ـ[نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان]ـ
المؤلف: أبو التراب سيد بن حسين بن عبد الله العفاني
قدم له: أبو بكر الجزائري - محمد صفوت نور الدين - محمد عبد المقصود
توزيع: دار ماجد عسيري - جدة
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع](1/1)
إهداء
إلى الرجال حين يعزّ الرجال..
إلى الضخام بذلا وعطاء..
* إلى الوالد المفضال.. الذي إذا رُؤي ذكر الله تعالى برؤيته الشيخ الربّاني مقدم أهل السنة بمصر الشيخ/ محمد صفوت نور الدين.
* إلى تيار الفرات.. الذي غمرني بإحسانه ونواله وكرمه.. الكريم المفضال الذي جعل الله له في قلوب المؤمنين ودا.. إلى من كانت له اليد الطُولى في نشر كتب ابن تيمية في مكتبته "مكتبة ابن تيمية" الشيخ/ عبد الفتاح الزيني.
انشر علوم السابقين وداونا ... لله درك من فتى رباني
* وإلى سمي البخاري.. الرباني.. الشيخ محمد إسماعيل.
يا زهر آمال البلاد وحبها ... يا حادي الغرباء للأوطان
وسمي حبر وطب هدى نبينا ... أعني البخاري العظيم الشان
يا ابن إسماعيل ويا بقية سلفنا ... إرو الغليل بشيخنا الألباني
ياحسن عود للحجاب كتبته ... من نبض قلبك في حلى التبيان
لا تنسنا من طيب صالح دعوة ... بظهر الغيوب لحبك العفاني
***(1/2)
مقدمة الطبعة الثانية
بقلم فضيلة الشيخ أبو بكر جابر الجزائري
شيخ المسجد النبوي
بالمدينة النورة
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة تقريظ
لأبي بكر جابر الجزائري
قال عفا الله عنه:
بعد حمد الله تعالى، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين أقول: لقد أهداني العلّامة ذو الفقه والبصيرة الدكتور سيد بن حسين العفاني حفظه الله وأطال عمره، وأفاض الخير عليه وعلى محبيه. أهداني كتابه "نداء الريّان في فقه الصوم وفضل رمضان" وتصفّحت الكتاب فوجدته قد جمع فأوعى، ورفع مؤلفه فأعلى.
إنه كتاب من مجلدين بلغت صفحاته سبعاً وعشرين ومائة وألف صفحة، ما ترك شاردة ولا واردة، ولا نافلة، ولا فريضة، ولا كبيرة، ولا صغيرة، في باب الصيام وأحكامه وفضائله، وكمال أهله إلا ذكرها بأسلوب الأدب الرفيع والحكمة البالغة.
وقبل أن أدعوَ له بخير الدارين أنصح لكل طالب علم أن يقتني هذا الكتاب ويكبّ عليه ويقرأه، وينشر طِيبه بين المسلمين. فاللهم زد عبدك سيد باسمه علماً وفقهاً ونوراً، ولا تحرمنا مما آتيته إنك ولينا ووليّه آمين.
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
أبو بكر جابر الجزائري
في 4/9/1417هـ(1/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
الطبعة الثانية
بقلم فضيلة الشيخ: محمد صفوت نور الدين
رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر
لنداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان
تقديم
الحمد لله رب العالمين، اختص سبحانه بعض خلقه بالتكريم والتعظيم، وأصلي وأسلم على من اختصه الله سبحانه وتعالى بالرسالة الخاتمة، فبلغها فكان إمام المتقين وإمام العابدين وإمام الأنبياء وخاتم المرسلين، وأصلي وأسلم على آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين وأصلي وأسلم على سائر الأنبياء وجميع المرسلين. وبعد،،،
فإن شريعة الله في الصوم عمت كل الأمم السابقة وصارت عونا للمؤمنين لسلوك طريق المتقين لذا قال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) وكان الصوم من أجل الأعمال التي يعملها السالكون لذا جاء في الحديث القدسي عن رب العزة سبحانه أنه قال: "كل عمل ابق آدم له. الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" فكان قوله: "فإنه لي" أعظم شرف للعمل وهو الصيام وخير شرف للعامل وهو الصائم.(1/4)
وقد فضل الله سبحانه شهر رمضان بفضائل عظيمة جليلة فهو القائل: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه) ، وهو الذي جعل فيه ليلة القدر، وقال عنها سبحانه: (ليلة القدر خير من ألف شهر) .
والله جعل رمضان شهر الصبر وشهر النصر، تغل فيه الشياطين، وشهر يغفر فيه لمن تتبع أسباب المغفرة بالصيام والقيام وتلمس ليلة القدر، والله جعل البركة في كل رمضان والصيام حتى جعل أبسط ما فيه وهو السحور بركة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تسحروا فإن في السحور بركة". والله تبارك وتعالى جعل رمضان شهر الجنة، فللجنة باب اسمه الريان يدخل منه الصائمون فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد وجعل رمضان شهر القرب، ففي الحديث: "بعد من أدرك رمضان ولم يغفر له" فالبركة والخير والإلف والمحبة والصالحات من الأعمال والقرآن والصدقة والجود وحسن الخلق وغير ذلك إنما يكون من ثمرات من عمل في رمضان ومن تعبد الله بالصيام في رمضان وبعده.
كل هذا شحذ قريحة أخينا الحبيب الدكتور سيد حسين العفاني جزاه الله خير الجزاء وصنف موسوعة تاريخية فقهية حديثية طبية وعظية قصصية واقعية يحتاجها المدرس والكاتب والمؤرخ والصائم، ويحتاجها قاسي القلب ليلين قلبه، ويحتاجها الشارد ليقرب والقريب ليزداد قربا، ويحتاجها الباحث والطبيب الذي يعالج أمراض الأبدان، والواعظ الذي يغذي القلوب والأرواح وهذه الكلمات القليلة أسوقها على استحياء لتقديم هذه الموسوعة الطيبة (نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان) والله أسأل أن ينفع بها وأن يجعلها ذخرا لكل من صنف وقدم وقرأ وعمل، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
وكتبه
محمد صفوت نور الدين(1/5)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
بقلم فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد بن عبد المقصود العفيفي.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) ، (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً) ، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً) .
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: فإنه ليشرفني أن أقدم إلى المكتبة الإسلامية هذا المؤلَّف الجليل، والذي يُعد بحق موسوعةً ضخمة جدّاً في الصيام وكل ما يتعلق به، ومؤلفه الأخ الأستاذ الدكتور سيد حسين، ذكر فيها فضائلَ الصيام وآثاره، وصيام الصالحين، وصيام أهل البدع، وفوائد الصيام، وفضائل شهر رمضان، والغزوات التي وقعت في شهر رمضان، حتى الفتاوى الطبية المتعلقة بشهر رمضان، وكتب الطب التي ألفتْ فيما يتعلق بموضوع(1/6)
هذا الكتاب -وهو الصوم- وفتاوى العلماء قديماً وحديثاً، وكذلك الأشعار التي وردت في شهر رمضان وكتبها.
فهذا في الحقيقة جهد كبير جدّاً بذله حضرة المؤلف الاستاذ الدكتور سيد حسين -أصلح الله حاله، وجعله في ميزان حسناته- وذلك ليقدم إلى الناس هذه الموسوعة القيمة.
والحقيقة قد طلب مني حضرة المؤلف الدكتور سيد حسين أن أقدم للكتاب. وأنا أقولها لله عز وجل: الفروض أن يقدِّمَ هو لي لا أن أقدم أنا له، وقد زدنا بالكتاب شرفاً، ولم يزد المؤلف ولا كتابه منا شيئا. وسيتضح لك هذا أيها القارئ الكريم حين تعيش مع صفحات هذا الكتاب ستقف على كمّ المراجع التي رجع إليها واستخدمها، ليقدم لك هذه المادة، وهي متنوعة، فمنها مراجع في الفقه ومراجع في التاريخ ومراجع في الحديث، بل وكتب الأشعار وكتب الطب ... كتب كثيرة جدّاً حتى يجمع لك مادة هذا الكتاب نفعنا الله به.
ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لقراءة هذا الكتاب، والعمل بما فيه، وأن ندعو الناس لاتباع الخير الكثير الذي فيه، وأن يجعل الله ذلك في ميزان حسناتنا (يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم) .
وكتبها
د. محمد بن عبد المقصود العفيفي(1/7)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [آل عمران: 102] .
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث
منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً) [النساء: 1] .
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيمًا) (1) [الأحزاب: 70-71] .
أما بعد:
فإن الله تعالى أعظم على عباده المنِّة، بما دفع عنهم كيد الشيطان وفنه، ورد أمله وخيب ظنه، إذ جعل الصوم حصناً لأوليائه وجُنَّة، وفتح لهم به أبواب الجنَّة، وعرفهم أنَّ وسيلة الشيطان إلى قلوبهم الشهوات المستكنَّة، وأنَّ بقمعها
__________
(1) خطبة الحاجة وهي التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبدأ بها خطبه، وقد جمع طرق أحاديثها محدث الديار الشامية الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في رسالة قصيرة.(1/8)
تصبح النفس المطمئنة ظاهرة الشوكة في قصم خصمها قوية المنَّة (1) .
وأعظم بعبادة متميزة بخاصية النسبة إلى الله تعالى من بين سائر الأركان، وجاوز ثوابها قانون التقدير والحسبان، فيفرغ للصائم جزاؤه إفراغاً، ويجازف جزافاً فلا يدخل تحت وهم وتقدير.
وناهيك بعبادة يباهي الله بها ملائكته، والله غني وهو الكريم يا أخي عن تجويع القوم.. فافهم من الخلوف معنى الصوم فأنت المراد من هذا الكون.
فكم من ملائكة كرام ما ذاقوا طعاما ولا شربوا شراباً ليس لهم مرتبة "ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك".
فيا إخوتاه البدار البدار، كلوا من طعام الجد، واشربوا دموع الأسف، تناولوا من طعام الاستغفار ولو جرعة، صاح مُمسك قنديل الأمل، لرؤية فجر الأجل.
رحم الله أقواماً رمضانهم دائم وشوالهم صائم.
في رضاكم رمضان عمره ... ينقضي ما بين إدبار وطيّ
وعلى الطرف الآخر آخر أحواله تشبه شهور السنة "ماله في باب الإيثار المحرم، وقلبه من الذكر صفر، وهواه وشهواته ربيعان وكفاه في البذل جُمادَيَان، وسمعه عن المواعظ رجب، وهمه في شبابه شعبان" (2) ، فكن كما شئت فإنما تجني ما تغرس.
ولا يدرك ألطاف وعطايا الربَّانية إلا من ربَّى للصوم نيَّة.
غرس القوم نخل العزائم من نهر باب الريان ونبات عزمك نبات الكشوت (3) يروى من ماء صديد.
__________
(1) المنة بالضم: القوة، وخمق بعضهم به قوة القلب، يقال: هو ضعيف المنة، ويقال: هو طويل المنة، حسن السنة
قوي المنة، الأمة: القامة، والسنة: الوجه، والمنة: القوة.
(2) "مقامات ابن الجوزي".
(3) نبات معروف.(1/9)
أخي: ليس الصوم صوم جماعة الطّغام عن الجماع والطعام إنما الصوم صوم الجوارح عن الآثام، وصمت اللسان عن فضول الكلام، وغض العين عن النظر إلى الحرام، وكفّ الكفّ عن أخذ الحطام، ومنع الأقدام عن قبيح الإقدام.
إن المطلوب من الصوم التقلل ليسبق المضمّر، وهم يستوفون وقت الإفطار الحِمْل، ويجعلون السحور علاوة، فيقف جمل التعبد.
المراد من التجويع خلوف الفم، والذين عندهم جُشَاء التَّخم يصبحون وبهم من الطعام بَشَم (1) ، ومن الماء بغر (2) ، "جاعوا بالنهار وما يفهمون كيف صاموا، وشبعوا بالليل فناموا وما قاموا" (3) .
قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته" (4) .
فاتق الله في أمانته عندك.
ولكل عبادة ظاهراً وباطناً، وقشراً ولبّاً، ولقشرها درجات، ولكل درجة طبقات، فإليك الخيرة الآن في أن تقنع بالقشر عن اللباب أو تتحيز إلى غمار أرباب الألباب.
فطوبى لمن أظمأ نفسه ليوم الري الكامل
طوبى لمن جوع نفسه ليوم الشبع الأكبر
طوبى لمن ترك شهوات حياة عاجلة لموعد غيب لم يره
متى اشتد عطشك إلى ما تهوى فابسط أنامل الرجاء إلى من عنده الري الكامل وقل: قد عيل صبر الطبع في سنيِّه العجاف، فعجِّل لي العام الذي فيه أغاثُ وأعصر.
أخي: -وبعد أن أطلنا- هذه أوراق جمعناها في الصوم وفضله وثماره
__________
(1) مرض يجعل الرجل لا يشبع من الطعام.
(2) البغر: داء يشتد معه العطش، فلا يخفضه الماء.
(3) "مقامات ابن الجوزي" (ص 261) .
(4) رواه الخرائطي في "مكارم الأخلاق" من حديث ابن مسعود في حديث الأمانة في الصوم وإسناده حسن قاله
العراقي، وقال ابن السبكي لم أجد له إسنادا.(1/10)
وسادات الصائمين، ورمضان وجزيل نعمه وحُسنه، وضممنا إلى ذلك آداباً في الصوم وفصلاً في الأحاديث الضعيفة والموضوعة في الصوم ثم فقه الصوم والاعتكاف وزكاة الفطر وسنن العيد، وعقدنا فصلا للصوم عند الشعراء فاللَّهم تقبل عملي هذا، واسقني يا جواد من كأس كان مزاجها كافوراً واجعل الريَّان ري قلبي الظمآن (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) .
وكتبه
سيد بن حسين العفاني
بني عفان - غرة جمادى الآخرة 1415هـ
***(1/11)
الباب الأول
من معاني الصوم
"الصوم لا رياء فيه"
(الإمام أحمد بن حنبل)(1/12)
الصوم عبادة السادات، وعبادة السادات سادات العبادات، وشيم الأحرار أحرار الشيم.
نصوم فإن الصوم من علم التقى ... وإن طويل الجوع يوماً سيشبع
فما الغاية العظمى؟.. وما أهم معاني الصوم؟
أ- الإخلاص عنوان الصوم
أحلى أعطيات الصوم وأغلى معانيه الإخلاص، والإخلاص لله خلاص وتجرد بعيداً بعيداً عن أوحال الأرض.
والصوم هو العبادة الوحيدة التي خُصَّت بالنسبة إلى الله "إلا الصيام فإنه لي" (1) .
وكما قال الإمام أحمد: لا رياء في الصوم، فلا يدخله الرياء في فعله، من صفى صفى له، ومن كَدَّر كدر عليه، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله، وإنما يُكال للعبد كما كال.
والجنة لا تطلب إلا قلباً خالصاً لله (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده) [يوسف:79] .
والصوم يعلم الناس الإخلاص، فما صام منافق مرائي.
والغاية الواحدة في مصطلح القرآن هي الإخلاص وهي محور دعوات الرسل، يقول تبارك وتعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين..) [الزمر: 2] الآية، (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين ... ) [الزمر: 11] الآية، (قل الله أعبد مخلصاً له ديني..) [الزمر: 14] الآية، (وادعوه مخلصين له الدين ... ) [الأعراف: 29] الآية، (فادعوا الله مخلصين له الدين) [غافر: 14] الآية.
والإخلاص: التعري عما دون الله ونسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق.. أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة وإخراج الخلق عن معاملة الرب.
__________
(1) جزء من حديث صحيح يأتي بعد ذلك.(1/13)
والإخلاص أشد شيء على النفس لأنه ليس لها فيه نصيب كما قال سهل.
والصدق في الإخلاص من أشد الأمور على النفوس، يقول سفيان الثوريّ: "ما عالجت شيئاً عليّ أشد من نيّتي، إنها تتقلب عليّ".
والإخلاص هو الحرية في أرقى صورها وأكمل مراتبها، لا لا يا قيود الأرض.
تفيض نفوس بأوصابها ... وتكتم عوادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي ... جواها إلى غير أحبابها
"شجرة الإخلاص أصلها ثابت، لا يضرها زعزع (أين شركائي) ، وأما شجرة الرياء فاجتثت عند نسمة (وقفوهم) ، لريح المخلصين عطرية القبول، وللمرائي سموم النسيم، نفاق المنافقين صيّر المسجد مزبلة (لا تقم فيه أبداً) وإخلاص المخلصين رفع قدر الوسخ "رُبَّ أشعث أغبر"، فيا أسفا ذهب أهل الإخلاص والتحقيق وبقيت بنيَّات الطريق، رحل والله السادة وبقي قرناء الرياء والوسادة.
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأقوام
يا إخوتاه: الإخلاص مسك مصون في مسك القلب، تنبه ريحه.. العمل صورة والإخلاص روح.
الإخلاص اليسير كثير، وخليج صاف أنفع من بحر كدر، أتحدو ومالك بعير؟!، أتمد القوس وما لها وتر؟!، أتتجشأ من غير شبع؟!.
كم بذل نفسه مراء لتمدحه الخلائق فذهبت والمدح، ولو بذلها للحق لبقيت والذكر، المرائي يحشو جراب العمل رملاً فيثقله ولا ينفعه، ريح الرياء جيفة تتحاماها مسام القلوب.
لما أخذ دود القز ينسج أقبلت العنكبوت تتشبه وقالت: لك نسج ولي نسج، فقالت دودة القز: ولكن نسجي أردية بنات الملوك ونسجك شبكة الذباب وعند مس النسيجين يبين الفرق.(1/14)
"إذا اشتبكت دموع في خدود تبينَّ من بكى ممن تباكا" (1) .
والأمة أحوج ما تكون إلى إخلاص أبنائها، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما ينصر الله هذه الأمه بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم" (2) ، وفيه خلاص الأمة ورفعتها، فعن أبي بن كعب (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بشِّر هذه الأمة بالسناء والدين، والرفعة والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب" (3) ، وفي رواية للبيهقيّ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بشر هذه الأمة بالتيسير والسناء، والرفعة بالدين والتمكين في البلاد والنصر، فمن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا، فليس له في الآخرة من نصيب".
ما أحوجنا إلى الصيام والإخلاص: عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما يبعث الناس على نياتهم" (4) ، وعن جابر (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما يحشر الناس على نياتهم" (5) .
ما أحوجنا إلى الفرار من الرياء والصيام خير عون، عن عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من سمَّع الناس بعمله سمَّع الله به مسامع خلقه وصغره وحقَّره" (6) ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ثلاث لا يُغَل عليهن قلب امرئ مؤمن: إخلاص العمل لله، والمناصحة لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعاءهم يحيط من ورائهم" (7) .
ولو لم يكن في الإخلاص إلَّا طرد الخيانة والحقد من القلب لكفاه شرفاً، فكيف والأعمال ميتة بدونه، وقشر خالٍ من اللباب سواه.
ومن هنا تأتي أهمية الصوم ومعناه الكبير! إذ كل عبادة سواه قد يدخلها الرياء وإرادة
__________
(1) "المدهش" (ص 414) .
(2) صحيح: رواه النسائي عن سعد بن أبي وقاص وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" (1/6) .
(3) صحيح: رواه أحمد، وابن حبان، والبيهقي، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد "صحيح الترغيب" (1/16) .
(4) حسن: رواه ابن ماجة وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/8) .
(5) صحيح: رواه ابن ماجة وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/8) .
(6) رواه الطبراني في "الكبير" بأسانيد أحدها صحيح والبيهقي "صحيح الترغيب" (1/16) .
(7) قال المنذري: رواه البزار بإسناد حسن وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" (1/5) .(1/15)
وجه المخلوقين حتى الصلاة خير الأعمال قد يدخلها الرياء.
عَن أبي سعيد الخدريّ (رضي الله عنه) قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نتذاكر المسيح الدجال، فقال: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال" فقلنا: بلى يا رسول الله! فقال: "الشرك الخفي: أن يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل" (1) .
وعن محمود بن لبيد (رضي الله عنه) خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يا أيها الناس! إياكم وشرك السرائر" قالوا: يا رسول الله! وما شرك السرائر! قال: "يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه، فذلك شرك السرائر" (2) .
والجهاد والصدقة وقراءة القرآن قد يدخلها الرياء، فدل ذلك على خطره وفظاعته وشناعته، وإليك هذا الحديث لترى خوف الصحابة من الرياء وعلى ضوء ذلك ترى المعنى الجليل الذي يورثه الصيام لأصحابه وهو الإخلاص.
عن عقبة بن مسلم أن شُفَيّاً الأصبحيّ حدثه أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال مَن هذا؟ قالوا: أبو هريرة، قال: فدنوت منه، حتى قعدت بين يديه؛ وهو يحدث الناس، فلمَّا سكت وخلا، قلت له: أسألك بحقِّ وبحقِّ، لماَّ حدَّثتني حديثاً سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعَقِلْتَه وعَلِمْتَه، فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدَّثنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقلته وعلمته، ثم نشغ (3) أبو هريرة نشغة فمكثنا قليلاً ثم أفاق، فقال: لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى ثم أفاق، ومَسح عن وجهه فقال: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة ثم مال خارّاً على وجهه فأسندته طويلاً ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل على العباد ليقضي
__________
(1) حسن: رواه ابن ماجة، والبيهقي، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/17) .
(2) صحيح: رواه ابن خزيمة في صحيحه، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/17) .
(3) أي شهق حتى كاد يغشى عليه أسفاً أو خوفاً.(1/16)
بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يُدعى به رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله عز وجل للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فما عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله عز وجل: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله تبارك وتعالى: بل أردت أن يقال فلان قاريء وقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله عز وجل: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد، قال: بلى يا رب قال: فماذا عملت فيما أتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تبارك وتعالى: بل أردت أن يقال فلان جواد وقد قيل ذلك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له: فيم قتلت؟ فيقول: أي رب أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريئ فقد قيل ذلك، ثم ضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ركبتيّ، فقال: "يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة", قال الوليد أبو عثمان المديني: وأخبرني عقبة أن شُفَيّاً هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا، قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حاتم أنه كان سيّافاً لمعاوية، قال: فدخل عليه رجل فأخبره بهذا عن أبي هريرة، فقال معاوية: قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس ثم بكى معاوية بكاءً شديداَّ حَتى ظننا أنه هالك، وقلنا قد جاءنا هذا الرجل بشر، ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه، وقال: صدق الله ورسوله (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلَّا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) [هود: 15 - 16] (1) .
فكيف بمن بقي من الناس ... لا نجاة إلا بالإخلاص.
فياللصوم من عبادة أسها ولحمتها وسداها الإخلاص وفيه من النيران الخلاص.
***
__________
(1) رواه الترمذي وحسنه وابن حبان في "صحيحه" كلاهما بلفظ واحد عن أبي عثمان المديني، ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" نحو هذا لم يختلف إلا في حرف أو حرفين.(1/17)
(ب) التقوى حكمة الصوم العليا
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة: 183] .
إن الغاية الأولى هي إعداد القلوب للتقوى والشفافية والحساسية والخشية من الله تعالى، "هكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم.. إنها التقوى.. فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله، وإيثاراً لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها، ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفاً وضيئاً يتجهون إليه عن طريق الصيام (لعلكم تتقون) ثم يثني بتقرير أن الصوم أيام معدودات، فليس فريضة العمر وتكليف الدهر، ومع هذا فقد أعفى من أدائه المرضى حتى يصحِّوا، والمسافرون حتى يقيموا تخفيفاً وتيسيراً.
وظاهر النص في المرض والسفر يطلق ولا يحدد، فأي مرض وأي سفر يسوغ الفطر، وهذا هو الأولى في فهم النص القرآني، والأقرب إلى المفهوم الإسلامي في رفع الحرج ومع الضرر لإرادة اليسر بالناس لا العسر.
فالدين لا يقود الناس بالسلاسل إلى الطاعات، إنما يقودهم بالتقوى وغاية هذه العبادة خاصة هي التقوى.
والذي يفلت من أداء الفريضة تحت ستار الرخصة لا خير فيه منذ البدء، لأن الغاية الأولى من أداء الفريضة لا تتحقق.
وهذا الدين دين الله لا دين الناس، والله أعلم بتكامل هذا الدين، بين مواضع الترخص ومواضع التشدد، وقد يكون وراء الرخصة في موضع من المصلحة ما لا يتحقق بدونها، بل لابد أن يكون الأمر كذلك، ومن ثم أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأخذ المسلمون برخص الله التي رخص لهم.(1/18)
وإذا حدث أن فسد الناس في جيل من الأجيال، فإن صلاحهم لا يتأتى من طريق التشدد في الأحكام، ولكن يتأتى من طريق إصلاح تربيتهم وقلوبهم واستحياء شعور التقوى في أرواحهم وإذا صح التشدد في أحكام المعاملات عند فساد الناس كعلاج رادع، وسد للذرائع، فإن الأمر في الشعائر التعبدية يختلف، إذ هي حساب بين العبد والرب، والظاهر في العبادات لا يجدي ما لم يقم على تقوى القلوب، وإذا وجدت التقوى لم يتفلت متفلت، ولم يستخدم الرخصة إلى حيث يرتضيها قلبه، ويراها وهى الأولى (1) .
(جـ) ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون
"هذه غاية من غايات الفريضة.. أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم، وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام أكثر من كل فترة، وهم مكفوفو القلب عن التفكير في المعصية، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها.. وهم شاعرون بالهدى ملموساً محسوساً، ليكبروا الله على هذه الهداية، وليشكروه على هذه النعمة، ولتفيء قلوبهم إليه بهذه الطاعة، كما قال لهم في مطلع الحديث عن الصيام "لعلكم تتقون" وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقّاً على الأبدان والنفوس، وتتجلى الغاية التربوية منه، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه أداء تحرسه التقوى ورقابة الله وحساسية الضمير" (2) .
"وفي لفظ التكبير عند انتهاء الصيام خصوصية جليلة وهي أن المشركين كانوا يتزلفون إلى آلهتهم بالأكل والتلطيخ بالدماء، فكان لقول المسلم: الله أكبر إشارة إلى أن الله يعبد بالصوم، وأنه منزَّه عن ضراوة الأصنام" (3) .
"ولعلكم تشكرون" تعليل آخر وهو أعم من مضمون جملة "ولتكبروا الله ... " فإن التكبير تعظيم يتضمن شكراً والشكر أعم لأنه يكون بالأقوال التي فيها تعظيم لله ويكون
__________
(1) "الظلال".
(2) "الظلال" (1/172) .
(3) "التحرير والتنوير" (2/177) .(1/19)
بفعل القرب من الصدقات في أيام الصيام وأيام الفطر، ومن مظاهر الشكر لبس أحسن الثياب يوم الفطر" (1) .
(د) الصوم وإعداد الأمة
لقد كان من الطبيعي أن يفرض الصوم على الأمة التي يفرض عليها الجهاد في سبيل الله لتقرير منهجه في الأرض، وللقوامة به على البشرية، وللشهادة على الناس، فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة، ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد، كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها واحتمال ضعفها وثقلها، إيثاراً لما عند الله من الرضى والمتاع، وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك؛ والذي تتناثر على جوانبه الرغاب والشهوات؛ والذي تهتف بالسالكيه آلاف المغريات" (2) .
(هـ) الصوم رياضة للنفس على ترك الشهوات
إذا كان من المتعذر على الإنسان بما هو مستودع فيه أن يتجرد عن شهوة الجسد، إذ من المتعذر عليه الانقطاع البات عن إمداد جسده بما فطره الله فيه، فكان من اللازم لتطلب ارتقاء نفسه أن يتدرج به في الدرجات الممكنة من تهذيب شهوته وتخليصه من التوغل فيها بقدر الإمكان، لذلك كان الصوم من أهم مقومات هذا الغرض، لأن فيه خصلتين عظيمتين؛ هما: الاقتصاد في إمداد القوى الحيوانية وتعود الصبر بردها عن دواعيها "وبذلك يحصل للإنسان دُربة على ترك شهواته، فيتأهل للتخلق بالكمال، فإن الحائل بينه وبين الكمالات والفضائل هو ضعف التحمل للانصراف عن هواه وشهواته.
إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه ... ولم يَنْه قلباً غاوياً حيث يَمَّما
فيوشك أن تلقى له الدهر سبة ... إذا ذكرت أمثالُها تملأُ الفما (3)
__________
(1) "التحرير والتنوير" (2/177) .
(2) "الظلال" (1/167) .
(3) "التحرير والتنوير" (2/160) .(1/20)
"الصوم يعد نفس الصائم لتقوى الله بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة امتثالاً لأمره واحتساباً للأجر عنده، فتتربى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرمة والصبر عنها فيكون اجتنابها أيسر عليه، وتقوى على النهوض بالطاعات والمصالح والاصطبار عليها فيكون الثبات عليها أهون عليه، ولذلك قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصيام نصف الصبر".
وهذا معنى دلالة "لعل" على الترجي، فالرجاء إنما يكون فيه، وقعت أسبابه وموضحه هنا الخاطبون لا المتكلم، ومَن لم يصم النية وقصد القربى لا ترجى له هذه الملكة في التقوى، فليس الصيام في الإسلام لتعذيب النفس لذاته بل لتربيتها وتزكيتها.
قال شيخنا: إن الوثنيين كانوا يصومون لتسكين غضب آلهتهم إذا عملوا ما يغضبهم، أو لإرضائها واستمالتها في بعض، الشئون والأغراض، وكانوا يعتقدون أن إرضاء الآلهة أو التزلف إليها يكون بتعذيب النفس وإماتة حظوظ الجسد، وانتشر هذا الاعتقاد في أهل الكتاب حتى جاء الإسلام ويعلمنا أن الصوم إنما فرض لأنه يعدنا للسعادة بالتقوى، وإن الله غني عنا وعن عملنا وما كتب علينا الصيام إلا لمنفعتنا" (1) .
أشواق الروح بطبيعتها لا تنتهي، فيعارضها الجسم بجعل حاجاته غير منتهية، يحاول أن يطمس بهذه على تلك، وأن يغلِّب الحيوانية على الروحانية، فإذا أتى الصوم كفَّه وأمات أكثر نزعاته، ووضع لكل حاجة حدّاً ونهاية.
الصوم يصنع الإنسان صناعة جديدة، تخرجه من ذات نفسه وتكسر القالب الأرضي الذي صُبّ فيه، فإذا هو غير هذا الإنسان الضيق المنحصر في جسمه ودواعي جسمه، فلا تغره الدنيا ولا يمسكه الزمان ولا تخضعه المادة، إذا كانت هذه هي صفات المستعبد بأهوائه لا الحرّ فيها، والخاضع بنفسه لا المستقل بها، والمقبور في إنسانيته لا الحيّ فوق إنسانيته؛ ومثل هذا المستعبد الخاضع المقبور لا وجود له إلا في حكم حواسه، فعمله ما يعيش به لا ما يعيش من أجله، ويتصل بكل شيء اتصالاً مبتوراً ينتهي في هوى من أهواء الحيوان الذي فيه، والصوم يطلق من سلطان نفسه، وينقح الآدمية فيه يجعله يجد نفسه، وموضع نفسه" (2) .
__________
(1) "تفسير المنار" (ج 2) .
(2) "من وحي القلم" للرافعي.(1/21)
(و) الصوم والمراقبة
ومعنى "لعل" الإعداد والتهيئة، وإعداد الصيام نفوس الصائمين لتقوى الله تعالى يظهر من وجوه كثيرة أعظمها شأناً، وأنصعها برهاناً، وأظهرها أثراً، وأعلاها خطراً وشرفاً أنه أمر موكول إلى نفس الصائم لا رقيب عليه إلا الله تعالى، وسر بين العبد وربه لا يشرف عليه أحد غيره سبحانه، فإذا ترك الإنسان شهواته ولذاته التي تعرف له في عامة الأوقات لمجرد الامتثال لأمر ربه والخضوع له لإرشاد دينه مدة شهر كامل في السنة ملاحظاً عند عروض كل رغيبة له -من أكل نفيس، وشراب عذب، وفاكهة يانعة، وغير ذلك كزينة زوجة أو جمالها الداعي إلى ملابستها- أنه لولا اطلاع الله تعالى عليه ومراقبته له لما صبر عن تناولها وهو في أشد التوق لها فلا جرم أنه يحصل له من تكرار هذه الملاحظة المصاحبة للعمل ملكة المراقبة لله تعالى والحياء منه سبحانه أن يراه حيث نهاه، وفي هذه المراقبة من كمال الإيمان بالله تعالى، والاستغراق في تعظيمه وتقديسه أكبر معد للنفوس مؤهل لها لضبط النفس ونزاهتها في الدنيا ولسعادتها في الآخرة.
كما تؤهل هذه المراقبة النفوس المتحلية بها لسعادة الآخرة تؤهلها لسعادة الدنيا أيضاً، انظر هل يقدم من تلابس هذه المراقبة قلبه على غش الناس ومخادعتهم؟ هل يسهل عليه أن يراه الله آكلاً لأموالهم بالباطل؟ هل يحتال على الله في منع الزكاة؟ هل يحتال على أكل الربا؟ هل يقترف المنكرات جهاراً؟ هل يجترح السيئات ويسدل بينه وبين الله ستاراً؟ كلا! إن صاحب هذه المراقبة لا يسترسل في المعاصي إذ لا يطول أمد غفلته عن الله تعالى وإذا نسي وألمّ بشيء منها يكون سريع التذكر قريب الفيء والرجوع بالتوبة الصحيحة (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) [الأعراف: 201] .
فالصيام أعظم مرب للإرادة، وكابح لجماح الأهواء؛ فأجدر بالصائم أن يكون حرّاً يعمل ما يعتقد أنه خير، لا عبداً للشهوات، إنما روح الصيام وسره في هذا القصد والملاحظة التي تحدث هذه المراقبة".(1/22)
رقيب حيّ في قلبه لا يرائيه ولا يجامله، ولا يخدع من تأويل ولا يُغرّ بفلسفة ولا تزين ولا يسكته ما تسول النفس، ولا يزال دائماً يقول للنفس: إن الخطأ أكبر الخطأ أن تنظم الحياة من حولك وتترك الفوضى في قلبك.
أين هذا من حال أولئك الغافلين عن الله وعن أنفسهم الذين يفطرون في رمضان عمداً, أو الأدنياء الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، الذين يأكلون ولو في بيوت الأخلية حيث تأكل الجرذ، وما قذف بهؤلاء وأمثالهم ومن هم شر منهم كالمجاهرين بالفطر إلا تلقينهم العبادة جافة خالية من الروح الذي ذكرناه، والسر الذي أفشيناه، فحسبوها عقوبة كما كان يحسبها الوثنيون من قبل، وما كل إنسان يتحمل العقوبة راضياً مختاراً" (1) .
***
__________
(1) "تفسير المنار" (2/145-147) .(1/23)
الباب الثاني
فضائل الصوم(1/25)
فضائل الصوم
أَنْعِم بالصوم عبادة بها رفع الدرجات، وتكفير الخطيئات، وكسر الشهوات وتكثير الصدقات، وتوفير الطاعات، وشكر عالم الخفيات، والانزجار عن خواطر المعاصي والمخالفات، والبعد عن النار سمومها واللفحات، وقرع أبواب الجنات، وكم للصوم من فضائل وفضائل.. وإليك طرف منها:
الفضيلة الأولى: الصائمون هم السائحون
قال تعالى: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين) [التوبة: 112] .
قال ابن جرير: أمَّا قوله "السائحون" فإنهم الصائمون.
وهو قول أبي هريرة، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وعبد الرحمن، ومجاهد، والحسن، والضحاك، وعطاء.
قالت عائشة: سياحة هذه الأمة: الصيام.
وقال ابن عباس: كل ما ذكر الله في القرآن السياحة: هم الصائمون.
وقال أبو عمرو العبدي: الذين يديمون الصيام من المؤمنين.
وقال الضحاك: كل شيء في القرآن (السائحون) فإنه الصائمون.
وقال ابن عيينة: "إذا ترك الطعام والشراب والنساء فهو السائح" (1) .
* قال تعالى: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً) [التحريم: 5] .
"قال ابن عباس: سائحات: صائمات.
وهو قول قتادة والضحاك.
__________
(1) "تفسير الطبري" (6/36-38) .(1/27)
وكان بعض أهل العربية يقول: نرى أن الصائم إنما سمي سائحاً، لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل حيث يجد الطعام فكأنه أخذ من ذلك" (1) .
الفضيلة الثانية: الصوم لا مثل له
* عن أبي أمامة، قال: أنشأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جيشاً، فأتيته، فقلت: يا رسول الله، ادع الله لي بالشهادة، قال: "اللَهمَّ سَلمهم وغَنِّمهم" فغزونا، فسلمنا وغنمنا، حتى ذكر ذلك ثلاث مرات، قال: ثم أتيته، فقلت: يا رسول الله، إني أتيتك تترى ثلاث مرات، أسألك أن تدعو لي بالشهادة، فقلت: "اللَّهمَّ سلمهم وغنمهم"، فسلمنا وغنمنا يا رسول الله، فمرني بعمل أدخل به الجنة، فقال: "عليك بالصوم، فإنه لا مثل له".
قال: فكان أبو أمامة لا يرى في بيته الدخان نهاراً إلا إذا نزل بهم ضيف، فإذا رأوا الدخان، عرفوا أنه قد اعتراهم ضيف" (2) .
* وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله مرني بعمل، قال: "عليك بالصوم، فإنه لا عدل له".
قلت: يا رسول الله مرني بعمل، قال: "عليك بالصوم؛ فإنه لا عدل له" (3) .
وللحاكم وصححه، وفي رواية للنسائي قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: يا رسول الله، مرني بأمر ينفعني الله به، قال: "عليك بالصيام؛ فإنه لا مثل له"
الفضيلة الثالثة
إضافته لله تعالى تشريفاً لقدره وتعريفاً بعظيم فخره
* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قال الله عز وجل: كل
__________
(1) "تفسير الطبري" (11/164-165) .
(2) إسناده صحيح على شرط مسلم: رجاله ثقات رجال الشيخين غير رجاء بن حيوة فمن رجال مسلم.
رواه ابن حبان في "صحيحه" واللفظ له، وأحمد، والنسائي، والطبراني، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق.
(3) صحيح: رواه النسائي، وابن خزيمة في "صحيحه" (هكذا بالتكرار وبدونه، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (11/413) .(1/28)
عمل ابن آدم له، إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، الصيام جُنَّة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث ولا يصخب، فإنْ سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما؛ إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه" (1) .
وفي رواية للبخاري: "يترك طعامه وشرابه من أجلي، الصيام لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها".
* الرواية الثانية:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك" (2) .
* وفي أخرى له أيضاً ولابن خزيمة: "وإذا لقي الله عز وجل فجزاه فرح...." (3) الحديث.
* وعند الترمذي. قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن ربكم يقول: كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والصوم لي، وأنا أجزي به، والصوم جنة من النار، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وإنْ جَهِل على أحدكم جاهل وهو صائم فليقل: إني صائم، إني صائم (4) .
* وعند ابن خزيمة قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فهو لي، وأنا أجزي به، الصيام جُنة، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، للصائم فرحتان: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه" (5) .
__________
(1) رواه البخاري، واللفظ له، ومسلم، وعند أحمد "وإذا لقي الله فجزاه فرح" وسنده صحيح على شرط مسلم.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه مالك وأبو داود والنسائي بمعناه مع اختلاف بينهم في الألفاظ وهو صحيح.
(4) حسن: حسنه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/408) .
(5) وهي عند أحمد، وكذا البخاري وهي هنا الرواية الأولى، لكن ليس فيها قوله "يوم القيامة" وهو عند النسائي في
"الكبرى".(1/29)
قال: " كل عمل ابن آدم له حسنة بعشر أمثالها, إلى سبعمائة ضعف, قال الله: إلا الصيام، فهو لي وأنا أجزي به, يدع الطعام من أجلي يدع الشراب من أجلي ويدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلى، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك, وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه".
الصيام لي:
قال ابن عبد البر: كفى بقوله: "الصوم لي" فضلاً للصيام على سائر العبادات وقد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: "الصيام لي وأنا أجزي به" مع أن الأعمال كلها له وهو الذي يجزي بها على أقوال:-
أحدها: أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره.
قال أبو عبيد في غريبه: قد علمنا أن أعمال البر كلها لله وهو الذي يجزي بها، فنرى والله أعلم أنه إنما خص الصيام لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله وإنما هو شيء في القلب وذلك لأن الأعمال لا تكون إلا بالحركات، إلا الصوم فإنما هو بالنية التي تخفى على الناس، وهذا وجه الحديث عندي".
قال القرطبي: "لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يَطّلع عليه بمجرد فعله إلا الله، فأضافه الله إلى نفسه، ولهذا قال في الحديث: "يدع شهوته من أجلي".
وعند مالك يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، فالصيام لي بزيادة الفاء وهي للسببية، أي سبب كونه لي أنه يترك شهوته لأجلي.
وقال ابن الجوزي: جميع العبادات تظهر بفعلها، وقلَّ أن يسلم ما يظهر من شوب، بخلاف الصوم.
وارتضى هذا الجواب المازري وقرره القرطبي بأن أعمال بني آدم لمَّا كانت يمكن دخول الرياء فيها أضيفت إليهم بخلاف الصوم، فإن حال الممسك شبعاً مثل حال الممسك تقرباً، يعني في الصورة الظاهرة.
ومعنى: "لا رياء في الصوم" أنه لا يدخله الرياء بفعله، وإن كان قد يدخله الرياء(1/30)
بالقول كمن يصوم ثم يخبر بأنه صائم، فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية، فدخول الرياء في الصوم إنما يقع من جهة الإخبار، بخلاف بقية الأعمال، فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها.
وقد حاول بعض الأئمة إلحاق شيء من العبادات البدنية بالصوم فقال: إن الذكر بلا إله إلا الله يمكن أن لا يدخله الرياء، لأنه بحركة اللسان خاصة دون غيره من أعضاء الفم، فيمكن للذاكر أن يقولها بحضرة الناس ولا يشعرون بذلك" (1) .
الفضيلة الرابعة: رفعة الدرجات (2)
قال الحافظ ابن حجر: "المراد بقوله: "وأنا أجزي به" أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس.
قال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير.
ويشهد لهذا السياق رواية الموطأ، وكذا رواية الأعمش عن أبى صالح حيث قال: "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله" قال الله: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" أي أجازي عليه جزاءً كثيراً من غير تعيين لمقداره، وهذا كقوله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) انتهى, والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال قلت: وسبق إلى هذا أبو عبيد في غريبه فقال: بلغني عن ابن عيينة أنه قال ذلك، واستدل له بأن الصوم هو الصبر لأن الصائم يصبر نفسه عن الشهوات، وقد قال تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) (3) .
قال المناوي: "وأنا أجزي به" إشارة إلى عظم الجزاء عليه وكثرة الثواب لأن الكريم إذا أخبر بأنه يعطي العطاء بلا واسطة اقتضى سرعة العطاء وشرفه" (4) .
__________
(1) "فتح الباري" (ج4 /129-130) .
(2) وهي الوجه الثاني في معنى الحديث عند ابن حجر في "الفتح" (4/130) .
(3) "فتح الباري" (ج 4 /130) .
(4) "فيض القدير" للمناوي (4/251) .(1/31)
* قال ابن رجب الحنبلي:
"يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة فتكون الأعمال كلها تضاعف بعشر امثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد بل يضاعفه الله عز وجل أضعافاً كثيرة بغير حصر عدد.
فإن الصيام من الصبر وقد قال الله تعالى: (إنما يوفى الصابرون) الآية، ولهذا ورد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سمى رمضان شهر الصبر، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصوم نصف الصبر"
والصبر على ثلاثة أنواع:
صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على الأقدار المؤلمة.
وتجتمع الثلاثة في الصوم فإن فيه صبراً على طاعة الله، وصبراً عما حرّم الله على الصائم من الشهوات، وصبراً على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش وضعف النفس والبدن، وهذا الألم الناشئ من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه كما قال الله تعالى في المجاهدين: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطأً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين) (1) .
قال ابن حجر: "يأتي في غير ما حديث أن صوم اليوم بعشرة أيام المراد أن صيام اليوم الواحد يكتب بعشرة أيام، وأما مقدار ثواب ذلك فلا يعلمه إلا الله تعالى".
ويؤيده أيضاً العرف المستفاد من قوله: "أنا أجزي به" لأن الكريم إذا قال: أنا أتولى الإعطاء بنفسي كان في ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه".
قال عز الدين بن عبد السلام: "أنا أجزي به" معناه تعظيم جزائه بأنه هو المتولي لإسدائه، وإن كان هو المجازي على الطاعات" (2) .
الفضيلة الخامسة: الصيام مناسب لصفة من صفات الحق
الله هو الغني، وهو القيوم، وهو الصمد.
__________
(1) "لطائف المعارف" لابن رجب (ص 168) .
(2) "فوائد الصوم" لعز الدين بن عبد السلام (ص 23) تحقيق عبد الله نذير - دار ابن حزم.(1/32)
والصمد هو الذي لا يحتاج إلى الطعام والشراب.
قال الحافظ: "والاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب جل جلاله، فلما تقرب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه.
وقال القرطبي: إن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم إلا الصيام فإنه مناسب لصفة من صفات الحق، كأنه يقول: إن الصائم يتقرب إلي بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي" (1) .
وكذلك المعنى بالنسبة إلى الملائكة لأن ذلك من صفاتهم.
الفضيلة السادسة
جميع العبادات توفى منها مظالم العباد إلا الصيام
في رواية للبخاري: "عن ربكم قال: لكل عمل كفارة، والصوم لي وأنا أجزي به" (2) ومعناها أن لكل عمل من المعاصي كفارة من الطاعات.
ورواه أحمد عن أبي هريرة رفعه "كل العمل كفارة إلا الصوم، الصوم لي وأنا أجزي به" ورواه أبو داود الطيالسي: "قال ربكم تبارك وتعالى: كل العمل كفارة إلا الصوم" قال ابن رجب: "الاستثناء يعود إلى التكفير بالأعمال، ومن أحسن ما قيل في ذلك ما قاله سفيان بن عيينة قال: هذا من أجود الأحاديث وأحكمها: "إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة" خرَّجه البيهقي في "شعب الإيمان" وغيره وعلى هذا فيكون المعنى: أن الصيام لله عز وجل فلا سبيل لأحد إلى أخذ أجره من الصيام لله عز وجل بل أجره مدخر لصاحبه عند الله عز وجل، وحينئذ فقد يقال: إن سائر الأعمال قد يكفر بها ذنوب صاحبها فلا يبقى لها أجر فإنه روى "أنه يوازن يوم القيامة بين الحسنات والسيئات ويقص بعضها من بعض، فإن بقي من الحسنات حسنة دخل بها صاحبها إلى الجنة" قال سعيد بن جبير وغيره، وفيه حديث مرفوع خرّجه
__________
(1) "فتح الباري" (4/130) .
(2) أخرجها البخاري في التوحيد عن آدم عن شعبة.(1/33)
الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعاً فيحتمل أن يقال في الصوم: إنه لا يسقط ثوابه بمقاصة ولا غيرها بل يوفر أجره لصاحبه حتى يدخل الجنة فيوفى أجره فيها" (1) .
يقول ابن حجر بعد ذكره لقول ابن عيينة: "قال القرطبي: قد كنت استحسنت هذا الجواب إلى أن فكرت في حديث المقاصة فوجدت فيه ذكر الصوم في جملة الأعمال حيث قال: "المفُلس الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصدقة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأكل مال هذا" الحديث وفيه "فيؤخذ لهذا من حسناته ولهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من سيئاته فطرحت عليه، ثم طرح في النار" فظاهره أن الصيام مشترك مع بقية الأعمال في ذلك، قلت: إن ثبت قول ابن عيينة أمكن تخصيص الصيام من ذلك".
ثم قال: "والاستثناء المذكور يشهد لما ذهب إليه ابن عيينة، لكنه وإن كان صحيح السند فإنه يعارضه حديث حذيفة "فتنة الرجل في أهله وماله وولده يكفرها الصلاة والصيام والصدقة".
وقال بعدها ابن حجر: "فقد لا يعارض الحديث وهو كون الأعمال كفارة إلا الصوم لأنه يحمل في الإثبات على كفارة شيء مخصوص، وفي النفي على كفارة شيء آخر.
وعلى هذا فقوله: "كل العمل كفارة إلا الصيام" يحتمل أن يكون المراد إلا الصيام فإنه كفارة وزيادة على ثواب الكفارة، ويكون المراد بالصيام الذي هذا شأنه ما وقع خالصاً سالماً من الرياء والشوائب والله أعلم" (2) .
الفضيلة السابعة
الصوم كفارة للخطيئات
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام، والصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (3) .
__________
(1) "لطائف المعارف" لابن رجب (ص 168، 170) .
(2) "فتح الباري" (4/131، 133) .
(3) رواه البخاري ومسلم، والترمذي، وابن ماجة عن حذيفة.(1/34)
قال المناوي: "فتنة الرجل: أي ضلاله ومعصيته أو ما يعرض له من الشر ويدخل عليه من المكروه في أهله مما يعرض له معهم من نحو هّم وحزن، أو شغل بهم عن كثير من الخير وتفريطه فيما يلزمه من القيام بحقهم وتأديبهم وتعليمه و (ماله) بأن يأخذه من غير حله ويصرفه في غير حله ووجهه أو بأن يشغله لفرط محبته له عن كثير من الخيرات.
وفتنته في (نفسه) بالركون إلى شهواتها ونحو ذلك، وفتنته في (ولده) بفرط محبته والشغل به عن المطلوبات الشرعية، وفي (جاره) بنحو حسد وفخر ومزاحمة في حق وإهمال في تعهد.
ونبه بالأربع على ما سواها. (يكفرها) أي الفتنة المتصلة بما ذكر (الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) لأن الحسنات يذهبن السيئات، ونبه به على ما عداها، فنبه بالصلاة والصوم على العبادة الفعلية، وبالصدقة على المالية، وبالأمر والنهي على القولية، فهي أصول المكفرات والمراد الصغائر فقط.
ويحتمل أن يكون كل واحد من الصلاة وما بعدها يكفر المذكورات كلها لا كل واحد منها!
وخص الرجل لأنه غالباً صاحب الحكم في داره وأهله، وإلا فالنساء شقائق الرجال في الحكم" (1) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (2) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوم يوم عرفة كفارة السنة الماضية والسنة المستقبلة" (3) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صيام يوم عرفة، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده،
وصيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" (4) .
__________
(1) "فيض القدر" (4/423) .
(2) رواه البخاري ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة، وأحمد.
(3) صحيح: رواه الطبراني في "الأوسط" عن أبي سعيد وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3805) .
(4) رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة عن أبي قتادة.(1/35)
قال المناوي: "أي أرجو منه. قال ابن الأثير: الاحتساب على الله البدار إلى طلب الأجر وتحصيله باستعمال أنواع البر.
قال الطيبي: وكان القياس: أرجو من الله فوضع محله أحتسب وعدّاه بعلى التي للوجوب على سبيل الوعد مبالغة في تحقق حصوله.
(يكفر السنة التي قبله) : يعني الصغائر المكتسبة فيها.
(والسنة التي بعده) بمعنى أنه تعالى يحفظه أن يذنب فيها، أو يعطى من الثواب ما يكون كفارة لذنوبها، أو يكفرها حقيقة ولو وقع فيها ويكون المكفِّر مقدماً على المكفَّر.
قال صاحب العدة: وذا لا يوجد مثله في شيء من العبادات" (1) .
الفضيلة الثامنة
تشريف الله والملائكة له بالصلاة عليه
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" (2) .
وعن عبد الله بن عمرو موقوفاً: "الصائم إذا أكل عنده صلت عليه الملائكة" (3) .
فإنْ كان الله وملائكته يصلون على المتسحرين، والسحور عون على الصيام فما ظنك بالصيام؟
فأكرم بها من عبادة يصلي الله عليك بها والملأ الأعلى.
يا هذا: تبيع صلاة الله والملائكة بشبع وتخمة، ولا تصوم عن لقمة!!
"إنما يريد العاقل أن يأكل ليحيا لا أن يحيا ليأكل".
وإن خير المطاعم ما استُخدِمت، وإن شرها ما خُدمت، وهل عالج الحجامة وفصد الفصاد إلا خارج عن حد الاقتصاد" (4) .
__________
(1) "فيض القدير" (4/23) .
(2) حسن: رواه ابن حبان في "صحيحه"، والطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم في "الحلية" عن ابن عمر، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1844) ، والصحيحة رقم (1654) .
(3) إسناده صحيح على شرط الشيخين، وهو موقوف له حكم الرفع، قاله الألباني في "الضعيفة" (3/502-503) ، وأخرجه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، وابن المبارك.
(4) "مقامات ابن الجوزي" (ص 91) .(1/36)
الفضيلة التاسعة
الصيام جنة من النار
* قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصوم جُنَّة من عذاب الله" (1) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الصوم جُنَّة يستجن بها العبد من النار" (2) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصيام جُنَّة من النار، كجنة أحدكم من القتال" (3) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصيام جُنَّة وحصن حصين من النار" (4) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قال الله تعالى: الصيام جنة يستجن بها العبد من النار، وهو لي وأنا أجزي به" (5) .
قال المناوي: "وقاية في الدنيا من المعاصي بكسر الشهوة وحفظ الجوارح وفي الآخرة من النار".
وقال: "الصوم جنة من عذاب الله فليس للنار عليه سبيل كما لا سبيل لها على مواضع الوضوء لأن الصوم يغمر البدن كله فهو جنة لجميعه برحمة الله من النار" (6) .
قال ابن عبد البر: حسبك بهذا فضلاً للصائم.
__________
(1) صحيح: رواه البيهقي في شعب الإيمان عن عثمان بن أبي العاص، ورواه أحمد والنسائي، وابن ماجة وابن خزيمة، وابن حبان، وصححه السيوطي والألباني في "صحيح الجامع" برقم (3867) .
(2) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير" عن عثمان بن أبي العاص، ورواه أحمد، النسائي, وابن ماجة، وابن خزيمة، وابن حبان، وقال الهيثمي سنده حسن، وصححه السيوطي والألباني في "صحيح الجامع" رقم (3868) .
(3) صحيح: رواه أحمد في "مسنده"، والنسائي، وابن ماجة عن عثمان بن أبي العاص، ورواه ابن عبد البر، وابن حبان، وابن خزيمة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (3879) .
(4) حسن: رواه أحمد، والبيهقي في "شعب الإيمان"، عن أبي هريرة وصححه السيوطى، وقال المناوي في "فيض القدير" (4/250) "قال الهيثمي: هو في الصحيح خلا قوله وحصن إلخ وسنده حسن" وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3880) .
(5) حسن: رواه أحمد، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن جابر وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4308) .
(6) "فيض القدير" (4/242، 250) .(1/37)
* وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصيام جنة، وهو حصن من حصون المؤمن، وكل عمل لصاحبه إلا الصيام، يقول الله: الصيام لي، وأنا أجزي به" (1) .
قال المناوي: "أجزي به صاحبه جزاء كثيراً، وأتولى الجزاء عليه بنفسي فلا أكله إلى ملك مقرب ولا غيره لأنه سرّ بيني وبين عبدي، لأنه لما كف نفسه عن شهواتها جوزي بتولي الله سبحانه إحسانه" (2) .
الصوم في سبيل الله يباعد من النار:
قال ابن الجوزي: "إذا أطلق ذكر سبيل الله، فالمراد به الجهاد".
وقال القرطبي: سبيل الله: طاعة الله، فالمراد من صام قاصداً وجه الله.
قال الحافظ: ويحتمل أن يكون ما هو أعم من ذلك.
وقال ابن دقيق العيد: العرف الأكثر استعماله في الجهاد، فإنْ حُمل عليه كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين، ويحتمل أن يراد بسبيل الله طاعته كيف كانت والأول أقرب ومن لم يضعفه الصوم عن الجهاد فالصوم في حقه أفضل ليجمع بين الفضيلتين.
* وقال ملا عليّ القاريء في "مرقات المفاتيح" (4/302) :
في سبيل الله: أي في الجهاد أو في طريق الحج أو العمرة أو طلب العلم أو ابتغاء مرضاة الله".
* وقال المناوي في "فيض القدير" (6/161) في سبيل الله أي لله ولوجهه أو في الغزو أو الحج.
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صيام المرء في سبيل الله يبعده من جهنم مسيرة سبعين عاماً" (3) .
__________
(1) حسن: رواه الطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة، وكذا رواه عنه الديلمي، وقال المناوي (4/250) : قال الهيثمي: سنده حسن، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3881) .
(2) "فيض القدير" (4/250) .
(3) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير" عن أبي الدرداء، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3847) .(1/38)
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام يوماً في سبيل الله، باعد الله منه جهنم مسيرة مائة عام" (1) .
* وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام يوماً في سبيل الله بعدت منه النار مسيرة مائة عام" (2) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام يوماً في سبيل الله، باعد الله منه جهنم سبعين عاماً" (3) .
* وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يصوم يوماً عبد في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً" (4) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من صام يوماً في سبيل الله، باعد الله بذلك اليوم حر جهنم عن وجهه سبعين خريفاً" (5) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله تعالى إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً" (6) .
* قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام يوماً في سبيل الله بَعَد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً" (7) .
قال المناوي (6/161) : "أي نجاه منها أو عجل إخراجه منها قبل أوان الاستحقاق، عبر عنه بطريق التمثيل ليكون أبلغ لأن من كان مبعداً عن عدوه بهذا القدر لا يصل إليه ألبتة".
(سبعين خريفاً) : سنة أي نحّاه وباعده منها مسافة تقطع في سبعين سنة إذ كل ما مرّ خريف انقضت سنة، فهو من إطلاق اسم البعض على الكل، وذكر الخريف من ذكر الجزء وإرادة الكل، وخصه دون غيره من الفصول لأنه وقت بلوغ الثمار وحصول سعة
__________
(1) حسن: رواه النسائي عن عقبة بن عامر، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6330) .
(2) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" عن عمرو بن عبسة بإسناد لا بأس به قاله المنذري، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" (1/414) .
(3) صحيح: رواه النسائي عن أبي سعيد، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" (6331) .
(4) صحيح: رواه ابن خزيمة في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري.
(5) صحيح: رواه النسائي وابن ماجة، عن أبي سعيد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6329) .
(6) رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي عن أبي سعيد.
(7) رواه أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي والنسائي عن أبي سعيد.(1/39)
العيش، وذلك لأنه تحمّل مشقة الصوم ومشقة الغزو فاستحق هذا التشريف".
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام يوماً في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفاً" (1) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض" (2) .
أخي: إذا كانت أعزّ أمنية لآخر أهل النار خروجاً منها -وهو من يخرج منها حبواً- صرف وجهه عن النار قبل الجنة لا يسأل مولاه غير ذلك، فكيف إذا باعد الله وجهه وجعل بينه وبين النار خندقاً مسافة خمسمائة عام هذا بصيام يوم واحد نفلاً، فما ظنك بصيام شهر رمضان وهو الفريضة؟!
الفضيلة العاشرة
الصوم في الصيف يورث السقيا يوم العطش
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبا موسى على سرية في البحر، فبينما هم كذلك، قد رفعوا الشراع (3) في ليلة مظلمة، إذا هاتف (4) فوقهم يهتف: يا أهل السفينة! قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه، فقال أبو موسى: أخبرنا إن كنت مخبراً، قال: إن الله تبارك وتعالى قضى على نفسه أنه من أعطش نفسه له في يوم صائف، سقاه الله يوم العطش (5) .
* وعن أبي موسى بنحوه إلَّا أنه قال فيه. قال: "إن الله قضى على نفسه أنّ من عطّش
__________
(1) صحيح: رواه أحمد، والترمذي والنسائي، وابن ماجة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6334) .
(2) صحيح: رواه الترمذي عن أبي أمامة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6333) ، و"السلسلة الصحيحة" رقم (563) ، و"صحيح الترغيب" (891) .
(3) الشراع هو قلع السفينة التي بصفقه الريح فتمشي.
(4) في المصباح "وهتف به هاتف سمع صوته ولم ير شخصه".
(5) حسن: قال المنذري: رواه البزار بإسناد حسن إن شاء الله، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب" (1/412) .(1/40)
نفسه لله في يوم حار كان حقّا على الله أن يُرويه يوم القيامة".
قال: فكان أبو موسى يتوخى اليوم الشديد الحر الذي يكاد الإنسان ينسلخ فيه حرّاً فيصومه (1) .
صيام نهار الصيف من خصال الإيمان لطول نهار الصيف وشدة حره.
قال ابن رجب: "عن بعض السلف قال: بلغنا أنه يوضع للصوّام مائدة يأكلون عليها والناس في الحساب فيقولون: يا رب نحن نحاسب وهم يأكلون، فيقال: إنهم طالما صاموا وأفطرتم وقاموا ونمتم".
وما بكى العباد على شيء عند موتهم إلا على ما يفوتهم من ظمأ الهواجر.
قال معاذ بن جبل عند موته: "مرحباً بالموت، زائر مغب، حبيب جاء على فاقة، اللَّهم كنت أخافك فأنا اليوم أرجوك، اللَّهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لطول البقاء فيها لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر" (2) .
الفضيلة الحادية عشر
الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة
* قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة" (3) .
يا أخي: قال عمر بن الخطاب: "الشتاء غنيمة العابدين" (4) .
__________
(1) حسن: حسّنه الألباني في "صحيح الترغيب" (1/412) .
(2) "الثبات عند الممات" لابن الجوزي (ص 119) ، "الزهد" للإمام أحمد (ص 180) ، "حلية الأولياء" (1/239) .
(3) حسن: رواه أحمد في مسنده، وأبو يعلى في مسنده، والبيهقي في "السنن الكبرى" عن عامر بن مسعود، ورواه الطبراني في الأوسط، وابن عدي في "الكامل"، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أنس، وابن عدي والبيهقي فى "شعب الإيمان" عن جابر، ورواه ابن أبي شيبة، والضياء عن عامر، وأشار السيوطي إلى حسنه، وحسّنه الألباني في "صحيح الجامع رقم (3868) .
وصح وقفه على أبي هريرة كما في "زوائد الزهد" لعبد الله بن أحمد وعنه أبو نعيم وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وقال البيهقي: هذا موقوف، وقال السخاوي: "وهو أصح".
(4) موقوف على عمر بن الخطاب وهو صحيح: رواه أحمد في "الزهد"، وابن أبي شيبة، وأبو نعيم في "الحلية" عن أبي عثمان النهدي، عن عمر: وإسناده صحيح على شرطهما.(1/41)
قال الحسن: نعم زمان المؤمن الشتاء: ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه.
وقال قتادة: إن الملائكة تفرح بالشتاء للمؤمن يقصر النهار فيصومه ويطول الليل فيقومه.
وكان عبيد بن عمير الليثي إذا جاء الشتاء يقول: "يا أهل القرآن، قد طال الليل لصلاتكم، وقصر النهار لصومكم".
يا أخي: الشتاء ربيع المؤمن.
قال ابن رجب: "لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه كما ترتع البهائم في مرعى الربيع فتسمن وتصلح أجسادها، فكذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسّر الله فيه من الطاعات، فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة ولا كلفة تحصل له من جوع ولا عطش فإن نهاره قصير بارد فلا يحس فيه بمشقة الصيام" (1) .
قال المناوي: "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة" أي الغنيمة التي تحصل بغير مشقة والعرب تستعمل البارد في شيء ذي راحة، والبرد ضد الحرارة لأن الحرارة غالبة في بلادهم فإذا وجدوا برداً عدّوه راحة، وقيل الباردة: الثابتة من برد لي على فلان كذا أي ثبت، أو الطيبة من برد الهواء إذا طاب، والأصل في وقوع البرد عبارة عن الطيب وأيضاً فإن الهواء والماء لما كان طيبها ببردهما سيما في بلاد تهامة والحجاز قيل هواء بارد وماء بارد على سبيل الاستطابة ثم كثر حتى قيل: عيش بارد وغنيمة باردة ذكره الزمخشري.
قال الطيبي: والتركيب من قلب التشبيه لأن الأصل الصوم في الشتاء كالغنيمة الباردة وفيه من المبالغة أن الأصل في التشبيه أن يلحق الناقص بالكامل كما يقال زيد كالأسد فإذا عكس وقيل الأسد يجعل الأصل كالفرع والفرع كالأصل يبلغ التشبيه إلى الدرجة القصوى في المبالغة ومعناه الصائم في الشتاء يحوز الأجر من غير أن تمسه مشقة الجوع" (2) .
فبادر أخي إلى صيام الشتاء تحصّل الغنائم وتكن من السعداء.
__________
(1) "لطائف المعارف" (ص 341) .
(2) "فيض القدير" (4/243) .(1/42)
الفضيلة الثانية عشر
نداء الريان لعاشر الصوام
* "في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون" (1) .
* عن سهل بن سعد (رضي الله عنه) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن في الجنة باباً يقال له (الريَّان) ، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أُغلق، فلم يدخل منه أحد" (2) .
وزاد الترمذي: "ومن دخله لم يظمأ أبداً"
* وعند ابن خزيمة قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "للصائمين باب في الجنة يقال له الريَّان، لا يدخل (فيه) منه أحد غيرهم، فإذا دخل آخرهم أغلق، ومن دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً"
* عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من أبواب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريّان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة"، فقال أبو بكر (رضي الله عنه) : بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: "نعم وأرجو أن تكون منهم" (3) .
* ذكر ابن حبان: أن كل طاعة لها من الجنة أبواب يدعى أهلها منها إلا الصيام، فإن له باباً واحداً.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة، وللجنة أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دعي من أبواب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من أبواب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من أبواب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان". فقال أبو بكر: يا رسول الله ما على أحد من ضرورة من
__________
(1) رواه البخاري عن سهل بن سعد.
(2) رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي.
(3) رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.(1/43)
أيها دُعي، فهل يدعى أحد منها كلها يا رسول الله؟ قال: "نعم، وأرجو أن تكون منهم" (1) .
قال أبو حاتم: "عسى" من الله واجب، و"أرجو" من النبي حق.
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "في الجنة باب يقال له الريان أعد للصائمين، فإذا دخل آخراهم أغلق" "إن في الجنة باباً".
قال الزين بن المنير: إنما قال في الجنة ولم يقل للجنة ليشعر بأن في الباب المذكور من النعيم والراحة ما في الجنة فيكون أبلغ في التشوق إليه.
"فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد" كرر نفي دخول غيرهم منه تأكيداً.
قال عز الدين بن عبد السلام: "أما تخصيص دخولهم الجنة بباب الريّان فإنهم ميزوا بذلك الباب لتميز عبادتهم وشرفها" (2) .
قال ابن حجر عن الريان: "وقعت المناسبة فيه بين لفظه ومعناه، لأنه مشتق من الري وهو مناسب لحال الصائمين".
قال القرطبي: "اكتفى بذكر الري عن الشبع لأنه يدل عليه من حيث أنه يستلزمه، قلت: أو لكونه أشق على الصائم من الجوع" (3) .
قال القاري: "الريان" إما لأنه بنفسه ريَّان لكثرة الأنهار الجارية إليه، والأزهار والثمار الطريدة لديه، أو لأن من وصل إليه يزول عنه عطش يوم القيامة، ويدوم له الطراوة والنظافة في دار المقامة.
قال الزركشي: الريان فعلان كثير الري نقيض العطش سمي به لأنه جزاء للصائمين على عطشهم وجوعهم.
ليس المراد به المقتصر على شهر رمضان بل ملازمة النوافل من ذلك وكثرتها" (4) .
__________
(1) إسناده صحيح: أخرجه ابن حبان في "صحيحه" وابن أبي شيبة.
(2) "فوائد الصوم" لعز الدين بن عبد السلام.
(3) "فتح الباري" (4/134) .
(4) "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (4/230) .(1/44)
قال المناوي في "فيض القدير" (2/464) : "ولا يناقضه أن المتشهد عقب الوضوء تفتح له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء لجواز أن يصرف الله مشيئة ذلك المتشهد عن دخول باب الريان إن لم يكن من مكثري الصوم".
الريَّان: مسمى الباب يبعث على الراحة.
انظر يا أخي كيف قابل الله ظمأهم وعطشهم بباب مسماه يبعث على الراحة فما ظنك بالداخل وريّه.
الفضيلة الثالثة عشر
الصوم سبيل إلى الجنات
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ... ... ... ... (1) .
قال المناوي: "أي من ختم عمره بصيام يوم بأن مات وهو صائم أو بعد فطره من صومه دخل الجنة مع السابقين الأولين، أو من غير سبق عذاب" (2) .
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: أسندت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى صدري فقال: "من قال لا إله إلا الله خُتم له بها دخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله خُتم له بها دخل الجنة، ومن تصدّق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة" (3) .
ورواه الأصبهاني ولفظه: "يا حذيفة من ختم له بصيام يوم يريد به وجه الله عز وجل أدخله الله الجنة"
* قال ابن خزيمة: "إيجاب الله عز وجل الجنة للصائم يوماً واحداً إذا جمع مع صومه صدقة، وشهود جنازة وعيادة مريض".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أصبح منكم اليوم صائماً؟ " فقال أبو بكر: أنا، فقال: "من أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ " قال أبو بكر: أنا،
__________
(1) صحيح: رواه البزار عن حذيفة ورواه أحمد، وابن شاهين، وابن بشران، وأبو نعيم، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6224) .
(2) "فيض القدير" (6/123) .
(3) صحيح: قال المنذري: رواه أحمد بإسناد لا بأس به، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/412) .(1/45)
فقال: "من تبع منكم اليوم جنازة؟ " فقال أبو بكر: أنا، قال: "من عاد منكم اليوم مريضاً؟ " قال أبو بكر: أنا".
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما اجتمعت هذه الخصال قط في رجل إلا دخل الجنة" (1) قال ابن خزيمة: " هذه فضائل لهذه الأعمال لا كما يدعي من لا يفهم العلم ولا يحسنه" (2) .
* وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها أعد الله لمن أطعم الطعام، وألان الكلام وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام" (3) .
وعند ابن خزيمة عن أبي معانق، أو أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن في الجنة لغرفة قد يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وألين الكلام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام" (4) .
الغرفات معدة للصائمين يا أخي، وما أدراك ما الغرفات؟
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف في الجنة كما تراءون الكواكب في السماء" (5) .
أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم" (6) .
__________
(1) رواه ابن خزيمة ومسلم.
(2) قاله ابن خزيمة في: "صحيحه" (3/304) .
(3) حسن: رواه أحمد في "مسنده"، وابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي في "شعب الإيمان"، والترمذي عن عليّ، وقال الترمذي: غريب.
قال المناوي: هو وإن ضعفه ابن عدي لكن أقام له شواهد يعتضد بها، وقال الألباني: حديث حسن، "صحيح الجامع" رقم (2119) ، و"تخريج المشكاة" (رقم 1235) .
(4) إسناده حسن لغيره: رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، وقال الألباني في التعليق على صحيح ابن خزيمة: إسناده حسن لغيره (3/306-307) .
(5) رواه البخاري ومسلم وأحمد، عن سهل بن سعد.
(6) رواه البخاري، ومسلم عن أبي سعيد، ورواه الترمذي عن أبي هريرة.(1/46)
لبعدهم ورفعتهم وصفاء لونهم وخلوص نورهم.
قال تعالى: (كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية)
قال مجاهد وغيره: نزلت في الصائمين.
من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله يرجو عنده عوض ذلك في الجنة ... من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً مما تركه.
فكيف بمن قلصت شفاهه عطشاً؟!
قال يعقوب بن يوسف الحنفي: بلغنا أن الله تعالى يقول لأوليائه يوم القيامة: يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة، وغارت أعينكم، وجفت بطونكم، كونوا اليوم في نعيمكم، وتعاطوا الكأس فيما بينكم.
وقال الحسن: تقول الحوراء لوليّ الله وهو متكئ معها على نهر العسل تعاطيه الكأس: إن الله نظر إليك في يوم صائف بعيد ما بين الطرفين وأنت في ظمأ هاجرة من جهد العطش فباهى بك الملائكة وقال: انظروا إلى عبدي ترك زوجته وشهوته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي رغبة فيما عندي اشهدوا أني قد غفرت له فغفر لك يومئذ وزوجنيك.
* كان بعض الصالحين قد صام حتى انحنى وانقطع صوته فمات، فرآه بعض أصحابه الصالحين في المنام فسأله عن حاله فضحك وأنشد:
قد كسى حلة البهاء وطافت ... بالأباريق حوله الخدام
ثم حلى وقيل يا قاريء أرقه ... فلعمرك لقد براك الصيام
ياما خبأنا للصائمين:
أخي: من ترك لله في الدنيا طعاماً وشراباً وشهوة مدة يسيرة عوّضه الله عنده طعاماً وشراباً لا ينفد وأزواجاً لا يمتن أبداً" (1) .
مهور الحور العين طول التهجد وكثرة الصيام.
__________
(1) "لطائف المعارف" (177-178) .(1/47)
"كان بعض الصالحين كثير التهجد والصيام فصلى ليلة في المسجد ودعا فغلبته عيناه فرأى في منامه جماعة علم أنهم ليسوا من الآدميين بأيديهم أطباق عليها أرغفة بياض الثلج فوق كل رغيف در كأمثال الرمَّان فقالوا: كل، فقال: إني أريد الصوم، قالوا له: يأمرك صاحب هذا البيت أن تأكل، قال: فأكلت وجعلت آخذ ذلك الدر لاحتمله فقالوا له: دعه نغرسه لك شجراً ينبت لك خيراً من هذا، قال: أين؟ قالوا: في دار لا تخرب، وثمر لا يتغير، وملك لا ينقطع، وثياب لا تبلى، فيها رضوى، وعيناً، وقرة أعين، أزواج رضيات، مرضيات راضيات لا يغرن ولا يغرن فعليك بالانكماش فيما أنت، فإنما هي غفوة حتى ترتحل فتنزل الدار فما مكث بعد هذه الرؤيا إلا جمعتين حتى توفي، فرآه ليلة وفاته في المنام بعض أصحابه الذين حدّثهم برؤياه وهو يقول: لا تعجب من شجر غرس لي في يوم حدثتك، وقد حمل، فقال له: ما حمل؟ قال: لا تسأل لا يقدر أحد على صفته لم ير مثل الكريم إذا حلَّ به مطيع" (1) .
يا قوم ألا خاطب في الصوم إلى الرحمن، ألا راغب فيما أعده الله للطائعين في الجنان، ألا طالب لما أخبر به من النعيم المقيم مع أنه ليس الخبر كالعيان.
من يرد ملك الجنان ... فيلدع عنه التواني
وليقم في ظلمة الليـ ... ـل إلى نور القرآن
وليصل صوماً بصوم ... إن هذا العيش فاني
إنما العيش جوار الله في دار الأمان
* أخي أتطلب الحور العين ولا تصوم، وتنام!
أتطلب مثلي وعني تنام ... ونور المحبين عنا حرام
لأنا خلقنا لكل امرئ ... كثير الصلاة براه الصيام
__________
(1) "لطائف المعارف" (ص 178) .(1/48)
الفضيلة الرابعة عشر
شفاعة الصيام يوم القيامة لصاحبه
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
"الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربي إني منعته الطعام والشهوة، فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل، فشفعني فيه، قال: فُيشَفَّعَان" (1) .
قال الألباني: "أي يشفعهما الله فيه ويدخله الجنة".
قال المناوي: "وهذا القول يحتمل أنه حقيقة بأن يجسد ثوابهما ويخلق الله فيه النطق (والله على كل شيء قدير) ويحتمل أنه على ضرب من المجاز والتمثيل".
قلت: "والأول هو الصواب الذي ينبغي الجزم به هنا وفي أمثاله من الأحاديث التي فيها تجسيد الأعمال ونحوها كمثل تجسيد الكنز شجاعاً أقرع، ونحوه كثير.
وتأويل مثل هذه النصوص ليس من طريقة السَلف رضي الله عنهم، بل هو طريقة المعتزلة ومن سلك سبيلهم من الخلف، وذلك مما ينافي أول شروط الإيمان (الذين يؤمنون بالغيب) فحذار أن تحذو حذوهم، فتضل وتشقى، والعياذ بالله تعالى (2) .
الفضيلة الخامسة عشر
دعوة الصائم لا ترد
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر" (3) .
__________
(1) صحيح: رواه أحمد في "مسنده"، والطبراني في "الكبير"، ورجاله محتج بهم في الصحيح، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب "الجوع" وغيره بإسناد حسن، ورواه الحاكم في "المستدرك" وقال: صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" (1/411) .
(2) تعليق الألباني على "صحيح الترغيب والترهيب" (1/411) .
(3) صحيح: رواه العقيلي في "الضعفاء"، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أبي هريرة، ورواه ابن ماسي وابن عساكر، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3030) .(1/49)
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر" (1) .
وعند البيهقي: "دعوة الوالد، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر"
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم" (2) .
فأعظم به من دعاء تنطق به شفاة ذابلة من الصيام يصعد إلى السموات فما يرده -بكرمه- الرحمن.
الفضيلة السادسة عشر
الصيام شعار الأبرار
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "جعل الله عليكم صلاة قوم أبرار، يقومون الليل ويصومون النهار، ليسوا بأئمة ولا فجار" (3) .
قال المناوي (3/348) : "والظاهر أن المراد بالصلاة هنا الدعاء من قبيل دعائه لقوم أفطر عندهم قوله "صلت عليكم الملائكة".
فانظر إلى شعار الأبرار كما وصفهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قيامهم بالليل وصيامهم بالنهار، والأبرار سادات المتقين.
الفضيلة السابعة عشر
للصائم فرحتان
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "للصائم فرحتان، فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه" (4) .
__________
(1) حسن: رواه أبو الحسن بن مهرويه في "الثلاثيات"، والضياء عن أنس، والألباني في "صحيح الجامع" رقم (3032) .
(2) حسن: أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، وأحمد في "مسنده"، والطيالسي، والبيهقي، وابن أبي شيبة، والترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي: حديث حسن، وقال ابن حجر في "أمالي الأذكار" هذا حديث حسن، وأخرجه البزار في "مسنده" قال محقق "الإحسان في تقريب ابن حبان" (8/215) .
(3) صحيح: رواه عبد بن حميد، والضياء عن أنس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3097) .
و"الصحيحة" (1810) .
(4) صحيح: رواه الترمذي عن أبي هريرة، ورواه أحمد في "مسنده"، مسلم وابن حبان.(1/50)
وفي الحديث: "وللصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه".
وفي الحديث: ".. إن للصائم فرحتين: إذا أفطر فرح، وإذا لقي الله تعالى فجزاه فرج".
قال العلامة ابن رجب: "أما فرحة الصائم عند فطره فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح، فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات ثم أبيح لها في وقت آخر فرحا بإباحة ما مُنعت منه خصوصاً عند اشتداد الحاجة إليه، فإن النفوس تفرح بذلك طبعاً فإن كان ذلك محبوباً لله كان محبوباً شرعاً، والصائم عند فطره كذلك، فكما أن الله تعالى حرم على الصائم في نهار الصيام تناول هذه الشهوات فقد أذن له فيها في ليل الصيام بل أحب منه المبادرة إلى تناولها في أول الليل وآخره فأحب عباده إليه أعجلهم فطراً، والله وملائكته يصلون على المتسحرين، فالصائم ترك شهواته لله بالنهار تقرباً إلى الله وطاعة له ويبادر إليها في الليل تقرباً إلى مولاه، وأكل وشرب وحمد الله فإنه يرجى له المغفرة أو بلوغ الرضوان بذلك، وفي الحديث: "إن الله ليرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها"، وربما استجيب دعاؤه عند ذلك، وإن نوى جمله وشربه تقوية بدنه على القيام والصيام كان مثاباً على ذلك.
قال أبو العالية: الصائم في عبادة وإن كان نائماً على فراشه فكانت حفصة تقول: يا حبذا عبادة وأنا نائمة على فراشي فالصائم في ليله ونهاره في عبادة ويستجاب دعاؤه في صيامه وعند فطره فهو في نهاره صائم صابر وفي ليله طاعم شاكر.
وفي الحديث الذي خرجه الترمذي وغيره: "الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر"، ومن فهم هذا الذي أشرنا إليه لم يتوقف في معنى فرح الصائم عند فطره، فإنّ فطره على الوجه المشار إليه من فضله ورحمته فيدخل في قول الله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) .
وأما فرحه عند لقاء ربه: فبما يجده عند الله من ثواب الصيام مدّخراً فيجده أحوج ما كان إليه كما قال تعالى: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجرا)(1/51)
وقال تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً)
وقال: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره) ، وقد تقدم قول ابن عيينة "إن ثواب الصيام لا يأخذه الغرماء في المظالم، بل يدخره الله عنده للصائم حتى يدخله به الجنة".
وعن عيسى ابن مريم عليه السلام قال: "إن هذا الليل والنهار خزانتان فانظروا ما تضعون فيهما، فالأيام خزائن للناس ممتلئة بما خزنوه فيها من خير وشر، وفي يوم القيامة تفتح هذه الخزائن لأهلها، فالمتقون يجدون في خزائنهم العز والكرامة، والمذنبون يجدون في خزائنهم الحسرة والندامة.
والصائمون على طبقتين:
إحداهما: من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله يرجو عنده عوض ذلك فهذا قد تاجر الله وعامله والله تعالى يقول: "لا نضيع أجر من أحسن عملاً" ولا يخيب معه من عامله بل يربح عليه أعظم الربح.
والطبقة الثانية من الصائمين: من يصوم في الدنيا عمّا سوى الله فيحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته.
أهل الخصوص من الصوام صومهم ... صون اللسان عن البهتان والكذب
والعارفون وأهل الأنس صومهم ... صون القلوب عن الأغيار والحجب
* العارفون لا يسليهم عن رؤية مولاهم قصر، ولا يرويهم دون مشاهدته نهر، هممهم أجل من ذلك.
كبرت همة عبد ... طمعت في أن تراك
من يصم عن المفطرات ... فصيامي عن سواك
يا معشر التائبين: صوموا اليوم عن شهوات الهوى، لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء، لا يطولن عليكم الأمل باستبطاء الأجل فإن معظم نهار الصيام قد ذهب وعيد اللقاء قد اقترب.(1/52)
إن يوماً جامعاً شملى بهم ... ذاك عيدي ليس لي عيد سواه (1)
الفضيلة الثامنة عشر
خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك
عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، والصيام لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" (2) .
فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يوم القيامة.
عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فهو لي وأنا أجزي به، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، للصائم فرحتان إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقى الله فرح بصومه" (3) .
قال أبو حاتم: شعار المؤمنين في القيامة التحجيل بوضوئهم في الدنيا فرقاً بينهم وبين سائر الأمم، وشعارهم في القيامة بصومهم طِيبُ خلوفهم أطيب من ريح المسك ليعرفوا بين ذلك الجمع بذلك العمل، نسأل الله بركة ذلك اليوم.
خلوف الصائم قد يكون أطيب من ريح المسك في الدنيا:
عن أبي هريرة (رضى الله عنه) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كل حسنة يعملها ابن آدم بعشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، يقول الله إلا الصوم، فهو لي وأنا أجزي به، يدع الطعام من أجلي، والشراب من أجلي، وشهوته من أجلي، وأنا أجزي به، وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم حين يخلف من الطعام أطيب عند الله من ريح المسك" (4) .
__________
(1) "لطائف المعارف" (176-179) .
(2) رواه ابن حبان واللفظ له وإسناده صحيح على شرط الشيخين، ورواه مسلم والنسائي.
(3) إسناده صحيح: رواه ابن حبان واللفظ له، وابن خزيمة، وأحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي.
(4) إسناده صحيح على شرط الشيخين: رواه ابن حبان في "صحيحه" واللفظ له، وابن أبي شيبة وأحمد ومسلم، وابن ماجة.(1/53)
وفي الحديث في فضل هذه الأمة في رمضان: "وأما الثانية فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك" (1) .
إن للطاعات يوم القيامة ريحاً تفوح، فرائحة الصيام فيها بين العبادات كالمسك.
وهل هو في الدنيا أم في يوم القيامة؟
قال ابن حجر: "هذه المسألة إحدى المسائر التي تنازع فيها ابن عبد السلام، وابن الصلاح، فذهب ابن عبد السلام إلى أن ذلك في الآخرة كما في دم الشهيد واستدل بالرواية التي فيها "يوم القيامة"، وذهب ابن الصلاح إلى أن ذلك في الدنيا واستدل بما تقدم وأن جمهور العلماء ذهبوا إلى ذلك.
ويؤخذ من قوله "أطيب من ريح المسك" أن الخلوف أعظم من دم الشهيد لأن دم الشهيد شبه ريحه بريح المسك، والخلوف وصف بأنه أطيب، ولا يلزم من ذلك أن يكون الصوم أفضل من الشهادة لما لا يخفى، ولعل سبب ذلك النظر إلى أصل كل منهما فإن أصل الخلوف طاهر وأصل الدم بخلافه، فكان ما أصله طاهر أطيب ريحاً (2) .
يا هذا تأمل العبارة..
"فَضّل ما ينكره الناس من الصيام على أطيب ما يستلذ من جنسه" (3) .
ليقاس عليه ما فوقه من آثار الصوم ونتائجه إن كان هذا حال الخلوف فكيف بأثر الإخلاص في الصوم.
قال الحافظ ابن رجب "خلوف الفم: رائحة ما يتصاعد منه من الأبخرة لخلو المعدة من الطعام بالصيام، وهي رائحة مستكرهة في مشام الناس في الدنيا لكنها طيبة عند الله حيث كانت ناشئة عن طاعته وابتغاء مرضاته، كما أن دم الشهيد يجيء يوم القيامة يثغب دماً لونه لون الدم وريحه ريح المسك، وبهذا استدل من كره السواك للصائم أوْ لمْ يستحبه
__________
(1) إسناده مقارب رواه البيهقي في "شعب الإيمان" من حديث جابر وقال المنذري إسناده مقارب، انظر "الفتح" (4/128) .
(2) "فتح الباري" (4/128) .
(3) "مرقاة المفاتيح" (4/222-223) .(1/54)
من العلماء وأول من علمناه استدل بذلك عطاء بن أبي رباح، وروي عن أبي هريرة أنه استدل به لكن من وجه لا يثبت وفي المسألة خلاف مشهور بين العلماء وإنما كرهه من كرهه في آخر نهار الصوم لأنه وقت خلو المعدة وتصاعد الأبخرة. وهل يدخل وقت الكراهة بصلاة العصر؟ أو بزوال الشمس؟ أو بفعل صلاة الظهر في أول وقتها؟ على ثلاثة أقوال: والثالث هو المنصوص عند أحمد.
وفي طيب ريح خلوف الصائم عند الله عز وجل معنيان:
أحدهما: أن الصيام لماّ كان سراً بين العبد وبين ربه في الدنيا أظهره الله في الآخرة علانية للخلق ليشتهر بذلك أهل الصيام ويُعرفون بصيامهم بين الناس جزاءً لإخفائهم صيامهم في الدنيا.
قال مكحول: يُروّح على أهل الجنة برائحة فيقولون: ربنا ما وجدنا ريحاً منذ دخلنا الجنة أطيب من هذا الريح فيقال: هذه رائحة أفواه الصوام.
وقد تفح رائحة الصيام في الدنيا وتستنشق قبل الآخرة.
وهو نوعان:
أحدهما: ما يُدرك بالحواس الظاهرة، كان عبد الله بن غالب -الحداني- من العباد المجتهدين في الصلاة والصيام فلما دُفِن كان يفوح من تراب قبره رائحة المسك فرؤي في المنام فسُئل عن تلك الرائحة التي توجد من قبره فقال: تلك رائحة التلاوة والظمأ.
والنوع الثانيْ: ما تستنشقه الأرواح والقلوب فيوجب ذلك للصائمين المخلصين المودة والمحبة في قلوب المؤمنين.
لماّ كان أمر المخلصين بصيامهم لمولاهم سرّاً بينه وبينهم أظهر الله سرّهم لعباده فصار علانية فصار هذا التجلي والإظهار جزاء لذلك الصون والإسرار، في الحديث "ما أسرّ أحد سريرة إلَّا ألبسه الله رداءها علانية".
قال يوسف بن أسباط: أوحى الله إلى نبي من الأنبياء قل لقومك يخفون لي أعمالهم وعلي إظهارها لهم.(1/55)
تذلل أرباب الهوى في الهوى عزّ ... وفقرهُم نحو الحبيب هو الكنزُ
وسترهُم فيه السرائر شهرة ... وغير تلاف النفس فيه هو العجز
والمعنى الثاني: أن من عبد الله وأطاعه وطلب رضاه في الدنيا بعمل فنشأ من عمله آثار مكروهة للنفوس في الدنيا فإن تلك الآثار غير مكروهة عند الله بل هي محبوبة له وطيبة عنده لكونها نشأت عن طاعته واتباع مرضاته فإخباره بذلك للعاملين في الدنيا فيه تطيب لقلوبهم لئلا يكره منهم ما وجد في الدنيا.
كل شيء ناقص في عرف الناس في الدنيا حتى إذا انتسب إلى طاعة الله ورضاه فهو الكامل في الحقيقة، خلوف أفواه الصائمين له أطيب من ريح المسك، عُري المحرمين لزيارة ييته أجمل من لباس الحلل.... نوح المذنبين على أنفسهم من خشيته أفضل من التسبيح.... انكسار المخبتين لعظمته هو الجبر.... ذل الخائفين من سطوته هو العز.... تهتك المحبين في محبته أحسن من الستر.... بذل النفوس للقتل في سبيله هو الحياة.... جوع الصائمين لأجله هو الشبع.... عطشهم في طلب مرضاته هو الري.... نصب المجتهدين في خدمته هو الراحة.
ذل الفتى في الحب مكرمةٌ ... وخضوعه لحبيبه شرف (1)
قال المناوي (4/250) : "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" فإذا كان هذا بتغير ريح فمه فما ظنك بصلاته وقراءته وسائر عباداته.
قال ابن جماعة: "وفيه أن خلوف فم الصائم أفضل من دم الجريح في سبيل الله لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الشهيد إن ريحه ريح المسك، وقال في خلوف الصائم أنه أطيب منه، ووجهه أن الجريح يظهر أمره للناس فربما دخله رياء، والصائم لا يعلم بصومه إلا الله، فلعدم دخول الرياء فيه صار أرفع".
* قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهنّ، فكأنه أبطأ بهنّ، فأوحى الله إلى عيسى: إما أن يبلغهن، أو تبلغهن فأتاه
__________
(1) "لطائف المعارف" (ص 179-182) .(1/56)
عيسى فقال له: إنك أُمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن، فقال له: يا روُح الله إني أخشى أن سبقتني أن أُعذب أو يُخسف بي، فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن:
وأولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، فإنّ مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق، ثم أسكنه داراً، فقال له: اعمل وارفع إليِّ، فجعل العبد يعمل ويرفع إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً.
وأمركم بالصلاة، وإذا قمتم إلى الصلاة فلا تلتفتوا فإن الله عز وجل يقبل بوجهه على عبده ما لم يلتفت.
وأمركم بالصيام، ومثل ذلك كمثل رجل معه صُرّة مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.
وأمركم بالصدقة، ومثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فكّ نفسه.
وأمركم بذكر الله كثيراً، ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سِراعاً في أثره فأتى حصناً حصيناً فأحرز نفسه فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله.
وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهنّ: الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجعِ، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جُثاء جهنم، وإن صام وزعم أنه مسلم، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله" (1) .
__________
(1) صحيح: رواه أحمد في مسنده، والبخاري في "التاريخ"، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم في "المستدرك" عن الحارث بن الحارث الأشعري، وصححه الحاكم والترمذي وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1724) ، ورواه أيضاً الآجري، والطيالسي.(1/57)
الفضيلة التاسعة عشر
الصوم جُنَّة
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصوم جُنَّة" (1)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصوم جنة"
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصيام جنة، وإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث (2) ، ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، [يقول الله: يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها] "
* وفي حديث جابر: "يا كعب بن عجرة، الصوم جنة، والصدقة تطفيء الخطيئة، والصلاة برهان -أو قال: قربان- يا كعب بن عُجْرة، الناس غاديان: فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها" (3)
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خصاء أمتي الصيام" رواه أحمد، والطبراني في "الكبير" عن ابن عمرو وصححه الألباني.
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم، فإنه له وجاء" (4) .
قال ابن حجر: "الجنة الوقاية والستر، وتبين بالروايات متعلق هذا الستر وأنه من النار، وبهذا جزم ابن عبد البر، وأما صاحب "النهاية" فقال: معنى كونه جنة أي يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات".
__________
(1) صحيح: رواه النسائي عن معاذ وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3866) ، وقال العامري: صحيح.
الجنة: بضم الجيم: كل ما ستر، ومنه (المجن) وهو الترس، وإنما كان الصوم جنة لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات، قال ابن الأثير في "النهاية": معنى كونه جُنّة: أي يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات.
(2) الرفث: الكلام القبيح، أو الجماع.
(3) إسناده صحيح على شرط مسلم، رواه ابن حبان، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد، والحاكم في "المستدرك" وصحح إسناده ووافقه الذهبي.
(4) الوجاء: رضّ أنثيي الفحل رضَاً شديداً يذهب شهوة الجماع ويتنزل في قمة منزلة الخصي، قال ابن الأثير: نزل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كسر الصوم للشهوة منزلة رض الأنثيين في حسم الشهوة.(1/58)
وقال القرطبي: جنة أي سترة، يعني بحسب مشروعيته، فينبغي للصائم أن يصونه عن ما يفسده وينقص ثوابه، وإليه الإشارة بقوله: "فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث"، ويصح أن يراد أن ستره بحسب فائدة وهو إضعاف شهوات النفس، وإليه الإشارة بقوله "يدع شهوته"، ويصح أن يراد أنه سترة بحسب ما يحصل من الثواب وتضعيف الحسنات.
وقال عياض في "الإكمال": معناه سترة من الآثام أو من النار أو من جميع ذلك، وبالأخير جزم النووي.
وقال ابن العربي: إنما كان الصوم جنة من النار لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة باالشهوات.
ولأحمد من حديث أبي عبيدة "الصيام جنة ما لم يخرقها".
وفي زيادة أبي عبيدة بن الجراح إشارة إلى أن الغيبة تضر بالصيام، وقال الأوزاعي: إن الغيبة تفطر الصائم وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم، وأفرط ابن حزم فقال. يبطله كل معصية من متعمد لها ذاكر لصومه سواء كان فعلاً أو قولاً لعموم قوله فلا يرفث ولا يجهل، والجمهور خصوا الفطر بالأكل والشرب والجماع.
وأشار ابن عبد البر إلى ترجيح الصيام على غيره من العبادات فقال: حسبك أن يكون الصيام جنة من النار.
قال الشيخ عمر الأشقر: "الصيام جنة ووقاية يقي العبد الذنوب والمعاصي، والبغيض من الكلام والسيء من الفعال، وبذلك يتقي العبد النار".
"والصيام حصن منيع، يحصن الإنسان من الشيطان وخطواته ويمنع صاحبه من أن ينزلق في الأقذار والأرجاس" (1) .
قال القسطلاني في كلامه عن فضائل الصوم: "تهذيب النفس برياضتها وكسر شهواتها".
__________
(1) "الصوم في ضوء الكتاب والسنة" (ص 10) .(1/59)
وقال: "تقليله لما يعرض من سلطان النزعات وشيطان التبعات".
وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مسالكه بالجوع" (1) .
قال المناوي في "فيض القدير" (4/242) : "الصوم وقاية في الدنيا من المعاصي بكسر الشهوة لأنه يقمع الهوى ويردع الشهوات التي هي من أسلحة الشيطان فإن الشبع مجلبة للآثام منقصة للإيمان ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "ما ملأ آدمي وعاء شرّاً من بطنه" فإذا ملأ بطنه انتكست بصيرته وتشوشت فكرته، وقد يقع في مداحض فيروغ عن الحق، وغلب عليه الكسل والنعاس فيمنعه عن وظائف العبادات، وقويت قوى بدنه، وكثرت المواد والفضول فينبعث غضبه وشهوته وتشتد مشقته لدفع ما زاد على ما يحتاجه بدنه فيوقعه ذلك في المحارم.
قال بعض الأعلام: صوم العوام عن المفطرات، وصوم الخواص عن الغفلات، وصوم العوام جنة عن الإحراق، وصوم الخواص جنة لقلوبهم عن الحجب والافتراق".
* قال القارئ في "مرقاة المفاتيح" (4/229) :
"ثالث أركان الإسلام شرعه سبحانه لفوائد أعظمها كونه موجباً لشيئين أحدهما ناشئ عن الآخر: سكون النفس الأمارة وكسر شهوتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج فإن به تضعف حركتها في محسوساتها، ولذا قيل إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، وإذا شبعت جاعت كلها، والناشيء عن هذا صفاء القلب عن الكدر، فإن الموجب لكدوراته فضول اللسان والعين وباقيهما، وبصفائه تناط المصالح والدرجات".
الفضيلة العشرون
قطع أسباب التعبد لغير الله
اعلم يا أخي أن إلف الإنسان لطعامه وشرابه ونكاحه "متى طال أمده فإنه يعبد الإنسان لهواه وشهوته وينسيه الغاية التي خلقه الله من أجلها، والتي من أجلها أوجد الله له الطعام والشراب كي يستعين به على طاعة الله، فإذا أصبحت الأمور من طعام وشراب
__________
(1) "مدارك المرام في مسالك الصيام" للقسطلاني (ص 75) . "فضيقوا مجاريه بالجوع: قال الألباني في التعليق
على صحيح الجامع لا أصل لها خلافاً لمن وهم" كما ذكره في "صحيح الجامع" (1/341) .(1/60)
ونكاح همّ العبد وشاغله، أسرته وأذلته وصار عبداً لها، وبذلك يتحقق فيه قول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس وانتكس، وإذا شِيكَ فلا انتقش" وما أحسن ما قاله العلامة المناوي في كتابه "فيض القدير" موضحاً لهذه الحكمة: "إنما شرع الصوم كسراً لشهوات النفوس، وقطعاً لأسباب الاسترقاق والتعبد للأشياء، فإنهم لو داوموا على أغراضهم لاستعبدتهم الأشياء، وقطعتهم عن الله، والصوم يقطع أسباب التعبد لغيره، ويورث الحرية من الرق للمشتهيات، لأن المراد من الحرية أن يملك الأشياء لا تملكه، فإذا ملكته فقد قلب الحكمة، وصير الفاضل مفضولاً والأعلى أسفلاً، (أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين) [الأعراف: 14] ، والهوى إله معبود، والصوم يورث قطع أسباب التعبد لعبده" انتهى (1) .
الفضيلة الواحد والعشرون
الصوم شكر للمنعم عالم الخفيات
قال عز الدين بن عبد السلام: "وأما شكر عالم الخفيات: إذا صام عرف نعمة الله عليه في الشبع والريّ، فشكرها لذلك، فإن النعم لا تعرف مقدارها إلا بفقدها" (2) .
وقال القسطلاني وهو يتحدث عن مقاصد الصوم وفضائله: "تكثيره لشكر النعم، واعترافه بما سبق له من نعمة الشبع عند جوعه وعطشه فيجتهد في الشكر فإن الشيء إنما يعرف ما كان عليه بضده" (3) كما قيل:
ضدان لما استجمعا حَسُنا ... والضد يُظهر حسنه الضِّدُّ
الفضيلة الثانية والعشرون
توفير الطاعات وتحريض على المثوبات
قال عز الدين بن عبد السلام: "وأما توفير الطاعات: فلأنه تذكر جوع أهل النار وظمأهم، فيحثه ذلك على تكثير الطاعات، لينجو بها من النار.
__________
(1) "الصوم في ضوء الكتاب والسنة" للأشقر (ص 11-12) .
(2) "فوائد الصوم" (ص 25) .
(3) "مدارك المرام في مسالك الصيام" (ص 76) .(1/61)
وأما الانزجار عن خواطر المعاصي والمخالفات: فلأن النفس إذا شبعت طمحت إلى المعاصي وتشوّفت إلى المخالفات، وإذا جاعت وظمئت تشوفت إلى المطعومات والمشروبات.
وطموح النفس إلى المناجات واشتغالها بها خير من تشوفها إلى المعاصي والزلات، ولذلك قدّم بعض السلف الصوم على سائر العبادات، فسُئل عن ذلك؟ فقال: "لأن يطلع الله على نفسي وهي تنازعني إلى الطعام والشراب أحب إلي من أن يطلع عليها وهي تنازعني إلى معصيته إذا شبعت" (1) .
قال القسطلاني في "فضائل الصوم":
"زجره عن الخواطر الذميمة: الموقعة في المآثم المقيمة، إذا الجوع يكبح النفس بلجام الجفوة للهفوة الموجبة للغلظة والقسوة، والشبع مما يقودها إلى الطماح والجماح، ويذودها عن السعي في قص ما زاد من جناح الجناح، ويوقعها في الجرأة والفظاظة والانكباب على ارتكاب المناهي.
والجوع يجسم مواد الفساد من هذه العلل ويقللها حتى يقتصر فكر الجائع على مأكول ومشروب يدفع به ما هو فيه؛ فتنصرف فكرته إلى المباح السالم من تعاطاه عن الأذى والإثم، فظهر أنه أولى من الشبع الذي يؤدي إلى المحرم أو المكروه، والله أعلم.
ثم قال: "حثه على فعل الطاعات وتحريضه على تحصيل المثوبات: لأن المعدة إذا خلت من الأغذية ضعف من الجسد ما هو فيه من القوى النفسانية وقويت منه الروحانية، فأشرق في القلب نور القدس، ولاح في الروح ضياء القدس، وخشعت الجوارح لفعل القربات، ولانت الجلود لإتيانها بالطاعات؛ فأقبلت على خدمة الله تعالى بقلب منيب، وأعرضت عن عصيانه ومخالفته.
التذكر لتعداد نعم الله في الدارين: إذ نعمته بلذاذة هذه العبادة عاجلاً بتذكر حال أهل النار آجلاً، ومآل أمرهم من الجوع والعطش كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله:
__________
(1) "فوائد الصوم" (ص 25) .(1/62)
(أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله) فيحدوه ذلك على كثرة الشكر، والاجتهاد في الطاعة بالعمل والذكر والفكر" (1) .
الفضيلة الثالثة والعشرون
تكثير الصدقات، والإحسان إلى ذوي الحاجات
قال عز الدين بن عبد السلام: "وأما تكثير الصدقات، فلأن الصائم إذا جاع تذكر ما عنده من الجوع، فيحثه ذلك على إطعام الجائع "فإنما يرحم العشّاق من عشقا"، وقد بلغنا أن سليمان أو يوسف عليهما السلام لا يأكل حتى يأكل جميع المتعلقين به، فسُئل عن ذلك؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع" (2) .
قال القسطلاني: "إعانته على بذل الصدقات فإن الصائم يجوع؛ فيعرف قدر ألم الجوع، فيحرضه ذلك على حرصه في الإحسان إلى الجياع، ويحمله على تدبر ما هم فيه من ضرر العجز والانقطاع، وإنما يجد ذوق التعب مَنْ نازله، ويعرف قدر الضرر مَنْ واصله، وفي مثل ذلك قيل:
لا يعرف الشوق إلا مَنْ يُكابِدُه ... ولا الصبابة إلَّا من يُعانيها (3)
قال القاري في "مرقاة المفاتيح": "ومنها كونه موجباً للرحمة والعطف على المساكين فإنه لمّا ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات ذكر من هذا حاله في عموم الساعات فتسارع إلى الرقة عليه، والرحمة حقيقتها في حق الإنسان نوع ألم باطن فيسارع لدفعه عنه بالإحسان إليه فينال بذلك ما عند الله من حسن الجزاء ومنها موافقة الفقراء بتحمل ما يتحملون أحياناً وفي ذلك رفع حاله عند الله كما حكي عن بشر الحافي أنه دخل عليه رجل في الشتاء فوجده جالساً يرعد وثوبه معلق على المشجب، فقال له: في مثل هذا الوقت تنزع الثوب أو معناه، فقال: يا أخي الفقراء كثير، وليس لي طاقة مواساتهم بالثياب فأواسيهم بتحمل البرد كما يتحملون. انتهى.
__________
(1) "مدارك المرام في مسالك الصيام" (ص 77-78) .
(2) "فوائد الصيام" (ص 25) .
(3) "مدارك المرام" (ص 76) .(1/63)
ولهذا كان يقول بعض الأولياء العارفين عند كل أكلة: "اللهمَّ لا تؤاخذني بحق الجائعين"، وقد ثبت أن سيدنا يوسف عليه السلام ما كان يشبع من الطعام في سنة القحط مع كثرة المأكول عنده في ذلك العام لئلا ينسى أهل الجوع والفاقة وليتشبه بهم في الخاصة والحاجة" (1) .
قال أحمد شوقي أمير الشعراء: "الصوم حرمان مشروع، وتأديب بالجوع، وخشوع لله وخضوع، لكل فريضة حكمة، وهذا الحكم ظاهره العذاب وباطنه الرحمة، يستثير الشفقة، ويحض على الصدقة، ويسن خلال البر، حتى إذا جاع من ألف الشبع، وعرف المترف أسباب المتع، عرف الحرمان كيف يقع، وألم الجوع إذا لذع".
يقول المنفلوطي: "فتّشت عن الفضيلة في قصور الأغنياء فرأيت الغني إما شحيحاً أو متلافا، أما الأول فلو كان جار البيت فاطمة رضي الله عنها وسمع في جوف الليل أنينها وأنين ولديْها من الجوع ما مدّ أصبعيه إلى أذنيه ثقة منه أن قلبه المتحجر لا تنفذه أشعة الرحمة، ولا تمر بين طياته نسمات الإحسان، وأما الثاني: فمالُه بين ثغر الحسناء، وثغر الصهباء، فعلى يد أي رجل من هذين الرجلين تدخل الفضيلة قصور الأغنياء" (2) .
ويقول رحمه الله: "لو أعطى الغني الفقير ما فضل عن حاجته من الطعام ما شكا واحد منهما سُقماً ولا ألماً، لقد كان جديراً به أن يتناول من الطعام ما يشبع جوعته، ويُطفي غلته، ولكنه كان محباً لنفسه مغالياً بها فضمّ إلى مائدته ما اختلسه من صحفة الفقير فعاقبه الله على قسوته بالبِطنة حتى لا يَهنيءَ للظالم ظلمه ولا يطب له عيشه، وهكذا يصدق المثل القائل: بطنة الغني انتقام لجوع الفقير.
ما ضنّت السماء بمائها، ولا شحّت الأرض بنباتها، ولكن حسد القوي الضعيف عليهما فزواهما عنه واحتجنهما (3) دونه فأصبح فقيراً معدماً، شاكياً متظلماً، غرماؤه المياسير الأغنياء لا الأرض والسماء".
__________
(1) "مرقاة المفاتيح" (4/229) .
(2) "أين الفضيلة" من كتاب النظرات (1/72) لمصطفى لطفي المنفلوطي نشر دار الآفاق الجديدة.
(3) احتجن الشيء إذا جذبه بالمحجن إلى نفسه، والمحجن الصولجان والمراد أنه استأثر به.(1/64)
ثم يقول يرحمه الله: "لا أستطيع أن أتصور أن الإنسان إنسان حتى أراه محسناً، لأني لا أعتمد فصلاً صحيحاً بين الإنسان والحيوان إلا الإحسان، وإني أرى الناس ثلاثة، رجل يحسن إلى غيره ليتخذ إحسانه إليه سبيلاً إلى الإحسان إلى نفسه، وهو المستبد الجبار الذي لا يفهم من الإحسان إلا أنه يستعبد الإنسان، ورجل يحسن إلى نفسه ولا يُحسن إلى غيره، وهو الشره المتكالب الذي لو علم أن الدم السائل يستحيل إلى ذهب جامد لذَبح في سبيله الناس جميعاً.
ورجل لا يُحسن إلى نفسه ولا إلى غيره، وهو البخيل الأحمق الذي يجيع بطنه ليشبع صندوقه، أما الرابع الذي يحسن إلى غيره ويحسن إلى نفسه، فلا أعلم له مكاناً ولا أجد إليه سبيلاً، وأحسب أنه هو ذلك الذي كان يفتّش عنه الفيلسوف اليوناني ديوجين الكلبي حينما سئل ما يصنع بمصباحه وكان يدور به في بياض النهار، فقال: أفتش عن إنسان" (1) .
يقول المنفلوطي رحمه الله في مقالة "الرحمة":
"سأكون في هذه المرة شاعراً بلا قافية ولا بحر لأني أريد أن أخاطب القلب وجهاً لوجه ولا سبيل إلى ذلك إلا سبيل الشعر.
إن البذور تلقى في الأرض فلا تنبت إلا إذا حرث الحارث تربتها وجعل عاليها سافلها، وكذلك القلب لا تبلغ منه العظة إلا إذا داخلته وتخللت أجزائه، وبلغت سويدائه، ولا محراث للقلب غير الشِعر، أيها الرجل السعيد كن رحيماً أَشعِر قلبك الرحمة، ليكن قلبُك الرحمةَ بعينها.
ستقول إني غير سعيد لأن بين جنبيّ قلباً يُلم به من الهمّ ما يلم بغيره من القلوب، أجل فليكن ذلك كذلك، ولكن أطعم الجائع واكس العاري وعزّ المحزون، وفرّج كربة المكروب يكن لك من هذا المجتمع البائس خير عزاء يعزيك عن همومك وأحزانك، ولا تعجب أن يأتيك النور من سواد الحلك فالبدر لا يطلع إلا إذا شقّ رداء الليل، والفجر لا يَدْرُج إلا من مهد الظلام.
__________
(1) "الغني والفقير" مقالة للمنفلوطي من كتاب النظرات (1/76-79) .(1/65)
لقد بَليت اللذات كلها ورثت حبالها وأصبحت أثقل على النفس من الحديث المعاد ولم يبق ما يعزى الإنسان عنها إلا لذة واحدة هي لذة الإحسان.
إن منظَر الشاكر منظر جميل جذاب ونغمة ثنائه وحمده أوقع في السمع وأعذب.
أحسن إلى الفقراء والبائسين وأعدك وعداً صادقاً أنك ستمر في بعض لياليك على بعض الأحياء الخاملة فتسمع من يحدث جاره من حيث لا يعلم بمكانك منه أنك أكرم مخلوق وأشرف إنسان ثم يعقب الثناء عليك بالدعاء لك أن يجزيك الله خير بما فعلت فيدعو صاحبه بدعائه، ويرجو برجائه، وهنالك تجد من سرور النفس وحبورها بهذا الذكر الجميل في هذه الهيئة الخاملة ما يجده الصالحون إذا ذكروا في الملأ الأعلى.
ليتك تبكي كلما وقع نظرك على محزون أو مفؤود فنبتسم سروراً ببكائك، واغتباطً بدموعك، لأن الدموع التي تتحدر على خديك في مثل هذا الموقف إنما هي سطور من نور تسجل لك في تلك الصحيفة البيضاء أنك إنسان.
إن السماء تبكي بدموع الغمام ويخفُق قلبها بلمعان البرق وتصرخ بهدير الرعد، وإن الأرض تئن بحفيف الريح وتضج بأمواج البحر، وما بكاءُ السماء ولا أنين الأرض إلا رحمة بالإنسان، ونحن أبناء الطيعة فلنجارها في بكائها وحنينها.
إن اليد التي تصون الدموع أفضل من اليد التي تُريق الدماء، والتي تشرح الصدور أشرف من التي تبقَر البطون، فالمحسن أفضل من القائد، وأشرف من المجاهد، وكم بين من يحيي الميت ومن يميت الحي.
إن الرحمة كلمة صغيرة ولكن بين لفظها ومعناها من الفرق مثل ما بين الشمس في منظَرها والشمس في حقيقتها.
إذا وَجد الحكيم بين جوانح الإنسان ضالته من القلب الرحيم وجد المجتمع ضالته من السعادة والهناء.
لو تراحم الناس لما كان بينهم جائع ولا عار ولا مغبون ولا مهضوم، ولأقفرت الجفون من المدامع، واطمأنت الجنوب في المضاجع، ولمحت الرحمةُ الشقاء من المجتمع كما يمحو لسان الصبح مداد الظلام.(1/66)
لم يخلق الإنسان ليقتّر عليه رزقه ولم يقذف به في هذا المجتمع ليموت فيه جوعاً، بل أرادت حكمته أن يخلقه ويخلق له فوق بساط الأرض وتحت ظلال السماء ما يكفيه مؤونته، ويسد حاجته، ولكن سلبه الرحمة فبغى بعضه على بعض وغدر القوي بالضعيف واحتجن دونه رزقَه فتغير نظام القسمة العادلة وتشوه وجهها الجميل، ولو كان للرحمة سبيل إلى القلوب لما كان للشقاء إليها سبيل.
الفرد هو المجتمع وإنما يتعدد بتعدد الصور، أتدري متى يكون الإنسان إنساناً؟ متى عرف هذه الحقيقة حق المعرفة وأشعرها نفسَ فخفق قلبه لخفقان القلوب وسكن لسكونها، فإذا انقطع ذلك السلك الكهربائي بينه وبينها انفرد عنها واستوحش من نفسه، وإذا كان الأنس مأخذَ الإنسان المجتمع، فالوحشة مأخذ الوحش المنقطع.
وجِماع القول أنه لا يمكن أن تجتمع رحمة الرحماء وشقوة الأشقياء في مكان واحد إلا إذا أمكن أن يجتمع في بقعة واحدة الملَك الرحيم، والشيطان الرجيم.
إن من الناس من تكون عنده المعونة الصالحة للبر والإحسان فلا يفعل، فإذا مشى مشى متدفعاً مندلثاً (1) لا يلوي على شيء مما حوله من المناظر المؤثرة المحزنة، وإذا وقع نظره على بائس لا يكون نصيبه منه إلا الإغراق في الضحك سخرية به وببذاذة ثوبه ودمامة خلقه، وإن من الناس من إذا عاشر الناس عاشرهم ليعرف كيف يحتلب دِرتهم (2) ويمتص دماءهم، ولا يعاملهم إلا كما يعامل شويهاته وبقراته، لا يقربها ولا يُطعمها ولا يَسقيها إلا لما يترقب من الربح في الاتجار بألبانها وأصوافها، ولو استطاع أن يهدم بيتاً ليربح حجراً لفعل، وإن من الناس من لا حديث له إلا الدينار وأين مستقره وكيف الطريق إليه وما السبيل إلى حبسه والوقوفِ في وجهه والحيطة لفراره، ويبيت ليله حزيناً كئيباً لأن خزانته ينقصها درهم كان يتخيل في يقظته أو يرى في منامه أنه سيأتيه فلم يُقيض له، وإن من الناس من يؤذي الناس لا يجلب بذلك لنفسه منفعة أو يدفع عنها مضرة بل لأنه شرير يدفعه طبعه إلى ما لا يعرف وجهه أو ليضرّي (3) نفسه بالأذى مخافة أن ينساه عند الحاجة
__________
(1) اندلث في الأمر: اندفع فيه.
(2) الدرة: اللبن إذا كثر وسال.
(3) يقال: أضرى فلان كلبه بالصيد وضرّاه إذا أغراه به وعوّده متابعته.(1/67)
إليه، حتى لو لم يبق في العالَم شخص غيره لكانت نفسُه مدبَّ عقاربه وغرض سهامه، وإن من الناس من إذا كشف لك عن أنيابه رأيت الدم الأحمر يترقرق فيها أو عن أظافره رأيت تحتها مخالب حادة لا تسترها إلا الصورة البشرية أو عن قلبه رأيت حجراً صلداً من أحجار الغرانيت لا يبض (1) بقطرة من الرحمة، ولا تَخْلُص إليه نسمة من العظة.
فيا أيها الإنسان احذر الحذر كله من أن تكون واحداً من هؤلاء فإنهم سباع مفترسة وذئاب ضارية، بل أعظك ألا تدنو من أحدهم أو تعترض طريقَه فربما بدا له أن يأكلك فأكلك غير حافل بك ولا آسف عليك.
أيها الإنسان: ارحم الأرملة التي مات عنها زوجها ولم يترك لها غير صبية صغار، ودموع غزار، ارحمها قبل أن ينال منها ويعبث الهم بقلبها فتفضل الموت على الحياة.
أيها السعداء، أحسنوا إلى البائسين والفقراء، وامسحوا دموع الأشقياء، وارحموا من في الأرض ورحمكم من في السماء.
الفضيلة الرابعة والعشرون
رقة القلب وصيانة الجوارح
مراد الله من الناس رقة قلوبهم وأكرم بها من نعمة.
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير" (2) .
يقول القسطلاني معدداً لثمرات الصوم: "رقة القلب وغزارة الدمع وذلك من أسباب السعادة فإن الشبع مما يذهب نور العرفان ويقضي بالقسوة والحرمان".
ثم يقول في ثمرات الصوم أيضاً:
"صيانة جوارحه عن استرسالها في المخالفات وهذا هو أعظم ثمرات الصوم، بل هو الأصل في تحقيق المعنى، فإن النفس إذا مسّها ألم الجوع ذلت وانقادت، وأذعنت، واشتغلت بما هي فيه عن امتداد أملها إلى الفِكَر الدنية، فتسكن جوارحها عن الحركات
__________
(1) بضّ الدم: سال.
(2) رواه مسلم، وأحمد، عن أبي هريرة.(1/68)
الردية، وتمتنع عن انتهاك المحارم المردية، والجوارح سبع: العين، والأذن، واللسان، والبطن، والفرج، واليد، والرجل، والنفس هي الممدِّة لهذه الجوارح، وهي الأصل عند الاعتبار، فإذا ضعف الأصل ضعف الفرع، وهذا هو سر الصوم، ولأجل ذلك قيل:
إذا ما المرء صام عن الخطايا ... فكل شهوره شهر الصيام
فإن قصّر في حفظها، أو حفظ شيء منها ربما أداه إلى الدخول إلى جهنم من سعة أبوابها، فإنه ما يستحق أحد جهنم إلا بعصيانه بأحد هذه الجوارح فمن رعاها في صيامه، أمّنه الله في الآخرة من انتقامه" (1) .
الفضيلة الخامسة والعشرون
الصيام فدية لبعض الأعمال، أو بدلا منها، أو كفارة لها
من فضائل الصوم أن الله عز وجلَّ "جعله في شريعة الإسلام فدية لبعض الأعمال، أو بدلا عنها، أو كفارة لها" (2) ، وهذا ليس لأي عبادة إلا الصوم:-
أولا: فقد جعل الله الصيام فدية لحلق شعر الرأس الذي هو من محظورات الإحرام في الحج والعمرة وبدلاً عن هدي واجب لمن عجز عن الهدي، فقد قال الله عز وجل (وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤءسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب) [البقرة: 196] .
ثانيا: جعل الله الصيام معادلاً للهدي وإطعام المساكين في كفارة قتل الصيد بالنسبة للمحرم، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما كل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو
__________
(1) "مدارك المرام" ص (79، 80) .
(2) "الصيام ورمضان" لعبد الرحمن الميدان (ص 120 - دار القلم) .(1/69)
عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام) [المائدة: 95] .
ثالثا: جعل الله صيام ثلاثة أيام بدل كفارة اليمين عند العجز عنها وهي إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، على التخيير بين هذه الثلاثة. قال تعالى (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
رابعا: جعل الله كفارة القتل الخطأ وكفارة الظهار عتق رقبة مؤمنة، هذه هي الكفارة الأساسية، فمن لم يجد رقبة مؤمنة يعتقها فعليه أن يصوم بدلا عنها شهرين متتابعين ... فسبحان من جعل الصوم ينوب عن عتق الرقاب عند العجز ويجعله كفارة القتل الخطأ.
قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء: 92] .
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [المجادلة: 3-4] .
فجعل الله الصيام ولم يجعل الصلاة أو الحج ... وهذه خاصية للصوم فأنعم به من عبادة.
ثمرات الصيام
أما ثمراته فأنواع:
أحدها: "صحة الأبدان" (1)
__________
(1) سنفرد لها أصلاً.(1/70)
النوع الثاني: سلامة الأذهان وتصحيح أفكارها فإن الحرارة الغرورية يثيرها الجوع والعطش فيقوى إدراكها لفهم المعاني ويكثر تدبرها لما من الأعمال الصالحة تعاني.
النوع الثالث: نهضة القوة الحافظة وتقليل نسيانها فإن كثرة الأكل تكثر الرطوبة في الجسد وتوجب البلادة في الطبع.
النوع الرابع: خفة حركة الأعضاء للطاعات فإن الشبع يرخي الجسد ويقتضي التثاقل عن العبادة والإبطاء عن الإجابة إليها.
النوع الخامس: خذلان أعوان الشيطان ونصر أجناد الرحمن.
النوع السادس: رقة القلب وغزارة الدمع.
النوع السابع: إجابة الدعاء وذلك من علامة اللطف والاعتناء.
النوع الثامن: فرحه عند لقاء ربه بصومه.
النوع التاسع: فرحه عند فطره، وليس المراد بأكله وشربه، وإنما المراد فرحه بتوفير أجره عند تمام صومه وسلامته عند قاطع يقطعه عليه.
النوع العاشر: صيانة جوارحه عن استرسالها في المخالفات.
النوع الحادي عشر: المباهاة به يوم القيامة.
النوع الثاني عشر: اختصاصه بالدخول إلى الجنة من باب الريان" (1) .
فهذا ما يتعلق بفضائله وثمراته وهي أكثر من أن تُحصى ولله الحمد والمنة.
***
__________
(1) "مدارك المرام" (ص 78-81) .(1/71)
الباب الثالث
صوم الجاهلية
موضوع تحت قدمي
"أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي"
من حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/73)
إياكم وبنيات الطريق
قُطّاع الطريق إلى الله وإلى الدار الآخرة من حاد عن طريق الله.
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أسرق الناس الذي يسرق صلاته: لا يتم ركوعها ولا سجودها وأبخل الناس من بخل بالسلام" (1) .
من يسرق من صلاته، ومن يسرق من صيامه على دربه ... من يفطر من غير عذر ومن يفطر قبل تحلة صومه.
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "بينما أنا نائم أتاني رجلان، فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلاً وعراً، فقالا: اصعد، فقلت: إني لا أطيقه، فقال: إنا سنسهله لك، فصعدت، حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بي، فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دماً، قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم" (2) .
قال المنذري: قبل تحلة صومهم: يفطرون قبل وقت الإفطار ذكر الإمام ابن خزيمة "باب ذكر تعليق المفطرين قبل وقت الإفطار بعراقيبهم وتعذيبهم في الآخرة بفطرهم قبل تحلة صومهم".
عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان، فأخذا بضبعي، فأتيا بي جبلاً وعراً، فقالا: اصعد، فقلت: إني لا أطيقه، فقالا: إنا سنسهله لك، فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دماً، قال، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة
__________
(1) صحيح: رواه الطبراني في "الصغير" و"الأوسط" و"الكبير" عن عبد الله بن مغفل، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (966) ، و"صحيح الترغيب" رقم (526) .
(2) صحيح: رواه ابن خزيمة وابن حبان، والنسائي في "الكبرى"، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب".(1/75)
صومهم، فقال: خابت اليهود والنصارى فقال سليمان (1) : ما أدري أسمعه أبو أمامة من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم شيء من رأيه، ثم انطلق فإذا بقوم أشد شيء انتفاخاً، وأنتنه ريحاً، وأسوأه منظراً، فقلت: من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء قتلى الكفار، ثم انطلق بي فإذا بقوم أشد شيء انتفاخاً وأنتنه ريحاً كأن ريحهم المراحيض، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزانون والزواني، ثم انطلق بي، فإذا أنا بنساء تنهش ثديهن الحيّات، قلت: ما بال هؤلاء؟ قال: هؤلاء يمنعن أولادهن ألبانهن، ثم انطلق بي فإذا أنا بالغلمان يلعبون بين نهرين، قلت: مَنْ هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذراري المؤمنين، ثم شرف شرفاً فإذا أنا بنفر ثلاثة يشربون من خمر لهم، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء جعفر وزيد وابن رواحة، ثم شرفني شرفاً آخر، فإذا أنا بنفر ثلاثة، قلت: من هؤلاء؟ قال: هذا إبراهيم وموسى وعيسى وهم ينظروني" (2) .
