؟
- وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
ما حكم ابتلاع النخامة؟ ومتى يفطر الصائم إذا ابتلعها؟
فأجاب: يحرم على الصائم بلع النخامة وذلك لاستقذارها، والنخامة تارة تنزل من الرأس إلى الحلق، وتارة تخرج من الصدر.
وفي كلا الحالتين: فإنه يحرم على الصائم ابتلاعها.
فإن اخرجها من صدره مثلاً ثم وصلت إلى فمه ثم أعادها، ففي هذه الحالة تكون مفطرة: لأنه قد ابتلع شيئًا له جرم مع التمكن من إلقائها ومع كراهة ابتلاعها حتى لغير الصائم فهي مستقذرة طبعًا. أما إن نزلت إلى حلقه وابتلعها مع ريقه فلا يفطر بها مع تحريم ابتلاعها في الصيام (2) .
حكم من ترك القضاء حتى رمضان الذي بعده
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
ما حكم من ترك قضاء صيام رمضان حتى دخل رمضان الذي بعده، ولم يكن له عذر، هل تكفيه التوبة مع القضاء، أم تلزمه كفارة؟
فأجاب: عليه التوبة إلى الله سبحانه. وإطعام مسكين عن كل يوم مع القضاء وهو: نصف صاع- بصاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - من قُوت البلد من تمر أو بُر أو أرز أو غيرها.
ومقداره: كيلو ونصف على سبيل التقريب، وليس عليه كفارة سوى ذلك.
__________
(1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/515) .
(2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (87) .(3/128)
كما أفتى بذلك جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- منهم ابن عباس -رضي الله عنهما-.
أما إن كان معذورًا لمرض أو سفر، أو كانت المرأة معذورة بحمل أو رضاع يشق عليها الصوم معهما، فليس عليهم سوى القضاء (1) .
القضاء لمن لم يصم رمضان سنوات عديدة
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
ما حكم المسلم الذي مضى عليه أشهر من رمضان -يعني سنوات عديدة- بدون صيام مع إقامة بقية الفرائض وهو بدون عائق عن الصوم أيلزمه القضاء إن تاب؟
فأجاب: الصحيح أن القضاء لا يلزمه إن تاب؟ لأن كل عبادة مُوَقَّتة بوقت إذا تعمد الإنسان تأخيرها بدون عذر فإن الله لا يقبلها منه.
وعلى هذا: فلا فائدة من قضائه، ولكن عليه أن يتوب إلى الله عز وجل ويكثر من العمل الصالح ومن تاب تاب الله عليه (2) .
قضاء رمضان لمن أفطر بغير عذر جهلاً بوجوب الصيام
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
هل يجب القضاء على من أفطر أياما من رمضان بغير عذر جهلاً منه بوجوب صيام الشهر؟
وما حكم من كان صيامه غير تعبدي وإنما يرى الناس يصومون فيصوم معهم؟
فأجاب: نعم يجب القضاء على ذلك الشخص الذي أفطر أيامًا من رمضان جهلاً منه بعدم وجوب صيام الشهر؛ وذلك لأن عدم علم الإنسان بالوجوب لا يسقط الواجب وإنما يسقط الإثم، فهذا الرجل ليس عليه إثم لما أفطره ولكن عليه القضاء.
ثم إن كان الرجل يجهل أن صوم رمضان كله واجب، وهو عائش بين المسلمين بعيد
__________
(1) "تحفة الأخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" للشيخ ابن باز (177) .
(2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/536) .(3/129)
جدًّا، فالظاهر أن هذه مسألة فرضية، أما من كان حديث عهد بالإسلام فهذا ربما يجهل صيام كل الشهر.
أما جواب الفقرة الثانية: عن الرجل الذي كان يصوم: لأنه يرى أن الناس يصومون فصام معهم فالظاهر أن هذا يصح صومه؛ لأنه يمسك بنية وهي أنه يفعل كما يفعل المسلمون، والمسلمون يفعلون ذلك تعبدًا لله عز وجل، لكن يجب أن يبين له أن الصوم عبادة وأن ترك الإنسان طعامه وشرابه وشهوته لابد أن يخلص فيه لله عز وجل، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: "يَدَع طَعَامه وَشَرَابه وَشَهْوَتَه مِنْ أجْلِي" (1) .
- وسئل أيضًا العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله-:
عمن أكل ظانًّا أن الشمس قد غربت فتبين أنها لم تغرب؟
فأجاب: فقد اختلف العلماء في وجوب القضاء عليه:
فقال الجمهور بوجوبه، مستدلين بما روى مالك عن عمر: أنه أفطر ثم طلعت الشمس، فقال: "الخطب يسير، وقد اجتهدنا". وزاد عبد الرزاق فى روايته من هذا الوجه: "نقضي يومًا".
وله من طريق حنظلة عن أبيه نحوه، ورواه سعيد بن منصور، وفيه: فقال: "من أفطر منكم فليصم يومًا مكانه". وبما روى هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء بنت أبي بكر قالت: أفطرنا على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم غيم ثم طلعت الشمس. قيل لهشام: أمروا بالقضاء؟ قال: "بد من قضاء". رواه البخاري.
وقال آخرون: لا قضاء عليهم، واستدلوا لذلك بما روى زيد بن وهب قال: كنت جالسًا في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتينا بعساس فيها شراب من بيت حفصة، فشربنا ونحن نرى أنه من الليل، ثم انكشف السحاب فإذا الشمس طالعة، قال فجعل الناس يقولون: نقضي يومًا مكانه، فقال عمر: "والله لا نقضيه، ما تجانفنا لأثم".
وممن قال بهذا القول مجاهد، والحسن، وإسحاق، وأهل الظاهر، وهو إحدى
__________
(1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/536-537) .(3/130)
الروايتين عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وحكى هذا القول عن عروة.
وقال ابن خزيمة -على قول هشام-: "بد من قضاء". إنه لم يسنده، ولم يتبين لي أن عليهم قضاء. وقال ابن حجر على قول هشام: "لا أدري أقضوا أم لا" ظاهر هذه الرواية تعارض التي قبلها وهي قوله: "فأمروا بالقضاء" وأما حديث أسماء فلا يحفظ فيه إثبات القضاء ولا نفيه.
وقال في "الفروع": "صح عن عمر في هذه الصورة روايتان: إحداهما القضاء والأمر، والثانية "لا نقضي ما تجانفنا لإثم". وقال: "قد كنا جاهلين. فعلى هذا لا قضاء" ا. هـ.
والأحوط: القضاء. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (1) .
قضاء الصوم على الترتيب ولو لسبع سنوات
- وسئل العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله-:
- عن حكم ما يلزمه شرعًا حول أشهر الصوم من سنين سبع أمضاها تحت العلاج في المستشفيات بالخارج، وعن ما إذا كان هناك ما يوجب كفارة في ذلك؟
فأجاب: نفيدك أنه ما زال الأمر كما ذكرت من كون المدة التي مضت عليكم، ولم تصم خلال السنوات السبع نظرًا لعدم تمكن حالتك الصحية من أداء ذلك الركن بحكم بقائك مريضًا في المستشفيات.
فإن الواجب عليك والحالة هذه هو قضاء ما فاتك من أشهر الصوم من السنين السبع على الترتيب أولاً بأول.
ويستحب قضاء الأيام من كل شهر متتابعة، فإن لم تستطع جاز لك التفريق بين أيام كل شهر.
__________
(1) "فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (4/193-194) .(3/131)
ولا كفارة عليك في ذلك؛ لأنك زمن تَركك للصوم خلال السنين السبع معذور كما هو الظاهر من سؤالك هذا (1) .
من برئت ذمته بالإطعام لم يجب عليه الصيام
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
إذا بريء شخص من مرض فسبق أن قرر الأطباء استحالة شفائه منه وكان ذلك بعد مضي أيام من رمضان فهل يطالب بقضاء الأيام السابقة؟
فأجاب: إذا أفطر شخص رمضان -أو من رمضان- لمرض لا يرجى زواله إما بحسب العادة وإما بتقرير الأطباء الموثوق بهم، فإن الواجب عليه أن يطعم مسكينًا.
فإذا فعل ذلك وقدر الله له الشفاء فيما بعد فإنه لا يلزمه أن يصوم عما أطعم عنه لأن ذمته برئت بما أتى به من الإطعام بدلاً عن الصوم.
وإذا كانت ذمته قد برئت فلا واجب يلحقه بعد براءة ذمته.
ونظير هذا: ما ذكره الفقهاء رحمهم الله في الرجل الذي يعجز عن أداء فريضة الحج عجزًا لا يرجى زواله فيقيم من يحج عنه ثم يبرأ بعد ذلك فإنه لا تلزمه الفريضة مرة ثانية (2) .
إذا تعدد الجماع في اليوم أو في الشهر هل تتعدد الكفارة؟
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
إذا تعدد الجماع في اليوم أو في شهر رمضان فهل تتعدد هذه الكفارة؟
فأجاب: المفهوم من مذهب الإمام أحمد أنه إذا تعدد في يوم ولم يكفر عن الجماع
__________
(1) "فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (4/199) .
(2) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/180) .(3/132)
الأول كفاه كفارة واحدة، وإن تعدد في يومين لزمه لكل يوم كفارة؛ لأن كل يوم عبادة مستقلة (1) .
وسئل أيضًا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
إذا جامع الرجل الزوجة في نهار رمضان في اليوم الواحد أكثر من مرة. فهل تجب عليه كفارة واحدة أو أكثر؟
فأجاب: إذا جامع الرجل زوجته في اليوم مرتين فليس عليه إلا كفارة واحدة.
وكذلك إذا جامع في يومين ولم يكفر عن اليوم الأول فإنه يكفر عن هذين اليومين كفارة واحدة. أما إذا جامع مثلاً أول النهار ثم كفر ثم جامع بعد ذلك فعليه كفارة ثانية (2) .
لم أوجبوا الكفارة على الرجل مطلقًا وأسقطوها عن المرأة مع النسيان والإكراه؟
- وسئل العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله-:
لم أوجبوا الكفارة على الرجل مطلقا وأسقطوها عن المرأة مع النسيان والإكراه؟
فأجاب: في هذه المسألة خلاف كثير، والمشهور في المذهب وجوب القضاء والكفارة على الرجل مع النسيان كالعمد، وهو مذهب مالك، وعن أحمد رواية أخرى: لا كفارة عليه -اختاره ابن بطة- وعنه لا قضاء- اختاره الآجري والشيخ تقي الدين-، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، والمكره كالمختار في المشهور من المذهب، وفاقًا لأبي حنيفة ومالك: وعن أحمد رواية أخرى: لا قضاء ولا كفارة عليه.
والمرأة المطاوعة يفسد صومها، وتُكَفِّر في إحدى الروايتين، وهو قول أبي حنيفة ومالك، والرواية الأخرى لا كفارة عليها، وهو مذهب الشافعي، وفي فساد صوم المكرهة على الوطء روايتان: إحداهما: يفسد، وهو قول أبي حنيفة ومالك. والثانية: لا يفسد، وهو أحد قولي الشافعي، وعلى القول بفساده، فنص أحمد لا كفارة عليها، وهو
__________
(1) "فقة العبادات لابن عثيمين" (198) .
(2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (70) .(3/133)
قول الأكثرين، وفي وجوب الكفارة على الناسية قولان: أحدهما: أنها كالرجل، وهو الذي ذكره القاضي والمشهور في المذهب، وهو قول الجمهور لا كفارة عليها.
وفي عبارة الكافي التي ذكرتموها توجيه الفرق بين الرجل والمرأة في ذلك وقوله: ولأنه حق مال يتعلق بالوطء، يعني أن الكفارة حق، يجب في المال بسبب الوطء، وقوله: من دون جنسه، معناها: أن الكفارة حق يوجبه الوطء خاصة من دون جنسه، أي جنس الوطء من أنواع الاستمتاع، كالقبلة واللمس ونحوهما، فلا كفارة في ذلك، أو مراده بجنسه جنس مفسدات الصيام، من الأكل والشرب ونحوهما (1) .
جامع زوجته وهو لم يعلم أن ذلك اليوم من رمضان
- وسئل العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله-:
عن رجل جامع زوجته أول يوم من رمضان، وهو لم يعلم أن ذلك اليوم من رمضان؟
فأجاب: الحمد لله. المذهب أن عليه القضاء والكفارة. وفيه قول آخر أن ليس عليه كفارة؛ لأنه معذور، اختاره الشيخ تقي الدين وغيره، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم (2) .
باشر زوجته معتقدًا بقاء الليل ثم تبين له طلوع الفجر
- وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
عن رجل وَطِيء امرأته وقت طلوع الفجر معتقدًا بقاء الليل، ثم تبين أن الفجر قد طلع، فما يجب عليه؟
فأجاب: الحمد لله. هذه المسألة فيها ثلالة أقوال لأهل العلم:
أحدها: أن عليه القضاء والكفارة، وهو المشهور من مذهب أحمد.
والثاني: أن عليه القضاء، وهو قول ثانٍ في مذهب أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، ومالك.
__________
(1) "الدرر السنية فى الأجوبة النجدية" (5/357-358) .
(2) "فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (4/195) .(3/134)
والثالث: لا قضاء ولا كفارة. وهذا قول طوائف من السلف: كسعيد بن جبير، ومجاهد، والحسن، وإسحاق، وداود، وأصحابه والخلف. وهؤلاء يقولون: من أكل معتقدًا طلوع الفجر، ثم تبين له أنه لم يطلع. فلا قضاء عليه.
وهذا القول أصح الأقوال، وأشبهها بأصول الشريعة، ودلالة الكتاب والسنة، وهو قياس أصول أحمد وغيره، فإن الله رفع المؤاخذة عن الناسي والمخطئ. وهذا مخطيء، وقد أباح الله الأكل والوطء حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، واستحب تأخير السحور، ومن فعل ما ندب إليه، وأبيح له، لم يفرط فهذا أولى بالعذر من الناسي، والله أعلم (1) .
جامع زوجته وهو جاهل هل تلزمه الكفارة؟
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
إذا جامع الرجل زوجته وهو جاهل. فهل تلزمه الكفارة؟
فأجاب إذا جامع زوجته وهو جاهل بالحكم لا بما يترتب عليه فإنه يعذر بجهله
والحالة هذه، أما إذا كان عالماً بحرمة الجماع في نهار رمضان فإن عليه القضاء والكفارة (2) .
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
هل هذا الحكم عام فيمن وطيء امرأته في دبرها - والعياذ بالله؟
فأجاب تجب عليه الكفارة بالجماع سواء وطيء في قبل أو دبر (3) .
إذا لم يجد الإطعام هل تسقط عنه الكفارة؟
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
إذا جامع الرجل امرأته في نهار رمضان ولم يجد الإطعام فهل تسقط عنه الكفارة؟
__________
(1) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/263-264) .
(2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (68) .
(3) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (70) .(3/135)
فأجاب: اختلف أهل العلم في هذه المسألة:
فالمذهب أنها تَسقُط وذلك لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يلزمه بالقضاء ولم يقل له: أطعمها أهلك وإذا أيسرت فاقض بل قال: أطعمها أهلك.
والقول الثاني: أنها لا تسقط وأنها تبقى في ذمته متى أيسر كفّر، فإذا قدر على العتق فيما بعد أعتق، وإذا استطاع الصوم في زمن من الأزمان كفّر به واستدل أهل هذا القول بأن الكفارة لازمة للذمة، ولوازم الذمة لا تسقط بالعسر مثل كفارة النذور وكفارة الأيمان فإنها لا تسقط أيضا بل تبقى في الذمة حتى يستطيع ويقدر على التكفير (1) .
هل تسقط كفارة الوطء عن هذا الرجل؟
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
رجل عليه كفارة وطء في نهار رمضان لكنه رجل فقير لم يجد عتق رقبة ولم يستطع صيام شهرين متتابعين ولم يجد أيضًا إطعام ستين مسكينًا، فماذا يفعل؟
فأجاب: إذا لم يجد عتق رقبة ولم يستطع صيام شهرين متتابعين ولم يجد إطعام ستين مسكينا، فإن العلماء المحققين قالوا إنه إذا لم يجد الإطعام فإن الكفارة تسقط عنه إلى غير بدل ولكن عليه أن يقضي ذلك اليوم الذي أفسده ويتوب إلى الله عز وجل ولا يعود (2) .
أفطر رمضان متعمدًا ثم جامع هل يلزمه القضاء والكفارة؟
- وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
عن رجل أفطر نهار رمضان متعمدًا، ثم جامع: فهل يلزمه القضاء والكفارة؟ أم القضاء بلا كفارة؟
فأجاب: عليه القضاء.
__________
(1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (68) .
(2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (67-68) .(3/136)
وأما الكفارة فتجب في مذهب مالك، وأحمد، وأبى حنيفة، ولا تجب عند الشافعي (1) .
جامع زوجته بعد أن أفطر بالأكل هل عليه الكفارة؟
- وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
عن رجل أراد أن يواقع زوجته في شهر رمضان بالنهار، فأفطر بالأكل قبل أن يجامع، ثم جامع، فهل عليه كفارة أم لا؟ وما على الذي يفطر من غير عذر؟
فأجاب: الحمد لله. هذه المسألة فيها قولان للعلماء مشهوران:
أحدهما: تجب، وهو قول جمهورهم: كمالك، وأحمد، وأبى حنيفة وغيرهم.
والثاني: لا تجب، وهو مذهب الشافعي، وهذان القولان مبناهما: على أن الكفارة سببها الفطر من الصوم، أو من الصوم الصحيح، بجماع أو بجماع غيره، على اختلاف المذاهب. فإن أبا حنيفة يعتبر الفطر بأعلى جنسه ومالك يعتبر الفطر مطلقا، فالنزاع بينهما إذا أفطر بابتلاع حصاة أو نواة ونحو ذلك. وعن أحمد رواية أنه إذا أفطر بالحجامة كفّر، كغيرها من المفطرات بجنس الوطء. فأما الأكل والشرب ونحوهما فلا كفارة في ذلك.
ثم تنازعوا هل يشترط الفطر من الصوم الصحيح؟ فالشافعي وغيره يشترط ذلك، فلو أكل ثم جامع، أو أصبح غير ناو للصوم ثم جامع، أو جامع وكفّر ثم جامع: لم يكن عليه كفارة: لأنه لم يطأ في صوم صحيح.
وأحمد في ظاهر مذهبه وغيره يقول: بل عليه كفارة في هذه الصور ونحوها؛ لأنه وجب عليه الإمساك فى شهر رمضان، فهو صوم فاسد فأشبه الإحرام الفاسد.
وكما أن المحرِم بالحج إذا أفسد إحرامه لزمه المضي فيه بالإمساك عن محظوراته، فإذا أتى شيئًا منها كان عليه ما عليه من الإحرام الصحيح وكذلك من وجب عليه صوم شهر رمضان إذا وجب عليه الإمساك فيه وصومه فاسد، لأكل أو جِمَاع، أو عدم نيّة، فقد لزمه الإمساك عن محظورات الصيام.
__________
(1) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/263) .(3/137)
فإذا تناول شيئًا منها كان عليه ما عليه في الصوم الصحيح. وفي كلا الموضعين عليه القضاء؛ وذلك لأن هتك حرمة الشهر حاصلة في الموضعين بل هِي في هذا الموضع أشد؛ لأنه عاص بفطره أولاً، فصار عاصيًا مرتين فكانت الكفارة عليه أوْكد، ولأنه لو لم تجب الكفارة على مثل هذا لصار ذريعة إلى أن لا يكفر أحدا.
فإنه لا يشاء أحد أن يجامع في رمضان إلا أمكنه أن يأكل، ثم يُجامع بل ذلك أعْون له على مقصوده، فيكون قبل الغداء عليه الكفارة، وإذا تغدَّى هو وامرأته ثم جامعها فلا كفارة عليه، وهذا شنيع في الشريعة لا ترد بمثله.
فإنه قد استقر في العقول والأديان أنه كلما عظم الذنب كانت العقوبة أبلغ، وكلما قوي الشبه قويت، والكفارة فيها شوب العبادة، وشوب العقوبة، وشرعت زاجرة وماحية، فبكل حال: قوة السبب يقتضي قوة المسبب.
ثم الفطر بالأكل لم يكن سببًا مستقلاً موجبًا للكفارة. كما يقوله أبو حنيفة، ومالك، فلا أقل أن يكون مُعينًا للسبب المستغل، بل يكون مانعًا من حكمه، وهذا بعيد عن أصول الشريعة.
ثم المجامع كثيرا ما يفطر قبل الإيلاج، فتسقط الكفارة عنه بذلك على هذا القول، وهذا ظاهر البطلان، والله أعلم (1) .
قدم مسافرًا وهو مفطر ووجد امرأته تغتسل من الحيض هل يجوز أن يجامعها؟
- وسئلت لجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
إذا جاء الرجل إلى بيته من السفر وهو مفطر وبعد مسك الصيام وجد زوجته تغتسل من الحيض -وبعد غسلها- هل يجوز أن يجامعها في الحال أو يصوموا يومهم؟
فأجابت: إذا قدم المسافر إلى بلده في رمضان لزمه الإمساك ولا يجوز له أن يجامع زوجته في يوم قدومه مراعاة لحرمة زمن الصيام. وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم (2) .
__________
(1) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/260-263) .
(2) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء" رقم (13432) .(3/138)
حكم من مات وعليه صيام واجب
- وسئل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-:
من مات قبل أن يصوم الواجب عليه ما حكمه؟
فأجاب: إذا مات قبل أن يصوم الواجب الذي عليه من رمضان أو غيره فلا يخلو إما بأن يكون قد تمكن من أداء ما وجب عليه من غير عذر مرض ولا سفر ولا عجز أو لا يكون قد تمكن.
فإن كان قد تمكن من صيامه ولم يكن عذر يمنعه من أدائه، فهذا لا يخلو إما أن يكون صيامه نذرًا موجبا له على نفسه أو كان واجبا عليه بأصل الشرع كالقضاء لرمضان والكفارة.
فإن كان نذرًا صام عنه وليه استحبابًا وإن كان قد خلف تركة وجب أن يصام عنه، وذلك جميع الواجبات بالنذر كلها تفعل عن الميت، لأن النيابة دخلت فيها لخفتها ولكونها أقل مرتبة من الواجبة بأصل الشرع. وإن كان واجبا بأصل الشرع كمن مات وعليه قضاء رمضان وقد عوفي ولم يصمه فإنه يجب أن يطعم عنه كل يوم مسكينًا بعدد ما عليه وعند الشيخ تقي الدين: إن صِيمَ عنه أيضًا أجزأ - وهو قوي المأخذ.
الحال الثاني: أن يموت قبل أن يتمكن من أداء ما عليه مثل أن يمرض في رمضان ويموت في أثنائه وقد أفطر لذلك المرض أو يستمر به المرض حتى يموت ولو بعد مدة طويلة فهذا لا يكفر عنه لعدم تفريطه، ولأنه لم يترك ذلك إلا لعذر، وإن كان كفارة فكذلك، وإن كان نذرًا بأن عين له وقتًا ومات قبل ذلك الوقت كأن عين مثلاً عشر ذي الحجة ومات فى ذي القعدة لم يكن عليه شيء فلا يقضي لعدم إدراك ما يتعلق به الوجوب، وإن لم يعين وقتًا أو عين وقتًا وفرط ولم يصمه وجب أن يقضي عنه وإن لم يفرط بل صادفه الوقت مريضًا ونحوه فيقضي أيضًا على المذهب لأنه أدركه وقت الوجوب.
والصحيح: أن حكمه حكم الواجب بأصل الشرع وهو أحد القولين في المذهب، وهو الموافق لقاعدة المذهب، فإن القاعدة أن الواجب بالنذر أنه يحذى به حذو الواجب(3/139)
بأصل الشرع، فنهاية الأمر يلحق به إلحاقا وأما كونه يكون أقوى منه فبعيد جدًا والله أعلم (1) .
من مات وعليه قضاء من شهر رمضان
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
ما حكم من مات وعليه قضاء من شهر رمضان؟
فأجاب: إذا مات وعليه قضاء من رمضان فإنه يصوم عنه وليه، وهو قرييه أو وارثه، لحديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه" فإن لم يصم وليه، أطعم عن كل يوم مسكينًا (2) .
- وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
من مات وعليه قضاء، هل يصام عنه؟
فأجاب: إذا كان على المريض قضاء أيام من رمضان ولم يقضها حتى مات، فإن كان تركها تهاونًا وتفريطًا فإنه يصام عنه، أما إذا لم يفرط فلا يقضى عنه (3) .
مات وعليه كفارة
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
لي أخ تُوفِّي وعليه كفارة القتل الخطأ وهي صيام شهرين متتابعين، فهل يجوز صيامهما عنه؟
وهل يجوز اقتسامهما بالتتابع - مع إخوتي الأحياء لنبريء شقيقنا المتوفى؟
فأجاب: بسم الله والحمد لله، يشرع لأحدكم أن يصوم عنه شهرين متتابعين: لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" متفق على صحته.
والولي هو القريب، ولا يجوز تقسيمها على جماعة، وإنما يصومهما شخص واحد
__________
(1) "الإرشاد الى معرفة الأحكام" (85-86) .
(2) "فقة العبادات لابن عثيمين" (202-203) .
(3) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 124) .(3/140)
متتابعين كما شرع الله ذلك؛ لقوله سبحانه في حق القاتل: (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) [النساء: 192] .
أما من استطاع العِتْق فعليه العِتْق، ولا يجزئه الصيام. وفق الله الجميع (1) .
إذا مات الشخص وعليه صيام من رمضان
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
إذا مات الشخص وعليه صيام من رمضان أو نذر، هل يصوم عنه أهله أو يدفعون كفارة مكان كل يوم؟
فأجابت: إن شفي وقدر على الصيام ثم مات ولم يصم شرع لوليه أن يصوم عنه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" متفق على صحته.
والولي هو القريب كالأب والابن، والأخ وابن العم وغيره، وإن اتصل مرضه حتى مات فلا قضاء عليه ولا فدية، ولا على قريبه (2) .
يشرع ذلك أن تصوم عن والدك من الأيام مما يغلب على ظنك أنه أفطرها
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
إن والدي تُوفِّي وعليه أيام من رمضان لعام 1400 هـ لا أعرف عددها، وهي ليست في حالة مرض، وأظن أنها في حالة سفر وتعب، وقد حل شهر رمضان الثاني وهو لم يقضه، وقد أشعرته أن عليه ايامًا هل هو قاضيها، فقال: إنني سوف أقضيها في الشتاء، وقد تُوفي إثر حادث مروري فجأة وأنا متأكد أنه لم يقضها أطلب من فضيلتكم إرشادي ماذا أفعل، هل أصوم عنه أو أتصدق حيث أنه خلَّف مالاً كثيرًا؟ هذه كامل المشكلة.
فأجابت: يشرع ذلك أن تصوم عن والدك من الأيام ما يغلب على ظنك أن والدك
__________
(1) "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (3/226) .
(2) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (6288) .(3/141)
أفطرها؛ لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من مات وعليه صيام، صام عنه وليه" متفق عليه (1) .
حكم من مات وعليه خمسة أيام وله خمسة أبناء
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
إذا كان على الميت خمسة أيام من رمضان لم يقضها وأراد أبناؤه وعددهم خمسة أبناء أن يصوموها. فهل يجوز أن يصوم كل واحد منهم يومًا أم لابد أن يقضيها عنه أحدهم؟
فأجاب: ورد في الحديث الصحيح: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه". والولي يدخل فيه كل الورثة، فإذا كان على الميت خمسة أيام كما هو في السؤال فإنه يجوز لأبنائه الخمسة أن يقتسموا صيامها فيصوم كل واحد عن يوم مثلاً ويجوز أن يصوموا كلهم في يوم واحد.
ويستثنى من ذلك الكفارة فإنه يشترط التتابع فيتكفَّل بها أحد الورثة (2) .
صم عن نفسك أولاً ثم صم عن قريبك
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
تُوفِّي جدي وعليه أيام لم يصمها لمرضه، وأحببت أن أصوم عنه، ولكن علي أيام عن مدة الحيض من سنين مضت أحاول الآن قضاءها، فهل يجوز أن أصوم عنه، وعلى هذه الأيام أم أقضي ما عليَّ أولاً ثم أصوم عنه؟
فأجابت: من وَجَبَ عليه قضاء صيام أيام من رمضان وجب عليه المبادرة بالصيام عن نفسه ثم يصوم عن قريبه ما شرع له صيامه عنه.
إذا اتصل موت جدك بمرضه فليمر عليه صيام، واذا شفي من مرضه ثم مات قبل أن يقضي فصومي عنه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" والولي: هو القريب (3) .
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء" رقم (4860) .
(2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 125) .
(3) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء" رقم (7942) .(3/142)
الأوْلى أن تتولى أمها القضاء عنها
وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
لي بنت وهي ضعيفة الجسم، وقد أقبل شهر رمضان علينا ومنعتها أمها من صيام شهر رمضان في خلال سنتين، ثم إن البنت تُوفِّيت وصيام الشهرين في ذمتها، وأسأل: هل على أمها إثم في ذلك، لأنها هي المتسببة في ذلك، وهل يجب عليها القضاء عن بنتها؟ أفيدونا عن ذلك جزاكم الله خيرًا.
فأجابت: إذا كانت هذه البنت لا تقوى على الصيام لضعفها فهي في حكم المريضة لم تأثم أمها بمنعها من صيام شهر رمضان.
وإذا استمر بها الضعف وعدم القدرة على الصيام حتى ماتت فلا يجب قضاء الصيام عنها.
أما إذا كانت البنت تقوى على الصيام مع ضعفها دون مشقة فادحة، ولا حرج، فأمها آثمة بمنعها من صيام رمضان، ويشرع قضاء الصوم عنها والأوْلى أن تتولى القضاء أمها لكونها متسببة (1) .
من الأحق بالقضاء عن المرأة زوجها أو أولادها؟
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
رجل تُوفِّيت زوجته وعليها قضاء من شهر رمضان، ما حكم القضاء عنها، ومن أحق بالقضاء: زوجها أو أولادها، وهل يجوز تجزئة القضاء على العائلة كل شخص يصوم يومًا، يعني توزع أيام القضاء على العائلة؟
فأجابت: إذا كانت منذ أن أفطرت الأيام من شهر رمضان لم تستطع الصيام حتى توفيت فليس عليها شيء.
أما إن كانت قد صحت من المرض، ولم تقض، فالمشروع لورثتها وأقاربها قضاء ما
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء" رقم (5870) .(3/143)
عليها من الصيام؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" متفق على صحته.
ولا بأس بتوزيع الأيام بينهم. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) .
مات على نية قضاء الصوم ولم يقض
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
ما حكم من مات على نية قضاء الصوم ولم يقض؟ وهل يجوز لأبنائه القضاء عنه؟
فأجابت: من أفطر في رمضان لعذر شرعي ولم يتمكن من القضاء من غير تقصير منه حتى مات فلا قضاء عليه ولا إطعام، أما إن كان التأخير من دون عذر حتى مات فيشرع لأحد أقربائه أن يصوم عنه؛ لما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: متفق على صحته.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (2) .
- وسئل أيضًا فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-:
مرضت زوجتي في رمضان الماضي بعد أن صامت اثنين وعشرين يومًا وبقي عليها ثمانية أيام، وقد اشتد عليها المرض ولم تستطع إكمالها وتُوفَيت بعد رمضان بأيام قليلة، أفيدونا ماذا نعمل في الأيام المتبقية عليها؟ ولكم جزيل الشكر.
فأجاب: هذه المرأة التي مرضت في شهر رمضان وتركت الصيام لأجل المرض واستمر بها المرض إلى أن توفيت ليس عليها شيء فيما تركت من صيام؛ لأنها لم تفرط ولم تترك القضاء تفريطًا، وإنما المرض حال بينها ويين الصيام والقضاء فلا شيء عليها في ذلك لقوله تعالي: (لاَ يُكَلفُ الله نَفْسًا إلاُّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286] (3) .
لا شيء على من لم يفرط في قضاء ما عليه
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله-:
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" رقم (3122) .
(2) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" رقم (9861) .
(3) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (1/925) .(3/144)
لنا بنت توفيت قبل يومين وعليها أيام من شهر رمضان، أرجو إفادتنا: هل نصوم عنها تلك الأيام، أو نتصدق عنها، أو نصوم عنها ونتصدق؟ أرجو إفادتنا أثابكم الله ووفقكم لما فيه خير الإسلام والمسلمين والسلام.
فأجاب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته بعده:
إذا كانت البنت ماتت في مرضها بعد العيد، فليس عليها شيء لا قضاء ولا إطعام، أما إن كانت بعد العيد سليمة تستطع الصوم، وإنما حدث الأجل بعارض، فيشرع لكم أن تصوموا عنها ما يقابل الأيام التي مضت عليها بعد العيد وهي سليمة (1) .
أصيبَتْ باختلال عقلي فلم تصلي ولم تصم ثم ماتت هل يصام عنها؟
- وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-:
والدتي يرحمها الله مرضت قبل وفاتها مرضًا شديدا إثر سقوطها على رأسها سقوطًا شديدًا أدى إلى إصابتها باختلال عقلي لمدة سنة كاملة، ولذا لم تستطع أداء فريضتي الصيام والصلاة، فأرجو إفادتي: هل يجب على أن أقوم بالقضاء عنها، أو الكفارة أو أي عمل ترشدونني إليه، حفظكم الله وسدد خطاكم؟
فأجاب: إذا كانت بالصفة التى ذكرت بأنها مختلة العقل والشعور بسبب الإصابة فهذه لا صيام عليها ولا تكليف عليها لأنها زائلة العقل، والعبادة إنما تجب على العاقل البالغ؛ فلا صيام على هذه المصابة التى ماتت بإصابتها وهي مختلة العقل وزائلة الشعور.
أما إذا كان معها عقلها ومعها شعورها، ولكنها أتت عليها الإصابة حتى ماتت: فإن الصيام لا يسقط عنها. فإذا كان لها تركة: فإنه يخرج من تركتها كفارة إطعام مسكين عن كل يوم من الأيام التى تركتها، وأن تبرع أحد من أقاربها وأطعم عنها أو صام عنها: فإنه يرجى أن ينفعها ذلك (2) .
__________
(1) "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (3/228-229) .
(2) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/140-141) .(3/145)
هل القضاء عن الميت خاص بصوم النذر فقط؟
وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
من مات وعليه قضاء أيام من رمضان فهل يصام عنه مطلقًا أم يُقضى الأيام المنذورة فقط؟
فأجاب: ذهب الإمام أحمد إلى أن القضاء خاص بالنذر أما الفرض فإنه لا يقضى عن الميت ولكن يتصدق. من تركته عن كل يوم نصف صاع.
واستدل الإمام أحمد -رحمه الله- بحديث: "لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد".
وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا فرق بين النذر والفرِض فكلاهما يُقضى عن الميت لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه".
أما الحديث الذي استدل به الإمام أحمد فإنه محمول على الأحياء، فإن الحي لا يجوز له أن يوكل غيره في العبادات إلا في بعض الحالات.
فالقول الصحيح -إن شاء الله-: أن قضاء الصيام عن الميت عام في الفرض والنذر (1) .
موجبات القضاء والكفارة
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
أريد أن أعرف موجبات القضاء والكفارة في رمضان، علمًا أنه سبق أن بحثت الموضوع، وانتهى بي البحث إلى رأيين: أحدهما يرى أن موجبات القضاء والكفارة هو الجماع لا غير، والدليل معروف في السنة المطهرة، أما الرأي الثاني: فيجعل كل ما يصل إلى المعدة عمدًا موجبًا للقضاء والكفارة، إضافة إلى الجماع دون أن أعثر على دليل من الكتاب والسنة.
لذا أرجو من فضيلتكم إفادتي بالجواب الشافي المدعم بالدليل من الكتاب والسنة، وجزاكم الله عنا وعن المسلمين كل خير.
__________
(1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 124-125) .(3/146)
فأجابت: نص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الحكم بوجوب الكفارة على أعرابى لكونه جامع زوجته عمدا في نهار رمضان وهو صائم، فكان ذلك منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيانًا لمناط الحكم، ونصا على علته.
واتفق الفقهاء على أن كونه أعرابيًا وصف طردي لا مفهوم له، ولا تأثير له في الحكم فتجب الكفارة بوطء التركي والأعجمي زوجته.
واتفقوا أيضًا على أن وصف الزوجة في الموطوءة طردي غير معتبر فتجب الكفارة بوطء الأمة وبالزنا.
واتفقوا أيضًا على أن مجيء الواطيء نادمًا لا أثر له في وجوب الكفارة فلا اعتبار له أيضًا في مناط الحكم.
ثم اختلفوا في الجماع هل هو وحده المعتبر في وجوب الكفارة بإفساد الصوم به فقط، أو المعتبر انتهاك حرمة رمضان بإفساد الصوم عمدًا ولو بطعام أو شراب:
* فقال الشافعي وأحمد بالأول.
* وقال أبو حنيفة ومالك ومن وافقهما بالثاني.
ومنشأ الخلاف بين الفريقين اختلافهما في تنقيح مناط الحكم، هل هو انتهاك حرمة صوم رمضان لافساده بخصوص الجماع عمدًا، أو انتهاكه بإفساد صومه عمدًا مطلقًا ولو بطعام أو شراب.
والصواب الأول؛ تمشيا مع ظاهر النص، ولأن الأصل براءة الذمة من وجوب الكفارة حتى يثبت الموجب بدليل واضح (1) .
- وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-:
من صام يوم قضاء فهل يجوز قطعه. وكذلك يوم النفل؟
فأجاب: لا يجوز للإنسان إذا نوى صوم القضاء وشرع فيه أن يقطعه لأنه إذا نواه وبدأه وجب عليه إكماله، لأن الفرض الموسّع إذا دخل فيه الإنسان فإنه يجب عليه إكماله ولا يجوز له قطعه، وإنما التوسعة قبل أن يدخل فيه فإذا دخل فيه فلا يجوز قطعه.
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" رقم (9393) .(3/147)
أما إذا صام النَّفل فإنه يجوز له أن يقطعه لأن صيام النفل لا يلزم إتمامه ولكن الأفضل له إتمامه وله أن يفطر ولا حرج عليه في ذلك، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل بيته وهو صائم صيام نفل ولما وجد فيه طعاما أهدي إليهم أكل منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقطع صومه، فدل على أن صوم النافلة لا يلزم إتمامه (1) .
لا يجزيء دفع نقود عن الإطعام
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
بعض الطلبة عليهم قضاء رمضان، وقد حال عليهم رمضان آخر وكما نعلم أن عليهم القضاء مع الإطعام عن كل يوم مسكين، لكن يريدون أن يقضوها في أي مكان آخر في "الرياض" في أوقات الشتاء أو "أبها" فهل يجوز أن يطعموا دفعة واحدة قبل الصيام أو أنهم يصومون ثم بعد ذلك إذا وصلوا إلى بلدهم يطعمون على حسب الأيام التي صاموها، حيث أنهم لا يعرفون أحدًا في المدن الأخرى، وهل تجزيء النقود في ذلك، وكم تعادل النقود في كل يوم إذا كانت تجزيء عن ذلك؟
فأجابت: يجوز أن يطعموا كفارة تأخير القضاء دفعة واحدة أو في دفعات قبل القضاء وأثناءه وبعده، ولا يجزيء دفع النقود عن الإطعام.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (2) .
إطعام المساكين هل يكفي في مكان واحد؟
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
هل يكفي إطعام المساكين فى مكان واحد أم لابد من تمليكهم؟
فأجاب: الفقهاء قالوا: لابد من التمليك وهو أن يُسَلِّم لهم طعاما لا يزال حبا أو دقيقَا ... إلخ. أما شيخ الإسلام وغيره فيختارون أنه يكفي أكلهم عنده حتى يشبعوا (3) .
__________
(1) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (1/925) .
(2) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (10750) .
(3) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 82) .(3/148)
الإطعام هل يجوز لغير السلمين؟
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
الإطعام هل يجوز لغير المسلمين؟ وما هي أقسام المرض في الصيام؟
فأجاب: جوابنا على هذا أولاً: لابد أن نعرف أن المرض ينقسم إلى قسمين: مرض يرجى بُرؤُه مثل الأمراض الطارئة التيِ يرجى أن يشفى منها، هذا حكمه كما قال الله تعالى: (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أوْ عَلَى سَفَر فعِدَّةٌ منْ أَيَّام أُخَرَ) [البقرة: 185] ليس عليه إلا أن ينتظر البرء ثم يصوم.
فإذا قدر أنه استمر به المرض في هذه الحال ومات قبل أن يُشْفى فليس عليه شيء؛ لأن الله أوجب عليه القضاء في أيام أخر وقد مات قبل إدراكها فهو كالذي يموت في شعبان قبل أن يدخل رمضان لا يقضى عنه.
والقسم الثاني: أن يكون المرض ملازمًا للمرء مثل مرض السرطان -والعياذ بالله- ومرض الكلى ومرض السكر، وما أشبهها من الأمراض الملازمة التي لا يرجى انفكاك المريض منها فهذه يفطر صاحبها في رمضان ويلزمه أن يطعم عن كل يوم مسكينًا كالكبير والكبيرة، اللذين لا يطيقان الصيام يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكينًا.
ودليل هذا: قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصيَامُ كَمَا كتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تتقونَ * أيَّامًا مَعْدُودَات فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ منْ أَيامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهَ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسكِين) [البقرة: 183، 184] .
فكان هذا في أول الأمر على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ولكن الصيام خير له كما قال تعالى (وَأَن تَصُومُوا خَيرٌ لَكُمْ) [البقرة: 184] .
فكان هذا التخيير بين الصيام والإطعام ثم وجب الصيام عينًا في قوله في الآية الثانية: (شَهْرُ رَمَضَانَ الذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرآنُ هُدًى للنَّاسِ وَبينَاتِ منَ الْهُدَى وَالْفُرقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ منْ أَيَّام أُخَرَ) [البقرة: 185] .
فجعل الله تعالى الإطعام عديلاً للصيام إما هذا أو هذا أول الأمر فإذا لم يتمكن(3/149)
الإنسان من الصيام لا حال رمضان ولا ما بعده رجعنا إلى العديل الذي جعله الله معادلاً للصيام وهو الإطعام.
فيجب على المريض المستمر مرضه وعلى الكبير من ذكر وأنثى أن يطعما عن كل يوم مسكينًا سواء أطعما بالتمليك بأن دفعا إلى الفقراء طعامًا أو كان بالإطعام بالدعوة يدعو مساكين بعدد أيام الشهر فَيُعَشيهم، كما كان أنس بن مالك -رضي الله عنه- يفعل حين كبر صار يجمع ثلاثين مسكينًا فيعشيهم. ويكون ذلك بدلاً عن صوم الشهر.
وخلاصة الجواب: أن المرض على قسمين قسم مرض يرجى زواله فيقضي، ومرض ملازم فيطعم عن كل يوم مسكينًا وأما إذا كان الإنسان في بلاد غير إسلامية ووجب عليه إطعام فإن كان في هذه البلاد مسلمون من أهل الاستحقاق أطعمهم وإلا فإنه يصرفه إلى أي بلد من بلاد المسلمين التي تحتاج إلى هذا الإطعام والله أعلم (1) .
حكم قراءة آيات الصيام أول ليلة من رمضان في العشاء
وسئل العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله-:
عن قراءة آيات الصيام، أول ليلة من رمضان في العشاء؟
فأجاب: لا أعلم لهذا أصلاً ووإنما استحب أحمد في رواية عنه: قراءة سورة القلم في العشاء الآخرة أول ليلة من رمضان وواستحبه الشيخ تقي الدين، وأما قراءة آخر سورة المائدة فلا علمنا أحد استحبه (2) .
حكم السهر في ليالى رمضان لتلاوة القرآن بأجرة
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
السهر في ليالى رمضان عند بعض الناس بالأجر لإحياء ليالى شهر رمضان هل هذا يجوز أم لا يجوز أم حلال أم حرام، أم منهي عنه مع الدليل من الكتاب والسنة؟ حيث أنني أسهر عند بعض الناس كل عام، وأردت أن أمتنع هذا العام حتى أعرف الدليل أرجو إفتائي جزاكم الله خيرا؟
فأجابت: أمر الله تعالى بعبادته وحث على تلاوة كتابه ودراسته، وهذا في ليالى
__________
(1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/543-544) .
(2) "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" (5/310) .(3/150)
رمضان آكد، فقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".
وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا ليلها وحث أهله وأمته على ذلك، فمن فعل ذلك ابتغاء مرضاة الله ورجاء ثوابه فله أجر عظيم.
أما ما اعتاده بعضى المسلمين من السهر في ليالى رمضان في غير بيوتهم لتلاوة القرآن بأجرة فهو بدعة سواء قصدوا بذلك حصول البركة لهذه البيوت ولأهلها أو قصدوا هبة ثواب ما قرأوا لأهلها أحياء وأمواتًا، فإنه لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه فعله؛ فكان بدعة محدثة.
وقد ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفي رواية: وعلى هذا فلا أجر لمن فعله، ولا لمن ساعد عليه، بل عليه وزر لابتداعه وإحداثه في الدين ما ليس منه (1) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
كنت في يوم من أيام رمضان ذهبت في صبح يوم من أيامه إلى جبل ويوجد بالجبل بعض الصيود، فأخذت بندقية فصدت بعض الصيد كي نأكله بعد الإفطار، فهل علي إثم في ذلك أو كفارة عما فعلته؟ وهل الصيد في شهر رمضان محرم؟ وماذا أعمل إذا كان علي شيء؟
فأجابت: من قتل صيدًا وهو صائم فإنه لا يؤثر على صيامه، فصيامك صحيح ولا قضاء عليك، ولا حرج في الصيد في رمضان (2) .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (5049) .
(2) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (11583) .(3/151)
هل الإفطار الجماعي من محدثات الأمور؟
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
هناك جماعة من الجماعات العاملين في حقل الدعوة في معظم الجماعات الجزائرية يقومون بالإعلان كل يوم أحد على أنه سيكون إفطار جماعي، وهم يصومون الاثنين ثم يجتمعون في قاعة من القاعات ويفطرون معا، فلما استفسرنا عن هذا العمل قيل لنا: إنه لصالح الدعوة، ونحن نريد أن نجمع صفوف المسلمين. والسؤال هو حكم الشرع حول ذلك: هل هو من محدثات الأمور أم لا؟
فأجابت: إذا كان الأمر كما ذكر في السؤال فلا حرج في الاجتماع المذكور والإعلان عنه (1) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الاعتكاف هل له أقسام؟
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
هل الاعتكاف له أقسام أم أنه قسم واحد؟
فأجاب: الاعتكاف ليس إلا قسمًا واحدا، وهو كما أسلفنا: لزوم مسجد لطاعة الله عز وجل، لكن قد يكون أحيانًا بصوم، وقد لا يكون بصوم.
وقد اختلف أهل العلم: هل يصح الاعتكاف بدون صوم أو لا يصح إلا بصوم؟
ولكن الاعتكاف المشروع إنما هو ما كان في ليالى العشر -عشر رمضان- لأن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف هذه العشر رجاء لليلة القدر (2) .
شروط الاعتكاف
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
ما هي شروط الاعتكاف، وهل الصيام منها، وهل يجوز للمعتكف أن يزور مريضًا، أو
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (11596) .
(2) "فقه العبادات لابن عثيمين" (ص 208) .(3/152)
يجيب الدعوة، أو يقضي حوائج أهله، أو يتبع جنازة، أو يذهب إلى العمل؟
فأجابت: يُشْرَع الاعتكاف في مسجد تقام فيه صلاة الجماعة، وإن كان المعتكف ممن يجب عليهم الجمعة ويتخلل مدة اعتكافه جمعة ففي مسجد تقام فيه الجمعة أفضل، ولا يلزم له الصوم، والسنة ألا يزور المعتكف مريضًا أثناء اعتكافه، ولا يجيب الدعوة، ولا يقضي حوائج أهله، ولا يشهد جنازة، ولا يذهب إلى عمله خارج المسجد؛ لما ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "السنّة على المعتَكِف ألا يَعُود مَرِيضًا ولا يَشهَد جَنَازة، ولا يَمَسّ امرأة، ولا يباشِرها، ولا يَخْرج لِحَاجة إِلاَّ لِماَ لاَبُدَّ مِنه".
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) .
- وسئل أيضًا فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
هل الاعتكاف في شهر رمضان سُنَّة مؤكدة؟
وما هي شروطه في غير رمضان؟
فأجاب: الاعتكاف في رمضان سُنَّة فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته واعتكف أزواجه من بعده، وحكى أهل العلم إجماع العلماء على أنه مسنون ولكن الاعتكاف ينبغي أن يكون على الوجه الذي من أجله شرع وهو أن يلزم الإنسان مسجدًا لطاعة الله سبحانه وتعالى بحيث يتفرغ من أعمال الدنيا إلى طاعة الله بعيدًا عن شؤون دنياه ويقوم بأنواع الطاعة من صلاة وذكرٍ وغير ذلك. وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف ترقُّبًا لليلة القدر والمعتكف يبعد عن أعمال الدنيا فلا يبيع ولا يشتري ولا يخرج من المسجد ولا يتَّبع جنازة ولا يعود مريضًا، وأما يفعله بعض الناس من كونهم يعتكفون ثم يأتي إليهم الزوار أثناء الليل وأطراف النهار وقد يتخلل ذلك أحاديث محرمة فذلك مناف لمقصود الاعتكاف.
ولكن إذا زاره أحد من أهله وتحدث عنده فذلك لا بأس به فقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أن زارته صفية وهو معتكف فتحدثت عنده.
المهم أن يجعل الإنسان اعتكافه تقربًا إلى الله سبحانه وتعالى (2) .
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (6718) .
(2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/547، 548) .(3/153)
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
الاعتكاف له زمان محدد، أو يقتصر على رمضان، أم يجوز في غير رمضان؟ فأجاب: المشروع أن يكون في رمضان فقط لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعتكف في غير رمضان، إلا ما كان منه في شوال حين ترك الاعتكاف سنة في رمضان فاعتكف في شوال.
ولكن لو اعتكف الإنسان في غير رمضان، لكان هذا جائزا؛ لأن عمر -رضي الله عنه-، سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني نذرت أن أعتكف ليلة أو يوما في المسجد الحرام، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَوْفِ بنذرك" (1) .
هل تكفي النية إذا شرط في اعتكافه شيئًا لابد منه ولم ينطق به؟
- وسئل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-:
إذا شرط في اعتكافه شيئًا مما له منه بد، فهل تكفي نيته، أم لابد من نطقه؟
فأجاب نيته كافية عن نطقه، كما هو الأصل في كل العبادات، إلا الاشتراط في الحج، فلابد من نُطْقهِ فيه، والله أعلم (2) .
بعض أحكام الاعتكاف
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
ما حكم الاعتكاف في المساجد، وما معناه شرعًا، وهل هو شامل للنوم مع الأكل في المساجد وإباحته أم لا؟
فأجاب: لا ريب أن الاعتكاف في المسجد قربة من القرب، وفي رمضان أفضل من غيره؛ لقول الله تعالى: (وَلاَ تُبَاِشُروهُنَّ وَأَنتُم عَاكِفُونَ فِي الْمسًاجِدِ) [البقرة: 187] .
__________
(1) "فقه العبادات لابن عثيمين" (ص 208) .
(2) "الفتاوى السعدية للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي" (ص 232) .(3/154)
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وترك ذلك مرة فاعتكف في شوال.
والمقصود من ذلك: هو التفرغ للعبادة والخلوة بالله لذلك، وهذه هي الخلوة الشرعية.
وقال بعضهم في تعريف الاعتكاف: "هو قطع العلائق عن كل الخلائق للاتصال بخدمة الخالق".
والمقصود من ذلك: قطع العلائق الشاغلة عن طاعة الله وعبادته، وهو مشروع في رمضان وغيره كما تقدم، ومع الصيام أفضل، وإن اعتكف من غير صوم فلا بأس على الصحيح من قولي العلماء، لما ثبت في الصحيحين عن عمر رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، -وكان ذلك قبل أن يسلم- فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أوف بِنَذْرك".
ومعلوم أن الليل ليس مَحَلا للصوم، وإنما محله النهار، ولا بأس بالنوم والأكل فى المسجد للمعتكف وغيره؛ لأحاديث وآثار وردت في ذلك؛ ولما ثبت من حال أهل الصفةّ مع مراعاة الحرص على نظافة المسجد والحذر من أسباب توسيخه من فضول الطعام أو غيرها؛ لما جاء في الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "عُرِضَت عَلَي أُجُور أُمَّتي حَتى القَذَاة يُخْرِجها الرجل من المسجِد" رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن خزيمة. ولحديث عن -عائشة رضي الله عنها-، "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب" رواه الخمسة إلا النسائي وسنده جيد.
والدُّور: هي الحارات والقبائل القاطنة في المدن.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل به، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا إنه سميع قريب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1) .
متى يبدأ دخول المعتكف المسجد في العشر الأواخر ومتى ينتهي؟
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
__________
(1) "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (3/264، 265) .(3/155)
إذا أراد شخص أن يعتكف في العشر الأواخر من رمضان كلها في المسجد: فمتى يكون بدء دخوله المسجد، ومتى يكون انتهاء اعتكافه؟
فأجابت: روى البخاري ومسلم -رحمهما الله- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يعتكف، صلى الفجر، ثم دخل معتكفه". وينتهي مدة اعتكاف عشر رمضان بغروب شمس آخر يوم منه (1) .
متى يخرج المعتكف من اعتكافه؟
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين حفظه الله:
متى يخرج المعتكف من اعتكافه؟ أبعد غروب الشمس ليلة العيد أم بعد فجر يوم العيد؟
فأجاب: يخرج المعتكف من اعتكافه إذا انتهى رمضان، وينتهي رمضان بغروب الشمس ليلة العيد، كما أنه يدخل المعتَكَف بغروب شمس ليلة العشرين من رمضان، فإن العشر الأواخر تبتديء بغروب الشمس ليلة العشرين من رمضان، وتنتهي بغروب الشمس ليلة العيد (2) .
حكم الاعتكاف في الغرف التي داخل المسجد
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
هل تعتبر غرفة الحارس وغرفة لجنة الزكاة في المسجد صالحة للاعتكاف فيها؟ علمًا بأن أبواب هذه الغرف في داخل المسجد.
فأجابت: الغرف التي داخل المسجد وأبوابها مشرعة على المسجد لها حكم المسجد، أما إذا كانت خارج المسجد فليست من المسجد، وإن كانت أبوابها داخل المسجد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (3) .
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (6718) .
(2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/551) .
(3) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (6718) .(3/156)
يجوز الاعتكاف في أي وقت دون العشر الأواخر
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
هل يجوز الاعتكاف في أي وقت دون العشر الأواخر من رمضان؟
فأجابت: نعم يجوز الاعتكاف في أي وقت، وأفضله ما كان في العشر الأواخر من رمضان؛ اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه- رضي الله عنهم-.
وقد ثبت عنه أنه اعتكف في شوال في بعض السنوات.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) .
هل يجوز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة؟
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين حفظه الله:
هل يجوز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة؟ وما الدليل؟
فأجاب نعم يجوز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة -المسجد الحرام ومسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمسجد الأقصى-.
ودليل ذلك: عموم قوله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) [البقرة: 187] .
فإن هذه الآية خطاب لجميع المسلمين، ولو قلنا: إن المراد بها المساجد الثلاثة، لكان أكثر المسلمين لا يخاطبون بهذه الآية؛ لأن أكثر المسلمين خارج مكة والمدينة والقدس.
وعلى هذا فنقول: إن الاعتكاف جائز في جميع المساجد، وإذا صح الحديث بأنه "لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة" فالمراد أنه الاعتكاف الأكمل والأفضل، ولا شك ان الاعتكاف في المساجد الثلاثة افضل من غيره، كما أن الصلاة في المساجد الثلاثة افضل من غيرها، فالصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في المسجد النبوي خير من ألف صلاة فيما عداه إلا المسجد الحرام، والصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة.
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (3810) .(3/157)
هذا -أي الأجر- فيما يفعله الإنسان في المساجد، كصلاة الجماعة في الفريضة، وفي صلاة الكسوف، وكذلك تحية المسجد، وأما الرواتب والنوافل التي تفعلها غير مقيد بالمسجد فصلاتك في البيت أفضل.
ولهذا نقول في مكة: صلاتك الرواتب في بيتك أفضل من صلاتك إياها في المسجد الحرام.
وكذلك الأمر بالنسبة للمدينة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال وهو بالمدينة: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي النوافل في بيته.
أما التراويح، فإنها من الصلوات التي تشرع في المساجد؛ لأنها تشرع فيها الجماعة (1) .
وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
هل يجوز لمن كان متطوعًا للإمامة في أحد المساجد أن يخرج من معتكفه فى الحرم للصلاة بالناس؟
فأجاب: المعتكف الذي يصلي في المسجد صلاة التراويح تطوعا منه لا يخرج من معتكفه؛ لأنه غير ملزم بهذا المسجد، وأهل المسجد يدبرون لهم إماما.
أما إذا كان الإنسان رسميًّا في هذا المسجد فإنه لا يجوز له أن يعتكف ويدع المسجد الذي تعهد به أمام الحكومة (2) .
الاتصال بالتليفون للمعتكف هل يجوز؟
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
هل يجوز للمعتكف الاتصال بالتليفون لقضاء حوائج السلمين؟
فأجاب: نعم يجوز للمعتكف أن يتصل بالتليفون لقضاء بعض حوائج المسلمين، إذا كان التليفون في المسجد الذي هو معتكف فيه؛ لأنه لم يخرج من المسجد.
__________
(1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/548، 549) .
(2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/550) .(3/158)
أما إذا كان خارج المسجد فلا يخرج لذلك، وقضاء حوائج المسلمين إذا كان هذا الرجل معنيا بها فلا يعتكف لأن قضاء حوائج المسلمين أهم من الاعتكاف لأن نفعها متعدٍّ، والنفع المتعدي أفضل من النفع القاصر، إلا إذا كان النفع القاصر من مهمات الإسلام وواجباته (1) .
رفض والده ولم يسمح له بالاعتكاف
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
ما حكم من لم يسمح له والده بالاعتكاف لأسباب غير مقنعة؟
فأجاب: الاعتكاف سنة، وبر الوالدين واجب، والسنة لا يسقط بها الواجب، ولا تُعارِض الواجب أصلاً لأن الواجب مقدم عليها.
وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: "مَا تَقَرَّب إِلَيَ عَبدِي بِشَيء أحَبُّ إِليَ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيه" فإذا كان أبوك يأمرك بترك الاعتكاف ويذكر أشياء تقتضي ألا تعتكف لأنه محتاج إليك فيها، فإن ميزان ذلك عنده وليس عندك، لأنه قد يكون الميزان عندك غير مستقيم وغير عدل؛ لأنك تهوى الاعتكاف، فتظن أن هذه المبررات ليست مبررا وأبوك يرى أنها مبرر.
فالذي أنصحك به ألا تعتكف؛ نعم. لو قال أبوك: لا تعتكف، ولم يذكر مبررات لذلك فإنه لا يلزمك طاعته في هذه الحال؛ لأنه لا يلزمك أن تطيعه في أمر ليس فيه ضرر عليه فى مخالفتك إياه وفيه تفويت منفعة لك (2) .
هل للمعتكف في الحرم أن يخرج للأكل أو الشرب؟
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
هل للمعتكف في الحرم أن يخرج للأكل أو الشرب وهل يجوز له الصعود إلى سطح المسجد لسماع الدروس؟
__________
(1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/550، 551) .
(2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/551) .(3/159)
فأجاب: نعم.. يجوز للمعتكف في المسجد الحرام أو غيره أن يخرج للأكل والشرب، إن لم يكن في إمكانه أن يحضرهما إلى المسجد؛ لأن هذا أمر لابد منه، كما أنه سوف يخرج لقضاء الحاجة، وسوف يخرج للاغتسال من جنابة إذا كانت عليه الجنابة. وأما الصعود إلى سطح المسجد فهو أيضًا لا يضر لأن الخروج من باب المسجد الأسفل إلى السطح ما هي إلا خطوات قليلة ويقصد بها الرجوع إلى المسجد أيضًا، فليس في هذا بأس (1) .
ما الذي يباح للمعتكف؟
وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
نود أن نعرف ما الذي يباح للمعتكف؟
فأجاب: المعتكف كما أسلفنا يلتزم المسجد للتفرغ لطاعة الله عز وجل وعبادته، فينبغي أن يكون أكثر همَّه اشتغاله بالقربات من الذكر وقراءة القرآن وغير ذلك، ولكن المعتكف أفعاله تنقسم إلى أقسام: قسم مباحٌ، قسمٌ مشروع ومستحب، وقسمٌ ممنوعٌ.
فأما المشروع: فهو أن يشتغل بطاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته والتقرب إليه؛ لأن هذه هو لُبُّ الاعتكاف والمقصود منه، ولهذا قُيد في المساجد. وقسم آخر هو الممنوع: هو ما ينافي الاعتكاف، مثل أن يخرج الإنسان من المسجد بلا عذر، أو يبيع ويشتري، أو يجامع زوجته، أو ما أشبه ذلك من الأفعال التي تبطل الاعتكاف لمنافاتها لمقصوده.
وقسمٌ ثالث: جائز مباح، كالتحدث إلى الناس، والسؤال عن أحوالهم وغير ذلك مما أباح الله تعالى للمعتكف، ومنه: خروجه لما لابد له منه كخروجه لإحضار الأكل والشرب، إذا لم يكن له من يحضرهما وخروجه لقضاء الحاجة من بول وغائط، وكذلك خروجه لأمر مشروع واجب؛ بل هذا واجب عليه، كما لو خرج ليغتسل من الجنابة، وأما خروجه لأمر مشروع غير واجب، فإن اشترطه فلا بأس، وإن لم يشترطه فلا يخرج، وذلك كعيادة المريض، وتشييع الجنازة، وما أشبههما، فله ان يخرج لهذا إن اشترطه،
__________
(1) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/205، 206) .(3/160)
إن لم يشترطه فليس له أن يخرج، ولكن إذا مات له قريب أو صديق وخاف إن لم يخرج أن يكون هناك قطيعة أو مفسدة فإنه يخرج ولو بطل اعتكافه؛ لأن الاعتكاف مستحب لا يلزمه المضى فيه (1) .
جواز تنقل المعتكف في جميع أنحاء المسجد
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
هل يلتزم المعتكف مكانًا محددًا في المسجد، أم يجوز له التنقل في أنحائه؟
فأجاب: يجوز للمعتكف أن يتنقل في أنحاء المسجد من كل جهة، لعموم قوله تعالى: (وَأَنتُم عَاكِفُونَ فِي الْمساجِدِ) [البقرة: 187] ،
(في) : للظرفية، فتشمل ما لو شغل الإنسان جميع الظرف (2) .
ما يستحب وما يكره للاعتكاف
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
نود أن نعرف ما الذي يُستَحب للاعتكاف، وما يكره له؟
فأجاب: الذي يستحب فى الاعتكاف أن يشتغل الإنسان بطاعة الله عز وجل، من تلاوة القرآن والذكر والصلوات وغير ذلك، وأن لا يضَيع وقته فيما لا فائدة فيه، كما يفعله بعض المعتكفين، تجده يبقى في المسجد يأتيه الناس في كل وقت يتحدثون إليه، ويقطع اعتكافه بلا فائدة.
وأما المتحدِّث أحيانًا مع بعض الناس أو بعض الأهل فلا بأس به؛ لما ثبت في الصحيحين من فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين كانت صفية -رضي الله عنها- تأتي إليه فتتحدث عنده ساعة ثم تنقلب إلى بيتها (3) .
__________
(1) "فقه العبادات لابن عثيمين" (ص 210، 211) .
(2) "فقه العبادات لابن عثيمين" (ص 211) .
(3) "فقه العبادات لابن عثيمين" (ص 209، 210) .(3/161)
هل يَلْزَم من نذر أن يعتكف الوفاء به؟
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
تقدم أن الاعتكاف طاعة لله -جل وعلا- والطاعة إذا نذرت يجب الوفاء بها ولكني سمعت أن بعض العلماء يقول: لايلزم من نذر الاعتكاف أن يعتكف الوفاء به. فهل هذا صحيح؟
فأجاب: الاعتكاف طاعة يجب الوفاء بها، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" أما الأحناف: فإنهم قالوا: لا يلزم الوفاء به، لأن عندهم قاعدة في النذر وهي: أن النذر لا يلزم الوفاء به إلا ما كان جنسه واجبًا بأصل الشرع والاعتكاف ليس جنسه واجبًا بأصل الشرع.
والصحيح: قول الجمهور لعموم حديث: "من نذر أن يطيع الله فليطعه". والاعتكاف من طاعة الله (1) .
نذر أن يعتكف في مسجد معين هل يجوز له أن يعتكف في غيره؟
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
من نذر أن يعتكف في مسجد معين، فهل يجوز له أن يعتكف في غيره؟
فأجاب: من نذر أن يعتكف في أي مسجد غير المساجد الثلاثة جاز له أن يوفي باعتكافه في أي مسجد آخر، لأن البقاع كلها سواء، وكذلك من نذر أن يعتكف في مسجد في البلدة الفلانية، جاز له أن يوفي باعتكافه في، أي بلد.
وهناك قاعدة في هذا، وهي أنه إذا عينّ الأفضل تَعَينَّ، ولم يجز فيما دونه. فمن نذر أن يعتكف في المسجد الحرام لزمه الاعتكاف فيه، ولم يجز فيما دونه، لأن كل المساجد دونه في الفضل، وإذا عين المفضول جاز في الفاضل.
دليل ذلك: أن رجلاً قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في
__________
(1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 114) .(3/162)
مسجد بيت المقدس. قال: "صل ها هنا". قال: إني نذرت أن أصلي في ذلك المسجد. قال: "صل ها هنا". فلما رآه مصرًا قال: "شأنك إذًا". رواه أبو داود والحاكم وصححه (1) .
صيام الثلاثة أشهر والاعتكاف فيها
- وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
عما ورد في ثواب صيام الثلاثة أشهر، وما تقول في الاعتكناف فيها، والصمت: هل هو من الأعمال الصالحات؟ أم لا؟
فأجاب: أما تخصيص رجب وشعبان جميعًا بالصوم، أو الاعتكاف فلم يرد فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء، ولا عن أصحابه، ولا أئمة المسلمين، بل قد ثبت في "الصحيح": أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم إلى شعبان، ولم يكن يصوم من السنة أكثر مما يصوم شعبان، من أجل شهر رمضان.
وأما صوم رجب بخصوصه، فأحاديثه كلها ضعيفة، بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يُروى في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات، وأكثر ما روي في ذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل رجب يقول: "اللَهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان".
وقد روى ابن ماجة في سننه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن صوم رجب وفي إسناده نَظَر.
لكن صح أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يضرب أيدي الناس؛ ليضعوا أيديهم في الطعام في رجب. ويقول: لا تشبهوه برمضان.
ودخل أبو بكر فرأى أهله قد اشتروا كِيزانًا للماء، واستعدوا للصوم، فقال "ما هذا؟! " فقالوا: رجب. فقال: "أتريدون أن تشبهوه برمضان؟ " وكسر تلك الكيزان. فمتى أفطر بعضًا لم يكره صوم البعض.
وفي "المسند" وغيره: حديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بصوم الأشهر الحرم وهي رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
__________
(1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 115) .(3/163)
فهذا في صوم الأربعة جميعا، لا من يخصص رجب.
وأما تخصيصها بالاعتكاف فلا أعلم فيه أمرًا، بل كل من صام صومًا مشروعًا، وأراد أن يعتكف من صيامه كان ذلك جائزًا بلا ريب.
وإن اعتكف بدون الصيام، ففيه قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد: أحدهما: أنه لا اعتكاف إلا بصوم، كمذهب أبى حنيفة، ومالك.
والثاني: يصح الاعتكاف، بدون الصوم. كمذهب الشافعي.
وأما الصمت عن الكلام مطلقًا في الصوم، أو الاعتكاف، أو غيرهما فبدعة مكروهة، باتفاق أهل العلم. لكن هل ذلك محرم، أو مكروه؟ فيه قولان في مذهبه، وغيره.
وفي "صحيح البخاري": أن أبا بكر الصديق دخل على امرأة من أحمس فوجدها مصمتة لا تتكلم، فقال لها أبو بكر: "إن هذا لا يحل: إن هذا من عمل الجاهلية".
وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس: "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا قائمًا في الشمس، فقال: من هذا؟ فقالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم فى الشمس، ولا يستظل، ولا يتكلم ويصوم. فقال: مروه فليجلس وليستظل وليتكلم، وليتم صومه".
فأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع نذره للصمت، أن يتكلم، كما أمره مع نذره للقيام أن يجلس، ومع نذره أن لا يستظل، أن يستظل.
وإنما أمره بأن يوفي بالصوم فقط، وهذا صريح في أن هذه الأعمال ليست من القرب التي يؤمر بها الناذر.
وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح: "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله
فلا يعصه".
كذلك لا يؤمر الناذر أن يفعلها، فمن فعلها على وجه التعبد بها والتقرب، واتخاذ ذلك دينًا وطريقًا إلى الله تعالى: فهو ضال جاهل مخالف لأمر الله ورسوله. ومعلوم أن من يفعل ذلك -من نذر اعتكافًا ونحو ذلك-، إنما يفعله تدينًا، ولا ريب أن فعله على وجه التدين حرام فإنه يعتقد ما ليس بقربه قربة، ويتقرب إلى الله تعالى بما لا يحبه الله،(3/164)
وهذا حرام، لكن من فعل ذلك قبل بلوغ العلم إليه، فقد يكون معذورا بجهله إذا لم تقم عليه الحجة، فإذا بلغه العلم فعليه التوبة.
وجماع الأمر في الكلام قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو
ليصمت".
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
من فاته من رمضان صيام بعض الأيام وذلك لعذر. فهل يجب عليه أن يصومها متتابعة أم يجوز له أن يفرقها؟
فأجاب: الصحيح أنه يجوز قضاؤها متفرقة؛ لأن الآية ليس لها نص على التتابع بل إن الله -جل وعلا- أطلق فيها فدل على أنه يجوز أن يقضيها متفرقة.
ولكن الأفضل أن يقضيها متوالية؛ لأن ذلك حكاية الأداء، فإن الأيام التي أفطرها كانت متوالية فيقضيها متوالية (1) .
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين حفظه الله:
ظاهرت من امرأتي ولم أجد عتق رقبة، فصمت شهر ذي القعدة ولما وصلت إلى اليوم العاشر من ذي الحجة قيل لي: لا يجوز لك صوم العيد. فهل أعيد الصيام لأن التتابع واجب؟
فأجاب: من كان عليه صيام شهرين متتابعين -كما هي حالة السائل-، فوافق صيامه يوم عيد، نقول: أفطر يوم العيد وصم يوما بدله: فإن التتابع واجب إلا في مثل هذه الحالة (2) .
- وسألت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
ما حكم امرأة صامت بدون إذن زوجها (أي بدون علمه) يومين علمًا أن الصوم كان قضاء لشهر رمضان المبارك، وكانت عند الصيام خجلت أن تخبر زوجها بذلك، إن كان غير جائز هل عليها كفارة؟
__________
(1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 125) .
(2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 102) .(3/165)
فأجابت: يجب على المرأة قضاء ما أفطرته من أيام رمضان ولو بدون علم زوجها، ولا يشترط للصيام الواجب على المرأة إذن الزوج فصيام المرأة المذكورة صحيح. وأما الصيام غير الواجب فلا تصوم المرأة وزوجها حاضر إلا بإذنه -غير رمضان- (1) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
رجل كان على الإسلام ثم ارتد، وفي 15 من رمضان تاب في أثناء النهار. فهل يقضي ما فاته؟
فأجاب: المرتد إذا تاب في أثناء النهار أمرناه بإمساك بقية نهاره وبقية شهره وأسقطنا عنه ما مضى -وهذا الحكم ينطق أيضًا على الكافر الأصلي-.
ودليل ذلك: أن ثقيفا لما أسلمت كانوا في سنة تسع في رمضان وهم آخر من أسلم من أهل الحجاز فلما أسلموا لم يأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقضوا أول الشهر بل أمرهم بإمساك بقيته. والله أعلم (2) .
- وسئلت أيضًا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
هل ثبت أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صام عشر ذي الحجة؟
فأجابت: لم يثبت -فيما نعلم- أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صام عشر ذي الحجة أي: التسعة أيام ما قبل العيد. لكنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حث على العمل الصالح فيها، فقد ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام" يعني: أيام العشر، قالوا: يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء" رواه البخاري (3) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" رقم (12582) .
(2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 123، 124) .
(3) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" رقم (7233) .(3/166)
- وسئلت أيضًا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
اختلف الناس هنا في صوم يوم عرفة لهذا العام، حيث صادف يوم السبت فمنهم من قال: إن هذا يوم عرفة نصومه لأنه يوم عرفة وليس لكونه يوم السبت المنهي عن صيامه، ومنهم من لم يصمه لكونه يوم السبت المنهي عن تعظيمه مخالفة لليهود، وأنا لم أصم هذا اليوم وأنا في حيرة من أمري، وأصبحت لا أعرف الحكم الشرعي لهذا اليوم، وفتشت عنه في الكتب الشرعية والدينية فلم أصل إلى حكم واضح قطعي حول هذا اليوم، أرجو من سماحتكم أن ترشدني إلى الحكم الشرعي وأن ترسله لي خطيًا، ولكم من الله الثواب على هذا وعلى ما تقدموه للمسلمين من العلم النافع لهم في الدنيا والآخرة.
فأجابت: يجوز صيام يوم عرفة مستقلاً سواء وافق يوم السبت أو غيره من أيام الأسبوع لأنه لا فرق بينها؛ لأن صوم يوم عرفة سنة مستقلة، وحديث النهي عن يوم السبت ضعيف؛ لاضطرابه ومخالفته للأحاديث الصحيحة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) .
- وسئل أيضًا فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
هل يجوز صيام يوم عاشوراء وحده من غير أن يصام يوم قبله أو بعده، لأنني قرأت في إحدى
المجلات فتوى مفادها أنه يجوز ذلك لأن الكراهة قد زالت حيث اليهود لا يصومونه الآن..؟
فأجاب: كراهة إفراد يوم عاشوراء بالصوم ليست أمرا متففا عليه بين أهل العلم فإن منهم من يرى عدم كراهة إفراده، ولكن الأفضل أن يصام يوم قبله أو يوم بعده، والتاسع أفضل من الحادي عشر، أي من الأفضل أن يصوم يوما قبله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لئن بقيت إلى قادم لأصومن التاسع" -يعني مع العاشر- وقد ذكر بعض أهل العلم أن صيام عاشوراء له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده.
الحالة الثانية: أن يفرده بالصوم.
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" رقم (11747) .(3/167)
الحالة الثالثة: أن يصوم يومًا قبله ويومًا بعده.
وذكروا أن الأكمل أن يصوم يومًا قبله ويوما بعده، ثم أن يفرده بالصوم.
والذي يظهر أن إفراده بالصوم ليس بمكروه لكن الأفضل أن يضم إليه يومًا قبله أو يوما بعده (1) .
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
هل يجب على من أراد صيام الست من شوال أن يصومها متتابعة أم يجوز تفرقتها في أول الشهر وأوسطه وآخره؟
فأجاب: صيام هذه الستة سنة وليس واجبا، والأفضل صيامها بعد العيد متتابعة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث: "من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر".
لكن يجوز صيامها متتابعة ومتفرقة، كما يجوز صومها من أول الشهر أو من أوسطه أو من آخره، فإن ذلك كله يحصل به الصيام المطلوب فإن خرج الشهر قبل صيامها لعذر من مرض أو سفر أو نفاس، فلا مانع من صيامها بعده. والله أعلم (2) .
- وسئل أيضًا العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-:
إذا صام ستة أيام من شوال في ذي القعدة، فهل يحصل له الأجر الخاص بها؟
فأجاب: أما إن كان له عذر من مرض أو حيض أو نفاس أو نحو ذلك من الأعذار التي بسببها أخر صيام قضائه أو أخر صيام الست، فلا شك في إدراك الأجر الخاص، وقد نصوا على ذلك.
وأما إذا لم يكن له عذر أصلاً، بل أخر صيامها إلى ذي القعدة أو غيره فظاهر النص يدل على أنه لا يدرك الفضل الخاص، وأنه سنة في وقت فات محله، كما إذا فاته صيام عشر ذي الحجة أو غيرها حتى فات وقتها، فقد زال ذلك المعنى الخاص، وبقي الصيام المطلق (3) .
__________
(1) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/188، 189) .
(2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 104) .
(3) "الفتاوى السعدية للشيخ عبد الرحمن السعدي" (ص 230) .(3/168)
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
شخص يصوم ستة أيام شوال، أتاه مرض أو مانع أو تكاسل عن صيامها في إحدى السنوات هل عليه إثم؟ لأننا نسمع أنه من يصومها عام يجب عليه عدم تركها.
فأجابت: صيام ستة أيام من شوال بعد يوم العيد سنة، ولا يجب على من صامها مرة أو أكثر أن يستمر على صيامها، ولا يأثم من ترك صيامها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) .
- وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-:
بالنسبة لأيام البيض: هل صحيح أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يترك صيامها سفرًا ولا حضرًا؟ أم أنه
أمر مستحب؟
فأجاب: الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم تطوعا ويكثر الصيام، كان يصوم حتى يقال: إنه لا يفطر، وكان يفطر حتى يقال: إنه لا يصوم؟ فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكثر من صيام التطوع حضرا وسفرًا.
أما كونه يلازم أيام البيض: فهذا لا أدري ولا يحضرني الآن شيء فيه (2) .
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
امرأة تسأل تقول: إنها نذرت أن تصوم شهر رجب من كل عام ثم كبرت بها السن وعجزت عن الصيام فماذا تفعل؟
فأجاب أولاً: أنصح جميع إخواني المسلمين بالبعد عن النذر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن النذر وقال: "إنَّهُ لاَ يَأتِي بِخَير وِإنما يستخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخيل".
وقد أشار الله عز وجل إلى النهي عنه في القرآن، فقال تعالى: (وَأقْسَمُوا بِالله جَهْدَ أيمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ قل لا تقسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) [النور: 53] .
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" رقم (7306) .
(2) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/151) .(3/169)
فإذا كان كذلك فلا تنذر فإن نذرت فإن كان طاعة وجب عليك الوفاء به لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من نذر أن يطيع الله فليطعه".
سواء كان هذ النذر مشروطًا بشرط حصول نعمة أو اندفاع نقمة أو كان نذرًا مطلقا، فنذر الطاعة قد يكون مشروطا بحصول نعمة أو اندفاع نقمة وقد يكون مطلقًا بلا شرط.
هذه ثلاثة أحوال:
1- إذا قال قائل: لله عليَّ نذر أن أصوم غدًا.
هذا نذر طاعة مطلق. يعني ما له سبب.
2- إذا قال: إن نجحت في الامتحان فلله على نذر أن أصوم ثلاثة أيام.
هذا مقيد بحصول مصلحة.
3- إذا قال: إن شفى الله مريضي فلله على نذر أن أصوم شهرا.
هذا نذر طاعة مقيد باندفاع نقمة وهو المرض.
وعلى هذا: فنذر الطاعة يجب الوفاء به، ولكن نذر شهر رجب: نسأل هذه الناذرة: لماذا خصت شهر رجب بالنذر؟ إن قالت: لأنني أعتقد أن تخصيص رجب بالصوم عبادة. قلنا لها: هذا نذر مكروه، ولا يجب الوفاء به، لأن تخصيص رجب بالصوم مكروه، يعني: يكره للإنسان أن يخص شهر رجب بذاته من بين سائر السنَة، أما إذا كانت نذرت شهر رجب لأنه الشهر الموالي لحصول الحادث لا لعينه فإنها تصومه فإن عجزت فإن النذر الواجب يحذى به حذو الواجب في أصل الشرع.
وهنا سؤال: لو قال قائل لله: علي نذر أن ألبس هذا الثوب أيجب عليه أن يوفي نذره أم لا؟
الجواب: لا يجب أن يوفي به؛ لأن نذر المباح حكمه حكم اليمين.
فالآن: إن شاء لبس الثوب ولا عليه شيء، وإن شاء لم يلبس ووجب عليه أن يكفِّر(3/170)
كفارة يمين وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة (1) .
- وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-:
إذا نذرت صيام شهرين متتابعين، وبعد مضي خمسة وأربعين يوما من الصيام أفطرت لعذر شرعي، وبعد أن أردت أن أتم بقية الشهرين بعد انقضاء العذر وقعت في خلاف بين الناس، فمنهم من قال: يجب عليك إعادة الصيام. ومنهم من قال: أتمم صومك، والآن -وقد مضى وقت طويل بين الخمسة والأربعين يومًا وبقية الشهرين- ماذا علي أن أفعل؟
فأجاب: إذا كان الإفطار بعذر شرعي: كالحيض والنفاس وغيرهما فإنه لا يقطع التتابع. لكن: بما أنه قد مضى وقت طويل بعد انقطاع العذر حسبما ذكرت، ولم تصم خلاله: فإن التتابع قد انقطع، وعليك باستئناف صيام الشهرين المتتابعين من جديد؛ لأن التتابع مشروط فى النذر -كما ذكرت- فلابد منه، والله أعلم (2) .
نذر أن يصوم الاثنين والخميس ثم بدا له أن يصوم يومًا ويفطر يومًا
- وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
عن رجل نذر أنه يصوم الاثنين والخميس، ثم بدا له أن يصوم يوما ويفطر يومًا، ولم يرتب ذلك إلا بأن يصوم أربعة أيام، ويفطر ثلاثة أو يفطر أربعة، ويصوم ثلاثة: فأيهما أفضل؟ أفتونا يرحمكم الله؟
فأجاب: الحمد لله. إذا انتقل من صوم الاثنين والخميس إلى صوم يوم وفطر يوم، فقد انتقل إلى ما هو أفضل. وفيه نزاع، والأظهر أن ذلك جائز كما لو نذر الصلاة في المسجد المفضول، وصلى في الأفضل، مثل أن ينذر الصلاة في المسجد الأقصى فيصلى في مسجد أحد الحرمين، والله أعلم (3) .
__________
(1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/559، 560) .
(2) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/152، 153) .
(3) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/289-290) .(3/171)
نذرت أن تصوم سنة -لوجه الله- لشفاء زوجها
- وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-:
بعد مرض زوجي نذرت أن أصوم سنة -لوجه الله تعالى- بعد شفائه من هذا المرض، والحمد لله فقد تحقق أملي بقدرة الله عز وجل فشفي زوجي من مرضه، وأنا الآن مريضة وقد منعني الطبيب من الصيام وحاولت أن أصوم مرات عديدة -على الرغم من قول الطبيب- وأنا الآن لا أستطيع الصيام فأرجو أن تقولوا لي: هل يلزمني دفع مبلغ من النقود وكفارة عن هذا الصوم؟ وهل استطيع أن أدفعها لأحد من أقاربي المحتاجين أو هل يمكن أن أصوم يومين في الأسبوع على قدر استطاعتي؟ أفيدوني وفقكم الله.
فأجاب: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "من نذر أن يطيع الله فليطعه".
وأنت نذرت إذا شفى زوجك أن تصومي سنه، وأن الطبيب نهاك عن الصيام، فإن كانت السنه غير معينة، فالصيام يبقى فى ذمتك حتى تستطيعي فإذا استطعت وزال عنك المانع فإنك تؤدين الصيام الذى نذرته لأنه دين فى ذمتك فانتظرى حتى يزول المانع وتصومي إن شاء الله؛ لأنك لم تعينى سنه معينه بعينها بل سنه مطلقه فأي سنه تصومينها فإنها تجزئ مع الإطلاق ولا يجزئ أن تصومي يومين من كل أسبوع؛ لأنك نذرت سنه والستة اثنا عشرة شهرا متتابعه، وإن كنت نذرت سنة معينة فلم تستطيعي صيامها فإنك تقضينها إذا استطعت والله أعلم.
وينبغي أن يُعلم أن النذر كما قال الرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل".
وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن النذر، فالدخول في النذر مكروه؛ لأنه يلزم عليه الحرج وأن الإنسان يكلف نفسه شيئًا لا يستطيع الوفاء به أو يشق عليه فالإنسان قبل النذر لا ينبغي له أن ينذر، ولكن بعد ما ينذر فإنه يتعين عليه الوفاء إذا كان نذره نذر طاعة.
والله تعالى أثنى على الذين يوفون بالنذر فقال: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوما كَانَ شَرُهُ مُستَطِيرًا) [الإنسان: 7] . وقال: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم من نَّذْر فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ) [البقرة: 270] ، وقال تعالى: (وَلْيوفُوا نُذُورَهُم) [الحج: 29] .(3/172)
والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "مَنْ نذَر أن يُطيع الله فليطعه" (1) .
حكمة إباحة الصوم في أيام التشريق للمتمتع والقارن مع عدم الهدي
- وسئل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-:
ما الحكمة في إباحة الصوم في أيام التشريق للمتمتع والقارن مع عدم الهدي؟
فأجاب: يُستفاد من إباحة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصيام أيام التشريق للمتمتع والقارن الذي لم يجد الهدي، دون قضاء رمضان، مع أنه أكمل وأعظم، فائدتان:
إحداهما: أن الوقت إذا كان متسعا للواجب الأعلى، متعينًا للواجب الأدنى، أنه من مُرَجِّحات المفضول على الفاضل.
وفائدة أخرى: أنه إذا تعارض واجب ومُحَرم، تعين تقديم الواجب، وبهذه الحال لا يصير حرامًا في حق المؤدي للواجب، كما يجب على المضحي أخذ شيء من شعرة، فهذا لا يدخل في المحرم. والله أعلم (2) .
- وسئل أيضًا فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-:
هل يشرع قيام النصف من شعبان وصيام الخامس عشر منه؟
فأجاب: لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقيام ليلهّ النصف من شعبان بخصوصها ولا بصيام اليوم الخامس عشر من شعبان بخصوصه، لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء يعتمد عليه.
فليلة النصف من شعبان كغيرها من الليالي إن كان له عادة القيام في الليل، فإنه يقوم فيها كما يقوم في غيرها -دون أن يكون لها ميزهّ- لأن تخصيص وقت لعبادة من العبادات لابد له من دليل صحيح، فإذا لم يكن هناك دليل صحيح فإن ذلك يِكون بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وكذلك لم يرد في صيام يوم الخامس عشر من شعبان، أو النصف من شعبان بخصوصه دليل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقتضي مشروعية صيام ذلك اليوم.
__________
(1) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" طبعة دار الوطن (1/34، 35) .
(2) "الفتاوى السعدية" (231) .(3/173)
أما ما ورد من الأحاديث في هذا الموضوع فكلها ضعيفة؛ كما نص على ذلك أهل العلم، ولكن من كان من عادته أن يصوم الأيام البيض فانه يصومها في شعبان كما يصومها في غيره، لا على أنه خاص بهذا اليوم كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم ويكثر الصيام في هذا الشهر، لكنه لم يخص هذا اليوم، وإنما يدخل تبعًا (1) .
- وسئل أيضًا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
ما حكم صيام نصف شعبان وهي الأيام (13-14-15) ؟
فأجاب: يستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، من شعبان أو غيره لما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر عبد الله بن عمرو بن العاص بذلك وثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيضًا أنه أوصى أبا الدرداء وأبا هريرة بذلك، وإن صام هذه الثلاثة من بعض الشهور دون بعض أوصامها تارة وتركها تارة فلا بأس لأنها نافلة لا فريضة، والأفضل أن يستمر عليها في كل شهر إذا تيسر له ذلك (2) .
حكم الإستكثار من صيام شعبان وحكم صوم النصف الأخير منه
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
هل يستحب الإكثار من صيام شهر شعبان؟ وهل يجوز صوم آخره؟ لأنني قرأت حديثًا في النهي عن صوم النصف الأخير من شعبان؟
فأجاب: يستحب الإكثار من الصيام في شهر شعبان، وقد ورد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكثر من الصيام في شهر شعبان. وكانت -رضي الله عنها- تقول: "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم شعبان إلا قليلاً" وهذا دليل على فضل الصيام في شعبان.
أما صيام آخره: فقد ورد النهي عن صيامه في حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان". وقد أنكر بعض العلماء هذا الحديث -وإن كان سنده صحيحًا-
__________
(1) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/151-152) .
(2) "الفتاوى لابن باز - كتاب الدعوة" (1/122) .(3/174)
واستدلوا على نكارته بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: "هل صمت من سرر هذا الشهر شيئًا؟ " قال: لا. قال: "فإذا صمت فأفطر يومين". وسرر الشهر: أواخره التي يستتر فيها القمر، فدل هذا على أنه يتأكد الصيام في أول الشهر وآخره.
وقد ذكر العلماء أن الحكمة في الإكثار من صيام شعبان حتى يتهيأ المسلم لرمضان.
أما النهي: فقد ورد في وصل شعبان برمضان؛ لأن المسلم مأمور أن يميز شهر رمضان عن غيره، لذلك أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفطر قبل رمضان بيوم أو يومين بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون صوم أحدكم فليصمه".
فالصحيح -إن شاء الله- أنه يجوز صوم آخر شعبان إلا اليومين اللذين قبل رمضان (1) .
التهنئة بقدوم رمضان
- وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-:
عندما يحل شهر رمضان نسمع كثيرًا من الناس يباركون على بعضهم بقدومه بقولهم: "مبروك عليك شهر رمضان": فهل لذلك أصل في الشرع؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب: التهنئة بدخول شهر رمضان لا بأس بها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان، ويحثهم على الاجتهاد فيه بالأعمال الصالحة، وقد قال الله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58] .
فالتهنئة بهذا الشهر والفرح بقدومه يدلان على الرغبة في الخير، وقد كان السلف يبشر بعضهم بعضًا بقدوم شهر رمضان؛ اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كما جاء ذلك في حديث سلمان الطويل الذي فيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أيها النَّاس! قَدْ أَظَلَّكم شَهْرٌ عَظِيم مبارك" إلى آخر الحديث (2) .
الموت في رمضان
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
__________
(1) "فتاوى الصيام لابن جبرين (100) .
(2) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح فوزان" (3/123) .(3/175)
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار" هل معنى ذلك أن من يموت في رمضان يدخل الجنة بغير حساب؟
فأجاب: ليس الأمر كذلك: بل معنى هذا أن أبواب الجنة تفتح تنشيطًا للعاملين ليتسنى لهم الدخول، وتغلق أبواب النار لأجل انكفاف أهل الإيمان عن المعاصي حتى لا يلجوا هذه الأبواب، وليس معنى ذلك أن من مات في رمضان يدخل الجنة بغير حساب إنما الذين يدخلون الجنة بغير حساب هم الذين وصفهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله: "هُمُ الَّذين لاَ يَستَرقُونَ وَلاَ يَكْتَوُون وَلاَ يَتَطَيرُون وَعلَى رَبِّهِم يَتَوَكلون" (1) .
هل يضاعف الصوم في الحرم؟
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
هل يضاعف الصوم في الحرم؟
فأجاب: الصلاة في مكة أفضل من غيرها بلا ريب؛ ولهذا ذكر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينما كان مقيمًا في غزوة الحديبية كان في الحلِّ ولكن كان يصلي في الحرم -أي داخل أميال الحرم-، وهذا يدل أن الصلاة في الحرم -أي فيما دخل في الأميال- أفضل من الصلاة في الحل؛ وذلك لفضل المكان وقد أخذ العلماء من هذه قاعدة قالوا فيها: إن الحسنات تُضاعف في كل مكان وزمان فاضل، كما أن الحسنات تضاعف أيضًا باعتبار العامل.
كما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لاَ تَسُبوا أصحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أنَ أحَدَكُم أنْفَقَ مِثْل أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أحَدُهُم وَلاَ نَصِيفه".
إذًا: فالعبادات تتضاعف باعتبار العامل وباعتبار الزمان وباعتبار المكان كما تتفاضل أيضًا باعتبار نِسَبها وهيئتها، وهذا أمر معلوم ولا يتسع المُقام لبسطه وشرحه ولكننا نقول: إن الصلاة في مكة أفضل من الصلاة في غيرها، ونقول: إن الصلاة في المسجد الحرام نفسه تتضاعف فتكون بمائة ألف صلاة فيما عداه، وقد أخذ أهل العلم من ذلك أن الصيام يضاعف في مكة ويكون أفضل من الصيام في غيرها وذلك لشرف مكانه على أن الصيام
__________
(1) "فتاوى الشيخ محمد صالح العثيمين" (1/561) .(3/176)
إمساك وليس بعمل يحتاج إلى مكان ولا زمان سوى الزمان الذي شرع فيه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وقد ورد في حديث عن ابن ماجه بإسناد ضعيف أن "من صام رمضان في مكة وقام مما تيسر منه كُتب له أجر مائة ألف رمضان" وهذا إسناده ضعيف ولكن يستأنس به ويدل على أن صوم رمضان في مكة أفضل من صوم في غيرها (1) .
الكافر لا يجاهر بالفطر في رمضان
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
صاحب شركة لديه عُمّال غير مسلمين، فهل يجوز له أن يمنعهم من الأكل والشرب أمام غيرهم من العمال المسلمين في نفس الشركة خلال نهار رمضان؟
فأجاب أولاً نقول: إنه لا ينبغي للإنسان أن يستخدم عمالاً غير مسلمين مع تمكنه من استخدام المسلمين؛ لأن المسلمين خير من غير المسلمين؛ قال الله تعالى: (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) [البقرة: 221] ، ولكن إذا دعت الحاجة إلى استخدام عمال غير مسلمين، فإنه لا بأس به بقدر الحاجة فقط.
وأما أكلهمْ وشربهم في نهار رمضان أمام الصائمين من المسلمين فإن هذا لا بأس به؛ لأن الصائم المسلم يحمد الله عز وجل أن هداه للإسلام الذي به سعادة الدنيا والآخرة، ويحمد الله تعالى أن عافاه، فهو وإن حُرم عليه الأكل والشرب في هذه الدنيا شرعًا في أيام رمضان فإنه سينال الجزاء يوم القيامة حين يقال له: (كلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتم في الأيام الخالية) [الحاقة: 24] لكن يمنع غير المسلمين من إظهار الأكل والشرب في الأماكن العامة لمنافاته للمظهر الإسلامي في البلد.
التدرج في الصوم
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
هل حدث تدرج في صيام رمضان كالأمر في تحريم الخمر؟
فأجاب: نعم حصل تدرج فحين نزل الصوم كان من شاء صام ومن شاء أطعم ثم بعد
__________
(1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/557، 558) .(3/177)
ذلك صار الصوم واجبًا لقوله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكمُ الشَهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] .
التدرج الآخر أنهم كانوا إذا ناموا بعد الإفطار أو صَلُّوا العشاء لا يحل لهم الأكل والشرب والجماع إلا عند غروب اليوم التالى ثم خفف عنهم. قال تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] . فكانت المحظورات على الصائم إذا نام أو صلى العشاء، ثم نسخ ذلك فكانت جائزة إلى أن يتبين الفجر.
هل يَكْفُر تارك الصوم؟
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
هل يكفر تارك الصوم ما دام يصلي ولا يصوم بدون مرض، وبدون أي شيء؟
فأجابت: من ترك الصوم جَحدًا لوجوبه فهو كافر إجماعًا ومن تركه كَسَلاً وتهاونًا فلا يكْفُر ولكنه على خطر كبير بتركه ركن من أركان الإسلام مُجمع على وجوبه.
ويستحق العقوبة والتأديب من ولي الأمر بما يردعه وأمثاله، بل ذهب بعض أهل العلم إلى تكفيره وعليه قضاء ما تركه مع التوبة إلى الله سبحانه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) .
صيام بعض الأيام بلياليها هل يجزيء عن صيام الشهر؟
- وسئلت الجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
هل يمكن أن يصوم المرء ثلاثة أيام ليلاً ونهارا في رمضان وتكون بدل ثلاثين يومًا؟
فأجابت: لا يجوز ذلك ولا قال به أحد من أهل العلم؛ لأن الليل ليس محلاً للصيام، ومن فعله يعتبر مخالفًا للشرع المطهر وآتيًا بما لم يشرعه الله ومفطرًا في رمضان بغير عذر،
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" رقم (6060) .(3/178)
ولأن الله سبحانه أوجب على المكلَّفين من المسلمين صوم رمضان كله، فلا يجزيء صوم بعضه عنه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
حكم من أفطر في رمضان
- وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
عمن أفطر في رمضان؟
فأجاب: إذا أفطر في رمضان مستحلاً لذلك، وهو عالم بتحريمه -استحلالاً له- وجب قتله، وإن كان فاسقًا عوقب عن فطره في رمضان بحسب ما يراه الإمام، وأخذ منه حد الزنا، وإن كان جاهلاً عُرِّف بذلك، وأخذ منه حد الزنا، ويرجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام، والله أعلم (2) .
أيهما أفضل عشر ذي الحجة أم العشر الأواخر من رمضان؟
- وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
عن عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان. أيهما أفضل؟
فأجاب: أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة.
وأما ليالى عشر رمضان فهي ليالي الإحياء، التي كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحييها كلها، وفيها ليلة خير من ألف شهر.
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" رقم (3089) .
(2) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/265) .(3/179)
فمن أجاب بغير هذا التفصيل، لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة (1) .
أيهما أفضل ليلة القدر أم ليلة الإسراء؟
- وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
عن "ليلة القدر"، و"ليلة الإسراء" بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيهما أفضل؟
فأجاب: بأن ليلة الإسراء أفضل في حق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليلة القدر أفضل بالنسبة إلى الأمة، فحظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي اختص به ليلة المعراج منها أكمل من حظه من ليلة القدر.
وحظ الأمة من ليلة القدر أكمل من حظهم من ليلة المعراج. وإن كان لهم فيها أعظم حظ. لكن الفضل والشرف والرتبة العليا إنما حصلت فيها لمن أُسْرِي به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) .
هل يجوز إهداء ثواب الصيام للميت؟
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: هل يجوز إهداء ثواب الصيام للميت؟
فأجاب: النقل المطلق الصحيح: أنه يجوز صيامه وإهداء ثوابه للميت ويصل إليه الثواب. إن شاء الله (3) .
هل أصوم وأصلي عن والدي المتُوفَّى؟
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
أصلي لأبي المتَوفَّى صلاة النافلة في الحرم هل يجوز ذلك والصدقة والصوم؟
فأجاب: نعم يجوز للإنسان أن يتصدق عن والده أو والدته أو أقاربه أو غير هؤلاء من
__________
(1) "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/287) .
(2) "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية"
(3) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (124)(3/180)
المسلمين ولا فرق بين الصدقات والصلوات والصيام والحج وغيرها ولكن السؤال الذي ينبغي أن نقول هل هذا من الأمور المشروعة أو من الأمور الجائزة غير المشروعة؟
نقول: إن هذا من الأمور الجائزة غير المشروعة وأن المشروع في حق الولد أن يدعو لوالده دعاء إلا في الأمور المفروضة التي تدخلها النيابة فإنه يؤدي عن والده ما افترض الله عليه ولم يؤده كما مات والده وعليه صيام؛ فقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "من مات وعليه صوم صام عنه وليه".
ولا فرق في ذلك بين أن يكون الصيام صيام فرد بأصل الشرع كصيام رمضان أو إلزام الإنسان نفسه كما في صيام النذر. والله أعلم.
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
يقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" فهل هو إطعام وإسقاء حقيقي أم معنوي؟
فأجاب: اختلف أهل العلم في ذلك. فقيل: هو إطعام وإسقاء حقيقى فيؤتى إليه بطعام وشراب من الجنة. وقيل: إنه إطعام وإسقاء معنوي، والمراد أن الله يفتح على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المعارف والأوراد ما يقوم مقام الطعام والشراب. وهذا قول الأكثرين فإن تلك الفتوحات الإلهية والأوراد الرَبانية تنزل على قلوب أولياء الله فتقويها وتشغل نفوسهم عن مشتهياتها من الطعام والشراب كما يقول بعضهم:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد
ومما يؤيد هذا القول أنه ورد في بعض روايات الحديث الوارد في السؤال "إِني أظَلُ عِنْد رَبي يُطْعِمني وَيُسقِيني" وكلمة "أظل" معناها: أمكث نهارًا.
ومن المعلوم أن نهار الصيام لا يجوز فيه الأكل لا من طعام الجنة ولا من غيرها (2) .
__________
(1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/554) .
(2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (123) .(3/181)
حكم الاعتكاف للرجل والمرأة
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
ما حكم الاعتكاف للرجل والمرأة، وهل يشترط له الصيام، وبماذا يشتغل المعتكف، ومتى يدخل معتكفه، ومتى يخرج منه؟
فأجاب: الاعتكاف سنة للرجال والنساء؛ لما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يعتكف في رمضان واستقر أخيرًا اعتكافه في العشر الأواخر، وكان يعتكف بعض نسائه معه، ثم اعتكفن من بعده - - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومحل الاعتكاف المساجد التي تقام فيها صلاة الجماعة، وإذا كان يتخلل اعتكافه جمعة، فالأفضل أن يكون اعتكافه في المسجد الجامع، إذا تيسر ذلك وليس لوقته حد محدود في أصح أقوال أهل العلم، ولا يشترط له الصوم ولكن مع الصوم أفضل.
والسنه له أن يدخل معتكفه حين ينوي الاعتكاف ويخرج بعد مضي المدة التي نواها وله قطع ذلك إذا دعت الحاجة إلى ذلك؛ لأن الاعتكاف سُنة ولا يجب بالشروع فيه إذا لم يكن منذورًا ويستحب الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان تأسيًا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ويستحب لمن اعتكفها دخول معتكفه بعد صلاة الفجر من اليوم الحادي والعشرين اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويخرج متى انتهت العشر.
وإن قطعه فلا حرج عليه إلا أن يكون منذورًا كما تقدم. والأفضل أن يتخذ مكانًا معينًا في المسجد يستريح فيه إذا تيسر ذلك، ويشرع للمُعْتَكِف أن يكثر من الذكر وقراءة القرآن والاستغفار والدعاء والصلاة في غير أوقات النهي.
ولا حرج أن يزوره بعض أصحابه، وأن يتحدث معه كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزوره بعض
نسائه، ويتّحدثن معه. وزارته مرة صفية -رضي الله عنها- وهو معتكف في رمضان، فلما قامت قام معها إلى باب المسجد، فدلّ على أنه لا حرج في ذلك.(3/182)
وهذا العمل منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدل على كمال تواضعه، وحسن سيرته مع أزواجه عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وأتباعهم بإحسان (1) .
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
هل يجوز للمرأة أن تعتكف في مسجدها الذي في منزلها؟
فأجاب: لا، المرأة إذا أرادت الاعتكاف فإنما تعتكف في المسجد، إذا لم يكن في ذلك محظور شرعي، فإن كان في ذلك محظور شرعي فلا تعتكف (2) .
هل يجوز الاعتكاف بلا صوم؟
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
هل يجوز الاعتكاف بلا صوم؟
فأجاب: الصحيح: أنه يجوز الاعتكاف بلا صوم ودليل ذلك أن عمر -رضي الله عنه- قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام.
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أوف بنذرك".
والليلة ليست محلاً للصوم فدلَّ ذلك على أنه يجوز الاعتكاف بدون الصيام، ولكن يتأكد الصيام لمن اعتكف نهارًا خروجًا من الخلاف؛ لأن بعض العلماء قال: لا اعتكاف إلا بصوم، ولأن الذين قالوا بجواز الاعتكاف بلا صوم قالوا: إن الأفضل الاعتكاف مع الصيام (3) .
ليس له أن يخص يومًا بعينه يعتاد الاعتكاف فيه
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
__________
(1) "تحفة الأخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" لسماحة الشيح ابن باز (183، 184) .
(2) "فقة العبادات" لابن عثيمين (209) .
(3) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (113) .(3/183)
هل يجوز لمن يريد الاعتكاف أن يخصص يومًا بعينه للاعتكاف؟
فأجابت: ليس له أن يخص يومًا بعينه يعتاد الاعتكاف فيه، لكن يحرص على الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان؛ اقتداءً بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) .
هذا الحديث لا يصح في فضل الاعتكاف
- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
من روى حديث: "من اعتكف يومًا ابتغاء وجه الله باعد الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق كل خندق كما بين الخافقين"، وما درجة هذا الحديث، وإذا أراد شخص أن يعتكف يومًا واحدًا متى يكون بدء اعتكافه، ومتى يكون انتهاؤه، وكذلك إذا أراد أن يعتكف يومين فمتى يكون ابتداؤهما، ومتى يكون انتهاؤهما؟
فأجابت: الحديث ضعيف، وبدء اعتكاف يوم يكون بعد صلاة الفجر، ونهايته غروب الشمس، وهكذا اليومان.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (2) .
إخراج زكاة الفطر عن الأخت
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
أنا تايلاندي الجنسية طالب في إحدى جامعات السودان ولي أخت صغيرة في بلدي تايلاند لم تبلغ حتى الآن وخلال الشهور الماضية جاءني خبر مفجع وهو أن أبي تُوفِّى تاركًا أختي الصغيرة وسؤالي: هل يجب علي إخراج زكاة الفطر عنها علمًا أنه ليس لها أخ سواي ينفق عليها؟
فأجاب: إذا كان والدك توفي قبل انسلاخ رمضان، ولم يؤد أًحد من أقاربك زكاة الفطر عن أختك، فإن عليك أن تؤدي زكاة الفطر عنها إذا كنت تستطيع ذلك.
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (8701) .
(2) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (6718) .(3/184)
وعليك أيضًا أن ترسل لها من النفقة ما يقوم بحالها حسب طاقتك؛ لقول الله سبحانه (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا) [الطلاق: 7] .
ويقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قال له سائل: من أبر يا رسول الله؟
قال: "أمك". قال ثم من؟
قال: "أمك". قال ثم من؟
قال: "أمك". قال ثم من؟
قال: "أباك. ثم الأقرب فالأقرب".
ولأن الإنفاق عليها من صلة الرحم الواجبة، إذا لم يوجد من يقوم بالنفقة عليها سواك، ولم يخلف لها أبوك من التركة ما يقوم بحالها، وفقكما الله لكل خير (1) .
هل تلزم صدقة الفطر الرجل عن أهل بيته؟
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
هل تلزم صدقة الفطر الرجل عن أهل بيته بما فيهم الزوجة والخادم؟
فأجاب: يجب على المسلم إخراجها عن نفسه وأهل بيته: من أولاده وزوجاته، ومماليكه، إذا فضلت عن قوته وقوتهم يومه وليلته.
أما الخادم المستأجر: فزكاته على نفسه إلا أن يتبرع بها المستأجر أو تشترط عليه.
أما الخادم المملوك: فزكاته على سيده، كما تقدم في الحديث (2) .
هل يلزم إخراج الفطرة عن الولد الغائب؟
- وسئل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-:
__________
(1) "الفتاوى لابن باز - كتاب الدعوة" (2/170-171) .
(2) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" للشيخ ابن باز (154-155) .(3/185)
هل يلزم إخراج الفطرة عن الولد الغائب؟
فأجاب: أما فطرة الولد الغائب فإنها تلزم بشرط أن يكون فقيرًا، وأبوه غني، ولا تسقط غيبته الوجوب (1) .
هل الأنواع التي تخرج في صدقة الفطر محددة؟
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
هل الأنواع التي تخرج في صدقة الفطر محددة؟ وإن كانت كذلك فما هي؟
فأجاب: الواجب إخراجها من قوت البلد سواء كان: تمرًا، أو شعيرًا أو برًا، أو ذرة، أو غير ذلك، في أصح قولي العلماء، ولأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يشترط في ذلك نوعًا معينًا، ولأنها مواساة، وليس على المسلم أن يواسي من غير قوته (2) .
الأطعمة التي يجوز إخراج زكاة الفطر منها
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
ما الأطعمة التي يجوز إخراج زكاة الفطر منها؟
فأجاب: ورد في الحديث أنها تخرج من خمسة أشياء وهي:
1- البُر 2- الشعير 3- والتمر 4- والزييب 5- والأقط.
لكن ذكر بعض العلماء المحققين أن تخصيص هذه الخمسة حيث أنها المستعملة في ذلك الوقت، وأجاز إخراجها من غالب قوت البلد كالأرز مثلاً والذرة في البلاد التي تقتاتها ونحو ذلك والله أعلم.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم (3) .
__________
(1) "الفتاوى السعدية للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدى" (209) .
(2) "تحفة الأخوان بأجوبة مهمة تتملق باركان الإسلام" لابن باز (155) .
(3) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (189) .(3/186)
هل يجوز إخراج زكاة الفطر لحمًا؟
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
بعض أهل البوادي ليس عندهم طعام يخرجونه لزكاة الفطرة فهل يجوز لهم الذبح من المواشي وتوزيعها. على الفقراء؟
فأجاب: لا يصح ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرضها صاعًا من طعام واللحم يوزن ولا يكال، قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر صاعًا من تمر وصاعًا من شعير".
وقال أبو سعيد -رضي الله عنه-: "كنا نخرجها في زمن النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صاعًا من طعام، كان طعامنا التمر والشعير والزييب والأقط". ولهذا كان القول الراجح من أقوال أهل العلم أن زكاة الفطر لا تجزيء من الدراهم ولا من الثياب ولا من الفرش.
ولا عبرة بقول من قال من أهل العلم: إن زكاة الفطر تجزيء من الدراهم؛ لأنه ما دام بين أيدينا نص عن النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه لا قول لأحد بعده ولا استحسان للعقول في إبطال الشرع، والله عز وجل لا يسألنا عن قول فلان وفلان يوم القيامة وإنما يسألنا عن قول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لقوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) [القصص: 65] .
فتصور نفسك واقفًا بين يدي الله يوم القيامة وقد فرض عليك على لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تؤدي زكاة الفطر من الطعام فهل يمكنك إذا سئلت يوم القيامة: ماذا أجبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في فرض هذه الصدقة؟ فهل يمكنك أن تدافع عن نفسك وتقول: والله هذا مذهب فلان وهذا قول فلان؟
الجواب: لا. ولو أنك قلت ذلك لم ينفعك.
فالصواب بلا شك أن زكاة الفطرة لا تجزيء إلا من الطعام وأن أي طعام يكون قوتًا للبلد فإنه مجزيء وإذا رأيت أقوال أهل العلم في هذه المسألة وجدت أنها طرفان ووسط:(3/187)
فطرف يقول: أخرجها من الطعام، وأخرجها من الدراهم، وطرف آخر يقول: لا تخرجها من الدراهم ولا تخرجها من طعام إلا من خمسة أصناف فقط وهي البر والتمر والشعير والزبيب والأقط وهذان القولان متقابلان.
وأما القول الوسط فيقول: أخرجها من كل ما يطعمه الناس ولا تخرجها مما لا يطعمه الناس، فأخرجها من البر والتمر والأرز والذرة, إذا كنت في مكان يقتات الناس فيه الذرة وما أشبه ذلك, حتى لو فرض أننا في أرض يقتات أهلها اللحم.
وبناء على ذلك , يتبين أن ما ذكره السائل من إخراج أهل البوادي للحم بدلاً عن زكاة الفطر فلا يجزيء عن زكاة الفطر (1) .
حكم من يُجْبَر على إخراج زكاة الفطر دراهم
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
ما حكم من يجبر على إخراج زكاة الفطر من الدراهم؟ وهل تجزئه؟
فأجاب: الظاهر لي إذا أجبر الإنسان على إخراج زكاة الفطر دراهم فليعطها إياهم ولا يبارز بمعصيه ولاة الأمور, لكن فيما بينه وبين الله يخرج ما أمره به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيخرج صاعًا من طعام كما أمر النبي؛ لأن إلزامهم إياك بأن تخرج من الدراهم إلزام بما لم يشرعه الشارع وحينئذ يجب عليك أن تقضي ما تعتقد أنه هو الواجب (2) .
حكم إخراج زكاة الفطر أثناء الخطبة بعد صلاة العيد
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
ما حكم من لم يخرج زكاة الفطر إلا في أثناء الخطبة بعد صلاة العيد، وذلك من أجل نسيانه؟
فأجاب: إخراج زكاة الفطر قبل الصلاة واجب، ومن نسي ذلك فلا شيء عليه
__________
(1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/465-467) .
(2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/465) .(3/188)
سوى إخراجها بعد ذلك؛ لأنها فريضة، فعليه أن يخرجها متى ذكرها، ولا يجوز لأحد أن يتعمد تأخيرها إلى ما بعد صلاة العيد في أصح قولي العلماء؛ لأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر المسلمين أن يؤدوها قبل صلاة العيد (1) .
هل تسقط زكاة الفطر عمن لم يخرجها قبل العيد؟
- وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
من لم يخرج زكاة الفطر قبل العيد: فهل تسقط عنه؟
فأجاب: من لم يخرج زكاة الفطر قبل العيد فإنه آثم ولا تسقط عنه بل عليه أن يخرجها قضاء (2) .
نسي إخراج زكاة الفطر قبل العيد
- وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
أعددت زكاة الفطر قبل العيد لإعطائها إلى فقير أعرفه، ولكنني نسيت إخراجها قبل صلاة العيد، وقد أخرجتها بعد الصلاة. فما الحكم؟
فأجاب: لا ريب أن السنة إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد، كما أمر بهذا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن لا حرج عليك فيما فعلت، فإخراجها بعد الصلاة يجزيء والحمد لله.
وإن كان جاء في الحديث أنها صدقة من الصدقات، لكن ذلك لا يمنع الإجزاء، وأنه وقع في محله، ونرجو أن يكون مقبولاً، وأن تكون زكاة كاملة، لأنك لم تؤخر ذلك عمدًا، وإنما أخرته نسيانًا.
وقد قال الله عز وجل في كتابه العظيم: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) [البقرة: 286] .
__________
(1) "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (3 /101) .
(2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (187) .(3/189)
وثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: "يقول الله عز وجل: قد فعلت" فأجاب دعوة عباده
المؤمنين في عدم المؤاخذة بالنسيان (1) .
حكم وضعها عند الجار حتى يأتي الفقير وتأخرت عن يوم العيد
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
نود أيضًا أن نعرف حكم وضعها عند الجار حتى يأتي الفقير دون توكيل من الفقير؟
فأجاب: نعم يجوز للإنسان أن يضعها عند جاره ويقول: هذه لفلان إذا جاء فأعطها إياه.
لكن لابد أن تصل يد الفقير قبل صلاة العيد، لأنه وكيل عن صاحبها أما لو كان الجار قد وكله الفقير، وقال: اقبض زكاة الفطر من جارك لي، فإنه يجوز أن تبقى مع الوكيل ولو خرج الناس من صلاة العيد (2) .
لا يجوز إعطاؤها إلا للفقير من المسلمين
- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
هل يجوز إعطائها للعمال والشغالات والشغالين غير المسلمين؟
فأجاب: لا. لا يجوز إعطاؤها إلا للفقير من المسلمين فقط (3) .
حكم إخراج زكاة الفطر للمجاهدين
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
__________
(1) "مجموعة فتاوى الشيخ ابن باز" (3/103) .
(2) "فقة العبادات لابن عثيمين" (214، 215) .
(3) "فقة العبادات لابن عثيمين" (214) .(3/190)
ما حكم إخراج صدقة الفطر للمجاهدين في البوسنة والهرسك وغيرها وإن كان الحكم بالجواز، فما هو الأفضل في ذلك؟
فاجاب: المشروع إخراجها في فقراء المسلمين في البلد التي فيها المزكي؛ لأنهم أحوج إليها غالبًا، ولأنها مواساة لهم حتى يستغنوا بها عن السؤال أيام العيد، وإن نقلت إلى غيرهم من الفقراء أجزأت في أصح قولي العلماء؛ لأنها بلغت محلها، لكن صرفها في فقراء البلد أولى وأفضل وأحوط.
ويجوز التوكيل في دفعها للفقراء في البلاد وخارجها إذا كان الوكيل ثقة كزكاة المال، ويجوز توكيله في شراء الطعام المجزيء، وتوزيعه على الفقراء.
والله ولي التوفيق (1) .
وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
هل يجوز للققير الذي يريد المزكي أن يعطيه زكاة الفطر أن يوكل شخصًا آخر في قبضها من المزكي وقت دفعها؟
فأجاب: يجوز ذلك، أي يجوز أن يقول من عنده زكاة فطر للفقير: وكِّل من يقبض
الزكاة عنك وقت دفعها (2) .