هذا فعل الله بمن تهاونوا في أداء الفرائض، فكيف بمن حرّفوها.
وأوّلوا معانيها تأويلاً ما أنزل الله به من سلطان.
كيف بمن قالوا بإسقاط التكاليف من الصوفية ودجاجلة الشيعة، والاتحادية وأصحاب وحدة الوجود ودجالهم ابن عربي النكرة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليريق دمه" (3) .
قال ابن تيمية: فقوله في هذا الحديث: "ومبتع في الإسلام سنة جاهلية"، يندرج فيه كل جاهلية، مطلقة، أو مقيدة يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو صابئية أو وثنية أو مركبة من ذلك، أو بعضه، أو منتزعة من بعض هذه الملل الجاهلية، فإنها جميعها مبتدعها ومنسوخها صارت جاهلية بمبعث محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن كان لفظ الجاهلية لا يقع غالباً إلَّا على حال العرب التي كانوا عليها، فإن المعنى واحداً" (4) .
__________
(1) الراوي عن أبي أمامة.
(2) رواه ابن خزيمة واللفظ له وإسناده صحيح، ورواه الحاكم مختصراً (3/237) .
(3) رواه مسلم.
(4) "مهذب اقتضاء الصراط المستقيم" (ص 93، 97) .(1/76)
الرافضة وغلاة الشيعة:
1- صوم الجناحية.
2- الخطابية.
* المعمرية من الخطابية.
3- الكيسانية.
4- الإسماعملية: الباطنية.
5- القرامطة.
6- الإسماعيلية الطيبية باليمن "الصليحيون".
7- البهرة "الإسماعيلية الطيبية بالهند".
8- الإسماعيلية النزارية.
أ- الحشاشون.
9- الإسماعيية الأغاخانية
10- النصيريون.
11- الدروز.
فلاسفة الصودية وغلاتها:
12- ابن عربي.
13- صوم الحلاج.
14- الرفاعية.
15- البدوي - ابن الفارض.
صوم زهاد المبتدعة:
16- "أبو العلاء المعري".(1/77)
صوم المارقين المرتدين:
17- صوم البهائية.
18- صوم القاديانية.
صوم مشركي أهل الكتاب:
19- صوم النصارى.
20- صوم اليهود.
بدع الرافضة:
قال عبد القاهر البغدادي عن أصول أهل السنة:
"وقالوا بوجوب صوم رمضان، وحزموا الفطر فيه إلا بعذر: صغر، أو جنون، أو مرض، أو سفر، أو نحو ذلك من الأعذار.
وقالوا باعتبار شهر الصيام من رؤية هلال رمضان، أو بكمال شعبان ثلاثين يوماً، ولم يفطروا في آخره إلا برؤية هلال شوال، أو بكمال أيام رمضان ثلاثين يوماً، وضللوا من صام من الروافض قبل الهلال بيوم وأفطر قبل الفطر بيوم" (1) .
1- الجناحية من الرافضة وصومها:
من غلاتهم "الجناحية" وهي فرقة خارجة ومرتدة عن الإسلام "استحلوا الخمر والميتة والزنى واللواط وسائر المحرمات، وأسقطوا وجوب العبادات، وتأولوا العبادات على أنها كنايات عمن تجب موالاتهم من أهل بيت عليّ، وقالوا في المحرمات المذكورة في القرآن إنها كنايات عن قوم يجب بغضهم كأبي بكر وعمر وطلحة والزبير وعائشة" (2) .
__________
(1) "الفرق دون الفرق" (245-246) .
(2) "الفرق بين الفرق".(1/78)
2- الخطابية:
هناك طوائف من الشيعة مرتدون غلاة، أنكر الشيعة أنفسهم نسبة تلك الفرق الغالية إليهم وإلى الإسلام ولكن كتاب الفرق الإسلامية جميعاً يثبتون علاقة وطيدة بين هذه الفرق الغالية وبين التيار الشيعي العام" (1) منهم الخطابية: "أصحاب أبو الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي".
"كان أصحابه كلما ثقل عليهم أداء فريضة أتوه وقالوا: يا أبا الخطاب خفف علينا فيأمرهم بتركها حتى تركوا جميع الفرائض واستحلوا جميع المحارم" (2) .
والتحلل من الشريعة وعدم الالتزام بأوامرها ونواهيها تكاد كل الفرق الغالية -كالسيئة والغرابية، والبيانية، والمغيرية، والهاشمية، والكيسانية، والنعمانية، واليونسية، والنصيرية، والخطابية- تقول به وتنتهي إليه.
وجعلوا الفرائض التي فرض الله تعالى رجالاً سموهم وأنهم أمروا بمعرفتهم وولايتهم، وجعلوا المعاصي رجالاً، أمروا بالبراءة منهم ولعنهم واجتنابهم وتأولوا على ما استحلوا من ذلك قول الله عز وجل: (يريد الله أن يخفف عنكم) وقالوا: خفف عنا بأبي الخطاب ووضع عنّا به الأغلال والآصار يعنون الصلاة والزكاة والصيام والحج, فمن عرف الرسول النبي الإمام فذلك عنه موضوع فليصنع ما أحب.
* والمعمرية من الخطابية: دانوا بترك الفرائض ومنها الصوم فخرجوا من ملة الإسلام.
برئت إلى الرحمن من كل رافض ... بصير بباب الكفر في الدين أعورا
إذا كف أهل الحق عن بدعة مضى ... عليها، وإن يمضوا إلى الحق قصّرا
ولو قيل إن الفيل ضب لصدقوا ... ولو قيل زنجي تحول أحمرا
واخلف من بول العبير فإنه ... إذا هو للإقبال وجه أدبرا
__________
(1) "دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين" (ص 102) .
(2) "دراسة عن الفرق" (ص 104) .(1/79)
فيا قبح أقوام أتونا بفرية ... كما قال في عيسى الفري من تنصر (1)
3- الكيسانية:
"ينسب الشهرستاني إلى الكيسانية القول بأن الدين طاعة رجل وهو الإمام، وزعموا أن الوصول إلى طاعة الإمام، يسقط التكاليف الشرعية" (2) .
وعلى ذلك أيضاً:
4- العجلية:
أتباع أبي منصور العجلي، وطائفة من
5- الحزمية:
قال عنهم الشهرستاني: "إنهم دانوا بترك الفرائض، وقالوا: إن الدين معرفة الإمام فقط، ومنهم من قال. الدين أمران: معرفة الإمام وأداء الأمانة، ومن حصل له الأمران فقد وصل إلى الكمال وارتفع عن التكليف" (3) .
6- الإسماعيلية (الباطنية) :
منسلخون من دين الله بالكلية يُدعون في مصر بالعبيدية "الفاطمية" وفي الشام بالنصيرية والدروز، وفي الهند بالبهرة وبالإسماعيلية والكفِر ملة واحدة.
وهؤلاء عمقوا مفهوم "الظاهر والباطن وتوسعوا في استخدامه، وذهبوا كما ذهب معظم الشيعة إلى أن التأويل الباطني من الأمور التي اختص الله لها علياً بن أبي طالب، فكما أن النبي خص بالتنزيل، فعليّ قد خصّ التأويل وأن علياً ورّث هذا العلم الأئمة من بعده.
__________
(1) "الفرق بين الفرق".
(2) "الملل والنحل" (1/147) .
(3) "الملل والنحل" (1/154) .(1/80)
وهم الذين يدلون الناس على المعاني الباطنة وأسرار الدين، وقد تطرف الإسماعيلية في تأويلاتهم، فذهبت طوائف منهم إلى تأليه الأئمة وإلى طرح فرائض الشرع، وفسروا الصلاة بأنها الاتجاه القلبي للإمام، وأن الصوم عبارة عن عدم إفشاء أسرار الدعوة، والحج زيارة الإمام، وأن الفجر هو المهدي المنتظر، وأن الأهلة هم الأئمة، والسماء هي الدعوة، والملائكة هم الدعاة، وزعمت طوائف من هؤلاء الباطنية أن جميع الأشياء التي فرضها الله على عبادة وسنها نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها ظاهر وباطن، وأن جميع ما استعبد الله به العباد في الظاهر من الكتاب والسنة فأمثال مضروبة وتحتها معان هي بطونها، وعليها العمل وفيها النجاة، وأن ما ظهر منها فهي التي نهي عنها، وفي استعمالها الهلاك، وهي جزء من العذاب الأدنى، عذّب الله به قوماً وأخذهم به ليشقوا بذلك إذ لم يعرفوا الحق، ولم يقولوا به ولم يؤمنوا" (1) .
* وهذا علي بن الفضل الإسماعيلي أعفى أتباعه من أداء الشعائر الإسلامية من صلاة وصوم وحج، ودخل مدينة الجند في أول خميس من رجب سنة 292هـ فصعد المنبر وقال:
تولى نبي بني هاشم ... وهذا نبي بني يعرب
لكل نبي مضى شرعة ... وهذي شريعة هذا النبي
فقد حط عنا فروض الصلاة ... وحطّ الصيام ولم يتعب
إذا الناس صلوا فلا تنهضي ... وإن صوّموا فكلي واشربي (2)
7- صوم القرامطة:
القرامطة من الإسماعيلية، وعلى رأسهم فاجرهم أبو طاهر القرمطي قتل الحجيج في يوم التروية وهو يقول:
أنا الله وبالله أنا ... يخلق الحلق وأفنيهم أنا
__________
(1) "دراسة عن الفرق" (ص 213-214) .
(2) "كشف أسرار الباطنية" (ص 82-83) .(1/81)
وقال:
ألست أنا المذكور في الكتب كلها ... ألست أنا المبعوث في سورة الزمر
قالوا ما قالت بقية طوائف الإسماعيلية من أن الحج والصوم والصلاة ما هي إلا رموز لمعان باطنية.
قتل أبو طاهر بهيت، رمته امرأة من سطحها بلبنة على رأسه فدمغته، وقتيل النساء أخس قتيل وأهون فقيد (1) .
8- الصليحيون "الإسماعيلية الطيبية باليمن":
وهم أتباع الطيب بن الآمر.
وهم من الشيعة المستعلية باليمن سقطت دولتهم سنة 563هـ.
يفسرون الصوم بأنه "كتمان أسرار الدعوة، ويفسرون بناء على هذا الآية (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) بأنها تعني كتمان الأئمة في وقت الاستتار خوفاً من الظلمة، ويجدون مصداقاً لقولهم قول مريم الوارد في قوله تعالى: (إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً) [مريم: 26] .
فلو كان الله عنى بالصيام ترك الطعام لقال فلن أطعم اليوم شيئاً، فالصيام إذن هو الصموت عن الكلام" (2) .
9- صوم البهرة:
وهم من الإسماعيلية الطبية وعرفوا باسم البهرة "التجار" فبعد نهاية الدولة الصليحية في اليمن انصرفوا إلى التجارة التي أعطتهم الفرصة لنشر دعوتهم الإسماعيلية في الهند.
ويعتبر البهرة أكثر الشيعة تعصباً لمذهبهم ومحافظة على عقائدهم.
__________
(1) "الفرق بين الفرق" (ص 287) .
(2) "كشف أسرار الباطنية" (ص 12، 13) .(1/82)
10- الإسماعيلية النزارية:
أ- الحشاشون:
أوهم زعيمهم الحسن الثاني بطرح جميع التكاليف الدينية والامتناع عن إقامة الفرائض الإسلامية لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، فالإمام هو المسئول الأول عن أتباعه وهو الذي يتحمل بدلهم الحساب يوم القيامة، إن أطاعوه طاعة تامة واعتقدوا إمامته على هذا النحو، وبذلك دخلت الإسماعيلية دوراً جديداً وهو دور "القيامة أو عدم القيام بالفرائض الدينية من صلاة وصوم وحج "ونسخ حكم الشريعة" (1) .
وقد كان الحسن الثاني وابنه محمد متشددين في فرض التعاليم الجديدة وكانا يريان أن الاستمساك بالأحكام الشرعية الظاهرة إثم لا يعدله إلا إغفالها أيام أن كان العمل مفروضاً بموجب الثقة، لذلك أوحيا النكال والقتل والرجم والتعذيب على كل من استمسك بحكم الشريعة في دورة القيامة (2) أو اشتغل بالعبادة الظاهرة وواظب على الرسوم الجسمانية.
"وقد حل محل الشريعة عندهم ما يعرف بأركان الحقيقة، فالشهادة هي أن تعرف الله بالله (أي تعرف الله بالقائم) ، والصلاة هي أن تجتنب الآداب والسنن الماضية (أي الأحكام الشرعية) والصوم هو أن تلتزم التقية في حديثك مع المبطلين حتى تظل صائماً" (3) .
__________
(1) "دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين" (ص 235) دكتور أحمد محمد أحمد.
(2) القيامة عندهم "الوقت - الذي يصل فيه الخلق إلى الحق تعالى وتظهر دقائق الحقائق، وتتجلى بواطن الخلائق، وفيه تتجه القلوب إلى الله، وتترك الرسوم الشرعية والعادات والعبادات التي التزموها مؤقتاً، وتتوجه وجوه النفوس والأرواح إلى الحضرة الإلهية" فرقة النزارية تعاليمها ورجالها السيد محمد العزاوي (ص 175) .
(3) "دراسة عن الفرق" (ص 235، 236) .(1/83)
11- صوم الإسماعيلية الأغاخانية:
أطلق الإنجليز هذا اللقب على إمامهم ودجّالهم وهم الإسماعيلية النزارية بالهند.
ومنهم الأغاخان الثالث: وهو ممن يدينون بآراء وعقائد الإسماعيلية التي بشر بها الحسن الثاني وانتهت إلى إبطال التكاليف، يبالغ أتباعه في تقديسه إلى درجة الألوهية، حينما سأل مؤرخ الإسماعيلية محمد كامل حسين الأغاخان الثالث قائلاً: "لقد أدهشتني بثقافتك وعقليتك فكيف تسمح لأتباعك أن يدعوك إلهاً؟
ضحك الأغاخان طويلاً، كما يقول محمد حسين: وعلت قهقهاته ودمعت عيناه من كثرة الضحك ثم قال: هل تريد الإجابة على هذا السؤال؟ إن القوم في الهند يعبدون البقرة ألست خيراً من البقرة (1) .
هذا الفاجر الذي عرفته موائد القمار وأماكن اللهو، والذي عرف عنه أنه كان في شبابه زير نساء، ومن زوجاته الأربع عارضة الأزياء، وفتاة من بائعات الحلوى والسجائر، ووصفه سومرست موم "بأنه من عظماء رواد المسرح فقد أحب الأوبرا ورقص الأوبرا، وكانت له صداقات مع ممثلين وممثلات" (2) .
12- النصيريون وصومهم:
هم من غلاة الباطنية وهم أكفر من اليهود والنصارى يذهبون إلى إسقاط التكاليف، ويقولون في كتابهم "الهفت الشريف" (ص 221) :
"لا يحتجن أحدكم بصومه وصلاته وحجه وجهاده، فإن الله غني عن ذلك كله، وهو أعلم بعباده، البار منهم والفاجر، ولا يفوز أحدكم في كثرة صلاته وصومه إذا لم يعرف الله وأوليائه وأعداءه، وإمامه، وحجته فيما بينه وبين ربه".
"الصوم عندهم مختلفون فيه، فيفسره بعضهم بأنه كتمان أسرارهم وأنه عبارة
__________
(1) "طائفة الإسماعيلية" (ص 126) .
(2) "مذكرات أغاخان" (ص 15، 16) دار العلم للملايين.(1/84)
عن ذكر اسم ثلاثين رجلاً واسم ثلاثين امرأة معروفة لديهم (1) ، ومن يصم من النصيرية فإنه يخالف المسلمين في أداء هذه الفريضة، إذ يصوم بعضهم قبل صلاة الفجر ويفطر قبل غروب الشمس.
ويضيف إليه بعضهم البعد عن معاشرة النساء طوال الشهر، ويقولون: "إن كل ساعة صوم لملك من الملائكة المقريين المذكور في القرآن، وهناك فريق منهم يفسر الصوم على أنه صون أي امتناع عن النساء طوال شهر رمضان، وليس امتناعاً عن الطعام والشراب وما شاكلهما" (2) .
13- صوم الدروز:
من الفرق الباطنية يذهبون إلى ألوهية الخليفة الفاطمي الحاكم الذي نقض سائر أركان الإسلام من صلاة وصوم وزكاة وحج وجهاد.
والصوم عند الدروز عبارة عن صيانة القلب بتوحيد الحاكم، وهو أيضاً من الشعائر التي أسقطها الحاكم إذ لم يراع أوقاتها المحدودة.
بل تؤكد تعاليمهم أن دعوة الحاكم هدفها الرئيسي ليس الشريعة الإسلامية الظاهرة فحسب، بل تهدف أيضاً إلى إلغاء التأويل الباطني للشريعة والذي تبناه غلاة الشيعة كالإسماعيلية.
ورسائل الدروز المقدسة تفيض بالنصوص التي تشير إلى هذا.
وهذا دجّالهم حمزة بن علي يخاطب الدروز في إحدى رسائله (التي تعتبر شرعاً لهم) فيقول: (قد بينت لكم في الكتاب المعروف بـ"النقض الخفي" نسخ السبع دعائم ظاهرها وباطنها، وذلك بقوة مولانا جل ذكره وتأييده ولا حول ولا قوة إلا به" [مولاه الحاكم أخزاه الله] .
ويُقصد بالسبع دعائم التي نسخها الشهادتان، والصلاة والصوم والحج والزكاة
__________
(1) "الفتاوى" (35/145) .
(2) "إسلام بلا مذاهب" للشكعة (ص 234) طبعة أولى.(1/85)
والجهاد والولاية.
ويقول حمزة بن عليّ أيضاً:
"والآن فقد دارت الأدوار وبطل ما كان في جميع الأعصار، ولم يبق من نار الشريعة الشركية غير لهيبها والشرار، وسوف يخمد حسرها ويضمحلّ العوار" (1) .
وحمزة بن علي يصف نفسه بأنه هادم القبلتين ومبيد الشريعتين "الظاهرة والباطنة الإسماعيلية".
وأقام الدروز بدلاً من الدعائم الإسلامية خصال التوحيد السبع وهي عندهم:
1- صدق اللسان في دائرة الدروز فقط وهو عوض عن الصلاة.
2- حفظ الإخوان -أي الدروز- عوض عن الزكاة.
3- ترك ما كان عليه الموحدون وما اعتقدوه من عبادة العدم والبهتان وهو عوض عن الصوم.
4- البراءة من الأبالسة والطغيان.. أي من الأنبياء السابقين ومن الأديان وهو عوض عن الحج.
5- التوحيد للمولى "الحاكم إلههم" في كل عصر وزمان ودهر وأوان وهذا عوض عن الشهادتين.
6- الرضا بفعله "أي الحاكم" كيف كان وهو عوض عن الجهاد.
7- التسليم لأمره في السر والحدثان وهو عوض عن الولاية (2) .
يقول دجّالهم الدرزي كمال جنبلاط المقتول فيما نقله عنه مصطفى الشكعة:
"الدين الدرزي دين صوفي يعتمد على الداخليات والجواهر ولا يهتم بالشكليات، والطهارة الداخلية أي النفسية الروحية هي الأساس وأما الطهارة الخارجية فلا قيمة لها".
__________
(1) "السيرة المستقيمة" حمزة بن علي.
(2) "مذاهب الإسلاميين" لعبد الرحمن بدوي (ص 729) .(1/86)
وقد كان الشيوخ يصلون في المساجد إلى عهد قريب ويصومون رمضان ويحجون البيت، ولكن هذه الفرائض جميعاً قد رفعت عنهم واستبدلت بها تكاليف أخرى.
ويقول الشيخ محمد أبي شقرا شيخ عقل الدروز:
"الصوم معناه الامتناع عن الرفث، ومعنى ذلك أنه يجوز الأكل والشرب في الصوم وهو عشرة أيام في ذي الحجة تنتهي بالعيد" (1) .
فلاسفة الصومية وغلاتها:
14- صوم ابن عربي:
قال ابن عربي بإسقاط التكاليف.
قال ابن المقري في ذم ابن عربي:
ألا يا (رجال الله) غارة ثائر ... غيور على حرماته والشعائر
يحاط بها الإسلام ممن يكيده ... ويرميه من تلبيسه بالفواقر
فقد حدثت بالمسلمين حوادث ... كبار المعاصي عندها كالصغائر
حوتهن كَتْب حارب الله ربهَا ... وغَرَّ بها مَنْ غَرَّ بين الحواضر
تجاسر فيها ابنُ العُرَيْبي واجترى ... على الله فيما قال كل التجاسر
فقال بأن الرب والعبدَ واحد ... فربي مربوبي بغير تَغاير
وأنكر تكليفا إذ العبد عنده ... إله وعبد فهو إنكار حائر (2)
15- صوم الحلاج:
وانظر إلى صوم شيخ الحلولية "الحلاج" فيما ينقله ابن كثير يقول الحلاج: "إنِ
__________
(1) "إسلام بلا مذاهب" (306-307) الطبعة الرابعة.
(2) "العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين" (2/192-193) .(1/87)
من صام ثلاثة أيام لا يفطر إلا في اليوم الرابع على ورقات هندباً أجزأه ذلك عن صيام رمضان، ومن صلى في ليلة ركعتين من أول الليل إلى آخره أجزأه ذلك عن الصلاة بعد ذلك، وأن من جاور بمقابر الشهداء وبمقابر قريش عشرة أيام يصلي ويدعو ويصوم ثم لا يفطر إلا على شيء من خبز الشعير والملح والجريش أغناه ذلك عن العبادة في بقية عمره" (1) .
16- صوم ابن الفارض: وسَنن النصارى:
"كانت لابن الفارض أربعينيات متواصلة لا جمل ولا يشرب ولا ينام فيها، وهو في هذه الأربعينيات إنما كان يأخذ نفسه بالشدة التي لا تعرف ليناً أو هوادة، وبالزهد في كل شيء، والانصراف عن كل شيء، وما زال بها على هذه الحال حتى تهيأ له ما كان يطمح إليه من كمال -كما يزعمون- ويدل على هذا ما يحكى من أنه بينما كان في آخر أيام أربعينياته اشتهت نفسه لوناً من الطعام، فأخذ يطالبها بالصبر، ولكنها أخذت تلح عليه، فإذا هو يشتري هذا اللون، ويدخل به إلى قبة الشرابي، ولم يكد يرفع أول قطعة منه إلى فمه حتى انشق جدار القبة وخرج شاب جميل الوجه، حسن الهيئة، أبيض الثياب، عطر الرائحة، ولامه أن أكلها، فما كان من ابن الفارض إلا أن ألقى بهذه القطعة قبل أن تصل إلى فمه وتركها، وخرج إلى السياحة وأدّب نفسه بزيادة عشرة أيام في المواصلة على الأربعين لتتمة خمسين يوماً" (2) .
هكذا صومهم ... خالفوا هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتشبهوا بالنصارى في الوصال، ويرحم الله ابن عيينة إذ يقول: "من فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى" (3) .
* عن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية رضي الله عنه وعنها قالت:
__________
(1) "البداية والنهاية" (11/151) .
(2) "ابن الفارض والحب الإلهي" للدكتور محمد مصطفى حلمي (ص 59) نقلاً عن ديباجة الديوان (ص 10) .
(3) "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص 97) .(1/88)
"أردت أن أصوم يومين مواصلة، فنهاني عنه بشير، وقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهاني عن ذلك، وقال: إنما يفعل ذلك النصارى، صوموا كما أمركم الله، وأتموا الصوم كما أمركم الله، و (أتموا الصيام إلى الليل) فإذا كان الليل فأفطروا (1) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فعلل النهي عن الوصال بأنه صوم النصارى، وهو كما قال رسول الله حق ويشبه أن يكون من رهبانيتهم التي ابتدعوها (2) .
وروي الغزالي في "الإحياء": عن عيسى عليه السلام أنه مكث يناجي ربه ستين يوماً فخطر بباله الخبز فانقطع عن المناجاة، فإذا رغيف موضوع بين يديه فجلس يبكي على فقد المناجاة (3) .
كيف تصبح جائعاً:
يرشدك الغزالي إلى أنه يمكن ذلك بتقليل الطعام بالعادة شيئاً فشيئاً حتى تتعود الصبر عنه عشرة أيام (بل عشرين يوماً) !!.
وهو يحكي لك بأن الأمر قد انتهى ببعض الزهاد الاقتصار على حبة واحدة من الحمص كل يوم، وبعضهم في الوقت إلى عشرين يوماً، وقيل أربعين.
وهذه رتبة عظيمة يقل من يستقل بها (4) .
17- صوم الرفاعية:
ومما ينسبه الرفاعية زوراً وبهتانا إلى أحمد الرفاعي وهو منه برئ فقد أثنى عليه الذهبي وابن تيمية وهو من سادات العباد ومن علماء الشافعية من أهل السُنة والجماعة ينسبون إليه امتناعه عن الطعام والشراب لأيام وأسابيع وشهور، بل وربما سنوات.
__________
(1) رواه أحمد، وسعيد بن منصور، وعزاه ابن حجر في "الفتح"، للطبراني، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم في "تفسيرهما"، وصححه ابن حجر، وقال الألباني: إسناده صحيح.
(2) "الاقتضاء" (ص 29) .
(3) "إحياء علوم الدين" (3/89) .
(4) "ميزان العمل" (117-118) .(1/89)
فقد ذكر الصيادي -البغل المزركش كما كانوا يسمونه- أن الشيخ الرفاعي خرج إلى الحج ثم إلى المدينة، ومنذ خروجه من العراق إلى أن عاد إليها من الحج لم يأكل طعاماً قط، ولم يتناول جرعة ماء واحدة (1) .
وذكر أيضاً أنه بقي مرة نصف نهار لم يشرب ماء فوجد قدحاً على التنور وفيه ماء وسخ من غسل الأيدي، فقالت له نفسه: قد عذبتني نصف النهار بالعطش وتسقيني من هذا الماء الوسخ؟
فلما رأى منها هذا العتاب ألقى القدح من يده وأقسم أن لا يذيقها الماء سنة كاملة، وفعل ذلك (2) .
ومع عدم الاقتناع بأن يبقى إنسان شيئاً يسيراً بلا ماء، فإن الظاهر أن سياق القصة مأخوذ من قصة أبي يزيد البسطامي مع الماء فإنه لا اختلاف بين القصتين بتاتاً (3) .
وذكروا مثل هذه الكرامات لغير الرفاعي.
فالشيخ أبو رفاعة المهدي الرفاعي بقي أربعين يوماً متتالية لا يأكل ولا يشرب بل ولا ينام، ومع ذلك كله لم يغب عن أداء ما افترضه الله عليه (4) .
وكذلك السيد ولي الله "السكران" أبو محمد اليعقوبي الرفاعي كان كثيراً ما يمكث الستة أشهر لا يأكل طعاماً ولا يشرب ماء (5) .
ولقد ضرب الشيخ عثمان بن مروزة البطائحي الرفاعي الرقم القياسي في الامتناع عن الطعام والشراب، حيث بقي بلا طعام ولا شراب سبع سنين (6) .
__________
(1) "الكنز المطاسم في مدّ يد النبي لولده الغوث الرفاعي الأعظم" (ص 14، 18) .
(2) "المعارف المحمدي في الوظائف الأحمدية، لعز الدين الصيادي الرفاعي (ص 84) - مطبعة محمد أفندي.
(3) "الرسالة القشيرية" (14) دار الكتاب العربي.
(4) "ذخيرة المعاد في ذكر السادة بن الصياد" (ص 22) ، و"جامع كرامات الأولياء" (2/142) .
(5) "إرشاد المسلمين" (ص 117) .
(6) "ذخيرة المعاد في ذكر السادة بني الصياد" (ص 22) ، و"جامع كرامات الأولياء" (2/142) .(1/90)
فهل حصل مثل هذه الكرامة لنبي من الأنبياء فضلاً عن أن تحصل لغيرهم (1) .
18- والبدوي أيضاً:
يحكي الصوفية عنه صبره وصومه عن الطعام والشراب ووصاله أربعين يوماً (2) .
19- أبو العلاء المعري والصوم عن الحيوان "زهاد المبتدعة":
أخذ أبو العلاء عن أهل الهند تحريم الحيوان وما يخرج من الثمرات وشعره يدل على تحريمه أكل الحيوان، وإنما زعم أنه ترك الحيوان وهو يعتقد أنه مباح.
يقول المعري:
غدوت مريض العقل والدين فأَلْقِنى ... لتسمع أنباء الأمور الصحائح
فلا تأكلن ما أخرج البحرُ ظالماً ... ولا تبغ قوتاً من غريض الذبائح
ولا بَيْض أمات أرادتْ صريحه ... لأطفالها دون الغواني الصرائح
ولا تفجعن الطير وهي غوافل ... بما وضعت فالظلم شر القبائح
ودع ضربَ النحل الذي بكرت له ... كواسبَ من أزهار نبت فوائح
فما أحرزته كي يكون لغيرها ... ولا جمعته للندى والمنائح
مسحت يدي من كلّ هذا فليتني ... أبَهْتُ لشاني قبل شيب المسائح (3)
وإن لم يكن يحرمها فقد وافق سنن النصارى.
فعن عدي بن حاتم قال: "قلت: يا رسول الله! إني أسألك عن طعام لا أدعه إلا تحرجاً، قال: لا تدع شيئاً ضارعت فيه نصرانية" (4) .
__________
(1) "الرفاعية" لعبد الرحمن دمشقية (ص 27-28) .
(2) "السيد البدوي" د. سعيد عاشور (ص 38) .
(3) "تجديد ذكرى أبي العلاء" لطه حسين طبع دار المعارف.
(4) حسن لغيره: أخرجه أحمد والبيهقي، وابن حبان، وحسنه الترمذي والألباني في "جلباب المرأة المسلمة" (ص 182) .(1/91)
قال الألباني: "أي شابهت لأجله أهل المِلَّة النية من حيث امتناعهم إذا وقع في قلب أحدهم أنه حرام أو مكروه"، وهذا في المعنى تعليل النهي، والمعنى: لا تتحرج فإنك إن فعلت ذلك؛ ضارعت فيه النصرانية، فإنه من دأب النصارى وترهبهم. كذا في "تحفة الأحوذي" (1) .
صوم المارقين المرتدين:- البهائية -القاديانية-:
20- صوم البهائية:
انظر إلى صوم البهائية كما جاء عن رجال البهائية البهاء المازندراني في كتابه "الأقدس" أو الخبث والأنجس على الصحيح.
يقول البهاء حسين علي في الصوم:
"يا قلمي الأعلى قل يا ملا الإنشاء قد كتبنا عليكم الصيام أياماً معدودات وجعلنا النيروز عيداً لكم بعد إكمالها، كذلك أضاء شمس البيان من أفق الكتاب من لدن مالكَ المبدأ والمآب" (2) .
* يؤكدَ وجوبه وفرضيته بقوله: هذه حدود الله التي رقمت من القلم الأعلى في الزبر والألوِاح" (3) .
ومتى يصوم؟ "قد كتب لكم، الصيام في شهر العلاء، صوموا لوجه ربكم العزيز المتعال" (4) .
وشهر العلاء هو آخر الشهور البهائية التسعة عشر ويشتمل على الأيام التسعة عشر.
(1) وما معنى الصوم عند البهائية؟
__________
(1) "جلباب المرأة المسلمة" للألباني (ص 182) طبع المكتبة الإسلامية بالأردن.
(2) "الأقدس" للمازندراني الفقرة (4) .
(3) "الأقدس" للمازندراني الفقرة (45) .
(4) "لوح كاظم" للمازندراني، و"خزينة حدود وأحكام" (ص 36) .(1/92)
يخبر عنه حسين علي حيث يقول: "كفوا أنفسكم عن الأكل والشرب من الطلوع إلى الأفول، إياكم أن يمنعكم الهوى عن هذا الفضل الذي قد قدر في الكتاب" (1) .
و"كفوا أنفسكم عن الطلوع إلى الغروب كذلك حكم المحبوب من لدى الله المقتدر المختار" (2) .
والمعنى أن الصائم يفعل ما يشاء من الطلوع إلى الغروب وحتى المباشرة للزوج (3) وليس عليه إلا الكف عن الأكل والشرب من طلوع الشمس إلى غروبها.
ولم ترد الكتب البهائية عن ذلك شيئاً، وحتى المازندراني بين الصيام في عدّة مواضع ولم يبين أكثر من ذلك، لا عن السحور ولا عن الإفطار، ولا عن المجامعة والمباشرة، ولا غير ذلك من الأحكام، كما لم ينبه عليها بعده ابنه عباس وحفيد ابنه شوقي أفندي، فما هو الصيام وما فائدته؟
إنهم ما ذكروا الصوم إلا لأنه ذكر في الإسلام للمضاهات والمحاكاة ولم يستطيعوا أن يذكروا حدوده وقيوده، أو تركوا فراغاً قصداً لجلب أهل الهوس والشهوات إليهم حيث لم يمنعوا عن أي فسق وفجور ومتعة ولذة فيه.
* وأمَّا فرضيته فمثل فرضية الصلاة أيضاً: فقد عفى عنى المسافر والمريض والحامل والمرضع والهرم والكسول.
فعَلى مَنْ بقي الصوم؟ والناس إمّا مسافر ومريض وإما كسل وهرم.
قال: "ليس على المسافر والمريض والحامل وضع حرج عفا الله عنهم فضلاً من عنده إنه لهو العزيز الوهّاب".
"وعند التكسر والتكاسل لا يجوز الصلاة والصيام وهذا حكم الله من قبل ومن بعد" (4) .
__________
(1) "الأقدس" الفقرة (47) .
(2) "خزينة حدود وأحكام" (ص 49) .
(3) "الأقدس" الفترة (44) .
(4) "خزينة حدود وأحكام" (ص 37) .(1/93)
وقال المازندراني في "الأقدس": "من كان في نفسه ضعف من المرض والهرم عفا الله عنه فضلاً من عنده إنه لهو الغفور الكريم" (1) .
و"قد عفا الله عن النساء حينما يجدن الدم الصوم والصلاة" (2) .
* وأكثر من ذلك الذي يكون مشتغلاً بالأعمال الشديدة والكبيرة عفى عنه الصوم أيضاً، كما قال في جواب سائل "الذين يشتغلون بالأمور المهمة والأعمال الشديدة هل عليهم الصوم؟ قال: الصوم عن النفوس المذكورة رفع" (3) .
* وهكذا رفع الصوم إنْ وقع يوم عيد المولود -للشيرازي والمازندراني- ويوم المبعث -إعلان دعوة محمد الشيرازي ببابيته- كما قال في رسالة "سؤال وجواب": "إن وقع عيد المولود أو المبعث في أيام الصيام فلا صوم يومئذ" (4) .
فهذه حقيقة الصوم عند القوم وهذه شريعتهم التي يتباهون بها على الشيعة الإسلامية البيضاء الغرّاء التي ليلها كنهارها (هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار (5) [الرعد: 16] .
21- صوم القاديانية:
أمَّا رجال القاديانية غلام أحمد المتبني القادياني فيقول: "قال لي الله إني أصلي وأصوم، وأصحو وأنام" (6) , فما ظنك بصوم البشر!!
__________
(1) الفقرة (34) .
(2) الفقرة (31) .
(3) "خزينة حدود وأحكام" فصل الذين لا صوم عليهم (ص 46) .
(4) "رسالة سؤال وجواب لعباس أفندي" نقلاً عن الخزينة (ص 49) .
(5) "البهائية" لإحسان إلهي ظهير (ص 165-167) .
(6) "البشرى" (ج2) .(1/94)
صوم مشركي أهل الكتاب:
22، 23- صوم النصارى واليهود:
اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون:
يقول ابن تيمية مخاطباً للنصارى في "الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح" "بل عامة ما أنتم عليه من السنن أمور محدثة مبتدعة بعد الحواريين، كصومكم خمسين يوماً زمن الربيع، واتخاذكم عيداً يوم الخميس والجمعة والسبت، فإن هذا لم يسنه المسييح ولا أحد من الحواريين، وكذلك عيد الحواريين: الميلاد والغطاس وغير ذلك من أعيادكم" (1) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وقد أخبر عن المسيح أنه لماّ صام أربعين يوماً عقب المعمورية وكان يُعيِّد مع اليهود في عيدهم لا يُعيِّد عقب صومه، شاركه النصارى في ذلك مدة، فصاروا يصومون أربعين عقب الغطاس الذي هو نظير المعمورية أو يعيدون مع اليهود العيد، ثم إنهم بعد هذا، ابتدعوا تغيير الصوم، فلم يصوموا عقب الغطاس، بل نقلوا الصوم إلى وقت يكون عيدهم مع عيد اليهود" (2) .
يقول ابن القيم في "المثلثة" عبّاد الصلبان:
"المسيح ما شرع لهم هذا الصوم الذي يصومون قط ولا صامه في عمره مرة واحدة ولا أحد من أصحابه، لا صام صوم المحذارى في عمره، ولا أكل في الصوم ما يأكلونه ولا حرّم فيه ما يحرمونه" (3) .
يقول الشيخ محمد رشيد رضا:
"المعروف أن الصوم مشروع في جميع الملل حتى الوثنية فهو معروف عن
__________
(1) "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (2/230) .
(2) "الجواب الصحيح" (1/11) .
(3) "هداية الحيارى" (ص 274) لابن القيم، دار الريان للتراث.(1/95)
قدماء المصريين في أيام وثنيتهم، وانتقل منهم إلى اليونان فكانوا يفرضونه لا سيما على النساء، وكذلك الرومانيون كانوا يعنون بالصيام ولا يزال وثنيو الهند وغيرهم يصومونه إلى الآن. وليس في أسفار التوراة التي بين أيدينا -المحرّفة- ما يدل على فرضية الصيام، وإنما فيها مدحه ومدح الصائمين وثبت أن موسى عليه السلام صام أربعين يوماً وهو يدل على أن الصوم كان معروفاً مشروعاً ومعدوداً من العبادات.
واليهود في هذه الأزمنة يصومون أسبوعاً تذكاراً لخراب أورشليم وأخذها، ويصومون يوماً من شهر آب.
أقول وينقل أن التوراة فرضت عليهم صوم يوم العاشر من الشهر السابع وأنهم يصومونه بليلته ولعلّهم كانوا يسمونه عاشوراء ولهم أيام أخرى يصومونها نهار.
وأما النصارى: فليس في أناجيلهم المعروفة -المحرّفة- نص في فرضية الصوم وإنما فيها ذكره ومدحه واعتباره عبادة كالنهي عن الرياس وإظهار الكآبة، بل تأمر الصائم بدهن الرأس وغسل الوجه حتى لا تظهر عليه أمارة الصيام فيكون مرائياً كالفريسيين، وأشهر صومهم وأقدمه الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح، وهو الذي صامه موسى وكان يصومه عيسى عليهما السلام، والحواريون رضي الله عنهم، ثم وضع رؤساء الكنيسة ضروباً أخرى من الصيام، وفيها خلاف بين المذاهب والطوائف، ومنها صوم عن اللحم، وصوم عن السمك، وصوم عن البيض واللبن.
وكان الصوم المشروع عند الأولين منهم كصوم اليهود يأكلون في اليوم والليلة مرة واحدة، فغيّروه، وصاروا يصومون من نصف الليل إلى نصف النهار" (1) .
يقول الشيخ محمد طاهر عاشور:
"كان لليهود صوم فرضه الله عليهم وهو صوم اليوم العاشر من الشهر السابع من سنتهم وهو الشهر المسمى عندي "تِسْرِي" يبتديء الصوم من غروب اليوم التاسع إلى غروب اليوم العاشر وهو يوم كفارة الخطايا "كَبُّور" ثم إن أحبارهم
__________
(1) "تفسير المنار" (2/143-144) .(1/96)
شرعوا صوم أربعة أيام أخرى وهي الأيام الأولى من الأشهر الرابع والخامس والسابع والعاشر من سنتهم تذكاراً لوقائع بيت المقدس وصوم يوم "بُورِيم" تذكاراً لنجاتهم من غضب ملك الأعاجم "أحشويروش" في واقعة (استير) وعندهم صوم التطوع، وفي الحديث: "أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً".
أما النصارى فليس في شريعتهم نص على تشريع صوم زائد على ما في التوراة فكانوا يتبعون صوم اليهود.
وفي "صحيح مسلم" عن ابن عباس "قالوا: يا رسول الله إن يوم عاشوراء تعظمه اليهود والنصارى"، ثم إن رهبانهم شرعوا صوم أربعين اقتداء بالمسيح إذ صام أربعين يوماً قبل بعثته ويشرع عندهم نذر الصوم عند التوبة إلا أنهم يتوسعون في صفة الصوم، فهو عندهم ترك الأقوات المقوية والمشروبات أو هو تناول طعام واحد في اليوم ويجوز أن تلحقه أكلة خفيفة".
***(1/97)
الباب الرابع
فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب(1/99)
قد تقرر في الشرع أنه لا يجوز للمسلمين رجالاً ونساء التشبه بالكفار سواءً في عباداتهم أو أعيادهم أو أزيائهم الخاص بهم، قال تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) [الجاثية: 18] .
وقال تعالى: (وكذلك أنزلناه حكماً عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق) [الرعد: 37]
وقال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ولا يكونوا] نهي مطلق عن مشابهتهم، وهو خاص أيضاً في النهي عن مشابهتهم في قسوة قلوبهم وقسوة القلوب من ثمرات المعاصي.
* وقال ابن كثير عن تفسير هذه الآية (4/311) :
"ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية".
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم) .
قال قتادة: كانت اليهود تقوله استهزاءً، فكره الله للمؤمنين أن يقولوا مثل قولهم، وقال أيضاً: كانت اليهود تقول للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: راعنا سمعك يستهزءون بذلك، وكانت في اليهود قبيحة، فهذا يبين أن هذه الكلمة نهي المسلمون عن قولها، لأن اليهود كانوا يقولونها وإن كانت من اليهود قبيحة، ومن المسلمين لم تكن قبيحة، لما كان في مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار وتطريقهم إلى بلوغ غرضهم.
عن أنس بن مالك: "إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل الله تعالى:(1/101)
(ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) إلى آخر الآية، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح".. فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه ... " (1) الحديث.
قال ابن تيمية في "الاقتضاء":
"فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم حتى قالوا:
ما يريد أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه.
قال الألباني ناقلاً لكلام ابن تيمية:
"ثم إن المخالفة تارة تكون في أصل الحكم، وتارة في وضعه، وقد ذكرنا حديث ليلى امرأة بشير بن الخصاصية".
وعن ابن عباس قال:
"حين صام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله! إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع"، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فهذا يوم عاشوراء يوم فاضل يكفر سنة ماضية، صامه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمر بصيامه، ورغب فيه، ثم لماّ قيل له (قبيل وفاته) : إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، أمر بمخالفتهم، بضم يوم آخر إليه، وعزم على ذلك، ولهذا استحب العلماء أن يصوم تاسوعاء وعاشوراء وبذلك علّلت الصحابة رضي الله عنهم" (3) .
__________
(1) رواه مسلم، وأبو عوانة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(2) رواه مسلم والبيهقي وغيرهما.
(3) "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص 41) .(1/102)
قال سعيد بن منصور حدثنا ... عن ابن عباس: "صوموا التاسع والعاشر خالفوا اليهود" (1) .
* وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر مما يصوم من الأيام، ويقول: "إنهما يوماً عيد المشركين فأنا أحب أن أخالفهم" (2) .
قال الحافظ في "الفتح" (10/375) :
"وأشار بقوله (يوماً عيد) إلى أن يوم السبت عيد عند اليهود، والأحد عيد عند النصارى، وأيام العيد لا تصام فخالفهم بصيامها، ويستفاد من هذا أن الذي قاله بعض الشافعية من كراهة إفراد السبت وكذا الأحد ليس جيداً، بل الأولى في المحافظة على ذلك يوم الجمعة كما ورد الحديث الصحيح فيه، وأما السبت والأحد فالأولى أن يصاما معاً وفرادى امتثالاً لعموم الأمر بمخالفة أهل الكتاب، ثم قال: وقد جمعت المسائل التي وردت الأحاديث فيها بمخالفة أهل الكتاب فزادت على الثلاثين حكماً وقد أودعتها كتابي الذي أسمتيه "القول الثبت في صيام يوم السبت" ا. هـ.
لا نسب لهذه الأمة إلا المحمدية ليست بإمعة:
غريبة تبتغي الفرقان رائدة ... بدرية جلّ في أعماقها النسب
* عن عمرو بن العاص أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" (3) .
قال المناوي "قال النووي: المشهور وضبط الجمهور أنه بفتح الهمزة مصدر للمرة من الأكل، وضبطه المغاربة بالضم، وقال عياض: روي بالفتح والضم
__________
(1) قال الألباني: إسناده صحيح على شرطهما.
(2) رواه أحمد والحاكم، والبيهقي، والنسائي في "السنن الكبرى"، والطبراني في "الكبير" وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، وقال الألباني: إسناده حسن، وقال الهيثمي: رجاله ثقات.
(3) مسلم، وأصحاب السنن، وأحمد.(1/103)
فبالضم معنى اللقمة، وبالفتح الأكل مرة واحدة، قال: وهو الأشبه لأن الثواب في الفعل لا في الطعام.
قال الحافظ العراقي: ولو قيل: الأشبه هنا الضم لم يبعد لأن الفضل يحصل بلقمة ولا يتوقف على زيادة. انتهى، والقصد بهذا الحديث الحث على السحور والإعلام بأن هذا من الدين، وذلك لأن الله أباح لنا إلى الفجر ما حرّم عليهم من نحو أكل وجِماع بعد النوم، فمخالفتنا إياهم تقع موقع الشكر لتلك النعمة التي خصصنا بها.
قال ابن تيمية: "وفيه دليل على أن الفصل بين العبادتين أمر مقصود للشارع.
قال مالك: ولذلك كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكرهون ترك العمل يوم الجمعة لئلا يصنعوا فيه كما فعل اليهود والنصارى في يوم السبت والأحد" (1) .
* وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون" (2) .
قال شيخ الإسلام:
"وهذا نص في أن ظهور الدين الحاصل بتعجيل الفطر لأجل مخالفة اليهود والنصارى، وإذا كانت مخالفتهم سبباً لظهور الدين، فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله، فتكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة".
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار" (3) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" (4) خ، م، ت.
__________
(1) "فيض القدير" (4/430) .
(2) رواه الترمذي وأحمد بإسناد حسن قاله الألباني وقال: قد خرجناه في "التعليقات الجياد على زاد المعاد".
(3) رواه أحمد عن إلى ذر وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7284) .
(4) رواه البخاري ومسلم.(1/104)
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر، فإن اليهود يؤخرون" (1) .
* قال المناوي (6/395) : "امتثالاً للسنة ومخالفة لأهل الكتاب حيث يؤخرون الفطر إلى ظهور النجوم، وفيه إيماء إلى أن فساد الأمور تتعلق بتغير هذه السنة، وأن تأخير الفطر علم على فساد الأمور".
قال القسطلاني: "وأمَّا ما يفعله الفلكيون من التمكين بعد الغروب بدرجة فمخالف للسنة فلذا قلّ الخير".
وقال أيضاً: "تعجيل الفطر وتأخير السحور من خصائص هذه الأمة".
قال ابن عبد البر: "أخبار تعجيل الفطر وتأخير السحور متواترة".
وقال أيضاً (6/450) :
"تعجيله بعد تيقن الغروب من سنن المرسلين، فمن حافظ عليه تخلّق بأخلاقهم، ولأن فيه مخالفة أهل الكتاب في تأخيرهم إلى اشتباك النجوم، وفي ملتنا شعار أهل البدع، فمن خالفهم واتبع السنة لم يزل بخير، فإن أخّر غير معتقد وجوب التأخير ولا ندبه فلا خير فيه كما قال الطيبي: أن متابعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الطريق المستقيم، ومَنْ تعوّج عنها فقد ارتكب المعوّج من الضلال ولو في العبادة".
* وعن سهل بن سعد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تزال أمتي على سنتي، ما لم تنتظر بفطرها النجوم" (2) .
وهذه الخيرية تصيب الأمة بأسرها لبركة اتباع السنة، وينال محي هذه السنة مخالفة لأهل الكتاب من هذه الخيرية النصيب الوافر.
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" (3) .
__________
(1) حسن رواه ابن ماجة عن أبي هريرة، وابن خزيمة، وابن حبان، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (695) .
(2) صحيح: رواه ابن حبان في "صحيحه"، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/449) .
(3) حسن: رواه ابن حبان والطبراني في "الأوسط" وأبو نعيم في "الحلية" عن ابن عمر وحسنه الألباني في "صحيح
الجامع" رقم (1844) .(1/105)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عليكم بهذا السحور فإنه هو الغداء المبارك" (1) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هلم إلى الغداء المبارك -يعني السحور-" (2) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تسحروا ولو بجرعة ماء" (3) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاث من أخلاق النبوة: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة (4) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنا معشر الأنبياء أُمرنا أن نعجل إفطارنا ونؤخر سحورنا، ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة" (5) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بكروا بالإفطار وأخروا السحور" (6) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "السحور أكلة بركة، فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" (7) .
وكان صحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسمون السحور الفلاح.
"وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر خشيهّ أن يفوتنا الفلاح -السحور- الغداء المبارك، وصلاة الله، ومن أخلاق النبوة لأنه فيه مخالفة لأهل الكتاب فكيف لا تكون فيه الخيرية وظهور هذا الدين".
قلّب فؤادك في محاسن شرعنا ... تلقى جميع الحسن فيه مصورا
__________
(1) رواه أحمد، والنسائي، عن المقدام وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4081) .
(2) صحيح: رواه أحمد وأبو داود، والنسائي، وابن حبان عن العرباض وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7043) .
(3) صحيح: رواه أبو يعلى عن أنس، ورواه الضياء في "المختارة"، وأحمد عن أبي سعيد ورواه ابن حبان عن ابن عمرو وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2945) .
(4) رواه الطبراني في "الكبير" عن أبي الدرداء وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3038) .
(5) صحيح: رواه الطيالسي، والطبراني في "الكبير" عن ابن عباس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2286) .
(6) رواة ابن عدي عن أنس وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2835) .
(7) حسن: رواه أحمد عن أبي سعيد وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3683) .(1/106)
كم من معاني في صيام نبينا ... نفح أرق من النسيم إذا سرى
وانظر لفرق صيامهم وصيامنا ... نهراً تفجر أحمديا كوثرا
فدهشت بين جماله وجلاله ... وغدا لسان الحال عني مخبرا
لو أن كل الحسن أكمل صورة ... ورآه كان مهللاً ومكبرا
***(1/107)
الباب الخامس
سادات الصائمين(1/109)
صوم الصالحين
وردت آثار كثيرة عن السابقين في علو هممهم وأخذهم بالعزائم في العبادات، وهم جبال في الاقتداء والتأسي برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
يقول الشاطبيّ في "الاعتصام" (1/404) : "نحن نحمل ما داوم عليه الأولون من الأعمال على أنه لم يكن شاقاً عليهم، وإن كان ما هو أقل منه شاقاً علينا، فليس عمل مثلهم بما عملوا به حجة لنا أن ندخل فيما دخلوا فيه، إلَّا بشرط أن يمتد مناط المسألة فيما بيننا وبينهم، وهو أن يكون ذلك العمل لا يشق الدوام على مثله.
وليس كلامنا هذا لمشاهدة الجميع، فإن التوسط والأخذ بالرفق هو الأولى والأحرى للجميع، وهو الذي دلت عليه الأدلة دون الإيغال الذي لا يسهل مثله على جميع الخلق ولا أكثرهم؛ إلا على القليل النادر منهم, والشاهد لصحة هذا المعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني لست كهيئتكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" (1) ، يريد عليه السلام: أنه لا يشق عليه الوصال، ولا يمنعه عن قضاء حق الله وحقوق الخلق.
فعلى هذا؛ من رزق أنموذجاً مما أعطه عليه السلام، فصار يوغل في العمل مع قوته ونشاطه وخفة العمل عليه؛ فلا حرج" (2) .
يقول الشاطبي: "كم من رجل صلى الصبح بوضوء العشاء كذا كذا سنة, وسرد الصيام كذا وكذا سنة، وكانوا هم العارفين بالسنة، لا يميلون عنها لحظة، وروي عن ابن عمر وابن الزبير: أنهما كانا يواصلان الصيام (3) وأجاز مالك -وهو
__________
(1) جزء من حديث صحيح.
(2) "الاعتصام" (1/404) .
(3) قال في "الاعتصام" (1/405) : "ويكون عمل ابن الزبير وابن عمر وغيرهما في الوصال جارياً على أنهم مما
أعطيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا بناء على أصل مذكور في كتاب "الموافقات" والحمد لله.(1/111)
إمام في الاقتداء (1) - صيام الدهر؛ يعني إذا أفطر أيام العيد، والآثار في هذا المعنى كثيرة عن الأولين، وهي تدل على الأخذ بما هو شاق على الدوام ولم يعدهم أحد بذلك مخالفين للسُنة، بل عدوهم من السابقين -جعلنا الله منهم- وأيضاً فإن النهي ليس عن العبادة المطلوبة بل هو عن الغلوّ فيها غلواً يدخل المشقة على العامل، فإذا فرضنا من فُقدت في حقه تلك العِلة فلا ينهض النهي في حقه؛ كما إذا قال الشارع: لا يقضي القاضي وهو غضبان، وكانت علة النهي تشويش الفكر عن استيفاء الحجج؛ اطّرد النهي مع كل مشوش، وانتهى عند انتفائه حتى أنه مع وجود الغضب اليسير الذي لا يمنع من استيفاء الحجج، وهذا صحيح جار على الأصول.
وحال من فقدت في حقه العِلة حال من يعمل بحكم منْ غلبه الشوق أو غلبه الرجاء أو المحبة, فإن الخوف سوط سائق، والرجاء حادٍ قائد، والمحبة سبيل حامل، فالخائف إن وجد المشقة، فالخوف مما هو أشق يحمله على الصبر على ما هو أهون وإن كان العمل شاقّاً، والراجي يعمل وإن وجد المشقة, لأن رجاء الراحة التامة يحمله على الصبر على بعض التعب، والمحب يعمل ببذل المجهود؛ شوقاً إلى المحبوب، فيسهل عليه الصعب، ويقرب عليه البعيد، فيوهن القوى ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ولا قام بشكر النعمة، ويعصر الأنفاس ولا يرى أنه قضى نهمته.
وإذا كان كذلك صحَّ بين الأدلة، وجاز الدخول في العمل التزاماً مع الإيغال فيه! إما مطلقاً وإمَّا مع ظن انتفاء العِلة، وإن دخلت المشقة فيما بعد؛ إذا صحّ من العامل الدوام على العمل ويكون ذلك جارياً على مقتضى الأدلة وعمل السلف الصالح" (2) .
فالحاصل: جواز الاجتهاد في العبادة بشروط:
الأول: أن لا يحصل له ملل يفقده لذة العبادة بدليل "ليصل أحدكم نشاطه"
الثاني: أن يكثر حسب طاقته، ودليله: "عليكم من الأعمال ما تطيقون"
__________
(1) قال الشافعي: إذا جاء الأثر فمالك النجم.
(2) "الاعتصام" (1/400-401) .(1/112)
الثالث: لا يفوت من الأعمال ما هو أهم، ويدل عليه قول عمر "لأن أشهد الصبح في جماعة أحبَّ إلي من أن أقوم ليلة".
الرابع: أن لا يضيع حقّاً شرعيّاً، كما حصل لابن عمرو وأبي الدرداء.
الخامس: أن لا يبطل رخصة شرعية، كما ظنَّ الرهط الذين تقالوا عمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيته.
السادس: أن لا يوجب ما ليس بواجب شرعي، كما أوجب ابن مظعون على نفسه.
السابع: أن يأتي بالعبادة المجتهد فيها بتمامها، بدليل: "لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث".
الثامن: أن يداوم على ما يختاره من العبادة، بدليل "أحب الأعمال إلا الله أدومها".
التاسع: أن لا يجتهد بحيث يورث الملل لغيره، أخذاً بحديث "إذا صلى أحدكم فليخفف".
العاشر: أن لا يعتقد أنه أفضل عملاً مما كان عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تقليل العمل (1) .
(1) صوم الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)
المفارق للتنعم والترفيه، المعانق لما كُلِّف من التشمر والتوجه.
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لم أر عبقرياً يفري فَرِية" (2) .
عن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: ما مات عمر حتى سرد الصوم (3) .
__________
(1) بتصرف من "إقامة الحجة على أن الإكثار من التعبد ليس ببدعة" للكنوي (من 147-153) ط مكتب المطبوعات الإسلامية.
(2) متفق على صحته.
(3) "صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/286) ، والأثر أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1/121) ، والبيهقي في "سننه" (4/301) ، وابن حزم في "المحلى" (7/14) .(1/113)
فمنْ يسعَ أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما قدّمت بالأمس يُسبق (1)
(2) صوم ذي النورين عثمان بن عفان (رضي الله عنه)
أمير البررة وقتيل الفجرة.
حبيب محمد ووزير صدق ... ورابع خير من وطيء الترابا
قال أبو نعيم عنه: "حظه من النهار الجود والصيام، ومن الليل السجود والقيام، مبشر بالبلوى، ومنعم بالنجوى" (2) .
وعن الزبير بن عبد الله، عن جدة له يقال لها هيمة قالت: "كان عثمان يصوم الدهر، ويقوم الليل إلا هجعة من أوله" رضي الله عنه قتلوه وقد كان صائماً (3) .
وروى ابن كثير في "البداية والنهاية" (7/207) : "صلى صلاة الصبح ذات يوم فلما فرغ أقبل على الناس فقال: إني رأيت أبا بكر وعمر أتياني الليلة فقالا لي: صم يا عثمان إنك تفطر عندنا، وإني أشهدكم أني وقد أصبحت صائماً وإني أعزم على من كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخرج من الدار سالماً مسلوماً منه ثم دعا بالمصحف فأكب عليه" رضي الله عنه "ما طوى المصحف ... وقتلوه وهو يقرؤه".
(3) صوم أبي طلحة الأنصاري
زيد بن سهل، أحد أعيان البدريين وأحد النقباء الاثنى عشر ليلة العقبة، قال عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لصوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل" (4) .
عن أنس (رضي الله عنه) قال: كان أبو طلحة لا يصوم على عهد رسول
__________
(1) "صفة الصفوة" (1/292) .
(2) "الحلية" (1/55) .
(3) "الحلية" (1/56) ، و"صفة الصفوة" (1/302) .
(4) صحيح: رواه الحاكم في "المستدرك" عن جابر، ورواه ابن عساكر وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5081) .(1/114)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أجل الغزو، فلما قبض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم أره يفطر إلَّا يوم أضحى أو يوم فطر (1) .
وقال الذهبيّ: "كان قد سرد الصوم بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (2) .
قال أبو زرعة الدمشقي: إن أبا طلحة عاش بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين سنة يسرد الصوم (3) . قال الذهبى: قلت بل عاش بعده نيفاً وعشرين سنة (4) .
وعن أنس: "أن أبا طلحة صام بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين سنة لا يفطر إلا يوم فطر أو أضحى" (5) .
(4) صوم عائشة زوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
"الصديقة بنت الصديق، العتيقة بنت العتيق، حبيبة الحبيب، وأليفة القريب، سيد المرسلين محمد الخطيب، المبرأة من العيوب، المعراة من ارتياب القلوب لرؤيتها جبريل رسول علام الغيوب" (6) .
عن عبد الرحمن بن القاسم: أن عائشة كانت تصوم الدهر (7) وأخرجه ابن سعد عن القاسم بلفظ: أن عائشة كانت تسرد الصوم (8) .
عن عروة: أن عائشة (رضي الله عنها) كانت تسرد الصوم، وعن القاسم أنها كانت تصوم الدهر، لا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر) (9) ، قال عروة: بعث
__________
(1) "المعجم الكبير" للطبراني (5/91) ، وأشار الشيخ حمدي عبد المجيد السلفي إلى صحته.
(2) "سير أعلام النبلاء" (1/27) .
(3) "تاريخ دمشق" لأبي زرعة (562) .
(4) "سير أعلام النبلاء" (1/29) .
(5) "المستدرك" (3/353) ، وقال على شرط مسلم.
(6) "حلية الأولياء" (3/43) .
(7) "سير أعلام النبلاء" (1/187) ، ورجاله ثقات أخرجه ابن سعد (8/68) .
(8) أخرجه ابن سعد (8/75) .
(9) "السمط الثمين" (ص 9) ، و"صفة الصفوة" (2/31) . والمعنى: أنها كانت تصوم غير الأيام المنهي عنها: كالعيدين، وأيام التشريق والحيض.(1/115)
معاوية مرة إلى عائشة بمائة ألف درهم، فقسمتها؛ لم تترك منها شيئاً، فقالت بريرة: "أنت صائمة، فهلا ابتعت لنا منها بدرهم لحماً؟ " قالت: "لو ذكرتني لفعلت" (1) .
وعن محمد بن المنكدر عن أم ذَرَّة وكانت تغشى عائشة (رضي الله عنه) قالت. بعث إليها الزبير بمال في غرارتين، قالت: أراه ثمانين ومائة ألف فدعت بطبق وهي صائمة يومئذ، فلما أمست قالت: "يا جارية هلمي فطوري فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذرّة: "أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه" فقالت: "لا تعنفيني، لو كنت أذكرتني لفعلت" (2) .
(5) صوم أم المؤمنين حفصة بنت عمر
القوامة الصوامة، حفصة بنت عمر بن الخطاب، وارثة الصحيفة، الجامعة للكتاب (3) .
عن قيس بن زيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طلق حفصة بنت عمر فدخل عليها خالاها قدامة وعثمان ابنا مظعون، فبكت وقالت: والله ما طلقني عن شِبَع، وجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتجلببت، قال: فقال لي جبريل عليه السلام: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة (4) ، أي شهادة أعظم من شهادة الله وجبريل لحفصة رضي الله عنها، وأنعم بها من عبادة كانت سبباً لرجوع أم المؤمنين حفصة إلى رسولنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتبقى له زوجة في الجنة.
وعن نافع قال: "ماتت حفصة حتى ما تفطر".
__________
(1) أبو نعيم في "الحلية" (2/47) ، والحاكم (4/13) .
(2) ابن سعد (8/46) ، و"الحلية"، (2/47) ، ورجاله ثقات.
(3) "الحلية" (2/50) .
(4) حسن: أخرجه الحاكم في "المستدرك" عن أنس وقيس بن زيد.(1/116)
(6) صوم أبي الدرداء حكيم الأمة وسيد القراء
وامق العبادة، فارق التجارة، داوم على العمل استباقاً، وأحب اللقاء اشتياقاً، تفرّغ من الهموم ففتحت له الفهوم، صاحب الحكم والعلوم (1) .
قال أبو الدرداء: "كنت تاجراً قبل أن يبعث محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما بعث محمد زاولت العبادة والتجارة فلم يجتمعا، فأخذت في العبادة وتركت التجارة" (2) .
وفي رواية: "كنت تاجراً قبل المبعث، فلما جاء الإسلام جمعت التجارة والعبادة فلم يجتمعا، فتركت التجارة ولزمت العبادة" (3) .
قال ابن إسحاق: كان الصحابة يقولون: أتبعنا للعلم والعمل أبو الدرداء (4) .
وعن يزيد بن معاوية: أن أبا الدرداء كان من العلماء الفقهاء الذين يشفون من الداء (5) .
عن أبي جحيفهّ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخى بين سلمان وأبي الدرداء فجاءه سلمان يزوره، فإذا أم الدرداء متبذلة (6) ، فقال: ما شأنك؟ قالت: إن أخاك لا حاجة له في الدنيا، يقوم الليل ويصوم النهار، فجاء أبو الدرداء فرحب به وقرب إليه طعاماً، فقال له سلمان: كل، قال: إني صائم، قال: أقسمت عليك لتفطرن، فأكل معه، ثم بات عنده، فلما كان من الليل، أراد أبو الدرداء أن يقوم، فمنعه سلمان وقال: إن لجسدك عليك حقّاً، ولربك عليك حقّاً، ولأهلك عليك حقّاً، صم، وأفطر، وصل، وائت أهلك، وأعط كل ذي حق حقه، فلما كان وجه الصبح، قال: قم الآن إن شئت؛ فقاما، فتوضأ، ثم ركعا، ثم خرجا إلى الصلاة، فدنا
__________
(1) "الحلية" (1/28) .
(2) "الحلية" (1/29) .
(3) ابن سعد (7/391) ، قال الهيثمي (9/367) : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
(4) ابن عساكر (2/13/371) .
(5) "سير أعلام النبلاء" (2/346) .
(6) أي لابسة ثياب البذلة وهي المهنة.(1/117)
أبو الدرداء ليخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالذي أمره سلمان، فقال له: يا أبا الدرداء، إن لجسدك عليك حقّاً، مثل ما قال لك سلمان" (1) .
(7) صوم عبد الله بن عمرو بن العاص
صاحب الصيام والقيام، "الإمام الحبر العادل" "له مناقب وفضائل ومقام راسخ في العلم والعمل" (2) .
عن عبد الله بن عمرو قال: "أنكحنى أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنته (3) فيسألها عن بعلها، فتقول: نعم الرجل من رجل، لم يطأ لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً منذ أتيناه، فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "ألقنى به فلقيته بعد، فقال: كيف تصوم؟ قلت أصوم كل يوم، قال: وكيف تختم؟ قلت: كل ليلة، قال: صم في كل شهر ثلاثة واقرأ القرآن في كل شهر، قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: صم ثلاثة أيام في الجمعة، قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: أفطر يومين وصم يوماً، قال قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: صمْ أفضل الصوم صيام داود، صيام يوم وإفطار يوم واقرأ في كل سبعة ليالي مرة"، فليتني قبلت رخصة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذاك أني كبرت وضعفت فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار والذي يقرؤه يعرضه من النهار ليكون أخف عليه بالليل، وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياماً وأحصى وصام مثلهن، كراهية أن يترك شيئاً فارق النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (4) .
وعند النسائي قلت: دعني أستمتع من قوتي وشبابى قال: "اقرأه في عشرين قلت: دعني أستمتع؛ قال: اقرأْه فى سبع ليال، قلتْ: دعني يا رسول الله أستمتع قال: فأبى" (5) .
__________
(1) البخاري، والترمذي.
(2) "سير أعلام النبلاء" (3/80) .
(3) كنته: بفتح الكاف وتشديد النون هي زوج الولد.
(4) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب "في كم يقرأ القرآن" (8/712، 713) .
(5) رواه النسائى.(1/118)
وصح أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نازله إلى ثلاث ليال ونهاه أن يقرأ في أقل من ثلاث (1) .
وعند أحمد عن عبد الله بن عمرو "زوجني أبي امرأة من قريش، فلما دخلت على جعلت لا أنحاش لها مما بي من القوة على العبادة، فجاء أبي إلى كنفه، فقال: كيف وجدت بعلك؟ قالت: خير رجل من رجل لم يفتش لنا كنفاً، ولم يقرب لنا فراشاً، قال: فأقبل على، وعضني بلسانه، ثم قال: أنكحتك امرأة ذات حسب، فعضلتها وفعلت، ثم انطلق، فشكاني إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فطلبني فأتيته، فقال لي: "أتصوم النهار وتقوم الليل"؟ قلت: نعم، قال. "لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأمس النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" (2) .
عن عبد الله بن عمرو قال: دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيتى هذا، فقال: "يا عبد الله ألم أخبر أنك تكلفت قيام الليل وصيام النهار؟ " قلت: إني لأفعل، فقال: "إن من حسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فالحسنة بعشر أمثالها، فكأنك قد صمت الدهر كله" قلت: يا رسول الله، إني أجد قوة، وإني أحب أن تزيدني، فقال: "فخمسة أيام"، قلت: إني أجد قوة، قال: "سبعة أيام" فجعل يستزيده، ويزيده حتى بلغ النصف، وأن يصوم نصف الدهر. "إن لأهلك عليك حقاً، وإن لعبدك عليك حقَاً، وإن لضيفك عليك حقّا"، وكان بعدما كبر وسنّ يقول: ألا كنت قبلت رخصة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحب إلي من أهلي ومالي (3) .
قال الذهبي: هذا السيد العابد الصاحب كان يقول -لماّ شاخ-: ليتني قبلت رخصة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرضي الله عن صاحب الصيام والقيام الذي زمّ نفسه في تعبده وورده بالسنة النبوية.
__________
(1) أبو داود والترمذي وابن ماجة.
(2) رجاله ثقات.
(3) إسناده حسن، رواه أحمد في "مسنده" (2/200) .(1/119)
(8) صوم عبد الله بن عمر
"الإمام القدوة شيخ الإسلام" (1) المتعبد المتهجد، يكفيه قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل" (2) ، وقوله: "إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة من الليل" (3) .
قال عنه نافع: "كان ابن عمر لا يصوم في السفر، ولا يكاد يفطر في الحضر" (4) .
عن سعيد بن جبير قال: لما احتضر ابن عمر، قال: ما آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث: ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت بنا، يعني الحجاج (5) .
(9) صوم أبي أمامة الباهلي
صاحب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
عن رجاء بن حيوة، عن أبي أمامة: أنشأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جيشا فأتيته، فقلت: يا رسول الله ادع الله لي بالشهادة، قال: "اللهم سلمهم وغنمهم"، فغزونا، فسلمنا وغنمنا، حتى ذكر ذلك ثلاث مرات، قال: ثم أتيته، فقلت: يا رسول الله، إني أتيتك تترى ثلاث مرات، أسألك أن تدعو لي بالشهادة، فقلت: "اللهم سلمهم وغنمهم"، فسلمنا وغنمنا يا رسول الله، فمرني بعمل أدخل به الجنة، فقال: "عليك بالصوم فإنه لا مثل له" قال: فكان أبو أمامة لا يرى في بيته الدخان نهاراً إلا إذا نزل بهم ضيف، فإذا رأوا الدخان نهاراً عرفوا أنه قد اعتراهم ضيف" (6) .
__________
(1) "سير أعلام النبلاء" (3/204) .
(2) صحيح: رواه البخاري، ومسلم، وأحمد.
(3) صحيح: رواه البخاري، ومسلم وابن ماجة.
(4) "سير أعلام النبلاء" (3/215) .
(5) إسناده صحيح: أخرجه ابن سعد (4/185) ، والذهبي في "السير" (3/232) .
(6) إسناده صحيح على شرط مسلم، أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، وابن أبي شيبة، والنسائي، والطبراني، وعبد الرزاق.(1/120)
وعند أمامة: فكان أبو أمامة، وامرأته، وخادمه لا يُلْفَون إلا صياماً (1) .
قال الذهبي: "ولأبي أمامة كرامة باهرة جزع هو منها، وهي في كرامات الداكالي وأنه تصدق بثلاثة دنانير، فلقي تحت كراجته ثلاث مئة دينار (2) .
وفي "تاريخ الذهبى" (3/315) عن مولاة لأبي أمامة قالت: "كان أبو أمامة يحب الصدقة ولا يقف به سائل إلا أعطاه، فأصبحنا يوماً وليس عنده إلا ثلاثة دنانير، فوقف به سائل، فأعطاه ديناراً، ثم آخر، فكذلك، ثم آخر، فكذلك، قلت: لم يبق لنا شيء، ثم راح إلى مسجده صائماً، فرققت له واقترضت له ثمن عشاء، وأصلحت فراشه، فإذا تحت المرفقة ثلاث مئة دينار، فلما دخل ورأى ما هيأت له، حمد الله وابتسم، وقال: هذا خير من غيره، ثم تعش، فقلت: يغفر الله لك جئت بما جئت به، ثم تركته بموضع وضيعه! قال: وما ذاك؟ قلت: الذهب ورفعت المرفقة، ففزع لما رأى، وقال: ما هذا ويحك؟ قلت: لا علم لي، فكثر فزعه".
(10) صوم عبد الله بن الزبير
أمير المؤمنين ابن الحواريّ عائذ ببيت الله، المشاهد في القيام، المواصل للصيام.
قال الذهبى: عدّوه في صغار الصحابة، وإن كان كبيراً في العلم والشرف والجهاد والعبادة.
قالت عنه أسماء بنت أبي بكر أنه: قوّام الليل، صوام النهار، وكان يسمى حمام المسجد (3) .
عن ابن أبي مليكة قال: "كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام، ويصبح في اليوم السابع وهو أليثنا" (4) .
__________
(1) "سير أعلام النبلاء" (3/360) .
(2) "سير أعلام النبلاء" (3/362) .
(3) "حلية الأولياء" (1/335) ، و"سير أعلام النبلاء" (3/367) .
(4) رواه الحاكم (3/549) ، أليثنا: أي كأنه ليث.(1/121)
لقد كان ابن الزبير مع ملكه صنفاً في العبادة (1) .
وقال ابن عمر وقد رآه مصلوباً: "السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خبيب، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله إن كنت ما علمت صوّاماً قوّاماً وصولاً للرحم، أما والله لأمة أنت أشرها لأمة خير" (2) .
(11) صوم عبد الله بن رواحة
الأمير السعيد الشهيد البدري النقيب، أبو عمرو الأنصاريّ الخزرجي شاعر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وابن رواحة" (3) .
وعند الذهبي في "السير": "إن كنا لنكون مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فى السفر في اليوم الحار ما في القوم أحد صائم إلا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعبد الله بن رواحة" (4) .
عن ابن أبي ليلى: تزوج رجل امرأة ابن رواحة، فقال لها: تدرين لِمَ تزوجتك؟ لتخبريني عن صنيع عبد الله في بيته، فذكرت له شيئاً لا أحفظه غير أنها قالت: كان إذا أراد أن يخرج من بيته، صلى ركعتين، وإذا دخل صلى ركعتين لا يدع ذلك أبداً" (5) .
__________
(1) "سير أعلام النبلاء" (3/368) .
(2) رواه مسلم في "صحيحه".
(2) خ، م، د، هـ، رواه البخاري ومسلم وأبو داود، وابن ماجه.
(4) "سير أعلام النبلاء" (1/232-233) .
(5) إسناده صحيح: نسبه الحافظ في "الإصابة" (6/78-179) ، ابن المبارك في "الزهد" وصحح سنده، ورواه
الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (1/33) ورجاله ثقات.(1/122)
(12) صوم الصحابي الجليل حمزة بن عمرو الأسلمي
كان (رضي الله عنه) يسرد الصوم.
روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو الأسلمي سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله إني رجل أسرد الصوم فأصوم في السفر قال: "صم إن شئت وأفطر إن شئت".
قال النووي: "فيه دلالة لمذهب الشافعي وموافقته أن صوم الدهر وسرده غير مكروه لمن لا يخاف منه ضرراً، ولا يفوت به حقّاً بشرط فطر يومي العيدين والتشريق، لأنه أخبر بسرده ولم ينكر عليه، بل أقره عليه، وأذن له فيه في السفر، ففي الحضر أولى.
وهذا محمول على أن حمزة بن عمرو كان يطيق السرد بلا ضرر ولا تفويت حق، كما في الرواية التي بعدها (أجد بي قوة على الصيام في السفر) ، وأما إنكاره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ابن عمرو بن العاص صوم الدهر، فلأنه علم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سيضعف عنه، وهكذا جرى بأنه ضعف في آخر عمره، وكان يقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب العمل الدائم وإن قلَّ ويحثهم عليه" (1) .
(13) صوم أبي مسلم الخولاني
"المتسلي بالأوراد والنوب، الخولانى عبد الله بن ثوب، حكيم الأمة وممثلها، ومديم الخدمة ومحررها" (2) .
عن عطية بن قيس، قال: دخل ناس من أهل دمشق على أبي مسلم وهو غاز في أرض الروم، وقد احتفر جُورةً في فسطاطه (3) ، وجعل فيها نِطعاً وأفرغ فيه الماء
__________
(1) صحيح: مسلم بشرح النووي.
(2) "حلية الأولياء" (2/122) .
(3) البيت من الشعر.(1/123)
وهو يتصلق (1) فيه، فقالوا: ما حملك على الصيام وأنت مسافر؟ قال: لو حضر قتال لأفطرت ولتهيأت له وتقويت، إن الخيل لا تجري الغايات وهُنّ بُدن، إنما تجري وهن ضُمَّر؛ ألا وإن أيامنا باقية جائية" (2) ، وفي الحلية: "بين أيدينا أياماً لها نعمل" (3) .
(14) صوم عامر بن عبد قيس
القدوة الولي الزاهد راهب هذه الأمة.
كان يقول: "لذات الدنيا أربعة: المال، والنساء، والنوم، والطعام، فأما المال والنساء فلا حاجة لي فيهما، وأما النوم والطعام فلابد لي منهما، فوالله لأضرن بهما جهدي، ولقد كان يبيت قائماً، ويظل صائماً" (4) .
"وعن علقمة بن مرثد قال: انتهى الزهد إلى ثمانية، عامر بن عبد الله بن عبد قيس، وأويس القرني، وهرم بن حيان، والربيع بن خيثم، ومسروق بن الأجدع، والأسود بن يزيد، وأبو مسلم الخولاني، والحسن بن أبي الحسن" (5) .
وكان يقول: "ما أبكي على دنياكم رغبة فيها، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء" (6) .
وعن قتادة: "لما احتضر عامر بكى، فقيل ما يبكيك؟ قال: ما أبكي جزعاً من الموت، ولا حرصاً على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل" (7) .
__________
(1) يتصلق: يتقلب ويتلوى على جنبه.
(2) "سير أعلام النبلاء" (4/10) .
(3) "الحلية" (2/127) .
(4) "الحلية" (2/88) .
(5) "الحلية" (2/87) .
(6) "الحلية" (2/88) .
(7) "سير أعلام النبلاء" (4/19) .(1/124)
(15) صوم الأسود بن يزيد النخعي
الإمام القدوة، القارئ القوَّام، الساري الصوَّام، الفقيه الأثير، الفقير الأسير "هو نظير مسروق في الجلالة والعلم والثقة والسن يضرب بعبادتهما المثل" (1) .
سئل الشعبى عن الأسود فقال: "كان صوّاماً قوّاماً حجّاجاً" (2) .
وعن علقمة بن مرثد، قال: "انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين منهم الأسود ابن يزيد كان مجتهداً في العبادة يصوم حتى يخضر جسده ويصفر، وكان علقمة ابن قيس يقول له: ويحك لِمَ تعذب هذا الجسد؟ قال: راحة هذا الجسد أريد، [إن الأمر جد، إن الأمر جد] (3) ، فلما احتضر بكى فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: ما لي لا أجزع ومن أحق بذلك مني، والله لو أتيت بالمغفرة من الله عز وجل لهمّني الحياء منه مما قد صنعته، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه، فلا يزال مستحياً منه" (4) .
وروى شعبة عن الحكم أن الأسود كان يصوم الدهر (5) .
وروى حماد عن إبراهيم، كان الأسود يصوم حتى يَسود لسانه من الحر (6) .
وعن عبد الله بن بشران علقمة والأسود بن يزيد حجا، وكان الأسود صاحب عبادة، وصام يوماً فكان الناس بالهجير وقد تربد وجهه، فأتاه علقمة فضرب على فخذه فقال: ألا تتق الله يا أبا عمرو في هذا الجسد؟ علام تعذب هذا الجسد؟ فقال الأسود: يا أبا شبل الجد الجد (7) .
__________
(1) "سير أعلام النبلاء" (4/50) .
(2) "حلية الأولياء" (2/103) ، و"سير أعلام النبلاء" (4/51) .
(3) "الاعتصام" للشاطبى (1/399) .
(4) "حلية الأولياء" (2/103، 104) ، و"سير أعلام النبلاء" (4/52) .
(5) "سير أعلام النبلاء" (4/52) .
(6) "سير أعلام النبلاء" (4/53) .
(7) "حلية الأولياء" (2/104) .(1/125)
قال حنس بن حارث: رأيت الأسود وقد ذهبت إحدى عينيه من الصوم (1) لا ضير إن كانت الجنة فسيبدل الله بعين أصح منها.
ما ضرَّهم ما أصابهم جبر الله لهم بالجنة كل مصيبة.
(16) صوم مسروق بن عبد الرحمن
"في العلم معروق، وبالضمان موثوق، ولعباد الله معشوق، أبو عائشة مسروق" (2) .
عن الشعبي قال: "غشي على مسروق في يوم صائف، وكانت عائشة قد تبنته فسمى بنته عائشة، وكان لا يعصي ابنته شيئاً، قال: فنزلت إليه فقالت: يا أبتاه أفطر واشرب، قال: ما أردت لي يا بُنية؟ قالت: الرفق، قال. يا بنية، إنما طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين إلى سنة" (3) ، وفي رواية: "إنما طلبت الرفق لتعبي" (4) .
قالت له عائشة الصديقة: "يا مسروق إنك من ولدي، وإنك لمن أحبهم إلي" (5) .
وكان لا يأخذ على القضاء أجراً، وكان يقول: "لأن أفتي يوماً بعدل وحقّ أحب إلي من أن أغزو سنة" (6) .
قال الأصمعى: كان مسروق يتمثل:
ويكفيك مما أغلق الباب دونه ... وأرخى عليه الستر ملح وجردق
وماء فرات بارد ثم تغتدي ... تعارض أصحاب الثريد الملبق
__________
(1) "حلية الأولياء" (2/104) .
(2) "حليهْ الأولياء" (2/95) .
(3) "سير أعلام النبلاء" (4/67-68) .
(4) "الاعتصام" (1/400) .
(5) "سير أعلام النبلاء" (4/66) .
(6) "سير أعلام النبلاء" (4/68،66) .(1/126)
تجشأ إذا ما هم تجشأوا كأنما ... غذيت بألوان الطعام المفتق
(17) صوم العلاء بن زياد
"المبشر المحزون، المستتر المخزون، تجرد من الثلاد، وتشمر للمهاد، وقدّم العتاد للمعاد، العلاء بن زياد" (1) .
كان ربانيّاً تقياً قانتاً لله، بكّاء من خشية الله.
قال قتادة: كان العلاء بن زياد قد بكى حتى غشي بصره، وكان إذا أراد أن يقرأ أو يتكلم، جهشه البكاء، وكان أبوه قد بكى حتى عمي.
قال الحسن لعلاء بن زياد وقد سله الحزن كيف أنت يا علاء؟ فقال: واحزناه على الحزن.
قال الحسن: قوموا فإلى هذا والله انتهى استقلال الحزن" (2) .
وعن هشام بن حسان أن العلاء بن زياد كان قوت نفسه رغيفاً كل يوم وكان يصوم حتى يخضرّ أو يصلي حتى يسقط فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقالا: إن الله تعالى لم يأمرك بهذا كله، فقال: إنما أنا عبد مملوك لا أدع من الاستكانة شيئاً إلا جئته به" (3) .
قال له رجل: رأيت كأنك في الجنة فقال له. ويحك أما وجد الشيطان أحداً يسخر به غيري وغيرك (4) .
وكان يقول: "لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه تعالى نفسه فأقاله فليعمل بطاعة الله عز وجل" (5) .
__________
(1) "حلية الأولياء" (2/242) .
(2) "الحلية" (2/242) .
(3) "الحلية" (2/243) .
(4) "الحلية" (2/245) .
(5) "الحلية" (2/244) .(1/127)
قال سلمة بن سعيد رئي العلاء بن زياد أنه من أهل الجنة فمكث ثلاثاً لا ترقأ له دمعة ولا يكتحل بنوم ولا يتذوق طعاماً فأتاه الحسن فقال: أي أخي أتقتل نفسك أن بُشرت بالجنة فازداد بكاء" فلم يفارقه حتى أمسى وكان صائماً فطعم شيئاً" (1) .
عن هشام بن زياد العدوي قال: تجهز رجل من أهل الشام وهو يريد الحج فأتاه آت في منامه فقال: ائت العراق ثم ائت البصرة ثم ائت بني عدي فائت بها العلاء ابن زياد فإنه رجل أقصم الثنية بسام فبشره بالجنة، قال: فقال: رؤيا ليست بشيء حتى إذا كانت الليلة الثانية رقد فأتاه آت فقال: ألا تأتي العراق فذكر مثل ذلك حتى إذا كانت الليلة الثالثة جاءه بوعيد فقال: ألا تأتي العراق ثم تأتي البصرة ثم تأتي بني عدي فتلقى العلاء بن زياد رجل ربعة أقصم الثنية بسام فبشره بالجنة قال فأصبح وأخذ جهازه إلى العراق فلما خرج من البيوت إذا الذي أتاه في منامه يسير بين يديه ما سار، فإذا نزل فقده فلم يزل يراه حتى دخل الكوفة ففقده قال: فتجهز من الكوفة فرآه يسير بين يديه ما سار حتى قدم البصرة فأتى بني عدي فدخل دار العلاء ابن زياد فوقف الرجل على باب العلاء فسلم. قال هشام: فخرجت إليه فقال لي: أنت العلاء بن زياد؟ قلت: لا، وقلت: أنزل رحمك الله فضع رحلك وضع متاعك فقال: لا أين العلاء بن زياد؟ قلت: هو في المسجد، قال: وكان العلاء يجلس في المسجد ويدعو بدعوات ويحدث قال هشام: فأتيت العلاء فخفف من حديثه وصلى ركعتين ثم جاء فلما رآه العلاء تبسم فبدت ثنيته فقال: هذا والله صاحبي قال: فقال العلاء: هلا حططت رحل الرجل هَلَّا أنزلته؟ قال: قد قلت له فأبى، قال: فقال العلاء: انزل رحمك الله، قال: فقال الرجل: أدخلني قال، فدخل العلاء منزله وقال: يا أسماء تحولي إلى البيت الآخر قال فتحولت ودخل الرجل وبشره برؤياه ثم خرج فركب قال: وقام العلاء فأغلق بابه وبكى ثلاثة أيام وقال سبعة أيام لا يذوق فيهما طعاماً ولا شراباً ولا يفتح بابه، قال هشام فسمعته يقول في خلال بكائه أنا أنا قال: فكنا نهابه أن نفتح بابه وخشيت أن يموت فأتيت الحسن فذكرت له ذلك وقلت لا أراه إلا ميتاً لا جمل ولا يشرب باكياً قال: فجاء
__________
(1) "السير" (4/203) .(1/128)
الحسن حتى ضرب عليه بابه وقال: افتح يا أخي فلما سمع كلام الحسن قام ففتح بابه وبه من الضرّ شيء الله به عليم فكلمه الحسن ثم قال: رحمك الله ومن أهل الجنة إن شاء الله أفقاتل نفسك أنت، قال هشام: حدثنا العلاء لي وللحسن بالرؤيا وقال: لا تحدثوا بها ما كنت حيّا" (1) .
لك الله يا علاء أئن بشرت بالجنة صمت وبكيت حتى أشرفت على الموت، لك الله يا إمام ولك من اسمك أوفر نصيب.
(18) صوم سعيد بن المسيب سيد التابعين
عالم العلماء كما قال مكحول فقيه الفقهاء - حدث يزيد بن أبي حازم أن سعيد بن المسيب كان يسرد الصوم وقال ابن المسيب: ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد (2) .
(19) صوم أبي بكر بن عبد الرحمن راهب قريش
الإمام أحد فقهاء المدينة السبعة وكان من سادات قريش، قال ابن سعد، كان يقال له راهب قريش لكثرة صلاته (3) .
روى الشعبي عن عمر بن عبد الرحمن أن أخاه أبا بكر كان يصوم ولا يفطر.
قال الذهبي: "قلت كان أبو بكر بن عبد الرحمن ممن جمع العلم والعمل والشرف وكان ممن خلف أباه في الجلالة" (4) .
(20) صوم عروة بن الزبير
عالم المدينة أحد الفقهاء السبعة وابن حواري رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُكن من الطاعة
__________
(1) "الحلية" (2/245-246) ، و"سير أعلام النبلاء" (203-204) .
(2) "سير أعلام النبلاء" (4/221) ، وقال الذهبي إسناده ثابت.
(3) "طبقات ابن سعد" (5/207-208) .
(4) "السير" (4/417-418) .(1/129)
فاكتسب وامتحن بالمحنة فاحتسب عروة بن الزبير بن العوام المجتهد المتعبد الصوام (1) .
قال الزهري: "جالست ابن المسيب سبع سنين لا أرى أن عالماً غيره ثم تحولت إلى عروة ففجرّت به ثبج بحر.
وقال أيضاً: رأيت عروة بحراً لا تكدره الدلاء" (2) .
عن هشام بن عروة أن أباه كان يصوم الدهر إلا يوم الفطر ويوم النحر ومات وهو صائم ويعفوا يقولون له أفطر فلم يفطر (3) .
وعن هشام بن عروة أن أباه كان يسرد الصوم (4) .
وعن هشام أن أباه وقعت في رجله الآكلة فقال ألا ندعو لك طبيباً قال إن شئتم فقالوا نسقيك شراباً يزول فيه عقلك؟ فقال: امضِ لشأنك إن ربي ابتلاني ليرى صبري ما كنت أظن أن خلقاً يشرب ما يزيل عقله حتى لا يعرف به فوضع المنشار على ركبته اليسرى فما سمعنا له حسّا فلما قطعها جعل يقول لئن أخذت، لقد أبقيت ولئن ابتليت لقد عافيت وما ترك جزءه بالقرآن تلك الليلة (5) .
وكان ورده ربع القرآن كل يوم في المصحف نظراً يقوم به الليل.
وعن عبد الواحد مولى عروة قال: شهدت عروة بن الزبير قطع رجله من المعضل وهو صائم (6) .
والله لكأنها الأعاجيب ولا تعجب فإنّ أمه أسماء وأبوه الحواري وجدته صفية وخالته عائشة وجده الصديق.
فما استخبأت في رجل خبيئاً ... كمثل الدين أو حسب عتيق
ذووا الأحساب أكرم من تراث ... وأصبر عند نائبة الحقوق
__________
(1) "الحلية" (2/176) .
(2) "السير" (4/425) .
(3) "طبقات ابن سعد" (5/180) ، و"الزهد" لأحمد (371) ، "صفة الصفوة" (2/88) .
(4) "صفة الصفوة" (2/88) .
(5) "سير أعلام النبلاء" (4/430) .
(6) "الحلية" (2/178) .(1/130)
(21) صوم سليمان بن يسار
الفقيه الإمام عالم المدينة وفقيهها عن أبي الزناد قال كان سليمان بن يسار يصوم الدهر.
وكان أخوه عطاء يصوم يوماً ويفطر يوماً (1) (صفة الصفوة 2/84) .
(22) صوم عطاء بن يسار
الإمام الفقيه الواعظ المذكر كبير القدر كان يصوم يوماً ويفطر يوماً.
(23) صوم إبراهيم النخعي
التقي الخفي الفقيه الرضي الإمام الحافظ فقيه العراق ومفتي أهل الكوفة إلى عمران.
حدثت هُنيدة امرأة إبراهيم، أن إبراهيم كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، قال سعيد بن جبير: تستفتوني وفيكم إبراهيم النخعي؟ (2) .
وكان يقول رحمه الله: وددت أني لم أكن تكلمت ولو وجدت بداً من الكلام ما تكلمت وأن زماناً صرت فيه فقيهاً لزمان سوء (3) .
(24) صوم الحسن البصري
إمام الدنيا بأسرها.
قال عنه أبو جعفر الباقر ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء (4) .
__________
(1) "السير" (4/448) ، ابن سعد (5/173) .
(2) "الحلية" (4/221) .
(3) "الحلية" (4/223) .
(4) "الحلية" (2/147) ، "السير" (4/585) .(1/131)
قال أيوب السختياني: لو رأيت الحسن لقلت أنك لم تجالس فقيهاً قط (1) ، وقال عنه عطاء: ذاك إمام ضخم يقتدى به (2) ، وكان من رؤوس العلماء في الفتن والدماء والفروج (3) .
وقال علي بن زيد: سمعت من ابن المسيب أو عروة والقاسم وغيرهم: ما رأيت مثل الحسن ولو أدرك الصحابة وله مثل أسنانهم ما تقدموه (4) .
قال عوف: ما رأيت رجلاً أعلم بطريق الجنة من الحسن (5) .
رحم الله الحسن نبت في العلم وتحقبه وتشربه، به يسقون وبه يُدفع عنهم، قال السري بن يحيى "كان الحسن يصوم البيض وأشهر الحرم والاثنين والخميس" (6) .
دعوه لا تلوموه دعوه:
قيل له يوماً: يا أبا سعيد أي شيء يدخل الحزن فى القلب فقال: الجوع، قال: فأي شيء يخرجه، قال: الشبع، وكان يقول: توبوا إلى الله من كثرة النوم والطعام (7) .
وكان يقول: إذا لم تقدر على قيام الليل ولا صيام النهار فاعلم أنك محروم قد كبلتك الخطايا والذنوب (8) .
دعوه لا تلوموه دعوه ... فقد علم الذي لم تعلموه
رأى علم الهدى فسمى إليه ... وطالب مطلباً لم تطلبوه
أجاب دعاءه لما دعاه ... وقام بأمره وأضعتموه
__________
(1) "السير" (4/585) .
(2) "السير" (4/574) .
(3) "السير" (4/575) ، ابن سعد (7/163) .
(4) ابن سعد (7/261) .
(5) "السير" (4/575) .
(6) "السير" (4/578) ، و"الزهد" لأحمد (269) .
(7) "الحسن البصري" لابن الجوزي (ص 13، 14) .
(8) "الحسن البصري" لابن الجوزى (ص 19) .(1/132)
بنفسي ذاك من فطن لبيب ... تذوّق مطعماً لم تطعموه
هذا قول الحسن وبكاء الحسن وهذا صدق رضيع أم سلمة كان يقول وهو يبكي: أي رب ما أخسر صفقة من صرف عن بابك وضرب دونه حجابك ثم أنشد:
إذا أنا لم أشكرك جهدي وطاقتي ... ولم أصف من قلبي لك الود أجمعا
فلا سلمت نفسي من السقم ساعة ... ولا أبصرت عيني من الشمس مطلعا
ثم استغفر وبكى وقال: القلب الذي يحب الله يحب التعب ويؤثر النصب هيهات لا ينال الجنة من يؤثر الراحة من أحب ما عند الله سخا بنفسه إن صدق وترك الأماني فإنها سلاح النّوكى (1) .
(25) صوم ابن سيرين
ابن سيرين الإمام شيخ الإسلام.
عن حبيب بن الشهيد كنت عند عمرو بن دينار فقال: والله ما رأيت مثل طاووس، فقال أيوب السختياني وكان جالساً والله لو رأى محمد بن سيرين لم يقله (2) .
وعن ابن عون قال ثلاثة لم تر عيناي مثلهم ابن سيرين بالعراق، والقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بن حَيوة بالشام كأنهم التقوا فتواصوا (3) .
ذكر محمد عند أبي قلابة فقال: اصرفوه كيف شئتم فلتجدنه أشدكم ورعاً وأملككم لنفسه ومن يستطع ما يطيق محمد يركب مثل حد السنان (4) .
__________
(1) الفعل منه نوك بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع، والمصدر نوكاً نواكاً، حَمقُ، والأنوك: الأحمق
والجمع: نوكي نُوك، "الحسن" لابن الجوزي (ص 20، 21) .
(2) "السير" (4/608) .
(3) "السير" (4/609) .
(4) ابن سعد (7/196) ، و"السير" (4/609) .(1/133)
عن أيوب قال: كان محمد يصوم يوماً ويفطر يوماً قال ابن عون: كان محمد من أشد الناس إزاراً على نفسه (1) .
(26) صوم عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي
الإمام بن الإمام قال هلال بن خباب كان عبد الرحمن بن الأسود وعقبة مولى أديم وسعد أبو هشام يحرمون من الكوفة ويصومون يوماً ويفطرون يوماً حتى يرجعوا.
وعن الحكم أن عبد الرحمن بن الأسود لما احتُضر بكى فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أسفاً على الصلاة والصوم ولم يزل يتلو حتى مات.
قال الشعبي: أهل بيت خلقوا للجنة: علقمة والأسود وعبد الرحمن.
وروي أن عبد الرحمن صام حتى أحرق الصوم لسانه (2) .
(27) صوم عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي الكومي
الإمام الحجة القدوة الرباني أبي الحكم - قال بكير بن عامر: كان لو قيل له: قد توجه إليك ملك الموت ما كان عنده زيارة عمل.
قال عبد الملك بن أبي سليمان. كان يفطر في الشهر مرتين أذى أنه أنكر على الحجاج كثرة القتل فهم به فقال له من في بطنها أكثر ممن على ظهرها (3) .
(28) صوم عراك بن مالك الغفاري
أحد العلماء العاملين كان يسرد الصوم وقال عمر بن عبد العزيز: ما أعلم أحداً أكثر صلاة من عِرَاك بن مالك (4) .
__________
(1) "الزهد" (307) ، و"السير" (615) .
(2) "السير" (5/12) .
(3) "سير أعلام النبلاء" (5/62-63) .
(4) "السير" (5/63-64) .(1/134)
(29) صوم منصور بن المعتمر
حليف الصيام والقيام، خفيف التطعم والمنام الحافظ القدوة أبو عتاب السلمي.
قال أبو بكر بن عباس: رحم الله منصوراً كان صواماً قواماً قال الثوري: لو رأيت منصور بن المعتمر لقلت: يوم الساعة. حدّث زائدة أن منصوراً صام أربعين سنة وقام ليلها وكان يبكي فتقول له أمه يا بني قتلت قتيلاً فيقول أنا أعلم بما صنعت بنفسي فإذا كان الصبح أكحل عينيه ودهن رأسه وبرق شفته وخرج إلى الناس.
وذكر سفيان بن عيينة منصوراً فقال: قد كان عمش من البكاء، وقال سفيان أن منصور بن المعتمر صام ستين سنة يقوم ليلها ويصوم نهارها (1) .
عن مفضل قال: حبس ابن هبيرة منصوراً شهراً على القضاء يريده عليه فأبى، وقيل إنه أحضر قيداً ليقيده به ثم خلاه (2) ، وكانت أمه فظة عليه تصيح به وتقول: يا منصور يريدك ابن هبيرة على القضاء فتأبى وهو واضع لحيته على صدره ما يرفع طرفه إليها (3) .
(30) صيام سليمان بن طرخان
الإمام شيخ الإسلام، أبو المعتمر التيمي كان مقدماً في العلم والعمل (4) .
عن محمد بن عبد الأعلى قال لي معتمر بن سليمان: لولا أنك من أهلي ما حدثتك بذا عن أبي، مكث أبي أربعين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً ويصلي صلاة الفجر بوضوء عشاء الآخرة (5) .
__________
(1) "سير أعلام النبلاء" (5/404-406) ، "حلية الأولياء" (5/124) ، "مختصر قيام الليل" (28) .
(2) "السير" (5/406) .
(3) "السير" (5/405) .
(4) "سير أعلام النبلاء" (6/195) .
(5) "حلية الأولياء" (3/228) ، "السير" (6/197) .(1/135)
عن معاذ بن معاذ ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله فيها إلا وجدناه مطيعاً (1) .
قال حماد بن سلمة عن سليمان التيمي كنا نرى أنه لا يحسن يعصي الله (2) .
عن عبد الله بن المبارك قال: أقام سليمان التيمي أربعين سنة إمام الجامع بالبصرة يصلي العشاء والصبح بوضوء واحد (3) .
وعن حماد بن سلمة قال: لم يضع سليمان التيمي جنبه بالأرض - أي ليلاً عشرين سنة.
عن شعبة قال: ما رأيت أحداً أصدق من سليمان التيمي رحمه الله كان إذا حدث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تغير لونه (4) .
(31) صوم الزهري
الإمام العلم حافظ زمانه محمد بَن شهاب الزهري.
عن معاذ بن صالح أن أبا جيلة حدثه قال: كنت مع ابن شهاب في سفر وصام يوم عاشوراء، فقيل له لِمَ تصوم وأنت تفطر في رمضان في السفر؟ قال: إن رمضان له عدة من أيام أُخر وأن عاشوراء يفوت (5) .
(32) صوم ابن جريج
الإمام الحافظ شيخ الحرم أبي الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج القرشي.
قال عطاء بن أبي رباح: سيد شباب أهل الحجاز ابن جريج (6) .
__________
(1) "الحلية" (3/28) .
(2) "السير" (6/198) .
(3) "السير" (6/200) .
(4) "الحلية" (3/231) ، و"السير" (6/196) .
(5) "سير أعلام النبلاء" (5/342) .
(6) "السير" (6/328) .(1/136)
قال عبد الرزاق: ما رأيت أحسن صلاة من ابن جريج (1) .
وقال: كنت إذا رأيت ابن جريج أعلمت أنه يخشى الله (2) .
قال أبو عاصم النبيل: كان ابن جريج من العباد كان يصوم الدهر سوى ثلاثة أيام من الشهر (3) .
(33) صوم عبد الله بن عون
ابن أرطبان سيد القرآن في زمانه الإمام القدوة الحافظ عالِم البصرة، الحافظ للسانه، الضابط لأركانه.
عن خارجة بن مصعب قال: صحبت عبد الله -يعني ابن عون- أربعاً وعشرين سنة فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة (4) .
قال الذهبي كان ابن عون عديم النظر في وقته زهداً وصلاحاً.
قال ابن المبارك: ما رأيت مصلياً مثل ابن عون، وما رأيت (5) أحداً ممن ذكر لي إلا كان إذا رأيته دون ما ذكر لي إلا ابن عون وحيوة بن شريح (6) .
قال بكار بن محمد: كان ابن عون يصوم يوماً ويفطر يوماً (7) .
قال الأوزاعي: إذا مات ابن عون والثوري استوى الناس وقال: لو خيرت لهذه الأمة من ينظر لها ما اخترت إلا الثوري وابن عون.
(34) صوم داود بن أبي هند
أبي بكر الإمام الحافظ الثقة مفتي أهل البصرة (8) .
__________
(1) "السير" (6/330) .
(2) "السير" (6/332) .
(3) "السير" (6/333) .
(4) "الحلية" (3/37) .
(5) "الحلية" (3/38) .
(6) "سير أعلام النبلاء" (6/367-368) .
(7) "السير" (366) ، و"الحلية" (3/40) .
(8) "سير أعلام النبلاء" (6/376-377) واسم أبي هند دينار بن عُذافر.(1/137)
قال حماد بن زيد: ما رأيت أحداً أفقه من داود.
قال ابن جريج: ما رأيت مثل داود بن أبي هند إن كان ليفرع العلم فرعاً.
قال الفلاس: سمعت ابن أبي عون يقول: صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله -وكان خزازاً- يحمل معه غذاءه فيتصدق به في الطريق (1) .
قال ابن الجوزي: يظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت ويظن أهله أنه قد أكل في السوق (2) .
ومستفسر عن سر يومي رددته ... فأصبح في يومي بغير يقين
يقولون خبرنا فأنت أمينها ... وما أنا إن خبرتهم بأمين
قال محمد بن أبي عدي أقبل علينا داود فقال: يا فتيان أخبركم لعل بعضكم أن ينتفع به كنت وأنا غلام أختلف إلى السوق فإذا انقلبت إلى البيت جعلت على نفسي أن أذكر الله إلى مكان كذا وكذا فإذا بلغت إلى ذلك المكان جعلت على نفسي أن أذكر الله كذا وكذا حتى آتي المنزل (3) - رحمك الله يا إمام، صيام مع صدقة مع ذكر مع علم وفقه وحديث حزت الخير أجمعه.
(35) صوم ابن أبي ذئب
الإمام شيخ الإسلام أبو الحارث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب القرشي.
قال أحمد: كان يشبه بسعيد بن المسيب فقيل لأحمد خلّف مثله قال: لا ثم قال: كان أفضل من مالك إلا أن مالكاً رحمه الله أشد تنقية للرجال منه - كان يصلي الليل أجمع ويجتهد في العبادة ولو قيل له: إن القيامة تقوم غداً ما كان فيه مزيد من الاجتهاد.
قال أخوه: كان أخي يصوم يوماً ويفطر يوماً ثم سرد الصوم وكان شديد الحال
__________
(1) "السير" (6/378) .
(2) "المدهش" (435) .
(3) "السير" (6/377-378) .(1/138)
يتعشى الخبز والزيت (1) .
قال أحمد بن حنبل إن ابن أبي ذئب ثقة قد دخل على أبي جعفر المنصور فلم يهبه أن قال له الحق وقال: الظلم ببابك فاش وأبو جعفر أبو جعفر.
(36) صوم شعبة الخير أبي بسطام
سيد المحدثين كما قال سليمان بن المغيرة (2) -الضخم الذي يحدث عن الضخام- الإمام المشهور والعلم المنثور، شعبة بن الحجاج الإمام أمير المؤمنين في الحديث، كان الثوري يقول: أستاذنا شعبة.
وقال حمزة بن زياد عن شعبة: كان قد يبس جلده على عظمه من العبادة (3) .
وقال أبو بكر البكراوي: ما رأيت أعبد لله من شعبة لقد عبد الله حتى جف جلده على عظمه من العبادة (4) .
وقال عمر بن هارون: كان شعبة يصوم الدهر كله لا يرى عليه.
قال أبو قطن: كانت ثياب شعبة لونها لون التراب وكان كثير الصلاة كثير الصيام سخي النفس.
قال شعبة: كل من سمعت منه حدثنا فأنا له عبد.
قال يحيى بن معين: شعبة إمام المتقين.
وقال ابن مهدي: ما رأيت أحداً أكثر تقشفاً من شعبة.
قال عبد السلام بن مطهر: ما رأيت أمعن في العبادة من شعبة (5) .
__________
(1) "السير" (7/141) .
(2) "الحلية" (7/153) .
(3) "الحلية" (7/144) .
(4) "الحلية" (7/144) .
(5) "السير" (7/226) .(1/139)
(37) صوم غندر
الحافظ المجود الثبت أبو عبد الله محمد بن جعفر الهندلي، لزم شعبة عشرين سنة.
قال يحيى بن معين: أخرج غندر إلينا ذات يوماً جراباً فيه كتب، فقال: اجتهدوا أن تخرجوا فيه خطأ قال: فما وجدنا فيه شيئاً وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً منذ خمسين سنة (1) .
قال ابن مهدي: كنا نستفيد من كتب غندر في حياة شعبة.
وقال غندر: أثبت في شعبة مني.
(38) صوم معروف الكرخي
الملهوف إلى المعروف عن الفاني مصروف وبالباقي مشغوف وبالتحف محفوف وللطف مألوف، الكرخي أبو محفوظ معروف (2) علم الزهاد، بركة العصر أبو محفوظ البغدادي (3) .
قال ابن حنبل: وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف؟
قال ابن عبيد لإسماعيل بن شداد ما فعل ذلك الحبر الذي منكم ببغداد؟ قلنا: من هو؟ قال: أبو محفوظ معروف قلنا: بخير، قال: لا يزال أهل تلك المدينة بخير ما بقي فيهم (4) .
سُئل: كيف تصوم؟ فغالط السائل وقال: صوم نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان كذا وكذا وصوم داود كذا وكذا فألح عليه فقال: أصبح دهري صائماً فمن دعاني أكلت ولم أقل إني صائم (5) .
__________
(1) "السير" (9/99-100) .
(2) "سير أعلام النبلاء" (9/39) .
(3) "تاريخ بغداد" (13/200) ، و"طبقات الحنابلة" (1/382) .
(4) "الحلية" (8/366) ، و"تاريخ بغداد" (13/201) ، و"سير أعلام النبلاء" (9/340) .
(5) "السير" (9/341) ، "تاريخ بغداد" (13/252) .(1/140)
قال عبيد بن محمد الوراق: مرّ معروف وهو صائم بسقّاء يقول رحمه الله: من شرب فشرب رجاء الرحمة (1) .
وكان رحمه الله يقول: إن صليت بكم هذه الصلاة لا أصلي بكم ثانية نعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع خير العمل (2) .
وكان يقول إذا أراد الله بعبد شراً أغلق عنه باب العمل وفتح عليه باب الجدل (3) -.
وعنه قال: ما أكثر الصالحين وما أقل الصادقين.
(39) صوم أحمد بن حرب
الإمام القدوة شيخ نيسابور أبو عبد الله النيسابوري، كان من كبار الفقهاء والعباد (4) . من صحت بدايته صحت نهايته أجسام ذللت منذ الصغر لخدمة سيدها ومولاها.
قال زكريا بن حرب: ابتدأ أخي بالصوم وهو في الكتاب فلما راهق حج مع أخي الحسين بن حرب أقاما بالكوفة للطلب وبالبصرة وبغداد ثم أقبل على العبادة لا يفتر وأخذ من المواعظ والتذكير وحث على العبادة وأقبلوا على مجلسه (5) .
هكذا صوم منذ الصغر مثلما كان ابن حنبل يحصي الليل وهو غلام.
قال محمد بن يحيى مرّ أحمد بن حرب بصبيان يلعبون فقال أحدهم: أفسحوا فإن هذا أحمد بن حرب الذي لا ينام الليل فقبض على لحيته، وقال الصبيان: يهابونك وأنت تنام فأحيا الليل بعد ذلك حتى مات (6) .
__________
(1) "الحلية" (8/365) ، و"السير" (9/342) .
(2) "الحلية" (8/361) .
(3) "الحلية" (8/3061) ، و"السير" (6/340) .
(4) "السير" (11/32-33) .
(5) "السير" (11/33) .
(6) "السير" (11/33) .(1/141)
(40) صوم أحمد بن حنبل إمام أهل السنة
معلم الخير كما قال يحيى بن معين وقال: والله ما تقوى على ما يقوى عليه أحمد وعلى طريقة أحمد.
قال ابن المديني: أحمد بن حنبل سيدنا.
وقال: اتخذت أحمد بن حنبل إماماً فيما بيني وبين الله.
وقال: إن الله عز وجل أعز هذا الدين برجلين لا ثالث لهما أبو بكر الصديق يوم الرَّدَّة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: أحمد بن حنبل إمامنا إني لأتزين بذكره.
وقال إسحاق بن راهويه: لولا أحمد بن حنبل وبذل نفسه لما بذلها له لذهب الإسلام.
وقال بشر بن الحارث: إن هذا الرجل قام اليوم بأمر عجز عنه الخلق أتريدون أن أقوم مقام الأنبياء؟ إن أحمد بن حنبل قام مقام الأنبياء حفظ الله أحمد من بين يديه ومن خلفه ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله، إن أحمد بن حنبل طار بحظها وغنائها في الإسلام.
وقال أبو ثور: كنت إذا رأيت أحمد بن حنبل خيِل إليك أن الشريعة لوح بين عينيه.
"قال إبراهيم بن هانئ -وكان أبو عبد الله حيث توارى من السلطان توارى عنده- فحكى أنه لم يرد أحد أقوى على الزهد والعبادة وجهد النفس من أبي عبد الله أحمد بن حنبل، قال: كان يصوم النهار ويعجّل الإفطار، ثم يصلي بعد العشاء الآخرة ركعات، ثم ينام نومة خفيفة، ثم يقوم فيتطهر ولا يزال يصلي حتى يطلع الفجر، ثم يوتر بركعة، وكان هذا دأبه طول مقامه عندي، ما رأيته فتر ليلة واحدة، وكنت لا أقوى معه على العبادة، وما رأيته مفطراً إلا يوماً واحداً أفطر واحتجم" (1) .
__________
(1) "مناقب الإمام أحمد" (359) .(1/142)
* وبعد خروج الإمام أحمد إلى العسكر بعد انقضاء ما اتهم به "قال أبو بكر المروزيّ قال: قال لي أحمد بن حنبل ونحن بالعسكر: لي اليوم ثمان منذ لم آكل شيئاً ولم أشرب إلا أقل من ربع سويق، وكان يمكث ثلاثاً لا يطعم، فإذا كانت ليلة الرابعة أضع بين يديه قدر نصف ربع سويق، فربما شربه وربما ترك بعضه، وكان إذا ورد عليه أمر يهمه لم يطعم ولم يفطر إلى على شربة ماء.
قال صالح بن أحمد: جعل أبي يواصل الصوم يفطر في كل ثلاث على تمر شهرين فمكث بذلك خمسة عشر يوماً، يفطر في كل ثلاث، ثم جعل بعد ذلك يفطر ليلة وليلة لا يفطر إلا على رغيف.
وكان إذا جيء بالمائدة توضع في الدهليز لكي لا يراها فيأكل من حضر، وكان إذا أجهده الحر تلقى له خرقة فيضعها على صدره (1) .
قال أبو بكر المروزي: أنبهني أبو عبد الله ذات ليلة، وكان قد واصل، فإذا هو قاعد فقال: هو ذا يدار بي من الجوع فأطعمني شيئاً فجئته بأقل من رغيف، فأكل ثم قال: لولا أني أخاف العون على نفسي ما أكلت، وكان يقوم من فراشه إلى المخرج، فيقعد يستريح من الضعف من الجوع، حتى إن كنت لأبل له الخرقة فيلقيها على وجهه لترجع إليه نفسه.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: مكث أبي بالعسكر عند الخليفة ستة عشر يوماً، ما ذاق شيئاً إلا مقدار ربع سويق، في كل ليلة كان يشرب شربة ماء، وفي كل ثلاث يستف حفنة من السويق، فرجع إلى البيت ولم ترجع إليه نفسه إلا بعد ستة أشهر، ولرأيت مآقية قد دخلا في حدقتيه.
وقال أبو بكر المروزي: كان أبو عبد الله بالعسكر يقول: انظر هل تجد لي ماء الباقلاء؟ فكنت ربما بللت خبزه بالماء فيأكله بالملح، ومنذ دخلنا العسكر إلى أن خرجنا ما ذاق طبيخاً ولا دسماً (2) .
__________
(1) "مناقب الإمام أحمد" (449، 450) .
(2) "مناقب الإمام أحمد" (454، 455) .(1/143)
قال أبو بكر المروزي: قال لي أبو عبد الله ونحن بالعسكر: ألا تعجب! كان قوتي فيما مضى أرغفة؛ وقد ذهبت عني شهوة الطعام فما أشتهيه، قد كنت في السجن آكل وذلك عندي زيادة في إيماني وهذه نقصان، وقال لنا يوماً ونحن بالعسكر: لي اليوم ثمان لم آكل شيئاً ولم أشرب إلا أقل من ربع سويق، وكان يمكث ثلاثاً لا يطعم وأنا معه، فإذا كان الليلة الرابعة أضع بين يديه قدر نصف ربع سويق، فربما شربه وربما ترك بعضه.
وكلم في أمره في الحمل على نفسه فقيل له: لو أمرت بقدر تطبخ لك ليرجع إليك نفسك فقال: الطبيخ طعام المطمئنين، مكث أبو ذر ثلاثين يوماً ما له طعام إلا ماء زمزم، وهذا إبراهيم التيمي كان يمكث في السجن كذا وكذا لا يأكل، وهذا ابن الزبير كان يمكث سبعاً (1) .
كتب المتوكل إلى خلفيته أن يحمل أحمد إليه، فحمل إليه، فلما قدم أحمد أمر أن يفرغ له قصر ويبسط له فيه ويجري على مائدته كل يوم كذا وكذا، وأراد أن يسمع ولده الحديث فأبى أحمد ولم يجلس على بساطه، ولم ينظر إلى مائدته وكان صائماً، فإذا كان عند الإفطار أمر رفيقه الذي معه أن يشتري له ماء الباقلاء فيفطر عليه، فبقي أياماً على هذه الحال، وكان علي بن الجهم من أهل السنة حسن الرأي في أحمد، فكلم أمير المؤمنين فيه، وقال: هنا رجل زاهد لا ينتفع به، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن له؟ ففعل ورجع أحمد إلى منزله" (2) .
(41) صوم إبراهيم بن هانئ النيسابوري
الإمام العلم أبو إسحاق النيسابوريّ.
قال الخطيب: "كان أحد الأبدال" (3) .
قال الإمام أحمد: "إن يكن أحد ممن يعرف من الأبدال فإبراهيم بن هانئ".
__________
(1) "المناقب" (456) .
(2) "المناقب" (457، 458) .
(3) "تاريخ بغداد" (6/204) .(1/144)
وقال. إن كان ببغداد رجل من الأبدال فأبو إسحاق النيسابوريّ (1) .
قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ: كان أحمد بن حنبل مختفياً هاهنا عندنا في الدار فقال لي أحمد بن حنبل: لست أطيق ما يطيق أبوك -يعني من العبادة-.
ولو لم يكن هذا الإمام الجبل من الفضل إلا ما قاله إمام أهل السنة فيه لكفاه فخراً إلى يوم أن يرث الأرض ومن عليها.
هذا الإمام الصوّام الذي مات وهو صائم.
قال أبو بكر النيسابوري: حضرت إبراهيم بن هانئ عند وفاته فجعل يقول لابن إسحاق: يا أبا إسحاق ارفع الستر قال: يا أبت الستر مرفوع، قال: أنا عطشان فجاءه بماء قال: غابت الشمس؟ قال: لا، قال: فردّه، ثم قال: لمثل هذا فليعمل العاملون ثم خرجت روحه.
وفي "صفة الصفوة": فدعا ابنه إسحاق فقال: هل غربت الشمس؟ قال: لا، ثم قال: يا أبت رُخص لك في الإفطار في الفرض وأنت متطوع، قال: أمهل ثم قال: (لمثل هذا فليعمل العاملون) ثم خرجت نفسه" (2) .
رحمك الله يا أبا إسحاق فقد كنت نسيجاً وحدك في صومك وعبادتك.
(42) صوم أحمد بن سليمان أبو بكر النجاد
من كبار علماء الحنابلة في جمع العلم والزهد، وكانت له حلقة بجامع المنصور، يفتي قبل الصلاة، ويملي الحديث بعدها.
وصنف كتاب "الخلاف" نحو مائتي جزء، وقد سمع من أبي داود السجستاني وغيره.
وكان يصوم الدهر ويفطر كل ليلة على رغيف (3) .
__________
(1) "تاريخ بغداد" (6/205) .
(2) "تاريخ بغداد" (6/206) ، و"صفة الصفوة" (2/401) .
(3) "مناقب الإمام أحمد" (167، 618) .(1/145)
(43) صوم بقي بن مخلد
الإمام القدوة، شيخ الإسلام الحافظ، صاحب "التفسير" و"المسند" الذين لا نظير لهما، تلميذ الإمام أحمد.
قال عنه الذهبي: كان إماماً مجتهداً صالحاً، ربانيّاً صادقاً مخلصاً، رأساً في العلم والعمل، عديم المثل، منقطع القرين، يُفتي بالأثر، ولا يقلد أحداً.
قد ظهرت له إجابات الدعوة في غير ماشيء (1) .
قال عنه أبو عبد الملك أحمد بن محمد بن عبد البر: "كان فاضلاً تقياً صواماً قواماً متبتلاً، منقطع القرين في عصره، منفرداً عن النظير في عصره" (2) .
ذكر أبو عبيدة صاحب القبلة قال: "كان بقيّ يختم القرآن كل ليلة ثلاث عشرة ركعة، وكان يصلي بالنهار مئة ركعة، ويصوم الدهر، وكان كثير الجهاد، فاضلاً، يُذكر عنه أنه رابط اثنتين وسبعين غزوة" (3) .
قال عند حفيده عبد الرحمن: "كان جدي قد قسّم أيامه على أعمال البر، فكان إذا صلى الصبح قرأ حزبه من القرآن في المصحف، سدس القرآن، وكان أيضاً يختم القرآن في الصلاة في كل يوم وليلة، ويخرج كل ليلة في الثلث الأخير إلى مسجده، فيختم قرب انصداع الفجر، وكان يصلي بعد حزبه من المصحف صلاة طويلة جداً، ثم ينقلب إلى داره -وقد اجتمع في مسجده الطلبة- ليجدد الوضوء ويخرج إليهم، فإذا انقضت الدول، صار إلى صومعة المسجد، فيصلي إلى الظهر، ثم يكون هو المتبدئ بالأذان، ثم يهبط، ثم يسمع إلى العصر، ويصلي ويُسمع، روبما خرج في بقية النهار، فيقعد بين القبور يبكي ويعتبر، فإذا غربت الشمس أتى مسجده ثم يصلي، ويرجع إلى بيته فيفطر، وكان يسرد الصوم إلا يوم الجمعة،
__________
(1) "سير أعلام النبلاء" (13/286، 287) .
(2) "سير أعلام النبلاء" (13/289) .
(3) "سير أعلام النبلاء" (13/292) .(1/146)
ويخرج إلى المسجد، فيخرج إليه جيرانه، فيتكلم معهم في دينهم ودنياهم، ثم يصلي العشاء، ويدخل بيته فيحدث أهله، ثم ينام نومة قد أخذتها نفسه، ثم يقوم، هذا إلى أن توفي" (1) .
(44) صوم المنبجي
الإمام المحدث، القدوة العابد، أبو بكر عمر بن سعيد الطائي المنبجي، قال عنه ابن حبان: "كان قد صام النهار وقام الليل ثمانين سنة، غازياً مرابطاً رحمه الله" (2) .
كذاك الفخر يا همم الرجال ... تعافي فانظري كيف التعالي
(45) صوم ابن زياد النيسابوري
الإمام الحافظ شيخ الإسلام أبي بكر عبد الله بن محمد بن زياد إمام الشافعيين في عصره بالعراق.
قال الدارقطني تلميذه: ما رأيت أحفظ من أبي بكر النيسابوري.
قال أبو الفتح يوسف القواس: سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: تعرف من أقام أربعين سنة لم ينم الليل، ويتقوت كل يوم بخمس حبات ويصلي صلاة الغداة على طهارة عشاء الآخرة؟ ثم قال: أنا هو، وهذا كله قبل أن أعرف أم عبد الرحمن، أيش أقول لمن زوّجني؟ ثم قال: ما أراد إلا الخير" (3) ، ومعنى يتقوت كل يوم بخمس حبات أي بعد صيامه.
(46) صوم القطان
الإمام الحافظ القدوة، شيخ الإسلام أبي الحسن القطان عالم قزوين قال عنه جماعة من شيوخ قزوين:
__________
(1) "سير أعلام النبلاء" (13/295) .
(2) "سير أعلام النبلاء" (14/290) .
(3) "تاريخ بغداد" (10/122) ، "سير أعلام النبلاء" (15/66) .(1/147)
لم ير أبو الحسن رحمه الله مثل نفسه في الفضل والزهد أدام الصيام ثلاثين سنة، وكان يفطر على الخبز والملح، وفضائله أكثر من أن تعد (1) .
(47) صوم ابن بطة
الإمام القدوة العابد الفقيه المحدث شيخ العراق العكبري الحنبلي صاحب "الإبانة الكبرى".
قال الخطيب: "لما رجع ابن بطة من الرحلة لازم بيته أربعين سنة، لم يُر في سوق ولا رؤي مفطر إلا في عيد، وكان أمَّاراً بالمعروف، لم يبلغه خبر منكر إلا غيره" (2) .
قال العتيقي: كان ابن بطة مستجاب الدعوة.
قال أبو محمد الجوهري: سمعت أخي الحسين، يقول: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنام، فقلت: يا رسول الله قد اختلفت عليّ المذاهب، فقال: عليك بابن بطة، فأصبحت ولبست ثيابي، ثم أصعدت إلى عُكبرا، فدخلت وابن بطة في المسجد، فلما رآني قال لي: صدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (3) .
(48) صوم ابن جميع
المسند الرّحال العالم الصالح محمد بن أحمد بن جُمَيع الغسّاني الصيداوي صاحب "المعجم".
قال ابنه: "صام أبي أبو الحسين وله ثمان عشرة سنة إلى أن توفي، وقد عاش ستاً وتسعين سنة" (4) .
وكذا كان والده أبو بكر عابداً صوّاماً.
__________
(1) "سير أعلام النبلاء" (15/464) .
(2) "تاريخ بغداد" (10/372) ، و"سير أعلام النبلاء" (16/529، 530) .
(3) "سير أعلام النبلاء" (16/530) .
(4) "سير أعلام النبلاء" (17/155، 156) .(1/148)
سبحان الله يسرد الصوم ثمانية وسبعين سنة لا يفطر إلا في العيدين وأيام التشريق.
(49) صوم السكن ابن جميع
أبي محمد. قال: سردت الصوم ولي ثمان وعشرون سنة ولي الآن سبع وثمانون سنة، وكذا سرد الصوم أبي وجدي (1) .
وهل ينبت الخطيّ إلا وشيجه ... ويزرع إلا في منابته النخل
(50) صوم الصوري
الإمام الحافظ البارع الحجة أبي عبد الله محمد بن علي بن رحيم الشامي الصوري تلميذ الحافظ عبد الغني.