زكاة الفطر توزع بين فقراء البلد
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:
بالنسبة للفطرة هل توزع على فقراء بلدتنا أم على غيرهم؟ وإذا كنا نسافر قبل العيد بثلاثة أيام ماذا نفعل تجاه الفطرة؟
فأجاب: السنة توزيع زكاة الفطر يين فقراء البلد صباح يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز توزيعها قبل ذك ييوم أو يومين ابتداء من اليوم الثامن والعشرين. وإذا سافر من عليه زكاة
__________
(1) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" لابن باز (155-116) .
(2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/469) .(3/191)
الفطر قبل العيد ييومين أوأكثر أخرجها في البلاد الإسلامية التي يسافر إليها، وإن كانت غير إسلامية التمس بعض فقراء المسلمين وسلمها لهم. وإن كان سفره بعد جواز إخراجها فالمشروع له توزيعها بين فقراء بلده، لأن المقصود منها مواساتهم والإحسان إليهم وإغناؤهم عن سؤال الناس أيام العيد (1) .
هل أخرج زكاة الفطر في بلدي أم في مكان العمل الذي أقيم فيه؟
وسئل فضيلة الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله-:
أنا مقيم في هذا البلد للعمل، فهل يجوز لي إخراج زكاة الفطر هنا أم في بلدي الذي قدمت منه؟
فأجاب: يشرع إخراج صدقة الفطر في البلد الذي ينتهي شهر رمضان وأنت فيه لأنها تابعة للبدن، فحيث وجد المسلم في بلد وحان انتهاء شهر رمضان فإنه يخرج زكاة الفطر عن نفسه في فقراء ذلك البلد، إن وكَّل من يخرجها عنه في بلده أجزأه ذلك لكنه خلاف الأولى. والله أعلم.
وإذا كنت في بلد ليس فيه مسلمون، أو فيه مسلمون لكنهم لا يستحقون صدقة الفطر لأنهم أغنياء فإنها تخرج في أقرب بلد فيه فقراء من المسلمين (2) .
هل يجوز نقل زكاة الفطر من بلد لآخر؟
وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:
هل يجوز نقل زكاة الفطر من البلد التي أقطن بها إلى بلاد أخرى؟
فأجاب: ذهب الأكثرون إلى أنها لا تخرج من البلاد إذا كان فيها فقراء وهذا هو القول الصحيح، فإنه إذا كان في البلاد فقراء واستطعت أن توصلها لهم وأنت تعرف أنهم
__________
(1) "الفتاوى لابن باز - كتاب الدعوة" (2/171) .
(2) "الفتاوى لابن فوزان - كتاب الدعوة" (2/13، 14) .(3/192)
محتاجون فإنه لا يجوز لك نقل زكاتك إلى بلاد أخرى، أما إذا كانت بلادك ليس فيها فقراء، فإنه يجوز نقلها ولو إلى بلاد بعيدة، ولكن لابد أن يذكر أنها زكاة فطر، ولابد أيضًا أن يقدم إرسالها حتى تصل إليهم قبل خروج وقتها (1) .
حكم نقل زكاة الفطر
وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
عن حكم نقل زكاة الفطر إلى البلدان البعيدة بحجة وجود من أهلها الفقراء الكثيرين من القارات التي تخرج عن البلد؟
فأجاب: نقل صدقة الفطر إلى بلاد غير بلاد الرجل الذي أخرجها إن كان للحاجة بأن لم يكن عنده أحد الفقراء، فلا بأس به، وإن كان لغير حاجة بأن وجد في البلد من يتقبلها، فإنه لا يجوز (2) .
وسئل أيضًا -حفظه الله-:
جماعة وكَّلوا أحدهم بشراء قمح، وتوزيعه زكاة للفطر في أفغانستان، فما حكم عملهم هذا؟
فأجاب المشهور من مذهب الحنابلة في هذه المسألة أنها لا تجوز؛ لأنه لا يجوز نقل الزكاة عن محل وجوبها إلا إذا لم يكن في المحل أهل لها، فإنها تفرق في أقرب البلاد إليه، وعلى هذا فإذا كان في بلد فيه فقراء فإنه لا يوزعها في بلد آخر سواه؛ لأن أهل بلده أحق من غيرهم.
أما لو لم يكن عنده فقراء فإنه لا حرج أن ينقلها إلى بلاد أخرى، وكذلك على القول الراجح إذا كان في نقلها مصلحة مثل أن ينقلها إلى أشد حاجة، لكن زكاة الفطر ليست كزكاة المال؛ لأن زكاة المال وقتها أوسع، أما زكاة الفطر فهي مخصوصة قبل العيد بيومين إلى صلاة العيد (3) .
__________
(1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (187) .
(2) "فقة العبادات" لابن عثيمين (214) .
(3) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/467-468) .(3/193)
زكاة الفطر تتبع الإنسان أينما كان
وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:
هل يجوز للإنسان أن يخرج زكاة الفطر في بلده علمًا بأنه الآن في مكة، وقد حان وقت إخراجها؟
فأجاب: زكاة الفطر تتبع الإنسان، فإذا جاء وقت الفطر وأنت في بلد فأدِّ زكاة الفطر وأنت في ذلك البلد فإذا كنت مثلا من أهل المدينة وجاء عليك العيد وأنت في مكة فأخرج زكاة الفطر في مكة، وإذا كنت من أهل مكة وجاء العيد وأنت في المدينة فأخرج زكاة الفطر في المدينة، وكذلك لو كنت من أهل مصر مثلا أو الشام أو العراق، وجاء العيد وأنت في مكة فأخرج الزكاة في مكة، وإذا كنت من أهل مكة وجاء الفطر في مصر أو الشام أو العراق فأخرج الزكاة في تلك البلاد (1) .
تزيين المساجد بالأنوار في أيام الفطر
وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
تجري عادة في بعض المساجد في أيام الفطر وفي غيرها من أيام المناسبات الدينية وهي تزيين المساجد بأنواع وألوان مختلفة من الكهرباء والزهور. هل يجيز الإسلام هذا العمل أم لا؟ وما دليل الجواز أو المنع؟
فأجابت: المساجد بيوت الله، وهي خير بقاع الأرض، أذن الله تعالى أن ترفع وتعظم بتوحيد الله، وذكره وإقام الصلاة فيه، ويتعلم الناس بها شئون دينهم، وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة وبتطهيرها من الرجس والأوثان والأعمال الشركية والبدع والخرافات ومن الأوساخ والأقذار والنجاسات. وبصيانتها من اللهو واللعب والصخب وارتفاع الأصوات، ولو كان نشد ضالة وسؤالا عن ضائع ونحو ذلك مما يجعلها كالطرق العامة وأسواق التجارة وبالمنع من الدفن فيها ومن بنائها على القبور.
__________
(1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/468) .(3/194)
ومن تعليق الصور بها، أو رسمها بجدرانها إلى أمثال ذلك مما يكون ذريعة إلى الشرك ويشغل بال من يعبد الله فيها، ويتنافى مع ما بنيت من أجله.
وقد راعى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك كما هو معروف في سيرته وعمله وبيَّنه لأمته ليسلكوا منهجه ويهتدوا بهديه في احترام المساجد وعمارتها بما فيه رفع لها من إقامة شعائر الإسلام بها مقتدين في ذلك بالرسول الأمين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه عظم المساجد بإنارتها ووضع الزهورعليها في الأعياد والمناسبات ولم يعرف ذلك أيضًا من الخلفاء الراشدين ولا الأئمة المهتدين من القرون الأولى التي شهد لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنها خير القرون مع تقدم الناس وكثرة أموالهم وأخذهم من الحضارة بنصيب وافر وتوفر أنواع الزينة وألوانها في القرون الثلاثة الأولى، والخير كل الخير في اتباع هديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهدي خلفائه الراشدين ومن سلك سبيلهم من أئمة الدين بعدهم.
ثم إن في إيقاد السرج عليها أو تعليق لمبات الكهرباء فوقها أو حولها أو فوق مناراتها وتعليق الرايات والأعلام ووضع الزهور عليها في الأعياد والمناسبات -تزيينًا وإعظامًا لها- تشبهًا بالكفار فيما يصنعون ببيعهم وكنائسهم، وقد نهى النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التشبه بهم في أعيادهم وعباداتهم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) .
***
__________
(1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (2036) .(3/195)
من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله
سئل قدس الله روحه
عن رجل رأى الهلال وحده، وتحقّق الرؤية: فهل له أن يفطر وحده؟ أو يصوم وحده؟ أو مع جمهور الناس؟
فأجاب: الحمد لله. إذا رأى هلال الصوم وحده، أو هلال الفطر وحده، فهل عليه أن يصوم برؤية نفسه؟ أو يفطر برؤية نفسه؟ أم لا يصوم ولا يفطر إلا مع الناس؟ على ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات عن أحمد:
أحدها: أن عليه أن يصوم، وأن يفطر سرًا، وهو مذهب الشافعي.
والثاني: يصوم ولا يفطر إلا مع الناس، وهو المشهور من مذهب أحمد، ومالك، وأبي حنيفة.
والثالث: يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس، وهذا أظهر الأقوال:
لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون" رواه الترمذي، وقال: حسن غريب، وراه أبو داود، وابن ماجه، وذكر الفطر والأضحى فقط، ورواه الترمذي من حديث عبد الله بن جعفر عن عثمان بن محمد عن المقبري عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون"، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، قال: وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة، وعظم الناس. ورواه أبو داود بإسناد آخر، فقال: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا حماد من حديث أيوب عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة، ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه فقال وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر، وكل جمع موقف".(3/196)
ولأنه لو رأى هلال النحر لما اشتهر، والهلال اسم لما استهلّ به، فإن الله جعل الهلال مواقيت للناس والحج، وهذا إنما يكون إذا أستهل به الناس، والشهر بين، وإن لم يكن هلالا ولا شهرًا.
وأصل هذا المسألة أن الله سبحانه وتعالى علّق أحكامًا شرعية بمسمى الهلال، والشهر: كالصوم والفطر والنحر، فقال تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) . فبين سبحانه أن الأهلة مواقيت للناس والحج.
قال تعالى: (كتب عليكم الصيام) إلى قوله (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس) أنه أوجب صوم -شهر رمضان، وهذا متفق- عليه بين المسلمين، لكن الذي تنازع الناس فيه أن الهلال هل هو اسم لما يظهر في السماء؟ وإن لم يعلم به الناس؟ وبه يدخل الشهر، أو الهلال اسم لما يستهل به الناس، والشهر لما اشتهر بينهم؟ على قولين:
فمن قال بالأول يقول: من رأى الهلال وحده فقد دخل ميقات الصوم، ودخل شهر رمضان في حقه، وتلك الليلة هي في نفس الأمر من رمضان، وإن لم يعلم غيره، ويقول من لم يره إذا تبيّن له أنه كان طالعًا قضى الصوم وهذا هو القياس في شهر الفطر، وفي شهر النحر، لكن شهر النحر ما علمت أن أحدًا قال من رآه يقف وحده، دون سائر الحاج، وأنه ينحر في اليوم الثاني، ويرمي جمرة العقبة، ويتحلل دون سائر الحاج، وإنما تنازعوا في الفطر، فالأكثرون الحقوه بالنحر، وقالوا: لا يفطر إلا مع المسلمين وآخرون قالوا: بل الفطر كالصوم، ولم يأمر الله العباد بصوم واحد وثلاثين يومًا، وتناقض هذه الأقوال يدل على أن الصحيح هو مثل ذلك في ذي الحجة.
وحينئذ فشرط كونه هلالا وشهرًا شهرته بين الناس، واستهلال الناس به حتى لو رآه عشرة، ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد، لكون شهادتهم مردودة، أو لكونهم لم يشهدوا به، كان حكمهم حكم سائر المسلمين، فكما لا يقفون ولا ينحرون ولا يصلون العيد إلا مع المسلمين، - فكذلك لا يصومون إلا مع المسلمين، وهذا معنى قوله: "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم(3/197)
تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون". ولهذا قال أحمد في روايته: يصوم مع الإمام وجماعة المسلمين في الصحو والغيم، قال أحمد: يد الله على الجماعة.
وعلى هذا تفترق أحكام الشهر، هل هو شهر في حق أهل البلد كلهم؟
أو ليس شهرًا في حقهم كلهم؟ يبين ذلك قوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) فإنما أمر بالصوم من شهد الشهر، والشهود لا يكون إلا لشهر اشتهر بين الناس، حتى يتصور شهوده، والغيبة عنه.
وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وصوموا من الوضح إلى الوضح" ونحو ذلك خطاب للجماعة، لكن من كان في مكان ليس فيه غيره، إذا رآه صامه، فإنه ليس هناك غيره. وعلى هذا فلو أفطر ثم تبين أنه رؤي في مكان آخر، أو ثبت نص النهار، لم يجب عليه القضاء.
وهذا إحدى الروايتين عن أحمد. فإنه إنما صار شهرًا في حقهم من حين ظهر، واشتهر، ومن حينئذٍ وجب الإمساك كأهل عاشوراء، الذين أمروا بالصوم في أثناء اليوم، ولم يُؤمروا بالقضاء على الصحيح، وحديث القضاء ضعيف، والله أعلم.
سُئل قدَّسَ الله رُوُحَهُ
عن المسافر في رمضان، ومن يصوم، ينكر عليه، وينسب إلى الجهل.
ويقال له الفطر أفضل، وما هو مسافة القصر؟ وهل إذا أنشأ السفر من يومه يفطر؟ وهل يفطر السفار من المكارية والتجار والجمال والملاح وراكب البحر؟
وما الفرق بين سفر الطاعة، وسفر المعصية؟
فأجاب: الحمد لله، الفطر للمسافر جائز باتفاق المسلمين، سواء كان سفر حج، أو جهاد، أو تجارة، أو نحو ذلك من الأسفار التي لا يكرهها الله ورسوله.
وتنازعوا في سفر المعصية كالذي يسافر ليقطع الطريق ونحو ذلك، على قولين مشهورين كما تنازعوا في قصر الصلاة.(3/198)
فأما السفر الذي تقصر فيه الصلاة فإنه يجوز فيه الفطر مع القضاء باتفاق الأئمة، ويجوز الفطر للمسافر باتفاق الأمة، سواء كان قادرًا على الصيام، أو عاجزًا وسواء شق عليه الصوم، أو لم يشق، بحيث لو كان مسافرًا في الظل والماء ومعه من يخدمه جاز له الفطر والقصر.
ومن قال: إن الفطر لا يجوز إلا لمن عجز عن الصيام فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وكذلك من أنكر على المفطر، فإنه يستتاب من ذلك.
ومن قال: إن المفطر عليه إثم، فإنه يستتاب من ذلك، فإن هذه الأحوال خلاف كتاب الله، وخلاف سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخلاف إجماع الأمة.
وهكذا السنة للمسافر أنه يصلي الرباعية ركعتين، والقصر أفضل له من التربيع، عند الأئمة الأربعة: كمذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، والشافعي، في أصح قوليه.
ولم تتنازع الأمة في جواز الفطر للمسافر؟ بل تنازعوا في جواز الصيام للمسافر، فذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الصائم في السفر كالمفطر في الحضر، وأنه إذا صام لم يجزه بل عليه أن يقضي، ويروى هذا عن عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وغيرهما من السلف وهو مذهب أهل الظاهر، وفي الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس من البر الصوم في السفر" لكن مذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز للمسافر أن يصوم، وأن يفطر، كلما في الصحيحين عن أنس قال: " كنا نسافر مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان فمنا الصائم، ومنا المفطر، فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم" وقد قال الله تعالى: 0فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ، وفي المسند عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته"، وفي الصحيح أن رجلاً قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني رجل أكثر الصوم، أفأصوم في السفر؟ فقال: "إن أفطرت فحسن، وإن صمت فلا بأس" وفي حديث آخر: "خياركم الذين في السفر يقصرون ويفطرون".(3/199)
وأما مقدار السفر الذي يقصر فيه، ويفطر، فمذهب مالك والشافعي، وأحمد أنه مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام، وهو ستة عشر فرسخًا، كما بين مكة وعسفان، ومكة وجدة. وقال أبو حنيفة: مسيرة ثلاثة أيام، وقال طائفة من السلف والخلف: بل يقصر ويفطر في أقل من يومين. وهذا قول قوي، فإنه قد ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بعرفة، ومزدلفة، ومنى، يقصر الصلاة، وخلفه أهل مكة وغيرهم يصلون بصلاته، لم يأمر أحدًا منهم بإتمام الصلاة.
وإذا سافر في أثناء يوم، فهل يجوز له الفطر؟ على قولين مشهورين العلماء، هما روايتان عن أحمد.
أظهرهما: أنه يجوز ذلك، كما ثبت في السنن أن من الصحابة من كان يفطر إذا خرج من يومه، ويذكر أن ذلك سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نوى الصوم في السفر، ثم إنه دعا بماء فأفطر، والناس ينظرون إليه.
وأما اليوم الثاني: فيفطر فيه بلا ريب، وإن كان مقدار سفره يومين في مذهب جمهور الأئمة والأمة.
وأما إذا قدم المسافر في أثناء يوم، ففي وجوب الإمساك عليه نزاع مشهور بين العلماء؛ لكن عليه القضاء سواء أمسك أو لم يمسك.
ويفطر من عادته السفر إذا كان له بلد يأوى إليه. كالتاجر الجلاب الذي يجلب الطعام، وغيره من السلع، وكالمكاري الذي يكري دوابه من الجلاب وغيرهم. وكالبريد الذي يسافر في مصالح المسلمين. ونحوهم، وكذلك الملاح الذي له مكان في البر يسكنه.
فأما من كان معه في السفينة امرأته، وجميع مصالحه، ولا يزال مسافراً فهذا لا يقصر، ولا يفطر.
وأهل البادية: كأعراب العرب، والأكراد، والترك، وغيرهم والذين يشتون في مكان، ويصيفون في مكان، إذا كانوا في حال ظعنهم من المشتى إلى(3/200)
المصيف، ومن المصيف إلى المشتى، فإنهم يقصرون، وأما إذا نزلوا بمشتاهم، ومصيفهم، لم يفطروا، ولم يقصروا، وإن كانوا يتتبعون المراعي، والله أعلم.
وسُئل رحمه الله
عمن يكون مسافرًا في رمضان، ولم يصبه جوع، ولا عطش، ولا تعب: فما الأفضل له: الصيام؟ أم الإفطار؟
فأجاب: أما المسافر فيفطر باتفاق المسلمين، وإن لم يكن عليه مشقة، والفطر له أفضل، وإن صام جاز عند أكثر العلماء.
ومنهم من يقول: لا يجزئه.
وسئل
عن غروب الشمس، هل يجوز للصائم أن يفطر بمجرد غروبها؟
فأجاب: إذا غاب جميع القرص أفطر الصائم، ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق.
وإذا غاب جميع القرص ظهر السواد من المشرق، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم".
وسئل
عما إذا أكل بعد أذان الصبح في رمضان، ماذا يكون؟
فأجاب: الحمد لله. أما إذا كان المؤذن يؤذن قبل طلوع الفجر، كما كان بلال يؤذّن قبل طلوع الفجر على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكما يؤذن المؤذنون في دمشق وغيرها قبل طلوع الفجر، فلا بأس بالأكل والشرب بعد ذلك بزمن يسير.
وإن شك: هل طلع الفجر؟ أو لم يطلع؟ فله أن يأكل ويشرب حتى(3/201)
يتبيّن الطلوع، ولو علم بعد ذلك أنه أكل بعد طلوع الفجر، ففي وجوب القضاء نزاع. والأظهر أنه لا قضاء عليه، وهو الثابت عن عمر، وقال به طائفة من السلف والخلف، والقضاء هو المشهور في مذهب الفقهاء الأربعة، والله أعلم.
وسئل
عن رجل كلما أراد أن يصوم أُغمي عليه، ويزبد ويخبط، فيبقى أيامًا لا يفيق، حتى يُتهم أنه مجنون، ولم يتحقّق ذلك منه؟
فأجاب: الحمد لله. إن كان الصوم يوجب له مثل هذا المرض، فإنه يفطر ويقضي، فإن كان هذا يصيبه في أي وقت صام، كان عاجزاً عن الصيام، فيطعم عن كل يوم مسكيناً، والله أعلم.
وسُئل رحمه الله
عن امرأة حامل رأت شيئًا شبه الحيض، والدم مواظبها، وذكر القوابل أن المرأة تفطر لأجل منفعة الجنين، ولم يكن بالمرأة ألم، فهل يجوز لها الفطر؟ أم لا؟
فأجاب: إن كانت الحامل تخاف على جنينها، فإنها تفطر، وتقضي عن كل يوم يوماً، وتطعم عن كل يوم مسكيناً، رطلاً من خبز بأدمه، والله أعلم.
***(3/202)
من فتاوى الشيخ ابن باز حفظه الله
الصوم والإفطار يتبعان بلد الإقامة
س: أنا من شرق آسيا، عندنا الشهر الهجري يتأخر عن المملكة العربية السعودية بيوم، ونحن الطلاب سنسافر في شهر رمضان في هذه السنة، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.." إلى آخر الحديث، وقد بدأنا الصوم في المملكة العربية السعودية ثم نسافر إلى بلادنا في شهر رمضان وفي نهاية الشهر نكون قد صمنا واحدًا وثلاثين يومًا.
وسؤالي هو: ما حكم صيامنا وكم يومًا نصوم؟
أبو بكر. م. ج
ج: إذا صمتم في السعودية أو غيرها ثم صمتم بقية الشهر في بلادكم فأفطروا بإفطارهم، ولو راد ذلك على ثلاثين يوماً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الصوم يوم تصومون والإفطار يوم تفطرون" لكن إن لم تكملوا تسعة وعشرين يومًا فعليكم إكمال ذلك لأن الشهر لا ينقص عن تسع وعشرين. والله ولي التوفيق.
تقلع بنا الطائرة قبل الغروب بساعة، وتمضي الساعة والشمس لم تغرب فهل نفطر أم ننتظر غروب الشمس؟
س: ستقلع بنا الطائرة بإذن الله تعالى من الرياض في رمضان قبل أذان المغرب بساعة تقريبًا، وسيؤذن للمغرب ونحن في أجواء السعودية، فهل نفطر؟
وإذا رأينا الشمس ونحن في الجو وهذا هو الغالب فهل نظل على صيامنا، ونفطر في بلدنا أم نفطر بمجرد الأذان في السعودية؟
قارئ
ج: إذا أقلعت الطائرة عن الرياض مثلاً قبل غروب الشمس إلى جهة المغرب فإنك لا تزال صائمًا حتى تغرب الشمس وأنت في الجو أو تنزل في بلد(3/203)
قد غابت فيه الشمس لقوله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" متفق على صحته.
الدعوة (944)
حكم من لم يعلم بدخول شهر رمضان إلا بعد طلوع الفجر
س: سئل سماحة الشيخ عن حكم من لم يعلم بدخول شهر رمضان إلا
بعد طلوع الفجر فكيف يعمل؟..
ج: من لم يعلم بدخول شهر رمضان إلا بعد طلوع الفجر فعليه أن يمسك عن المفطرات بعية يومه لكونه يوماً من رمضان لا يجوز للمقيم الصحيح أن يتناول فيه شيئا من المفطرات، وعليه القضاء؛ لكونه لم يبيت الصيام قبل الفجر، وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له" ونقله الموفق ابن قدامة -رحمه الله- في المغني، وهو قول عامة الفقهاء.. والمراد بذلك صيام الفرض لما ذكرنا من الحديث الشريف، أما صيام النفل فيجوز أثناء النهار إذا لم يتناول شيئاً من المفطرات لأنه صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يدل على ذلك.
ونسأل الله أن يوفق المسلمين لما يرضيه، وأن يتقبل منهم صيامهم، وقيامهم، إنه سميع قريب، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الدعوة (899)
أعُالَجُ في المستشفى، وأتناول دواء يسبب لي الجوع الشديد، هل أفطر أم أصبر؟
س: أنا في السادسة عشرة من عمري، وأعالج في مستشفى الملك فيصل(3/204)
التخصصي من حوالي خمس سنوات إلى الآن، وفي شهر رمضان من العام الماضي أمر الدكتور بإعطائي علاجًا كيماويًا في الوريد، وأنا صائم، وكان العلاج قويًا، ومؤثرًا على المعدة، وعلى جميع الجسم، وفي نفس اليوم الذي أخذت فيه العلاج جعت جوعًا شديداً ولم يمض من الفجر إلا حوالي سبع ساعات، وفي حوالي العصر تألمت منه وكدت أموت، ولم أفطر حتى أذان المغرب، وفي شهر رمضان هذا العام إن شاء الله سيأمر الدكتور بإعطائي ذلك العلاج، هل أفطر في ذلك اليوم أم لا؟ وإذا لم أفطر فهل عليّ قضاء ذلك اليوم؟ وهل أَخْذ الدم من الوريد يفطر أم لا؟ وكذلك العلاج الذي ذكرت؟
أفيدوني جزاكم الله خيرًا.
ج. ع. أ- الرياض
ج: المشروع للمريض الإفطار في شهر رمضان إذا كان الصوم يضره أو يشق عليه أو كان يحتاج إلى علاج في النهار بأنواع الحبوب والأشربة ونحوها مما يؤكل ويشرب لقول الله سبحانه: (وَمَن كانَ مرِيضا أَو عَلَى سَفرٍ فَعِدََّةٌ مِن أَيَّامٍ أخَرَ) [البقرة: 185] ، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله يجب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته". وفي رواية أخرى. "كما يحب أن تؤتى عزائمه".
أما أخذ الدم من الوريد للتحليل أو غيره فالصحيح أنه لا يفطر الصائم، لكن إذا كثر فالأولى تأجيله إلى الليل، فإن فعله في النهار فالأحوط القضاء تشبيهًا له بالحجامة.
أنا امرأة مريضة، وقد أفطرت بعض أيام رمضان، ولم أستطع قضاءها، ما كفارة ذلك؟
س: أنا سيدة مريضة، وقد أفطرت بعض الأيام في رمضان الماضي، ولم(3/205)
أستطع قضاءها لمرضي، فما هي كفارة ذلك؟ كذلك فإنني لن أستطيع صيام رمضان هذا العام، فما هي كفارة ذلك أيضًا؟
مريم. م - الرياض
ج: المريض الذي يشق عليه الصيام يشرع له الإفطار، ومتى شفاه الله قضى ما عليه لقول الله سبحانه: (وَمن كانَ مرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخرَ) [البقرة: 185] ، وليس عليك أيتها السائلة حرج في الإفطار هذا الشهر ما دام المرض باقيًا؛ لأن الإفطار رخصة من الله للمريض والمسافر، والله سبحانه يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته، وليس عليك كفارة، ولكن متى عافاك الله فعليك القضاء شفاك الله من كل سوء، وكفر عنا وعنكم السيئات.
إذا احتلم الصائم في نهار رمضان هل يبطل صومه أم لا؟
س: إذا احتلم الصائم في نهار رمضان هل يبطل صومه أم لا؟ وهل تجب عليه المبادرة بالغسل؟
عمر. م. أ - الرياض
ج: الاحتلام لا يبطل الصوم لأنه ليس باختيار الصائم، وعليه أن يغتسل غسل الجنابة، إذا رأى الماء وهو المني. ولو احتلم بعد صلاة الفجر، وأخر الغسل إلى وقت صلاة الظهر فلا بأس، وهكذا لو جامع أهله في الليل، ولم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر لم يكن عليه حرج في ذلك فقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يصبح جنبًا من جماع ثم يغتسل ويصوم، وهكذا الحائض والنفساء لو طهرتا في الليل، ولم تغتسلا إلا بعد طلوع الفجر لم يكن عليهما بأس في ذلك وصومهما صحيح، ولكن لا يجوز لهما ولا للجنب تأخير الغسل أو الصلاة إلى طلوع الشمس بل يجب على الجميع البدار بالغسل قبل طلوع الشمس حتى يؤدوا الصلاة في وقتها.(3/206)
وعلى الرجل أن يبادر بالغسل من الجنابة قبل صلاة الفجر حتى يتمكن من الصلاة في الجماعة، والله ولي التوفيق.
الدعوة 945
هل الاحتلام يفسد الصوم، وإذا سال الدم من جسم الإنسان هل يفطر، وهل القيء يفسد الصوم؟
س: كنت صائمًا، ونمت في المسجد وبعد ما استيقظت وجدت أني محتلم. هل يؤثر الاحتلام في الصوم علمًا أنني لم أغتسل، وصلّيت الصلاة بدون غسل؟ ومرة أخرى أصابني حجر في رأسي وسال الدم منه، هل أفطر بسبب الدم؟ وبالنسبة للقيء هل يفسد الصوم أو لا؟ أرجو إفادتي.
م. و. أ - الرياض
ج: الاحتلام لا يفسد الصوم؛ لأنه ليس باختيار العبد، ولكن عليه غسل الجنابة إذا خرج منه مني؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سُئل عن ذلك أجاب بأن على المحتلم الغسل إذا وجد الماء -يعني المني-، وكونك صليت بدون غسل هذا غلط منك، ومنكر عظيم، وعليك أن تعيد الصلاة مع التوبة إلى الله سبحانه، والحجر الذي أصاب رأسك حتى أسال الدم لا يبطل صومك، وهذا القيء الذي خرج منك بغير اختيارك لا يبطل صومك؛ لقول النبي: "من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء" رواه أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح.
ما حكم صيام النصف من شعبان
س: ما حكم صيام نصف شعبان وهي الأيام [13-14-15] ؟
خالد. ي - مكة المكرمة
ج: يستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر من شعبان أو غيره لما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر عبد الله بن عمرو بن العاص بذلك، وثبت عنه أيضًا أنه أوصى أبا الدرداء، وأبا هريرة بذلك، وإن صام هذه الثلاثة من بعض الشهور(3/207)
دون بعض أو صامها تارة وتركها تارة فلا بأس لأنها نافلة لا فريضة، والأفضل أن يستمر عليها في كل شهر إذا تيسر له ذلك.
قيمة زكاة الفطر
س: كم قيمة زكاة رمضان؟
مريم. م - الرياض
ج: كأن السائلة تريد زكاة الفطر من رمضان، والواجب في ذلك صاع واحد من قوت البلد من أرز أو بر أو تمر، أو غيره عن الذكر والأنثى والحر والمملوك والصغير والكبير من المسلمين كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والواجب إخراجها قبل خروج الناس إلى صلاة العيد، وإن أخرجت قبل العيد بيوم أو يومين فلا بأس، ومقداره بالكيلو ثلاثة "كيلو" على سبيل التقريب.
س: الأخ إحسان بن عبد القادر من سدني في استراليا يقول في سؤاله: كيف يصنع من يطول نهارهم إلى إحدى وعشرين ساعة هل يقدرون قدرًا للصيام، وكذا ماذا يصنع من يكون نهارهم قصيرًا جدًا، وكذلك من يستمر عندهم النهار ستة أشهر والليل ستة أشهر؟
ج: من عندهم ليل ونهار في ظرف أربع وعشرين ساعة فإنهم يصومون نهاره سواء كان قصيرًا أو طويلاً، ويكفيهم ذلك، والحمد لله، ولو كان النهار قصيراً أما من طال عندهم النهار أو الليل أكثر من ذلك كستة أشهر فإنهم يقدّرون للصيام وللصلاة قدرهما كما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك في يوم الدجّال الذي كسنة، وهكذا يومه الذي كشهر أو كأسبوع، يقدّر للصلاة قدرها في ذلك.
وقد نظر مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة في هذه المسألة وأصدر القرار رقم 61 بتاريخ 12/4/1398هـ، ونصه ما يلي:
"الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الثانية عشرة المنعقدة بالرياض في الأيام الأولى من شهر ربيع الآخر عام 1398هـ كتاب معالي الأمين(3/208)
العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة رقم 555 وتاريخ 16/1/1398هـ المتضمن ما جاء في خطاب رئيس رابطة الجمعيات الإسلامية في مدينة "مالو" بالسويد الذي يُفيد فيه بأن الدول الاسكندنافية يطول فيها النهار في الصيف، ويقصر في الشتاء نظرًا لوضعها الجغرافي كما أن المناطق الشمالية منها لا تغيب عنها الشمس إطلاقًا في الصيف، وعكسه في الشتاء، ويسأل المسلمون فيها عن كيفية الإفطار والإمساك في رمضان، وكذلك كيفيّة ضبط أوقات الصلوات في هذه البلدان، ويرجو معاليه إصدار فتوى في ذلك ليزودهم بها. اهـ.
وعرض علي المجلس أيضًا ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ونُقول أخرى عن الفقهاء في الموضوع، وبعد الإطلاع والدراسة والمناقشة قرر المجلس ما يلي:
أولاً: من كان يقيم في بلاد يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع فجر وغروب شمس إلا أن نهارها يطول جدًا في الصيف، ويقصر في الشتاء، وجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعًا، لعموم قوله تعالى: (أَقمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقرآنَ الْفَجْرِ إِنّ قرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشهُودًا) [الإسراء: 78] . وقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوقُوتًا) [النساء: 103] ، ولما ثبت عن بريدة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن رجلاً سأله عن وقت الصلاة، فقال له. "صلّ معنا هذين" -يعني اليومين- فلما زالت الشمس أمر بلالاً فأذن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر، فأنعم أن يبرد بها، وصلى العصر والشمس مرتفعة آخرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها ثم قال: "أين السائل عن وقت الصلاة؟ " فقال الرجل: أنا يا رسول الله، قال: "وقت صلاتكم بين ما رأيتم" رواه البخاري ومسلم.(3/209)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل طوله، ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس، فأمسك عن الصلاة، فإنها تطلع بين قرني شيطان". أخرجه مسلم في صحيحه. إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في تحديد أوقات الصلوات الخمس قولاً وفعلاً، ولم تفرق بين طول النهار وقصره وطول الليل وقصره، ما دامت أوقاتُ الصلوات متمايزة بالعلامات التي بينها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هذا بالنسبة لتحديد أوقات صلاتهم.
وأما بالنسبة لتحديد أوقات صيامهم شهر رمضان فعلى المكلفين أن يمسكوا كل يوم منه عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في بلادهم ما دام النهار يتمايز في بلادهم من الليل، وكان مجموع زمانهما أربعًا وعشرين ساعة. ويحل لهم الطعام والشراب والجماع ونحوها في ليلهم فقط وإن كان قصيرًا، فإن شريعة الإسلام عامة للناس في جميع البلاد، وقد قال الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيطِ الأَسْوَدِ مِن الفَجْرِ ثُمَ أَتِمُّوا الصّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] ، ومن عجز عن إتمام صوم يومٍ لطوله أو علم بالأمارات أو التجربة أو إخبار طبيب أمين حاذق، أو غلب على ظنه أن الصوم يفضي إلى إهلاكه أو مرضه مرضًا شديدًا، أو يفضي إلى زيادة مرضه أو بطء برئه أفطر، ويقضي الأيام التي أفطرها في أي شهر تمكن فيه من القضاء، قال تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمن كَانَ مرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعدَّةٌ منْ أَيًامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] . وقال الله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إِلا وسَعها) . وقال: (وَمَا جَعَلَ عَلَيكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرجٍ) [الحج: 78] .
ثانيًا: من كان يُقيم في بلاد لا تغيب عنها الشمس صيفا، ولا تطلع فيها الشمس شتاء أو في بلاد يستمر نهارها إلى ستة أشهر، ويستمر ليلها ستة أشهر مثلاً، وجب عليهم أن يصلوا الصلوات الخمس في كل أربع وعشرين ساعة،(3/210)
وأن يقدّروا لها أوقاتها، ويحددوها معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم تتمايز فيها أوقات الصلوات المفروضة بعضها من بعض، لما ثبت في حديث الإسراء والمعراج من أن الله تعالى فرض على هذه الأمة خمسين صلاة كل يوم وليلة فلم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل ربه التخفيف حتى قال: "يا محمد، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشرة فذلك خمسون صلاة ... " إلى آخره، ولما ثبت من حديث طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خمسُ صلوات في اليوم والليلة"، فقال: هل عليَّ غيرهن؟ قال: "لا، إلا أن تطوع ... " الحديث.
ولما ثبت من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "نهينا أن نسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع فجاء رجل من أهل البادية، فقال: يا محمد، أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك فقال: "صدق" إلى أن قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا قال: "صدق"، قال: فبالذي أرسلك، الله أمرك بهذا؟ قال: "نعم ... " الحديث.
ولما ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدََّث أصحابه عن المسيح الدجال، فقالوا: ما لبثه في الأرض؟ قال: "أربعون يوماً: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم"، فقيل: يا رسول الله، اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟! قال: "لا، أقدروا له قدره" فلم يعتبر اليوم الذي كسنة يومًا واحدًا يكفي فيه خمس صلوات، بل أوجب فيه خمس صلوات في كل أربع وعشرين ساعة، وأمرهم أن يوزّعوها على أوقاتها اعتباراً بالأبعاد الزمنية التي بين أوقاتها في اليوم العادي في بلادهم، فيجب على المسلمين في البلاد المسئول عن تحديد أوقات الصلوات فيها أن يحددوا أوقات صلاتهم معتمدين في ذلك على(3/211)
أقرب بلاد إليهم يتمايز فيها الليل من النهار، وتعرف فيها أوقات الصلوات الخمس بعلاماتها الشرعية في كل أربع وعشرين ساعة.
وكذلك يجب عليهم صيام شهر رمضان، وعليهم أن يقدّروا لصيامهم فيحددوا بدء شهر رمضان ونهايته، وبدء الإمساك والإفطار في كل يوم منه ببدء الشهر ونهايته، وبطلوع فجر كل يوم وغروب شمسه في أقرب البلاد إليهم يتميز فيها الليل من النهار، ويكون مجموعها أربعًا وعشرين ساعة لما تقدم في حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المسيح الدجال، وإرشاده أصحابه عن كيفية تحديد أوقات الصلوات فيه؛ إذ لا فرق في ذلك بين الصوم والصلاة. والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
***(3/212)
من فتاوى اللجنة
س: إذا مات شخص وعليه كفارة الصوم والصلاة فهل يجوز أن يقوم به شخص آخر بتقديم كفارة من مال وحبوب وشعير وكذلك تفيدونا بالقرآن؟
ج: من مات وعليه صوم واجب قدر على صومه ولم يصمه ومات وهو في ذمته استحب أن يصومه عنه أحد أقاربه؛ لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه"، أما الصلاة فلا يشرع، كذلك التكفير عما في ذمته من صيام أو صلاة بمال أو حبوب أو شعير أو غير ذلك ولا أن يكفر عنه بقراءة القرآن لعدم ورود شيء من ذلك في الشريعة المطهرة.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
(الدعوة 806 - اللجنة)
إذا مر المسافر ببلد فهل يمسك؟
س: إذا كنت مسافرًا في رمضان، وكنت مفطرًا في سفري، وعند وصولي إلي البلد الذي سوف أمكث فيه عدة أيام أمسكت بالصيام في بقية ذلك اليوم وفي الأيام التالية فهل لي رخصة بالإفطار في نهار هذه الأيام، وأنا في بلد ليس بلدي الأصلي أم لا؟
ج: إذا مر المسافر ببلد غير بلده وهو مفطر فليس عليه أن يمسك إذا كانت إقامته فيها أربعة أيام فأقل أما إن كان قد عزم على الإقامة فيها أكثر من أربعة أيام فإنه يتم ذلك اليوم الذي قدم فيه ويقضيه، ويلزمه الصوم في بقيه الأيام؛ لأنه بنيته المذكورة صار في حكم المقيمين لا في حكم المسافرين كما تقدم في جواب السؤال الأولى.. والله ولي التوفيق.
(الدعوة 977 - ابن باز)(3/213)
المريض الذي لا يقوى على الصيام
س: مريض بالسل يشق عليه الصوم في رمضان، وقد أفطر رمضان الماضي فهل عليه إطعام؟ علمًا بأنه لا يرجى برؤه، ولم يعالج إلا مدة يسيرة كشهر ينزل من مسكنه بالبادية إلى البلد، ومن ثم يضيق في البلد ويخرج.
ج: إذا كان هذا المريض لا يقوى على صيام رمضان وكان لا يرجى برؤه سقط عنه الصيام ووجب عليه أن يطعم عن كل يوم أفطره مسكينًا يعطيه نصف صاع من بر أو تمر أو أرز ونحو ذلك مما اعتاد أهله أن يأكلوا من الطعام -مع القدرة على ذلك- كالشيخ الكبير والعجوز الكبيرة اللذين يشق عليهما الصوم.
البحوث 12 - اللجنة
أفطر بعذر هل عليه كفارة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفتاء المقدم لسماحة الرئيس العام من خالد زعل رميح الظفيري، والمحال من الإمامة برقم 445/2 في 24/3/1397هـ الذي جاء فيه: أنه أفطر يومين من شهر رمضان 1395هـ ووصل شهر رمضان عام 1396هـ وهو لم يقضهما وأفطر في رمضان عام 1396هـ ثلاثة أيام، وقضى الخمسة متوالية في محرم 1397هـ فهل يحتاج إلى دفع دية، وأن والده توفي، وأن والدته تصلي، وتصوم، وأخذت تصلي بعد صلاتها ركعتين كل وقت لأبيه، فقال لها بعض الناس: تصلي يوم الجمعة، فأخذت تصلي كل جمعة ركعتين بعد فرضها، ويطلب الإفادة عن ذلك.
وقد أجابت اللجنة بما يلي:
إذا كان إفطارك الذي ذكرته لعذر فلا شيء عليك إلا القضاء الذي قمت به لقول الله سبحانه: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) ، وإن(3/214)
كان الإفطار لغير عذر فعليك مع القضاء الذي قمت به التوبة؛ لأن الإفطار في رمضان لا يجوز إلا لعذر، ولا كفارة عليك عن الأيام الثلاثة التي أفطرتها من رمضان عام 1396هـ، أما اليومان اللذان أفطرتهما من رمضان عام 1395هـ فعليك مع القضاء إطعام مسكين عن كل يوم إن كنت أخرتها إلى رمضان عام 1396هـ من دون عذر شرعي ومقدار الإطعام لكل مسكين نصف صاع من قوت البلد هذا إن كان إفطارك بغير الجماع، أما إن كان بالجماع فعليك مع القضاء عن كل يوم أفطرته بالجماع كفارهّ، هي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم تجد فصيام شهرين متتابعين، فإن عجزت فإطعام ستين مسكينًا. أما ما تقوم به أمك من صلاة ركعتين لأبيك بعد كل صلاة جمعة فلا يجوز؛ لأن الله لم يشرع ذلك بل هو بدعة، وإنما شرع لها الدعاء له والصدقة عنه، والله الموفق، وصلى الله على عبده ورسوله وآله.
كفارة إفطار المريض
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة الرئيس العام من المستفتية: شريفة بنت سعد بن عواض، والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء، ومضمون: السؤال مرضت، واشتد بي المرض، وأخذني أخي وأدخلني في المستشفى بمكة، وعند دخولي المستشفى جاء شهر رمضان مرتين، وأنا في نفس المستشفى، وبعد ذلك نقلت إلى الرياض، ودخلت المستشفى مرة ثانية، وجاء شهر رمضان، وكنت أحسن من قبل، فصمت، ولم يبق إلا الشهران الأولان، والسؤال هو: هل يلزمني الصيام عن الشهرين مع العلم بأنني أصوم في كل شهر ثلاثة أيام، أم أنه يلزمني صدقة أم ماذا أفعل، وهل يلزمني أن أطلب الصدقة من ولدي الوحيد وهو ميسور الحال حيث إنه ليس مو-ظفًا ولا عنده منزل إلا بالإيجار، وأ-نا امرأة ضعيفة الحال لا أستطيع العمل والكسب والتصدق فما هو الحل؟(3/215)
وبعد دراسة اللجنة للسؤال أجابت بما يلي:
الواجب على السائلة قضاء صيام الشهرين المذكورين لعموم قوله تعالى: (ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر) وما ذكرته السائلة من صيام ثلاثة أيام من كل شهر فإن كانت نيتها فيه القضاء عما تركته من صيام الشهرين فهذه النية صحيحة، وعليها أن تأتي بما بقي من أيام الشهرين، وإن كانت نيتها فيه التطوع فإنه لا يسقط به الفرض، وعليها أن تصوم شهرين كاملين، وليس عليها إطعام مع الصيام؛ لأنها معذورة في التأخير بسبب المرض.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
قضاء الصوم بعد الشفاء من مرض طويل المدة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على السؤال المقدم من رئيس هيئة الأمر بالمعروف ببدر إلى سماحة الرئيس العام، والذي أحيل إليها من الأمانة العامة برقم 1938/2 وتاريخ 22/11/96هـ ومضمونه: هناك امرأة أصيبت بمرض نفساني: حرارة واضطراب أعصاب، وغير ذلك، وأنها على أثر ذلك تركت الصوم مدة أربع سنوات تقريبًا فهل في مثل هذه الحالة تقضي الصوم أولاً، وماذا يكون حكمها؟
وقد أجابت اللجنة بما يلي:
إذا كانت تركت الصوم لعدم قدرتها عليه وجب عليها قضاء ما أفطرته من رمضان في السنوات الأربع عند قدرتها على ذلك قال الله تعالي: (ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) وإن كان مرضها وعجزها عن الصوم لا يرجى زواله حسب تقرير الأطباء أطعمت عن كل يوم أفطرته مسكينًا نصف صاع من بر أو تمر أو أرز أو نحو ذلك مما يأكله أهلها في بيوتهم كالشيخ(3/216)
الكبير والعجوز الذين يجهدهما الصوم، ويشق عليهما مشقة شديدة، وليس عليها قضاء، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)
أفطرت رمضان لعذر منذ 24 عام
س: والدتي أنجبت طفلاً عام 1382 هـ في شهر رمضان المبارك، ومعروف لديهم أن المرضع في شهر رمضان لا يجوز أن تصوم خوفًا على حياة طفلها، ولم يكن معروفًا لديهم قضاء شهر رمضان بعد كبر الطفل، لأنهم ساكنون في البادية لا يعرفون من الإسلام إلا قليلاً واليوم بعد انتشار العلم عرفت أن المرضع إذا أفطرت رمضان لا بد أن تقضيه، ولكنها أفطرت ذلك الشهر في عام 1382 هـ لعذر حقيقي هو إرضاع طفلها، وكبر الطفل وصار اليوم عمره 24 سنة ولم تقض ذلك الشهر، وهذا والله العظيم بسبب الجهل لا تهاونًا وقصد التعمد، أرجو إفادتنا.
ج: يجب عليها المبادرة إلى قضاء ذلك الشهر في أقرب وقت فتصومه ولو متفرقًا بقدر الأيام التي صامها المسلمون ذلك العام، وعليها مع الصيام صدقة هي: إطعام مسكين عن كل يوم كفارة عن التخير فإن من أخر القضاء حتى أدركه رمضان آخر لزمه مع القضاء كفارة فيكفي عن الشهر كله كيس من الأرز خمسة وأربعون كيلو جرامًا وكان الواجب عليها البحث والسؤال عن أمر دينها، فإن هذه المسألة مشتهرة ومعروفة بين أفراد الناس وهي أن من أفطر لعذر لزمه القضاء فورًا، ولم يجز له التأخير لغير عذر فأما فطرها بسبب الرضاع فقد يكون لعذر إذا خافت على نفسها من الضرر باجتماع الصوم والرضاع فيكفيها القضاء فورًا، وقد تكون بسبب الطفل إذا خافت عليه الجوع والمرض فأفطرت فيكون عليها مع القضاء كفارة طعام مساكين بقدر الأيام التي أفطرت، ولو قضته في ذلك العام وعلى هذا فإن كان فطرها بسبب الطفل، وأخرت القضاء فعليها كفارتان كما ذكرنا، والله أعلم.
(اليمامة 892 - ابن جبرين)(3/217)
ليس عليها كفارة
س: تقيأت أختي وهي صائمة، وتعمدت الأكل فماذا يجب عليها؟
(الجزوليت عبد الله. سلا - المغرب)
ج: لا يجوز للصائم تعمد إخراج القيء من جوفه بإدخال بده في فمه أو جعلها تحت بطنه أو شم شيء مما له رائحة تحرك ما في الجوف من الطعام، ونحوه حتى يخرج فمتى فعل الصائم شيئًا من ذلك فخرج منه القيء لزمه قضاء ذلك اليوم إن كان فرضًا، وهذه المرأة أخطأت أولاً في كونها استدعت القيء عمدًا، وأخطأت ثانيًا في تعمدها الأكل بعد ذلك فإن من فسد صومه بفعل بعض المفطرات عمدًا لا يجوز له الأكل ونحوه بل يمسك بقية يومه، وإن كان ملزمًا بقضائه فلعلها أحست بمرض أو ضعف في البدن وبكل حال فليس عليها كفارة إن شاء الله، وإنما يلزمها قضاء ذلك اليوم فقط، والله أعلم.
(المسلمون 54 - ابن جبرين)
من عجز عن الصيام
ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي:
"لي عم شقيق والدي، وقد بلغ من الكبر عتيًّا، وأصبح لا يعرف الناس ولا الجهات الأربع الأصلية، ولا يعرف من أموره شيئًا، وكأنه طفل مولود في حركاته، وتصرفاته، وحيث إنه لا يقدر على الصيام ولا الصلاة فأرجو الإفادة هل يلزم دفع شيء مقابل صيامه الذي لا يستطيعه مثل إطعام مسكين أو صدقة.. إلخ، لأنني حريص جدًا على براءة ذمتي وعمل الخير له".
وأجابت بما يلي:
إذا كان الواقع كما ذكرت من أن عمك أصبح لا يعرف الناس، وأنه لا يعرف الجهات الأربع الأصلية ... إلخ، وأنك حريص على القيام بما يجب(3/218)
عليه فليس عليه صلاة ولا صيام ولا إطعام، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
البحوث 6
(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)
من عجز عن الصوم لكبر أو مرض
س: إذا كانت والدتي مريضة، وذلك قبل رمضان بأيام وأنهكها المرض، وهي كبيرة السن فصامت خمسة عشر يومًا من رمضان، ولكن لم تستطع صيام ما تبقى ولم تقدر على القضاء فهل يصح لها أن تتصدق؟ وكم يكفي في الصدقة يوميًا مع العلم بأنني أعولها فهل أدفع ما عليها في حالة ما لم يكن عندها ما تتصدق به؟
ج: من عجز عن الصوم لكبر أو مرض لا يُرجى برؤه أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينًا قال تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) ، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- نزلت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصيام فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا. رواه البخاري.
فأمك يجب أن تطعم عن كل يوم مسكينا، وهو مد بر، وإن كانت لا تجد ما تطعمه عن نفسها، وأردت الإطعام عنها فهذا من باب الإحسان، والله يحب المحسنين.
(البحوث 4 - اللجنة)
الاحتلام لا يفسد الصوم
س: هل يفسد صيام من احتلم ليلاً؟
(عماد عمر سرحان - السودان)
ج: الاحتلام أمر قهري ليس باختيار الإنسان، ولا حيلة له في رده، فإذا احتلم الصائم نهارًا لا يبطل صومه، ولو تكّرر؛ لكونه يقع منه في النوم،(3/219)
وقد رفع عنه القلم حتى يستيقظ، فأما الاحتلام ليلاً فلا أعلم قائلاً بإبطاله للصوم، بل الجماع ليلاً في رمضان مباح لقوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إِلى نسائكم) فأما الجماع في نهار رمضان فيبطل الصيام، ويوجب الكفارة. والله أعلم.
(ابن جبرين)
باشر أجنبية وهو صائم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الأسئلة المقدمة لسماحة الرئيس العام من: عبد رب الرسول مجذوب الحسن، المقيدة بإدارة البحوث رقم 746 في 21/4/1402هـ وأجابت عن كل سؤال عقبه بما يناسبه.
س: ما حكم من اختلى بأجنبية في نهار رمضان، وهو صائم، وطلب منها أن تكشف عورتها لإشباع الشهوة دون أن يجامعها أو يخرج منه مني، هل صيامه عن ذلك اليوم صحيح؟ وإن لم يكن صحيحًا هل يجب عليه القضاء والكفارة؟
ج؟ إذا كان الواقع ما ذكرت فقد أثم الشخص المذكور والمرأة المذكورة باختلائهما منفردين، وكشف عورتها له يتمتع بها، وعلى كل منهما أن يستغفر الله ويتوب إليه توبة صادقة، وليس على من لم ينزل منهما مني قضاء ذلك اليوم أما من أنزل منهما منيًا فعليه القضاء دون الكفارة؛ لأن الكفارة تجب بالجماع خاصة في نهار رمضان، وإن لم ينزل.
(اللجنة الدائمة - الدعوة)
س: ما حكم السواك في نهار رمضان؟
ج: يُستحبُّ السواك للصائم ولغيره على الصحيح، وكرهه بعض العلماء للصائم بعد الزوال، والصحيح أنه لا يكره له مطلقًا لعموم الأدلة على استحبابه ولحديث عامر بن ربيعة: "رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لا أحصي يتسوك وهو(3/220)
صائم". رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من خير خصال الصائم السواك". رواه ابن ماجه.
س: هل تذوق الطعام مفطر للصائم؟
ج: يجوز ذوق الطعام -للحاجة- لكن لا يبتلعه ويُكره لغير حاجة.
(الرياض 6187 - الفوزان)
استقاء وهو صائم
س: ما حكم من استقاء وهو صائم أو تقيأ بغير فعله؟
ج: إذا استقاء الإنسانُ وهو صائم أفطر؛ لأنه استدعى القيء باختياره لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. "من استقاء فليقض" رواه الترمذي وحسّنه، وقال: والعمل عليه عند أهل العلم، أما إذا غلبه القيء، وخرج بغير اختياره فصيامه صحيح لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا فليقض" رواه الخمسة إلا النسائي.
(الرياض 6187 - الفوزان)
يجتهد في رمضان ويتهاون في غيره
س: ما حكم من يُحيي رمضان بالصيام والصلاة وقراءة القرآن والتقرب من الله بالعبادات الأخرى.. وفي غير رمضان يتهاون في كل هذه الأمور وكأنه أخذ ذلك من حديث الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما"؟
ج: من كان يجتهد في رمضان في الأعمال الصالحة، وفي غير رمضان يتهاون في ذلك فهذا يخشى عليه من عدم القبول؛ لأن من شروط صحة التوبة العزم على أن لا يعود إلى المعاصي بعد التوبة منها -ولما سُئل بعض السلف عن مثل هؤلاء قال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان- ولا حجة لهم في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما"؛ لأن تمام الحديث "ما(3/221)
اجتنبت الكبائر" فالذنوب التي تكفر في رمضان ونحوه إنما هي الصغائر والتهاون بالصلاة المفروضة من أعظم الكبائر فهو لا يكفّر إلا بالتوبة الصحيحة.
س: من مات في شهر رمضان وكان صائمًا أوله هل يقضى عنه بقية الشهر أم يتصدق عن كل يوم بقي عليه؟
ج: من مات في أثناء شهر رمضان وقد صام أوله فليس عليه شيء عن بقيته، ولا يصام عنه؛ لأنه لم يدركه، وما لم يدركه فإنه لا يجب عليه، وإن كان قد أفطر شيئًا مما أدرك بسبب المرض ثم مات فلا شيء عليه أيضًا؛ لأنه لم يتمكن من وقت القضاء ولو تمكن منه فإن وقته موسع إلى رمضان الآخر، ومن مات في أثناء الوقت الموسع فلا شيء عليه.
(الرياض 6186 - الفوزان)
متى يجب الصيام؟
س: أنا شاب بلغ من العمر 23 سنة، وقد شجعني والدي على الصيام وأنا عمري 15 سنة تقريبًا والله أعلم، وكنت أصوم وأفطر أيامًا لأني لم أكن أعرف المعنى الحقيقي للصوم، ولكن بعد إن بلغت ووعيت أكثر بدأت أصوم كل شهر رمضان المبارك، ولم أفطر في أي يوم من أيامه والحمد لله. وسؤالي هو هل علي قضاء السنوات الماضية؟ علمًا بأني في السن الـ 18 بدأت أصوم كل شهر رمضان.
ج: متى أتم الإنسان 15 عامًا وجبت عليه التكاليف.، فإن هذه السن علامة البلوغ فهذا الذي تساهل بالصوم وقد حكم ببلوغه قد ترك واجبًا فعليه قضاء ما ترك أو أفطر فيه من أيام الرمضانات التي مرت، قبل توبته ولا يعذر بجهله بحكمة الصيام فعليه قضاء الأيام التي تركها أو لم يتم الصيام فيها مع الكفارة عن كل يوم طعام مسكين فإن كان جاهلاً بعددها فعليه الاحتياط حتى يتيقن أنه قضى ما وجب في ذمته، والله أعلم.
(اليمامة 887 - ابن جبرين)(3/222)
النبي عليه السلام كان يدركه الفجر وهو جُنُبُ من أهله.
س: هل يجوز صيام المرء وهو على جنابة بدون قصد لهذه الجنابة؟
ج: ثبت في الحديث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم وحيث إن الاغتسال من الجنابة شرط لصحة الصلاة فلا يجوز تأخيره لوجوب صلاة الصبح في وقتها، لكن لو غلبه النوم وهو جنب فلم يستيقظ إلا في الضحى فإنه يغتسل ويصلي صلاة الفجر ويستمر في صومه وكذا لو نام في النهار وهو صائم فاحتلم فإنه يغتسل لصلاة الظهر أو العصر ويتم صومه.
(اليمامة 887 - ابن جبرين)
تأخير قضاء رمضان
س: هل يجوز تأجيل صيام دين رمضان إلى فصل الشتاء؟
ج: يجب قضاء صيام رمضان على الفور بعد التمكّن وزوال العذر، ولا يجوز تأخيره بدون سبب مخافة العوائق من مرض أو سفر أو موت، ولكن لو أخره فصامه في الشتاء، وفي الأيام القصيرة أجزأه ذلك وأسقط عن القضاء.
(اليمامة 183 - ابن جبرين)
صوم الوصال
س: ما هو صوم الوصال، وهل هو سُنَّة؟
(أحمد محمود غريب - الفجيرة)
ج: صوم الوصال أن لا يفطر الإنسان في يومين فيواصل الصيام متتاليين، وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه وقال: "من أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر"، والمواصل للسحر من باب الجائز، وليست من باب المشروع، والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حث على تعجيل الفطر، وقال: "لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر"، لكنه أباح(3/223)
لهم أن يواصلوا إلى السحر فقط فلما قالوا: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنك تواصل.
فقال: "إني لست كهيئتكم".
(المسلمون - ابن عثيمين)
الصوم في السفر
س: هل يُشترط لترخص المسافر في سفره بالفطر في رمضان أن يكون سفره على الرجل أو على الدابة أو ليس هناك فرق بين الرجل وراكب الدابة وراكب السيارة أو الطائرة؟ وهل يشترط أن يكون في السفر تعب لا يستطيع تحمله؟ وهل الأحسن أن يصوم المسافر إذا استطاع أو الأحسن له الفطر؟
ج: يجوز للمسافر سفر قصر أن يفطر في سفره سواء كان ماشيًا أو راكبًا وسواء كان ركوبه بالسيارة أو الطائرة أو غيرهما، وسواء تعب في سفره تعبًا لا يتحمل معه الصوم أو لم يتعب، اعتراه جوع وعطش أو لم يصبه شيء من ذلك؛ لأن الشرع أطلق الرخصة للمسافر سفر قصر في الفطر، وقصر الصلاة ونحوهما من رخص السفر ولم يقيد ذلك بنوع من المركب، ولا بخشية التعب أو الجوع أو العطش، وقد كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسافرون معه في غزوة في شهر رمضان فمنهم من يصوم ومنهم من يفطر، ولم يعب بعضهم على بعض، لكن يتأكد على المسافر الفطر في شهر رمضان إذا شق عليه الصوم لشدة حر أو وعورة مسلك أو بعد شقة وتتابع سير مثلاً، فعن أنس: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر فصام بعض وأفطر بعض فتحزم المفطرون وعملوا وضعف الصائمون عن بعض العمل، فقال: "ذهب المفطرون اليوم بالأجر" وقد يجب الفطر في السفر لأمر طارئ يوجب ذلك، كما في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سافرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى مكة ونحن صيام قال: فنزلنا منزلاً، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم". فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفَطر، ثم نزلنا منزلاً آخر فقال: "إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا"، وكانت عزمة، فأفطرنا، ثم قال: لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك في السفر.(3/224)
رواه مسلم. وكما في حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فرأى رجلاً قد اجتمع الناس عليه، وقد ظلل عليه فقال: "ما له؟ " قالوا: رجل صائم. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس البر أن تصوموا في السفر" رواه مسلم.
(الجندي المسلم - اللجنة الدائمة)
القيء غير المتعمد لا يفسد الصوم
س: قارئ يسأل هل القيء يفسد الصوم؟
ج: إن ما قد يتعرض له الصائم من جراح أو رعاف أو قيء أو ذهاب الماء أو البنزين إلى حلقه بغير اختياره فكل هذه الأمور لا تفسد الصوم لكن من تعمد القيء فسد صومه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء".
(ابن باز)
قيام الليل
س: هل يكون قيام الليل في شهر رمضان المبارك فقط أم في جميع أيام السنة، ومن أي ساعة يبدأ وإلى أي ساعة ينتهي؟ وهل يكون القيام صلاة فقط أم صلاة وقراءة القرآن الكريم؟
ج: قيام الليل بالصلاة والتهجّد سنّة وفضيلة حافظ عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحابته كما قال تعالى: (إِن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك) وليس خاصًا بشهر رمضان ووقته ما بين العشاء والفجر لكن الصلاة آخر الليل أفضل، وإن صلى وسطه فله أجر، والأولى أن يكون عقب النوم أو في النصف الأخير من الليل، والله أعلم.
(عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين)
***(3/225)
صيام رمضان 30 يومًا باستمرار
س: قارئ من الخُبر بعث سؤالاً يقول فيه: ما الحكم في قوم يصومون رمضان ثلاثين يومًا باستمرار؟
ج: قد دلّت الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإجماع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين لهم بإحسان من العلماء على أن الشهر يكون ثلاثين ويكون تسعًا وعشرين، فمن صامه دائمًا ثلاثين من غير نظر في الأهلة فقد خالف السنة والإجماع وابتدع في الدين بدعة لم يأذن بها الله، قال الله سبحانه: (اتبعوا ما أنزل إِليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) الآية، وقال سبحانه: (قل إِن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم) الآية، وقال: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إِن الله شديد العقاب) ، وقال عز وجل: (تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا خالدًا فيها وله عذاب مهين) والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفي الصحيحين من حديث -ابن عمر رضي الله عنهما- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صوموا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له" متفق عليه، وفي رواية لمسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين" وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فصوموا ثلاثين" وفي لفظ آخر: "فأكملوا العدة ثلاثين"، وفي لفظ آخر: "فأكملوا شعبان ثلاثين يومًا" وعن حُذيفة -رضي الله عنه- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ولا تفطروا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة" رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح، وثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عدة أحاديث أنه قال: إن الشهر هكذا وهكذا وهكذا" وأشار بأصابعه العشر وخنس إبهامه في الثالثة ثم قال: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا" بأصابعه العشرة ولم يخنس منها شيئًا. يشير - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(3/226)
إلى أنه يكون في بعض الأحيان ثلاثين ويكون في بعضها تسعًا وعشرين، وقد تلقى أهل العلم والإيمان من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأتباعهم بإحسان هذه الأحاديث الصحيحة بالقبول والتسليم وعملوا بمقتضاها فكانوا يتراءون هلال شعبان ورمضان وشوال ويعملون بما تشهد به البينة من تمام الشهر أو نقصانه فالواجب على جميع المسلمين أن يسيروا على هذا النهج القويم وأن يتركوا ما خالف ذلك من آراء الناس وما أحدثوه من البدع، وبذلك ينتظمون في سلك من وعدهم الله بالجنة والرضوان في قوله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإِحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا ذلك الفوز العظيم) .
(الدعوة 1010 - ابن باز)
الأيام المنهي عن الصيام فيها
س: الأخ محمد إبراهيم النجدي من ميت طريف -دقهلية- بمصر يسأل عن الأيام التي يكره فيها الصيام.
ج: الأيام التي ينهى عن الصيام فيها يوم الجمعة حيث لا يجوز أن يصوم يوم الجمعة مفرداً يتطوع بذلك؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذلك، وهكذا لا يفرد يوم السبت تطوعًا ولكن إذا صام الجمعة ومعها السبت أو معها الخميس فلا بأس كما جاءت بذلك الأحاديث عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كذلك ينهى عن صوم يوم عيد الفطر وذلك محرم، وكذلك يوم عيد النحر وأيام التشريق كلها لا تصام؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك إلا أن أيام التشريق قد جاء ما يدل على جواز صومها عن هدي التمتع والقران خاصة لما ثبت في البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- وابن عمر -رضي الله عنهما- قالا: "لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي"، أما كونها تصام تطوعًا أو لأسباب أخرى فلا يجوز كيوم العيد وهكذا يوم الثلاثين من شعبان إذا لم تثبت رؤية الهلال فإنه يوم شك لا يجوز صومه في أصح قولي العلماء سواء كان(3/227)
صحوًا أو غيمًا للأحاديث الصحيحة الدالة على النهي عن ذلك، والله ولي التوفيق.
(المجلة العربية 97 - ابن باز)
حكم صوم يوم عاشوراء
س: الأخ عبد القدوس محمد من الرياض يسأل عن حكم صيام يوم عاشوراء، وهل الأفضل صيام اليوم الذي قبله أم اليوم الذي بعده أم يصومها جميعًا، أم يصوم يوم عاشوراء فقط؟ نرجو توضيح ذلك جزاكم الله خيرًا.
ج: صيام يوم عاشوراء سنة، لما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الدلالة على ذلك، وأنه كان يومًا تصومه اليهود؛ لأن الله نجى فيه موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه فصامه نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شكرًا لله، وأمر بصيامه، وشرع لنا أن نصوم يومًا قبله أو يومًا بعده، وصوم التاسع مع العاشر أفضل، وإن صام العاشر مع الحادي عشر كفى ذلك لمخالفة اليهود، وإن صامهما جميعًا مع العاشر فلا بأس لما جاء في بعض الروايات: "صوموا يومًا قبله ويومًا بعده" أما صومه وحده فيكره، والله ولي التوفيق.
(المجلة العربية 96 - ابن باز)
استنشاق الدواء هل يفطر؟
س: يوجد دواء مع المرضى بمرض الربو يأخذونه بطريق الاستنشاق، هل يفطر أو لا؟
ج: وقد أجابت اللجنة عن هذا السؤال بما يلي:
دواء الربو الذي يستعمله المريض استنشاقًا يصل إلى الرئتين عن طريق القصبة الهوائية، لا إلى المعدة فليس أكلاً ولا شربًا ولا شبيهًا بهما، وإنما هو شبيه بما يقطر في الأحليل، وما تداوى به المأمومة والجائفة وبالكحل والحقنة الشرجية ونحوها من كل ما يصل إلى الدماغ أو البدن من غير الفم أو الأنف، وهذه الأمور اختلف العلماء في تفطير الصائم باستعمالها فمنهم من لم يفطر الصائم باستعمال شيء منها، ومنهم من فطره باستعمال بعض دون بعض، مع(3/228)
اتفاقهم جميعًا على أنه لا يسمى استعمال شيء منها أكلاً ولا شربًا، لكن من فطر باستعمالها أو بشيء منها جعله في حكمها بجامع أن كلاً من ذلك يصل إلى الجوف باختيار، ولما ثبت من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا" فاستثنى الصائم من ذلك مخافة أن يصل الماء إلى حلقه أو معدته بالمبالغة في الاستنشاق فيفسد الصوم، فدل على أن كل ما وصل إلى الجوف اختيارًا يفطر الصائم.
ومن لم يحكم بفساد الصوم بذلك كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ومن وافقه، لم ير قياس هذه الأمور على الأكل والشرب صحيحًا فإنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر هو كل ما كان واصلاً إلى الدماغ أو البدن أو ما كان داخلاً من منفذ أو واصلاً إلى الجوف، وحيث لم يقم دليل شرعي على جعل وصف من هذه الأوصاف مناطا للحكم بفطر الصائم يصح تعليق الحكم به شرعًا، وجعل ذلك في معنى ما يصل إلى الحلق أو المعدة من الماء بسبب المبالغة في استنشاقه غير صحيح أيضًا لوجود الفارق فإن الماء يغذي فإذا وصل إلى الحلق أو المعدة أفسد الصوم سواء كان دخوله من الفم أو الأنف إذ كل منهما طريق فقط، ولذا لم يفسد الصوم بمجرد المضمضة أو الاستنشاق دون مبالغة ولم ينه عن ذلك، فكون الفم طريقًا وصف طردي لا تأثير له، فإذا وصل الماء ونحوه من الأنف كان له حكم وصوله من الفم، ثم هو والفم سواء والذي يظهر عدم الفطر باستعمال هذا الدواء استنشاقًا لما تقدم من أنه ليس في حكم الأكل والشرب بوجه من الوجوه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
(الجندي المسلم - اللجنة)
مراتب الفرض ومراتب الفضل
س: سمعت أن الصيام مراتب، فما صحة هذا القول وهل لكل منها ثواب خاص بها؟
(هند سليم إبراهيم - لندن)
ج: إذا قصد بالمراتب الفرض والنفل فهذا صحيح، والفرض أفضل من النفل أما مراتب الفضل والأجر عند الله باعتبار الصائمين، فهذا اختلف اختلافًا(3/229)
كبيرًا بحسب ما يفعله الإنسان أثناء الصوم من التزام بالأخلاق والآداب الإسلامية أو عدم التزامه بها، وبحسب ما يقوم في قلبه من الإخلاص.
(المسلمون- ابن عثيمين)
من يصوم ولا يصلي
س: لقد شاهدتا بعضًا من شباب المسلمين يصومون ولكن لا يصلون هنا هل يقبل صيام من صام ولم يصل؟ ولقد سمعت بعض الواعظين بالدين يقول لهؤلاء الشباب: أفطروا ولا تصوموا فمن لم يصل لا صوم له. أفتوني هل يصومون أو يفطرون سواء، وهل لنا الحق أن نقول لهم: أفطروا إذا لم تصلوا؟
ج: من وجبت عليه الصلاة فتركها عمدًا جاحدًا لوجوبها كفر بإجماع العلماء، ومن تركها تهاونًا وكسلاً كفر على القول الصحيح من أقوال أهل العلم ومتى حكم بكفره حبط صومه وغيره من العبادات لقوله سبحانه: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) ولكن لا يؤمر بترك الصيام؛ لأن صيامه لا يزيده إلا خيرًا وقربًا من الدين ولخوف قلبه يرجى من ورائه أن يعود إلى فعل الصلاة والتوبة من تركها، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
(الجندي المسلم - اللجنة)
صيام رمضان 28 يومًا
س: قاريء يسأل: هل يجوز صيام 28 يومًا فقط من شهر رمضان؟
ج: ثبت في الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الشهر لا ينقص عن تسعة وعشرين يومًا، ومتى ثبت دخول شهر شوال بالبينة الشرعية بعد صيام المسلمين ثمانية وعشرين يومًا فإنه يتعين أن يكونوا أفطروا اليوم الأول من رمضان فعليهم قضاؤه؛ لأنه لا يمكن أن يكون الشهر ثمانية وعشرين يومًا، وإنما الشهر تسعة وعشرون يومًا أو ثلاثون.
(ابن باز)(3/230)
عليه 10 أيام من رمضان منذ 8 أعوام
س: إذا كان عليَّ صيام عشرة أيام من رمضان منذ ثماني سنوات، والسبب كنت مريضًا فهل أصومها أو أكفر؟
ج: حيث ذكرت أنك أفطرت بسبب المرض، ومضى عليك ثماني سنوات، وأنت لم تصمها فإن فطرك مشروع، ويجب عليك القضاء، ولا يجزئك أن تتصدق إلا إذا تقرر عجزك عنها دائمًا فتكون بمنزلة الكبير الذي لا يستطيع الصيام، ومما يحسن تنبيهك عليه إن كان قد حصل لك الشفاء قبل رمضان آخر لم يجز لك تأخير القضاء من غير عذر ومن أخر القضاء من غير عذر حتى أدركه رمضان آخر حرم عليه، وحينئذ فعليك مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم ما يجزئ في كفارة، رواه سعيد بإسناد حسن عن ابن عباس، والدارقطني بإسناد صحيح عن أبي هريرة، ومقدار الإطعام هو مد من البر عن كل يوم يعطى للمساكين، وإن كان التأخير لعذر فليس فيه إلا القضاء.
(الجندي المسلم- اللجنة)
تأخير غسل الجنابة إلى طلوع الفجر
س: قارئ يسأل: هل يجوز غسل الجنابة إلى طلوع الفجر، وهل يجوز للنساء تأخير غسل الحيض أو النفاس إلى طلوع الفجر؟
ج: إذا رأت المرأة الطهر قبل الفجر فإنه يلزمها الصوم، ولا مانع من تأخيرها الغسل إلى بعد طلوع الفجر، ولكن ليس لها تأخيره إلى طلوع الشمس بل يجب عليها أن تغتسل وتصلي قبل طلوع الشمس. أما الجنب فليس له تأخير الغسل إلى ما بعد طلوع الشمس بل يجب عليه أن يغتسل، ويصلي الفجر قبل طلوع الشمس ويجب على الرجل المبادرة بذلك حتى يدرك صلاة الفجر مع الجماعة.
(ابن باز)(3/231)
من يصوم ويصلي في رمضان فقط
س: إذا كان الإنسان حريصًا على صيام رمضان والصلاة في رمضان فقط، ولكنه يتخلى عن الصلاة بمجرد انتهاء رمضان فهل له صيام؟
ج: الصلاة ركن من أركان الإسلام وهي آكد الأركان بعد الشهادتين وهي من فروض الأعيان ومن تركها جاحدًا لوجوبها أو تركها تهاونا وكسلاً فقد كفر، أما الذين يصومون رمضان ويصلون في رمضان فقط فهذا مخادعة لله فبئس الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان، فلا يصح لهم صيام مع تركهم الصلاة في غير رمضان.
(الجندي المسلم - اللجنة)
هل نصوم 31 يومًا
س: إذا كنا قد بدأنا الصوم في المملكة العربية السعودية ثم سافرنا إلى بلادنا في شرق آسيا في شهر رمضان حيث يتأخر الشهر الهجري هناك يومًا فهل نصوم واحدًا وثلاثين يومًا؟
ج: إذا صمتم في السعودية أو غيرها ثم صمتم بقية الشهر في بلادكم أو غيرها فأفطروا إفطارهم ولو زاد ذلك على ثلاثين يومًا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصوم يوم تصومون، والإفطار يوم تفطرون"، لكن إن لم تكملوا تسعة وعشرين يومًا فعليكم إكمال ذلك؛ لأن الشهر لا ينقص عن تسعة وعشرين يومًا.
(الدعوة 899 - ابن باز)
قطرة العين هل تفطر
س: استعمال قطرة العين في نهار رمضان هل تفطر أم لا؟
ج: الصحيح أن القطرة وإن كان فيها خلاف بين أهل العلم حيث قال(3/232)
بعضهم أنه إذا وصل طعمها إلى الحلق فإنها تفطر. والصحيح أنها لا تفطر لأن العين ليست منفذًا، لكن لو قضى احتياطا وخروجًا من الخلاف فلا بأس، وإلا فالصحيح أنها لا تفطر سواء كانت في العين أو في الأذن.
(ابن باز)
من أكل وقت الأذان
س: القارئ ع. الفارس يسأل عن الحكم الشرعي للصيام فيمن سمع أذان الفجر واستمر في الأكل والشرب؟
ج: الواجب على المؤمن أن يمسك عن المفطرات من الأكل والشرب وغيرهما إذا تبين له طلوع الفجر، وكان الصوم فريضة كرمضان، وكصوم النذر والكفارات لقول الله عز وجل: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إِلى الليل) الآية من سورة البقرة.
فإذا سمع الأذان وعلم أنه يؤذن على الفجر وجب عليه الإمساك فإن كان المؤذن يؤذن قبل طلوع الفجر أو بعد الفجر فإن الأولى والأحوط له أن يمسك إذا سمع الأذان ولا يضره لو شرب أو أكل شيئًا حين الأذان؛ لأنه لم يعلم بطلوع الفجر.
ومعلوم أن من كان داخل المدن التي فيها الأنوار الكهربائية ولا يستطيع أن يعلم طلوع الفجر بعينه وقت طلوع الفجر ولكن عليه أن يحتاط بالعمل بالأذان والتقويمات التي تحدد طلوع الفجر بالساعة والدقيقة عملاً بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه". والله ولي التوفيق.
(الدعوة 1014 - ابن باز)
***(3/233)
توضيح من سماحة الشيخ الفاضل عبد العزيز بن باز علم الحساب لا يعتمد عليه في إثبات الصوم والفطر والأحكام الشرعية بإجماع سلف الأمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
فقد رأست الدورة السادسة لندوة توحيد التقويم الهجري المنعقدة في مكة المكرمة من يوم الثلاثاء 10/1/1046هـ وفق الحساب الذي يستعمله الفلكيون، ولم أوقع على البيان والجداول خشية أن يظن من يطلع عليها أنني موافق على إثبات الصوم والفطر والأحكام الشرعية بالحساب.
وقد أفهمت اللجنة ذلك وأوضحت لها أن إثبات الأهلة والأحكام الشرعية إنما يكون بالرؤية أو إكمال العدد كما نص على ذلك نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أحاديث صحيحة منها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" متفق عليه.
ومنها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة" رواه النسائي وأبو داود بإسناد صحيح.
ومنها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنا أمّة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة، الشهر هكذا وهكذا وهكذا" -يعني تمام ثلاثين- متفق عليه وهذا لفظ مسلم. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
أما توحيد التقويم بالحساب فلا مانع أن يعتمد عليه في المسائل الإدارية ونحوها.
وللإيضاح والنصيحة وبراءة الذمة رأيت نشر هذا البيان، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، إنه جواد كرم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
(الإصلاح 95)(3/234)
أفطر عمدًا من أجل الامتحانات
س: أنا فتاة أجبرتني الظروف على إفطار ستة أيام من شهر رمضان عمدًا والسبب ظروف الامتحانات؛ لأنها بدأت في شهر رمضان.. والمواد صعبة، ولولا إفطاري هذه الأيام لم أتمكن من دراسة المواد نظرًا لصعوبتها وأرجو إفادتي ماذا أفعل كي يغفر الله لي جزاكم الله خيرًا؟
ج: عليك التوبة من ذلك وقضاء الأيام التي أفطرتها والله يتوب على من تاب، وحقيقة التوبة التي يمحو الله بها الخطايا الإقلاع من الذنب وتركه تعظيمًا لله سبحانه وخوفًا من عقابه والندم على ما مضى منه والعزم الصادق أن لا يعود إليه، وإن كانت المعصية ظلمًا للعباد فتمام التوبة تحللهم من حقوقهم.. قال الله تعالى: (وتوبوا إِلى الله جميعًا أيها المؤمنونِ لعلكم تفلحون) ، وقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إِلى الله توبة نصوحًا) الآية.
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "التوبة تجب ما قبلها"، وقال عليه الصلاة والسلام: "من كان عنده لأخيه مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ من حسناته بقدر مظلمته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه". رواه البخاري في صحيحه، والله ولي التوفيق.
(الدعوة 968 - ابن باز)
فاقد العقل لا يجب عليه الصوم
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على السؤال المقدم من سليم بن سميحان الحربي إلى سماحة الرئيس العام والمحال إليها برقم 1930/ في 7/11/1401هـ ونصه: إن ابنتي تبلغ من العمر ثلاثين عامًا ولديها أطفال مصابة باختلال عقلي منذ أربعة عشر عامًا، وكان في السابق يصيبها هذا المرض مدة وينقطع عنها مدة أخرى، وقد أصابها هذه المرة على خلاف العادة حيث لها الآن ثلاثة أشهر تقريبًا مصابة به وبذلك فهي لا تحسن صلاتها ولا وضوءها إلا(3/235)
بواسطة إنسان يرشدها كيف وكم صلت. والآن بعد دخول شهر رمضان المبارك صامت يومًا واحدًا فقط ولم تحسن صيامه أما الأيام الباقية فإنها لم تصمها أرشدوني -أثابكم الله- في هذا الموضوع بما يجب عليه، ويجب عليها علمًا بأنني ولي أمرها.
وأجابت بما يلي:
إذا كان الواقع من حالها كما ذكرت لم يجب عليها صوم ولا صلاة أداء ولا قضاء ما دامت كذلك، وليس عليك سوى رعايتها، لأنك وليها، وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.." الحديث، وإذا قدر أنها أفاقت في بعض الأحيان وجبت عليها الصلاة الحاضرة وقت الإفاقة وكذلك إذا قدر أنها أفاقت يومًا أو أيامًا من شهر رمضان فيما بعد صامت ما أفاقت فيه فقط، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - الدعوة 925)
راعي الغنم لا يجوز له الإفطار
س: رجل صام رمضان وأفطر من منتصف الشهر 15 يومًا، وعذره أنه يرعى غنمًا بأجرة، وقد سأل رجلاً يدعي أنه طالب علم وأفتاه قائلاً: تصدق عن كل يوم بربع دينار، وقد استدل المفتي بالآية الكريمة: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) ، وأنا حاضر والسؤال عن الجواب..
ج: أولاً: لا يجوز لمن يرعى غنمًا أن يفطر إلا في حالة الاضطرار فيتناول إذا اضطر ما يدفع الاضطرار ثم يمسك بقية يومه ثم يقضي الأيام التي أفطرها.
ثانيًا: ما أجاب به المسئول من أنه يتصدق عن كل يوم بربع دينار ليس بصحيح بل الواجب عليه القضاء لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أيامًا معدودات فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرًا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إِن كنتم تعلمون شهر رمضان الذي أنزل فيه(3/236)
القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه) قال ابن جرير -رحمه الله تعالى- بعد ذكره لطائفة من الأقوال في تفسير قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) قال: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) منسوخ بقول الله تعالى ذكره: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) لأن الهاء التي في قوله: (وعلى الذين يطيقونه) من ذكر الصيام ومعناه وعلى الذين يطيقونه الصيام فدية طعام مسكين فإذا كان ذلك كذلك، وكان الجميع من أهل الإسلام مجمعين على أن من كان مطيقًا من الرجال الأصحاء المقيمين غير المسافرين صوم شهر رمضان وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
(الدعوة 805 - ابن باز)
من ترك صيام رمضان من غير عذر
س: ما حكم المسلم الذي مضى عليه أشهر من رمضان يعني سنوات عديدة بدون صيام مع إقامة بقية الفرائض، وهو بدون عائق عن الصوم أيلزمه القضاء إن تاب؟
ج: صيام رمضان ركن من أركان الإسلام، وترك المكلف عمدًا للصيام من أعظم الكبائر، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى كفره وردته بذلك، وعليه التوبة النصوح والإكثار من الأعمال الصالحة من النوافل وعليه أن يحافظ على شرائع الدين من صلاة وصيام وحج وزكاة وغير ذلك، وليس عليه قضاء في أصح قولي العلماء؛ لأن جريمته أكبر من أن يجبرها القضاء.
(الدعوة 805 - ابن باز)
استعمال حبوب منع الحيض في رمضان
س: هل يجوز للمرأة استعمال دواء لمنع الحيض في رمضان أو لا؟
ج: يجوز أن تستعمل المرأة أدوية في رمضان لمنع الحيض إذا قرر أهل(3/237)
الخبرة من الأطباء ومن في حكمهم أن ذلك لا يضرها، ولا يؤثر على جهاز حملها، وخير لها أن تكف عن ذلك، وقد جعل الله لها رخصة في الفطر إذا جاءها الحيض في رمضان، وشرع لها قضاء الأيام التي أفطرتها، ورضي لها بذلك دينًا.
(الدعوة 757 - ابن باز)
الكلام مع المرأة ومس يدها في نهار رمضان
س: ما حكم الكلام مع امرأة أو مس يدها في نهار رمضان للصائم نظرًا إلى أن جميع المتاجر والمحلات تعمل بيد النساء؟
ج: إذا كان كلام الرجل مع المرأة من غير ريبة ولا قصد إلى التمتع بالحديث معها بأن كان للمفاوضة التجارية والسؤال عن الطريق ونحو ذلك، أو مس يدها دون قصد فذلك جائز في رمضان وفي غير رمضان. وأما إن كان كلامه معها لقصد التلذذ بالحديث معها فلا يجوز لا في رمضان، ولا في غيره، وهو في رمضان أشد منعًا.
(الدعوة 806 - اللجنة)
القطرة لا تفسد الصوم
س: تلقت اللجنة استفتاء هذا نصه: في كتاب الضياء اللامع ورد في خطبة خاصة بشهر رمضان وما يتعلق بالصيام عبارة نصها "ولا يفطر أيضًا إذا غلبه القيء، وإذا داوى عينيه أو أذنه أو قطر فيهما" فما رأيكم في ذلك؟
ج: ما قاله من أن من قطر في عينيه أو أذنيه للتداوي لا يفسد صومه بذلك هو الصحيح؛ لأن ذلك لا يسمى أكلاً ولا شربًا لا - في العرف العام ولا في لسان الشرع، ولأنه يدخل من مدخل غير معتاد للطعام والشراب، ولو أخر التقطير في عينيه وأذنيه إلى الليل كان أحوط للخروج من الخلاف وكذلك من غلبه القيء لا يفسد صومه بخروجه؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، والشريعة مبنية على رفع الحرج، لقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من(3/238)
حرج هو وغير ذلك من الأدلة ولقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء..".
(الدعوة 805 - اللجنة)
لا يجوز للحائض أن تصوم
س. هل للمرأة إذا حاضت أن تفطر في رمضان، وتصوم أيامًا مكان الأيام التي أفطرتها؟
ج: لا يصح صوم الحائض، ولا يجوز لها فعله فإذا حاضت أفطرت وصامت أيامًا مكان الأيام التي أفطرتها بعد طهرها.
(الدعوة 807 - اللجنة)
لي ولد توفي وعليه يوم من رمضان فما الحكم؟
س: فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على السؤال الذي قدمه جميل أبو سليمان إلى سماحة الرئيس العام المحال إليها برقم 1092 في 5/6/1402هـ ونصه: إن ابني البالغ من العمر 18 عامًا قد توفي قبل خمسة أيام وكان عليه يوم واحد لم يصمه في رمضان، وهو أول يوم وكان ذلك من جراء حادث وقع له في سيارة كسر على أثرها فخذه الأيمن ويده اليسرى، وقد نقل من المستشفى إلى الدار، وكانت الدار لدينا غير مزودة بمكيف هواء، وكما يعلم بأن الجبس حار؛ لأن نصف جسمه مكسو به على شكل بنطلون، وقد صام الأيام التي تلي هذا اليوم كاملة بعد أن زودت الدار بالمكيف، فما هو الحكم في ذلك جزاكم الله خيرًا علمًا بأنه لم يقض هذا اليوم، وقد نصح له الطبيب بعدم الصوم كلية من أجل أن يلتئم العظم، ويحتاج إلى تغذية عالية. والسلام عليكم.
وأجابت بما يلي: إذا كان الواقع كما ذكر من أن ابنك أصيب في حادث سيارة، وأنه أفطر لذلك يومًا من رمضان لعجزه عن صيامه، وأنه مات قبل أن يتمكن من قضاءه فلا شيء عليه ولا على أوليائه لا قضاء ولا فدية لقوله تعالى:(3/239)
لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
(الدعوة 845 - اللجنة)
أفطر رمضان لمرض ومات قبل أن يقضيه
س: رجل مات يوم عيد الفطر، وأول يوم من رمضان أو الثاني أصابه المرض ومر عليه رمضان كله وهو مفطر، فهل على ورثته الصيام عنه بعد وفاته أو عليهم إطعام أو ليس على الميت ولا على الورثة شيء من ذلك.
ج: إذا كان هذا المريض أفطر لعدم قدرته على الصيام لم يتمكن من القضاء لأنه مات يوم عيد الفطر "فالصوم لم يجب عليه أداؤه لعدم القدرة لمرضه ولا قضاء لعدم التمكن لموته يوم عيد الفطر وليس على ورثته الصوم ولا الإطعام عنه.
(الدعوة 805 - اللجنة)
مرض والدي فمات وعليه أيام أوصاني بصيامها
س: مات والدي بعد مرض ألمَّ به منعه من الصيام نصف شهر رمضان، وقد أوصاني بصيام تلك الأيام فهل يلزمني ذلك أو إخراج كفارة؟
ج: إذا كان الأمر كما ذكرت فلا يلزمك أن تصوم عنه ولا يلزم إخراج كفارة عن الأيام التي لم يتمكن من صيامها لعموم قوله تعالى: (لا يكلف الله نفسًا إِلا وسعها) وحيث إن والدك لم يتمكن من الصيام ولا من القضاء فلا يجب عليه شيء.
(الدعوة 807 - اللجنة)
جامع امرأته في نهار رمضان
س: ما حكم من وقع في حرام في شهر رمضان إذا كان في صيام، وإذا كان ليلاً، وما هي الكفارة؟
ج: من جامع امرأته أو أمته في شهر رمضان، فإن كان ليلاً فيما بين غروب(3/240)
الشمس وطلوع الفجر فلا بأس، وإن كان جماعه نهارًا فيما بين طلوع الفجر وغروب الشمس وهو صائم مكلف به فهو آثم عاص لله ورسوله، وعليه القضاء والكفارة، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا لكل مسكين مد من بر، ونحوه مما اعتاد أهل جهته أن يطعموه في بلادهم.
(الدعوة 806 - اللجنة)
المجاهدون هل يفطرون.
س: هل الذين يحاربون العدو يحل لهم الإفطار في رمضان ويقضون بعده؟
ج: إذا كان الذين يحاربون الكفار مسافرين سفرًا تقصر فيه الصلاة، جاز لهم أن يفطروا وعليهم القضاء بعد رمضان. وإن كانوا غير مسافرين بأن هجم عليهم الكفار في بلادهم فمن استطاع منهم الصوم مع الجهاد وجب عليه الصوم، ومن لم يستطع الجمع بين الصيام والقيام بما وجب عليه عينًا من الجهاد، جاز له أن يفطر وعليه القضاء، صوم الأيام التي أفطرها بعد انتهاء رمضان.
(الدعوة 806 - اللجنة)
عمرها 13 سنة ولم تصم
س: فتاة بلغ عمرها اثني عشر أو ثلاثة عشر عامًا، ومر عليها شهر رمضان المبارك، ولم تصمه فهل عليها شيء أو على أهلها، وهل تصوم وإذا ما صامت فهل عليها شيء؟
ج: المرأة تكون مكلفة بشرط الإسلام والعقل والبلوغ ويحصل البلوغ بالحيض أو الاحتلام أو نبات شعر خشن حول القبل، أو بلوغ خمسة عشر عامًا فهذه الفتاة إذا كانت قد توافرت فيها شروط التكليف فالصيام واجب عليها،(3/241)
ويجب عليها قضاء ما تركته من الصيام في وقت تكليفها، وإذا اختلف شرط من الشروط فليست مكلفة ولا شيء عليها.
(الدعوة 847 - اللجنة)
العامل هل يجوز له الإفطار
س: سمعت خطيبًا من أئمة المساجد في ثاني جمعة في رمضان المبارك إجازة الإفطار للعامل الذي أجهده العمل، وليس له مورد غير عمله هذا وأن يطعم مسكينًا لكل يوم من أيام رمضان وحده نقدًا خمسة عشر درهمًا هذا مما دعاني لكتابة هذه الرسالة، وهل لهذا دليل صحيح من الكتاب والسنة؟
ج: لا يجوز للمكلف أن يفطر في نهار رمضان لمجرد كونه عاملاً لكن إن لحق به مشقة عظيمة اضطرته إلى الإفطار أثناء النهار فإنه يفطر بما يدفع المشقة ثم يمسك إلى الغروب، ويفطر مع الناس ثم يقضي ذلك اليوم الذي أفطره والفتوى التي ذكرتها ليست بصحيحة وقد صدرت فتوى من اللجنة الدائمة في هذا الموضوع.
(الدعوة 822 - اللجنة)
من أكل أثناء الأذان أو بعده بقليل
س: قال تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) ما حكم من أكمل سحوره وشرب ماء وقت الأذان أو بعد الأذان للفجر بربع ساعة؟
ج: إن كان المذكور في السؤال يعلم أن ذلك قبل تبين الصبح فلا قضاء عليه، وإن علم أنه بعد تبين الصبح فعليه القضاء أما إن كان لا يعلم هل كان أكله وشربه بعد تبين الصبح أو قبله فلا قضاء عليه؛ لأن الأصل بقاء الليل، ولكن ينبغي للمؤمن أن يحتاط لصيامه وأن يمسك عن المفطرات إذا سمع الأذان إلا إذا علم أن هذا الأذان كان قبل الصبح.
(الدعوة 753 - اللجنة)(3/242)
قراءة القرآن أم صلاة التطوع
س: أيهما أفضل في نهار شهر رمضان المبارك قراءة القرآن أم صلاة التطوع؟
ج: كان من هديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات، وكان
جبريل يدارسه القرآن ليلاً، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان لما يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والذكر والاعتكاف. هذا هدي الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الباب في هذا الشهر. أما المفاضلة بين قراءة القارئ وصلاة المصلي تطوعًا فتختلف باختلاف أحوال الناس وتقدير ذلك راجع إلى الله جل وعلا؛ لأنه بكل شيء محيط.
(الدعوة 755 - اللجنة)
بلع الريق لا يفطر
س: أ- في أثناء الصوم إذا بلغ التفلان والبلع ليس بقصد ري الظمأ هل يتم له الصوم أم لا؟
ب: وإن أحد الأشخاص كان نائمًا، وقام من النوم بعد أذان الفجر فورًا وتسحر بعد القيام من النوم فورًا هل يجوز الصوم أم لا والصوم كان في شهر رمضان المبارك؟
جـ: هل يجوز شرب الماء في أثناء أذان الفجر أم لا؟
ج: أ- إذا بلعه قبل أن يخرج من فمه فلا يفسد صومه بذلك.
ب: إذا قام من نومه فأكل بعد أذان الفجر لم يجزئه صوم ذلك اليوم.
وعليه قضاؤه إن كان من أيام رمضان وعليه أن يتحرى طلوع الفجر في المستقبل حتى لا يقع في مثل هذا مرة أخرى.
جـ: لا يجوز أكل ولا شرب في الصيام بعد الشروع في أذان الفجر(3/243)
الصادق إذا ثبت له الأذان بعد الفجر. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(الدعوة 849 - اللجنة)
حكم صيام من يشرب الخمر في ليالي رمضان
س: ابتلي شخص بشرب الخمر حتى أنه ليشربها في ليالي رمضان، فما حكم صيامه نهارًا ما دام يشرب الخمر في الليل؟
ج: شرب الخمر من اكبر الكبائر، لقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إِنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاءُ في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) فشربها محرم في رمضان وفي غير رمضان، وإن كان شربها في رمضان أشد تحريمًا فعلى شاربها أن يتوب إلى الله بأن يجتنب شربها، ويأسف على ما فرط من جريمة شربها، ويندم على ذلك، ويعزم على ألا يعود إليها في رمضان ولا في غيره.
أما صيام من شربها ليلاً فهو صحيح مجزئ ما دام قد أمسك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية الصوم لله.
(الدعوة 786 - اللجنة)
الحامل إذا أفطرت تقضي فقط
وسألت الأخت س/م/ع: كنت حاملة في شهر رمضان فأفطرت وصمت بدلاً منه شهرًا كاملاً، وتصدقت ثم حملت ثانية في شهر رمضان فأفطرت، وصمت بدلاً منه شهرًا يومًا بعد يوم لمدة شهرين، ولم أتصدق فهل في هذا شيء يوجب عليَّ الصدقة ... ؟
ج: إن خافت الحامل على نفسها أو جنينها من الصوم أفطرت وعليها(3/244)
القضاء فقط شأنها في ذلك شأن المريض الذي لا يقوى على الصوم أو يخشى منه على نفسه، قال الله تعالى: (ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر) وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(الدعوة 805 - اللجنة)
المريض الذي يشق عليه الصيام
س: أنا سيدة مريضة وقد أفطرت بعض الأيام في رمضان الماضي ولم أستطع قضاءها لمرضي فما هي كفارة ذلك؟
كذلك فإنني لن أستطيع صيام رمضان هذا العام فما هي كفارة ذلك أيضًا؟
وجزاكم الله خيرًا..
ج: المريض الذي يشق عليه الصيام يشرع له الإفطار، ومتى شفاه الله قضى ما عليه لقول الله سبحانه: (ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر) وليس عليك أيتها السائلة حرج في الإفطار في هذا الشهر ما دام المرض باقيًا لأن الإفطار رخصة من الله للمريض والمسافر والله سبحانه يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته، وليس عليك كفارة، ولكن متى عافاك الله فعليك القضاء شفاك الله من كل سوء وكفر عنا وعنكم السيئات.
(الدعوة 901 - ابن باز)
أخّر القضاء حتى دخل رمضان التالي
س: ما حكم من أفطر يومًا من رمضان "عفوًا" ولم يقضه حتى دخل عليه رمضان الذي يليه؟
ج: إن كان أخَّر قضاء اليوم الذي أفطره لعذر من مرض ونحوه فليس عليه إلا القضاء عند القدرة، وإن كان أخر القضاء لغير عذر فقد أساء وعليه القضاء وإطعام مسكين..(3/245)
س: ما حكم من عليه صوم يوم من رمضان عام 92م ولم يقض حتى أدركه رمضان عام 93 ولم يقض؟
ج: إذا أهمل الإنسان قضاء يوم أو أكثر من رمضان حتى أدركه رمضان السنة التي بعدها قضي ما فاته من اليوم أو الأيام وأطعم عن كل يوم مسكينًا مدًّا من بر أو نحوه مما اعتادوا أكله في بلادهم إن كان أخر القضاء بلا عذر أما إن كان أخر القضاء لعذر من مرض أو ضعف لا يقوى معه على قضاء ما فاته فليس عليه إطعام.
(الدعوة 805 - اللجنة)
حاولت الصوم فلم أستطع لمرضي
س: أنا امرأة أصبت بمرض ولم أستطع صيام شهر رمضان، وعندما أحسست أنني شفيت أردت أن أصوم هذا الشهر الذي عليّ ولكن لم أستطع صيامه له، وصمت منه 12 يومًا فقط، لقد حاولت في الباقي ولكن لم أستطع لما أحس من ألم. ماذا أفعل في الباقي؟ جزاكم خيرًا.
(المرسلة: س. س. ش. الزلفى)
ج: عليك محاولة الصيام مهما استطعت مع الصبر على المشقة فإنه أعظم للأجر، فأما إن عجزت وشق عليك الصيام أو كان يزيد في المرض ولا يرجى برؤه فإنه يجزئ عنك الفدية، وهي إطعام مسكين عن كل يوم. فإن زال المرض وحصلت القدرة بعد ذلك فالاحتياط القضاء لما فات، والله الشافي.
(اليمامة 895 - ابن جبرين)
السفر للدراسة لا يبيح الفطر
س: سافرت للعلاج إلى جمهورية مصر العربية بإحدى المستشفيات النفسية قبل شهر رمضان بأيام، وعندما حل شهر رمضان لم أتمكن من الصيام، ولم يساعدني الأطباء على صيامه، هل أترك الصيام للعام الماضي، وأقضيه فيما(3/246)
بعد عودتي؛ لأنني سأسافر إلى بريطانيا للدراسة هذه الأيام، وما هي كفارة القضاء؟
ج: عليك بالمبادرة بقضاء رمضان الذي أفطرته وتعاطي العلاج فإن أخرته إلى رمضان آخر لغير مرض ونحوه فعليك مع القضاء كفارة، وهي إطعام مسكين بعدد الأيام التي عليك، ولا يبيح السفر للدراسة الإفطار فإن الطلاب يتمكنون من الدراسة والصيام بسهولة ويسر.
(اليمامة 896 - ابن جبرين)
تحري هلال محرم أمر ليس باللازم
س: يصوم كثير من المسلمين يوم عاشوراء، ويهتمون بصيامه نظرًا لما يسمعونه من الدعاة في الحث عليه والترغيب فيه. فلماذا لا يوجه الناس لتحري هلال محرم حتى يعرف السلمون ذلك بعد إذاعته أو نشره في وسائل الإعلام؟
ج: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه، صيام يوم عاشوراء سنة يستحب صيامه، صامه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصامه الصحابة، وصامه موسى قبل ذلك شكرًا لله عز وجل؛ ولأنه يوم نجى فيه موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه فصامه موسى وبنو إسرائيل شكرًا لله عز وجل ثم صامه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شكرًا لله عز وجل وتأسيًا بنبي الله موسى، وكان أهل الجاهلية يصومونه أيضًا، وأكده النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الأمة، فلما فرض الله رمضان قال: "من شاء صام ومن شاء ترك"، وأخبر عليه الصلاة السلام أن صيامه يكفر الله به السنة التي قبله، والأفضل أن يصام قبله يوم أو بعده يوم خلافًا لليهود لقوله عليه الصلاة والسلام: "صوموا قبله يوم أو بعده يوم" -وفي لفظ- "صوموا يوماً قبله ويومًا بعده" فإذا صام يومًا قبله أو بعده يومًا أو صام اليوم الذي قبله واليوم الذي بعده أي صام ثلاثة أيام كله طيب، وفيه مخالفة لأعداء الله اليهود.
أما تحري ليلة عاشوراء فهذا أمر ليس باللازم لأنه نافلة ليس بالفريضة.(3/247)
فلا يلزم الدعوة إلى تحري الهلال لأن المؤمن لو أخطأ فصام بعده يومًا وقبله يومًا لا يضره ذلك وهو على أجر عظيم، ولهذا لا يجب الاعتناء. بدخول الشهر من أجل ذلك لأنه نافلة فقط.
(الأمن 24 - ابن باز)
فتوى حول صيام يوم عاشوراء
س: من صام التاسع والعاشر فتبين له بعد ذلك أنه صام الثامن والتاسع فما الحكم؟ وهل عليه قضاء ذلك؟
ج: ليس عليه القضاء، وله الأجر إن شاء الله كاملاً على حسب نيته؛ لأنه ظن أن هذا هو التاسع والعاشر حسب التقويمات فله أجره إن شاء الله، وليس عليه قضاء وله أجر صوم اليومين.
س: لو تبين له في اليوم التاسع أن غدًا العاشر فهل يواصل صيام ثلاثة أيام؟
ج: الأفضل له أن يواصل، حتى يصوم العاشر يقينًا هذا هو الأفضل وإن لم يصم فلا حرج، ويفوته صوم العاشر.
س: إذا وافق العاشر يومًا سيسافر فيه المسلم فهل له أن يصوم ثم يفطر بعد سفره ومفارقة بلدته ثم يقضيه بعد أن يعود من سفره؟
ج: هو مخير إن شاء صام وإن شاء ترك، إذا بدأ في يوم سفره إن شاء صام وكمل الصيام، وإن شاء أفطر، وإن شاء صام وإذا سافر أفطر. كله مخير فيه، والحمد لله وليس فيه قضاء.
(مجلة الأمن 24 - ابن باز)
صيام ست من شوال، وما ورد في موطأ مالك
س: ماذا ترى في صيام ستة أيام بعد رمضان من شهر شوال، فقد ظهر في(3/248)
موطأ مالك: أن الإمام مالك بن أنس قال في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان أنه لم ير أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد مات السلف، وأن أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان لما ليس منه هذا الكلام في الموطأ (الرقم 228 - الجزء الأول) .
ج: ثبت عن أبي أيوب -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فذاك صيام الدهر". رواه الخمسة ومسلم وأبو داود والترمذي. فهذا حديث صحيح يدل على أن صيام ستة أيام من شوال سنة وقد عمل به الشافعي وأحمد وجماعة من الأئمة من العلماء، ولا يصح أن يقابل هذا الحديث بما يعلل به بعض العلماء لكراهة صومها خشية أن يعتقد الجاهل أنها من رمضان أو خوف أن يظن وجوبها أو بأنه لم يبلغه عن أحد ممن سبقه من أهل العلم أنه كان يصومها فإنه من الظنون وهي لا تقاوم السنة الصحيحة ومن علم حجة على من لم يعلم.
(الدعوة 857 - اللجنة)
صوم النافلة لا يقضى
س: أصوم ثلاثة أيام من كل شهر وفي أحد الأشهر أصابني مرض فلم أصمها فهل عليَّ قضاء أو كفارة؟
ج: صوم النافلة لا يقضى ولو ترك اختيارًا إلا أن الأولى بالمسلم المداومة على ما كان يعمله من عمل صالح لحديث "أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل" فلا قضاء عليك ولا كفارة علمًا أن ما تركه الإنسان من عمل صالح كان يعمله لمرض أو عجز أو سفر ونحو ذلك يكتب له أجره لحديث "إذا مرض ابن آدم أو سافر كتب له ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا".
(الدعوة 746 - اللجنة)(3/249)
من فتاوى الشيخ ابن عثيمين حفظه الله
صيام القضاء والنافلة بنية واحدة (*)
سؤال: صيام القضاء مع صيام النافلة بنية واحدة مثل صيام يوم عرفة قضاء رمضان بنيّة واحدة؟
الفتوى: إذا كان المقصود أن تصوم يوم عرفة مع القضاء أو عاشوراء مع القضاء فإنَّ ذلك ليس فيه حرج لا بأس أن تصوم يوم القضاء في يوم عرفة، ويحصل لك الأجر، وكذلك يوم عاشوراء بينة القضاء ويحصل له الثواب.
تبييت النية في الصوم
سؤال: رجل نام وبعد نومه أعلن عن ثبوت رؤية هلال رمضان، ولم يكن قد بيت نية الصوم، وأصبح مفطرًا لعدم علمه بثبوت الرؤية، فما هو الواجب عليه (1) ؟
الفتوى: هذا الرجل نام أول ليلة من رمضان قبل أن يثبت الشهر ولم يبيت نية الصوم ثم استيقظ وعلم بعد أن طلع الفجر أن اليوم من رمضان فإنه إذا علم يجب عليه الإمساك، ويجب عليه القضاء، عند جمهور أهل العلم، ولم يخالف في ذلك -فيما أعلم- إلا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، فإنه قال: إن النّيَّة تتبع العلم، وهذا لم يعلم فهو معذور، فهو لم يترك تبييت النية بعد علمه ولكنه كان جاهلاً، والجاهل معذور، وعلى هذا فإذا أمسك من حين علمه فصومه صحيح ولا قضاء عليه.
وأما جمهور العلماء فقالوا: إنه يجب عليه الإمساك، ويجب عليه القضاء وعللوا ذلك بأنه فاته جزء من اليوم بلا نية.
__________
(*) الفتاوى الخاصة بالصيام مأخوذة من كتاب مسائل في الصيام، وما زاد على ذلك نبهنا عليه في الهامش. وجزى الله جامعها الأخ أشرف عبد المقصود خيراً.
(1) فتاوى الحرم 1408هـ.(3/250)
والذي أرى أن الاحتياط في حقِّه أن يقضي هذا اليوم.
***
النية الجازمة للفطر بدون أكل أو شرب هل تفطر؟
سؤال: هل النية الجازمة للفطر دون أكل وشرب هل يفطر بها الإنسان؟
الفتوى: من المعلوم أن الصوم جامع بين النية والترك فينوي الإنسان بصومه التقرب إلى الله عز وجل بترك المفطرات فإذا عزم على أنه قطع صومه فعلاً فإن الصوم ينقطع ولكنه إذا كان في رمضان يجب عليه الإمساك حتى تغيب الشمس؛ لأن كل من أفطر في رمضان بغير عذر لزمه الإمساك والقضاء وأما إذا لم يعزم، ولكن تردد فموضع خلاف بين العلماء منهم من قال: إن صومه يبطل؛ لأن التردد ينافي العزم ومنهم من قال: إنه لا يبطل؛ لأن الأصل بقاء نية الصوم حتى يعزم على تركها وإزالتها.
نويت صيام كفارة ثم أجلته للشتاء
سؤال: نويت صيام ستين يومًا كفارة، وأجلتها إلى الشتاء، ماذا لو متُّ قبل الشتاء؟
الفتوى: إن الإنسان إذا وجب عليه صيام كفارة وجب عليه أن يبادر بذلك؛ لأن الواجبات تُؤَدَّى على الفور ولكن إذا كان يَشُقُّ عليه أن يصوم الكفارة في أيام الصيف لطول النهار وشدة الحر فلا حرج عليه أن يؤجل ذلك إلى وقت البرد، وإذا توفي قبل فليس عليه إثم؛ لأنه أخرها لعذر، ولكن يصام عنه منها ما أمكن فعله فإن لم يصم عنه أحد أطعم عنه عن كل يوم مسكين.
***(3/251)
نويت صيام الاثنين والخميس بدون نذر، فهل يجب عليَّ طول العمر؟
سؤال: نويت صيام الاثنين والخميس من كل أسبوع ولم أنذر بذلك فهل يجب عليَّ الصيام كل العمر، وإذا صمت يوم الخميس "مثلاً" ثم أفطرت فهل يجب عليّ قضاؤه؟
الفتوى: مجرد نية الفعل لا تلزمه بالفعل فإذا نوى الإنسان أن يصوم يوم الاثنين والخميس ولكنه لم يصم فلا شيء عليه وكذلك لو شرع في الصوم ثم قطعه فلا شيء عليه أيضًا؛ لأن صوم النفل لا يلزمه إتمامه حتى لو نوى الإنسان أن يتصدق بمال وفصل المال وجعله على حدة فإنه لا يلزمه أن يتصدق به إذ أن النية لا أثر لها في مثل هذه الأمور وعلى هذا نقول للأخ السائل: إنه لا يجب عليك أن تقضي عن يوم الخميس الذي أفطرته ولا يجب عليك أن تستمر في صيام الاثنين والخميس، ولكن إن فعلت ذ-لك فهو -خير لأن يومي الا-ثنين والخميس يُسَنُّ صيامهما.
حكم تردد النية في الصوم أو الفطر
سؤال: سمعنا الليلة المدفع أكثر من مرة فشككنا هل هو العيد أم رمضان؟
وانتظرنا نسمع شيئًا من الإمام قبل الفجر فلم نسمع شيئا فما حكم تردد النية في الصوم أو الفطر؟
الفتوى: الواجب أن الإنسان يَتَثَبَّتُ والأصل بقاء ما كان على ما كان لو كان هناك شيء لكان ظاهرًا بحيث يَتَبَيَّن للناس حتى لا يتسحروا ولا يصوموا وعلى كل حال اليوم هذا يعتبر من رمضان ولو كان خروج الشهر ثابتًا لكان الأمر بينًا وعلى هذا فالواجب على الإنسان في مثل هذا الحال أن يصوم بلا تردد؛ لأن الأصل بقاء رمضان فإذا تبين بعد ذلك أنه يوم العيد أفطر.
***(3/252)
أقسام الناس في الصيام
الإفطار للمسافر من أجل التقوي على العمرة
سؤال: المسافر إذا وصل مكة صائمًا، فهل يفطر ليتقوى على أداء العمرة؟
الفتوى: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة عام الفتح في اليوم العشرين من رمضان وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مفطرًا، وكان يصلي ركعتين في أهل مكة، ويقول لهم: "يا أهل مكة أتمُّوا فإنا قومُ سَفَر" وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن كثير أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مفطرًا في ذلك العام أي أنه أفطر عشرة أيام في مكة في غزوة الفتح وفي صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لم يزل مفطرًا حتى انسلخ الشهر" كما أنه بلا شك كان يصلي ركعتين في هذه المدة؛ لأنه كان مسافرًا فلا ينقطع سفر المعتمر بوصوله إلى مكة فلا يلزمه الإمساك إذا قدم مفطرًا بل قد نقول له: الأفضل إذا كان ذلك أقوى على أداء العمرة أن لا تصوم ما دمت إذا أديت العمرة تعبتَ وقد يكون بعض الناس مستمرًا على صيامه حتى في السفر نظرًا؛ لأن الصيام في السفر في الوقت الحاضر ليس بمشق على الأمة فيستمر في سفره صائمًا ثم يقدم مكة ويكون متعبًا فيقول في نفسه هل أستمر على صيام أو أؤجل أداء العمرة إلى ما بعد الفطر أي إلى الليل أو الأفضل أن أفطر؛ لأجل أن أؤدي العمرة فور وصولي إلى مكة نقول له في هذه الحال: الأفضل أن تفطر حتى لو كنت صائمًا فأفطر لأجل أن تؤدي العمرة فور وصولك إلى مكة، وأنت نشيط؛ لأن الأفضل فيمن قدم إلى مكة لأداء النسك أن يبادر فورًا لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل مكة وهو في النسك بادر إلى المسجد حتى كان ينيخ راحلته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند المسجد ويدخله حتى يؤدي النسك الذي كان متلبسًا به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكونك تفطر لتؤدي العمرة بنشاط في النهار أفضل من كونك تبقى صائمًا ثم إذا أفطرت في الليل قضيت عمرتك.
وقد ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان صائمًا في سفره لغزوة الفتح فجاء إليه أناس(3/253)
فقالوا: يا رسول الله، إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنهم ينتظرون ماذا تفعل، وكان هذا بعد العصر فدعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بماء فشرب والناس ينظرون، فأفطر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أثناء السفر بل أفطر في آخر اليوم كل هذا من أجل أن لا يشق الإنسان على نفسه بالصيام، وتكلف بعض الناس في الصوم في السفر مع المشقة لا شك أنه خلاف السنة، وإنه ينطبق عليهم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس من البر الصيام في السفر".
***
السفر المبيح للفطر
سؤال: ما هو السفر المبيح للفطر (1) ؟
(سلامة رزق سلامة - مصر)
الفتوى: السفر المبيح للفطر وقصر الصلاة هو (83) كيلو ونصف تقريبًا، ومن العلماء من لم يحدد مسافة للسفر بل كل ما هو في عرف الناس سفر فهو سفر ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سافر ثلاثة فراسخ قصر الصلاة والسفر المحرم ليس مبيحًا للقصر والفطر؛ لأن سفر المعصية لا تناسبه الرخصة، وبعض أهل العلم لا يفرق بين سفر المعصية وسفر الطاعة لعموم الأدلة والعلم عند الله.
حكم من جامع زوجته في نهار رمضان وهو على سفر
سؤال: قدم من أبها إلى مكة ليلاً، وفي الصباح وسوس له الشيطان فجامع زوجته، فما الحكم (2) ؟
الفتوى: هذا رجل قدم هو وزوجته للعمرة، واعتمر في الليل وأصبحا صائمين، وفي ذلك اليوم الذي أصبحا فيه صائمين جامعها، نقول: ليس عليه شيء إلا قضاء ذلك اليوم فقط، فليس عليه إثم ولا كفارة، وإنما عليه قضاء
__________
(1) المسلمون عدد (15) .
(2) فتاوى الحرم 1408هـ.(3/254)
ذلك اليوم فقط، لأن المسافر يجوز أن يقطع صومه، سواء قطعه بأكل أو شرب أو جماع؛ لأن صوم المسافر ليس واجبًا عليه، كما قال تعالى: (فَمَن كانَ مِنكُم مرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامِ أُخَرَ) [البقرة: 184] ، ولهذا أحب من الإخوة الذين يُستفتون في مكةَ مثلاً إذا جاء سائل يسأل: أنه وطئ زوجته وهو صائم، فما حكم ذلك؟ ينبغي أن نستفصل منه، ونقول له: هل أنت مسافر أم لا؟ إذا قال: إنه مسافر، فنقول: ليس عليك إلا القضاء، لكن لو جامع زوجته وهو في بلده في نهار رمضان وهما صائمان ترتب عليه أمور: أولاً: فساد الصوم، ثانيًا: وجوب الإمساك بقية اليوم، ثالثًا: قضاء ذلك اليوم، رابعًا: الإثم، خامسًا: الكفارة، وهي عتق رقبة، فإذا لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا.