كان رحمه الله يسرد الصوم إلا الأعياد (2) .
(51) صوم الدوني
الشيخ العالم الزاهد أبي محمد عبد الرحمن بن حمد الدوني.
وهو آخر من روى كتاب "المجتبى" من سنن النسائي.
قرأ عليه السلفي كتاب النسائي.
قال السلفي: قال ابنه أبو سعد لي: لوالدي خمسون سنة ما أفطر النهار (3)
(52) صوم العماد المقدسي
العالم، الإمام، الزاهد، القدوة، بركة الوقت، عماد الدين أبو إسحاق إبراهيم المقدسي أخو الحافظ عبد الغني.
__________
(1) "سير أعلام النبلاء" (17/157) .
(2) "سير أعلام النبلاء" (17/628) .
(3) "سير أعلام النبلاء" (19/240) .(1/149)
كان الشيخ الموفق يقول: ما نقدر نعمل مثل العماد.
قال الضياء: لم أر أحداً أحسن صلاة منه ولا أتم خشوع وخضوع، قيل: كان يسبح عشراً يتأنى فيها، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان إذا دعا كان القلب يشهد بإجابة دعائه من كثرة ابتهاله وإخلاصه، ومن دعائه المشهور: "اللهم اغفر لأقسانا قلباً، وأكبرنا ذنباً، وأثقلنا ظهراً، وأعظمنا جرماً".
"يا دليل الحيارى دلنا على طريق الصادقين واجعلنا من عبادك الصالحين".
قال عنه الموفق: ما أعلم أنني رأيت أشد خوفاً منه (1) .
(53) صوم ثابت البناني
المتعبد الناحل، والمتهجد الذابل أبي محمد.
قال عنه أنس: إن للخير مفاتيح, وإن ثابتاً مفتاح من مفاتيح الخير.
قال شعبة: كان ثابت يقرأ القرآن في يوم وليلة، ويصوم الدهر.
قال بكر بن عبد الله: من أراد أن ينظر إلى أعبد أهل زمانه فلينظر إلى ثابت البناني فما أدركت الذي هو أعبد منه، إنه ليظل في اليوم المعمعاني (2) الطويل ما بين طرفيه صائماً يروح ما بين جبهته وقدمه (3) .
وكان رحمه الله يقول: لا يسمى عابد أبداً عابداً، وإن كان فيه كل خصلة خير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان، الصوم والصلاة، لأنهما من لحمه ودمه (4) .
قال المبارك بن فضالة: دخلت على ثابت البناني في مرضه وهو في علوله، وكان لا يزال يذكر أصحابه فلما دخلنا عليه، قال: يا إخوتاه لم أقدر أن أصلي البارحة كما كنت أصلي، ولم أقدر أن أصوم كما كنت أصوم، ولم أقدر أن أنزل
__________
(1) "سير أعلام النبلاء" (22/48, 49) .
(2) في "النهاية": كان ابن عمر يتتبع اليوم المعمعاني فيصومه، أي الشديد الحر.
(3) "حلية الأولياء" (2/318) .
(4) "حلية الأولياء" (2/318) .(1/150)
إلى أصحابي فأذكر الله عز وجل كما كنت أذكره معهم، ثم قال: اللهم إذ حبستني عن ثلاث فلا تدعني في الدنيا ساعة، [أو قال] إذ حبستني أن أصلي كما أريد وأصوم كما أريد وأذكرك كما أريد فلا تدعني في الدنيا ساعة، فمات من وقته رحمه الله (1) .
يرحم الله ثابتا.. وأقر عينه في جناته.
(54) صوم سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري فقيه العصر، صائم الدهر، المتعبد القارئ، الكاسي العاري سعد بن إبراهيم الزهري.
قال شعبة: كان سعد بن إبراهيم يصوم الدهر (2) .
كان رحمه الله يحتبي فما يحل حبوته حتى يقرأ القرآن.
قال إبراهيم بن سعد: كان أبي سعد بن إبراهيم إذا كانت ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين لم يفطر، حتى يختم القرآن، وكان يفطر فيما بين المغرب والعشاء الآخرة، وكان يفطر فيما بين المغرب والعشاء الآخرة، وكان كثيراً إذا أفطر يرسلني إلى مساكين يأكلون معه (3) .
(55) صوم وكيع بن الجراح
النصّاح والمفهم المفصاح أبو سفيان وكيع بن الجراح!، الإمام الحافظ الرؤاسي محدث العراق، كان من بحور العلم وأئمة الحفظ.
قال يحيى بن معين: وكيع في زمانه كالأوزاعي في زمانه.
__________
(1) "حلية الأولياء" (2/320) .
(2) "حلية الأولياء" (3/169) .
(3) "حلية الأولياء" (3/170) .(1/151)
قال الإمام أحمد: ما رأيت قط مثل وكيع في العلم والحفظ والإسناد والأبواب مع خشوع وورع.
وقال عنه وكيع: إمام المسلمين في زمانه.
قال له الفضيل بن عياض: ما هذا السمن، وأنت راهب العراق؟ قال: هذا من فرحي بالإسلام فأفحمه (1) .
قال يحيى بن أكثم: صحبت وكيعاً في الحضر والسفر، وكان يصوم الدهر، ويختم القرآن كل ليلة (2) .
قال الذهبي: "رضي الله عن وكيع وأين مثل وكيع" (3) .
قال ابن عمار: كان وكيع يصوم الدهر، ويفطر يوم الشك والعيد (4) .
* كان وكيع لا ينام حتى يقرأ جزءه من كل ليلة ثلث القرآن، ثم يقوم في آخر الليل، فيقرأ المفصل، ثم يجلس فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر.
قال أبو جعفر الجمّال: أتينا وكيعاً فخرج بعد ساعة، وعليه ثياب مغسولة، فلما بصرنا به، فزعنا من النور الذي يتلألأ من وجهه، فقال رجل بجنبي: أهذا ملك؟ فتعجبنا من ذلك النور (5) .
(56) صوم أبي بكر بن عيّاش
القارئ الهشاش، العابد البشاش أبو بكر بن عياش كان في العداد واحداً، وفى العبادة شاهداً (6) .
كان رحمه الله يقول: يا ملكيّ ادعوا الله لي فإنكما أطوع لله مني وكان
__________
(1) "سير أعلام النبلاء" (9/156) .
(2) "سير أعلام النبلاء" (9/142) .
(3) "سير أعلام النبلاء" (9/143) .
(4) "سير أعلام النبلاء" (9/149) .
(5) "سير أعلام النبلاء" (9/157) .
(6) "حلية الأولياء" (8/303) .(1/152)
رحمه الله يقول: إن أحدهم لو سقط منه درهم لظل يوم يقول: إنا لله، ذهب درهمي، ولا يقول ذهب يومي ما عملت فيه (1) .
قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (1/79) : "هو الإمام المجمع على فضله".
روينا عن ابنه إبراهيم قال: قال لي أبي: إن أباك لم يأت بفاحشة قط، وإنه يختم القرآن منذ ثلاثين سنة كل يوم مرة.
وروينا عنه أنه قال لابنه: يا بنيّ إياك أن تعصي الله في هذه الغرفة، فإني ختمت فيها اثني عشر ألف ختمة.
وروينا عنه أنه قال لبنته عند موته وقد بكت: يا بنية لا بتكي، أتخافين أن يعذبني الله تعالى وقد ختمت في هذه الغرفة أربع وعشرين ألف ختمة.
قال الحافظ ابن حجر في ترجمته:
"ولد سنة 95 أو 96، ومات سنة 193، وكان قد صام سبعين سنة وقامها، وكان لا يعلم له بالليل نوم" (2) .
(57) صوم جعفر بن الحسن الدرزيجاني المقرئ
الزاهد الفقيه الحنبلي.
قال عنه الحافظ ابن رجب: "كان من عباد الله الصالحين، أمّاراً بالمعروف، نهّاء عن المنكر، وله المقامات المشهورة في ذلك.
كان مداوماً على الصيام والتهجد والقيام، وله ختمات كثيرة جداً، كل ختمة منها في ركعة، توفي في الصلاة ساجداً سنة 506 رحمه الله تعالى (3) .
__________
(1) "حليهّ الأولياء" (8/303) .
(2) "تهذيب التهذيب" (12/36) ، وانظر أيضاً "الثبات عند الممات" (109) .
(3) "ذيل طبقات الحنابلة" (1/110) .(1/153)
(58) صوم رحلة العابدة مولاة معاوية
عن سعيد بن عبد العزيز قال: ما بالشام ولا بالعراق أفضل من رحلة ودخل عليها نفر من القرّاء، فكلموها في الرفق بنفسها فقالت: "ما لي وللرفق بها؟ فإنما هي أيام مبادرة، فمن فاته اليوم شيء لم يدركه غداً، والله يا إخوتاه لأصلين ما أقلتني جوارحي، ولأصومن له أيام حياتي، ولأبكين له ما حملت الماء عيناي" ثم قالت: أيكم يأمر عبده بأمر فيحب أن يقصر فيه، ولقد قامت رحمها الله حتى أقعدت، وصامت حتى اسودت، وبكت حتى عمشت، وكانت تقول "علمي بنفسي قرّح فؤادي، وكلم قلبي، والله لوددت أن الله لم يخلقني ولم أك شيئاً مذكوراً".
وكانت رحمها الله تخرج إلى الساحل فتغسل ثياب المرابطين فى سبيل الله (1) .
(59) صوم ميمونة بنت الأقرع
عابدة زاهدة كتبت عن الإمام أحمد بن حنبل أشياء، وأخبر المروزي فقال: ذكرت لأحمد بن حنبل ميمونة بنت الأقرع فقلت له: "إنها أرادت أن تبيع غزلها فقالت للغزال: إذا بعت هذا الغزل فقل إني ربما كنت صائمة فأرخي يدي فيه، ثم ذهبت ورجعت فقالت: رد عليّ الغزل أخاف ألا تبين للغزال هذا" (2) .
(60) صوم أبي حنيفة
عن الحسن بن عمارة أنَّه غسل حين توفي وقال: غفر الله له، لم تفطر منذ ثلاثين سنة، ولم تتوسد يمينك في الليل منذ أربعين سنة (3) .
__________
(1) "صفة الصفوة" (4/40، 41) .
(2) "أعلام النساء" لعمر رضا كحالة (5/138) نقلاً عن طبقات الفقهاء الحنابلة للفرّاء (مخطوط) .
(3) "إقامة الحجة على أن الإكثار من التعبد ليس ببدعة" (ص 77) .(1/154)
(61) صوم محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي وهب
قال الواقدي: كان يصلي الليل أجمع ويجتهد في العبادة، فلو قيل له أن القيامة تقوم غداً ما كان فيه يزيد الاجتهاد، وقال أخوه: أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ثم سرده (1) .
(62) صوم الملك العادل نور الدين محمود زنكي
الشهيد بن الشهيد والقسيم بن القسيم.
قال ابن كثير: "صاحب بلاد الشام وغيرها من البلدان الكثيرة الواسعة، كان مجاهداً في الفرنج، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، محباً للعلماء والفقراء والصالحين، مبغضاً للظلم، صحيح الاعتقاد، مؤثراً لأفعال الخير، لا يجسر أحد أن يظلم أحداً في زمانه، وكان قد قمع المناكر وأهلها، ورفع العلم والشرع، وكان مدمناً لقيام الليل، يصوم كثيراً ويمنع نفسه من الشهوات، وكان يحب التيسير على المسلمين، ويرسل البر إلى العلماء الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل، وليست الدنيا عنده بشيء رحمه الله وبلّ ثراه بالرحمة والرضوان".
قال ابن الجوزي: استرجع نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله تعالى من أيدي الكفار نيفاً وخمسين مدينة.
"وكان قد عزم على فتح بيت المقدس شرفه الله فوافته المنية في شوال من هذه السنة (569 هـ) والأعمال بالنيات فحصل له أجر ما نوى" (2) .
"وكان نور الدين يأمر الولاة والأمراء في الموصل ألا يفعلوا أمراً حتى يعلموا به الشيخ عمر الملا من الموصل وكان من الصالحين الزهاد، وكان نور الدين يستقرض
__________
(1) "العبر" (1/231) ، واليافعي في "مرآة الجنان" (1/340) .
(2) "البداية والنهاية" (12/306-307) .(1/155)
منه في كل رمضان ما يفطر عليه، وكان يرسل إليه بفتيت ورقاق فيفطر عليه جميع رمضان" (1) .
يرحم الله نور الدين لا يطعم ولا يفطر في رمضان على طعام المملكة بل يفطر على طعام شيخه.
وهو الذي قال عنه ابن الأثير: "لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز مثل الملك نور الدين، ولا أكثر تحريّاً للعدل والإنصاف منه، وكان مقتصداً في الإنفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس، وكانت له دكاكين بحمص قد اشتراها مما يخصه من المغانم، فكان يقتات منها".
كتب إليه الشيخ عمر بن الملا هذا: "إن المفسدين قد كثروا، ويحتاج إلى سياسة، ومثل هذا لا يجيء إلا بقتل وصلب وضرب، وإذا أخذ إنسان في البرية من يجيء ويشهد له؟ فكتب إليه الملك نور الدين على ظهر كتابه: إن الله خلق الخلق وشرع لهم شريعة وهو أعلم بما يصلحهم، ولو علم أن في الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها لنا، فلا حاجة بنا إلى الزيادة على ما شرعه الله تعالى فمن زاد فقد زعم أن الشريعة ناقصة فهو يكملها بزيادته، وهذا من الجرأة على الله وعلى ما شرعه، والعقول المظلمة لا تهتدي، والله سبحانه يهدينا وإياك إلى صراط مستقيم، فلما وصل الكتاب إلى الشيخ عمر الملا جمع الناس بالموصل وقرأ عليهم الكتاب وجعل يقول انظروا إلى كتاب الزاهد إلى الملك، وكتاب الملك إلى الزاهد".
فألبس الله هاتيك العظام وإن ... بلين تحت الثرى عفوا وغفرانا
سقى ثرى أودعوه رحمة ملأت ... مثوى قبورهم روحاً وريحاناً
ويرحم الله من يقول:
ومدرسة ستدرس كل شيء ... وتبقى في حمى علم ونسك
تضوع ذكرها شرقاً وغرباً ... بنور الدين محمود بن زنكي (2)
__________
(1) "البداية والنهاية" (12/302) .
(2) "البداية والنهاية" (12/299-307) .(1/156)
(63) صوم الشيخ الورع علي العياش: يصوم يوماً ويفطر يوما
"الشيخ الصالح الورع المجدّ على العبادة ليلا ونهارا. كان من أجل أصحاب سيدي أبي العباس الغمري وسيدي إبراهيم المتبولي كان يصوم يوماً ويفطر يوماً" (1) .
ونختم بختام المسك من آل هاشم.
(64) صوم السيدة المكرمة الصالحة نفيسة ابنة الحسن بن زيد ابن السيد سبط النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي (رضي الله عنهما) العلوية الحسنية
"كانت رحمها الله وأكرمها بين الصالحات العوابد، زاهدة، تقية نقية، تقوم الليل، وتصوم النهار حتى قيل لها: "ترفقي بنفسك" لكثرة ما رأوا منها فقالت: "كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلا الفائزون؟ " حجت ثلاثين حجة وكانت تحفظ القرآن وتفسيره (2) .
قال عنها ابن كثير: "كانت عابدة زاهدة كثيرة الخير".
"توفيت رحمها الله تعالى وهي صائمة، فألزموها الفطر، فقالت: "واعجباه! أنا منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه صائمة، أأفطر الآن هذا لا يكون" وخرجت من الدنيا، وقد انتهت قراءتها إلى قوله: (قل لمن ما في السموات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة) (3) .
ويرحم الله من قال:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
قوم أبوهم [علي] حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
__________
(1) "الكواكب السائرة" (2/222) .
(2) "عودة الحجاب" (2/607-608) .
(3) "مرآة الزمان" (82) .(1/157)
إنس إذا أمنوا جن إذا فزعوا ... مُرزَّءون بهاليل إذا حشدوا
محسدون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله منهم ما له حسدوا
قال عمر: "أحسن، وما أعلم أحداً أولى بهذا الشعر من هذا الحي من بني هاشم لفضل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقرابتهم منه" (1) .
ونختم سادات الصائمين بالعجب العجاب:
(65) زيد بن بندار بن زيد أبو النخاني يصوم هو وابنه وامرأته نحو أربعين سنة
رحم الله أبا جعفر زيد بن بندار بن زيد أبو النخاني.. "كان من العابدين" (2) ، قال عنه أبو نعيم الأصبهاني: "من الفقهاء، صام نحو أربعين سنة هو وابنه وامرأته توفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين" (3) .
أخي: هل سمعت بأعجب من هذا ... رحمهم الله أهل بيت عابدين ... ما سمعنا بمثل قصتهم هذه أبدا.
***
__________
(1) "تاريخ الطبري" (2/577-578) ، والبيت الثاني في الأصل قوم أبوهم سنان بدلا من عليّ.
(2) "طبقات المحدثين بأصبهان" لأبي الشيخ الأصبهاني (ج 3/229) مؤسسة الرسالة.
(3) كتاب "تاريخ أصبهان" لأبي نعيم الأصبهاني (1/377) - دار الكتب العلمية.(1/158)
الباب السادس
بين يدي رمضان(1/159)
إذا العشرون من شعبان ولت
يا إخوتاه ليس من رغب إلى الله كمن رغب عن الله -ليس من بقي مع الله كمن بقي عن الله- ليس من عمره كله رمضان كمن عمره كله للجشاء والطعام فمن الناس قوم قبل رمضان يأخذون بحظ أنفسهم من الشهوات والأكل ويقولون هي أيام توديع للأكل والطعام.
وربما لم يقتصر كثير منهم على اغتنام الشهوات المباحة بل يتعدى إلى المحرمات وهذا هو الخسران المبين، وأنشد لبعضهم:
إذا العشرون من شعبان ولت ... فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار ... فإن الوقت ضاق على الصغار
ونرد عليه:
إذا العشرون من شعبان ولت ... فواصل ذكر ليلك بالنهار
وقال آخر:
جاء شعبان منذراً بالصيام ... فاسقياني راحا بماء الغمام
ومن كانت هذه حاله فالبهائم أعقل منه وله نصيب من قوله: (وقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها) الآية وربما تكره كثير منهم بصيام رمضان حتى أن بعض السفهاء من الشعراء كان يسبه وكان للرشيد ابن سفيه فقال مرة شعراً:
دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ... ولا صمت شهرا بعده آخر الدهر
فلو كان يعديني الأنام بقدرة ... على الشهر لاستعديت جهدي على الشهر
فأخذه داء الصرع فكان يصرع في كل يوم مرات متعددة ومات قبل أن يدركه رمضان آخر.(1/161)
وهؤلاء السفهاء يستثقلون رمضان لاستثقالهم العبادات فيه من الصلاة والصيام فكثير من هؤلاء الجهال لا يصلي إلا في رمضان إذا صام.
وكثير منهم لا يجتنب كبائر الذنوب إلا في رمضان فيطول عليه ويشق على نفسه مفارقتها لمألوفها فهو يعد الليالي ليعود إلى المعصية وهؤلاء مصرون على ما فعلوا وهم يعلمون.
كما يقول قائلهم أحمد شوقي:
رمضان ولى هاتها يا ساقي ... مشتاقة تسعى إلى مشتاق
وحكاية محمد بن هارون البلخي مشهورة وقد رويت من وجوه وهو أنه كان مصرّاً على شرب الخمر فجاء في آخر يوم من شعبان وهو سكران فعاتبته أمه وهي تسجر تنوراً فحملها فألقاها في التنور فاحترقت وكان بعد ذلك قد تاب وتعبد فرؤي له في النوم أن الله قد غفر للحاج كلهم سواه، فمن أراد الله به خيراً حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان فصار من الراشدين، ومن أراد به شرّاً خلى بينه وبين نفسه فأتبعه الشيطان فحبب إليه الكفر والفسوق والعصيان فكان من الغاوين - فالحذر الحذر من المعاصي فكم سلبت من نعم وكم جلبت من نقم وكم خربت من ديار وكم أخلت ديارا من أهلها فما بقي منهم ديّار، كم أخذت من العصاة بالثمار، كم محت لهم من آثار.
يا صاحب الذنب لا تأمن عواقبه ... عواقب الذنب تخشى وهي تنتظر
فكل نفس ستجزى بالذي كسبت ... وليس للخلق من ديانهم وزر (1)
فيا من ذنوبه كثيرة لا تُعدّ، ووجه صحيفته بمخالفته قد اسودّ، كم ندعوك إلى الصيام وتأتي إلى الصدّ، أما الموت قد سعى نحوك وجدّ، أما عزم أن يلحق بالأب والجد، أما ترى منعما أترب الثرى منه الخد، فاحذر أن يأتي على العاصي فإنه إذا أتى أبى الرد.
__________
(1) "لطائف المعارف" بتصرف (ص 153-154) .(1/162)
ألم يأن تركي ما عليّ ولا ليَا ... وعَزْمي على ما فيه إصلاح حاليا
وقد نال مني الدهر وابيض مفرقي ... بكرّ الليالي والليالي كما هيا
أصوّتُ بالدنيا وليست تجيبني ... أحاول أن أبقى وكيف بقائيا
وما تبرح الأيام تحذف مدتي ... بعد حساب لا كعدّ حسابيا
أليس الليالي غاصباتي مهجتي ... كما غصبت قبلي القرون الخواليا
وتسكنني لحداً لدى حفرة بها ... يطول إلى أخرى الليالي ثُوائيا
فيا ليتني من بعد موتي ومبعثي ... أكون ترابًا لا عليّ ولا ليَا
فاغتنموا إخواني زمنكم، وبادروا بالصحة سقمكم، واحفظوا أمانة التكليف لمن أمنكم، وكأنكم بالحميم وقد دفنكم، وبالعمل في القبر قد ارتهنكم (1) ؟
أين حال هؤلاء الحمقى من قوم كان دهرهم كله رمضان ليلهم قيام ونهارهم صيام؟!
باع قوم من السلف جارية فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له ويستعدون بالأطعمة وغيرها، فسألتها فقالوا نتهيأ لصيام رمضان فقالت وأنتم لا تصومون إلا رمضان! لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان ردوني عليهم.
باع الحسن بن صالح جارية له فلما انتصف الليل قامت فنادتهم يا أهل الدار الصلاة الصلاة، قالوا طلع الفجر؟ قالت: وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة!! ثم جاءت الحسن فقالت: بعتني إلى قوم لا يصلون إلا المكتوبة ردني ردني.
قيل لبشر إن قوماً يتعبدون ويجتهدون في رمضان فقط فقال: بئس القوم لا يعرفون لله حقّاً إلا في رمضان، إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنة كلها.
وقيل لأحد الصالحين أيهما أفضل رجب أو شعبان فقال: كن ربانيّاً ولا تكن شعبانيّاً.
قال بعض السلف: صم الدنيا، واجعل فطرك الموت، الدنيا كلها شهر
__________
(1) "التبصرة" (2/266-267) .(1/163)
رمضان، المتقون يصومون فيه عن الشهوات المحرمات فإذا جاءهم الموت فقد انقضى شهر صيامهم واستهلوا عيد فطرهم.
وقد صمت عن لذّاتِ دهري كلها ... ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي
من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته، ومن تعجّل ما حرم عليه قبل وفاته عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته. شاهد ذلك قوله: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) [الأحقاف: 20] (1) .
التهنئة بقدوم رمضان
"كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبشر أصحابه بقدوم رمضان كما أخرجه الإمام أحمد، والنسائي فعن أبي قلابة عن أبي هريرة قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبشر أصحابه "قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه، يفتح فيه أبواب الجنة ويغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم" (2) .
قال ابن رجب: "هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان، كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران، كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشيطان.
من أين يشبه هذا الزمان زمان؟!
قال معلى بن الفضل: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم.
وقال يحيى بن أبي كثير: "كان من دعائهم اللهم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني متقبلا".
__________
(1) "لطائف المعارف" (ص 154-155) .
(2) إسناده صحيح: "رواه النسائي والبيهقي، كلاهما عن أبي قلابة، انظر "مسند أحمد" (7148، 9493، 8979) تحقيق شاكر، عن أبي هريرة، قال الشيخ أحمد شاكر في التعليق على مسند أحمد (7148) ، إسناده صحيح، وفى "التهذيب" يقال أنه لم يسمع من أبي هريرة ولم أجد ما يؤيد هذا، وأبو قلابة -عبد الله بن زيد- لم يعرف بتدليس والمعاصرة كافية في الحكم بوصل الإسناد.(1/164)
بلوغ شهر رمضان وصيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه.
عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: "كان رجلان من بلى من قضاعة أسلما مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستشهد أحدهما وأُخِّر الآخر سنة قال طلحة بن عبيد الله: فأريت الجنة فرأيت فيها المؤخر منهما أدخل قبل الشهيد فعجبت لذلك فأصبحت فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو ذُكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أليس قد صام بعده رمضان، وصلى ستة آلاف ركعة أو كذا وكذا ركعة صلاة السنة" (1) .
عن أبي سلمة، عن طلحة بن عبيد الله أن رجلين من بَليِّ قدما على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان إسلامهما جميعا: فكان أحدهما أشد اجتهاداً من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي.
قال طلحة: فرأيت في المنام: بينا أنا عند باب الجنة، إذا أنا بهما، فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفي الآخر منهما ثم خرج فأذن للذي استشهد ثم رجع إلي فقال: أرجع فإنك لم يأن لك بعد.
فأصبح طلحة يحدث الناس فعجبوا لذلك فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحدثوه الحديث: فقال: من أيِّ ذلك تعجبون؟ فقالوا: يا رسول الله هذا كان أشد الرجلين اجتهاداً ثم استشهد ودخل هذا الآخر الجنة قبله فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى: قال: وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟ قالوا: بلى، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض" (2) .
من رحم في رمضان فهو المرحوم، ومن حرم خيره فهو المحروم، ومن لم يتزود لمعاده فيه فهو ملوم.
أتى رمضان مزرعة العباد ... لتطهير القلوب من الفساد
__________
(1) إسناده صحيح انظر مسند أحمد بتحقيق شاكر حديث رقم (8380، 8381) (16/170-171) .
(2) صحيح رواه ابن ماجة في "سننه" كتاب الرؤيا باب تعبير الرؤيا" وصححه الألباني، انظر "صحيح سنن ابن
ماجة حديث رقم (3171 ج 2/345-346) .(1/165)
فأد حقوقه قولاً وفعلاً ... وزادك فاتخذه للمعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها ... تأوّه نادماً يوم الحصاد
وقال الشاعر:
إذا رمضان أتى مقبلاً ... فأقبل بالخير يستقبل
لعلك تخطئه قابلاً ... وتأتي بعذر فلا يقبل
كم ممن أمّل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله فصار قبله إلى ظلمة القبر، كم من مستقبل يوماً لا يستكمله، ومؤمل غداً لا يدركه، إنكم لو أبصرتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره.
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب ... حتى عصى ربه في شهر شعبان
فاحمل على جسد ترجوه النجاة له ... فسوف تضرم أجساد بنيران
كم كنت تعرف ممن صام في سلف ... من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم ... حيا فما أقرب القاصي من الداني
ومعجب بثياب العيد يقطعها ... فأصبحت في غد أثواب أكفان
حتى متى يعمر الإنسان مسكنه ... يصير مسكنه قبر لإنسان (1)
اعلم يا أخي أن الناصح لنفسه لا تخرج عنه مواسم الطاعات وأيام القربات عطلاً لأن الأبرار ما نالوا البر إلا بالبر.
يضع نصب عينيه قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده" (2) .
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها لعل أحدكم أن يصيبه
__________
(1) "لطائف المعارف" (ص 155-157) .
(2) حسن: رواه الطبراني في "الكبير" عن أنس وقال الهيثمي إسناده رجاله رجال الصحيح وحسنه الألباني في "الصحيحة" رقم (1890) .(1/166)
منها نفحة لا يشقى بعدها أبداً".
فيتعرض لإحسان مولاه، سبحانه من كريم أضحت رحالنا بباب كرمه مطروحة ورمضان سيد الشهور وتاج على مفرق الأيام والدهور.
رمضان ربيع التقي وقد فاح فواحه ... رمضان يوسف الزمان في عين يعقوب الإيمان.
فمرحى بشهر طيب كريم مبارك.
* شهر نزول القرآن والكتب السماوية، شهر الشفاعة بالصيام والقرآن.
* شهر التراويح والتهجد.
* شهر التوبة وتكفير الذنوب.
* شهر تصفيد الشياطين.
* شهر غلق أبواب الجحيم.
* شهر فتح أبواب الجنان.
* شهر الجود والإحسان.
* شهر العتق من النيران.
* شهر ليلة القدر.
* شهر الدعاء.
* شهر الجهاد.
* شهر مضاعفة الحسنات.
* شهر الصبر والشكر.
فهلم يا باغيَ الخير إلى شهر يضاعف فيه الأجر للأعمال، فَنصَبَ المجتهدين في خدمة مولاهم في هذا الشهر هو الراحة.(1/167)
بين الجوانح في الأعماق سكناه ... فكيف أنسى ومن في الناس ينساهُ
وكيف أنسى حبيباً كنت من صغري ... أسير حسن له جلت مزاياه
ولم أزل في هواه، ما نقضتُ له ... عهداً ولا مَحَتِ الأيام ذكراه
قد شاخ جسمي ولكن في محبته ... ما زال قلبي فتىً في عشق معناه
في كل عام لنا لقيا محببة ... يهتز كل كياني حين ألقاه
بالعين والقلب بالآذان أرقبه ... وكيف لا وأنا بالروح أحياه
والليل تحلو به اللقيا وإن قصرت ... ساعاتها ما أُحيلاها وأحلاه
فنوره يجعل الليل البهيم ضحى ... فما أجل وما أجلى محياه
ألقاه شهراً ولكن في نهايته ... يمضي كطيف خيال قد لمحناه
في موسم الطهر في رمضان الخير، تجمعنا ... محبة الله لا مال ولا جاه
من كل ذي خشية لله ذي ولع ... بالخير تعرفه دوماً بسيماه
قد قدروا موسم الخيرات فاستبقوا ... والاستباق هنا المحمود عقباه
صاموه قاموه إيماناً ومحتسبا ... أحيوه طوعاً وما في الخير إكراه
وكلهم بات بالقرآن مندمجاً ... كأنه الدم يسري في خلاياه
فالأذن سامعة والعين دامعة ... والروح خاشعة والقلب أوّاه
* هبت اليوم على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب في رمضان وسعى
سمسار الوعظ للمهجورين في الصلح ووصلت البشارة للمنقطعين بالوصل، وللمذنبين بالعفو والمستوجبين النار بالعتق، لما سلسل الشيطان في شهر رمضان، وخمدت نيران الشهوات بالصيام، انعزل سلطان الهوى، وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل، فكم يبق للعاصي عذر.(1/168)
يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشّعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، يا قلوب الصائمين اخشعي، يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، يا عيون المجتهدين لا تهجعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي، يا أرض الهوى ابلعي ماءك ويا سماء النفوس اقلعي، يا بروق العشاق للعشاق المعي، يا خواطر العارفين ارتعي، يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي قد مدّت في هذه الأيام موائد الأنعام للصوّام فما منكم إلا مَنْ دعي (يا قومنا أجيبوا داعي الله) [الأحقاف: 31] .
ويا همم المؤمنين أسرعي، فطوبى لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طُرد عن الباب وما دعي.
ليت شعري إن جئتهم قبلوني ... أم تراهم عن بابهم يصرفوني
أم تراني إذا وقفت لديهم ... يأذنوا بالدخول أم يطردوني (1)
يا من طالت غيبته عن مولاه، قد قربت أيام المصالحة، يا من دامت خسارته قد أقبلت أيام التجارة الرابحة، كم ينادي حي على الفلاح وأنت خاسر، وكم تدعى إلى الصلاح وأنت على الفساد مثابر.
من لم يربح في رمضان ففي أي وقت يربح، ومن لم يقرب فيه من مولاه فهو على بعده لا يبرح.
يتلذذون بذكره في ليلهم ... ويكابدون لدى النهار صياما
فسيغنمون عرائساً بعرائس ... ويُبَوءون من الجنان خياما
وتقر أعينهم بما أخفى لهم ... وسيسمعون من الجليل سلاماً (2)
***
__________
(1) "لطائف المعارف" (ص 142-143) .
(2) "عقود اللؤلؤ والمرجان في وظائف شهر رمضان" للشيخ إبراهيم بن عبيد آل عبد المحسن.(1/169)
رمضان
أضيف أنتَ حَلَ على الأنَامِ ... وأقسَم أَنْ يُحيا بالصيام؟!
قطعتَ الدهر جَواباً وفياً ... يَعودُ مَزارَهُ في كل عام
تُخيم.. لا يَحدُّ حماكَ ركن ... فكل الأرض مهدٌ للخيام
نسَخْتَ شعائرَ الضيفان، لما ... قنعتَ من الضيافة بالمقامِ
ورُحت تَسُنُّ للأجوادِ شرعاً ... من الإحسان عُلوي النظام،
بأن الجودَ حرمَان وزُهْد ... أعزُّ منَ الشراب أو الطعَام!!
أشهر أنتَ أم رُؤْيا مَتاب ... تألق طيفُها مثل الشهاب؟
تَمرغَ في ظلالِكَ كل عاص ... وكلُّ مَرَجَّس دَنِس الإهابِ
فأنتَ محير الآثام.. تَجْري ... فتَلْحقها بأحلام العذابِ
تَراكَ شفيعَ تَوْبتَها، فتَخْزى؛ ... وتُوأَدُ تحت أجنحة الشباب!
وأنتَ مَنارة الغُفْران، يأوِي ... إليك اليائسون من المتاب
وعندَ الله سُؤْلُك مستَجابٌ ... ولو حُملتَ أوزارَ التُّراب!!
وقفتَ خُطاكَ عندَ البائسينا ... فكنتَ للَيلهم فلقاً مُبينا
تُساقُ إليكَ أمواجُ التحايا ... فتدفَعُهَا لباب المُعوزينا
فكم آهات محْروم حَدَاها ... إليك البؤسُ! فانقَلَبتْ رَنيناً
فأنتَ مفزع البُخالْ.. تَجْري ... خُطاكَ على حجارتِهِم مَعينا
وأَنتَ مُلَقن الأيدي نَداها ... ومُكسبُها التراحُم والحْنينا
يخَافكَ كلُّ قارون شحيح ... فيخْجلُ أنْ يُردَّ السائلينا(1/170)
ومُنْذُ تَهِل ترهَبُكَ الذُّنوبُ ... وتَخَتشِعُ السرائرُ والقلوبُ
وتفزعُ أن تُقابلك المعَاصي ... فتُهْرَعُ أو تُقَنعُ، أو تذُوبُ
ويُجفل أنْ يراك أخو هَواها ... ولو قَتَلَتْ مشاعره العُيوبُ
كأنَّكَ فارسُ الأيام، تَبدُو ... فيصعقها مُهنَّدُكَ الغَضُوبُ
كأنَّ بكفِّك البيضاء سرّاً ... من النَّجْوى تَكتَّمُهُ الغيوبُ
تُجابهُ كلهَ غَيَّان عَنيد ... فيَكتَتِمُ الغِوايةَ أو يَتُوِبُ
جعلتَ النَّاس في وقت المغيبِ ... عبيدَ ندائكَ العاتي الرَّهيبِ
كم ارتقَبُوا الأذانَ كأنَّ جُرحاً ... يُعذبُهمْ تَلَفتْ للطَّبيب
وأتلَعَتِ الرِّقاب بهم، فلاحوا ... كَرُكْبان علَى بلَد غَريبِ
عُتاةُ الإنسِ، أنتَ نسخْتَ منهم ... تَذَلُّلَ أَوْجُهِ وضنى جُنوبِ
فيا.. من لقْمة، حفيف ماءِ ... يُقِّلب روحَه فوقَ اللهيب
علامَ البغْيء والطغيان؟! إِنِّي ... كفَرتُ بمنطق الدُّنْيا العَجيبِ!
تَلفتْ للمآذِنِ حاليات ... كَحُورِيَّات خلْد سافِراتِ
تفوحُ مباخرُ النُّسَّاك منها ... فتحسبُها غُصوناً عاطراتِ
تلألأ حولها أطواق نور
كأنكَ حامل وحياً إليها ... وقَفْنَ لسِحرِه متلهفاتِ
إِذا صاحَ الأذانُ بها أَرنَّتْ ... بإلهام كموْج البَحرِ عاتِ
يذكَّرُ بالهِدايةِ كل ناس ... ويُوقِظُ كلِّ غاف في الحيَاةِ!
وهذا المعُجِزُ العالي الرَّخيمُ ... أَذانُ الله، والذْكر الحكيم
تَلَاهُ في سكون اللَّيل تال ... فكاد لِهَوله تَهْوِي النجومُ(1/171)
نِداء تفزَغُ الأفلاك منه ... ويخشعَ في مساريه السَّديمُ
على سمْع الهُداة يَضُوعُ عطراً ... وتُقذَفُ منه للغاوي رُجُومَ
أصاخ الكونُ مسحوراً إليه ... وخَر لبأسِه الأزلُ القَديمُ
تَنَزلَ فوق صدرِكَ منْ علاه ... يشيرُ الوَحْي، والدِّينُ القَويمُ
سلاماً ناسَكَ الزمنِ القَوِيِّ ... منَ القلبِ الحزين الشاعري
حملتُ إليك أشواقي وسري ... لتَحْمِلَها إلى الأُفُق العَلِي
أمُر بها على زمنى غريباً ... كطَير تاهَ في ظُلَم العَشي
وأعزِفُ للصبائحِ والأَماسي ... فينتَفضُ الغناءُ لِكُلِّ حَي
كأني ما ذرفتُ أسىَ زماني ... ولا أَفضَى صَداي بأيِّ شَيء!!
طَلعْتَ منوِّراً فوق العباد ... فأيقظْ من تشبثَ بالرقاد
وقل للشرق: إن الكون يَمْشي ... على سُبُل مغيبة الرَّشاد
فخُذ لزمانكَ الزَّاد المرَجّى ... من الخلقِ القويم والاتحاد
ولا يوقفْكَ في التيار هولٌ ... فنارُ الهوْل، نورٌ للجهاد
لقد ملَّتْ تقلبنا الليالي ... على وَضَرِ التنعمِ والفَسَاد
شَدَا لكَ بالأذان خميلُ مصرِ ... فَقُمْ.. وانشُر صَداهُ على البَوادِي!! (1)
***
__________
(1) محمود حسن إسماعيل الديوان الحادي عشر صوت من الله قصيدة: "الزمن" رمضان ص (1763-1770) .(1/172)
مدرسة الثلاثين يوماً
"شهر للثورة" (*)
* يقول الأديب الفاضل مصطفى صادق الرافعي رحمه الله.
"لم أقرأ لأحد قولاً شافياً في فلسفة الصوم وحكمتِه؛ أما منفعتُه للجسم، وأنه نوعٌ من الطب له، وبابٌ من السياسة في تدبيره؛ فقد فرغ الأطباءُ من تحقيق القول في ذلك؛ وكأن أيامَ هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثون حبةً تؤخذُ في كل سنة مرةً لتقوية المعدة وتصفية الدم وحياطة أنسجة الجسم؛ ولكنا الآن لسنا بصدد من هذا، وإنما نستوحي تلك الحقيقة الإسلامية الكبرى التي شَرعت هذا الشرع لسياسة الحقائق الأرضية الصغيرة، عاملة على استمرارِ الفكرة الإنسانية فيها، كي لا تتبدَّل النفس على تغير الحوادث وتَبَدُّلِها، ولكيلا تجهل الدنيا معاني الترقيع إذا أتت على هذه الدنيا معاني التمزيق.
من معجزات القرآن الكريم أنه يدَّخرُ في الألفاظ المعروفة في كل زمن، حقائقَ غيرَ معروفة لكل زمن، فيُجلِّيها لوقتها حين يَضِج الزمانُ العلمي في مَتَاهَتِه وحَيرَته، فيَشغَبُ على التاريخ وأهله مستَخِفّاً بالأديان، ويذهبُ يتتبعُ الحقائق، ويستقصي في فنون المعرفة، ليستخلصَ من بيِن كُفرٍ وإيمان ديناً طبيعيّاً سائغاً، يتناولُ الحياة أول ما يتناولُ فيضبطها بأسرار العلم، ويوجِّهُها بالعلم إلى غايتها الصحية، ويضاعف قُواها بأساليبه الطبيعية، ليحقِّق في إنسانية العالم هذه الشيئية المجهولة التي تتوهمُها المذاهبُ الاجتماعية ولم يهتد إليها مذهبُ منها ولا قاربَها؛ فما برحت سعادةُ الاجتماع كالتجربة العلمية بين يَدي علمائها: لم يحققوها ولم ييأسوا منها، وبقيت تلك المذاهبُ كعقارب الساعة في دورَتها: تبدأ من حيثُ تبدأ ثم لا تنتهي إلا إلى حيثُ تبدأ..
يضطرب الاشتراكيون في أوربا وقد عجزوا عجز من يحاول تغيير الإنسان
__________
(*) كتبها في شهر رمضان سنة 1353 هـ، وانظر "عود على بدء" من كتاب حياة الرافعي.(1/173)
بزيادة ونقص في أعصابه؛ ولا يزال مذهبهُم في الدنيا كُتُب ورسائل؛ ولو أنهم تدَبروُا حكمة الصوم في الإسلام، لرأوا هذا الشهر نظاما عمليّا من أقوى وأبدع الأنظمة الصحيحة: فهذا الصومُ فَقر إجباريّ تَفرضه الشريعةُ على الناس فرضاً ليتساوَى الجميع في بواطنهم، سواء منهم من مَلَك المليونَ من الدنانير، ومن ملك القرش الواحد، ومن لم يملك شيئاً؛ كما يتساوى الناسُ جميعا في ذهاب كبريائهم الإنساني بالصلاة التي يفرضُها الإسلام على كل مسلم؛ وفي ذهاب تَفاوُتِهم الاجتماعي بالحج الذي يفرضُه على من استطاع.
فقرُ إجباريٌ يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح، أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة.
ولو حققت رأيت الناس لا يختلفون في الإنسانية بعقولهم، ولا بأنسابهم، ولا بمراتبهم، ولا بما ملكوا؛ وإنما يختلفون ببطونهم وإحكام هذه البطون على العقل والعاطفة؛ فمن البطن نكبةُ الإنسانية، وهو العقلُ العملي على الأرض؛ وإذا اختلف البطنُ والدماغُ في ضرورةٍ، مد البطنُ مدَّهُ من قَوَى الهضم فلم يبقِ ولم يَذَر.
ومن ههنا يتناولُه الصوم بالتهذيب والتأديب والتدريب، ويجعل الناس فيه سواء: ليس لجميعهم إلا شعورٌ واحد وحس واحد وطبيعة واحدة؛ ويُحكم الأمر فيحولُ بين هذا البطن وبين المادة، ويبالغ في إحكامه فيمسك حواشيه العصبية في الجسم كله يمنعُها تغذيتها ولذتها.
وبهذا يضَعُ الإنسانيةَ كلَّها في حالة نفسية واحدة تَتَلبسُ بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويُطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يُعلم الرحمة ويدعو إليها، فيُشبعُ فيها بهذا الجوعِ فكرة معينة هي كل ما في مذهب الاشتراكية (1) من الحق، وهي تلك الفكرةُ التي يكون عنها مساواة الغني للفقير من طبيعته، واطمئنان
__________
(1) ليس فيها أي حق.(1/174)
الفقير إلى الغني بطبيعته؛ ومن هذين: (الاطمئنان والمساواة) ، يكون هدوءُ الحياة بهدوء النفسين اللتين هما السلبُ والإيجابُ في هذا الاجتماع الإنساني؛ وإذا أنت نزعتَ هذه الفكرة من الاشتراكية بقى هذا المذهبُ كلُّه عَبثاً من العَبث في محاولة جعلِ التاريخ الإنساني تاريخاً لا طبيعة له.
من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم، وهذا بعضُ السر الاجتماعي العظيم في الصوم، إذ يبالغ أشدَ المبالغة، ويدقق كلَّ التدقيق، في منع الغذاء وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدةً آخرها آخر الطاقة؛ فهذه طريقةٌ عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرُها إلا النكباتُ والكوارث؟ فهما طريقتان كما ترى مُبصرةٌ وعمياء، وخاصةٌ وعامة، وعلى نظام وعلى فجأة.
ومتى تحققت رحمةُ الجائع الغني للجائع الفقير، أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانُها النافذ، وحكم الوازع النفسي على المادة؛ فيسمع الغني في ضميره صوت الفقير يقول: "أعطي" ثم لا يسمع منه طلباً من الرجاء، بل طلباً من الأمر لا مفر من تلبيته والاستجابة لمعانيه، كما يُواسي المبتلى من كان في مثل بلائه.
أية معجزة إصلاحية أعجبُ من هذه المعجزة الإسلامية التي تقضي أن يحذفَ من الإنسانية كلها تاريخُ البطن ثلاثين يوماً في كل سنة، ليحِل في محله تاريخُ النفس (1) ؟ وأنا مُستيقن أن هناك نسبة رياضية هي الحكمة في جعل هذا الصوم شهراً كاملاً من كل اثني عشر شهراً، وأن هذه النسبة متحقِّقةٌ في أعمال النفس للجسم، وأعمال الجسم للنفس؛ كأنه الشهرُ الصِّحي الذي يفرضه الطبُّ في كل سنة للراحة والاستجمام وتغيير المعيشة، لإحداث الترميم العصبي في الجسم، ولعل ذلك آتٍ من العلاقة بين دورة الدم في الجسم الإنساني وبين القمر منذ يكون هلالاً إلى أن يدخل في المحاق؛ إذ تنتفخُ العروقُ وتَربوا في النصف الأول من الشهر، كأنها في (مَدّ) من نور القمر ما دام هذا النورُ إلى زيادة، ثم يراجعُها (الجزرُ) في
__________
(1) أفسد ضعفى النفوس هذا المعنى، فما يحقق الناس (تاريخ البطن) كما يحققونه في شهر رمضان، وهم يعوضون البطن في الليل ما منعوه في النهار، حتى جعلوا الصوم تغييراً لمواعيد الأكل.. ولكن الصوم على ذلك لم يحرمهم فوائده.(1/175)
النصف الثاني حتى كأن للدم إضاءة وظلاماً. وإذا ثبت أن للقمر أثراً في الأمراض العصبية، وفي مدّ الدم وجَزرِه (1) ، فهذا من أعجب الحكمة في أن يكون الصيام شهراً قمريّا دون غيره.
وفي ترائي الهلال ووجوب الصوم لرؤيته معنى دقيق آخر، وهو -مع إثبات رؤية الهلال وإعلانها- إثباتُ الإرادة وإعلانُها، كأنما انبعث أولُ الشعاع السماوي في التنبيه الإنساني العامّ لفروض الرحمة والإنسانية والبرّ.
وهنا حكمة كبيرة من حكم الصوم، وهي عملُه في تربية الإرادة وتقويتها بهذا الأسلوب العملي، الذي يُدرّبُ الصائم على أن يمتنع باختياره من شهوَاته ولذّةِ حيوانيته، مُصِرّاً على الامتناع، مُتهَيئاً له بعزيمته، صابراً عليه بأخلاق الصبر، مُزاولاً في كل ذلك أفضل طريقة نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة ترسَخُ لا تتغير ولا تتحول، ولا تعدو عليها عوادي الغريزة.
وإدراكُ هذه القوة من الإدراك العملية منزلةُ اجتماعية سامية، هي في الإنسانية فوق منزلة الذكاء والعلم، ففي هذين تعرض الفكرةُ مارّة مُرورهَا، ولكنها في الإرادة تعرِض لتستقرّ وتتحقَّق، فانظر في أي قانون من القوانين، وفي أية أمة من الأمم، تجد ثلاثين يوماً من كل سنة قد فُرِضت فرضاً لتربية إرادة الشعب ومزاولتِه فكرة نفسيّةً واحدةً بخصائصها ومُلابساتها حتى تستقر وترسخ وتعودَ جزءاً من عمل الإنسان، لا خيالاً يمر برأسه مَراً.
أليست هذه هي إتاحةَ الفرصة العملية التي جعلوها أساساً في تكوين الإرادة؟
وهل تبلغ الإرادةُ فيما تبلغ، أعلى من منزلتها حين تجعل شهوات المرء مُذعنَة لفكرهِ، منقادة للوازع النفسي فيه، مُصَرفَة بالحس الديني المسيطِرِ على النفس ومشاعِرِها.
أما والله لو عم هذا الصومُ الإسلامي أهلَ الأرض جميعاً، لآل معناه أن يكون إجماعاً من الإنسانية كلِّها على إعلان الثورة شهراً كاملاً في السنة، لتطهير العالم
__________
(1) قال الجاحظ في (الحيوان) : "ولزيادة القمر حتى يصير بدراً، أثر بين في زيادة الدماء في الأدمغة وجميع الرطوبات".(1/176)
من رذائله وفساده، ومَحق الأثَرَة والبخل فيه، طرح المسألة النفسية ليتَدراسَهَا أهلُ الأرض دراسةَ عمليةَ مدة هذا الشهر بطوله، فيَهبطُ كلُّ رجُل وكل امرأة إلى أعماق نفسه ومكامنها، ليختبرَ في مصنع فكره معنى الحاجة ومعنى الفقر وليفهم في طبيعة جسمه -لا في الكتب- معاني الصبر والثبات والإرادة، وليبلغَ من ذلك وذلك درجات الإنسانية والمواساة والإحسان؛ فيُحقق بهذه وتلك معاني الإخاء والحرية والمساواة.
شهرٌ هو أيام قلبيةٌ في الزمن؛ متى أشرفَت على الدنيا قال الزمنُ لأهله: هذه أيامُ من أنفسكم لا من أيامي، ومن طبيعتكم لا من طبيعتي؛ فيُقبلُ العالم كلُّه على حالة نفسية بالغة السموّ، ويتعهدُ فيها النفس برياضتها على معالي الأمور ومكارم الأخلاق، ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح، ويراها كأنما أجيعَت من طعامها اليومي كما جاع هو، وكأنما أُفرغَتْ من خَسائسِها وشهواتها كما فَرَغَ هو، وكأنما أُلزِمَت معانيَ التقوى كما أُلزِمَها هو وما أجملَ وأبدع أن تَظهَر الحياةُ في العالم كله -ولو يوماً واحداً- حاملةً في يده السبحة..! فكيف بها على ذلك شهراً من كل سنة؟
إنها والله طريقة عملية لرسوخ فكرة الخير والحق في النفس؛ وتطهير الاجتماع من خسائس العقل الماديّ؛ ورد هذه الطبيعة الحيوانية المحكومة في ظاهرها بالقوانين، والمحررةِ من القوانين في باطنها - إلى قانون من باطنها نفسه يُطهرُ مَشاعرَها، ويسمو بإحساسها، ويصرفها إلى معاني إنسانيتها، ويُهذب من زياداتها، ويحذف كثيراً من فُضُولها، حتى يرجع بها إلى نحو من براءة الطفولة، فيجعلها صافية مُشرقة بما يجتذبُ إليها من معاني الخير والصفاء والإشراق؛ إذ كان من عمل الفكرة الثابتة في النفس أن تدعوَ إليها ما يلائمها ويتصل بطبيعتها من الفكر الأخرى والنفسُ في هذا الشهر مُحتَبَسَة في فكرة الخير وحدها، فهي تبني بناءَها من ذلك ما استطاعت.
هذا على الحقيقة ليس شهراً من الأشهر، بل هو فصلٌ نَفساني كفصول الطبيعة في دَورَانها؛ ولَهو والله أشبهُ بفصل الشتاء في حلوله على الدنيا بالجو الذي من(1/177)
طبيعته السحُبُ والغيث، ومن عمله إمدادُ الحياة بوسائل لها ما بعدها إلى آخر السنة، ومن رياضته أن يكسبِهَا الصلابة والانكماش والخفة، ومن غايته إعداد الطبيعة للتفتح عن جمال باطنها في الربيع الذي يتلوه.
وعجيب جدّاً أن هذا الشهر الذي يَدَّخر فيه الجسمُ من قواه المعنوية فيودِعُها مَصرِفَ روحانيته، ليجدَ منها عند الشدائد مَدَدَ الصبر والثبات والعزم والجلَد والخشونة.
وسحر العظائم في هذه الدنيا إنما يكون في الأمة التي تعرف كيف تدَّخر هذه القوّة وتوفِّرها لتستمدّها عند الحاجة، وذلك هو سِر أسلافنا الأولين الذين كانوا يجدون على الفقر في دمائهم وأعصابهم ما تجدُ الجيوش العظمى اليوم في مخازن العتَاد والأسلحة والذخيرة.
كلُّ ما ذكرتُه في هذا المقال من فلسفة الصوم، فإنما استخرجته من هذه الآية الكريمة: (كُتِبَ عليكم الصيامُ كما كُتِبَ على الذين من قَبلِكم لعلكم تتقون) [البقرة: 183] .
وقد فهمها العلماء جميعاً على أنها معنى "التقوى"، أما أنا فأوّلتُها من "الاتّقَاء"؛ فبالصوم يَتقي المرءُ على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعتُه مَعِدَتُه، وألا يُعامِلَ الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة؛ ويتقي المجتمعُ على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسانٌ مع إنسان كحمار مع إنسان يبيعه القوة كلَّها بالقليل من العَلَف.
وبالصوم يتقى هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه، فإن ما بين يديه هو الحاضرُ من طباعه وأخلاقه، وما خَلَفَه هو الجيلُ الذي سيرثُ من هذه الطّباع والأخلاق، فيعمل بنفسه في الحاضر، ويعمل بالحاضر في الآتي (1) .
__________
(1) يفسر القرآن بعضه بعضاً، ومن معجزاته في هذا التأويل الذي استخرجناه أنه يؤيده بالآية الكريمة في سورة (يس) : (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون..) ويشير إلى هذا التأويل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما الصوم جنة (بضم الجيم) فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، وإني صائم".
الجنة: الوقاية يتقي بها الإنسان، والمراد أن يعتقد الصائم أنه قد صام ليتقي شر حيوانيته وحواسه، فقوله: "إني صائم، إني صائم"؛ أي إنني غائب عن الفحش والجهل والشر؛ إني في نفسي وليست في حيوانيتي.(1/178)
وكلُّ ما شرحناه فهو اتقاءُ ضرر لجلب منفعة، واتقاءُ رذيلة لجلب فضيلة؛ ولهذا التأويل تتوجه الآية الكريمةُ جهةً فلسفيةً عاليةً، لا يأتي البيانُ ولا العلمُ ولا الفلسفةُ بأوجزَ ولا أكمل من لفظها؛ ويتوج الصيامُ على أنه شريعة اجتماعية إنسانيةٌ عامة؛ يتقى بها الاجتماعُ شرورَ نفسِه؛ ولن يتهذّبَ العالَم إلا إذا كان له مع القوانين النافذة هذا القانونُ العام الذي اسمُهُ الصومُ، ومعناه "قانونُ البطن" ...
ألا ما أعظمَكَ يا شهر رمضان! لو عَرَفَكَ العالَمُ حقّ معرفتِك لسَماكَ: "مدرسة الثلاثين يوماً".
***(1/179)
الباب السابع
فضائل رمضان(1/181)
رمضان شهر نزول القرآن
والكتب السماوية
يا له من شهر طيب اختاره الله لنزول الكتب السماوية فيه.
عن واثلة بن الأسقع عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضت من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشر خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان" (1) .
قال تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) [البقرة: 185] ، وقال تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) [القدر:1] .
وقال تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) [الدخان: 3] .
قال ابن جرير الطبري: "نزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان ثم أنزل إلى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما أراد الله إنزاله إليه".
عن ابن عباس قال: "أنزل القرآن جملة من الذكر (2) ، في ليلة أربع وعشرين من رمضان (3) فجعل في بيت العزة.
وعن سعيد بن جبير: نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر في شهر رمضان فجعل في سماء الدنيا.
وعن ابن عباس: أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا، جملة واحدة، ثم فرّق في السنين بعدُ. قال: وتلا ابن عباس هذه الآية. (فلا أقسم بمواقع النجوم) [الواقعة: 75] قال: نزل مفرقاً (4) .
__________
(1) حسن: رواه الطبراني في "الكبير" عن واثلة، وأحمد في "مسنده"، وابن عساكر، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1509) .
(2) أي اللوح المحفوظ.
(3) وهي عند ابن عباس ليلة القدر والوتر من العشر الأواخر كما يقول ابن تيمية قد يكون باعتبار ما مضى من الشهر أو باعتبار ما بقي.
(4) "تفسير الطبري" (2/114-115) طبعة مصطفى الحلبي.(1/183)
أنزل القرآن بفرض صيامه قاله مجاهد والضحاك.
أنزل في فضله القرآن: قاله سفيان بن عيينة (1) .
والقرآن: "كتاب هذه الأمة الخالد، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور فأنشأها النشأة وبدَّلها من خوفها أمناً، ومكَّن لها في الأرض، ووهبها مقوماتها التي بها صارت أمة، ولم تكن من قبل شيئاً، وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض، ولا ذكر في السماء، فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن بالاستجابة إلى صوم الشهر الذي نزل في القرآن" (2) .
القرآن كتاب هذه الأمة، هو روحها وباعثها، وقوامها وكيانها، وهو حارسها وراعيها، هو بيانها وترجمانها، هو دستورها ومنهجها، وهو زاد الطريق.
ولكن ستظل هناك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حسنا، ونستحضر في تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة حية ذات وجود حقيقي، ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة، وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية وفي رقعة من الأرض كذلك.
سيظل هناك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن طالما نحن نتلوه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهومة، لا علاقة لها بواقع الحياة البشرية، بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوساً ووقائع وأحداثاً حية، لقد خاض بهذه الأمة معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية كلها معها، ولكنه مع هذا يعايش ويواجه ويملك أن يوجه الحياة الحاضرة، وكأنما هو يتنزل اللحظة الأخيرة لمواجهة الجماعة المسلمة في شئونها الجارية وفي صراعها الراهن، وفي معركتها كذلك في داخل النفس وفي عالم الضمير" (3) .
"آيات منزلة من حول العرش، فالأرض بها سماء هي منها كواكب، بل الجند
__________
(1) "التبصرة" لابن الجوزي (2/73) .
(2)) "الظلال" (1/171-172) .
(3) من وحي القلم.(1/184)
الإلهي قد نشر له من الفضيلة علم وانضوت إليه من الأرواح مواكب، أغلقت دونه القلوب فاقتحم أقفالها، وامتنعت عليه أعراف الضمائر فابتز أنفالها" (1) .
كم صدوا عن سبيله صدّاً، ومن ذا يدافع السيل إذا أهدر؟ واعترضوه بالألسنة ردّاً، ولعمري من يرد على الله القدر؟
ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا لانت فأنفاس الحياة الآخرة متى وعدت من كرم الله جعلت الثغور تضحك في وجوه الغيوب، وإن أوعدت بعذاب الله جعلت الألسن ترعد من حمى القلوب.
معانٍ هي عذوبة ترويك من ماء البيان، ورقة تستروح منها نسيم الجنان، ونور تبصر به في مرآة الإيمان وجه الأمان، ترف بندى الحياة على زهرة الضمير، وتخلق في أرواجها من معاني العبرة معنى العبير.
يجري في الخواطر كما تصعد في الشجر قطرات الماء، ويتصل بالروح فإنما يمد لها بسبب إلى السماء.
ألفاظ لم تعهد كلم أحداقها، وثمرات لم تنبت في قلم أوراقها، ونور عليه رونق الماء فكأنما اشتعلت به الغيوم، وماء يتلألأ من النور فكأنما عصر من النجوم.
وهل رأوا إلا كلاماً تضيء ألفاظه كالمصابيح، فعصفوا عليه بأفواههم كما تعصف الريح، يريدون أن يطفئوا نور الله وأين سراج النجم من نفخة ترتفع إليه كأنما تذهب تطفيه، ونور القمر من كف يحسب صاحبها أنها في حجمه فيرفعها كأنما يخفيه! وهيهات هيهات دون ذلك درج الشمس وهي أم الحياة في كفن وإنزالها بالأيدى وهي روح النار في قبر من كهوف الزمن.
لا جرم أن القرآن سر السماء، فهو نور الله في أفق الدنيا حتى تزول، ومعنى الخلود في دولة الأرض إلى أن تدول، وكذلك تمادى العرب في طغيانهم يعمهون، وظلت
__________
(1) المراد: "أن ضمائر العرب امتنعت عن القرآن بما أستوعر فيها من العادات والأخلاق فنفذ إليها وابتزها وغلبها على أمرها".(1/185)
آياته تلقف ما يأفكون، (فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون) (1) [الأعراف: 118] .
نزول القرآن على قلب نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعظم النعم
قال تعالى: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) الآية [العنكبوت:51] .
أولم يكفهم أن يعيشوا مع السماء بهذا القرآن، يشعرهم أن عين الله عليهم، وأنه معني بهم يتنزل عليهم، يحدثهم بما في نفوسهم، وهم هذا الخلق الصغير الضئيل التائه في ملكوت الله الكبير.
والله بعد ذلك يكرمهم حتى لينزل عليهم كلماته تتلى عليهم ثم هم لا يكتفون إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون.
الذين يؤمنون هم الذين يجدون مس هذه الرحمة في نفوسهم، وهم الذين يتذكرون فضل الله وعظيم منته على البشرية بهذا التنزيل، ويستشعرون كرمه وهو يدعوهم إلى حضرته وإلى مائدته وهو العلي الكبير.
وهم الذين ينفعهم هذا القرآن، لأنه يحيا في قلوبهم، ويفتح لهم عن كنوزه، ويمنحهم ذخائره ويشرق في أرواحهم بالمعرفة والنور.
الإيمان بكلام الله والعيش معه طمأنينة في القلب واستقامة على الطريق، وثبات على الدرب، وثقة بالسند، واطمئنان للحمى، ويقين بالعاقبة.
قال تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) [يونس: 58] .
وقال تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد) [الزمر: 23] .
__________
(1) "إعجاز القرآن" للرافعي من (29-31) .(1/186)
الحياة في ظلال القرآن نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها، نعمة ترفع العمر وتباركه وتذكيه.
أي تكريم للإنسان يفوق هذا التكريم العلوي الجليل.
(الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا) [الكهف:1] . أي نعمة أعظم من نعمة نزول القرآن.. نعمة لا يسعها حمد البشر فحمد الله نفسه على هذه النعمة.
أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل، أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان القليل الصغير خالقه الكريم.
قال تعالى: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً) الآية [النساء: 113] .
هي منة الله على الإنسان في هذه الأرض.. المنة التي ولد الإنسان معها ميلاداً جديداً، ونشأ بها الإنسان نشأة جديدة.
المنة التي التقطت البشرية من سفح الجاهلية لترقى بها في الطريق الصاعد إلى القمة السامقة على طريق المنهج الرباني الفريد العجيب.
المنة التي لا يعرف قدرها إلا الذي عرف الإسلام والجاهلية جاهلية الماضي والحاضر.
وإذا كانت منة يذكر الله بها رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلأنه أول من عرفها، وذاقها وأكبر من عرفها وذاقها، وأعرف من عرفها وذاقها، قال تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) الهدى حقيقته، والهدى طبيعته، والهدى كيانه، والهدى ماهيته، القلب المؤمن يدرك قيمة الاهتداء بعد الضلال قيمة الرؤية الواضحة بعد الغبش قيمة الاستقامة على الدرب بعد الحيرة، قيمة الطمأنينة للحق بعد الأرجحة، قيمة التحرر من العبودية للعبيد بالعبودية لله وحده، قيمة الدرب المستقيم بدلاً من التخبط في المنعرجات المظلمة، كما يشفق من ذاق نداوة الظلال أن يعود إلى الهجير القائظ والشواظ.(1/187)
وفي بشاشة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق جفاف الإلحاد وشقاوته المريرة، وفي طمأنينة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق شقوة الشرود والضلال" (1) .
لقد سمى الله كتابه روحاً لتوقف الحياة الحقيقية عليه "واعجبا للناس يبكون على من مات جسده ولا يبكون على من مات قلبه وهو أشد وموت القلوب بالبعد عن علام الغيوب".
وسماه نوراً لأن القلوب لا تضيء ولا تشرق إلا بالقرآن.
قال تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) [الشورى: 52] .
وقال تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) [المائدة: 15، 16] .
ليس أدق ولا أصدق ولا أدل على القرآن من أنه نور، نور تشرق به كينونته فتشف وتخف وترف.. ويشرق به كل شيء أمام ثقلة الطين في كيانه، وظلمة التراب، وكثافة اللحم والدم، وعرامة الشهوة والنزوة، كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى، تخف الثقلة، وتشرق الظلمة، وترق الكثافة، وترف العرامة.
واللبس والغبش في الرؤية، والتأرجح والتردد في الخطوة، والحيرة والشرود في الاتجاه والطريق البهيم الذي لا معالم فيه.. كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى.. يتضح الهدف ويستقيم الطريق إليه وتستقيم النفس على الطريق (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) [المائدة: 16] .
هو ما يسكبه (القرآن) والدين في الحياة كلها.. سلام الفرد، وسلام الجماعة، وسلام العالم.. سلام الضمير ... وسلام العقل، وسلام الجوارح.. سلام
__________
(1) "الظلال" (2/756) .(1/188)
البيت والأسرة، وسلام المجتمع والأمة، وسلام البشر والإنسانية.. السلام مع الحياة، والسلام مع الكون، والسلام مع الله رب الكون والحياة.. السلام الذي لا تجده البشرية.. -ولم تجده يوماً- إلا في هذا الدين؛ وإلا في منهجه ونظامه وشريعته، (سبل السلام) سبل السلام كلها في هذه الجوانب جميعها.. ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق حرب القلق الناشيء من عقائد الجاهلية في أعماق الضمير.. وحرب القلق الناشيء من شرائع الجاهلية وتخبطها في أعماق الحياة.
ما أحوجنا نحن الذين عشنا في هذا السلام فترة من تاريخنا، ثم خرجنا من السلام إلى الحرب التي تحطم أرواحنا وقلوبنا، وتحطم أخلاقنا وسلوكنا، وتحطم مجتمعنا وشعوبنا.. بينما نملك الدخول في السلم الذي منحه الله لنا؛ حين نتبع رضوانه؛ ونرضى لأنفسنا ما رضيه الله لنا! إننا نعاني من ويلات الجاهلية، والقرآن منا قريب.. نعاني من حرب الجاهلية وسلام القرآن في متناول أيدينا لو نشاء.. فأية صفقة خاسرة هذه التي نستبدل فيها الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ ونشتري فيها الضلالة بالهدى؟
(ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه) [المائدة: 16] .
والجاهلية كلها ظلمات، ظلمة الشبهات والخرافات والأساطير والتصورات، وظلمة الشهوات والنزعات والاندفاعات في التيه، وظلمة الحيرة والقلق والانقطاع عن الهدى والوحشة من الجناب الآمن المأنوس. وظلمة اضطراب القيم وتخلخل الأحكام والقيم والموازين (ويهديهم إلى صراط مستقيم) [المائدة: 16] .
مستقيم مع فطرة النفس ونواميسها.. مستقيم مع فطرة الكون ونواميسه، مستقيم إلى الله لا يلتوي ولا تلتبس فيه الحقائق والاتجاهات والغايات (1) .
(ألا بذكر الله تطمئن القلوب) [الرعد: 28] .
"ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين
__________
(1) "في ظلال القرآن" (2/862، 863) .(1/189)
خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم.. يعرفونها ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها، لأنها لا تنقل بالكلمات، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام.
وليس أشقى على وجه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله، ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتور الصلة بما حوله في الكون، لأنه انفصم من العروة التي تربطه بالله، ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه وحيداً شارداً في فلاة، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين.
(ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعاً) [الرعد: 31] .
هذا القرآن العجيب، الذي لو كان من شأن قرآن أن تسير به الجبال أو تقطع به الأرض أو يكلم به الموتى، لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثرات ما تتم معه هذه الخوارق والمعجزات، ولكنه جاء لخطاب المكلفين الأحياء.
ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى، لقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثاراً في أقدار الحياة، بل أبعد أثراً في شكل الأرض ذاته، فكم غير الإسلام والمسلمون من وجه الأرض، إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ.
الذين تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال وهو تاريخ الأمم والأجيال وقطعوا ما هو أصلب من الأرض، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد، وأحيوا ما هو أخمد من الموتى، وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام (1) .
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) [الإسراء: 9] .
يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور، بين ظاهر الإنسان وباطنه، في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، في علاقات الناس بعضهم ببعض.
__________
(1) "الظلال" (2060-2061) .(1/190)
(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) [الإسراء: 82] .
في القرآن شفاء، وفي القرآن رحمة، لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان فأشرقت، وتفتحت لتلقي ما في القرآن من روح وطمأنينة وأمان.
في القرآن شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة، فهو يصل القلب بالله، فيرضى ويستروح الرضا من الله والرضى عن الحياة، والقلق مرض، والحيرة نصب، والوسوسة داء، ومن ثم هو رحمة للمؤمنين.
وفي القرآن شفاء من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزغات الشيطان.
وفي القرآن شفاء من الاتجاهات المختلة في الشعور والتفكير فهو يعصم العقل من الشطط.
وفي القرآن شفاء من العلل الاجتماعية التي تخلخل بناء المجتمعات (1) .
(ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين) [الزخرف: 36] .
"وأسوأ ما يصنعه قرين بقرين أن يصده عن السبيل الواحدة القاصدة ثم لا يدعه يفيق، أو يتبين الضلال فيتوب؛ إنما يوهمه أنه سائر في الطريق القاصد القويم، حتى تفاجئهم النهاية وهم سادرون، هنا يفيقون كما يفيق المخمور، ويفتحون أعينهم بعد العشى والكلال.
والعذاب كامل لا تخففهُ الشركة، ولا يتقاسمه الشركاء فيهون" (2) .
(ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى) [طه: 124] .
الحياة المقطوعة الصلة بالله ورحمته الواسعة؛ ضنك مهما يكن فيها من سعة ومتاع.
__________
(1) "الظلال" (4/2248) .
(2) "الظلال" (3189-3190) .(1/191)
إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله والاطمئنان إلى حماه.... ضنك الحيرة والقلق والشك.... ضنك الحرص والحذر: الحرص على ما في اليد والحذر من الفوت.... ضنك الجري وراء بارق المطالع والحسرة على كل ما يفوت.
لقد أسرف من أعرض عن ذكر ربه فألقى بالهدى من بين يديه، وهو أنفس ثراء وذخر (1) .
قال تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [المائدة: 44] .
إنه ليس أشنع من خيانة المستأمن؛ وليس أبشع من تفريط المستحفظ؛ وليس أخس من تدليس المستشهد.. يخونون ويفرطون ويدلسون، فيسكتون على العمل لتحكيم ما أنزل الله ويحرفون الكلم عن مواضعه، لموافاة أهواء ذوي السلطان على حساب كتاب الله.
(فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) [المائدة: 48] .
(أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) [المائدة: 5] .
أجل؛ فمن أحسن من الله حكماً؟!!.
"من ذا الذي يجرؤ على ادعاء أنه يشرع للناس ويحكم فيهم، خيراً مما يشرع الله لهم ويحكم فيهم، وأي حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادعاء العريض؟!
أيستطيع أن يقول: إنه أعلم بالناس من خالق الناس؟! أيستطيع أن يقول: إنه أعرف بمصالح الناس من إله الناس؟! أيستطيع أن يقول: إن الله سبحانه - وهو يشرع شريعته الأخيرة، ويرسل رسوله الأخير، ويجعل رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتم النبيين،
__________
(1) "الظلال" (2355) .(1/192)
ويجعل رسالته خاتمة الرسالات، ويجعل شريعته شريعة الأبد كان -سبحانه وحاشاه- يجهل أن أحوالاً ستطرأ، وأن حاجات ستستجد، وأن ملابسات ستقع، فلم يحسب حسابها في شريعته لأنها كانت خافية عليه، حتى انكشفت للناس في آخر الزمان؟!
ما الذي يستطيع أن يقوله من ينحي شريعة الله عن حكم الحياة، ويستبدل بها شريعة الجاهلية، وحكم الجاهلية، ويجعل هواه هو أو هوى شعب من الشعوب، أو هوى جيل من أجيال البشر، فوق حكم الله، وفوق شريعة الله؟!
ما الذي يستطع أن يقوله.. وبخاصة إذا كان يدعي أنه من المسلمين؟! الظروف؟! الملابسات؟! عدم رغبة الناس؟! الخوف من الأعداء؟! ألم يكن كل هذا في علم الله، قصور شريعة الله عن استيعاب الحاجات الطارئة؛ والأوضاع المتجددة، والأحوال المتغلبة؟ ألم يكن ذلك في علم الله.
يستطيع غير المسلم أن يقول ما يشاء.. ولكن المسلم.. أو من يدعون الإسلام.. ما الذي يقولون عن هذا كله؛ ثم يبقون على شيء من الإسلام؟ أو يبقى لهم شيء من الإسلام؟ إنه مفرق الطريق الذي لا معدى عنده من الاختيار، ولا فائدة في المماحكة عنده ولا الجدال إما إسلام وإما جاهلية إما حكم الله وإما حكم الجاهلية (1) .
(ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) [الحديد: 16] .
لا يأس من قلب خمد وجمد وقسا وتبلد، فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة، وأن يشرق فيه النور وأن يخشع لذكر الله، فالله يحيي الأرض بعد موتها، فتنبض بالحياة، وتزخر بالنبت والزهر، وتمنح الأكل والثمار، وكذلك القلوب حين يشاء الله.
وفي هذا القرآن ما يُحيي القلوب كما تحيا الأرض وما يمدها بالغذاء والري والدفء" (2) .
__________
(1) "الظلال" (2/905) .
(2) "الظلال" (3489) .(1/193)
يا أصحاب السورة ويا أصحاب السورتين ماذا غرس القرآن في قلوبكم إن القرآن ربيع قلب المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض، إن الغيث قد ينزل على الحبة في الحش، ما يمنعه نتن موضعها من أن تزهر وتثمر وتربو فماذا غرس القرآن في قلوبكم؟!
قال تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله) (1) الآية [الحشر: 21] .
إن لهذا القرآن لثقلاً وسلطاناً وأثراً مزلزلاً لا يثبت له شيء يتلقاه بحقيقته، والذين أحسّوا شيئاً من مس القرآن في كيانهم يتذوقون هذه الحقيقة تذوقاً لا يعبر عنه إلا هذا النص القرآني المشع الموحي".
(وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) [الإسراء: 105] .
لقد أنزل الله هذا القرآن قائماً على الحق منزل ليقر الحق في الأرض ويثبته.. (وبالحق نزل) فالحق مادته والحق غايته، ومن الحق قوامه، وبالحق اهتمامه.. الحق الأصيل الثابت في ناموس الوجود (2) .
(قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً) [الإسراء: 107، 108] .
"هم لا يسجدون ولكن (يخرون للأذقان سجداً) لا تكفي الألفاظ في تصوير ما يجيش في صدورهم منه، فإذا الدموع تنطلق معبرة عن ذلك التأثر الغامر الذي لا تصوره الألفاظ.
"هذا أثر القرآن في القلوب المتفتحة لاستقبال فيضه، العارفة بطبيعته وقيمته".
"إني لأعجب لقرّاء القرآن كيف يهنيهم النوم ومعهم القرآن، أما والله لو علموا ما حملوا لطار عنهم النوم فرحاً بما رُزقوا".
__________
(1) "الظلال" (3532) .
(2) "الظلال" (2253) .(1/194)
في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة".
قال ابن رجب: "دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك، وعرض القرآن على من هو أحفظ له، وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان".
وفى حديث فاطمةَ عليها السلام عن أبيها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه أخبرها أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن كل عام مرة، وأنه عارضه في عام وفاته مرتين.
وفي حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) أن المدارسة بينه وبين جبريل كانت ليلاً يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً فإن الليل تنقطع فيه الشواغل ويجتمع فيه الهم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر كما قال تعالى: (إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً) [المزمل: 6] . (1) فكتاب الله أفضل مؤانس وسميرك إذا احلولكت ظلمة الحنادس.
نعم السمير كتاب الله إن له ... حلاوة هي أحلى من جني الضرب
به فنون المعاني قد جمعن فما ... تفتّر من عجب إلَّا إلى عجب
أمر ونهي وأمثال وموعظة ... وحكمة أودعت في أفصح الكتب
لطائف يجتليها كل ذي بصر ... وروضة يجتنيها كل ذي أدب
قال تعالى: (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرّاً وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور) [فاطر: 29-30] .
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أوصيك بتقوى الله تعالى؛ فإنه رأس كل شيء وعليك بالجهاد فإنه
__________
(1) "لطائف" (189) .(1/195)
رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن، فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض" (1) .
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خياركم من تعلم القرآن وعلمه" (2) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من سرَّه أن يحب الله ورسوله فلينظر في المصحف" (3) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (الم) حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" (4)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه ويتعتع فيه وهو عليك شاق له أجران" (5) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة، اقرأ واصعد فيقرأ ويصعد لكل آية درجة، حتى يقرأ آخر شيء معه" (6) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حَله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيُلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقول: اقرأ وارق، ويزاد بكل آية حسنة" (7) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان ينفر من البيت الذي يُقرأ فيه سورة البقرة" (8) .
__________
(1) حسن: رواه أحمد عن أبي سعيد وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2543) .
(2) صحيح: رواه الدارمي عن سعد، وأحمد وابن أبي شيبة عن علي، وابن أبي شيبة عن عثمان وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3268) .
(3) حسن: رواه أبو نعيم في "الحلية" والبيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن مسعود وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6289) .
(4) رواه البخاري في "التاريخ"، والترمذي، والحاكم عن ابن مسعود وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6469) .
(5) رواه البخاري ومسلم، وأبو داود، وابن ماجة عن عائشة.
(6) رواه أحمد والنسائي، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم، عن ابن عمرو وصححه الألباني رقم (8122) في "صحيح الجامع".
(7) حسن: رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (8030) .
(8) رواه أحمد ومسلم، والترمذي عن أبي هريرة.(1/196)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو كانت سورة واحدة لكفت الناس" (1) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض" (2) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله تعالى يرفع بهذا الكلام أقواماً ويضع به آخرين" (3) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن لله تعالى أهلين من الناس: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته" (4) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أحسن الناس قراءة الذي إذا قرأ رأيت أنه يخشى الله" (5) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن الذي إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله" (6) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "زينوا القرآن بأصواتكم" (7) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قنوت ليلة" (8) .
قال ابن رجب: "كان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها".
"كان الأسود يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وكان يختم في غير رمضان في كل ست ليال" (9) .
__________
(1) صحيح: رواه أحمد، وأبو داود عن أبي سعيد، والطحاوي، وابن حبان، والحاكم، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5293) .
(2) صحيح: رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، وابن جرير عن أبي سعيد وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4473) .
(3) رواه مسلم، وابن ماجة عن عمر.
(4) رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم عن أنس وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2165) .
(5) صحيح: رواه محمد بن نصر في كتاب الصلاة والبيهقي في "شعب الإيمان" والخطيب عن ابن عباس، والسجزي في "الإنابة"، والخطيب عن ابن عمر، والديلمي في "مسند الفردوس" عن عائشة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (194) .
(6) صحيح: رواه ابن ماجة عن جابر وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2202) .
(7) رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم عن البراء، والطبراني عن ابن عباس، وأبو نعيم عن عائشة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3580) .
(8) رواه أحمد والنسائي، عن تميم وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6465) .
(9) "الحلية" (2/163) .(1/197)
"كان قتادة يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة" (1) .
"وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة، وفي بقية الشهر في ثلاث" (2) .
والشافعي قال عنه ربيع بن سليمان: "كان محمد بن إدريس الشافعي يختم في شهر رمضان ستين ختمة، ما منها شيء إلا في صلاة".
وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: كنت أختم القرآن في رمضان ستين مرة.
وقال الحميدي: كان الشافعي يختم القرآن كل يوم ختمة، وعن أبي حنيفة نحوه" (3) .
"وكان سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الرجوي يختم كل يوم".
وأبو العباس بن عطاء: قال عنه أبو الحسين محمد بن علي صاحب الجنيد: "صحبت أبا العباس بن عطاء عدة سنين متأدباً بآدابه، وكان له في كل يوم ختمة، وفي كل شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث ختمات".
قال النووي: "روى ابن أبي داود بإسناده الصحيح أن مجاهداً رحمه الله كان يختم القرآن في رمضان فيما بين المغرب والعشاء" وكانوا يؤخرون العشاء في رمضان إلى أن يمضي ربع الليل" (4) .
وعن منصور: "كان علي الأزدي يختم فيما بين المغرب والعشاء في كل ليلة من رمضان" (5) .
__________
(1) "الحلية" (2/338) ، "لطائف" (191) .
(2) "لطائف" (191) .
(3) "لطائف المعارف" (191) .
(4) "التبيان" (11، 12) ، و"الأذكار" (95، 96) .
(5) "التبيان" (11، 12) ، و"الأذكار" (95، 96) .(1/198)
قال ابن رجب: وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان.
وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام.
قال ابن الحكم. كان مالك إذا دخل رمضان يفرّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم.
قال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن.
وكانت عائشة (رضي الله عنها) تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان فإذا طلعت الشمس نامت.
وقال سفيان: كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع إليه أصحابه.
"وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان، خصوصاً في الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً للزمان والمكان، وهو قول أحمد، وإسحاق وغيرهما من الأئمة وعليه يدل عمل غيرهم كما سبق ذكره" (1) .
قال ابن مسعود: ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، ونهاره إذا الناس يفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون.
قال محمد بن كعب: كنا نعرف قارئ القرآن بصفرة لونه يشير إلى سهره وطول تهجده.
قال وهيب بن الورد: قيل لرجل ألا تنام؟ قال: إن عجائب القرآن أطرن نومي.
قال أحمد بن الحواري: إني لأقرأ القرآن وانظر في آية فيحير عقلي بها،
__________
(1) "لطائف" (191، 192) .(1/199)
وأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم، ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا وهم يتلون كلام الله، أما إنهم لو فهموا ما يتلون، وعرفوا حقه وتلذذوا به واستحلوا المناجاة به لذهب عنهم النوم فرحاً بما رزقوا.
وأنشد ذو النون المصريّ:
منع القرآن بوعده ووعيده ... مقل العيون بليلها لا تهجع
فهموا عن الملك الكريم كلامه ... فهماً تذل له الرقاب وتخضع (1)
رمضان والشفاعة:
لأنه شهر الصيام والقرآن وهما يشفعان للعبد يوم القيامة قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. "القرآن شافع مشفع، ماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار" (2) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه" (3) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، يقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان" (4) .
عن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب فيقول: أنا الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك" (5) .
__________
(1) "لطائف المعارف" (193) .
(2) رواه ابن حبان، وابن ماجة عن جابر، والطبراني في "الكبير" والبيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن مسعود وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4443) .
(3) رواه أحمد، ومسلم عن أبي أمامة.
(4) صحيح: رواه أحمد والطبراني في "الكبير" عن ابن عمرو، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3882) .
(5) قال الألباني في "صحيح ابن ماجة" (2/314) : ضعيف يحتمل التحسين. قال ابن كثير: هذا إسناد حسن
على شرط مسلم فإن بشيراً هذا خرج له مسلم ووثقه ابن معين وقال النسائي ما به بأس انظر "الفتح الرباني" (18/72) .(1/200)
قال ابن رجب (1) : "فالصيام يشفع لمن منعه الطعام والشهوات المحرمة كلها سواء كان تحريمها يختص بالصيام كشهوة الطعام والشراب والنكاح ومقدماتها أولا يختص كشهوة فضول الكلام المحرمة، والنظر المحرم والسماع المحرم، والكسب المحرم، فإذا منعه الصيام من هذه المحرمات كلها فإنه يشفع له عند الله يوم القيامة، ويقول: يا رب منعته شهواته فشفعني فيه، فهذا لمن حفظ صيامه ومنعه من شهواته، فأما من ضيّع صيامه ولم يمنعه مما حرمه الله عليه فإنه جدير أن يضرب به وجه صاحبه ويقول له: ضيعك الله كما ضيعتني.
قال بعض السلف: إذا احتضر المؤمن يقال للملك: شم رأسه قال: أجد في رأسه القرآن، فيقال: شم قلبه، فيقول: أجد في قلبه الصيام، فيقال: شم قدميه، فيقول: أجد في قدميه القيام، فيقال: حفظ نفسه حفظه الله عز وجل.
وكذلك القرآن إنما يشفع لمن منعه من النوم بالليل، من قرأ القرآن وقام به فقد قام بحقه فيشفع له، أما من كان معه القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به بالنهار، فإنه ينتصب القرآن خصماً له يطالبه بحقوقه التي ضيعها كما جاء في حديث سمرة ابن جندب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني وقالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر هاهنا، فيتبع الحجر فيأخذه فلا ورجع إليه حتى يصحّ رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل به المرة الأولى" ... الحديث وفيه: "أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ بالقرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة" (2) .
يا من ضيّع عمره في غير الطاعة، يا من فرط في شهره بل في دهره وأضاعه، يا من بضاعته التسويف والتفريط، وبئست البضاعة، يا من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان، كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة (3) .
__________
(1) "اللطائف" (192) .
(2) رواه البخاري تاماً في كتاب التعبير باب تعبير الرؤيا، ومسلم، وأحمد، والترمذي، والنسائي.
(3) "اللطائف" (194) .(1/201)
ويل لمن شفعاؤه خصماؤه ... والصور في يوم القيامة ينفخ
يا إخوتاه:
"هذا عباد الله شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وفي بقيته للعابدين مستمتع وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم ويُسمع، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً يتصدع، ومع هذا فلا قلب يخشع، ولا عين تدمع، ولا صيام يصان عن الحرام فينفع، ولا قيام استقام فيرجى في صاحبه أن يشفع، وتراكمت عليها ظلمة الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع، كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكم يتوالى علينا شهر رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة، لا الشاب منا ينتهي عن الصبوة، ولا الشيخ ينزجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة وإذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم جلوة، وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والأبصار، أفمالنا فيهم أسوة؟ ما بيننا وبين حال الصفا أبعد مما بين الصفا والمروة، كلما حسنت منا الأقوال ساءت الأعمال.
يا نفس فاز الصالحون بالتقى ... وأبصروا الحق وقلبي قد عمي
يا حسنهم والليل قد جنهم ... ونورهم يفوق نورالأنجم
ترنموا بالذكر في ليلهم ... فعيشهم قد طاب بالترنم
قلوبهم للذكر قد تفرغت ... دموعهم كلؤلؤ منتظم
أسحارهم بهم لهم قد أشرقت ... وخلع الغفران خير القسم
ويحك يا نفس ألا تيقظ ... ينفع قبل أن تزل قدمي
مضى الزمان في ثوان وهوى ... فاستدركي ما قد بقى واغتنمي (1)
__________
(1) "لطائف المعارف" (194، 195) .(1/202)
"سجع"
إخواني:
"هذه الأيام تصان، هي كالتاج على رأس الزمان، وصل توقيع القِدم من الرحيم الرحمن (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) [البقرة: 185] .
* قد ذهب نصف البضاعة في التفريط والإضاعة، والتسويف يمحق ساعة بعد ساعة والشمس والقمر بحسبان (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) .
* يا واقفاً في مقام التحيّر هل أنت على عزم التغيّر؟ إلى متى ترمني بالنزول في منزل الهوان (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) .
* هل مضى من يومك يوم صالح، سلمت فيه من جرائم القبائح، تالله لقد سبق المتقي الرابح وأنت راض بالخسران (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) .
* عينك مطلقة في الحرام، ولسانك منبسط في الآثام، ولأقدامك على الذنوب إقدام والكل مثبت في الديوان (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) .
* تالله لو غفلت حالك أو ذكرت ارتحالك، أو تصورت أعمالك لبنيت بيت الأحزان (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) .
* سيشهد رمضان عليك، بنطق لسانك ونظر عينيك، وسيشار يوم الجمع إليك، شقى فلان وسعد فلان (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) .
* في كل لحظة تُقرَّب من قبرك، فانظل لنفسك في تدبير أمرك، وما أراك إلا كأول شهرك، الأول والآخر سيان (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) .
* زنوا أفعالكم في هذا الشهر بميزان، واشتروا خلاصكم بما عزَّ وهان، فإن عجزتم فسلوا المعين وقد أعان، إن كان في الماضي قد قبح الوصف فقم الآن (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) .(1/203)
"سجع"
صاموا النهار بلا فتور نصبوا الأقدام في الدَّيجور، ببكاء مطرود مهجور، فامتلأت بالخيرات الجحور (يرجون تجارة لن تبور) .
رفضوا الدنيا شغلاً عن الزينة، وأذلوا أنفسهم فعادت مسكينة، وعلموا الدنيا سفينة فتهيأوا للعبور (يرجون تجارة لن تبور) .
يؤثرون بالطعام ويؤثرون الصيام، يأملون فضل الإنعام، فما كانت إلا أيام حتى اخضرت البذور (يرجون تجارة لن تبور) .
العليل عليل، والأنين طويل، والعيون تسيل، وما مضى إلا القليل حتى فرح الصبور (يرجون تجارة لن تبور) (1) .
بخلوف عبد مسكين نالوا المقام الأمين، وانشعب قلب الحزين بأكمل الحبور (يرجون تجارة لن تبور) .
سبحان من قضى لقوم سروراً، وعلى آخرين ثبوراً فما لهم من نور (يرجون تجارة لن تبور) (2) .
رمضان شهر التراويح والتهجد
شهر رمضان شهر المصالح، شهر التهجد والتراويح، واهاً لأوقاته من زواهر ما أشرفها، ولساعاته التي كالجواهر ما أظرفها، أشرقت لياليها بصلاة التراويح، وأنارت أيامها بالصيام والتسبيح، حليتها الإخلاص والصدق، وثمرتها الخلاص والعتق.
فطوبى لعبد صام نهاره، وقام أسحاره ... يا حسنه ومصابيح النجوم تزهر، والناس قد ناموا وهو في الخير يسهر، غسل وجهه من ماء عينه وعَين العين أطهر.
__________
(1) "التبصرة" (2/96، 97) .
(2) "التبصرة" بتصرف (2/291) .(1/204)
وكم من فوائد ومعان في التراويح:
(1) قيام رمضان من الإيمان، ومغفرة لسالف الذنوب:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (1) .
وزاد مسلم في أوله: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرغِّبُ في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمته ثم يقول: "من قام رمضان ... " (2) .
قال الألباني: "هذا الترغيب وأمثاله بيان لفضل هذه العبادات بأنه لو كان على الإنسان ذنوب تغفر له بسبب هذه العبادات، فإن لم يكن للإنسان ذنب، يظهر هذا الفضل في رفع الدرجات كما في حق الأنبياء المعصومين من الذنوب" (3) .
(2) استحقاق قائمة اسم الصديقين والشهداء:
وهذا فيض الكريم وجوده يسوقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه الغنم كل الغنم: "جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، أرأيت إذ شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته فَمِمن أنا؟ قال: "من الصديقين والشهداء" (4) .
ولفظ ابن خزيمة: "جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل من قضاعة، فقال له: إن شهدت ألا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات وصمت الشهر وقمت رمضان، وآتيت الزكاة؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من مات على هذا كان من الصديقين والشهداء".
__________
(1) أخرجه أصحاب الكتب الستة، ومالك، وأحمد، والدارمي، والفريابي في "كتاب الصوم" وعبد الغني المقدسي في "فضائل رمضان".
(2) زيادة عند مسلم وأبي داود، والترمذى.
(3) "التعليق على صحيح الترغيب والترهيب" (1/415) .
(4) صحيح: رواه البزار، وابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما" واللفظ لابن حبان، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" رقم (993) ، و"التعليق على ابن خزيمة" (2212) .(1/205)
وما زاد الصحابي الجليل على أركان الإسلام الخمسة إلا قيام رمضان واستحق بهذه الزيادة اسم الصديقين والشهداء.
كان عمر بن الخطاب إذا دخل أول ليلة من رمضان يصلي المغرب ثم يقول:
"أما بعد، فإن هذا الشهر كُتب عليكم صيامه، ولم يُكتب عليكم قيامه، فمن استطاع منكم أن يقوم فليقم، فإنها نوافل الخير التي قال الله" (1) .
* وقال أحدهم: ما على أحدكم أن يقول: الليلة ليلة القدر، فإذا جاءت أخرى قال: الليلة ليلة القدر".
وكان ابن عون إذا جاء شهر رمضان جاء برمل فألقاه في المسجد، ثم يقول لبنيه: "ما تبتغون بعد شهر رمضان وكان لا ينام" (2) .
(3) من قام مع إمامه كتب له قنوت ليلة:
جاء في حديث أبي ذر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام الليلة" (3) .
قال الألباني: [والشاهد من هذا الحديث قوله: "من قام مع الإمام ... " فإنه ظاهر الدلالة على فضيلة قيام رمضان مع الإمام] .
قال صاحب عون المعبود: "حصل له ثواب قيام ليلة تامة".
وعن أبي إسحاق الهمداني: خرج علي بن أبي طالب في أول ليلة من رمضان، والقناديل تزهر في المسجد، وكتاب الله يتلى فجعل ينادي: نوّر الله لك يا ابن الخطاب في قبرك كما نوّرت مساجد الله بالقرآن" (4) .
__________
(1) "المصنف" لعبد الرزاق.
(2) "مختصر قيام الليل" (ص 92) .
(3) سنده صحيح: رواه أبو داود، واللفظ له، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجة، وابن أبي شيبة، وقال الألباني: سنده صحيح "صلاة التراويح" (ص 15) .
(4) "مختصر قيام الليل" (ص 94) .(1/206)
فاتق الله في عمرك، وأقبل على صلاة التراويح يقبل الله عليك وانظر إلى سلفك من الصحابة.
عن السائب بن يزيد أنه قال: "أمر عمر بن الخطاب أبيّ بن كعب وتميماً الداري أن يقوما بالناس بإحدى عشرة ركعة. قال: وقد كان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنّا نعتمد على العصيّ من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر" (1) خشية أن يفوتنا الفلاح: السحور (2) .
والله ما صلاح الأجساد إلا بانتصابها في القيام والتراويح وهو شفاء من أمراض الأجساد والقلوب ورفعة للدرجات عند علاَّم الغيوب وهذا طريق الصالحين من قبلنا.
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد" (3) .
في بحث أعدته الدكتورة "سلوى محمد رشدي" جامعة حلوان كلية التربية الرياضية وموضوعه "صلاة التراويح وأثرها على مرونة العمود الفقري والكفاءة الوظيفية للقلب بعد الستين".
تقول الدكتورة سلوى: "إن هذه الدراسة تهدف إلى التعرف على أهمية صلاة التراويح للمسلم، وأثر ذلك على الكفاءة الوظيفية للقلب، ودرجة المرونة في العمود الفقري ... وقد أجريت هذه الدراسة على عينة مكونة من ستين رجلاً وامرأة مقسمين إلى ثلاثين ممن قاموا بتأدية التراويح في شهر رمضان عام 1405هـ،
__________
(1) سنده صحيح: أخرجه مالك في باب "ما جاء في قيام رمضان" وعنه البيهقي في "سننه الكبرى" وقال السيوطي في المصابيح "سنده في غاية الصحة" وصححه الألباني.
(2) صلاة التراويح وما يتعلق بها من أحكام، وأحكام قيام الليل عامة مبسوط في جمعي "رهبان الليل".
(3) صحيح: رواه الترمذي والبيهقي والحاكم في "المستدرك" عن بلال، والترمذي، والحاكم، والبيهقي في "السنن" عن أبي أمامة، وابن عساكر في "التاريخ" عن أبي الدرداء، والطبراني في "الكبير" عن سلمان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3958 ج3/50) .(1/207)
وثلاثين من المصلين الذين لم يقوموا بتأديتها، وقد طبعت عليهم اختبارات لمعرفة مرونة العمود الفقري من الأوضاع المختلفة، وكذلك اختبار الكفاءة الوظيفية باستخدام العملية الأرجومترية.. وقد أظهرت هذه الدراسة أن هناك فروقاً كبيرة بين المصلين التراويح وغير المصلين، في درجة مرونة العمود الفقري، وكذلك في الكفاءة الوظيفية للقلب، وقالت الدكتورة سلوى رشدي: لقد أوصيت في هذه الدراسة بتشجيع المسلم على تأدية الصلاة عموماً، وعلى صلاة التراويح على وجه الخصوص لما لها من فائدة على الجهاز الدوري والتنفسي، ومرونة مفاصل الجسم وخاصة العمود الفقري، حيث أن كبار السن في حاجة إلى القيام بتأدية التمرينات التي تحافظ على اللياقة البدنية، واللياقة الوظيفية للقلب" (1) .
وقد كان صحابة رسول الله يربطون الحبال بين السواري ثم يتعلقون بها من طول القيام في التراويح.
قال ابن رجب: "إن جمع ثلاثة قرآء فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ بالناس ثلاثين، وأوسطهم بخمس وعشرين، وأبطأهم بعشرين ثم كان في زمن التابعين يقرؤون بالبقرة في قيام رمضان في ثمان ركعات، فإن قرأ بها في اثنتي عشرة ركعة رأوا أنه خفف".
قال ابن منصور: سئل إسحاق بن راهويه: كم يقرأ في شهر رمضان؟ فلم يرخص في دون عشر آيات، فقيل له: إنهم لا يرضون، فقال: لا رضوا، فلا تؤمنَّهم إذا لم يرضوا بعشر آيات من (البقرة) ، يعني في كل ركعة، وكذلك كره مالك أن يقرأ دون عشر آيات.
وقال الإمام أحمد: إنما الأمر على ما يحتمله الناس.
وقال أحمد لبعض أصحابه وكان يصلي بهم في رمضان: هؤلاء قوم ضعفاء، اقرأ خمساً، ستاً، سبعاً: فقرأت فختمت ليلة سبع وعشرين.
__________
(1) انظر مجلة الاعتصام العددان الرابع والخامس محرم وصفر سنة 1406هـ نوفمبر وديسمبر سنة 1985م ص (20، 21) .(1/208)
وكلام الإمام أحمد يدل على أنه يراعي في القراءة حال المأمومين، فلا يشق عليهم، وقاله أيضاً غيره من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم (1) .
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين" (2) .
قوله: "من المقنطرين" أي: ممن كتب له قنطار من الأجر.
وقال الحافظ ابن حجر: "من سورة (تبارك الذي بيده الملك) إلى آخر القرآن ألف آية والله أعلم".
قال ابن رجب: "وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث، وبعضهم في كل سبع، منهم قتادة، وبعضهم في كل عشرة، منهم أبو رجاء العطاردي" فرحم الله رجلاً قدم لآخرته، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، وقدم مهره فإنما مهر الحور الحسان طول التهجد بالقرآن، ولا تكن مِمّن يعظم الخطة ويسيء المهر".
بادر يا أخي فإنه مبادر بك.
كان أبو الدرداء يقول: صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، صوموا يوماً شديداً حره لحر يوم النشور، تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير" (3) .
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة ... فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلاً
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويصبح ذا الأحزان فرحان جاذلا
* * *
__________
(1) "بغية الإنسان في وظائف رمضان" لابن رجب الحنبلي (ص 35) دار القادسية.
(2) صحيح: رواه أبو داود، وابن خزيمة، وحسنه الألباني فى "صحيح الترغيب"رقم (635) ، وصححه في "صحيح الجامع" رقم (6315) .
(3) "بغية الإنسان في وظائف رمضان" (ص 29) .(1/209)
رمضان شهر تكفير الذنوب
أنعم الكريم على الأمة بتمام إحسانه، وعاد عليها بفضله وامتنانه، وجعل شهرها هذا مخصوصاً بعميم غفرانه.
يا إخوتاه: أيام رمضان أيام محو ذنوبكم فاستغيثوا إلى مولاكم من عيوبكم.
هي أيام الإنابة فيها تفتح أبواب الإجابة، فأين اللائذ بالجناب، أين المتعرّض بالباب، أين الباكي على ما جنى، أين المستغفر لأمر قد دنا.
كم منقول في هذه الليلة من ديوان الأحياء عن قريب يفاجأ بالممات وهو مقيم على السيئات، ألا رب فَرِح بما يؤتى قد خرج اسمه مع الموتى ألا رب غافل عن تدبير أمره قد انفصمت عُرَى عمره، ألا رب مُعْرض عن سبيل رشده قد آن أوان شق لحده، ألا رُبّ رافل في ثوب شبابه قد أزف فراقه لأحبابه، ألا رب مقيم على جهله قد ترب رحيله عن أهله، ألا رب مشغول بجمع ماله قد حانت خيبة آماله، ألا ربّ ساع في جمع حطامه قد دنا تشتت عظامه، ألا ربّ مُجدّ في تحصيل لذاته قد آن خراب ذاته.
أين المعتذر مما جناه فقد اطلع عليه مولاه، أين الباكي على تقصيره قبل تحسره في مصيره.
يا مطروداً ما درى، تعاتب ولا تفهم ما جرى، متى تُرَى على الباب تُرَى.
تعالوْ كلّ من حضرا ... لنطرق بابه سحرا
ونبكي كلنا أسفا ... على من بات قد هجرا
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أتاني جبريل، فقال: يا محمد، من أدرك أحد والديه فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، قال: يا محمد، من أدرك شهر رمضان فمات ولم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله، قل آمين، فقلت: آمين، قال: ومن ذُكرت عنده فلم يُصل عليك فمات فدخل النار فأبعده(1/210)
الله، قل: آمين، فقلت: آمين" (1) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رغم أنف (2) رجل ذُكرت عنده فلم يصل على، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة" (3) .
قال المناوي. "رغم أنف من علم أنه لو كفّ نفسه عن الشهوات شهراً في كل سنة، وأتى بما وُظفَ له فيه من صيام وقيام غفر له ما سلف من الذنوب فقصّر ولم يفعل حتى انسلخ الشهر ومضى، فمن وجد فرصة عظيمة بأن قام فيه إيماناً واحتساباً عظّمه الله، ومنْ لم يعظِّمه الله حقَّره وأهانه" (4) .
"والغفران مشروط بشرطين: الإيمان والاحتساب، وهما مدار الفرق بين العادة والعبادة فبدونهما يكون الصوم إرثاً وتقليداً قلّما يدفع صاحبه إلى الخير وينهاه عن الشر" (5) .
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (6) ، "وما تأخر".
قال الحافظ ابن حجر: زاد أحمد "وما تأخر"، ووقعت هذه الزيادة في رواية الزهري عن أبي سلمة، وقد وقعت هذه الزيادة أيضاً في حديث عبادة بن الصامت عند الإمام أحمد من وجهين وإسناده حسن، وقد استوعبت الكلام على طرقه في
__________
(1) صحيح: رواه الطبراني في (الكبير عن جابر بن سمرة، ورواه ابن حبان في "صحيحه"، وصححه الألباني فى "صحيح الجامع" رقم (75) .
(2) رغِم: بالكسر أي لصق بالرغام أي: التراب هذا أصله، ثم استعمل في الذل والعجز عن الانتصاف.
(3) صحيح: رواه الترمذي في الدعوات، وقال: حديث حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح، وقال بن حجر: له شواهد، وقال الألباني: وإسناده حسن، وأخرج منه الحاكم (1/549) الفقرة الأولى من هذا الوجه، وأخرج مسلم الفقرة الأخيرة منه عن أبي هريرة، وصححه الألباني في تحقيق المشكاة (رقم 927) ، و"صحيح الجامع" رقم (3510) .
(4) "فيض القدير" (4/34) .
(5) "الصوم في ضوء الكتاب والسنة" للأشقر ص (14) .
(6) رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة مختصراً.(1/211)
"كتاب الخصال المكفرة للذنوب المقدمة والمؤخرة" (1) .
وقال الساعاتي في "الفتح الرباني" (9/25) : "رواه أحمد بالزيادة بعد ذكر الصوم إسناد حسن، وقال المنذري: انفرد بهذه الزيادة قتيبة بن سعيد عن سفيان وهو ثقة ثبت وإسناده على شرط الصحيح" ا. هـ.
وفي رواية النسائي: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
قال الخطابي: " (إيماناً واحتساباً) أي نية وعزيمة، وهو أن يصومه على التصديق والرغبة في ثوابه، طيبة به نفسه غير كاره له، ولا مستثقل لأيامه لكن يغتنم طول أيامه لعظم الثواب".
وقال البغوي: "احتساباً" أي طلباً لوجه الله وثوابه: يقال فلان يحتسب الأخبار ويتحسبّها: أي يتطلبها.
قال المناوي: "أي صام أيامه كلها إيماناً بفرضيته ومصدقاً طلباً للثواب".
قال الحافظ ابن حجر: ظاهره يتناول الصغائر والكبائر وبه جزم ابن المنذر.
وقال النووي: "المعروف أنه يختص بالصغائر، وبه جزم إمام الحرمين، وعزاه عياض لأهل السنة، وقال بعضهم. ويجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة".
وقال المناوي: "غفر له ما تقدم من ذنبه" لكنْ خصه الجمهور بالصغائر والتصديق والاحتساب وهو الطواعية شرط لنيل الثواب والمغفرة في صوم رمضان، فينبغي الإتيان به بنية خالصة وطويّة صافية امتثالاً لأمره تعالى واتكالاً على وعده من غير كراهية وملالة لما يصيبه من أذى الجوع والعطش وكلفة الكفّ عن قضاء الوطر، بل يحتسب النصب والتعب في طول أيامه، ولا يتمنى ساعة انصرافه ويستلذ مضاضيته".
__________
(1) "فتح الباري" (4/138-139) .(1/212)
وقال: "علم من الأدلة الخارجية أن حقوق الخلق لابدّ فيها من رضا الخصم فهو عام خصّ بحق الله إجماعاً، بل وبالصغائر عند قوم، وظاهره أن ذلك لا يحصل إلا بصومه كله، فإن صام بعضه وأفطر بعضه لعذر كمرض -وكان لولاه لصام- جاز الثواب ذكره ابن جماعة" (1) .
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" (2) .
* عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "احضروا المنبر" فحضرنا، فلما ارتقى درجة قال: "آمين"، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: "آمين"، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: "آمين" فلما نزل قلنا: يا رسول الله! لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه، قال: (إن جبريل عرض لي فقال: بَعُد من أدرك رمضان فلم يغفر له، قلت: (آمين) ، فلما ترقيت الثانية قال: بَعُد من ذُكرت عنده فلم يصل عليك فقلت: (آمين) ، فلما رقيت الثالثة قال: بَعُد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قلت: (آمين) (3) .
"وعن الحسن بن مالك بن الحويرث عن أبيه، عن جده قال:
صعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر فلما رقى عتبة قال: "آمين" ثم رقى أخرى فقال: "آمين"، ثم رقى عتبة ثالثة فقال: "آمين"، ثم قال: "أتاني جبريل فقال: يا محمد! من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله، فقلت: (آمين) ، قال: ومن أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار فأبعده الله، فقلت: (آمين) ، قال: ومن ذُكرت عنده فلم يصل عليك فأبعده الله، فقلت: (آمين) " (4) .
__________
(1) "فيض القدير"، للمناوي (4/34) .
(2) رواه مسلم.
(3) صحيح: رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"رقم (985) .
(4) صحيح: رواه ابن حبان في"صحيحه"، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"، رقم (986) .(1/213)
"وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صعد المنبر فقال: "آمين، آمين، آمين"، قيل: يا رسول الله! إنك صعدت المنبر فقلت: "آمين، آمين، آمين" فقال: "إن جبرائيل عليه السلام أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: (آمين) ، فقلت: (آمين) ... الحديث (1) .
يا إخوتاه.. قال ابن مسعود: وددت لو أن الله غفر لي ذنباً واحداً وأن لا يعرف لي نسب، وقال: وددت أني عبد الله بن روثة وأن الله غفر لي ذنباً واحد.
فما ظنك بغفران الذنوب في رمضان.
أخي
* يا مضيعاً اليوم تضييعه أمس، تيقظ.... ويحك ... فقد قتلت النفس، وتنبه للسحور فإلى كم نحس، واحفظ بقية العمر فقد بعت الماضي بالبخس.
* يا من يجول في المعاصي قلبه وهمه، يا مؤثراً الهوى على التقى لقد ضاع حزمه، يا معتقداً صحته فيما هو سقمه، يا من كلما زاد عمره زاد إثمه، يا طويل الأمل وقد رق عظمه (2) .
يا لديغ الأمل قد بالغ فيه سمه.... حبال الأمل رثاث، وساحر الهوى نفّاث، رحل العصاة إلى ظلام الأجداث، باتوا شباعاً من المعاصي فإذا هم غِراث (3) .
يا قليل العبر وقد رحل أبوه وأمه، يا من سيجمعه اللحد عن قليل ويضمّه، كيف يوعظ من لا يعظه عقله ولا فهمه. كيف يُوقظ من نام قلبه لا عينه ولا جسمه؟! (4) .
__________
(1) صحيح: رواه ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحه" واللفظ له.
(2) "التبصرة" (2/68) .
(3) الغراث: الجوعى.
(4) "التبصرة" (2/68-69) .(1/214)
أخى
من ناله داءٌ دو بذنوبه ... فليأت في رمضان باب طبيبة
فخُلُوف هذا الصوم يا قوم اعملوا ... أشهى من المسك السحيق وطيبه
أو ليس هذا القول قول مليككم ... الصوم لي وأنا الذي أجزي به
أين من كان معكم في رمضان الماضي؟، أما أفنته المنون القواضي، أين من كان يصلي التراويح في الظلم؟ سافر عن داره منذ زمان ولِمَ؟ أين من صبر على الجوع والظّمَا، غاب فما آب ومضى فما، أين الذين ارتفعت أصواتهم بالأدعية خرجت تلك الجواهر من تلك الأدعية.
* أيُّها الغافل اعرف زمانك، يا كثير الحديث فيما يؤذي احفظ لسانك، يا مسئولاً عن أعماله اعقل شأنك، يا متلوناً بالزلل اغسل بالتوبة أدرانك، يا مكتوباً عليه كل قبيح تصفح ديوانك.
* أخي؟ يا من أكثر عمره مع الذنوب قد مضى....، إن كان ما فرط يوجب السخط فاطلب في هذا الشهر الرضا، يا كثير القبائح غداً تنطق الجوارح، فأين الدموع السوافح، يا ذا الداء الشديد الفاضح سُدَّ أبواب اللهو والممازح (1) .... أيها الرائح، كيف حالك في الضرائح، من لك إذا أوثقك الذابح؟!.
* يا من قد سارت بالمعاصي أخباره، يا من قد قَبُح إعلانه وإسراره، أتؤثر الخسران -قل لي- وتختاره؟ يا كثير الذنوب وقد دنا إحضاره، نقدك بهرج إذا حُك معياره.
قد ضاعت في الذنوب الأعمار، فأين يكون لهذا الغرس إثمار؟!.
إخواني: اعرفوا قَدْر مَنْ قدر، تذكروا كيف عصيتم وستر، وايم الله لو قمتم على البصر، وسجدتم شكراً على الإبر، ما وفيتم بشكر نعيم محتقر، أما طوى
__________
(1) جمع ممزح.(1/215)
القبيح وكل الجميل نشر، أما بعض نعمه السمع والبصر.
بك أستجير ومن يجير سواكا ... فأجر ضعيفْاً يحتمي بحماكا
يا غافر الذنب العظيم وقابلا ... للتوب قلب تائب ناجاكا
أترده وترد صادق توبتي ... حاشاك تطرد لائذا حاشاكا
أنا كنت يا ربي أسير غشاوة ... رانت على قلبي فضل سناكا
واليوم يا رب محوت غشاوتي ... وبدأت بالقلب البصير أراكا
ذقت الهوى مرّاً ولم أذق الهوى ... يا رب حلواً قبل أن أهواكا
* أيها المجتهد هذا ربيع جِدِّك، أيها الطالب هذه أوقات رِفدك، تيقظ أيها الغافل من سنة البطالة، تحفظ أيها الجاهل من شبه الضلالة، اغتنم سلامتك في قبرك قبل انقراض مدتك وعزم عدتك، وإزماع فوتك وانقطاع صوتك، وعثور قدمك وظهور ندمك؟ فإن العمر ساعات تذهب وأوقات تنهب، وكلها معدودة عليك، والموت يدنو كل لحظة إليك.
قال السري السقطي: "السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، وأنفاس العباد ثمرتها، فشهر رجب أيام توريقها، وشعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها، والمؤمنون قطّافها".
هذه الأشهر الثلاث المعظمة كالجمرات الثلاث، فرجب كأول جمرة تحمي بها العزائم، وشعبان كالثانية تذوب فيها مياه العيون، ورمضان كالثالثة تورق فيها أشجار المجاهدات، وأي شجرة لم تورق في الربيع قطعت للحطب.
فيا منْ قد ذهبت عنه هذه الأشهر وما تغير أحسن الله عزاءك!
ياهذا:
لو قيل لأهل القبور تَمنَّواْ لتمنوا يوماً من رمضان، وأنت كلما خرجت من ذنوب دخلت في أخر، يا قليل الصفا إلى كم هذا الكدر، أنت في رمضان كما(1/216)
كنت في سفر، أما تنفعك العبر، أَصُمّ السمعُ أمْ غُشِي البصر، آن الرحيل وأنت على خطر، ودنا السفر وتأمن الغِيَر؟!، وعند الممات يأتيك الخبر.
أنا العبد الذي كسب الذنوبا ... وصدته الأماني أن يتوبا
أنا العبد الذي أضحى حزينا ... على زلاته قلقاً كئيباً
أنا العبد الذي سطرت عليه ... صحائف لم يخف فيها الرقيبا
أنا العبد المسيء عصيت سرّاً ... فمالي الآن لا أبدي النحيبا
أنا العبد المفرط ضاع عمري ... فلم أرع الشبيبة والمشيبا
أنا العبد الغريب بلج بحر ... أصيح لربما ألقى مجيبا
أنا العبد السقيم من الخطايا ... وقد أقبلت ألتمس الطبيبا
أنا العبد المخلف عن أناس ... حووا من كل معروف نصيبا
أنا العبد الفقير مددت كفي ... إليكم فارفعوا عني الخطوبا
أنا الغدار كم عاهدت عهداً ... وكنت على الوفاء به كذوبا
أنا المقطوع فارحمني وصلني ... ويسر منك لي فرجاً قريباً
أنا المضطر أرجوا منك عفواً ... ومن يرجو رضاك فلن يخيبا
فيا أسفي على عمر تقضى ... ولم أكسب به إلا الذنوبا
وأحذر أن يعاجلني ممات ... يحير هول مصرعه اللبيبا
ويا حزناه من حشري ونشري ... بيوم يجعل الولدان شيبا
تفطرت السماء به ومارت ... وأصبحت الجبال به كثيباً
إذا ما قمت حيراناً ظميئا ... حسير الطرف عرياناً سليبا
ويا خجلاه من قبح اكتسابي ... إذا ما أبدت الصحف العيوبا(1/217)
وذلة موقف وحساب عدل ... أكون به على نفسي حسيبا
ويا حذراه من نار تلظى ... إذا زفرت وأقلقت القلوبا
تكاد إذا بدت تنشق غيظاً ... على مَنْ كان ظلاماً مريبا
فيا من مَدّ في كسب الخطايا ... خطاه أما آن الأوان لأن تتوبا (1)
أخي:
يا صاحب الخطايا أين الدموع الجارية؟!.
يا كثير المعاصي ابك على الذنوب الماضية، يا مبارزاً بالقبائح أتصبر على الهاوية، أسفاً لك إذا جاءك رمضان وما أنبت، واحسرةً لك إذا دعيت إلى التوبة فما أجبت، كيف تصنع إذا نودي بالرحيل وما تأهبت، ألست الذي بارزت بالكبائر وما راقبت.
قد مضى في اللهو عمري ... وتناهى فيه أمري
شمر الأكياس وأنا ... واقف قد شيب أمري
بان ربح الناس دوني ... ولحيني بان خسري
ليتني أقبل وعظي ... ليتني أسمع زجرى
كل يوم أنا رهن ... بين آثامي ووزري
ليت شعري هل أرى لي ... هِمة في فك أسري
أو أُرى في توبة صدق ... قبل أن أنزل قبري
ويح قلبي من تناسيه ... مقامي يوم حشري
واشتغالي عن خطايا ... أثقلت والله ظهري
__________
(1) الإمام الصرصري.(1/218)
يا إخوتاه:
مآثم المذنبين ما تنقضى ... آخر الدهر أو يحلوا اللحودا
وحقيق أن ينوحوا ويبكوا ... قد عصوا ماجداً رءوفا ودودا
كل ثكلى أحزانها لنفاد.. ولنا الحزن قد نراه جديدا
كيف تفنى أحزان من ... عاهد الله مراراً وخان منه العهودا
ويح نفسي ما أقول إذا ما ... أحضر الله رُسله لي شهودا
ثم قال اقرأ ماذا عملت وجاوز ... ت بما كان منك الحدودا
ثم تخفي لما استترت من الخلـ ... ـق وبارزتني وكنت شهيدا
* "أيها التائب لا تستصحب إلا حزيناً يبكيك، ما يصلح لمرافقة الثكلى إلا مثلها، لما خرجت أزهار الربيع طلب الورد رفيقاً من النبات يأنس به، لما نبت، فأبت كلها عن صحبته، وقالت: أنت ملول لا تقيم على مودة، فصاح به الياسمين أنت صاحبي قد اشتركت في قصر العمر، فأشر أنت إلى التائب باحمرار الخجل، حتى أشير أنا إلى الخائف باصفرار الوجل، لو علم الورد قصر عمره ما تبسم وكذا الوغد، أيها المذنب قف بالباب إذا نام الناس، وابسط لسان الاعتذار، ونكس الرأس وقل ليس عندي سوى الفقر والإفلاس.
يا سندي وسيدي ومددي ... قد أوهن طردكم وبعدي جلدي (1)
التائبون العابدون "سجع"
* سبحان من وفّق للتوبة أقواماً، ثبت لهم على صراطها أقداماً، كفوا الأكف عن المحارم احتراماً، فكفر عنهم ذنوباً وآثاماً ونشر لهم بالثناء على ما عملوا أعلاماً، فهم على رياض المدائح بترك القبائح يتقلبون "التائبون العابدون".
__________
(1) "رؤوس القوارير" (ص 151) .(1/219)
* ندموا على الذنوب فَنُدبوا، وسافروا إلى المطلوب فاغتبروا، وسَقَوا غرس الخوف دمع الأسف وشربوا، فإذا أقلقهم الحذر طاشوا وهربوا، وإذا هبّ عليهم نسيم الرجاء عاشوا وطربوا، فتأمل أرباحهم وتلمّح ما كسبوا، واعلم أن نيل النصيب بالنصيب يكون "التائبون العابدون".
* نظروا إلى الدنيا بعين الاعتبار، فعلموا أنها لا تصلح للقرار، فنغصوا بالصيام لذة الهوى بالنهار، وبالأسحار هم يستغفرون "التائبون العابدون".
* أبدانهم قلقى من الجوع والضرر، وأجفانهم قد حالفت في الليل السهر، ودموعهم تجري كدائمة المطر، تأهب القوم فهم على أقدام السهر، عبروا عليكم ومروا لديكم وما عندكم خبر، وترنمت حداتهم لو تسمعون "التائبون العابدون".
يا رب سِر بنا في سَرب النجابة، ووفقنا للتوبة والإنابة، وافتح لأدعيتنا أبواب الإجابة، يا من إذا سأله المضطر أجابه، يا من يقول للشيء كن فيكون.
"التائبون العابدون".
* * *(1/220)
رمضان شهر الجود والإحسان
يا إخوتاه: هذا شهر الجود والمواسات، والجود من معالي الأخلاق.
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله كريم يحب الكرماء، جواد يحب الجودة، يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها" (1) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله تعالى جواد يحب الجود، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها" (2) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن الله كريم يحب الكرم ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها" (3) .
وفي حديث أبي ذر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ربه قال: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر"
والله سبحانه وتعالى أجود الأجودين، وجُوده يتضاعف في أوقات خاصة: كشهر رمضان، وفيه أنزل: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) الآية.
رمضان شهر العتق من النيران:
ومن سابغ جود الله وعظيم كرمه تفضله في هذا الشهر بعتق عباده من النيران.
__________
(1) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في "الحلية"، والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن سهل بن سعد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1800) .
(2) صحيح: رواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن طلحة بن عبيد الله، وأبو نعيم في "الحلية" عن ابن عباس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1744) .
(3) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم والحاكم، والبيهقى في "الشعب" عن سهل بن سعد وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1801) .(1/221)
وفي حديث أبي هريرة: " ... وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة".
وعن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لله عند كل فطر عتقاء" (1) .
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجود الناس:
وقد جبل الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أكمل الأخلاق وأشرفها، وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيّ أجود بني آدم.
في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، وزاد أحمد في آخره "لا يسأل عن شيء إلى أعطاه".
قال ابن حجر في "الفتح" (4/139) : "قال الزين بن المنير: وجه التشبيه بين أجوديته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالخير وبين أجودية الريح المرسلة أن المراد بالريح ريح الرحمة التي يرسلها الله تعالى لإنزال الغيث العام الذي يكون سبباً لإصابة الأرض الميتة وغير الميتة، أيْ فيعم خيره وبره مَنْ هو بصفة الفقر والحاجة، ومَنْ هو بصفة الغنى والكفاية أكثر مما يعمّ الغيث الناشئة عن الريح المرسلة".
* وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحسن الناس وأشجع الناس، وأجود الناس.
"وكان جوده بجميع أنواع الجود، من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه، وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام
__________
(1) صحيح: قال المنذري: رواه أحمد بإسناد لا بأس به، والطبراني والبيهقي، وقال: هذا حديث غريب من رواية الأكابر عن الأصاغر، وهو رواية الأعمش عن الحسين بن واقد وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" رقم (991) .(1/222)
جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم، ولم يزل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ، ولهذا قالت له خديجة في أول مبعثه: والله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق، ثم تزايدت هذه الخصال فيه بعد البعثة وتضاعفت أضعافاً كثيرة.
* وفي "صحيح مسلم" عن أنس قال: "ما سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، فجاء رجل فأعطاه، فجاء رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة".
وفي رواية: "يعطي عطاء ما يخاف الفقر".
قال أنس: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها.
وفيه أيضاً عن صفوان بن أمية قال: "لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني وإنه لمن أبغض الناس إليّ فما برح يعطني حتى إنه لأحب الناس إليّ".
قال ابن شهاب أعطاه يوم حنين مائة من الغنم ثم مائة ثم مائة.
* وفي مغازي الواقدي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى صفوان يومئذ وادياً مملوءً إبلاً ونعماً فقال صفوان: أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي.
* وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم أن الأعراب علقوا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرجعه من
حنين يسألونه أن يقسم بينهم فقال: "لو كان لي عدد هذه العضاه نعماً لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً".
وفيهما عن جابر قال: ما سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً فقال لا، وأنه قال لجابر: "لو جاءنا مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا وقال بيديه جميعاً".
* وخرج البخاري من حديث سهل بن سعد أن شملة أهديت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلبسها وهو يحتاج إليها فسأله إياها رجل فأعطاه فلامه الناس وقالوا كان محتاجاً(1/223)
إليها وقد علمت أنه لا يرد سائلاً فقال: إنما سألتها لتكون كفني فكانت كفنه (1) .
* وعن ابن مسعود قال: دخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بلال وعنده صُبرة من تمر فقال: "ما هذا يا بلال؟ " قال: أعد ذلك لأضيافك، قال: "أما تخشى أن يكون لك دخان في نار جهنم؟! أنفق بلال! ولا تخشى من ذي العرش إقالاً" (2) .
وعند الطبراني قال: "أما تخشى أن يفور له بخار في نار جهنم؟! ".
وعن أنس أيضاً قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يدخر شيئاً لغد (3) .
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: "إني لألج هذه الغرفة ما ألجها إلا خشية أن يكون فيها مال فأتوفى ولم أنفقه" (4) .