للمسافر الفطر حال السفر
سؤال: يقول إذا كنت مسافرًا في رمضان، وكنت مفطرًا في سفري وعند وصولي إلى البلد الذي سأمكث فيه عدة أيام أمسكت بالصيام في بقية ذلك اليوم، وفي الأيام التالية فهل لي رخصة في الإفطار في نهار هذه الأيام وأنا في بلد ليس في بلدي الأصلي أم لا؟
الفتوى: نعم يجوز للمسافر إذا صام في سفره أن يفطر في أثناء النهار ولا حرج عليه كما أفطر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حال السفر.
المبتعث مسافر يفطر ولو امتد ابتعاثه سنوات
سؤال: نحن مجموعة من المبتعثين في بلاد أخرى بعضنا له سنة، والبعض الآَخر سنتان أو ثلاث أو أربع فهل لنا حكم المسافر في الصيام (1) ؟
(محمد طارق لطفي - محمد علي - حاتم زكي - لندن)
الفتوى: هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، والجمهور، ومنهم الأئمة
__________
(1) المسلمون عدد (15) .(3/255)
الأربعة يقولون: إنهم في حكم المقيم يلزمهم الصوم ولا يجوز لهم قصر الصلاة ولا أن يمسحوا على الخفين ثلاثة أيام بل يوم وليلة، وبعض أهل العلم يقول: إنهم في حكم المسافرين، وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وهو ظاهر النصوص فهي لم تُحَدِّد مُدَّة السفر.
وذكر أن ابن عمر أقام في أذربيجان ستة أشهر يُقْصر الصلاة، وهذا الرأي واضح الرجحان، ولكن من كان في نفسه حرج منه ورأى أن يأخذ بقول الجمهور وهو إتمام الصلاة ووجوب الصوم فلا حرج عليه في ذلك وهذا ما نراه ورآه شيخ الإسلام ابن تيمية.
تتمة للفتوى السابقة (1) :
المغترب الذي لا ينتوي الإقامة في حكم المسافر
الصيام واجب على الذين ينتوون الإقامة الدائمة خارج أوطانهم الحمد لله رب العالمين كثيراً كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بالإحسان وسلم تسليمًا كثيراً.
وبعد فقد نشر لي في "المسلمون" يوم السبت 28 شعبان 1405هـ جواب حول ترخص المبتعث برخص السفر من القصر والفطر ومسح الخفين ثلاثة أيام، وكان الجواب مختصرًا، وقد طلب مني بعض الإخوان أن أبسط القول في ذلك بعض البسط، فأقول وبالله التوفيق ومنه الهداية والصواب:
المُغتربون عن بلادهم لهم ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن ينووا الإقامة المطلقة بالبلاد التي اغتربوا إليها كالعمال المقيمين للعمل والتجار المقيمين للتجارة ونحوهم ممن يقيمون إقامة مطلقة فهؤلاء
__________
(1) المسلمون عدد (18) .(3/256)
في حكم المستوطنين في وجوب الصوم عليهم في رمضان، وإتمام الصلاة والاقتصار على يوم وليلة في مسح الخفين؛ لأن إقامتهم مطلقة غير مقيدة بزمن ولا غرض، فهم عازمون على الإقامة في البلاد التي اغتربوا إليها لا يخرجون منها إلا أن يخرجوا.
الحالة الثانية: أن ينووا الإقامة المقيدة بغرض معين لا يدرون متى ينتهي ومتى انتهى رجعوا إلى بلادهم كالتجار الذين يقدمون لبيع السلع أو شرائها ثم يرجعون وكالقادمين لمراجعة دوائر حكومية أو غيرها لا يدرون متى ينتهي غرضهم حتى يرجعوا إلى بلادهم فهؤلاء في حكم المسافرين فلهم الفطر وقصر الصلاة الرباعية ومسح الخفين ثلاثة أيام ولو بقوا سنوات هذا قول جمهور العلماء بل حكاه ابن المنذر إجماعًا لكن لو ظن هؤلاء أن الغرض لا ينتهي إلا بعد المدة التي ينقطع بها حكم السفر فهل لهم الفطر والقصر على قولين.
الحالة الثالثة: أن ينووا الإقامة المقيدة بغرض مُعين يدرون متى ينتهي ومتى انتهى رجعوا إلى بلادهم بمجرد انتهائه فقد اختلف أهل العلم رحمهم الله في حكم هؤلاء فالمشهور عن مذهب الإمام أحمد أنهم إن نووا إقامة أكثر من أربعة أيام أتموا، وإن نووا دونها قصروا، قال في المغني (صفحة 288 المجلد الثاني) : وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور، قال: وروي هذا القول عن عثمان -رضي الله عنه-، وقال الثوري وأصحاب الرأي: إن أقام خمسة عشر يومًا مع اليوم الذي يخرج فيه أتم، وإن نوى دون ذلك قصر -انتهى- وهناك أقوال أخرى ساقها النووي في شرح المُهذَّب (صفحة 220 المجلد الرابع) تبلغ عشرة أقوال وهي أقوال اجتهادية متقابلة ليس فيها نص يفصل بينها، ولهذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى أن هؤلاء في حكم المسافرين لهم الفطر وقصر الصلاة الرباعية والمسح على الخفين ثلاثة أيام انظر مجموع الفتاوى جمع ابن قاسم صفحة (137، 138، 184) مجلد (24) والاختيارات صفحة (73) ، وانظر زاد المعاد لابن القيم صفحة (29) مجلد (3) أثناء كلامه على فقه غزوة تبوك. وقال في الفروع لابن مفلح -أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية- صفحة (64) مجلد (2) بعد أن ذكر الخلاف فيما إذا نوى مدة فوق(3/257)
أربعة أيام قال: واختار شيخنا وغيره القصر والفطر، وأنه مسافر ما لم يجمع على إقامة ويستوطن كإقامته لقضاء حاجة بلا نية إقامة. انتهى. واختار هذا القول الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب انظر صفحة (372، 375) مجلد (4) من الدرر السنية، واختاره أيضًا الشيخ محمد رشيد رضا صفحة (1180) المجلد الثالث من فتاوى المنار، وكذلك اختاره شيخنا عبد الرحمن بن ناصر السعدي صفحة (47) من المختارات الجلية، وهذا القول هو الصواب لمن تأمل نصوص الكتاب والسنة فعلى هذا يفطرون، ويمّضون كأهل الحال الثانية لكن الصوم أفضل إن لم يشق ولا ينبغي أن يؤخروا القضاء إلى رمضان ثان؛ لأن ذلك يوجب تراكم الشهور عليهم فيثقل عليهم القضاء أو يعجزوا عنه. والفرق بين هؤلاء وأهل الحال الأولى أن هؤلاء أقاموا لغرض معين ينتظرون انتهاءه ولم ينووا الإقامة المطلقة بل لو طلب منهم أن يتموا بعد انتهاء غرضهم لأبوا ذلك، ولو انتهى غرضهم قبل المدة التي نووها ما بقوا في تلك البلاد. أما أهل الحال الأولى فعلى العكس من هؤلاء فهم عازمون على الإقامة المطلقة مستقرون في محل الإقامة لا ينتظرون شيئًا معينًا ينهون إقامتهم بانتهائه، فلا يكادون يخرجون من مغتربهم هذا إلا بقهر النظام فالفرق ظاهر للمتأمل، والعلم عند الله تعالى فمن تبين له رجحان هذا القول فعمل به فقد أصاب ومن لم يتبين له فأخذ بقول الجمهور فقد أصاب؛ لأن هذه المسألة من مسائل الاجتهاد التي من اجتهد فيها فأصاب فله أجران ومن اجتهد فيهاِ فأخطأ فله أجر واحد، والخطأ فور قال الله تعالى: (لا يكلف الله نفسًا إِلا وسعها) [البقرة: 286] ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" أخرجه البخاري.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى الصواب عقيدة وقولاً وفعلاً إنه جواد كريم والحمد لله رب العالمين وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
***(3/258)
حكم المريض مرضًا مستمرًا هل يصوم؟
سؤال: المريض مرضًا مستمرًا ماذا يفعل؟
الفتوى: إذا كان المريض بمرض يُرجى بُرؤه فإنه يقضي ما فاته أثناء مرضه، وأما إذا كان مريضًا مرضًا لا يُرجى بُرؤه فإنه يطعم عن كل يوم مسكينًا ربع صاع من البر أو نصف صاع من غيره أما إذا قال له الطبيب: إن صومك يَضُرُّك في أيام الصيف فنقول له: يصوم ذلك في أيام الشتاء، وهذا تختلف حاله عن الذي يضره الصوم دائمًا والله أعلم.
الصوم والصلاة للمريض مرض لا يرجى شفاؤه
سؤال: شخص له ولدان مرضا مرضًا لا يرجى شفاؤه، ولم يسبق لهما الصوم فما هو الواجب في حقه نحوهما؟ وما هي كيفية الصلاة بالنسبة لهما (1) ؟
الفتوى: المريض مرضًا لا يُرجى زواله لا يلزمه الصوم؟ لأنه عاجز، ولكنه يلزمه بدلاً عنه بأن يطعم عن كل يوم مسكينًا هذا إذا كان عاقلاً بالغًا وللإطعام كيفيتان الأولى أن يصنع طعامًا غداء أو عشاء ثم يدعو إ-ليه المساكين بقدر الأيام التي عليه، كما كان أنس بن مالك يفعل ذلك حين كبر. وأما الكيفية الثانية أن يوزع طعامًا ويعتني المسكين بطبخه، ومقدار هذا الطعام مد من البر أو الأرز والمد يعتبر بمد صاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بع صاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاع النبي كيلوين وأربعين غرامًا فيكون المد نصف كيلو وعشرة غرامات، فيطعم الإنسان هذا القدر من الأرز أو البر، ويجعل معه لحمًا ويقدمه. وأما ما مضى من الصيام فإنه يطعم عنه أيضًا.
أما بالنسبة للصلاة فيلزمهما أن يُصليا حسب الاستطاعة، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر إن بن حصين: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب".
***
__________
(1) فتاوى الحرم 1408هـ.(3/259)
حكم الحامل في الصيام
سؤال: الحامل إذا خافت على نفسها أو خافت على ولدها فهل لكل حال حكم في الصيام؟
الفتوى: المرأة الحامل لا تخلو من حالين: إحداهما أن تكون قوية نشيطة لا يلحقها في الصوم مشقة ولا تأثير على جنينها فهذه المرأة يجب عليها أن تصوم؛ لأنه لا عذر لها في ترك الصيام. والحالة الثانية أن تكون غير مُتَحَمِّلة للصيام لثقل الحمل عليها أو لضعفها في جسمها أو لغير ذلك وفي هذا الحال تُفْطِر لا سيما إذا كان الضرَّر على جنينها فإنه يجب عليها الفطر حينئذ، وإذا أفطرت فإنها كغيرها ممن يفطر بعذر يجب عليها قضاء الصوم متى زال ذلك العذر عنها فإذا وضعت وجب عليها قضاء الصوم بعد أن تطهر من النفاس، ولكن أحيانًا يزول عذر الحمل ويخلفه عذر آخر وهو عذر الرضاع فإن المرضع قد تحتاج الأكل والشرب لا سيما في أيام الصيف الطويلة النهار الشديد الحر فإنها قد تحتاج إلى أن تفطر لتتمكن من تغذية ولدها بلبنها وفي هذه الحالة نقول لها: أفطري وإذا زال عنك العذر فإنك تقضين ما فاتك من الصوم وقد ذكر بعض أهل العلم أنه إذا كان إفطار الحامل والمرضع من أجل الخوف على الولد فقط دون الأم فإنه يجب عليها مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم يدفعه من عليه نفقة هذا الطفل وفي معنى ذلك أي في معنى الحامل والمرضع التي تفطر خوفًا على الولد في معنى ذلك من أفطر لإنقاذ غريق أو حريق ممن يجب إنقاذه فإنه يُفطر ويقضي، مثلاً رأيت النار تلتهم هذا البيت وفيه أناس مسلمون ولا يمكنك أن تقوم بالواجب واجب الإنقاذ إلا إذا أفطرت وشربت لتتقوى على إنقاذ هؤلاء فإنه يجوز لك بل يجب عليك في هذا الحال أن تفطر لإنقاذهم ومثله هؤلاء الذين يشتغلون بالإطفاء فإنهم إذا حصل حريق بالنهار وذهبوا لإنقاذه ولم يتمكنوا منه إلا أن يفطروا ويتناولوا ما تقوى به أبدانهم فإنهم يفطرون ويتناولون ما تقوى به أبدانهم؛ لأن هذا شبيه تمامًا بالحامل التي تخاف على جنينها أو المرضع التي تخاف على طفلها والله تبارك وتعالى حكيم لا يفرق بين شيئين متماثلين في المعنى بل يكون(3/260)
حكمهما واحدًا وهذا عن كمال الشريعة الإسلامية وهو عدم التفريق بين المتماثلين وعدم الجمع بين المختلفين والله عليم حكيم.
صيام المرأة الكبيرة التي يشق عليها الصوم
سؤال: المرأة الكبير إذا كان الصيام يضرها هل تصوم؟
الفتوى: إذا كان الصوم يضر بها كما ذكر السائل فإنه لا يجوز لها أن تصوم؛ لأن الله تعالى يقول في القرآن (وَلا تَقْتُلُوا أَنفسَكم إنّ الله كانَ بِكم رَحيمًا) [النساء: 29] ، (وَلا تُلْقُوا بأَيْديكُم إِلَى التَّهْلُكَة) [البقرة: 195] فلا يجوز لها أن تصوم والصوم يضر بصحَّتها، وما دامت طاعنة في السن فإن الغالب أنها لن تقدر على الصوم في المستقبل وحينئذ تطعم عن كل يوم مسكينًا فإما أن تدفع إلى المساكين ذلك الطعام ومقداره ربع صاع من البر أو نصف صاع من غيره والأرز مثل البر لأن انتفاع الناس به -كانتفاعهم بالبر بل أبلغ إذ أنه لا يحتاج إليها البر، وإما أن تصنع طعامًا ويدعي إليه مساكين بعدد أيام الشهر وبذلك تبرأ ذمتها، والله أعلم.
سائق الشاحنات كيف يصوم ومتى؟!
سؤال: سائق شاحنة لمسافات طويلة كيف يصوم ومتى؟!
الفتوى: جوابنا هذا السؤال أن نقول: إن الله تعالى قد بين حكم هذه المسألة في قوله: (وَمَن كانَ مَرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] ، فأنت أيها الأخ المشتغل في هذه الشاحنة ما دمت مسافرًا لك أن تترخص بجميع رخص السفر عن القصر والجمع والفطر في رمضان والمسح على الخفين ثلاثة أيام وغيرها مما هو معروف في أحكام السفر، وعلى هذا فنقول يجوز لك أن تفطر في هذه الحال فإن الله تعالى قد أطلق في الآية: (وَمَن كانَ مَرِيضًا أَو على سَفَرٍ) [البقرة: 185] ، ولم يقيده بشيء وما أطلقه الله ورسوله فإنه يجب العمل بمطلقه فإذا قلت كيف أصنع وأنا دائمًا في هذه المهنة أسافر دائمًا شتاء وصيفًا نقول لك إذا كنت في أهلك في رمضان وجب عليك أن تصوم وإذا كنت(3/261)
في غير أهلك فأنت مُسافر لا يجب عليك أن تصوم، ثم إنه من الممكن بأن نقول لك فائدة عظيمة وهي أنك بدل أن تصوم في هذا الحر الشديد تصوم في أيام الشتاء القصيرة المدة الباردة وذلك أسهل لك، والله أعلم.
فاقد الذاكرة والمعتوه والصبي والمجنون هل يجب عليه الصوم؟
سؤال: فاقد الذاكرة هل يجب عليه الصيام والمعتوه والصبي والمجنون؟
الفتوى: إن الله -سبحانه وتعالى أوجب على المرء العبادات إذا كان أهلاً للوجوب بأن يكون ذا عقل يُدرك به الأشياء، أما من لا عقل له فإنه لا تلزمه العبادات وبهذا لا تلزم المجنون ولا تلزم الصغير الذي لا يميز وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى، ومثله المعتوه الذي أصيب بعقله على وجه لم يبلغ حد الجنون، ومثله أيضًا الكبير الذي بلغ فقدان الذاكرة كما قال هذا السائل فإنه لا يجب عليه صوم ولا صلاة ولا طهارة؛ لأن فاقد الذاكرة هو بمنزلة الصبي الذي لم يُميَّز، فتسقط عنه التكاليف فلا يلزم بطهارة، ولا يلزم بصلاة، ولا يلزم أيضًا بصيام، وأما الواجبات المالية فإنها تجب في -ماله، وإن كان في هذه الحال فالزكاة مثلاً يجب على من يتولى أمره أن يُخرجها من مال هذا الرجل الذي بلغ هذا الحد؛ لأن وجوب الزكاة يتعلق بالمال كما قال الله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) [التوبة: 103] ، قال (خذ من أموالهم) ولم يقل خذ منهم، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ حينما بعثه إلى اليمن: "أعلمهم أن الله فرض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" فقال: "صدقة في أموالهم" فبين أنها في المال، وإن كانت تؤخذ من صاحب المال. وعلى كل حال الواجبات المالية لا تسقط عن شخص هذا حاله، أما العبادات البدنية كالصلاة الطهارة والصوم فإنها تسقط عن مثل هذا الرجل؛ لأنه لا يعقل، وأما من زال عقله بإغماء من مرض فإنه لا تجب عليه الصلاة على قول أكثر أهل العلم فإذا أُغمي على المريض لمدة يوم أو يومين فلا قضاء عليه؛ لأنه ليس عليه(3/262)
عقل وليس كالنائم الذي قال فيه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من نام عن صلاة أو نسيها فليُصلِّها إذا ذكرها"؛ لأن النائم معه إدراك بمعنى أنه يستطيع أن يستيقظ إذا أوقظ، وأما هذا المغمي عليه فإنه لا يستطيع أن يفيق إذا أوقظ هذا إذا كان الإغماء ليس بسبب منه أما إذا كان الإغماء بسبب منه كالذي أغمي عليه من البنج فإنه يقضي الصلاة التي مضت عليه وهو في حال الغيبوبة.
شخص يفطر في نهار رمضان بمكة
سؤال: يقول: يوجد شخص الآن يفطر؟ (هذا السؤال وقع في مكة في رمضان) (1) ؟
الفتوى: وجود شخص يفطر في مكة في مثل هذا اليوم ليس بغريب؟
لأن مكة فيها الآفاقي وفيها المواطن الذي من أهل مكة والآفاقي يجوز له إذا كان قد أتى إلى العمرة وسيرجع إلى بلده يجوز له أن يفطر فهذا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلم الناس بالله وأخشاهم له فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة في اليوم العشرين من رمضان فصادف بقاؤه في مكة العشر الأواخر من رمضان ولم يصم، ثبت ذلك عنه في صحيح البخاري من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وهو قد بقي في مكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة عشرة منها في رمضان وتسعة في شوال فهذا الرجل الذي يفطر الآن ليس بغريب، وهذه المسألة يجهلها الناس، يُظُنُّ الناس أن من قدم إلى مكة لزمه الإمساك، وأنه لا يجوز أن يفطر، وهذا ظن غير صحيح بل للمسافر أن يفطر حتى يرجع إلى بلده.
الإفطار من أجل الامتحانات هل يجوز؟!
سؤال: تقول: أنا امرأة أجبرتني الظروف على الإفطار ستة أيام من شهر رمضان والسبب ظروف الامتحانات؛ لأنها بدأت في شهر رمضان والمواد صعبة،
__________
(1) فتاوى نسائية.(3/263)
ولولا وفطاري هذه الأيام لم أتمكن من دراسة هذه المواد نظرًا لصعوبتها، أرجو إفادتي ماذا أفعل كي يغفر الله لي؟
الفتوى: أولاً: إضافة الشيء إلى الظروف خطأ، والأولى أن يقال اضطررت، وما أشبه ذلك. ثانيًا إفطارها في رمضان من أجل الاختبار أيضًا خطأ ولا يجوز؛ لأنه بإمكانها أن تراجع بالليل وليس هناك ضرورة إلى أن تُفطر فعليها أن تتوب إلى الله عز وجل، وعليها القضاء، لأنها متأولة ما تركتها تهاونًا.
صوم سائقي الحافلات
سؤال: هل ينطبق حكم المسافر على سائقي السيارات والحافلات لعملهم المتواصل في نهار رمضان (1) ؟
(عبد الشهيد دبركي الفرماوي مفتش أتوبيسات بمصر - أشمون)
الفتوى: نعم ينطبق حكم السفر عليهم فلهم القصر والجمع والفطر، فإذا قال قائل متى يصومون وعملهم متواصل؟ قلنا: يصومون في أيام الشتاء؛ لأنها أيام قصيرة وباردة. أما السائقون داخل المدن فليس لهم حكم المسافر، ويجب عليهم الصوم.
صوم الأطفال في رمضان
سؤال: طفلي الصغير يصر على صيام رمضان رغم أن الصيام يضره لصغر سنه واعتلال صحته، فهل أستخدم معه القسوة ليفطر (2) ؟
(أم أحمد - أبو ظبي)
الفتوى: إذا كان صغيراً لم يبلغ فإنه لا يلزمه الصوم ولكن إذا كان يستطيعه دون مشقة، فإنه يؤمر به، وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يُصَوِّمُون
__________
(1) المسلمون عدد (15) .
(2) المسلمون عدد (15) .(3/264)
أولادهم حتى إن الصغير منهم ليبكي فيعطونه اللعب يتلهى بها، ولكن إذا ثبت أن هذا يضره فإنه يُمنع منه، وإذا كان الله سبحانه وتعالى منعنا عن إعطاء الصغار أموالهم خوفًا من الإفساد بها فإن خوف إضرار الأبدان من باب أولى أن يمنعهم منه، ولكن المنع يكون عن غير طريق القسوة فإنها لا تنبغي في معاملة الأولاد عند تربيتهم.
***(3/265)
الحائض والصيام
طهرت قبل الفجر، واغتسلت هل يصح صومها؟
سؤال: إذا طهرت الحائض قبل الفجر واغتسلت بعد فما الحكم؟
الفتوى: إن صومها صحيح إذا تيقنت الطهر قبل طلوع الفجر، المهم أن المرأة تتيقن أنها طَهُرت؛ لأن بعض النساء تظن أنها طهرت، وهي لم تطهر، ولهذا كان النساء يأتين بالقطن لعائشة -رضي الله عنها- فَيُرينها إياه علامة على الطهر، فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. فالمرأة عليها أن تتأنى حتى تتيقن أنها طهرت فإذا - طهرت فإنها تنوي الصوم، وإن لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر، ولكن عليها أيضاً أن تراعي الصلاة فتبادر بالاغتسال لتصلي صلاة الفجر في وقتها، وقد بلغنا أن بعض النساء تطهر بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الفجر، ولكنها تؤخر الاغتسال إلى ما بعد طلوع الشمس بحجة أنها تريد أن تغتسل غسلاً أكمل وأنظف وأطهر، وهذا خطأ لا في رمضان ولا في غيره؛ لأن الواجب عليها أن تبادر وتغتسل لتصلي الصلاة في وقتها ثم لها أن تقتصر على الغسل الواجب لأداء الصلاة، وإذا أحبت أن تزداد طهارة ونظافة بعد طلوع الشمس فلا حرج عليها، ومثل المرأة الحائض من كان عليها جنابة فلم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر فإنه لا حرج عليها، وصومها صحيح، كما أن الرجل لو كان عليه جنابة ولم يغتسل منها إلا بعد طلوع الفجر وهو صائم فإنه لا حرج عليه في ذلك؛ لأنه ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يُدرِكه الفجر وهو جنُب من أهله فيقوم ويغتسل بعد طلوع الفجر. والله أعلم.
حاضت بعد غروب الشمس بقليل، هل يصح صومها؟
سؤال: إذا حاضت المرأة بعد غروب الشمس بقليل فما حكم صومها؟
الفتوى: جوابنا عليه أن صيامها صحيح حتى لو أحست بأعراض الحيض قبل الغروب من الوجع والتألم، ولكنها لم تره خارجا إلا بعد غروب الشمس(3/266)
فإن صومها صحيح؛ لأن الذي يُفسد الصوم إنما هو خروج دم الحيض، وليس الإحساس به.
استعمال حبوب منع الحيض في رمضان
سؤال: هل يجوز استعمال حبوب منع الحيض للمرأة في رمضان أم لا؟
الفتوى: الذي أرى أن المرأة لا تستعمل هذه الحبوب لا في رمضان ولا في غيره؛ لأنه ثبت عندي من تقرير الأطباء أنها مُضرة جدا على المرأة على الرحم والأعصاب والدم وكل شيء مُضر فإنه منهي عنه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ضرر ولا ضِرار".
وقد علمنا عن كثير من النساء اللاتي يستعملن هذه الحبوب أن العادة عندهن تضطرب وتتغير ويتعبن، ويُتعبن العلماء في كيفية جُلُوسهن الذي أنصح به أن لا تستعمل المرأة هذه الحبوب أبدًا لا في رمضان ولا في غيره.
الحيض يمنع الصوم والصلاة
سؤال: ما حكم من أنزلت العادة الشهرية قبل وقتها بالعلاج فتوقف الدم وبعد الصيام بثمانية أيام جاءت في وقتها فما حكم الأيام التي لم تصلي فيها؟
الفتوى: لا تقضي المرأة الصلاة إذا تسببت لنزول الحيض؛ لأن الحيض دم متى وجد وجد حكمه، كما أنها لو تناولت ما يمنع الحيض، ولم ينزل الحيض فإنها تُصلي وتصوم ولا تقضي الصوم؛ لأنها ليست بحائض فالحكم يدور مع علته قال الله عز وجل: (وَيَسْأَلونكَ عَنِ الْمَحيضِ قُلْ هوَ أَذى) [البقرة: 222] ، فمتى وجد هذا الأذى ثبُت حكمه، ومتى لم يوجد لم يثبت حكمه.
* * *(3/267)
قضاء الصوم للحائض إذا طهرت قبل الفجر
سؤال: إذا طهرت الحائض واغتسلت بعد صلاة الفجر، وصلت وكملت صوم يومها فهل يجب عليها قضاؤه (1) ؟
الفتوى: إذا طهرت الحائض قبل طلوع الفجر ولو بدقيقة واحدة ولكن تيقنت الطهر فإنه إذا كان في رمضان فإنه يلزمها الصوم، ويكون صومها ذلك اليوم صحيحًا، ولا يلزمها قضاؤه؛ لأنها صامت وهي طاهر، وإن لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر فلا حرج كما أن الرجل لو كان جُنبا من جماع أو احتلام وتسحر ولم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر كان صومه صحيحًا.
وبهده المُناسبة أودُّ أن أنبه إلى أمر آخر عند النساء إذا أتاها الحيض وهي قد صامت ذلك اليوم فإن بعض النساء يظن أن الحيض إذا أتاها بعد فطرها قبل أن تُصلي العشاء فسد صوم ذلك اليوم وهذا لا أصل له بل إن الحيض إذا أتاها بعد الغروب ولو بلحظة فإن صومها تام وصحيح.
تحذير الحائض من ترك قضاء الصوم
سؤال: سائلة تقول: إنها منذ أن وجب عليها الصيام وهي تصوم رمضان ولكنها لا تقضي الأيام التي تفطرها بسبب الدورة الشهرية، ولجهلها بعدد الأيام التي أفطرتها فهي تطلب إرشادها إلى ما يجب عليها فعله الآن (2) ؟
الفتوى: يؤسفنا أن يقع مثل هذا بين نساء المؤمنين فإن هذا الترك -أعني ترك قضاء ما يجب عليها من الصيام- إما أن يكون جهلاً، وإما أن يكون تهاونًا، وكلاهما مصيبة؛ لأن الجهل دواءه العلم والسؤال، وأما التهاون فإن دواءه تقوى الله عز وجل ومراقبته والخوف من عقابه والمبادرة إلى ما فيه رضاه فعلى هذه المرأة أن تتوب إلى الله مما صنعت، وأن تستغفر، وأن تتحرى الأيام
__________
(2،1) فتاوى نسائية.(3/268)
التي تركتها بقدر استطاعتها فتقضيها وبهذا تبرأ ذمَّتها، ونرجو لها أن يقبل الله توبتها.
الدم الخارج بعد السقط، هل يفطر؟
سؤال: الدم الذي يخرج من الحامل إذا أسقطت الجنين هل يفطر؟
الفتوى: إن الحامل لا تحيض كما قال الإمام أحمد، إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الحيض، كما قال أهل العلم: خلقه الله تبارك وتعالى لحكمة غذاء الجنين في بطن أمه، فإذا نشأ الحمل انقطع الحيض لكن بعض النساء قد يستمر الحيض على عادته كما كان قبل الحمل فإذا كان ذلك فإن الحامل لا تصوم ولا تصلي؛ لأن هذا حيض. وأما الدم الذي يخرج من الحامل إذا أسقطت الجنين فإن كان الجنين قد تبين فيه خلق إنسان فالدم نفاس فلا تصوم ولا تصلي، وإذا أسقطت أثناء الصوم بطل صومها. وإن كان الجنين أسقط علقة أو مضغة لم يتبين أنها ابتداء خلق أنسان فالدم ليس نفاسًا، فتصوم وتصلي ولا حرج.
النفساء والصوم
سؤال: أنا فتاة متزوجة ورزقني الله بولدين توأمين، انتهيت من الأربعين في اليوم السابع من رمضان، ولكن الدم لا يزال مستمرًا، ولكن تغير لونه على ما قبل الأربعين، فما حكم صلاتي وصيامي؟
الفتوى: المرأة النفسَاء إذا بقي الدم معها فوق الأربعين وهو لم يتغير فإن صادف ما زاد عن الأربعين عادة حيضتها السابقة جلست، وإن لم يصادف عادة حيضتها السابقة فقد اختلف العلماء في ذلك فمنهم من قال: تغتسل وتصلى وتصوم ولو كان الدم يجري عليها؛ لأنها تكلون حينئذ كالمُستحاضة. ومنهم من قال: إنها تبقى حتى تتم ستين يومًا؛ لأنه وُجد من النساء من يبقى في النفاس ستين يوماً ويقال: إن بعض النساء كانت عادتها في النفاس ستين يومًا، وبناء على ذلك فإنها تنتظر حتى تتم ستين يومًا ثم بعد ذلك ترجع للحيضة المعتادة.(3/269)
ما يفطر الصائم وما لا يفطره
القيء في نهار رمضان هل يفطر؟
سؤال: فيمن ذرعه القيء؟
الفتوى: نقول: إذا قاء الإنسان متعمدًا فإنه يفطر، وإن قاء بغير عمد فإنه لا يفطر، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء عمدًا فليقض".
فإن غلبك القيء فإنك لا تفطر، فلو أحس الإنسان بأن معدته تموج، وأنها سيخرج ما فيها فهل نقول يجب عليك أن تمنعه؟ لا. أو تجذبه؟ لا. لكن نقول قف موقفًا حياديًا لا تستقيء ولا تمنع لأنك إن استقيت أفطرت، وإن منعت تضررت، فدعه إذا خرج بغير فعل منك فإنه لا يضرك، ولا تُفطر بذلك.
استعمال بخاخ ضيق النفس للصائم لا يفطر
سؤال: استعمال بخاخ ضيق النفس للصائم هل يفطر؟
الفتوى: الجواب على السؤال أن هذا البخاخ الذي تستعمله لكونه يتبخر ولا يصل إلى المعدة فحينئذ نقول لا بأس أن تستعمل هذا البخاخ وأنت صائم ولا تفطر بذلك؛ لأنه كما قُلنا لا يدخل منه إلى المعدة أجزاء؛ لأنه شيء يتطاير ويتبخر ويزول ولا يصل منه جرم إلى المعدة حتى نقول إن هذا مما يوجب الفطر فيجوز لك أن تستعمله وأنت صائم ولا يبطل الصوم بذلك.
الكلام السوء ينقص أجر الصائم
سؤال: هل تحدُّث المرء بكلام حرام في نهار رمضان يفسد صومه (1) ؟
(أحمد سعيد- صنعاء)
الفتوى: إذا قرأنا قوله تعالى: (يا أَيّها الذِينَ آمنُوا كتبَ علَيكَمُ الصيَام كما
__________
(1) المسلمون عدد (15) .(3/270)
كتبَ عَلَى الَّذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَقون) [البقرة: 183] .
عرفنا ما هي الحكمة من إيجاب الصوم وهي التقوى والتعبد لله سبحانه وتعالى. والتقوى وهي ترك المحارم وهي عند الإطلاق تشمل فعل المأمور به وترك المحظور وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم يدع قول الزّور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه".
وعلى هذا يتأكد على الصائم اجتناب المحرمات، من الأقوال والأفعال فلا يغتاب الناس ولا يكذب ولا ينم بينهم ولا يبيع بيعًا محرَّمًا، ويجتنب جميع المحرمات، وإذا فعل الإنسان ذلك في شهر كامل فإن نفسه سوف تستقيم بقية العام. ولكن المؤسف أن كثيرًا من الصائمين لا يُفرقون بين صومهم وفطرهم فهم على العادة التي هم عليها من الأقوال المحرمة من كذب وغش وغيره. ولا تشعر أن عليه وقار الصوم وهذه الأفعال لا تُبطل الصوم ولكن تُنقص من أجره، وربما عند المعادلة تُضيِّع أجر الصوم كله. والله المستعان.
دهان الوجه واليدين بالمستحضرات الطبية هل يفسد الصوم؟
سؤال: هل دهان الوجه واليدين بالمستحضرات الطبية الحديثة أثناء الصيام بالنسبة للمرأة ممنوع في الدين؟
الفتوي: إنه ليس على المرأة إذا دهنت وجهها بما يُجمِّله أو لا يجمله، المهم أن الدُّهون هذه بجميع أنواعها سواء في الوجه أو في الظهر أو في أي مكان لا تؤثر على الصائم ولا تُفطره.
استعمال التحاميل في نهار رمضان
سؤال: ما حكم استعمال التحاميل في نهار رمضان إذا كان الصائم مريضًا؟
الفتوى: لا بأس بها، لا بأس أن يستعمل الإنسان التحاميل التى تكون من دبره إذا كان مريضًا؛ لأن هذا ليس أكلاً ولا شربًا ولا بمعنى الأكل(3/271)
والشرب، والشارع إنما حرم علينا الأكل والشرب فما قام مقام الأكل والشرب أعطي حكم الأكل والشرب، وما ليس كذلك فإنه لا يدخل فيه لفظا ولا معنى فلا يثبت له حكم الأكل والشرب.
استعمال الروائح العطرة في نهار رمضان
سؤال: ما حكم استعمال الصائم الروائح العطرية في نهار رمضان (1) ؟
(سامح مصطفى- البحرين)
الفتوى: لا بأس أن يستعملها في نهار رمضان، وأن يستنشقها إلا البُخُور لا يستنشقه؛ لأن له جُرمًا يصل إلى المعدة وهو الدخان.
الحناء لا تفطر الصائم
سؤال: هل يجوز وضع الحناء للشعر أثناء الصيام والصلاة لأني سمعت بأن الحناء تفطر الصائم (2) ؟
الفتوى: هذا أيضًا لا صحة له فإن وضع الحناء أثناء الصيام لا يفطر ولا يؤثر على الصائم شيئًا كالكحل، وكقطرة الأذن وكالقطرة في العين فإن ذلك كله لا يَضُرّ الصائم ولا يفطره.
وأما الحناء أثناء الصلاة فلا أدري كيف يكون هذا السؤال إذ أن المرأة التي تصلي لا يمكن أن تتحنا. ولعلها تريد أن الحناء هل يمنع صحة الوضوء إذا تحنت المرأة؟ والجواب أن ذلك لا يمنع صحة الوضوء؛ لأن الحناء ليس له جرم يمنع وصول الماء، وإنما هو لون فقط، والذي يؤثر على الوضوء هو ما كان له جسم يمنع وصول الماء، فإنه لابد من إزالته حتى يصح الوضوء.
* * *
__________
(1) المسلمون عدد (15) .
(2) فتاوى نور على الدرب.(3/272)
شرب الدخان حرام ومن المفطرات
سؤال: إذا كان الدخان ليس بطعام ولا شراب ولا يصل إلى الجوف فهل هو من المفطرات؟
الفتوى: فنقول له: إن شرب الدخان حرام عليك في رمضان وفي غير رمضان، وفي الليل وفي النهار، فاتق الله في نفسك، وأقلع عن هذا الدخان، واحفظ صحتك وأسنانك ومالك وأولادك ونشاطك مع أهلك حتى ينعم الله عليك بالصحة والعافية، وأما قوله إنه ليس بشراب فإني أقول له: هل يقال فلان يشرب الدخان؟ يقال: يشرب الدخان، وشرب كل شيء بحسبه، فهذا شراب بلا شك، ولكنه شراب ضار مُحرَّم، ونصيحتي له ولأمثاله أن يتقي الله في نفسه وماله وولده وفي أهله؛ لأن كل هذه الأشياء يصحبها ضرر من تعاطي هذا الدخان، وأسأل الله سبحانه وتعالى له ولإخواننا المسلمين العصمة مما يُغضب الله، وبهذا تبين أن شرب الدخان يفطر الصائم مع ما فيه من الإثم.
القبلة والمداعبة في رمضان
سؤال: هل يجوز للصائم أن يقبل زوجته ويداعبها في الفراش وهو في رمضان؟
الفتوى: نعم يجوز للصائم أن يقبل زوجته ويُداعبها وهو صائم سواء في رمضان أو في غير رمضان، لكنه إن أمنى من ذلك فإنه صومه يفسد، فإن كان في نهار رمضان لزمه إمساك بقية اليوم ولزمه قضاء ذلك اليوم، وإن كان في غير رمضان فقد فسد صومه، ولا يلزمه الإمساك لكن إن كان صومه واجبًا وجب عليه قضاء ذلك اليوم، وإن كان صومه تطوعًا فلا قضاء عليه.
لا حرج على الصائم إذا تحرى ما يخفف صومه
سؤال: الصائم إذا سافر من بلده الحار إلى بلد بارد أو إلى بلد نهاره قصير هل يجوز له ذلك؟
الفتوى: لا حرج عليه في ذلك، إذا كان قادرًا على هذا الشيء فإنه لا(3/273)
حرج أن يفعل؛ لأن هذا من فعل ما يُخفِّف العبادة عليه، وفعل ما يخفف العبادة عليه أمر مطلوب، وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصب على رأسه الماء من العطش أو من الحر وهو صائم، وكان ابن عمر -رضي الله عنه- يبل ثوبه وهو صائم، وذكر عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن عنده حوضًا من الماء ينزل فيه وهو صائم، كل هذا من أجل تخفيف أعباء العبادة، وكلما خفت العبادة على المرء كان أنشط لفعلها، وفعلها وهو مطمئن مستريح، ولهذا نهى النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يُصلي الإنسان وهو حاقن أي: محصور بالبول، فقال -عليه الصلاة السلام-: "لا يصلي بحضرة الطعام، ولا وهو يدافع الأخبثين" كل ذلك من أجل أن يؤدي الإنسان العبادة وهو مستريح مطمئن مقبل على ربه وعلى هذا فلا مانع من أن يبقى الصائم حول المُكيف، وفي غُرفة باردة، وما أشبه ذلك.
النظر إلى النساء والمردان، هل يؤثر على الصوم؟
سؤال: النظر إلى النساء والأولاد المُرد هل يؤثر على الصيام؟
الفتوى: نعم، كل معصية فإنها تؤثر على الصيام؛ لأن الله تعالى إنما فرض علينا الصيام للتقوى (يا أَيُّها الَّذينَ آمنُوا كتب عَليكُم الصِّيَامُ كما كُتب عَلَى الذِينَ مِن قَبلِكم لَعَلَّكُم تَتَقُونَ) [البقرة: 183] ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم يدع قول الزور والجهل والعمل به فليسر لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه"، وهذا الرجل الذي ابتلي بهذه البلية نسأل الله أن يُعافيه منها، هذا لا شك أنه يفعل المحرم فإن النظر سهم من سهام إبليس -والعياذ بالله- وكم من نظرة أوقعت في قلب صاحبها البلابل فصار -والعياذ بالله- أسيرًا لها كم من نظرة أثرت على قلب الإنسان حتى أصبح أسيرًا في عشق الصور، ولهذا يجب على الإنسان إذا ابتلي بهذا الأمر أن يرجع إلى الله عز وجل بالدعاء بأن يُعافيه منه، وأن يعرض عن هذا ولا يرفع بصره إلى أحد من النساء أو أحد من المُرد، وهو مع الاستعانة بالله تعالى واللجوء إليه وسؤال العافية من هذا الداء سوف يزول عنه إن شاء الله تعالى.(3/274)
خروج المني في نهار رمضان
سؤال: رجل عنده سلس البول فأراد أن يجفف ذكره فخرج منه مني في نهار رمضان؟
الفتوى: إذا كان هذا الذي خرج منه شهوة إذا حاول أن يُفرغ البول من
المكان فحصلت عنده شهوة فأنزل، فإن صومه يفسد؛ لأن إنزال المني بشهوة بفعل من الصائم من المفطرات أما إذا كان هذا بغير شهوة فإن صومه صحيح ولا قضاء عليه.
تطاير الحبوب عند الطحن لا يفسد الصوم
سؤال: فيمن يطحن الحبوب إذا تطاير إلى حلقه شيء من جرَّاء ذلك وهو صائم؟
الفتوى: إنه لا يجرح صومهم وصومهم صحيح؛ لأن تطاير هذه الأشياء بغير اختيارهم وليس لهم قصد في وصولها أجوافهم وأحب بهذه المناسبة أن أبين أن المفطرات التي تُفطر الصائم من الجماع والأكل والشرب وغيرها لا يفطر بها الصائم إلا بثلاثة شروط:
أولاً: أن يكون عالماً فإن لم يكن عالما لم يفطر لقوله تعالى: (وَلَيس عليكَم جناح فيما أَخطَأتم به وَلَكن مَّا تعمدَت قُلُوبكم) [لأحزاب: 5] ، ولقوله: (ربنَا لا تؤَاخذنَا إن نَّسينَا أو أَخطَأنَا) [البقرة: 286] . فقال الله: فقد فعلت ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه" والجاهل مخطئ ولو كان عالما ما فعل فإذا فعل شيئًا من المفطرات جاهلاً فلا شيء عليه وصومه تام وصحيح سواء كان جهله في الحُكم أم بالوقت مثال جهله بالحكم: أن يتناول شيئًا من المُفطرات يَظُنُّ أنه لا - يفطر كما لو احتجم يظن أن الحجامة لا تُفطر فنقول: صومك صحيح ولا شيء عليك إلى غير ذلك من الأمور التي تقع للمرء بغير اختياره فإنه لا حرج عليه، ولا يُفطر بذلك لما ذكرنا، والخلاصة أن(3/275)
جميع المفطرات لا يفطر بها الإنسان إلا بشروط ثلاثة: أن يكون عالما، ثانيًا: ذاكرًا، ثالثًا: مُختارًا. والله أعلم.
استرخاء الصائم المرهق ونومه
سؤال: أقضي نهاري في رمضان نائمًا أو مسترخيًا حيث لا أستطيع العمل لشدة شعوري بالجوع والعطش، فهل يؤثر ذلك في صحة صيامي؟
(علي أحمد محمد - مصر)
الفتوى: هذا لا يؤثر على صحة الصيام، وفيه زيادة أجر لقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة: "أجرك على قدر نصبك" فكلما زاد تعب الإنسان زاد أجره، وله أن يفعل ما يخفف العبادة عليه كالتبرد بالماء والجلوس في المكان البارد.
لا بأس بالسباحة للصائم
سؤال: ما حكم السباحة في البحر أو في البرك في نهار رمضان؟
الفتوى: نقول: لا بأس للصائم أن يسبح في البحر أو في البرك سواء كانت البركة عميقة أو غير ذلك فإنه يسبح كما يريد وينغمس بالماء، ولكن يحرص أن لا يتسرب الماء في جوفه بقدر ما يستطيع وهذه السباحة تنشط الصائم وتعينه على صومه، وما كان منشطا على طاعة الله فإنه لا يُمنع؛ لأنه مما يخفف العبادة على العابد ويُيَسرها عليه، وقد قال الله تبارك وتعالى في معرض آيات الصوم: (يرِيدُ الله بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العسرَ وَلِتكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا
الله عَلَى مَا هَدَاكم) [البقرة: 185] . والنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن هذا الدين ليسر، ولن يُشادَّ هذا الدين أحد إلا غلبه" فلا بأس أن يسبح في البركة كما أنه لا بأس أن يتسبح من الدش وغيره، والله أعلم.
* * *(3/276)
التمضمض من شدة الحر لا يفطر الصائم
سؤال: التمضمض من شدة الحر هل يفسد الصوم؟
الفتوى: جوابنا على هذا السؤال: لا يفسد صومه بذلك لأن الفم في حكم الظاهر ولو لم يكن الفم في الظاهر ما كان غسله واجبًا في الوضوء ثم إن هذا أعني المضمضة بالماء إذا يبس الفم من شدة الحر مما ييسر الصوم ويسهله فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كَانَ يَصُبُّ الماء عَلى رَأسِهِ مِنْ شدَّة العَطَش، مِنْ شدَة الحَر. وكان ابن عمر رضي الله عنه يبل ثوبه في صومه ويلبسه ليبرد على جسده وكان لأنس بن مالك حوض يملأه فيسبح فيه في الصوم كل هذا مما يدل على أن فعل ما يخفف على المرء جائز لا بأس به ولكن ليحذر هذا المتمضمض، ليحذر من أن تسرب الماء في جوفه في هذه الحال بدون اختياره فإنه ليس عليه في ذلك بأس والله أعلم.
سريان البنج في الجسم هل يفطر الصائم
سؤال: سريان البنج في الجسم هل يفطر وخروج الدم عند قلع الضرس؟
الفتوى: كلاهما لا يفطر ولكن لا يبلغ الدم الخارج من الضرس.
معجون الأسنان هل يكره للصائم؟
سؤال: معجون الأسنان للصائم وهل يقاس على السواك؟
الفتوى: جوابنا على هذا نقول السواك للصائم سنة في أول النهار وفي آخره. ولا أعلم حُجة مستقيمة لمن قال إنه يكره للصائم أن يتسوك بعد الزوال لأن الأدلة في مشروعية السواك عامة ليس فيها ما يدل على التفصيل وقد ذكر البخاري في صحيحه عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: "رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لا أُحصي يتوسك وهو صائم" لكنه ذكر معلقًا بصيغة التمريض وعلى هذا التسوك للصائم مشروع كما أنه مشروع لغيره أيضًا، وأما الفرشاة والمعجون للصائم فلا يخلو من حالتين: إحداهما أن يكون قويًا ينفذ إلى المعدة ولا يتمكن(3/277)
الإنسان من ضبطه فهذا محذور عليه ولا يجوز له استعماله لأنه يؤدي إلى إفساد الصوم وما أدى إلى المُحَرَّم فهو مُحَرم، وفي حديث لقيط بن صبرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: "بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا فاستثنى الرسول عليه الصلاة والسلام من المبالغة في الاستنشاق استثنى حالة الصوم لأنه إذا بالغ في الاستنشاق وهو صائم فإن الماء قد يتسرب إلى جوفه فيفسد بذلك الصوم فنقول له إذا كانت الفرشاة والمعجون قوية بحيث تنفذ إلى معدته فإنه لا يجوز له استعمالها في هذه الحال أو على الأقل نقول إنه يكره وأما إذا كانت ليس بتلك القوة ويمكنه أن يتحرَّز منها وهي الحالة الثانية فإنه لا حرج عليه باستعمالها لأن باطن الفم في حكم الظاهر ولهذا يتمضمض الإنسان بالماء ولا يضره ولو كان داخل الفم بحكم الباطن لكان الصائم يمنع أن يتمضمض.
السواك والطيب للصائم
سؤال: ما هي أقوال المذاهب الأربعة في السواك والطيب بالنسبة للصائم (1) ؟
الفتوى: أما الصواب فعندي منه عُلم وأما المذاهب الأربعة فليس عندي منها علم.
الصواب أن التسوك للصائم سنة في أول النهار وآخره، لعموم قول النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "السَّواك مَطهَرة للِفَم مَرضاة للرب" وقوله: "لولا أن أشُقّ على أُمتي لأمرتهُم بالسواك مع كل وضوء".
وأما الطيب فكذلك جائز للصَّائم في أول النهار وفي آخره، سواء كان الطيب بخورًا أو دهنًا أو غير ذلك، إلا أنه لا يجوز أن يستنشق البخور، لأن البخور له أجزاء محسوسة مشاهدة، إذا استنشق تصاعدت إلى داخل أنفه ثم إلى معدته ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقيط بن صبرة: "بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً".
__________
(1) فتاوى الحرم 1408 هـ.(3/278)
خروج الدم من الصائم هل يفطر؟
سؤال: خروج الدم من الصائم هل يفطر؟
الفتوى: النَّزيف الذي يحصل في الأسنان لا يُؤثر على الصوم ما دام يحترز من ابتلاعه ما أمكن لأن خروج الدم بغير إرادة الإنسان لا يعد مفطرًا ولا يلزم من أصابه ذلك أن يقضي، وكذلك لو رَعَف أنفه واحترز ما يمكنه عن ابتلاعه فإنه ليس عليه في ذلك شيء ولا يلزمه قضاء.
دواء الغرغرة هل يبطل الصوم
سؤال: هل يبطل الصوم باستعمال دواء الغرغرة؟
(مجدي هلال- الدوحة)
الفتوى: لا يبطل الصوم إذا لم يبتلعه لكن لا تفعله إذا إذا دعت الحاجة ولا تفطر به إذا لم يدخل جوفك شيء منه.
قبل فتاة أجنبية في رمضان هل يفسد صومه
سؤال: ما حكم من قبَّل فتاة أجنبية منه في رمضان، وهل يجب عليه القضاء (1) ؟
الفتوى: هذا الرجل الذي قبّل امرأة أجنبية منه لا شك أنه لم يأت بحكمة الصوم، لأن هذا الرجل فعل الزور، والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من لم يدع قول الزور والعلم به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه"، فإن فعل ذلك مكرهًا إياها على ذلك فقد اجتمع في حقه فعل الزور والجهل فصيامه في الحقيقة فاقد الحكمة ناقص الأجر بلا شك، ولكنه عند جمهور أهل العلم لا يفسد بمعنى أننا لا نلزمه بقضائه، وعلى مُقَدِّم السؤال أن ينصح الرجل الذي وقع منه
__________
(1) فتاوى الحرم 1408 هـ.(3/279)
هذا الأمر، وأن يأمره بالتوبة إلى الله عز وجل، فإن هذا الفعل مُحرَّم ويؤدي إلى أن يتعلق القلب بالمخلوقين، وينسى ذكر الله تعالى ويحصل بذلك الفتنة العظيمة.
الحقنة الشرجية للصائم هل تفطر
سؤال: ما حكم الحقنة الشرجية التي يحقن بها المريض وهو صائم (1) ؟
الفتوى: الحقنة الشرجية التي يحتقن بها المرضى ضد الإمساك اختلف فيها أهل العلم، فذهب بعضهم إلى أنها مفطرة بناءً على كل ما يصل إلى الجوف فهو مفطر، وقال بعضهم: إنها ليست مفطرة، وممن قال بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن هذا ليس أكلاً ولا شربًا ولا بمعنى الأكل والشرب.
والذي أرى: أن يُنظر إلى رأى الأطباء في ذلك، فإذا قالوا إن هذا كالأكل والشرب وجب إلحاقه به وصار مفطرًا، وإذا قالوا إنه لا يُعطي الجسم ما يعطي الأكل والشرب فإنه لا يكون مفطراً.
الحقن والإبر المغذية هل تفطر الصائم
سؤال: الحقنة في العضل أو الوريد هل تُفسد الصوم والإبر المغذية (2) ؟
الفتوى: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه أجمعين جوابنا على هذا أن نقول إنه لا يفسد الصوم إذا احتقن الإنسان بالإبر في وريده أو في عضلاته فإن صومه لا يفسد بذلك لأن هذا ليس بأكل ولا شرب ولا بمعنى الأكل والشرب والله تبارك وتعالى يقول للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكلِّ شيْءٍ وَهدى وَرَحْمَةً وَبشْرَى للْمُسْلِمِينَ) [النحل: 89] وكل شيء يحتاج الناس إليه لا سيما في عبادتهم العظيمة كالصوم فإن الشرع لابد أن بيبنه ولم يأت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفظ عام يدل على أن
__________
(1) (2) فتاوى الحرم 1408 هـ.(3/280)
الصائم لا يدخل إلى جوفه شيئًا من أي طريق وإنما جاء الأكل والشرب فيما يدخل إلى الجوف وعلى هذا فالإبر في العضلات أو في العرق لا تُفطر حتى لو أحس بطمعها في حلقه فإنه لا يفسد صيامه وإنما قال كثير من أهل العلم بأن الإبر المغذية التي يُستغنى بها عن الطعام والشَّراب هي التي تفطر الصائم لأنها بمعنى الأكل والشرب وهي التي إذا استعملها المرء لم يحتج معها إلى الطعام والشراب والشرع حكيم لا يفرق بين شيئين متماثلين بالمعنى وعلى هذا إذا ركب للإنسان إبر مغذية تغنيه عن الطعام والشراب فإنه يكون بذلك كالأكل والشرب ولا يصح له الصوم والغالب أن مثل هذه الإبر لا يحتاج إليها إلا إنسان مريض يباح له الفطر ولكننا نقول ذلك من أجل تبيين الحكم على أنه لقائل أن يقول: إن هذه الإبر أيضًا لا تفطر لأنه لا يحصل بها ما يحصل في الأكل والشرب من التلذذ والشهوة والتغذية الكاملة وملأ المعدة وهذا كله لا يحصل ولهذا تجد الذي يتغذي بها يكون معه شوق كبير إلى الأكل والشرب ويرى أنه لم يستغن بها عن الأكل والشرب ولا ندري فلعل الشرع عندما منع الأكل والشرب للصائم لا لأنه يتغذى به فقط -بل لأنه يتغذى به وينال به شهوته ولكن الاحتياط أن الإنسان لا يستعمل مثل هذه الإبر وهو صائم إلا في حال مرض يبيحُ له الفطر وحينئذ يفطر ويستعملها والله الموفق.
الإبر والحقن العلاجية في نهار رمضان
سؤال: هل الإبر والحقن العلاجية في نهار رمضان تؤثر على الصيام؟
الفتوى: الإبر العلاجية قسمان أحدهما: ما يقصد به التغذية ويستغنى به عن الأكل والشرب لأنها يمعناه فتكون مفطرة لأن نصوص الشرع إذا وجد المعنى الذي تشتمل عليه صورة من الصور حكم على هذه الصورة بحكم ذلك النص.
أما القسم الثاني: وهو الإبر التي لا تغذي يعني أي لا يستغنى بها عن الأكل والشرب فهذه لا تفطر لأنه لا ينالها النص لفظا ولا معنى فهي ليست أكلاً ولا شرابًا ولا بمعنى الأكل ولا الشرب، والأصل صحة الصيام حتى يثبت ما يفسده بمقتضى الدليل الشرعي.(3/281)
حقنة العروق وحقنة العضل هل تفطران؟
سؤال: حقنة العروق وحقنة العضل هل تفطران؟
الفتوى: جوابنا على هذا أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى بين في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يكون مفطرًا وما لا يكون والله تعالى أنزل الكتاب تبيانًا لكل شيء وهذا الذي حدث في الأزمان المتأخرة من هذه الحقن وإن كان أصلها غير موجود فيما سبق لكن الشرع يشتمل على حكمه فما كان بمعنى المنصوص عليه فله حكم المنصوص عليه وما لم يكن بمعناه فإنه لا يثبت له حكمه والذي فيه التفطير مما ذكر هو الأكل والشرب وهما عن طريق الفم وقد دل حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه الذي قال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا" على أن ما دخل من الأنف كالذي يدخل من الفم وما عدا ذلك فإن الأصل فيه عدم التفطير لأنه لو كان مفطرًا لبينه الله ورسوله، وعلى هذا فإنا نقول إن هذه الإبر أو الحقن كما قال السائل التي تكون في العضل أو تكون في العروق غير مفطرة لأنها ليست منصوصًا عليها ولا بمعنى المنصوص عليه والأصل في الصيام الصحة حتى يقوم دليل على الفطر ولا فرق في هذا بين أن يجد الإنسان طعم هذه الحقنة في حلقه أو لا يجده لأن ذلك ليس بمعنى المنصوص عليه وأما الحقن التي يستغني بها عن الطعام والشراب فقد سبق ذكرها في جواب السؤال العاشر.
هل الحجامة تفطر الصائم؟
سؤال: كيف نوفق بين حديث "أفطر الحاجم والمحجوم" وبين حديث "أنه احتجم وهو صائم"؟
الفتوى: نعم نوفق بينهما أن احتجام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو صائم لا يدري هل
هو قبل الحديث "أفطر الحاجم والمحجوم" أو بعده؟ وإذا كان لا يدري هو قبله
أو بعده فأيهما الناقل عن الأصل أفطر الحاجم والمحجم أو احتجم وهو صائم
نقول إذا كنا لا ندري فإننا نأخذ بالنص الناقل عن الأصل لأن النص الموافق(3/282)
للأصل ليس فيه دلالة جديدة إذ هو مبق على الأصل والأصل أن الحجامة تفطر أو لا تفطر؟ الأصل أن الحجامة لا تفطر فاحتجم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو صائم قبل أن يثبت حكم التفطير بالحجامة هذا أولاً.
ثانيًا: هل كان احتجام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو صائم صيامًا واجبًا أم صيام تطوع؟
لا ندري قد يكون صيامًا واجبًا وقد يكون صيام تطوع فإن كان صيام تطوع فلمن صام صوم تطوع أن يبطله فإذا احتجم فليس في هذا دليل على أن الحجامة لا تفطر لاحتمال أن يكون صومه تطوعًا ولا يمكن أن ندعي أن حديث ابن عباس ناسخ لأن من شرط النسخ العلم بتأخر الناسخ عن المنسوخ فإذا لم نعلم لم يجز لنا أن نقول بالنسخ لأن النسخ ليس بالأمر الهين، النسخ معناه أن تبطل نصا من الشرع بنص آخر بل لابد أن نتحقق أن هذا النص المتقدم نسخ بالنص المتأخر.