قال ابن رجب:
"كان جوده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كله لله وفي ابتغاء مرضاته فإنه كان يبذل المال إما لفقير أو محتاج أو ينفقه في سبيل الله أو يتألف به على الإسلام من يقوي الإسلام بإسلامه، وكان يؤثر على نفسه وأهله وأولاده فيعطي عطاء يعجز عنه الملوك مثل كسرى وقيصر ويعيش في نفسه عيش الفقراء، فيأتي عليه الشهر والشهران لا يوقدْ في بيته نار وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع، وكان قد أتاه سبي فشكت إليه فاطمة ما تلقى من خدمة البيت وطلبت منه خادماً يكفيها مؤنة بيتها فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها وقال: لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم من الجوع" (5) .
__________
(1) "الطائف المعارف" (ص 173-174) .
(2) صحيح: رواه البزار بإسناد حسن والطبراني في "الكبير"، قاله المنذري وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" رقم (912) .
(3) صحيح: قال المنذري: رواه ابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" رقم (930) .
(4) حسن: رواه الطبراني في "الكبير" بإسناد حسنه المنذري والألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" رقم (921) .
(5) "لطائف المعارف" (175) .(1/224)
وقال أيضاً: "كان - صلى الله عليه وسلم - بعد الرسالة جوده في رمضان أضعاف ما كان قبل ذلك، فإنه كان يلتقي هو وجبريل عليه السلام وهو أفضل الملائكة وأكرمهم ويدارسه الكتاب الذي جاء به وهو أشرف الكتب وأفضلها وهو يحث على الإحسان ومكارم الأخلاق، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الكتاب له خلقاً بحيث يرضى لرضاه ويسخط لسخطه ويسارع إلى ما حث عليه، ويمتنع مما زجر عنه فلهذا كان يتضاعف جوده وأفضاله في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل عليه السلام وكرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم الذي يحث على المكارم والجود، ولا شك أن المخالطة تؤثر وتورث أخلاقاً من المخالطة.
كان بعض الشعراء قد امتدح ملكاً جواداً فأعطاه جائزة سنية فخرج بها من عنده وفرّقها كلها على الناس وأنشد:
لمستُ بكفي كفه أبتغي الغنا ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
فبلعْ ذلك الملك فأضعف له الجائزة.
وقد قال بعض الشعراء يمتدح بعض الأجواد ولا يصلح أن يكون ذلك إلا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
تعوّد بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبض لم تجبه أنامله
تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله
سمع الشبلي قائلاً يقول: يا الله ... يا جواد، فتأوه وصاح وقال: "كيف يمكنني أن أصف الحق بالجود ومخلوق يقول في شكله فذكر هذه الأبيات ثم بكى، وقال: بلى يا جواد فإنك أوجدت تلك الجوارح وبسطت تلك الهمم فأنت الجواد كل الجود. فإنهم يعطون عن محدود وعطاؤك لا حد له ولا صفة، فيا جوادا يعلوا(1/225)
كل جواد وبه جاد كل من جاد" (1) .
* وفي تضاعف جوده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة:
* منها شرف الزمان ومضاعفة أجر العامل فيه.
* ومنها إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعاتهم فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم.
وفي حديث زيد بن خالد رضي الله عنه، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من فطر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً" (2) .
وفي حديث آخر: عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من فطر صائماً، أو جهز غازياً، فله مثل أجره" (3) .
* ومنها أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار لا سيما في ليلة القدر.
والله تعالى يرحم من عباده الرحماء كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء" فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء والفضل والجزاء من جنس العمل.
* ومنها أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة كما جاء في حديث علي رضي الله عنه، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن في الجنة غرفاً يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها قالوا: لمن هي يا رسول الله قال: لمن طيّب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام"، وهذه الخصال كلها كون في رمضان فيجتمع فيه للمؤمن الصيام والقيام والصدقة وطيب الكلام.
__________
(1) "لطائف المعارف" (ص 175-176) .
(2) رواه أحمد في "مسنده"، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6415) .
(3) رواه البيهقي في "سننه" وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6414) .(1/226)
قال بعض السلف: الصلاة توصل صاحبها إلى نصف الطريق والصيام يوصله إلى باب الملك والصدقة تأخذ بيده فتدخله على الملك.
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أصبح منكم اليوم صائماً" قال أبو بكر: أنا، قال: "من تبع منكم اليوم جنازة" قال أبو بكر: أنا، قال: "من تصدق بصدقة"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن عاد منكم مريضاً" قال أبو بكر: أنا، قال: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة".
* ومنها أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا واتقاء جهنم: والمباعدة عنها وخصوصاً إذا ضم إلى ذلك قيام الليل.
فالصيام جنة، وفي حديث معاذ: "الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وقيام الرجل من جوف الليل" يعني أن يطفئ الخطيئة أيضاً وقد صرّح بذلك في رواية الإمام أحمد.
وفي الحديث الصحيح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اتقوا النار ولو بشق تمرة".
* ومنها: الصدقة تجبر ما في الصوم من خلل: إن الصيام لابد أن يقع فيه خلل أو نقص، وتكفير الصيام للذنوب مشروط بالتحفظ مما ينبغي التحفظ منه.
وعامة صيام الناس لا يجتمع في صومه التحفظ كما ينبغي ولهذا نهى أن يقول الرجل: صمت رمضان كله أو قمته كله.
فالصدقة تجبر ما فيه من النقص والخلل، ولهذا وجب فى آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث.
والصيام والصدقة لهما مدخر في كفارات الإيمان ومحظورات الإحرام وكفارة الوطء في رمضان ولهذا كان الله تعالى قد خيّر المسلمين في ابتداء الأمر بين الصيام وإطعام المسكين ثم نسخ ذلك وبقي الإطعام لمن يعجز عن الصيام لكبره.
ومن أخّر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر فإنه يقضيه ويضم إليه إطعام مسكين لكل يوم تقوية له عند أكثر العلماء، كما أفتى به الصحابة.(1/227)
وكذلك من أفطر لأجل غيره كالحامل والمرضع على قول طائفة من العلماء.
* ومنها "أن الصائم يدع طعامه وشرابه لله، فإذا أعان الصائمين على التقوِّي على طعامهم وشرابهم كان بمنزلة من ترك شهوة لله وآثر بها أو واسى منها ولهذا يشرع له تفطير الصوام معه إذا أفطر لأن الطعام يكون محبوباً له حينئذ فيواسي منه حتى يكون ممن أطعم الطعام على حبه، ويكون في ذلك شكر لله على نعمة إباحة الطعام والشراب له ورده عليه بعد منعه إياه فإن هذه النعمة إنما عرف قدرها عند المنع منها" (1) .
مواساة السلف:
كان كثير من السلف يواسون من إفطارهم أو يؤثرون به ويطوون:
* كان ابن عمر يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعه أهله عنهم لم يتعش تلك الليلة، وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه للسائل فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة فيصبح صائماً ولم يأكل شيئاً، وكان يتصدق بالسكر ويقول: "سمعت الله يقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) والله يعلم أني أحب السكر".
واشتهى بعض الصالحين من السلف طعاماً وكان صائماً فوضع بين يديه عند فطوره فسمع سائلاً يقول: من يقوض الملي الوفي الغني؟ فقال: عبده المعدم من الحسنات. فقام وأخذ الصحفة فخرج بها إليه وبات طاوياً.
* وجاء سائل إلى الإمام أحمد فدفع إليه رغيفين كان يعدهما لفطره ثم طوى وأصبح صائماً.
* وكان الحسن يُطعم إخوانه وهو صائم تطوعاً ويجلس يروّحهم وهم يأكلون.
* وكان ابن المبارك يطعم إخوانه في السفر الألوان من الحلواء وغيرها وهو صائم.
__________
(1) "لطائف المعارف" (ص 177-178) .(1/228)
سلام الله على تلك الأرواح، رحمة الله على تلك الأشباح، لم يبق منهم إلا أخبار وآثار، كم بينْ من يمنع الحق الواجب عليه وبين أهل الإيثار.
لا تقعدن لذكرنا في ذكرهم ... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
* وله فوائد أخر:
قال الشافعي رضي الله عنه: أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم وكذا قال القاضي أبو يعلى وغيره من أصحابنا أيضاً" (1) .
يا إخوتاه:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن السرور، أو تقضي عنه ديناً أو تطعمه خبزا" (2) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في المسجد شهراً.... الحديث" (3) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خير الناس أنفعهم للناس" (4) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار" (5) .
__________
(1) "لطائف المعارف" (ص 178-179) .
(2) حسن: رواه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أبي هريرة، وابن عدي عن ابن عمر، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (رقم 1096) .
(3) حسن: رواه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" والطبراني في "الكبير" عن ابن عمر، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (176) .
(4) حسن: رواه الطبراني في "الكبير"، والدارقطني، والبيهقى في "شعب الإيمان" وابن عسكر والقضاعي عن جابر، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3289) .
(5) رواه أحمد، والبخاري ومسلم، والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة.(1/229)
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خفياً تطفيء غضب الرب، وصلة الرحم زيادة في العمر، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة" (1) .
أخي: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رجلاً سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" (2) .
* وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اعبدوا الرحمن، وأطعموا الطعام، وأفشوا السلام، تدخلوا الجنة بسلام" (3) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس صدقة أعظم أجراً من ماء" (4) .
يا هذا اسمع إلى حديث أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه الحر، فوجد بئرا، فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث؛ يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر، فملأ منه، ثم أمسكه بفيه حتى رَقِيَ، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له" قالوا: يا رسول الله! إن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: "في كل كبد رطبة أجر" (5) .
أو هذا الحديث.. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بينما كلب يطيف (6) بركيه (7) ، كاد يقتله العطش، إذا رأته بغيّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت مُوقها (8) فاستقت له، فغفر لها".
__________
(1) صحيح: رواه الطبراني في "الأوسط" عن أم سلمة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3796) .
(2) رواه البخاري، ومسلم، والنسائي.
(3) حسن: رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" رقم (937) .
(4) رواه البيهقي وحسنه الألباني من حديث أبي هريرة في "صحيح الترغيب والترهيب" رقم (949) .
(5) رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم، والنسائي.
(6) يدور.
(7) ببئر.
(8) خفها الذي تلبسه في قدمها.(1/230)
أو "غُفر لامرأة مومسة، مرت بكلب على رأس ركي يلهث، كاد يقتله العطش، فنزعت خفها، وأوثقته بخمارها، فنزعت (1) له من الماء، فغفر لها بذلك".
هذا في كلب، فما ظنك الصائم الطائع لربه، وما ظنك بعظيم المغفرة حتى المومسة.
يا أخي ... قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن لله تعالى أقواماً يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها، نزعها منهم، فحولها إلى غيرهم" (2) .
* يا أخي: الصدقة والإطعام باب لرفعة الدرجات.
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام" وكلها في رمضان.
* أختي الصائمة: تصدقي بطعام بيتك ولا تجاوزي المعتاد إن كان ذلك يغضب زوجك.
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما اكتسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئاً" (3) .
* أخي: ... قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "داووا مرضاكم بالصدقة" (4) .
عن عليّ بن الحسين بن شقيق قال: سمعت ابن المبارك وسأله رجل: يا أبا عبد الرحمن! قرحة خرجت من ركبتي منذ سبع سنين، وقد عالجت بأنواع العلاج، وسألت الأطباء، فلم أنتفع به؟ قال: اذهب فانظر موضعا يحتاج الناس للماء فاحفر هناك بئراً فإنني أرجو أن ينبع هناك عين، ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرئ" (5) .
__________
(1) أخرجت.
(2) حسن: رواه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" والطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في "الحلية" عن ابن عمر، ورواه تمام، والخطيب وابن عساكر، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2164) .
(3) رواه البخاري، ومسلم، واللفظ له، وأبو داود، وابن ماجة، والترمذي، والنسائي، وابن حبان.
(4) حسن: رواه أبو الشيخ في "الثواب" عن أبي أمامة، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3358) .
(5) رواه البيهقي وذكره الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/401) .(1/231)
* أخي: في صومك تذكر قول عبيد بن عمير: "يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط، وأعطش ما كانوا قط، وأعرى ما كانوا قط، فمن أطعم لله عز وجل أشبعه الله، ومن سقى لله عز وجل سقاه الله، ومن كسا لله عز وجل كساه الله".
* وقال الشعبي: "من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته وضرب بها وجهه".
أخي: ما قدر كسرة تعطيها، أو ما سمعت أن الرب يربيها؟ فيراها صاحبها كجبل أحد، أفيرغب عن مثل هذا أحد؟!.
ما قدر لقمة لا ييالي بها أحد حتى يصير كجبل أُحد؟! ... واعجباً للقمة كانت قليلة فكثرت، وفانية فبقيت.
إن اللقمة إذا أُكلت صارت أذى وقبائح في الحش، وإذا تصدق بها صارت إذاً مدائح عند العرش.
* إن تطوعات البدن لا تتعدى المتطوع، وإن نفع الصدقة متعدد متنوع.
من فطر صائما قد صبر من عشائه إلى فجره فله مثل أجره.
* أما تعلم أن الصدقة تزيد في العمر، ثم إنها والله سريعة الخلف، وحافظة بعد الموت للخلف، واعلم أن إنفاق كل حبة يثمر لك الوفاق والمحبة.
"في كل سنبلة مائة حبة..".
وفي شهر الجود والمواساة نهدي هذه القصيدة لمن أداموا الشبع والجشاء:
الجوع ... الجوع!!
يموتُ المسلمون ولا نُبَالي ... ونهرِفُ (1) بالمكارم والخصالِ
ونحيَا العُمرَ أوتارا وقَصفا ... ونحيا العمرَ في قِيل وقالِ
__________
(1) نهرف: نهذي (من الهذيان) يقال: يهرف بما لا يعرف [المعجم الوجيز] مادة هرف.(1/232)
وننسى إخوةً في الله ذَرَّتْ ... بهم كف الزمان على الرمالِ
تُمَزقُهم نُيُوبُ الجوعِ حتى ... يكاد الشيخُ يَعْثُرُ بِالعِيالِ
يَشُدون البُطونَ عَلَى خَوَاء ... وَيقْتَسِمُون أرْغِفَةَ الخيالِ
وتَضْرِبهم ريَاحُ الموتِ هُوجا ... وفي أحْداقِهم نَزْفُ الليالي
ونَاموا في العراءِ بِلا غِطاء ... وساروا في العراءِ بِلا نِعَالَ
كأن البيدَ تَلفِظُهُم فَتَجْري ... بهم بيد إلى بيد خَوَالِ
يَسيلُ لُعَابُهم لَهَفا وتَذوِي ... عيونُهُم على جَمر السؤالِ
وَلَيتَ جراحَهم في الجسم لكِنْ ... جراحُ النفس أقَتلُ للرجالِ
يَمُدون الحبالَ وَليستَ شِعري ... انَقْطعُ أمْ سَنُمْسِك بالحبال؟
وقبل الجوع تَنْهَشُهم كِلاب ... من الإفرِنْج داميَةُ النِّصَالِ
يَؤَدونَ الضريبة كل يوْم ... بِمَا مَلَكُوا ودينُ الله غال
صِلابٌ إنما الأَيامُ رُقْط ... (وَيَثْنِي الجوعُ أعْناقَ الرجالِ)
أتَوْا للشَرق عَل الشرق دَرء ... إذا بالشرق يَنفُر كالثَّعَالي
لماذا كل طائِفَة أغاثَت ... بَنيهَا غَيرُكم أهْلَ الهِلال!؟
تَرَى الصُّلْبان قد نَفَرَتْ وهَبتْ ... يهودٌ بالدواءِ وبالغِلالِ
هَبُوهُم بعضَ سَائمةِ البَرَارِي ... هَبُوهُم بعضَ سابِلةِ النمالِ
نَسيتُم "واتقوا يوماً ثقيلاً" ... به النيرانُ تَقْذِف كالجبالِ؟!
تَفُورُ وتَزْفَرُ الأحشاءُ زَفْراً ... كأن شرارَها حُمرُ الجمالِ
ونحن المسلمينَ ننامُ حتى ... يَضِيقَ الدهرُ بالنوْمِ الخَبالِ(1/233)
جَلَستُم والآرائك فَاخِرات ... وأوْجفْتُم (1) على الفُرُش الغَولي
وَرَصعْتُم قُصُورَكُم مَرايَا ... لِتنْطِقَ بِالْبَهَاءِ وبالجمَالِ
ومَاجَ العطرُ وائتلقت جِنانُ ... كأن العُمْرَ ليس إلى زَوالِ!!
نَنَامُ على "الرِّيالِ" وإن صَحَوْنا ... فإن الفجرَ فاتحةُ الرِّيَال (2)
***
__________
(1) أوجَفَ: أسرع في السير، استوجفه: ذهب به، يقال: استَوجَفَ الحُب فُوَاده.
(2) الريال نوع من المسكوكات الفضية، من ديوان "إنها الصحوة إنها الصحوة" لمحمود مفلح دار الوفاء.(1/234)
رمضان شهر فتح أبواب الجنان
* عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا جاء رمضان، فُتحتْ أبواب الجنة، وغُلقت أبواب النار وصُفدت الشياطين" (1) .
وفي رواية لمسلم: "فتحت أبواب الرحمة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين".
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفّدت (2) الشياطين، ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ويناد مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة" (3) .
وفي رواية ابن خزيمة: الشياطين مردة الجن أي بغير واو.
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغَل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم" (4) .
اعلم يا أخي أن فتح أبواب الجنة في رمضان حقيقة لا تحتاج إلى تأويل وهذه نعمة عظيمة ومنة كريمة من الله يتفضل بها على عباده في هذا الشهر فأبواب الجنان مغلقة لا تفتح إلا في تمام النعمة.
يقول ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها) الآية [الزمر: 73] .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) صفدت: بضم الصاد وتشديد الفاء أي شدت بالأغلال.
(3) صحيح: رواه الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة في "صحيحه"، والبيهقي عن أبي هريرة.
(4) حسن: رواه النسائي والبيهقي عن أبي هريرة، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" رقم (989 ج4181) .(1/235)
"أما الجنة فإنها دار الله ودار كرامته ومحل خواصه وأوليائه، فإذا انتهوا إليها صادفوا أبوابها مغلقة فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أن يفتحها لهم ويستشفعون إليه بأولي العزم من رسله وكلهم يتأخر عن ذلك حتى تقع الدلالة على خاتمهم وسيدهم وأفضلهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقول: "أنا لها فيأتي إلى تحت العرش ويخر ساجداً لربه فيدعه ما شاء أن يدعه ثم يأذن له في رفع رأسه وأن يسأل حاجته فيشفع إليه سبحانه في فتح أبوابها فيشفعه ويفتحها تعظيماً لخطرها وإظهاراً لمنزلة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكرامته عليه" وإن مثل هذه الدار التي هي دار ملك الملوك رب العالمين إنما يدخل إليها بعد تلك الأهوال العظيمة التي أولها من حين عقل العبد في هذه الدار إلى أن انتهى إليها، وما ركبه من الأطباق طبقا بعد طبق وقاساه من الشدائد شدة بعد شدة حتى أذن الله تعالى لخاتم أنبيائه ورسله وأحب خلقه إليه أن يشفع إليه في فتحها لهم، وهذا أبلغ وأعظم في تمام النعمة وحصول الفرح والسرور مما يقدر بخلاف ذلك لئلا يتوهم الجاهل أنها بمنزلة الخان الذي يدخله من شاء فجنة الله عالية غالية بين الناس وبينها من العقبات والمفاوز والأخطار ما لا تنال إلا به فما لمن اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ولهذه الدار فليعد عنها إلى ما هو أولى به وقد خلق له وهيئ له.
وهنا يدرك الإنسان قيمة فتح أبواب الجنة في رمضان.
عجباً لمن يعلم أن الجنة فوقه موجودة تزخرف وتفتح أبوابها في رمضان ثم لا يشتاق إليها ويسعى لها على الأجفان.
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة".
فاحذر أن تقدم على جنة عرضها السماوات والأرض وليس لك فيها موضع قدم.
إن الحياة للأرض حياة تليق بالديدان والزواحف والحشرات والهوام، والوحوش والأنعام، فأما الجنة فهي الحياة اللائقة بذلك الإنسان الكريم على الله وأودع روحه الإيمان الذي ينزع به إلى السماء وإن استقرت على الأرض قدماه.(1/236)
إن مستوى النعيم في هذه الدنيا معروف، ومستوى النعيم هناك يليق بالخلود، فأين غاية من غاية؟!.
إنها الجنة التي غرس غراسها الرحمن بيده.... إنها الجنة الجزاء الرفيع الخالص الفريد، الجزاء الذي يتجلى فيه ظلال الرعاية الخاصة، والإعزاز الذاتي، والإكرام الإلهي والحفاوة الربانية بهذه النفوس (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون) [السجدة: 17] .
حفاوة من الله سبحانه وتوليه بذاته العلية إعداد المذخور لهم عنده من الحفاوة والكرامة هذا المذخور لا يطلع عليه أحد سواه، والذي يظل عنده خاصة مستوراً حتى يكشف لأصحابه عند لقياه.
يا الله! كم ذا يفيض الله على عباده من كرمه (1) .
إنها الجنة التي لا يسأل بوجه الله العظيم غيرها لكرامتها على الله.
إنها الجنة التي اشتاق إليها الصالحون من هذه الأمة فسلوا عنها جعفر الطيار وعمير بن الحمام وحرام بن ملحان وأنس بن النضر وعامر بن أبي فهيرة وعمرو بن الجموح وعبد الله بن رواحة.
إنها الجنة دار كرامة الرحمن فهل من مشمر لها.... إنها الجنة فاعمل لها بقدر مقامك فيها.... إنها الجنة فاعمل لها بقدر شوقك إليها.
فواعجبا لها كيف نام طالبها، وكم لم يسمح بمهرها في رمضان خاطبها، كيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها، وكيف قر للمشتاق القرار دون معانقة أبكارها.
إنها الجنة دار الموقنين بوعد الله المتهجدين في ليل رمضان، الصائمين نهاره، المطعمين عباد الله وهذا من موجبات الجنة.
__________
(1) قول لابن السماك.(1/237)
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها قالوا لمن هي يا رسول الله. قال: لمن أطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام"
تسعى بهم أعمالهم سوقا إلى ... الجنات سوق الخيل بالركبان
صبروا قليلا فاستراحوا دائما ... يا عزة التوفيق للإنسان
حمدوا التقى عند الممات كذا السرى ... عند الصباح فحبذا الحمدان
وحدت بهم عزماتهم نحو العلى ... وسروا فما نزلوا إلى نعمان
باعوا الذي يفنى من الخزف الخسيس ... بدائم من خالص العقيان
رفعت لهم في السير أعلام السعا ... دة والهدى يا ذلة الحيران
فتسابق الأقوام وابتدروا لها ... كتسابق الفرسان يوم رهان
إنها الجنة ... "ما حليت لأمة من الأم مثلما حُلِّيتْ لأمتنا هذه ومع هذا لا نرى لها عاشقا".
وأخو البصيرة حاضر متيقظ ... متفرد عن زمرة العميان
يسمو إلى ذاك الرفيق الأرفع ... الأعلى وخلّى اللعب للصبيان
إنها الجنة ...
لو كنت تعلم من خطبت ... ومن طلبت جعلت السعي منك لها على الأجفان
حور تزف إلى ضرير مقعد ... يا محنة الحسناء بالعميان (1)
إنها الجنة ... وكيف يقدر قدر دار غرسها الله بيده، وجعلها مقراً لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها الخير بحذافيره، وطهرها من كل عيب وآفة ونقص.
فإن سألت عن أرضها وتربتها فهي المسك والزعفران، وإن سألت عن سقفها
__________
(1) انظر جمعي "شذا الريحان ذكر جنة الرحمن".(1/238)
فهو عرش الرحمن، وإن سألت عن ملاطها فهو المسك الأذفر، وإن سألت عن حصبائها فهو اللؤلؤ والجوهر.
وإن سألت عن بنائها فلبنة من فضة ولبنة من ذهب، وإن سألت عن أشجارها فما فيها شجرة إلا وساقها من ذهب وفضة، لا من الحطب والخشب، وإن سألت عن تصفيق الرياح لأشجارها فإنها تستفز بالطرب لمن يسمعها، وإن سألت عن ظلها ففيها شجرة واحدة يسير الراكب المجد السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها.
* وإن سألت عن علاليها وجواسقها فهي غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار، وإن سألت عن ارتفاعها فانظر إلى الكوكب الطالع أو الغارب في الأفق الذي لا تكاد تناله الأبصار، وإن سألت عن لباس أهلها فهو الحرير والذهب، وإن سألت عن سماعهم فغناء أزواجهم من الحور العين، وأعلى منه سماع أصوات الملائكة والنبيين، وأعلى منهما سماع خطاب رب العالمين.
وإن سألت عن أزواجهم فهن الخيرات الحسان اللاتي كالياقوت والمرجان.
فما ظنك بامرأة إذا ضحكت في وجه زوجها أضاءت الجنة من ضحكها، وإذا انتقلت من قصر إلى قصر قلت هذه الشمس متنقلة في بروج فلكها أفما تعدُّ مهرها من الآن.. وهو طول التهجد بالقرآن في ليل رمضان، وخلوف الفم بالنهار من آثار الصيام.
عجبا لك إن نبي الله موسى خدم العبد الصالح عشر سنوات مهرا لزواجه من ابنته، فكم تخدم مولاك لأجل بنات الجنان الحور الحسان، فوالله ما انتقلن من الجنة ولا أكلن منها ولا خلقن إلا فيها من ترك دفء الفوالق في ليل رمضان كان جزاؤه من جنس عمله وزوّج من الحور الحسان، أما علمت يا أخي أن مفاتيح الجنة مع أصحاب الليل هم خزانها وحراسها، وإن سألت عن يوم المزيد وزيارة العزيز الحميد فذلك موجود في الصحاح والسنن والمسانيد من رواية جرير وصهيب وأبي هريرة وأبي موسى وأبي سعيد.
فيا لذة الأسماع بأطيب محاضرة، ويا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجه الكريم(1/239)
في الدار الآخرة، ويا ذلة الراجعين بالصفقة الآخرة (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة * ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة) [القيامة: 22-25] .
فحي على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم
فلله أبصار ترى الله جهرة ... فلا الحزن يغشاها ولا هي تسأم
فيا نظرة أهدت إلى الوجه نضرة ... أمن بعدها يسلو المحب المتيم
أحبتنا عطفا علينا فإننا ... بنا ظمأ والمورد العذب أنتم
***(1/240)
رمضان شهر غلق أبواب النيران
مَر بك في الحديث أنه في شهر رمضان تغلق أبواب النار فما يفتح منها باب فما أطيبها من نعمة يمن الله بها على العباد. حين يغلق الشر بحذافيره..
أخي: عجباً لمن علم أن النار تسجر ويضحك ملء فيه، أما سمع أن النار "أعدت للكافرين" (إن جهنم كانت مرصاداً * للطاغين مآبا) [النبأ: 21-22] .
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأيم الذي نفسي بيده، لو رأيتم ما رأيت، لضحكتم قليلاً وبكيتم كثيراً". قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: "رأيت الجنة والنار" (1) .
النار التي رآها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحطم بعضها بعضاً والتي قال عنها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما رآها "لم أر منظراً كاليوم قط أفظع" فالنار مخلوقة ومعدة فإياك أن تكون من وقودها.
"فيا أيها الغافل عن نفسه، دع التفكر فيما أنت مرتحل عنه، واصرف الفكر إلى موردك، فإنك أخبرت بأن النار مورد الجميع إذ قال: (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) [مريم: 71-72] .
فأنت من الورود على يقين ومن النجاة في شك. فاستشعر في قلبك هول ذلك المورد فعساك تستعد للنجاة منه، وتأمل في حال الخلائق، وقد قاسوا من دواهي القيامة ما قاسوا، فبينما هم في كربها وأهوالها وقوفاً ينتظرون حقيقة أنبائها وتشفيع شفعائها، إذ أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات شعب، وأظلت عليهم نار ذات لهب، وسمعوا لها زفيرا وجرجرة تفصح عن شدة الغيظ والغضب، فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب، وجثت الأم على الركب، حتى أشفق البرآء من سوء المنقلب.
وخرج المنادي من الزبانية قائلا: أين فلان بن فلان المسوّف نفسه في الدنيا بطول الأمل، المضيع عمره في سوء العمل؟ فيبادرونه بمقامع حديد، ويستقبلونه بعظائم التهديد، ويسوقونه إلى العذاب الشديد، وينكسونه في قعر الجحيم، ويقولون له (ذق إنك أنت العزيز الكريم) فأسكنوا داراً ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك،
__________
(1) رواه مسلم عن أنس.(1/241)
مبهمة المهالك، يخلد فيها الأسير ويوقد فيها السعير، طعام أهلها الزقوم، وشرابهم فيها الحميم، ومستقرهم الجحيم، الزبانية تقمعهم والهاوية تجمعهم، أمانيهم فيها الهلاك وما لهم منها فكاك، قد شدت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوهم من ظلمة المعاصي، ينادون من أكنافها، ويصيحون في نواحيها وأطرافها: يا مالك قد حق علينا الوعيد، يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود، فتقول الزبانية: هيهات لات حين أمان ولا خروج لكم من دار الهوان".
يا هذا: أحدثك عن نار غم قرارها، مظلمة أقطارها، حامية قدورها، فظيعة أمورها، عقابها عميم، عذابها أليم، بلاؤها شديد، وقعرها بعيد، سلاسل وأغلال، ومقامع وأنكال، زمانهم ليل حالك، ضجيجهم ضجيج هالك، يصطرخون فيها فلا يجيبهم مالك".
يدعون بالويل والثبور، ومقامع الحديد تهشم بها جباهم، ويتفجر الصديد من أفواههم، تنقطع من العطش أكبادهم، وتسيل على الخدود أحداقهم، لهيب النار سار في بواطن أعضائهم وحيات الهاوية وعقاربها تأخذ بأشفارهم.
يا هذا: جهنم سوداء ماؤها أسود شجرها أسود، أهلها سود مقبوحون، كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً.
أخي:
عياذا بالله: أن تكون من قوم لباسهم نار ومهادهم نار لحُف من نار وسرابيلهم القطران ومساكن من نار في شر دار وأسوء عذاب أكلاً أكلاً وحطماً حطماً قد أكلوا من النار، ومشوا على النار ثم عاشوا بعد ذلك. لا يهدأون ولا ينامون ولا يموتون.
فيها غلاظ شداد من ملائكة ... قلوبهم شدة أقسى من الحجر
لهم مقاميع للتعذيب مرصدة ... وكل كسر لديهم غير منجبر(1/242)
سوداء مظلمة شعثاء موحشة ... دهماء محرقة لواحة البشر
يا ويلهم تحرق النيران أعظمهم ... فالموت شهوتهم من شدة الضجر
ضجوا وصاحوا زماناً ليس ينفعهم ... دعاء داع ولا تسليم مصطبر
وكل يوم لهم في طول مدتهم ... نزع شديد من التعذيب والسعر
يا هذا يا صبيح الوجه: كم من وجه صبيح ولسان فصيح غدا بين أطباق النار يصيح.
وسيق المجرمون وهم عراة ... إلى ذات السلاسل والنكال
فنادوا ويلنا ويلا طويلا ... وعجوا في سلاسلها الطوال
فليسوا ميتين فيستريحوا ... وكلهم بحر النار صال
أخي: إنك قد جربت جلدك في الشوكة تدميه، في العثرة تؤذيه، في ضربة الشمس تؤثر فيه.... أحدنا يؤثر الظل على الشمس فما بالنا لا نؤثر الجنة على النار.
فيا عجبا ندري بنار وجنة ... وليس لذي نشتاق أو تلك نحذر
إذا لم يكن خوف وشوق ولا حيا ... فماذا بقي فينا من الخير يذكر
وليس لحر صابرين ولا بلى ... فكيف على النيران يا قوم نصبر
وفوت جنان الخلد أعظم حسرة على تلك فليستحسر المتحسر يا من يؤذيك حر الهجير ويأخذ بأنفاسك.... أما سمعت قول رسولك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون، وفيه رجل من أهل النار فتنفس فأصاب نفسه لاحترق المسجد بمن فيه" (1) .
يا جميل المحيا.. أما سمعت قول نبيك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ضرس الكافر، أو ناب الكافر، مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث" (2) .
__________
(1) "المطالب العالية" رقم (4667) .
(2) رواه مسلم والترمذي والحاكم وابن حبان وأحمد عن أبي هريرة.(1/243)
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد، وعرض جلده سبعون ذراعا، وعضده مثل البيضاء، وفخذه مثل وَرقان، ومقعده من النار ما بيني وبن الربذة" (1) .
"ليكون ذلك أنكى في تعذيبهم، وأعظم في تعبهم ولهيبهم يا حَسَنَ المطعم والمشرب: تذكر قول الله عز وجل: هذا فليذوقوه حميم وغساق".
وتذكر قول نبيك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا، لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه" (2) .
فهل تصبر على الزقوم والغسلين والضريع وطعام ذي غصة؟!.
ويا من غذي بلذيذ الشراب أين أنت من الحميم والغساق وطينة الخبال والصديد؟!.
"يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر على صور الناس تعلوهم نار الأنيار يساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال".
ألبسوا النضيح من النحاس، وضعوا خروج الأنفاس، فالأنفاس في أجوافهم تتردد، والنيران على أبدانهم توقد، قد أطبقت عليهم الأبواب، وغضب عليهم رب الأرباب، وقيل للخزان أن أطبقوا وقيل للنيران أن أحرقي ... يا نار كلي، يا نار أنضجي، كلي ولا تقتلي" (3) .
"توهم نفسك يا أخي وأنت تطلب الروح فلا روح بين الحميم وبين النار أبداً، فلما اشتد بك الكرب وبلغ منك المجهود ذكرت الجنان، فهاجت غصة من فؤادك إلى حلقك أسفاً على جوار الله عز وجل وحزناً على نعيم الجنة وبرد مائها وطيب عيشها، تسأل أهل الجنة شراباً فأجابوك بالخيبة فتقطع قلبك حسرة بما خيبوا من أملك، ففزعت إلى الله بالنداء بالمرجع والعتبى أن يردك إلى الدنيا فمكث عنك دهراً طويلاً فلا يجيبك هواناً بك، وأن صوتك عنده ممقوت، وجاهك عنده ساقط، ثم ناداك بالخيبة منه أن (اخسئوا فيها ولا تكلمون) .
__________
(1) رواه أحمد في "مسنده" والحاكم وصححه الحاكم والذهبي والألباني في "الصحيحة" (3/94) .
(2) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن ابن عباس.
(3) من رسالة "نار الخلود بئس الورد المورود" من جمعي وهي تحت الطبع.(1/244)
فيا إياسك ويا إياس أهل النار وقد سمعوا رجوف أبوابها قد أغلق، وانقطع الرجاء ألا فرج أبداً، ولا مخرج منها، عذاب لا زوال له عن بدنك، ودوام حرق قلبك ومضضك، أحزان لا تنقضى وهموم لا تنفد، وسقم لا يبرأ، وقيود لا تحل، وأغلال لا تفك أبداً، وعطش لا يروون بعده أبدا، كرب لا يهدأ أبداً، لا يرحم بكاؤهم، ولا يجاب دعاؤهم.
"إن أهل النار ليبكون حتى لو أجريت السفن في دموعهم جرت، وإنهم ليبكون الدم" (1) لا يغاثون عند تضرعهم، ولا تقبل توبتهم، ولا تقال عثرتهم، فتوهم ذلك بعقل فارغ، رحمة لضعفك، وارجع عما يكره مولاك، وترضي ربك عسى أن يرضى عنك، وأعِذْ به بعقلك، واستقله يقلل عثرتك، وابك من خشيته عسى أن يرحمك، فإن الخطر عظيم، وإن البدن ضعيف، والموت منك قريب، فاحذر الله وخفه واستح منه وأجله، ولا تستخف بنظره، ولا تتهاون باطلاعه، وأجلّ مقامه عليك، وعلمه بك، فلا طاقة لك بغضبه، ولا قوة لعذابه، ولا صبر لك على عقابه، ولا صبر عندك عن جواره، فتدارك نفسك قبل لقائه، فكأنك بالموت قد نزل بك بغتة فتوهم ما وصفت لك فإنما وصفت بعض الجمل، فتوهم ذلك بعقل فارغ موقن عارف بما قد جنيت على نفسك، وما استوجبت بجنايتك، وفكر في مصيبتك في دينك، ولير الله عز وجل عليك أثر المصيبة لعله أن يرحمك فيتجاوز عنك بمغفرته وعفوه.... جعلنا الله وإياك من زمرة العابدين الخائفين، وأقطعنا عمالات المتقين" (2) .
***
__________
(1) حسن: رواه الحاكم في "المستدرك" عن أبي موسى، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2032) .
(2) "التوهم" للمحاسبي بتصرف.(1/245)
رمضان شهر الصبر والتربية
والصبر جواد لا يكبو، وصارم لا ينبو، وجند لا يهزم، وحصن حصين لا يهدم، وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدة ولا عدد، ومحله من الظفر محل الرأس من الجسد.
* وقد ضمن الوفي الصادق لأهله في محكم الكتاب، أنه يوفيهم أجرهم بغير حساب.
* وأخبرهم أنه معهم بهدايته ونصره العزيز وفتحه المبين، فقال تعالى: (واصبروا إن الله مع الصابرين) [الأنفال: 46] ، فظفر الصابرون بهذه المعية بخير الدنيا والآخرة، وفازوا بها بنعمه الباطنة والظاهرة.
* وجعل سبحانه الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين، فقال تعالى وبقوله اهتدى المهتدون: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) [السجدة: 24] .
* وأخبر أن الصبر خير لأهله مؤكداً باليمين، فقال تعالى: (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) [النحل: 126] .
* وأخبر أن مع الصبر والتقوى لا يضر كيد العدو ولو كان ذا تسليط فقال تعالى: (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط) [آل عمران: 120] .
* وأخبر عن نبيه يوسف الصديق أن صبره وتقواه وصّلاه إلى محل العز والتمكين فقال: (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) [يوسف: 90] .
* وعلّق الفلاح بالصبر والتقوى، فعقل ذلك منه المؤمنون، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) [آل عمران: 200] .
* وأخبر عن محبته لأهله وفي ذلك أعظم ترغيب للراغبين فقال تعالى: (والله يحب الصابرين) [آل عمران: 146] .(1/246)
* ولقد بشر الصابرين بثلاث كل منها خير مما عليه أهل الدنيا يتحاسدون فقال تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) [البقرة: 155، 156] .
* وأوصى عباده بالاستعانة بالصبر والصلاة على نوائب الدنيا والدين فقال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) [البقرة: 45] .
* وجعل الفوز بالجنة لا يحظى به إلا الصابرون فقال تعالى: (إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون) [المؤمنون: 111] .
* وأخبر أن الرغبة في ثوابه والإعراض عن الدنيا وزينتها لا ينالها إلا أولو الصبر المؤمنون فقال تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون) [القصص: 80] .
* وأخبر أن دفع السيئة بالتي هي أحسن تجعل المسيء كأنه ولي حميم، وأن هذه الخصلة لا يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
* وأخبر سبحانه خبراً مؤكداً بالقسم: (إن الإنسان في خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) [العصر: 2، 3] .
* وقسّم خلقه قسمين أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة، وخص أهل الميمنة أهل التواصي بالصبر والمرحمة.
* وخص بالانتفاع بآياته أهل الصبر وأهل الشكر تمييزا لهم بهذا الحظ الموفور.
فقال في أربع من آياته: (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) .
* وعلق المغفرة والأجر بالعمل الصالح والصبر، وذلك على من يسّره يسير فقال: (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير) .
* وأخبر أن الصبر والمغفرة من العزائم التي تجارة أربابها لا تبور، فقال: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) [الشورى: 43] .
* وأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصبر والحكمة، وأخبر أن صبره إنما هو لربه وبذلك جميع المصائب تهون.(1/247)
فقال: (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) [الطور: 48] .
وقال: (واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون) [النحل: 127] .
والصبر آخية (1) المؤمن التي يجول ثم يرجع إليها، وساق إيمانه الذي لا اعتماد له إلا عليها.
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها" (2) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما رزق عبد خيراً له ولا أوسع من الصبر" (3) .
* قال عمر بن الخطاب: "أفضل عيش أدركناه بالصبر".
وقال عليّ بن أبي طالب: الصبر مطية لا تكبو، وقال الحسن: الصبر كنز من كنوز الجنة لا يعطه الله إلا لعبد كريم عنده، وقال عمر بن عبد العزيز: ما أنعم الله على عبده نعمة فانتزعها منه فعاضه مكانها الصبر إلا كان ما عَوّضه خيرا مما انتزعه" (4) .
واعلم يا أخي وأنت في شهر الصبر "أنّ من تعلق بصفة من صفات الرب تعالى أدخلته تلك الصفة عليه، وأوصلته إليه، والرب تعالى هو الصبور، بل لا أحد أصبر على أذى سمعه منه، وهو صبر من أعظم مصبور عليه، فإن مقابلة أعظم العظماء وملك الملوك وأكرم الأكرمين بغاية القبح وأعظم الفجور، ونسبته إلى كل ما لا يليق به، والقدح في كماله وأسمائه والإلحاد في آياته، وتكذيب رسله عليهم السلام، ومقابلتهم بالشتم والأذى، وتحريق أوليائه وقتلهم وإهانتهم لا يصبر عليه إلا الصبور
__________
(1) العروة التي تشد إليها الدابة.
(2) رواه أحمد في "مسنده"، ومسلم، والترمذي عن أبي مالك الأشعري.
(3) صحيح: رواه الحاكم في "المستدرك" وصححه عن أبي هريرة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5626) .
(4) "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" لابن قيم الجوزية (ص 90-91) .(1/248)
الذي لا أحد أصبر منه، ولا نسبة لصبر جميع الخلق من أولهم إلى آخرهم إلى صبره سبحانه. والله يحب أسماءه وصفاته، ويحب مقتضى صفاته، وظهور آثارها في العبد، فهو صبور يحب الصابرين.
وإذا كان سبحانه يحب المتصفين بآثار صفاته، فهو معهم بحسب نصيبهم من هذا الاتصاف، ورمضان شهر الصوم، والصوم تجتمع فيه معاني الصبر الثلاثة: الصبر على ألم الجوع والعطش، والصبر على المعاصي، والصبر على الطاعات.
أما الصبر عن المعاصي: فما أحوجنا في رمضان إلى كظم الغيظ عمن أساء إلينا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين ويزوجه منها ما شاء" (1)
وفي الصحيح: "ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة".
ورحم الله من قال:
والصبر بالأرواح يعرف فضله ... صبر الملوك وليس بالأجسام (2)
فاصبر صبر الكرام، فالكريم يصبر عن معصية الرحمن، واللئيم يصبر في طاعة الشيطان، فاللئام أصبر الناس في طاعة أهوائهم وشهواتهم، وأقل الناس صبراً عن معصية ربهم، فيصبر على البذل في طاعة الشيطان أتم صبر، ولا يصبر على البذل في طاعة الله في أيسر شيء.
ويصبر على تحمل المشاق لهوى نفسه في مرضاة عدوه، ولا يصبر على أدنى المشاق في مرضاة ربه.
ويصبر على ما يقال في عرضه في المعصية، ولا يصبر على ما يقال في عرضه إذا أوذي في الله.
__________
(1) حسن: رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن معاذ بن أنس، ورواه أحمد في "مسنده"، والطبراني في "الصغير"، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6522) .
(2) "الذريعة إلى مكارم الشريعة" للراغب الأصفهاني.(1/249)
ويبذل عرضه في هوى نفسه ومراده، ولا يصبر على التبذل لله في مرضاته وطاعته.
فهو أصبر شيء على التبذل في طاعة الشيطان ومراد النفس، واعجز شيء عن الصبر على ذلك في الله، وهذا أعظم اللؤم، ولا يكون صاحبه كريما عند الله، ولا يقوم مع أهل الكرم إذا نودي بهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ليعلم أهل الجمع من أولى بالكرم اليوم أين المتقون.
فليصبر الإنسان عن معصية الله في هذا الشهر، ولا يبيع حظه مع الله بشهوة تذهب لذاتها وتبقى تبعتها، تذهب الشهوة وتبقى الشقوة. ويعينه على صبره عن شهواته مشهد قهره لشيطانه والظفر به، ومشهد العوض وهو ما وعد الله سبحانه من تعويض من ترك الحرام، ومشهد البلاء والعافية، فإن البلاء ليس إلا الذنوب، والعافية المطلقة هي الطاعات وعواقبها.
يصبر العبد عن المعصية في رمضان حذرا من الوقوع في الحرام، وإبقاء لنور وبهجة الإيمان.
يصبر عن معصيته إيمانا بالوعيد وحبا لله وحياءً من مولاه.
يصبر على فتنة النفس، والشهوة وجاذبيته للأرض، وثقلة اللحم والدم، والرغبة في المتاع والسلطان، أو في الدعة والاطمئنان، وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان والاستواء على مرتقاه، مع المعوقات والمثبطات في أعمال النفس وفي ملابسات الحياة، وفي منطق البيئة وفي تصورات أهل الزمان.
لابد من الصبر:
الصبر على فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه وهو لا يملك عنهم دفعا. والصبر على فتنة إقبال الدنيا على المبطلين تصاغ لهم الأمجاد الكاذبة، والصبر على الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله وكل من حوله غارقاً في تيار الضلالة وهو وحده موحش غريب طريد.(1/250)
* ويصبر في رمضان على طاعة الله والدعوة إليه وهو أعلى أنواع الصبر والصبر على الطاعة والدعوة أمانة الله في الأرض لا يحملها إلا من هم لها أهل، وفيهم على حملها قدرة، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص، وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة، وعلى الأمن والسلامة، وعلى المتاع والإغراء، فهي أمانة كريمة، ومن ثَمَّ تحتاج إلى طراز خاص يصبر ويصبر.
والنفس بالصبر تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث، وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع ويشتد غورها ويصلب، فإذا طال الأمد، وأبطأ نصر الله، لا يثبت إلا من يؤتمن على تلك الأمانة الكبرى، أمانة السماء في الأرض، وأمانة الله في ضمير المؤمن. إن الصابرين ليتسلمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن، وبما صبروا لها من الصبر على المحن.
والذي يصبر على الأذى والحرمان يشعر ولا شك بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل فلا يسلمها رخيصة بعد كل هذه التضحيات.
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (1) .
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، لقد كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها (2) ، فيلبسها، ويبتلى بالقمل حتى يقتله، ولأحدهم كان أشد فرحاً بالبلاء من أحدكم بالعطاء" (3) .
* لا بد من صبر على طاعة الله والاستقامة على دربه وبذل النفس في مرضاة الله. وهنا لابد من نصح للحركة الإسلامية بعدم العجلة، والحماس الفائر، ولنا في قصة بني إسرائيل العبر: (ألم تر إلى الملاء من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي
__________
(1) صحيح: رواه أحمد والطبراني في "الكبير" عن فاطمة بنت اليمان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (996) .
(2) يقطعها.
(3) صحيح: رواه ابن ماجه، وأبو يعلي في "مسنده"، والحاكم في "المستدرك" وصححه عن أبي سعيد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (995) .(1/251)
لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين) [البقرة: 246] إلى نهاية الآيات.
(فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده..) الآية [البقرة: 249] .
"فالتفلت من الطاعة والنكوص عن التكليف سمة كل حركة لا تنضج تربيتها الإيمانية، فهي سمة بشرية عامة لا تغير منها إلا التربية العالية الطويلة الأمد العميقة التأثير.
ومِنْ ثَمَّ ينبغي للقادة أن يكونوا منها على حذر، وأن تحسب حسابها في الطريق الوعر كي لا تفاجأ بها، فيتعاظمها الأمر، فهي متوقعة من الجماعات البشرية التي لم تخلص من الأوشاب، ولم تصهر ولم تطهر من هذه العقابيل" (1) .
لابد للقادة أن يربو الجيل على الصمود للرغبات والشهوات، والصمود على الحرمان والمتاعب، والصبر على قيام الليل في رمضان باب هذا، وصيام النهار والذكر أعلى درجات الطاعة.
إنه لابد من الصبر:
الصبر على طول الطريق الشائك، الصبر على قلة الناصر، الصبر على عناد القلب ومضاضة الإعراض عن طريق الله، والتواء النفوس الصبر على انتفاش الباطل، أن ترى الشر نافشاً والخير ضاوياً، ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق.
يا إخوتاه:
الصبر نبل غاية، وطهارة قصد، ونظافة طريق.
لابد من صبر على الطاعة والتربية ينفض عنا الكسل والخمول، ويستجيش ما في شباب الأمة من مكنونات مذخورة للدور النبيل الذي يمليه رمضان شهر الصبر وشهر الفتوحات.
__________
(1) "الظلال" لسيد قطب.(1/252)
(وقال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين * قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) [الأعراف: 128-129] .
إنه ليس لأصحاب الدعوة إلى رب العالمين إلا ملاذ واحد، وهو الملاذ الحصين الأمين والأولى، واحد وهو الولي القوي المتين، وعليهم أن يصبروا حتى يأذن الولي بالنصرة في الوقت الذي يقدره بحكمته وعلمه، وألا يعجلوا، فهم لا يطلعون الغيب، ولا يعلمون الخير.
على الناس ألا يتبرموا من طول الطريق فالعاقبة للصابرين طال الزمن أم قصر، فلا يخالج قلوب الداعين إلى رب العالمين قلق على المصير، ولا يخايل لهم تقلب الذين كفروا في البلاد، فيحسبونهم باقين.
لابد للدعاة أن يصبروا على الالتواءات والانحرافات، وثقلة الطبائع وتفاهة الاهتمامات بالصبر على الطاعة.
وانظر إلى مناجاة موسى لربه وإعداده لنفسه بالصوم كي تصفو الروح وتشف وتستضيء وتتقوى العزيمة على مواجهة حمل الأمانة والدعوة.
قال تعالى: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة ... ) الآية [الأعراف: 142] .
قال ابن كثير "فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة، قال المفسرون فصامها موسى عليه السلام وطواها، فلمّا تم الميقات استاك بلحاء شجرة، فأمره الله أن تكمل العشرة أربعين".
صيام ومناجاة ... ختمها بعشر ذي الحجة..
وهكذا.. فالتمرن بالصبر على الطاعة يؤهل النفوس للأدوار العظيمة.
يا إخوتاه ويا حملة الدعوة ... هذه أيامكم.. أيام الصبر في رمضان ومنها العظة ولابد من الصبر.(1/253)
لقد كان أول توجيه للأمة الوسط الشهيدة على الناس ذات الشخصية الخاصة والكيان الخاص هو الاستعانة بالصبر والصلاة على تكاليف هذا الدور العظيم.
قال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) [البقرة: 45] .
قال ابن جرير في "تفسيره" (1/259) : "وقد قيل: إن معنى الصبر في هذا الموضع: الصوم، والصوم بعض معاني الصبر عندنا".
يتكرر ذكر الصبر -منه الصوم- في القرآن كثيراً، ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع، والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات، والذي يتطلب أن تبقي النفس مشدودة الأعصاب، مجندة القوى، يقظة للمداخل والمخارج.. ولابد من الصبر في هذا كله.
لابد من الصبر على الطاعات، والصبر على عناد المشاقين لله، وفضح أساليبهم وأهدافهم، الصبر على الكيد بشتى صنوفه، والصبر على بطء النصر، والصبر على بُعد الشُقَّة.
عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: "شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون" (1) .
لابد من تربية للنفوس بالبلاء وبالجوع، لابد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدّوا في سبيلها من تكاليف، فالتكاليف هنا هي الثمن النفيس الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الأخرين.
__________
(1) رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي.(1/254)
لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها، وصبرهم على بلائها، عندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها، مقدرين لها، مندفعين إليها.
ولابد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى، فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة، وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد، والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش من العيون، والران عن القلوب.
وأهم من هذا كله، أو القاعدة لهذا كله.. الالتجاء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد كلها، وتتوارى الأوهام وهي شتى، ويخلو القلب إلى الله وحده لا يجد سنداً إلا سنده، وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات وتتفتح البصيرة، وينجلي الأفق على مدّ البصر ... لا حول إلا حول الله، ولا ملجأ إلّا إليه.
قال تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيية قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) [البقرة: 155-157] .
إنا لله.. كلنا.. كل ما فينا.. كل كياننا وذاتيتنا.. لله. وإليه المرجع والمآب في كل أمر، وفي كل مصير.. التسليم.. التسليم المطلق..
هؤلاء هم الصابرون.. الذين يبلغهم الرسول الكريم بالبشرى من المنعم الجليل.. وهؤلاء هم الذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء الصبر الجميل (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) .
"صلوات من ربهم ورفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه وهو مقام كريم.. ورحمة.. وشهادة من الله بأنهم هم المهتدون.. وكل أمر من هذه هائل عظيم".
إن الله يضع الصبر في كفة.. ويضع في الكفة الأخرى أمراً واحداً.. صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون.. إنه لا يعدهم هنا نصراً.. ولا يعدهم هنا تمكيناً، ولا يعدهم هنا مغانم، ولا يعدهم هنا شيئاً إلا صلوات الله ورحمته وشهادته(1/255)
لقد كان الله يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها، وأكبر من حياتها، فكان من ثَم يجردها من كل غاية، ومن كل هدف، ومن كل رغبة من الرغبات البشرية، حتى الرغبة في انتصار العقيدة - كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته.. كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شيء إلا رضى الله وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون.. هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية.. وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها.. فأما ما يكتبه الله لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فهو لدعوة الله التي يحملونها.
إن الكفة ترجح بهذا العطاء فهو أثقل في الميزان من كل عطاء.. أرجح من النصر وأرجح من التمكين وأرجح من شفاء غيظ الصدور.
"هذه هي التربيه التي أخذ الله بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين" (1) .
* * *
__________
(1) نقل بتصرف من "الظلال".(1/256)
رمضان شهر الشكر
رمضان شهر الشكر والحياء.. ولو سجدنا لله على إبر الشوك إلى يوم لقياه ما قدرنا حق عطاياه.. فكيف بنعم الله وفضله في رمضان شكر على الإسلام وكفى بها نعمة! أم شكر على نعمة البقاء وإدراك رمضان ونحن أحياء؟ أم شكر على غفران الذنوب؟ أم شكر على فتح أبواب الجنان؟ أم شكر على غلق أبواب النيران؟ أم شكر على تصفيد الشياطين؟ أم شكر على إجابة الدعاء؟ أم شكر على العتق من النيران؟ أم شكر على رفرفة الأرواح نحو الملأ؟ أم شكر على التحرير من ثقلة الأرض وحمأة الطين؟ أم شكر على التهجد والتراويح؟ أم شكر على الصدقات والتسبيح؟ أم شكر على مواساة الفقير؟ قال تعالى: (ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) .
ولله در محمود الورّاق إذ يقول:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... عليّ له في مثلها يجب الشكرُ
فكيف وقوع الشكر إلا بفضله ... وإن طالت الأيام واتصل العمرُ
إذا مسّ بالسرّاء عمّ سرورها ... وإنْ مسّ بالضراء أعقبها الأجر
وما منهما إلا له فيه منّة ... تضيق بها الأوهام والبر والبحر
الشكر لله درجات، تبدأ بالاعتراف بفضله والحياء من معصيته، وتنتهي بالتجرد لشكره، والقصد إلى هذا الشكر في كل حركة بدن، وفي كل لفظة لسان وفي كل قطرة جنان.. مع كل خفقة ووجيب قلب.
ومن كلام شيخ الإسلام ابن القيم مفرقاً: "جعل الله الشكر مفتاح كلام أهل الجنة فقال تعالى: (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده) ، وقال: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) .
ومنزلة الشكر من أعلى المنازل، وهي فوق "الرضى" وزيادة، فالرضى مندرج(1/257)
في الشكر بل يندرج فيه جميع مقامات الإيمان حتى المحبة والرضى والتوكل، وتالله ليس لخواص أولياء الله وأهل القرب منه سبيل أرفع من الشكر ولا أعلى وهو نصف الإيمان.
* وقد قرن الله تعالى ذكره بذكره مع أنه قال: (ولذكر الله أكبر) ، وكلاهما هو المراد بالخلق والأمر قال تعالى: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) [البقرة: 152] .
* وقرن سبحانه الشكر بالإيمان فقال تعالى: (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) الآية.
* وأخبر سبحانه أن أهل الشكر هم المخصوصون بمنّته عليهم من بين عباده فقال تعالى: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين) [الأنعام: 53] .
* وقسّم العباد إلى شكور وكفور قال تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) [الإنسان: 3] .
* وقد أمر الله به، ونهى عن ضده وذمه، فقال تعالى: (إن الإنسان لربه لكنود) [العاديات: 6] .
يعد المصائب وينسى النعم.
يا أيها الظالم في فعلهِ ... والظلم مردود على من ظَلَمْ
إلى متى أنت وحتى متى ... تشكو المصيبات وتنسى النَّعَمْ
* وهو غاية الرب من عبده، وهو الغاية من خلقه وأمره، قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) [النحل: 78] .
* وقد أخبر سبحانه إنما يعبده من يشكره، فمن لم يشكره لم يكن من أهل عبادته فقال: (واشكروا لله إن كنتم إيّاه تعبدون) .(1/258)
* وأول وصية وصى بها الإنسان بعد ما عقل عنه الشكر له وللوالدين: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصالُه في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير) [لقمان: 14] .
* وأخبر أن رضاه في شكره فقال تعالى: (وإن تشكروا يرضه لكم) .
* وأثنى على أهله ووصف به خواصّ عباده، وأثنى عليه خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بشكر نعمه فقال: (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم) [النحل: 121] ، فختم صفات خليله بأنه شاكر، فجعل الشكر غاية خليله.
* وأمر عبده موسى أن يتلقى ما آتاه من النبوة والرسالة والتكليم بالشكر فقال تعالى: (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين) [الأعراف: 144] .
* وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على أول رسول بعثه إلى أهل الأرض بالشكر فقال تعالى: (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً) [الإسراء: 3] ، وفي تخصيص نوح ها هنا بالذكر، وخطاب العباد بأنهم ذريته إشارة إلى الاقتداء به فإنه أبوهم الثاني، فإن الله لم يجعل للخلق بعد الغرق نسلاً إلا من ذريته كما قال تعالى: (وجعلنا ذريته هم الباقين) [الصافات: 77] .
* وقلة أهله في العالمين تدل على أنهم هم خواصه كقوله: (وقليل من عبادي الشكور) .
* وقابل الله سبحانه بين الشكر والكفر فقال عن نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن الله غني كريم) [النمل: 40] .
* ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سبباً للمزيد من فضله (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) [إبراهيم: 7] .
* وقد وقف سبحانه كثيراً من الجزاء على المشيئة كقوله: (فيكشف ما تدعون(1/259)
إليه إن شاء) ، وقوله في الرزق: (يرزق من يشاء) ، وفي المغفرة (يغفر لمن يشاء) ، والتوبة (ويتوب الله على من يشاء) ، وأطلق جزاء الشكر إطلاقاً حيث قال: (وسنجزي الشاكرين) ، (وسيجزي الله الشاكرين) .
* ولماّ عرف إبليس قدر مقام الشكر وأنه من أجل المقامات وأعلاها، جعل غايته أن يسعى في قطع الناس عنه فقال: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) .
* واشتق الله للشاكرين اسماً من أسمائه، فإنه سبحانه هو الشكور، فأعطاهم من وصفه، وسمّاهم باسمه، وحسبك بهذا محبة للشاكرين وفضلاً، وهو يوصّل الشاكر إلى مشكوره، بل يعيد الشاكر مشكوراً، قال تعالى: (إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً) [الإنسان: 22] .
* وفي الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنه قام حتى تورّمت قدماه، فقيل له: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً".
وقال لمعاذ: "والله يا معاذ، إني لأحبك، فلا تنس أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" (1) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الدنيا" (2) .
* والشكر مبني على خمسة قواعد:
(1) خضوع الشاكر للمشكور وإضافة النعم إلى موليها بنعت الاستكانة له.
(2) حبه له، قال سلمان: ذكر النعم يورث الحب.
__________
(1) صحيح: رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي وابن حبان والحاكم في "المستدرك" وصححه، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7969) .
(2) صحيح: رواه أبو نعيم في "الحلية" والحاكم في "المستدرك"، عن ابن عباس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5355) ، و"السلسلة الصحيحة" رقم (2176) .(1/260)
(3) اعترافه بنعمته ومعرفته بها وقبولها.
(4) ثناؤه عليه بها.
(5) أن لا يستعملها فيما يكره.
ومن عدم واحدة منها: اختل من قواعد الشكر قاعدة.
أما معرفتها: فهو إحضارها في الذهن ومشاهدتها وتمييزها.
وقبولها: هو تلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة إليها، وأن وصولها إليه بغير استحقاق منه، قال الجنيد: "الشكر أن لا ترى نفسك أهلاً للنعمة".
وهذا معنى قول حمدون -وما ألطفه-: "شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيليا".
* والثناء بها على المنعم: وصفه بالجود والكرم والبر والإحسان وسعة العطاء.
* والتحدث بنعمته: ذكر النعمة والإخبار بها، والدعوة إلى الله وتبليغ رسالته وتعليم الأمة قال تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث) [الضحى: 11] .
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "التحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير" (1) .
ومن الرزية أن شكري صامت ... عما فعلت وأن برّك ناطقُ
وأرى الصنيعة منك ثم أسرّها ... إني إذاً لدى الكريم لسارقُ
نعم يا أخي: الشكر: عكوف القلوب على محبة المنعم، والجوارح على
طاعته، وجريان اللسان بذكره، والثناء عليه.
والشكر: قيد النعم الموجودة، وصيد النعم المفقودة.
قال عمر بن عبد العزيز: قيّدوا نعم الله بشكر الله.
__________
(1) حسن: رواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن النعمان بن بشير، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3014) ، و"السلسلة الصحيحة" رقم (667) .(1/261)
* وشكر العامة على المطعم والمشرب والملبس وقوت الأبدان، وشكر الخاصة على قوت القلوب والتوحيد والإيمان.
نعم: الشكر: التلذذ بثنائه على ما لم تستوجب من عطائه، وقيل: من قصرت يداه عن المكافآت فليطل لسانه بالشكر.
والشكر معه المزيد فمتى لم ترَ حالك في مزيد فاستقبل الشكر.
* والشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح:
فالقلب للمعرفة والمحبة، واللسان للثناء والحمد، والجوارح لاستعمالها في طاعة المشكور وكفها عن معاصيه.
قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجّبا
* والشكر أخص بالأفعال، والحمد أخص بالأقوال، فإنه يحمد على أسمائه وصفاته وأفعاله أو يشكر على نعمه.
وسبب الحمد أعمّ من سبب الشكر.
ومتعلق الشكر وما به الشكر أعمّ مما به الحمد، فإنه يشكر بالقلب واللسان والجوارح، ويحمد بالقلب واللسان.
وأي نعم الله تحصي في الدنيا أو في الآخرة.
عن عبد الله بن محصن قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" (1) . فما ظنك بنعمة ترك المعصية في هذا الشهر.
أصبحت بين نعمتين لا تدري أيتهما أفضل: ذنوب سترها الله فلا يستطيع أن يعيرك بها أحد، ومودة قذفها في قلوب العباد لا يبلغها العمل.
__________
(1) حسن: رواه البخاري في "الأدب المفرد"، والترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6024) .(1/262)
أخي: كم عدو حط ّمنك بالذم فرقاك، كم أعطش من شراب الأمانيّّ خلقاً وسقاك، كم أمات بعض من لم يبلغ رمضان وأبقاك.
لقد أعطاك أيتها النفس ما لم تأملي، وبلّغك ما لم تطلبي، وستر عليك من القبيح ما لو فاح لضجّت المشام.
كيف لا تحب من أنت به، وبقاؤك منه، ورجوعك إليه.
قال سليمان التيمي: إن الله سبحانه أنعم على عبده على قدره، وكلّفهم بالشكر على قدرهم.
قالت امرأة لابن أبي الحواري: أنا في بيتي قد شُغل قلبي، قلت: وما هو؟
قالت: أريد أن أعرف نعم الله عليّ في طرفة عين، أو أعرف تقصيري عن شكر النعمة عليّ في طرفة عين. قلت: تريدين ما لا تهتدي إليه عقولنا. وتنسّك رجل فقال: لا آكل الخبيص لا أقوم بشكره، فقال الحسن: هذا أحمق؟! وهل يقوم بشكر الماء البارد!!
* ومن دقيق نعم الله على العبد التي لا يكاد يفطن لها: أن يغلق عليه بابه فيرسل الله إليه من يطرق عليه الباب فيسأله شيئاً من القوت ليعرف نعمته عليه.
* وقال الثوري: ما أنعم الله على عبد في حاجة أكثر من تضرعه إليه فيها.
وقال أبو حازم: نعم الله فيما زوي عني من الدنيا أعظم من نعمته فيما أعطانى منها.
قال بكر بن عبد الله: ما قال عبد قط الحمد لله إلا وجبت عليه نعمة بقوله الحمد لله، فجزاء تلك النعمة أن يقول الحمد لله، فجاءت نعمة أخرى فلا تنفد".
فسبحان "المنعم فما قام مخلوق بحقه، الموالي بفضله على جميع خلقه بشرائف المنائح على طول الزمان، أنشأ المخلوقات بحكمته وصنعها، وفرّق الأشياء بقدرته وجمعها، ودحا الأرض على الماء وأوسعها (والسماء رفعها ووضع الميزان) .
* سالت الجوامد لهيبته ولانت، وذلت الصعاب لسطوته وهانت، وإذا بطش(1/263)
(انشقت السماء فكانت وردة كالدهان) .
يعز ويذل، ويفقر ويغني، ويسعد ويُشقي، ويبقي ويُفني، ويشين ويزين، وينقض ويبني (كل يوم هو في شأن) .
قدّر التقدير فلا رادّ لحكمه، وعلم سر العبد وباطن عزمه (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) .
مدّ الأرض فأوسعها بقدرته، وأجرى فيها أنهارها بصنعته، وصبغ ألوان نباتها بحكمته فمن يقدر على صبغ تلك الألوان، ثبتها بالجبال الرواسي في نواحيها، وأرسل السحاب بمياه تحييها، وقضى بالفناء على ساكنيها (كل من عليها فان) .
من خدمه طامعاً في فضله نال، ومن لجأ إليه في رفع كربه زال، ومن عامله أربحه وقد قال: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) (1) .
* فاتق الله أفلا تنافس الجن في حسن المقال.
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للصحابة: "لما قرأتها (يعني سورة الرحمن) على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد" (2) .
"فاللهم إنا نعوذ بك أن نبدل نعمتك كفراً، وأن نكفرها بعد أن عرفناها، وأن ننساها ولا نثني بها" كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
"إلهي من كرمك أنك تطاع ولا تعصى، ومن حلمك أنك تعصى وكأنك لا ترى، وأي زمن لم يعصك فيه سكان أرضك وأنت بالخير عوّاد".
ولله در الحسن: كان إن ابتدأ حديثه قال:
"الحمد لله ربنا لك الحمد بالإسلام والقرآن، ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة، كبّت عدونا، وبسطت رزقنا، وأظهرت أمتنا، وجمعت فرقتنا،
__________
(1) "التبصرة" (2/70) .
(2) صحيح: رواه ابن ماجه عن أنس، ورواه ابن السني والخرائطي والضياء وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5563) .(1/264)
وأحسنت معافاتنا، ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا، فلك الحمد على ذلك حمداً كثيراً، لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، سراً أو علانية، أو خاصة أو عامة، أو حي أو ميت، أو شاهد أو غائب، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت".
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطى، أفضل مما أخذ" (1) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أنعم الله على عبد نعمة فحمد الله عليها، إلا كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة" (2) .
* * *
__________
(1) صحيح: رواه ابن ماجه عن أنس، ورواه ابن السني والخرائطي والضياء وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5563) .
(2) حسن: رواه ابن السني، والخرائطي، والضياء عن أنس، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5562) .(1/265)
رمضان شهر الدعاء المستجاب
إن لم يكن رمضان وقت الدعاء المستجاب ففي أي شهر يكون الدعاء؟ وهو وقت الشفاة الذابلة والطاعة الكاملة، والبطون الضامرة، وقت نزول الملائكة، وقت فتح أبواب الرحمة وأبواب السماء قال تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) [البقرة: 186] .
وعجيب وجميل أن يذكر الدعاء وسط الكلام عن الصيام وأحكامه.
قال الشيخ محمد رشيد رضا: هذا التفات عن خطاب المؤمنين كافة بأحكام الصيام إلى خطاب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يذكرهم ويعلمهم ما يراعونه في هذه العبادة وغيرها من الطاعة والإخلاص والتوجه إليه وحده بالدعاء الذي يعدهم للهدي والرشاد.
قال البيضاوي في "وجه الاتصال": "واعلم أنه تعالى أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبه بهذه الآية الدالة على أنه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم، مجيب لدعائهم، مجاز على أعمالهم، تأكيداً له وحثاً عليه" (1) .
* وقال الرازي في "التفسير الكبير": "في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها
الأول: أنه تعالى لماّ قال بعد إيجاب فرض الصوم وبين أحكامه (ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) فأمر العبد بالتكبير الذي هو الذكر وبالشكر، بينّ أنه سبحانه بلطفه ورحمته قريب من العبد مطلع على ذكره وشكره فيسمع نداءه، ويجيب دعاءه ولا يخيب رجاءه (2) .
الثاني: أنه أمر بالتكبير أولاً، ثم رغّبه في الدعاء ثانياً، تنبيهاً على أن الدعاء لابد وأن يكون مسبوقاً بالثناء الجميل.
__________
(1) "تفسير المنار" (1/167) .
(2) "مفاتيح الغيب" (3/88) .(1/266)
الثالث: أن الله تعالى لماّ فرض عليهم الصيام كما فرض على الذين من قبلهم، وكان ذلك على أنهم إذا ناموا حرم عليهم ما يحرم على الصائم، فشقّ ذلك على بعضهم حتى عصوا الله في ذلك التكليف، ثم ندموا وسألوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن توبتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية مخبراً لهم بقبول توبتهم، ونسخ ذلك التشديد بسبب دعائهم وتضرعهم.
قبل أن يمضي سياق الآيات التي تتحدث عن الصوم في سورة البقرة في "بيان أحكام تفصيلية عن مواعيد الصيام، وحدود المتاع فيه وحدود الإمساك.. نجد لفتة عجيبة إلى أعماق النفس وخفايا السريرة. نجد العوض الكامل الحبيب المرغوب عن مشقة الصوم، والجزاء المعجل على الاستجابة لله.. نجد ذلك العوض وهذا الجزاء في القرب من الله، وفي استجابته للدعاء.. تصوره ألفاظ رفافة شفافة تكاد تنير: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) [البقرة: 186] .
فإني قريب.. أجيب دعوة الداع إذا دعان.. أية رقة؟ وأي انعطاف؟ وأية شفافية؟ وأي إيناس؟ وأين تقع مشقة الصوم ومشقة أي تكليف في ظل هذا الود، وظل هذا القريب، وظل هذا الإيناس؟
وفي كل لفظ في التعبير في الآية كلها تلك النداوة الحبيبة: إضافة العباد إليه، والرد المباشر عليهم منه.. لم يقل لهم، فقل لهم: إني قريب.. إنما تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال.. قريب.. ولم يقل أسمع الدعاء.. إنما عجل بإجابة الدعاء.. (أجيب دعوة الداع إذا دعان) .
إنها آية عجيبة.. آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤنس، والرضى المطمئن، والثقة واليقين.. ويعيش منها المؤمن في جناب رضى وقربى نديّة، وملاذ أمين وقرار مكين.
وفي ظل هذا الأنس الحبيب، وهذا القرب الودود، وهذه الاستجابة الوحية يوجه الله عباده إلى الاستجابة له، والإيمان به، لعل هذا أن يقودهم إلى الرشد والهداية والصلاح.(1/267)
فالثمرة الأخيرة منه الاستجابة والإيمان هي لهم كذلك.. وهي الرشد والهدي والصلاح فالله غني عن العالمين.
والرشد الذي ينشئه الإيمان وتنشئه الاستجابة لله هو الرشد، واستجابة الله للعباد مرجوة حين يستجيبون له وهم يرشدون. وعليهم أن يدعوه ولا يستعجلوه.. فهو يقدر الاستجابة في وقتها بتقديره الحكيم" (1) فسبحان من أطمع المطيع والعاصي، والداني والقاصي في الانبساط إلى حضرة جلاله برفع الحاجات والأماني بقوله: (أجيب دعوة الداع إذا دعان) .
يقول الرازي في "مفاتيح الغيب": "تدل على تعظيم حال الدعاء من وجوه: الأول: كأنه سبحانه وتعالى يقول: عبدي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء، أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك.
الثاني: أن قوله: (وإذا سألك عبادي) يدل على أن العبد له، وقوله تعالى: (فإني قريب) يدل على أن الرب للعبد.
والثالث: لم يقل فالعبد مني قريب، بل قاله: أنا منه قريب" (2) .
وانظر إلى كرم الجواد الذي إذا لم يُسأل يغضب فقال تعالى: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) [الأنعام: 43] ، وقال تعالى: (قل ما يعبأ بكم ربكم لولا دعاؤكم) .
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنه من لم يسأل الله يغضب عليه" (3) .
وقال الشاعر:
فالله يغضب إن تركت سؤاله ... وبُني آدم حين يسأل يغضب
__________
(1) "الظلال" (1/172-173) .
(2) "مفاتيح الغيب" (3/95) .
(3) صحيح: رواه الترمذي عن أبى هريرة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2418) .(1/268)
* وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل العبادة الدعاء" (1) .
فالدعاء تذلل وخضوع، وإخبات وانطراح على سدة الكريم.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الدعاء هو العبادة" (2) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن أبخل الناس من بخل بالسلام، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء" (3) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء" (4) .
قال المناوي (6/365- 366) : "قال الطيب: لدلالته على قدرة الله وعجز الداعي، ولا منافاة بين هذا الحديث وآية (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) لأن كل شيء يشرق في بابه فإنه يوصف بالكرم".
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء" (5) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله حيى كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين" (6) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر" (7) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه
__________
(1) صحيح: رواه الحاكم في "المستدرك" عن ابن عباس، وابن عدي عن أبي هريرة، وابن سعد عن النعمان بن بشير وصححه الحاكم وأقره الذهبي، وصححه السيوطي، والألباني في صحيح الجامع" رقم (1122) .
(2) رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في "الأدب" وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن النعمان بن بشير، وأبو يعلي عن البراء، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3407) .
(3) صحيح: رواه أبو يعلي في "مسنده" عن أبي هريرة، ورواه ابن حبان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1519) .
(4) حسن: رواه أحمد والبخاري في "الأدب" والترمذي والحاكم عن أبي هريرة، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5392) .
(5) حسن: رواه الحاكم عن ابن عمر، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3409) .
(6) صحيح: رواه أحمد، وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم عن سلمان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1757) .
(7) حسن: رواه الترمذي والحاكم عن سلمان، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7687) .(1/269)
من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، ما لم يعجل، يقول: قد دعوت ودعوت، فلم يستجب لي" (1) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعان" (2) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب، فليكثر الدعاء في الرخاء" (3) .
* وعليه بآداب الدعاء وهي عشرة:
(الأول) أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة كيوم عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، ويوم الجمعة من الأسبوع ووقت السحر من ساعات الليل.
(الثاني) أن يغتنم الأحوال الشريفة.
وهذه الأوقات والأحوال التي فيها يستجاب الدعاء:
1- وقت التنزل الإلهي:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى فيها خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك في كل ليلة" (4) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن" (5) .
2- في السجود:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمِن (6) أن يستجاب لكم" (7) .
__________
(1) حسن: رواه الترمذي عن عبادة بن الصامت، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5637) .
(2) رواه أحمد عن أنس، ومسلم والترمذي عن أبي هريرة.
(3) حسن: رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6290) .
(4) رواه مسلم وأحمد عن جابر.
(5) صحيح: رواه الترمذي والنسائي والحاكم عن عمرو بن عبسة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1173) .
(6) أي جدير.
(7) جزء من حديث ابن عباس أخرجه مسلم.(1/270)
3- أن يبيت على ذكر فيتعار من الليل فيدعو:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من مسلم يبيت على ذكر طاهراً فيتعار من الليل فيسأل الله تعالى خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه" (1) .
4- عند الأذان:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا نادى المنادي فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء" (2) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا نودي بالصلاة فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء" (3) .
5- بين الأذان والإقامة:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الدعاء بين الأذان والأقامة مستجاب فادعوا" (4) .
6، 7، 8- عند نزول المطر، وعند التقاء الجيوش، وعند إقامة الصلاة:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء وتحت المطر" (5) .
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اطلبوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث" (6) .
9- آخر ساعة من نهار الجمعة:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة، منها ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله فيها شيئاً إلا آتاه الله إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر" (7) .
10- دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب:
__________
(1) صحيح: رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن معاذ، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5754) .
(2) صحيح: رواه الطيالسي وأبو يعلي والضياء عن أنس، وصححه الألباني في (صحيح الجامع) رقم (818) .
(3) صحيح: رواه أبو يعلي والحاكم عن أبي أمامة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (803) .
(4) صحيح: رواه أبو يعلي عن أنس، وصححه الألبانى في "صحيح الجامع" رقم (3405) ، و"المشكاة" رقم (671) .
(5) حسن: "رواه الحاكم عن سهل بن سعد، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3078) .
(6) صحيح: رواه الشافعي والبيهقي في "المعرفة" وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، رقم (1026) .
(7) صحيح: رواه أبو داود والنسائي والحاكم عن جابر، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (8190) .(1/271)
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب لايرد" (1) .
11- دعوة المسافر.
12- دعوة المظلوم.
13- دعوة الوالد لولده.
14- دعوة الصائم.
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر"، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم ودعوة المسافر".
15- عدم العجلة:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت فلم يُستجب لي" (2) .
16- دعاء رمضان: فهو وقت صيام، وزمان شريف.
وهناك علاقة وطيدة بين فتح أبواب السماء وأبواب الرحمة وإجابة الدعاء كما يظهر من الأحاديث، وهي حاصلة في رمضان.
(الثالث) أن يدعو مستقبل القبلة ويرفع يديه قبل أن تغل بالأغلال.
(الرابع) خفض الصوت بين المخافتة والجهر، قال تعالى: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) قالت عائشة: أي بدعائك.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا أيها الناس إن الذي تدعون ليس بأصم ولا غائب" متفق عليه.
(الخامس) أن لا يتكلف السجع في الدعاء.
ادع بلسان الذلة والافتقار لا بلسان الفصاحة والانطلاق.
__________
(1) صحيح: رواه البزار عن عمران بن حصين، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3379) .
(2) رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة.(1/272)
(السادس) التضرع والخشوع والرغبة والرهبة:
قال تعالى: (ادعوا ربكم تضرعاً وخفية) .
وقال تعالى: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً) الآية.
(السابع) أن يجزم بالدعاء ويوقن بالإجابة ويصدق رجاءه فيه.
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه" (1) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، وليعزم المسألة، وليعظم الرغبة، فإن الله لا يعظم عليه شيء أعطاه" (2) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يقل أحدكم إذا دعا اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت فليعزم المسألة فإنه لا مكره له" (3) .
قال سفيان بن عيينة: لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه فإن الله عز وجل أجاب دعاء شر الخلق إبليس لعنه الله (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين) [الحجر: 36-37] .
(الثامن) أن يلح في الدعاء ويعظم المسألة ويكرر الدعاء ثلاثاً:
قال ابن مسعود: "كان عليه السلام إذا دعا دعا ثلاثاً وإذا سأل سأل ثلاثاً" (4) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا تمنى أحدكم فليكثر، فإنما يسأل ربه" (5) .
__________
(1) حسن: رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (245) .
(2) رواه البخاري في "الأدب" عن أبي سعيد، ومسلم عن أبي هريرة.
(3) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وعن أنس"إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقل: اللهم إن شئت فاعطني فإن الله لا مستكره له" رواه البخاري ومسلم وأحمد.
(4) رواه مسلم وأصله متفق عليه.
(5) رواه الطبراني في "الأوسط" عن عائشهّ، ورمز السيوطي لحسنه. قال المناوي (1/320) : "وهو تقصير أو قصور وحقه الرمز لصحته فقد قال الهيثمي وغيره: رجاله رجال الصحيح" وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (437) .(1/273)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا سأل أحدكم فليكثر فإنما يسأل ربه" (1) .
قال المناوي: "إذا تمنى أحدكم خيراً من خير الدارين فليكثر الأماني فإنما يسأل ربه الذي رباه وأنعم عليه وأحسن إليه، فيعظم الرغبة ويوسع المسألة، ويسأله الكثير والقليل حتى شسع النعل فإنه إن لم ييسره لا يتيسر، فينبغي للسائل إكثار المسألة ولا يختصر ولا يقتصر فإن خزائن الجود سحاء الليل والنهار ولا يفنيها عطاء وإن جل وعظم فعطاؤه بين الكاف والنون، وليس ذا بمناقض لقوله سبحانه: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) فإن ذلك نهى عن تمنى ما لأخيه بغياً وحسداً، وهذا تمنى على الله سبحانه خيراً في دينه ودنياه وطلب من خزائنه فهو نظير (واسألوا الله من فضله) .
(التاسع) أن يفتتح الدعاء بذكر الله والثناء عليه وأن يختمه بالصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل دعاء محجوب حتى يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (2) .
قال أبو سلمان الداراني رحمه الله: من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يسأله حاجته، ثم يختم بالصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن الله عز وجل يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يدع ما بينهما.
(العاشر) وهو الأدب الباطن وهو الأصل في الإجابة: "التوبة ورد المظالم والإقبال على الله عز وجل بكنه الهمة، فذلك هو السبب القريب في الإجابة".
قال مالك بن دينار: "إنكم تستبطئون المطر وأنا استبطئ الحجارة" أي نزول الحجارة.
قال عطاء السلمي: منعنا الغيث فخرجنا نستسقي فإذا نحن بسعدون المجنون في المقابر فنظر إليّ فقال: يا عطاء أهذا يوم النشور أو بعثر ما في القبور؟ فقلت: لا
__________
(1) صحيح: رواه ابن حبان في "صحيحه" عن عائشة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (591) .
(2) حسن: رواه الديلمي في "مسند الفردوس" عن أنس، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن علي موقوفاً، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (4523) ، ورواه ابن حبان عن معاذ، وابن مخلد عن علي مرفوعاً.(1/274)
ولكنا منعنا الغيث فخرجنا نستسقي فقال: يا عطاء بقلوب أرضية أم بقلوب سماوية؟ فقلت: بل بقلوب سماوية. فقال: هيهات يا عطاء، قل للمتبهرجين لا تتبهرجوا فإن الناقد بصير. ثم رمق السماء بطرفه وقال: إلهي وسيدي ومولاي لا تهلك بلادك بذنوب عبادك ولكن بالسر المكنون من أسمائك وما وارت الحجب من آلائك إلا ما سقيتنا ماءً غدقاً فراتاً تحيي به العباد وتروي به البلاد يا من هو على كل شيء قدير، قال عطاء فما استتم الكلام حتى ارعدت السماء وأبرقت وجادت بمطر كأفواه القرب فولى وهو يقول:
أفلح الزاهدون والعابدونا ... إذ لمولاهم أجاعوا البطونا
أسهروا الأعين العليلة حبا ... فانقضى ليلهم وهم ساهرونا
شغلتهم عبادة الله حتى ... حسب الناس أن فيهم جنونا
قال ابن المبارك: "قدمت المدينة في عام شديد القحط فخرج الناس يستسقون فخرجت معهم إذ أقبل غلام أسود عليه قطعتا خيش قد أتزر بإحداهما وألقى الأخرى على عاتقه، فجلس إلى جنبي فسمعته يقول: إلهي أخلقت الوجوه عندك كثرة الذنوب ومساويء الأعمال وقد حبست عنا غيث السماء لتؤدب عبادك بذلك، فأسألك يا حليما ذا أناة يا من لا يعرف عباده منه إلا الجميل أن تسقيهم الساعة الساعة، فلم يزل يقول: الساعة الساعة حتى اكتست السماء بالغمام وأقبل المطر من كل جانب، قال ابن المبارك: فجئت إلى الفضيل، فقال لي: ما لي أراك كئيبا؟ فقال: أمر سبقنا إليه غيرنا فتولاه دوننا وقصصت عليه القصة فخر الفضيل مغشياً عليه" (1) فهذا شهر الدعاء فرطب لسانك بدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
"اللهم اجعل أوسع رزقك عليّ عند كبر سني، وانقطاع أمري" (2) .
"اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، ومن
__________
(1) "إحياء علوم الدين" (1/361-366) .
(2) حسن: رواه الحاكم عن عائشة، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1255) .(1/275)
أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، واجعل لي في نفسي نوراً، وأعظم لي نوراً" (1) .
"اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً، ولا تشمت لي عدواً حاسداً، اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك، وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك" (2) ، "اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً وأحشرني في زمرة المساكين" (3) ، "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر" (4) .
"اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطئي وعمدي، وهزلي وجدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير" (5) .
"اللهم اغفر لي ذنوبي وخطاياي كلها، اللهم أنعشني واجبرني، واهدني لصالح الأعمال والأخلاق، فإنه لا يهدي لصالحها ولا يصرف سيئها إلا أنت" (6) .
"اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما يهون علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوراث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا" (7) .
__________
(1) رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس.
(2) حسن: رواه الحاكم عن ابن مسعود، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1260) .
(3) صحيح: رواه عبد بن حميد وابن ماجه عن أبي سعيد، والطبراني في "الكبير"، والضياء عن عبادة بن الصامت، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1260) .
(4) رواه مسلم عن أبي هريرة.
(5) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي موسى.
(6) حسن: رواه ابن السني، والطبراني في "الأوسط" و"الصغير"، والحاكم عن أبي أيوب وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1266) .
(7) حسن: رواه الترمذي والحاكم عن ابن عمر، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1268) .(1/276)
"اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم. اللهم إني أسألك من خير ما سألك به عبدك ونبيك، وأعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك، اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيراً" (1) .
"اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك، فإنه لا يملكها إلا أنت" (2) .
"اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، والقسوة والغفلة والغيلة، والذلة والمسكنة، وأعوذ بك من الفقر والكفر، والفسوق والشقاق والنفاق، والسمعة والرياء، وأعوذ بك من الصمم والبكم والجنون والجذام والبرص وسيء الأسقام" (3) .
"اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها" (4) .
"اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وعمل لا يرفع، ودعاء لا يسمع" (5) .
"اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع" (6) .
"اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء" (7) .
__________
(1) رواه ابن ماجه عن عائشة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1276) .
(2) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير" عن ابن مسعود، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1278) .
(3) صحيح: رواه الحاكم والبيهقي في "الدعاء" عن أنس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1285) .
(4) جزء من حديث صحيح: رواه أحمد وعبد بن حميد ومسلم والنسائي عن زيد بن أرقم.
(5) صحيح: رواه أحمد، وابن حبان والحاكم عن أنس وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1295) .
(6) صحيح: رواه الترمذي والنسائي عن ابن عمرو، وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة والنسائي عن أنس وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1297) .
(7) صحيح: رواه الترمذي والطبراني في "الكبير" والحاكم عن عم زياد بن علاقة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1298) .(1/277)
"اللهم إني أعوذ بك من يوم السوء، ومن ليلة السوء، ومن ساعة السوء، ومن صاحب السوء، ومن جار السوء في دار المقامة" (1) .
"اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعوذ بك من النار" (2) .
"اللهم رب جبريل وميكائيل ورب إسرافيل أعوذ بك من حر النار ومن عذاب القبر" (3) .
"اللهم حبب إلينا لقاءك، وسهل علينا قضاءك، وأقلل لنا من الدنيا".
"اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي. اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الإخلاص في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بالقضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضرّاء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين" (4) .
"اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكني بالإسلام حتى ألقاك عليه" (5) .
* * *
__________
(1) حسن: رواه الطبراني في "الكبير" عن عقبة بن عامر، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1299) .
(2) حسن: رواه الطبراني في "الكبير" والحاكم عن والد أبي المليح، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1304) .
(3) حسن: رواة النسائي عن عائشة، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1305) .
(4) صحيح: رواه النسائي والحاكم عن عمار بن ياسر، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1301) .
(5) صحيح.(1/278)
رمضان شهر مضاعفة الأجر
اعلم يا أخي أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب:
* منها شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل كالحرم: ولذلك تضاعف الصلاة في مسجدي مكة والمدينة كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام".
* ومنها شرف العامل عند الله وقربه منه وكثرة تقواه: كما يضاعف أجر هذه الأمة على أجور من قبلهم من الأمم وأعطوا كفلين من الأجر.
* ومنها شرف الزمان كشهر رمضان وعشر ذي الحجة.
وفي الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة" (1) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عمرة في رمضان كحجة معي" (2) ، وعند مسلم "عمرة في رمضان تقضي حجة أو حجة معي".
قال المناوي (4/361) : "أي تقابلها وتماثلها في الثواب لأن الثواب يفضل بفضيلة الوقت، ولا تقوم مقامها في إسقاط الفرض بالإجماع".
قال ابن العربي: هذا صحيح مليح وفضل من الله ونعمة نزلت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها.
وفيه أنه يسن إكثار العمرة في رمضان وعليه الشافعية.
قال ابن رجب: "ذكر أبو بكر بن أبي مريم عن أشياخه أنهم كانوا يقولون: إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة، فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة في غيره".
قال النخعي: "صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم، وتسبيحة فيه أفضل من
__________
(1) رواه أحمد والبخاري وابن ماجه عن جابر، وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن ابن عباس، وابو داود والترمذي وابن ماجه عن أم معقل، وابن ماجه عن وهب بن خنيس والطبراني في الكبير عن ابن الزبير.
(2) صحيح: رواه سموية عن أنس وصححه ابن العربي والسيوطي والألباني في صحيح الجامع.(1/279)
ألف تسبيحة، وركعة فيه أفضل من ألف ركعة، فلما كان الصيام في نفسه مضاعفاً أجره بالنسبة إلى سائر الأعمال كان صيام شهر رمضان مضاعفاً على سائر الصيام لشرف زمانه، وكونه هو الصوم الذي فرضه الله على عباده، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام التي بني الإسلام عليها" (1) .
فهلمّ إلى فعل الخير أما ترى دعاء الملك في رمضان إلى الخيرات والتقصير من السيئات "يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر".
* * *
__________
(1) "لطائف المعارف" (ص 169) .(1/280)
رمضان شهر تصفيد الشياطين
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين".
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا جاء رمضان، فتحت أبواب الجنة، وغُلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين" (1) .
وعند مسلم: "فتحت أبواب الرحمة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين".
* وعند الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة والبيهقي عن أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب".
ولفظ ابن خزيمة "صفدت الشياطين مردة الجن" بغير واو.
* وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أتاكم شهر رمضان، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين" (2) .
قال ابن خزيمة في صحيحه (3/187-188) : " لفظ عام مراده خاص في تصفيد الشياطين إنما أراد بقوله "صفدت الشياطين" مردة الجن منهم، لا جميع الشياطين، إذ اسم الشياطين قد يقع على بعضهم".
وقال ابن حبان في "الإحسان" (8/221) : "إنما يصفد الشياطين في شهر رمضان مردتهم دون غيرهم".
* والتصفيد على ظاهره ولا حاجة للتأويل وصرف اللفظ عن ظاهره، نؤمن بهذا.
* قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/136-137) : "قال الحليمي: يحتمل أن يكون المراد من الشياطين مسترقوا السمع فزيدوا التسلسل مبالغة في الحفظ، ويحتمل
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) صحيح: رواه النسائي والبيهقي في سننه عن أبي هريرة وصححه الألباني.(1/281)
أن يكون أن المراد لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره لاشتغالهم بالصيام الذي فيه قمع للشهوات، وبقراءة القرآن والذكر.
وقال غيره: المراد بالشياطين بعضهم وهم المردة منهم، وترجم لذلك ابن خزيمة في صحيحه.
قال عياض: يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته وأن ذلك كله علامة للملائكة لدخول الشهر وتعظيم حرمته ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين، ويحتمل أن يكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو وأن الشياطين يقل إغواؤهم فيصيرون كالمصفدين.
وقال الزين بن المنير: والأول أَوْجَه، ولا ضرورة تدعو إلى صرف اللفظ عن ظاهره.
وقال الطيبي: فائدة فتح أبواب السماء توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين وأنه من الله بمنزلة عظيمة، وفيه إذا علم المكلف ذلك بإخبار الصادق ما يزيد في نشاطه ويتلقاه بأريحية.
وقال القرطبي بعد أن رجّح على ظاهره: فإن قيل كيف نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيراً فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك؟ فالجواب أنها إنما تقل عن الصائمين بالصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه، أو المصفد بعض الشياطين وهم المردة لا كلهم كما تقدم في بعض الروايات.
أو المقصود تقليل الشرور فيه وهذا أمر محسوس فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره، إذ يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع فيه شر ولا معصية لأن لذلك أسباباً غير الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية.
وقال غيره في تصفيد الشياطين في رمضان إشارة إلى رفع عذر المكلف كأنه يقال له: قد كُفّت الشياطين عنك، فلا تعتل بهم في ترك الطاعة ولا فعل المعصية".
"قال ابن عقيل: الشياطين عصاة الجن، وقال أبو يعلي الحنبلي: الشياطين مردة الجن وأشرارهم، ذكره السفاريني في "اللوامع" (220) .
وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/57) : "وأما كافرو الجن فمنهم الشياطين ومقدمهم الأكبر: إبليس عدو آدم".(1/282)
أساليب الشيطان في إضلال الإنسان:
(1) تزيين الباطل: كما قال اللعين لرب العزة (رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) .
يقول ابن القيم: "ومن مكايده أنه يسحر العقل دائماً حتى يكيده ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله، فيزين له الفعل الذي يضره حتى يخيل إليه أنه أنفع الأشياء، فلا إله إلا الله كم فتن بهذا السحر من إنسان، وكم حال بينه وبين القلب وبين الإسلام والإيمان والإحسان، وكم جلا الباطل وأبرزه في صورة مستحسنة، وشنّع الحق وأخرجه في صورة مستهجنة، كم بهرج من الزيوف على الناقدين، وكم روّج من الزغل على العارفين".
- وتسمية الأمور المحرمة بأسماء محببة كما سمى الشجرة المحرمة بشجرة الخلد كي يزين لآدم الأكل منها. وكما يسمون الرقص والغناء والتمثيل والتماثيل فناً.
(2) الإفراط والتفريط:
يقول ابن القيم "وما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلو.
(3) تثبيطه العباد عن العمل ورميهم بالتسويف والكسل:
سئل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل نام ليلة حتى أصبح فقال: "ذاك رجل بال الشيطان في أذنية".
فمن قام بالليل وتوضأ وصلى انحلت عقد الشيطان كلها عن قافية رأسه فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان، كان أحد الصالحين يقول: "أنذرتكم سوف فإنها أكبر جنود إبليس".
(4) الوعد والأمنية: يعد الناس بالمواعيد الكاذبة ويعللهم بالأماني المعسولة كي يوقعهم في وهدة الضلال (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) [النساء: 120] .
(5) إظهار النصح للإنسان: قال تعالى: (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) .(1/283)
(6) التدرج في الإضلال.
(7) إنساؤه العبد ما فيه خيره وصلاحه.
قال تعالى: (وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين) [يوسف: 42] .
وإذا تمكن الشيطان من الإنسان تمكناً كلياً فإنه ينسيه الله بالكلية (استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله) [المجادلة: 19] .
(8) تخويف المؤمنين أولياءه: أي يخوفهم بأوليائه. ويعظمهم في صدورهم.
(9) دخوله إلى النفس من الباب الذي تهواه: ومن هنا دخل الشيطان على آدم وحواء "فشام عدو الله الأبوين فأحس منهما إيناساً وركوناً إلى الخلد في تلك الدار في النعيم المقيم فعلم أنه لا يدخل عليهما من غير هذا الباب".
(10) إلقاء الشبهات.
(11-14) الخمر والميسر والأنصاب والأزلام:
(إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) [المائدة: 90] .
(15) السحر.
(16) ضعف الإنسان ومرض قلبه.
(17) النساء.
(18) حب الدنيا.
(19) الغناء والموسيقى.
(20) تهاون المسلمين فيما أمروا به.
حرز الإنسان من الشيطان في رمضان وغيره:
ذكر ابن القيم في بدائع الفوائد قاعدة نافعة فيما يعتصم به العبد من الشيطان ويستدفع به شره ويحترز منه.(1/284)
وذلك عشرة أسباب نذكرها باختصار:
الأول: الاستعاذه بالله من الشيطان قال تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله) ، وقال تعالى: (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون) .
الحرز الثاني: المعوذتان: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل ما تعوذ به المتعوذون وكان يتعوذ بهما في كل ليلة عند نومه" رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة. وأمر عقبة أن يقرأ بهما دبر كل صلاة.
الحرز الثالث: قراءة آية الكرسي عند النوم.
قال ابن تيمية: من أعظم ما ينتصر به عليهم آية الكرسي.
الحرز الرابع: قراءة سورة البقرة.
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة" (1) .
الحرز الخامس: خاتمة سورة البقرة:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه"
الحرز السادس: آية الكرسي صباحاً فيحفظ حتى يمسي، ومساء فيحفظ حتى يصبح وقد صححه الألباني والأرناؤوط.
الحرز السابع: قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة.
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك"
__________
(1) رواه مسلم وأحمد والترمذي عن أبي هريرة.(1/285)
قال ابن القيم: فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة يسير سهل على من يسّره الله عليه.
وفي حديث يحيى بن زكريا: "وآمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى أتى على حصن حصين، فاحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله".
الحرز الثامن: الوضوء والصلاة.
الحرز التاسع: "إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس. فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة".
الحرز العاشر: الأذان: فالشيطان يهرب من الأذان.
وفي الصحيح: "إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة أحال (1) له ضراط حتى لا يسمع صوته، فإذا سكت رجع فوسوس، فإذا سمع الإقامة ذهب حتى لا يسمع صوته، فإذا سكت رجع فوسوس" رواه مسلم.
الحرز الحادي عشر: أن يختم بذكر حتى ينام ويفتح به: عن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أوى الإنسان إلى فراشه ابتدره ملك وشيطان فيقول الملك اختم بخير، ويقول الشيطان اختم بشر، فإذا ذكر الله تعالى حتى يغلبه -يعني النوم- طرد الملك الشيطان وبات يكلأه (2) ، فإذا استيقظ ابتدره ملك وشيطان، فيقول الملك: افتح بخير، ويقول الشيطان: افتح بشر، فإن قال: الحمد الذي أحيا نفسي بعد موتها، ولم يمتها في منامها، الحمد لله الذي يمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، الحمد لله الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده، الحمد لله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، طرد الملك الشيطان وظل يكلأه" (3) .
ولكن عند أبي يعلي هكذا "أن تقع على الأرض إلا بإذنه، فإن وقع من سريره فمات دخل الجنة".
__________
(1) أي تحول من موضعه.
(2) أي يحفظه.
(3) صحيح: رواه أبو يعلي ورجاله رجال الصحيح، وأخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(1/286)
الحرز الثاني عشر: ومنها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وبرأ، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتنة الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقاً بخير يا رحمن" (1) .
الحرز الثالث عشر: "بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم من قالها ثلاثاً حين يصبح لم يضره شيء حتى يمسي، ومن قالها ثلاثاً حين يمسي لم يضره شيء حتى يصبح" (2) .
الحرز الرابع عشر: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثلاثاً" (3) .
الحرز الخامس عشر: إذا خرج من بيته "بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله" (4) .
شياطين الإنس:
وكذلك من يتمرد من الإنس ويتمخض للشر والغواية (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون) .
شرهم خالص وخسرانهم خالص.
جبلات منكوسة موكوسة مطموسة تواصوا بالإفساد وأخذوا يحولون المجتمع إلى فتات غارق في وحل الجنس والفاحشة والخمور ديدنهم محاربة المساجد بالمراقص والزوجات بالمومسات.
__________
(1) صحيح: رواه أحمد والطبراني وابن السني عن عبد الرحمن بن حنيش التيمي وصححه الألباني في "الصحيحة".
(2) حسن: رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب، وحسنه الألباني والأرناؤوط.
(3) رواه مسلم.
(4) الجن في معتقد أهل السنة والجماعة للشيخ إبراهيم زكريا.(1/287)
يصدق فيهم قول القائل:
وكنت امرءً من جند إبليس فارتقى ... بي الدهر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده ... طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
يقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً، ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله فيدنيه منه، ويقول: نعم أنت! نعم أنت" (1) .
فكيف بمن فرّق يين الأمة وكتابها وسنة نبيها بالشبهات المضللة للطعن في الكتاب والسنة، من شياطين حرية الفكر والإباحية، كيف بمن يمكر بالأمة ليلاً ونهاراً بالدعوة للإباحية وشهوات الجسد المسعورة لفتنة رجال الأمة شباباً وكهولاً (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا) [مريم: 83] .
كيف بمن يبث تلفازهم السموم من أفلامه حتى إفطار الناس خاصة وقبل تراويحهم، ومسلسلاتهم النكدة التي تطعن في الثوابت من دين الأمة، بكل خضراء الدمن ممثلة زنديقة شوهاء؟
حديثها كذب محض حقيقته ... مأخوذة من أباطيل الغرانيق
تباع في كل سوق للضلال فلا ... تسألْ عن التاجرالكذاب والسوق
وعن سماسرة باعوا ضمائرهم ... وذوبوا العقل في نار الأباريق
تبدي خصالاً من الإيمان كاذبة ... وفي مشاعرها إحساس زنديق (2)
وكل كذب إلى نهاية ولا يبقى إلا الحق يا شوهاء يا من تسَخَّر لإباحتيك الطائرات.. ويا من جسّدت العهر والزندقة في تمثيلك في رمضان:
لا الليلة الحمراء باقية ... لا الكأس لا العشاق لا الخمر
كم نجمة بالأمس قد سقطت ... واليوم لا حس ولا خبرُ
__________
(1) رواه أحمد ومسلم عن جابر.
(2) من قصيدة لعبد الرحمن العشماوي.(1/288)
أنت الضحية أنت بينهم ... وعليك ثم عليهم الوزرُ
لا تسخري بالتائبات ففي ... هذا الإيابِ العز والفخر
مست شغاف قلوبهم سور ... فتفجر الإيمان والعطرُ
ويح الذين قست قلوبهم ... وأمامهم يتشقق الصخر
ويح الذين تَصُخُّ سمعهم ... آيات ربي ثم لم يدروا
يا نجمة الأضواء إن غدا ... آت ويُسدل بعدها السرّ
والمعجبون سيرحلون غدا ... وسيرحل التطبيل والزمر
وستطفأ الأنوار في عجل ... فالزيت في قنديلكم نزر
وستزفين العمر من ندم ... لو كان ينفع عندها الزّفر
وستشربين الكأس مترعة ... مُر شراب كئوسكم مر
وسيضرب النسيان بينكم ... سدا، فلا يبقى لكم ذكر
الآن مطوي كتابكمُ ... ولكل مطوي غدا نشرُ (1)
يا شباب المسلمين: إن كان من شياطين الإنس من يقول له إبليس: أنت أنت فهل منكم من أحد يقول له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنت! أنت! كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر: "إن الشيطان ليفرق منك يا عمر" (2) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني لأنظر شياطين الجن والإنس فروا من عمر" (3) .
فمن منكم يا إخوتاه تفر منه شياطين الإنس.
من منكم يا إخوتاه من يقهر شيطانه وشياطين الإنس كما جاء في الحديث:
(إن المؤمن لينصي شيطانه كما ينصي أحدكم بعيره في السفر" (4) .
__________
(1) إلى ممثلة لمحمود مفلح.
(2) صحيح: رواه أحمد والترمذي وابن حبان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2/74) .
(3) صحيح: رواه الترمذي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2/329) .
(4) رواه أحمد، ينصي شيطانه: أي يأخذ بناصيته، فيغلبه ويقهره.(1/289)
فاكشفوا مخططات الشياطين وافضحوا زورهم وبهتانهم واستقيموا على درب الله
تجدوا المدد والعون من الله (إِن عبادي ليس لك عليهم سلطان)
* * *(1/290)
رمضان غنم للمؤمن ونقمة للفاجر
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بمحلوف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة، وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم وغَنْم للمؤمن يغتنمه الفاجر" (1) .
يقسم أبو هريرة رضي الله عنه بما أقسم به النبي أنه ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان.... والحديث يفسّر ذلك فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة" أي ما يقويهم عليها في رمضان كادخار القوت وما ينفقه على عياله فيه، وقد فسّره في طريق ثانية بقوله "وذلك أن المؤمن يعدّ فيه القوة للعبادة من النفقة أي لأن اشتغالهم بالعبادة فيه يمنعهم من تحصيل المعاش أو يقلل منه، فقيام الليل يستدعي النوم بالنهار، والاعتكاف يستدعي عدم الخروج من المسجد، وفي هذا تعطيل لأسباب المعاش، فهم يحصّلون القوت وما يلزم لأولادهم في رمضان قبل حلوله ليتفرغوا فيه للعبادة والإقبال على الله عز وجلّ واجتناء ثمرة هذا الموسم، فهو خير لهم لما اكتسبوا فيه من الأجر العظيم والغفران العميم".
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وما يعد فيه المنافقون من ضلات الناس وعوراتهم" يعني أن المنافقين يستعدون في شهر رمضان للإيذاء بالمسلمين في دنياهم وتتبع عوراتهم أثناء غفلتهم عن الدنيا وانقطاعهم إلى الله عز وجل، فكأن ذلك غنيمة اغتنموها في نظرهم، ولكنها في الحقيقة شر لهم لو كانوا يعلمون ما أعده الله لهم في الآخرة من العذاب المقيم وحرمانهم من فضله العميم نعوذ بالله من ذلك.
وما أرق هذا الوصف في حق أهل الفن والإعلام الذين يغتنمون موسم الطاعة لصد الناس عن سبيل ربهم وفتنتهم عن طاعة الله عز وجل.
__________
(1) رواه أحمد وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح رقم الحديث (8350) ، وضعفه الألباني، وفي رواية البيهقي "ونقمة للفاجر".(1/291)
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وغنم للمؤمن"، أي وفوز للمؤمنين بالأجر والثواب الجزيل من غير مشقة كبيرة وذلك لما ينزله الله سبحانه على عباده من الرحمات ويفيضه عليهم من النفحات ويوسّع عليهم من الأرزاق والخيرات ويجنبهم فيه من الزلات حيث يفتح لهم أبواب الجنان ويغلق عنهم أبواب النيران ويصفد فيه مردة الجان فهو للأمة ربيعها وللعبادة موسمها وللخيرات سوقها فلا شهر أفضل للمؤمن منه، ولا عمل يفضل عما فيه، فهو بحق غنيمة للمؤمن.
"قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "يغتنمه الفاجر"، وفي رواية البيهقي "ونقمة للفاجر"، المعنى أن الله عز وجل ينتقم منه ويذيقه العذاب الأليم بسوء فعله وإيذائه المؤمنين وتتبع عوراتهم فيكون نقمة له، وأما المسلم فرمضان غنيمة له بما اكتسبه من صيام أيامه وقيام لياليه والانقطاع إلى الله عز وجل بالعبادة فيه" (1) .
يا هذا أنت القتيل بكل من أحببته ... فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي
إما أن يدعو عليك جبريل ويؤمن على دعائه خليل الله المصدوق على دعائه "يا محمد، من أدرك شهر رمضان فمات، فلم يغفر له، فأُدخل النار؛ فأبعده الله، قل آمين. فقلت: آمين" الحديث.
* من خاض البحر اللجاج ولم يطهر فماذا يطهره.
إذا الروض أمسى مجدبا في ربيعه ... ففي أي حين ينير ويُخْصب
وإما أن تكون ممن يصلى عليهم الله في هذا الشهر منْ السبَّاقين لقرع أبواب الجنان، والفوز بالحور الحسان، والنظر إلى وجه الرحمن، فنفسك نفسك.. ليس لك نفس غيرها.
* * *
__________
(1) "بين يدي رمضان" للشيخ محمد بن إسماعيل (ص 7-9) .(1/292)
رمضان شهر تربية المجتمع
"وذلك أن الصائم حين يرى الناس من حوله صياماً كلهم فإن الصوم يكون يسيراً عليه، ويحس بالتلاحم مع المجتمع الذي يربطه به جانب عبادي يلتقي عليه الجميع".
إن الذي يقارن بين صوم النافلة وصوم رمضان يجد أن في صوم النافلة شيئاً من الكلفة بينما يجد أن صوم رمضان المفروض يسير سهل لا كلفة فيه ولا مشقة للسبب الذي سلف ذكره، حيث أن الصائم في رمضان لا يرى حوله إلا صائمين مثله، فإن خرج إلى السوق وجد الناس فيه صياماً، وإن دخل البيت وجد أهله صياماً، وإنْ ذهب إلى دراسته أو عمله وجد الناس صياماً.. وهكذا فيشعر بمشاركة الجميع له في إمساكه فيكون ذلك عوناً له ومُنْسياً له ما قد يجده من المشقة ولذلك نجد المسلمين الذين يدركهم رمضان في بلاد كافرة دفعتهم الضرورة للذهاب إليها؛ إما لمرض أو لغيره نجدهم يعانون مشقة ظاهرة في صيام رمضان لأن المجتمع من حولهم مفطرون يأكلون ويشربون وهم مضطرون لمخالطتهم.
إذن فشعور الصائم بأن الناس من حوله يشاركونه عبادته يخفف عليه أمر الصوم ويعينه على تحمله بيسر وسهولة وهذا الأمر ملحوظ حتى في المجتمعات التي لم يبق فيها إلا بقايا قليلة للإسلام، فإنك تجد آثار رمضان ظاهرة على الجميع حتى الفساق في ذلك المجتمع الذي غلب عليه الفساد يظهر عليهم أثر هذا الشهر الكريم، وفي ذلك -بلا شك- تربية للمجتمع بجملته.
ومن هنا كانت عناية الإسلام بإصلاح المجتمعات عناية كبيرة، فالفساد بصفته حوادث فردية لا مناص من وقوعه في المجتمع وقد وقع شيء من تلك الحوادث الفردية في مجتمع الصحابة الأطهار، فكان هناك من سرق ومن شرب الخمر ومن زنى فهذا الأمر لابد من وقوعه، لكن الذي لا يصح أن يقع في المجتمع المسلم هو أن تعلن المنكرات ويجاهر بها فيتلوث المجتمع العام ويصبح من العسير على الفرد الذي يريد طريق الخير أن يهتدي لأن المجتمع يضغط عليه ويثنيه عن غايته.(1/293)
ومن هذا المنطلق حرص أعداء الإسلام على إفساد المجتمعات الإسلامية، ولعلّ من أحدث وسائلهم في ذلك ما يسمى (البث المباشر) وهذه الوسيلة -مع ما يعترض طريقها من صعوبات- متوقعة الحدوث، ولا ريب أن فيها من الشرور والأخطار على المجتمع الإسلامي فكرياً وعقدياً وأخلاقياً وتقليدياً ما لا يخفى.
فالحاصل أن تربية المجتمع من مقاصد الإسلام، والصوم من وسائل ذلك، وأثره في ذلك المجال واضح ولعلّ من مظاهر ذلك -إضافة إلى ما سبق- أنك تجد صغار السن في المجتمع يصومون، وتجد أهل الفسق يستترون بالعصيان، وترى الكفار لا يستطيعون أن يعلنوا الأكل والشرب" (1) .
* * *
__________
(1) "دروس رمضان وقفات للصائمين للعودة" (ص 11-13) ، دار الصفا - الطبعة الثانية.(1/294)
رمضان شهر ليلة القدر
وليلة القدر ليلة يفتح فيها الباب، ويقرب فيها الأحباب، ويسمع الخطاب ويرد الجواب ويُسنى للعاملين عظيم الأجر.
هي ليلة عتق ومباهاة، وخدم ومفاجأة، وقربة ومصافاة.
قال تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر) [القدر كاملة] .
"الحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال. ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى. ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته، وفي دلالته، وفي آثاره في حياة البشرية جميعاً، العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري.
* آيات تكاد ترف وتنير. بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود نور الله المشرق في القرآن (إنا أنزلناه في ليلة القدر) .
* ونور الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر.
* ونور الفجر الذي تعرضه النصوص متناسقاً مع نور الوحي ونور الملائكة، وروح السلام المرفرف على الوجود وعلى الأرواح السارية في هذا الوجود (سلام هي حتى مطلع الفجر) ، قد يكون معناه التقدير والتدبير. وقد يكون معناه القيمة والمقام. وكلاهما يتفق مع ذلك الحدث العظيم.. حدث القرآن والوحي والرسالة.. ليس أعظم منه ولا أقوم في أحداث هذا الوجود وليس أدل منه كذلك على التقدير والتدبير في حياة العبيد.
وهي خير من ألف شهر. والعدد لا يفيد التحديد. في مثل هذه المواضع من القرآن إنما يفيد التكثير. والليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر.
فكم من آلاف الشهور وآلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثار وتحولات.(1/295)
* والليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتها حدود الإدراك البشري (وما أدراك ما ليلة القدر) .
هي ليلة عظيمة باختيار الله لها لبدء تنزيل هذا القرآن. وإفاضة هذا النور على الوجود كله. وإسباغ السلام من الله على الضمير البشري والحياة الإنسانية.
وحين ننظر اليوم من وراء الأجيال المتطاولة إلى تلك الليلة المجيدة السعيدة، ونتصور ذلك المهرجان العجيب الذي شهدته الأرض في هذه الليلة، ونتدبر حقيقة الأمر الذي تم فيها، ونتملى آثاره المتطاولة في مراحل الزمان وفي واقع الأرض، وفىِ تصورات القلوب والعقول.. فإننا نرى أمراً عظيماً حقاً، وندرك طرفاً من مغزى هذه الإشارة القرآنية إلى تلك الآية: (وما أدراك ما ليلة القدر) .
لقد فرق فيها من كل أمر حكيم، وقد وضعت فيها قيم وأسس وموازين، وقد قررت فيها من أقدار أكبر من أقدار الأفراد أقدار أمم ودول وشعوب، بل أكثر وأعظم.. أقدار حقائق وأوضاع وقلوب!
ولقد تغفل البشرية -لجهالتها ونكد طالعها- عن قدر ليلة القدر.
وعن حقيقة ذلك الحدث، وخسرت السعادة والسلام الحقيقي -سلام الضمير، وسلام البيت وسلام المجتمع- الذي وهبها إياه الإسلام. ولم يعوضها عما فقدت ما فتح عليها من أبواب كل شيء من المادة والحضارة والعمارة، فهي شقية، شقية على الرغم من فيض الإنتاج وتوافر وسائل المعاش!
لقد انطفأ النور الجميل الذي أشرق في روحها مرة، وانطمست الفرحة الوضيئة التي رفت بها وانطلقت إلى الملأ الأعلى، وغاب السلام الذي فاض على الأرواح والقلوب، فلم يعوضها شيء عن فرحة الروح ونور السماء وطلاقة الرفرفة إلى عليين" (1) .
وليلة قَدْر أشرقت في تطلعي ... إلى الله، أدعو أستمد الرضا الأعلى
__________
(1) "الظلال" (6/3944-3946) .(1/296)
وأدنو بخفق القلب مِلْءَ ضراعتي ... بصمت، وبعض الصمت من كَلم أَجْلَى
وأسأل رب الكونُ للكون رحمةً ... حناناً.. وإحساناً.. وعافية مُثلى
أيا ليلة القدر السنية ليت لي ... شُعاعَ تَجَل منك يُسعفُ في الجلى
ويسمو بهذا الحُبِّ حُرّاً لربِّه ... من الملأ الأدنى إلى الملأ الأعلى (1)
قال الزهري: سميت ليلة القدر لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم لفلان قدر أي شرف ومنزلة.
"ليلة القدر: قال مجاهد: ليلة الحكم. وقال سعيد بن جبير: يؤذن للحجاج في ليلة القدر فيكتبون بأسمائهم، وأسماء آبائهم، فلا يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم ولا ينقص منهم".
قال رجل للحسن وأنا أسمع: رأيت ليلة القدر في كلّ رمضان هي؟ قال: نعم، والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي كل رمضان، وإنها لليلة القدر "فيها يفرق كل أمر حكيم" فيها يقضي الله كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها.
عن ابن عمر: ليلة القدر في كل رمضان.
(وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر) .
قال ابن جرير: قال بعضهم معنى ذلك العمل في ليلة القدر بما يرضي الله، خير من العمل في غيرها ألف شهر.
عن مجاهد قال: "عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر".
__________
(1) "قصيدة تطلع إلى شعاع" (ص 291) من ديوان قلب ورب لعمر بهاء الأميري.(1/297)
وقال عمرو بن قيس الملائي: "عمل فيها خير من عمل ألف شهر".
وقال آخرون: معنى ذلك أن ليلة القدر خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
عن قتادة: خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وسرد أقوال أخرى، ثم قال ابن جرس: وأشبه الأقوال في ذلك بظاهر التنزيل قول من قال: عمل في ليلة القدر خير من عمل ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر" (1) .
قال أبو بكر الورّاق: سميت ليلة القدر لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر على لسان ملك ذي قدر، على رسول ذي قدر، وعلى أمة ذات قدر.
(تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) .
تنزل الملائكة وجبريل معهم في ليلة القدر من كل أمر قضاه الله في تلك السنة، من رزق وأجل.
قال قتادة: يقضي فيها ما يكون في السنة إلى مثلها.
(سلام هي حتى مطلع الفجر) .
قال ابن جرير: سلام ليلة القدر من الشر كله من أولها إلى طلوع الفجر من ليلتها.
قال قتادة: "هي خير كلها إلى مطلع الفجر" (2) .
عن أنس رضي الله عنه قال: "دخل رمضان، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله ولا يحرم خيرها إلا محروم" (3) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم" (4) .
__________
(1) "تفسير الطبري" (12/259-260) .
(2) "تفسير الطبري" (12/261) .
(3) حسن: رواه ابن ماجه وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب" (1/418 حديث رقم 990) .
(4) حسن: رواه النسائي والبيهقي، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب" (1/418 حديث 989) .(1/298)
هذه ليلة يربح فيها من فهم ودرى، ويصل إلى مراده كل من جَدّ وسرى، ويُفك فيها العاني وتطلق الأسْرى.
أخي: يهون العمر كله إلا هذه الليلة.
لقد كان رسولكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجتهد في العشر الأواخر ويعتكف، إلتماساً لتلك الليلة، كان يواصل ابتغاء لتلك الليلة.
فيا مَنْ ضاع عمره في لا شيء استدرك ما فات فى ليلة القدر فإنها تحسب بالعمر.
شفيت بها قلباً أطيل غليله ... زمانا فكانت ليلة بليالي
وإليك هدايا الملك تزف فى هذه الليلة.
يقول الأميري في ليلة القدر:
تألهَ قَلْبيَ لَماّ سجَدْتُ ... أهيمُ بِمحْراب خَيرِ الأنامْ
وأرْسِلُ مِنْ شَفَتَيهِ الدعَاءَ ... وَجياً، وفي السَمْع سَجْعُ الحَمَامْ
وفي أعْيني مِنْ سَنَا الله بَرقٌ ... يُحَس، ولكنهُ لا يُشَامْ
لَهُ في خَلايايَ دَفْع وِرَفعٌ ... إلى شرفَاتِ حِمَىً لا يُرامْ
أغيبُ، كَمَنْ نامَ في نشوَة ... ونَفسِي عُيُونُ هَوَىً لا تَنَامْ
وأشعر أن كيانى تمدد ... حتى تخطى الدنى والحطام
أقول سموت وفوق السمو ... أقول: ثملت وما من مدام
أقول: آرْتَوَيْتُ أجَلْ، لاولا ... وكَيفَ آرْتَوَيْتُ وكُلّي أوامْ؟!!
ألَا إنها نُعْمَيَاتُ التجَلي ... هُيَامُ سُجُود يَفُوقُ الهُيَامْ
فَسُبحَانَكَ الله مِلءَ الوُجُودِ ... ومِلءَ السجُود ِومِلْءَ القِيَامْ
ويرق شعر الأميري ويرق ويعذب في ليلة القدر:
يا رُؤى الإشراق في الليلِ المنيرِ ... يا شذا الرضوانِ في الخلدِ النضيرِ
هلْ لنَفْسي أَملٌ في نَفْحَة ... مِن فُيوضِ الله، إنْ لج مسيري
هذه روحيَ حامَتْ وَلَهاً ... وتسامَتْ فِوقَ أجواءِ الأثيرِ
واشرأبت والجوى يَحْفِزُها ... في التماس الأمَلِ الرحبِ الأثير
تبتَغي مِن لَيلةِ القَدْرِ سَناً ... لَيتَها تنعَمُ مِنْهَا بعبِيرِ (1)
__________
(1) "في ليلة القدر" (ص 90-100) من ديوان صفحات ونفحات لعمر بهاء الدين الأميري الطعبة الأولى مؤسسة الشرق للعلاقات العامة للنشر والترجمة.(1/299)
وإليك هدايا الملك الكريم الجواد تزف في هذه الليلة:
* عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (1) .
قال كعب الأحبار: "نجد هذه الليلة حطوطاً تحط الذنوب" (2) .
لاستحياء ذكرى نزول القرآن في أرواحنا لتظل موصولة بها أبداً حث الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على قيام هذه الليلة.
والإسلام ليس شكليات ظاهرية، ومن ثَمَّ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القيام في هذه الليلة أن يكونا "إيماناً واحتساباً".. وذلك ليكون هذا القيام استحياء للمعاني الكبيرة التي اشتملت عليها هذه الليلة "إيماناً" وليكون تجرداً لله وخلوصاً "واحتساباً"..
ومن ثَم تنبض في القلب حقيقة معينة بهذا القيام.. ترتبط بهذا المعنى الذي نزل به القرآن.
والمنهج الإسلامي في التربية يربط بين العبادة وحقائق العقيدة في الضمير، ويجعل العبادة وسيلة لاستحياء هذه الحقائق وإيضاحها وتثبيتها في صورة حية تتخلل المشاعر ولا تقف عند حدود التفكير.
وقد ثبت أن هذا المنهج وحده هو أصلح المناهج لإحياء هذه الحقائق ومنحها الحركة في عالم الضمير وعالم السلوك، وأن الإدراك النظري وحده لهذه الحقائق بدون مساندة العبادة، وعن غير طريقها، لا يقر هذه الحقائق، ولا يحركها حركة واقعة في حياة الفرد ولا في حياة الجماعة.
وهذا الربط بين ذكرى ليلة القدر وبين القيام فيها إيماناً واحتساباً هو طرف من هذا المنهج الإسلامي الناجح القويم (3) .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
(2) "مختصر قيام الليل" (ص 109) .
(3) "الظلال" (6/3946) .(1/300)
دعا رمضان الخير كل مرابط ... لديه.. فلبى المؤمنون على الإثرِ
وطافت بهم ريحُ الجنان عليلةً ... تهب من الرحمن.. ذائعة النشر
تنفس فيها الخلدُ حين تفتحت ... أزاهيره البيضاءُ في "ليلة القدر"
فطوبى لمن يحظى بشم عبيرها ... فيسجد مغشياً عليه من البشْرِ
ويضرع في حب ويبكي من الجوى ... ويكتم أشواقاً تأجَّجُ كالجمر
ويُصغِى إلى صوت السماء كأنه ... صدى خفقات القلب ينبض في الصدر
صيامُك مفتاح لكل فضيلة ... يزودك التقوى.. ويغريك بالطهر
فقل مخلصاً.. آمنت بالله واستقم ... وأحسن له الأعمال في السر والجهر (1)
ليلة مباركة تشرف فيها الأرض بالملائكة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليلة القدر ليلة السابعة أو التاسعة وعشرين وإن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى" (2) .
ما يدعى به في ليلة القدر:
عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله: أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها، قال: قولي "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" (3) .
ليلة القدر:
قال ابن حجر: "وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأخير، وأنها تنتقل.
وأرجاها أوتار العشر، وأرجى أوتار العشر عند الجمهور ليلة سبع وعشرين" (4) .
__________
(1) "تأملات في رمضان" (ص 145-146) من ديوان "نداء الحق" لأحمد محمد الصديق.
(2) إسناده حسن: رواه أحمد، والطبراني في الأوسط وابن خزيمة، والطيالسى. وقال الهيثمي: رجاله ثقات، وحسن إسناده الألباني في "صحيح الجامع" (رقم 5349) ، و"صحيح ابن خزيمة" (3/332) .
(3) إسناده صحيح: رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه الترمذي، وقال الألباني: إسناده صحيح "المشكاة" (رقم 2091) .
(4) "فتح الباري" (جـ 4) .(1/301)
ويقول ابن تيمية رحمه الله:
"ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، وتكون في الوتر منها، لكن الوتر يكون باعتبار الماضي مْتطلب ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين.
ويكون باعتبار ما بقي كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "التاسعة تبقى لخامسة تبقى لثالثة تبقى"
فعلى هذا اذا كان الشهر ثلاثين يكون ذلك ليالي الإشفاع وتكون الاثنين وعشرين تاسعة تبقى، وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى وهكذا.
فسرّه أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح، وهكذا أقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشهر، وإن كان الشهر تسعاً وعشرين، كان التاريخ بالباقي كالتاريخ الماضي، وإذا كان الأمر هكذا فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأواخر جميعه كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تحروها في العشر الأواخر"، وتكون في السبع الأواخر أكثر، وأكثر ما تكون ليلة سبع وعشرين، كما كان أبي بن كعب يحلف أنها ليلة سبع وعشرين" (1) .
إلهي لو أنفقت عمري ساجداً ... أقدس، ما وفيت حمدك ياربي
وفي ذروة الإحسان والفضل والجدا ... بذاك بأن أودعت حمدك في قلبي
فظل وجيبي المستمر مقدساً ... عُلاك، ولو أني مقيم على ذنبي
على أن ذنب المؤمن الحر ينتهي ... إلى التوب.. والرحمن يجزي على التوب (2)
ويرحم الأميري حين يصور صراع الروح والجسم في ليلة القدر:
تضِج برأسي طُيوف العُلى ... ويتقِدُ النورُ في نَاظِرَي
وَتهتَاجُ حِسّي طُيوبُ البَها ... وتُغْري الخِلاباتُ جسِميِ عليّ
فألبث حَيرانَ حَيرانَ منْ ... تَهاتُر هذا وذيّاك فِيّ
ويَظْهرُ بؤْسي، ويُهْدَرُ أنسي ... وَتُصْهَرُ نَفْسي، مِنْ حَيرَتَي
فيا رَحمة وَسِعَتْ كلّ شيء ... إِليَّ.. إليَّ.. إليَّ.. إليَّ (3)
__________
(1) "مجموع فتاوى ابن تيمية" (25/283-285) ، انظر كتاب "رهبان الليل" وفيه تفصيل عن ليلة القدر وآدابها.
(2) لعمر بهاء الأميري من ديوان قلب ورب.
(3) "في ليلة القدر" لعمر بهاء الأميري من ديوان "صفحات ونفحات".(1/302)
كان شيخ الإسلام أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري كثير ما يقول في مجلسه وفي غير المجلس: "عفوك يا عفو عفوك، في المحيا عفوك، وفي الممات عفوك، وفي القبور عفوك، وعند النشور عفوك، وعند تطاير الصحف عفوك، وعند ممر الصراط عفوك، وعند الميزان عفوك، وفي جميع الأحوال عفوك يا عفو عفوك". قال أبو عمرو بن أبي جعفر: ورؤي أبو عثمان في المنام بعد وفاته بأيام فقيل له: ماذا انتفعت من أعمالك في الدنيا؟ فقال: بقولي: عفوك عفوك (1) .
* * *
__________
(1) "فضائل الأوقات للبيهقي" (ص 259) تحقيق عدنان القسي طبع مكتبة المنارة بمكة.(1/303)
الباب الثامن
رمضان شهر الجهاد والفتوحات(1/305)
شهر الجهاد والفتوحات
رمضان شهر الجهاد وشهر التجارة الرابحة ذروة سنام الإسلام قال تعالى:
(يآ أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم * وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين) [الصف: 10- 13] .
من ذا الذي لا يشتاق أن يدله الله على هذه التجارة ... ألا يشرق القلب عند سماع هذه الآيات في فضل الجهاد.
(يغفر لكم ذنوبكم..) وهذه وحدها تكفي فمن ذا الذي يضمن أن يغفر له ذنبه ثم يتطلع بعدها إلى شيء؟ أو يدخر في سبيلها شيئاً. ولكن فضل الله ليس له حدود ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن.. وإنها لأربح تجارة أن يجاهد المؤمن في حياته القصيرة ثم يعوض عنها تلك الجنات وهذه الساكن في نعيم مقيم.
إن المؤمن الذي يدرك هذا ويعيش بقلبه هذا التصور ويطلع على آفاقه وآماده ثم ينظر إلى الحياة بغيرة في حدودها الضيقة الصغيرة وفي مستوياتها الهابطة الواطية وفي اهتماماتها الهذيلة الزهيدة هذا القلب لا يطيق أن يعيش لحظة بغير أن يحدث نفسه به ويكفي ما سكن في القلب من رضى وارتياح.
(يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله) وهذا وضع كريم يرفعنا الله إليه وهل أرفع من مكان أن يكون العبد نصيراً للرب؟ إن هذه الصفة عمل من التكريم ما هو أكبر من الجنة والنعيم.
وقال تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) [آل عمران: 142] .(1/307)
وقال تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) [التوبة: 24] .
وقال تعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) [التوبة: 41] .
وقال تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) [الحج: 78] .
انتدبكم لهذه الأمانة الضخمة واختاركم لها من بين عباده إنه لإكرام من الله لهذه الأمة ينبغي أن يقابل منها بالشكر وحسن الأداء.
وقال تعالى: (لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً * درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً) .
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله وما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" (1) .
إن الجهاد ليس ملابسة طارئة من ملابسات تلك الفترة وإنما هو ضرورة مصاحبة لركب هذه الدعوة وإلا لما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلك الكلمة الشاملة لكل مسلم إلى قيام الساعة "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق"، ومن ثَم لابد منه في كل صورة ولابد أن يبدأ في عالم الضمير ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والشهود لابد من بذل الأموال والأنفس.
وتلك حياة رفيعة نظيفة كريمة حرة طليقة بدلا من الحياة الذليلة الضعيفة لذة التجرد لله وهذه لذة علوية لا تعدلها لذائذ في الأرض لذة الرجاء في رضوان الله ولذة الاستعلاء على
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.(1/308)
الضعف والهبوط والخلاص من ثقلة اللحم والدم والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء.
إن الجهاد في سبيل الله ليس مجرد اندفاعة إلى القتال إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال.
(التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله) .
وقال تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) [التوبة: 111] .
بيعة الله لا ييقى بعدها للمؤمن شيء في نفسه ولا في ماله يحتجزه دون الله سبحانه، باع المؤمن نفسه وماله مقابل الجنة وهو ثمن لا تعدله السلعة ولكن فضل الله ومَنَّه لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا ... كلا ... إنها صفقة مشتراه لشاريها أن يتصرف بها وفق ما يفرض ووفق ما يحدد. ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل.
ما الذي فات المؤمن الذي يسلم نفسه وماله ويستعيض الجنة؟ فالجنة الكسب كل الكسب.
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عليكم بالجهاد في سبيل الله فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله به الهم والغم" (1) (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثقالتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) [التوبة: 38] .
إنها ثقلة الأرض ومطامع الأرض وتصورات الأرض ثقلة الخوف على الحياة والخوف على المال والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع، ثقلة الدعة والراحة.
ثقلة اللحم والدم والتراب والجسم المترف الثقيل وهم مع هذا يقدمون على مذابح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء.
__________
(1) صحيح: رواه الطبراني في "الأوسط" عن أبي أمامة، وأحمد والحاكم والضياء عن عبادة وصححه الألباني في "صحيح الجامع".(1/309)
وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه لها جهاد الأعداء.
وواقع الأمة المسلمة الآن وهتك أعراضها وسلب أغلى مقدساتها وذبح أطفالها وهدم الثوابت من دينها، جزاء من جنس عملها، جزاء ما تركت من ذروة سنام دينها.
والعيش بعيداً عن الجهاد عيش تافه رخيص مفزع وهكذا تخاف الأمة من ظلها وتفرق من صداها تؤدي ضريبة الذل كاملة تؤديها من نفسها ومن قدرها ومن سمعتها ومن اطمئنانها ومن دينها بعد أن باعها عملاء اليهود في كل واد.
ما العجب: قد كبت المآذن غيلة ... واغتيل تحت قبابنا الترتيلُ
وإذا عيون الشمس تطبق جفنها ... حول الصباح أينفع القنديل؟
مالعجب؟ قد باع الرجال سيوفهم ... وتعثرت بالهاربين خيول
واستبدلوا طبلاً بصوت مكبر ... فإذا الجهاد ربابة وطبول
تحت الكراسي في البلاد جماجم ... وعل الكراسي في البلاد مغول
وإذا الزنادقة استقام لأمرهم ... حكم فغانية الكهوف بتول
للجاهلية في البلاد عقيدة ... وبني قريضة محفل وقبيل
زمر إذا مرت على بستاننا ... شاصت عروق النخل وهي حمول
يدرون أن الوحل فوق جباهم ... ينمو وأن أمامهم ضِلِّيلُ (1)
وتحول الصقر الإسلامي إلى طائر الحجل في وداعته وكما قال إقبال: "عَلَّموا الليث حجلة الظبي وأمحوا عنه قصة الأسد". الإسلام يا إخوتاه دين لا يتعارض مع الواقع ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها وهذا الأمر يحتاج إلى جهاد أمة بأسرها فقد تذهب الأيام بداهية وتأتي بداهية أفظع منه والحماس وحده لا يكفي وهذا قول الإمام المجاهد ابن تيمية من حنكته الأيام والتجارب يقول: "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من
__________
(1) من قصيدة ثكلتك دجلة يا فرات بتصرف للشاعر يحيى السماوي المجلة العربية العدد (209) .(1/310)
الذين أوتوا الكتاب والمشركين وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية (فقاتلوا أئمة الكفر) الذين يطعنون في الدين وبآية (فقاتلوا الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) " (1) .
وأمام الواقع البائس النكد الذي يواجه أمة سقطت إلى الوحل وضاع منها كل شيء يقول الشيخ سيد قطب: "فإذا كان المسلمون اليوم لا يملكون بواقعهم تحقيق هذه الأحكام فهم اللحظة ومؤقت غير مكلفين بتحقيقها ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ولهم في الأحكام المرحلية سعة يتدرجون معها حتى ينتهوا إلى تنفيذ هذه الأحكام الأخيرة عندما يكونون في الحال التي يستطعون معها تنفيذها".
ويبقى دائماً وأبداً في كل وقت جهاد الحجة قال تعالى: (وجاهدهم به جهاداً كبيراً) .
قال ابن القيم: "ولا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة فأما جهاد الحجة فأمر به في مكة بقوله: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به..) أي بالقرآن (جهاداً كبيراً) فهذه السورة مكية والجهاد فيها هو التبليغ وجهاد الحجة" (2) .
وأمام الدعاة المجاهدين بالحجة ألوف من تلاميذ الاستشراق وصبيان العلمانية
والدعاة إلى القومية والماسونية وأصحاب الدعوة إلى الإنسانية وإلى زمالة الأديان والدعوة إلى السلام العالمي البارد تلاميذ اليهود والصليبية العالمية الذين يدبجون الشبه ويجدون من علماء السوء من يطلق بضاعته المسمومة، فإن للقرآن من القوة والسلطان والتأثير العميق ما يهز القلوب ويزلزل الأرواح ولا يثبت لحجته مجادل أو ممحال.
يصيبهم الزعر من صمود الدعاة أمامهم يقارعونه بحجج القرآن الناصعة وإن لم يكن هذا جهاد فأي شيء يكون؟!
رمضان شهر الجهاد والفتوحات: امتنَّ الله عز وجل على الأمة في هذا الشهر بأحلى انتصارتها وعلى مدار التاريخ الإسلامي كان هذا الشهر رمز للعطاء والبذل.
__________
(1) "الصارم المسول" لابن تيمية (ص 221) .
(2) "زاد المعاد" (2/58) .(1/311)
* ففي السنة الأولى من الهجرة وفي رمضان كوّن المسلمون أول سرية بقيادة حمزة بن عبد المطلب ثم سرية عبيدة بن الحارث وذلك لبث الرعب في قلوب الأعداء.
غزوة بدر الكبرى (غزوة الفرقان) :
* وفى السنة الثانية من الهجرة وفي السابع عشر من رمضان كانت غزوة بدر الكبرى:
وبيئر بدر إذ يكفّ مطيهم ... جبريل تحت لوائنا ومحمد
مضت في التاريخ كله قصة عقيدة. قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل قصة انتصار الحق على أعدائه المدجّجين بالسلاح المزودين بكل زاد، قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله الثابتة المستعلية بيقينها في حقيقة القوى وصحة موازينها لقد انتصرت على نفسها فقلبت بيقينها ميزان الظاهر.
تمضي غزوة بدر مثلاً في التاريخ تقرر دستور النصر والهزيمة إلا أنها كتاب مفتوح تقرؤه الأجيال فى كل زمان وفي كل مكان فهي آية من آيات الله ما دامت السماوات والأرض.
(ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون) [آل عمران: 123] .
خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً يريدون أبي سفيان والغنيمة فأرادها الله ملحمة فجمعهم الله بعدوهم على غير ميعاد وخرجت قريش بقدها وقديدها تسعمائة وخمسين مقاتلاً، ألف رجل بعدتهم وعتادهم بطراً ورئاء الناس يقول فاجرهم: لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، واستفتح اللعين أبو جهل "اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف". وفي رواية "اللهم أضل الفريقين وأقطعهما للرحم فأحنه الغداة".
وفي يوم بدر يتجلى ثبات الرجال:
يقول المقداد بن عمرو: "يا رسول الله امضي لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه".
ويقول صديق الأنصار سعد بن معاذ: "امضي يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل(1/312)
واحد وما نكره أن تلق بنا عدونا غداً إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء لعل الله أن يريك منا ما تقرّ به عينك فسر على بركة الله فَسُرّ رسول الله بقول سعد وقال: "سيروا وأبشروا فإن الله قد ودعني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم".
إنها قصة الاسغاثة والتجرد لله.
"استقبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القبلة وعليه رداؤه وإزاره ثم قال: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً" فما زال يستغيث الله ويدعوه، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّاه، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) [الأنفال: 9] ، وقال تعالى: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان) [الأنفال: 12] .
إنه يوم قتال جبريل والملائكة مع الصادقين.
عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه -وكان أبوه من أهل بدر- قال: جاء جبريل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: "من أفضل المسلمين -أو كلمة نحوها- قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة" (1) . وقتل صناديد قريش وقطع دابر الكافرين، وخضدت شوكتهم، وعلت راية الإسلام وكلمة الله بمقدار اتصال القلوب بالله لا تقف لها قوة وكان هذا عن تجربة واقعية لا مجرد تصور واعتقاد قلبي، لتتزود العصبة المسلمة من هذه التجربة الواقعية لمستقبلها كله وخلاصة هذه الموقعة ما قالته قريش نفسها قبلها.
"لما بعث خفاف بن أيماء بن رخضة الغفاري -أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري إلى قريش- حين مروا به، ابناً له بجزائر أهداها لهم، وقال لهم: إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا، قال: فأرسلوا إليه مع ابنه أن وصلتك رحم! قد قضيت الذي عليك.
فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم. ولئن كنا إنما نقاتل الله -كما يزعم محمد- فما لأحدٍ بالله من طاقة.
__________
(1) رواه البخاري.(1/313)
* في السنة الثالثة من الهجرة:
وفي رمضان عبّأ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جيشاً في المدينة لصد عدوان المشركين الذين كانوا يستعدون للثأر لقتلاهم في غزوة بدر.
* في السنة الخامسة من الهجرة:
استعداد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغزوة الخندق إذ أن هذه الغزوة كانت في سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين وكان من الاستعدادات بل أهمها ما أشار به سلمان الفارسي من حفر الخندق حول المدينة، وقد استغرق حفر الخندق كما يقول ابن القيم شهراً كاملاً وقد بلغ طول الخندق حوالي خمسة آلاف ذراع، أما عمق الخندق فلم يكن أقل من سبعة أذرع والعرض كذلك فرضى الله عن الصحابة الجيل القرآني الفريد.
* في السنة السادسة من الهجرة:
في رمضان سرية غالب بن عبد الله المؤلفة من مائة وثلاثين مسلماً لقتال بني عبد الله ابن ثعلبة وكانوا قد أعلنوا عداوتهم للمسلمين، فانتصر غالب عليهم وغنم كثيراً من الخيرات وساقها إلى المدينة.
* في السنة الثامنة من الهجرة:
في العشرين من رمضان كان الفتح الأعظم: "الذي أعز الله به نبيه ورسوله وجنده وحزبه الأمين واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدي للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجاً، وأشرق به وجه الأرض ضياءً وابتهاجاً" (1) ودخل فيه رسول الله مكة ومعه عشرة آلاف من كتائب الإسلام وجنود الرحمن، "وتهيأت مكة الحبيبة وكادت جبالها تزحف فرحاً لاستقبال الأمين البار الصابر المحتسب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليعيد إلى ربوعها أشعة أنوار دين إبراهيم عليه السلام وأخذ التاريخ طرسه
__________
(1) "زاد المعاد" (2/160) .(1/314)
ليسجل في زهو تلك المفارقة العجيبة الرائعة التي تتجسد فيها أعظم العظات والعبر.
إن ما شهدته مكة في صباح ذلك اليوم التاريخي الأغر من مفارقات عجيبة رائعة إنما هو إحدى ثمار الثبات على العقيدة السليمة الدافعة كل شيء يعترض سبيلها حتى ولو كان الجبال الراسيات.
أية مفارقة أروع وأعظم مما كتبه التاريخ في ذلك اليوم الأغر، فلقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولسبع سنوات فقط أهون على قومه في مكة من أي شيء لديهم.
أجمعوا على قتله وهو بين ظهرانيهم بمكة وهم يعرفون كلهم أنه أبر وأشرف وأطهر وأنبل من عرفته بطحاؤهم.
قبل سبع سنوات فقط خرجت مكة كلها تبحث عنه في مطاردة جنونية مسعورة وكل فرد يمني بقتل هذا الرجل.
واليوم تذكر مكة ولا تنسى وهي تقف اليوم يرجف كبار مجرميها تحت رحمة عشرة آلاف محارب يقودهم هذا الرجل الذي أراد أهل مكة أن يجعلوا منه طريداً لا عودة له.
تذكر مكة ولا تنسى أن هذا الرجل إياه خرج منها وحيداً خائفاً يترقب، يترصده الموت من كل مكان.
وها هو اليوم يعود إلى مكة الحبيبة مرفوع الرأس وضاح الجبين، قد أحاطه الله بالعزة والمنعة وألبسه رداء السيادة ووضع في يده مقابض كل القيادة، قد أحاط به بحر يموج بآلاف الفرسان وآلاف المشاة من جنود الله كلهم يفديه وتحوطه ملائكة السماء.
وجبريلٌ رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاءُ
يستقبلهم اليوم أهل مكة في ذلة وانكسار وأيدي كبار مجرميها تتحسس رؤوسهم خوفاً من أن تفصلها عن كواهلهم سيوف الرجل الطريد بالأمس والفاتح العزيز المنتصر اليوم (1) .
ولا شيء عنده إلا العفو الشامل لنبي من أولي العزم صفت نفسه وطهرت. ودخل
__________
(1) "فتح مكة" لبشاميل (171-173) .(1/315)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة وهو يقرأ سورة الفتح وذقنه على راحلته متخشعاً. إن رسول الله ليضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى أن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل. دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلثمائة نصب جعل يطعنها بعود في يده ويقول: (جاء الحق وزهق الباطل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) (1) .
وعند مسلم "أتى إلى صنم إلى جنب البيت كانوا يعبدونه وفي يد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوس وهو آخذ بسيتها فلما أتى على الصنم فجعل يطعن في عينه ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً".
وفي الأصنام معتبر وعلم ... لمن يرجو الثواب أو العقابا
ويقول الشاعر:
لو قد رأيت محمداً وقبيلَهُ ... بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بيناً ... والشرك يغشى وجهه الإظلام
إن نصر الله يجيئ به الله في الوقت الذي يقدره، في الصورة التي يريدها، للغاية التي يرسمها، وليس لأحد من أمره شيء، وحسب الناس أن يقيمهم الله حراسا لدينه.
(وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) [الإسراء: 81] .
يجييء الحق بقوته وصدقه وثباته، ويزهق الباطل ويندو فمن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق.
"إن الباطل كان زهوقا"
فالباطل ينتفخ وينتفج وينفش، لأنه باطل لا يطمئن إلى حقيقة، ومن ثَمَّ يحاول أن يموه على العين، وأن يبدو للعين عظيماً كبيراً ضخماً راسخاً، ولكنه هش سريع العطب كشعلة الهشيم ترتفع في الفضاء عالياً ثم تخبوا سريعاً وتستحيل إلى رماد بينما الجمرة الذاكية تدفئُ وتنفع وتبقى، وكالزيت يطفو على الماء ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء.
__________
(1) البخاري عن عبد الله بن مسعود.(1/316)
إن الباطل إنما يستمد حياته الموقوتة من عوامل خارجية وإسناد غير طبيعي، فإذا تخلخلت تلك العوامل، ووهت هذه الأسانيد تهاوي وانهار فأما الحق فمن عند الله الذي جعل الحق من أسمائه يجعل له العقبى ويكفل له البقاء وإن وقفت ضده الأهواء والسلطان.
"إن الباطل كان زهوقا" ومن ورائه الشيطان، ومن ورائه السلطان، ولكن وعد الله أصدق وسلطان الله أقوى، وما من مؤمن ذاق طعم الإيمان، إلا وذاق معه حلاوة الوعد وصدق العهد، "ومن أوفى بعهده من الله؟ ومن أصدق من الله حديثاً" (1) ؟!
لما سمع حماس بن قيس الديلي برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلس يصلح سلاحه، فقالت له امراته: لمن تعد هذا؟ قال لمحمد وأصحابه، فإني أرجو أن أخدمَك منهم خادماً فإنك إليه محتاجه.
قالت: ويحك لا تفعل ولا تقاتل محمداً، والله ليضلنّ هذا عنك لو رأيت محمداً وأصحابه.
قال: سترين. وبعدها بقليل أقبل حماس منهزماً حتى أتى بيته فدقه ففتحت امرأته فدخل، وقد ذهبت روحه، فقالت: أين الخادم الذي وعدتني ما زلت منتظرتك منذ اليوم، تسخر به.
قال: دعي عنك هذا أغلقي بابك فإنه من أغلق بابه فهو آمن ثم قال شعراً:
وأنت لو شهدتنا بالخندمه ... إذ فر صفوان وفرّ وعكرمه
وأبو يزيد كالعجوز المؤتمه ... إذ يلحقونا بالسيوف المسلمة
يقطعن كلّ ساعد وجمجمة ... ضربا فلا يُسمع إلا غمغمه
لهم زئير خلفنا وهمهمة ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة (2)
قال تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ... ) [النصر: 1، 2] .
قال ابنُ كثير: "والمراد بالفتح هنا فتح مكة قولاً واحد فإن أحياء العرب كانت
__________
(1) "الظلال" (4/2247- 2248) .
(2) "فتح مكة" محمد أحمد شاميل (ص 178- 179) ، نقلاً عن سيرة ابن هشام (ج 4/50) ، و"مغازي الواقدي" (2/287) ، "البداية والنهاية" (4/297) .(1/317)
تتلوم (1) بإسلامها فتح مكة يقولون: إن ظهر على قومه فهو نبي، فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجا، فلم تمض سنتان حتى استوثقت جزيرة العرب إيماناً، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام ولله الحمد والمنة. وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال: لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون: دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي.
* هدم الأصنام:-
"هبل ... العزّى ... سواع.... مناة" رمضان سنة 8 هـ، هدم اللات رمضان سنة 9 هـ".
* كان من فضل رمضان أن هدمت في أيامه الغرّ سائر الأصنام وقد كانت للأصنام في جزيرة العرب قصة مظلمة سوداء طمس ظلامها نور الإسلام، وأزال قتامها إشراق الإيمان، واسْتخزت الأوثان، واجتثت الأصنام.
ففي العشرين من رمضان سنة ثمان للهجرة، دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة فاتحا، وكانت الأصنام منصوبة حول الكعبة، فأخذ طرف رمحه، وجعل يطعنها في عيونها ووجوهها فتهوي تحت قدميه وهو يردد: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) [الإسراء: 81] ثم أمر بها فكفئت على وجوهها وأخرجت من المسجد وأضرمت فيها النار وكان على رأسها "هبل".
هبل كان أعظم أصنامها في جوف الكعبة، وكان من عقيق أحمر على صورة إنسان، وقد كان مكسور اليد اليمنى فجعلوا له يداً منْ ذهب فذهب هبل إلى مزبلة التاريخ ... وتلاشت من الوجود "اعل هبل".
* وأرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمرو بن العاص في رمضان سنة 8 هـ فهدم سواع.
* ومناة التي كانت الدماء تمنى عنده وتراق تقربا إليه وسموا أولادهم به؛ من ذلك "عبد مناة" و"زيد مناة" وعظمته الأوس والخزرج كأشد تعظيم.
__________
(1) تتلوم: أي تنتظر.(1/318)
* في الرابع والعشرين من رمضان سنة ثمان للهجرة، بعث الرسول عليه الصلاة والسلام سعد بن زيد الأشهلي إلى "مَنَاة" فهدمها، ولم يجد في خزانتها شيئاً.
* وفي الخامس والعشرين من رمضان سنة 8 هـ أرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خالد بن الوليد رضي الله عنه في ثلاثين فارسا من أصحابه، وأمرهم بهدم "العزّى" وكان سدنتها وحجابها من بني "شيبان" فلما سمع سادنها بمسير خالد إليه، علّق سيفا عليها وأنشدها قوله:
أَيَاعُزُّ شُدِّي شَدَّةً لا شَوَى (1) لَهَا ... على خالدٍ أَلْقِي القِناعَ وشمِّرِي
أَيَا عُز إِنْ لم تَقْتُلي المرءَ خَالداً ... فبُوئي بإثمٍ عاجلٍ، أَو تَنَصَّرِي
فلما انتهى إليها خالد هدمها وهو يردد:
يا عُزَ كُفرانَكِ لا سُبحانك ... إني رأيتُ الله قد أهانكِ
نعم.. أهان الله أكبر صنم كان يعبد من دون الله في جزيرة العرب عزى التي حمت لها قريش حرما، وأقاموا عندها منحرا للهدي، وبكى على يومه هذا سعيد بن العاص.. إذْ لماّ جاءه الموت دخل عليه أبو لهب يعوده فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك يا أبا أُحَيحة؟ أمن الموت تبكي ولا بدّ منه!! قال: لا ولكني أخاف ألا تعبد "العزّى" من بعدي قال أبو لهب: والله ما عُبدت في حياتك من أجلك، حتى تترك عبادتها بعد موتك.
* وفي رمضان سنة تسع للهجرة وفدت ثقيف صاحبة "اللات" على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعرض إسلامها عليه، ويسألونه أن يترك لهم "اللات" ثلاث سنين لا يهدمها.. فأبى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك، فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأدى عليهم ذلك، حتى سألوا شهرا واحدا، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمّى، وأصر على هدمها، فسألوه ألا يهدموها بأيديهم. فأرسل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة لهدم "اللات"، فلما بلغا "الطائف" خرجت نساء ثقيف حُسّرا يبكين آلهتهن، ويندبنها ويزرين على رجالهن الذين أسلموها. ولما همّ المغيرة بهدمها قال لأبي سفيان: ألا أضحكك من ثقيف؟ قال: بلى.... فأخذ الفأس وضرب به "اللات" ضربة واحدة، ثم صاح وخرّ على وجهه
__________
(1) أي لا تبقي على شيء.(1/319)
كأنه صُعق، فارتجّت الطائف بالصياح سروراً بأن اللات قد صرعت المغيرة، وأقبلوا عليه يقولون:
ويحك، كيف رأيتها؟ إنها تُهلك من عاداها ... إنهاْ تهلك من عاداها، فقام المغيرة
يضحك من القوم، ثم أقبل على اللات يضربها بمعوله وهو يقول: "الله أكبر، الله أكبر.. لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... أحدٌ فردٌ صمد.
* وفي السنة التاسعة من الهجرة:
في رمضان كانت عودة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غزوة تبوك المظفرة.
* وفي السنة الثالثة عشرة من الهجرة:
وفي رمضان كانت معركة "البويب".
قال ابنُ كثير في "البداية والنهاية" (7/30) :
"وكانت هذه الواقعة بالعراق نظير اليرموك بالشام".
"فقد بعث أمراء الفرس جيشاً لهم بقيادة مهران واكتمل صف المسلمين تحت إمرة المثنى بن حارثه، فتوافوهم وإياهم بمكان يقال له "البويب" قريب من مكان الكوفة اليوم وبينهما الفرات قالوا: إما أن تعبروا إلينا، أو نعبر إليكم، فقال المسلمون: بل اعبروا إلينا فعبرت الفرس إليهم فتوافقوا، وذلك في شهر رمضان. فعزم المثنى على المسلمين في الفطر فأفطروا عن آخرهم ليكون أقوى لهم، وعبأ الجيش وجعل يمر على كل راية من رايات الأمراء على القبائل ويعظهم ويحثهم على الجهاد والصبر والصمت وفي القوم جرير بن عبد الله البجلي في بجيلة وجماعة من سادات المسلمين. وقال المثنى لهم: إني مكبر ثلاث تكبيرات فتهيأوا، فإذا كبرت الرابعة فاحملوا. فقابلوا قوله بالسمع والطاعة والقبول، فلما كبر أول تكبيرة عاجلتهم الفرس فحملوا حتى غالقوهم. واقتتلوا قتالاً شديداً، ورأى المثنى في بعض صفوفه خللاً فبعث إليهم رجلاً يقول: الأمير يقرأ عليكم السلام، ويقول لكم: لا تفضحوا العرب اليوم فاعتدلوا. فلما رأى ذلك منهم -وهم بنو عجل- أعجبه وضحك وبعث إليهم يقول: يا معشر المسلمين عاداتكم، انصروا الله(1/320)
ينصركم، وجعل المثنى والمسلمون يدعون الله بالظفر والنصر. فلما طالت مدة الحرب جمع المثنى جماعة من أصحابه الأبطال يحمون ظهره، وحمل على مَهران فأزاله عن موضعه حتى دخل الميمنة.
قال محمد بن إسحاق: وحمل المنذر بن حسان بن ضرار الضبي على مهران قائد الفرس فطعنه واحتز رأسه جرير بن عبد الله البجلي، وهربت المجوس وركب المسلمون أكتافهم يفصلونهم فصلاً، وسبق المثنى بن حارثه إلى الجسر فوقف عليه ليمنع الفرس من الجواز عليه ليتمكن منهم المسلمون. فركبوا أكتافهم بقية ذلك اليوم وتلك الليلة، ومن بعد إلى الليل فيقال: أنه قتل منهم يومئذ وغرق قريب من مائة ألف ولله الحمد والمنة وغنم المسلمون مالاً جزيلاً وطعاماً كثيراً، وبعثوا بالبشارة والأخماس إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وقد قتل من سادات المسلمين في هذا اليوم بشر كثير أيضاً، وذلت لهذه الموقعة رقاب الفرس، وتمكن الصحابة من الغارات في بلادهم فيما بين الفرات ودجلة فغنموا شيئاً عظيماً لا يمكن حصره.
قال الأعور العبدي:
هاجت لأعورَ دارُ الحي أحزانا ... واستبدلت بعد عبد القيس حسانا
وقد أرانا بها والشمل مجتمع ... إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا
إذا كان سار المثنى بالخيول لهم ... فقتل الزحف من فرس وجيلانا
سما لمهران والجيش الذي معه ... حتى أبادهم مثنى ووحدانا (1)
فتح النوبة ومعاهدة القبط سنة 31 هـ:
"سينقلنا الحديث إلى منطقة من مناطق المسلمين لنتعرف على بداية دخول الإسلام لها بعد معركة من معارك المسلمين العظيمة تمخضت عن عهد كان له عظيم الأثر في انتشار الإسلام في تلك البقاع.
أما المنطقة فهي بلاد النوبة الواقعة جنوب مصر، وأما قائد هذه المعركة فهو الصحابي الجليل عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
__________
(1) "البداية والنهاية" (7/29-30) .(1/321)
بدأت علاقة المسلمين بهذه المنطقة بعد فتح مصر على يد عمرو بن العاص -رضى الله عنه-، فقد أرسل حملة إلى بلاد النوبة بقيادة عقبة بن نافع الفهري رحمه الله فدخل تلك البلاد، ولقي المسلمون قتالاً شديداً، حيث كان النوبيون يُجيدون الرمي بالسهام فرشقوهم بالنبل حتى جرح عامتهم، فانصرف المسلمون وقد فقئت حدق الكثير منهم من جراء النبل ولذا سموهم "رماة الحدق"، وتمخض عن هذه الحملة عقد صلح بينهم وبين المسلمين تقررت من جرائه الهدنة.
وظلَّ الوضع على ذلك حتى تولى ولاية مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضى الله عنه-، فنقض النوبيون الصلح وهاجموا صعيد مصر وأفسدوا فيه، فخرج عبد الله بن أبي سرح بجيش تعداده عشرون ألفا وتوغل في بلادهم جنوبا ووصل عاصمتهم دنقلة فحاصرها حصارا شديدا ورماها بالمنجنيق وضيق على أهلها حتى اضطروا للتسليم، وطلب ملكهم "قليدور" الصلح، وخرج إلى عبد الله ابن أبي سرح، وأبدى ضعفا ومسكنة وتواضعاً فتلقاه عبد الله وقرر الصلح معه وعقدت بين الجانبين معاهدة فريدة من نوعها، كان لها عظيم الأثر على عملية انتشارالإسلام في شرق القارة الإفريقية، وكان ذلك في شهر رمضان من سنة احدى وثلاثين هجرية.
وجاء في هذه المعاهدة:
"عهدٌ من الأمير عبد الله بن سعد بن أبي سرح لعظيم التوبة ولجميع أهل مملكته: عهد عقده على الكبير والصغير من النوبة، من أرض أسوان إلى حد أرض علوة أن عبد الله جعل لهم أماناً وهدنة:
إنكم معاشر النوبة آمنون بأمان الله وأمان رسوله محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا نحاربكم، ولا نَنْصُبَ لكم حرباً، ولا نغزوكم ما أقمتم على الشرائط التي بيننا وبينكم".
ثم يعدد العهد الشرائط تلك ومنها:
- عليكم حفظ من نزل بلادكم أو يطرقه من مسلم أو معاهد حتى يخرج عنكم.
- وعليكم رد من لجأ إليكم من مسلم محارب للمسلمين وأن تخرجوه من بلادكم.
- وعليكم حفظ المسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم، ولا تمنعوا منه(1/322)
مصليا، ولا تعرضوا لمسلم قصده وجاور فيه إلى أن ينصرف عنكم، وعليكم كنْسه وإسراجه وتكرمته.
- وعليكم في كل سنة ثلاثمائة وستون رأساً تدفعونها إلى إمام المسلمين من أوسط رقيق بلادكم.
علينا بذلك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولنا عليكم بذلك أعظم ما تدينون به ... الله الشاهد بيننا وبينكم. وكتب عمر بن شرحبيل في رمضان سنة إحدى وثلاثين هجرية.
هذا هو عقد الصلح الذي تم بين المسلمين وبين النوبة، وإذا نحن تمعنَّا في بنوده وجدناها عوامل مهمة لنشر الإسلام في تلك البلاد.
ولربما كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد أدرك صعوبة فتح تلك المناطق لوعورة تضاريسها ولشدة أهلها في القتال، فأراد أن يوفر بهذه المعاهدة مناخاً مناسباً لانتشار الإسلام بصورة سلمية.
ولقد حصل هذا فعلاً فظلت المعاهدة أساسا للعلاقات بين المسلمين وبين النوبة حتى انتشر الإسلام فيها، وأصبحت بذلك جزءاً من العالم الإسلامي.
ولنعد إلى بنود المعاهدة لنرى أثرَها في ذلك.
كان من أول الشروط التي اشترطها عبد الله -رضى الله عنه- حفظ من دخل النوبة من المسلمين وهو بهذا يضمن سلامة الدعاة المسلمين، وكذلك التجار، فيدخلون إلى تلك المناطق، ويقومون بدعوة أهلها إلى الإسلام دون عوائق.
حيث إنهم تحت حماية الدولة الإسلامية، ولو كانوا خارج حدودها في بلاد النوبة.
واستفاد الدعاة من هذا الشرط، وتوغّلوا في تلك البلاد حتى وصلوا الحبشة وأواسط السودان الحالية، واستطاعوا تحويل أهلها إلى الإسلام.
ومن الشروط كذلك: حفظ المسجد الذي بني خارج عاصمة النوبة "دنقلة" بل واشترط عليهم كنسه وإسراجه وتكرمته وعدم منع المسلمين من الصلاة أو الإقامة فيه.(1/323)
وهكذا ضمنت هذه المعاهدة بقاء مركزٍ للدعوة الإسلامية في تلك البلاد النصرانية، ذلك أن المسجد هو منطلق الدعوة ومركزها، وكان أول عمل يقوم به الدعاة هو بناء المساجد ومن ثم تبدأ الدعوة منها، ولا زال المسجد يقوم بدور كبير في القارة الأفريقية حتى الآن، بمعنى أنه يؤدي وظيفته الحقيقية. وقد ظلَّ مسجد "دنقلة" الذي بناه المسلمون منذ سنة إحدى وثلاثين هجرية فترة زمنية طويلة يؤدي رسالته في الدعوة الإسلامية، ويؤمه الدعاة من مختلف أقطار العالم الإسلامي فيستقرون فيه أو حوله ويدعون الناس إلى الإسلام مما كان له عظيم الأثر في تحطم الوجود النصراني والقضاء عليه.
وفي الشرط الأخير من شروط المعاهدة تعهد النوبيون بدفع ثلاثمائة وستين رأساً من الرقيق إلى والي المسلمين، ولقد كانت النوبة منذ القدم تشتهر بتصدير هؤلاء الرقيق فرأى قائد المسلمين عبد الله بن سعد بن أبي سرح أن يستأثر بهؤلاء الرقيق للدولة الإسلامية، فإذا سُلِّموا للمسلمين أصبحوا مماليك دولة لا رقيق: أفراد، وينتج عن ذلك عدد من النتائج:
فهؤلاء يتحولون إلى الإسلام وينقذون من الكفر والضْلال لأنهم في الأصل إما من النصارى أو الوثنيين، ولذلك فقد قال أحدهم لتاجر أوروبي لقيه في مصر: إننا في الحقيقة لا نأتي من الحرية للرق، بل إننا نأتي من الرق الحقيقي والعبودية للبشر لنصبح أحراراً بالإسلام، وقد كان لهؤلاء بعد إسلامهم شأن في الدولة الإسلامية فكان منهم الجند والوزراء بل والولاة أحيانا، وبعض هؤلاء يؤثر العودة إلى موطنه بعد إسلامه فيعود إليها داعياً للإسلام، وهكذا فلم يمض القرن الثامن الهجري حتى أصبحت بلاد النوبة كلها بلاداً إسلامية وأهلها قد اعتنقوا الإسلام، وذلك بطريقة سلمية جراء تأثير بنود هذه المعاهدة، وفي هذا ما يدحض تلك الفرية التي طالما ردَّدها الغربيون وتلامذتهم وهي أن الإسلام لا ينتشر إلا بالقوة والسيف.
رضي الله عن عبد الله بن أبي سرح الذي مهد الطريق لنشر الإسلام في تلك البقاع" (1) .
__________
(1) "من معارك المسلمين في رمضان" للدكتور عبد العزيز بن راشد العبيدي (ص 39-42) - مكتبة العبيكان وانظر "فتوح البلدان" للبلاذري (ص 331) ، و"الخطط" للمقريزي (1/200) ، و"فتوح مصر" لابن عبد الحكم (ص 188) .(1/324)
فتح جزيرة رودس سنة 53 هجرية:
* فى رمضان سنة 53 هـ "افتتح المسلمون وعليهم جنادة بن أبي أمية جزيرة رودس وأقام بها طائفة من المسلمين كانوا أشد شيء على الكفار يعترضون لهم في البحر ويقطعون سبيلهم" (1) .
سنة 67 هـ زالت دولة المختار الثقفي:
قتل المختار في رابع عشر رمضان سنة سبع وستين هجرية.
ركب مصعب بن الزبير والي البصرة على رأس جيش لملاقاة جيش المختار فقطعوا دجله إلى الكوفة واقتتلوا قتالاً شديداً إلى الليل وقتل أعيان المختار وتفرق أصحاب المختار عنه "وأشار عليه جماعة من أساورته أن يدخل القصر دار إمرته، فدخله وهو ملوم مذموم، وعن قريب ينفذ فيه القدر المحتوم، فحاصره مصعب فيه وجميع أصحابه حتى أصابهم من جهد العطش ما الله به عليم وضيق عليهم المسالك والمقاصد، وأفسد عليهم أبواب الحيل، وليس فيهم رجل رشيد ولا حليم، ثم جعل المختار يحيل فكرته، ويكرر رويته في الأمر الذي قد حلّ به واستشار من عنده في هذا السبب السييء الذي قد اتصل سببه بسببه من الموالي والعبيد، ولسان القدر والشرع يناديه (قل جاء الحق وما يبديء الباطل وما يعيد) [سبأ: 49] ، ثم قوي عزمه قوة الشجاعة المركبة فيه على أن أخرجته من بين مَن كان يحالفه ويواليه، ورأى أن يموت على فرسه، حتى يكون عليها انقضاء آخر نفسه، فنزل حمية وغضباً، وشجاعة وكلباً، وهو مع ذلك لا يجد مناصاً ولا مفراً ولا مهرباً وليس معه من أصحابه سوى تسعة عشر، ولعله إن كان قد استمر على ما عاش عليه أن يفارقه التسعة عشر الموكلون بسقر، ولما خرج من القصر سأل أن يخلى سبيله فيذهب في أرض الله فقالوا له إلا على حكم الأمير، والمقصود أنه لما خرج من القصر تقدم إليه شقيقان أخوان وهما طرفة وطراف ابنا عبد الله بن دجاجه فقتلاه بمكان الزياتين من الكوفة واحتزا رأسه وأتيا به مصعب بن الزبير زالت دولة المختار، وكذلك سائر الدول، وفرح المسلمون بزوالها
__________
(1) "البداية والنهاية" (8/63) .(1/325)
وذلك لأن الرجل لم يكن في نفسه صادقاً، بل كان كاذباً يزعم أن الوحى يأتيه على يد جبريل ولما دخل زيد بن الأرقم عليه قال له: يا أبا عامر لو شفت رأي جبريل وميكائيل، فقال له زيد، خسرت وتعست، أنت أهون على الله من ذلك، كذاب مفتر على الله ورسوله (1) .
وفي حديث أسماء عند أحمد أن أسماء قالت للحجاج "والله لقد أخبرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سيخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما شر من الأول".
وعند مسلم عنها أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن في ثقيف كذاباً مبيرا".
قال ابن كثير: "وقد ذكر العلماء أن الكذاب هو المختار بن أبي عبيد، وكان يظهر التشيع ويبطن الكهانة، وأسر إلى أخصائه أنه يوحى إليه، ولكن ما أدري هل كان يدعي النبوة أم لا، وكان قد وضع له كرسي يعظم ويحف به الرجال، ويستر بالحرير ويحمل على البغال، وكان يضاهي به تابوت بني إسرائيل المذكور في القرآن، ولا شك أنه كان ضالاً مضلاً أراح الله المسلمين منه" (2) .
"روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني عنده، وكان يتعاهد مبيتي بالليل قال: فقال لي: اخرج فحدّث الناس، قال: فخرجت فجاء رجل فقال: ما تقول في الوحي؟ فقلت: الوحي وحيان قال الله تعالى: (بما أوحينا إليك هذا القرآن) [يوسف: 3] ، وقال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) [الأنعام: 112] ، قال: فهموا أن يأخذوني فقلت: ما لكم وذاك! إني مفتيكم وضيفكم، فتركوني، وإنما أراد عكرمة أن يعرض بالمختار وكذبه في ادعائه أن الوحى ينزل عليه".
وقد قيل لابن عمر: إن المختار يزعم أن الوحىَ يأتيه، فقال صدق قال تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) [الأنعام: 121] (3) .
__________
(1) "البداية والنهاية" (8/290-295) .
(2) "البداية والنهاية" (8/295) .
(3) "البداية والنهاية" (8/294) .(1/326)
غزوة طريف سنة 91 هجرية:
بعث موسى بن نصير رجلاً من البربر يسمى طريفاً (*) ويكنى بأبي زرعة، في مائة فارس وأربعمائة راجل فجاز في أربعة مراكب حتى نزل ساحل البحر بالأندلس فيما يحاذي (طنجه) وهو المعروف اليوم بـ (جزيرة طريف) سميت باسمه لنزوله هناك فأغار منها على ما يليها إلى جهة الجزيرة الخضراء وأصاب سبباً ومالاً كثيراً ورجع سالماً أو كانت أجازته في شهر رمضان سنة إحدى وتسعين هجرية" (1) .
فتح الأندلس في رمضان سنة 91 هـ:
على يد طارق بن زياد مولى موسى بن نصير.
يقول المقري في "نفح الطيب": "ذكر عن طارق أنه كان نائماً في المركب فرأى في منامه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الخلفاء الأربعة أصحابه -رضي الله عنهم- يمشون على الماء حتى مروا به، فبشره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفتح، وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد.
وقيل: إنه لما ركب البحر غلبته عينه فكان يرى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحوله المهاجرون والأنصار قد تقلدوا السيوف وتنكبوا القسى فيقول له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا طارق تقدم لشأنك، ونظر إليه وإلى أصحابه قد دخلوا الأندلس قدّامه، فهبّ من نومه مستبشراً، وبشر أصحابه وثابت إليه نفسه ثقة ببشراه، فقويت نفسه ولم يشك في الظفر" وعسكر لزريق ملك أسبانيا مائة ألف وجيش طارق اثنا عشر ألف وفي وادي (لكه) يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان ونصر الله المسلمين نصراً لا كفاء له، واتصلت الحرب بينهم إلى يوم الأحد لخمس خلون من شوال وهزم الله المشركين، فقتل منهم خلق كثير، أقامت عظامهم بعد ذلك بدهر طويل ملبّسه لتلك الأرض، قالوا: وحاز المسلمون من عسكرهم ما يجل قدره، فكانوا يعرفون كبار العجم وملوكهم بخواتيم الفضة ويميزون عبيدهم بخواتيم النحاس.
__________
(*) طريف بن ملوك المعافري هكذا سماه الحميدي، ويسميه المقري: طريف البربري، ويسميه ابن خلدون: طريف ابن مالك النخعي.
(1) "قادة فتح المغرب العربي" (ص 244-245) نقلاً عن "البيان المعزب" (2، 6) - "نفح الطيب" (1/214) .(1/327)
ورمى "لُذرَيق" نفسه في وادي (لكه) وقد أثقله السلاح، فلم يعلم له خبر ولم يوجد، وقالوا إن المسلمين وجدوا فرسه الأشهب الذي فقدوه وراكبه وقد ساخ الفرس طين وحمأه، وغرق العلج ولم يوجد حياً ولا ميتاً.
يقول طارق بن زياد في فتح الأندلس:
ركبا سفينا بالمجاز مُقيّرا ... عسى أن يكون الله مناقد اشترى
نفوساً وأموالاً وأهلاً بجنة ... إذا ما اشتهينا الشيء فيها تيسّرا
ولسنا نبالي كيف سالت نفوسنا ... إذا نحن أدركنا الذي كان أجدرا
رحم الله طارقاً.. مولى موسى.. معذرة بل سيد من السادات وغيره العبيد وإن كان ملوكاً سيقوا إلى مدريد في يوم احتفالهم بخروج المسلمين ليكتبوا وثيقة الذل والعار مع اليهود والصليبيين.
وقفة على أبواب مدريد
عذراً رُبى المجد، إنَّ القومَ قد هانوا ... وإنهم في أيادي المعتدي لانوا
عذراً فما ردَّهم عمَّا يُحاك لهم ... وعيٌ، ولا ردَهم دينٌ وقرآنُ
عذراً فأروقة الأحزان حافلة ... وساحة الفرح المقتول قيعانُ
عذراً فبحر المآسي لم يزلْ لجباً ... يموج في مائه قرش وحيتانُ
عذراً فإنَّ بلاد العرب لاهيةٌ ... تضج في صدرها عبسٌ وذبيانُ
أما ترين روابي الشعر هامدةٌ ... فمالها اليوم أوراقٌ وأغصانُ
قصيدتي ذَبُلتْ ممّا يداهمها ... من الجفاف، وطرف الشعر سهرانُ
تنكّبتْها غيومُ اللحن، ما ابتهجتْ ... خصباً، ولا استبشرت بالغيث أفنانُ
ولوحة الصمت، فيها ألفُ دائرة ... مرسومة، ما لها في الفنِّ ميزانُ
ما لامستها يدٌ بالرسم ماهرةٌ ... ولا سقاها شرابَ الحبر فنَّانُ
رأيتُ فيها خطوطاً لا حدودَ لها ... وليس يفهمها إنْسٌ ولا جان(1/328)
رأيت في بعضها رأساً أشبهه ... بحيَّة، شدَّها للخلف ثعبانُ
رأيت غصناً من الزينون تأكله ... رصاصةٌ، ووراءَ الغصن "كاهانُ"
من حوله أحرفٌ عِبريّةٌ نُقشتْ ... وليس فيها عن الألغاز تبيانُ
كان الغبارُ يُواريها، وحين جلا ... بدا لعينى شاميرٌ و"ديَّان"
ولاح لي في مداها وجهُ أندلسٍ ... جبينهُ لسباق الحزنِ ميدانُ
يا وجهَ أندلسٍ، في أُفْقنا سحبٌ ... من الدخان، وفي الأدغال بركانُ
طارت إليك وفود العرب، في فمها ... بوقٌ، وبين يديها الطبلُ رنَّانُ
شاميرُ يسخر منهم، من تطلعهم ... إلى السراب، ألا فَلْيَروْ ظَمآنُ
لو أبصرتهم عيون الداخل امتلأت ... قذىً، وأغضتْ على الأشواك أجفانُ
ولو رأى طارقٌ تلك الوجوهَ، لَماَ ... عصاه سيفٌ، ولا عاقته أكفانُ
كأنني بقلاع المجد قد وجمتْ ... لماَّ أتاها بروح الذل "عُربانُ"
يا بؤسَها أمةً يسعى بحاجتها ... لصُّ، وبائع أفيون، وسجَّانُ
تُدعى إلى الملتقى باسم السلام، ولم ... يُرفع لها بين أهل الملتقى شانُ
يقام حفلٌ لها من حُرِّ ثروتها ... ولم يُقدم لها في الحفل فنجانُ
يا بؤسها أمةً، في الحرب خاسرةٌ ... ولا يفارقها في السلم خُسرانُ
إن حاربتْ شربتْ كأس الهزيمة في ... ذل، وإنْ فاوضت فالذل ألوانُ
أنَّى تقوم لها في الكون قائمةٌ ... وقلبها غارق في الوهم حيرانُ
يا من رحلتم إلى مدريدَ، قربتُكم ... مخروقة، وجِرَابُ الخصم ملاَنُ
بشراكم اليومَ، إسرائيل راضيةٌ ... عنكم، وفي قلبها شكر وعرفانُ
بشراكم اليوم، أمريكا تبجّلكم ... وفي يدَي روسيا "فلٌ وريحانُ"
أما فلسطين، والأقصى وأمتكم ... فما لها عندكم قدرٌ ولا شانُ(1/329)
يا من رحلتم إلى مدريد، أمتكم ... بريئة، وادّعاءُ السِّلم بُهتانُ
القدس أكرم عند الله منزلةً ... من أنْ يطهرها لهوٌ وعصيانُ
القدس أعظم عند الله منزلةً ... من أن يخلصِها ذلٌ وإذعانُ
سلام أعدائكم حرب معلَّبةٌ ... في علبة الوهم، والبرهانُ لبنانُ
لو كان شامير إنساناً لضلَّلكم ... فكيف، وهو على التحقيق شيطانُ
إنا ننادي، وللتاريخ حَمْحَمَةٌ ... من حولنا، وفؤاد المجد غضبانُ
يا مجلس الذل في مدريدَ لا نظرتْ ... عينٌ، ولا سمعت دعواكَ آذانُ
لنا طريقٌ إلى العلياء نعرفه ... يشدو به حجر في القدس صَوَّانُ
يشدو به الطفل لحناً لا يقاومه ... صوت الرصاص، ولا تُخفيه حيطانُ
يامجلس الذل في مدريدَ منهجُنا ... قد صاغه في رُبى باميرَ أفغانُ
طريقنا واضحٌ كالشّمس، تعرفه ... أجيالُنا، بابُه عزمٌ وإيمانُ
آمالُنا لم تزل خضرَاءَ يانعةً ... في القلب منتجع منها وبُستانُ
ولينا الله لا نرضى به بدلاً ... وكيف ييأس مَنْ مولاه رحمان (1)
فتوح المسلمين في فرنسا سنة 102 هـ:
بعد أن استقر المسلمون في الأندلس، بدأت غزواتُهم تتجه نحو الشمال فيما وراء جبال البرانس الفاصلة بين الأندلس وفرنسا، وتولى قيادة الجيوش الإسلامية آنذاك عدد من القادة المسلمين الذين تفرغوا للجهاد في سبيل الله فمات أكثرهم في ساحات القتال، رحمهم الله.
بدأت الفتوح في تلك المناطق في عهد عبد العزيز بن موسى بن نصير، الذي تولى الأندلس بعد رحيل والده، ولم تحدد المصادر التاريخية مدناً أو نواحي معينة فتحها.
وتوالى الولاة على الأندلس حتى إذا تولى السمح بن مالك الخولاني اتجه نحو الجهاد فى
__________
(1) من ديوان "عندما تشرق الشمس" لعبد الرحمن العشماوي (ص 24-27) .(1/330)
جنوب فرنسا، والحقيقة أن هذا الوالي كان من أفاضل عربِ أفريقية، ولّاه الخليفة عمر بن عبد العزيز ولاية الأندلس لما عرف عنه من الأمانة وحسن الخلق وذلك في شهر رمضان سنة مائة هجرية وطلب منه تنظيم البلاد وضبط أموالها، فسار في ذلك سيرة حسنة.
وفي عهده نشطت حركة الفتوح فيما وراء جبال البرانس، الفاصلة بين الأندلس وفرنسا، لأنه كان رجلاً وثيق الإيمان جم النشاط، فانطلق بجيشه في عام اثنين ومائة وفتح إقليم "سبتمانيا"، وهي المنطقة الساحلية التي تمتد من البرانس غرباً إلى مصبِّ نهر الرون شرقا، وتتصل بما يعرف اليوم بالريفيرا الإيطالية، كما أنها تُطلُّ على البحر الأبيضِ جنوب فرنسا، وكانت تشمل سبعة أقسام إدارية وعاصمتها "أربونة"، وقد استولى السمح على هذه العاصمة بعد شهر من الحصار، واتخذها مركزاً وقاعدة لعملياته الحربية في فرنسا، ولا يزال يوجد بهذه المدينة شارع يُنسب إليه ويعرف "بشارع السمح".
انطلق السمح بعد ذلك يفتح كل المدن التي بطريقه حتى وصل إلى "طُولوشة عاصمة أكويتانيا" فحاصرها، غير أنها قاومت الحصار، حتى وصلتها الإمدادات وعلى رأسها حاكم الإقليم الدوق أود الفرنجي، فتجمع للنصارى جيش كبير يفوق جيش المسلمين عدداً وتجهيزا، فوقف السمح في جنوده يُحمِّسهم ويشد من أزرهم ويقرأ قول الله تعالى: (إن ينصركم الله فلا غالبَ لكم) [آل عمران: 160] وحدثت معركة عنيفة بين المسلمين والنصارى أواخر سنة اثنتين ومائة هجرية، واشتد القتال بين الجانبين وصبر المسلمون صبراً كريماً، وأصاب قائدهم سهم قاتل فاستشهد في يوم عرفة، وفتَّ ذلك في عضد الجند فتراجعوا عن طولوشة واستطاع واحد من قادته وهو عبد الرحمن الغافقي الارتداد بهم إلى أربونة بعد أن قُتل منهم عدد كبير.
خلف السمح على ولاية الأندلس عنبسة بن سُحيم الكلبي، وواصل الغزو في فرنسا الجنوبية، فسار على الساحل حتى وصل إلى "قرقشونة" فحاصرها وشدد عليها الحصار حتى نزل أهلُها على شروطه، فتنازلوا له عن البلد ونصف الإقليم المحيط به، وتعهدوا بردِّ أسرى المسلمين الذين كانوا عندهم، وبأن يدفعوا الجزية، ويلتزموا بأحكام أهل الذمة من محاربة من حاربه المسلمون ومسالمة من سالموه، وأخذ منهم عنبسة بعض الرهائن وأرسلها إلى "برشلونة".(1/331)
وواصل عنبسة -رحمه الله- سيره، ووجد الطريق أمامه خالية، فسار مسرعاً دون أن يلقى مقاومة، وصعد حتى أدرك نهر الساءون فاستولى على أوتون، واستمر في زحفه الظافر فقذف الله في قلوب الكفار الرعب فلم يتصد أحد منهم للمسلمين إلا لطلب الصلح، واجتاح المسلمون مدينة أوزه، وفيين، وفالنسي ووصلوا إلى مدينة ليون التي يسميها العرب "حصن لودون"، كذلك زحفوا على مدينة ماسون، وشالون، ووصلوا إلى مدينة "سانس" عاصمة إقليم "يوند" على بعد ثلاثين كيلوا متراً فقط جنوبي باريس، وقد تصدت هذه المدينة للزحف الإسلامى فكانت آخر ما وصل إليه المسلمون.
ويبدو أن القائد المسلم عنبسة بن شحيم قد أدرك بعد هذا التقدم الظافر الذي جعله يقترب من باريس أنه توغل في قلب فرنسا أكثر مما ينبغي، فقد طالت خطوط العودة فخشى أن تقطع عليه بعد أن ابتعد مسافة ألف ميل شمالي قرطبة، كما أن أحوال الأندلس قد بدأت تتغير بظهور العصبيات المختلفة، مما دعاه إلى العودة بعد هذا النصر العظيم.
وقد أثارت هذه الفتوح المخاوف في نواحي فرنسا، وارتاعت معظم الدوقيات وشعرت مملكة الفرنج أنها أمام خطر حقيقي، وبدا واضحا أن الحملة المقبلة ستكون حملة حاسمة.
والحقيقة أن أحوال الأندلس في ذلك الوقت قد أثرت كثيراً على هذه الفتوح الإسلامية، ولولاها لما توقف عنبسة عن فتوحه الموفقة تلك. وفي طريق العودة داهمت جيشَ المسلمين جموع كبيرة من الفرنجة وجرح عنبسة بجروح بليغة توفى على إثرها في شهر شعبان سنة سبع ومائة هجرية، بعد أن نشر الرعب في نواحي فرنسا ووصل برايات الإسلام إلى قلب أوروبا الغربيّة، وكفاه ذلك فخراً حيث لم يدرك هذا الشأو بعد ذلك قائد مسلم آخر (1) .
سنة 222 هـ فتح البذ مدينة "بابك الخرمي":
جهّز المعتصم جيشاً كثيراً للأفشين على محاربة "بابك" وبعث إليه ثلاثين ألف ألف
__________
(1) "من معارك المسلمين في رمضان" (ص 50-52) .(1/332)
درهم نفقة للجند، فاقتتلوا قتالاً عظيماً، وافتتح "الأفشين" "البذ" مدينة "بابك" واستباح ما فيها وذلك يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان وذلك بعد محاصرة وحروب شديدة وقتالٍ شديد وجهدٍ جهيد ثم بعد ذلك أمسكوا "ببابك" بعد فراره من دار ملكه.
وقد كان المعتصم شديد العناية بأمر هذا اللعين الذي قتل من المسلمين في مدة ظهوره وهي عشرون سنة مائتي ألف وخمسة وخمسين ألف وخمسمائة إنسان.
قاله ابن جرس وأسر خلقاً لا يحصون وكان من جملة من استنقذه "الأفشين" من أسره نحواً من سبعة آلاف وستمائة إنسان. أراح الله المسلمين من شره بعد ما افتتن به خلق كثير وجم خفير من العوام الطغام (1) .
"ولقد توج المعتصم "الأفشين" (2) وقلده وشاحين من جوهر، وأطلق له عشرين ألف درهم، وكتب له بولاية "السند" وأمر الشعراء أن يدخلوا عليه ويمدحوه على ما فعل من الخير للمسلمين وعلى تخريبه بلاد بابك التي يقال لها "البذ" وتركه إياها قيعانا خراباً، فقالوا في ذلك فأحسنوا وكان من جملتهم أبو تمام الطائي قال:
بذ الجلاد البذُ فهو دفينُ ... ما إن بها إلا الوحوش قطين
لم يقر هذا السيف هذا الصبر ... في هيجاء إلا عزّ هذا الدينُ
قد كان عذرة سؤددٍ فافتضها ... بالسيف فحل المشرق الأفشين
فأعادها تعوي الثعالب وسطها ... ولقد ترى بالأمس وهي عرينُ
هطلت عليه من جماجم أهلها ... ديم إمارتها طلىً وشؤون
كانت من المهجات قبل مفازة ... عسراً فأضحت وهي منه معين
سنة 223 هـ فتح عمورية على يد المعتصم:
"في هذه السنة أوقع ملك توفيل بن ميخائيل بأهل سلطته من المسلمين وما والاها ملحمة عظيمة، قتل فيها خلقا كثيراً من المسلمين، وأسر ما لا يحصون كثرة، وكان من
__________
(1) "البداية والنهاية" (ج 10/295) .
(2) كان مجوسياً فكتم مجوسيته أشتهر أمره وافتضح بعد ذلك.(1/333)
جملة من أسر ألف امرأة من المسلمات ومثل بمن وقع في أسره من المسلمين فقطع آذانهم وأنوفهم وسمل أعينهم -قبحه الله-.
ولما بلغ ذلك المعتصم انزعج لذلك جداً وصرخ في قصره بالنفير، ثم نهض من فوره وأمر بتعبئة الجيوش واستدعى القاضي والشهود فأشهدهم أن ما يملكه من الضياع ثلثه صدقه، وثلثه لولده، وثلثه لمواليه وخرج بالجيش إعانة للمسلمين فوجدوا ملك الروم قد فعل ما فعل وشمر راجعا إلى بلاده وتفارط ولم يمكن الاستدراك فيه، فقال للأمراء أي بلاد الروم أمنع؟ فقالوا: عمورية لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام وهى عندهم أشرف من القسطنطنية" (1) فعزم على فتحها.
رب وامعتصماه انطلقت ... ملء أفواه الصبايا اليتم
صادفت أسماعنا لكنها ... لم تصادف نخوة المعتصم
تجهّز المعتصم جهازاً لم يجهزه أحد كان قبله من الخلفاء، وأخذ معه آلات الحرب والأحمال والجمال والقرب والدواب والنفط والخيل والبغال شيئاً لم يسمع بمثله، وسار إلى عمورية في جحافل أمثال الجبال وقدم المعتصم إليها صبيحة يوم الجمعة لستٍ خلون من رمضان فدار حولها دورة ثم نزل قريباً منها، وقد تحصّن أهلها تحصيناً شديداً وملؤا أبراجها بالرجال والسلاح، وهي مدينة عظيمة كبيرة جداً ذات سور منيع وأبراج عالية كبار كثيرة، وقسم المعتصم الأبراج بالأمراء فنزل كل أمير تجاه الموضع الذي أقطعه وعينه له، ونزل المعتصم قبالة مكان هناك قد أرشده إليه بعض من كان فيها من المسلمين، وكان قد تنصّر عندهم وتزوج منهم، فلما رأى أمير المؤمنين والمسلمين رجع إلى الإسلام وخرج إلى الخليفة فأسلم وأعلمه بمكان في السور كان قد هدمه السيل وبنى بناءً ضعيفا بلا أساس، فنصب المعتصم المجانيق حول عمورية فكان أول موضع انهدم من سورها ذلك الموضع الذي دلهم عليه ذلك الأسير فبادر أهل البلد فسدوه بالخشب الكبار المتلاصقة فألحّ عليها المنجنيق لجعلوا فوقها البرادع ليردوا حرة الحجر فلم تعْن شيئاً وانهدم السور من ذلك الجانب وتفسّخ. فكتب نائب البلد إلى ملك الروم يعلمه بذلك، وبعث ذلك مع
__________
(1) (البداية والنهاية) (10/289-299) .(1/334)
غلامين من قومهم فلما اجتازوا الجيش في طريقهما أنكر المسلمون أمرهما فسألوهما من أنتما؟ فقالا: من أصحاب فلان لأمير سموْه من أمراء المسلمين، فحملا إلى المعتصم فقررهما فإذا معهما كتاب من "مناطس" نائب عمورية إلى ملك الروم يعلمه بما حصل لهم من الحصار، وأنه عَازم على الخروج من أبواب البلد بمن معه بغتة على المسلمين ومناجزهم القتال كائناً في ذلك ما كان. فلما وقف المعتصم على ذلك أمر بالغلامين فخلع عليهما، وأن يعطى كل غلام منهما بدرة، فأسلما من فورهما، فأمر الخليفة أن يطاف بهما حول البلد وعليهما الخلع، وأن يوقفا تحت حصن "مناطس" فينثر عليهما الدراهم والخلع، ومعهما الكتاب الذي كتب به مناطس إلى ملك الروم فجعلت الروم تلعنهما وتسبهما، ثم أمر المعتصم عند ذلك بتجديد الحرس والاحتياط والاحتفاظ من خروج الروم بغتة، فضاقت الروم ذرعاً بذلك، وألحّ عليهم المسلمون في الحصار، وقد زاد المعتصم في المجانيق والدبّابات وغير ذلك من آلات الحرب، ولما رأى المعتصم عمق خندقها وارتفاع سورها، أعمل المجانيق في مقاومة السور وكان قد غنم في الطريق غنماً كثيراً جداً ففرقها في الناس وأمر أن يأكل كل رجل رأساً ويجيء بملء جلده تراباً فيطرحه في الخندق، ففعل الناس ذلك فتساوى الخندق بوجه الأرض من كثرة ما طرح فيه من الأغنام ثم أمر بالتراب فوضع فوق ذلك حتى صار طريقاً ممهداً، وأمر بالدبابات أن توضع فوقه فلم يحوج الله إلى ذلك، وبينما الناس في الجسر المردوم إذ هدم المنجنيق ذلك الموضع المعيب فلما سقط ما بين البرجين سمع الناس هدة عظيمة فظنها من لم يرها أن الروم قد خرجوا على المسلمين بغتة، فبعث المعتصم من نادى في الناس: إنما ذلك سقوط السور ففرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً لكن لم يكن ما هدم يسع الخيال والرجال إذا دخلوا، وقوىَ الحصار وقد وكلت الروم بكل برج من أبراج السور أميراً يحفظه، فضعف ذلك الأمير (1) -وندوا- الذي هدمت ناحيته من السور عن مقاومة ما يلقاه من الحصار فذهب إلى مناطس (2) فسأله نجدة فامتنع أحد من الروم أن ينجده وقالوا: لا نترك ما نحن موكلون بحفظه.
__________
(1) اسمه عند ابن جرير في تاريخه (5/241) وتفسيره بالعربية "الثور".
(2) عند ابن جرير اسمه "ياطس".(1/335)
"قال "وندوا ": إن الحرب علىّ وعلى أصحابي، ولم يبق معي أحد إلا جرح، فصيروا أصحابكم على الثلمه يرمون قليلاً وإلا افتضحتم. وذهبت المدينة فأبوا أن يمدوه بأحد" (1) .
فلما يئسَ منهم خرج إلى المعتصم ليجتمع به (ليطلب الأمان على الذرية) فلما وصل إليه أمر المعتصم المسلمين أن يدخلوا البلد من تلك الثغرة التي قد خلت من المقاتلة، فركب المسلمون وتقدموا إلى الثملة، ولم يقدر الروم على دفع المسلمين بعد أن تكاثروا ودخلوا المدينة قهراً وتتابع المسلمون إليها يكبرون وتفرقت الروم عن أماكنها فجعل المسلمون يقتلونهم في كل مكان حيث وجدوهم وقد حشروهم في كنيسة هائلة ففتحوها قسراً وقتلوا من فيها وأحرقوا عليهم باب الكنيسة فاحترقت فأحرقوا عن آخرهم، ولم يبق فيها موضع محصن سوى المكان الذي فيه النائب وهو مناطس في حصن منيع فركب المعتصم فرسه وجاء حتى وقف بحذاء الحصن الذي فيه "مناطس" فناداه المنادي ويحك يا مناطس! هذا أمير المؤمنين واقف تجاهك فقالوا: ليس بمناطس ها هنا مرتين، فغضب المعتصم من ذلك وولى فنادى مناطس: هذا مناطس ... هذا مناطس، فرجع الخليفة ونصب السلالم على الحصن وطلع عليه الحسن الرومي (2) فقال له: ويحك انزل على حكم أمير المؤمنين، فتمنع ثم نزل متقلداً سيفاً فوضع السيف في عنقه ثم جِيءَ به حتى أوقف بين يدي المعتصم فضربه بالسوط على رأسه ثم أمر به أن يمشى إلى مضرب الخليفة مهاناً إلى الوطاق الذي فيه الخليفة نازل فأوثق هناك. وأخذ المسلمون من عمورية أموالاً لا تحد ولا توصف فحملوا منها ما أمكن حمله، وأمر المعتصم بإحراق ما بقى من ذلك، وبإحراق ما هنالك من المجانيق والدبابات وآلات الحرب لئلا يتقوى بهما الروم على شيء من حرب المسلمين" (3) .
سنة 264 هـ 14 رمضان سقوط سرقوسة من جزيرة صقلية:
سقطت سرقوسة في يد المسلمين في 14 رمضان سنة 264 هـ 21 مارس
__________
(1) "تاريخ الطبري" (5/241) .
(2) اسمه من تاريخ ابن جرير (5/241) .
(3) "البداية والنهاية" بتصرف (10/299-301) .(1/336)
سنة 878 م، على يد جعفر بن محمد بعد حصار دام تسعة شهور براً وبحراً، وهزم جعفراً أسطولاً رومياً جاء لنجدتها وظفر بأربع قطع بحرية منه، وكان سقوطها كارثة كبرى لبيزنطة وسياستها الحربية، فقد انهارت الجهود الجبارة التي بذلتها سنوات طويلة لإعادة النفوذ البيزنطي على ساحل البحر الأدورياتي" (1) .
سنة 559 هـ وقعة حارم:
"فتحت في رمضان من هذه السنة، وذلك أن الملك نور الدين محمود زنكي استغاث بعساكر المسلمين فجاؤْه من كل فجٍ ليأخذ ثأره من الفرنج فالتقى معهم على حارم فكسرهم كسرة فظيعة، وأسر البرنس بيمند صاحب أنطاكية، والقومص صاحب طرابلس، والدوك صاحب الروم، وابن جوسليق، وقتل منهم عشرة آلاف وقيل عشرين ألفاً" (2) .
سنة 584 هـ رمضان فتح الكرم وصفد:
بعد أن عاد صلاح الدين الأيوبي إلى دمشق في أوائل رمضان وجاءته البشائر بفتح الكرم وإنقاذه من أيدي الفرنج، وأراح الله منهم تلك الناحية، وسهل حزنها على السالكين من التجار والغزاة والحجاج (فقُطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) [الأنعام: 45] .
ولم يقم السلطان بدمشق إلا أياماً حتى خرج قاصداً صفد فنازلها في العشر الأوسط من رمضان، وحاصرها بالمجانيق، وكان البرد شديداً، يصبح الماء فيه جليداً، فما زال حتى فتحها صلحاً في ثمان شوال" (3) .
سنة 658 هـ الجمعة 25 رمضان وقعة "عين جالوت":
أو هكذا ننسى المفاخر مثلما ... يُنسي الصغير هوى الرِّضاع فِطامُ
أو لم تكن في عين جالوت لنا ... همم لردع المعتدين عظَامُ
__________
(1) "الكامل" (ج 6) لابن الأثير، "فتح صقلية" لشوقي خليل (ص 77) ط. دار الغد.
(2) "البداية والنهاية" (12/266) .
(3) "البداية والنهاية" (12/352) .(1/337)
لما بلغ الملك المظفر قطز ما كان من أمر التتار بالشام المحروسة وذبحهم للمسلمين وتشريدهم وتخريب دورهم وأنهم عازمون على الدخول إلى ديار مصر بادرهم قبل أن يبادروه، وبرز إليهم وأقدم عليهم قبل أن يقدموا عليه، حتى انتهى إلى الشام، فكان اجتماعهم على "عين جالوت" يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان وهذه بشارة عظيمة فإن وقعة بدر كانت يوم الجمعة في رمضان.
ولما رأى قطز عصائب التتار قال للأمراء والجيوش الذين معه: لا تقاتلوهم حتى تزول الشمس وتفيء الظلال وتهب الرياح، ويدعو لنا الخطباء والناس في صلاتهم.
وكان قطز قد رأى في المنام وهو صغير رسول الله وقال له: أنت تملك الديار المصرية وتكسر التتار، وكان يحدث بهذا.
واقتتل الفريقان اقتتالاً عظيماً، وقتل جواد قطز، فترجل وبقي واقفاً على الأرض ثابتاً، والقتال عمال في المعركة، وهو في موضع السلطان في القلب، فلما رآه بعض الأمراء ترجل عن فرسه وحلف على السلطان ليركبنها فامتنع وقال لذلك الأمير: ما كنت لأحرم المسلمين نفعك، ولم يزل كذلك حتى جاؤوه بالخيل فركب، فلامه بعض الأمراء وقالوا: يا خوند لِمَ لا ركبت فرس فلان؟ فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك وهلك الإسلام بسببك، فقال: أما أنا فكنت أروح إلى الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه، قد قتل فلان وفلان وفلان حتى عد خلقاً من الملوك، فأقام للإسلام من يحفظه غيرهم ولم يضيع الإسلام.
وكانت النصرةُ ولله الحمد للإسلام وأهله، فهزموهم المسلمون هزيمة هائلة وقتل أمير المغول كتبغانوين وجماعة من بيته، قتله الأمير جمال الدين آقوش الشمس، واتبعهم الجيش الإسلامي يقتلونهم في كل موضع.
وقد قاتل الملك المنصور صاحب حماه مع الملك المظفر قتالاً شديداً، وكذلك الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب، وكان أتابك العسكر، وقد أسر من جماعة كتبغانوين ابنه فأحضر بين يدي قطز فقال له: أهرب أبوك؟ قال: إنه لا يهرب، فطلبوه فوجدوه بين القتلى، فلما رأه ابنه صرخ وبكى، فلما تحققه المظفر سجد لله تعالى ثم قال: أنام طيباً،(1/338)
كان هذا سعادة التتار وبقتله ذهب سعدهم، وهكذا كان كما قال ولم يفلحوا بعده أبداً وأسر الملك السعيد بن عبد العزيز بن العادل وكان يقاتل مع كتبغا فأمر المظفر بضرب عنقه.
واتبع الأمير بيبرس البندقداري وجماعة من الشجعان التتار يقتلونهم في كل مكان، إلى أن وصلوا خلفهم إلى حلب، وهرب من بدمشق منهم يوم الأحد السابع والعشرين من رمضان، فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلون فيهم ويستفكون الأسارى من أيديهم، وجاءت بذلك البشارة ولله الحمد على جبره إياهم بلطفه، فجاوبتها دق البشائر من القلعة وفرح المؤمنون بنصر الله فرحاً شديداً، وأيّد الله الإسلام وأهله تأييداً وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين وظهر دين الله وهم كارهون، فتبادر عند ذلك المسلمون إلى كنيسة النصارى التي خرج منها الصليب فانتهبوا ما فيها وأحرقوها وألقوا النار فيما حولها فاحترق دور كثيرة للنصارى، وملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً، وأحرق بعض كنيسة اليعاقبة (*) ، وهمت طائفة بنهب اليهود فقيل لهم إنهم لم يكن منهم من الطغيان كما كان من عبدة الصلبان، وقتلت العامة وسط الجامع شيخاً رافضياً، كان خبيث الطوية مصانعاً للتتارعلى أموال الناس يقال له الفخر محمد بن يوسف الكنجي، وقتلوا جماعة مثله من المنافقين (فقُطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) [الأنعام: 45] .
"رحم الله قطز فقد كان بطلاً كثير الخير ناصحاً للإسلام وأهله" (1) .
فتح أنطاكية سنة 666 هـ:
وهذه معركة من معارك المسلمين ضد الصليبيين أما الزمان فهو رمضان من سنة ستٍ وستين وستمائة، وأما المكان فهو الشام وبالتحديد مدينة أنطاكية، وأما القائد فهو السلطان المسلم والقائد المظفر قاهر المغول والصليبيين الظاهرُ بيبرس -رحمه الله-.
__________
(*) "ثبت بأدلة قاطعة أن تحرك المغول للسيطرة على بلاد المسلمين كان بتحريض من الصليبيين وكانت هناك اتصالات بين البابا أنوسنت الرابع قبل سنة 656 هـ وبين ملوك المغول سنة 642 هـ، وبعد ذلك بثلاث سنوات أوفد لويس التاسع الناسك رجلاً آخر. وعندما دخل المغول دمشق قبل موقعة عين جالوت جعل النصارى يشربون الخمر علناً في رمضان ويرشونها على المسلمين، كما صاروا يمرون في الطرقات وهم يحملون الصليب ويجبرون المسلمين على القيام احتراماً وإجلالاً لهم" انظر "معركة شقحب للدكتور محمد لطفي الصباغ" (ص 11-15) .
(1) "البداية والنهاية" (13/233-234) ، (13/238-240) .(1/339)
تولى هذا القائد المسلم الحكم في دولة المماليك بُعَيد معركة "عين جالوت"، وأبدى من الأعمال والإصلاحات ما جعل المؤرخين يعدونه بحق مؤسس الدولة المملوكية في مصر والشام والحجاز.
والواقع أن الظاهر بيبرس قاد أمة الإسلام وحقق الله النصر لها على يديه على عدوين قويين تحالفا من أجل القضاء على هذه الأمة ودينها، وهما المغول الوثنيون في الشرق، والصليبيون النصارى في الغرب. فالمغول في الشرق أقاموا لهم دولة في فارس والعراق، وأصبحوا يتحينون الفرص للثأر من المسلمين الذين سحقوهم في معركة "عين جالوت"، كما تحدثنا عن ذلك، فيما مضى.
أما النصارى فعلى الرغم من الهزائم التي أنزلها بهم صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- فلا زالت الإمدادات تصلهم تباعاً من الدول الأوربية فتتقوى بها إماراتهم الثلاث في قلب العالم الإسلامي.
وهكذا وجد سلطان المسلمين آنذاك أنه محصور بين هاتين القوتين، ومع ذلك لم يضعف ولم يستسلم، ولكنه عزم على الجهاد، هيأ درلته وشعبه لهذا الأمر العظيم، واتخذ الأسباب المعينة على هزيمة الأعداء، ووضع لنفسه منهجاً وأسلوباً عسكرياً فريداً، قوامه الصرامة في التعامل مع الأعداء، ووضع الخطط الحربية المناسبة، والسرية التامة في كل تحركاته ووجهاته حتى مع جنده وقادته، وحقق بتوفيق الله انتصارات حاسمة على المغول وعلى الصليبيين، فتهاوت أمامه المدن والقلاع وطهرها من رجس الصليبيين، وفي رمضان سنة ستٍ وستين وستمائة كان الموعد مع أنطاكية.
وأنطاكية عاصمة الإمارة الصليبية التي تحمل اسمها، وهي واحدة من ثلاث إمارات صليبية ظلت باقية في العالم الإسلامي إلى ذلك الوقت، حيث أزالها المماليك بعد ذلك.
سار السلطان بيبرس بجيشه نحو أنطاكية مارّاً بمدن الشام، حيث أمرَ بإبطال الخمور والمنكرات، وأمر ببناء مسجد في حمص، وهكذا كان معظم قادة المسلمين يقدمون الأعمال الصالحة قبل جهادهم، ويطهرون بلادهم من المعاصي والمنكرات لعلمهم أن ذلك هو الطريق إلى النصر المظفر بإذن الله.(1/340)
وما خُذِلَ المسلمون وما هُزموا إلا بما قدمته أيديهم، ولذا كانت وصية خلفاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقادتهم هي اجتناب المعاصي والبعد عن الآثام لأنها سبب الهزائم.
وصلت الجيوش الإسلامية إلى أنطاكية، وأحاطت بها من كل جانب، وكان ذلك في يوم جمعة من أيام رمضان المبارك، فكان ذلك شرف زماني عظيم تُرَجَّى فيه إجابة الدعوات، وأرسل المسلمون للنصارى يطلبون منهم الاستسلام حفظاً لأرواحهم، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، وفي يوم السبت زحفت العساكر الإسلامية وأطافت بالمدينة والقلعة على اتساعها، وقاتل أهلها قتالاً شديداً فتسوّر المسلمون الأسوار من جهة الجبل، ونزلوا المدينة فهرب أهلها إلى القلعة، وتسلم المسلمون المدينة، فقتلوا من قاتلهم، وأسروا الباقي، وكان في هذه المدينة مائة ألفٍ من الصليبيين من المحاربين.
وأما القلعة فقد اجتمع فيها ثمانية آلاف من المقاتلة الأشدّاء، غير أن المسلمين ضيَّقوا عليهم فطلبوا التسليم في يوم الأحد، على أن لا يقتلوا فاستجاب لهم المسلمون وصعد السلطان الظاهر بيبرس -رحمه الله تعالى- وتسلَّم القلعة وعفا عن كل من فيها.
وكُتِبَت كتب البشائر لأنحاء العالم الإسلامي بهذا النصر العظيم، والفتح الكبير وسقطت بذلك إمارة أنطاكية الصليبية، فكان ذلك إيذاناً بزوال الإمارات الصليبية كلها، وكان ملك أنطاكية خارجها فسلم لأجل ذلك، وأرسل له السلطان بيبرس كتاباً يخبره بهذا الفتح ويصف له الوقعة ويدعوه إلى الاستسلام وهذه مقتطفات منه:
"وفتحناها بالسيف من يوم السبت من رمضان، وقتلنا كل من اخترته لحفظها، والمحاماة عنها، وما كان أحد منهم إلا وعنده شيء من الدنيا، فما بقي أحد منا إلا وعنده شيء منهم ومنها، فلو رأيت خيالتك وهم صراعى تحت أرجل الخيل، وديارك والنهابة فيها تصول، وأموالك وهي توزن بالقنطار، وإماءك فكل أربع منهن تباع فتشترى من مالك بدينار، ولو شاهدت النيران وهي في قصورك تخترق، والقتلى بنار الدنيا قبل نار الآخرة تحترق لكنت تقول: (يا ليتني كنت ترابا) [النبأ: 40] ، واستنزلنا أصحابك من الصياصي، وأخذناهم بالنَّواصي، وفرقناهم في الداني والقاصي، ولم يبق شيء يطلق عليه اسم العصيان، إلا النهر فلو استطاع لما تسمى بالعاصي، وقد أجرى دموعه ندماً" (1) .
__________
(1) "من معارك المسلمين في رمضان" (ص 72-74) .(1/341)
وهكذا انتصر المسلمون على الصليبيين، واستعادوا منهم منطقة من مناطق العالم الإسلامي التي احتلوها قبل عشرات السنين، ومع ذلك لم ييأس المسلمون ولم يقنطوا وعملوا أسباب النصر فوهب الله لهم ذلك.
فتح أرمينيا الصغرى سنة 673 هـ:
موعدنا مع نصر محطم حققه المسلمون على النصارى الأرمن في شهر رمضان من سنة ثلاث وسبعين وستمائة هجرية.
وأما مكان هذا النصر فهو الجنوب الشرقي من آسيا الصغرى بين جبال طوروس والبحر المتوسط.
والحقيقة أن هذه المنطقة التي أطلق عليها المسلمون اسم الدرب تمثل الحدود المتاخمة لبلاد الروم، ولذا اهتم بها المسلمون منذ وقت مبكر نظراً لموقعها الاستراتيجي على أبواب دولة الروم، وأصبحت مدنها ومراكزها ثغوراً من أهم الثغور الإسلامية وأكثرها خطراً، فشحنها الخلفاء المسلمون بالرجال والسلاح، وجعلوا منها مراكز حصينة للدفاع عن أراضي المسلمين، وأصبحت تعرف بثغور الشام. واشتهر من هذه الثغور مدن طرسوسٍ، وأذنة، والمصيصة، والخلفاء مهتمون بأمرها ولا يولونها إلا شجعان القواد والراغبون في الجهاد.
وبعد قرون من القوة والمنعة، أصاب هذه الثغور الضعف نتيجة عدم الاهتمام بها، واستغل الروم ذلك فهاجموها واستولوا عليها، ومنذ ذلك الوقت خرجت تلك الثغور من يد المسلمين وعادت للروم، ثم بدأت أعداد من النصارى الأرمن يستقرون فيها واستطاعوا تشكيل كيان ثابت لهم في تلك البقاع سرعان ما تحول إلى دويلة صليبية في شمال العالم الإسلامي.
وحينما جاءت الحملات الصليبية إلى العالم الإسلامي فرح بها هؤلاء الأرمن وقدموا لرجالها كلّ المساعدة، وأعانوهم على المسلمين، ودلّوهم على عوراتهم، بل إن الأرمن اشتركوا بصورة مباشرة في الحرب ضدَّ المسلمين، وكانوا عليهم أشد من نصارى أوروبا وأعنف، ولا عجب فملة الكفر واحدة.(1/342)
ولم يكتف الأرمن بذلك بل كان لهم أثر كبير في تشجيع المغول الوثنيين ودعوتهم لمهاجمة المسلمين، وعقد ملوك أرمينيا الصغرى تحالفاً معهم ضد المسلمين. ولما جاءت الجيويق المغولية، واكتسحت العالم الإسلامي انضمت جموع النصارى من الأرمن وغيرهم معهم، وكانوا لا يقلون عنفاً وقسوة في تعاملهم مع المسلمين. وهذا هو الذي جعل المسلمين يعدّون الأرمن "أخبث عدو للمسلمين" كما يقول أحد المؤرخين.
ولكن وكما أشرنا إليه في الصفحات السابقة فإن الأمة الإسلامية كانت لا تستكين للهزيمة، ولا تستسلم للذل، وهذا هو ما يريده الله سبحانه وتعالى لها، أمة مستعلية بدينها منتصرة بعقيدتها، مستمدة أسباب ذلك منه -عز وجل-.
وبعد أن أفاقت الأمة الإسلامية من هول الاكتساح المغولي بدأ حكامها في العمل على تقويتها، وأدركوا مدى الخطر العظيم الذي يمثله نصارى الأرمن على حدود الدول الشمالية، فخططوا لإخضاعهم وكسر شوكتهم، وكان ذلك في عهد السلطان المملوكي "الظاهر بيبرس".
وهذا الحاكم المسلم واحد من أعظم قادة الأمة الإسلامية في التاريخ، حقق الله على يديه لأمة الإسلام انتصارات عظيمة على المغول والصليبيين. ووضع -رحمه الله- مملكة أرمينيا الصغرى نصب عينيه، وانتهز فرصة هدوء الأوضاع على جبهات القتال مع المغول والصليبيين، فكوّن جيشا عظيما هدفُه استعادة أملاك المسلمين التي استولى عليها نصارى الأرمن، ولكنه أسرََّ ذلك ولم يطلع عليه أحداً من قادته، وسار الجيش الإسلامي من مصر قاصداً الشام ثم اتجه شمالاً إلى بلاد الثغور وكان بيبرس على رأس الجيوش ووصلوا إلى تلك المناطق، ولنترك وصف مسير هذا الجيش لمؤرخ معاصر لهذه الحملة هو ابن عبد الظاهر حيث يقول: "ووصل الجيش النهرَ الأسودَ، وقطعته العساكر بمشقة، ووقف السلطان حتى عدَّى بأكثر الناس، وفرق الأمراء بجيوشهم كل واحد منهم إلى جهة، فطلعوا الجبال وما سأل أحد عن طريق، ولا بالى بمضيق، ومروا وعليهم جبال من الحديد لامعة، وسنابك الخيل تتلوى على الجبال، والأرض ترج رجّاً والجبال تبسُّ بساً وتغدو هباء منبثا".(1/343)
وتساقطت مدن الثغور الواحدة تلو الأخرى في يد المسلمين، وكان ذلك في شهر رمضان. وعيد السلطان بيبرس -رحمه الله- في مدينة "سيس" وهي كرسيُّ المملكة الأرمينية، واستولى على قصر الملك، واتجهت فرقة من الجيش المملوكي إلى مدينة "إياس" وهي ميناء أرمينية على البحر الأبيض فاستولت عليها، وفرت مجموعة من الأرمن والفرنج عبر البحر فغرقوا فيه وهكذا لم يكمُل شهر رمضان إلا والجيوش الإسلامية قد أتمت استعادة بلاد الثغر، واستحق السلطان بيبرس أن يوصف بقاهر الصليبيين والمغول. ولا غرو في ذلك فهو تلميذ صلاح الدين -رحمه الله- سار على منهجه، واتبع خطاه في الجهاد، فحقق الله على يديه النصر العظيم، وكان ذلك بعد عملٍ دؤوب وكفاح مستمر وتحقيق لعوامل النصر كما أوضحها القرآن الكريم، فالنصر دائماً مع المسلمين إن هم صدقوا الله وطبقوا شرعه وعملوا بمقتضاه.
وتغنى الشعراء بهذا النصر العظيم وخلّدوه في شعرهم، يقول أحدهم:
أي يوم بنصره قد حُبينا ... وبه الله قد أقرَّ العيونا
يومَ جزنا بلاد سيسٍ وقلنا ... أيّ نصرٍ من ربِّنا قد جُزينا
إذ تبدَّى السلطان بين نجوم ... من بني الترك يعشقون المنونا
إلى أن يقول:
وترامت كل البلاد وقالت: ... ليتنا مثل سيس قد غُزينا
ليت جيش السلطان وافى إلينا ... ليت أنا بخيله قد وُطينا
وصدق هذا الشاعر فكم من البلاد تتمنى حكم المسلمين، وتحنّ إلى عدلهم ورحمتهم (1) .
سنة 702 هـ 2 رمضان 20 إبريل سنة 1303م "معركة شقحب (2) " أو معركة "مرج الصُّفر":
يرى المؤرخ الأرمني أن السبب في سير هذه الحملة التي وقعت فيها معركة شقحب كان رغبة قازان حفيد هولاكو في تحطيم سلطان المسلمين في مصر واسترداد الأرض
__________
(1) "من معارك المسلمين في رمضان" (ص 75-77) .
(2) شقحب: عين ماء جنوب دمشق بعد قرية الكسوة على يمين الذاهب إلى حوراء.(1/344)
المقدسة وتسليمها إلى النصارى، وأن قازان كان يريد السير بنفسه على رأس تلك الحملة، ولكنّ تهديد حدوده الشرقية أدى إلى أن ينيب عنه قطلوشاه التي تعاون مع النصارى ولا سيما أن الأرمن الذين كانوا يشكلون قوة كبيرة في جيش قطلوشاه، وقد استولوا على عدد من مدن المسلمين وقتلوا فيها ومثلوا ونهبوا وفعلوا الأفاعيل البالغة في الفظاعة والشناعة.
وكان الرعب الذي يرافق تحركات المغول شديداً يملأ صدور الناس ويوهن قواهم.
وعمل العلماء على إشراك الخليفة المستكفي بالله والسلطان الناصر محمد بن قلاوون الصالحي في مواجهة هؤلاء الغزاة وقام شيخ الإسلام بن تيمية بمهمة جسيمة في هذا المجال وجعل المرجفون يرددون: لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار وتصدى ابن تيمية والعلماء لهولاء المرجفين المثبطين حتى استطاعوا أن يقنعوا الأمراء بالتصدي للتتار مهما كان الحال. واجتمع الأمراء وتعاهدوا وتحالفوا على لقاء العدو وشجعوا أنفسهم ورعاياهم، ونودي بالبلد دمشق أن لا يرحل منه أحد، وتوقدت الحماسة الشعبية وارتفعت الروح المعنوية عند العامة والجند وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية أعظم التأثير في ذلك الموقف. ثم عمل -رحمه الله- على إلهاب عواطف الأمة وإذكاء حماستها وتهيئتها لخوض معركة الخلاص، وتوجه إلى معسكر الواصل من حماة فاجتمع بهم في القطيفة ما بين دمشق وحمص، فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يحلف للأمراء والناس، إنكم في هذه الكرّة منصورون.
فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله.
فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.
وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله) [الحج: 60] .
وقد ظهرت عند بعضهم شبهات تفت في عضد المحاربين للتتار من نحو قولهم:(1/345)
كيف نقاتل هؤلاء التتار وهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام.. فإنهم لم يكونوا فى طاعته في وقت ثم خالفوه؟
فردّ شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الشبهة قائلاً:
هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليّ ومعاوية -رضى الله عنهما- ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين وهم متلبسون بالمعاصي والظلم.
فانجلى الموقف وزالت الشبهة وقال ابن تيمية:
"إذا رأيتموني في ذلك الجانب -يريد جانب العدو- وعلى رأسي مصحف فاقتلوني" وخرج بن تيمية من دمشق صبيحة يوم الخميس من باب النصر بدمشق وصحبته جماعة كبيرة يشهد القتال بنفسه وبمن معه.
وأراد السلطان الناصر أن يقف معه بن تيمية تحت رايته في القتال، فقال له بن تيمية: السنة أن يقف تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم، وحرّض السلطان على القتال وبشره بالنصر.
وأفتى بن تيمية الناس بالفطر مدة قتالهم، وأفطر هو أيضاً وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شيء معه في يده ليعلمهم أن إفطارهم ليقووا به على القتال أفضل من صيامهم.
وكان عدد الجيش المغولي خمسين ألف مقاتل، وقيل إن عدده كان يصل إلى مائة ألف وكان فيه فرقتان الكرج ونصارى الأرمن.
وكانت المعركة في يوم السبت 2 رمضان في سهل شقحب الذي يشرف عليه جبل غباغب وكان السلطان الناصر والخليفة المستكفي بالله والقضاة والأمراء في القلب ومر السلطان والخليفة والقراء بين صفوف الجيش وكانوا يقرؤون آيات القرآن التي تحض على الجهاد والاستشهاد وكان الخليفة يقول: دافعوا عن دينكم وعن حريمكم.
ووضعت الأحمال وراء الصفوف، وأمر الغلمان بقتل من يحاول الهرب من المعركة.(1/346)
والتحم القتال وثبت السلطان ابن قلاوون ثباتاً عظيماً، وأمر بجواده فقيدّ حتى يهرب، وبايع الله تعالى في ذلك الموقف وصدق الله فصدقه الله وقُتل جماعة من سادات الأمراء يومئذ منهم الأمير حسام الدين لاجين الرومي، وثمانية من الأمراء المقدمين معه.
واحتدمت المعركة، وحمي الوطيس، واستحر القتل، واستطاع المغول في بادئ الأمر أن ينزلوا بالمسلمين خسارة جسيمة فقتل من قتل من الأمراء ولكن الحال لم يلبث أن تحول بفضل الله -عز وجل-، وثبت المسلمون أمام المغول وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وتغير وجه المعركة وأصبحت الغلبة للمسلمين، حتى أقبل الليل فتوقف القتال إلا قليلاً، وطلع المغول إلى أعلى جبل غباغب، وبقوا هناك طول الليل، ولما طلع النهار نزلوا يبغون الفرار بعد أن ترك لهم المسلمون ثغرة في الميسرة ليمروا منها، وقد تبعهم الجنود المسلمون وقتلوا منهم عدداً كبيراً، كما أنهم مروا بأرض موحلة وهلك كثيرون منهم فيها، وقبض على بعضهم.
قال ابن كثير: "فلما جاء الليل لجأ التتار إلى اقتحام التلول والجبال والآكام فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله -عزّ وجل-، وجعلوا يجيئون بهم من الجبال فتضرب أعناقُهم.
ثم لحق المسلمون أثر المنهزمين إلى "القريتين" (1) يقتلون منهم ويأسرون ووصل التتار إلى الفرات وهو في قوة زيادته فلم يقدروا على العبور.. والذى عبر فيه هلك.. فساروا على جانبه إلى بغداد فانقطع أكثرهم على شاطيء الفرات وأخذ العرب منهم جماعة كثيرة.
وفي يوم الاثنين رابع رمضان رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبشروا الناس بالنصر. وفيه دخل شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية البلد ومعه أصحابه من المجاهدين، ففرح الناس به، ودعوا له، وهنؤوه بما يسرّ الله على يديه من الخير.
وفي يوم الثلاثاء خامس رمضان دخل السلطان إلى دمشق ويين يديه الخليفة، وزينت البلد، وبقيا في دمشق إلى ثالث شوال إذ عادا إلى الديار المصرية" (2) .
__________
(1) وهي بلدة على طريق المسافر بين بغداد ودمشق.
(2) "البداية والنهاية" (14/24-26) .(1/347)
وكان فرح السلطان الناصر والمسلمين بهذه المعركة فرحاً كبيراً، ودخل مصر دخول المظافر المنتصر يتقدم موكبه الأسرى المغول يحملون في أعناقهم رؤوس زملائهم القتلى واستقبل استقبال الفاتحين.
قال ابن حجر في "الدرر الكامنة" (4/261-265) : "كانت وقعة شقحب وكان للناصر فيها اليد البيضاء من الثبات، ووقع النصر للمسلمين".
يقول ابن عبد الهادي:
"قد أخبرني صاحب أمير، ذو دين متين، وصدق لهجة، معروف في الدولة، قال: قال لي الشيخ يوم اللقاء ونحن بمرج الصفر وقد تراءى الجمعان: يا فلان! أوقفني موقف الموت.
قال: فسقته إلى مقابلة العدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم، ثم قلت له: يا سيدي هذا موقف الموت، وهذا العدو قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة، فدونك ما تريد. قال: فرفع طرفه إلى السماء وأشخص بصره، وحرّك شفتيه طويلاً، ثم انبعث وأقدم على القتال.
وأما أنا فخيّل إليّ أنه دعا عليهم، وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة.. ثم حال القتال بيننا والالتحام، وما عدت رأيته حتى فتح الله ونصر، وانحاز التتار إلى جبل صغير، عصموا نفوسهم به من سيوف المسلمين في تلك الساعة.. وكان آخر النهار وإذا أنا بالشيخ وأخيه يصيحان بأعلى صوتيهما تحريضاً على القتال، وتخويفاً للناس من الفرار".
قال ابن عبد الهادي "وظهر فيها من كرامات الشيخ، وإجابة دعائه، وعظيم جهاده وقوة إيمانه وشدة نصحه للإسلام، وفرط شجاعته، ونهاية كرمه، وغير ذلك من صفاته ما يفوق النعت ويجوز الوصف" (1) .
فتح جزيرة قبرص في عهد المماليك سنة 829 هـ:
مخرت سفن المسلمين عباب البحار للجهاد ونشر دين الله في كل منطقة يصلون
__________
(1) انظر "معركة شقحب" للدكتور محمد لطفي الصباغ و"العقود الدرية" لابن عبد الهادي (ص 175-178) .(1/348)
إليها، كما طوت خيلهم فلوات الأرض حتى وصلت أقصاها.
وكانت جزيرة قبرص، من المناطق التي فتحها المسلمون منذ عصر مبكر حيث وصلها معاوية بن أبي سفيان -رضى الله عنه- سنة 28 هـ لتكون بعد ذلك خاضعة للمسلمين تدفع لهم الجزية كل عام، وظلت كذلك مدة من الزمن حتى إذا ضعف المسلمون بعد ذلك طمع فيهم الأعداء من نصارى أوروبا فغزوهم بجيوش جرارة متتابعة وسقطت بعض المناطق الإسلامية في أيديهم ومنها جزيرة قبرص.
والحقيقة أن هذه الجزيرة بموقعها الاستراتيجي شرق البحر الأبيض المتوسط ظلت طيلة الحروب الصليبية قاعدة ينطلق منها الصليبيون لمهاجمة العالم الإسلامي، وأصبح حكامها أكثر النصارى تعصباً للحروب الصليبية ورغبة في استمرارها، ولذا ظلوا يسعون لدى ملوك أوروبا ويطلبون منهم إرسال الحملات العسكرية لتحطم العالم الإسلامي.
وفي سنة 769 هـ قاد ملك قبرص حملة صليبية اتجهت نحو الإسكندرية وهاجمها في غفلة من حكامها واستطاع دخولها فأعمل السيفَ في رقاب المسلمين وقتل وأسر ونهب، وكانت مقتلة عظيمة لم يصب هذا الثغر بمثلها قبل ذلك، وعاد هذا الملك الصليبي الحاقد على الإسلام محملا بما نهب من المسلمين.
وظل حكام المماليك في مصر يتحينون الفرصة للأخذ بالثأر والقضاء على خطر هذه الجزيرة ومعاقبة حكامها.
وفي عهد السلطان المملوكي الأشرف برسباي (825-841 هـ) عقد هذا السلطان العزم على فتح هذه الجزيرة وأخذ يستعد لذلك بتجهيز المراكب وتجميع العساكر، وأرسل لها ثلاث حملات متتاليات في ثلاث سنوات ابتداءً من سنة 827 هـ وكلُّها في شهر رمضان.
كانت الحملتان الأوليان لغرض الاستكشاف، استطاع المسلمون من خلالهما التعرف على الجزيرة ومدى قوة حكامها، كما حققوا انتصارات عليهم وعادوا محملين بالغنائم والأسرى.
أما الحملة الثالثة: فكانت في شهر رمضان سنة 829 هـ وقادها أربعة من أمراء(1/349)
المماليك انطلقت في عدد كبير من المراكب نحو الجزيرة، تحمل أعداداً عظيمة من المجاهدين، وقد تخلف عدد أكبر لم يجدوا ما يحملهم فحزنوا لذلك حزناً شديداً.
يقول المؤرخ المعاصر لذلك الفتح ابن تغري بردي: "وعظم ازدحام الناس على كُتّاب المماليك ليكتبوهم في جملة المجاهدين في المراكب المعينَّة، حتى أنه سافر في هذه الغزوة عددٌ من أعيان الفقهاء، ولما أن صار السلطان لا يُنعم لأحد بالتوجه بعد أن استكفت العساكر، سافر جماعة من غير إذن، وأعجبُ من هذا، أنه كان الرجل ينظر في وجه المسافر للجهاد يعرفه قبل أن يسأله لما بوجهه من السرور والبشر الظاهر بفرحه للسفر، وبعكس ذلك فيمن لم يعينَّ للجهاد، هذا مع كرة من تعين للسفر من المماليك السلطانية وغيرهم، وما أرى هذا إلا أنّ الله تعالى قد شرح صدرهم للجهاد وحببهم في الغزو وقتال العدو ليقضى الله أمراً كان مفعولاً، ولم أنظر ذلك في غزوة من الغزوات قبلها ولا بعدها".
وكان ليوم خروج المجاهدين نهار يجل عن الوصف، اجتمع الناس لوداعهم وابتهلوا إلى الله تعالى أن ينصرهم، ووصلت السفن الإسلامية جزيرة قبرص، ونزل المجاهدون يفتحون المدن والقرى كل ذلك في شهر رمضان المبارك، وحلت الهزائم بالنصارى واستنجدوا بملوك أوروبا فوصلت إليهم الإمدادات وتجمعت جيوشهم والتقى بها المسلمون في معركة حاسمة وكانت أعداد النصارى أضعاف عدد المسلمين، والمسلمون مع قلتهم ويسير عددهم في ثبات إلى أن نصر الله الإسلام وأُسر ملك قبرص المدعو "جانوس" وركب المسلمون أقفية النصارى يقتلون ويأسرون حتى أن قتلى النصارى يجلون عن الحصر. وتم فتح العاصمة وتوالت الانتصارات وكمل فتح الجزيرة. ثم أقام المجاهدون وأراحوا أبدانهم سبعة أيام، وهم يقيمون شعائر الإسلام من الأذان والصلاة والتسبيح وحمد الله على هذا الفتح العظيم الذي لم يقع مثله في الإسلام من يوم غزاهم معاوية بن أبي سفيان -رضى الله عنه-.
وعاد المسلمون إلى مصر يحملون الأسرى وعلى رأسهم ملك قبرص وفرح المسلمون بذلك فرحاً عظيما، وحينما علم بذلك السلطان المملوكي بكى من شدة الفرح، وبكى الناس لبكائه، وصار يكثر من الحمد والشكر لله سبحانه وتعالى، وانطلقت ألسن الشعراء تشيد بهذا الفتح العظيم يقول أحدهم:(1/350)
بشراك يا مُلْكَ المليك الأشرفي ... بفتوح قبوص بالحسام المشرفي
فتح بشهر الصوم تم له فيا ... لك أشرف في أشرفٍ في أشرفِ
فتح تفتحت السماوات العلى ... من أجله بالنصر واللطف الحفي
والله حفّ جنوده بملائك ... عاداتها التأييد وهو بها حفي
وهكذا انتصر المسلمون في هذا الشهر العظيم بعد أن صدقوا في جهادهم واستعانوا بالله على أعدائهم فوفقهم ونصرهم رغم قلة عددهم وكثرة أعدائهم (1) .
فتح البوسنة والهرسك سنة 791 هـ "معركة قوص أوه":
سيكون الحديث عن منطقة من مناطق العالم الإسلامي تواجه أعظم هجمة صليبية في العصر الحديث، حيث يقضى على المسلمين بالقتل والأسر والتهجير، وحيث يموت الآلآف بأيدي الصليبيين أو نتيجة الجوع والعطش والمرض، حيث هم محاصرون منذ سنوات.
إنها منطقة البوسنة والهرسك، نعود إليها عبر سنين مضت لنعرف كيف وصلها الإسلام وانتشر فيها، وكيف انتصر المسلمون على النصارى الصرب في ذلك الوقت، وضموها إلى بلادهم.
في ذلك التاريخ كانت الدولة العثمانية في أوج قوتها وازدهارها حينما اكتسحت أوروبا الشرقية فتهاوت مدنها ودولها تحت ضربات الجيش العثماني المسلم، ووصلت طلائع هذا الجيش إلى مدينة "فيينا" لتحاصرها فترة من الزمن، ويتسابق ملوك أوروبا بإعلان الولاء والانقياد للسلاطين العثمانيين، في ذلك التاريخ كان هَم هؤلاء السلاطين الجهاد في سبيل الله ونشر كلمة التوحيد في كل مكان.
لنتوقف قليلاً في عهد السلطان مراد الأول بن السلطان أورخان الغازي، فقد كان من السلاطين العظام الذين جاهدوا في سبيل الله ففتحوا المناطق الواسعة من أوروبا.
ولد هذا السلطان سنة ست وعشرين وسبعمائة للهجرة، ونشأ على كريم الأخلاق، ولما شب اشترك مع والده في جهاد اليونان، فأظهر بسالة لا توصف وإقداما لفت الأنظار،
__________
(1) "من معارك المسلمين في رمضان" (ص 81-83) .(1/351)
وبعد وفاة والده تولى الحكم سنة إحدى وستين وسبعمائة هجرية فقضى كل سني حكمه في جهاد مستمر.
كانت أول أعماله الجهادية فتح مدينة "أدِرنَه" فجعلها عاصمة لدولته وظلت كذلك حتى فتحت القسطنطينية، ثم ساق جيشه نحو البلقان فتبوأوا مدنها وافتتحوا حصونها، وأبرم معاهدة مع ملك اليونان، بيد أن هذه المعاهدة لم تستمر طويلاً؛ حيث نقضها اليونان، وهكذا استطاع السلطان مراد الأول أن يستولي على جزء كبير من أوروبا الشرقية، وأن يحيط بالقسطنطينية من جميع الجهات.
وهنا اضطرب ملوك أوروبا النصارى وارتعدت فرائصهم، وأدركوا عظيم الخطر الذي تشكله هذه الدولة المسلمة الفتية، فطلبوا من البابا "أوربانوس" الخامس أن يأمر جميع الدول النصرانية أن تتحد للوقوف في وجه المسلمين، وإخراجهم من أوروبا قبل أن يجتازوا حدود البلقان وحينئذٍ لا يستطيع أحد الوقوف في وجههم فيكتسحوا أوروبا كلَّها.
ولبّى البابا استغاثتهم وكتب لجميع ملوك أوروبا النصارى يأمرهم بالتأهب لمحاربة المسلمين، وأن يشنوا حرباً دينية للحفاظ على النصرانية في وجه الإسلام ولم ينتظر الملك أوروك الخامس ملك الصرب وصول الإمدادات من أوروبا، بل استعان بالدول القريبة منه وكوّن جيشا جراراً من اليونان والصرب والمجر والرومان، وسار بهم إلى عاصمة العثمانيين أدِرْنة فحاصرها، وكان السلطان مراد خارجها فعاد مسرعاً بجيشه، وهاجم النصارى بغتة حيث فوجئوا بالتهليل والتكبير وسيوف المسلمين تعلوهم فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى ولّوا الأدبار تاركين الثرى مخضبا بدمائهم، وهكذا فشلت محاولة الصرب هذه ضد المسلمين.
وكان من نتيجة هذه المعركة أن تسابق حكام البلقان لإعلان الولاء للمسلمين ودفع الجزية لهم.
وفي سنة إحدى وثمانين وسبعمائة تحالف ملك الصرب الجديد "لازارجر بلينانوفتش" مع ملك البلغار على مهاجمة المسلمين، لكنهما بعد عدة مناوشات تحققا(1/352)
من عجزهما عن هزيمة العساكر الإسلامية، فأبرما صلحاً مع السلطان مراد، على أن يدفعا له خراجاً سنويّاً.
ولم يستمر هذا الصلح طويلاً فقد نقضه النصارى، وبدأوا يعدُّون العدة لمحاربة المسلمين، إلا أن العثمانيين لم يمهلوهم فاجتاحت جيوشهم بلاد البلغار وهزمت ملكها واحتلت مدُنها، وانتهى الأمر بأسر ملك البلغار.
ولما علم ملك الصرب لازار بذلك بدأ يستعد لمواجهة المسلمين فألَّف جيشاً من الصرب والبوسنة والهرسك والألبان والأفلاق والبُغدان وتعاهد الجميع على محاربة المسلمين والاستيلاء على الدولة العثمانية، وبلغ الخبر مسامع السلطان مراد فألف مجلسا للشورى والنظر في الأمر، لكن ولده بايزيد هتف قائلاً في المجلس: "الحرب الحرب والقتال القتال" فأبطل كل مشورة، ودقَّت طبول الحرب وسار الجيش الإسلامي إلى الأعداء فالتقاهم في سهل "قوص أوه" سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ونشب القتال بين الجانبين ووثب المسلمون على النصارى والتحموا معهم في القتال التحاما لم يعد ورى معه إلا جماجم طائرة وفرسان غائرة، ودويّ سلاح يدك الجبال الشامخة، وبقيت الحرب بينهما سجالاً مدةً من الزمن دافع الصليبيون الصرب خلالها دفاعاً مستميتاً، وتناثرت الرؤوس، وأزهقت النفوس، وفي أثناء المعركة انحاز صهر ملك الصرب بفرقته إلى المسلمين، ودارت الدائرة على الصربيين، وجرح ملكهم لازار، ثم وقع أسيراً في يد المسلمين، وانتصر المسلمون على الصربيين وكانت من المعارك الحاسمة في تاريخ أوروبا الشرقية، وظلَّ ذكرها شهيراً في أوروبا بأسرها، وزال استقلال الصرب وخضعت كل بلادها للمسلمين، كما فقدت البلغار استقلالها من قبل.
وبعد المعركة أخذ السلطان مراد يتمشى بين الجثث وينظر إليها بعين الاندهاش، إذ قام من بينها جندي صربي اسمه "ميلوك كوبلوفتش" فطعن السلطان بخنجر طعنة قاضية، وسقط -رحمه الله- ليسلم الروح بعد قليل.
وهكذا شهد سهل كوسوفو بولجي معركة (قوص أوه) الحاسمة بين المسلمين والصرب، وانتصر المسلمون انتصاراً عظيماً، وأخذ الإسلام ينتشر في تلك البقاع حتى تحولت مناطق كاملة إلى الإسلام كما هو الحال في البوسنة والهرسك وكوسفو وغيرها.(1/353)
وكما يشهد هذا انتصار المسلمين، فقد شهد أيضاً غدر الصرب الذي ذهب ضحيته سلطان المسلمين مراد، فمات أوائل شهر رمضان من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة من الهجرة -رحمه الله- وسجل التاريخ منذ ذلك الوقت وإلى يومنا هذا أن الصرب لا يلتزمون بعهد ولا ميثاق، ولا يعرفون في تعاملهم مع المسلمين إلا لغة القوة والبطش وسفك الدماء.
واليوم وكما غدر الصرب وأعوانهم بقائد المسلمين في تلك المعركة يغدرون بالمسلمين جميعاً في البوسنة والهرسك، فيقتلون ويأسرون ويغتصبون لا يردعهم خلق ولا دين، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، والعجب كل العجب أن يقف المسلمون جميعا موقف المتفرج على هذا كله" (1) .
سنة 827 هـ 25 رمضان فتح بلغراد عاصمة المجر على يد السلطان العثماني سليمان القانوني:
"كان السلطان سليمان قد أرسل سفيراً إلى ملك المجر يطلب منه دفع الجزية أو الحرب، فما كان من ملك المجر (لويز الثاني) إلّا أن أمر بإعدام السفير، مما أثار غضب السلطان سليمان، فأمر بتجهيز الجيوش وجمع كل ما تتطلبه من الذخائر والمؤن، وسار هو بنفسه في مقدمة الجيش، وأرسل أحد مشاهير قواده (واسمه أحمد باشا) لمحاصرة مدينة "شابتس" (2) القريبة من بلغراد، ففتحها يوم 2 شعبان سنة 927 ص (الموافق 8 تموز - يوليو سنة 1521م) ، ووصل إليها السلطان سليمان في اليوم التالي، ثم قاد الجيوش التي كانت تقوم على حصار هذه المدينة لمساعدة وزيره (بير محمد باشا) الذي كان يحاصر مدينة بلغراد، ويضيق الخناق عليها، ودافع المجريون عن عاصمتهم دفاعاً شديداً، غير أن جند المسلمين تمكنوا من اقتحامها يوم 25 رمضان سنة 927 هـ (29 أغسطس سنة 1521م) وأخلى الجنود المجريون قلعتها، ودخلها السلطان، وصلى الجمعة في إحدى كنائسها التي حُولت فوراً إلى مسجد. وصارت هذه المدينة التي كانت أمنع حصن للمجرين ضد تقدم القوات العثمانية، أكبر مساعد لها على فتح ما وراء
__________
(1) "من معارك المسلمين في رمضان" (ص 84-87) .
(2) تقع إلى الشمال من بلغراد وتسمى اليوم سابوتيكا.(1/354)
الدانوب من الأقاليم والبلدان. وأعلن السلطان هذا الانتصار بالكتابة إلى جميع الولاة، وإلى ملوك أوروبا، ورئيس جمهورية البنادقة، ثم عاد القسطنطينية مكللاً بالنصر والظفر على الأعداء، وأرسل إليه قيصر الروس يهنئه بالفوز والظفر، وكذلك فعل رئيسا جمهوريتي البندقية وراجوزه (1) " (2) .
جهاد المسلمين في الحبشة سنة 935 هـ:
موعدنا مع نصر عظيم حققه المسلمون للإسلام في بقعة كانت ولا زالت موطناً للجهاد في سبيل الله، وصلها الإسلام منذ وقت مبكر وظل ينتشر فيها وبين أبنائها حتى اعتنقه أكثرهم، فكان منهم الدعاة والمجاهدون الذين حملوا لواء هذا الدين ينشرونه ويدعون له بين بني قومهم.
إنها بلاد الحبشة، دار الهجرة الأولى: التي آوت المسلمين المهاجرين فترة من الزمن.
لقد انتشر الإسلام على يد هؤلاء المهاجرين، ثم توافد المسلمون إلى تلك البلاد من الحجاز واليمن، واستقروا فيها، وحملوا معهم الإسلام وتعاليمه، وأخذ ينتشر انتشاراً سلميّاً هادئاً، حتى إذا مضى قرن ونيف من الزمان تحول الساحل الحبشي إلى الإسلام وأصبح المسلمون هم سادته وحكامه.
ولم يتوقف المد الإسلامي عند الساحل فقط، بل تعداه إلى الداخل في عمق الهضبة الحبشية، حيث أصبح سكان تلك المناطق من المسلمين، وتحولت قبائل كثيرة من الأحباش إلى الإسلام.
وبمرور الوقت اتضح الكيان السياسي للمسلمين في الحبشة وكونوا لهم سبع ممالك إسلامية، عرفت بممالك الطراز الإسلامي، وقد تولى حكام هذه الممالك الإسلامية عبء الجهاد في سبيل الله في الحبشة.
وإلى جانب هذه الممالك تقوم دولة نصرانية تتخذ من مدينة أكسوم عاصمة لها وهي الدولة التي استضاف واحد من حكامها الأوائل جموع المهاجرين المسلمين، إلا أن
__________
(1) من النمسا الآن.
(2) "القانوني القائد" لبسام العسلي (ص 28-29) طبع دار النفائس.(1/355)
حكامها المتأخرين أظهروا العداوة للمسلمين وبدأوا يحاربونهم ويفتنونهم عن دينهم ويضيقون عليهم، وإذا كان المسلمون في أول الأمر قد كفوا عن مهاجمة الحبشة ولم يمدوا إليها موجة الجهاد الإسلامي، فإنهم اضطروا أخيراً إلى إعلان الجهاد ومهاجمة الدولة النصرانية للدفاع عن دينهم وأنفسهم وإخوانهم المسلمين.
وتوالى عدد من الحكام المسلمين المجاهدين الذين قتل أغلبهم في ساحات المعارك مع النصارى، وكلما سقط واحد منهم رفع اللواء آخر، حتى آل إلى مجاهد كبير وقائد عظيم من قادة المسملمين الأحباش ذلك هو الإمام أحمد بن إبراهيم القرين أو أحمد جران كما يسميه المسلمون هناك.
كان هذا الإمام ابنا لقسيس حبشي فاعتنق الإسلام وحسن إسلامه، ووجد نفسه في دولة إسلامية ضعيفة، يهيمن عليها النصارى، ويأخذون من حكامها الجزية عكس ما يدعو إليه الإسلام، فلم يستسلم لذلك بل عمل على تقوية المسلمين وذلك بالدعوة إلى الجهاد وإثارته في النفوس.
واستطاع الإمام أحمد توحيد الدولة الإسلامية في الحبشة، وكان أول عمل قام به بعد ذلك هو منع دفع الجزية للملوك النصارى، وعندئذ أصبح قيام الحرب بينهم أمر لا مفر منه، وعندما تحركت جيوش الحبشة النصرانية، واجتاحت مملكة المسلمين تصدى لها الإمام أحمد وهزمها شر هزيمة، وعندئذٍ اشتعلت في نفوس المسلمين حماسة الجهاد في سبيل الله والتي كمنت في نفوسهم وقتا طويلاً.
واستطاع الإمام أحمد تنظيم صفوف القبائل المسلمة في مهارة فائقة، وجعل منهم قوة ضاربة منيعة، وعندما تم له ذلك، أعلن الجهاد في سبيل الله، وحاول البعض من المسلمين اليائسين تحذيره من هذا الأمر، وأن مصيره سيكون مثل مصير الحكام السابقين الذين ماتوا في ساحات المعارك، ولكن الإمام أجابهم بأن الجهاد في سبيل الله لا يمكن أن يعود بالخسران على المسلمين.
وتوالت انتصارات المسلمين في الحبشة وتوالى سقوط المدن النصرانية في أيدي المسلمين، وسيطروا على وسط الحبشة وجنوبها في مدة وجيزة، وأقبل الأحباش على(1/356)
الإسلام يعتنقونه بأعداد كبيرة، حتى أن قائداً من قادتهم قد دخل بجنده في الإسلام دفعة واحدة وكان عددهم عشرين ألفاً، ويذكر أحد المؤرخين أنه لم يبق على النصرانية أكثر من العُشر وهم الذين فضلوا دفع الجزية للمسلمين.
وحاول إمبراطور الحبشة جمع جيوشه المنهارة فاجتمع له عدد كبير سار بهم نحو المسلمين وعلم الإمام بذلك فسار بجيشه مسرعا والتقى العسكران الإسلامي
والنصراني، وبات المسلمون يذكرون الله ويحمدونه ويسبحونه، وقام الإمام أحمد في أصحابه وقال: توكلوا على الله واعتصموا به وأشيروا عليَّ: فقالوا: الجهاد بغيتنا ومُنانا، ولا نزال نصبر لهم على الضرب والطعن حتى يحكمَ الله بيننا وهو خير الحاكمين، ففرح بقولهم وبات الجميع مستعدين للقتال، وفي صباح يوم من أيام رمضان سنة خمس وثلاثين وتسعمائة من الهجرة بدأت المعركة بين المسلمين وأعدائهم، وأبلى المسلمون بلاء حسنا وصمدوا في وجه النصارى رغم قوتهم وكثرة عددهم، وأنزل الله النصر عليهم، فانهزم النصارى هزيمة قاسية، وقتل أكثرهم وانفتح الطريق إلى عاصمتهم أكسوم فاستولى عليها المسلمون وقضوا على بقية دولتهم.
هذا هو الفتح العظيم الذي حصل للمسلمين في الحبشة على يد أحمد القرين -رحمه الله- والذى حول الحبشة كلها إلى الإسلام.
ولكنَّ القوى الصليبية في ذلك الوقت لم تكن لتسكت على انهيار دولة النصارى الوحيدة في العالم الإسلامي، وكان الأحباش النصارى قد استنجدوا بالبرتغال وهم سادة البحار في ذلك الوقت، فأنجدوهم بجيش قوي حديث مسلح بالمدافع، التي لا يعرفها المسلمون الأحباش في ذلك التاريخ، ودخلت القوات البرتغالية الحبشة ورحب بها النصارى وقاومها المسلمون، وحدثت معارك عنيفة بين الصليبين والمسلمين وصمد المسلمون أمامهم مدة من الزمن وكانت مدافع البرتغاليين تقصفهم بلا هوادة ولا رحمة، واستنجد المسلمون بالعثمانيين وتأخرت النجدات، وما وصل منها لم يكن ليغير ميزان القوى لضعفه وقلة تسليحه، وحلت الهزيمة بالمسلمين وقتل قائدهم أحمد القرين -رحمه الله- وبذلك تغير مجرى التاريخ في الحبشة، وعادت القوة للنصارى، واتخذت هجماتهم طابعاً من القوة والوحشية،(1/357)
وخربوا المساجد وأماكن العبادة وأفرطوا في القتل والتنكيل، وأرغموا المسلمين على اعتناق النصرانية. وهكذا أبلى هذا القائد المسلم بلاء حسنا في الجهاد، وقاد جيوشه في هضبة الحبشة ينشر الإسلام، وكان أكثر معاركه في شهر رمضان.
وإلى جانب نجاحه -رحمه الله- كقائد عسكري، فقد كان نموذجاً للحاكم المسلم، يقيم الحدود، ويداوم على الفرائض، ويجلس ويلطف بالمساكين، ويرحم الصغير ويوقر الكبير، وينصر المظلوم من الظالم حتى يرد الحق إلى مكانه، ولا تأخذه في الله لومة لائم" (1) .