هل صحيح هذا الحديث في الحجامة
سؤال: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفطر الحاجم والمحجوم" هل هو صحيح وما معناه؟ الكلام عن الدم؟
الفتوى: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين جوابنا على هذا أن نقول: إن هذا الحديث صحيح صحّحه الإمام أحمد وغيره ومعناه أن الصائم إذا حجم غيره أفطر وإذا حجّمه غيره أفطر وذلك أن الحجامة فيها حاجم ومحجوم فالمحجوم الذي استخرج الدم منه والحاجم الذي استخرج الدم فإذا كان الصوم واجبًا فإنه لا يجوز للصائم أن يحتجم لأنه يستلزم الإفطار من صوم الواجب عليه إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك بأن هاج به الدم وشق عليه فإنه لا حرج أن يحتجم حينئذ ويعتبر نفسه مفطرًا يقضي هذا اليوم ويأكل ويشرب في بقيته لأن كل من أفطر لعذر شرعي يبيح الفطر فإنه يجوز أن يأكل في بقية يومه إذ أن هذا اليوم الذي أباح له الشارع الإفطار فيه ليس يومًا يجب عليه إمساكه في مقتضى أدلة الشرع ثم إنه بهذه المناسبة أود أن أذكر أن بعض الناس يُغالي في هذا الأمر حتى إن بعضهم يحصل به خدش يسير يخرج منه الدم اليسير فيظن أنه صومه بطل بهذا ولكن هذا الظن(3/283)
ليس بصحيح بل نقول إن خروج الدم إذا خرج بغير فعلك لا يؤثر عليك سواء كان كثيرًا أو قليلاً فلو فرض أن إنسانًا رعف أنفه فخرج منه دمٌ كثير فإنه لا يضرُّ أو كان به جرح فانفجر وخرج منه دمُ كثير فإنه لا يضر أو أصيب بحادث فخرج منه دم كثير فإنه لا يضره ولا يفطر به لأنه خرج بغير اختياره أما إذا أخرج الدم هو باختياره، فإن كان هذا الدم يستلزم ما تستلزمه الحجامة من ضعف البدن وانحطاط القوة فإنه يكون مفطرًا إذ أنه لا فرق بينه وبين الحجامة في المعنى وإن كان الدم يسيرًا لا يتأثر به الجسم فإنه لا يضر ولا يفطر مثل أن يخرج منه الدم من أجل اختباره أو نحوه فإنه لا يضره ولا يفطر به على كل إنسان أن يكون عارفًا بحدود ما أنزل الله على رسوله ليعبد الله على بصيرة والله الموفق" (1) .
حكم الاغتسال للجنابة بعد طلوع الفجر للصائم
سؤال: الاغتسال للجنابة بعد طلوع الفجر للصائم ما حكمه؟
الفتوى: نقول: حكمه جائز وصيامه لذلك اليوم مقبول وذلك لأنه لا حرج على المرء أن يدخل في الصيام وعليه جنابة حتى لو طلع الفجر وهي عليه ثم اغتسل بعد طلوع الفجر فإنه لا حرج عليه في ذلك فقد "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم ويستمر في صيامه" وما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه لا شك في جوازه لأن لنا فيه أسوة حسنة وأن ما فعله فالأمة فيه تبع له إلا ما قام الدليل أنه خاص به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه يختص به والله أعلم.
الاحتلام في نهار رمضان
سؤال: فيمن احتلم في نهار رمضان؟
الفتوى: على ذلك نقول: صيامه صحيح فإن الاحتلام لا يبطل الصوم لأنه بغير اختياره وقد رفع القلم عنه في حال نومه ولكن ينبغي للإنسان أن يستوعب يوم الصوم بالذكر وقراءة القرآن وطاعة الله سبحانه وتعالى وأن لا يفعل كما يفعله كثير من الناس يسهرون في لياليهم في ليالي رمضان ربما يسهرون على
__________
(1) انظر رأي جمهور أهل العلم في الحجامة للصائم في موضعها من فقه الصوم.(3/284)
أمر لا ينفعهم ويضرهم وإذا كان في النهار يستغرقون النهار كله بالنوم فإن هذا لا ينبغي بل الذي ينبغي أن يجعل الإنسان صيامه محلاً للطاعات والذكر وقراءة القرآن وغير هذا مما يقرب من الله تبارك وتعالى والله أعلم.
***
الصائم والأذان والإمساك والسحور
هل يلزم الصائم الإمساك من حين سماع النداء؟
سؤال: هل يلزم الصائم أن يمسك من حين يسمع النداء أو إلى أن ينتهي المؤذن؟
الفتوى: جوابنا على هذا السُّؤال الذي يقول فيه صاحبه أن يمسك من حين أن يسمع المؤذن مؤذن الفجر أو يجوز له أن يأكل ويشرب حتى ينتهي من الأذان جوابنا على هذا أن نقول: أيُّها السائل إن الحكم لم يجعل مرتبا على الأذّن بل هو مرتب على طلوع الفجر فمتى طلع الفجر وجب على المرء الإمساك سواء أذّن أم لم يؤذن ولو لم يطلع الفجر فإنه لا يجب الإمساك سواء أذّن أو لم يؤذن لقوله تعالى: (فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة: 187] وفي قوله تعالى (حتى يتبين) دليل على أنه يجوز للمرء أن يأكل ويشرب مع الشك في طلوع الفجر وذلك لأن الأصل بقاء الليل وما كان هو الأصل فإنه لا ينتقل عنه إلا بيقين وإذا علم أن هذا المؤذن لا يؤذن إلا حينما يطلع الفجر فعليه أن يمسك بمجرد سماعه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر" وعلى هذا إذا علمت أن المؤذن حريص على مراقبة الوقت وأنه لا يتسرع فإنه يجب عليك بمجرد سماعه أن تمسك أما إذا كنت تشك في هذا الأمر فإنه يجوز لك أن تأكل وتشرب.(3/285)
الأكل والشرب بعد الأذان
سؤال: هل يجوز للإنسان أن يأكل ويشرب بعد الأذان (1) ؟
الفتوى: إذا كان المؤذن لا يؤذن إلا بعد طلوع الفجر فإنه لا يجوز الأكل بعده لقوله الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة: 187] ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر".
أما إذا كان المؤذن يؤذن بالتحري وليس يشاهد الفجر فإن الاحتياط ألا تأكل إلا بعد سماع الأذان، ولكن الجزم بأن هذا -الأكل بعد الأذان المبني على التحرى- الجزم بأن صومه فاسد غير مُستطاع لدي، لأن الفجر لم يتبين تبينًا يمتنع معه الأكل، لكن لا شك أن الاحتياط أن يتوقف الإنسان إذا سمع أذان الفجر.
لا شيء عليه لأنه أفطر بعد الغروب
سؤال رجل عقد الصيام في مكة، حصل له ظرف فخرج إلى الطائف، وأفطر على أذان مكة من الراديو فهل عليه شيء (1) ؟
الفتوى: إذا أفطر على أذان مكة وهو في الطائف، فقط أفطر بعد الغروب، ولا شيء عليه، لأن الطائف أسبق في الغروب من مكة.
لا يلزمه الإفطار
سؤال: من ركب الطائرة وقد غربت الشمس فأفطر ثم رآها بعد إقلاع الطائرة فهل يمسك؟
الفتوى: جوابنا على هذا أنه لا يلزمهم الإمساك لأنه حان وقت الإفطار وهم في الأرض فقد غربت الشمس وهم في مكان غربت منه وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر
__________
(1) فتاوى الحرم 1408 هـ.(3/286)
الصائم" فإذا كانوا قد أفطروا فقد انتهى يومهم وإذا انتهى يومهم فإنه لا يلزمهم الإمساك إلا في اليوم الثاني وعلى هذا فلا يلزمهم الإمساك في هذه الحالة لأنهم أفطروا بمقتضى دليل شرعي فلا يلزمهم الإمساك إلا بدليل شرعي.
حكم من أكل أو شرب ناسيا
سؤال: ما حكم من أكل أو شرب ناسيًا وهل يجب على من رآه يأكل ويشرب ناسيًا أن يذكره بصيامه (1) ؟
(إسلام محمد إسماعيل علي - الدمام)
الفتوى: من أكل أو شرب ناسيًا وهو صائم فإن صيامه صحيح لكن إذا تذكر يجب عليه أن يقطع حتى إذا كانت اللقمة أو الشربة في فمه فإنه يجب عليه أن يلفظها ودليل تمام صومه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما ثبت عنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه".
ولأن النسيان لا يؤاخذ المرء عليه لقوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) [البقرة: 286] . فقال الله تعالى قد فعلت.
أما من رآه فإنه يجب عليه أن يذكره لأن هذا من تغيير المنكر وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه".
ولا ريب أن أكل الصائم وشربه حال صيامه من المنكر ولكن يعفى عنه حال النسيان لعدم المؤاخذة أما من رآه فإنه لا عذر له في ترك الإنكار عليه.
***
__________
(1) المسلمون عدد (15) .(3/287)
إذا أفطر لعذر وزال العذر في نفس النهار هل يواصل أم يمسك؟
سؤال: إذا أفطر لعذر وزال العذر في نفس النهار فهل يواصل الفطر أم يمسك؟
الفتوى: إنه لا يلزمه الإمساك لأن هذا الرجل استباح هذا اليوم بدليل من الشرع فحرمة هذا اليوم غير ثابتة في حق هذا الرجل ولكن عليه أن يعيده وإلزامنا إياه أن يمسك بدون فائدة له شرعًا ليس بصحيح ومثال ذلك رجل رأى غريقًا في الماء وقال إن شربت أمكنني إنقاذه وإن لم أشرب لم أتمكن من إنقاذه فنقول اشرب وانقذه فإذا شرب وأنقذه فهل يأكل بقية يومه؟ نعم يأكل بقية الإمساك ولهذا لو كان عندنا إنسان مريض هل نقول لهذا المريض: لا تأكل إلا إذا جُعت ولا تشرب إلا إذا عطشت؟ لا. لماذا؟ لأن هذا المريض أبيح له الفطر فكل من أفطر في رمضان بمقتضى دليل شرعي فإنه لا يلزمه الإمساك والعكس بالعكس لو أن رجلاً أفطر بدون عذر وجاء يستفتينا: أنا أفطرت وفسد صومي هل يلزمني؟ قلنا يلزمك الإمساك لأنه لا يحل لك أن تُفطر فقد انتهكت حرمة اليوم بدون إذن من الشرع فنلزمك بالبقاء على الإمساك وعليك القضاء لأنك أفسدت صومًا واجبًا شرعت فيه.
بلاد يتأخر فيها الغروب كيف يفطر أهلها
سؤال: نحن في بلاد لا تغرب الشمس فيها إلا الساعة التاسعة والنصف مساء أو العاشرة فمتى نفطر (1) ؟
(حاتم يوسف زكي - سوداني بلندن)
الفتوى: تفطرون إذا غربت الشمس فما دام لديك ليل ونهار في 24 ساعة فيجب عليكم الصوم ولو طال النهار.
***
__________
(1) جريدة المسلمون عدد (15) .(3/288)
حكم الذين يتقدمون في الأذان في رمضان
سؤال: ما حكم الذين يتقدمون في الأذان في رمضان؟
الفتوى: الذين يتقدمون في الأذان في أيام الصوم يتسرعون في أذان الفجر يزعمون أنهم يحتاطون بذلك الصيام وهم في ذلك مخطئون لسببين:
السبب الأول: أن الاحتياط في العبادة هو لزوم ما جاء به الشرع والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر" ما قال حتى يقرب طلوع الفجر، إذا فالاحتياط للمؤذنين: أن لا يؤذنوا حتى يطلع الفجر.
السبب الثاني: قد أخطأ هؤلاء المؤذنون الذين يؤذنون للفجر قبل طلوع الفجر وزعموا أنهم يحتاطون لأمر احتياطهم فيه. غير صحيح لكنهم يفرطون في أمر يجب عليهم الاحتياط له وهو صلاة الفجر فإنهم إذا أذنوا قبل طلوع الفجر صلى الناس وخصوصًا الذين لا يصلون في المساجد من نساء أو معذورين عن الجماعة صلاة الفجر وحينئذ يكون أداؤهم لصلاة الفجر قبل وقتها وهذا خطأ عظيم لهذا أوجه النصيحة لإخواني المؤذنين أن لا يؤذنوا إلا إذا تبين الصبح وظهر لهم فإذا ظهر لهم سواء شاهدوا بأعينهم أو علموه بالحساب الدقيق فإنهم يؤذِّنون وينبغي للمرء أن يكون مستعدًا للإمساك قبل الفجر خلاف ما يفعله بعض الناس إذا قرب الفجر جدًا قدم سحوره زاعمًا أن هذا هو أمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتأخير السحور ولكن ليس هذا بصحيح فإن تأخير السحور إنما ينبغي إلى وقت يتمكن الإنسان فيه من التسحر قبل طلوع الفجر والله أعلم.
أيهما أتبع مؤذن الحي أم إعلان المذياع؟
سؤال: في أحد أيام رمضان أعلن المذيع في الإذاعة أن أذان المغرب بعد دقيقتين وفي اللحظة نفسها أذن مؤذن الحي فأيهما أولى بالاتباع (1) ؟
الفتوى: إذا كان المؤذن يؤذن عن مشاهدة وهو ثقة فإننا نتبع المؤذن لأنه
__________
(1) المسلمون عدد (15) .(3/289)
يؤذن عن واقع محسوس وهو مشاهدته غروب الشمس، أما إذا كان يؤذن على ساعة ولا يرى الشمس فالغالب على الظن أن إعلان المذيع هو أقرب للصواب لأن الساعات تختلف وبعض الناس لا يهتم بمراعاة ساعته ولأن التأخر في مثل هذه الحال أولى لأنه أحوط.
هل يتابع الصائم المؤذن في الأذان أم يستمر في فطره
سؤال: هل هناك دعاء مأثور عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند وقت الإفطار وما هو وقته؟ وهل يتابع الصائم المؤذن في الأذان أم يستمر في فطره؟
الفتوى: نقول إن وقت الإفطار موطن إجابة للدعاء لأنه في آخر العبادة ولأن الإنسان أشد ما يكون غالبًا من ضعف النفس عند إفطاره وكلما كان الإنسان أضعف نفسًا وأرق قلبًا كان أقرب إلى الإنابة والإخبات إلى الله عز وجل والدُّعاء المأثور "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت" ومنه أيضًا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله" وهذان الحديثان وإن كان فيهما ضعف لكن بعض أهل العلم حسنهما، وعلى كل حال فإذا دعوت بذلك أو بغيره عند الإفطار فإنه موطن إجابة وأما إجابة المؤذن وأنت تفطر فنعم مشروعة لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول" يشمل كل حال من الأحوال إلا ما دل الدليل على استثنائه والذي دل الدليل على استثنائه إذا كان يصلي وسمع المؤذن فإنه لا يجيب المؤذن لأن في الصلاة شغلاً كما جاء به الحديث على أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله عليه- يقول: إن الإنسان يجيب المؤذن ولو كان في الصلاة لعموم الحديث ولأن إجابة المؤذن ذكر مشروع ولو أن الإنسان عطس وهو يصلي يقول: الحمد لله. ولو بشر بولد أو بنجاح ولد وهو يصلي يقول: الحمد لله. نعم يقول: الحمد لله ولا بأس وإذا أصابك نزغ من الشيطان وفتح عليك باب الوساوس فتستعيذ بالله منه وأنت تصلي، لذا نأخذ من هذا قاعدة وهو أن كل ذكر وجد سببه في الصلاة فإنه يقال: لأن هذه الحوادث يمكن أن نأخذ منها عند التتبع قاعدة لكن مسألة إجابة المؤذن -وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول بها- أنا في نفسي منها شيء. لماذا؟ لأن إجابة المؤذن(3/290)
طويلة توجب انشغال الإنسان في صلاته انشغالاً كثيرًا والصلاة لها ذكر خاص لا ينبغي الشغل عنه.
فنقول إذا كنت تفطر وسمعت الأذان تجيب المؤذن بل قد نقول: إنه يتأكد عليك أكثر لأنك تتمتع الآن بنعمة الله وجزاء هذه النعمة الشكر ومن الشكر إجابة المؤذن فتجيب المؤذن -ولو كنت تأكل- ولا حرج عليك في هذا وإذا فرغت من إجابة المؤذن فصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقل: "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت مُحمَّدا الوسيلة والفضيلة وابعثُه مقامًا محمُودًا الذي وعدته إنك لا تُخلف الميعاد".
لا يمسك عن الطعام حتى نهاية الأذان
سؤال: يحدث ومن عدة سنوات أنهم لا يمسكون عن الطعام حتى نهاية الأذان، فما حكم عملهم هذا (1) ؟
الفتوى: الأذان لصلاة الفجر إما أن يكون بعد طلوع الفجر أو قبله، فإن كان بعد طلوع الفجر فإنه يجب على الإنسان أن يمسك بمجرد سماع النداء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر" فإذا كنت تعلم أن هذا المؤذن لا يؤذن إلا إذا طلع الفجر، فأمسك بمجرد أذانه، أما إذا كان المؤذن يؤذن بناء على ما يعرف من التوقيت أو بناء على ساعته، فإن الأمر في هذا أهون.
وبناء على هذا نقول لهذا السائل: إن ما مضى لا يلزمكم قضاؤه، لأنكم لم تتيقنوا أنكم أكلتم بعد طلوع الفجر، لكن في المستقبل ينبغي للإنسان أن يحتاط لنفسه، فإذا سمع المؤذن فليمسك.
لا يفطر حتى يفطروا
سؤال: يقول السائل إذا بدأنا الصوم في المملكة العربية السعودية ثم سافرنا إلى بلادنا في شرق آسيا في شهر رمضان حيث يتأخر الشهر الهجري هناك يومًا فهل نصوم واحد وثلاثين يومًا وإن صاموا تسعة وعشرين يومًا فهل يفطرون أم لا؟
__________
(1) فتاوى الحرم 1408 هـ.(3/291)
الفتوى: إذا سافر الإنسان من بلد والتي صام فيها أول الشهر إلى بلد تأخر عندهم الفطر فإنه يبقى لا يفطر حتى يفطروا ونظير هذا لو سافر في يومه إلى بلد يتأخر فيه غروب الشمس فإنه يبقى صائمًا حتى تغرب الشمس ولو بلغ عشرين ساعة إلا إن أفطر من أجل السفر فله الفطر من أجل السفر وكذلك العكس لو سافر إلى بلد أفطروا قبل أن يتم الثلاثين فإنه يفطر معهم إن كان الشهر تامًا قضى يومًا وإن كان غير تام فلا شيء عليه. فهو يقضي إذا نقص الشهر وإذا زاد الشهر يتحمل الزيادة. والله أعلم.
بركة السحور
سؤال: يقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تسحروا فإن في السحور بركة" فما المقصود ببركة السحور (1) ؟
الفتوى: بركة السحور المراد بها البركة الشرعية والبركة البدنية أما البركة الشرعية منها امتثال أمر الرسول والاقتداء به وأما البركة البدنية فمنها تغذية البدن وقوته على الصوم.
شهادة الزور في رمضان
سؤال: هل يصح صيام رجل شهد الزور في رمضان (2) ؟
الفتوى: شهادة الزور من أكبر الكبائر وهي أن يشهد رجل بما لا يعلم أو بما يعلم بخلافه، ولا تبطل الصوم ولكنها تنقص أجره.
السحور بعد الفجر
سؤال: تحريت وقت الفجر قدر استطاعتي وظننت بقاء الليل فقمت للسحور فسمعت أثناء ذلك أذان الفجر فلفظت اللقمة ونويت الصوم فهل صومي صحيح (3) ؟
الفتوى: الصوم صحيح لأنه لم يأكل بعد أن تبين الفجر.
__________
(1) المسلمون عدد (15) .
(2) ، (3) جريدة المسلمون عدد (15) .(3/292)
القضاء والكفارة والإطعام
القضاء لمن لم يصم رمضان سنوات عديدة
سؤال: ما حكم المسلم الذي مضى عليه أشهر من رمضان يعني سنوات عديدة بدون صيام مع إقامة بقية الفرائض وهو بدون عائق عن الصوم أيلزمه القضاء إن تاب؟
الفتوى: الصحيح أن القضاء لا يلزمه إن تاب لأن كل عبادة موقتة بوقت إذا تعمد الإنسان تأخيرها عن وقتها بدون عذر فإن الله لا يقبلها منه وعلى هذا فلا فائدة من قضائه ولكن عليه أن يتوب إلى الله عز وجل ويكثر من العمل الصالح ومن تاب تاب الله عليه.
قضاء رمضان لمن أفطر أيامًا بغير عذر جهلاً منه بوجوب صيام الشهر
سؤال: هل يجب القضاء على من أفطر أيامًا من رمضان بغير عذر جهلاً منه بوجوب صيام الشهر؟ وما حكم من كان صيامه غير تعبدي، وإنما يرى الناس يصومون فيصوم معهم (1) ؟
الفتوى نعم يجب القضاء على ذلك الشخص الذي أفطر أيامًا من رمضان جهلاً منه بعدم وجوب صيام الشهر، وذلك لأن عدم علم الإنسان بالوجوب لا يسقط الواجب وإنما يسقط الإثم، فهذا الرجل ليس عليه إثم لما أفطره ولكن عليه القضاء. ثم إن كون الرجل يجهل أن صوم رمضان كله واجب. وهو عائش بين المسلمين بعيد جدًا، فالظاهر أن هذه مسالة فرضية، أما من كان حديث عهد بالإسلام فهذا ربما يجهل صيام كل الشهر.
أما جواب الفقرة الثانية، عن الرجل الذي كان يصوم لأنه يرى أن الناس يصومون فصام معهم فالظاهر أن هذا يصح صومه، لأنه يمسك بنية وهي أنه يفعل كما يفعله المسلمون، والمسلمون يفعلون ذلك تعبدًا لله عز وجل، لكن
__________
(1) فتاوى الحرم 1408 هـ.(3/293)
يجب أن يبين له أن الصوم عبادة وأن ترك الإنسان طعامه وشرابه وشهوته لابد أن يخلص فيه لله عز وجل، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: "يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي".
عمره 27 عامًا ولم يصم طول هذه المدة فهل عليه قضاء
سؤال: أنا شاب أبلغ من العمر 27 عامًا وكنت ضالاً ضلالاً بعيدًا وتبت إلى الله توبة نصوحًا ولله الحمد ولم أصم طوال هذه الفترة فهل يجب عليَّ القضاء؟
الفتوى: هذا الرجل الذي كان ضالاً كما وصف عن نفسه ثم منَّ الله عليه بالهداية نسأل الله تعالى له الثبات وأن يبقيه على ما كان عليه من هذا الانتصار على النفس وعلى الهوى والشيطان وهو من نعمة الله عليه ولا يعرف الضلال إلا من ابتلي به ثم هُدي إلى الإسلام فلا يعرف الإنسان قدر الإسلام إلا إذا كان يعرف الكفر ونقول لهذا الرجل: نُهنئُك بنعمة الله عليك بالاستقامة ونسأل الله تعالى أن يُثَبِّتَنَا وإيَّاك على الحق وما مضى من الطاعات التي تركتها من صيام وصلاة وزكاة وغيرها لا يلزمك قضاؤه الآن؛ لأن التوبة تجب ما قبلها فإذا تبت إلى الله وأنبت إليه وعملت عملاً صالحا فإن ذلك يكفيك عن إعادة هذه الأعمال وهذا أمر ينبغي أن تعرفه وهي أن القاعدة: أن العبادة المؤقَّتة بوقت إذا أخرجها الإنسان عن وقتها بلا عذر فإنها لا تصح مثل الصلاة والصيام لو تعمد الإنسان أن لا يصلي حتى خرج الوقت ثم جاء يسألنا هل يجب عليَّ القضاء قلنا له: لا يجب عليك ولو أن أحدًا ترك يومًا من رمضان لم يصمه وجاء يسألنا هل يجب على قضاء؟ نقول له: لا يجب عليك القضاء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
وأنت إذا أخرت العبادة الموقتة عن وقتها ثم أتيت بها بعد الوقت فإنك أتيت عملاً ليس عليه أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتكون باطلة، ولا تنفعك، ولكن لو قال قائل: رجل نسي الصلاة حتى خرج الوقت هل يقضيها؟ نقول: نعم تقضيها لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها" ولكن لو قلت لي: هذا الحديث يُعارض كلامك حيث قلتَ: إن الإنسان إذا ترك الصلاة(3/294)
متعمدًا لا يقضيها ووجه المعارضة أنه إذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألزم الناسي وهو معذور بقضائها فالمُتَعمد من باب أولى.
ولكننا نقول في الجواب: الإنسان المعذور يكون وقت الصلاة في حقه إذا زال عذره فهو لم يؤخر الصلاة عن الوقت ولهذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: " فليصلِّها إذا ذكرها" أما من تعمد ترك العبادة حتى خرج وقتها فقد أداها في غير وقتها المحدد فلا تُقبل منه.
من أخر القضاء حتى دخل رمضان التالي
سؤال: ما حكم من أخر القضاء حتى دخل رمضان التالي؟
الفتوى: تأخير قضاء رمضان إلى رمضان التالي لا يجوز على المشهور عند أهل العلم؛ لأن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان. وهذا يدل على أن لا رخصة بعد رمضان الثاني فإن فعل بدون عذر فهو آثم وعليه أن يُبادر القضاء بعد رمضان الثاني واختلف العلماء هل يلزمه مع ذلك إطعام أو لا يلزمه والصحيح أنه لا يلزمه إطعام؛ لأن الله عز وجل يقول: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] ، فلم يُوجب الله سبحانه وتعالى سوى القضاء.
قضاء رمضان لمن أخره لرمضان الثاني
سؤال: امرأة أفطرت أيامًا من رمضان الماضي، ثم قضتها في أواخر شعبان، وبقي عليها واحد لمجيء العادة إليها حتى دخل عليها رمضان الثاني، فماذا تفعل (1) ؟
الفتوى: يجب عليها أن تقضي ذلك اليوم الذي لم تتمكن من قضائه قبل دخول رمضان هذا العام، فإذا انتهى رمضان هذه السنة، قضت ما فاتها من
__________
(1) فتاوى الحرم 1408 هـ.(3/295)
رمضان العام الماضي، ولا حرج عليها إن كانت معذورة، فإن كانت غير معذورة فعليها الإثم مع القضاء، وليس عليها كفارة.
حكم من أفطر في رمضان بعذر حتى دخل رمضان آخر
سؤال: امرأة أفطرت في رمضان سبعة أيام وهي نفساء، ولم تقضي حتى أتاها رمضان الثاني وطافها من رمضان الثاني سبعة أيام وهي مرضع ولم تقضي بحجة مرض عندها فماذا عليها وقد أوشك دخول رمضان الثالث أفيدونا أثابكم الله (1) ؟
الفتوى: إذا كانت هذه المرأة -كما ذكرت عن- نفسها أنها في مرض ولا تستطيع القضاء فإنها متى استطاعت صامته؛ لأنها معذورة حتى ولو جاء رمضان الثاني، أما إذا كان لا عذر لها، وإنما تتعلل وتتهاون فإنه لا يجوز لها أن تؤخر قضاء رمضان إلى رمضان الثاني قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كان يكون عليَّ الصوم فما أستطيع أن أقضيَه إلا في شعبان" وعلى هذا فعلى المرأة هذه أن تنظر في نفسها إذا كان لا عذر لها فهي آثمة وعليها أن تتوب إلى الله، وأن تبادر بقضاء ما في ذِمَّتِها من الصيام، وإن كانت معذورة فلا حرج عليها ولو تأخرت سنة أو سنتين.
حكم من صام 6 أيام من شوال وعليه قضاء
سؤال: ما رأيكم فيمن يصوم 6 أيام من شوال وعليه قضاء؟
الفتوى: على ذلك من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام
رمضان ثم أتبعه بستٍّ من شوال كان كصيام الدهر"، إذا كان على الإنسان قضاء وصام الست هل صامها قبل رمضان أو بعد رمضان؟ نقول: هذا رجل صام رمضان أربعة وعشرين يومًا فبقي عليه ستة أيام إذا صام الستة من شوال قبل أن يصوم الستة القضاء فهل يقال إنه صام رمضان وأتبعه بست من شوال؟ لا ما
__________
(1) فتاوى نسائية.(3/296)
صام رمضان، إذ لا يقال صام رمضان إلا إذا أكمله، وعلى هذا فلا يثبت أجر صيام ستة من شوال لمن صامها وعليه قضاء من رمضان إلا إذا قضى رمضان ثم صامها.
حكم من جامع امرأته في نهار رمضان
سؤال: ما حكم من جامع امرأته في نهار رمضان؟
الفتوى: إن كان ممن يُباح له الفطر ولها، كما لو كانا مسافرين فلا بأس في ذلك حتى وإن كانا صائمين أما إذا كانا مما لا يحل له الفطر فإنه حرام عليه وهو آثم وعليه مع القضاء عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا وزوجته مثله إن كانت مُطاوعة أما إن كانت مكرهة فلا شيء عليها.
كفارة من جامع زوجته وهو صائم
سؤال: رجل جامع زوجته وهو صائم هل يجوز له أن يطعم ستين مسكينًا لكفارته؟
الفتوى: من جامع امرأته في نهار رمضان والصوم واجب عليه فعليه كفارة وهى عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، ولكن السؤال هل يجوز أن يطعم ستين مسكينًا؟ فنقول: إذا كان قادرًا على الصيام فإن عليه صيام شهرين متتابعين، فالرجل إذا عزم الشيء هان عليه أما إذا مَنَّى نفسه الكسل وتثاقل الشيء فإنه يصعب - عليه والحمد لله الذي جعل في هذه الد-نيا خصالاً نعملها تُسقط عنا عقاب الآخرة.
فنقول للأخ: صم شهرين متتابعين إذا كنت لا تجد رقبة واستعن بالله وإذا كان الوقت الآن حارًا والنهار طويلاً فلك فرصة أن تؤخره إلى أيام الشتاء لأنها أيام قصيرة والجو بارد والزوجة كالرجل إذا كانت مُطاوعة أما إذا كانت مكرهة ولم تتمكن من الخلاص فإن صيامها تام ولا كفارة عليها. ولا تقضي اليوم الذي جامعت فيه وهي مكرهة.(3/297)
الإطعام هل يجوز لغير المسلمين
سؤال: الإطعام هل يجوز لغير المسلمين وأقسام المريض في الصيام؟
الفتوى: جوابنا على هذا أولاً: لا بد أن نعرف أن المرض ينقسم إلى قسمين: مرض يُرجى بُرؤه مثل الأمراض الطارئة التي يرجى أن يشفى منها هذا حكمه كما قال الله تعالى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] ليس عليه إلا أن ينتظر البرء ثم يصوم فإذا قدر أنه استمر به المرض في هذه الحال ومات قبل أن يُشفى فليس عليه شيء؛ لأن الله أوجب عليه القضاء في أيام أخر وقد مات قبل إدراكها فهو كالذي يموت في شعبان قبل أن يدخل رمضان لا يقضي عنه.
والقسم الثاني: أن يكون المرض ملازمًا للمرء مثل مرض السرطان والعياذ بالله، ومرض الكلى ومرض السُّكر وما أشبهها من الأمراض الملازمة التي لا يرجى انفكاك المريض منها فهذه يفطر صاحبها في رمضان ويلزمه أن يُطعم عن كل يوم مسكينًا كالكبير والكبيرة اللذين لا يطيقان الصيام ينظران ويطعمان عن كل يوم مسكينًا، ودليل هذا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: 183، 184] . فكان هذا في أول الأمر على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ولكن الصيام خير له كما قال تعالى: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة: 184] ، فكان فيه التخيير بين الصيام والإطعام ثم وجب الصيام عينًا في قوله في الآية الثانية (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] ، فجعل الله تعالى الإطعام عديلاً للصيام إما هذا أو هذا أول الأمر فإذا لم يتمكن الإنسان من الصيام لا حال رمضان ولا ما بعده رجعنا إلى العديل الذي جعله الله معادلاً للصيام وهو الإطعام فيجب على المريض(3/298)
المستمر مرضه وعلى الكبير من ذكر وأنثى أن يُطعما عن كل يوم مسكينًا سواء أطعما بالتمليك بأن دفعا إلى الفقراء طعامًا أو كان بالإطعام بالدعوة يدعو مساكين بعدد أيام الشهر فيعشيهم كما "-كان أنس بن مالك -رضي الله عنه- يفعل حين كَبر صار يجمع ثلاثين مسكينًا فيعشيهم". ويكون ذلك بدلاً عن صوم الشهر وخلاصة الجواب: أن المرض على قسمين مرض يرجى زواله فيقضي، ومرض ملازم فيُطعم عن كل يوم مسكينًا، وأما إذا كان الإنسان في بلاد غير إسلامية ووجب عليه إطعام فإن كان في هذه البلاد مسلمون من أهل الاستحقاق أطعمهم وإلا فإنه يُصرفه إلى أي بلد من بلاد المسلمين التي تحتاج إلى هذا الإطعام، والله أعلم.
تصوم ولا فدية
سؤال: تزوجت امرأة وعليها صيام عشرة أيام من رمضان فهل أفدي لها -علمًا بأنها كانت ليست على ذمتي-، أم على والدها، وهي الآن حامل في الشهر الثامن، فهل تصوم (1) ؟
الفتوى: بسم الله الرحمن الرحيم. إذا ولدت فلتصم الأيام الثمانية التي عليها ولا فدية.
فدية المريض
سؤال: هل على المريض الذي لا يرجى برؤه صيام أم فدية، وإن كان فدية هل يجوز إخراجها مقدمًا؟ وهل تدفع لشخص واحد أم لعدة أشخاص؟ وإن حدث أن بريء من المرض فهل يجب عليه القضاء أم يسقط عنه القضاء (2) ؟
(محمود زكي الهواري - سلطنة عمان)
__________
(1) من رسالة للشيخ بخطه عليها توقيعه بتاريخ 2/10/1406 هـ.
(2) المسلمون عدد (15) .(3/299)
الفتوى: إذا بريء من المرض لا يلزمه الصيام؛ لأنه أدى ما يجب عليه وبرئت ذمته، وقد سبقت الإجابة على باقي نقاط السؤال.
مصاب بالصرع، ولم يصم شهر رمضان، فهل عليه القضاء أو الإطعام؟
سؤال: إني مصاب بمرض الصرع، ولم أتمكن من صوم شهر رمضان المبارك، وذلك لاستمراري على العلاج ثلاث أوقات يوميًا، وقد جربت صيام يومين، ولم أتمكن علمًا بأني متقاعد، وتقاعدي يصل إلى ثلاث وثمانين دينارًا شهريًا، وصاحب زوجة وليس لي أي وارد غير تقاعدي فما حكم الشرع في حالتي إذا لم أتمكن من إطعام ثلاثين مسكينًا خلال شهر رمضان. وما هو المبلغ الذي أدفعه (1) ؟
الفتوى: إذا كان هذا المرض الذي ألمَّ بك يرجى زواله في يوم من الأيام فإن الواجب عليك أن تنتظر حتى يزول هذا المرض ثم تصوم لقول الله تعالى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] أما إذا كان هذا المرض مستمرا لا يُرجى زواله فإن الواجب عليك أن تُطعم عن كل يوم مسكينا، ويجوز أن تصنع طعامًا غداء أو عشاء وتدعو إليه مساكين بعدد أيام الشهر وتبرأ ذمتك بذلك، ولا أظن أحدًا يعجز عن هذا إن شاء الله تعالى، ولا حرج عليك إذا كنت لا تستطيع أن تُطعم هؤلاء المساكين في شهر واحد لا حرج أن تطعم بعضهم في شهر، وبعضهم في شهر حسبما تقدر عليه.
***
__________
(1) فتاوى نور على الدرب.(3/300)
الاعتكاف
الاعتكاف وشروطه
سؤال: هل الاعتكاف في شهر رمضان سنّة مؤكدة؟ وما شروطه في غير رمضان؟ (1) .
(عاطف محمد علي يوسف - الرياض)
الفتوى: الاعتكاف في رمضان سُنة فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته واعتكف أزواجه من بعده وحكى أهل العلم إجماع العلماء على أنه مسنون ولكن الاعتكاف ينبغي أن يكون على الوجه الذي من أجله شرع وهو أن يلزم الإنسان مسجدًا لطاعة الله سبحانه وتعالى بحيث يتفرغُ من أعمال الدنيا إلى طاعة الله بعيدًا عن شئون دنياه ويقوم بأنواع الطاعة من صلاة وذكر وغير ذلك وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف ترقُّبا لليلة القدر والمعتكف يبعُد عن أعمال الد-نيا فلا يبيع ولا يشتري ولا يخرج من المسجد ولا يتَّبع جَنَازة ولا يعود مريضًا، وأما ما يفعله بعض النَّاس من كونهم يعتكفون ثم يأتي إليهم الزُّوار أثناء الليل وأطراف النهار وقد يتخلل ذلك أحاديث مُحَرَّمة فذلك مُنَاف لمقصود الاعتكاف.
ولكن إذا زاره أحد من أهله وتحدث عنده فذلك لا بأس به فقد ورد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن زَارته صفية وهو معتكف فتحدثت عنده. المهم أن يجعل الإنسان اعتكافه تقربًا إلى الله سبحانه وتعالى.
هل للمعتكف أن يقوم بتعليم أحد أو إلقاء درس
سؤال: هل يصح للمعتكف أن يقوم بتعليم أحد أو إلقاء درس؟ (2) .
الفتوى: الأفضل للمعتكف أن يشتغل بالعبادات الخاصة كالذِّكر والصلاة.
وقراءة القرآن وما أشبه ذلك، لكن إذا دعت الحاجة إلى تعليم أحد أو التَّعلم فلا بأس، لأن هذا من ذكر الله عز وجلَّ.
__________
(1) المسلمون عدد (15) .
(2) فتاوي الحرم (1408 هـ) .(3/301)
اعتكف وترك الوظيفة
سؤال: رجل معتكف وهو موظف، والدوام -أي نهاية العمل- في الوظائف إنما ينتهي في الخامس والعشرين من رمضان فما حكم ذلك؟ (1) .
الفتوى: لا شك أن هذا الذي اعتكف وترك ما يجب عليه من البقاء في الوظيفة، لا شك أنه مجتهد، ولكن الاجتهاد أيها الإخوة: إذا لم يكن مَبنيًا على قواعد شرعية، فإنه اجتهاد خاطيء، قد يُثَاب الإنسان عليه لكونه اجتهد وأراد الحق، لكن يجب أن يكون اجتهادنا مبنيًا على الكتاب والسُّنة.
فالذي ترك واجب الوظيفة، وجاء يعتكف، كالذي يهدم مصراً ويبني قصرًا؛ لأنه قام بشيء مستحب، ولم يقل أحد بوجوبه من المسلمين: فإن العلماء مجمعون على أن الاعتكاف لا يجب إنما هو سُنَّة.
وأما القيام بواجب الوظيفة، فإنه داخل في قوله تعالى: (يا أيها الذين امنوا أوفوا بالعقود) [المائدة:1] . وفي قوله: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) [الإسراء:34] . فهذا الرجل ترك واجبًا لفعل مستحب، ولهذا يجب عليه أن يقطع الاعتكاف، ويذهب إلى وظيفته، إذا كان يريد السَّلامة من الإثم.
فإن بقي في اعتكافه، فإنه يكون قد اعتكف في زمن مستحق لغيره وقواعد الفقهاء تقتضي أن اعتكافه لا يَصِحُّ في هذه الحال، لأنه في زمن مغصُوب أو يشبه المغصُوب.
ولقد أحببت أن أنَبِّه على ذلك لأجل أن يعرف الإخوة الحريصون على فعل الخير أنه لابد من مراعاة القواعد الشرعية والأدلة من كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من أجل أن يبني اجتهاده على حق، فيعبد الله على بصيرة.
***
__________
(1) فتاوى الحرم (1408 هـ) .(3/302)
مسائل تتعلق بالصوم
هل أصوم وأصلي عن والدي المتوفى
سؤال: أُصلِّي لأبي المُتَوَفَّى صلاة النافلة في الحرم هل يجوز ذلك والصدقة والصوم؟
الفتوى: نعم يجوز للإنسان أن يتصدق عن والده أو الدته أو أقاربه أو غيره هؤلاء من المسلمين ولا فرق بين الصدقات والصلوات والصيام والحج وغيرها ولكن السؤال الذي ينبغي أن نقوله: هل هذا من الأمور المشروعة وأن المشروع في حق الولد أن يدعو لوالده دعاء، إلا في الأمور المفروضة التي تدخلها النيابة فإنه يُؤدي عن والده ما افترض الله عليه ولم يؤده كما لو مات والده وعليه صيام فقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيه صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَليُّه" ولا فرق في ذلك بين أن يكون الصِّيام صيام فَرْض بأصْلِ الشَّرع كصيام رَمَضان أو إلزام الإنسان نفسه كما في صيام النَّذرَ. والله أعلم.
***
ما دخل الصوم بالصلاة
سؤال: يعيب بعض علماء المسلمين على المسلم الذي يصوم ولا يصلي، فما دخل الصلاة في الصيام، فأنا أريد أن أصوم لأدخل مع الداخلين من باب الريان، ومعلوم أن رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، أرجو التوضيح وفقكم الله؟ (1)
الفتوى: الذين عابوا عليك أنك تصوم ولا تُصَلِّي على صواب فيما عابوه عليك، وذلك لأن الصلاة عمود الإسلام، ولا يقوم الإسلام إلا بها، والتارك لها كافر خارج من ملة الإسلام، والكافر لا يقبل الله منه صِيامًا، ولا صدقة، ولا حجًا ولا غيرها من الأعمال الصالحة لقول الله تعالى: (وما منعهم أن تقبل
__________
(1) فتاوى الصيام.(3/303)
منهم نفقاتهم إِلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إِلا وهم كارهون) [التوبة: 54] . وعلى هذا فإذا كنت تصوم ولا تصلي، فإننا نقول لك: إن صيامك باطل غير صحيح، ولا ينفعك عند الله، ولا يقربك إليه. وأما ما تَوَهَّمْتَهُ من أن رمضان إلى رمضان مكَفِّرًا لما بينهما نقول لك: إنك لم تعرف الحديث الوارد في هذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ وَالجُمُعة إلى الجُمُعَة وَرَمَضَان مُكفَرِّات لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائر". فاشترط النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتكفير رمضان إلى رمضان أن تجتنب الكبائر، وأنت أيها الرجل الذي لا تُصَلِّي وتَصُوم لم تجتنب الكَبَائر، فأي كبيرة أعظم من ترك الصلاة، بل إن ترك الصلاة كفر، فكيف يُمكن أن يكفر الصِّيام عنك، فَتركُ الصَّلاة كفْرٌ. ولا يُقبلُ منك الصِّيام. فعليك يا أخي أن تتوب إلى ربك. وأن تقوم بما فرض الله عليك من صلاتك ثم بعد ذلك تصوم. ولهذا لما بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معاذًا إلى اليمن قال: "وليكُنْ أوَّل مَا تَدعُوهُم إلَيه شَهَادةُ أن لا إله إلا الله، وأن مُحمدًا رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أنَ الله افترض عليهم خمس صلوات لكل يوم وليلة" فبدأ بالصلاة ثم الزكاة، بعد ذكر الشهادتين.
***
التدرج في الصوم
سؤال: هل حدث تدرج في صيام رمضان كالأمر في تحريم الخمر؟ (1) .
(شذى قنديل محمد - أبها)
الفتوى نعم حصل تدرج فحين نزل الصوم كان من شاء صام ومن شاء أطعم ثم بعد ذلك صار الصوم واجبًا لقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) [البقرة: 185] .
__________
(1) المسلمون عدد (15) .(3/304)
التَدرج الآخر لهم أنهم كانوا إذا ناموا بعد الإفطار أو صلوا العشاء لا يحل لهم الأكل والشرب والجماع إلا عند غروب اليوم التالي ثم خفف عنهم قال تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] . فكانت المحظورات على الصائم إذا نام أو صلى العشاء ثم نسخ ذلك فكانت جائزة إلى أن يتبين الفجر.
***
كيف يكون الصيام درسًا للتقوى؟
كيف يكون الصيام درسًا للتقوى ووقاية من الشرور والآثام (1) ؟
الفتوى: إن الصوم التزام بكل الأخلاق الحميدة ودرس يفيد الإنسان.
هل يضاعف الصوم في الحرم
سؤال: هل يضاعف الصوم في الحرم كما في الصلاة؟
الفتوى: الصَّلاة في مكة أفضل من غيرها بلا ريب ولهذا ذُكِر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينما كان مُقيمًا في غزوة الحديبية كان في الحلَّ ولكن كان يُصَلِّي في الحرَّم أي داخل أميال الحرم وهذا يدل أن الصلاة في الحرم أي فيما دخل في الأميال أفضل من الصلاة في الحِل وذلك لِفَضل المكان وقد أخذ العلماء من هذه قاعدة قالوا فيها: إن الحسنات تُضَاعف في كل مكان وزمان فاضل، كما أن الحسنات تضاعف أيضًا باعتبار العامل كما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لاَ تَسُبُّوا أصْحَابِي فَوَالَّذي نَفْسي بِيَدِهِ لَوْ أن أحَدَكُم أ-نفَقَ مِثل أحدٍ ذَهبًا مَا بَلَغَ مُدِّ أحَدُهُم وَلا نَصيفه" إذًا فالعبادات تتضاعف باعتبار العامل وباعتبار الزمان وباعتبار المكان كما تتفَاضل أيضًا باعتبار نسبها وهيئتها وهذا أمر معلوم ولا يتسع المقام لبسطه
__________
(1) المسلمون العدد (15) .(3/305)
وشرحه ولكننا نقول: إن الصلاة في مكة أفضل من الصلاة في غيرها ونقول إن الصلاة في المسجد الحرام نفسه تتضاعف فتكون بمائة ألف صلاة فيما عداه وقد أخذ أهل العلم من ذلك أن الصِّيام يُضاعف في مكة ويكون أفضل من الصِّيام في غيرها وذلك لشَرف مكانه على أن الصِّيام إمساك وليس بعمل يحتاج إلى مكان ولا زمان سوى الزَّمان الذي شرع فيه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وقد ورد في حديث عن ابن ماجه بإسناد ضعيف أن: "مَنْ صَامَ رَمَضَان في مَكة وَقَامَ مِمَّا تَيَسَّر منْه كُتبَ لَهُ أجْرُ مائة ألف رَمَضان" وهذا إسناده ضعيف ولكن يُستأنسُ به ويدل على أن صَوم رَمَضانَ في مكة أفضَل من صَومٍ في غيرها.
صوم الوصال
سؤال: ما هو صوم الوصال وهل هو سُنَّة؟ (1) .
(أحمد محمود غريب - الفجيرة)
الفتوى: صوم الوصال أن لا يفطر الإنسان في يومين فيواصل الصيام يومين متتاليين وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه وقال: "مَنْ أرادَ أن يُوَاصِلَ فَليُوَاصِل إلى السحر" والمواصل للسحر من باب الجائز وليست من باب المشروع والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حث على تعجيل الفطر وقال: "لا يَزَالُ النَّاسُ بخَيْر مَا عَجَّلُوا الفطر" لكنه أباح لهم أن يواصلوا إلى السحر فقط فلما قالوا: يا رسول الله إنك تواصل فقال: "إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكمْ".
صوم النذر
سؤال: امرأة تسأل تقول: إنها نذرت أن تصوم شهر رجب من كل عام ثم كبرت بها السن وعجزت عن الصيام فماذا تفعل؟ (2) .
الفتوى: أولاً: أنصح جميع إخواني المسلمين بالبعد عن النذر لأن
__________
(1) المسلمون عدد (15) .
(2) فتاوى نسائية.(3/306)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن النذر وقال: "إنهُ لا يَأتِي بخَير وَإنَّما يُستَخْرَجُ به منَ البَخيل" وقد أشار الله عز وجل إلى النهي عنه في القرآن فقال تعالى: (وأَقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة) [النور: 53] فإذا كان كذلك فلا تنذر فإن نذرت فإن كان طاعة وجب عليك الوفاء به لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "مَنْ نَذَرَ أنْ يُطيعَ الله فَليُطعْه" سواء كان هذا النَّذر مَشُروطًا بشَرط حُصُول نِعمة أو اندِفاع نقمة أو كان نذَرًا مطلقًا، أرجو الانتباه: نذر الطاعة قد يكون مَشْرُوطا بحُصول نعمة أو اندفاع نقمة وقد يكون مُطلقا بلا شرط هذه ثلاثة أحوال، إذا قال قائل لله علي نذر أن أصوم غدًا. هذا نذر طاعة أم لا؟ نذر طاعة مطلق أو مقيد؟ مطلق -يعني ما له سبب، حسنًا إذا قال: إن نجحت في الامتحان فللَّه عليَّ نذر أن أصوم ثلاثة أيام- هذا مقيد بحصول مصلحة أو باندفاع نقمة؟ بحصول مصلحة إذا قال: إن شفى الله مريضي فللَّه عليَّ نذر أن أصوم شهرًا، هذا نذر طاعة مقيد باندفاع نقمة وهو المرض، وعلي هذا فنَذرُ الطاعة يجب الوفاء به، ولكن نذر شهر رجب نسأل هذه الناذرة لماذا خصّت شهر رجب بالنذر؟ إن قالت لأنني اعتقد أن تخصيص رجب بالصوم عبادة.
قلنا لها هذا نذر مكروه ولا يجب الوفاء به؛ لأن تخصيص رجب بالصوم مكروه -يعني يكره للإنسان أن يَخُصَّ رجب بذاته من بين سائر السنة-، أما إذا كانت نذرت شهر رجب لأنه الشهر الموالي لحُصُول الحادث لا لعينه فإنها تصومه فإن عجزت فإن النَّذر الواجب يحذى به حذو الواجب في أصل الشَّرع. وهنا سؤال مني لكم، لو قال قائل: لله عليَّ نذر أن ألبس هذا الثَّوب أيجب عليه أن يوفي نذره أم لا؟ الجواب لا يجب أن يوفي به لأن نذر المباح حكمه حكم اليمين فالآن إن شاء لبس الثوب ولا عليه شيء وإن شاء لم يلبس ووجب عليه أن يُكَفِّر كفارة يمين وهي إطعام عشرة مساكين أو كُسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة.
***(3/307)
الإسراف في مائدة الإفطار
سؤال: الإفراط في إعداد الأطعمة للإفطار هل يقلل من ثواب الصوم؟ (1) .
الفتوى: لا يُقَلِّل - من ثواب الصَّوم والفعل المُحرم بعد انتهاء الصوم لا يقلل من ثوابه ولكن ذلك يدخل في قوله تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إِنه لا يحب المسرفين) [الأعراف: 31] .
فالإسراف نفسه محظور والاقتصاد نصفُ المعيشة وإذا كان لديهم فضل فليتَصَدَّقوا به فإنه أفضل من الإفراط في إعداد الأطعمة.
***
الموت في رمضان
سؤال: يقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذَا جَاءَ رَمَضَان فتحَتْ أبْوَابُ الجَنَّة وَغُلِّقَت أبْوَابُ النار" هل معنى ذلك أن من يموت في رمضان يدخَل الجنة بغير حساب؟ (2) .
الفتوى: ليس الأمر كذلك بل معنى هذا أن أبواب الجنة تُفَتَّح تنشيطًا للعاملين ليتسَنَّى لهم الدَّخول وتُغلَق أبواب النار لأجل انكفَاف أهل الإيمان عن المعاصي حتى لا يلجوا هذه الأبواب وليس معنى ذلك أن من مات في رمضان يدخل الجنة بغير حساب إنما الَّذين يدخلون الجنة بغير حساب هم الَّذين وصفهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله: "هم الذين لا يَستَرقُونَ وَلا يَكتُوونَ ولاَ يَتَطَيَّرُون وَعَلَى ربِّهم يَتَوَكَلون".
***
__________
(1) المسلمون عدد (15) .
(2) المسلمون عدد (15) .(3/308)
مراتب الفرض ومراتب الفضل
سؤال: سمعت أن الصيام مراتب فما صحة هذا القول وهل لكل منها ثواب خاص بها؟ (1) .
الفتوى: إذا قصد بالمَرَاتب الفرض والنَّفل فهذا صحيح والفرض أفضل من النفل أما مَراتَب الفَضل والأجر عند الله باعتبار الصَّائمين فهنا يختلف اختلافًا كبيراً بحسب ما فعله الإنسان أثناء الصّوم من التزام بالأخلاق والأداب الإسلامية وعدم الالتزام بها وبِحَسْب ما يكون في قلبه من الإخلاص.
فوائد الصوم الاجتماعية
سؤال: هل للصوم فائدة اجتماعية؟
الفتوى: نعم له فوائد اجتماعية منها شُعُور النَّاس بأنهم أمة واحدة يأكلون في وقت واحد ويصومون في وقت واحد ويشعر الغني بنعمة الله ويعطف على الفقير ويقلل مزالق الشيطان لابن آدم. وفيه تقوى الله وتقوى الله تقوّي الأواصر بين أفراد المجتمع.
علامات ليلة القدر
سؤال: ما هي علامات ليلة القدر؟ (2) .
الفتوى: من علامات ليلة القدر أنها ليلة هادئة وأن المؤمن يَنشَرحُ صدره لها، ويطمئن قلبه، وينشط في فعل الخير، وأن الشَّمس في صباحها تطلع صافية ليس لها شعاع.
***
__________
(1) المسلمون عدد (15) .
(2) فتاوى الحرم (1408 هـ) .(3/309)
من فتاوى الشيخ محمد مخلوف مفتي مصر سابقًا (*)
[1] فدية الصوم عن المريض
سؤال: " طوخ - قليوبية" مرض رجل بالربو وأمره الأطباء بالإفطار في رمضان في العام السابق فأفطر بعض أيامه ولما شرع في القضاء ضايقه الربو كثيرًا فلم يتم. فهل يجوز له الفطر في رمضان الآتي أو لا؟ وهل إذا أفطر يكفي أن يخرج فدية عن كل يوم أفطره؟
(الجواب) : المريض بالربو ونحوه إذا غلب على ظنه زيادة مرضه أو إبطاء برئه بأمارة أو تجربة أو إخبار طبيب مسلم حاذق، جاز له الفطر ووجب عليه قضاء ما أفطره من أيام رمضان بعد زوال العذر الذي رخص الشارع له في الفطر من أجله، ولا فدية عليه عند الحنفية خلافًا للشافعية حيث قالوا: بوجوب الفدية لكل يوم قَدَح من الحنطة مع القضاء، فان استمر العذر حتى مات المريض فلا تجب عليه الوصية بالفدية لعدم إدراكه عدة من أيام آخر. ولو مات بعد زوال العذر ولم يقض وجبت عليه الوصية بها لإدراكه عدة من أيام أخر ووجب على وليه إخراجها من ثلث مال الموصى، فإن لم يوص بها جاز لوليه التبرع بها.
أما المرض الذي يتحقق معه اليأس من الصحة بأن فنيت قوة المريض أو أشرف على الفناء وعجز عن الصيام كالمصاب بالفالج أو السل الشديد أو السرطان أو نحو ذلك (ومنه الربو إذا ثبت أنه لا يرجى برؤه) فإنه في حكم الشيخ الفاني فيفطر وتجب عليه الفدية وهي إطعام مسكين عن كل يوم أفطره.
فإن لم يقدر على الفدية استغفر الله تعالى والله غفور رحيم.
ويلزم المريض المسئول عنه أن يستشير الطبيب المعالج إذا كان مسلمًا حاذقًا عن أثر صومه في رمضان المقبل في صحته. فإن أخبره بأنه يفضي إلى زيادة
__________
(*) من كتاب "فتاوى شرعية وبحوث إسلامية" طبع دار الاعتصام.(3/310)
مرضه أو إبطاء برئه أفطر وقضى بعد زوال. وله أن يعتمد على التجربة السابقة إذا كانت قريبة العهد بحيث لا ينتظر تغير حاله في هذه المدة، والله تعالى أعلم.
[2] الترخيص للمريض في الفطر
سؤال: اعتراه مرض بسبب عملية جراحية في شهر رمضان، فأفطر اثني عشر يومًا ولم يقضها إلى الآن ويريد أن يكفر عن الصوم فكيف تكون الكفارة شرعًا، وطلب الجواب قبل حلول شهر رمضان التالي؟
(الجواب) : المريض إذا غلب على ظنه بأمارة أو تجربة أو إخبار طبيب مسلم حاذق أن صومه يفضي إلى هلاكه أو زيادة مرضه أو إبطاء شفائه أو نحو ذلك جاز له الفطر في رمضان شرعًا ووجب عليه قضاء ما أفطره من رمضان في أيام أخر ولا كفارة عليه قال تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) . ولا يلزم عند الحنفية أن يكون القضاء قبل رمضان التالي ولا أن تكون أيامه متتابعة بل يجوز أن تكون بعده وفي أيام متفرقة وفي ذلك تيسير وسعة، والله أعلم.
[3] خبر الطبيب غير المسلم
سؤال: شاب مرض بالسل في سنة (1948م) واستمر في علاجه إلى سنة (1952) ، ثم خرج من المصحة ولا يزال يتردد عليها كل شهرين أو ثلاثة للاطمئنان على حالته، وقد أفطر شهر رمضان مدة المرض كلها، والطبيب المعالج له مسيحي، وأخبره بأن الصوم يضره صحيًا. فهل يقبل قوله ويؤخر القضاء إلى أن يصرح له بالصوم؟
(الجواب) : المرض من الأعذار المبيحة للفطر شرعًا. فإذا أفطر المريض فعليه القضاء بعد زوال العذر لقوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) . ويعتبر العذر قائمًا إذا أخبره طبيب مسلم حاذق بأنه لا يزال(3/311)
بحالة يضره الصوم معها، أو علم ذلك من نفسه بطريق التجربة أو بظهور أمارة تدل عليه. واشترط الحنفية في الطبيب الإسلام والحذق، ويكفي فيه أن يكون مستور الحال، وجزم الزيلعي باشتراط العدالة فيه أيضًا، وضعفه في البحر والنهر.
وقال الطحاوي: وإذا أخذ بقول طبيب ليس فيه هذه الشروط وأفطر، فالظاهر لزوم الكفارة كما لو أفطر بدون أمارة ولا تجربة لعدم غلبة الظن والناس عنه غافلون. واشترط الشافعية في الطبيب: الإسلام والعدالة. واشترط المالكية في أن يكون مأمونًا عارفًا كما في "الخطاب" و"الشرح الكبير" ولم ينصوا على اشتراط الإسلام، وللاحتياط عند الاشتباه في قيام المرض أو زواله يلزم أن يعرض المريض نفسه على طبيب مسلم حاذق، فإن منعه من الصوم بقيام العذر امتنع وإن لم يمنعه صام، والله أعلم.
[4] فتوى أخرى في فدية الصيام عن الميت
سؤال: مرضت سيدة مرضًا شديدًا في شهر رمضان فلم تستطع أن تصوم منه سوى ستة أيام، واستمر مرضها إلى أن توفيت في شهر صفر التالي له دون أن تقضي ما فاتها من أيامه، فهل يجوز لابنها أن يخرج فدية عن صوم هذه الأيام التي فاتتها؟
(الجواب) : ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي في قوله الجديد، وأحمد والليث وأبو عبيد، إلى أن الولي يطعم عن الميت في قضاء رمضان لكل يوم مسكينًا، ولا يصوم عنه، لما أخرجه عبد الرزاق عن عائشة موقوفًا أنها قالت: "لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم". ولما أخرجه النسائي عن ابن عباس موقوفًا أنه قال: "لا يصوم أحد عن أحد". ولما روى عن ابن عمر موقوفًا: "من مات وعليه صيام شهر يطعم عنه مكان كل يوم مسكينًا" وعن عائشة قالت: "يطعم عنه في قضاء رمضان ولا يصام عنه". وسئل ابن عباس عن رجل مات وعليه نذر صوم شهر وعليه صيام رمضان فقال: "أما رمضان فليطعم عنه، وأما النذر فيصام عنه".(3/312)
والولي هو القريب وارثا كان أو غير وارث علي ما اختاره النووي في "شرح مسلم". وقيل هو الوارث خاصة وقيل هو العصبة خاصة.
وذهب الحنفية إلى أنه هو المتصرف في المال فيشمل الوصي ولو أجنبيًا كما ذكره ابن عابدين في الصوم والى أن الفدية التي يخرجها الولي عن الميت تؤخذ من ثلث مال الميت وجوبًا إن أوصي بإخراجها، وجوازا إن لم يوص، فإن تبرع بها الولي جاز، معلقا على مشيئة الله، وكان ثوابها للميت والله أعلم.
[5] حكم فطر الحامل والمرضع
سؤال: هل يجوز الإفطار للحامل أو المرضع إذا خافتا من الصيام على الجنين أو الرضيع ... وهل يلزمهما القضا والفدية أو يلزمهما أحدهما؟
(الجواب) : لاخلاف في أنه يجوز للحامل الإفطار إذا خافت على الجنين، وللمرضع إذا خافت على الرضيع، لحديث أنس بن مالك الكعبي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن الله عز وجل وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم". (رواه الخمسة) ، وليس المراد من الخوف مجرد التوهم والتخيّل، بل غلبة الظن بلحوق الضرر به بأمارة أو تجربة أو إخبار طبيب مسلم حاذق، وذهب بعض الفقهاء ومنهم الإمام ابن حزم إلى وجوب الإفطار عليهما في هذه الحالة لسقوط الصوم عنهما.
والقائلون بجواز الفطر لهما، منهم من أوجب عليهما القضاء والفدية، وإليه ذهب سفيان ومالك والشافعي وأحمد، ومنهم من أوجب القضاء فقط، وإليه ذهب الحنفية، وهو مذهب عليّ من الصحابة والحسن من التابعين.
وذهب إسحاق إلى أنهما يفطران ويطعمان ولا قضاء عليهما وإن شاءتا قضتا ولا إطعام عليهما.
ومثلُ الخوف منهما على الجنين والرضيع، خوفُ الحامل على نفسها من المرض الذي يستتبعه الحمل، وخوف المرضع على نفسها من المرض الذي يستتبعه الرضاع إذا كان بطريق من الطرق التي ذكرناها، فيجوز لكل منهما الفطر إذا وُجد الخوف المذكور، والله أعلم.(3/313)
[6] تأثير الصيام في المرضى بالقرحة
سؤال: هل يجوز للمريض بالقرحة في المعدة -أو الاثني عشر- الفطر في رمضان؟ وهل يضره الصيام؟
(الجواب) : قُدِّم إلينا هذا السؤال من كثيرين، فرأينا أن نستفسر عن هذا المرض، وتأثير الصيام في المرضى به من العالم الحجة الدكتور سليمان عزمي "باشا" الأستاذ بكلية الطب سابقًا، فتفضل سعادته بالبيان التالي:
"ومن المشاهدات الثابتة لدى الأطباء أن الجوع ضار بمن يشكو من القرحة في المعدة أو الاثني عشر؛ لأنه يحدث للمريض ألمّا يختلف في شدته، وقد يؤدي إلى مضاعفات تختلف في خطورتها".
فمن المعروف عن أعراض هذا المرض، أن حموضة المعدة تتزايد بعض الطعام، وتبلغ قمتها بعد ساعتين إلى أربع ساعات من تناوله، وفي هذه الفترة التي تبلغ فيها الحموضة زيادتها، يشعر المريض بألم شديد في معدته.
ومن أهم مسكِّنات هذا الألم، ما عرفه المرضى بالإحساس والمشاهدة، وما عرفه الطب بالخبرة والتجربة.
فأما ما عرفه المرضى بالمشاهدة، فهو أن الألم يكون في شدته أثناء الجوع وتخف حدته بل تزول بعد تناول الطعام لتعود ثانية في دورتها الآخذة في الازدياد.
وأما معرفة الأطباء بالخبرة فهو وصف الأدوية التي تهبط إفراز المعدة حتى لا يزيد إفرازها ولا تزيد حموضتها، وتعطي هذه عادة قبل الطعام.
كذلك تعطي له الأدوية التي تعادل الحموضة وهي المعروفة عند الأطباء بالقلويات أو ما شابهها من الأدوية المستحدثة، التي لها نفس هذه الخاصية لأنها تتحد مع الأحماض فتقلل الحموضة فيخف الألم، وهي تعطي عادة بعد الطعام بساعة أو ساعتين.
ومن القواعد الأساسية للعلاج المسلَّم بها من أخصائي الأمراض الباطنية والتي تحتمها المشاهدات، إعطاء الغذاء لتفادي الجوع بكميات صغيرة على فترات(3/314)
منظمة، متقاربة بحيث تكون الفترة بين الوجبات أربع ساعات، وعلى أن تكون من الأطعمة المسموح بها لهذا المرض.
كذلك استعمال الدواء لابد أن يكون على فترات مثل هذه الفترات، منها ما هو قبل الأكل ومنها ما هو بعده بساعة أو ساعتين.
وعليه نرى من طبيعة العلاج في حد ذاته أن الإفطار محتم، وأن الصيام ضار، سواء أكان لراحة المريض وتخفيف آلامه أم لنظام العلاج وشفاء المرضى.
ولا أعرف دواء في تهبيط الإفراز أو تخفيف الحموضة أو تعادلها يستمر مفعولة مدة تقارب مدة الصيام.
ويفهم بالبديهة أن امتلاء المعدة بعد الجوع الشديد بالغذاء أو بالماء ضار أيما ضرر بالمعدات المريضة خصوصًا المصابة بالقرحة، ولذلك ينصح الطب دائمًا هؤلاء المرضى، بتقليل كميات الطعام وتقريب فتراته على النحو الذي بيناه، كما ينصح بتقليل كميات الطعام للأصحاء عمومًا محافظة على سلامة معداتهم وعدم إصابتها بالأمراض، ومن مبادئ الطب الحديث: "عالج صحتك بوسائل المحافظة عليها، ولا تنتظر أن تمرض فتعالج لتستردها".
هذا ما قاله الطبيب الحجة الثقة في تأثير الصوم في المريض بهذه القرحة، وقد نص الحنفية كما في البدائع على أن المرض المرخص في الفطر هو الذي يخاف أن يزداد بالصوم، وعلى أن المرض يوجب الفطر إذا خيف منه الهلاك، وإلقاء النفس إلى التهلكة حرام، ومن أفطر لهذا العذر وجب عليه القضاء بعد زواله. قال تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) .
والله أعلم.
***
[7] حكم فطر صوم رمضان للمرضى بالبول السكري
سؤال: هل مرض البول السكري يبيح الفطر للمريض في كل أحواله؟
(الجواب) : فرض الله تعالى الصوم على الصحيح المقيم، ورخص(3/315)
للمريض أن يفطر إذا أجهده المرض بقوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) . فليس كل مرض يبيح الفطر عند جمهور الأئمة، والمرجع في بيان ما يبيحه، وما لا يبيحه إلى رأي الطبيب المسلم الحاذق، أو إلى التجربة الصادقة، أو دلالة الحال كما نص عليه الفقهاء.
ومرض البول السكري تختلف حالاته، وقد رأيت للإجابة عن هذا السؤال أن أستطلع رأي الفاضل الثقة (الدكتور محمد ناجي المحلاوي) الطبيب الاخصائي الأستاذ للأمراض الباطنية بكلية الطب بالجامعة فأجاب بما يأتي: يظهر السكر في البول، في حالات مختلفة نجملها بما يلي:
أولا: قد يظهر السكر في البول بدون ارتفاع نسبته في الدم بسبب خلل خلقي في الكُلى، وقد ينشأ عنه انخفاض نسبة السكر في الدم عن المعدل الطبيعي للجسم. وعند ذلك يجب الإفطار، حتى يمكن تعويض الجسم عما يفقده من السكر الذي تفرزه الكلى في البول، وإلا نتج عن الصيام نقص كبير في كمية السكر في الدم، تظهر آثاره في علامات مرضية شديدة منها الرعشة وتهييج الأعصاب والقيء والعرق الغزير، واضطراب التفكير، بل قد تشبه في بعض الأحيان، تأثير الخمر في حالات السكر البين.
ثانيًا: قد يظهر السكر في البول عند بعض السيدات أثناء الرضاعة، وهذه حالة ليست مرضية، وحكم الإفطار فيها هو نفس حكم إفطار المرضع بوجه عام.
ثالثًا: وقد يحدث مرض البول السكري نتيجة لخلل في تمثيل المواد السكرية والنشوية (أي قدرة الأنسجة على استعمالها في عمليات الاحتراق) ويعزي هذا الخلل في الأغلب إلى نقص مادة الأنسولين في الجسم. وهي المادة التي تفرزها غدة البنكرياس، وهذا هو المرض المشهور "بالسكر"، وهو يظهر في درجات تتفاوت تفاوتا كبيرًا في الخفة والشدة.
فهناك حالات خفيفة لا يكاد يظهر فيها السكر في البول، إلا بكمية قليلة وفي فترات قصيرة.
وهذه الحالات لا يضرها الصيام بل قد يفيدها وخصوصًا إذا كان المريض بدينًا (سمينًا) .(3/316)
أما في الحالات الشديدة حيث يبلغ ارتفاع نسبة السكر في الدم مبلغًا كبيرًا. وحيث يظهر السكر بكميات كبيرة في البول باستمرار فإن الفطر ضروري؛ لأن الجسم لا غنى له عن التغذية المستمرة المنظمة، لتوفير المواد السكرية اللازمة لعمليات الاحتراق المستمرة في الأنسجة، مع إعطاء كميات الأنسولين اللازمة.
ويضاف إلى ذلك أن المريض في هذه الحالات يفرز كميات كبيرة جدًا من البول، فيفقد بذلك كميات كبيرة من الماء، يجب تعويضها بالشرب، وإذا صام المريض فيها فإن الأنسجة تلجأ إلى المواد الدهنية المخزونة، وقد ينتج عن ذلك تراكم بقايا تمثيل هذه المواد إلى درجة كبيرة، قد تسبب تسمم الجسم بهذه المواد، وقد تصل إلى درجة الغيبوبة المعروفة (بالكوما) .
وفيما بين الحالات الخفيفة والحالات الشديدة التي ذكرناها حالات متوسطة يختلف حكمها من حيث الإفطار، فيترك للطبيب المعالج تقديرها وإبداء الرأي فيها".
(دكتور محمد ناجي المحلاوي)
فعلى المسلم الذي يريد الخروج من العهدة والتحري في أمر الدين إذا أصيب بمرض السكر أن يعرض نفسه على طبيب مسلم حاذق موثوق به في دينه لفحصه والوقوف على درجة مرضه بواسطة تحليل البول أو الدم أو هما، وبيان أثر الصوم في حالته، فقد يخبره بوجوب الفطر حتى لا يلقي بنفسه إلى التهلكة فيتبع رأيه، وقد يخبره، بوجوب الصوم، والله أعلم.
***
[8] الحقنة الشرجية في رمضان مفطرة
سؤال: هل الحقنة الشرجية مفطرة للصائم؟
(الجواب) : الحقن في الشرج هو إدخال أي مادة سائلة من فتحة الشرج إلى الأمعاء الغليظة، إما بقصد طرد الفضلات وهي التي يستعمل فيها عادة البايونج أو الماء والصابون ونحوه مما لا يمكث في الأمعاء إلا يسيرًا ثم يقذف مع الفضلات من هذه الفتحة، وإما بقصد إمداد الجسم بالغذاء أو الدواء أو السائل(3/317)
في الحالات المرضية التي يتعذر فيها إعطاء هذه المواد من طريق الفم أو حقنها في الوريد أو العضل أو تحت الجلد، وفي هذه الحالات تترك هذه المواد حتى تمتص، هذا ما قاله الأطباء الحاذقون.
وكيفما كان فإدخال هذه المواد السائلة من فتحة الشرج إلى الأمعاء مفطر شرعًا باتفاق الأئمة في المذاهب الأربعة (1) ، إذ الأمعاء من الجوف كالمعدة وسائر الجهاز الهضمي، وما يدخل فيه -اختيارًا- مفطر، لحديث: "الفطر مما دخل"، رواه أبو يعلى في "مسنده" مرفوعًا عن عائشة، وذكره البخاري تعليقًا فقال: وقال ابن عباس وعكرمة: الفطر مما دخل وليس مما خرج، والمراد الدخول من المنافذ المعروفة بدلالة العرف.
وقد نص الحنفية على أن من احتقن أفطر ووجب عليه القضاء ولا كفارة عليه في الأصح، وفسروا الاحتقان بصب الدواء في الدبر بواسطة الحقنة، وبمثله قال الحنابلة كما في "المغني"، والشافعية كما في "المجموع"، والمالكية كما في "الشرح الكبير" (وإن خالفوا الطب بقولهم إن السائل يصل بالحقنة الشرجية إلى المعدة) .
وفي "المجموع" للنووي أن هذه الحقنة مفطرة على المذهب سواء كانت قليلة أو كثيرة وسواء وصلت إلى المعدة أم لا، وبه قطع الجمهور ونقله ابن المنذر عن عطاء والثوري وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق، وحكاه العبدري وسائر الأصحاب عن مالك، ونقله المتولي عن عامة العلماء (2) والله أعلم.
***
__________
(1) يراجع قول شيخ الإسلام ابن تيمة عن الحقنة الشرجية وفتوى الشيخ ابن عثمين، والأولى: الترك. خروجًا من خلاف العلماء.
(2) وخالف ابن حزم فقال: إن ما يدخل إلى الجوف من الدبر أو الإحليل أو الأذان أو العين أو الأنف أو من جرح في البطن أو في الرأس لا يفطر، وقال: إننا ما نهينا عن أن نوصل إلى الجوف بغير الأكل والشرب ما لم يحرم علينا إيصاله (راجع "المحلى" (ص 214 جـ 6) وعليه فالحقن بجميع أنواعها لا تفطر، والمعول عليه قول الجمهور.(3/318)
[9] شرب الدخان في نهار رمضان مفطر
سؤال: هل شرب الدخان المعروف مفسد للصوم شرعًا؟
(الجواب) : نص الحنفية على أن الدخان عامة إذا دخل حلق الصائم بدون صنع منه، لا يفسد صومه لعدم إمكان التحرز عنه، فصار كالبلل يبقى في الفم بعد المضمضة لعدم القدرة على الامتناع عنه.
وأما إذا أدخله حلقه بصنعه وإرادته أيًا كان الدخان، وبأي صورة كان إدخاله، وهو متذكر صومه، فإن صومه يفسد شرعًا لإمكان التحرز عنه.
وقد فرع العلامة الشرنبلالي على ذلك حكم شرب الدخان المعروف كما في "إمداد الفتاح" وشرحه على الوهبانية فقال: بلزوم الكفارة مع القضاء في حالة فساد الصوم، وهي الحالة الثانية المذكورة بناء على الأصح في وجوب الكفارة بتناول ما يميل إليه الطبع، وتنقضي به شهوة البطن.
وتابعه العلامة ابن عابدين في حاشية الدر، ولا شك أن الدخان المعروف من أشد ما تستدعيه الشهوة وتميل إليه نفوس شاربيه، حتى إن أكثرهم يصبر على الجوع والظمأ الشديدين، ولا يكاد يصبر على تركه، ففي شربه في نهار رمضان عمدًا القضاء والكفارة على الأصح، والله أعلم.
***
[10] قضاء الصوم
سؤال: من (لبنان - حمانا) رجل ترك صيام رمضان ثلاث سنوات لإصابته خلال هذه المدة بمرض السل، ثم من الله عليه بالشفاء، ولكنه فوجىء بمنعه من الصوم ثلاث سنوات أخرى بعد التقرير الطبي عن حالته الصحية فمذا يفعل تجاه ما فاته من أيام رمضان وتجاه المستقبل؟
(الجواب) : لا شك أن هذا الرجل في المدة الأولى معذور في الفطر بعذر المرض، وكذلك في المدة الثانية لقول الأطباء إن الصوم يضره صحيًا فيها فهو معذور أيضًا متى كان الأطباء مسلمون حاذقين مأمونين.(3/319)
ومن ترك الصوم في رمضان لعذر المرض لا يجب عليه القضاء حتى يقدر عليه فيدرك عدة من أيام أخر. فإذا لم يقض بعد زوال العذر والقدرة على الصوم حتي شارف الموت، وجب عليه الوصية بالفدية بقدر ما أدرك من الأيام الأخر إذا كان له مال، ووجب على وليه الذي له حق التصرف في ماله إخراج الفدية عنه من ثلث ماله الباقي بعد التجهيز ووفاء الديون بدون توقف على إجازة الورثة، ولو زادت الفدية عن الثلث لا يجب الزائد إلا بإجازة الورثة.
وإن لم يوص بالفدية قبل موته جاز أن يتبرع عنه وليه بالفدية، ويرجى قبولها بمشيئة الله تعالى فتسقط عنه المطالبة بالصوم في الآخرة وإن بقى عليه الإثم للتأخير بدون عذر كما لو كان عليه دين لإنسان وماطله، حتى مات فأوفاه عنه وصيُّه أو غيره.
وأما إذا استمر العذر حتى مات بدون قضاء ما فاته فإنه لا تجب عليه الوصية بالفدية لعدم إدراكه عدة من أيام أخر.
(والخلاصة) أن هذا الرجل لا يلزمه الصوم في المدة الثانية ما دام الأطباء الأمناء الحذاق قد قرروا أنه يضره في صحته، وينظر في أمر القضاء بعد زوال العذر على حسب ما بيناه، والله أعلم.
***
[11] صيام رمضان في شمال أوربا
سؤال: تلقى فضيلة المفتي استفتاء من أعضاء البعثات المصرية، عن حكم الشريعة الغراء في صيام رمضان للمسلمين المقيمين في شمال أوربا، حيث تبلغ مدة صوم اليوم فيه 19 ساعة، وقد تزيد إلى 22 ساعة أو أكثر، فأرسل فضيلته إليهم بالطائرة الفتوى الآتي نصها، ومهَّد فيها بما يحبب لهم الصلاة والصوم خوفًا عليهم من الافتتان في هذه البلاد.
(الجواب) : إن التشريع الإسلامي في العبادات قد بني على توثيق الصلات بين العبد وربه، وحسن قيام العباد بحق الله تعالى الذي أفاض عليهم نعمة الوجود، ومن عليهم بالفضل والجود والخير والإحسانه: (وإِن تعدوا نعمة(3/320)
الله لا تحصوها) . فهي تربية وتهذيب، ونظام وإصلاح يرقى بالفرد والمجتمع إلى مراقي السعادة والفلاح.
ورأسها وعمادها الصلاة، وهي مناجاة بالقلب واللسان بين العبد ومولاه يشهد فيها العبد افتقاره لخالقه، وإحسان الخالق إليه مع استغنائه عنه، ويعلم عن يقين أن الأمر كله لله، وأن لا معبود بحق سواه، فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.
ومن أهمها الصيام وهو رياضة روحية تُعِدُّ النفوس البشرية للسمو إلى معارج الكمال، والتحليق في أجواء العلم والعرفان وتُعوِّدها الصبر والثبات والقوة والعزة، وتصفِّيها من شوائب المادية وعوائق الجسمية، وتبغِّض إليها المآثم والمنكرات، وتحبِّب إليها الفضائل والمكرمات.
وقد بنى تشريع الصوم كما بنى التشريع الإسلامي عامة على السماحة والتيسير والطاقة والرفق بالناس، فلم يكن فيه إعنات ولا إرهاق، ولم يكن فيه حرج ولا عسر - قال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) . وقال في الصوم: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) . وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا به ما استطعتم" وفي الحديث الصحيح: "سددوا وقاربوا".
هذه السماحة، وهذا اليسر، قد ظهر جليا في فريضة الصوم، في الترخيص بالفطر للمسافر ولو كان صحيحًا، لما يلازم السفر غالبًا من المشقات والمتاعب، وللمريض لضعف احتماله وحاجته إلى الغذاء والدواء، حتى لا تتفاقم علته أو يبطىء برؤه، ولمن ماثلهما في الضرورة والاحتياج إلى الفطر، كالحامل التي تخاف على نفسها أو جنينها المرض أو الضعف، والمرضع التي تخشى ذلك على نفسها أو رضيعها، والطاعن في السن الذي لا يقدر على الصوم. فأباح الإسلام لهؤلاء فطر رمضان على أن يقضي كل من المسافر(3/321)
والمريض والحامل والمرضع ما أفطره في أيام أخر خالية من الأعذار، وعلى أن يخرج الشيخ الفاني فدية الصوم عن كل يوم أفطره حسبما بين في الفقه.
والصوم الشرعي يبتدئ من طلوع الفجر وينتهي بغروب الشمس كل يوم، فتختلف مدته باختلاف عروض البلاد، وكيفما كانت المدة فإن مجرد طولها لا يعدُّ عذرًا شرعيًا يبيح الفطر، وإنما يباح الفطر إذا غلب على ظن الإنسان بأمارة ظهرت أو تجربة وقعت أو بإخبار طبيب حاذق أن صومه هذه المدة يفضي إلى مرضه أو إلى إعياء شديد يضره، كما صرح به أئمة الحنفية، فيكون حكمه حكم المريض الذي يخشى التلف أو أن يزيد مرضه أو يبطئ شفاؤه إذا صام.
هذا هو المبدأ العام في رخصة الفطر وفي التيسير على المكلفين. وكل امرئ بصير بنفسه، عليم بحقيقة أمره، يعرف مكانها من حِلِّ الفطر وحرمته.
فإذا كان صومه المدة الطويلة يؤدي إلى إصابته بمرض أو ضعف أو إعياء يقينًا أو في غالب الظن بإحدى الوسائل العلمية التي أومأنا إليها، حل له الترخص بالفطر، وإذا كان لا يؤدي إلى ذلك حرم عليه الفطر. والناس في ذلك مختلفون ولكل حالة حكمها "والله يعلم السر وأخفى" والله أعلم.
***
سؤال: سألت طبيبًا فاضلاً فأْخبرني بأن انقطاع النزيف من الأنف لا يتوقف على الاستلقاء على الظهر، بل يمكن قطعه باستنشاق الماء البارد في الوضع العادي بدون الاستلقاء، فلا ضرورة تدعو الصائم إلى الاستلقاء وقت النزف حتى ينصب الدم في حلقه فيفطر بابتلاعه.
(الجواب) : لذلك نفتي السائل بأنه ما دام في الإمكان علاج النزف باستنشاق الماء البارد، لا يجوز الالتجاء إلى الاستلقاء الذي يفضي إلى الإفطار، فإذا تفاقم الأمر وقرر طبيب حاذق ضرورة اتخاذ وسيلة أخرى للعلاج والإنقاذ تؤدي إلى الإفطار، كان هذا الصائم من أرباب الأعذار، فيفطر وعليه القضاء والله أعلم.
***(3/322)
[12] العجز عن الصوم وحكمه
سؤال: شخص اضطره المرض إلى فطر أيام من رمضان فما هو الواجب عليه شرعًا؟
(الجواب) : مذهب الحنفية أن المريض الذي رخص له الشارع في الفطر، يجب عليه قضاء ما أفطره من أيام رمضان بعد زوال العذر، لقوله تعالى: (ومن كان مريضًا أو على سفر فعدَّة من أيام أخر) ولا فدية عليه، خلافًا للشافعية حيث قالوا بوجوب القضاء والفدية لكل يوم مُدٌ من حنطة.
فإن استمر مرضه إلى أن مات لم يلزمه القضاء ولم يجب عليه الإيصاء بالفدية لأن وجوبه فرع وجوب القضاء.
فإذا زال العذر، ولم يقض ما فاته مع القدرة حتى شارف الموت، وجب عليه الإيصاء بالفدية من ثلث ماله، فإن أوصى - وجب على وليه أن يفدي عنه بعد موته عن كل يوم مثل فطرة الصوم (عن كل يوم نصف صاع من بُرَّ أوَ صاع من تمر أو شعير أو قيمة ذلك عند الحنفية) .
وإن لم يوص وتبرع عنه وليه بالفدية جاز وسقط عن الفرض، وإن بقى عليه إثم تأخيره كما لو كان على الميت دين، وماطل فيه حتى مات فأوفاه عنه وليه، فإنه يسقط عنه الدين، ولكن يبقى عليه إثم المماطلة والتأخير.
صوم الولي عن الميت:
وهل يصح صوم الوليِّ عن الميت؟ اختلف الفقهاء في ذلك.
1- فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي في قوله الجديد، إلى أن الولي لا يصوم عن الميت بل يطعم عنه لكل يوم مسكينًا لما أخرجه النسائي عن ابن عباس موقوفًا: "لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد" ولما أخرجه عبد الرزاق عن عائشة موقوفًا: "لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم".
(ولا يقال) قد جاء في "الصحيحين" عن ابن عباس أنه قال: "جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر(3/323)
أفأقضيه عنها. فقال: "لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ " قال: نعم قال: "فدين الله أحق أن يقضى".
وعن عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه".
(لأنا نقول) : إن هذا منسوخ لأن فتوى الراوي بخلاف مرويه بمنزلة رواية الناسخ.
هذا ما قالوه، وقد رده الشوكاني في "نيل الأوطار"، بأن الحق اعتبار ما رواه الصحابي دون ما رآه، وما ورد مرفوعًا في الباب يردّ ذلك كله.
2- وذهب أحمد والليث وأبو عبيد إلى أن الولي لا يصوم عن الميت في قضاء رمضان، وأما في قضاء النذر فيصوم عنه.
3- وذهب ابن حزم إلى أن الولي يصوم عن الميت وجوبا أي صوم كان نذرًا أو غيره.
4- وذهب الجمهور ومنهم الشافعي في القديم إلى أن الولي يصوم استحبابًا عن الميت.
وقال النووي: إنه المختار من قول الشافعي، وقال به طاووس، والحسن والزهري وقتادة وأبو ثور والأوزاعي، وإليه ذهب أصحاب الحديث. وقال البيهقي: هذه سنة ثابتة لا أعلم في صحتها خلافًا بين أصحاب الحديث.
من هو الوليُّ:
وقد اختلف الفقهاء في المراد بالولي؛ فاختار النووي أنه القريب واراثًا أو غير وارث، وقيل هو الوارث خاصة، وقيل هو العصبة، وذهب الحنفية إلى أنه المتصرف في المال، فيشمل الوصي ولو أجنبيًا، كما ذكره ابن عابدين في الصوم.
جعل ثوب الصوم للميت:
ومع أن الحنفية قد ذهبوا إلى أنه لا يصوم أحد عن أحد أخذًا من حديث ابن عباس، إلا أنهم قالوا: إن للوليِّ وغيره أن يجعل ثواب صومه وصلاته(3/324)
للميت تبرعًا بمثابة الصدقة، لما صرح به في الهداية من أن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره، صلاة أو صومًا أو صدقة أو حجًا أو غيره.
وفي "البدائع" إن قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد" إنما هو في حق الخروج عن العهدة لا في حق الثواب.
فإن من صام أو صلى أو تصدق وجعل ثوابه لغيره من الأموات أو الأحياء جاز، ويصل الثواب إليهم عند أهل السنة والجماعة.
وقد بينا ذلك تفصيلاً في فتوانا المسجلة بدار إفتاء الديار المصرية بتاريخ 14 أغسطسى سنة (1947م) برقم (377) ، مع تذييلها بتعليقات هامة وأسانيد شرعية وطبعت بمفردها في أغسطس سنة (1947م) .
المريض الفاني:
وينبغي أن يُعلم -تتمة لهذا البحث- أن المريض الذي تحقق اليأس من صحته، أو الذي تتناقص -صحته- في كل يوم إلى أن - يموت، وهو المسمى (بالشيخ الفاني) لنفاء قوته، أو لإشرافه على الفناء حتى عجز عن الصوم يرخَّص له فطر رمضان وتجب عليه الفدية عن كل يوم أفطره لو كان موسرًا ويخير بين دفعها في أول الشهر أو في آخره، ولا يجب عليه القضاء، ولكنه إذا قدر على الصوم بعد أن أخرج الفدية وجب عليه قضاء ما أفطره، إذ الفدية خلف عن الصوم المعجوز عنه لا غير، ومن هذا يتبين ما يجب على المريض في كل حال، والله أعلم بالصواب.
[13] هل وضع مرهم البواسير يفطر
سؤال: رجل مصاب بالبواسير ولابدَّ له حين قضاء الحاجة من إدخال أصبعه في الموضع المعروف للتنظيف والتسوك بالمرهم الموصوف فهل ذلك يفسد صومه وهل يباح له الفطر لذلك شرعًا؟
(الجواب) : قد نص الحنفية على أن إدخال الأصبع في هذا الموضع مبتلة(3/325)
يفسد الصوم فإذا لم يكن لهذا المريض بُدُّ من إجراء ما ذكر في وقت الصوم كان من أرباب الأعذار المبيحة للفطر وعليه القضاء بعد البراء. والله أعلم (1) .
[14] صوم رمضان
سؤال: في الأقطار التي لا تطلع فيها الشمس أشهرًا أو يطول النهار فيها كثيرًا.
تقيم كريمتي وزوجها الآن في ألمانيا، وقد كتبت إلي تستفهم عن الواجب عليها وعلى المسلمين هناك في شهر رمضان بالنسبة إلى الصيام، حيث تقول: إن الشمس تستمر طالعة 20 ساعة وتختفي أربع ساعات، فهل يلزمهم الصيام قبل طلوع الشمس بساعة ونصف وهو وقت طلوع الفجر وعلى ذلك فيصومون إحدى وعشرين ساعة ونصف، ويفطرون ساعتين ونصفا أم ماذا؟ وما حكم الصلاة أيضًا في هذه البلاد، وكذلك في البلاد التي تستمر فيها الشمس طالعة نحو ستة أشهر وتغيب نحو ستة أشهر. هذا يا صاحب الفضيلة ما نريد الاستفهام عنه فلعلنا نظفر في وقت قريب بما يزيل العقبات عن المقيمين في تلك البلاد ببيان حكم الله تعالى تيسيرًا عليهم وتبيانًا لسماحة الدين الحنيف.
(الجواب) : اطلعنا على السؤال - ونفيد: بأنه فيما يختص بالبلاد التي تغيب فيها الشمس ستة أشهر أو نحو ذلك. اختلف الفقهاء في وجوب الصلاة على المقيمين بها وعدم وجوبها، فقال بعضهم: لا تجب عليهم الصلاة لعدم وجود السبب وهو الوقت. وقال بعضهم تجب عليهم الصلاة وعليهم أن يقدروا لها أوقاتها بالقياس على أقرب البلاد التي تطلع فيها الشمس وتغرب كل يوم، والقول الأخير قول الشافعية وهو قول مصحح عند الحنفية وهو الذي اخترناه للفتوى مراعاة لحكمة تشريع الصلاة.
وفيما يختص بصوم أهل هذه البلاد. فإنه واجبٌ عليهم، وعليهم أن
__________
(1) ينظر ما سبق من الفتاوى.(3/326)
يتحروا عن دخول شهر رمضان وعن مدة الصيام فيه بالقياس على أقرب البلاد التي شهد أهلها الشهر وعرفوا وقت الإمساك والإفطار فيه، وهو كذلك مذهب الشافعية الذي اخترناه للفتوى.
وأما البلاد التي تطلع فيها الشمس وتغرب كل يوم إلا أن مدة طلوعها تبلغ نحو عشرين ساعة، فبالنسبة للصلاة يجب عليهم أداؤها في أوقاتها لتميزها تميزًا ظاهرًا - وبالنسبة للصوم يجب عليهم الصوم في رمضان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس هناك، إلا إذا أدى الصوم إلى الضرر بالصائم وخاف من طول مدة الصوم الهلاك أو المرض الشديد، فحينئذ يرخص له الفطر، ولا يعتبر في ذلك مجرد الوهم والخيال وإنما المعتبر غلبة الظن بواسطة الأمارات أو التجربة أو إخبار الطبيب الحاذق بأن الصوم يفضي إلى الهلاك أو المرض الشديد أو زيادة المرض أو بطء البرء، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص فلكل شخص حالة خاصة. وعلى من أفطر في كل هذه الأحوال قضاء ما أفطره بعد زوال العذر الذي رخص له من أجله الفطُر، والله تعالى أعلم (1) .
حمل المأموم للمصحف في صلاة التراويح
سُئل عن حمل المأموم للمصحف في صلاة التراويح؟
وأجاب فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظة الله- بقوله:
"لا أعلم لهذا أصلاً والأظهر: أن يخشع ويطمئن ولا يأخذ مصحفًا بل يضع يمينه على شماله كما هي السنة: (يضع يده اليمنى على كفه اليسرى الرسغ والساعد ويضعهما على صدره) هذا هو الأرجح والأفضل وأخذ المصحف يشغله عن هذه السنن، ثم قد يشغل قلبه وبصره في مراجعة الصفحات والآيات عن سماع الإمام، فالذي أرى أن - ترك ذلك هو السنة وأن يستمع وينصت ولا
__________
(1) من كتاب "فتاوى شرعية وبحوث إسلامية" طبع دار الاعتصام.(3/327)
يستعمل المصحف فإن كان عنده علم فتح على إمامه وإلا فتح غيره من الناس، ثم لو قُدر أن الإمام غلط ولم يفتح عليه ما ضر ذلك في غير الفاتحة إنما يضر في الفاتحة خاصة لأن الفاتحة ركن لابد منها أما لو ترك بعض الآيات من غير الفاتحة ما ضره ذلك إذا لم يكن وراءه من ينبهه ولو كان واحد يحمل المصحف ويفتح على الإمام عند الحاحة فلعل هذا لا بأس به أما أنَّ كل واحد يأخذ مصحفا فهذا خلاف السنة" (1) . أ. هـ.
***
__________
(1) مجلة التوحيد السنة الثانية والعشرون العدد التاسع.(3/328)
الباب الثاني والعشرون
الصوم ورمضان في واحة الشعر
زاد بزاد وياشتان بينهما ... من ذاق طعم شراب القوم يشريه(3/329)
يقول مصطفى الصادق الرافعي - أديب الإسلام:
فديتك زائرًا في كل عام ... تحيا بالسلامة والسلام
وتقبل كالغمام يفيض حينا ... ويبقى بعده أثر الغمام
وكم في الناس من كلف مشوق ... إليك وكم شجيّ مستهام
رمزت له بألحاظ الليالي ... وقد عيّ الزمان عن الكلام
فَظل يَعَدّ يَوَمًا بْعد يَوَمًا ... كما اعتادوا لأيام السقام
ومد له رواق الليل ظلا ... ترف عليه أجنحة الظلام
فبات وملء عينيه منام ... لتنفض عنهما كسل المنام
ولم أر قبل حبك من حبيب ... كفى العشاق لوعات الغرام
فلو تدري العوالم ما درينا ... لحنت للصلاة وللصيام
بني الإسلام هذا خير ضيف ... إذ غشي الكريم ذرا الكرام (1)
يلمكم على خير السجايا ... ويجمعكم على الهمم العظام
فشدوا فيه أيديكم بعزم ... كما شد الكمى على الحسام
وقوموا في لياليه الغوالي ... فما عاجت عليكم للمقام
وكم نفر تغرهم الليالي ... وما خلقوا ولا هي للدوام
وخلوا عادة السفهاء عنكم ... فتلك عوائد القوم اللئام
يحلون الحرام إذا أرادوا ... وقد بان الحلال من الحرام
وما كل الأنام ذوي عقول ... إذا عدوا البهائم في الأنام
ومن روّته مرضعة المعاصي ... فقد جاءته أيام الفطام (2)
__________
(1) الذرا: بفتح الذال: المنزل والستر.
(2) ديوان مصطفى صادق الرافعي (31) .(3/331)
رمضان (*) (* *)
الخيرُ باد فيك والإحسانُ ... والذّكرُ والقرآن يا رمضانُ
والصوم فيك عبادةٌ ورياضة ... تسموا بها الأرواحُ والأبدانُ
والشرُّ فيك مكبّلٌ ومغلل ... والبرُّ فيكَ مجلل هتانُ
واللَّيل فيك نسائمٌ هفهافة ... رَقصت لطيب عبيرها الرهبانُ
والفجرُ فيك عبادةٌ وتلاوةٌ ... والصبُّح فيك سعاية وأمانٌ
والرُّوح فيكَ طليقة رفرافة ... أحلامُها الغفرانُ والرِّضوانُ
والجسمُ فيك حبيسةٌ أطماعه ... لا يستريحُ إذا سما الوجدانُ
والناس فيك تآلفٌ قد ضمَّهم ... وأظَّلهم ظلُّ الهُدى الفينانُ
فكأنَّهم جسمٌ يئنُّ إذا اشتكَى ... عضوٌ به وكأنَّه بنيانُ
بالصبر جئت وبالهُدى وكلاهُما ... زادُ الشهيد إذا خلا الميدانُ
ذكراكَ هذِي والزَّمان زمانٌ ... والمسلمون تآذر إخوانُ
والحاكمونَ منفَّذون شريعة ... وضع الإله يحثهم إذعانُ
والعابدون الراكعون تسابقوا ... يحدو بهم نحو الصلاة أذان
لم يبق فيك اليوم غيرُ مظاهر ... وموائد بالمشتهى تزدانُ
ومآذنٌ تهفوا البطون لصوتها ... وتصايح تجري به الصبيانُ
وتكاسلٌ طول النهار وسهرةٌ ... رقص بها غمزت به الألحانُ
أيريد أهل الشرك هجرة شرعنا ... لتُمجِّد الأصنامُ والأوثانُ
__________
(*) "الاعتصام" العدد الثالث السنة السادسة والعشرون رمضان (1383 يناير 1964م) .
(* *) للشاعر محمود عواد - دار الوفاء للطباعة والنشر.(3/332)
لا غير شرع الله يجمعُ شملنا ... مهما أشار بحقِّه المجَّانُ
ما وحد الأوطان غير محمدٍ ... ما ضمَّهما عدنانُ أو قطحانُ
جمع الشَّتيت فكان أكرم أمةٍ ... فخرت بمجد رقِّيها الأزمانُ
أنسيت دنيا العزِّ يوم تجمَّعت ... فيك الرَّجالُ وكلُّهم ألوانُ
فصهيبٌ ابن الروم جنب محمد ... والفارسُّ المهتدي سلمانُ
وبلالُ فوق البيت يهتف للورى ... في الحقِّ لا أسياد أو عبدانُ
يومًا غَزانا الكُفر تحت صليبه ... أجنادُه الأسبانُ والطليانُ
فالدِّين جمَّعها لأكبر نجدة ... لا الحربُ جمعها ولا الطُّغيانُ
إن تسأل الآثارَ فهي مجيبةٌ ... أو تسأل الأخبارَ فهي لسانُ
مناجاة (*)
قِفي ها هُنا في رحابِ الهُدَى ... ولله يا نفسُ فاسْتَسْلِمي
أطَل عَلى النّاسِ شَهْرُ الصَّيام ... فبُشْراكِ بالوافِدِ المُكْرم
هَلُمّي هَلُمّي بهِ نَحْتَفي ... ونُعْلِنُ عَنْ فرحَةِ المَقْدَم
أعيذُكِ مِنْ نَزَغاتِ الهوَى ... وفي مَوْسِم الخِصْبِ أنْ تُحرَمي
على عَتَباتِ الرّضا والسّلام ... أَطيلي الوُقوفَ ولا تَسْأَمي
فإنْ جادَ بالعَفْوِ رَبُّ السمَّاءِ ... فحسْبُكِ ذلكَ مِنْ مَغْنَم
وحسبُكِ أَنّا عَفَرْنا الجَبينَ ... لدَيهِ وفي حِصْنِهِ نَحْتَمِي
***
__________
(*) من ديوان "نداء الحق" للشاعر أحمد محمد الصديق.(3/333)
أيا نفسُ إنا نشُقُّ الطريقَ ... على شَوْكِ مِحْنَتِنا المُوْلِم
نُريدُ لأمتنا أنْ تَسيرَ ... على المَنْهَج الواضحِ القيِّم
نُريدُ الحَياةَ التي تَرْتَقِي ... وتَسمو بها همةُ المُسْلِم
فنَجْهَرُ بالأمرِ بينَ الأنام ... ونصدعُ بالحق مِلءَ الفَم
ونَخْلَعُ قَيْدَ الهَوانِ الثّقِيلِ ... ونَنْهَضُ مِنْ كَهفِنا المُظلِم
ونَكتُبُ بالنُورِ "فتحا" جديدا ... و"بَدْرا" نُسَطرها بالدم
وتِلكَ الأمانيُّ مَرْهُونة ... بأقدارها في الغَدِ المُلهَم
***
صِيامُكِ يا نفسُ فيهِ الخَلاصُ ... مِنَ الضعْفِ والعَجْزِ والمأثَم
ومِعْراجُكَ الفَذ تَقْوى الإِله ... فَرَكْضا إلى الله لا تُحْجِمي
في رحاب رمضان
نَبّهْتَ فينا أنفُسا وَعُقُولا ... وحَلَلْتَ للخَيْرِ العَميم رَسولاً
رَمَضانُ يا رَوْضَ القُلوبِ تَحِيّةً ... خَطَرَتْ تَجُر إلى حماكَ ذُيُولا
قدْ جِئْتَ مَرْجُوا لأكرم نَفْحَةٍ ... تَذَرُ الفُؤادَ بسِحْرِها مَتْبولا
رَمَضانُ حسبُكَ ما شَرُفْتَ بِهِ فقَدْ ... فُضلت مِنْ رَبِّ السَّماء تفْضيلا
غَصَّتْ رِحابُكَ بالتُّقاة وَهَوَّمَتْ ... فيكَ المَلائِكُ صعدا ونُزُولا
وتتبابَعَتْ رَحَماتُ ربكَ شُرعًا ... كالغَيْثِ فاضَ مُبارَكا مَقْبُولا
أَيامُكَ الغَرّاءُ طاهِرَةُ الرُّؤى ... مِثلُ الحَمائِم تَسْتَحِتمُّ أَصِيلاً
وَجْهُ الحَياةِ على ضِفافِكَ مُشرقٌ ... وأريجُكَ الذّاكي يَهُب عَليلا(3/334)
تَسْمو بهِ الأرْواحُ فَهْيَ طَلِيقَة ... رَغِبَتْ إلى كَنَفِ الخُلودِ رَحِيلاً
حَنَّتْ لمغْناها القَديم فلمْ تجدْ ... إلا سَبيلَكَ للخُلودِ سَبيلا
نِبْراسُكَ الوَضاءُ يُعْلِنُ للورَى ... شَرع السمَاءِ مُنَزَّلا تَنْزِيلا
آياتُهُ الزّهْراءُ فيدكَ تَلألأتْ ... وَحْيًا يُقيمُ إلى الفلاح دليلا
سادَتْ بِهِ حينَ استَقامَتْ أمةٌ ... واعْتَزَّ مَنْ في النيرِ كانَ ذَليلاً
قدْ كانَ مَدْرَسَةٌ تُعد أئمّةً ... نَشأوا على النَّهْجِ القَويم عُدولا
وكأنهمْ في اللهِ قلب واحِدٌ ... يَحْيا بنِعْمَةِ ربِّهِ مَوْصولا
***
رَمَضانُ هلْ لي وَقْفة أستَرْوِحُ الذ ... كْرَى وَأشُفُ طَلها العْسُولا
إنا لنَسْبَحُ في الهَجيرِ فَهَبْ لنَا ... مِنْ ماءِ كَوْثَرِكَ العَزيزِ قَليلاً
إنّا لَفِي زَمَن مَسيخٍ وجهُهُ ... قَدْ مَرغوهُ سُبَّةً وَوحُولا
الصّالحونَ أولُو النهي في أهْلِهِ ... غُرَباءُ سيمُوا الخَسفَ والتنّكيلا
أَتَخالُ عَصْرَ الجاهِلِيةِ قدْ مَضى؟! ... لا لَمْ يَزَلْ عهدُ الظلام طَولا!
كمْ مِنْ أبي جَهْلٍ تَراهُ مكابِرًا ... وتَراهُ يُوقِعَ في المفاسِدِ جِيلاً!
أدْهى عُصورِ الجاهِليةِ عَصْرُنا ... فاعْجَبْ لهُ بالعِلم صارَ جَهُولا!
العِلمُ بينَ يَدَيْهِ سَطوَةُ غاشِمٍ ... جَحَدَ الإِلهَ.. وَأَخْطأ التّأويلا
وغَدا سِلاحُ العِلم فوقَ رِقابِنا ... شبَحًا يُخِيفُ مَصِيرَنا المجْهُولا
لَيْل ونْ طالَتْ غَياهِبُ ظُلمِهِ ... فلَسَوفَ يَتْلوهُ الصباحُ جَميلا
***(3/335)
رَمَضانُ!.. هلْ لي وَقْفَة أَسْتَرْجِعُ الـ ... ـماضِي ... وأرْتَعُ في حِماهُ جَذُولا؟
يَستَعْذِبُ الأملُ المعَذَّبُ رِحلَةً ... تَخِذَتْ مِنَ المجْدِ التليدِ مَقيلا
أَبطالَ "بَدْرٍ" يا جِباهًا شُرِّعَتْ ... للشمسِ تَحْكي وجْهَهَا المصْقُولا
كنتُمْ على تاجِ الزَّمانِ لآلئًا ... لعَتْ ... وكنْتُمْ فَجْرَهُ المأمُولا
حَطَّمْتُمُ الشِّرْكَ المُصَعِّرَ خَدَّهُ ... فَارْتَدَّ مَشْلولَ الخُطى مَخْذولا
غَنَّيْتُ يومَ "الفَتْح" مُصْحَفَ مَجدِكُمْ ... طَرِبًا ... أُرَتِّلُ آيَهُ تَرْتِيلا
ولمَحْتُ مَكَّةَ في الخَيالِ وقدْ عَنَتْ ... لِلحَقِّ ... زائِغَةَْ العُيونِ ذُهولا
وطَلائعُ الجُنْدِ البَواسِلِ أَتْرَعَتْ ... طُرقاتِها بَحْرا يَفِيضُ سُيُولا
وأَكادَ أَنْظُرُ للنَّبِي مُطأطئًا ... متواضعًا ... جَمَّ الوَقِارِ.. جَليلا
وَيَصيحُ "جاءَ الحقُّ" وهوَ يُبيدُآ ... لِهَةَ الضلالِ ... ويمْحَقُ التّضْليلاً
أَينَ الطغاةُ الآثِمونَ؟ لقد عَفا ... عنهمْ ... فَكانُوا للرّسُولِ قَبِيلاً
أَتَرى لَهُمْ سَنَدًا مِنَ الصنَم الذي ... يَهّوي كَثِيبًا في الرُّغَام مَهِيلا؟!
لا يَسْتَوِي رَب السَّماءِ وربُّهم ... لكن عِبْءَ الحَقَّ كانَ ثقِيلا
***
يا إِخْوةَ الإسْلام.. إِنَّ سبيلَنا ... للنّصْرِ يَسْتَدْعي الفَتَى المسْئولا
يُعْلي على الحَقِّ المُبينِ لِواءَنا ... حُرِّا.. ويَطْرُدُ غاصِبًا ودَخِيلا
هِيَ ذي أفاعي الغَدْرِ تَنْفُثُ سُمَّها ... أَفَلا نُحطمُ نابَها المهزُولا؟!
لوْ سادَ حُكُم اللهِ فينا لمْ تَهُنْ ... في القُدْسِ قبْلَةُ مُصْطَفانا الأولى
كَلا ... ولا كانَ الجِهادُ تَظاهُرا ... وَالدِّ-ينُ في أَو-طانِنا مَغْلولا
***(3/336)
رَمَضانُ هذي مِنْ فُيوضِكَ رَشْفَةٌ ... بَلَّتْ لأحْشاءِ الشَّجِيِّ غَليلا
جِئْنا لنَنْعَمَ في لِقاكَ.. ونحتَفي ... بكَ فِتْيةً عَرَفُوا الهُدَى وكُهولا
ولَكَ الجَوانِحُ رائحًا أَو غادِيًا ... مَثْويً تَحِل به رِضًا وقَبُولا
تأملات في رمضان (*)
أَطِليّ عَلَيْنا مِنْ سَمائِكِ كالبَدْرِ ... فلَيْلُ السُّرَى مِنْ حَوْلِنا تائِهُ الفَجْرِ
أَطِليّ ... فَفِي طَياتِكِ النورُ والهُدى ... هُوَ البَلسَمُ الشّافي لأدْوائِنا الكُثْرِ
ويا ذِكْرَياتِ المجْدِ سِفْرُك حافِلٌ ... تُطَالِعُنا آياتُهُ مِنْ حِمى "بَدْرِ"
وتَنْفَحُنا مِنْ رَوْعةِ "الفَتْحِ" نفْحَةٌ ... تَموجُ لها الأحْلاَمُ ضاحِكَةَ الثغْرِ
رَأَيْنا فُلولَ الشِّرْكِ كيفَ تَحطمَتْ ... على صخْرَةِ الإيمانِ في وَقْعَةِ الدّهْرِ
وكيفَ تَحَدّى الفَجْرُ جَيشَ ظَلامِهمْ ... وخَطَّ سَبيلَ المؤمِنينَ إلى النّصْرِ
وأَعْلَنَ أَنَّ الحَق لابُدَّ ظافِرٌ ... ولوْ بعْدَ حِينٍ فانَتظِرْ ساعَةَ الصفْر
رَسُولُ الهُدى قدْ كانَ للناسِ رَحْمَةً ... تَشِعُّ بأنْوارِ الهِدايةِ والبِرّ
أَقامَ بعَيْنِ الله دَوْلتَهُ الّتي ... هِيَ العَدْلُ في أَعْلى مَراتِبهِ الغُرِّ
وَكنّآ بِه خيرَ الأنام.. فما لَنا ... نُخالِفُهُ نَحْوَ الضلالَةِ والخُسْرِ؟!
بَواتِرُنا كانَتْ إذا التمعت ضحى ... يَبِيتُ لَها كسْرى وقَيْصَرُ في ذُعْرِ
حضارتنا كانت هي العلم والتقى ... ولكنَّ هذا العَصْرَ يَفْخَرُ بالعُهْرِ
تَدورُ بِنا الأيامُ.. والكُلُّ غافلٌ ... وها نحنُ في التيّهِ البَعيدِ.. ولا نَدْري
__________
(*) أحمد محمد الصديق من ديوان "نداء الحق".(3/337)
ولولا انْتِفاضُ الروح يَدْفَعُ رَكبَنا ... ويَبْعَثُ ما في مَعْدِنِ التُرْبِ مِنْ تِبْرِ
ولولا كِتابُ الله يَنْسابُ نورُهُ ... حياة.. لباتَ الكونُ أَشْبَهَ بالقَبْرِ
وأمْسَتْ بُيُوتُ الظّاعِنينَ مَلاعِبًا ... لِريح البِلى والقَصْرُ يَنْعَى على القَصْرِ
فيا إِخْوةَ الإسلام عُودُوا لِربكُمْ ... لَقَدْ ضَل مِنا الرّكبُ في المَهْمَهِ القَفْرِ
وَقَدْ رانَ لَيْلُ الجاهليةِ ضارِبًا ... سُرادِقَهُ.. لا يَستَقيمُ على أَمْرِ
رَحيمُ بِنا رَبّ السماءِ ... وإنهُ ... لَيُمْهلُ.. والإنْسانُ يُمْعِنُ في الكُفْرِ
أَلا أيها الإنسانُ إنكَ كادِحٌ ... ولابُدَّ أنْ تَلقي غَدًا حاصِلَ العُمْرِ
فَإِمّا نَعيما كنتَ تَرْجوهُ مُوقِنا ... وإما جَحيمًا -كنتَ تَغْدُوهُ -بالشَّر
***
دَعَا رَمضانُ الخَيْرِ كل مُرابِطٍ ... لَدَيْه.. فَلَبى المؤمنونَ على الإثْرِ
وطافَتْ بهم ريحُ الجِنانِ عَليلةً ... تَهُب مِنَ الرحَمنِ.. ذائِعَةَ النشْرِ
تَنَفسَ فيها الخُلدُ حينَ تفتحَتْ ... أزاهيرُهُ البَيْضاءُ في "ليلةِ القَدْرِ"
فَطُوبى لِمَنْ يَحْظى بِشَمَ عَبيرِها ... فَيَسْجُدُ مَغْشيًا عَلَيْهِ مِنَ البِشْرِ
ويَضرعُ في حُب ويَبكي من الجَوَى ... ويَكْتُمُ أشواقًا تَأجحُ كالجَمْر
ويُصْغِي إلى صَوْتِ السماءِ كأنَهُ ... صَدى خَفَقاتِ القَلبِ يَنْبِض في الصَدرِ
صيامُكَ مِفْتاح لِكُل فَضيلَة ... يُزودُكَ التقوى. ويُغْريكَ بالطُّهْرِ
فقلْ مُخلِصًا: آمَنْتُ باللهِ واستَقِمْ ... وأحْسِنْ لَهُ الأعْمَالَ في السِّر والجَهْرِ
هنا مَصْنَعُ الأبطالِ.. يَصْنَعُ أمَّةً ... وينفُخُ فيها قوةَ الرّوح والفِكْرِ..
ويَخلَعُ عنها كل قَيْد يَعوقُها ... ويُعْلي منارَ الحَق.. والصدْقِ والصبْرِ
تَصومُ إذا صامَتْ عَنِ الفُحْشِ والخَنا ... وتُفطِرُ في مَنْأي عَنِ الرِّجْسِ والجَوْرِ(3/338)
لَها العِيدُ بُشْرى في الحَياةِ.. ومثلُهُ ... وأفضَلُ منْهُ يَوْمَ تُبْعَثُ في الحَشْرِ
ربيع الروح (*)
"رمضانُ" "أقبلَ قُمْ بنا يا صاح" ... هذا أوانُ تَبَتُّلِ وصَلاح!
الكونُ معطارٌ بطيبِ قُدُومِهِ! ... روْحٌ وريحانٌ ونفحُ أَقَاحِي!
"صفْوٌ أتيحَ فخذْ لنفسكَ قِسْطَهَا ... فالصفوُ ليْسَ على المَدَىَ بمتَاح"!
واغنم ثواب صيامِه وقيامِه ... تسعدْ بخيرٍ دائِمٍ وفَلاح!
***
كم مؤمنٍ لم تُلهِهِ الدُّنْيَا فَلَمْ ... يستبدل الأتْراحَ بالأفْراح (1) !
قَوّام ليلٍ نائمٌ عنه الكَرَى ... الصَوَّامُ واع صَاحِ!
وحلفِ شيطان غوىَ لم يزلْ ... عبدا لبنتِ الكرِمْ والأقْدَاح!
في لَيْلَة زُمرُ المعاصي تنْتشِي ... ونهاره في غفلة ومزاح!
"رمَضانُ" لا يَثْنِيه عنْ آثَامِه! ... واهي العقيدة في إهَابِ وَقاح (2) !
***
الصَّومُ يُعْلِي مَنْ وَضيع غرائز ... وطبائع سُودِ الوجُوهِ قِبَاح
تلك الغرائز كمْ لها مِنْ صوْلة ... مسْعُورَةِ الأنيَابِ ذاتِ نُبَاح!
__________
(*) ديوان شعر السيد الصديق حافظ.
(1) الباء تدخل على المتروك في هذا التعبير قال تعالى: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) .
(2) واهي: ضعيف. إهاب: جلد.(3/339)
والنَفْسُ إنْ سَقَّتْ وهِيض جَنَاحُها (1) ... فالصَّوْمُ معْراج بِغيرِ جَنَاح!
الصّوْمُ يمنحنا مشاعرَ رَحْمَة ... وتعاونٍ، وتعفُّف، وسَمَاح!
"رمضانُ" فيه ليلةٌ خير لَنَا ... مِنْ ألفِ شهْرِ في الزَّمَانِ صِباحِ!
فيها تَنَزَّلُ بالسَّلام مَلائِك (2) ... والرَوحُ حتى مطلع الإصْباح!
قد أنزِل القرآن فيها جامعًا ... لمراشِدِ التهذيب والإصْلاحِ!
ومصدِّقًا للرُّسْلِ فيما بَلّغُوا ... عن مُنْزِلِ الأسْفَارِ والألوَاح!
هذا كتاب الله زادُ مُسَافر ... وبرودُ ماءٍ في الهَجِير قَرَاح (3) !
أقبلْ عليه فإن من نفحاته ... تقوى القلوبِ، وبهجةَ الأرواح!
يا ليلةَ القدْر امنَحِي أيامَنا ... فضلَ الكريم المنعْم الفَتَّاحِ!
رباه إنّي فِي ضَلاَلٍ حائر ... عان أنوءُ بحِمْلِي الفَدَّاح!
هَذِ خُطايَ على الطريق ضريرة ... يكْبُو غُدُوِّي باكِيًا ورَوَاحِي!