سنة 1393 هـ العاشر من رمضان السادس من أكتوبر 1973 النصر على اليهود:
منّ الله على عباده وجنوده المؤمنين في مصر بهزيمة اليهود في العاشر من رمضان وعبر المسلمون القناة وحطموا خط بارليف وعلا التكبير في كل مكان من أرض المعركة وأذل المسلمون اليهود في هذه الحرب فالنصر حليف الإيمان والطاعة.
دارت على سيناء معركة الوغى ... فوق السهول وفي ربى وبطاح
وكتائب الإيمان تهتف كلها ... (الله أكبر) فوق كل سلاح
لتدك بارليف النيع بقوة ... طب الجراح بمبضع الجرّاح
فإذا (مسليمة) اليمامة هارب ... متنكراً يعدو بمرط (سجاح)
وإذا (بمائير) العجوز بمأتم ... ومناحة كبرى سوء صياح
ما أفلتت دبابة من حتفها ... (كوهين) أو (شالوم) أو (مزراحي)
(عساف ياجوري) أتى مستسلماً ... بفريقه أملا بيوم سراح
وهناك في أعلى الهضاب مجند ... كالليث تحت لوائه الصداح
(الله أكبر) زلزلت أركانهم ... وكأنما يشدو بها ابن رباح (2)
__________
(1) "من معارك المسلمين في رمضان" (ص 92-95) .
(2) مجلة منبر الإسلام شعر عبد الغفار الدلاش.(1/358)
واليوم يعود اليهود يذبحون المسلمون وهم ساجدون في المسجد الإبراهيمي في رمضان ويا للمفارقة العجيبة:
وكنا عظاماً فصرنا عظاماً ... وكنا نقوت فها نحن قوت
***(1/359)
الباب التاسع
حدث في رمضان(1/361)
قُبض كليم الرحمن موسى عليه السلام ورفع عيسى عليهما السلام إلي السماء:-
قال حريث بن مخشي -رحمه الله-: إن عليا رضي الله عنه قُتِل صبيحة إحدى وعشرين من رمضان، فسمعت الحسن بن علي -رضي الله عنه- يقول وهو يخطب، وذكر مناقب علي، فقال: "قُتل ليلة أُنزل القرآن، وليلة أسري بعيسى عليه السلام" (1) .
موت أم المؤمنين خديجة في العاشر من رمضان:
رضي الله عنها وأرضاها وجعل جنات الفردوس مأواها، المبشرة ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب؛ لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان.
آمنت به إذ كفر به الناس، وصدقته إذ كذّبه الناس، وواسته بما لها إذ حرمه الناس، ورزقه الله ولدها إذ حرمه أولاد النساء.
لم يتزوج عليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى ماتت إكراماً لها، وتقديراً لإسلامها سلّم الرب -عز وجل- عليها وكم لها من مقام صدق في أول البعثة.
قالَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد" (2) .
مصرع أبي جهل:
"في هذا الشهر الكريم في السابع عشر من رمضان، سنة اثنتين للهجرة طُويت أكبر راية من رايات الجاهلية السود..... وهوى أضخم صنم من أصنام الشرك في جزيرة العرب ... لقي أبو جهل مصرعه على أيدي المسلمين في "بدر" وغيبت رمال "القليب" في جوفها السحيق أكبر طاغية عرفته جزيرة العرب" (3) .
ولم تنفع اللاتُ والعزى أبا جهل، وقيل سحقاً للقوم الظالمين.
__________
(1) "خبر حسن"، أخرجه الحاكم (3/143) وصححه وسكت عنه الذهبي وأسري بعيسى أي رُفع إلى السماء.
(2) رواه أحمد في المسند والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
(3) "حدث في رمضان" للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا (ص 37) دار الأدب الإسلامي.(1/363)
4 هـ: "زواج الرسول بزينب بنت خزيمة بنت الحارث التي يقال لها أم المساكين لكثرة صدقاتها عليهم وبرها لهم وإحسانها إليهم، وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا ودخل بها في رمضان.
قال أبو عمر بن عبد البر: ولا خلاف أنها ماتت في حياة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقيل لم تلبث عنده إلا شهرين أو ثلاثة حتى توفيت -رضى الله عنها- ".
5 هـ حديث الإفك:
فحديث الإفك كان في منصرفهم من غزوة بني المصطلق "غزوة المريسيع" في شعبان، وفي قصة الإفك "فاشتكيت حين قدمت شهراً، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي".
فالشاهد من هذا أن حديث الإفك امتد إلى رمضان يقيناً.
رمضان شهر الصبر وتجلى فيه أروع صبر عرفه الوجود "صبر رسولنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ".
"لقد كانت حادثة الإفك معركة خاضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخاضتها الجماعة المسلمة يومذاك، وخاضها الإسلام، معركة ضخمة لعلها أضخم المعارك التي خاضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخرج منها منتصراً كاظماً لآلامه الكبار محتفظاً بوقار نفسه وعظمة قلبه وجميل صبره، فلم تؤثر عنه كلمة واحدة تدل على نفاد صبره وضعف احتماله، والآلام التي تناوشه لعلها أعظم الآلام التي مرت في حياته، والخطر على الإسلام من تلك الفرية من أشد الأخطار التي تعرض لها في تاريخه.
وها هو ذا يُرمى في طهارة فراشه، وهو الطاهر الذي تفيض منه الطهارة، وها هو ذا يرمى في صيان حرمته، وهو القائم على الحرمات في أمته.
ها هو ذا يرمى في كل شيء حين يُرمى في عائشة -رضى الله عنها-. يرمى في فراشه وعرضه وقلبه ورسالته، يرمى في هذا كله، ويتحدث الناس في المدينة شهراً(1/364)
كاملاً، والله يريد لحكمة يراها أن يدع هذا الأمر شهراً كاملاً، لا يبين فيه بياناً، فأي صبر فوق صبر رسولنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟!!
وعندما تصل الآلام ذروتها يتعطف عليه ربه، فيتنزل القرآن ببراءة عائشة الصديقة الطاهرة، وبراءة بيت النبوة الطيب الرفيع" (1) . وكان هذا في رمضان.
9 هـ قدوم وفد ثقيف على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان:
لما رآهم المغيرة بن شعبة -وكان يرعى- ذهب يشتد ليبشر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلقيه أبو بكر الصديق فأخبره عن ركب ثقيف فقال أبو بكر للمغيرة: أقسمت عليك لا تسبقني إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أكون أنا أحدثه ففعل المغيرة فدخل أبو بكر فأخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقدومهم لما قدموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضربت عليهم قبه في المسجد ليكون أرق. قال ابن إسحاق: فلما أسلموا وكتب لهم أمر عليهم عثمان بن أبي العاص وكان أحدثهم سناً لأن الصديق -رضى الله عنه- قال: يا رسول الله إني رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن.
وذكر موسى بن عقبه أن وفدهم كانوا إذا أتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلّفوا عثمان ابن أبي العاص في رحالهم فإذا رجعوا وسط النهار جاء هو إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن العلم فاستقرأه القرآن فإن وجده نائماً ذهب إلى أبي بكر الصديق، فلم يزل دأبه حتى فقه في الإسلام وأحبه رسول الله في حباً شديداً. وصام وفد ثقيف مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما بقي من شهر رمضان وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأتيهم كل ليلة بعد العشاء يحدثهم قائماً على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام فأكثر ما يحدثهم ما لقي من قومه من قريش.
وفي قدومهم هذا "وكانوا بضعة عشر رجلاً" لما سألوه عن الربة "اللات" ما هو صانع بها؟ قال: اهدموها "قالوا: هيهات لو تعلم الربة أنك تريد أن تهدمها قتلت أهلها"، فقال عمر بن الخطاب: ويحك يا ابن عبد يا ليل ما أجهلك، إنما الربة حجر.
فقالوا: إنا لم نأتك يا ابن الخطاب، ثم قالوا يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تول أنت هدمها أما نحن فإنا لن نهدمها أبداً، فقال: "سأبعث إليكم من يكفيكم هدمها" فكاتبوه على ذلك. فكان
__________
(1) "البداية والنهاية" (3/91-92) .(1/365)
كتاب هدم اللات في رمضان فاعظم به من نصر، فبعث رسول الله إليهم أبو سفيان بن حرب والمغيرة وخالد بن الوليد، فهدمها المغيرة بن شعبة ونساء ثقيف خسراً يبكين عليها ويقلن: لنبكين دِفاع، اسلمها الرضاع (1) لم يحسنوا المصَاع (2) .
والمغيرة يقول إنما هي لكاع حجارة ومدر. وأبو سفيان يقول: -والمغيرة يضربها بالفأس- "وآهاً لك وآهاً لك" (3) .
وقرّت عين الرسول -صلوات الله عليه- بإسلام "ثقيف" بعد إباء عنيد ونفور جامح دام عشرين عاما:
"وتاريخ الدعوة الإسلامية، يروي لثقيف وإسلامها قصة قاتمة البداية؛ مشرقة النهاية" (4) .
سنة 9 هـ من رمضان "قدوم رسول ملك حمير إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإسلامهم": قال ابنُ كثير: "قال الواقدي: وكان ذلك في رمضان سنة تسع. قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتاب ملوك حمير ورسلهم بإسلامهم مقدمه من تبوك وهم الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رعين ومعافر وهمدان، وبعث إليه زرعة ذو يزن ملك بن مرة الرهاوي بإسلامهم ومفارقتهم الشرك وأهله".
سنة 11 هـ ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان وفاة أم أبيها فاطمة بنت محمد عليها السلام:
ثبت في الصحيح عن عائشة أن فاطمة عاشت بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ستة أشهر -رضى الله عنها-.
قال ابن كثير: "يقال أنها لم تضحك في مدة بقائها بعده عليه السلام، وأنها كانت تذوب من حزنها عليه، وشوقها إليه".
__________
(1) أي اللئام.
(2) المصاع: الضرب.
(3) "البداية والنهاية" (5/26-30) .
(4) "حدث في رمضان" (ص 69) .(1/366)
رضى الله عنها -، وتكنى أم أبيها، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه عهد إليها أنها أول أهله لحوقاً به، وقال لها مع ذلك: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة؟
وكانت أصغر بنات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المشهور ولم يبق بعده سواها، فلهذا عظم أجرها لأنها أصيبت به عليه السلام. وليس له عليه السلام نسل إلا من جهتها.
سنة 40 هـ يوم الجمعة سحر السبع عشرة خلت من رمضان "استشهاد علي ابن أبي طالب":
في مثل يوم بدر 17 من رمضان منّ الله باستشهاد عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين خير أهل الأرض في ذلك الزمان، أعبدهم وأزهدهم، وأعلمهم وأخشاهم لله عز وجل وقاتله أشقى الآخرين كما صح عن سيد المرسلين.
سنة 58 هـ ليلة الثلاثاء السابع عشر من رمضان وفاة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر (رضي الله عنها) أم عبد الله زوجة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأحب أزواجه إليه، المبرأة من فوق سبع سماوات -رضى الله عنها- وعن أبيها، لم يتزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكراً غيرها، ولم ينزل عليه الوحي في لحاف امرأة غيرها، ولم يكن في أزواجه أحب إليه منها، وقد أتاه الملك بها في المنام في سرقة من حرير مرتين أو ثلاثا فيقول: هذه زوجتك.
ولما تكلم فيها أهل الإفك بالزور والبهتان، غار الله لها فأنزل براءتها في عشر آيات من القرآن تُتلى على تعاقب الأيام. وقد أجمع العلماء على تكفير من قذفها بعد براءتها.
مات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يومها وفي بيتها وبين سحرها ونحرها، وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعاته في الدنيا، وأول ساعة في الآخرة، ودفن في بيتها.
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنه ليهون عليّ أني رأيت بياض كف عائشة في الجنة".
تفرد به أحمد (1) . وهذا في غاية ما يكون من المحبة العظيمة أنه يرتاح لأنه رأى بياض كفها أمامه في الجنة "فرضي الله عنها" (2) .
__________
(1) قال الساعاتي: إسناده لا بأس به.
(2) "البداية والنهاية" (8/95) .(1/367)
سنة 95 هـ ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان موت الحجاج بن يوسف الثقفي: في أرجى الليالي لليلة القدر منّ الله على الأمة وأراحها من الغشوم الظلوم الحجاج بن يوسف الثقفي مبير هذه الأمة كما ثبت في حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكما قالت له أسماء.
قال عنه عمر بن عبد العزيز: لو تخابثت الأم فجاءت كل أمة بخبيثها، وجئنا بالحجاج لغلبناهم.
قال ابن كثير: الحجاج أعظم ما نقم عليه وصح من أفعاله سفك الدماء، وكفى به عقوبة عند الله -عز وجل-.
لما بشر الحسن البصري بموت الحجاج سجد شكراً لله تعالى.
وأخبر طاووس بموت الحجاج مراراً فلما تحقق وفاته قال: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) [الأنعام: 45] (1) .
وهذه منة من الله تعالى عظيمة حدثت في ليلة عظيمة من شهر عظيم.
استشهاد عبد الرحمن الغافقي في رمضان سنة 114 هـ:
استشهد هذا البطل في معركة "بلاط الشهداء" أو "تور بواتيه"، "يمكننا القول: إن عبد الرحمن هو أقدر قائد عسكري عرفته الأندلس في عصر الولاة، ومع قلة الأخبار التي وصلت إلينا عنه إلا أننا نستشف منها عظيم تقدير المؤرخين له وثناءهم عليه" (2) .
هو القائد المسلم الذي تتحدث المصادر النصرانية عن شجاعته النادرة وبقدرته الحربية العظيمة.. هو القائد الذي يقول "إن السماوات والأرض لو كانتا رتقا لجعل الله للمتقين منها مخرجا..".
هو القائد الذي زحف بسبعين إلى مائة ألف مقاتل عبر جبال البرانس إلى وسط أوروبا، فاستولى على مدينة آرل، ودوقية أقطانية، وهزم الدوق هزيمة قاسية، واستولى على مدينة تور، وفي تور بواتيه يلقى ربه شهيدا بعد أن كانت الغلبة له في بداية الأمر.
__________
(1) "البداية والنهاية" (9/143-146) .
(2) "معارك المسلمين في رمضان" (ص 54، 55) .(1/368)
موت الإمام المحدث محمد بن شهاب الزهري أول من دوّن الحديث النبوي:
"قال ابن سعد وخليفة والزبير: مات لسبع عشرة خلت من رمضان سنة أربع وعشرين ومائة" (1) .
قيام الدولة العباسية سنة 132 هـ:
بعد دخول أبي العباس عبد الله أول الخلفاء العباسيين دمشق.
موت شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك
وموت إمام الشافعية الإمام المزني كان في رمضان (2) .
221 هـ نصر أهل السنة في محنة خلق القرآن:
وفيها نصر الله أهل السنة في محنة خلق القرآن بثبات إمامهم أحمد بن حنبل في العشر الأخير من رمضان رغم حبسه الطويل والضرب الشديد والتهديد بالقتل بسوء العذاب وأليم العقاب، وقلة مبالاة أحمد بذلك وصبره وتمسكه بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم، فهيأه الله بما آتاه لبلوغ أعلى منازل أهل البلاء في الله من أوليائه.
تخلعت يداه وجيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربه سوطين، ويقول المعتصم: شد قطع الله يديك، ويجيء الآخر فيضربه سوطين، ثم الآخر كذلك، فضربوه أسواطاً فأُغمى عليه وذهب عقله مراراً فأطلقوه في يوم الخامس والعشرين من رمضان سنة 221 فلم يشعر إلا وهو في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجله. وأتوه -رحمه الله- بسويق ليفطر فامتنع من ذلك وأتم صومه.
يرحم الله بن حنبل وما أجمل ما قاله البخاري: "لما ضرب أحمد بن حنبل كنا بالبصرة فسمعت أبا الوليد الطيالسي يقول: لو كان أحمد في بني إسرائيل لكان أحدوثة".
__________
(1) "سير أعلام النبلاء" (5/350) .
(2) انظر "سير أعلام النبلاء" ترجمة ابن المبارك والإمام المزني.(1/369)
وقال المزني: أحمد بن حنبل يوم المحنة، وأبو بكر يوم الردة، وعمر يوم السقيفة، وعثمان يوم الدار، وعليّ يوم الجمل وصفين".
إن ابن حنبل إن سألت إمامنا ... وإن الأئمة في الأنام تمسكوا
خلف النبي محمد بعد الألى ... خلفوا الخلائف بعده واستهلكوا
حذو الشراك على الشراك وإنما ... يحذو المثال مثالهُ المستمسك (1)
***
__________
(1) "البداية والنهاية" (9/143-146) .(1/370)
الباب العاشر
أسرار الصوم وشروطه الباطنة
"رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش"
جزء من حديث صحيح(1/371)
"اعلم أن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص".
* أما صوم العموم: فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة.
* وأما صوم الخصوص: فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام.
* وأما صوم خصوص الخصوص: "فصوم القلب عن الهضم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله بالكلية. فهو إقبال بكل الهمة على الله عز وجل وانصراف عن غير الله سبحانه" (1) .
يقول العلامة ابن رجب: "الطبقة الثانية من الصائمين: من يصوم في الدنيا عمّا سوى الله، فيحفظ الرأس وما حَوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته" (2) .
أهل الخصوص من الصُوّام صومهم ... صون اللسان عن البهتان والكذب
والعارفون وأهل الأنس صومهم ... صون القلوب عن الأغيار والحجب
العارفون لا يسليهم عن رؤية مولاهم قصر، ولا يرويهم دون مشاهدته نهر، هممهم أجل من ذلك.
كبرت همة عبد ... طمعت في أن تراك
من يصم عن مفطرات ... فصيامي عن سواك
* من صام عن شهواته أدركها غداً في الجنة، ومن صام عمّا سوى الله فعيده يوم لقائه (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت) [العنكبوت:5] .
وقد صمت عن لذات دهري كلها ... ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي
يا معشر التائبين: صوموا اليوم عن شهوات الهوى لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء لا يطولن عليكم الأمل باستبطاء الأجل، فإن معظم نهار الصيام قد ذهب، وعيد اللقاء
__________
(1) "إحياء علوم الدين" (1/277) .
(2) "لطائف المعارف" (ص 168-169) .(1/373)
قد اقترب.
إن يوماً جامعاً شملي بهم ... ذاك عيدي ليس لي عيد سواه
صوم الصالحين:
كف الجوارح عن الآثام وتمامه بستة أمور:
الأول: غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره، وإلى كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله -عز وجل-.
قال تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ... ) [النور: 30-31] .
أدب نفسي واستعلاء على الرغبة وطهر للمشاعر، وارتفاع وعلو عن عدم الارتكاس إلى الدرك الحيواني الهابط، وإغلاق للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية وثمرته حفظ الفرج.
عن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نظرة الفجأة فقال: اصرف بصرك (1) .
يا أخي: كان عيسى -عليه السلام- يقول: النظرة تزرع في القلب الشهوة وكفى بها خطيئة.
أخي: من أطلق طرفه كان كثيراً أسفه.
فحذار أخي من فضول النظر فضلاً عن النظر إلى الشيطان المرئي المسمى بالتلفاز ويكفي ما فيه من فتن المارقات العاصيات ونظراتهن الجائعة الجاهرة المتلصصة الهاتفة المثيرة التي تثير كوامن الفتنة في صدور الرجال. نظرات خائنة وتكشّف وعري وتنزي كما تتنزى البهيمة، وتهتف للذكور حينما كانت هتاف الحيوان بالحيوان.
__________
(1) رواه مسلم: وهو من أفراده.(1/374)
لواحظنا تجني ولا علم عندها ... وأنفسنا مأخوذة بالجرائر
ولم أر أغبى من نفوس عفائف ... تصدق أخبار العيون الفواجر
ومن كانت الأجفان حُجّاب قلبه ... أذِنّ على أحشائه بالفواقر
ولله در من يقول:
وأنا الذي اجتلب النية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل
وانظر يا أخي إلى أخبار من مضى، قال أبو الأديان: كنت مع أستاذي أبي بكر الدقاق فمر حدث فنظرت إليه، فرآني أستاذي وأنا أنظر إليه فقال: يا بني لتجدنّ غبها ولو بعد حين. فبقيت عشرين سنة وأنا أراعي الغِبّ، فنمت ليلة وأنا متفكر فيه فأصبحت وقد نسيت القرآن كله (1) .
"عن أحمد بن سعيد العابد عن أبيه قال: كان عندنا بالكوفة شاب متعبد لازم المسجد الجامع لا يكاد يفارقه، وكان حسن الوجه حسن القامة حسن السمت، فنظرت إليه امرأة ذات جمال وعقل فشغفت به وطال عليها ذلك، فلما كان ذات يوم وقفت له على الطريق وهو يريد المسجد فقالت له: يا فتى اسمع مني كلماتٍ أكلمك بها ثم اعمل ما شئت، فمضى ولم يكلمها، ثم وقفت له بعد ذلك على طريقه وهو يريد منزله فقالت له: يا فتى اسمع مني كلمات أكلمك بها، فأطرق ملياً وقال لها: هذا موقف تهمة وأنا أكره أن أكون للتهمة موضعاً، فقالت له: والله ما وقفت موقفي هذا جهالة مني بأمرك ولكن -معاذ الله- أن يتشوف العباد إلى مثل هذا مني، والذي حملني على أن لقيتك في مثل هذا الأمر بنفسي لمعرفتي أن القليل من هذا عند الناس كثير، وأنتم -معاشر العباد- على مثال القوارير أدنى شيء يعيبها، وجملة ما أقول لك: إن جوارحي كلها مشغولة بك فالله الله في أمري وأمرك، قال: فمضى الشاب إلى منزله وأراد أن يصلي فلم يعقل كيف يصلي! فأخذ قرطاساً وكتب كتاباً ثم خرج من منزله وإذا بالمرأة واقفة في موضعها فألقى الكتاب إليها ورجع إلى منزله، وكان فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: اعلمي أيتها المرأة أن الله -عزّ وجل- إذا عصاه العبد حلم، فإذا عاد إلى المعصية مرة أخرى ستره، فإذا لبس لها
__________
(1) "التبصرة" (1/161) .(1/375)
ملابسها غضب الله تعالى لنفسه غضبة تضيق منها السماوات والأرض والجبال والشجر والدواب فمن ذا يطيق غضبه، فإن كان ما ذكرت باطلاً فإني أذكرك يوماً تكون السماء فيه كالمهل، وتصير الجبال كالعهن، وتجثو الأم لصولة الجبار العظيم، وإني والله قد ضعفت عن إصلاح نفسي فكيف بإصلاح غيري؟ وإن كان ما ذكرت حقاً فإني أدلك على طبيب هدى يداوي الكلوم الممرضة والأوجاع المرمضة ذلك الله رب العالمين فاقصديه بصدق المسألة، فإني مشغول عنك بقوله تعالى: (وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع * يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) [غافر: 18-19] فأين المهرب من هذه الآية؟!.
ثم جاءت بعد ذلك بأيام فوقفت له على الطريق فلما رآها من بعيد أراد الرجوع إلى منزله كيلا يراها، فقالت: يا فتى لا ترجع فلا كان الملتقى بعد هذا اليوم أبداً إلا غداً بين يدي الله تعالى، ثم بكت بكاءً شديداً وقالت: أسأل لك الله الذي بيده مفاتيح قلبك أن يسهل ما قد عسر من أمرك، ثم إنها تبعته وقالت: امتن عليّ بموعظة أحملها عنك وأوصيني بوصية أعمل عليها، فقال لها: أوصيك بحفظ نفسك من نفسك، وأذكرك قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار) [الأنعام: 60] قال: فأطرقت وبكت بكاءً شديداً أشد من بكائها الأول، ثم إنها أفاقت ولزمت بيتها وأخذت في العبادة فلم تزل على ذلك حتى ماتت كمداً، فكان الفتى يذكرها بعد موتها ثم يبكي، فيقال له: مم بكاؤك وأنت قد أيأستها من نفسك؟ فيقول: إني قد ذبحت طمعها في أول أمرها، وجعلت قطيعتها ذخيرة لي عند الله تعالى، فأنا استحي منه أن استرد ذخيرة ادخرتها عنده تعالى" (1) .
فقل للناظرين إلى المشتهى في ديارهم، هذا أنموذج من دار قرارهم، فإن استعجل أطفال الهوى قدارِهم، وعِدْهمُ قرب الرحيل إلى ديارهم (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) [النور: 30] .
الثاني: حفظ اللسان: عن فضول الكلام والهذيان والخوض في الباطل والمراء والجدال والخصومة والكذب والنميمة والفحش والجفاء والمراء والسب وبذاءة اللسان
__________
(1) "إحياء علوم الدين" (3/114-115) .(1/376)
واللعن والسخرية والاستهزاء وإلزامه السكوت والصمت وشغله بذكر الله سبحانه وتلاوة القرآن فهذا صوم اللسان.
فمن أطلق عذبة اللسان وأهمله مرخي العنان سلك به الشيطان في كل ميدان وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم.
وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت" (1) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عليك بحسن الخلق وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما تجمل الخلائقُ بمثلهما" (2) .
وقال الحسن: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه.
وقال محمد بن واسع لمالك بن دينار: يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم.
وليتدبر الإنسان قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) [ق 18] .
قال الحسن: يا ابن آدم قد بسطت لك صحيفة ووكل بها ملكان كريمان يكتبان أعمالك فاعمل ما شئت وأكثر وأقل.
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت؛ فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت؛ فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة" (3) .
وكان علقمة يقول: كم من كلام منعنيه حديث بلال بن الحارث وليعلم العبد أن الموت بين يديه، وأنه مسؤول عن كل كلمة، وأن أنفاسه رأس ماله، وأن لسانه شبكة يقدر أن يقتنص بها الحور العين فإهماله ذلك وتضييعه خسران مبين.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
(2) حسن: رواه ابن أبي الدنيا، والبزار، والطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أنس، وأبو الشيخ عن أبي ذر وأبي الدرداء وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4048) .
(3) رواه مالك وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن بلال بن الحارث وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1619) .(1/377)
وليعلم العبد أن "الكلام أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض، وقسم هو ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة".
فأما الذي هو ضرر محض فلا بد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر.
* وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول والاشتغال به تضييع زمان وهو عين الخسران.
فلا يبقى إلا القسم الرابع، فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام وبقي ربع، وهذا الربع فيه خطر إذ يمتزج بما فيه إثم من دقيق الرياء والتصنع والغيبة وتزكية النفس وفضول الكلام امتزاجاً يخفي دركه فيكون الإنسان به مخاطراً" (1) .
وفصل الخطاب قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صمت نجا" صلى الله على من أوتي جواهر الحكم وجوامع الكلم، ولا يعرف ما تحت آحاد كلماته من بحار المعاني إلا خواصُ العلماءِ.
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم" (2) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصيام جُنة من النار، فمن أصبح صائماً فلا يجهل يومئذ، وإن امرؤ جهل عليه فلا يشتمه ولا يسبه، وليقل إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" (3) .
وعند البخاري من حديث أبي هريرة قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب (4) ، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم...." الحديث.
قال الحافظ في "الفتح" (4/126) :
(فلا يرفث) بالضم والكسر ويجوز في ماضيه التثليث: والمراد بالرفث هنا: وهو
__________
(1) رواه أحمد والترمذي عن ابن عمرو وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6367) .
(2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة.
(3) صحيح: رواه النسائي عن عائشة وصححه السيوطي والألباني في "صحيح الجامع" رقم (3878) .
(4) للأكثر بالصاد، ولبعضهم بالسين وهو بمعناه: والصخب: الخصام والصياح.(1/378)
بفتح الراء والفاء: الكلام الفاحش، "وهو يطلق على هذا وعلى الجماع وعلى مقدماته وعلى ذكره مع النساء أو مطلقاً" (1) ، ويحتمل أن يكون لما هو أعم منها.
(ولا يجهل) أي لا يفعل شيئاً من أفعال أهل الجهل كالصياح والسفه ونحو ذلك.
ولسعيد بن منصور من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه "فلا يرفث ولا يجادل" قال القرطبي: لا يفهم من هذا أن غير الصوم يباح فيه ما ذكر، وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكد بالصوم".
قال المناوي: "لا يفعل خلاف الصواب من قول أو فعل، فهو أعم مما قبله، أو لا يعمل بخلاف ما يقتضيه العلم" (2) .
(وإن امرؤ قاتله أو شاتمه) (3) :
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/126) :
"اتفقت الروايات كلها على أنه يقول: "إني صائم" فمنهم من ذكرها مرتين، ومنهم من اقتصر على واحدة، وقد استشكل ظاهره بأن المفاعلة تقتضي وقوع الفعل من الجانبين، والصائم لا تصدر منه الأفعال التي رتب عليها الجواب خصوصاً المقاتلة، والجواب عن ذلك بأن المراد بالمفاعلة التهيؤ لها، أي إن تهيأ أحد لمقاتلته أو مشاتمته فليقل إني صائم، فإنه إذا قال ذلك أمكن أن يكف عنه، فإن أصر دفعه بالأخف فالأخف كالصائل، هذا فيمن يروم مقاتلته حقيقة، فإن كان المراد بقوله "قاتله" شاتمه لأن القتل يطلق على اللعن واللعن من جملة السب -ويؤيده ما ذكرت من الألفاظ المختلفة فإن حاصلها يرجع إلى الشتم- فالمراد من الحديث: أن لا يعامله بمثل عمله بل يقتصر على قوله "إني صائم".
واختلف في المراد بقولها "فليقل إني صائم" هل يخاطب بها الذي يكلمه بذلك أو
__________
(1) من قول أبي زرعة.
(2) "فيض القدير" (4/424) .
(3) في رواية صالح "فإن سابه أحد أو قاتله" وعند سعيد بن منصور "فإن سابه أحداً أو ماراه" ولابن خزيمة من حديث أبي هريرة "فإن سابك أحد فقل إني صائم" وإن كنت قائماً فاجلس" وللنسائي من حديث عائشة "وإن امرؤ جهل عليه فلا يشتمه ولا يسبه".(1/379)
يقولها في نفسه؟ وبالثاني جزم المتولي ونقله الرافعي عن الأئمة، ورجّح النووي الأول في "الأذكار"، وقال في "شرح المهذب" كل منهما حسن، والقول باللسان أقوى ولو كان جمعهما لكان حسناً، ولهذا التردد أتى البخاري في ترجمته بالاستفهام فقال: "باب هل يقول إني صائم إذا شتم؟ "، وقال الروياني: إن كان رمضان فليقل بلسانه، وإن كان غيره فليقله في نفسه. وادعى ابن العربي أن موضع الخلاف في التطوع. وأما الفرض فيقوله بلسانه قطعاً.
وأما تكرير قوله "إني صائم" فليتأكد الانزجار منه أو ممن يخاطبه بذلك، ثم قال ابن حجر: "المراد بالمفاعلة -قاتله- إرادة غير الصائم ذلك من الصائم، وقد تطلق المفاعلة على التهيؤ لها ولو وقع الفعل من واحد، وقد تقع المفاعلة بفعل الواحد كما يقال لواحد عالج الأمر وعافاه الله".
قال المناوي: "فليقل بلسانه إني صائم عن مكافأتك أو عن فعل ما لا يرضاه من أصومُ له بحيث يسمعه الصائم وجمعه بين اللسان والجنان أولى فيذكر نفسه بإحضاره صيامه بقلبه ليكف نفسه وينطق بلسانه لينكف عنه خصمه".
قال ابن القيم: "أرشد إلى تعديل قوي الشهوة والغضب وأن على الصائم أن يحتمىَ من إفسادهما لصومه فهذه تفسد صومه وهذه تحبط أجره" (1) .
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" (2) .
وعند ابن ماجه قال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم يدع قول الزور، والجهل، والعمل به، فلا حاجة لله في أن يدع طعامه وشرابه" (3) .
والضمير "به" في الأول يعود على قول الزور، وفي الثاني يعود على الجهل.
والمراد بقول الزور: الكذب، والجهل: السفه، والعمل به: أي بمقتضاه.
__________
(1) " فيض القدير" للمناوي (1/424) .
(2) رواه البخاري وأحمد وأبو داود والترمذي. قال ابن حجر "زاد في نسخة الصغاني" في الصوم.
(3) صحيح: صححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" رقم (1370) ، و"صحيح أبي داود" (2045) .(1/380)
وفي حديث أنس عند الطبراني في "الأوسط" "من لم يدع الخنا والكذب".
قال ابن حجر: ورجاله ثقات.
"فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
"قال ابن بطال: ليس معناه أن يؤمر بأن يدع صيامه، وإنما معناه التحذير من قول الزور وما ذكر معه".
وقال ابن الكمال: هذا وما أشبهه يتفرع على الكناية أي ليس له اعتبار عند الله.
وقال الزين العراقي: أي ليس مطلوب له. وقال ابن حجر: "معناه فليس لله إرادة في صيامه فوضع الحاجة موضع الإرادة، وقد سبق أبو عمر بن عبد البر إلى شيء من ذلك. قال ابن المنير في الحاشية: بل هو كناية عن عدم القبول كما يقول المغضب لمن ردّ عليه شيئاً طلبه منه فلم يقم به: لا حاجة لي بكذا، فالمراد ردّ الصوم المتلبس بالزور وقبول السالم منه.
قال ابن العربي: مقتضى هذا الحديث أن من فعل ما ذكر لا يثاب على صيامه، ومعناه أن ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور وما ذكر معه.
وقال البيضاوي: ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر المقبول، فنفى السبب وأراد المسبب والله أعلم. واستدل به على أن هذه الأفعال تنقص الصوم، وتعقب بأنها صغائر تكفر باجتناب الكبائر. والرفث والصخب وقول الزور والعمل به مما علم النهي عنه مطلقاً، والصوم مأمور به مطلقاً، فلو كانت هذه الأمور إذا حصلت فيه لم يتأثر بها لم يكن لذكرها فيه مشروطة فيه معنى يفهمه، فلما ذكرت في هذين الحديثين نبهتنا على أمرين: أحدهما: زيادة قبحها في الصوم على غيرها، والثاني: البحث على سلامة الصوم عنها وأن سلامته منها صفة كمال فيه، فمقتضى ذلك أن الصوم يكمل بالسلامة منها، قال: فإذا لم يسلم عنها نقص. ثم قال: ولا شك أن التكاليف قد ترد بأشياء وينبه بها على أخرى بطريق الإشارة، وليس المقصود من الصوم العدم المحض كما في المنهيات لأنه يشترط له النية بالإجماع، ولعلّ القصد به في الأصل الإمساك عن جميع المخالفات، لكن لما كان ذلك يشق خفف الله وأمر(1/381)
بالإمساك عن المفطرات، ونبه الغافل بذلك على الإمساك عن المخالفات، فيكون اجتناب المفطرات واجباً، واجتناب ما عداها من المخالفات من المكملات والله أعلم" (1) .
قال المناوي: "قال الطيبي فيه دليل على أن الكذب والزور أصل الفواحش ومعدن النواهي بل هو قرين الشرك قال تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) [الحج: 30] ، وقد علم أن الشرك مضاد الإخلاص وللصوم مزيد اختصاص بالإخلاص فيرتفع بما يضاده" (2) .
الغيبة والصيام:
قال ابن حجر: "الغيبة تضر بالصيام، وقد حكي عن عائشة، وبه قال الأوزاعي: إن الغيبة تفطر الصائم وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم. وأفرط ابن حزم فقال: يبطله كل معصية من متعمد لها ذاكر لصومه سواء كانت فعلاً أو قولاً، لعموم قوله "فلا يرفث ولا يجهل"، وقوله: "من لم يدع ... "، والجمهور وإن حملوا النهي على التحريم إلا أنهم خصوا الفطر بالأكل والشرب والجماع" (3) .
قال أبو العالية: "الصائم في عبادة وإن كان راقداً على فراشه ما لم يغتب" (4)
فكانت حفصة تقول: "يا حبذا عبادة وأنا نائمة على فراشي" (5) .
قال العلامة ابن رجب: وفي حديث آخر "ليس الصيام من الطعام والشراب إنما الصيام من اللغو والرفث"، وقال الحافظ أبو موسى المديني على شرط مسلم. قال بعض السلف: "أهون الصيام ترك الشراب والطعام".
وقال جابر: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء".
__________
(1) "فتح الباري" (4/140/141) .
(2) "فيض القدير" (6/224) .
(3) "فتح الباري" (4/125-126) .
(4) رواه عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" وهو صحيح موقوف عل أبي العالية.
(5) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، ونقل ذلك ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص 165) .(1/382)
إن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب إلى الله تعالى بترك المباحات كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل. وإن كان صومه مجزئاً عند الجمهور بحيث لا يؤمر بإعادته لأن العمل إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه لخصوصه دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنى يختص به هذا هو أصل قول جمهور العلماء، ولهذا المعنى والله أعلم ورد في القرآن بعد ذكر تحريم الطعام والشراب. على الصائم بالنهار ذكر تحريم أكل أموال الناس بالباطل، فإن تحريم هذا عام في كل زمان ومكان بخلاف الطعام والشراب إلى أنّ من امتثل أمر الله في اجتناب الطعام والشراب في نهار صومه فليمتثل أمره في اجتناب أكل الأموال بالباطل فإنه محرم بكل حال لا يباح في وقت من الأوقات" (1) .
* قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر" (2) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رب قائم حظه من قيامه السهر، ورب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش" (3) .
قال الغزالي: "قيل هو الذي يفطر على حرام، أو من يفطر على لحوم الناس بالغيبة، أو من لا يحفظ جوارحه عن الآثام".
قال المناوي: "أما الفرض فيسقط والذمة تبرأ بعمل الجوارح فلا يعاقب عقاب ترك العبادة بل يعاتب أشد عتاب حيث لم يرغب فيما عند ربه من الثواب" (4) .
الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه:
لأن كل ما حُرّم قوله حُرِّم الإصغاء إليه، ولذلك سوى الله -عز وجل- بين المستمع
__________
(1) "لطائف المعارف" (ص 163، 164) .
(2) صحيح: رواه ابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه أيضاً النسائي، وصححه السيوطي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (رقم 3488) .
(3) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير" عن ابن عمر، وأحمد والحاكم والبيهقي في سننه عن أبي هريرة، قال المناوي: "قال الحافظ العراقي إسناده حسن، وقال تلميذه الهيثمي: رجاله موثقون" وصححه السيوطي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3490) .
(4) "فيض القدير" (4/16) .(1/383)
وآكل السحت، فقال تعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت) [المائدة: 42] ، وقال عز وجل: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت) [المائدة: 63] .
ولله در الشاعر:
إذا لم يكن في السمع مني تصاون ... وفي بصري غض وفي منطقي صمتُ
فحظي إذاً من صومي الجوع والظما ... فإن قلت إني صمت يومي فما صمتُ
الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام:
كف اليد والرِجل عن المكاره، وكفّ البطن عن الشهوات وقت الإفطار. فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال ثم الإفطار على الحرام. فمثال هذا الصائم مثال من يهدم قصراً ويبني مصراً، فإن الطعام الحلال إنما يضر بكثرته لا بنوعه، فالصوم لتقليله، وتارك الاستكثار من الدواء خوفاً من ضرره إذا عدل إلى تناول السم كان سفيهاً. والحرام سم مهلك للدين. والحلال دواء ينفع قليله، ويضر كثيره، وقصد الصوم تقليله.
الخامس: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار: لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتليء جوفه، فما من وعاء أبغض إلى الله عز وجل من بطن مليء من حلال، وكيف يستفاد من الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره وربما يزيد عليه في ألوان الطعام حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر.
ورقة القلب وصفاؤه إِنما تكون بترك الشبع.
قال الجنيد: يجعل أحدهم بينه وبين صدره مخلاة من الطعام ويريد أن يجد حلاوة المناجاة.
- عند أكل الصالحين تنزل الرحمة.
- حق للمرء أن يتناول الطعام تناول مضطر عالم بقذارة مآله، "وأن يرى إدخاله في نفسه كدخول المستراح، ويتحقق أن نسبة الإنسان إلى الثمار والفواكه نسبة الجعل إلى الروث، فلو نطق الشجر لقال لك أنت تأكل فضالتي، كما يأكل الجعل فضالتك،(1/384)
والخنزير إذا استطاب لفاظة الإنسان فما هو إلا كاستطابتنا لفاظة الشجر" (1) .
- حسب ابن آدم لقيمات وذلك دون عشر لقيمات لأن جمع القلة بالألف والتاء لما دون العشرة.
ومن أكل كثيراً نام كثيراً فخسر كثيراً، وفي كثرة النوم ضياع العمر وفوت التهجّد، وإن تهجد لم يجد حلاوة العبادة.
يقول الحسن: "حتى إذا أخذته الكظة ونزلت به البطنة قال: يا غلام ائتني بشيء أهضم به طعامي، يا لكع أطعامك تهضم؟ إنما تهضم دينك".
ومن أخلى معدته من الطعام فلا يكفيه ذلك لرفع الحجاب ما لم يخل همته من غير الله عز وجل وذلك هو الأمر كله.
السادس: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً بين الخوف والرجاء (2) :
إذ ليس يدري أيُقبل صومه فهو من المقربين أو يرد عليه فهو من الممقوتين؟ وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها.
فقد رُوي عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه مر بقوم وهم يضحكون فقال: "إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه، يستبقون فيه لطاعته فسبق قوم ففازوا، وتخلف قوم فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المبطلون. أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته" أي كان سرور المقبول يشغله عن اللعب، وحسرة المردود تسدّ عليه باب الضحك.
وعن الأحنف بن قيس: "أنه قيل له إنك شيخ كبير وإن الصيام يضعفك، فقال: إني أعده لسفر طويل، والصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذابه. فهذه هي المعاني الباطنة في الصوم".
فالمقصود من الصوم: قمع الشهوات والارتفاع إلى أعلى عليين. والالتحاق بأفق
__________
(1) "الذريعة إلى مكارم الشريعة" (ص 311) .
(2) هذه الشروط الستة ذكرها الغزالي في "الإحياء" (1/275-280) .(1/385)
الملائكة، والملائكة مقربون من الله عز وجل، والذي يقتدي بهم ويتشبه بهم يقرب من مولاه كقربهم، فإن الشبيه من القريب قريب، فإذا علمت هذا فأي جدوى لتأخير أكلة وجمع أكلتين عند العشاء مع الانهماك في الشهوات الأخرى طول النهار.
قال أبو الدرداء: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف لا يعيبون صوم الحمقى وسهرهم، ولذرة من ذوي يقين وتقوى أفضل وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المغترين.
ولذلك قال بعض العلماء: كم من صائم مفطر، ومفطر صائم ومن فهم معنى الصوم وسره علم أن مثل من كفّ عن الأكل والجماع وأفطر بمخالطة الآثام وإطلاق الجوارح كمن مسح على عضو من أعضائه في الوضوء ثلاث مرات وترك الغسل فصلاته مردودة عليه. وجمع بين هذه المعاني وبين الواجبات الظاهرة في الصوم فقد جمع الأصل والفضل وهو الكمال.
الصوم على أربعة أنواع.
قال الحافظ ابن حجر: "نقل بن العربي عن بعض الزهاد أن الصوم على أربعة أنواع:
1- صيام العوام: وهو الصوم عن الأكل والشرب والجماع.
2- وصيام خواص العوام: وهو هذا مع اجتناب المحرمات من قول أو فعل.
3- وصيام الخواص: وهو الصوم عن غير ذكر الله وعبادته.
4- وصيام خواص الخواص: وهو الصوم عن غير الله فلا فطر لهم إلى يوم القيامة، وهذا مقام عالٍ" (1) ا. هـ.
قال ابن الجوزي: "الصوم ثلاثة: صوم الروح وهو قصر الأمل، وصوم العقل وهو مخالفة الهوى، وصوم الجوارح وهو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع" (2) .
وقال: "وما من جارحة في بدن الإنسان إلا ويلزمها الصوم في رمضان وغير رمضان، فصوم اللسان ترك الكلام إلا في ذكر الله تعالى، وصوم السمع ترك الإصغاء
__________
(1) "فتح الباري" (4/131-133) .
(2) "بستان الواعظين" (ص 316، 317) .(1/386)
إلى الباطل وإلى ما لا يحلّ سماعه، وصيام العينين ترك النظر والغض عن محارم الله" (1) .
ذم أعرابي قوماً فقال: يصومون عن المعروف، ويفطرون على الفواحش.
* وفي "رسالة الحقوق" لعلي زين العابدين:
"حق الصوم أن تعلم أنه حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك، وفرجك وبطنك، ليسترك به من النار، وهكذا جاء في الحديث "الصوم جنة من النار".
فإن سكنت أطرافك في حجبتها ورجوت أن تكون محجوباً، وإن أنت تركتها تضطرب في حجابها وترفع جنبات الحجاب فتطلع إلى ما ليس لها بالنظرة الداعية للشهوة، والقوة الخارجة عن حدّ التقية لله لم تأمن أن تخرق الحجاب، وتخرج منه، ولا قوة إلا بالله. فإن تركت الصوم خرقت ستر الله عليك" (2) .
* "عن طليق بن قيس، قال، قال أبو ذر: "إذا صمت فتحفّظْ ما استطعت، فكان طليق إذا كان يوم صومه دخل ولم يخرج إلا للصلاة" (3) .
قالوا: "صوم القدمين كفهما عن البطش والسعي إلى ما يكتب عليهما وزره ويبقى قبلهما تباعته وإثمه".
الشهور كأولاد يعقوب:
"قيل الشهور الاثنى عشر كمثل أولاد يعقوب عليه وعليهم السلام. وشهر رمضان بين الشهور كيوسف بين إخوته، فكما أن يوسف أحب الأولاد إلى يعقوب، كذلك رمضان أحب الشهور إلى علّام الغيوب.
نكتة حسنة لأمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن كان في يوسف من الحلم والعفو ما غمر جفاهم حين قال (لا تثريب عليكم اليوم) [يوسف: 92] ، فذلك شهر رمضان فيه من الرأفة والبركات والنعمة والخيرات، والعتق من النار، والغفران من الملك القهار، ما يغلب جميع الشهور.
__________
(1) "بستان الواعظين" (ص 300، 301) .
(2) "عليّ زين العابدين" (ص 107) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (3/3) ، باب: ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب.(1/387)
جاء أخوة يوسف معتمدين عليه في سد الخلل، وإزاحة العلل بعد أن كانوا خطايا زلل، فأحسن لهم الإنزال، وأصلح لهم الأحوال، وبلّغهم غاية الآمال، وأطعمهم في الجوع، وأذن لهم في الرجوع، وقال لفتيانه: اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلّهم يعرفونها، فَسَدّ الواحد خلل أحد عشر، كذلك رمضان واحد والشهور أحد عشر، وفي أعمالنا خلل وأي خلل، ويرجو العبد أن يتلافى شهر رمضان ما فرّط فيه في سائر الشهور.
كان ليعقوب أحد عشر ولداً ذكوراً بين يديه حاضرين، ينظر إليهم، ويراهم ويطّلع على أحوالهم وما يبدو من فعالهم، ولم يرتد بصره بشيء من ثيابهم، وارتد بقميص يوسف بصيراً، وصار بصره منيراً، فكذلك المذنب إذا شمّ روائح رمضان، وجلس فيه مع المذكرين وقرأ القرآن، وصحبهم بشرط الإسلام والإيمان، وترك الغيبة والبهتان، يصير إن شاء الله مغفوراً له بعد ما كان عاصياً، وقريباً بعد ما كان قاصياً، ينظر بقلبه بعد العمى، ويسعد بقربه بعد الشقا، ويقابل بالرحمة بعد السخط.
فالله الله اغتنموا هذه الفضيلة، في هذه الأيام القليلة، تعقبكم النعمة الجزيلة، والدرجة الجليلة والراحة الطويلة، والحالة الرضية، والجنة السرية والعيشة الرضية، لا تنال إلا بالوقار لهذا الشهر، ومن لا يوقره كان مصيره إلى النار" (1) .
الصوم لم يعبد به غير الله؟
* قال الحافظ ابن حجر في معنى "الصيام لي" وذكر من معانيه:
"سبب الإضافة إلى الله أن الصيام لم يعبد به غير الله، بخلاف الصلاة والصدقة والطواف ونحو ذلك، واعترض على هذا بما يقع من عباد النجوم وأصحاب الهياكل والاستخدامات، فإنهم يتعبدون لها بالصيام. وأجيب بأنهم لا يعتقدون إلهية الكواكب وإنما يعتقدون أنها فعالة بأنفسها، وهذا الجواب عندي ليس بطائل، لأنهم طائفتان، إحداهما كانت تعتقد إلهية الكواكب وهم من كان قبل ظهور الإسلام واستمر منهم من استمر على كفره، والأخرى من دخل منهم في الإسلام واستمر على تعظيم الكواكب وهم الذين أشير إليهم" (2) .
__________
(1) "بستان الواعظين" بتصرف (ص 317-319) .
(2) "فتح الباري" (4/130-131) .(1/388)
الباب الحادي عشر
الموضوع والضعيف في الصوم(1/389)
(1) (شهر رمضان معلق بين السماء والأرض، ولا يرفع إلى الله إلا بزكاة الفطر) .
ضعيف: رمز له السيوطي في "الجامع الصغير" بالضعف، وقال المناوي: "أورده بن الجوزي في "الواهيات" وقال: لا يصح فيه محمد بن عبيد المصري مجهول لا يتابع عليه" وأقره الحافظ عليه.
قال الألباني: ثم إن الحديث لو صح لكان ظاهر الدلالة على أن قبول صوم رمضان يتوقف على إخراج صدقة الفطر، فمن لم يخرجها لم يقبل صومه، ولا أعلم أحداً من أهل العلم يقول به "الضعيفة" رقم (43 ج 1/59/60) .
(2) (صوموا تصحوا) .
ضعيف: قال العراقي في "تخريج الإحياء" (3/75) :
رواه الطبراني في الأوسط "وأبو نعيم في "الطب النبوي" من حديث أبي هريرة بسند ضعيف".
قال الألباني "ولا ينافيه قول المنذري في "الترغيب" (2/60) والهيثمي في "المجمع" (3/179) "ورجاله ثقات"، لأنه لا ينفي أن يكون في السند معه ثقة رجاله علة تقتضي ضعفه كما لا يخفى على العارف بقواعد هذا العلم، ولعلّ الصغاني قد بالغ حين قال (ص 7) : "وهذا الحديث موضوع".
(3) عن سلمان الفارسي قال:
خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخر يوم من شعبان فقال: "يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه في رزق المؤمن، ومن فطّر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجره شيء. قالوا: يا رسول الله(1/391)
ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم. قال: يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على مذقة لبن، أو تمرة، أو شربة من ماء، ومن أشبع صائما سقاه الله من الحوض شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة، وهو شهر أوله رحمة، ووسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال، خصلتان ترضون بهما ربكم، وخصلتان لا غنى بكم عنهما، أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه، وأما الخصلتان اللتان لا غنى بكم عنهما، فتسألون الجنة، وتعوذون من النار" (1) .
منكر: "فيه علي بن زيد بن جدعان؛ فإنه ضعيف كما قال أحمد، وقال الإمام بن خزيمة "لا أحتج به لسوء حفظه" ولذلك لما روى هذا الحديث في صحيحه قرنه بقوله "إن صح الخبر" وأقره المنذري في "الترغيب" (2/67) (2) ".
(4) (إن الجنة لتزخرف لرمضان من رأس الحول إلى الحول، فإذا كان أول ليلة من رمضان هبت ريح من تحت العرش فصفقت ورق الجنة عن الحور العين، فقلن: يا رب اجعل لنا من عبادك أزواجا تقر بهم أعيننا وتقر أعينهم بنا) (3) .
منكر: فيه الوليد بن الوليد القلانسي واه، وقال الدارقطني والنسائي متروك وقال الذهبي: تفرد به الوليد بن الوليد القلانسي وقد تركوه" يعني هذا الحديث وفي طريق ابن خزيمة "جرير بن أيوب البجلي".
قال ابن خزيمة "إن صح الخبر، فإن في القلب من جرير من أيوب البجلي".
وقال المنذري "جرير من أيوب واهٍ، ولوائح الوضع عليه".
وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات".
__________
(1) رواه المحاملي في "الأمالي" وابن خزيمة في صحيحه (1887) وقال: إن صح، والواحدي في "الوسيط".
(2) قول الألباني في "الضعيفة" رقم (871 ج 1/262-263) .
(3) أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"، وتمام في "الفوائد" وابن عساكر عن ابن عمر وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (1886) من حديث جرير بن أيوب البجلي عن الشعبي عن نافع بن بردة عن أبي مسعود الغفاري مرفوعا به.(1/392)
(5) (لكل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصوم) (1) .
ضعيف: أما حديث أبي هريرة ففيه: موسى بن عبيدة الربذي.
قال البوصيري في "الزوائد" متفق على تضعيفه، وأما حديث سهل بن سعد ففيه حمّاد بن الوليد.
* قال ابن عدي "لا أعلم يرويه عن الثوري غير حماد، ولحماد أحاديث غرائب، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه".
* وقال ابن حبان في "الضعفاء والمتروكين" "يسرق الحديث، ويلزق بالثقات ما ليس من أحاديثهم".
وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح.
وقال الهيثمي: حماد بن الوليد: ضعيف.
وقال الذهبي في ضعائفه: متروك ساقط "الضعيفة" رقم (301329/497-498) .
(6) (من صام يوماً ابتغاء وجه الله تعالى، بعده الله عز وجل من جهنم كبعد غراب طار وهو فرخ حتى مات هرما) (2) .
ضعيف: في حديث أبي هريرة عند أحمد شيخ لهيعة لم يسم - ولهيعة "مستور"، لم يوثقه غير ابن حبان، وقال ابن القطان: مجهول الحال.
ورواه الطبراني في "الأوسط" من حديث سلامة بن قيصر وفيه سهل بن بكر ضعيف، وزبان بن قائد ضعيف والحديث لا يصح كما قال البخاري لأن مداره على ابن لهيعة. وقد اختلفوا في إسناده.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وابن ماجه ووكيع في "الزهد"، وابن عدي في "الكامل" عن أبي هريرة، ورواه الطبراني في "الكبير" وابن عدي في "الكامل" وابن الجوزي في "الأحاديث الواهية" عن سهل بن سعد.
(2) أخرجه أحمد عن أبي هريرة وضعفه الألباني في "الضعيفة" رقم (31330/498/500) .(1/393)
(7) (أشعرت يا بلال إن الصائم تسبح عظامه، وتستغفر له الملائكة ما أُكل عنده) (1)
موضوع: فيه محمد بن عبد الرحمن القشيري:
قال أبو حاتم: متروك الحديث كان يكذب ويفتعل الحديث.
وقال الذهبي: متهم ليس بثقة.
وقال أبو الفتح الأزدي: كذاب متروك.
وقال الألباني: يكذب في الحديث فمثله يكون حديثه موضوعاً ولا كرامه.
(8) (إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي، فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه بالعشي إلا كانت نورا بين عينيه يوم القيامة) (2) .
ضعيف: فيه كيسان أبو عمر ضعفه الدارقطني والبيهقي وابن الملقن في "خلاصة البدر المنير" وابن حجر، وقال العراقي حديث ضعيف جدا. وضعّفه الحافظ الغساني (3) .
وما بين كيسان وبين علي غير معروف، وضعفه الألباني.
(9) (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله عز وجل إلى خلقه، وإذا نظر الله عز وجل إلى عبده لم يعذبه أبدا، ولله عز وجل في كل ليلة ألف ألف عتيق من النار) (4) .
موضوع. فيه عثمان بن عبد الله الشامي.
قال عنه الضياء المقدسي: متهم في روايته.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه، والبيهقي في "شعب الإيمان" وابن عساكر في "تاريخ دمشق" وحكم عليه بالوضع الألباني في "الضعيفة" رقم (31331/500-501) .
(2) أخرجه الطبراني، والدارقطني وعنه البيهقي عن علي موقوفا، وأخرجوه عن خباب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "الضعيفة" رقم (401 ج 1/394) .
(3) قال الغسائي في "تخريج الأحاديث الضعاف من سنن الدارقطني" (253) : عبد الصمد وكيسان ليسا بقويين.
(4) رواه ابن فنجويه في "مجلس من الأمالي في فضل رمضان" عن أبي هريرة مرفوعا ومن هذا الوجه الضياء المقدسي في "المختارة".(1/394)
وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" ثم قال "موضوع، وفيه مجاهيل، والمتهم به عثمان، يضع" وأقره السيوطي في "اللآليء" والألباني في "الضعيفة" (299 ج 1/313) .
(10) (إن الله ليس بتارك أحدا من المسلمين صبيحة أول يوم من شهر رمضان إلا غفر له) (1) .
موضوع: فيه سلام الطويل اتهمه غير واحد بالكذب والوضع وشيخه زياد بن ميمون وضاع باعترافه.
أورده ابن الجوزي في "الموضوعات"، وأقره الألباني.
(11) (سبحان الله ماذا تستقبلون، وماذا يستقبل بكم؟ قالها ثلاثا فقال عمر: يا رسول الله وحي نزل أو عدو حضر؟ قال: لا، ولكن الله يغفر في أول ليلة من رمضان لكل أهل هذه القبلة، قال: وفي ناحية القوم رجل يهز رأسه يقول بخ بخ!!، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كأنك ضاق صدرك مما سمعت؟ قال: لا والله يا رسول الله ولكن ذكرت المنافقين، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن المنافق كافر، وليس لكافر في ذا شيء) (2) .
منكر: فيه عمرو بن حمزة ضعفه الدارقطني، وقال البخاري والعقيلي: "لا يتابع على حديثه". وفيه خلف أبو الربيع لم يذكر له البخاري ولا ابن خزيمة ولا ابن أبي حاتم جرحاً ولا تعديلا.
قال الألباني: وجملة القول: أن هذا الحديث عندي منكر لتفرد هذين المجهولين به.
(12) (صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر) (3) .
منكر: الموقوف منه على عبد الرحمن بن عوف صحح إسناده الدارقطني والألباني.
__________
(1) رواه الخطيب (5/91) من طريق سلام الطويل عن زياد بن ميمون عن أنس مرفوعا. قاله الألباني في "الضعيفة" رقم (296 ج 1/310) .
(2) رواه الطبراني في "الأوسط" من زوائده، وأبو طاهر الأنباري في "مشيخته" وابن فنجويه في "فضل رمضان" والواحدي في "الوسيط" والدولابي في "الكنى" عن أنس بن مالك، ورواه البيهقي في "شعب الإيمان" وابن خزيمة قاله الألباني في "الضعيفة" رقم (298 ج 1/312-313) .
(3) رواه ابن ماجه، والضياء في "المختارة" عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن عوف مرفوعا. =(1/395)
أما المرفوع منه فله علتان:
الأولى: الانقطاع لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه كما في "الفتح".
الثانية: أسامة بن زيد في حفظه ضعف، وقد خالفه الثقة وهو ابن أبي ذئب قال البيهقي في "السن": روى مرفوعاً وإسناده ضعيف.
(13) (صام نوح عليه الصلاة والسلام الدهر إلا يوم الفطر ويوم الأضحى) (1)
ضعيف: قال البوصيري في "الزوائد": "هذا إسناد ضعيف لضعف ابن لهيعة".
(14) (الصائم في عبادة، ما لم يغتب) (2) .
منكر. وفيه عبد الرحيم بن هارون أورده الذهبي في "الضعفاء والمتروكين" وقال "كذبه الدارقطني" وقال الحافظ في "التقريب": "ضعيف، كذبه الدارقطني".
(15) (إن هاتين صامتا عما أحلّ الله، وأفطرتا على ما حرم الله عز وجل عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى، فجعلتا تأكلان لحوم الناس) (3)
ضعيف: سنده ضعيف بسبب الرجل الذي لم يسم. وقال الحافظ العراقي إنه مجهول.
وعند الطيالسي فيه الربيع بن صبيح ضعيف، ويزيد الرقاشي متروك.
__________
= ورواه النسائي، والفريابي في "الصيام عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه موقوفا" قاله الألباني في "الضعيفة" رقم (498 ج 1/505) .
(1) أخرجه ابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ... فذكره. ضعفه الألباني في (الضعيفة) رقم (459 ج 1/470-471) .
(2) أخرجه ابن عدي من طريق الحسن بن منصور ... عن أبي هريرة، وأورده السيوطي في "الجامع الكبير" وزاد "مسلما أو يؤذه" وذكره الألباني في "الضعيفة" رقم (1829 ج 4/311) .
(3) رواه أحمد عن رجل عن عبيد مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أن امرأتين صامتا، وأن رجلا قال: يا رسول الله: إن ها هنا امرأتين قد صامتا وإنهما كادتا أن تموتا من العطش، فأعرض عنه أو سكت، ثم عاد، وأراه قال بالهاجرة - قال: يا نبي الله إنهما والله قد ماتتا أو كادتا أن تموتا، قال: ادعهما، قال: فجاءتا، قال: فجيء بقدح أو عس، فقال لإحداهما: قيئي، فقاءت قيحا أو دما وصديدا ولحما، حتى قاءت نصف القدح، ثم قال للأخرى: قيئي، فقاءت من قيح ودم وصديد ولحم عبيط وغيره حتى ملأت القدح، ثم قال: فذكره. ورواه الطيالسي عن أنس" "الضعيفة" للألباني رقم (519 ج 2/10-11) .(1/396)
(16) (الصائم في عبادة وإن كان راقدا على فراشه) (1) .
ضعيف: رواه تمام وفي سنده: يحيى الزجاج، ومحمد بن هارون قال الألباني: لم أجد من ذكرهما. وفيه هاشم بن أبي هريرة لم يذكر ابن أبي حاتم فيه جرحاً ولا تعديلا.
وفي رواية الديلمي عن أنس: محمد بن أحمد بن سهل قال ابن عدي: هو ممن يضع الحديث.
ورواه عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" من قول أبي العالية موقوفا عليه "الصائم في عبادة وإن كان راقدا على فراشه ما لم يغتب".
(17) (رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواها من البلدان ... ) (2) .
باطل: رواية الطبراني فيها عبد الله بن كثير قال عنه الذهبي في "الميزان" وساق له هذا الحديث "لا يُدرى من ذا؟ وهذا باطل، والإسناد مظلم" وأقره الحافظ في "اللسان". وضعفه أيضاً الهيثمي.
ورواية أبي نعيم فيها عاصم بن عمر العمري ضعيف.
والهيثم بن بشر لم أجد فيه جرحاً ولا تعديلا قاله الألباني.
وطريق بن عساكر فيها عمر بن أبي بكر الموصلي قال عنه أبو حاتم: ذاهب الحديث متروك الحديث.
وفيها القاسم بن عبد الله العمري قال عنه الإمام أحمد: كان يكذب ويضع الحديث وكثير المزني متهم بالكذب.
(18) (من أدرك رمضان بمكة فصام وقام منه ما تيسر له، كتب الله له مائة ألف شهر رمضان فيما سواها، وكتب الله له بكل يوم عتق رقبة، وكل ليلة عتق رقبة، وكل
__________
(1) رواه تمام عن سلمان بن عامر الضبي مرفوعا، ورواه السيوطي في "الجامع الصغير" برواية الديلمي في "مسند الفردوس" عن أنس، انظر "الضعيفة" للألباني رقم (653 ج 2/106) .
(2) رواه الطبراني وابن عساكر عن بلال بن الحارث مرفوعا، وأخرجه أبو نعيم في "أخبار أصبهان" وبن عساكر.
ذكره الألباني في "الضعيفة" رقم (831 ج 2/230-231) .(1/397)
يوم حُملان فرس في سبيل الله، وفي كل يوم حسنة وفي كل ليلة حسنة) (1) .
موضوع: رواه ابن ماجه عن ابن عباس مرفوعا، وفيه عبد الرحيم بن زيد العَمِّي قال ابن معين فيه: "كذاب خبيث".
وقاك النسائي: "ليس بثقة ولا مأمون"، وقال ابن حاتم في "العلل": "هذا حديث منكر، وعبد الرحيم بن زيد متروك الحديث".
(19) (رمضان بمكة أفضل من ألف رمضان بغير مكة) (2) .
رواه البزار عن ابن عمر، وأورده السيوطي أيضاً وفيه عاصم بن عمر وهو ضعيف أعلّه الهيثمي به.
(20) (ليس ليوم فضل على يوم في الصيام إلا شهر رمضان ويوم عاشوراء) (3) .
منكر: أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، والطحاوي في "معاني الآثار"، وابن عدي والخطيب في "الأمالي" عن ابن عباس مرفوعا.
قال الألباني: "رجاله ثقات ولكن عبد الجبار بن الورد في حفظه ضعف كما قال البخاري: "يخالف في بعض حديثه".
وهذه الرواية الضعيفة تتعارض مع الأحاديث الأخرى التي تصرح بأن لبعض أيام أخرى غير يوم عاشوراء فضلاً على سائر الأيام كصيام يوم عرفة.
(21) (من صام يوم الأربعاء والخميس كتب له براءة من النار) (4) .
ضعيف: رواه أبو يعلى عن ابن عباس مرفوعا، وضعفه المنذري في "الترغيب" وبينّ السبب الهيثمي فقال: "فيه أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف".
(22) (من صام يوم عرفة كان له كفارة سنتين، ومن صام يوماً من المحرم فله بكل
__________
(1) "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للألباني رقم (831 ج 2/230) .
(2) "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للألباني رقم (ج 2/229) .
(3) "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للألباني رقم (285 ج 1/301-302) .
(4) "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للألباني رقم (480 ج 1/492) .(1/398)
يوم ثلاثون يوماً) (1) .
موضوع: تفرد به الهيثم بن حبيب اتهمه الذهبي بخبر باطل، وفيه سلام الطويل قال فيه ابن خراش "كذاب"، وقال ابن حبان: "يروي عن الثقات الموضوعات" وقال الحاكم "روى أحاديث موضوعة"، وابن أبي سليم ضعيف.
(23) (من صام يوماً من المحرم فله بكل يوم ثلاثون حسنة) (2)
موضوع: فيه سلام الطويل، وابن أبي سليم ضعيف، والهيثم بن حبيب مر في الحديث السابق.
(24) (نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة) (3)
ضعيف: حوشب بن عقيل وشيخه مهدي الهجري لم يخرج لهما البخاري وإن قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي.
بل إن الهجري مجهول كما قال ابن حزم في "المحلّى" وأقرّه الذهبي في "الميزان" وفي "التهذيب" عن ابن معين مثله. وضعف الحديث بن حزم، وبن القيم في "الزاد" (1/16، 237) ، وتساهل ابن خزيمة في تصحيح الحديث، وضعفه الألباني في "الضعيفة" رقم (404 ج 1/397-399) قال الألباني: "نقول هذا بياناً لحقيقة هذا الحديث، ولكي لا يغتر به جاهل فيحرم به صيام يوم عرفة على الحاج تمسكا بظاهر النهي، وإلاَّ فالأحب إلينا أن يفطر الحاج هذا اليوم لأنه أقوى له على أداء النسك، ولأنه هو الثابت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فعله في حجة الوداع.
لكن رواه الدولابي عن بن عمر موقوفاً عليه وسنده حسن".
__________
(1) أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير" من طريق الهيثم بن حبيب ثنا سلام الطويل عن حمزة الزيات عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن بن عباس مرفوعا وقال: "تفرد به الهيثم بن حبيب قاله الألباني في "السلسلة الضعيفة" رقم (412 ج 1/411) .
(2) أخرجه الطبراني في "الكبير" بنفس إسناد الحديث السابق عن بن عباس مرفوعاً. انظر "السلسلة الضعيفة" للألباني رقم (413 ج 1/412) .
(3) أخرجه أبو داود، وبن ماجه، والطحاوي في "مشكل الآثار" والعقيلي في "الضعفاء" والحربي في "غريب الحديث" والحاكم، والبيهقي من طريق حوشب بن عقيل عن مهدي الهجري عن عكرمة عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي!(1/399)
وروى بن سعد عن عمر نحوه وسنده ضعيف.
(25) (كان يستاك آخر النهار وهو صائم) (1) .
باطل: أعله ابن حبان بابن ميسرة وقال: "لا يُحتج به، ورفعه باطل، والصحيح عن ابن عمر من فعله" كذا في نصب الراية.
(26) (إن البرد ليس بطعام ولا بشراب) (2) .
منكر: فيه علي بن زيد بن جدعان ضعيف كما قال الحافظ، وقال شعبة "حدثنا علي بن زيد وكان رفاعا"، قال الألباني يعني أنه يخطئ فيرفع الحديث الموقوف وهذا هو علة هذا الحديث، فإن الثقات رووه عن أنس موقوفا على أبي طلحة خلافا لعلي بن زيد الذي رفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخطأ، فرفعه منكر، فقد أخرجه أحمد وبن عساكر من طريق شعبة عن قتادة وحميد عن أنس قال:
"مطرنا برداً وأبو طلحة صائم فجعل يأكل منه، قيل له: أتأكل وأنت صائم؟! فقال: إنما هذا بركة"!.
وسنده صحيح على شرط الشيخين، وصححه بن حزم في "الأحكام" (6/83) .
ورواه البزار موقوفاً وزاد "فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فكرهه، وقال: إنه يقطع الظمأ". قال البزار "لا نعلم هذا الفعل إلا عن أبي طلحة".
(27) (من أدرك رمضان، وعليه من رمضان شيء لم يقضه، لم يتقبل، ومن صام تطوعاً وعليه من رمضان شيء لم يقضه، فإنه لا يتقبل منه حتى يصومه) (3) .
ضعيف. أخرجه أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخرج الشطر الأول منه
__________
(1) رواه بن حبان في "كتاب الضعفاء" عن بن عمر مرفوعا.
ذكره الألباني في "السلسلة الضعيفة" رقم (402 ج 1/394-395) .
(2) أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" وأبو يعلى في "مسنده" والسلفي في "الطيوريات" وبن عساكر من طريق علي بن زيد بن جدعان من أنس قال: "مطرت السماء بردا فقال لنا أبو طلحة: ناولني من هذا البرد، فجعل يأكل وهو صائم وذلك في رمضان؛ فقلت: أتأكل البرد وأنت صائم؟ فقال: إنما هو برد نزل من السماء نطهر به بطوننا وأنه ليس بطعام ولا شراب! فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بذلك فقال: خذها عن عمك". انظر "الضعيفة" للألباني رقم (63 ج 1/85/86) .
(3) "الضعيفة" للألباني رقم (838 ج 2/235-236) .(1/400)
الطبراني في "الأوسط" وقال "تفرد به بن لهيعة".
قال الألباني "إن بن لهيعة كان يضطرب فيه على وجوه، فتاره يسمى تابعي الحديث عبد الله بن أبي رافع، وتارة يسميه عبد الله بن رافع، وتارة: عبد الله لا ينسبه، وتارة يرفع الحديث، وتارة يوقفه، والاضطراب علامة على أن الراوي لم يضبط حفظ الحديث.
ولذلك كان المضطرب من أقسام الحديث الضعيف.
ومما يؤكد ضعف الحديث ما رواه عن سعيد بن أبي عروبة عن رجل تتابع عليه رمضانان وفرط فيما بينهما؟ فأخبر عن قتادة عن صالح أبي الخليل عن مجاهد عن أبي هريرة أنه قال "يصوم الذي حضر، ويقضي الآخر، ويطعم لكل يوم مسكينا" (1) .
(28) (من اعتكف عشراً في رمضان كان كحجتين وعُمرتين) .
موضوع: "رواه البيهقي في "الشعب" من حديث الحسين بن علي مرفوعاً وقال: "إسناده ضعيف" ومحمد بن زاذان أحد رجاله متروك، وقال البخاري: لا يكتب حديثه" وفيه أيضاً عنبسة بن عبد الرحمن، قال البخاري: تركوه، وقال الذهبي في "الضعفاء" متروك متهم أي بالوضع، وقال عنه أبو حاتم "كان يضع الحديث"، وقال ابن حبان: صاحب أشياء موضوعة وما لا أصل له (2) .
(29) (من أفطر يوماً في شهر رمضان في الحضر فليهد بدنة، فإن لم يجد فليطعم ثلاثين صاعاً من تمر المساكين) .
موضوع: "أورده بن الجوزي في "الموضوعات" وأقرّه السيوطي في "اللآلئ" وفيه مقاتل بن سليمان: كذاب، قاله ابن الجوزي، وقال الذهبي عنه: غير ثقة، وخالد بن عمرو قال عنه الذهبي: تالف، كذّبه الفريابي ووهاه بن عدي والحارث بن عبيدة: ضعيف.
قال الذهبي: هذا حديث باطل" (3) .
__________
(1) قال الألباني: إسناده صحيح انظر "الضعيفة" (ج 2/236) .
(2) "السلسلة الضعيفة" للألباني رقم (518 ج 2/10) .
(3) "السلسلة الضعيفة" رقم (623 ج 2/88-89) .(1/401)
(30) (من أفطر "يعني في السفر" فرخصة، ومن صام فالصوم أفضل) .
ضعيف شاذ: محلول بالوقف فمحمد بن حازم "أبو معاوية الضرير" مثله يحتج به إذا لم يخالف، أو لم يختلف عليه كما وقع في هذا الإسناد، فأبو هاشم زياد بن أيوب رفعه، وبن أبي شيبة أوقفه.
فالصواب في هذا الحديث الواقف، وإنه شاذ مرفوعا (1) .
(31) (من كانت له حَمولة تأوي إلى شبع [وَرِيّ] فليصم رمضان حيث أدركه) (2) .
ضعيف: قال العقيلي فيه: عبد الصمد بن حبيب الأزدي لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به، وأورده البخاري في "الضعفاء" وقال: "ضعفه أحمد".
قال البخاري "منكر الحديث، ذاهب الحديث، ولم يعد البخاري هذا الحديث شيئاً. وفيه حبيب بن عبد الله قال الذهبي في "الميزان" وبن حجر في "التقريب" مجهول وضعفه هذا الحديث الحافظ بن عبد الهادي في رسالته "الأحاديث الضعيفة والموضوعة".
(32) (كان لا يمسّ من وجهي شيئاً وأنا صائمة. قالته عائشة) (3) .
منكر: رواه بن حبان في "صحيحه".
وعلة حديث الترجمة إنما هو تفرد محمد بن الأشعث بهما، وهو في عداد مجهولي الحال فقد أورده البخاري في "التاريخ الكبير" وبن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً.
قال الألباني: تفرد بهذا الحديث وخالف فيه الثقة وهو طلحة بن عبد الله بن عثمان
__________
(1) "السلسلة الضعيفة" رقم (932 ج 2/336) .
(2) أخرجه أبو داود، وأحمد، والعقيلي في "الضعفاء" عن سلمة بن المحبق الهذلي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. "السلسلة الضعيفة" للألباني رقم (981 ج 2/412) .
ومعنى الحديث: من كانت له حمولة تأويه إلى حال شبع ورفاهية أو إلى مقام يقدر فيه على الشبع ولم يلحقه في سفره وعثاء وشقة فليصم رمضان حيث أدركه.
(3) "السلسلة الضعيفة" رقم (958 ج 2/375-376) .(1/402)
القرشي الذي أثبت أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقبل عائشة وهي صائمة.
فيما رواه أحمد عن طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت:
"تناولني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: إني صائمة، فقال: وأنا صائم".
(33) (كان يحب أن يفطر على ثلاث تمرات، أو شيء لم تصبه النار) (1) .
ضعيف جدا: رواه العقيلي في "الضعفاء"، وأبو يعلى في "مسنده" واللفظ له وعنه الضياء في "المختارة" عن أنس مرفوعا.
وفيه عبد الواحد بن ثابت: قال عنه البخاري "منكر الحديث"، وقال العقيلي: "لا يتابع على هذا الحديث" وقال الهيثمي: ضعيف.
(34) (لا بأس بقضاء شهر رمضان مفرقا) (2) .
ضعيف: قال الألباني: "رواه الماليني في "الأربعين" عن بن عمر مرفوعا وفيه يحيى بن سليم الطائفي ضعيف لسوء حفظه.
وفيه محمد بن حسان الزاهد لم يذكر فيه جرح ولا تعديل.
ويقابل هذا حديث أبي هريرة المرفوع ولفظه "من كان عليه من رمضان شيء فَلْيَسرُدُه ولا يقطعه" حسن الإسناد عندي تبعا لابن القطان وابن التركماني؛ ولذلك أوردته في "الأحاديث الصحيحة".
(35) (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل العشر الأواخر من رمضان طوى فراشه واعتزل النساء وجعل عشاءه مسحوراً) (3) .
ضعيف: قال ابن رجب: رواه الطبراني عن أنس وفيه حفص بن واقد. قال ابن عدي: هذا الحديث من أنكر ما رأيت له.
__________
(1) "السلسلة الضعيفة" رقم (996 ج 2/424-425) .
(2) "الضعيفة" رقم (696 ج 2/136-137) .
(3) أخرجه ابن ماجه والبيهقي في "شعب الإيمان" ومن طريقه (بن عساكر في تاريخ دمشق) عن محمد بن عبد الرحمن عن سليمان بن بريدة عن أبيه. انظر "السلسلة الضعيفة" رقم (1331 ج 3/500-501) .(1/403)
(36) (إن الصائم إذا أُكل عنده صلت عليه الملائكة حتى يفرغوا وربما قال: حتى يقضوا أكلهم) (1) .
ضعيف: قال الترمذي "حديث حسن صحيح" وأقره المناوي في شرحية "الفيض" و"التيسير".
قال الألباني: فيه: ليلى مولاة لحبيب بن زيد لا تعرف، فقد أوردها الذهبي في فصل "النسوة المجهولات" وقال: تفرد عنها حبيب بن زيد.
(37) (الصائم إذا أَكَلَ عنده المفاطير صلت عليه الملائكة "حتى يمسي" (2)) .
منكر: بهذه الزيادة منكر، ولشريك وهو بن عبد الله القاضي سيء الحفظ.
(38) (مَن فطر صائما في رمضان من كسب حلال، صلت عليه الملائكة ليالي رمضان كلها، وصافحه جبريل، ومن يصافحه جبريل يرق قلبه، وتكثر دموعه. قال رجل: يا رسول الله! فإن لم يكن ذاك عنده؟ قال: قبضة من طعام: قال: أرأيت من لم يكن ذاك عنده؟ قال: ففلقت خبز. قال: أفرأيت إن لم يكن ذاك عنده؟ قال: فمَذْقة من لبن: قال: أفرأيت من لم يكن ذاك عنده؟ قال: فشربة من ماء) (3)
ضعيف: أخرجه ابن عدي في "الكامل" عن حكيم بن خِذام العبدي: نا علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن سلمان قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... فذكره وتابعه الحسن بن علي بن أبي جعفر عند ابن عدى.
وفي الطريقين عند ابن عدي:
1- علي بن زيد بن جدعان ضعيف لسوء حفظه.
__________
(1) أخرجه الترمذي والنسائي في "السنن الكبرى" والدارمي وابن خزيمة وابن ماجه وابن أبي شيبة وابن المبارك في "الزهد" وأحمد، وابن سعد في "الطبقات" وأبو يعلى في "مسنده"، وابن حبان، والطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في "الحلية" والبيهقي كلهم من طريق حبيب بن زيد الأنصاري.. عن أم عمارة بنت كعب "الضعيفة" رقم (1332 ج 3/502-503) .
(2) أخرجه الترمذي وابن خزيمة بإسناد واحد عن شريك عن حبيب بن زيد وليس عند الترمذي "حتى يمسي" وهو بهذه الزيادة منكر. "الضعيفة" ج 3/503) .
(3) "الضعيفة" رقم (1333 ج 3/503-504) .(1/404)
2- حكيم. قال أبو حاتم: "متروك الحديث" وقال البخاري: "منكر الحديث".
3- الحسن بن أبي جعفر ضعيف. فالحديث ضعيف قاله الألباني.
(39) (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فربما أخرّ ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة فيصوم شعبان) (1) .
ضعيف: رواه الطبراني في "الأوسط" عن عائشة.
قال ابن حجر في "فتح الباري" (4/252) : فيه ابن أبي ليلى ضعيف.
(40) (من صام يوماً لم يخرقه كُتبت له عشر حسنات) .
ضعيفٌ: رواه الطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم في "الحلية" عن البراء بن عازب مرفوعا.
قال الطبراني: لم يروه عن طلحة إلا أبو جناب، ولا عنه إلا إسحاق الأزرق، تفرد به عبد الرحمن بن عبد الوهاب.
قال أبو نعيم: "غريب من حديث طلحة، تفرد به إسحاق الأزرق".
وأبو جناب الكلبي يحيى بن أبي حية "ضعيف مدلس، فهو علة الحديث" (2) .
(41) (نعم السحور التمر، ونعم الإدام الخل، ورحم الله المتسحّرين) .
ضعيف: رواه أبو عوانة في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعا.
وفيه: خالد بن يزيد العمري قال عنه الذهبي: كذبه أبو حاتم ويحيى، قال ابن حبان: يروى الموضوعات عن الأثبات.
(42) (تسحروا ولو بشربة من ماء، وأفطروا ولو على شربة ماء) .
موضوع: رواه ابن عدي عن علي مرفوعا.
وفيه حسين بن عبد الله بن ضميرة: كذّبه مالك وأبو حاتم وابن الجارود وقال البخاري: "منكر الحديث"، وقال ابن حبان في "الضعفاء": يروي عن أبيه عن جده
__________
(1) "فتح الباري" (4/252) .
(2) كلام الألباني في "الضعيفة" رقم (1327 ج 3/496) .(1/405)
بنسخة موضوعة، وقال ابن عدي عنه: "منكر الحديث".
(43) (الصيام جُنّة ما لم يخرقها بكذب أو غيبة) (1) .
ضعيف جدا: أخرجه ابن عدي والطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة مرفوعا وفيه الربيع بن بدر وهو ضعيف جدا، ولم يروه عن يونس إلا الربيع.
(44) (ليتقِه الصائمُ. يعني الكحل) (2) .
منكر: أخرجه أبو داود والبيهقي ولفظ البيهقي "لا تكتحل بالنهار وأنت صائم، اكتحل ليلا. وفيه علتان:
الأولى: ضعف عبد الرحمن بن النعمان، وبه أعله المنذري، فقال في "مختصر السنن" "قال: يحيى بن معين: ضعيف، وضعفه الذهبي.
الثانية: جهالة النعمان بن معبد: وأشار إلى ذلك شيخ الإسلام بن تيمية في رسالة "الصيام" وقال فيه الذهبي: غير معروف، وقال الحافظ: مجهول.
(45) (مر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأناس من اليهود قد صاموا يوم عاشوراء، فقال: ما هذا الصوم؟ قالوا: هذا اليوم الذي نجى الله موسى وبني إسرائيل من الغرق، وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي، فصامه نوح وموسى شكراً لله تعالى، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا أحق ... ) الحديث.
رواه أحمد من حديث أبي هريرة.
وفي إسناده حبيب بن عبد الله الأزدي قال الحافظ في "التقريب" مجهول.
قال الألباني: فلم يحسن صنعاً حين سكت عليه في "الفتح" (4/214) .
(46) (صوم أول يوم من رجب كفارة ثلاث سنين، والثاني كفارة سنتين، والثالث كفارة سنة، ثم كل يوم شهرا) (3)
ضعيف: أخرجه أبو محمد الخلال في "فضائل رجب" عن ابن عباس.
__________
(1) "الضعيفة" رقم (1440 ج 3/631) .
(2) "الضعيفة" رقم (1014 ج 3/75-76) .
(3) ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (3499 ج 3/272) .(1/406)
(47) (صوموا، فإن الصيام جنة من النار ومن بوائق الدهر) (1) .
ضعيف: رواه ابن النجار عن أبي مليكة.
(48) (صوم يوم الترويه كفارة سنة، وصوم يوم عرفة كفارة سنتين) (2) .
موضوع: رواه أبو الشيخ في "الثواب" وابن النجار عن ابن عباس مرفوعا. ضعفه السيوطي. وأورده الديلمي في "مسند الفردوس" وفيه محمد بن السائب الكلبي قال الحافظ: متهم بالكذب، وفيه على بن علي الحميري لم يذكر فيه ابن أبي حاتم جرحاً ولا تعديلا.
(49) (صوموا أيام البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، هن كنز الدهر) (3) .
ضعيف: قال الألباني: "رواه أبو ذر الهروي في "جزء من حديثه" عن قتادة ابن ملحان.
(50) (صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود، صوموا قبله يوماً، وبعده يوماً) .
ضعيف: رواه أحمد والبيهقي عن ابن عباس وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (3508) .
(51) (صوموا يوم عاشوراء يوم كانت الأنبياء تصومه فصوموه أنتم) (4) .
ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" عن أبي هريرة مرفوعا.
قال الألباني: وهذا منكر بهذا اللفظ، وعلّته الهجري واسمه إبراهيم بن مسلم. قال الحافظ؛ "لين الحديث".
__________
(1) "ضعيف الجامع" رقم (3501 ج 3/272) .
(2) قال في "الارواء" رقم (956 ج 4/112-113) : ضعيف على أحسن الأحوال وقال في "ضعيف الجامع": موضوع انظر "ضعيف الجامع" رقم (3500 ج 3/272) .
(3) "ضعيف الجامع" رقم (3505 ج 3/273) .
(4) "الإرواء" حديث رقم (955 ج 4/112) ، "ضعيف الجامع" رقم (3509 ج 3/273-274) .(1/407)
(52) (صيام يوم عرفة كصيام ألف يوم) .
رواه ابن حبان عن عائشة وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (3525 ج 3/277) .
(53) (الصائم بعد رمضان كالكار بعد الفار) .
ضعيف: رواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن عباس، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (3529 ج 3/278) قال المناوي: "فيه اسماعيل بن بشير قال العقيلي متهم بالوضع".
(54) (الصائم المتطوع بالخيار، ما بينه وبين نصف النهار) (1) .
ضعيف.
(55) (الصائم في عبادة من حين يصبح إلى أن يُمسي ما لم يغتب، فإذا اغتاب خرق صومه) (2) .
موضوع: رواه الديلمي في "مسند الفردوس" عن أبي هريرة، وحكم عليه بالوضع الألباني في "ضعيف الجامع" (3531 ج 3/278) .
(56) (الصوم يُدِقُ المصير (3) ، ويُذبِل اللحم ويُبعِد من حر السعير، إن لله مائدة عليها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لا يعقد عليها إلا الصائمون) (4) .
ضعيف: ضعفه السيوطي في "الجامع الصغير"، وقال المناوي "قال الهيثمي: فيه
__________
(1) ضعيف: رواه البيهقي في "سننه" عن أنس وأبي أمامة وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (3528 ج 3/278) ، و"الارواء" رقم (965) . قال المناوي في "فيض القدير" (4/231) : "قال أعني البيهقي عون بن عمارة، وعون ضعيف وفي حديث أبي أمامة جعفر بن الزبير قال الذهبي وجعفر متروك فيه، وفي حديث أبي ذر إبراهيم بن مزاحم وسريع بن نبهان قال الذهبي: وإبراهيم وسريع مجهولان".
(2) أشار السيوطي إلى ضعفه في "الجامع الصغير".
(2) المصير: الأمعاء، ويدقها أي يصيرها دقيقة، والدقة ضد الغلط.
(4) ضعيف: رواه الطبراني في "الأوسط"، وأبو القاسم بن بشران في "أماليه" عن أنس انظر "ضعيف الجامع الصغير" رقم (3561 ج 3/285) .(1/408)
عبد المجيد بن كثير الحرالي لم أجد من ترجمة"، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع الصغير".
(57) (الصيام جنة حصينة من النار) (1) .
ضعيف: ضعفه المناوي في "فيض القدير" قال: وفيه يوسف بن يعقوب القاضي قال الذهبي في "الضعفاء": "مجهول، وأحمد بن عيسى وابن لهيعة ضعيفان" (2) .
وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع الصغير".
(58) (الصيام جنة ما لم يخرقها) (3) .
ضعيف: ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع الصغير".
(59) (الصيام لا رياء فيه، قال الله تعالى "هو لي وأنا أجزى به" يدع طعامه وشرابه من أجلى) .
ضعيف جدا: رواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن أبي هريرة.
وضعفه ابن حجر في "الفتح" (4/129) والسيوطي في "الجامع الصغير" والألباني في "ضعيف الجامع الصغير" رقم (3582 ج 3/289) .
(60) (ليس مِن امبِر امصيام في امسفر) (4) .
شاذ بهذا اللفظ:
قال الألباني: "أخرجه أحمد عن معمر عن الزهري عن صفوان بن عبد الله عن أم الدرداء عن كعب بن عاصم الأشعري -وكان من أصحاب السقيفة- قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره.
قلت: وهذا إسناد ظاهره الصحة، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم، وعلته الشذوذ
__________
(1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن جابر "ضعيف الجامع الصغير" رقم (3579 ج 3/289) .
(2) "فيض القدير" (4/250) .
(3) رواه النسائي، والبيهقي في "سننه" عن أبي عبيدة. انظر "ضعيف الجامع الصغير" رقم (3580 ج 3/289) .
(4) "السلسلة الضعيفة" رقم (1130 ج 3/264-265) .(1/409)
ومخالفة الجماعة. فقد قال أحمد "ثنا سفيان عن الزهري به بلفظ "ليس من البر الصيام في السفر".
وتابعه عليه ابن جريج ويونس ومحمد بن أبي حفصة والزبيدي كلهم رووه عن الزهري بلفظ سفيان.
وتابعهم معمر نفسه عند البيهقي وقال: "وهو المحفوظ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وليس يشك عالم بأن اللفظ الذي وافق معمر الثقات عليه، هو الصحيح الذي ينبغي الأخذ به والركون إليه بخلاف اللفظ الآخر الذي خالفهم فيه فإنه ضعيف لا يعتمد عليه.
وإن مما يؤكد وهم معمر في هذا اللفظ الذي شذ به عن الجماعة أن الحديث قد ورد عن جماعة آخرين من الصحابة، مثل جابر بن عبد الله، وعبد الله بن أبي برزة، وعبد الله ابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وعمار بن ياسر وأبي الدرداء، جاء ذلك عنهم من طرق كثيرة، وكلها أجمعت على روايته باللفظ الثاني الذي رواه الجماعة.
وإنما عنيت هنا عناية خاصة لبيان ضعف الحديث بهذا اللفظ لشهرته عند علماء اللغة والأدب، ولقول الحافظ ابن حجر في "التلخيص".
"هذه لغة لبعض أهل اليمن، يجعلون لام التعريف ميما، ويحتمل أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاطب بها هذا الأشعري (يعني: كعب بن عاصم) كذلك لأنها لغته، ويحتمل أن يكون الأشعري هذا نطق بها على ما ألف من لغته، فحملها الراوي عنه، وأداها باللفظ الذي يسمعها به. وهذا الثاني أوجه عندي. والله أعلم".
فأقول: إن إيراد الحافظ -رحمه الله تعالى- هذين الاحتمالين قد يشعر القارئ لكلامه أن الرواية ثبتت بهذا اللفظ عن الأشعري، ورجّح الثاني. وهذا الترجيح لا داعي إليه، بعد أن أثبتنا أنه وهم من معمر، فلم يتكلم به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا الأشعري، بل ولا صفوان ابن عبد الله، ولا الزهري. فليعلم هذا فإنه عزيز نفيس إن شاء الله" ا. هـ.
(61) (أوصيك يا أبا هريرة! خصال أربع لا تدعهن ما بقيت، أوصيك بالغسل يوم الجمعة، والبكور إليها، ولا تلغ أو لا تله، وأوصيك بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، فإنه صوم الدهر، وأوصيك بركعتي الفجر، لا تدعهما وإن صليت الليل كله، فإن(1/410)
فيهما الرغائب، قالها ثلاثا) (1) .
ضعيف جدا: رواه ابن عدي من طريق أبي يعلى عن سليمان بن داود اليمامي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال ابن عدي: "سليمان بن داود، عامة ما يرويه بهذا الإسناد لا يتابعه أحد عليه".
قال الألباني: قلت: وقال البخاري: "منكر الحديث"، وقال الذهبي: "وقد مر لنا أن البخاري قال: مَنْ قلت فيه: منكر الحديث، فلا تحل رواية حديثه" وقال ابن حبان: "ضعيف". وقال آخر: "متروك".
(62) (أول شهر رمضان رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار) (2) .
منكر: قال العقيلي: "لا أصل له من حديث الزهري".
وقال ابن عدي: "وسلام هو عندي منكر الحديث، ومسلمة ليس بالمعروف" وكذا قال الذهبي:
ومسلمة بن الصلت: قال فيه أبو حاتم: "متروك الحديث" كما في ترجمته في "الميزان".
(63) (تحفة الصائم الزائر أن تُغَلَّف لحيته، وتجمر ثيابه، ويُذَرَّرُ، وتحفة المرأة الصائمة أن تُمشط رأسها، وتجمر ثيابها وتُذَرَّ) (3) .
موضوع: محمد بن موسى الحرشي قال الحافظ "لين"، وهيبرة بن حدير قال يحيى معين: "لا شيء"، وعمير بن مأموم، قال الدارقطني: لا شيء، وسعيد بن طريف قال عنه ابن عدي: أحاديثه كلها لا يرويها غيره، وقال ابن معين: لا يحل لأحد أن يروى عنه،
__________
(1) "السلسلة الضعيفة" رقم (1534 ج 4/44-45) .
(2) "السلسلة الضعيفة" رقم (1569 ج 4/70-71) .
أخرجه العقيلي في "الضعفاء"، وابن عدي، والخطيب في "الموضح" والديلمي، وابن عساكر عن سلام بن سوار بن الصلت عن مسلمة بن الصلت عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره.
(3) رواه ابن عدي عن محمد بن موسى الحرشي ثنا هبيرة بن حدير العدوى ثنا سعد الحذاء عن عمير بن مأموم عن الحسن بن علي قال: سمعت أبي، وحدثني -يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الضعيفة" رقم (1789 ج 4/274) .(1/411)
وقال ابن حبان "كان يضع الحديث على الفور".
(64) (ثلاثة لا يسألون عن نعيم المطعم والمشرب: المفطر، والمتسحر، وصاحب الضيف. وثلاثة لا يلامون على سوء الخلق: المريض، والصائم حتى يفطر، والإمام العادل) (1) .
موضوع: أخرجه الديلمي في "مسنده من طريق مجاشع بن عمرو ... عن أبي هريرة مرفوعا.
قال الألباني: "وهذا موضوع، آفته مجاشع بن عمرو، قال ابن حبان في "الضعفاء" "كان ممن يضع الحديث على الثقات، ويروى الموضوعات عن أقوام ثقات، لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل القدح فيه".
(65) (خمس تفطر الصائم وتنقض الوضوء: الكذب، والغيبة والنميمة، والنظر بالشهوة، واليمين الفاجرة) (2) .
موضوع: رواه أبو القاسم الخرقي في "عشر مجالس من الأمالي" عن محمد بن الحجاج الحمصي عن جابان عن أنس مرفوعا.
والحديث أورده ابن الجوزي في "الموضوعات" من هذه الطريق وقال: "موضوع"، وأقره السيوطي في "اللآلي"، وزاد ابن عراق في "تنزيه الشريعة" فقال: "قلت: رواه أبو الفتح الأزدي في "الضعفاء" في ترجمة محمد بن الحجاج الحمصي وأعله به، وقال: لا يكتب حديثه، وقال ابن حاتم في "العلل" سألت أبي عن هذا الحديث؟ فقال: هذا حديث كذب انتهى".
(66) (ما صام من ظل يأكل لحوم الناس) (3) .
ضعيف: رواه الديلمي في "الفردوس" عن أنس، وضعفه الألباني في "ضعيف
__________
(1) "السلسلة الضعيفة" رقم (1980 ج 4/447) .
(2) "السلسلة الضعيفة" رقم (1708 ج 4/199) .
(3) "ضعيف الجامع الصغير" (ج 5/98 رقم 5085) .(1/412)
الجامع الصغير" رقم (5085 ج 5/98) .
(67) (للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة) (1) .
ضعيف. رواه الطيالسي، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمرو وضعفه الألباني في "الإرواء" رقم (893) ، و"ضعيف الجامع" (4750 ج 5/28) .
(68) (من صام يوماً تطوعا، لم يطلع عليه أحد، لم يرض الله له بثواب دون الجنة) .
موضوع: رواه الخطيب عن سهل بن سعد.
قال المناوي: "فيه عصام بن الوضاح قال الذهبي: له مناكير قال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به" (2) .
وقال الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" "موضوع" (3) .
(69) (من صام ثلاثة أيام من شهر حرام: الخميس والجمعة والسبت، كُتب له عبادة سنتين) (4)
ضعيف: رواه الطبراني في "الأوسط" من حديث يعقوب بن موسى المدني عن مسلمة عن أنس بن مالك.
قال المناوي في "فيض القدير" (6/136) : "قال الهيثمي: ويعقوب مجهول، ومسلمة إن كان الخشني فهو ضعيف، وإن كان غيره فلم أعرفه".
وضعفه أيضاً الألباني.
(70) (من صام رمضان، وستاً من شوالا، والأربعاء والخميس دخل الجنة) (5) .
ضعيف: رواه أحمد في "مسنده" عن رجل لم يسم وهو العريف.
__________
(1) "الإرواء" رقم (893) .
(2) "فيض القدير" (6/162) .
(3) "ضعيف الجامع الصغير" رقم (5664 ج 5/211) .
(4) "ضعيف الجامع الصغير" رقم (5661 ج 5/210) .
(5) "ضعيف الجامع الصغير" رقم (5662 ج 5/210) .(1/413)
وقال الهيثمي: فيه من لم يسم، وبقية رجاله ثقات، وضعفه الألباني.
(71) (من صام رمضان وعرف حدوده وتحفظ ما ينبغي أن يتحفظ، كفر ما قبله) .
ضعيف: أخرجه ابن حبان في صحيحه واللفظ له، وأحمد وأبو يعلى وابن المبارك في "الزهد" "وفيه عبد الله بن قرط لم يوثقه غير ابن حبان، ولم يرو عنه غير يحيى بن أيوب، وأورده ابن أبي حاتم (5/140) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلا، وقال الحسيني في "رجال المسند": "مجهول" (1) .
(72) (من صام من كل شهر حرام: الخميس، والجمعة، والسبت، كتبت له عبادة سبعمائة سنة) .
ضعيف: رواه تمام الرازي في "فوائده" عن أنس عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الحافظ ابن حجر في "تبيين العجب بما ورد في فضل رجب" (ص 24) : "في سنده ضعفاء ومجاهيل".
(73) (إن في الجنة نهرا يقال له رجب: ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، من صام يوماً من رجب سقاه الله من ذلك النهر) .
ضعيف: قال ابن حجر "أورده أبو سعيد النقاش في كتاب "فضل الصيام"، ورواه أبو الشيخ في "فضل الصوم"، ورواه البيهقي في "فضائل الأوقات" عن أنس بن مالك، ورواه ابن شاهين "في كتاب الترغيب والترهيب" قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية": "فيه مجاهيل".
أما موسى بن عمران، فلا يُدرى من هو.
وأما منصور بن زيد فلم أقف فيه للمتقدمين على جرح ولا تعديل.
وقال الذهبي: "الخبر باطل" (2) .
__________
(1) "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان - تحقيق الأرناؤوط" (ص 8 ص 220) .
(2) "تبيين العجب بما ورد في فضل رجب" (ص 26-30) لابن حجر -علق عليه إبراهيم يحيى أحمد- مكتبة سليم الحديثة.(1/414)
(74) (كان إذا دخل رجب قال: اللهم بارك لنا في رجب، وشعبان، وبلغنا رمضان) .
ضعيف: رواه البزار في "مسنده"، والطبراني في "الأوسط" والبيهقي في "فضائل الأوقات" عن أنس.
وضعفه ابن حجر في "تبيين العجب" (30-32) .
فيه زائدة بن أبي الرقاد: قال فيه أبو حاتم يحدث عن زياد النميري، عن أنس أحاديث مرفوعة منكرة، فلا يدري منه، أو من زياد.
وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي في "السنن" لا أدري من هو. وقال ابن حبان: لا يحتج بخبره".
(75) (عن أبي هريرة رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصم بعد رمضان إلا رجب وشعبان) .
حديث منكر: قاله ابن حجر في "تبيين العجب" (ص 32) "من أجل يوسف بن عطية فإنه ضعيف جدا".
(76) (رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي)
باطل موضوع: قال ابن حجر في "تبيين العجب" (33) وقال:
"رواه أبو بكر النقاش المفسر. وسنده مركب، ولا يعرف لعلقمة سماع من أبي سعيد، والكسائي المذكور في "السند" لا يدري من هو، والعهدة في هذا الإسناد على النقاش وأبو بكر النقاش: ضعيف متروك الحديث قاله الذهبي في "الميزان".
(77) (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم: رجب، لا يقارنه من الأشهر أحد، ولذلك يقال له: شهر الله الأصم، وثلاثة أشهر متواليات: يعني ذا القعدة وذا الحجة، ومحرم،.
ألا وإن رجباً شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي. فمن صام من رجب يوماً إيماناً واحتساباً استوجب رضوان الله الأكبر، وأسكنه الله الفردوس الأعلى،(1/415)
ومن صام من رجب يومين فله من الأجر ضعفان، وزن كل ضعف مثل جبال الدنيا، ومن صام من رجب ثلاثة أيام جعل الله بينه وبين النار خندقا، طول مسيرة ذلك اليوم سنة.
ومن صام من رجب أربعة أيام عوفي من البلاء، ومن الجذام، والجنون، والبرص، ومن فتنة المسيخ الدجال، ومن عذاب القبر.
ومن صام من رجب خمسة أيام وقي عذاب القبر.
ومن صام من رجب ستة أيام خرج من قبره ووجهه أضوأ من القمر ليلة البدر.
ومن صام من رجب سبعة أيام فإن لجهنم سبعة أبواب، يغلق الله -تعالى- عنه بصوم كل يوم باباً من أبوابها.
ومن صام من رجب ثمانية أيام فإن للجنة ثمانية أبواب، يفتح الله له بكل صوم يوم باباً من أبوابها.
ومن صام من رجب تسعة أيام خرج من قبره وهو ينادي: لا إله إلا الله، فلا يرد وجهه دون الجنة.
ومن صام من رجب عشرة أيام جعل الله له على كل ميل على الصراط فراشا يستريح عليه.
ومن صام من رجب أحد عشر يوماً لم يواف عبد يوم القيامة بأفضل منه إلا من صام مثله، أو زاد عليه.
ومن صام من رجب اثني عشر يوماً كساه الله يوم القيامة حليتين الحلة الواحدة خير من الدنيا وما فيها
ومن صام من رجب ثلاثة عشر يوماً وضع له يوم القيامة مائدة في ظل العرش، فأكل عليها والناس في شدة شديدة.
ومن صام من رجب - أربعة عشر يوماً أعطاه الله من الثواب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.(1/416)
ومن صام من رجب خمسة عشر يوماً وقفه الله يوم القيامة موقف الآمنين) .
موضوع، رواه الحافظ محمد بن ناصر في "أماليه" عن أبي سعيد الخدري وفيه أبو بكر محمد بن الحسن النقاش، والكسائي.
أما النقاش فقد قال عنه ابن حجر في "تبيين العجب" (ص 36) :
"النقاش وضاع رجال، فوالله ما حدث أبو معاوية، ولا من فوقه بشيء من هذا قط.
وليس الكسائي على بن حمزة القدسي النحوي، فقد جزم بأنه غيره - الإمام أبو الخطاب ابن دحية، فقال: الكسائي المذكور لا يدري من هو.
وقال بعد أن أخرج الحديث: هذا موضوع.
قال ابن حجر: وللحديث طريق أخرى واهية، وفي رواتها مجاهيل، عند ابن عساكر في "أماليه" وفيها زيادة ونقص وفيها:
(من صام من رجب ستة عشر يوماً كان في أوائل من يزور الرحمن وينظر إلى وجهه، ويسمع كلامه. ومن صام من رجب سبعة عشر يوماً نصب الله على كل ميل من الصراط استراحة يستريح محليها.
ومن صام من رجب ثمانية عشر يوماً زاحم إبراهيم في قبته.
ومن صام من رجب تسعة عشر يوماً بنى الله له قصراً تجاه إبراهيم وآدم، يسلم عليهما، ويسلمان عليه. ومن صام من رجب عشرين يوماً نادى مناد من عند الله: أما ما مضى فقد غفرت لك، فأستأنف العمل)
(78) (خيرة الله من الشهور، وهو شهر الله من عظم شهر رجب فقد عظم أمر الله أدخله جنات النعيم، وأوجب له رضوانه الأكبر.
وشعبان شهري، فمن عظمّ شهر شعبان فقد عظم أمري، ومن عظم أمري كنت له فرطاً وذخراً يوم القيامة.
وشهر رمضان شهر أمتي، فمن عظم شهر رمضان، وعظم حرمته، ولم ينتهكه، وصام نهاره، وقام ليله، وحفظ جوارحه، خرج من رمضان وليس عليه ذنب يطالبه(1/417)
الله تعالى به) .
موضوع: قال ابن حجر في "تبيين العجب" (37-38) :
"قال البيهقي: هذا حديث منكر بمرة.
قلت: بل هو موضوع ظاهر الوضع، بل هو من وضع نوح الجامع وهو أبو عصمة الدين.
قال عنه ابن المبارك، لماّ ذكره لوكيع: عندنا شيخ يقال له: أبو عصمة، كان يضع الحديث. وهو الذي كانوا يقولون فيه: نوح الجامع جمع كل شيء إلا الصدق.
وقال الخليلي: أجمعوا على ضعفه".
(79) (فضل رجب على سائر الشهور كفضل القرآن على سائر الأذكار، وفضل شعبان على سائر الشهور، كفضل محمد على سائر الأنبياء، وفضل رمضان على سائر الشهور، كفضل الله على عباده) .
موضوع: قال ابن حجر في "تبيين العجب" (ص 39) : "السقطي هو الآفة، وكان مشهورا بوضع الحديث، وتركيب الأسانيد".
(80) (رجب شهر الله الأصم. ومن صام من رجب يوماً إيماناً واحتساباً استوجب رضوان الله الأكبر) .
موضوع: قال ابن حجر في "تبيين العجب" (ص 40) "متن لا أصل له".
(81) (من صام ثلاثة أيام من رجب كتب الله له صيام شهر، ومن صام سبعة أيام أغلق عنه سبعة أبواب النار، ومن صام ثمانية أيام فتح الله له ثمانية أبواب الجنة.
ومن صام نصف رجب كتب الله له رضوانه، ومن كتب الله له رضوانه لم يعذبه. ومن صام رجب كله حاسبه حساباً يسيرا) .
موضوع: رواه أبو القاسم السمرقندي في "فضل رجب" عن أبان بن أبي عياش من حديث أنس: وحكم عليه بالوضع ابن حجر في "تبيين العجب" (ص 40-41) وفيه عمر بن الأزهري: قال البخاري يرمى بالكذب كما في "الميزان".(1/418)
وكذبه يحيى بن معين.
وأبان بن عياش: ضعيف، قال شعبة: "لأن أشرب من بول حمار حتى أروى أحبّ إلي من أن أحدث عن أبان بن عياش" كما في "الميزان" (ج 1/10) .
(82) (رجب من أشهر الحرم، وأيامه مكتوبة على أبواب السماء السادسة، فإذا صام الرجل منه يوماً، وجوّد صومه بتقوى الله، نطق الباب ونطق اليوم، فقالا: يارب اغفر له. وإذا لم يتم صومه بتقوى الله لم يستغفرا له) .
موضوع: قال ابن حجر في "تبيين العجب" (42) : "في إسناده إسماعيل بن يحيى التميمي، وهو مذكور بالكذب".
(83) (من صام يوماً من رجب كان كصيام سنة، ومن صام سبعة أيام غلقت عنه أبواب جهنم. ومن صام ثمانية أيام فتحت له ثمانية أبواب الجنة ومن صام عشرة أيام لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه. ومن صام خمسة عشرة يوماً نادى مناد من السماء قد غفر لك ما سلف، فاستأنف العمل. ومن زاد زاده الله وفي شهر رجب حمل نوح السفينة فصام، وأمر من معه أن يصوموا) .
موضوع: رواه البيهقي في "فضائل الأوقات" قال ابن حجر: فيه عثمان بن مطر كذّبه ابن حبان، وأجمع الأئمة على ضعفه.
(84) (من صام يوماً من رجب، وصلى فيه أربع ركعات، يقرأ في أول ركعة مائة مرة آية الكرسي، وفي الركعة الثانية قل هو الله أحد مائة مرة، لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة أو يرى له) .
موضوع: قال ابن حجر "هذا حديث موضوع على رسول الله. وأكثر رواته مجاهيل، عثمان بن عطاء متروك عند المحدثين".
(85) حديث صلاة الرغائب:
(رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي. قيل: يا رسول الله ما معنى قولك: رجب شهر الله؟ قال. لأنه مخصوص بالمغفرة، وفيه تحقن الدماء، وفيه تاب الله على أنبيائه، وفيه أنقذ أولياءه من بلاء عذابه. ومن صامه استوجب على الله(1/419)
ثلاثة أشياء: مغفرة لجميع ما سلف من ذنوبه، وعصمته فيما بقي من عمره، وأماناً من العطش يوم العرض الأكبر. فقام شيخ ضعيف فقال: يا رسول الله، إني لأعجز عن صيامه كله. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صم أول يوم منه، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وأوسط يوم منه، وآخر يوم منه - فإنك تعطى ثواب من صام كله: ولكن لا تغفلوا عن أول ليلة جمعة في رجب، فإنها ليلة تسميها الملائكة: الرغائب. وذلك أنه إذا مضى ثلث الليل لا يبقى ملك في جميع السماوت والأرض إلا ويجتمعون في الكعبة وحواليها، ويطلع الله عزّ وجل عليهم اطلاعه، فيقول: ملائكتي، سلوني ما شئتم. فيقولون: يا ربنا حاجتنا إليك: أن تغفر لصوام رجب. فيقول الله عز وجل: قد فعلت: ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وما من أحد يصوم يوم الخميس، أول خميس من رجب، ثم يصلي فيما بين العشاء والعتمة، يعني ليلة الجمعة: اثنتي عشر ركعة) يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة، وإنا أنزلناه في ليلة القدر ثلاث مرات، وقل هو الله أحد، اثنتي عشر مرة، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة، فإذا فرغ من صلاته صلى سبعين مرة، يقول: اللهم صلى على محمد النبي الأمي، وعلى آله، ثم يسجد، فيقول في سجوده: سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبعين مرة، ثم يرفع رأسه ... " الحديث.
موضوع: قال ابن حجر "وقد اتهموا به علي بن جهضم، فنسبوه إلى الكذب وسمعت شيخنا عبد الوهاب الحافظ، يقول: رجاله مجهولون. وقد فتشت عليهم جميع الكتب فما وجدتهم. وقال الحافظ: شيخ علي: علي بن محمد بن سعيد البصري مجهول، وشيخه مجهول قال المصنف. ولقد أبدع من وصفها، فإنه يحتاج من يصليها إلى أن يصوم، وربما كان النهار شديد الحر، فإذا صام لم يتمكن من الأكل حتى يصلي المغرب، ثم يقف فيها، ويقع في ذلك التسبيح الطويل، والسجود الطويل، فيتأذى غاية الأذى: وإني لأغار لرمضان ولصلاة التراويح. كيف زوحم بهذه؟ بل هذه عند العوام أعظم وأجل، فإنه يحضرها من لا يحضر الجماعات".
(86) (إن شهررجب شهر عظيم، من صام منه يوماً كتب الله له صوم ألف سنة، ومن صام يومين كتب له صوم ألفي سنة، ومن صام منه ثلاثة أيام، كتب الله له صوم ثلاثة آلاف سنة، ومن صام منه سبعة أيام غلقت عنه أبواب جهنم، ومن صام منه ثمانية(1/420)
أيام فتحت له أبواب الجنة الثمانية، فيدخل من أيها شاء، ومن صام خمسة عشر بدلت سيئاته حسنات ونادى مناد من السماء قد غفر لك، فاستأنف العمل، ومن زاد زاده الله) .
موضوع: قال ابن حجر "هو حديث موضوع، لا شك فيه. والمتهم به الختلي أي إسحاق بن إبراهيم الختلي".
(87) (من صام يوماً من رجب عدل صيام شهر، ومن صام منه سبعة أيام غلقت عنه أبواب الجحيم، ومن صام منه ثمانية أيام فتحت له أبواب الجنة الثمانية، ومن صام عشرة أيام بدّل الله سيئاته حسنات، ومن صام ثمانية عشر نادى منادٍ قد غفر الله لك ما مضى - فاستأنف العمل) .
موضوع: قال ابن حجر: رشدين بن سعد والحكم بن مروان متروكان.
(88) (في رجب يوم وليلة من صام ذلك اليوم، وقام تلك الليلة كان كمن صام من الدهر مائة سنة، وقام مائة سنة، وهو لثلاث بقين من رجب، وفيه، بعث الله محمدا) .
منكر للغاية: قال ابن حجر "هذا حديث منكر إلى الغاية. وهيام بن بسطام الهروي: ضعفه ابن معين، وقال أبو داود: تركوه. وقال جزرة: الهياج منكر الحديث وخالد بن الهياج يروى المناكير".
(89) (بعثت نبيا السابع والعشرين من رجب فمن صام ذلك اليوم كان كفارة ستين شهرا) .
إسناده منكر: رواه هناد النسفي في "فوائده" عن أنس. وقال ابن حجر: إسناده منكر.
(90) (نهى عن صوم رجب كله) .
ضعيف: رواه ابن ماجه، والطبراني في "الكبير" والبيهقي في "فضائل الأوقات" عن ابن عباس. وفيه داود بن عطاء.(1/421)
قال ابن حجر "داود بن عطاء المذكور لينه ابن معين، وقال البيهقي: داود ليس بالقوي" وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أحمد "ليس بشيء" كذا في "الميزان" (2/12) .
(91) (عن مكحول أن رجلاً سأل أبا الدرداء عن صيام رجب، فقال: سألت عن شهر كانت الجاهلية تعظمه في جاهليتها، وما زاده الإسلام إلا فضلا وتعظيما، ومن صام منه يوماً تطوعا، يحتسب به ثواب الله ويبتغي به وجه الله مخلصا أطفأ صومه ذلك اليوم غضب الله، وغلق عنه بابا من أبواب النار، ولو أعطى ملء الأرض ذهباً ما كان حقا له، لا يستكمل أجره بشيء من الدنيا دون يوم الحساب، وله عشر دعوات مستجابات،.... ومن صام يومين كان له مثل ذلك، وله مع ذلك أجر عشرة من الصديقين في عمرهم بالغة أعمارهم، وشفع في مثل ما شفعوا.... ومن صام ثلاثة أيام كان له مثل ذلك، وقال الله له عند إفطاره: لقد وجب حق عبدي هذا، ووجبت له محبتي، أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
ومن صام تسعة أيام منه رفع كتابه في عليين، وبعث يوم القيامة من الآمنين، ويخرج من قبره ووجهه يتلألأ حتى يقول أهل الجمع هذا نبي مصطفى، وإن أدنى ما يعطى أن يدخل الجنة بغير حساب، ومن صام عشرة أيام فبخ بخ بخ!، له مثل ذلك وعشرة أضعافه.... ويكون من المقربين لله بالقسط، وكمن عبد الله ألف عام صائماً قائماً محتسبا. ومن صام عشرين يوماً كان له مثل ذلك وعشرون ضعفا، وهو ممن يزاحم خليل الله في قبته، ويشفع في مثل ربيعة ومضر، كلهم من أهل الخطايا والذنوب، ومن صام ثلاثين يوماً كان له من جميع ذلك ثلاثين ضعفا.....
وإذا خرج من قبره شيعه سبعون ألفاً من النجائب من الدر والياقوت ... فهو من أول الناس دخول جنات عدن.....
فإن كان له في كل يوم يصومه على قدر قوته فتصدّق به فهيهات هيهات -ثلاثا- لو اجتمع الخلائق على أن يقدر وأقدر ما أعطي ذلك العبد من الثواب لما بلغوا معشار العشر مما أعطي ذلك العبد من الثواب) .(1/422)
موضوع: قال ابن حجر في "تبيين العجب" (63-64) .
"وهذا حديث موضوع ظاهر الوضع. قبح الله من وضعه فوالله لقد وقف شعري من قراءته في حال كتابته، فقبح الله من وضعه، ما أجرأه على الله وعلى رسوله، والمتهم به عندي: داود بن المحبر أو العلاء بن خالد كلاهما قد كذب، ومكحول لم يدرك أبا الدرداء، ولا والله ما حدّث به مكحول قط".
هام: قال العلامة الحافظ ابن حجر العسقلاتي في كتابه "تبيين العجب بما ورد في فضل رجب" (ص 21) "لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو اسماعيل الهروي الحافظ رويناه عنه بإسناد صحيح".
(92) (من صام يوم الأربعاء والخميس والجمعة بنى الله له بيتاً في الجنة يرى ظاهره من باطنه وباطنه من ظاهره) .
ضعيف: رواه الطبراني في "الكبير" قال الهيثمي: وفيه صالح بن جبلة ضعفه الأزدي.
(93) (من صام يوم الأربعاء والخميس والجمعة بنى الله له قصراً في الجنة من لؤلؤ وياقوت وزبرجد وكتب له براءة من النار) .
ضعيف: رواه الطبراني في "الأوسط" عن أنس قال الهيثمى (3/199) . وفيه صالح بن جبلة ضعفه الأزدي.
(94) (من صام يوم الأربعاء والخميس ويوم الجمعة ثم تصدق يوم الجمعة بما قل أو كثر غفر له كل ذنب عمله حتى يصير كيوم ولدته أمه من الخطايا) .
ضعيف: رواه الطبراني في "الكبير". قال الهيثمي (3/199) : فيه محمد بن قيس المدني أبو حازم لم أجد من ترجمة.
(95) (افترض الله تعالى على أمتي الصوم ثلاثين يوماً وافترض على سائر الأمم أقل وأكثر وذلك لأن آدم لما أكل من الشجرة بقي في جوفه مقدار ثلاثين يوماً فلما تاب الله عليه أمره بصيام ثلاثين يوماً بلياليها وافترض عليَّ وعلى أمتي بالنهار، وما نأكل(1/423)
بالليل ففضل من الله) .
موضوع: رواه الخطيب من حديث أنس.
"ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" ولم يخالف فيه أقره السيوطي وابن عراق في "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة" (2/145) وقال: وفيه موسى ابن نصر أبو عمران الثقفى".
(96) (لو أذن الله لأهل السماوت وأهل الأرض أن يتكلموا بشروا صوام رمضان بالجنة) .
موضوع: رواه العقيلي في "الضعفاء" عن أنس.
قال ابن عراق (2/147) : إسناده مجهول وهو غير محفوظ حكم له بالوضع ابن الجوزي ولم يخالف فيها.
(97) (إن الله تعالى أوحى إلى الحفظة أن لا يكتبوا على صوام عبيدي بعد العصر سيئة) .
موضوع: حكم عليه بالوضع ابن الجوزي ولم يخالف فيه.
قال ابن عراق (2/147) : رواه الخطيب من حديث أنس ولا يصح، فيه إبراهيم ابن عبد الله المحزمي الدقاق، قال الدارقطني: له أحاديث باطلة هذا منها.
(98) (إذا كان أول ليلة من رمضان نادى الجليل رضوان خازن الجنة فيقول: لبيك وسعديك فيقول: نجّد جنتي وزينها للصائمين من أمة محمد ولا تغلقها عنهم حتى ينقضي شهرهم ... وفيه فإذا كان يوم فطرهم باهى بهم ملائكته..) .
موضوع: قال ابن حبان هذا متن باطل، وحكم عليه بالوضع ابن الجوزي والسيوطي وابن عراق.
(99) (من أفطر على تمرة من حلال زيد في صلاته أربعمائة صلاة) .
موضوع: ذكره ابن عدي من حديث أنس من طريق موسى الطويل حكم عليه بالوضع ابن الجوزي ولم يخالف، وقال ابن عراق (2/147) "فأما وضعه فحدث به".(1/424)
(100) (من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة ولا عذر كان عليه أن يصوم ثلاثين يوماً، ومن أفطر يومين كان عليه ستين، ومن أفطر ثلاثة كان عليه تسعين) .
موضوع: رواه الدارقطني في الأفراد من حديث أنس.
قال ابن عراق "ولا يثبت فيه عمر بن أيوب وعنه محمد بن صبيح ليس بشيء قال السيوطي وجاء من طريق آخر أخرجه ابن عساكر، قال ابن عراق: فيه من لم أعرفهم والله أعلم.
(101) (من أفطر يوماً من رمضان في غير رخصة رخّصها الله له، لم يقض عنه صيام الدهر كله وإن صامه) .
ضعيف: رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي عن أبي هريرة، وقال الترمذي: سمعت محمداً -يعني البخاري- يقول: أبو المطوس الراوي لا أعرف له غير هذا الحديث (1) . وذكره البخاري تعليقا بصيغة التمريض.
قال المناوي في "فيض القدير" (6/78) : "قال القرطبي: حديث ضعيف لا يحتج بمثله، وقال الدميري: ضعيف وإن علقه البخاري وسكت عليه أبو داود، وممن جزم بضعفه البغوي، وقال ابن حجر فيه اضطراب، قال الذهبي في "الكبائر هذا لم يثبت".
وضعفه الألباني (2) .
(102) (من أفطر يوماً من رمضان، فمات قبل أن يقضيه فعليه بكل يوم مُد لمسكين) .
ضعيف: رواه أبو نعيم في "الحلية" عن ابن عمر ورواه الطبراني أيضاً "وفيه أشعث ابن سوار ضعفه جمع قاله المناوي (6/78) وضعفه السيوطي والألباني" (3) .
(103) (عن عائشة أن شاباً كان صاحب سماع وكان إذا هل هلال ذي الحجة أصبح صائماً فأرسل إليه رسول الله فقال: ما يحملك على صيام هذه الأيام فقال بأبي
__________
(1) وقال البخاري عن أبي المطوس بن يزيد "ولا أدري سمعه أبوه من أبي هريرة أم لا".
(2) "ضعيف الجامع" رقم (5471) ، و"تخريج المشكاة" (2013) .
(3) "ضعيف الجامع" رقم (5469) .(1/425)
وأمي يا رسول الله إنها أيام المشاعر وأيام الحج عسى الله أن يشركني في دعائهم فقال لك بكل يوم عدل مائة رقبة تعتقها ومائة بدنة تهديها إلى بيت الله ومائة فرس تحمل عليها في سبيل الله، فإذا كان يوم عرفة فلك عدل ألفي رقبة، وألفي بدنة، وألفي فرش تحمل عليها في سبيل الله وصيام سنتين قبلها وسنتين بعدها) .
موضوع: رواه ابن عدي ولا يصح.
قال ابن عراق (2/148) : "فيه محمد بن عبيد المحرم، قال الذهبي في "ترجمة المحرم" عقب إيراد الحديث هذا كأنه موضوع، وقال الحافظ ابن حجر: هذا إن لم يكن موضوعا فما في الدنيا حديث موضوع والله تعالى أعلم".
(104) (من صام آخر يوم من ذي الحجة وأول يوم من المحرم فقد ختم السنة الماضية وافتتح السنة المستقبلة بصوم جعل الله له كفارة خمسين سنة) .
موضوع: رواه ابن الجوزي في "الموضوعات" ولم يخالف.
"من حديث ابن عباس وفيه الجويباري وهب بن وهب" قاله ابن عراق.
(105) (من صام تسعة أيام من أول المحرم بنى الله له قبة في الهواء ميلاً في ميل لها أربعة أبواب) .
موضوع: رواه أبو نعيم في "الحلية" من حديث أنس.
قال ابن عراق (2/148) : "وفيه موسى الطويل وهو آفته".
(106) (من صام يوم عاشوراء كتب الله له عبادة ستين سنة بصيامها وقيامها، ومن صام يوم عاشوراء أعطي ثواب عشرة آلاف ملك، ومن صام يوم عاشوراء أعطي ثواب ألف حاج ومعتمر ومن صام يوم عاشوراء أعطي ثواب عشرة آلاف شهيد، ومن صام يوم عاشوراء كتب الله له أجر سبع سماوات، ومن أفطر عنده مؤمن في يوم عاشوراء فكأنما أفطر عنده جميع أمة محمد...." الحديث.
موضوع: رواه ابن الجوزي في "الموضوعات" ولم يُخالف من حديث ابن عباس.
قال ابن عراق (2/149) : "وفيه حبيب بن أبي حبيب وهو آفته".(1/426)
(107) (في يوم عاشوراء تاب الله على آدم وعلى أهل مدينة يونس، وفيه ولد إبراهيم وفيه ولد عيسى بن مريم، وفيه فرق البحر لموسى وبني اسرائيل، وجرت السفينة آخر ذلك يوم العاشور لعشر مضين من المحرم، واستوت على الجوديّ فصام نوح وأصحابه والوحش شكراً لله عز وجل) .
موضوع: فيه ابن الصباح وهو وضّاع.
(108) (لو يعلم العباد ما رمضان لتمنت أمتي أن يكون السنة كلها، فقال رجل من خزاعة: يا نبي الله حدثنا، فقال: "إن الجنة لتزين لرمضان من رأس الحول إلى الحول، فإذا كان أول يوم من رمضان هبت ريح من تحت العرش فصفقت ورق الجنة فتنظر الحور العين إلى ذلك فيقلن: يا رب اجعل لنا من عبادك في هذا الشهر أزواجا تقر أعيننا بهم، وتقر أعينهم بنا، قال: فما من عبد يصوم يوماً من رمضان إلا زوج زوجة من الحور العين في خيمة من درة مما نعت الله (حور مقصورات في الخيام) على كل امرأة سبعون حلة ليس منها حلة على لون الأخرى، تعطي سبعين لوناً من الطيب، ليس منه لون على ريح الآخر، لكل امرأة منهن سبعون ألف وصيفة لحاجتها، وسبعون ألف وصيف، من كل وصيف صحفة من ذهب، فيها لون طعام تجد لآخر لقمة منها لذة لا تجد لأوله، لكل امرأة منهن سبعون سريرا من ياقوتة حمراء، على كل سرير سبعون فراشا بطائنها من استبرق، فوق كل فراش سبعون أريكة، ويعطى زوجها مثل ذلك على سرير من ياقوت أحمر، موشح بالدر، عليه سواران من ذهب، هذا بكل يوم صامه من رمضان، سوى ما عمل من الحسنات) .
موضوع: رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، وأبو يعلى من حديث أبي مسعود الغفاري.
قال ابن عراق (2/154) : "فيه جرير بن أيوب، قال البيهقي: وجرير بن أيوب ضعيف عند أهل النقل" وأورده المنذري في "الترغيب" من حديث أبي مسعود وقال عقبة جرير بن أيوب واه، ولوائح الوضع ظاهرة على الحديث".
(109) (لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ولكن قولوا شهر رمضان) .(1/427)
ضعيف: رواه ابن عدي والبيهقي في سننه من حديث أبي هريرة، وحكم عليه بالوضع ابن الجوزي واقتصر البيهقي على تضعيفه.
قال ابن عراق (2/153) : "وجاء من حديث ابن عمر أخرجه تمام في فوائده، ومن حديث عائشة أخرجه ابن النجار، وفي سند الأول ناسب بن عمرو، وفي سند الثاني من لم أعرفهم".
(110) (من صام العشر فله بكل يوم صوم شهر وله بصوم يوم التروية سنة، وله بصوم يوم عرفة سنتان) .
موضوع: أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" من حديث ابن عباس.
قال ابن عراق (2/156) : "إخراج أبي الشيخ له في "الثواب" لا يرقيه عن درجة الوضع، وحديث جابر عند ابن النجار في "تاريخه لا يصلح شاهدا لأنه من طريق محمد ابن عبد الملك الأنصاري وهو وضاع والله أعلم".
(111) [حديث] (أبي غليظ بن أمية الجمحي رآني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلي يدي صرد فقال: "هذا أول طائر صام يوم عاشوراء) .
حديث منكر: رواه الخطيب وحكم عليه بالوضع ابن الجوزي، وفيه عبد الله بن معاوية منكر الحديث.
قال ابن عراق (2/156) : "الحديث أخرجه ابن قانع في "معجم الصحابة".
وقال في "الميزان": "هذا حديث منكر".
(112) (من أحيى ليلة من رجب وصام يومها أطعمه الله من ثمار الجنة وكساه من حلل الجنة وسقاه من الرحيق المختوم إلا من فعل ثلاثاً: من قتل نفسا أو سمع مستغيثا يستغيث بليل أو نهار فلم يغثه أو شكى إليه أخوه حاجة فلم يفرج عنه) .
موضوع: رواه ابن الجوزي في "الموضوعات" من حديث الحسين بن علي وفيه الحسين بن مخارق وهو المتهم به.(1/428)
(113) (لله تعالى عند كل فطر من شهر رمضان كل ليلة عتقاء من النار ستون ألفا فإذا كان يوم الفطر أعتق مثل ما أعتق في جميع الشهر ثلاثين مرة ستين ألفا) .
قال الحافظ بن حجر فيه زيادة منكرة.
فيه ناشب بن عمرو الشيباني، قال فيه ابن حجر في "لسان الميزان" "قال الدارقطني ضعيف، وقال البخاري منكر الحديث".
(114) (إذا سلمت الجمعة سلمت الأيام، وإذا سلم رمضان سلمت السنة) .
ضعيف: رواه الدارقطني في "الأفراد" من حديث عائشة وفيه عبد العزيز بن أبان وأخرجه البيهقي في "الشعب" من طريقه.
وفيه عبد العزيز بن أبان وهو ضعيف بمرة.
(115) (من صام رمضان في إنصات وسكون، وكفّ سمعه وبصره وجوارحه من الحرام والكذب اقترب الله منه يوم القيامة حتى تمس ركبته ركبة إبراهيم عليه السلام) .
موضوع: رواه الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث أبي هريرة وفيه السري ابن سهل.
قال ابن عراق (2/160) : "عند الحارث في "مسنده" من حديث أبي هريرة وابن عباس خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر الحديث وفيه "ومن صام رمضان وكفّ عن الغيبة والنميمة والكذب والخوض بالباطل وأمسك لسانه إلا عن ذكر الله، وكفّ سمعه وبصره وجميع جوارحه عن جميع محارم الله وعن أذى المسلمين كان له من القربى عند الله أن تمس ركبته ركبة إبراهيم الخليل عليه السلام (قال الحافظ ابن حجر في المطالب العالية هذا حديث موضوع. إلا أن ابن الجوزي أورد حديثه في الواهيات وأقره الذهبي في تلخيصه ولم يزد في جرح السري على قوله ضعّفه الدارقطني فكان عنده ليس موضوعاً والله أعلم) .
(116) (أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم يُعطها أمة قبلهم: خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزين(1/429)
الله كل يوم جنته، ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة والأذى، ويصيروا إليك، ويصفّد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة. قيل: يا رسول الله أهي ليلة القدر؟ قال: "لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله") .
ضعيف: قال المنذري: رواه أحمد والبزار والبيهقي وكذا في "الإتحاف" أيضاً، وزاد رواه ابن منيع والحارث بسند ضعيف. وضعفه ابن حجر في "المطالب العالية" (1/275) .
(117) (اتقوا شهر رمضان فإنه شهر الله جعل لكم إحدى عشر شهرا تشبعون فيها وتروون وشهر رمضان شهر الله، فاحفظوا فيه أنفسكم) .
موضوع: رواه الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث أبي أمامة وواثلة وعبد الله بن بسر، وحكم عليه بالوضع السيوطي، وفيه إسحاق بن محمد الأسدي.
(118) (تدرون لم سمي شعبان لأنه يتشعب فيه لرمضان خير كثير وإنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يذيبها من الحر) .
موضوع: رواه أبو الشيخ من حديث أنس، وحكم عليه السيوطي بالوضع، وفيه زياد بن ميمون وهو هالك اعترف بالكذب.
(119) (تدرون لم سُمي رمضان؟ لأنه ترمض فيه الذنوب، وإن في رمضان ثلاث ليال من فاتته فاته خير كثير: ليلة سبع عشر وليلة تسع عشرة وليلة إحدى وعشرين وآخر ليلة. فقال عمر: يا رسول الله هي سوى ليلة القدر؟ قال نعم، ومن لم يغفر له في شهر رمضان، ففي أي شهر يغفر له) .
موضوع: رواه الديلمي في "مسند الفردوس" من طريق زياد بن ميمون، وحكم عليه السيوطي بالوضع.
(120) (من صام يوماً من رجب وقام ليلة من لياليه بعثه الله آمناً يوم القيامة ومرّ على الصراط وهو يهلل ويكبر) .
موضوع رواه الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث جابر من طريق إسماعيل(1/430)
(ابن يحيى التيمي) ، قال عنه جزرة: كان يضع الحديث، وقال الأزدي: ركن من أركان الكذب.
(121) (صوموا يوم النيروز خلافا على المشركين ولكم عندي صيام سنتين) .
موضوع: رواه الديلمي في "مسند الفردوي" من حديث أنس.
قال ابن عراق "فيه عبد الوهاب بن إبراهيم الحراني وجماعة لم أعرفهم والله تعالى أعلم" وحكم عليه بالوضع السيوطي.
(122) (رجب شهر الله الأصم المنبتر الذي أفرده الله تعالى لنفسه فمن صام يوماً إيمانا واحتسابا استوجب رضوان الله الأكبر.
وشهر رمضان شهر أمتي ترمض فيه ذنوبهم، فإذا صام عبد مسلم ولم يكذب ولم يغتب، وفطره طيب خرج من ذنوبه كما تخرج الحية من سلخها) .
موضوع: رواه الحاكم في تاريخه من حديث أبي سعيد الخدري وفيه أبو هرون العبدي متروك وعنه عصام بن طليق ليس بشيء.
قال ابن عراق: "لعل الآفة أبو هرون فإنهم كذبوه حتى قال بعضهم هو أكذب من فرعون".
(123) (صوم يوم عرفة كصوم ستين سنة) .
موضوع: رواه الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث ابن مسعود وفيه محمد ابن تيميم قال فيه ابن حبان كان يضع الحديث. والحديث حكم عليه السيوطي وابن عراق بالوضع.
(124) (في أول ليلة من ذي الحجة ولد إبراهيم، فمن صام ذلك اليوم كان كفارة ثمانين سنة، وفي تسع من ذي الحجة أنزل توبة داود فمن صام ذلك اليوم كان كفارة ستين سنة) .
موضوع: رواه الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث علي، وفيه محمد بن سهل بن الحسين العطار قال الدارقطني كان يضع الحديث، ومن حديث ابن مسعود(1/431)
صدّره بلفظ ولد إبراهيم الخليل في أول يوم من ذي الحجة فصوم ذلك اليوم كصوم سبعين سنة".
قال ابن عراق: وفى سنده من لم أقف لهم على ترجمة.
(125) (من صام يوم التروية أعطاه الله مثل ثواب أيوب على بلائه، وإن صام يوم عرفة أعطاه الله عز وجل مثل ثواب عيسى بن مريم، وإن لم يأكل يوم النحر حتى يصلي أعطاه الله ثواب من صلى في ذلك اليوم، فإن مات إلى ثلاثين مات شهيدا) .
موضوع: رواه الديلمي من حديث أنس، وفيه حماد بن عمرو: قال الجوزقاني كان يكذب، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث. حكم عليه بالوضع السيوطي وابن عراق.
(126) (من أفطر عنده يوم عاشوراء فكأنما أفطر عنده جميع أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
موضوع: رواه أبو نعيم في "الحلية" من حديث ابن عباس، وفيه حبيب بن أبي حبيب كان يضع الحديث. والحديث حكم عليه بالوضع السيوطي وابن عراق.
(127) (يسبح للصائم كل شعرة منه، ويوضع للصائمين والصائمات يوم القيامة تحت العرش مائدة من ذهب مكللة بالدر والجوهر على مقدار دائرة الدنيا عليها من أنواع أطعمة الجنة وأشربتها وثمارها فهم يأكلون ويشربون وينعمون والناس في شدة الحساب) .
موضوع: رواه الديلمي من حديث أبي الدرداء من طريق أبي عصمة نوح بن أبي مريم.
(128) (من صام يوماً تطوعا فلو أعطي ملء الأرض ذهباً ما وفي بأجره دون يوم الحساب) .
موضوع: رواه ابن النجار في تاريخه من حديث أنس، وفيه خراش مولى أنس، وعنه أبو سعيد العدوي.
قال ابن عراق (1/57) : "خراش بن عبد الله الطحان عن أنس ساقط عدم، ما أتى به غير أبي سعيد العدوي الكذاب".(1/432)
(129) (من صلى الجمعة وصام يومه وعاد مريضا وشهد جنازة وشهد نكاحاً وجبت له الجنة) .
ضعيف: قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/200) : "رواه الطبراني في "الكبير والأوسط" بنحوه، عن أبي أمامة وفيه محمد بن حفص وهو ضعيف.
(130) (من ألبسه الله نعمة فليكثر من الحمد لله، ومن كثرت ذنوبه فليستغفر الله، ومن أبطأ رزقه فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، ومن نزل بقوم فلا يصومن إلا بإذنهم ... ) الحديث.
ضعيف: رواه الطبراني في "الصغير والأوسط" عن أبي هريرة.
قال الهيثمي (3/201) : "وفيه يونس بن تميم ضعّفه الذهبي بهذا الحديث".
(131) (سيد الشهور رمضان وأعظمها حرمة ذو الحجة) .
ضعيف: رواه البزار عن أبي سعيد الخدري، وفيه يزيد بن عبد الملك النوفلي.
(132) (إن أمتي لم يخزوا ما أقاموا شهر رمضان. قيل: يا رسول الله، وما خزيهم في إضاعة شهر رمضان؟ قال: انتهاك المحارم فيه، من زنى فيه أو شرب فيه خمراً لعنه الله ومن في السماوات إلى مثله من الحول، فإن مات قبل أن يدركه رمضان فليست له عند الله حسنة يتقي بها النار، فاتقوا شهر رمضان فإن الحسنات تضاعف فيه ما لا تضاعف فيما سواه وكذلك السيئات) .
ضعيف: رواه الطبراني في الصغير والأوسط عن أم هانئ بنت أبي طالب وفيه عيسى بن سليمان أبو طيبة ضعفه ابن معين ولم يكن فيمن يتعمد الكذب ولكنه نسب إلى الوهم.
(133) (لكل شيء باب، وباب العبادة الصيام) .
ضعيف: رواه أبو يعلى في مسنده عن أبي الدرداء رفعه، وفيه أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف الحديث.
(134) (سُئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قبلة الصائم قال: "ريحانة تشمها") .(1/433)
ضعيف: رواه ابن أبي عمر، والطبراني في الصغير والأوسط.
قال ابن أبي حاتم في "العلل" (1/246) "سألت أبي عنه فقال: حديث باطل".
قال الهيثمي: فيه أبان بن أبي عياش وهو ممن يرغب عن الرواية عنه.
(135) (عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل عليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا عائشة، هل من كسرة؟ فأتيته بقرص، فوضعه في فيه، وقال: يا عائشة، هل دخل بطني منه شيء؟ كذلك قبلة الصائم، إنما الإفطار مما دخل، وليس مما خرج") .
ضعيف: رواه أبو يعلى في مسنده، وفيه سلمى من بكر بن وائل لا تعرف كما في "التقريب"، ورزين البكري إن كان هو الجهني فثقة، وإلا فمجهول.
قال الهيثمي "رواه أبو يعلى وفيه من لم أعرفه".
والصواب في الحديث أنه موقوف على ابن عباس.
(136) (ما فضلكم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في صدره) .
لا أصل له مرفوعا: قال العراقي في "تخريج الإحياء" (1/30، 105) : رواه الترمذي الحكيم في "النوادر" من قول بكر بن عبد الله المزني، ولم أجده مرفوعا".
وأقره السخاوي في "المقاصد الحسنة" (970) قاله الألباني في "السلسلة الضعيفة" رقم (961 ج 2/378) .
(137) (تحفة الصائم الدهن والمجمَر) .
موضوع: رواه الترمذي عن الحسن بن علي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال الترمذي: "هذا حديث غريب ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث سعد ابن طريف. وسعد يضعف، ويقال عمير بن مأموم أيضاً".
ورواه البيهقي في "شعب الإيمان". وضعف الحديث السيوطي في "الجامع الصغير" قال المناوي (3/233) : "قال الديلمي: سعد وعمير ضعيفان، وقال ابن الجوزي: لا يعرف إلا من حديث سعد وقد قال يحيى: لا تحل الرواية عنه، وقال ابن حبان كان يضع(1/434)
الحديث انتهى. وقال الذهبي: تركه واتهمه ابن حبان.
وقال الألباني في "ضعيف سنن الترمذي" موضوع (1/92) .
(138) (من نزل على قوم، فلا يصومن تطوعاً إلا بإذنهم) .
ضعيف جدا: رواه الترمذي من حديث عائشة.
"قال الترمذي: سألت محمد يعني البخاري عنه فقال: حديث منكر، وقال عبد الحق: ما في رجاله من يقبل حديثه. وقال ابن الجوزي لا يصح" انتهى من "فيض القدير" (6/231) وضعفه السيوطي، وقال الألباني: ضعيف جدا.
(139) (ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة، وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر) .
ضعيف: رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مسعود بن واصل عن النهاس. وسألت محمدا -يعني البخاري- عن هذا الحديث فلم يعرفه من غير هذا الوجه. وقد تكلم يحيى بن سعيد في نهاس بن قهم من قبل حفظه".
قال المناوي "والنهاس ضعفوه فالحديث معلول، وقال ابن الجوزي: حديث لا يصح تفرد به مسعود بن واصل عن النهاس، ومسعود ضعفه أبو داود، والنهاس قال القطان: متروك، وابن عدي قال عنه: لا يساوي شيئاً، وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به، وأورده في "الميزان" من مناكير مسعود عن النهاس، وقال: مسعود ضعّفه الطيالسي، والنهاس فيه ضعف" انتهى من "فيض القدير" (5/474-475) والحديث ضعفه السيوطي والدارقطني في "العلل"، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (5161) ، وضعيف الترمذي (762) ، وضعيف ابن ماجه (1728) ، و"مشكاة المصابيح" (1471) .
(140) (عن مسلم القرشي قال: سألت -أو سُئل- النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيام الدهر؟ فقال:
(إن لأهلك عليك حقا، ثم قال: "صم رمضان والذي يليه، وكل أربعاء وخميس،(1/435)
فإذا أنت قد صمت الدهر وأفطرت") .
رواه الترمذي وأبو داود، وقال الترمذي: حديث مسلم القرشي حديث غريب وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" (420) ، "ضعيف الترمذي" (761) ، و"المشكاة" (2061) .
(141) (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يصوم من الشهر السبت، والأحد، والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء، والأربعاء، والخميس) .
ضعيف: رواه الترمذي عن عائشة وقال هذا حديث حسن. وروى عبد الرحمن ابن مهدي هذا الحديث عن سفيان، ولم يرفعه.
وضعفه الألباني في "ضعيف الترمذي" رقم (750) .
(142) (إن كنت صائما بعد شهر رمضان، فصم المحرم، فإنه شهر الله، فيه يوم تاب الله فيه على قوم، ويتوب فيه على قوم آخرين) .
ضعيف: رواه الترمذي عن علي، وقال الترمذي. هذا حديث حسن غريب، وأشار إلى حسن السيوطي في "الجامع الصغير".
قال المناوي في "فيض القدير" (3/34) :
"قال الزين العراقي: تفرد بإخراجه الترمذي، وقد أورده ابن عدي في "الكامل" في ترجمة عبد الرحمن الواسطي، ونقل تضعيف الأئمة له أحمد بن حنبل وابن معين والبخاري والنسائي" وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" (1298) .
(143) (عن عائشة قالت "كنت أنا وحفصة صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه، فأكلنا منه") .
فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبدرتني إليه حفصة -وكانت ابنة أبيها- فقالت: يا رسول الله!! إنا كنا صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه، قال: (اقضيا يوماً آخر مكانه) .
وعند أبي داود (لا عليكما، صوما مكانه يوماً آخر) .
رواه الترمذي وأبو داود عن عائشة.(1/436)
وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (6317) ، و"ضعيف سنن أبي داود" و"ضعيف سنن الترمذي" (118) ، و"مشكاة المصابيح" (2080) .
(144) (ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة، والقيء، والاحتلام) .
ضعيف: رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري، وعند أبي داود عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لا يُفطِر من قاء، ولا من احتلم، ولا من احتجم) .
ضعيف: ضعفه الألباني في تخريج حقيقة الصيام "ضعيف سنن الترمذي"، "ضعيف سنن أبي داود" (513) ، "ضعيف الجامع الصغير" (2567) .
(145) (عن معاذ بن زهرة، أنه بلغه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أفطر، قال "اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت) .
رواه أبو داود وعبد الله بن المبارك في "الزهد" والبيهقي، وابن أبي شيبة في "المصنف" وابن السني. سنده ضعيف: فإن مع إرسال فيه جهالة معاذ أورده ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلا، ولم يوثقه ابن حجر في "التقريب" وإنما قال "مقبول" يعني عند المتابعة، كما نص عليه في المقدمة.
وهناك طريقان ضعيفان جدا، لا يستشهد بهما، فيبقى حديثه ضعيفا والطريقان هما: طريق ابن عباس كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أفطر قال: "اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا، اللهم تقبل منا، إنك أنت السميع العليم".
ضعيف. أخرجه الدارقطني، وابن السني، والطبراني في "المعجم الكبير". وفيه عبد الملك بن هارون ضعيف جدا، قال الذهبي في "الضعفاء": تركوه، قال السعدي: دجال وفيه هارون بن عنترة، مختلف فيه.
ولذلك قال ابن القيم في "زاد المعاد": لا يثبت. وقال الحافظ في "التلخيص": سنده ضعيف، وقال الهيثمي: ضعيف جدا.
وحديث أنس بلفظ كان إذا أفطر قال: "بسم الله، اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت" أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير والأوسط" ومن طريقة أبو نعيم في "تاريخ أصبهان".(1/437)
وقال الطبراني: تفرد به إسماعيل بن عمرو قال الذهبي في "الضعفاء": ضعفه غير واحد، وشيخه داود بن الزبرقان شر منه، قال الذهبي: "قال أبو داود: متروك" وقال الحافظ في "التقريب": متروك كذبه الأزدي.
(146) (عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الله عز وجل: أحبّ عبادي إلي أعجلهم إليّ فطر) .
ضعيف: رواه أحمد في مسنده والترمذي واللفظ لي وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة، وأشار إلى صحته السيوطي.
وقال الترمذي: حسن غريب. قال المناوي "وفيه مسلم بن علي الخشني قال في "الميزان" شامي واه، وقال البخاري: منكر الحديث، والنسائي متروك وابن عدي حديث غير محفوظ ثم ساق له هذا الخبر" انتهى من "فيض القدير" (4/485) .
(147) (عن عائشة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها) . ضعيف: ضعفه الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" و (المشكاة 2005) .
(148) (عن قدامة بن ملحان قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بصوم أيام الليالي الغر البيض ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة) .
ضعيف: رواه النسائي وضعفه الألباني في "ضعيف النسائي" رقم (150) .
وبلفظ آخر: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يأمر بهذه الأيام الثلاث البيض ويقول: "هن صيام الشهر" عن عبد الملك بن أبي المنهال يحدث عن أبيه رواه النسائي واللفظ له، وابن ماجه وضعفه الألباني في "ضعيف النسائي" رقم (148) ، و"ضعيف ابن ماجه" رقم (375) .
(149) (عن حفصة قالت: "أربع لم يكن يدعهن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر وركعتين قبل الغداة") .
ضعيف: رواه النسائي، وضعفه الألباني في "ضعيف النسائي" رقم (141) ، و"الإرواء" (954) عن أم سلمة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر بصيام ثلاثة أيام، أول خميس، والاثنين.(1/438)
قال الألباني: شاذ.
(150) (عن ابن عباس، قال: جاء أعرابي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أبصرت الهلال الليلة. فقال "أتشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله؟ قال: نعم قال: "قم يا بلال! فأذن في الناس أن يصوموا غدا") .
ضعيف: ضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" (402-403) ، "الإرواء" (907) ، "ضعيف ابن ماجه" (364) .
(151) (عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: رخص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحُبلى التي تخاف على نفسها، أن تفطر. وللمرضع التي تخاف على ولدها) .
ضعيف جدا: ضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه" (366) .
(152) (عن فضالة بن عبيد الأنصاري أن النبي خرج عليهم في يوم كان يصومه. فدعا بإناء فشرب. فقلنا: يا رسول الله! إن هذا يوم كنت تصومه؟ قال: "أجل. ولكني قِئتُ") .
ضعيف: رواه ابن ماجه، وضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه" (369) .
(153) (من خير خصال الصائم السواك) .
(خير خصال الصائم السواك) .
ضعيف: الأول من رواية ابن ماجه ولفظه، والثاني رواه البيهقي في سننه، والجميع عن عائشة قال المناوي في "فيض القدير" (3/486) : "مجالد وعاصم ليسا بقويين ورواه الدارقطني من هذا الوجه ثم قال فمجالد غيره أثبت منه".
(154) (عن ميمونه مولاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل قبّل امرأته وهما صائمان قال: "قد أفطر") .
ضعيف جدا: رواه ابن ماجه والدارقطني وقال الألباني "في ضعيف ابن ماجه" (372) : ضعيف جدا.(1/439)
قال الحافظ الغساني: لا يثبت هذا وأبو يزيد الضبي ليس بمعروف.
عن ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
(155) (استعينوا بطعام السحر على صيام النهار. وبالقيلولة على قيام الليل) .
ضعيف: رواه ابن ماجه واللفظ له والحاكم والطبراني في "الكبير" والبيهقي في "شعب الإيمان"، قال المناوي "قال الحاكم - فيه زمعة بن صالح وسلمة بن وهرام ليسا بمتروكين وأقرّه الذهبي في "التلخيص" لكنه أورد زمعة في "الضعفاء والمتروكين" وقال ضعّفه أحمد وأبو حاتم والدارقطني، ونقل في "الكاشف" عن أبي داود أنه ضعّف سلمة هذا، وقال ابن حجر في سنده زمعة بن صالح وفيه ضعف، وقال السخاوي: زمعة كان مع صدقة ضعيفا لخطئه ووهمه ولذا لم يخرج له مسلم إلا مقروناً بغيره، وسلمة ضعيف مطلقاً أو في خصوص ما يرويه عن زمعة" انتهى من "فيض القدير" (1/494) .
وضعّفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه" (373) و"ضعيف الجامع" (816) .
(156) (عن محمد بن إبراهيم، أن أسامة بن زيد كان يصوم أشهر الحرام، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صم شوالا فترك أشهر الحرم، ثم لم يزل يصوم شوالا حتى مات) .
ضعيف. رواه ابن ماجه، وضعّفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه" رقم (381) .
(157) (عن ابن عمر؛ قال "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يغدو يوم الفطر حتى يغَدي أصحابه من صدقة الفطر") .
ضعيف: رواه ابن ماجه، وضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه" (388) .
(158) (عن مجيبة الباهلية عن أبيها، أو عمها أنه أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم انطلق، فأتاه بعد سنة وقد تغيرت حالته وهيئته، فقال: يا رسول الله أما تعرفني؟ قال: "ومن أنت؟ " قال: أنا الباهلي الذي جئتك عام الأول، قال: "فما غيّرك، وقد كنت حسن الهيئة؟ قال: ما أكلت طعاماً إلا بليل، منذ فارقتك، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "لم عذّبت نفسك؟ " ثم قال: "صم شهر الصبر ويوماً من كل شهر"، قال زدني فإن بي قوة، قال "صم يومين"، قال: زدني، قال "صم ثلاثة أيام"،(1/440)
قال: زدني، قال: "صم من الحُرُم واترك، صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك" وقال بأصابعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها".
ضعيف: رواه أبو داود واللفظ له، وابن ماجه، قال ابن حجر في "تبيين العجب" (24) .
في إسناده من لا يعرف، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" (526) ، و"ضعيف ابن ماجه" (379) .
(159) (عن ابن عباس، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في "المعتكف" هو يعكِف الذنوب، ويُجَرى له من الحسنات كعامل الحسنات كلها) .
ضعيف: رواه ابن ماجه واللفظ له، ورواه البيهقي في "شعب الإيمان" بلفظ "المعتكف يعكف الذنوب، ويجرى له من الأجر كأجر عامل الحسنات كلها".
ضعيف: ضعفه السيوطي في "الجامع" رقم (5940) ، والألباني في "ضعيف ابن ماجه" (394) ، "المشكاة" (2108) .
(160) (عن أبي هريرة "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الذي أفطر يوماً من رمضان بكفارة الظهار") .
ضعيف: رواه الدارقطني في سننه، وقال الحافظ الغساني في "تخريج الأحاديث الضعاف من سنن الدارقطني" (246) رقم (582، 583) : الحِماني ليس بالقوي وليث عن مجاهد: ليث ليس بالقوي.
(161) (وعن أبي هريرة "أن رجلاً أكل في رمضان فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين أو يطعم ستين مسكينا") .
ضعيف: رواه الدارقطني برقم 53 (2/191) ، وقال الحافظ الغساني (584) (ص 246) : أبو معشر هو نجيح ليس بالقوي.
(162) (أفضل الصوم بعد رمضان شعبان لتعظيم رمضان، وأفضل الصدقة صدقة في رمضان) .(1/441)
رواه الترمذي، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أنس، وقال الترمذي: غريب، وضعفه السيوطي والألباني، وفيه صدقة بن موسى قال الذهبي في "المهذب": صدقة ضعّفوه".
(163) (شعبان شهري، ورمضان شهر الله) .
ضعيف. رواه الديلمي في "مسند الفردوس" عن عائشة: وفيه الحسن بن يحيى الخشني قال الذهبي تركه الدارقطني وضعفه السيوطي والألباني.
(164) (جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش، فإن الأجر في ذلك كأجر المجاهد في سبيل الله وأنه ليس أحب إلى الله من جوع وعطش) .
ليس له أصل: قال العراقي في "تخريج الإحياء" "لم أجد له أصلا" (3/88) .
(165) (أقرب الناس من الله يوم القيامة من طال جوعه وعطشه ... ) .
قال العراقي "أخرجه الخطيب في "الزهد" من حديث سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأقبل على أسامة بن زيد ... ومن طريقه رواه ابن الجوزي في "الموضوعات"، وفيه حباب بن عبد الله بن جبلة أحد الكذابين وفيه من لا يعرف أيضاً وهو منقطع أيضاً.
(166) (أديموا قرع باب الجنة يفتح لكم، فقلت: كيف نديم قرع باب الجنة؟ قال: "بالجوع والظمأ") .
قال العراقي في "تخريج الإحياء" لم أجده.
(167) (السائحون هم الصائمون) .
رواه الحاكم في "المستدرك" عن أبي هريرة، ورواه عنه ابن منده وأبو الشيخ والديلمي وأعله الدارقطني في "العلل" (8/206) ، والصحيح عن الأعمش موقوف عن أبي هريرة وأخرجه العقيلي في "الضعفاء"، وابن عدي في "الكامل" وقال: لا أعلم رفع هذا الحديث عن الأعمش غير حكيم بن خذام (2/638) ، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (3329) .(1/442)
(168) (كان إذا دخل رمضان تغيّر لونه وكثرت صلاته، وابتهل في الدعاء، وأشفق لونه) .
ضعيف: رواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن عائشة.
قال المناوي في "فيض القدير" (5/132) "فيه عبد الباقي بن قانع قال الذهبي قال الدارقطني يخطئ كثيرا" وضعفه السيوطي، والألباني في "ضعيف الجامع" رقم (4404) .
(169) (كان إذا دخل رمضان شد مئزره، ثم لم يأت فراشه حتى ينسلخ) .
ضعيف: رواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن عائشة.
قال المناوي: "رمز السيوطي لحسنه فيه الربيع بن سليمان فإن كان هو صاحب الإمام الشافعي فثقة أو الربيع بن سليمان البصري الأزدي فضعيف قال يحيى: ليس بشيء".
وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (4405) .
(170) (كان إذا دخل رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل) .
رواه البيهقي في "شعب الإيمان" والبزار عن ابن عباس، ورواه ابن سعد عن عائشة.
قال ابن حاتم في "العلل" (1/227) "سألت أبي عن حديث.. وذكر الحديث فقال: هذا حديث منكر" والحديث ضعيف فيه أبو بكر الهذلي وهو ضعيف.
وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (4403) ، و"تخرج المشكاة" (1966) .
(171) (كان إذا أفطر قال: الحمد لله الذي أعانني فصمت ورزقني فأفطرت) .
رواه ابن السني، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن معاذ.
قال المناوي (5/107) : "قال ابن حجر أخرجاه عن رجل عن معاذ هذا وهذا محقق الإرسال ا. هـ، وأقول حصين بن عبد الرحمن هذا أورده الذهبي في "الضعفاء" وقال ثقة نسي أو شاخ وقال النسائي تغير" وضعف الحديث السيوطي، والألباني في "صحيح الجامع" (4353) ، و"الإرواء" (901) ، و"تخريج المشكاة" (1994) .(1/443)
(172) (صمت الصائم تسبيح، ونومه عبادة، ودعاؤه مستجاب، وعمله مضاعف) .
ضعيف: رواه أبو زكريا بن منده في "أماليه"، والديلمي في "مسنده الفردوس" عن ابن عمر.
قال المناوي في "فيض القدير" (4/206) "فيه شيبان بن فروخ قال أبو حاتم يرى القدر اضطر إليه الناس بآخرة، والربيع بن بدر وهو ساقط.
قال الذهبي: قال الدارقطني وغيره: متروك، قال ابن حجر في "الفتح" "في إسناده الربيع بن بدر وهو ساقط". وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (3492) .
(173) (صم صيام داود؛ فإنه أعدل الصيام عند الله، يوماً صائما، ويوما مفطرا، وإنه كان إذا وعد لم يخلف، وإذا لقي لم يفر) .
ضعيف: رواه النسائي عن ابن عمرو وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (3491) .
(174) (صام نوح الدهر إلا يوم الفطر والأضحى، وصام داود نصف الدهر، وصام إبراهيم ثلاثة أيام من كل شهر، صام الدهر وأفطر الدهر) .
ضعيف: رواه الطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن عمرو قال المناوي (4/190) : "رمز السيوطي لحسنه قال الهيثمي: هذا الخبر فيه أبو فارس ولم أعرفه، وأقول فيه أيضاً ابن لهيعة"، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (3464) .
(175) (ذاكر الله في رمضان مغفورٌ له، وسائل الله فيه لا يخيب) .
موضوع: رواه الطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن عمر. قال المناوي في "فيض القدير" (3/559) : "قال الهيثمي: فيه هلال بن عبد الرحمن وهو ضعيف، وقال الذهبي في "الضعفاء" منكر الحديث، وأقول فيه أيضاً عبد الله بن علي بن جدعان قال الدارقطني لا يزال عندي فيه لين وقال الذهبي في "الضعفاء"(1/444)
قال أحمد ويحيى ليس بشيء وأبو زرعة غير قوي".
وحكم الألباني عليه بأنه موضوع في "ضعيف الجامع" رقم (3038) .
(176) (إذا كان أول ليلة من رمضان فتحت أبواب السماء فلا يغلق منها باب حتى يكون آخر ليلة من رمضان فليس من عبد مؤمن يصلي في ليلة منها إلا كتب الله له ألفا وخمس مائة حسنة، بكل سجدة، وبنى له بيتا في الجنة من ياقوتة حمراء، لها ستون ألف باب لكل باب منها قصر من ذهب موشح بياقوتة حمراء، فإذا صام أول يوم من رمضان غفر له ما تقدم من ذنبه إلى مثل ذلك اليوم، ومن شهد رمضان استغفر له كل يوم سبعون ألف ملك، من صلاة الغداة إلى أن توارى بالحجاب، وكان له بكل سجدة سجدها في شهر رمضان بليل أو نهار شجرة يسير الراكب في ظلها خمس مائة عام) .
موضوع: "رواه البيهقي في "شعب الإيمان"، و"فضائل الأوقات" عن أبي سعيد الخدري، وذكره المنذري في "الترغيب والترهيب" وفيه محمد بن مروان السدي.
قال الذهبي: تركوه، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ والضعف على رواياته بين، وقال الحافظ: متهم بالكذب.
(177) (حديث: ابيضاض بدن آدم، بصيام أيام البيض) .
قال الشوكاني في "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" (ص 92) : قال صاحب الخلاصة: موضوع.
(178) (عن عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ذكر شهر رمضان ففصله على الشهور وقال:
"من قام رمضان إيمانا واحتسابا، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه") .
ضعيف: قال الألباني ضعيف ذكره "ضعيف سنن النسائي" رقم (127 ص 76) .
(179) (إن الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم، وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيماناً واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) .(1/445)
ضعيف: أخرجه أحمد والبخاري في "التاريخ الكبير" والنسائي وابن ماجه والبزار في "مسنده"، والخلال في "الأمالي"، وعبد الغني المقدسي في "فضائل شهر رمضان" وابن شاهين في "فضائل شهر رمضان" من طريق النضر بن شيبان.
قال البزار: تفرد به النضر.
وقال ابن خزيمة "إني خائف أن يكون هذا الإسناد وهماً، أخاف أن يكون أبو سلمة لم يسمع من أبيه شيئاً".
وقال النسائي بعد روايته هذا الحديث: "هذا خطأ الصواب حديث أبي سلمة عن أبي هريرة وقال ابن حجر في "التهذيب": "وقد جزم جماعة من الأئمة بأن أبا سلمة لم يصح سماعه من أبيه "وقال أيضاً في "التهذيب" (12/117) قال علي بن المديني
وأحمد وأحمد وابن معين وأبو حاتم ويعقوب بن شيبة وأبو داود: حديثه عن أبيه مرسل".
وضعفه الألباني في "ضعيف سنن النسائي" رقم (129 ص 76، 77) .
وقال ابن عبد البر: حديث النضر في سماع أبي سلمة عن أبيه لا يصححونه وذهب الشيخ أحمد شاكر في "تعليقه على السند" حديث رقم (1660 ج 1/127، 128) إلى تصحيح الحديث قال: إسناده صحيح. وقال "إن أبا سلمة مات سنة 94 عن 72 سنة أو أكثر فكانت سنه عند موت أبيه أكثر من 10 سنين، فما يبعد أن يحفظ عن أبيه أحاديث، وقد حفظ من هو أصغر من هذا وقبل الأئمة روايته، ولذلك لم يجزم البخاري بضعف هذا الحديث ولا علله وإنما ذكر أن حديث أبي سلمة عن أبي هريرة أصح وهو كما قال أصح.
(180) (إن أبواب الجنان تفتح في أول ليلة من رمضان إلى آخر ليلة منه فلا تغلق منها باب، وتغلق أبواب جهنم في أول ليلة من رمضان إلى آخر ليلة منه فلا يفتح منها باب، وتغل فيه مردة الشياطين لحق رمضان وحرمته، ويبعث الله مناديا ينادي في السماء الدنيا كل ليلة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر: يا باغىَ الخير هلم هل من داع يستجاب له، هل من سائل يعطى سؤله، من مستغفر يغفر له، من تائب يتب عليه، ولله تعالى عتقاء عند وقت فطر كل ليلة من شهر رمضان عبادا أو إماء) .(1/446)
ضعيف: رواه الخطيب في "التاريخ"، ورواه البيهقي في "شعب الإيمان" وفيه ناشب بن عمرو عن مقاتل بن حبان: قال الدارقطني: ضعيف، وقال البخاري منكر الحديث. ورواه الحافظ عبد الغني المقدسي في "فضائل شهر رمضان" وفيه ابن المذهب: قال الذهبي: ليس المتقن، وفيه القردواني: قال الحاكم: ليس بالمتين وفيه سابق البربري وهو غير سابق البربري الزاهد، ضعفه ابن عدي وذكره الذهبي في "المغني" في الضعفاء وسكت عنه ابن أبي حاتم في "الجرح".
(181) (نهى عن صيام الراداة) .
قال عمر بن حفص الوصابي: هو يوم الشك.
حديث منكر: قال ابن أبي حاتم في "علل الحديث" (1/247) "قال أبي هذا حديث منكر". وهو من رواية صالح مولى التومة عن أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(182) (عن عائشة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم، وكان أكثر صيامه في شعبان فقلت يا رسول الله: مالي أرى أكثر صيامك في شعبان فقال: يا عائشة إنه شهر ينسخ لملك الموت من يقبض فأحب أن لا ينسخ اسمي إلا وأنا صائم) .
حديث منكر: قال ابن حاتم في "علل الحديث" (1/250-251) "سألت أبي عن حديث وذكر الحديث قال أبي: هذا حديث منكر".
(183) (عن علي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من منعه الصيام من طعام أو شراب يشتهيه أطعمه الله من ثمار الجنة وسقاه من شرابها") .
حديث منكر: قال ابن حاتم في "علل الحديث" (1/251) : "قال أبي هذا حديث منكر".
(184) (ثلاث من فَعَلَهُن أطاق الصوم: من أكل قبل أن يشرب، وتسحر، وقال) .
ضعيف: رواه البزار عن أنس وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (2542) .(1/447)
(185) (ثلاث من حفظهن فهو ولي حقا، ومن ضيعهن فهو عدوي حقا: الصلاة، والصيام، والجنابة) .
ضعيف: رواه الطبراني في "الأوسط" عن أنس وسعيد بن منصور في "سننه"، عن الحسن مرسلا.
قال المناوي (3/290) "قال الهيثمي: فيه عدي بن الفضل وهو ضعيف".
وأعله الدارقطني في "علله" (8/243) بالإرسال.
وفيه "عبيد الله بن تمام ضعفه الدارقطني وأبو حاتم وأبو زرعة، وقال الساجي: كذاب يحدث بمناكير".
(186) عن أبي هريرة قال "أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاث أيام من كل شهر ولا أنام إلا على وتر، سبحة الضحى".
ضعيف: أخرجه البخاري في "تاريخه الكبير" في ترجمة أيوب بن يناق.
لم يذكر فيه البخاري جرحاً ولا تعديلا، وفيه يونس بن الحارث الطائفي ضعيف.
(187) عن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنه كان لا يرى بأسا بقضاء رمضان في عشر ذي الحجة".
ضعيف: رواه الطبراني في "الصغير" و"الأوسط" وقال الهيثمي: وفيه إبراهيم بن إسحاق وهو ضعيف "مجمع الزوائد" (3/179) . وقال الدارقطني: متروك.
(188) (لا يقض رمضان في عشر ذي الحجة، ولا تعمدن صوم يوم الجمعة، ولا تحتجم وأنت صائم، ولا تدخل الحمام وأنت صائم) .
ضعيف: رواه الدارقطني في "العلل" (3/175) ، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" عن علي مرفوعا، قال الدارقطني: والأصح وقفه وأخرجه موقوفا على علي ابن أبي شيبة في "مصنفه"، وعبد الرزاق في "المصنف".
(189) عن سعيد بن أبي وقاص "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصم يوم عاشوراء) .
ضعيف: رواه الدارقطني في "العلل" (4/396-370) وقال: "عن شعبة مرسلا وهو الصواب".(1/448)
(190) عن علي، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "في بيض النعام صوم يوم لكل بيضة".
ضعيف: ذكره الدارقطني في "العلل" (4/10-11) ، والبيهقي في "سننه" في كتاب الحج، باب بيض النعام يصيبها المحرم، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" وابن أبي شيبة.
(191) (إن الله يكتب الصيام بالليل، فمن صام فقد تعنى ولا أجر له) .
ضعيف: رواه الترمذي في "الجامع"، وابن السكن في "الصحابة" والدولابي في "الكنى" من حديث أبي سعيد الخير.
قال ابن حجر في "الفتح" (4/239) "قال ابن منده: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقال الترمذي. سألت البخاري عنه فقال: ما أرى أبا عبادة سمع من أبي سعيد الخير".
(192) (من صلى في آخر جمعة من رمضان، الخمس الصلوات المفروض في اليوم والليلة، قضت عنه ما أخل به من صلاة سنته) .
موضوع: قال الشوكاني في "الفوائد المجموعة" (ص 54) "هذا موضوع لا إشكال فيه، ولم أجده في شيء من الكتب التي جمع مصنفوها فيها الأحاديث الموضوعة، ولكنه اشتهر عند جماعة من المتفقهة بمدينة صنعاء في عصرنا هذا. وصار كثير منهم يفعلون ذلك، ولا أدري من وضعه لهم. فقبح الله الكذابين".
(193) (من صلى ليلة الفطر مائة ركعة يقرأ في كل ركعة الحمد مرة وقل هو الله أحد عشر مرات ويقول في ركوعه وسجوده عشر مرات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإذا فرغ من صلاته استغفر مائة مرة ثم يسجد ثم يقول: يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما يا أرحم الراحمين يا إله الأولين والآخرين اغفر لي ذنوبي وتقبل صومي وصلاتي والذي بعثني بالحق لا يرفع رأسه من السجود حتى يغفر الله له ويتقبل منه شهر رمضان ... إلخ) .(1/449)
موضوع: وأول الحديث: والذي بعثني بالحق نبياً: أن جبريل أخبرني عن إسرافيل عن الله -عز وجل-: "أن من صلى ليلة الفطر...."
قال الشوكاني في "الفوائد المجموعة" (ص 52) : موضوع ورواته مجاهيل.
(194) (من أحيا ليلة الفطر وليلة الأضحى لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) .
موضوع: رواه الطبراني في "الكبير" عن عبادة، وضعفه السيوطي.
قال المناوي في "فيض القدير" (6/39) : "قال الهيثمي فيه عمر بن هارون البجلي والغالب عليه الضعف، وأثنى عليه ابن مهدي لكن ضعفه جمع كثيرون".
وقال ابن حجر: حديث مضطرب الإسناد وفيه عمر بن هارون ضعيف، وقد خولف في صحابيه وفي رفعه، ورواه الحسن بن سفيان عن عبادة أيضاً وفيه بشر بن رافع متهم بالوضع، وأخرجه ابن ماجه من حديث بقية عن أبي أمامة بلفظ "من قام ليلتي العيد لله محتسباً لم يمت قلبه حين تموت القلوب، وتقية صدوق لكن كثير التدليس، وقد رواه بالعنعنة.
ورواه ابن شاهين بسند فيه ضعف ومجهول، وقال الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (5367) : موضوع.
(195) (أغنوهم -يعني المساكين- عن الطواف في هذا اليوم) .
ضعيف: رواه ابن عدي والدارقطني من حديث ابن عمر قال الحافظ في "بلوغ المرام" (ص 149) بإسناد ضعيف، قال الصنعاني في "سبل السلام" (2/138) "لأن فيه محمد بن عمر الواقدي وهو متروك متهم بالكذب".
(196) (عن أبي ذر أن جبريل قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إن الله قد قبل وصالك ولا يحل لأحد بعدك".
ضعيف: قال الحافظ في "الفتح": رواه الطبراني في "الأوسط" من حديث أبي ذر وليس إسناده بصحيح.
(197) (من صام ستة أيام بعد الفطر متتابعة فكأنما صام السنة) .(1/450)
ضعيف: قال ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص 233) : أخرجه الطبراني وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعاً من طرق ضعيفة.
(198) (صم رمضان، والذي يليه، وكل أربعاء وخميس؛ فإذا أنت قد صمت الدهر) .
ضعيف: رواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن مسلم القرشيي، وكذا رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال الترمذي غريب وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (3488) .
(199) (من قام ليلتي العيد محتسباً لله لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) .
موضوع: رواه ابن ماجه في "سننه" وقال الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه" (395) : موضوع.
(200) (كان يأمر بصيام البيض: ثلاث عشرة وأربع عشرة، وخمس عشرة ويقول: "هو كصوم الدهر" أو "كهيئة الدهر") .
ضعيف: رواه ابن ماجه وقال الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه" رقم (375) : ضعيف".
(201) (نعم الشهر شهر رمضان تُفَتّح فيه أبواب الجنان وتُغلق فيه أبواب النار، وتصفّد فيه الشياطين ويغفر فيه إلا لمن يأبَى) .
إسناده ضعيف: أخرجه الخطيب البغدادي في "تاريخه"، وابن شاهين في "فضائل شهر رمضان" عن أبي هريرة، وفيه أبو معشر نُجيح بن عبد الرحمن قال ابن المديني: كان يحدّث عن نافع وعن المقبري بأحاديث منكرة. قال أحمد: أصح الناس حديثا عن سعيد المقبري، ليث بن سعد، وأضعفهم عنه حديثا أبو معشر.
(202) (أُعْطيت أمتي في رمضان خمساً لم يعطهن نبي قبلي، أما واحدة: فإذا كان أول ليلة نظر الله عز وجل إليهم، ومن نظر الله عز وجل إليه لم يعذبه أبدا.
وأما الثانية: فإن خلوف أفواههم حين يُمسون أطيب عند الله -عز وجل- من ريح المسك.(1/451)
وأما الثالثة: فإن الملائكة تستغفر لهم في كل يوم وليلة.
وأما الرابعة: فإن الله عز وجل يأمر جنته فيقول تزيني واستعدي لعبادي.
وأما الخامسة: فإذا كان آخر ليلة غُفر لهم) .
إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "فضائل الأوقات" وابن شاهين في "فضائل شهر رمضان" عن أبي هريرة، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" إلى الأصبهاني في "الترغيب" وأبو الشيخ في "الثواب"، ومدار الحديث على الهيثم بن الحواري، وزيد العمي، وزيد العمي ضعيف الحديث. وفيه هشام بن أبي هشام -أبو المقدام- وهو متروك الحديث كما في "التقريب".
(203) (من أفطر يوماً من رمضان من غير مرض ولا رخصة فلا يفيه صيام الدهر كله وإن صامه) .
إسناده ضعيف: أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، والدارقطني، والخلال في "الأمالي" وابن حبان في "المجروحين".... عن ابن المطوس -أو أبي المطوس- عن أبيه عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري تعليقا (فتح الباري 8/305) .
(204) (إن الله تبارك وتعالى بنى جناناً كلها من ياقوت أحمر، أساسها وأعاليها شبّكت بالذهب، عليها ستور السندس والاستبرق، وكل جنة طولها مائة عام، [وعرضها مائة عام] ، في كل جنة مائة ألف قصر، في كل قصر قبّة بيضاء، سماؤها زبرجد أخضر، الأنهار تطرد في حيطانها، والأشجار دانية عليها، يقول: هذه الجنة صاحبها ينعم فلا ييأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تلك جنان بُنيت لمن صام شهر رمضان يهبها الله لأهلها يوم الفطر") .
موضوع: أخرجه ابن أبي الدنيا في "فضل شهر رمضان" وزاهر بن طاهر الشحامي في "تحفة عيد الفطر"، وابن عساكر في "أماليه". وفي إسناده النضر بن طاهر، كذاب يسرق الحديث كما قال ابن عدي والذهبي، وسلام بن سليم متروك الحديث ومتهم.(1/452)
(205) (اللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، والعافية المجلّلة، ورفع الأسقام، والعون على الصيام والصلاة وتلاوة القرآن، اللهم سلمنا لرمضان وسلّمه لنا وتسلّمه منا حتى يخرج رمضان وقد غفرت لنا ورحمتنا وعفوت عنا".
ثم يقبل على الناس بوجهه فيقول "أيها الناس: إن هذا شهر رمضان غُلَّتْ فيه الشياطين، وغُلّقت فيه أبواب جهنم، وفُتّحت فيه أبواب الجنان، ونادى مناد كل ليلة: هل من سائل فيُعطى، هل من مستغفر فأغفر له، اللهم أعط كل منفق خلفا، وعجّل لكل ممسك تلفا، حتى إذا كان يوم الفطر نادى منادٍ من السماء: اليوم يوم الجائزة فاغدوا فبادروا خذوا جوائزكم") .
إسناده ضعيف: رواه ابن أبي الدنيا في "فضائل شهر رمضان" وابن عساكر عن أبي جعفر وهو مرسل.
(206) (من أتى عليه شهر رمضان صحيحاً مسلماً صام نهاره وصلّى ورداً من ليله، وغضّ بصره، وحفظ فرجه ولسانه ويده وحافظ على صلاته مجموعة، وبكّر إلى جُمَعة فقد صام الشهر واستكمل الأجر وأدرك ليلة القدر، وفاز بجائزة الرب".
إسناده ضعيف: نفس إسناد الحديث (205) .
(207) (انبسطوا في النفقة في شهر رمضان فإن النفقة فيه كالنفقة في سبيل الله) .
إسناده ضعيف: رواه ابن أبي الدنيا في "فضائل شهر رمضان" عن ضمرة بن حبيب وراشد بن سعد وفيه أبو بكر بن أبي مريم والحديث مرسل.
(208) (نعم غداء المؤمن السحور إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين) .
إسناده ضعيف: رواه ابن أبي الدنيا في "فضل شهر رمضان" وأبو محمد الجوهري فيه أماليه عن ابن عمر وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وقد صح آخر الحديث.
(209) (الجماعة بركة، والثريد بركة، والسحور بركة، تسحروا فإنه يزيد في القوّة، تسحروا ولو على جرعة من ماء، صلوات الله على المتسحرين) .
إسناده ضعيف جدا: أخرجه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" وأبو نعيم(1/453)
وأبو موسى في "الصحابة" وابن أبي الدنيا في "فضائل شهر رمضان" عن أبي سعيد الإسكندراني وفيه. بحر السقاء متروك الحديث.
والحديث مرسل، فالإسكندراني ليس بصحابي.
(210) (إن الجنة تزخرف وتزين من الحول إلى الحول لدخول شهر رمضان، فإذا كانت أول ليلة من شهر رمضان هبّت ريح من تحت العرش يُقال لها: المتبرد فيصطفق ورق أشجار الجنان وحلق المصاريع، فيُسمع لذلك طنين لم يسمع السامعون أحسن منه، فتشرف الحور العين حتى يقفن على شجر الجنان فينادين: هل من خاطب إلى الله -عز وجل- فيزوجه، ثم يقلن: يا رضوان ما هذه الليلة فيجيبهن بالتلبية ثم يقول: يا خيرات حسان هذه أول ليلة من شهر رمضان فتفتح فيها أبواب الجنان للصائمين من أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول الله -عز وجل-: يا رضوان: افتح أبواب الجنان، يا مالك: اغلق أبواب الجحيم عن الصائمين من أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يا جبريل: اهبط إلى الأرض فصفِّدْ مردة الشياطين وغُلهُم في الأغلال ثم اقذف بهم في لجج البحار حتى لا يفسدوا على أمة حبيبي. قال: ثم يقول الله -عز وجل- في كل ليلة من شهر رمضان ثلاث مرات: هل من سائل فأعطيه سؤله، هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، من يقرض المليء غير المعدم، والوفي غير الظلوم، قال: ولله -عز وجل- في كل ليلة من شهر رمضان ألف ألف عتيق من النار، فإذا كان في ليلة الجمعة أو يوم الجمعة أعتق في كل ساعة منها ألف ألف عتيق من النار كلهم استوجب العذاب، فإذا كان أخر ليلة من شهر رمضان أعتق الله في ذلك اليوم بعدد ما أعتق من أول الشهر إلى آخره، فإذا كانت ليلة القدر أمر الله تبارك وتعالى جبريل عليه السلام فيهبط في كوكبة من الملائكة ومعه لواء أخضر مركز اللواء على ظهر الكعبة وله ستمائة جناح؛ منها جناحان لا ينشرهما إلا في ليلة القدر، فينشرهما في تلك الليلة فيجاوزان المشرق والغرب.
قال: ومكث جبريل والملائكة في هذه الأمة فيسلمون على كل قائم وقاعد ومصل وذاكر فيصافحونهم ويؤمنون على دعائهم حتى مطلع الفجر، فإذا طلع الفجر نادى جبريل: يا معشر الملائكة الرحيل الرحيل، فيقولون يا جبريل: ما صنع الله في(1/454)
حوائج المؤمنين من أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقول: إن الله -عز وجل- نظر إليهم في هذه الليلة فعفى عنهم وغفر لهم إلا أربعة: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهؤلاء الأربعة: رجل مدمن خمر، وعاق لوالديه، وقاطع رحم، ومشاحن"، فقيل: يا رسول الله وما المشاحن؟ قال: هو المصارم، فإذا كانت ليلة الفطر سميت ليلة "الجابرة"، فإذا كان غداة الفطر يبعث الله تبارك وتعالى الملائكة في كل بلد فيهبطون إلى الأرض فيقومون على أفواه السكك فينادون بصوت يسمعه جميع مَنْ خلق الله إلا الجن والإنس، فيقولون: يا أمة محمد اخرجوا إلى رب كريم يغفر العظيم، فإذا برزوا في مصلاهم يقول الله -عز وجل-: يا ملائكتي: ما جزاء الأجير إذا عمل عمله، فيقول الملائكة: إلهنا وسيدنا جزاؤه أن توفيه أجره، فيقول الله -عز وجل-: أشهدكم يا ملائكتي أني قد جعلت ثوابهم من صيامهم شهر رمضان وقيامهم رضاي ومغفرتي، فيقول الله -عز وجل-: سلوني وعزتي وجلالي لا تسألوني اليوم شيئاً في جمعكم هذا لآخرتكم إلا أعطيتكموه، ولا لدينا إلا نظرت لكم، وعزتي لأسترنّ عليكم عثراتكم ما راقبتموني، وعزتي لا أخزيكم ولا أفضحكم بين أصحاب الجدود -أو الحدود- انصرفوا مغفوراً لكم، قد أرضيتموني فرضيت عنكم. قال: فتفرح الملائكة ويستبشرون بما يعطي الله -عز وجل- هذه الأمة إذا أفطرت) .
إسناده ضعيف جدا. رواه عبد الغني المقدسي في "فضائل شهر رمضان" عن ابن عباس. ورواه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" لأبي الشيخ في "الثواب"، و"البيهقي" والأصبهاني. وذكره السيوطي في "اللآلئ المصنوعة".
والحديث لا يصح لأنه مسلسل بالضعفاء، والانقطاع بين الضحاك وابن عباس.
(211) (من اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله باعد الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق كل خندق كما بين الخافقين) .
ضعيف: كما ورد في "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" بالسعودية - فتوى رقم (6718) .
(212) (أظلكم شهركم هذا؛ بمحلوف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ما مر بالمسلمين(1/455)
المسلمين شهر خير لهم منه، وما مر بالمنافقين شهر شر منه، إنه ليكتب أجره ونوافله قبل
أن يدخل، ويكتب إصره وشقاؤه قبل أن يدخل، وذلك أن المؤمن يعد القوة بالعبادة والنفقة، ويعدّ النافق غفلة المؤمنين واتباع عوراتهم وهو غنيمة للمؤمن يغنمه الله -عز وجل- أجره) .
ولفظ أحمد في "مسنده" (8350) :
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لمحلوف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان ولا أتى على المنافقين شهر شر من رمضان وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة والعبادة، وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم، هو غنم والمؤمن يغتنمه الفاجر".
إسناده ضعيف: أخرجه أحمد، وابن خزيمة، والعقيلي في "الضعفاء"، والبيهقي في "الكبرى" وفي "فضائل الأوقات" وعبد الغني المقدسي في "فضائل شهر رمضان" وابن أبي الدنيا وابن شاهين في "فضائل شهر رمضان" عن عمرو بن تميم عن أبيه عن أبي هريرة.
قال البخاري: "عمرو بن تميم عن أبيه، عن أبي هريرة في "فضل شهر رمضان"، روى عنه كثير بن زيد: في حديثه نظر.
وأبوه: تميم بن يزيد -مولى بن زمعة- قال الحسيني في "الإكمال" (ص 55) : مجهول وتبعه الحافظ بن حجر -على ذلك- في "تعجيل المنفعة" (ص 44) .
وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (1020) .
قال الشيخ أحمد شاكر في "تخريج مسند أحمد" (16/158) رقم الحديث (8350) : إسناده صحيح.
(213) (أظلكم شهركم هذا بمحلوف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ما مر بالمؤمنين شهر خير لهم منه، ولا بالمنافقين شهر شر لهم منه، إن الله -عز وجل- ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يُدخله، ويكتب إصره وشقاءه من قبل أن يدخله وذلك أن المؤمن يعد فيه القوة للعبادة من النفقة، ويعد المنافق اتباع غفلة الناس واتباع عوراتهم، فهو غنم للمؤمن يغتنمه المنافق) .(1/456)
ضعيف: "رواه الإمام أحمد، والبيهقي، والطبراني في "الأوسط"، وابن خزيمة في "صحيحه" عن أبي هريرة مرفوعا وسكت عنه المنذري، وأورده الهيثمي، وقال: "رواه أحمد والطبراني في "الأوسط" عن تميم مولى ابن رمانة ولم أجد من ترجمه" ا. هـ (1) .
***
__________
(1) "بين يدي رمضان" لمحمد بن إسماعيل المقدم (ص 9-10) .(1/457)
الباب الثاني عشر
الصوم على أربعين وجهًا
"علي زين العابدين"
رحمه الله(1/459)
قال علي زين العابدين -رحمه الله-: "الصوم على أربعين وجهاً:
عشرة منها واجبة كوجوب شهر رمضان.
وعشرة منها حرام.
وأربعة عشر خصة صاحبها بالخيار: إن شاء صام، وإن شاء أفطر.
وصوم النذر واجب، وصوم الاعتكاف واجب".
ثم فسّرهُنّ فقال:
أما الواجب:
* فصوم شهر رمضان.
* وصيام شهرين متتابعين - يعني في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق.
قال تعالى: (ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليماً حكيما) [النساء: 92] .
* وصيام ثلاثة أيام في كفارة اليمين لمن لم يجد الإطعام، قال الله -عز وجل-: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) [المائدة: 89] .
* وصيام حلق الرأس، قال الله تعالى: (فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) [البقرة: 196] صاحبه بالخيار إن شاء صام ثلاثا.
* وصوم المتعة لمن لم يجد الهدي، قال الله تعالى: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ... ) [البقرة: 196] .
* وصوم جزاء الصيد، قال الله عز وجل: (ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم) [المائدة: 95] ، وإنما يقوم ذلك الصيد قيمة ثم يقص ذلك الثمن على الحنطة.(1/461)
وأما الذي صاحبه بالخيار:
فصوم الاثنين، والخميس، وصوم ستة أيام من شوال بعد رمضان، ويوم عرفه، ويوم عاشوراء، كل ذلك صاحبه بالخيار: إن شاء صام وإن شاء أفطر (1) .
وأما صوم الإذن: فالمرأة لا تصوم تطوعاً إلا بإذن زوجها، وكذلك العبد والأمة.
وأما صوم الحرام:
فصوم يوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيام التشريق، ويوم الشك نهينا أن نصومه كرمضان، وصوم الوصال حرام، وصوم الصمت حرام، وصوم نذر المعصية حرام، وصوم الدهر حرام، والضيف لا يصوم تطوعاً إلا بإذن صاحبه، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من نزل على قوم فلا يصومن تطوعاً إلا بإذنهم" (2) .
* ويؤمر الصبي بالصوم إذا لم يراهق "تأنيساً وليس بفرض".
وكذلك من أفطر لعلة من أول النهار ثم وجد قوة في بدنه أمر بالإمساك وذلك تأديب الله -عز وجل- وليس بفرض.
* وكذلك المسافر إذا أكل من أول النهار ثم قدم أمر بالإمساك.
* وأما صوم الإباحة، فمن أكل أو شرب ناسياً من غير عمد فقد أُبيح له ذلك وأجزأه.
* وأما صوم المريض، وصوم المسافر، فإن العامة اختلفت فيه، فقال بعضهم يصوم، وقال قوم لا يصوم، وقال قوم: إن شاء صام وإن شاء أفطر، وأما نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعاً، فإن أفطر في السفر والمرض فعليه القضاء (3) قال الله -عز وجل-: (فعدة من أيام أخر) [البقرة: 184] (4) .
__________
(1) ومنه أيضاً: ثلاثة أيام من كل شهر، الثلاثة البيض من كل شهر، صيام يوم وإفطار يوم، صيام عشر ذي الحجة "أي: التسع منها".
(2) سبق الكلام على ضعفه.
(3) وهذا القول مرجوح.
(4) "حلية الأولياء" (3/141، 142) .(1/462)
"قال ابن الجوزي: الصيام ينقسم على أحد عشر ضرباً، صيام الفرض، وصيام الظهار، وصيام النقل، وصيام الوطء في رمضان، وصيام كفارة اليمين، صيام فدية الأذى، وصيام التمتع، وصيام إفساد الحج، وصيام كفارة قتل الصيد، وصيام النوافل، وصيام النذر، والأيام المنهي عن صيامها ستة: يوم الفطر، ويوم الأضحية، وثلاثة أيام بعد أيام التشريق، ويوم الشك" (1) .
***
__________
(1) "بستان الواعظين" لابن الجوزي (ص 299-300) .(1/463)
الباب الثالث عشر
الصوم المندوب والمنهي عنه(1/465)
اعلم يا أخي أن الصوم على نوعين:
"أ- الصوم الواجب.
ب- الصوم المندوب.
الصوم الواجب: ينقسم إلى:
(أ) واجب بإلزام الشرع ابتداءً:
* كصوم رمضان، والكفارة من الفطر بالجماع في نهاره، وكفارة الظهار، والقتل، وكل منهما شهران متتابعان.
* وكفارة اليمين، وفدية الأذى في الإحرام، وكل منهما ثلاثة أيام.
* وفدية التمتع والقران وكل منهما عشرة أيام.
* وجزاء الصيد وهو تقويم البدنة بدراهم، والدراهم بطعام. فيصام بدلاً عن كل مدّ يوم.
(ب) ما يجب بالالتزام: النذر، وقد نزله الشارع منزلة ما ألزمه ابتداء من الواجبات.
فهذا ما يتعلق بالصوم الواجب" (1) .
الصوم المندوب
"الصوم في الجملة من العباد أمر مطلوب، وثمرته تجنى في الآخرة إذ هو إلى الله منسوب. وهو ينقسم إلى قسمين:
(أ) مطلق. قد أثنى الله على الصائمين والصائمات ثم قال مجازياً "أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً".
(ب) مقيد بزمن: وهو على ضربين:
(1) معين.
(2) ومبهم.
__________
(1) "مدارك المرام في مسالك الصيام" للمحدث قطب الدين القسطلاني" (ص 22-23) الأزهر.(1/467)
الصوم المقيد بزمن وهو معين:
وهو أنواع:
النوع الأول: صوم الأشهر: وهي أربعة أزمان:
(1) الزمن الأول: شهر الله المحرم.
(2) الزمن الثاني: شهر شعبان.
(3) الزمن الثالث: شهر شوال.
(4) الزمن الرابع: الأشهر الحرم.
(5) الزمن الخامس: شهر رجب.
النوع الثاني: صوم الأيام منها:
(1) صوم عشر ذي الحجة.
(2) صوم يوم عرفة.
(3) صوم يوم عاشوراء وتاسوعاء.
(4) صوم أيام البيض.
(5) صوم يوم الاثنين والخميس وما يغتنم من عانى ذلك من الأجر النفيس.
الصوم المقيد بزمن وهو مبهم وهو نوعان:
أ- غب الصوم وهو إفطار يوم وصوم يوم.
ب- ثلاثة أيام من كل شهر.(1/468)
ويمكن إجمال ما سبق هكذا:
الصوم المندوب
1- مطلق
2- مقيد بزمن [معين - مبهم]
- - معين
- - - صوم الأشهر [المحرم - شعبان - شوال - الأشهر الحرم - رجب]
- - - صوم الأيام [عشر ذي الحجة - يوم عرفة - عاشوراء والتاسع - أيام البيض - الاثنين والخميس]
- - مبهم (مثال غب الصوم، ثلاثة أيام من كل شهر)(1/469)
صيام شهر الله المحرم
* قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أفضل الصلاهّ بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم" (1) .
* وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل الصيام بعد رمضان الشهر الذي تدعونه المحرم" (2) .
* وعند مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل".
قال النووي: "فإن قيل إن أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم، فكيف أكثر منه في شعبان دون المحرم" (1) .
والجواب: لعله لم يعلم فضل المحرم إلا في آخر الحياة قبل التمكن من صومه. أو لعله كان يعرض فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه كفر ومرض وغيرهما".
قال المناوي (1/41) : " [أفضل الصيام بعد شهر رمضان] المضاف محذوف أي أفضل شهور الله (شهر الله) قال الزمخشري إضافة إليه عزّ أسمه تعظيماً له وتفخيماً، وخصّ بهذه الإضافة دون بقية الشهور مع أن فيها أفضل منه إجماعاً، لأنه اسم إسلامي فإنه اسمه في الجاهلية صفر الأول وبقية الشهور متحدة الأسماء جاهلية وإسلاماً".
قال العلامة ابن رجب الحنبلي:
"الحديث صريح في أن أفضل ما تطوع به من الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وقد يحتمل أنه يراد أنه أفضل شهر تطوع بصيامه كاملاً بعد رمضان، فأما بعض التطوع ببعض شهر فقد يكون أفضل من بعض أيامه كصيام يوم عرفة أو عشر ذي الحجة أو ستة أيام من شوال ونحو ذلك. ولكن يقال أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم شهر شعبان ولم ينقل إنه كان يصوم المحرم، إنما كان يصوم عاشوراء، وقوله في آخر سنة لئن عشت إلى قابل
__________
(1) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه الروياني في "مسنده"، والطبراني في "الكبير" عن جندب.
(2) صحيح: رواه النسائي عن جندب، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1121) .(1/470)
لأصومن التاسع يدل على أنه كان لا يصوم التاسع قبل ذلك. وقد أجاب الناس عن هذا السؤال بأجوبة فيها ضعف والذي ظهر لي والله أعلم أن التطوع بالصيام نوعان:
* أحدهما: التطوع المطلق بالصوم فهذا أفضله المحرم كما أن أفضل التطوع المطلق بالصلاة قيام الليل.
* والثاني: ما صيامه تبع لصيام رمضان قبله أو بعده: فهذا ليس من التطوع المطلق بل صيامه تبع لصيام رمضان وهو ملتحق بصيام رمضان، ولهذا قيل أن صيام ستة من شوال يلتحق بصيام رمضان ويكتب بذلك لمن صامها مع رمضان صيام الدهر.
فهذا النوع من الصيام ملتحق برمضان وصيامه أفضل التطوع مطلقاً.
فأما التطوع المطلق فأفضله صيام الأشهر الحرم، وأفضل صيام الأشهر الحرم صيام شهر الله المحرم.
ويشهد لهذا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في هذا الحديث وأفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل، ومراده بعد المكتوبة ولو أحقها من سننها الرواتب، فإن الرواتب قبل الفرائض، وبعدها أفضل من قيام الليل عند جمهور العلماء لالتحاقها بالفرائض.
فكذلك الصيام قبل رمضان وبعده ملتحق برمضان، وصيامه أفضل من صيام الأشهر الحرم. وأفضل الأشهر الحرم المحرم كما قال الحسن: إن الله افتتح السنة بشهر حرام وختمها بشهر حرام فليس شهر في السنة بعد رمضان أعظم عند الله من المحرم.
وكان يسمى شهر الله.
وأفضل شهر الله المحرم عُشره الأول، وقال أبو عثمان النهدي: كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان والعشر الأول من ذي الحجة والعشر الأول من المحرم.
ولما كان الأشهر الحرم أفضل الأشهر بعد رمضان أو مطلقاً، وكان صيامها كلها مندوباً إليه وكان بعضها ختام السنة الهلالية وبعضها مفتاحاً لها فمن صام شهر ذي الحجة سوى الأيام المحرم صيامها منه، وصام المحرم، فقد ختم السنة بالطاعة وافتتحها بالطاعة فيرجى أن تكتب له سنته كلها طاعة، فإن من كان أول عمله طاعة وآخره طاعة فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين.(1/471)
قال ابن المبارك: من ختم نهاره بذكر كتب نهاره كله ذكراً يشير إلى أن الأعمال
بالخواتم، فإذا كان البداءة والختام ذكراً فهو أولى أن يكون حكم الذكر شاملاً للجميع.
وقد سمى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المحرم شهر الله وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله، فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته، ولما كان هذا الشهر مختصاً بإضافته إلى الله تعالى، وكان الصيام من بين الأعمال مضافاً إلى الله تعالى، فإن له من بين الأعمال ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه المختص به وهو الصيام.
شهر الحرام مبارك ميمون ... والصوم فيه مضاعف مسنون
وثواب صائمه لوجه إلهه ... في الخلد عند مليكه مخزون (1)
"قال الزمخشري: خصه من بين الأشهر الحرم لمكان عاشوراء، فأفضل الأشهر لصوم التطوع المحرم.
وتفضيل صوم داود باعتبار الطريقة، وهذا باعتبار الزمن، فطريقة داود في المحرم أفضل من طريقته في غيره" (2) .
صوم شعبان
عن عائشة رضي الله عنها قالت:
"كان أحب الشهور إليه أن يصومه شعبان ثم يصله برمضان" (3) .
* وعن أسامة بن زيد قال: قلت يا رسول الله لم أراك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين وجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن ورفع عملي وأنا صائم" (4) .
__________
(1) "لطائف المعارف" (29-32) .
(2) "فيض القدير" (1/41) .
(3) صحيح: رواه أبو داود عن عائشة، ورواه النسائي وابن خزيمة والحاكم في "المستدرك" وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4628) .
(4) حسن: أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3711) .(1/472)
وعند البيهقي في "الشعب":
"شعبان بين رجب وشهر رمضان تغفل الناس عنه، ترفع فيه أعمال العباد، فأحب أن لا يرفع عملي إلا وأنا صائم".
* وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما صام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً كاملاً قط غير رمضان، ويصوم حتى يقول القائل، لا والله ما يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم" رواه البخاري.
* وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان" رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي.
* وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "لم يكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم شهراً أكثر من شعبان، وكان يصوم شعبان كله" وزاد مسلم "كان يصوم شعبان إلا قليلاً".
قال ابن حجر (4/252) :
"وهذا يبين أن المراد بقوله في حديث أم سلمة عند أبي داود وغيره "أنه كان لا يصوم من السنة شهراً تاماً إلا شعبان يصله برمضان" أي كان يصوم معظمه، ونقل الترمذي عن ابن المبارك أنه جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول صام الشهر كله، ويقال: قام فلان ليلته أجمع ولعلّه قد تعشى واشتغل ببعض أمره، قال الترمذي. كأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك، وحاصله أن الرواية الأولى مفسرة للثانية مخصصة لها وأن المراد بالكل الأكثر وهو مجاز قليل الاستعمال.
واستبعده الطيبي قال: لأن الكل تأكيد لإرادة الشمول ودفع التجوز، فتفسيره بالبعض مناف له، قال: يحمل على أنه كان يصوم شعبان كله تارة ويصوم معظمه تارة أخرى لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان.
والأول هو الصواب ويؤيده رواية عبد الله بن شقيق عن عائشة عند مسلم، وسعد ابن هشام، عنها عند النسائي ولفظه "ولا صام شهراً كاملاً قط منذ قدم المدينة غير رمضان" وهو مثل حديث ابن عباس المذكور".(1/473)
قال السندي قوله: "وهو شهر ترفع فيه الأعمال ... " قيل: وما معنى هذا مع أنه ثبت في الصحيحين أن الله تعالى يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل؟ قلت: يحتمل أمران:
أحدهما: أن أعمال العباد يعرض على الله تعالى كل يوم ثم تعرض عليه أعمال الجمعة كل اثنين وخميس ثم تعرض عليه أعمال السنة في شعبان فتعرض عرضاً بعد عرض ولكل عرض حكمة يطلع عليها من شاء من خلقه أو يستأثر بها عنده مع الله تعالى لا يخفى عليه من أعمالهم خافية.
ثانيهما: أن المراد أنها تُعرض في اليوم تفصيلاً ثم في الجمعة جملة أو بالعكس (1) باب: "الصوم من آخر الشهر" يعني شعبان.
عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له أو لآخر: "أصمت من سرر شعبان؟ قال: لا، قال: فإذا أفطرت فصم يومين" (2) .
وفي رواية عند مسلم "فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه".
قال ابن حجر: "السرر بفتح السين المهملة ويجوز كسرها وضمها جمع سرة ويقال أيضاً سرار بفتح أوله وكسره، ورجّح الغراء الفتح، وهو من الاستسرار، قال أبو عبيد والجمهور: المراد بالسرر هنا آخر الشهر، سميت بذلك لاستسرار القمر فيها وهي ليلة ثمان وعشرين وتسع وعشرين وثلاثين. ونقل داود عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز أن سرره أوله، ونقل الخطابي عن الأوزاعي كالجمهور".
قال النووي في "شرح مسلم" (3/228-229) :
"قال البيهقي في "السنن الكبير" بعد أن روى الروايتين عن الأوزاعي: الصحيح آخره، ولم يعرف الأزهري أن سرره أوله، قال الهروي: والذي يعرفه الناس أن سرره آخره".
قال القاضي. الأشهر أن المراد بآخر الشهر كما قاله أبو عبيد والأكثرون، وعلى هذا يقال: هذا الحديث مخالف للأحاديث الصحيحة في النهي عن تقديم رمضان بصوم يوم
__________
(1) "حاشية السندي على سنن النسائي" (ج 4/202) .
(2) رواه مسلم واللفظ له والبخاري وعند البخاري "أما صمت سَرَر هذا الشهر".(1/474)
ويومين، ويجاب عنه بما أجاب المازري وغيره، وهو أن هذا الرجل كان معتاد الصيام آخر الشهر أو نذره فتركه بخوفه من الدخول في النهي عن تقدم رمضان، فبين له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الصوم المعتاد لا يدخل في النهي وإنما ينتهي عن غير المعتاد والله أعلم.
وقال ابن حجر في "الفتح" (4/271) :
"يؤخذ من الحديث: الندب إلى صيام أواخر كل شهر ليكون عادة للمكلف فلا يعارضه النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين لقوله فيه (إلا رجلاً كان يصوم يوماً فليصمه) ".
قال ابن حجر (4/271) :
"أشار القرطبي إلى أن الحامل لمن حمل سرر الشهر على غير ظاهره وهو آخر الشهر الفرار من المعارضة لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تقدم رمضان بيوم أو يومين وقال: الجمع بين الحديثين ممكن بحمل النهي على من ليست له عادة بذلك، وحمل الأمر على من له عادة حملاً للمخاطب بذلك على ملازمة عادة الخير حتى لا يقطع".
صوم يوم من شعبان يعدل صوم يومين من غيره:
قال ابن حجر "قال -أي القرطبي- وفيه إشارة إلى فضيلة الصوم في شعبان وأن صوم يوم يعدل صوم يومين في غيره أخذاً من قوله في الحديث (فصم يومين مكانه) يعني مكان اليوم الذي فوّته من صيام شعبان. قلت: وهذا لا يتم إلا إنْ كانت عادة الخاطب بذلك أن يصوم من شعبان يوماً واحداً، وإلا فقوله (هل صمت من سرر هذا الشهر شيئاً) أعم من أن يكون عادته صيام يوم منه، أو أكثر، نعم وقع في سنن أبي مسلم الكجي (فصم مكان ذلك اليوم يومين) ".
لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم" رواه البخاري.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تقدموا الشهر بيوم ولا بيومين، إلا أن يوافق ذلك عموماً كان يصومه(1/475)
أحدكم، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم، فعدوا ثلاثين، ثم أفطروا" (1) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تقدموا شهر رمضان بصوم قبله بيوم ولا بيومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صوماً فليصمه" (2) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تقدموا الشهر بصيام يوم ولا يومين، إلا أن يكون شيء يصومه أحدكم، لا تصوموا حتى تروه، ثم صوموا حتى تروه، فإن حال دونه غمام، فأتموا العدة ثلاثين، ثم أفطروا، والشهر تسع وعشرون" (3) .
قال ابن حجر (4/152، 153) :
"أي لا يتقدم رمضان بصوم يوم يعد منه بقصد الاحتياط فإن صومه مرتبط بالرؤية فلا حاجة إلى التكليف".
قال العلماء: معنى الحديث لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان.
قال الترمذي لما أخرجه: العمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان ا. هـ.
ومقتضى الحديث أنه لو تقدمه بصيام ثلاثة أيام أو أربعة جاز ويجوز لمن له عادة.
ومعنى الاستثناء: "أن من كان له ورد فقد أذن له فيه لأنه اعتاده والله وترك المألوف شديد وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء، ويلتحق بذلك القضاء والنذر لوجوبهما".
حكم التطوع بالصيام بعد انتصاف شعبان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يكون رمضان" (4) .
__________
(1) صحيح: رواه الترمذي وأحمد والدارقطني عن أبي هريرة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7393) .
(2) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة.
(3) صحيح: رواه أحمد والنسائي والترمذي والدارمي والحاكم وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7392) .
(4) صحيح: رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (397) .(1/476)
وفي رواية الترمذي: "إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا".
اختلف العلماء في صحة هذا الحديث منهم من صححه ومنهم من ضعفه.
أما الذين صححوه فقد أوّلوه ففسروه تفسيراً لا يتعارض مع ما تقدم من الأدلة على كثرة الصيام في شعبان:
* فقد قال الترمذي عقب روايته: "حديث حسن صحيح لا نعرفه إلّا من هذا الوجه على هذا اللفظ"، ثم قال: ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن يكون الرجل مفطراً فإذا بقي من شعبان شيء أخذ في الصوم لحال شهر رمضان ا. هـ.
وقال ابن خزيمة في "صحيحه" (3/282) :
"باب إباحة وصل صوم شعبان بصوم رمضان"، والدليل على أن معنى خبر أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان" أي لا تواصلوا شعبان برمضان فتصوموا جميع شعبان لا أنه نهي عن الصوم إذا انتصف شعبان نهياً مطلقاً.
هذا كلام من صحح الحديث وخلاصته أن النهي محمول على اختصاص النصف الأخير بالصيام أو على عدم وصل شعبان برمضان.
* أما الذين ضعفوه:
فقد قال ابن حجر (4/153-154) :
"قال جمهور العلماء. يجوز الصوم تطوعاً بعد النصف من شعبان وضعفوا الحديث الوارد فيه. وقال أحمد وابن معين إنه منكر وقد استدل البيهقي بحديث الباب على ضعفه فقال: الرخصة في ذلك بما هو أصح من حديث العلاء وكذا صنع قبله الطحاوي واستظهر بحديث ثابت عن أنس مرفوعاً "أفضل الصيام بعد رمضان شعبان" لكن إسناده ضعيف، واستظهر أيضاً بحديث عمران بن حصين، ثم جمع بين الحديثين بأن حديث العلاء محمول على من يضعفه الصوم، وحديث الباب مخصوص بمن يحتاط بزعمه لرمضان، وهو جمع حسن والله أعلم".
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في "لطائف المعارف" (ص 142) :(1/477)
"اختلف العلماء في صحة هذا الحديث ثم في العمل به".
فأما تصحيحه فصححه غير واحد منهم الترمذي وابن حبان والحاكم والطحاوي وابن عبد البر.
وتكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء وأعلم وقالوا: هو حديث منكر، منهم عبد الرحمن ابن مهدي، والإمام أحمد، وأبو زرعة الرازي، والأثرم.
وقال الإمام أحمد: لم يرو العلاء حديثاً أنكر منه وردّه بحديث "لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين "فإن مفهومه جواز التقدم بأكثر من يومين.
وقال الأثرم: الأحاديث كلها تخالفه. يشير إلى أحاديث صيام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شعبان ووصله برمضان ونهيه عن التقدم على رمضان بيومين، فصار الحديث حينئذ شاذاً مخالفاً للأحاديث الصحيحة.
وقال الطحاوي: "هو منسوخ وحكى الإجماع على ترك العمل به، وأكثر العلماء على أنه لا يعمل به".
قال ابن عبد البر في "التمهيد" (2/40) :
"اختلف العلماء في صوم آخر يوم من شعبان تطوعاً، فأجازه مالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأبو حنيفة وأصحابه، وأكثر الفقهاء إذا كان تطوعا ولم يكن خوفاً ولا احتياطاً أن يكون من رمضان. ولا يجوز عندهم صومه على الشك.
وقال مالك: إن تيقن أنه من شعبان جاز صومه تطوعاً، وهو قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا يصام يوم الشك إلا تطوعاً، وقال الثوري: لا يتلوم يوم الشك ولا يصوم أحد يوم الشك.
قال ابن رجب في "اللطائف" (ص 149) :
"قالت طائفة: حديث عمران يدل على أنه يجوز صيام يوم الشك وآخر شعبان مطلقاً سواءً وافق عادة أو لم يوافق وإنما نهي عنه إذا صامه بنية الرمضانية احتياطا وهذا مذهب مالك، وذكر أنه القول الذي أدرك عليه أهل العلم حتى قال محمد ابن مسلمة من(1/478)
أصحابه يكره الأمر بفطره لئلا يعتقد وجوب الفطر قبل الشهر كما وجب بعده، وحكى ابن عبد البر هذا القول عن أكثر علماء الأمصار".
وقال أيضاً (ص 151) : "صيام آخر شعبان له ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يصومه بنية الرمضانية احتياطاً لرمضان فهذا منهي عنه وقد فعله بعض الصحابة وكأنهم لم يبلغهم النهي عنه.
والثاني: أن يصام بنية الندب أو قضاء عن رمضان أو عن كفارة ونحو ذلك فجوّزه الجمهور ونهى عنه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بفطر مطلقاً.
والثالث: أن يصام بنية التطوع المطلق فكرهه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بالفطر منهم الحسن وإن وافق صوماً كان يصومه ورخّص فيه مالك ومن وافقه.
وفرق الشافعي والأوزاعي وأحمد وغيرهم بين أن يوافق عادة أولا، وكذلك يفرق بين من تقدم صيامه بأكثر من يومين ووصله برمضان فلا يكره أيضاً إلا عند من كره الابتداء بالتطوع بالصيام بعد نصف شعبان".
* قال ابن عبد البر في "الاستذكار" (10/328) : "استحب ابن عباس وجماعة من السلف رحمهم الله أن يفصلوا بين شعبان ورمضان بفطر يوم أو أيام، كما كانوا يستحبون أن يفصلوا بين صلاة الفريضة بكلام أو قيام أو مشي أو تقدم أو تأخر من المكان.
وفي "مصنف عبد الرزاق" (4/158) : عن عطاء قال: كنت عند ابن عباس قبل رمضان بيوم أو يومين فقرب غداؤه فقال: "أفطروا أيها الصيام: لا تواصلوا رمضان شيئاً، وافصلوا".
* قال ابن رجب: "قيل في صوم شعبان أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط.
ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن.(1/479)
قال سلمة بن كهيل: كان يقال: شهر شعبان شهر القراء، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القرّاء، وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرّغ لقراءة القرآن.
يا مَنْ فرط في الأوقات الشريفة وضيّعها وأودعها الأعمال السيئة وبئس ما استودعها.
مضى رجب وما أحسنت فيه ... وهذا شهر شعبان المباركْ
فيا من ضيع الأوقات جهلاً ... بحرمتها أفق واحذر بواركْ
فسوف تفارق اللذات قسراً ... ويخلي الموت كرهاً منك دارك
تدارك ما استطعت من الخطايا ... بتوبة مخلص واجعل مدارك
على طلب السلامة من جحيم ... فخير ذوي الجرائم مَنْ تدارك
ليلة النصف من شعبان:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله يطلع فى ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن" (1) .
وعن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله إلى خلقه، فيغفر للمؤمنين، ويملي للكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه" (2) .
وعند الطبراني في "الكبير" بلفظ:
"إن الله يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمؤمنين ويملي للكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه" (3) .
قال الألباني: "لا يلزم من ثبوت هذا الحديث اتخاذ هذه الليلة موسماً يجتمع
__________
(1) حديث صحيح: أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"، وابن حبان، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وابن عساكر في "التاريخ" قال الألباني: "حديث صحيح رُوي عن جماعة من الصحابة من طرق مختلفة يشد بعضها بعضاً وهم معاذ بن جبل وأبو ثعلبة الخشني وعبد الله بن عمرو وأبي موسى الأشعري وأبي هريرة وأبى بكر الصديق وعوف ابن مالك وعائشة". "السلسلة الصحيحة" رقم (1144/3/135) .
(2) حسن: رواه البيهقي في "شعب الايمان"، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (771) .
(3) حسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1798) .(1/480)
الناس فيها" (1) .
قال ابن رجب: "أما صيام يوم النصف منه فغير منهي عنه فإنه من جملة أيام البيض الغر المندوب إلى صيامها من كل شهر" (2) فمن صامها من جملة أيام البيض فقد وافق السنة.
فصم يومها لله وأحسن رجاءه ... لتظفر عند الكرب منه بلطفه
أخي: أشرف هذا الشهر ليلة نصفه فأين أنت من شعبان وأيامه وليلة نصفه.
ليالي شعبان وليلة نصفه ... بأيه حال قد تنزل لي صكي
وحق لعمري أن أديم تضرعي ... لعل إله الخلق يسمح بالفك
صيام ستة أيام من شوال
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام رمضان، وأتبعه ستاً من شوال كان كصوم الدهر" (3) .
وروى مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر".
قال المناوي: "خص شوال لأنه زمن يستدعي الرغبة فيه إلى الطعام لوقوعه عقب الصوم، فالصوم حينئذ أشق، فثوابه أكثر".
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام ستة أيام بعد الفطر، كان تمام السنة (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) " (4) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بعده بشهرين، فذلك صيام السنة" (5) .
__________
(1) "تحقيق الألباني في كتاب إصلاح المساجد للقاسمي" (ص 99) .
(2) "لطائف المعارف" (ص 143) .
(3) رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي أيوب.
(4) صحيح: رواه ابن ماجه عن ثوبان، والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6328) .
(5) صحيح: رواه الدارمي وابن ماجه وابن خزيمة والطحاوي وابن عساكر وأحمد والنسائي وابن حبان عن ثوبان وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3851) .(1/481)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "جعل الله الحسنة بعشر أمثالها، الشهر بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بعد الشهر تمام السنة" (1) .
قال ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص 232-238) بعد إيراده الحديث أبي أيوب:
"اختلف في هذا الحديث وفي العمل به فمنهم من صححه، ومنهم من قال هو موقوف، قاله ابن عيينة وغيره وإليه يميل الإمام أحمد، ومنهم من تكلم في إسناده".
وأما العمل به فاستحب صيام ستة من شوال أكثر العلماء، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وطاوس والشعبي وميمون بن مهران، وهو قول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق.
* وأنكر ذلك آخرون.
وروي عن الحسن أنه كان إذا ذكر عنده صيام هذه الستة قال: لقد رضي الله بهذا الشهر للسنة كلها، ولعله إنما أنكر على من اعتقد وجوب صيامها وأنه لا يكتفى بصيام رمضان عنها في الوجوب وظاهر كلامه يدل على هذا.
* وكرهها الثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف، وعلل أصحابهما ذلك مشابهة أهل الكتاب يعنون في الزيادة في صيامهم المفروض عليهم ما ليست منه. وأكثر المتأخرين من مشايخهم قالوا لا بأس به وعللوا أن الفطر قد حصل بفطر يوم العيد حكى ذلك صاحب الكافي منهم.
* وكان مهدي يكرهها ولا ينهي عنها.
وكرهها أيضاً مالك وذكر في "الموطأ" أنه لم ير أحداً من أهل العلم يفعل ذلك، وقد قيل أنه كان يصومها في نفسه، وإنما كرهها على وجه يخشى منه أن يعتقد فريضتها لئلا يزاد في رمضان ما ليس منه.
* وأما الذين استحبوا صيامها فاختلفوا في صيامها على ثلاثة أقوال:
__________
(1) صحيح: ذكره أبو الشيخ في "الثواب" عن ثوبان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3094) .(1/482)
أحدها: أنه يستحب صيامها من أول الشهر متتابعة، وهو قول الشافعي وابن المبارك.
والثاني. أنه لا فرق بين أن يتابعها أو يفرقها من الشهر كله وهما سواء، وهو قول وكيع وأحمد.
والثالث: أنها لا تصام عقب الفطر فإنها أيام أكل وشرب. ولكن يصام ثلاثة قبل أيام البيض وأيام البيض أو بعدها. وهذا قول معمر وعبد الرزاق.
وروي عن عطاء. حتى روي عنه أنه كره لمن عليه صيام من قضاء رمضان أن يصومه ثم يصله بصيام تطوع وأمر بالفطر بينهما وهو قول شاذ.
* وأكثر العلماء على أنه يكره صيام ثاني يوم الفطر وقد دلّ عليه حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لرجل: إذا أفطرت فصم، وقد سرد طائفة من الصحابة والتابعين الصوم إلا يوم الفطر والأضحى.
وعن الشعبي قال: "لأن أصوم يوماً بعد رمضان أحبّ إليّ من أن أصوم الدهر كله".
وخرج أبو يعلى الموصلي بإسناد متصل عن أسامة قال: كنت أصوم شهراً من السنة فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أين أنت من شوال فكان أسامة إذا أفطر أصبح الغد صائماً من شوّال حتى يأتي على آخره (1) .
* وصيام شوال كصيام شعبان لأن كلا الشهرين حريم لشهر رمضان وهما يليانه، وقد ذكرنا في فضل صيام شعبان أن الأظهر أن صيامهما أفضل من صيام الأشهر الحرم، والاختلاف في ذلك، وإنما كان صيام رمضان واتباعه بست من شوال يعدل صيام الدهر لأن الحسنة بعشر أمثالها.
* وفي معاودة الصيام بعد رمضان فوائد عديدة:
* منها أن صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان يستكمل بها أجر صيام الدهر كله.
* ومنها أن صيام شوال وشعبان كصلاة السنن قبل الصلاة المفروضة وبعدها فيكمل
__________
(1) قال ابن مفلح في "الفروع" (3/120) : "روى سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي أن أسامة بن زيد كان يصوم شهر المحرم فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصيام شوال فما زال أسامة يصومه حتى لقي الله" إسناد جيد.(1/483)
بذلك ما حصل في الفرض من خلل ونقص فإن الفرائض تجبر أو تكمل بالنوافل يوم القيامة كما ورد ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه متعددة وأكثر الناس في صيامه للفرض نقص وخلل فيحتاج إلى ما يجبره ويكمله من الأعمال، ولهذا نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقول الرجل صمت رمضان كله أو قمته كله قال الصحابي فلا أدري أكره التزكية أم قال لابد من رقدة أو غفلة.
كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: "من لم يجد ما يتصدق به فليصم" يعني من لم يجد ما يخرجه صدقة الفطر في آخر رمضان فليصم بعد الفطر، فإن الصيام يقوم مقام الإطعام في التكفير للسيئات كما يقوم مقامه في كفارات الأيمان وغيرها من الكفارات في مثل كفارات القتل والوطء في رمضان والظهار.
* ومنها أن معاودة الصيام بعد صيام رمضان علامة على قبول صوم رمضان، فإن الله إذا تقبّل عمل عبد وفقه لعمل صالح بعده كما قال بعضهم: "ثواب الحسنة الحسنة بعدها"، فمن عمل حسنة ثم أتبعها بعد بحسنة كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى، كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة رد الحسنة وعدم قبولها.
* ومنها أن صيام رمضان يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب وأن الصائمين لرمضان يوفون أجورهم في يوم الفطر وهو يوم الجوائز فيكون معاودة الصيام بعد الفطر شكرا لهذه النعمة فلا نعمة أعظم من مغفرة الذنوب.
"كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم حتى تتورّم قدماه، فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً) ".
وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بشكر نعمة صيام رمضان بإظهار ذكره وغير ذلك من أنواع شكره فقال: (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) .
فمن جملة شكر العبد لربه على توفيقه لصيام رمضان وإعانته عليه ومغفرة ذنوبه أن يصوم له شكراً عقب ذلك.
كان بعض السلف إذا وُفِّق لقيام ليلة من الليالي أصبح في نهاره صائماً، ويجعل صيامه شكراً للتوفيق للقيام.(1/484)
وكان وهيب بن الورد يُسئل عن ثواب شيء من الأعمال كالطواف ونحوه فيقول لا تسألوا عن ثوابه ولكن اسألوا ما الذي على من وفق لهذا العمل من الشكر للتوفيق والإعانة عليه.
إذا أنت لم تزد على كل نعمة ... لموليكها شكراً فلست بشاكر
قال كعب: من صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر من رمضان لم يعص الله دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب، ومن صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر عصى ربه فصيامه عليه مردود.
* ومنها أن الأعمال التي كان العبد يتقرب بها إلى ربه في شهر رمضان لا تنقطع بانقضاء رمضان بل هي باقية بعد انقضائه ما دام العبد حياً، وذلك أن كثيراً من الناس يفرح بانقضاء شهر رمضان لاستثقال الصيام وملله وطوله عليه ومن كان كذلك فلا يكاد يعود إلى الصيام سريعاً، فالعائد إلى الصيام بعد فطره يوم الفطر يدل عوده على رغبته في الصيام وأنه لم يمله ولم يستثقله ولا تكره به.
وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقضي ما فاته من أوراده في رمضان في شوال. فترك في عام اعتكاف العشر الأواخر من رمضان ثم قضاه في شوال فاعتكف العشر الأول منه.
فمنْ كان عليه قضاء من شهر رمضان فليبدأ بقضائه في شوال فإنه أسرع لبراعة ذمته وهو أولى من التطوع بصيام ستة من شوال، فإن العلماء اختلفوا فيمن عليه صيام مفروض هل يجوز أن يتطوع قبله أوْ لا؟ وعلى قول من جوّز التطوع قبل القضاء فلا يحصل مقصود صيام ستة أيام من شوال إلا لمن أكمل صيام رمضان ثم أتبعه بست من شوال، فمن كان عليه قضاء من رمضان ثم بدأ بصيام ست من شوال، حيث لم يكمل عدة رمضان لم يحصل له ثواب.
من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال، كما لا يحصل لمن أفطر رمضان لعذر بصيام ستة من شوال آخر صيام السنة بغير إشكال.
ومن بدأ بالقضاء في شوال ثم أراد أن يتبع ذلك بصيام ستة من شوال بعد تكميله قضاء رمضان كان حسناً لأنه يصير حينئذ قد صام رمضان وأتبعه بست من شوال، ولا(1/485)
يحصل له فضل صيام ست من شوال بصوم قضاء رمضان لأن صيام الست من شوال إنما تكون بعد إكمال عدة رمضان.
عمل المؤمن لا ينقضي حتى يأتيه أجله، قال الحسن: إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت ثم قرأ (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) .
هذه الشهور والأعوام، والليالي والأيام، مقادير الآجال، ومواقيت الأعمال، ثم تنقصي سريعا، وتمضي جميعا والذي أوجدها وابتدعها، وخصّها بالفضائل وأودعها باق لا يزول، ودائم لا يحول، هو في جميع الأوقات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد، فسبحان من قلّب عباده في اختلاف الأوقات بين وظائف الخدم، يسبغ عليهم فيها فواضل النعم، ويعاملهم بنهاية الجود والكرم.
فما يمضي من عمر المؤمن ساعة من الساعات إلا ولله فيها عليه وظيفة من وظائف الطاعات، فالمؤمن يتقلب بين هذه الوظائف ويتقرب بها إلى مولاه وهو راج خائف، المحب لا يملّ من التقرب إلى مولاه، ولا يأمل إلا قربه ورضاه.
ما للمحب سوى إرادة حبه ... إن المحب بكل أمر يضرع
كل وقت يخليه العبد من طاعة مولاه فقد خسره، وكل ساعة يغفل فيها عن ذكر الله تكون عليه يوم القيامة ترة فوا أسفاه على زمان ضاع في غير طاعته، وواحسرتاه على قلب بات في غير خدمته.
ما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحوها، وأحسن منها الحسنة بعد الحسنة تتلوها وما أقبح السيئة بعد الحسنة تمحقها وتعفوها.
سلوا الله الثبات على الطاعات إلى الممات، وتعوذوا به من تقلب القلوب، ومن الحور بعد الكور.
ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة.
ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذل، وغنى قوم بالذنوب افتقر.
ترى الحي الأولى بانوا ... على العهد كما كانوا
إذا عز ّبغير الله يو ... ما معشر هانوا(1/486)
فيا شباب التوبة لا ترجعوا إلى ارتضاع ثدي الهوى من بعد الصيام، فالرضاع إنما يصلح للأطفال لا للرجال.
ألسنا نرى شهوات النفو ... س تفنى وتبقى علينا الذنوب
يخاف على نفسه منْ يتوب ... فكيف يكون الذي لا يتوب
صوم الأشهر الحرم
قال تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) .
في الصحيحين من حديث أبي بكرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب في حجة الوداع فقال في خطبته: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "اختص الله أربعة أشهر جعلهن حرماً وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، وجعل العمل الصالح والأجر أعظم".
قال كعب: اختار الله الزمان فأحبه إلى الله الأشهر الحرم.
قال ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص 117) : "واختلف في أي هذه الأشهر الحرم أفضل، فقيل رجب قاله بعض الشافعية وضعّفه النووي وغيره، وقيل المحرم قاله الحسن ورجّحه النووي، وقيل ذي الحجة روي عن سعيد بن جبير وغيره وهو أظهر والله أعلم".
قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (25/291) : "في المسند وغيره حديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بصوم الأشهر الحرم: وهي رجب وذو القعدة، وذو الحجة والمحرم".
فهذا فى صوم الأربعة جميعاً، لا من يخصص رجب.
قال ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص 123) : "قد كان بعض السلف يصوم الأشهر الحرم كلها منهم ابن عمر والحسن البصري، وأبو إسحاق السبيعي. وقال الثوري: الأشهر الحرم أحبّ إلي أن أصوم فيها".(1/487)
قال ابن مفلح في "الفروع" (3/119) : قال ابن الجوزي في كتاب "أسباب الهداية": "يستحب صوم الأشهر الحرم وشعبان كله، وهو ظاهر ذكره صاحب المحرر في الأشهر الحرم".
قال النووي في "المجموع" (6/438-439) : "قال أصحابنا: ومن الصوم المستحب صوم الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. ومن لا يشق عليه فصوم جميعها فضيلة".
صوم رجب
* عن خرشة بن الحر قال: "رأيت عمر يضرب أكف المترجبين حتى يضعوها في الطعام ويقول: كلوا فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية" (1) .
* وعن ابن عمر أنه كان إذا رأى الناس وما يعدونه لرجب كرهه، وقال: "صوموا منه وأفطروا" (2) .
قال ابن قدامة في "المغني" (4/429) : "ويكره إفراد رجب بالصوم. قال أحمد: وإن صامه رجل، أفطر فيه يوماً أو أياماً بقدر ما لا يصومه كله".
وبإسناده عن ابن عمر أنه كان إذا رأى الناس.....
* وعن ابن عباس نحوه، وبإسناده عن أبي بكرة أنه دخل على أهله، وعندهم سلال جدد وكيزان، فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجب نصومه. قال: أجعلتم رجب رمضان، فأكفأ السلال وكسر الكيزان.
قال أحمد: "من كان يصوم السنة صامه، وإلا فلا يصومه متواليا يفطر فيه ولا يشبهه برمضان".
قال ابن رجب في "اللطائف" (123، 124) :
"قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يكره أن يتخذ رجب عيداً".
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح قاله الألباني في "الإرواء" (4/113 رقم 957) .
(2) رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح قاله الألباني في "الإرواء" (4/114 رقم 958) .(1/488)
* وعن ابن عباس أنه كره أن يصام رجب كله، وعن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يريان أن يفطر منه أياماً. وكرهه أنس أيضاً وسعيد بن جبير: وكره صيام رجب كله يحيى ابن سعيد الأنصاري والإمام أحمد.
وقال الشافعي في القديم: أكره أن يتخذ الرجل صوم شهر يكمله كما يكمل رمضان، وقال: إنما كرهته أن لا يتأسى رجل جاهل فيظن أن ذلك واجب وإن فعل لحسن. وتزول كراهة إفراد رجب بالصوم بأن يصوم معه شهراً آخر تطوعاً عند بعض أصحابنا مثل أن يصوم الأشهر الحرم أو يصوم رجب وشعبان.
وقد تقدم عن ابن عمر وغيره صيام الأشهر الحرم. والمنصوص عن أحمد أنه لا يصومه بتمامه إلا من صام الدهر ويروي عن ابن عمر ما يدل.
* عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر: "أرسلتني أسماء إلى عبد الله بن عمر فقالت: بلغني أنك تحرم أشياء ثلاثة: العلم في الثوب، وميثرة الأرجوان، وصوم رجب كله! فقال لي عبد الله: أما ما ذكرت من رجب فكيف بمن يصوم الأبد" أخرجه مسلم وأحمد.
قال ابن رجب: "وهذا يدل على أنه لا يصام رجب إلا مع صوم الدهر".
قال الألباني في "إرواء الغليل" (4/115-116) :
"فكيف بمن يصوم الأبد: فسروه بأنه إنكار منه لما بلغ أسماء من تحريمه، وإخبار منه أنه يصوم رجبا كله، وأنه يصوم الأبد" كما في "شرح مسلم" للنووي و"السراج الوهاج" لصديق حسن خان.
فلعل التوفيق بين صومه لرجب، وكراهته لذلك، أن تحمل الكراهة على إفراد رجب بالصوم كما يفرد رمضان به، فأما صيامه في جملة ما يصوم فليس مكروهاً عنده والله أعلم.
وقال الألباني: "نهى عمر رضي الله عنه عن صوم رجب المفهوم من ضربه للمترجبين ليس نهياً لذاته بل لكي لا يلتزموا صيامه ويتموه كما يفعلون برمضان".(1/489)
قال ابن مفلح في "الفروع" (3/118-120) : "يكره إفراد رجب بالصوم.
وتزول الكراهة بالفطر أو بصوم شهر آخر من السنة، قال صاحب المحرر: وإن لم يَله. قال شيخنا: من نذر صومه كل سنة أفطر بعضه وقضاه. وفي الكفارة خلاف. قال: ومن صامه معتقداً أنه أفضل من غيره من الأشهر أثم وعُزر، وحمل عليه فعل عمر. وقال أيضاً: في تحريم إفراده وجهان، ولعله أخذه من كراهة أحمد، وفي "فتاوى ابن الصلاح الشافعي": لم يؤثمه أحد من العلماء فيما نعلمه.
ولا يكره إفراد شهر غير رجب، قال صاحب المحرر: لا نعلم فيه خلافاً.
وذكر في "الغنية" أنه يستحب صوم أول يوم من رجب وأول خميس منه والسابع والعشرين ... وذكر أشياء واحتج بأخبار ليست صحيحة وكثير منها موضوع.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عما ورد في ثواب صيام الثلاثة أشهر وما تقول في الاعتكاف فيها؟ والصمت هل هو من الأعمال الصالحات أم لا؟
فقال ابن تيمية رحمه الله (25/290-292) :
"أما تخصيص رجب وشعبان جميعاً بالصوم أو الاعتكاف فلم يرد فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء، ولا عن أصحابه، ولا أئمة المسلمين، بل قد ثبت في "الصحيح" أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم شعبان، ولم يكن يصوم من السنة أكثر مما يصوم من شعبان، من أجل شهر رمضان.
وأما صوم رجب بخصوصه فأحاديث كلها ضعيفة، بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروى في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات. وقد روى ابن ماجه في "سننه" عن ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن صوم رجب، وفي إسناده نظر.
وأما تخصيصها بالاعتكاف فلا أعلم فيه أمراً، بل كل من صام صوماً مشروعاً وأراد أن يعتكف من صيامه كان ذلك جائز بلا ريب، وإن اعتكف بدون الصيام ففيه قولان مشهوران وهما روايتان عن أحمد:
أحدهما: أنه لا اعتكاف إلا بصوم، كمذهب أبي حنيفة ومالك.(1/490)
والثاني: يصح الاعتكاف بدون الصوم كمذهب الشافعي.
وأمّا الصمت عن الكلام مطلقاً في الصوم، أو الاعتكاف، أو غيرهما فبدعة مكروهة باتفاق أهل العلم لكن هل ذك محرم أو مكروه؟ فيه قولان في مذهبه وغيره.
وفي صحيح البخاري أن أبا بكر الصديق دخل على امرأة من أحمس فوجدها مصمتة لا تتكلم، فقال لها أبو بكر: إن هذا لا يحل إن هذا من عمل الجاهلية.
وعن ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلاً قائماً في الشمس، فقال: "من هذا؟ " فقالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال: "مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه" فأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع نذره للصمت أن يتكلم كما أمره مع نذره للقيام أن يجلس، ومع نذره أن لا يستظل أن يستظل، وإنما أمره بأن يوفي بالصوم فقط. وهذا صريح في أن هذه الأعمال ليست من القرب التي يؤمر بها الناذر.
فقول الخير وهو الواجب أو المستحب خير من السكوت عنه، وما ليس بواجب ولا مستحب، فالسكوت عنه خير من قوله. ولهذا قال بعض السلف لصاحبه: "السكوت عن الشر خير من التكلم به"، فقال له الآخر: "التكلم بالخير خير من السكوت عنه".
* * *(1/491)
النوع الثانى: صوم الأيام
1- صوم عشر ذي الحجة
* قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل أيام الدنيا أيام العشر" (1) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما العمل في أيام أفضل منه في عشر ذي الحجة، ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء" (2) .
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام" -يعني أيام العشر- قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء".
قال ابن رجب في "اللطائف" (ص 276-) .
"دل الحديث على أن العمل في أيامه أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها. وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده". وقال: "والعمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره".
وقد دلّ حديث ابن عباس على مضاعفة الأعمال الصالحة في العشر من غير استثناء شيء منها.
* وروى عبد الرزاق عن الحسن قال: "صيام يوم من العشر يعدل شهرين". وقال عبد الكريم عن مجاهد: "العمل فى العشر يضاعف".
وقال أيضاً: "العمل في هذه الأيام العشر أفضل من العمل في أيام عشر غيرها، فكل عمل صالح يقع فى هذا الشهر فهو أفضل من عمل في عشرة أيام سواها من أي شهر كان فيكون تفضيلاً للعمل في كل يوم منه على العمل في كل يوم من أيام السنة غيره".
__________
(1) صحيح: رواه البزار عن جابر، ورواه ابن حبان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1133) .
(2) صحيح: رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس.(1/492)
* كان سعيد بن جبير وهو الذي روى الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما إذا دخل العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه.
* وعن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من أيام أعظم ولا أحب إليه العمل عند الله فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد".
عن حميد قال: سمعت ابن سيرين وقتادة يقولان: "صوم كل يوم من العشر يعدل سنة".
قال ابن رجب في "اللطائف" (ص 277-278) :
"في المسند والسنن عن حفصة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يدع صيام عاشوراء والعشر وثلاثة أيام من كل شهر، وفي إسناده اختلاف".
وروي عن بعض أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن النبي كان لا يدع صيام تسع ذي الحجة، وممن كان يصوم العشر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وقد تقدم عن الحسن وابن سيرين وقتادة ذكر فضل صيامه وهو قول أكثر العلماء أو كثير منهم.
* وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: "ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صائماً العشر قط"، وفي رواية: "في العشر قط".
وقد اختلف جواب الإمام أحمد عن هذا الحديث فأجاب مرة بأنه قد روي خلافه وذكر حديث حفصة، وأشار إلى أنه اختلف في إسناد حديث عائشة فأسنده الأعمش، ورواه منصور عن إبراهيم مرسلاً، وكذلك أجاب غيره من العلماء بأنه إذا اختلفت عائشة وحفصة في النفي والإثبات أخذ بقول المثبت لأن معه علماً خفي على النافي.
* وأجاب أحمد مرة أخرى بأن عائشة أرادت أنه لم يصم العشر كاملاً يعني، وحفصة أرادت أنه كان يصوم غالبه، فينبغي أن يصام بعضه ويفطر بعضه. وهذا الجمع يصح في رواية من روى: "ما رأيته صائماً العشر"، وأما من روى: "صائماً في العشر" فيبعد أو يتعذر هذا الجمع.(1/493)
* وكان ابن سيرين يكره أن يقال: صام العشر لأنه يوهم دخول يوم النحر فيه، وإنما يقال: صيام التسع، ولكن الصيام إذا أضيف إلى العشر فالمراد صيام ما يجوز صومه منه.
ولو نذر صيام العشر فينبغي أن ينصرف إلى التسع أيضاً فلا يلزم بفطر يوم النحر قضاء ولا كفارة فإنه غلب استعماله عرفاً في التسع.
ويحتمل أن يخرج في لزوم القضاء والكفارة خلاف، فإن أحمد قال فيمن نذر صوم شوال فأفطر يوم الفطر أنه يلزمه قضاء يوم وكفارة، وقال القاضي أبو يعلى: هذا إذا نوى صومه جميعاً فأما إن أطلق لم يلزمه شيء لأن الفطر مستثنى شرعاً، وهذه قاعدة من قواعد الفقه وهي أن العموم هل يخص بالشرع أم لا ففي المسألة خلاف مشهور".
قال النووي في "شرح مسلم" (3/245) : "ليس في صوم هذه التسعة كراهة بل هي مستحبة استحباباً شديداً لا سيما التاسع منها وهو يوم عرفة، فيتأول قولها: "لم يصم العشر"، أنه لم يصمها لعارض مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائماً فيه ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر".
2- صوم يوم عرفة
* قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوم يوم عرفة كفارة السنة الماضية والسنة المستقبلة" (1) .
* قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوم يوم عرفة يكفر سنتين؛ ماضية ومستقبلة، وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية" (2) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده، وصيام عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" (3) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام يوم عرفة غفر الله له سنتين: سنة أمامه، وسنة خلفه" (4) .
__________
(1) صحيح: رواه الطبراني في "الأوسط" عن أبي سعيد الخدري، ورواه ابن ماجه من هذا الوجه عن أبي سعيد عن قتادة بن النعمان، وصححه السيوطى، والألباني في "صحيح الجامع" رقم (3805) .
(2) رواه مسلم وأحمد وأبو داود عن أبي قتادة.
(3) رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه وابن حبان عن أبي قتادة.
(4) رواه ابن ماجه عن قتادة بن النعمان وصححه السيوطي، والألباني في "صحيح الجامع" رقم (6335) .(1/494)
قال النووي في شرحه على "صحيح مسلم" (3/226) :
"معناه يكفر ذنوب صائمه في السنتين، قالوا: والمراد بها الصغائر".
قال المناوي في "فيض القدير" (4/211-212) :
"لأن يوم عرفة سنة المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويوم عاشوراء سنة موسى فجعل سنة نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تضاعف على سنة موسى في الأجر".
وقال: "المكفر الصغائر الواقعة في السنتين فإن لم يكن له صغائر رفعت درجته أو وقي اقترافها أو استكثارها وقول مجلي تخصيص الصغائر تحكم ردوه وإن سبقه إلى مثله ابن المنذر بأنه إجماع أهل السنة وكذا يقال فيما ورد في الحج وغيره لذلك المستند لتصريح الأحاديث بذلك في كثير من الأعمال المكفرة بأنه يشترط في تكفيرها اجتناب الكبائر".
وقال المناوي أيضاً (6/162) :
"قال البلقيني: الناس أقسام: منهم من لا صغائر له ولا كبائر فصوم عرفة له رفع درجات، ومن له صغائر فقط بلا إصرار فهو مكفر له باجتناب الكبائر ومن له صغائر مع الإصرار فهي التي تكفر بالعمل الصالح كصلاة وصوم. ومن له كبائر وصغائر فالمكفر له بالعمل الصالح الصغائر فقط، ومن له كبائر فقط يكفر عنه بقدر ما يكفر من الصغائر".
استحباب الفطر للحاج بعرفة:
* عن أم الفضل بنت الحارث: "أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم. فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه" (1) .
* وعن ميمونة رضي الله عنها: "أن الناس، شكوا في صيام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة فأرسلت إليه بحلَاب وهو واقف في الموقف، فشرب منه والناس ينظرون" (2) ، رواه: البخاري.
* وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "حججت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يصمه -يعني
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود ومالك.
(2) رواه البخاري.(1/495)
يوم عرفة- ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه، ولا آمر به ولا أنهى عنه" (1) .
أكثر أهل العلم يستحبون الفطر يوم عرفة بعرفة، واستدل بهذين الحديثين على هذا.
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: يجب فطر يوم عرفة للحاج.
وعن ابن الزبير وأسامة بن زيد وعائشة: أنهم كانوا يصومونه، وكان ذلك يعجب الحسن ويحكيه عن عثمان.
وعن قتادة مذهب آخر، قال: لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء.
وقال عطاء: أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف وهي معللة بالضعف عن الدعاء.
واستحباب الصوم إذا لم يضعف عن الدعاء نقله البيهقي في "المعرفة" عن الشافعي في القديم، واختاره الخطابي والمتولى من الشافعية.
وقال الجمهور: يستحب فطره، حتى قال عطاء: من أفطره ليتقوى به على الذكر كان له مثل أجر الصائم.
وقال الطبري: إنما أفطر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفة ليدل على الاختيار للحاجة بمكة لكي لا يضعف عن الدعاء والذكر المطلوب يوم عرفة، وقيل إنما كره صوم يوم عرفة لأنه عيد لأهل الموقف لاجتماعهم فيه، يؤيده ما رواه أصحاب السنن عن عقبة مرفوعاً: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صوم يوم عرفة بعرفات (2) .
3- صوم يوم عاشوراء
* روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحرى صيام يوم فضّله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان".
__________
(1) رواه الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه الدارمي، وأحمد.
(2) إسناده لا بأس به: رواه النسائي في "الكبرى"، وأبو داود وابن ماجه وأحمد والبخاري في "التاريخ الكبير"، وقال الذهبي في "سير أعلام النبلاء": إسناده لا بأس به. (10/683) .(1/496)
قال ابن حجر: "ابن عباس أسند ذلك إلى علمه فليس فيه ما يرد علم غيره".
* وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه" رواه البخاري.
قال ابن عبد البر في "الاستذكار" (10/131) : "قال الشافعي عقيب حديث عائشة: لا يحتمل قول عائشة: ترك عاشوراء، بمعنى يصح إلا ترك إيجاب صومه، إذ علمنا أن كتاب الله بين لهم أن شهر رمضان المفروض صومه، وأبان ذلك لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وترك صوم عاشوراء على الاستحباب".
عاشوراء:
* عاشوراء بالمد على المشهور وحكى فيه القصر.
واختلف أهل الشرع في تعيينه فقال الأكثر: هو اليوم العاشر.
قال القرطبي: "عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم، وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد واليوم مضاف إليها، فإذا قيل: يوم عاشوراء فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة فصار هذا اللفظ علماً على اليوم العاشر".
وذكر أبو منصور الجواليقي أنه لم يسمع فاعولاء إلا هذا، وضروراء وساروراء ودالولاء من الضار والسار والدال، وعلى هذا فيوم عاشوراء هو العاشر وهذا قول الخليل وغيره.
قال الزين بن المنير: الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية.
وقيل: هو اليوم التاسع، فعلى الأول فاليوم مضاف لليلته الماضية، وعلى الثاني فهو مضاف لليلته الآتية.
وقيل: إنما سمي يوم التاسع عاشوراء أخذاً من أوراد الإبل كانوا إذا رعوا الإبل ثمانية(1/497)
أيام ثم أوردوها في التاسع قالوا: وردنا عشراً بكسر العين.
وروى مسلم عن الحكم بن الأعرج: "انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه فقلت: أخبرني عن يوم عاشوراء، قال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائماً، قلت: أهكذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصومه؟ قال: نعم" وهذا ظاهره أن يوم عاشوراء هو اليوم التاسع، لكن قال الزين بن المنير: قوله: إذا أصبحت من تاسعه فأصبح يشعر بأنه أراد العاشر لأنه لا يصبح صائماً إلا بعد أن أصبح من تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة وهو الليلة العاشرة. قلت: ويقوى هذا الاحتمال ما رواه مسلم أيضاً من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع فمات قبل ذلك" فإنه ظاهر في أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان يصوم العاشر وهمّ بصوم التاسع فمات قبل ذلك" (1) .
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عاشوراء يوم العاشر" (2) .
صفة صيام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعاشوراء:
كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صيامه أربع حالات:
الحالة الأولى: أنه كان يصومه بمكة ولا يأمر الناس بالصوم.
ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينه صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه".
قال ابن حجر في "الفتح" (4/289-291) :
"أما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السالف ولهذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة فيه وغير ذلك، ثم رأيت في المجلس الثالث من "مجالس الباغندي الكبير" عن عكرمة أنه سئل عن ذلك فقال: أذنبت قريش ذنباً في الجاهلية فعظم في صدورهم فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفر ذلك، هذا أو معناه ثم قال ابن حجر: "وجدت في
__________
(1) "فتح الباري" (4/288) .
(2) صحيح: رواه الدارقطني في "الأفراد"، والديلمي في "مسند الفردوس" عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3968) .(1/498)
"المعجم الكبير" للطبراني عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال: ليس يوم عاشوراء باليوم الذي يقوله الناس، إنما كان يوم تستر فيه الكعبة، وكان يدور في السنة، وكانوا يأتون فلاناً اليهودي -يعني ليحسب لهم- فلما مات أتوا زيد بن ثابت فسألوه، وسنده حسن. فجهلة اليهود يعتمدون في صيامهم وأعيادهم حساب النجوم فالسنة عنده شمسية لا هلالية، فمن ثم احتاجوا إلى من يعرف الحساب ليعتمدوا عليه.
وهذا مما يترجى به أولوية المسلمين وأحقيتهم بموسى عليه الصلاة والسلام لإضلال اليهود اليوم المذكور وهداية الله للمسلمين له" ا. هـ.
فيوم عاشوراء يوم إسلامي له فضيلة عظيمة وحرمة قديمة وصومه لفضله كان معروفاً بين الأنبياء.
* قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان عاشوراء يصومه أهل الجاهلية فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه ومن كرهه فليدعه" (1) .
الحالة الثانية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة ورأى صيام أهل الكتاب له وتعظيمهم له وكان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به صامه وأمر الناس بصيامه وأكد الأمر بصيامه والحث عليه حتى كانوا يصومونه أطفالهم.
ففي الصحيحيِن عن ابن عباس قال: قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ " فقالوا: هذا يوم عظيم أنجي الله فيه موسى وقومه وغَرّق فرعون وقومه فصامه موسى شكراً لله فنحن نصومه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فنحن أحق وأولى بموسى منكم" فصامه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر بصيامه.
وهذا الحديث أفاد تعيين الوقت الذي وقع فيه الأمر بصيام عاشوراء وقد كان أول قدومه المدينة، ولا شك أن قدومه كان في ربيع الأول فحينئذ كان الأمر بذلك في أول السنة الثانية.
والرأي الراجح أنه كان فرضاً وواجباً في هذه الحالة.
__________
(1) صحيح: رواه ابن ماجه عن ابن عمر وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4457) .(1/499)
* عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: "أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً من أَسْلَم أنْ أَذِّنْ في الناس أن من كان أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يأكل فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء" رواه البخاري واللفظ له ومسلم.
* وفي الصحيحين عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: "أرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة من كان أصبح صائما فليتم صومه ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه فكنا بعد ذلك نصومه ونُصَوِّم صبياننا الصغار منهم إن شاء الله ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه إياه عند الإفطار" (1) ، وفي رواية: "فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم".
قال النووي في "شرح مسلم" (3/193) : "في هذا الحديث تمرين الصبيان على الطاعات وتعويدهم العبادات، ولكنهم ليسوا مكلفين".
* وعن بنت رَزِينة قالت: قلت لأمي: "أسمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عاشوراء؟
قالت: كان يعظمه، ويدعو برضعائه ورضعاء فاطمة فيتفل في أفواههم ويأمر أمهاتهن ألا يرضعن إلى الليل" (2) ، وفي رواية أخرى: "فكان الله يكفيهم"، وفي أخرى: "وكان ريقهم يجزئهم".
"واستدل بهذا الحديث على أن عاشوراء كان فرضا قبل أن يفرض رمضان" (3) .
* وعن محمد بن صيفي الأنصار، قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم عاشوراء فقال: "أصمتم يومكم هذا؟ " فقال بعضهم: نعم. وقال بعضهم: لا. قال: "فأتموا بقية يومكم هذا، وأمرهم أن يؤذنوا أهل العروض أن يتموا بقية يومهم ذلك" (4) .