ثارتْ بِيَ الشهوَاتُ فاصرفْ شَرَّهَا ... عنِّي وكَفْكِفْ ثَوْرَتِي وجِمَاحي!
يا نُور هذا الكونِ هَبْ لبَصِيَرتِي ... قبسا من المِشْكَاةِ والمِصْبَاحِ!
إني لِمَا أنْزَلتَ مِنْ خير فَقير ... فاغْنِنِي واملأ بعفْوِكَ سَاحي!
وامُدد يَديْك أبي إني هَالِك ... وامنُنْ عَلَيَّ بتوبْة وَصَلاح!
واجعَلْ صِيَامَيَ راحةً لمتَاعِبِي ... واجعل قِيَامِي بَلسَما لجِرَاحِي (4) !
__________
(1) سقت: دنت من الخطايا، المعنى: إن تدنت النفس في الخطيئة فإن الصوم يعرج بها، وينأى بها عن الرذائل.
(2) تنزل: أي نتنزل حذفت تاء تخفيفًا قال تعالى: (تنزل الملائكة والروح فيها) .
(3) إن كتاب الله زاد المؤمن في رحلة الحياة، والماء البارد الذي يدفع عنه لهب هجيرها اللافح.
(4) مجلة الأزهر الجزء التاسع، السنة الخامسة والستون.(3/340)
ذلك هو الصوم (*)
يا عظيم البَطنِ.. حاذِرْ ... قد أتى.. شهر الصيام
فُقْتَ في الإنفاق حدَّ الطَّوْقِ.. في صُنْع الطعام
حَسْبك الإسرافُ والتبذير ... شهرًا.. كل عام
وتقشفْ بعد عيد الفطر، وامْسِكْ بالزمام
يا إلهي!.. ضاع في الشهوات.. مفهومُ التسامِي!
***
كيف تصفو رُوح مَرْءٍ ... نفسُهُ للطُّعْم وَلهَى
فيقضِّي يومَ صوم ... في شُرُودٍ ... يتشهَّى
فكرُه عن ذِكْرِ رب الصَّوْم.. ناءٍ.. يتلهَّى!
والذي مِنْ (فِيِهِ) يُؤذي السمع والإحساس ... أدْهَى!
***
ما الصيِّامُ الحقُّ إلاْ ... مَرْتَع للرُّوح خِصْب
فيه أثْمار ونهر ... ناقعُ الإرْوَاء عذْب
لذة الأرواح فيه ... عن طعام الجسم.. تربو
يَطعَمُ الصُّوَّامُ من جُوع ... من الزراق ... قربُ
كيف يظمى أو يُعاني ... الجوع.. مَنْ يرعِاه رب؟
***
__________
(*) ديوان للشاعر/ محمد عبد الرحمن صان الدين.(3/341)
أيها الراجي ثِمار الصوم ... أعْط الصومَ حقَه
من خشوع واصطبار ... والتذِاذ بالمشَقَّه
وانطلاق في سبيل العيش.. في رِفَّق ورقه
طارحا عن روحك المغلول.. بالشهوات رِبْقه
إن في هذا لِعَبْد الجسم طول العام عِتْقه
***
في صيام الشهر طبُّ ... ليس يدريه طبيبُ
فيه أسرار يعيها ... صائم حقًا أريب
فيه غيث من صفاء ... ترتوي منه القلوب
فيه للأرواح سَبْحٌ ... دونه الكون الرحيب
صائم في دِرعْ تقوى ... تنْجَلي عنه الكروب (1)
إرهاف للإحساس (*)
أطلِقِ الأرواح من أصْفَادها ... في بهيج من رياض الأتقياءْ (2)
غاديات رائحات كالسنا ... سابحات بين آفاق الضياءْ (3)
إنها يا شهر ظمأى فاسقها ... مشتهاها من ينابيع الصفاءْ
شهوة الأجساد قد ألقت بها ... في قفار، ليس فيها من رَوَاءْ
ما غذاء الجسم في ألوانه ... فيه للأرواح شيء من حِبَاءْ (4)
__________
(1) مجلة الأزهر الجزء التاسع - السنة السادسة والستون.
(*) ديوان شعر محمد عبد الرحمن صان الدين.
(2) أصفادها: قيودها.
(3) السنا: الضوء.
(4) حباء: عطاء.(3/342)
إنما الأرواح تحيا بالذي ... في صيام الجسم تُزجيه السماءْ (1)
يا ربيع الروح أقل، واعطها ... صولجان الحكم في دنيا الشقاء
كي يعيش الناس من آلائها ... في رفاء، وازدهار، وارتقاء (2)
هل درى أهل الحجا أن الذي ... شيطن الإنسان في الأرض اشتهاء؟ (3)
زورق الشيطان في وجدانه ... طُعْمَة فيها مع الإفراط داء
ما ارتقت إلا بزهد أنفس ... في طعام عنه عاشت في غَنَاء
واطمأنت في حياة الروح لا ... تبتغي إلا لُقَيمات، وماء
إنما سلطانها من دونه ... كل سلطان به الإنسان باءْ (4)
حَسْبُهُ أن أخضع النفس التي ... تَسترِقُّ الناس حتي الأقوياء (5)
أي سلطان يكف النفس عن ... موبقات غير قيد كالوجاء (6)
إنه الصوم الذي أوحى به ... -رحمة بالناس- رب الحكماء
فيه ترويض لطبع جامح ... فِيه رَوْح، فيه للمرضى شفاء (7)
فيه للإحساس إرهاف فلا ... يأخذ الدنيا بعين الأغبياء
ليت من قد أفطروا فيه وَعَوْا ... ما به قد جاء خير الأنبياء!
في كتاب مُنْزَل أو سنَّة ... من بيان ليس فيه من خفاء
من تَعَامَى عن هُدَاه عامدًا ... فَليسِرْ في غَيه أنى يشاء
__________
(1) تزجيه: ترسله.
(2) آلائها: نعمها.
(3) الحجا: العقل.
(4) باء: رجع.
(5) تسترق: تستعبد.
(6) موبقات: مهلكات، والوجاء: قطع مصدر الشهوة.
(7) روح: راحة وترويح.(3/343)
إنَّما الدنيا سرابٌ خادع ... يصرف اللاهي به عَمَّا وراء (1)
كل لَذاتٍ بها موقوتة ... شفي ثناياها بذور الانتهاء
فاصرف الإحساس عنها وانتظر ... دائم اللذات في دار البقاء
إ-نه آتٍ -بلا رَيْب- فلا ... تغمِضِ الأجفان عن آتي القضاء (2)
شهر الرضا والنور (*)
ألا أقبِلْ هُدى ورضًا ونُورَا ... وخيرًا عامرًا يغْشَى المَزُورَا
نُعِدُّ ليُمْن موسمك التّهاني ... نَعُدُّ ليوم مقْدمك الشّهورا
لنملأ بالندا المُهَجَ الصَّوادِي ... ونَرْوي من سنَا التّقوى الصّدورا
بنور تلاوةِ القرآنِ نُجْلِي ... بصائرنا.. نضيء بها القُبورا
نصومُ.. -نقومُ في- شوق وجد ... وعند الله نحْتسبُ الأجورا
بِكَ الأرواحُ ترشفُ وهْي ظمأى ... شرابًا.. منكَ تسكُبه طهورا
تَلَقّاهُ.. فيُسكرها هيامًا ... وتُسْقَاهُ.. فَتغمُرها سرورا
فُيوضاتٌ من المنّان تَتْرَى ... مواكبُها.. نُعاينُها سُطورا
بآياتٍ من التنزيل تُحْيي ... عزائمنا.. فتأَبى أن تخُورا
فتلك إشارَةٌ بالقُرْب تُسْدَى ... فتدفَعُ عنكَ شرًا مستطيرا
وتلك إشارةٌ بالعفْو تُزْجَى ... فأوقن أنّ لِي ربِّا غُفورا
__________
(1) عما وراء: المراد به الآخرة التي تأتي بعد الدنيا والحياة.
(2) مجلة منبر الإسلام.
(*) ديوان شعر لفريد قرني.(3/344)
وتلك تشير للعُقبى.. لتخَشى ... بها يومًا عبوسًا قمْطريرا
ويا رمضانُ يا كرمًا وجُودًا ... تخوضُ البُشْريات بها بُحورا
بكَ الحسناتُ يا شهْر التجلّي ... يضاعفُها لنا المولى.. كثيرا
وأرضُ المسلمين.. -لكل -برٍّ ... تعجُّ مساجدًا.. وتموجُ دُورا
وأبوابُ الجنانَ.. مفتّحات ... حُلاها ازيَّنَتْ.. غُرفا وحُورا
وأبواب الجحيم.. مغلقات ... وتجتنب الشياطين.. الظهورا
وفيكَ بليلة القدْر العطايا ... وإنَّ لشانها الأمرَ الخطيرا
هلالكَ.. حلوُ موعدِه ابتهاجٌ ... يفيضُ على الجميع.. رضًا ونُورا (1)
أشرق.. يا رمضان (*)
أشرق على الأكوان يا رمضان ... فلأنت فيها صبحها الريان
أشرق وفجر في البرية فجرها ... إن الوجود إلى السنا ظمآن
أو ما حملت إلى الحياة حياتها ... فهدى الحياة وروحها القرآن
ناديت كل العالمين لشرعة ... في ظلها تتوحد الأكوان
لا لون بل لا جنس فيها سابقٌ ... بل بالتقى فيها الفتى يزدان
فيها بلالٌ للشموس مزاحمٌ ... والمسلمون بِظلها إخوان
وبنورها الإسلام عانق مجده ... ولحكمه قد دانت التيجان
هي شرعة طلعت صباحًا زاهرًا ... فالكون من نورٍ لها مزدان
بعثت حصا الصحراء فانتفض الحصا ... قممًا بها كم يزدهي الشجعان
__________
(1) مجلة منبر الإسلام.
(*) ديوان شعر للشيخ أبو زيد إبراهيم سيد.(3/345)
والرمل أورق بالفوارس والقنا ... وتفجر الإيمان والفرقان
والليل ليل الجاهلية قد هوى ... وهوت على أقدامه الأوثان
والليل ليل الجاهلية قد هوى ... وهوت على أقدامه الأوثان
والصبح يكتسح الظلام ضياؤه ... ويرن في سمع الورى آذان
الله أكبر أي روحٍ قد سرت ... فصحا على أنوارها الإنسان
إنَّ الحياة الحق في ظل الهدى ... قرآن ربي إنه الفرقان
***
يا أيها الشهر الكريم ومن به ... تسمو النفوس ويخشع الوجدان
فالصوم تزكية النفوس وطهرها ... ولكبح كل زرية ميزان
والصوم تربية الضمير فمن سما ... فيه الضمير تألق الإيمان
كم صائم والصوم منه مبرؤ ... وبرجسه يتفاخر الشيطان
صوم الجوارح أن تكف عن الأذى ... لا صوم في صوم به أضغان
والصوم صدق وانطلاق عزيمةٍ ... في الله يكبو دونها الكسلان
والنصر في بدرٍ وجالوتٍ أما ... أزكى عزيمة جنده رمضان
كم صاغ دين الله أعظم قادةٍ ... بهم ازدهت وتفاخرت أوطان
في الليل رهبان قيامٌ سُجّدٌ ... وإذا النهار أتى هم الفرسان
تلقاهم القرآن في أخلاقهم ... وسلوكهم هم للهدى عنوان
سل أرض أندلس تجبك حضارة ... وعدالةٌ غنَّت بها الأسبان
الفتح بالأخلاق قبل سيوفهم ... كان الأساس وما بهم عدوان
يا أيها الشعر العظيم تحية ... هل منك درسٌ يأخذ الإنسان(3/346)
في عصرنا عصر الفضاء وذرة ... يغلي بعالم عصرنا بركان
والعلم ما هو للسلام وإنما ... هو في التقدم يسحق العمران
مقياس حسن الاختراع وخيره ... كم من نفوسٍ تأكل النيران
إن الوحوش بغابها قد روعت ... وخلا من الغاب القصي أمان
عجبا أيا رمضان ما أنا قائل ... عيَّ البيانُ فهل لديك بيانُ
وكأنني بالصوت ملء مسامعي ... وهديره رعدت به الآذان
عودوا لينبوع الضياء فإنه ... فيه السعادة إنه القرآن (1)
شهر الصيام (*)
واحة أنت في صحاري الوجود ... ونسيم يرف بين الورود
في زمان الجفاف أنت ربيع ... وشعاع في حالكات العهود
فيك حارت قرائح ملهمات ... تبعث الشعر من قرار الهمود
كل طرف البيان هو حسير ... عن بلوغ المدى ودرك الشهود
شق سهم الضياء ستر الدياجي ... فالضلالات هاويات البنود
حينما شع في الفضاء بريق ... باسم الثغر من هلال السعود
فتح الكون صدره لحبيب ... رحمة الله فيه بعض الوفود
لبس الكون حلة الطهر منه ... حين وافى على ثنايا الوجود
نشر النور في دروب الحيارى ... أطلق القلب من إسار القيود
يا حبيب القلوب أنت قريب ... ما طواك الزمان خلف الحدود
__________
(1) مجلة منار الإسلام.
(*) ديوان شعر لصالح أحمد البوريني.(3/347)
إيه شهر الصيام أقبلت تسعى ... صادق الوعود وافيًا بالعهود
مشفق القلب مخلص الود تبغي ... وصل من كان مخلفًا للوعود
مشرق الوجه ما رجاؤك إلاَّ ... أن تتوب الحشود إثر الحشود
زائر الخير أنت فينا كريم ... ولطيف المقام حلو الورود
وافد البشر أنت ضيف عزيز ... والمضيفون في شتات الجهود
جمع الشمل أيها الشهر إنا ... في اشتياق لكسر طوق الجمود
وحد الصف ما أرى الناس إلاَّ ... تتمنى زوال هذي الحدود
أيها الشهر أنت سفر المعالي ... أنت شمس الزمان بين العقود
أول الحظ ر-حمة -تتلألأ ... تزرع الحب في فؤاد الحقود
تنزع اليأس من قلوب عصاة ... أمل العفو حظ أهل الجدود
بشر التائبين بشرى أمان ... يا نعتاق من خزي نار الخلود
وهنيئًا للمتقين بشهر ... يرف الجود من نداه بجود (1)
***
__________
(1) مجلة منار الإسلام.(3/348)
اعتذار إلى الشهر المبارك (*) .
جِئْتَ والجُرحُ غائرٌ في فُؤادي ... وحَكايا بُطولَتي كالرَّماد
وأنا واقفٌ ألمْلِمُ أشْتاتي ... وأَرْنو إلى وجوه العِبادِ
أتَّقِي الشمسَ باليدْينِ وأحْيَا ... في زمانٍ يَنوءُ بالأصْفادِ
أيُّ شيء لم يقتلوهُ جِهارًا ... أو يَبيعوه جُمْلةً في المزادِ؟
حملوا جُثَّةَ الضَمير إلى القبرِ ... وعادوا في خَشْعةِ الزُّهادِ!!
***
أخْمدتَنْي ضراوَةُ الغزْو حتى ... بِتُّ أغْزو منْ شِقْوَتي أولادِي
وعلى وقْع خُطوتِي نَبَتَ الإثمْ ... وَضَجَّتْ في مِخلبي أحْقادِي
عصرنُا يَا شقِيقتي عصُر صَيْد ... كمْ هتَفْنا لِجُرْأةِ الصيادِ
***
جئتَ يا شهرَنا العظيمَ فَإنّي ... خَجِلٌ منكَ من خُطاي وزادي
جئتَ بالسيفِ والجوادِ ولكنْ ... أيْن من أدْمنوا ظُهُورَ الجيادِ
هَا هُوَ السيفُ قد تَكَفَّنَ بالصمتِ ... تَوارَي في عتْمة الأغْمَادِ
أكلتْهُ السُّنونُ.. بال عليه الدَّهـ ... ـر.. أضْحى أُلعَوبةً للقُرادِ
فَقَدَ الشهوةَ الحميمةَ للضّرْبِ ... تَوَارى عنْ مسرح الأمجادِ
وعَلَى بابنا يَمُوءُ جَوادٌ ... لمْ أجِدْ فيها (مَلمَحا) للجواد
لمْ تُفجرْهُ عاصِفاتُ الليالي ... لا وَلا هزَّه الأسَى في بِلادي
***
__________
(*) محمود مفلح من ديوان "إنها الصحوة إنها الصحوة".(3/349)
إيهِ يا شهرَنا العظيمَ فإنّي ... سَقَطتْ أصْبُعي وضاع زِنادي!
مُنذُ قَرْن وفي فَمي أغْنِيات ... لمْ تُحرِّكْ شرارة في الرمادِ
لَطَمَتْ وجهِيَ الأعاصيرُ هانَتْ ... في عُروقي عَرَاقَةُ الأجْدادِ
بَيْنَ كأسٍ وقَيْنَة بِت أحيا ... مُسْتَهَامًا بِقَدِّها المَيادِ
***
نحن يا شهرَنا العظيمَ غَدَوْنا ... أرْنبات تَفر منْ صيادِ
وغَدَتْ خيمةُ الأخوةِ في الريح ... بِلا أعْمُد (1) ولا أوْتادِ
كتَبتْنا الأيام في هامِشِ السطرِ ... رَوَتْنا من غيرِ ما إسْنادِ
كمْ بَتَرْنا يَدَ الأثِيم فصِرْنَا ... نَلثُمُ اليومَ خِنجر الجلاد
سيدا واحدًا عَبَدْنَا وَها نَحـ ... ـنُ نُعَانِي من تُخْمةِ الأسْيادِ
***
عُفْوَ طُهْر الأنْفاسِ منكَ فَإني ... قدْ فَقَدتُ النجيب منْ أولادي
ملعب، للنُّجوم أنتَ وفوق النجم ... شَعَّت فيما مضى أعْيادي
فيكَ غَنَّتْ بمسْمَع الدهرِ "بَدر" ... وحَدَا موكبَ الرجالِ الحَادي
وتَلَوْنا الأوْرادَ فيكَ فرَاحَ ... النصرُ يَجْري على خُطَا الأوْرادِ
وهدَمْنا مَنَابرَ الشركِ حتى ... فَقَدَ الشركُ ظله في بلادي
مَنحَتْنا الآياتُ وجْها فكنا ... وانْبِلاجَ السَّنَى على مِيعادِ
***
إِيهِ يا شهرَنا العظيم شُموخا ... قَدْ تَنَسمْتُ منْ شَميم الوادي
ضُمنَا ... ضُمنا إليكَ فَإنا ... لمْ نَزَلْ من بَنيكَ وَالأحْفادِ
أطلِقْ الرُّوحَ من عِقالِ التَوابيـ ... ـتِ وزينْ أيَّامَنَا بالجِهادِ
__________
(1) أعمُد: أعْمِدَةُ.(3/350)
رمضان (*)
بالحب فيِك.. تلاقَتْ الأرواحُ ... أتُرى.. عليها -إذ تبوحُ- جناح؟
تمضي شهورُ العام.. وهي مع الهوى ... تمضي، وفي غبنِ الهوى تنداحُ
ويلوحُ طيفُك.. بعد غيبتك التي ... سكنت بليل، لم ينرْهُ صباحُ
فإذا بهذا الحب.. يورقُ صحوةً ... وإذا بِمَن ألِفُوا الكساحَ.. صِحَاحُ
وأذا بأفياء الهداية برزخ ... يَلِجُ القلوبَ عطاؤُه الفوَاحُ
وإذا بصوتِ الحق يهتفُ: يا ربا ... تيهي.. فكَمْ لكِ في الصيام فَلاحُ
***
رمضانُ.. منذُ وعيتُ.. أنتَ بخاطري ... فوق البيان.. وإن زهَا.. فسماحُ
كل التصور دونَ قدرك روعة ... كُل الموارد -إنْ أردتُ- شحاحُ
.. ماذا أقول، وفيكَ يعجزُ منطقي؟ ... أتراهُ يسبر غَوْرَكَ الملاحُ؟
يا زورقَ الحُث اتئد برغائبي ... وأعِنْ.. فإن دمَ المُحَبِّ مباحُ
عُدْ بيَ إلى جزرِ العقيق.. وخلني ... زمنًا.. تغازلُ رشفتي أقداحُ
عَلي إذا امتلكَ الطريقَ. توقدي ... وهَفَا إلى نغم اليقينِ براحُ
أشدو.. بما لِمْ تَسْتَطِعْهُ مزاهر ... صَدِئَتْ.. ولم ينهضْ بها إصلاحُ
عَلِّي أصوغُ من البَيَانِ يتيمةً ... تزهو بها، وتفاخِرُ الألواحُ
أنا في رحابكَ.. تستحيل حقيقتي ... ملأ.. عليه من الصفاء وشاحُ
قد يستبدُ الجوع بي، ويهُدني ... ظمأ.. ويخفت في مداي كفاح
__________
(*) ديوان شعر للشاعر يس الفيل.(3/351)
لكنَّ تقوى الله.. تحفزُ همتي ... ويشدُ من أزري لديكَ صلاحُ
وأراك يا رمضان.. رحلةَ مؤمن ... ألِفَ الطريقَ، وآنستهُ بِطَاحُ
وأراك حينَ تجيءُ.. توقظُ مَا غَفَا ... عامًا، بقلب أثخنتهُ جراحُ
فإذا بآلاء اليقين تُظِلُني ... وإذا المحبةُ.. غدوةٌ ورواحُ
وإذا أنا روحٌ تحلِّقُ في المدى ... لسنىً يلوحُ، وللصفاء يتاحُ
***
حسبي رضا.. أن أستظلَ بليلةٍ ... هي للمُحَاسَبِ.. في الحسابِ.. نجاحُ
حسبي.. وحسبُ العمر.. أن جهادَنَا ... بالعمر.. أوْرَقَ.. أمْ طَوَتْهُ رياحُ
والعمرُ.. في دَرَك الغِوَايَة رحلةٌ ... تجتاحُها.. أنَّي مَضَتْ.. أشْبَاحُ
فإلامَ يا رمضان يَلفَحُنَا أسى ... وبنا تدورُ.. على القلوبِ.. رِمَاحُ؟
جَمِّعْ قلوبَ المسلمين.. على الهُدَى ... إن الصَفَاءَ علَى يَدَيكَ مُتَاحُ
وأنرْ لِمَنْ غُلِبُوا شِعَاب جهَادِهم ... فالمتعَبُونَ علَى المروءةِ ناحُوا
إنا علَى الإيمانِ.. رَغمَ جِرَاحنا ... نخطو.. ونأملُ.. أنْ يُطِل صَبَاحُ
رمضان (*)
رمضان.. في قلبي هما هم نشوة ... من قبل رؤية وجهك الوضاء
وعلى فمي طعم أحس بأنه ... من طعم تلك الجنة الخضراء
لا طعم دنيانا، فليس بوسعها ... تقديم هذا الطعم للخلفاء
ما ذقت قط ولا شعرت بمثله ... أفلا أكون به من السعداء
***
__________
(*) ديوان للشاعر الكبير: محمد حسن فقي.(3/352)
قالوا بأنك قادم، فتهللت ... بالبشر أوجهنا.. وبالخيلاء
وتطلعت نحو السماء نواظر ... لهلال شهر نضارة ورواء
تهفو إليه، وفي القلوب وفي النهى ... شوق لمقدمه، وحسن رجاء
لم لا نتيه مع الهيام.. ونزدهي ... بجلال أيام.. ووحي سماء؟
بهما نحلق في الغمام، ونرتوي ... من عذبه.. ونصول في الأجواء
ونشف أرواحًا فننهج منهجًا ... نفضي به لمرابع الجوزاء
ونصح أجسادًا، فلا نشكوا الونى ... أبدل ولا نشكوا من الأدواء
فنعود كالأسلاف أكرم أمة ... وأعز في السراء والضراء
***
رمضان.. ما أدري ونورك غامر ... قلبي فصبحي مشرق، ومسائي
أأنال بعد مثالبي ومساوئي ... بك منهما، بعد القنوط شفائي
نفسي تحدثني بأنك شافع ... عند المهيمين لي من الأسواء
وبأنني سأنال منك حمايتي ... ووقايتي من معضل الأرزاء
ما أنت إلا رحمة ومحبة ... للناس من ظلم قسا.. وعداء
فلقد كرمت من السماء بما أتى ... من وحيها.. وشرفت بالإطراء
سدت الشهور فأنت سيد عامها ... بل أنت سيد دهرها المتنائي
مهما أقول، فلن تطول مقالتي ... شم الذرى، ولوامع الأسماء
***
رمضان.. من بعد الكدورة مسني ... منك الجلال بحكمة ونقاء
قد كنت أسدر في الضلال وأرتمي ... في حضنه بتبذل وغباء(3/353)
حتى لقيتك فارعويت عن الخنى ... وكرهت كل ضلالة وعماء
شتان ما بين الخلاعة والتقى ... أو بين عقل نابه وخواء
***
رمضان جئت وقومنا في محنة ... والدين.. جازت حدها.. نكراء
زعماؤنا -إلا القليل- تورطوا ... فيها، فشقوتنا من الزعماء
صبغوا الصوارم من دماء شعوبهم ... في الأرض، والأجواء والدأماء
تلك الدماء زكية يا ليتها ... سالت لأجل كرامة وجلاء
وتنكروا للدين، فهو خرافة ... في زعمهم جازت على الآباء
حتى غدونا في صميم بلادنا ... شذاذ آفاق من الغرباء
إن الزعامة حين تخضع رغبة ... في الحكم.. تصبح لعنة الشرفاء
كلا، فلا بالدين يعصف كيدهم ... أبدًا، ولا العربية العرباء
الدين صرح شامخ متوسد ... كنف الجبال، وهامة الصحراء
لم تجد فيهم حكمة ووداعة ... بالهمس.. أو بصراحة الصرحاء
فإذا استحى أو خاف منهم خائف ... من سوء دعوته.. دعا بخفاء
سخروا بكل مسالم.. وتهكموا ... جهلاً وموجدة على الخلصاء
الفرد يعصف بالجماعة ضاربًا ... صفحا عن التشريع والإفتاء
فإذا نصحت له تنفج وانتضى ... سيفا يسيل دما على النصحاء
لو لم يكن نذلا لما حسب العلا ... وقفا ولا إرثا من الآباء
مهلا.. فرب جريمة لم تنتقم ... من ربها انتقمت من الأبناء
ولربما عجلت فراح بطعنة ... ممن أسال دماءهم.. نجلاء(3/354)
كم أرعن أوحت له نزغاته ... بالموبقات.. فلج في الإفناء
ريعت به الدنيا وزلزل سمعها ... وضميرها من أسوأ الأنباء
لكنه استخذي وقد لاحت له ... نذر الصوارم أيما استخذاء
سحقا لطاغية إذا نزلت به ... أقداره أمسى من الجبناء
يبكي الذي سفك الدماء بريئة ... تعسًا له من سافك بكاء
من سامنا خسفًا ولاقى مصرعًا ... لم يلق غير شماتة وهجاء
***
رمضان أثقلنا عليك ولم نكن ... يومًا على أحد من الثقلاء
عفوًا، فإن نفوسنا في نشوة ... تسري من الأعضاء للأعضاء
من بعد ما اصطبرت على لأوائها ... رقصت وقد وافيت من لألاء
محبورة بثوابها.. مغمورة ... بعطائها.. مسرورة بلقاء
لازلت فينا قادمًا ومودعًا ... تسدي فنثني نحن خير ثناء
***
يا ذا الجلال.. وأنت خير مؤمل ... للخاطئين.. وأنت خير وقاء
أوغلت في سبل الهوى فإذا الهوى ... يمسي وطائي المشتهي وغطائي
وفناؤك الممتد أرحب ساحة ... من أن يضيق بآثم خطاء
ضاقت علي منازلي ومرابعي ... ومسالكي.. وجفا الجنوب كسائي
ودلفت في جنح الدياجر خائفا ... ونكصت حين أبى عليّ فنائي
لم يبق لي إلاك فارحم آبقًا ... من ناره.. بالروضة الغناء
إني أحن لزهرها وثمارها ... وتحسن برد ظلالها أحشائي(3/355)
سأطوف في أرجاائها متهللاً ... متوسلاً بعقيدة سمحاء
رغم الأثام ثوت بصدري صخرة ... شماء لذت بها من الأنواء
يا صخرتي الشماء.. إن تتوسلي ... لله أشد بصخرتي الشماء
فأنا الفقير إليه في ملكوته ... والفقر يقصد سيد الكرماء
ما أستريب بعدله وفضله ... أو أستريب بتوبتي ودعائي (1)
***
__________
(1) مجلة المنهل العدد (503) .(3/356)
رمضان (*)
رمضان يا شهر الصيام الحـ ... ـر من أسر الظلام
أطلق بأضواء الهدى ... أسر النفوس من الحطام
وأنر بقدسي الصفاء ... رؤى الحياة من القتام
وانضح عواطفنا تقى ... وأكمر نوازعنا وئام
رمضان يا أمل النفوس ... الظامئات إلى السلام
يا شهر بل يا نهر ينهل ... من عذوبته الأنام
طافت بك الأرواح سابحة ... كأسراب الحمام
بيض يجللها التقى ... نورًا ويصقلها الصيام
رفافة كشذى الزهور ... نقية كندى الغمام
شفافة الإحساس قانتة ... مهذبة الكلام
عزت على الأهواء ... وارتفعت على دنيا الرغام
وسمت إلى النور الذي ... غمر الوجود به ابتسام
نور من الفرقان يرفعها ... إلى أسمى مقام
آياته تشفى السقام ... ولفظه يطفي الأوام
رمضان معذرة فإنا ... لا وراء ولا أمام
نمنا وأسرى المدلجون ... وما عسى يجد النيام؟
طال الطريق بنا وضل ... وهذا منكبنا الزحام
__________
(*) شعر محمد بن علي السنوسي.(3/357)
ولوى الطموح عنانه ... وانقد من يدنا الزمام
سخرت بنا الأهواء ... وانطلقت تقهقه في عرام
وتخاذلت همم النفوس ... فلا انطلاق ولا اقتحام
حال يغص بها الكرام ... شجى ويبتهج اللئام
رمضان رب فم تمنع ... عن شراب أو طعام
ظن الصيام عن الغذاء ... هو الحقيقة في الصيام
وهوى على الأعراض ... ينهشها ويقطع كالحمام
يا ليته إذ صام صام ... عن النمائم والحرام
واستاك إذ يستاك عن ... كذب وزور وإجرام
وعن (القيام) لو أنه ... فيما يحاوله استقام
رمضان نجوى مخلص ... للمسلمين وللسلام
تسمو بها الصلوات ... والدعوات تضطرم اضطرام
لله جل جلاله ... ذي البر والمنن الجسام
أن يلهم الله الهداة ... الرشد في كل اعتزام (1)
***
__________
(1) المنهل العدد (502) .(3/358)
رمضان (*)
بشرى العوالم، أنت يا رمضان ... هتفت بك الأرجاء والأكوان
والشعر والأفكار، وهي عتية ... ينتابها لجلالك الإذعان
لك في السماء كواكب وضاءة ... ولك النفوس المؤمنات مكان
***
الشرق، يرقب في هلالك طالعًا ... يعنو لديه، الكفر والطغيان
وبك استهام فؤاد كل موحد ... يسمو به الإخلاص والإيمان
سعدت بلقياك الحياة، وأشرقت ... وانهل منك، جمالها الفتان
وتعلمت عنك الحصانة والحجى ... فانجاب عنها، الهم والخذلان
وتذكرت فيك العروبة، مجدها ... هل مجدها، إلا الذمار يصان
***
يا باعث الآمال، تخفق ثرة ... بالخير، ليس يشوبها بهتان
ومحرر الأخلاق، من قيد الهوى ... إن عمها من زيغه طوفان
بشراك، تفتر الثغور، لوقعها ... جذلا، ويخفق خاطر وجنان
والبشريات صدى النعيم المرتجى ... نصتْ به الآيات والأيان
ما إن تمرد عن نظامك معشر ... إلا وحق عليهم الخسران
العبقرية فيك، جلجل صوتها ... لما تنزل بالهدى القرآن
الدين عنها والحياة، تفردًا ... مجدا، وفاض بنورها الوجدان
وتهلل الحق الصراح بنفحة ... علوية، فيها هدى وبيان
__________
(1) ديوان الشاعر الكبير حسين عرب.(3/359)
يا مشعلا قبس الحقيقة، بعد أن ... أعيت عن استقصائها، الأذهان
ومبددا حلك الضلالة، حينما ... عم الدنا، من زيفها فيضان
كانت كما زعم الغواة (حضارة) ... يختال فيها الفرس والرومان
ذلت وذل على المدى عُبّادهُا ... في الغابرين، وشاه منها الشان
ولقد طلعت بشمسها، مدنية ... قدسية، تعنو لها الأخدان
شيدت علي الحق القويم، فشيدت ... مجدا، يسير بذكره الركبان
***
أشرق بنورك في الربوع، وكان لها ... أملاً، يزول بلمحه العدوان
واذكر (فلسطين) الذبيحة، أرضها ... مجلى الردى، وسماؤها نيران
فجر اليهود بها، وزاد فجورهم ... مستعمر، بعهوده خوان
دارت عليها الدائرات فأصبحت ... ينساب فيها، البؤس والأحزان
شيخ تخضب بالدماء، ومصلح ... يُنفى وحام للذمار يهان
وفتى يعذب في السجون، وغادة ... تسبي، وطفل دمعه هتان
تلك الحضارة تنجلي أسرارها ... عنهم، فلا كانت ولا هم كانوا
تدمي العيون لها، ويرتاع النهى ... من هولها، وتصدع الآذان (1)
**
__________
(1) مجلة المنهل العدد (502) .(3/360)
رمضان.. عدت ولم تزل (*)
رمضان بالحسنات كفك تزخر ... والكون في لألاء حسنك مبحر
يا موكبًا أعلامه قدسية ... تتزين الدنيا له وتعطر
أقبلت رحمى فالسماء مشاعل ... والأرض فجر من جبينك مسفر
وبسطت بالقربات مائدة الهدى ... تلقى بها الأرواح ما تتخير
هتفت لمقدمك النفوس وأسرعت ... من حوبها بدموعها تستغفر
لأمت بتوبتها جراح ذنوبها ... والنفس تسمو بالصيام وتطهر
***
رمضان بالقرآن ليلك عاطر ... ويطيب يومك بالدعاء ويزهر
كم للبطولة فيك من إشراقة ... بالنصر تسحب ذيلها تتبختر
فجرت بي بدر ينابيع الفدا ... كثبانها مسك يضوع وعنبر
أرض تربّي النبل في جنباتها ... نشأت تسبح ربها وتكبر
أرض من الإيمان تنسج درعها ... إن دق ناقوس الوغى تتفجر
عزفت سنابك خيلها أنشودة ... أودى بها كسرى وجن القيصر
***
وحملت من حطين أروع لوحة ... مازلت ذا شغف بها تستأثر
وشهدت معركة العبور صحيفة ... في المجد تهزأ بالغزاة وتسخر
***
__________
(*) ديوان شعر للشاعر أحمد سالم باعطب.(3/361)
رمضان عدت ولم تزل خطواتنا ... في كل منعطف بنا تتعثر
رمضان إنا الصابرون على الأذى ... تدمي مشاعرنا ولا نتأثر
رويت سيوف عداتنا وسيوفنا ... ببيض تكاد من الصدى تتكسر
رمضان عدت ولم تزل كلماتنا ... يغتالها الصمت الرهيب فتقبر
رمضان عدت ولم تزل بسماتنا ... تصلى العذاب على الشفاه فتصهر
لا النصح أخصب حين أجدب وعينا ... أبدًا ولا عذر يقال فنعذر
يكفي عقوقًا أننا من غفلة ... نختال في نعم الإله ونكفر
أرواحنا كلت بها عزماتها ... جوعى تسحّر بالوعود وتفطر
رمضان عصر الظلم أخرج قيأة ... في جعبتي صفاقة وتجبر
والسلم مهزلة يبيع فصولها ... زمن بقانون الحجى متحجر
والعدل مات قبيل سن بلوغه ... قتلته أطماع عليه تسيطر
هذي سراييفو تئن وما رأت ... من أهلها من يستجيب وينصر
عقمت ديار المسلمين فلم يعد ... زيد بن حارثة يصول وجعفر
***
رمضان إن أبصرتنا في غابة ... أسرى وروض الطهر فينا مقفر
ورأيتنا أمما ممزقة الخطا ... وشبابها بمصيرها مستهتر
وتبدلت أخلاقها وتحورت ... فالخوف حلم والضياع تحرر
والغدر حزم والخيانة فطنة ... والصبر أن تحيا وحقك مهدر
فارفع يديك إلى السماء لعلنا ... بوسيلة من ربنا نتغير (1)
__________
(1) مجلة المنهل العدد (513) .(3/362)
هلال الرحمة (*)
تناظرت الأيام يومًا بخشعة ... لتبدي ما تخفي سترٌ بليلةِ
لتكشف ما وَارَى الزمان بكنهه ... وتظهر ما يحويه منها بسبحةِ
لتطلب حقًا في التساوي فكلها ... دقائق تمضي في الزمان بلمحةِ
ودورة ساعات النهار بسعيه ... وكبوة أجفان الليالي بظلمة
فهذا زمان الناس يوم وليلة ... وكلّ زمان الناس عدٌ بقسمة
وكل شهور الناس أيّامُ تنقضي ... وكلّ سنين الناس تمضي بحسبة
فيا لقضاء الحق أحكم بأزْمُن ... لنيطق بيان العدل فينا بشرعة
ومن يا تُرى قاضي لتلك بليلنا؟! ... لنرقب ما يقضي بتلك القضية!
***
فطَلَّ هلال في السماء برونق ... يموج ويعلو في الفضاء كَدُرَّهِ
يسير ويسْري في المنازل سابحًا ... ويمضي بآلاء الإِله العظيمة
رويدكم يا أيها الصحب وقفةً ... بعين بصير بل بنور البصيرة
فنحن جديد الناس بيضٌ كصفحة ... ونحن سويعات الدهور لجولة
ندور ونجري في الزمان وكلنا ... يعد عن الإنسان يمضي بنسخة
ونأتي بكورًا كي يسطر فعله ... فكلّ حريُّ أن يصان بهمة
وكل حري أن يسجل بالهدى ... ويكتب بالإحسان سعيًا لجنة
ولكن أَزْمَانَ الإِله تفاضل ... بمحكم تنزيل الكتاب وسنة
***
__________
(1) ديوان للشاعر/ محمد عبد الرحمن صان الدين.(3/363)
فذا عرفات الحج أعلي مقامُه ... وفُضِّل عن أيامنا بمزية
وذا بشهور الناس شهر مبارك ... وذا بليال الناس فاز بسورة
وإني هلال الصوم من ذا يفوقني ... أُهلُّ على الإنسان في خير طلعة
ففيّ جهاد النفس تغدو كليلةً ... وتسمو على دنيا المتاع الرخيصة
ويعلو هتاف العقل صوتًا مدويًا ... ليسري بقاعات الضمير برعشة
وفيّ تَشفُّ الروحُ ترقى لتعتلي ... لتنعم فيوصل العوالي الزهية
وتضحي قلوب المؤمنين رهيفةً ... وتشرق أغوارُ الفؤاد برحمة
***
أنا رمضان الخير بشرى إلى الورى ... أنا رمضان الزاد بين العشيرة
أنا رمضان البر جودوا ببركم ... أنا رمضان الفوز جدوا لجنة
فهل يَا تُرى شهري كمثل شهوركم؟! ... وفيّ تباريح القلوب بأنه
وفي قيام الليل زلفى لخالقٍ ... وفيّ تراويح العباد بِذِلِةِ
وفيّ كتابُ الله أنزل للورى ... ليحكم بالإحسان بين البريةِ
أتانا بنور الحق يسطع بالهدى ... لتشرق أعماق القلوب بحكمة
أتانا بهدي الله والعدلُ حكْمُهُ ... أتانا بآيات الكتاب السّنية
بليلةِ قدر لا تبارى وفضلها ... حريّ بأن يُسعى إليها بعزمة
ففيها فيوض من كريم بفضله ... وفيها غياث للعباد برحمة
وفيها عظيم القدرِ والقدرُ عنده ... فيارب وفقنا لتلك المثوبة
ويارب اقبلنا بشهر فضيلة ... ويارب أعتقنا بشهر المبرة
***(3/364)
فهيا إلى الرحمن يا ناس أقبلوا ... بقلب سليم من دنايا الدنية
نشمر عزم الجد شوقًا لنوره ... ونمضي على درب الصراط السوية
وأن نُشْرعَ الأفلاكَ في بحر توبة ... لعل شراع التوب يحظى بمنة
وعل شراع الأوب يلقى قبوله ... ليحظى برضوان الإله وروضةِ
فأطرقت الأيامُ خجلى منيبةً ... ودانت لحُكْم الحق ذاكم بميزة
ودانت شهور الناس للصوم وانبرت ... تقبل أعناق الهلال برغبة
وطابت نفوس القوم والجمع بهجة ... برؤية إشراق الهلال بطلة
وقالوا أبا الخيرات عذرًا لجمعنا ... وأهلا بشهر الصوم شهر المحبة
أنا صائم (*)
أنا صائم.. ومضى يتمتم في خشوع وابتهال
وعلى أسرته المضيئة.. بالقداسة.. والجلال
فيض من الأنوار.. يومض كالصباح على التلال
كصحيفة الأبرار.. كالقلب المعدل بالوصال
***
وبناظريه تسأول.. عذب تدفق في حنان
وتطلع يطوي المدى.. وبغوص في لج الزمان
فكأنما عيناه في.. ثبج الأشعة كوكبان
أو كوتان.. مطلتان.. على فراديس الجنان
***
__________
(*) للشاعر محمد هاشم رشيد.(3/365)
أنا صائم.. ومضى يتمتم.. لم يثر.. لم يعتد
لم تنتفخ أوداجه.. حنقا.. ولم يتهدد
لكنه عبر الطريق.. وسار نحو المسجد
بسكينة القلب الوقور.. ونشوة المتعبد
***
أنا صائم.. ومضى يتمتم.. وهو يرنو للسماء
والطهر وشحه.. ولفعه.. بأردية الضياء
لم يصغ للكلم المسف.. ولا تطاول لاعتداء
بل سار في ألق القداسة.. تحت أجنحة الصفاء
***
ومضى يفكر.. لم يعد للتمتمات على الشفاه
إلا اختلاج صامت.. تعيا المدارك عن مداه
أنا صائم.. وأنا هنا..
مازلت.. انتظر الصلاة
لكنني.. ماذا صنعت؟
وما سأصنع.. للحياة؟
***
هي بضع ساعات.. وأغرق في الشراب وفي الطعام
وأعود أشعر بالدم المنساب.. ينتشل الحطام
لكن إخوتي الضعاف النائمين على الرغام(3/366)
الصائمين عن الحياة المفطرين.. على الحمام
***
ماذا صنعت لهم؟ ولم أصنع سوى النزر اليسير
ولدى من نعم الإله وبره الفيض الغزير
مالي سأتركه.. يعانق كل ذي قلب كسير
ويداي أجدر بالسلاح.. لرد عدوان المغير
***
وأتى المساء.. ولم يجيء فطفقت أنتظر الصباح
وأنا أحاول أن أراه.. في الغدو أو الرواح
حتى بصرت به.. يطل إليّ.. من ألفي وشاح
يختار فيها المعدمون.. بأوجه غر صباح
ورأيته.. أبصرت صوته.. وقد حمل السلاح
ومضى مع الثوار.. يدلج في الروابي والبطاح
والتمتمات البيض في شفتيه.. في لون الجراح
فعرفت أسرار الصيام وكنه "حي على الفلاح"
ويقول الشاعر:
يا شهر مفترض الصوم الذي خلصت ... فيه الضمائر والإخلاص للعمل
أرمضت يا رمضان السيئات لنا ... بشربنا للتقى علا على نهل
وليت ظلك عنا غير منتقل ... بصالح وخشوع غير منفصل
وليت شهرك حول غير منقطع ... صوم وبر ونسك فيه متصل(3/367)
ويقول محمد توفيق خانكي تحت عنوان: "خواطر صائم":
يا من إذا مرض الإنسان يشفيه ... أوْ جاع يطعمه أو هام يسقيه
فرضت فرضًا علينا كم نقدسه ... وبارتياح لدينا كم نحييه
أهلاً بشهر صيام فيه غبطتنا ... وفيه لذتنا فيما نعانيه
من كان ذاق الطوى أو كان في عطش ... طول النهار وذكر الله في فيه
أغناه عن كل ما أضحى يغذيه ... وصار أعذب من ماء يرويه
الآمنا لرضاء الله ملجؤنا ... إليه يا حبذا ما قد تعانيه
قد خص بالعز دومًا أهل طاعته ... وخصّ بالذل عبدًا راح يعصيه
فكم يذوق محب من صبابته ... صنوف مسغبة غبراء ترديه
يحيا ويفرح مذ يلقى القبول فلا ... تحجم أخا الحب عن قرض تؤديه (1)
ويقول شاعر آخر:
شهر الشهور أتى بالخير أجمعه ... عن سابغ العفْوِ والغُفران لم يَحُلِ
فيه الشياطين قد سُدَّتْ منافذُها ... وسُلسِلَتْ مَالَهَا في الشر من أمل!
يا نفس للفوز هذي فرصة سَنَحتْ ... دَعِي الوساوسَ والزَّلات وامتثلي
فَقُوتِكِ اليوَم: أذكار وأدْعية ... مِلء المحارِيب، ملِء السهْلِ والجبل
أما الشرابُ، فكأس لا شراب بها! ... فمِلؤُها الصَّفْوُ يَشْفي شِرة الغُلل
صفْو بِهِ الروح ترقى في معارجها ... والجسم يسمو عن الإفراط في الأكلِ
***
__________
(1) "قرة العين في رمضان والعيدين" لعلي الجندي (2/16) .(3/368)
محمد الأخضر الجزائري عن هلال رمضان:
املأ الدنيا شعاعا ... أيها النور الحبيب
اسكب الأنوار فيها ... من بعيد وقريب
ذكر الناس عهودا ... هي من خير العهود
يوم كان الصوم معنى ... للتسامي والصعود
ينشر الرحمة في الأر ... ض على هذا الوجود
يفتح الأرواح للحب ... ويمضي بالصدود
وتكاد العين أن تنظر ... من خلف الحدود
وتكاد اليد أن تلمس ... أسباب الخلود
هو عهد قد تقضى ... كله بر وجود
وفي وداع رمضان:
بالأمس أقبل مشرق الميلاد ... شهر التقاة وقبلة العباد
في موكب الأفراح خط رحاله ... وأقام في بشر وفي إسعاد
حلم يمر وفرصة مرغوبة ... كالطيف لا كبقية الآماد
واليوم شد إلى الرحيل متاعه ... قد زود الدنيا بخير الزاد
لا أوحش الر-حمن منك- منازلا ... خير الليالي بين كل معاد
رمضان تأتي والوجود معرس ... وتجيء أثرك بهجة الأعياد
وإذا عزمت على الرحيل فإنما ... حزن الفراق يحز في الأكباد (1)
__________
(1) ديوان "فلسفة الحياة" (60) ، لعبد الغفار الدلاش.(3/369)
مصطفى حمام:
أنا يا شهرنا الكريم وفيّ ... أنا باق على هوى رمضان
إن أيامك الثلاثين تمضي ... كلذيذ الأحلام للوسنان
أمل السماء (*)
تتغير الدنيا.. ولا تتغير ... ومدى الزمان تجيء، لا تتأخر
في كل عام أنت أكرمُ زائر ... للأرض، تهدي من بها يتعثر
لكننا.. والظلم يفترش الربى ... ونفوسنا مما تبرى تتحسر
لم ندر كيف إلى التسامي نهتدي ... والأقوياء على الضعاف تجبروا
***
رمضان.. يا شهر التحرر، ليتنا ... من جاهلية فكرنا نتحرر
رمضان تأتي واللظى يغتالنا ... والحب في جنباتنا يتكسر
والظلم يفتد بالأحبة، والمدى ... مما يراه، على المدى يتفجر
والجوع يفترس العباد، فترتمي ... كتلا مواكبُهم، هنا تتضور
وخزائن الأموال خلف سدودها ... بِضراوة الحرمان.. لا تتأثر
***
حتام يا رمضان يصرخ جائع ... ويئن ظمآن.. ويسقط معسر؟
الصوم فيك فريضة، ولحكمة ... شُرِع الصيامُ لعالم يتدبر
__________
(*) ديوان للشاعر يس الفيل.(3/370)
لكننا.. والنفس مال بها الهوى ... نعدو.. ولكن الخطى تتقهقر
فإلى متى هذا الضلال وعالمي ... رغم الغواية بالهداية أجدر؟
***
رمضان يا أمل السماء لأمة ... بك لم تزل عبر المدى تستبشر
ثبت على التقوى قلوب أحبتي ... وامنح هداك لعالم يتدهور
واهد الهداة إلى مرافيء دينهم ... واحفظ خطاهم في الطريق ليعبروا
واحمل إلى ملأ السماء تحية ... من أمة بصيامها تتطهر
ما زلت يا رمضان أكرم زائر ... للأرض، تهدي من بها يتعثر
ولسوف تبقى فرحة أبدية ... ليست تُمل، وإن تكن تتكرر (1)
***
يقول الشاعر محمد الأسمر في ديوانه "بين الأعاصير" (592) :
رعى الله شهر الصوم أما نهاره ... فغاب وأما ليله فهو ساهرُ
وحيّا رجالاً حين لاح هلاله ... مشت بهم مشي النسيم البشائر
بطان إذا ما الشمس أرخت قناعها ... خماص إذا ما أقبلت وهي سافر
خضوعًا لمن فوق السموات عرشه ... ويعلم منهم ما تكن السرائر
هو الله فاعبده العبادة كلها ... إذا راح يلهو بالعبادة فاجر
* ويقول الشاعر مصطفى حمام:
انفثوا السحر يا رجال البيان ... فأطيلوا الحديث عن رمضان
العزيز الحبيب اسْمَح منْ أهل ... علينا وأكرم الضيفان
__________
(1) مجلة منار الإسلام، العدد التاسع - السنة السادسة عشر.(3/371)
النصيح المعلم الواعظ الها ... دي رسول الحنان والإحسان
حدثونا عن راحة القيد فيه ... حدثونا عن نعمة الحرمان
هو للناس قاهر دون قهر ... وهو سلطانهم بلا سلطان
قال: جوعوا نهاركم فأطاعوا ... خشعا يلهجون بالشكران
قال: افنوا الدجى بنسك وذكر ... فتباروا في طاعة الرحمن
إفسحوا لي في الذاكرين مكانا ... ومكان في مجلس القرآن
هيئوا لي منارة احتفي بالفجر ... فيها مجلجلة بالأذان
ويقول الشاعر محمد هارون الحلو:
الله أكبر لاح وجه المشرق ... بهلاله وجبينه المتألق
رمضان أقبل بالبشائر والهدى ... وبسلسل من بره المتدفق
قدس من الصلوات في نفحاته ... ما شاء كل منهمُ أن يستقي
حفوا به وقد استحف نفوسهم ... فيض الجلال به وحسن الرونق
شهر به غدر الليالي أشرقت ... في الدهر بالأمل السني الشيق
مرحى هلال الصوم عدت بطلعة ... وضاء سنا جبين مشرق
والله أودع فيك من أسراره ... روحا بغير البر لم يتخلق
هو ذلك الشهر الكريم تحدثت ... عن السماء بسرها المتغلق
سطعت بنور الله فيك حقيقة ... تهدي لسعي في الزمان موفق
ويقول الشاعر محمود جبر:
رمضان يا طهر النفوس ... هرعت استجديك وقدك
واعف يومك عن الحديث ... لا يطابق منك قصدك(3/372)
وأذيب ليلك في التبتل ... أبتغي الأنوار عندك
أنت المفضل في السماء ... وبالكتاب خصصت وحدك
يا معبد المتهجدين ... فزعت استهديك رشدك
يا قلب ذلك من تحب ... فَسُق له يا قلب وجدك
واشرح له شوق الجوا ... رح وابتغ الإحسان جهدك
ضل الذي لا يستطيب ... شذا رباك وعرت وردكْ
رمضان يا روض الخلود ... أنا اللهيف رجوتُ سعدكْ
ويقول الشيخ عبد الله بن علي في وداع رمضان:
خليليّ شهر الصوم زمّت مطاياه ... وسارت وفود العاشقين بمسراه
فيا شهر لا تبعدْ لك الخير كله ... وأنت ربيع الوصل يا طيب مرعاه
مساجدنا معمورة في نهاره ... وفي ليله والليل يحمد مسراه
عليك سلام الله شهر قيامنا ... وشهر تلاقينا بدهر أضعناه
ويقول الشاعر اليمني عبد العزيز الدريني:
أي شهر قد تولى ... يا عباد الله عنا
حق أن نبكي عليه ... بدماء لو عقلنا
كيف لا نبكي لشهر ... مرّ بالغفلة عنا
ثم لا نعلم أنا ... قدد طُردنا أو قُبلنا
كان هذا الشهر نورًا ... بيننا يزهو حسنا
فاجعل اللَّهم عقباه ... لنا نورًا حسنًا
***(3/373)
وأخيرًا مع الشاعر الذي يستمطر الدمع من رقة شعره.. مع عمر بهاء الدين الأميري، وقد كتب في رمضان هذي القصائد.
يقول في ديوانه "قلب ورب" في قصيدة "الصيام والغذاء":
جدد حياتك بالصيام ... فبالصيام غذاء روحكْ
داوِ الذي تشكوا بتقوى ... الله، تبرأُ من قروحكْ
واغنم أوَيْقات التجلي ... في الطريق إلى نزوحك
اشحذ سُمُوك عن حياة ... اللغو، وادأب في طموحكْ
وارقَ الذُّرا ودع الثرى ... طال المقام على سفوحِكْ
ويقول في قصيدة "في العبء":
يا ربّ ... يا رب.. عبد في صَدَىً (1) وطِوَىً (2)
مُوله.. نائس (3) منْ غربة لِنَوى
تداولته كف الدهر وانطلقت
يسعى به هائمًا في لهفة وجوى
قلب مواجعه في خفقة ضرعتْ
يدعو.. ويدعو.. ويرجو للعليل دَوا
***
__________
(1) الصدى: العطش.
(2) الطِوى: الجوع
(3) النائس: المتحرك المتذبذب.(3/374)
وقال في قصيدته "رمضان العافية":
قالوا: سيتعبك الصيامُ
وأنت في السبعين مضني
فأجبت بل سيشد من
عزمي، ويحبو القلب أمنًا
ذكرًا.. وصبرًا.. وامتثالاً
الذي أغنى وأقنى
ويمدني.. روحًا وجسمًا
بالقوى معنى ومبنى
رمضان عافية فصمة
تُقىً، لتحيا مطمئنا
ويقول في ليلة القدر قصيدة "نشوة القدر":
ما نبا سيفي ولا دهري أبي
مُذ تخذت الله فَذا مأربا
وتوجهت إلى كرسيه
أرمق العرش، وتقديسي ربا
مسلفا جسمي وروحي للسنا
وخلاياي تعيش الطرب
غمر الأكوان بالنشوة في
ليلة القدر، سُمْوّا مجتبى(3/375)
وتجلى النور في قلبي رضًا
فاض إنعامًا.. وأسدى وحَبَا
ويقول في رمضان في قصيدة "كل وهمته":
تتالت دقائقه مطمئنة
وفرّت.. ومرّت كبرق الأسنة
له وَقْعُه.. ولَهُ لمعُهُ
أفانين: فيضٌ.. وفرض.. وسنة
وكل وهمته.. والتجلي
مشاع، ولله فضل ومنّة
فمن كان في قلبه نورُه
سما.. ونما في ليالي المظنة
ومن كان في القلب ديجوره
سألنا له الله كشف الدجنة
ويقول في قصيدته "برق في منام ليلة قدر":
أبرقٌ؟ وكيف! وما أرعدا؟!
أم النورُ في البون.. حرا بدا؟
ومن أي أفق؟ ثرى أم ذُرا
ومن أيّ نبع أفاض النّدى؟!
تراءى.. ولا.. ليس من وجهة!
فلا.. لا ثرى.. لا ذُرا.. لا مدى!(3/376)
وفي ليلة القدر.. غفوًا وصحوًا
متى؟ كم.. وكم؟ أزلا سرمدا
وأُسمعت لا من فم نغمةً
جِنَانيّة ما لها من صدى
تزف لي المجد والسعد في
تجلّ.. وتوردني الموردا
إذا كدتُ أزلق عن أوجه
تبدت.. ومدّت لجذبي يدا
وقال لي القلب: إني هنا
لديّ السنا.. والمُنى.. والجدا
فملت إلى لا نهاياته
وبادرني حفقة منجدا
وأنعم بالذكر كنهي رضا
وأدنى لمنطلقي الفرقدا
نضا عن كياني حجاب الهوى
وعيني غطىّ.. فلم تشهدا
وبصرّ عقلي بسرّ الدنا
وقد صاغها ربها معبدا
وذراتها.. ذرّة.. ذرّة
تُصَلي.. فتابعها واقتدى(3/377)
وعُدْت رويدا.. رويدا.. إلى
جذوري.. وعايشتُها مُصْعِدا
ولكن بروحيَ.. شوقي بكى
وذوقي ذكا.. وقصيدي شدا
وأخيرًا يقول في وداع رمضان - في قصيدة "رمضان":
ذهبت راؤُهُ.. ونونُ ختامه
فانبرى في الحديث عن أيامه
قال شهري مضى.. ويا فوز عبد
لم ينم عن صيامه وقيامِهْ..
هو قد برّ نفسه فتصدى
للتجليّ.. واشتد في إقدامهْ
والرحيم الرحمن برّ مناهُ..
فتجلى له بفيض سلامه
أنا حيّ في قلبه، وستبقى
ليلة القدر في سنا أحلامه
وأخيرًا "حتى ترضى" يقول الأميري.. ونختم بها:
لك الحمد طوعًا.. لك الحمد فَرْضا
وثيقًا عميقًا.. سماءً وأرضًا
لك الحمد صمتًا.. لك الحمد ذكرًا
لك الحمد خفقًا حثيثا.. ونبضا(3/378)
لك الحمد ملء خلايا جَناني
وكل كياني.. رنوا وغمضا
إلهي وجاهي إليك اتجاهي
وطيدًا مديدًا لترضى فأرضي
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
سيد بن حسين العفاني
***(3/379)