__________
(1) اللفظ لمسلم.
(2) رواه ابن خزيمة في صحيحه باب "استحباب ترك الأمهات إرضاع الأطفال يوم عاشوراء تعظيما لعاشوراء" قال ابن حجر (4/237) : "توقف ابن خزيمة في صحته وإسناده لا بأس به".
(3) "فتح الباري" (4/237) .
(4) رواه ابن خزيمة واللفظ له وأحمد وابن ماجه وقال د. محمد مصطفى الأعظمي: إسناده صحيح. تحقيق ابن خزيمة (3/289) .(1/500)
قال ابن رجب: "وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم هل كان صوم يوم عاشوراء قبل فرض شهر رمضان واجبا؟ أم كان سُنة متأكدة؟ على قولين مشهورين ومذهب أبي حنيفة أنه كان واجباً حينئذ وهو ظاهر كلام أحمد وأبي بكر الأثرم وقال الشافعي رحمه الله: بل كان متأكد الاستحباب فقط وهو قول كثير من أصحابنا وغيرهم" (1) .
قال ابن حجر: اختلف السلف هل فرض على الناس صيام قبل رمضان أو لا؟
فالجمهور -وهو المشهور عند الشافعية- أنه لم يجب قط صوم قبل صوم رمضان، وفي وجه وهو قول الحنفية أول ما فرض صيام عاشوراء، فلما نزل رمضان نسخ.
فمن أدلة الشافعية حديث معاوية مرفوعاً: "لم يكتب الله عليكم صيامه"، ومن أدلة الحنفية ظاهر حديثي ابن عمر وعائشة المذكورين بلفظ الأمر، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "صام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاشوراء وأمر بصيامه، فلما فُرض رمضان ترك، وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه" رواه البخاري.
وحديث مسلمة مرفوعاً: "من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم" (2) .
قال ابن حجر في "الفتح" (4/290) ذاهباً إلى وجوب عاشوراء قبل فرض رمضان: "قوله: "ولم يكتب عليكم صيامه" وقد استدل به على أنه لم يكن فرضاً فقط، ولا دلالة فيه لاحتمال أن يريد: ولم يكتب الله عليكم صيامه على الدوام كصيام رمضان، وغايته أنه عام خص بالأدلة الدالة على تقدم وجوبه، أو المراد أنه لم يدخل في قوله تعالى: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) ثم فسره بأنه شهر رمضان، ولا يناقض هذا الأمر السابق بصيامه الذي صار منسوخاً، ويؤيد ذلك أن معاوية إنما صحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من سنة الفتح، والذين شهدوا أمره بصيام عاشوراء والنداء بذلك شهدوه في السنة الأولى أوائل العام الثاني، ويؤخذ من
__________
(1) "لطائف المعارف" (ص 47) .
(2) "فتح الباري" (4/124) .(1/501)
مجموع الأحاديث أنه كان واجباً لثبوت الأمر بصومه، ثم تأكد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر مَن أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود: "لما فرض رمضان ترك عاشوراء، مع العلم أنه ما ترك استحبابه بل هو باقٍ، فدلّ على أن المتروك وجوبه.
وأما قول بعضهم المتروك تأكداً استحبابه والباقي مطلق استحبابه فلا يخفى ضعفه، بل تأكد استحبابه باق ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث يقول: (لئن عشت لأصومن التاسع والعاشر) ولترغيبه في صومه وأنه يكفر سنة، وأي تأكيد أبلغ من هذا؟ ".
الحالة الثالثة: لماّ فرض صيام شهر رمضان ترك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الصحابة بصيام عاشوراء وتأكيده فيه.
* روى مسلم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صامه والمسلمون قبل أن يُفترض رمضان فلما افترض رمضان قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه".
* وروى مسلم عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن يوم عاشوراء كان يصام في الجاهلية. فلما جاء الإسلام من شاء صامه ومن شاء تركه".
* روى مسلم عن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا ولم يتعاهدنا عنده".
* وفي الصحيحين عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية بن أبي سفيان خطيبا بالمدينة يعني في قَدْمة قدمها خطبهم يوم عاشوراء فقال: أين علماؤكم يا أهل المدينة سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لهذا اليوم: "هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم فمن أحب منكم أن يصوم فليصم ومن أحب أن يفطر فليفطر" (1) .
وروى مسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إنما هو يوم كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) هذا من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد جاء مبيناً في رواية النسائي.(1/502)
يصومه قبل أن ينزل شهر رمضان فلما نزل شهر رمضان تُرك"، وفي رواية (تركه) .
* عن قيس بن سعد بن عبادة -رضي الله عنهما- قال: "أمرنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نصوم عاشوراء قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله".
فهذه الأحاديث كلها تدل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجدد أمر الناس بصيامه بعد فرض صيام شهر رمضان، بل تركهم على ما كانوا عليه من غير نهي عن صيامه.
"فإذا كان أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصيامه قبل فرض صيام شهر رمضان للوجوب فإنه ينبني على أن الوجوب إذا نسخ فهل يبقى الاستحباب أم لا؟ وفيه اختلاف مشهور بين العلماء -رضي الله عنهم-، وإن كان أمره للاستحباب المؤكد فقد قيل: أنه زال التأكيد وبقي أصل الاستحباب ولهذا قال قيس بن سعد: ونحن نفعله".
* قد روي عن ابن مسعود وابن عمر -رضي الله عنهما- ما يدل على أن أصل استحباب صيامه قد زال، وأكثر العلماء على استحباب صيامه من غير تأكيد وممن روى عن صيامه من الصحابة عمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وأبو موسى وقيس بن سعد وابن عباس وغيرهم، ويدل على بقاء استحبابه قول ابن عباس -رضي الله عنهما-: لم أر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم يوماً يتحرى فضله على الأيام إلا يوم عاشوراء وشهر رمضان، وابن عباس إنما صحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بآخر أمره" (1) .
الحالة الرابعة: عزم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في آخر عمره على أن لا يصومه مفردا بل يضم إليه يوماً آخر مخالفة لأهل الكتاب في صيامه.
* عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: "كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيداً".
قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فصوموه أنتم" رواه البخاري ومسلم.
وعند مسلم: كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيدا ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فصوموا أنتم".
* وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: حين صام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
__________
(1) "لطائف المعارف" (ص 47-48) .(1/503)
"فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع"، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رواه مسلم. وعند أبي داود "إذا كان العام المقبل صمنا يوم التاسع".
* وعند مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع" (1) .
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود، صوموا قبله يوماً أو بعده يوماً" (2) .
* وصح عن ابن عباس أنه كان يقول في يوم عاشوراء: خالفوا اليهود وصوموا التاسع والعاشر. قال الإمام أحمد: وأنا أذهب إليه.
وروى ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه كان يصوم عاشوراء في السفر ويوالي بين اليومين خشية فواته، وكذلك روى عن أبي إسحاق أنه صام يوم عاشوراء ويوما قبله ويوما بعده، وقال: إنما فعلت ذلك خشية أن يفوتني.
* وروي عن ابن سيرين أنه كان يصوم ثلاثة أيام عند الاختلاف في هلال الشهر احتياطا.
قال النووي في "شرح مسلم" (3/191) : "قال بعض العلماء: لعل السبب في صوم التاسع مع العاشر ألا يتشبه باليهود في إفراد العاشر. وفي الحديث إشارة إلى هذا، وقيل: للاحتياط في تحصيل عاشوراء، والأول أولى والله أعلم".
وممن رأى صيام التاسع والعاشر الشافعي وأحمد وإسحاق، وكره أبو حنيفة إفراد العاشر وحده بالصوم. وممن قال بصيامهما: أبو رافع صاحب أبي هريرة وابن سيرين بل ذكر الشافعي في "الأم" استحباب صوم الثلاثة، وذكر الحنابلة أنه إن اشتبه على المسلم أول الشهر صام ثلاثة أيام ليتيقن صومهما.
__________
(1) رواه مسلم وابن ماجه.
(2) إسناده حسن: رواه أحمد في مسنده، وقال الشيخ شاكر (4/21) : "ابن أبي ليلى قال ابن عدي: عندي أنه لا بأس بروايته عن أبيه عن جده" وحسن إسناده الشيخ شاكر.(1/504)
قال ابن حجر: "وعلى كل حال فلم يصمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقتداء بهم (1) فإنه كان يصومه قبل ذلك وكان ذلك في الوقت الذي يحب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه" (2) .
وقال: "فلما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضاً كما ثبت في الصحيح، فهذا من ذلك، فوافقهم أولاً وقال: "نحن أحق بموسى منكم"، ثم أحب مخالفتهم فأمر بأن يضاف إليه يوم قبله ويوم بعده خلافا لهم.
وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب: أدناها أن يصام وحده، وفوقه أن يصام التاسع معه، وفوقه أن يصام التاسع والحادي عشر والله أعلم".
وقال ابن حجر أيضاً (4/292) : "في رواية مسلم: "كان يوم عاشوراء تعظمه اليهود تتخذه عيدا" فظاهره أن الباعث على الأمر بصومه محبة مخالفة اليهود حتى يصام ما يفطرون فيه لأن يوم العيد لا يصام، وحديث ابن عباس يدل على أن الباعث على صيامه موافقتهم على السبب وهو شكر الله تعالى على نجاة موسى، لكن لا يلزم من تعظيمهم له واعتقادهم بأنه عيد أنهم كانوا لا يصومونه فلعلهم كان من جملة تعظيمهم في شرعهم أن يصوموه".
قال ابن رجب: "وهذا يدل على النهي عن اتخاذه عيدا".
* وكان طائفة من السلف يصومون عاشوراء في السفر منهم ابن عباس، وأبو إسحاق السبيعي، والزهري. قالوا له: "يا أبا بكر تصوم يوم عاشوراء في السفر، وأنت تفطر في رمضان في السفر؟ " فقال: "إن رمضان له عدة من أيام أخر، وعاشوراء يفوت" (3) .
وروى عبد الرزاق بإسناده عن طاووس أنه كان يصوم عاشوراء في الحضر ولا يصومه في السفر.
قال ابن حجر (4/289) : "نقل ابن عبد البر الإجماع على أنه الآن ليس
__________
(1) أي باليهود.
(2) "فتح الباري" (4/291، 288) .
(3) "التمهيد" (7/215) .(1/505)
بفرض الإجماع على أنه مستحب. ونقل عياض أن بعض السلف كان يرى بقاء فرضية عاشوراء لكن انقرض القائلون بذلك. وكان ابن عمر يكره قصده بالصوم، ثم انقرض القول بذلك".
* وكل ما روي في فضل الاكتحال في يوم عاشوراء والاختضاب والاغتسال فيه فموضوع لا يصح.
* أما التوسعة على العيال في ذلك اليوم فلا يصح فيها حديث عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما آثار عن السلف: فعن إبراهيم بن محمد عن المنتشر وكان من أفضل أهل زمانه أنه بلغه أنه من وسع على عياله يوم عاشوراء أوسع الله عليه سائر السنة.
قال ابن عيينة: جربناه منذ خمسين سنة أو ستين سنة فما رأينا منه إلا خيراً.
وقال شعبة مثله، وقال يحيى بن سعيد: جربنا ذلك فوجدناه حقّاً (1) .
* وأما اتخاذه مأتما كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما- فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فما أمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتما فكيف بمن دونهم.
4- صوم أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة
"قيل: المراد بالبيض الليالي وهي التي يكون فيها القمر من أول الليل إلى آخره، حتى قال الجواليقي: من قال الأيام البيض فجعل البيض صفة الأيام فقد أخطأ، وفيه نظر لأن اليوم الكامل هو النهار بليلته، وليس في الشهر يوم أبيض كله إلا هذه الأيام لأن ليلها أبيض ونهارها أبيض، فصح قول "الأيام البيض" على الوصف.
والبيض وسط الشهر ووسط الشيء أعدله، ولأن الكسوف غالباً يقع فيها، وقد ورد الأمر بمزيد من العبادة إذا وقع فإذا اتفق الكسوف صادف الذي يعتاد صيام البيض صائماً
__________
(1) "الاستذكار" (10/140) .(1/506)
فيتهيأ له أن يجمع بين أنواع العبادات من الصيام والصلاة والصدقة، بخلاف من لم يصمها فإنه لا يتأتى له استدراك صيامها" (1) .
* قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا صمت من الشهر ثلاثا فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة" (2) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن كنت صائما فصم أيام الغُر" (3) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن كنت صائما فعليك بالغر البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة" (4) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، وهي أيام البيض: صبيحة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة" (5) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا أبا ذر! إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام، فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة" (6) .
عن عبد الملك بن المنهال عن أبيه أنه كان مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرهم بصيام البيض، ويقول: "هي صيام الدهر" (7) .
الأقوال في البيض:
قال ابن حجر في "الفتح" (4/267-268) :
"قال شيخنا في "شرح الترمذي": حاصل الخلاف في تعيين البيض تسعة أقوال:
__________
(1) "فتح الباري" (4/266-267) .
(2) صحيح: رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان عن أبي ذر، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (673) .
(3) حسن: رواه أحمد والنسائي وابن حبان عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1435) ، و"الصحيحة" رقم (1567) .
(4) حسن: رواه النسائي عن أبي ذر وأحمد وابن حبان والبيهقي في "سننه"، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1435) .
(5) إسناده صحيح: رواه النسائي وأبو يعلى والبيهقي في "شعب الإيمان" عن جرير، وقال ابن حجر في "الفتح" (4/266) : إسناده صحيح، وقال الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3849) : حسن.
(6) صحيح: رواه الترمذي والنسائي عن أبي ذر، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7817) .
(7) صحيح: رواه ابن حبان في "صحيحه" واللفظ له، وأخرجه أحمد والطيالسي والنسائي.(1/507)
أحدها: لا تتعين بل يكره تعيينها، وهذا عن مالك.
الثاني: أول ثلاثة من الشهر قاله الحسن البصري.
الثالث: أولها الثاني عشر.
الرابع: أولها الثالث عشر.
الخامس: أولها سبت من أول الشهر ثم من أول الثلاثاء من الشهر الذي يليه وهكذا وهو عن عائشة.
السادس: أول خميس ثم اثنين ثم خميس.
السابع: أول اثنين ثم خميس ثم اثنين.
الثامن: أول يوم والعاشر والعشرون عن أبي الدرداء.
التاسع: أول كل عشر عن ابن شعبان المالكي.
قلت: بقي قول آخر وهو:
آخر ثلاثة من الشهر عن النخعي فتمت عشرة".
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان لا يدع صوم أيام البيض في سفر ولا حضر" (1) .
يرحم الله بن حبان حيث يبّوب في كتابه ويقول: ذكر تفضل الله بكتبة صائمي البيض لهم أجر صوم الدهر.
5- صيام الاثنين والخميس (2)
* عن أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل عن صوم الاثنين فقال: "فيه ولدت وفيه أنزل عليّ" رواه مسلم.
__________
(1) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير"، وحسنه السيوطي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم: (4848) .
(2) قال النووي في "المجموع" (6/438) : "قال أهل اللغة: سمي يوم الاثنين لأنه ثاني الأيام، قال أبو جعفر =(1/508)
* وعن أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل عن صومه قال: فغضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال عمر -رضي الله عنه-: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم" - رسولا وببيعتنا بيعة. قال: فسئل عن صيام الدهر فقال: "لا صام ولا أفطر أو ما صام وما أفطر". فُسئل عن صوم يومين وإفطار يوم قال: "ومن يطيق ذلك". قال: وسئل عن صوم يوم وإفطار يومين قال: "ليت أن الله قوانا لذلك". قال: وسئل عن صوم يوم وإفطار يوم. قال: "ذاك صوم أخي داود عليه السلام".
قال: وسئل عن صوم يوم الاثنين قال: "ذاك يوم ولدت فيه ويوم بُعثت أو أنزل عليّ فيه".
قال: فقال: "صوم ثلاثة من كل شهر ورمضان إلى رمضان صوم الدهر". قال: وسئل عن صوم يوم عرفة فقال: "يكفر السنة الماضية والباقية". قال: وسئل عن صوم يوم عاشوراء فقال: "يكفر السنة الماضية" رواه مسلم.
* وعن حفصة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أخذ مضجعه جعل كفه اليمنى تحت خده الأيمن، وكان يصوم الاثنين والخميس (1) .
* وعن عائشة -رضي الله عنها-: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتحرى صيام الاثنين والخميس (2) .
* وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم الاثنين والخميس (3) .
* وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان أكثر ما يصوم الاثنين والخميس.
فقيل له. فقال: الأعمال تُعرض كل اثنين وخميس، فيغفر لكل مسلم إلا المتهاجرين فيقول: أخروهما" (4) .
__________
= النحاس: سبيله أن لا يثنى ولا يجمع بل يقال: مضت أيام الاثنين. قال: وقد حكى البصريون اليوم الأثن، والجمع الثنى. وذكر الفراء أن جمعه الأثانين والأثان، وفي كتاب سيبويه اليوم الثني فعلى هذا جمعه الأثناء وقال الجوهري: لا يثنى ولا يجمع لأنه مثنى، فإن أحببت جمعه قلت: أثانين.
وأما يوم الخميس فسمي بذلك لأنه خامس الأسبوع. قال النحاس: جمعه أخمسة وخمس وخمسان حكاه الفراء والله أعلم.
(1) رواه النسائي وصححه الألباني في "صحيح النسائي" (2/498) وقال: حسن صحيح.
(2) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وصححه ابن حبان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4897) .
(3) رواه ابن ماجه وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4970) .
(4) صحيح: رواه أحمد عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4804) .(1/509)
* عن أسامة بن زيد قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم الأيام يسرد حتى يقال: لا يفطر، ويفطر الأيام حتى لا يكاد أن يصوم، إلا في يومين من الجمعة إن كانا في صيامه وإلا صامهما، ولم يكن يصوم من شهر من الشهور ما يصوم من شعبان، فقلت: يا رسول الله، إنك تصوم لا تكاد أن تفطر، وتفطر حتى لا يكاد أن تصوم إلا يومين إنْ دخلا في صيامك وإلا صمتهما، قال: "أي يومين؟ " قال: قلت: يوم الاثنين ويوم الخميس، قال: "ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم"، قال: قلت: ولم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان قال: "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" (1) .
* وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم يوم الاثنين والخميس، فسألته فقال: "إن الأعمال تعرض يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" (2) .
ولفظ النسائي: قلت: يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر وتفطر حتى لا تكاد أن تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك، وإلا صمتهما قال: "أي يومين؟ " قلت: يوم الاثنين ويوم الخميس قال: "ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" (3) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الأعمال ترفع يوم الاثنين والخميس فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" (4) .
__________
(1) إسناده حسن: رواه أحمد واللفظ له، والنسائي. قال الألباني في "إرواء الغليل" (4/103) : وهذا إسناد حسن رجاله ثقات رجال الشيخين غير ثابت بن قيس قال النسائي: ليس به بأس، وقال أحمد: ثقة. وقال المنذري في "مختصر السنن" (3/320) : وهو حديث حسن.
(2) صحيح: أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة.
(3) حسن صحيح: قاله الألباني في "صحيح سنن النسائي" (2/497) .
(4) صحيح: رواه الشيرازي في "الألقاب" عن أبي هريرة، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أسامة بن زيد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم 1583، وحسنه السيوطي.(1/510)
* وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين: يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبدا بينه وبين أخيه شحناء فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا".
* وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" (1) .
* وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان يصوم شعبان كله حتى يصله برمضان وكان يتحرى الاثنين والخميس" (2) .
* وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا. انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا" رواه مسلم.
* وعن أبي هريرة يرفعه قال: "تُعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين فيغفر الله -عز وجل- في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: اركوا (3) هذين حتى يصطلحا، اركوا هذين حتى يصطلحا" رواه مسلم.
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تفتح أبواب الجنة كل اثنين وخميس، وتعرض الأعمال في كل اثنين وخميس" (4) .
6- صوم يوم الجمعة على الدوام مقروناً بغيره
* قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة: من صام يوم الجمعة،
__________
(1) صحيح: رواه الترمذي والنسائي عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2959) ، و"صحيح الترمذي" رقم (596) .
(2) إسناده صحيح على شرط البخاري غير ربيعة وهو ثقة، رواه ابن حبان واللفظ له وابن ماجه، والنسائي والترمذي وأحمد.
(3) ارْكُوا: أي أخروا، ركاه يركوه ركوا إذا أخره.
(4) حديث صحيح: رواه ابن حبان في صحيحه واللفظ له، ورواه ابن أبي شيبة وأحمد.(1/511)
وراح إلى الجمعة، وعاد مريضاً، وشهد جنازة، وأعتق رقبة" (1) ، أي بصيامه مقرونا بغيره.
* وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم من غُرة كل شهر ثلاثة أيام، وقلّما كان يفطر يوم الجمعة" (2) .
7- صيام يوم السبت والأحد مخالفة للمشركين
عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: إنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أكثر صومه السبت والأحد، ويقول: "هما عيد المشركين فأحب أن أخالفهم" (3) .
* عن كريب مولى ابن عباس قال: أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أسألها أي الأيام كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثرها صوماً؟ فقال: يوم السبت ويوم الأحد فأتيتهم فأخبرتهم، فأنكروا ذلك عليّ، فظنوا أني لم أحفظ فردوني، فقالت مثل ذلك، فأخبرتهم، فقاموا بأجمعهم فقالوا: إنا أرسلنا إليك في كذا وكذا، فزعم أنك قلت: كذا وكذا، فقالت: صدق، كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما كان يصوم من الأيام ويقول: إنهما عيدان للمشركين فأحب أن أخالفهم" (4) .
قال ابن حجر: "يستفاد من هذا أن الذي قاله بعض الشافعية من كراهة إفراد السبت وكذا الأحد ليس جيدا، بل الأولى في المحافظة على ذلك يوم الجمعة كما ورد الحديث الصحيح فيه، وأما السبت والأحد فالأولى أن يصاما معا وفرادى امتثالا لعموم الأمر بمخالفة أهل الكتاب" (5) .
__________
(1) صحيح: رواه أبو يعلى وابن حبان عن أبي سعيد وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3252) ، وعند أبي يعلى "من وافق صيامه".
(2) إسناده حسن: رواه ابن حبان والنسائي والبيهقي، وأخرج القسم الأخير منه الطيالسي وابن أبي شيبة والبيهقي ولفظه: "ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مفطر الجمعة" وحسنه الألباني في "صحيح سنن النسائي" رقم (2232) ، و"صحيح الترمذي" (746) ، و"صحيح الجامع".
(3) حسن: رواه أحمد والطبراني في "الكبير" والحاكم والبيهقي في "سننه" عن أم سلمة، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4803) ، وضعفه في "جلباب المرأة المسلمة".
(4) رواه ابن حبان واللفظ له وإسناده حسن، وصحح الحاكم إسناده كما في "المجموع" (6/482) . وقال ابن القيم في "زاد المعاد" (2/78) : "الحديث أراه حسنا"، وقال الذهبي في "الميزان" (3/688) : "يعني لا يبلغ الصحة".
واحتج به ابن حجر في "الفتح" (10/374-375) ، وصححه الذهبي.
(5) "فتح الباري" (10/375) .(1/512)
الصوم المبهم المقيد بزمن
(1) صوم يوم وإفطار يوماً (غب الصوم)
"صوم داود عليه السلام"
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أحب الصيام إلى الله صيام داود، وكان يصوم يوماً، ويفطر يوماً، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وكان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه وينام سدسه" (1) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل الصوم صوم أخي داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى" (2) .
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صم أفضل الصيام، صيام داود: صوم يوم، وفطر يوم" (3) .
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صوم فوق صوم داود، شطر الدهر، صم يوماً وأفطر يوماً" (4) .
وفي بعض الروايات: "كان عبد الله بن عمرو يقول بعد ما كبر: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ".
وفي رواية حصين: "وكان عبد الله حين ضعف وكبر يصوم تلك الأيام وكذلك يصل بعضها إلى بعض ثم يفطر بعدد تلك الأيام فيقوى بذلك".
وفي رواية: "وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياماً وأحصى وصام مثلهن".
قال ابن حجر في "الفتح" (8/715) : "يؤخذ منه أن الأفضل لمن أراد أن يصوم صوم داود أن يصوم يوماً ويفطر يوماً دائماً، ويؤخذ من صنيع عبد الله بن عمرو أن من أفطر من ذلك وصام قدر ما أفطر أنه يُجزئ عنه صيام يوم وإفطار يوم".
وذهب ابن دقيق العيد إلى أن صوم يوم وإفطار يوم أفضل صور الصيام وأن الأولى التفويض إلى حكم الشارع ولما دل عليه ظاهر قوله: "لا أفضل من ذلك" وقوله: "إنه أحب
__________
(1) رواه أحمد، والبخاري ومسلم، وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عمرو.
(2) صحيح: رواه الترمذي والنسائي عن ابن عمرو، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1120) .
(3) صحيح: رواه النسائي عن ابن عمرو، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3793) .
(4) رواه البخاري والنسائي عن ابن عمرو.(1/513)
الصيام إلى الله تعالى" (1) . وهو قول أكثر العلماء ونقل الترمذي عن بعض أهل العلم أنه أشق الصيام.
* عن عبد الله بن عمرو قال: كنت رجلاً مجتهداً فزوجني أبي، ثم زارني، فقال للمرأة: كيف تجدين بعلك؟ فقالت: نعم الرجل من رجل لا ينام ولا يفطر. قال: فوقع بي أبي، ثم قال: زوجتك امرأة من المسلمين فعضلتها، فلم أبال ما قال لي مما أجد من القوة والاجتهاد إلى أن بلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "لكني أنام وأصلي وأصوم وأفطر، فنم وصل وأفطر، وصم من كل شهر ثلاثة أيام" فقلت: يا رسول الله أنا أقوى من ذلك. قال: "فصم صوم داود: صم يوماً وأفطر يوماً، وأقرأ القرآن في كل شهر" قلت: يا رسول الله أنا أقوى من ذلك.
قال حصين: فذكر لي منصور عن مجاهد أنه بلغ سبعاً، ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي، فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك" فقال عبد الله: لأن أكون قبلت رخصة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحب إليّ من أن يكون لي مثل أهلي ومالي، وأنا اليوم شيخ قد كبرت وضعفت، وأكره أن أترك ما أمرني به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) قال ابن خزيمة: "صوم يوم وفطر يوم أفضل الصيام وأحبه إلى الله وأعدله".
وقال (3/295) : "صوم داود أعدل الصيام وأفضله، وأحبه إلى الله إذ صائم يوم مفطر يوم، يكون مؤدياً لحظ نفسه وعينه وأهله أيام فطره، ولا يكون مضيعاً لحظ نفسه وعينه وأهله".
صوم الأواب مزامير ... فليصغ شباب البلدان
وفي حدثنا لمسلم وابن خزيمة: "فصم صوم داود نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه كان أعبد الناس".
قال: قلت: يا نبي الله: وما صوم داود؟ قال: "كان يصوم يوماً ويفطر يوماً".
* وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان داود أعبد البشر" (3) .
__________
(1) "فتح الباري" (4/263) .
(2) إسناده صحيح على شرط البخاري رواه ابن خزيمة في صحيحه.
(3) حسن: رواه الترمذي والحاكم في "المستدرك"، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4453) ، ورواه البخاري في "التاريخ" عن أبي الدرداء.(1/514)
قال المناوي في "فيض القدير" (1/171-172) : "أحب الصيام المتطوع به إلى الله تعالى صيام نبي الله داود فهو أفضل من صوم الدهر لأنه أشق على النفس بمصادفة مألوفها يوماً ومفارقته يوماً. قال الغزالي: وسره أن من صام الدهر صار الصوم له عادة فلا يحس بوقعه في نفسه بالانكسار وفي قلبه بالصفاء وفي شهواته بالضعف فإن النفس إنما تتأثر بما يرد عليها لا بما تمرنت عليه، ألا ترى أن الأطباء نهوا عن اعتياد شرب الدواء، وقالوا: من تعوده لم ينتفع به إذا مرض لإلف مزاجه له فلا يتأثر به، وطب القلوب قريب من طب الأبدان. انتهى، وهذا أوضح في البيان وأبلغ في البرهان من قول من قال: صوم الدهر قد يفوت بعض الحقوق، وقد لا يشق باعتياده عليه.
وقال أبو شامة: "وقد جمعت الأيام التي ورد فيها الأخبار أن نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصومها فقاربت أن تكون شطر الدهر فهو بمثابة صوم داود".
قال ابن المنير: "كان داود يقسم ليله ونهاره لحق ربه وحق نفسه، فأما الليل فاستقام له ذلك في ليله، وأما النهار فيتعذر تجزئته لعدم تبعيض الصيام فنزل صوم يوم وفطر يوم بمنزلة التجزئة في شقص اليوم".
قال المناوي (2/43) : "ذكر بعض الشافعية أن من فعله فوافق فطره يوماً يسن صومه كالاثنين والخميس يكون فطره فيه أفضل ليتم له فطر يوم وصوم يوم، وصوم يوم وفطر يوم جمع بين القربتين وقيام الوظيفتين، فإن الله لم يتعبد عبده بالصوم خاصة، فلو استفرغ جهده فيه قصّر في غيره فالأولى الاقتصار -أي على صيام يوم وفطر يوم- ليبقى بعض قوة لغيره كالجهاد".
(2) صوم يوم وإفطار يومين
قال ابن خزيمة في "صحيحه" (3/296-297) :
"باب: ذكر تمني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استطاعة صوم يوم وإفطار يومين"
* عن أبي قتادة قال: قال عمر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فكيف بمن يصوم يومين ويفطر يوماً؟ قال: "ويطيق ذلك أحد؟ " قال: فكيف بمن يصوم يوماً، ويفطر يوماً؟ قال: "ذاك(1/515)
صوم داود"، قال: فكيف بمن يصوم يوماً يفطر يومين؟ قال: "وددت أني طوقت ذلك" (1) .
(3) صوم عشرة أيام من الشهر
هكذا بوّب النسائي.
* عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنه بلغني أنك تقوم الليل وتصوم النهار".
قلت: يا رسول الله، ما أردت بذلك إلا الخير، قال: "لا صام من صام الأبد، ولكن أدلك على صوم الدهر، ثلاثة أيام من الشهر" قلت: يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك قال: "صم خمسة أيام" قلت: إني أطيق أكثر من ذلك قال: "فصم عشرا" فقلت: إني أطيق أكثر من ذلك قال: "صم صوم داود عليه السلام كان يصوم يوماً ويفطر يوماً" (2) .
(4-7) صوم إحدى عشرة أو تسعا أو سبعا أو خمسة أيام من الشهر
* عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذُكر له صومي، فدخل عليّ فألقيت له وسادة أدم ربعة، حشوها ليف، فجلس على الأرض، وصارت الوسادة فيما بيني وبينه، قال: "أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام؟ " قلت: يا رسول الله؟ قال: "خمسا" قلت: يا رسول الله؟ قال: "سبعاً" قلت: يا رسول الله؟ قال: "تسعا" قلت: يا رسول الله؟ قال: "احدى عشرة" قلت. يا رسول الله؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صوم فوق صوم داود، شطر الدهر، صيام يوم، وفطر يوم" (3) .
__________
(1) إسناده صحيح: رواه ابن خزيمة واللفظ له، وأبو داود من طريق حماد مطولا. وكذا مسلم.
(2) رواه النسائي وقال الألباني في "صحيح سنن النسائي" (2/505) : صحيح.
(3) صحيح: رواه النسائي واللفظ له، وصححه الألباني في "صحيح النسائي" (2/506) .(1/516)
(8) صيام أربعة أيام من الشهر
* عن عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صم من الشهر يوماً، ولك أجر ما بقي". قلت: إني أطيق أكثر من ذلك قال: "فصم يومين ولك أجر ما بقي". قلت: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: "صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي" قل: إني أطيق أكثر من ذلك فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل الصوم صوم داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً" (1) .
(9) صوم ثلاثة أيام من الشهر كيفية ذلك
* عن أبي ذر قال: "أوصاني حبيبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثلاثة لا أدعهن إن شاء الله تعالى أبدا.
أوصاني بصلاة الضحى، وبالوتر قبل النوم، وبصيام ثلاثة أيام من كل شهر" (2) .
* وعن أبي هريرة قال: "أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بركعتي الضحى، وأن لا أنام إلا على وتر، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر" (3) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألا أخبركم بما يذهب وحر الصدر؟ صوم ثلاثة أيام من كل شهر" (4) .
ووحر الصدر: غشه ووساوسه.
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله" (5) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر" (6) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صم شهر الصبر: رمضان، صم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر" (7) .
__________
(1) صحيح: رواه النسائي واللفظ له ومسلم، وصححه الألباني في "صحيح النسائي" (2/507) .
(2) صحيح: رواه النسائي بلفظه، والبخاري ومسلم دون قوله: "لا أدعهن أبدا"، وعند البخاري معناه.
(3) صحيح: رواه النسائي بلفظه، والبخاري ومسلم بلفظ: "أوصاني" نحوه، وصححه الألباني في "صحيح النسائي" (2/498) .
(4) صحيح: رواه النسائي عن رجل من الصحابة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2608) .
(5) رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي قتادة.
(6) رواه النسائي عن أبي هريرة، ورواه أحمد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3718) .
(7) صحيح: رواه أبو داود وابن ماجه عن الباهلي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3794) .(1/517)
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوم ثلاثة أيام من كل شهر، ورمضان إلى رمضان صوم الدهر وإفطاره" (1) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر" (2) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وحر الصدر" (3) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر وإفطاره" (4) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صيام حسن صيام ثلاثة أيام من الشهر" (5) .
* عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم من غرة (6) كل شهر ثلاثة أيام (7) .
ولقد تفضل الله بكِتبة صيام الدهر وقيامه لمن صام الأيام الثلاثة من الشهر.
عن معاوية بن قرة عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوم ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر وقيامه" (8) .
* عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، قلت: من أَيِّهِ؟ قالت: لم يكن يبالي من أيه كان (9) .
__________
(1) صحيح: رواه أحمد ومسلم عن أبي قتادة.
(2) صحيح: رواه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3803) .
(3) صحيح: رواه البزار عن علي وعن ابن عباس، ورواه البغوي والبارودي والطبراني في "الكبير" عن النمر بن حولب، ورواه أيضاً ابن حبان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3804) .
(4) صحيح: رواه أحمد وابن حبان عن قرة بن إياس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3848) .
(5) صحيح: رواه أحمد والنسائي وابن حبان عن عثمان بن أبي العاص، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3850) .
(6) أول كل شهر.
(7) إسناده حسن: رواه ابن حبان واللفظ له، والطيالسي، وأبو داود، وأحمد.
(8) إسناده صحيح على شرط الشيخين غير صحابية قرة -وهو ابن إياس- فقد روى له أصحاب السنن: رواه ابن حبان والبزار.
(9) إسناده صحيح على شرط الشيخين. رواه ابن حبان واللفظ له وابن ماجه وأحمد.(1/518)
* وعن معاذة قالت: قلت لعائشة: أكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم من الشهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم، قلت: من أيّه؟ قالت: لم يبال من أيّه صام (1) .
* وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: قال: بلغ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني أصوم -أسرد الصوم وأصلي الليل- فأرسل إليه، ولماّ لقيه قال: "ألم أُخبَر أنك تصوم ولا تفطر، وتصلي الليل. فلا تفعل، فإن لعينك حظا، ولنفسك حظا، ولأهلك حظّاً، وصم وأفطر، وصل ونم، وصم من كل عشرة أيام يوماً، ولك أجر تسعة" قال: قلت: إني أقوى لذلك يا رسول الله قال: "صم صوم داود إذاً" قال: وكيف كان صيام داود يا نبي الله؟ قال: "كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً، ولا يفرّ إذا لاقى". قال: ومن لي بهذا يا نبي الله (2) .
* عن أم سلمة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام: الاثنين والخميس، من هذه الجمعة، والاثنين من المقبلة (3) .
* عن حفصة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم من كل شهر يوم الخميس ويوم الاثنين، ومن الجمعة الثانية يوم الاثنين (4) .
* عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام ثلاثة أيام من الشهر، فقد صام الدهر كله" ثم قال: "صدق الله في كتابه (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) [الأنعام: 160] " (5) .
عن أبي هريرة -رصي الله عنه- قال: "أوصاني خليلي بثلاث لست بتاركهن: أن لا أنام إلا على وتر وأن لا أدع ركعتي الضحى فإنها صلاة الأوابين وصيام ثلاثة أيام من كل شهر" (6) .
عن أبي عثمان أن أبا هريرة كان في سفر، فلما نزلوا ووضعت السفرة بعثوا إليه وهو يصلي، فقال: إني صائم، فلما كادوا أن يفرغوا جاء فجعل يأكل، فنظر القوم إلى
__________
(1) إسناده صحيح على شرط الشيخين: رواه ابن حبان واللفظ له، والطيالسي والترمذي وابن خزيمة والبغوي.
(2) صحيح الإسناد: رواه النسائي بلفظه، ونحوه عند البخاري ومسلم دون قوله: "قال: ومن لي ... ".
(3) حسن: رواه النسائي بلفظه، وأبو داود. وقال الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2229) .
(4) حسن: رواه النسائي وحسنه الألباني في "صحيح النسائي" رقم (2230) .
(5) صحيح: رواه النسائي وصححه الألباني في "صحيح النسائي" رقم (2269) .
(6) صحيح: رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، وأبو داود وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (1164) .(1/519)
رسولهم، فقال: ما تنظرون إليّ قد -والله- أخبرني أنه صائم، فقال أبو هريرة: صدق، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من صام ثلاثة أيام من كل شهر، فقد صام الشهر كله"، وقد صمت ثلاثة أيام من كل شهر، وإني الشهر كله صائم، ووجدت تصديق ذلك في كتاب الله جل وعلا: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) [الأنعام: 160] (1) .
* عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أُخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني أقول: والله لأصومنّ النهار، ولأقومنّ الليل ما عشت، فقلت له: قد قلته يا رسول الله. قال: "فإنك لا تستطيع ذلك، صم وأفطر، ونم وقم، وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر" (2) .
قال ابن حجر في الجمع بين الأحاديث المختلفة في صيام الثلاثة أيام:
حديث عائشة قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ما يبالي من أي شهر صام" قال (3) : فكل من رآه فعل نوعاً ذكره، وعائشة رأت جميع ذلك وغيره فأطلقت. والذي يظهر أن الذي أمر به وحث عليه ووصى به أولى من غيره، وأما هو فلعله كان يعرض له ما يشغله عن مراعاة ذلك، أو كان يفعل ذلك لبيان الجواز، وكل ذلك في حقه أفضل، وتترجح البيض. ورجح بعضهم صيام الثلاثة في أول الشهر لأن المرء لا يدري ما يعرض له من الموانع، وقال بعضهم: يصوم من أول كل عشرة أيام يوماً، وله وجه في النظر، ونقل ذلك عن أبي الدرداء وهو يوافق ما تقدم في رواية النسائي.
واختار النخعي أن يصومها آخر الشهر ليكون كفارة لما مضى ويؤيده حديث عمران ابن حصين في الأمر بصيام سرار الشهر، وقال الروياني: صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب، فإن اتفقت أيام البيض كان أحب.
وفي كلام غير واحد من العلماء أيضاً أن استحباب صيام البيض غير استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر" (4) .
__________
(1) إسناده صحيح على شرط مسلم، رواه ابن حبان بلفظه، والنسائي والطيالسي وأحمد.
(2) إسناده صحيح: رواه ابن حبان في صحيحه والبخاري وعبد الرزاق وأحمد.
(3) أي البيهقي.
(4) "فتح الباري" (4/267) .(1/520)
قال النووي في "شرح صحيح مسلم" (3/227-228) : "قال القاضي: واختلفوا في تعيين هذه الأيام الثلاثة المستحبة من كل شهر:
* ففسره جماعة من الصحابة والتابعين بأيام البيض، وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، منهم عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبو ذر، وبه قال أصحاب الشافعي، واختار النخعي وآخرون آخر الشهر.
* واختار آخرون ثلاثة من أوّله منهم الحسن.
* واختارت عائشة وآخرون صيام السبت والأحد والاثنين من شهر، ثم الثلاثاء والأربعاء والخميس من الشهر الذي بعده.
* واختار آخرون الاثنين والخميس، وفي حديث رفعه ابن عمر: "أول اثنين في الشهر وخميسان بعده".
* وعن أم سلمة أول خميس والاثنين بعده، ثم الاثنين.
* وقيل: أول يوم الشهر والعاشر والعشرين، وقيل: إنه صيام مالك بن أنس، وروى عنه كراهة صوم أيام البيض.
* وقال ابن شعبان المالكي: أول يوم من الشهر والحادي عشر والحادي وعشرون.
والله أعلم".
(10) صوم يومين من الشهر
عن أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصوم فقال: "صم يوماً من الشهر" قلت: يا رسول الله زدني زدني! قال: "تقول: يا رسول الله زدني زدني، يومين من كل شهر" قلت: يا رسول الله زدني زدني، إني أجدني قويّاً.
فقال: "زدني زدني، أجدني قويّاً".
فسكت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى ظننت أنه ليردني قال: "صم ثلاثة أيام من كل شهر" (1) .
__________
(1) صحيح الإسناد: رواه النسائي، وصححه الألباني في "صحيح سنن النسائي" رقم (2282، 2283) .(1/521)
وفي رواية أخرى: "واستزاده قال: بأبي أنت وأمي، أجدني قويّاً فزاده، قال: "صم يومين من كل شهر" فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إني أجدني قويّا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني أجدني قويا. إني أجدني قويّا" فما كان أن يزيده، فلما ألحّ عليه قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صم ثلاثة أيام من كل شهر" (1) .
(11) صوم يوم من الشهر
قال ابن خزيمة (3/300) : باب: فضل صوم يوم واحد من كل شهر، وإعطاء الله -عز وجل- صائم يوم واحد من الشهر مع الدليل على أن الله لم يرد بقوله: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) [الأنعام: 160] أنه لا يعطي بالحسنة الواحدة أكثر من عشر أمثالها إذ النبي المبيّن عنه -عز وجل- قد أعلم أن الله يعطي بصوم يوم واحد جزاء شهر تام.
* عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-، قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته عن الصوم، فقال: "صم يوماً من الشهر، ولك أجر ما بقي" (2) .
***
__________
(1) صحيح الإسناد: رواه النسائي، وصححه الألباني في "صحيح سنن النسائي" رقم (2282، 2283) .
(2) صحيح: رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (3/300) .(1/522)
الأيام المنهي عن صيامها
الأيام المنهي عن صيامها قسمان:
أ- منها ما هو متفق على تحريمه كالعيدين.
ب- ومنها ما هو مختلف فيه:
(1) كأيام التشريق.
(2) ويوم الشك.
(3) ويوم الجمعة.
(4) ويوم السبت.
(5) وبعد النصف من شعبان.
(6) وصيام الدهر.
(1 و2) يوم الفطر، والأضحى
* قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنهاكم عن صيام يومين: الفطر والأضحى" (1) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يصلح الصيام في يومين: يوم الأضحى، ويوم الفطر من رمضان" (2) .
* وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد -رضى الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "نهى عن صيام يومين. يوم الأضحى ويوم الفطر" (3) .
* وعن أبي عبيد مولى أزهر قال: "شهدت العيد مع عمر بن الخطاب، فقال: هذان يومان نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم" (4) .
__________
(1) صحيح: رواه أبو يعلى عن أبي سعيد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2517) .
(2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه أحمد والبيهقي وابن الجارود والشيخان ومالك وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن أبي شيبة والطحاوي.(1/523)
وأخرجه الطحاوي عن أبي عبيد عن علي وعثمان -رضي الله عنهما- مرفوعاً وإسناده جيد، وفي الباب عن عائشة وابن عمر.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صومين: يوم الفطر ويوم الأضحى. رواه مسلم.
وجاء رجل إلى ابن عمر -رضي الله عنهما- فقال: إني نذرت أن أصوم يوماً فوافق يوم أضحى أو فطر، فقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أمر الله تعالى بوفاء النذر ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صوم هذا اليوم" رواه مسلم.
قال النووي في "شرح مسلم" (3/193، 194) : "قد أجمع العلماء على تحريم صوم هذين اليومين بكل حال، سواءً صامهما عن نذر أو تطوع أو كفارة أو غير ذلك. ولو نذر صومهما متعمداً لعينهما، قال الشافعي والجمهور: لا ينعقد نذره ولا يلزمه قضاؤهما، وقال أبو حنيفة: ينعقد، ويلزمه قضاؤهما، قال: فإن صامهما أجزأه، وخالف الناس كلهم في ذلك".
ثم قال النووي: "ابن عمر توقف عن الجزم بجوابه، لتعارض الأدلة عنده".
وقد اختلف العلماء فيمن نذر صوم العيد معيناً. وأما هذا الذي نذر صوم يوم الاثنين فوافق يوم العيد، فلا يجوز له صوم العيد بالإجماع، وهل يلزمه قضاؤه؟ فيه خلاف للعلماء، وفيه للشافعي قولان أصحهما: لا يجب قضاؤه، لأن لفظه لم يتناول القضاء، وإنما يجب قضاء الفرائض بأمر جديد على المختار عند الأصوليين، وكذلك لو صادف أيام التشريق لا يجب قضاؤه في الأصح، والله أعلم.
(ب) الأيام المنهي عن صيامها والمختلف فيها
1- أيام التشريق
اختلف في كونها يومين، أو ثلاثة بعد يوم النحر وهو قول ابن عمر وأكثر العلماء، وروي عن ابن عباس وعطاء أنها أربعة أيام يوم النحر وثلاثة أيام بعده.(1/524)
"وسميت أيام التشريق لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها أي تنشر في الشمس، وقيل: لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس، وقيل: لأن صلاة العيد تقع عند شروق الشمس، وقيل التشريق التكبير دبر كل صلاة" (1) .
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصوموا هذه الأيام: أيام التشريق، فإنها أيام أكل وشرب" (2) .
* وعن نبيشه الهذلي قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيام التشريق أيام أكل وشرب" (3) .
وفي رواية لمسلم: "وذكر لله".
وعن كعب بن مالك حدث أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أوس بن الحدثان أيام التشريق فنادى: أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأيام منى أيام أكل وشرب (4) .
* وعن بشير بن سحيم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن ينادى أيام التشريق: "أنه لا يدخل الجنة...." (5) الحديث مثل حديث كعب.
* وعن أبي هريرة مرفوعاً به مثل حديث كعب: "أيام منى ... " (6) .
* وعن علي مرفوعاً: "إنها ليست أيام صيام إنها أيام أكل وشرب وذكر" (7) .
* وعن عبد الله بن حذافة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن ينادي في أيام التشريق أنها أيام أكل وشرب (8) .
* وعن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن حذافة أن يركب راحلته أيام منى فيصيح في الناس: "لا يصومن أحد، فإنها أيام أكل وشرب" قال: فلقد رأيته على راحلته ينادي بذلك" (9) .
__________
(1) "فتح الباري" (4/285) .
(2) صحيح: رواه أحمد في "مسنده" والنسائي عن حمزة بن عمرو الأسلمي، ورواه أحمد والحاكم عن بديل بن ورقاء وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7355) .
(3) رواه مسلم والبيهقي وأحمد والطحاوي.
(4) رواه أحمد ومسلم والبيهقي.
(5) إسناده صحيح على شرط الشيخين: أخرجه النسائي والدارمي وابن ماجه والطحاوي والطيالسي وأحمد.
(6) إسناده حسن: أخرجه ابن ماجه، وقال البوصيري في "الزوائد": إسناده صحيح، رجاله ثقات.
(7) أخرجه الطحاوي والبيهقي وأحمد والحاكم، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي.
(8) سنده صحيح: أخرجه الطحاوي وأحمد.
(9) سنده صحيح: رواه أحمد والطحاوي.(1/525)
* وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه دخل على أبيه عمرو بن العاص، فوجده يأكل، قال: فدعاني، قال: فقلت له: إني صائم، فقال: "هذه الأيام التي نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيامهن، وأمرنا بفطرهن" (1) .
* وعن عقبة بن عامر مرفوعاً بلفظ: "يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب" (2) .
* عن أبي الشعثاء قال: أتينا ابن عمر في اليوم الأوسط من أيام التشريق، قال: فأتى بطعام فدنا القوم، وتنحى ابن له، قال: فقال له: أدن فاطعم، قال: فقال: إني صائم، قال: فقال: أما علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنها أيام طعم وذكر" (3) .
قال الألباني في "إرواء الغليل" (4/131) : "وبالجملة، فهذا الحديث متواتر المعنى عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ".
عن هشام بن عروة بن الزبير قال: أخبرني أبي: كانت عائشة رضي الله عنها تصوم أيام منى، وكان أبوه يصومها. رواه البخاري.
وعن عائشة، وعن ابن عمر رضي الله عنهم، قالا: "لم يرَخّص في أيام التشريق أن يُصَمْن إلا لمن لم يجد الهدي" (4) .
قال النووي في "المجموع" (6/486) :
"الجديد -أي عند الشافعي- أنه لا يصح فيها صوم. وممن قال به من السلف العلماء بامتناع صومها للمتمتع وغيره علي بن أبي طالب وأبو حنيفة وداود وابن المنذر، وهو أصح الروايتين عن أحمد.
__________
(1) إسناده صحيح: أخرجه مالك وعنه أبو داود وأحمد والدارمي والحاكم: وقال الحاكم: إسناده صحيح ووافقه الذهبي وأقره الألباني.
(2) إسناده صحيح على شرط مسلم: أخرجه أبو داود والترمذي والدارمي وابن أبي شيبة وابن خزيمة والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي والألباني.
(3) أخرجه أحمد: وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح"، وقال الألباني في "الإرواء" (4/131) : إسناده على شرط مسلم.
(4) رواه البخاري والطحاوي والدارقطني والبيهقي. وهو ليس صريحا في الرفع وإنما هو ظاهر فيه، وهو في حكم المرفوع عند جمهور أهل العلم.(1/526)
وحكى ابن المنذر جواز صومها للمتمتع وغيره عن الزبير بن العوام وابن عمر وابن سيرين، وقال ابن عمر وعائشة والأوزاعي ومالك وأحمد وإسحاق في رواية عنه: "يجوز للمتمتع صومها".
قال ابن حجر في "فتح الباري" (4/285) : "هل تلتحق -أيام التشريق- بيوم النحر في ترك الصيام كما تلتحق به في النحر وغيره من أعمال الحج أو يجوز صيامها مطلقاً، أو للمتمتع خاصة، أو له ولمن هو في معناه؟ وفي كل ذلك اختلاف للعلماء، والراجح عند البخاري جوازها للمتمتع.
وقد روى ابن المنذر وغيره عن الزبير بن العوام وأبي طلحة من الصحابة الجواز مطلقاً، وعن علي وعبد الله بن عمرو بن العاص المنع مطلقاً وهو المشهور عن الشافعي، وعن ابن عمر وعائشة وعبيد بن عمير في آخرين منعه إلا للمتمتع الذي لا يجد الهدي، وهو قول مالك والشافعي في القديم، وعن الأوزاعي وغيره يصومها أيضاً المحصر والقارن.
وفي كتاب "إرشاد المسترشد": "أما أيام التشريق: فإن أهل الظاهر وجديد قولي الشافعي لا يجيزون الصوم فيها مطلقاً، وكرهه مالك وأبو حنيفة وأحمد إلا لمن كان عليه هدي ولم يتمكن من صوم الثلاثة قبل يوم الأضحى. وحديث عائشة وابن عمر يدل على أن النهي عن صومها للكراهة لا للتحريم، والراجح عندي: ما ذهب إليه مالك ومن معه من الأئمة والله أعلم" (1) .
قال تعالى: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج) .
قال ابن حجر (4/286) . "قوله: "في الحج" يعم ما قبل النحر وما بعده فيدخل فيه أيام التشريق، وقد ثبت نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صوم أيام التشريق وهو عام في حق المتمتع وغيره، وعلى هذا فقد تعارض عموم الآية المشعر بالإذن وعموم الحديث المشعر بالنهي، وفي تخصيص عموم المتواتر بعموم الآحاد نظر لو كان الحديث مرفوعاً فكيف وفي كونه مرفوعاً نظر؟ فعلى هذا يترجح القول بالجواز، وإلى هذا جنح البخاري والله أعلم".
__________
(1) "إرشاد المسترشد" (ص 342) .(1/527)
قال ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص 304-305) :
"إنما نهى عن صيام أيام التشريق لأنها أعياد المسلمين مع يوم النحر، فلا تصام بمنى ولا غيرها عند جمهور العلماء خلافا لعطاء في قوله: إن النهي يختص بأهل منى، وإنما نهى عن التطوع بصيامها سواء وافق عادة أو لم يوافق، فأما صيامها عن قضاء فرض أو نذر أو صيامها بمنى للمتمتع إذا لم يجد الهدي ففيه اختلاف مشهور بين العلماء، ولا فرق بين يوم منها ويوم عند الأكثرين إلا عند مالك فإنه قال: في اليوم الثالث منها يجوز صيامه عن نذر خاصة".
سرّ حسن:
قال ابن رجب في "اللطائف" (ص 305) : "وفي النهي عن صيام هذه الأيام والأمر بالأكل فيها والشرب سرّ حسن وهو أن الله تعالى لما علم ما يلاقي الوافدون إلى بيته من مشاق السفر وتعب الإحرام وجهاد النفوس على قضاء المناسك شرع لهم الاستراحة عقب ذلك بالإقامة بمنى يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وأمرهم بالأكل فيها من لحوم نسكهم، فهم في ضيافة الله عز وجل لطفاً من الله بهم ورأفة ورحمة، وشاركهم أيضاً أهل الأمصار في ذلك، لأن أهل الأمصار شاركوهم في حصول المغفرة والنصب لله.
والاجتهاد في عشر ذي الحجة بالصوم وبالذكر والاجتهاد في العبادات، وشاركوهم في حصول المغفرة وفي التقرب إلى الله تعالى بإراقة دماء الأضاحى فشاركوهم في أعيادهم واشترك الجميع في الراحة في أيام الأعياد بالأكل والشرب كما اشتركوا جميعاً في أيام العشر في الاجتهاد في الطاعة والنصب، وصار المسلمون كلهم في ضيافة الله عز وجل في هذه الأيام يأكلون من رزقه ويشكرونه على فضله، ونهوا عن صيامها لأن الكريم لا يليق به أن يجيع أضيافه، فكأنه قيل للمؤمنين في هذه الأيام قد فرغ عملكم الذي عملتموه فما بقي لكم إلا الراحة فهذه الراحة بهذا التعب كما أريح الصائمون لله شهر رمضان بأمره بإفطار يوم العيد.
ويؤخذ من هذا إشارة إلى حال المؤمنين في الدنيا، فإن الدنيا كلها أيام سفر كأيام الحج، وهو زمان إحرام المؤمن عما حرم الله عليه من الشهوات فمن صبر في مدة سفره(1/528)
على إحرامه وكفّ عن الهوى، فإذا انتهى سفر عمره، ووصل إلى منى المنى، فقد قضى تفثه ووفى نذره فصارت أيامه كلها كأيام منى: أيام أكل وشرب وذكر لله وصار في ضيافة الله عز وجل في جواره أبد الأبد.
فصم عن الدنيا وليكن فطرك الموت.
فصم يومك الأدنى لعلك في غد ... تفوز بعيد الفطر والناس صوّم
من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها غدا بعد وفاته، ومن تعجّل ما حرم عليه من لذاته عوقب بحرمان نصيبه من الجنة وفواته.
أنت في دار شتات ... فتأهب لشتاتك
واجعل الدنيا كيوم ... صمته عن شهواته
وليكن فطرك عند الله في يوم وفاتك.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "نهى عن صيام يوم قبل رمضان، والأضحى، والفطر، وأيام التشريق" (1) .
2- صوم يوم الجمعة
* عن محمد بن عباد بن جعفر: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وهو يطوف بالبيت: أنهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيام يوم الجمعة؟ فقال: نعم ورب هذا البيت (2) ، وزاد البخاري - يعني أن ينفرد بصومه.
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده" (3) .
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تخصّوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم" (4) .
__________
(1) صحيح: رواه البيهقي في سننه، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6964) .
(2) رواه مسلم واللفظ له والبخاري وأحمد، وعند النسائي: "ورب الكعبة" وليس عند البخاري إلا قوله: "نعم".
(3) رواه مسلم.
(4) رواه مسلم.(1/529)
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصوموا يوم الجمعة إلا قبله يوم وبعده يوم" (1) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصوموا يوم الجمعة مفردا" (2) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة، إلا أن يصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده" (3) .
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم (4) .
* وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صوم ستة أيام من السنة: ثلاثة أيام التشريق، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، ويوم الجمعة مختصة من الأيام (5) .
* وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيام يوم الجمعة (6) .
* وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على جويرية بنت الحارث رضي الله عنها وهي صائمة في يوم جمعة، فقال لها: "أصمت أمس؟ " فقالت: لا. قال: "أتريدين أن تصومي غداً؟ " فقالت: لا. قال: "فأفطري إذا" (7) .
قال ابن حجر (4/275) : "هذه الأحاديث تقيد النهي المطلق في حديث جابر وتؤيد الزيادة التي تقدمت من تقييد الإطلاق بالإفراد، ويؤخذ من الاستثناء جوازه لمن صام قبله أو بعده، أو اتفق وقوعه في أيام له عادة بصومها كمن يصوم أيام البيض أو من له عادة بصوم يوم معين كيوم عرفة فوافق يوم الجمعة، ويؤخذ منه جواز صومه لمن نذر يوم قدوم زيد مثلاً أو يوم شفاء فلان".
__________
(1) صحيح: رواه أحمد عن أبي هريرة، ورواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7356) .
(2) صحيح: رواه أحمد والنسائي والحاكم عن جنادة الأزدي وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7357) .
(3) رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة.
(4) صحيح: رواه أحمد عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6837) .
(5) صحيح: رواه الطيالسي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6961) .
(6) رواه أحمد والبخاري ومسلم وابن ماجه.
(7) رواه أحمد واللفظ له، والبخاري من حديث جويرية، ورواه النسائي وابن حبان وصححه عن عبد الله بن عمرو، ورواه أبو داود والطحاوي.(1/530)
قال ابن حجر في "الفتح" (4/275-276) : "استدل بأحاديث الباب على منع إفراد يوم الجمعة بالصيام، ونقله أبو الطب الطبري عن أحمد وابن المنذر وبعض الشافعية، وكأنه أخذه من قول ابن المنذر: ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة، كما ثبت عن صوم يوم العيد، وزاد يوم الجمعة الأمر بفطر من أراد إفراده بالصوم فهذا قد يشعر بأنه يرى تحريمه".
وقال أبو جعفر الطبري: "يفرق بين العيد والجمعة بأن الإجماع منعقد على تحريم صوم يوم العيد ولو صام قبله أو بعده، بخلاف يوم الجمعة فالإجماع منعقد على جواز صومه لمن صام قبله أو بعده. ونقل ابن المنذر وابن حزم منع صومه عن علي وأبي هريرة وسلمان وأبي ذر، قال ابن حزم: لا نعلم لهم مخالفا من الصحابة وذهب الجمهور إلى أن النهي فيه للتنزيه. وعن مالك وأبي حنيفة لا يكره".
* وقال النووي في "شرح مسلم" (3/197) : "وأما قول مالك في "الموطأ": لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه، ومَنْ يقتدَى نهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحراه، فهذا الذي قاله هو الذي رآه، وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو، والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره، وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة فيتعين القول به. ومالك معذور؛ فإنه لم يبلغه، قال الداودي -من أصحاب مالك-: لم يبلغ مالكا هذا الحديث، ولو بلغه لم يخالفه".
* قال ابن حجر (4/276) : وزعم عياض أن كلام مالك يؤخذ منه النهي عن إفراده لأنه كره أن يخص يوم من الأيام بالعبادة فيكون له في المسألة روايتان. وعاب ابن العربي قول عبد الوهاب منهم: يوم لا يكره صومه مع غيره فلا يكره وحده، لكونه قياسا مع وجود النص.
واستدل الحنفية بحديث ابن مسعود: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وقلما كان يفطر يوم الجمعة". حسنه الترمذي، وليس فيه حجة لأنه يحتمل أن يريد كان لا يتعمد فطره إذا وقع في الأيام التي كان يصومها، ولا يضاد ذلك كراهة إفراده بالصوم جمعا بين الحديثين، ومنهم من عدّه من الخصائص، وليس بجيد لأنها لا تثبت بالاحتمال. والمشهور عند الشافعية وجهان:(1/531)
أحدهما ونقله المزني عن الشافعي: أنه لا يكره إلا لمن أضعفه صومه عن العبادة التي تقع فيه من الصلاة والذكر والدعاء.
والثاني وهو الذي صححه المتأخرون. كقول الجمهور.
وحديث ابن مسعود المتقدم حمله الجمهور على حديث أبي هريرة السابق وقالوا: إذا صام قبله أو بعده جاز بلا كراهة وإلا فهو مكروه، وهو الراجح عندنا لأن أكثر أهل الأصول يقولون: إذا تعارض النهي والفعل قدم جانب الحظر على الفعل لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا".
• واختلف في سبب النهي عن إفراده على أقوال:
* أحدها: لكونه يوم عيد والعيد لا يصام، قال ابن حجر: "وهذا أقوى الأقوال وأولاها بالصواب وورد فيه صريحاً حديثان: أحدهما رواه الحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً: "يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله أو بعده"، والثاني رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي وقال: "من كان منكم متطوعاً من الشهر فليصم يوم الخميس فإنه طعام وشراب وذكر"، واستشكل ذلك مع الإذن بصيامه مع غيره. وأجاب ابن القيم وغيره بأن شبهه بالعيد لا يستلزم استواءه معه من كل جهة، ومن صام معه غيره انتفت عنه صورة التحري بالصوم.
* ثانيها: لئلا يضعف عن العبادة واختاره النووي، قال: "الحكمة في النهي عنه أن يوم الجمعة يوم دعاء وذكر وعبادة من الغسل والتبكير إلى الصلاة وانتظارها واستماع الخطبة وإكثار الذكر بعدها وغير ذلك من العبادات في يومها، فاستحب الفطر فيه، فيكون أعون له على هذه الوظائف وأدائها بنشاط وانشراح لها والتذاذ بها من غير ملل ولا سآمة، وهو نظير الحاج يوم عرفة بعرفة، فإن السنة له الفطر كما سبق تقريره لهذه الحكمة".
3- بعد النصف من شعبان
المروي عن الشافعي كراهية صيامه، والجمهور على جواز صيامه لحديث عمران بن حصين الذي سبق.(1/532)
4- صوم السبت
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صيام يوم السبت لا لك ولا عليك" (1) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصوموا يوم السبت إلا في فريضة، وإن لم يجد أحدكم إلا عود كرم أو لحاء شجرة، فليفطر عليه" (2) ، الكرم هو العنب، واللحاء هو القشر.
قال النووي في "المجموع" (6/481-482) : "يكره إفراد يوم السبت بالصوم، فإن صام قبله أو بعده لم يكره. صرّح بكراهة إفراده أصحابنا، منهم الدارمي والبغوي والرافعي وغيرهم. وقال الترمذي: معنى النهي أن يختصه الرجل بالصيام لأن اليهود يعظمونه".
ومذهب مالك: عدم كراهية صومه.
وقال ابن قدامة في "المغني" (4/428) : "قال أصحابنا: يكره إفراد يوم السبت
__________
(1) صحيح: رواه أحمد عن امرأة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، رقم (3852) ، و"الإرواء" رقم (960) .
(2) صحيح: أخرجه أبو داود والترمذي والدارمي وابن ماجه والطحاوي وابن خزيمة في "صحيحه" والحاكم والبيهقي وأحمد والضياء المقدسي في "المختارة" عن عبد الله بن بسر السلمي عن أخته الصماء. وقال الترمذي: حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري وأقره الذهبي ووافقه الألباني في "إرواء الغليل" رقم (960) . وقال النسائي: حديث مضطرب، وقال الزهري: ذاك حديث حمصي وضعفه ونقلوا عن مالك أنه قال: هذا كذب، قال النووي: "لا يقبل هذا منه"، وقد صححه الأئمة، وقال أبو داود: هذا حديث منسوخ، وصححه ابن خزيمة وقال ابن مفلح: إسناده جيد: وقال الإمام أحمد: كان يحيى بن سعيد يتقيه وأبى أن يحدثني به. وصحح الحديث ابن السكن. وقال ابن حجر في "تلخيص الحبير" (2/216) : "وقد أعل حديث الصماء بالاضطراب، فقيل هكذا، وقيل: عن عبد الله بن بسر وليس فيه عن أخته الصماء، وهذه رواية ابن حبان، وليست بملة قادحة، فإنه أيضاً صحابي، وقيل: عنه عن أبيه بسر. وقيل: عنه عن الصماء عن عائشة. قلت: يحتمل أن يكون عند عبد الله عن أبيه وعن أخته، وعند أخته بواسطة، وهذه طريقة من صححه ورجح عبد الحق الرواية الأولى وتبع في ذلك الدارقطني، لكن هذا التلون في الحديث الواحد بالإسناد الواحد مع اتحاد المخرج يوهن راويه، وينبئ بقلة ضبطه، إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين بجمع طرق الحديث، فلا يكون ذلك وإلا على قلة ضبطه وليس الأمر هنا كذلك بل اختلف فيه عن عبد الله بن بسر أيضاً" ا. هـ، وقد رد الألباني على هذا بتفصيل في "إرواء الغليل" حديث رقم (960) وقال: الحديث صحيح من طرق ثلاث. قال النووي: قول أبي داود أنه منسوخ غير مقبول وللأخ علي بن حسن بن عبد الحميد رسالة في ذلك باسم "زهر الروض في حكم صيام يوم السبت في غير الفرض".(1/533)
بالصوم، فإن صام معه غيره لم يكره، لحديث أبي هريرة وجويرية، وإن وافق صوماً لإنسان لم يكره. قال أبو عبد الله: أما صيام يوم السبت يفترد (1) به فقد جاء فيه حديث الصماء، وكان يحيى بن سعيد يتقيه أي أن يحدثني به وسمعته من أبي عاصم".
قال ابن مفلح في "الفروع" (3/124) : "قال الأثرم: وحجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر، منها حديث أم سلمة يعني أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم يوم السبت والأحد ويقول: "هما عيدان للمشركين فأحب أن أخالفهما" رواه أحمد والنسائي وصححه جماعة، وإسناده جيد، واختار شيخنا (2) أنه لا يكره، وأنه قول أكثر العلماء، وأنه الذي فهمه الأثرم من روايته، وأنه لو أريد إفراده لما دخل الصوم المفروض ليستثنى، فالحديث شاذ أو منسوخ، وأن هذه طريقة قدماء أصحاب أحمد الذين صحبوه، كالأثرم وأبي داود، وأن أكثر أصحابنا فهم من كلام أحمد الأخذ بالحديث، ولم يذكر الآجري غير صوم يوم الجمعة، فظاهره لا يكره مع غيره".
5- يوم الشك
* عن صلة قال: كنا عند عمار فأتى بشاة مصلية، فقال: كلوا، فتنحى بعض القوم، قال: إني صائم، فقال عمار: "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (3) .
وفي رواية ابن خزيمة وغيره: "من صام اليوم الذي يشك فيه".
* قال ابن حجر (4/144) : "قال الطيبي: إنما أتى بالموصول ولم يقل: يوم الشك مبالغة في أن صوم يوم فيه أدنى شك سبب لعصيان صاحب الشرع فكيف بمن صام يوماً الشك فيه قائم ثابت، ونحوه قوله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) أي الذين أونس
__________
(1) أي يصومه منفرداً.
(2) أي ابن تيمية.
(3) صحيح: أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والدارمي والطحاوي وابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي وابن خزيمة وصححه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال الدارقطني: إسناده حسن صحيح ورواته كلهم ثقات، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وعلقه البخاري بصيغة الجزم ووصله أبو داود والترمذي والحاكم وغيره. واقتصر الحافظ على تحسينه، ورواه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عكرمة من قوله.(1/534)
منهم أدنى ظلم، فكيف بالظلم المستمر عليه؟ قلت: وقد علمت أنه وقع في كثير من الطرق بلفظ: "يوم الشك".
وقوله: "أبا القاسم" قيل: فائدة تخصيص ذكر هذه الكنية: الإشارة إلى أنه هو الذي يقسم بين عباد الله أحكامه زماناً ومكاناً وغير ذلك".
* قال النووي في "المجموع" (6/454) : "يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا وقع في ألسنة الناس أنه رؤي ولم يقل عدل: أنه رآه، أو قاله وقلنا: لا تقبل شهادة الواحد، أو قاله عدد من النساء والصبيان أو العبيد أو الفساق.
قالوا: فأما إذا لم يتحدث برؤيته أحد فليس بيوم شك، سواء كانت السماء مصحية أو أطبق غيم، هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور".
وقال إمام الحرمين: "إن كان ببلد يستقل أهله بطلب الهلال فليس بشك، وإن كانوا في سفر ولم تبعد رؤية أهل القرى فيحتمل جعله يوم شك".
وقال الخطيب البغدادي: "أجمع علماء السلف على أن صوم يوم الشك ليس بواجب وهو إذا كانت السماء متغيمة في آخر اليوم التاسع والعشرين من شعبان، ولم يشهد عدل برؤية الهلال، ليوم الثلاثين يوم الشك، فكره جمهور العلماء صيامه إلا أن يكون له عادة بصوم يصومه فيصومه من عادته، أو كان يسرد الصوم فيأتي ذلك في صيامه فيصومه".
* قال النووي في "المجموع" (6/455-458) :
"فرع. في مذاهب العلماء في صوم يوم الشك:
لا يصح صومه بنية رمضان عندنا -أي الشافعية-، وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس وابن مسعود وعمار وحذيفة وأنس وأبي هريرة وأبي وائل وعكرمة وابن المسيب والشعبي والنخعي وابن جريج والأوزاعي. قال: وقال مالك: سمعت أهل العلم ينهون عنه. هذا كلام ابن المنذر، وممن قال به أيضاً: عثمان بن عفان وداود الظاهري، قال ابن المنذر. وبه أقول.(1/535)
وقالت عائشة وأختها أسماء: نصومه من رمضان، وكانت عائشة تقول: "لأن أصوم يوماً من شعبان أحبّ إلي من أن أفطر يوماً من رمضان" وروي هذا عن علي أيضاً.
قال العبدري: ولا يصح عنه، وقال الحسن وابن سيرين: إن صام الإمام صاموا، وإن أفطر أفطروا، وقال ابن عمر وأحمد بن حنبل: إن كانت السماء مصحية لم يجز صومه، وإن كانت مغيمة وجب صومه عن رمضان.
* وعن أحمد روايتان كمذهبنا ومذهب الجمهور، وعنه رواية ثالثة كمذهب الحسن هذا بيان مذاهبهم في صوم يوم الشك عن رمضان".
قال ابن حجر (6/146) : "المشهور عن أحمد أنه خص يوم الشك بما إذا تقاعد الناس عن رؤية الهلال، أو شهد برؤيته من لا يقبل الحاكم شهادته، فأما إذا حال دون منظره شيء فلا يسمى شكّاً. واختار كثير من المحققين من أصحابه الثاني. قال ابن عبد الهادي في تنقيحه: الذي دلت عليه الأحاديث -وهو مقتضى القواعد- أنه أي شهر غم أكمل ثلاثين يوماً سواء في ذلك شعبان ورمضان وغيرهما".
* وقال الخطيب البغدادي: "فممن منع صوم يوم الشك عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وعمار وحذيفة بن اليمان وابن عمر وابن عباس وأنس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعائشة، وتابعهم من التابعين: سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وأبو وائل وعبد الله بن عكيم الجهني وعكرمة والشعبي والحسن وابن سيرين والمسيب بن رافع وعمر بن عبد العزيز ومسلم بن يسار وأبو السوار العدوي وقتادة والضحاك بن قيس وإبراهيم النخعي، وتابعهم من الخالفين والفقهاء المجتهدين ابن جريج والأوزاعي والليث ابن سعد والشافعي وإسحاق بن راهويه.
وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز عن رمضان ويجوز تطوعاً".
* قال الخطيب: "أما حديث ابن عمر فاختلفت الروايات عنه اختلافاً يؤول إلى أن يكون حجة لنا، فإن بعض الرواة قال في حديثه عنه: "فإن غمّ عليكم فعدوا ثلاثين يوماً" ثم روى عنه: "فأكملوا العدة ثلاثين"، وفي رواية عنه: "فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين"، ثم قال: "لقد ثبت برواية ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما فسّر المجمل، وأوضح(1/536)
المشكل، وأبطل شبهة المخالف، لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فاقدروا له" مجمل مفسر برواية: "فعدوا له ثلاثين يوماً" و"فأكملوا العدة ثلاثين" و"فاقدروا له ثلاثين" مع موافقة أبي هريرة بن عمر على روايته مثل هذه الألفاظ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما تعلق المخالف بما روي عن ابن عمر أنه كان يصوم إذا غم الهلال (1) ، فقد روي أنه كان يفعل ويفتي بخلاف ذلك، وفتياه أصح من فعله يعني لتطرق التأويل إلى فعله، ثم روى الخطيب بإسناده عن عبد العزيز بن حكيم قال: "سألوا ابن عمر فقالوا: نسبق قبل رمضان حتى لا يفوتنا منه شيء، فقال ابن عمر: أف أف صوموا مع الجماعة، وأفطروا مع الجماعة" إسناده صحيح إلا عبد العزيز بن حكيم (2) ، فقال يحيى بن معين: هو ثقة، وقال أبو حاتم: ليس بقوي يكتب حديثه، وعن ابن عمر: "لا أتقدم الإمام ولا أصله بصيام".
وعن عبد العزيز بن حكيم قال: "ذكر عند ابن عمر يوم الشك فقال: لو صمت السنة كلها لأفطرته" قال الخطيب: وهذا هو الأشبه بابن عمر لأنه لا يجوز الظن به أنه خالف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وترك قوله الذي رواه هو وغيره من العمل بالرؤية أو إكمال العدة فيجب أن يحمل ما روي عن ابن عمر من صوم يوم الشك على أنه كان يصبح ممسكاً حتى يتبين بعد ارتفاع النهار هل تقوم بينة بالرؤية فظن الراوي أنه كان صائماً.
وكيف يظن بابن عمر مخالفة السنة، وهو المجتهد في اقتفاء آثار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والاقتداء بأفعاله وطريقة ابن عمر في ذلك مشهورة محفوظة".
* قال النووي في "المجموع" (6/455-456) : "فلو صامه -أي يوم الشك- تطوعاً بلا عادة ولا وصله فمذهبنا أنه لا يجوز، وبه قال الجمهور، وحكاه العبدري عن عثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وحذيفة وعمار وابن عباس وأنس والأوزاعي ومحمد ابن سلمة المالكي وداود، وقال أبو حنيفة: لا يكره صومه تطوعاً ويحرم صومه عن رمضان".
__________
(1) عند أحمد عن نافع: "كان ابن عمر إذا كان ليلة تسع وعشرين، وكان في السماء سحاب أو قتر أصبح صائماً"، وإسناده صحيح على شرطهما. وعند أبي داود والدارقطني والبيهقي وأحمد عن نافع: "كان ابن عمر إذا حال دون مطلعه غيم أو قتر أصبح صائماً" صحيح. فمن قال: العبرة برأي الراوي لا بروايته لزم الأخذ به كالحنفية.
(2) وثقه أبو داود.(1/537)
* قال ابن رشد في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" (2/195-196) : "وأما يوم الشك فإن جمهور العلماء على النهي عن صيام يوم الشك على أنه من رمضان لظواهر الأحاديث التي يوجب مفهومها تعلق الصوم بالرؤية أو بإكمال العدد، واختلفوا في تحرّي صيامه تطوعاً فمنهم من كرهه على ظاهر حديث عمار، ومن أجازه، وكان الليث بن سعد يقول: إنه إن صامه على أنه من رمضان، ثم جاء الثبت أنه من رمضان أجزأه، وهذا دليل على أن النية تقع بعد الفجر في التحول من نية التطوع إلى نيّة الفرض".
* وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (14/342-346) : "جملة قول مالك وأصحابه أن يوم الشك لا يُصام على الاحتياط، خوفاً أن يكون من رمضان، ويجوز صومه تطوعاً؛ ومن صامه تطوعاً أو احتياطاً ثم ثبت أنه من رمضان لم يجزه، وكان عليه قضاؤه، وإن أصبح فيه ينوي الفطر ولم يأكل أو أكل ثم صح أنه من رمضان كف عن الأكل في بقية يومه وقضاه".
* ذكر عبد الرزاق عن داود بن قيس قال: سألتُ القاسم بن محمد عن صيام اليوم الذي يشك فيه من رمضان، فقال: إذا كان مغيماً يتحرّى أنه من رمضان فلا يصمه.
* وقال الوليد بن مزيد: قلت للأوزاعي: إن صام رجل آخر يوم من شعبان تطوعاً -أو خوفاً- أن يكون من رمضان، ثم صح أنه من رمضان أيجزئه؟ قال: نعم. وقد وفق لصومه.
* وقال ابن علية: لا ينبغي لأحد أن يتقدم رمضان بصوم، فإن فعل ثم صح أنه من رمضان أجزأ عنه. وممن قال بقول الأوزاعي عمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة والثوري وابن علية وعطاء وحجتهم أن رمضان لا يحتاج إلى نية ولا يكون صومه تطوعاً أبداً.
* قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لو أن رجلاً أصبح صائماً في أول يوم من شهر رمضان، ولا ينوي أنه من شهر رمضان وينوي بصيامه التطوع ثم علم أن يومه ذلك من رمضان، فإنه يجزي عنه صيامه وليس عليه قضاء ذلك اليوم.
* وقال ربيعة بن عبد الرحمن وحماد بن أبي سليمان وابن أبي ليلى: من صام يوم الشك على أنه من رمضان لم يجزه وعليه الإعادة.(1/538)
قال الشافعي: لو أصبح ينوي صومه متطوعاً لم يجزه من رمضان، ولا أرى رمضان يجزئه إلا بإرادته والله أعلم. قال: ولا فرق عندي بين الصوم والصلاة، وقال أبو ثور: لو أن رجلاً نوى بصوم ذلك اليوم التطوع وهو لا يعلم أنه من رمضان لم يجزه أيضاً وكان عليه قضاؤه.
قال ابن عبد البر: قد صح أن التطوع غير الفرض فمحال أن ينوي التطوع ويجزئه عن الفرض.
والقول (1) أصح وأحوط من جهة الأثر والنظر إن شاء الله، والله الموفق للصواب.
قال ابن سيرين: لأن أفطر يوماً من رمضان لا أتعمده أحبّ إلي من أن أصوم اليوم الذي يشك فيه من شعبان. وقال: خرجت في اليوم الذي يشك فيه، فلم أدخل على أحد يؤخذ عنه العلم إلا وجدته يأكل، إلا رجلاً كان يحسب ويأخذ بالحساب، ولو لم يعلم ذلك كان خيراً له.
فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين:
* عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر رمضان فقال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له" (2) .
* وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" (3) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو قال: قال أبو القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غُبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" (4) رواه البخاري.
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن أغمي عليكم فعدوا ثلاثين يوماً" (5) .
__________
(1) أنه لا يجزئه عن صوم رمضان وعليه القضاء.
(2) رواه البخاري ومسلم والنسائي.
(3) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود. واللفظ للبخاري.
(4) رواه البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة، والنسائي عن ابن عباس، والطبراني في "الكبير" عن البراء.
(5) رواه أحمد والبخاري ومسلم عن جابر، وأحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة، والنسائي عن ابن عباس، وأحمد عن طلق بن علي.(1/539)
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين" (1) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله قد أمده لرؤيته؛ فإن أُغمى (2) عليكم فأكملوا العدة" (3) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا عدة شعبان، ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً، ولا تصلوا رمضان بيوم من شعبان" (4) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" (5) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الشهر يكون تسعة وعشرين، ويكون ثلاثين، فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأكملوا العدة" (6) .
قال ابن حجر (4/144) : "ذكر البخاري في الباب أحاديث تدل على نفي صوم يوم الشك رتبها ترتيباً حسناً فصدّرها بحديث عمار المصرح بعصيان من صامه، ثم بحديث ابن عمر من وجهين: أحدهما: بلفظ: "فاقدروا له" والآخر بلفظ: "فأكملوا العدة ثلاثين" وقصد بذلك بيان المراد من قوله: "فاقدروا له".
قال ابن حجر (4/145-146) : "قوله: "فإن غم عليكم فاقدروا له" احتمل أن يكون المراد التفرقة بين حكم الصحو والغيم، فيكون التعليق على الرؤية متعلقاً بالصحو، وأما الغيم فله حكم آخر، ويحتمل أن لا تفرقة ويكون الثاني مؤكداً للأول، وإلى الأول ذهب أكثر الحنابلة، وإلى الثاني ذهب الجمهور فقالوا: المراد بقوله: "فاقدروا له" أي انظروا
__________
(1) صحيح.
(2) فإن غُم: أي حال بينكم وبينه غيم. وأغمى وغم وغمي بتشديد الميم وتخفيفها فهو مغموم، الكل بمعنى، وأما غَبي بفتح الغين وتخفيف الموحدة فمأخوذ من الغباوة وهي عدم الفطنة وهي استعارة لخفاء الهلال. ونقل ابن العربي أنه روى: "عمى" بالعين المهملة من العمى لأنه ذهاب البصر عن المشاهدات.
(3) رواه أحمد ومسلم عن ابن عباس.
(4) صحيح: رواه أحمد والنسائي والبيهقي في "سننه" عن ابن عباس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3809) .
(5) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود.
(6) صحيح: رواه النسائي عن أبي هريرة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3744) .(1/540)
في أول الشهر واحسبوا تمام الثلاثين، ويرجع هذا التأويل الروايات الأخرى المصرحة بالمراد، وأولى ما فسر الحديث بالحديث".
عن عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحفّظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام" (1) .
وعن حذيفة مرفوعاً: "لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة" (2) .
قال ابن حجر (4/146) : "قوله: (فأكملوا العدة) يرجع إلى الجملتين وهو قوله: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة" أي غمّ عليكم في صومكم أو فطركم، وبقية الأحاديث تدل عليه فاللام في قوله: "فأكملوا العدة" للشهر أي عدة الشهر، ولم يخص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً دون شهر بالإكمال إذا غمّ فلا فرق بين شعبان وغيره في ذلك، إذ لو كان شعبان غير مراد بهذا الإكمال لبينه فلا تكون رواية من روى: "فأكملوا عدة شعبان" مخالفة لمن قال: "فأكملوا العدة" بل مبينة لها. ويؤيد ذلك قوله في الرواية الأخرى: "فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدة ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً".
"فاقدروا له" قال النووي في "المجموع" (6/457-460) : "قال أهل اللغة: هو من التقدير. قال الخطابي: ومنه قوله تعالى: "فقدرنا فنعم القادرون". قال الإمام أبو عبد الله الماوردي: حمل جمهور الفقهاء قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فاقدروا له" على أن المراد إكمال العدة ثلاثين يوماً. والوجه الثاني: أن معنى: "اقدروا" ضيقوا عدة شعبان كما قال الله: (ومن قدر عليه رزقه) أي ضيق. وقال النووي: يحتمل رجوعه إلى هلال شوال لأنه سبقه بقوله: "وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم" يعني هلال شوال. والرأي الأول أقوى.
النهي عن صوم المرأة تطوعاً إلا بإذن زوجها وهو حاضر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا
__________
(1) صحيح: رواه الدارقطني وصححه ابن خزيمة في "صحيحه"، ورواه أبو داود في "الفتح" (4/145) .
(2) صحيح: رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وصححه ابن خزيمة وابن حجر في "الفتح" (4/145) .(1/541)
بإذنه، وما أنفقت من كسبه من غير أمره، فإن نصف أجره له" (1) .
* عن أبي هريرة مرفوعاً: "لا يحل للمرأة أن تصوم [يوماً تطوعاً في غير رمضان] وزوجها شاهد إلا بإذنه" (2) .
* وعنه مرفوعاً: "لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه [غير رمضان] " (3) .
* وعنه مرفوعاً: "لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه سوى شهر رمضان" (4) .
* وعن أبي سعيد الخدري قال: "جاءت امرأة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن عنده، فقالت: يا رسول الله إن زوجي صفوان بن المعطل يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال: وصفوان عنده، قال: فسأله عما قالت، فقال: يا رسول الله أما قولها: يضربني إذا صليت، فإنها تقرأ بسورتين، وقد نهيتها عنهما، قال: فقال: "لو كانت سورة واحدة لكفت الناس"، وأما قولها: يفطرني، فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شاب، فلا أصبر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ: "لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها"، وأما قولها: إني لا أصلي حتى تطلع الشمس، فإنا أهل بيت قد عرف لنا ذاك، لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس، قال: "فإذا استيقظت فصل" (5) .
* عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصومن امرأة إلا بإذن زوجها) (6) .
قال النووي في "المجموع" (6/445-446) : "قال المصنف والبغوي وصاحب العدة وجمهور أصحابنا: لا يجوز للمرأة صوم تطوع وزوجها حاضر إلا بإذنه لهذا الحديث، وقال جماعة من أصحابنا: يكره، والصحيح الأول، فلو صامت بغير إذن
__________
(1) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة.
(2) رواه البخاري والترمذي والدارمي والزيادة له، وابن ماجه وأحمد والترمذي.
(3) رواه البخاري ومسلم، والرواية الأخرى له، وأبو داود والزيادة له، وابن حبان وأحمد.
(4) رواه ابن حبان واللفظ له وأحمد والدرامي والحاكم وحسنه الألباني في "إرواء الغليل" رقم (2004) .
(5) أخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم وأحمد وزاد بعد قوله: "بسورتين": "فتعطلني"، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي وتابعه الألباني في "إرواء الغليل" رقم (2004) .
(6) صحيح: رواه أحمد، وأبو داود وابن حبان والحاكم وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7359) .(1/542)
زوجها صحّ باتفاق أصحابنا، وإن كان الصوم حراماً لأن تحريمه لمعنى آخر لا لمعنى يعود إلى نفس الصوم، فهو كالصلاة في دار مغصوبة.
وأما صومها التطوّع في غيبة الزوج عن بلدها فجائز بلا خلاف لمفهوم الحديث ولزوال معنى النهي.
* والأمَةُ المستباحة لسيدها في صوم التطوع كالزوجة، وأما الأمة التي لا تحل لسيدها بأن كانت محرماً له كأخته أو كانت مجوسية أو غيرهما والعبد، فإن تضررا بصوم التطوع بضعف أو غيره أو نقصاً، لم يجز بغير إذن السيد بلا خلاف، وإن لم يتضررا ولم ينقصا جاز والله أعلم.
قال المناوي (6/407) : "فلو نكحها صائمة فلا حق له في تفطيرها كما جزم به المروزي من عظماء الشافعية وأعظم بها فائدة قلّ من تعرض لها أما وهو غائب عن البلد فلا يكره بل يسن قال أبو زرعة: وفي معنى غيبته كونه لا يمكن التمتع بها لنحو المرض".
إفراد يوم النيروز بصوم
قال ابنُ قدامة في "المغني" (4/428-429) : "يكره إفراد يوم النيروز ويوم المهرجان (1) بالصوم لأنهما يومان يعظمها الكفار فكره كيوم السبت، وعلى قياس هذا، كل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم".
صيام الدهر
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام الأبد، فلا صام ولا أفطر" (2) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صام من صام الأبد" (3) .
__________
(1) عيد تقيمه الفرس احتفالاً بالاعتدال الخريفي.
(2) صحيح: رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم عن عبد الله بن الشخير، وابن حبان والنسائي والطبراني في "الكبير" عن ابن عمر، والنسائي وابن حبان عن عمران، والنسائي عن أبي قتادة وصححه الألباني في صحيح "الجامع" رقم (6323) .
(3) رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن ابن عمرو.(1/543)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صام من صام الدهر، صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله" (1) .
* قال ابن حجر (4/261-263) : "المعنى أنه لم يحصل أجر الصوم لمخالفته، ولم يفطر لأنه أمسك".
* وإلى كراهة صوم الدهر مطلقاً ذهب إسحاق وأهل الظاهر، وهي رواية عن أحمد. وشذّ ابن حزم فقال: يحرم.
وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي عمرو الشيباني قال: "بلغ عمر أن رجلاً يصوم الدهر، فأتاه فعلاه بالدرة وجعل يقول: كل يا دهري".
* وإلى الكراهة مطلقاً ذهب ابنُ العربي من المالكية فقال: قوله: "لا صام من صام الأبد" إن كان معناه الدعاء فيا ويح من أصابه دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن كان معناه الخبر فيا ويح من أخبر عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لم يصم، وإذا لم يصم شرعاً لم يكتب له الثواب لوجوب صدق قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه نفى عنه الصوم، وقد نفى عنه الفضل كما تقدم، فكيف يطلب الفضل فيما نفاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -".
* وذهب آخرون إلى جواز صيام الدهر وحملوا أخبار النهي على من صامه حقيقة فإنه يدخل فيه ما حرم صومه كالعيدين وهذا اختيار ابن المنذر وطائفة، ورُوي عن عائشة نحوه.
* وذهب آخرون إلى استحباب صيام الدهر لمن قوي عليه ولم يفوت فيه حقًّا، وإلى ذلك ذهب الجمهور.
قال السبكي: أطلق أصحابنا كراهة صوم الدهر لمن فوّت حقَّا، ولم يوضحوا هل المراد الحق الواجب أو المندوب، ويتجه أن يقال: إن علم أنه يفوت حقا واجباً حرم، وإن علم أنه يفوت حقًّا مندوباً أولى من الصيام كره، وإن كان يقوم مقامه فلا.
ومن حجتهم حديث حمزة بن عمرو فإن في بعض طرقه عند مسلم أنه قال: "يا رسول الله إني أسرد الصوم" فحملوا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الله بن عمرو: "لا أفضل من ذلك" أي في حقك فيلتحق به من في معناه ممن يدخل فيه على نفسه مشقة أو يفوت حقا، ولذلك
__________
(1) رواه البخاري عن ابن عمرو.(1/544)
لم ينه حمزة بن عمرو عن السرد فلو كان السرد ممتنعاً لبينه له لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز قاله النووي.
* واختلف المجيزون لصوم الدهر بالشرط المتقدم هل هو أفضل أو صيام يوم وإفطار يوم أفضل؟ فصرح جماعة من العلماء بأن صوم الدهر أفضل لأنه أكثر عملاً فيكون أكثر أجراً وما كان أكثر أجراً كان أكثر ثواباً، وبذلك جزَم الغزالي أولاً وقيّده بشرط أن لا يصوم الأيام المنهي عنها، وأن لا يرغب عن السنة بأن يجعل الصوم حجراً على نفسه، فإذا أمن من ذلك فالصوم من أفضل الأعمال، فالاستكثار منه زيادة في الفضل.
وذهب جماعة منهم المتولى من الشافعية وابنُ دقيق العيد إلى أن صيام داود أفضل.
وعلى هذا فيختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال، فمن يقتضي حاله الإكثار من الصوم أكثر منه، ومن يقتضي حاله الإكثار من الإفطار أكثر منه، ومن يقتضي حاله المزج فعله، حتى أن الشخص الواحد قد تختلف عليه الأحوال في ذلك، وإلى ذلك أشار الغزالي أخيراً والله أعلم بالصواب.
* قال ابن قدامة في "المغني" (4/430) [حنبلي] : "عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم" قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: فَسّر مسدَّد قول أبي موسى: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم" فلا يدخل، فضحك وقال: من قال هذا؟ فأين حديث عبد الله بن عمرو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كرِه ذلك، وما فيه من الأحاديث؟ "
قال أبو الخطاب: إنما يكره إذا أدخل فيه يومي العيدين وأيام التشريق، لأن أحمد قال: إذا أفطر يومي العيدين وأيام التشريق رجوت أن لا يكون بذلك بأس. ورُوي نحو هذا عن مالك وهو قول الشافعي؛ لأن جماعة من الصحابة كانوا يسردون الصوم، منهم: أبو طلحة. قيل: إنه صام بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين سنة. ويقوى عندي أن صوم الدهر مكروه، وإن لم يصم هذه الأيام، فإن صامها فقد فعل محرّماً، وإنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقة والضعف، وشبه التبتل المنهي عنه بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الله ابن عمرو: "إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل؟ " فقلت: نعم، قال: "إنك إذا فعلت ذلك(1/545)
هجمت (1) له عينك، ونفهت (2) له النفس، لا صام من صام الدهر. صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله"، قلت: فإني أطيق أكثر من ذلك. قال: "فصم صوم داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى"، وفي رواية: "وهو أفضل الصيام". فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: "لا أفضل من ذلك" (3) .
* قال ابنُ مفلح في "الفروع" (3/114-115) : "يكره صوم الدهر إذا أدخل فيه يومي العيدين وأيام التشريق، ذكره القاضي وأصحابه، والكراهة كراهة تحريم، ذكره صاحب "المغني" و"المحرر" وغيرهما وهو واضح. وإن أفطر أيام النهي جاز خلافاً للظاهرية ولم يكره والمراد إذا لم يترك به حقًّا ولا خاف منه ضرراً. نقل حنبل: إذا أفطر أيام النهي فليس ذلك صوم الدهر. ونقل صالح: إذا أفطرها رجوت أن لا بأس به، وهذا اختيار القاضي وأصحابه وصاحب "المحرر" والأكثر، وذكر مالك أنه سمع أهل العلم يقولونه لقول حمزة بن عمرو: "يا رسول الله، إني أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ " قال: "إن شئت فصُم" متفق عليه، ولأن أبا طلحة وغيره من الصحابة وغيرهم فعلوه، ولأن الصوم مطلوب للشارع إلا ما استثناه.
واختار صاحب "المُغني": يُكره، وهو ظاهر رواية الأثرم.
وللحنفية قولان، وقال شيخُنا: الصواب قول من جعله تركا للأولى أو كرهه فعلى الأول صوم يوم وفطر يوم أفضل منه، خلافاً لطائفة من الفقهاء والعباد، ذكره شيخنا، وهو ظاهر حال من سرده، ومنهم أبو بكر النجاد من أصحابنا.
قال أحمد: "ويعجبني أن يفطر منه أياماً، يعني أنه أولى، للخروج من الخلاف، وجزم به جماعة، وقاله إسحاق، وليس المراد الكراهة فلا تعارض".
* قال ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/197-198) [مالكي] : "أما صيام الدهرِ فإنه قد ثبت النهي عن ذلك، لكن مالك لم ير بذلك بأساً، وعسى رأي النهي في ذلك إنما هو من باب خوف الضعف والمرض".
__________
(1) هجمت: غارت.
(2) نفهت: أعيت.
(3) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد.(1/546)
* قال النووي في "المجموع" (6/441-445) : "قال الشافعي والأصحاب في صوم الدهر نحو قول المصنف -أي لا يكره- والمراد بصوم الدهر سرد الصوم في جميع الأيام إلا الأيام التي لا يصح صومها، وهي العيدان وأيام التشريق، وحاصل حكمه عندنا أنه إن خاف ضرراً أوْ فوّت حقا بصيام الدهر كره له، وإن لم يخف ضرراً ولم يفوت حقا لم يكره، هذا هو الصحيح الذي نص عليه الشافعي وقطع به المصنف والجمهور، وأطلق البغوي وطائفة قليلة أن صوم الدهر مكروه، وأطلق الغزالي في "الوسيط" أنه مسنون.
وكذا قال الدارمي: من قدر على صوم الدهر من غير مشقة ففعل فهو فضل.
قال الشافعي في "البويطي": لا بأس بسرد الصوم إذا أفطر أيام النهي الخمسة.
قال صاحب "الشامل" بعد أن ذكر النص: وبهذا قال عامة العلماء.
وكذا نقله القاضي عِياضٌ وغيره عن جماهير العلماء.
وممن نقلوا عنه ذلك عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبو طلحة وعائشة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. والجمهور من بعدهم.
* وقال أبو يوسف وغيره من أصحاب أبي حنيفة يكره مطلقاً.
والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينكر على حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه سرد الصوم لا سيما وقد عرض به في السفر.
وعن أبي موسى الأشعري عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا" وعقد تسعين. رواه البيهقي هكذا مرفوعاً وموقوفاً على أبي موسى. واحتج به البيهقي على أنه لا كراهة في صوم الدهر وافتتح الباب به، فهو عنده المعتمد في المسألة، وأشار غيره إلى الاستدلال به على كراهته، والصحيح ما ذهب إليه البيهقي، ومعنى ضيقت عليه: أي عنه فلم يدخلها، أو ضيقت عليه: أي لا يكون له فيها موضع".
* قال ابن خزيمة في "صحيحه" (3/313-314) : "باب فضل صيام الدهر إذا أفطر الأيام التي زجر عن الصيام فيها:
عن أبي موسى الأشعري عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا" وعقد تسعين (1) .
__________
(1) إسناده صحيح، ورواه أيضاً البزار والطبراني في "الكبير".(1/547)
وعنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الذي يصوم الدهر تضيق عليه جهنم تَضيّق هذه" (1)
وعقد تسعين.
قال أبو بكر -ابن خزيمة-: سألت المزني عن معنى هذا الحديث، فقال: يشبه أن يكون معناه أي: ضيقت عنه جهنم، فلا يدخل جهنم ولا يشبه أن يكون معناه غير هذا، لأن من ازداد لله عملاً وطاعة ازدادَ عند الله رفعة، وعليه كرامة، وإليه قربة هذا معنى جواب المزني".
قال ابن حجر (4/262) : "ورجح هذا التأويل جماعة منهم الغزالي فقالوا: له مناسبة من جهة أن الصائم لما ضيّق على نفسه مسالك الشهوات بالصوم ضيّق الله عليه النار فلا يبقى له فيها مكان لأنه ضيق طرفيها بالعبادة".
قال ابن حجر: "والأولى إجراء الحديث على ظاهره وحمله على من فوّت حقًّا واجباً بذلك فإنه يتوجه إليه بالوعيد، ولا يخالف القاعدة التي أشار إليها المزني".
* وعند ابن خزيمة: عن زرعة بن ثوب قال: سألت عبد الله بن عمر عن صيام الدهر فقال: "كنا نعد أولئك فينا من السابقين". قال: وسألته عن صيام يوم وإفطار يوم فقال: لم يدع ذلك لصائم مصاماً، وسألته عن صيام ثلاثة أيام من كل شهر قال: "صام ذلك الدهر وأفطره" (2) .
* قال النووي في "المجموع" (6/443) : "عن عروة أن عائشة كانت تصوم الدهر في السفر والحضر" رواه البيهقي بإسناد صحيح.
وأجابوا عن حديث: "لا صام من صام الأبد" بأجوبة:
(أحدها) : جواب عائشة: "من أفطر يوم النحر ويوم الفطر فلم يصم الدهر" وتابعها عليه خلائق من العلماء أن المراد من صام الدهر حقيقة بأن يصوم معه العيد والتشريق وهذا منهي عنه بالإجماع.
__________
(1) إسناده صحيح، وروي نحوه في "السنن الكبرى".
(2) صححه ابن خزيمة، وقال الألباني: إسناد فيه ضعف. زرعة بن ثوب أورده ابن أبي حاتم (1/2/605) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلاً. التعليق على صحيح ابن خزيمة (3/314) .(1/548)
(والثاني) : أنه محمول على أن معناه أنه لا يجد من مشقته ما يجد غيره لأنه يألفه ويسهل عليه فيكون خبراً لا دعاءً، ومعناه لا صام صوماً يلحقه فيه مشقة كبيرة ولا أفطر بل هو صائم له ثواب الصائمين.
(والثالث) : أنه محمول على من تضرر بصوم الدهر أو فوّت به حقًّا.
فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن عمرو بن العاص لعلمه بأنه يضعف عن ذلك، وأقرّ حمزة بن عمرو لعلمه بقدرته على ذلك بلا ضرر".
* قال الألباني في "إرواء الغليل" (4/116) : نرى أن صوم الدهر لا يشرع، ولو لم يكن فيها أيام العيد المنهي عن صيامها لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صام ولا أفطر".
* قال ابنُ عبد البر في "الاستذكار" (10/146) : "أما صيام الدهر لمن أفطر الأيام التي نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيامها، فمباح عند أكثر العلماء، إلا أن الصيام عمل من أعمال البر، وفضله معلوم، وفي نهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيام أيام ذكرها على إباحة ما سواها والله أعلم".
* قال النووي في "المجموع" (6/443-444) :
"فرع: في تسمية بعض الأعلام من السلف والخلف ممن صام الدهر غير أيام النهي الخمسة - العيدين والتشريق فمنهم: عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وأبو طلحة الأنصاري، وأبو أمامة وامرأته، وعائشة رضي الله عنهم.
ومنهم: سعيد بن المسيب، وأبو عمرو بن حماس -بكسر الحاء وآخره سين- وسعيد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف التابعي، سرده أربعين سنة، والأسود بن يزيد صاحب ابن مسعود، ومنهم البُويطي وشيخنا أبو إبراهيم إسحاق بن أحمد المقدسي الفقيه الإمام الزاهد".
قال النووي في "المجموع" (6/444-445) :
"فرع: قال أصحابنا: لو نذر صوم الدهر صح نذره بلا خلاف، ولزمه الوفاء به بلا خلاف، وتكون الأعيادُ وأيام التشريق وشهر رمضان وقضاؤه مستثناة فإن فاتَه شيءٌ من صوم رمضان بعذر وزال العذر لزمه قضاء فائت رمضان لأنه آكد من النذر.(1/549)
• قال أصحابنا كلهم: وهكذا الحكم إذا نذر صوم الدهر ثم لزمته كفارة بالصوم فيجب صوم الكفارة لأنها تجب بالشرع، وإن كانت بسبب من جهته فكانت آكد من النذر الذي يوجبه هو على نفسه، فعلى هذا يكون حكم الفدية عن صوم النذر ما سبق، هكذا صرح به ابن سريج. وقطع البغوي والرافعي بوجوب الفدية إذا صام عن الكفارة.
قال أصحابنا: ولو أفطر يوماً من الدهر لم يمكن قضاؤه، ولا تجب الفدية إن أفطر لعذر وإلا فتجب، قالوا: ولو نذرت امرأة صوم الدهر، فللزوج منعها، فإن منعها فلا قضاء ولا فدية لأنها معذورة، وإن أذن لها أو مات لزمها الصوم، فإن أفطرت بلا عذر أثمت ولزمتها الفدية".
فائدة - حكم الإفطار في التطوع:
قال ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/199) : "أجمعوا على أنه ليس على من دخل في صيام تطوع فقطعه لعذر قضاء. واختلفوا إذا قطعه لغير عذر عامداً، فأوجب مالك وأبو حنيفة القضاء، وقال الشافعي وجماعة: ليس عليه قضاء".
الوصال في الصوم
* عن أنس رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تواصلوا". قالوا: إنك تواصل.
قال: "لست كأحد منكم، إني أطعم وأسقى. أو إني أبيت أُطعم وأسقى" (1) رواه البخاري.
* وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوصال.
قالوا: إنك تواصل. قال: "إني لست مثلكم، إني أُطعم وأسقى" (2) رواه البخاري.
* وعن أبي سعيد رضي الله عنه أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا تواصلوا، فأيكم إذا أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر"، قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله. قال: "إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مُطعِم يُطعمني وساقي يسقيني" (3) رواه البخاري.
__________
(1) رواه البخاري والترمذي.
(2) رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.
(3) رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن أبي سعيد، واللفظ للبخاري.(1/550)
* وعن عائشة رضي الله عنها قالت: نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوصال رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل. قال: "إني لست كهيئتكم، إني يُطعمني ربي ويسقيني" (1) رواه البخاري.
* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوصال في الصوم، فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله. قال: "وأيكم مثلي؟ إني أبيت يُطعمني ربي ويسقيني". فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً ثم يوماً ثم رأوا الهلال فقال: "لو تأخر لزدتكم. كالتّنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا" (2) رواه البخاري.
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إياكم والوصال" مرتين. قيل: إنك تُواصل. قال: "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكفلوا من العمل ما تطيقون" رواه البخاري.
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما بال رجال يواصلون؟؟ إنكم لستم مثلي، أما والله لو مدّ لي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم" (3) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا وصال في الصوم" (4) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إياكم والوصال، إنكم لستم في ذلك مثلى، أني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكفلوا من العمل ما تطيقون" (5) .
* عن رجل من الصحابة قال: نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه (6) .
* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إياكم والوصال ثلاث مرات" (7) .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.
(2) رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.
(3) رواه أحمد ومسلم عن أنس.
(4) صحيح: رواه الطيالسي عن جابر، ورواه أحمد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7569) .
(5) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
(6) أخرجه أبو داود وقال الحافظ في "الفتح" (4/239) : إسناده صحيح.
(7) أخرجه ابن أبي شيبة وقال الحافظ في "الفتح" (4/243) : إسناده صحيح.(1/551)
الوصال: هو الترك في ليالي الصيام لما يفطر بالنهار بالقصد، ويدخل من أمسك جميع الليل أو بعضه.
وعند الشافعية: الوصال المنهي عنه أن يصوم يومين فصاعداً ولا يتناول في الليل شيئاً لا ماء ولا مأكولا، فإن أكل شيئاً يسيراً أو شرب فليس بوصال. وكذا إن أخّر الأكل إلى السحر لمقصود صحيح أو غيره فليس بوصال، والجمهور قد أطلقوا في بيان حقيقة الوصال أنه صوم يومين فأكثر" (1) .
* قال ابن حجر في "الفتح" (4/240-242) : استدل بمجموع الأحاديث على أن الوصال من خصائصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعلى أن غيرَه ممنوع منه إلا ما وقع فيه الترخيص من الإذن فيه إلى السحر. ثم اخُتلف في المنع المذكور:
فقيل: على سبيل التحريم، وقيل: على سبيل الكراهة، وقيل: يحرم على من شق عليه ويُباح لمن لم يشق عليه.
وقد اختلف السلفُ في ذلك:
* فنقل التفصيل عن عبد الله بن الزبير، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه أنه كان يواصل خمسة عشر يوماً.
وذهب إليه من الصحابة أيضاً أخت أبي سعيد، ومن التابعين: عبد الرحمن بن أبي نعم وعامر بن عبد الله بن الزبير، وإبراهيم بن زيد التيمي، وأبو الجوزاء كما نقله أبو نعيم في ترجمته في "الحلية" وغيرهم رواه الطبري وغيره.
ومن حجَّتهم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واصل بأصحابه بعد النهي فلو كان النهي للتحريم لما أقرّهم على فعله، فعلم أن المراد بالنهي الرحمة لهم والتخفيف عنهم كما صرحت به عائشة في حديثها. وهذا مثل ما نهاهم عن قيام الليل خشية أن يفرض عليهم ولم ينكر على من بلغه أنه فعله ممن لم يشق عليه، ونظير ذلك صيام الدهر، فمن لم يشق عليه، ولم يقصد موافقة أهل الكتاب ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال.
__________
(1) "المجموع" للنووي (6/400) .(1/552)
* وذهب الأكثرون إلى تحريم الوصال، وعن الشافعية في ذلك وجهان: التحريم والكراهة. وقد نص الشافعي في "الأم" على أنه محظور.
* وصرح ابن حزم بتحريمه وصحّحه ابن العربي من المالكية.
* وذهب أحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية إلى جواز الوصال إلى السحر لحديث أبي سعيد المذكور، وهذا الوصال لا يترتب عليه شيء مما يترتب على غيره إلا أنه في الحقيقة بمنزلة عشائه إلا أنه يؤخره، لأن الصائم له في اليوم والليلة أكلة فإذا أكلها السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره وكان أخف لجسمه في قيام الليل، ولا يخفى أن محل ذلك ما لم يشق على الصائم وإلا فلا يكون قربة.
وانفصل أكثرُ الشافعية عن ذلك بأن الإمساك إلى السحر ليس وصالاً، بل الوصال أن يمسك في الليل جميعه كما يمسك النهار، وإنما أطلق على الإمساك إلى السحر وصالاً لمشابهته الوصال في الصورة، ويحتاج إلى ثبوت الدعوى بأن الوصال إنما هو حقيقة في إمساك جميع الليل، وقد ورد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يواصل من سحر إلى سحر. أخرجه أحمد وعبد الرزاق من حديث علي، والطبراني من حديث جابر.
* ويدل على أنه ليس بمحرم حديث أبي داود السابق، فإن الصحابي صرّح فيه بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحرم الوصال.
* ومن أدلة الجواز إقدامُ الصحابة على الوصال بعد النهي فدل على أنهم فهموا أن النهي للتنزيه لا للتحريم وإلا لما أقدموا عليه.
* ويؤيد أنه ليس بمحرم أيضاً أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث بشير بن الخصاصية سوّى في علة النهي بين الوصال وبين تأخير الفطر حيث قال في كل منهما: إنه فعل أهل الكتاب، ولم يقل أحد بتحريم تأخير الفطر سوى بعض من لا يعتدُّ به من أهل الظاهر.
* ومن حيث المعنى ما فيه من فطم النفس وشهواتها وقمعها عن ملذوذاتها فلهذا استمر على القول بجوازه مطلقاً أو مقيداً من تقدّم ذكره والله أعلم".
* قال النووي في "المجموع" (6/399-402) : حكم الوصال: مكروه بلا خلاف عندنا، وهل هي كراهة تحريم أم تنزيه؟ فيه الوجهان: (أصحهما) : عند أصحابنا(1/553)
وهو ظاهر نص الشافعي كراهة تحريم، لأن الشافعي رضي الله عنه قال في المختصر: فرّق الله تعالى بين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين خلقه في أمور أباحها له، وحظرها عليهم، وذكر منها الوصال.
وممن صرح بتصحيح تحريمه من أصحابنا صاحب "العدة" والرافعي وآخرون، وقطع به جماعة من أصحابنا منهم القاضي أبو الطيّب في كتابه "المجرد"، والخطابي في "المعالم"، وسليم الرازي في "الكفاية"، وإمام الحرمين في "النهاية"، والبغوي والروياني في "الحلية"، والشيخ نصر في كتابه "الكافي".
قال النووي: اتفق أصحابنا وغيرهم على أن الوصال لا يبطل الصوم سواء حرّمناه أو كرهناه لأن النهي لا يعود إلى الصوم.
قال النووي: "مذهبنا أنه منهي عنه، وبه قال الجمهور. وقال العبدري: هو قول العلماء كافة إلا ابن الزبير، فإنه كان يواصل اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال ابن المنذر: كان ابن الزبير وابن أبي نعم يواصل، وذكر الماوردي في "الحاوي" أن عبد الله بن الزبير واصل سبعة عشر يوماً ثم أفطر على سمن ولبن وصبر. قال: وتأول في السمن أنه يلين الأمعاء، واللبن ألطف غذاء، والصبر يقوي الأعضاء.
* قال ابن مفلح في "الفروع" (3/116) : يُكره الوصال، وهو أن لا يفطر بين اليومين، لأن النهي رفق ورحمة، ولهذا واصل عليه السلام بهم وواصلوا بعده.
وقيل: يحرم، واختاره ابن البناء، وحكاه ابن عبد البر عن الأئمة الثلاثة.
قال أحمد: لا يعجبني، وأومأ أحمد أيضاً إلى إباحته لمن يطيقه.
وتزول الكراهة بأكل تمرة ونحوها لأن الأكل مظنة القوة، وكذا بمجرّد الشرب على ظاهر ما رواه المروذي عنه أنه كان إذا واصل شرب شربة ماء، خلافاً للشافعية.
* ولا يكره الوصال إلى السحر، نصّ عليه، وقاله إسحاق. لكن ترك الأولى، لتعجيل الفطر.
* وذكر القاضي عياض المالكي أن أكثر العلماء كرهه.(1/554)
* قال ابن عبد البر في "التمهيد" (14/363) : "كره مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي وجماعة من أهل الفقه والآثار الوصال على كل حال لمن قوي عليه ولغيره".
* وعلى هذا: فصوم الوصال محرم عند الشافعي على أصح الأقوال، إلا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمباح له، وهو من خصائصه.
* وقال الجمهور: لا يحرم الوصال، لأن النهي وقع رفقاً ورحمة، لكنه يكره عند أكثر العلماء.
أما الوصال إلى السحر فلا يكره عند أحمد وإسحاق. وقالت الشافعية: ليس بوصال.
* قال النووي في "المجموع" (6/402) : "الحكمة في النهي عن الوصال لئلّا يضعف عن الصيام والصلاة وسائر الطاعات أو يملها ويسأم منها لضعفه بالوصال، أو يتضرر بدنه، أو بعض حواسه وغير ذلك من أنواع الضرر".
"إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" (1) :
أكثر الروايات: "إني أبيت" ووردت روايات بقوله. "إني أظل عند ربي" كما في حديث أنس عند البخاري، وحديث عائشة عند الإسماعيلي، وحديث أبي هريرة عند أحمد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة.
واختلف في معنى قوله: "يطعمني ويسقيني":
* فقيل. هو على حقيقته وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له في ليالي صيامه، وتعقبه ابن بطال ومن تبعه بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلاً، وبأن قوله: "يظل" يدل على وقوع ذلك بالنهار فلو كان الأكل والشرب حقيقة لم يكن صائماً.
وأجيب بأن الراجح من الروايات لفظ: "أبيت" وعلى تقدير الثبوت فليس حمل الطعام والشراب على المجاز بأولى له من حمل لفظ: "أظل" على المجاز ويراد به مطلق الوجه كما قال تعالى: (ظل وجهه مسودا) فالمراد به مطلق الوقت.
__________
(1) بضم الياء وفتحها وفتحها أفصح وأشهر.(1/555)
وعلى التنزل على الطعام حقيقة فلا يضر شيء من ذلك لأن ما يؤتى به الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سبيل الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا تجرى عليه أحكام المكلفين فيه، كما غسل صدره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طست الذهب، مع أن استعمال أواني الذهب الدنيوية حرام.
* وقال ابن المنير في الحاشية: "الذي يفطر شرعاً إنما هو الطعام المعتاد، وأما الخارق للعادة كالمحضر من الجنة فعلى غير هذا المعنى، وليس تعاطيه من جنس الأعمال وإنما هو من جنس الثواب كأكل أهل الجنة في الجنة".
* وقال غيره: لا مانع من حمل الطعام والشراب على حقيقتهما، والرواية الأصح: "أبيت" وأكله وشربه في الليل مما يؤتى به من الجنة لا يقطع وصاله خصوصية له بذلك فمن أكل منهم أو شرب انقطع وصاله، وهو لا تنقطع بذلك مواصلته فطعامه وشرابه غير طعامهم وشرابهم صورة ومعنى.
وحاصله أنه يحمل ذلك على حالة استغراقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أحواله الشريفة حتى لا يؤثر فيه حينئذٍ شيء من الأحوال البشرية.
* وقال الجمهور: قوله: "يطعمني ويسقيني" مجاز عن لازم الطعام والشراب وهو القوة فكأنه قال: يعطيني قوة الآكل والشارب من غير شبع ولا ري مع الجوع والظمأ، فيفيض عليه ما يسدّ مسد الطعام والشراب ويقوى على أنواع الطاعة من غير ضعف ولا كلال.
* ويحتمل أن يكون المراد: أنه يشغلني بالتفكر في عظمته والتملّي بمشاهدته والتغذي بمعارفه وقرة العين بمحبته والاستغراق في مناجاته والإقبال عليه عن الطعام والشراب.
* يقول شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية في "مدارج السالكين" (2/408) : "اعلم أن الله عز وجل جعل للقلوب نوعين من الغذاء: نوع من الطعام والشراب الحسي، وللقلب منه خلاصته وصفوه، ولكل عضو منه بحسب استعداده وقبوله.
والثاني: غذاء روحاني، خارج عن الطعام والشراب: من السرور والفرح، والابتهاج واللذة والعلوم والمعارف. وبهذا الغذاء كان سماوياً علويّاً، وبالغذاء المشترك كان أرضياً سفليّاً وقوامه بهذين الغذاءين. وله ارتباط بكل واحدة من الحواس الخمس، وغذاء يصل إليه منها".(1/556)
ويقول رحمه الله في "زاد المعاد" في كلامه عن وصال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما يغذيه الله به من المعارف وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه وتنعمه بحبه والشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين وبهجة النفوس والروح والقلب بما هو أعظم غذاء وأجوده وأنفعه، وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان كما قيل:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور يستضاء به ... ومن حديثك في أعقابها حاد
إذا شكت من كلال السير أوعدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعاد
ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرّت عينه بمحبوبه وتنعم بقربه والرضا عنه وألطاف محبوبه وهداياه وتحفه تصل إليه كل وقت ومحبوبه حفي به معتز بأمره مكرم له غاية الإكرام مع المحبة التامة له، أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحب فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجل منه ولا أعظم ولا أجمل ولا أكمل ولا أعظم إحساناً إذا امتلأ قلب المحب بحبه وملك حبه جميع أجزاء قلبه وجوارحه، وتمكن حبه منه أعظم تمكن وهذا حاله مع حبيبه أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلاً ونهاراً، ولهذا قال: "إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني" ولو كان ذلك طعاماً وشراباً للفم لما كان صائماً فضلاً عن كونه مواصلاً، وأيضاً فلو كان ذلك في الليل لم يكن مواصلاً، ولقال لأصحابه إذ قالوا له: إنك تواصل: لست أواصل، ولم يقل: لست كهيئتكم بل أقرهم على نسبة الوصال إليه وقطع الإلحاق بينه وبينهم في ذلك بما بينه من الفارق" (1) .
وقال ابن القيم في "مدارج السالكين" (2/88) : "وقد غلظ حجاب من ظن أن هذا طعام وشراب حسي للفم. ولو كان كما ظنه هذا الظان لما كان صائماً، فضلاً عن أن يكون مواصلاً، ولو كان يأكل ويشرب بفيه الكريم حساً، لكان الجواب أن يقول: وأنا لست أواصل أيضاً، فلما أقرهم على قولهم: "إنك تواصل" عُلم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكتفي بذلك الطعام والشراب العالي الروحاني، الذي يغني عن الطعام والشراب المشترك الحسي".
__________
(1) "زاد المعاد" (ص 155) .(1/557)
* ذكر الحافظ ابن رجب أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر، وذكر منها:
"تأخيره للفطور إلى السحور: روى عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة قال: "ما واصل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصالكم قط غير أنه قد أخر الفطور إلى السحور" واسناده لا بأس به.
وزعم ابن جرير أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يواصل في صيامه إلا إلى السحر خاصة وأن ذلك يجوز لمن قوي عليه ويكره لغيره وأنكر أن يكون استدامة الصيام في الليل كله طاعة عند أحد من العلماء وقال: إنما كان يمسك بعضهم لمعنى آخر غير الصيام ليكون أنشط له على العبادة أو إيثاراً بطعامه على نفسه أو لخوف وقلق منعه طعامه أو نحو ذلك فمقتضى كلامه أن من واصل ولم يفطر ليكون أنشط له على العبادة من غير أن يعتقد أن إمساك الليل قربة أنه جائز وإن أمسك تعبداً بالمواصلة، فإن كان إلى السحر وقوي عليه لم يكره وإلا كره".
وقال ابن رجب في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني" رواه مسلم.
"والصحيح أنه أشار إلى ما كان الله يفتح عليه في صيامه وخلوته بربه لمناجاته وذكره من مواد أنسه ونفحات قدسه، فكان يرد بذلك على قلبه من المعارف الإلهية والمنح الربانية ما يغذيه ويغنيه عن الطعام والشراب.
الذكر قوت قلوب العارفين يُغنيهم عن الطعام والشراب كما قيل: أنت ربِّي إذا ظمئت إلى الماء وقوتي إذا أردتُ الطعاما.
ويتأكد تأخير الفطر في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر، قال ذر بن حبيش: في ليلة سبع وعشرين. من استطاع منكم أن يؤخر فطره فليفعل".
لما جاع المجتهدون شبعوا من طعام المناجاة فأفٍ لمن باع لذة المناجاة بفضل لقمة:
يا من لحشا المحبّ بالشوق حشا ... ذاك سرّ سراك في الدجا كيف فشا
هذا المولى إلى المماليك مشا ... لا كان عيشاً أورث القلب غشا(1/558)
هديه صلى الله عليه وسلم في صيام التطوع
قال شيخ الإسلام ابن القيم في "زاد المعاد" (163/164) : "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم حتى يقال: لا يفطر ويفطر حتى يقال: لا يصوم، وما استكمل صيام شهر غير رمضان، وما كان يصوم في شهر أكثر مما يصوم في شعبان، ولم يكن يخرج عنه شهر حتى يصوم منه، ولم يصم الثلاثة الأشهر سرداً كما يفعله بعض الناس ولا صام رجباً قط ولا استحب صيامه" (1) .
وكان هديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكمل هدى وأتمه وأرفقه بالأمة.
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعثمان بن مظعون: "يا عثمان! أرغبت عن سنتي؟! فإني أنام وأصلي وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان! فإن لأهلك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقًا، فصم وأفطر وصل ونم" (2) .
* عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم شهراً كله؟ قالت: ما علمته صام شهراً كله إلا رمضان، ولا أفطره كله حتى يصوم منه حتى مضى لسبيله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه مسلم.
* وعن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن صوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: كان يصوم حتى نقول: قد صام قد صام ويفطر حتى نقول: قد أفطر قد أفطر، قالت: وما رأيته صام شهراً كاملاً منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان. رواه مسلم.
* وقالت رضي الله عنها: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم حتى نقول: لا يفطر ويفطر حتى نقول: لا يصوم وما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استكمل صيام شهر قط إلا رمضان وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان. رواه مسلم.
قال النووي في "شرح مسلم" (3/213) : "في هذه الأحاديث أنه يستحب ألا
__________
(1) قال النووي في "شرح مسلم" (3/215) : "لم يثبت في صوم رجب نهي ولا ندب لعينه، ولكن أصل الصوم مندوب إليه".
(2) صحيح: رواه أبو داود عن عائشة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7946) .(1/559)
يخلي شهراً من صيام، ومنها أن صوم النفل غير مختص بزمان معين بل كل السنة صالحة له إلا رمضان والعيد والتشريق".
* وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما صام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً كاملاً قط غير رمضان، وكان يصوم إذا صام حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم (1) .
* وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه، ويصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئاً، وكان لا تشاء تراه من الليل مصلياً إلا رأيته ولا نائماً إلا رأيته. رواه البخاري.
* وروى البخاري عن حميد قال: سألت أنساً رضي الله عنه عن صيام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائماً إلا رأيته، ولا مفطراً إلا رأيته، ولا من الليل قائماً إلا رأيته، ولا نائماً إلا رأيته، ولا مسست خزة ولا حريرة ألين من كف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا شَمِمتُ مِسكة ولا عبيرة أطيب رائحة من رائحة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه البخاري.
بأبي هو وأمي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو كل الكمال وجل الجلال وجملة الجمال عليه أفضل الصلاة والسلام.
قال ابن حجر (4/254-255) : "يعني أن حاله في التطوع بالصيام والقيام كان يختلف، فكان تارة يقوم من أول الليل، وتارة من وسطه، وتارة من آخره، كما كان يصوم تارة من أول الشهر وتارة من وسطه وتارة من آخره، فكان من أراد أن يراه في وقت من أوقات الليل قائماً أو في وقت من أوقات الشهر صائماً فراقبه المرة بعد المرة فلابد أن يصادفه قائماً أو صائماً على وفق ما أراد أن يراه، هذا معنى الخبر، وليس المراد أنه كان يسرد الصوم ولا أنه كان يستوعب الليل قياماً. ولا يشكل على هذا قول عائشة: "كان عمله ديمة" لأن المراد بذلك ما اتخذه راتباً لا مطلق النافلة، فهذا وجه الجمع بين الحديثين وإلا فظاهرهما التعارض والله أعلم".
__________
(1) رواه مسلم واللفظ له والبخاري وأبو داود الطيالسي، وفي رواية لمسلم "ما صام شهراً متتابعاً منذ قدم المدينة"، وفي رواية الطيالسي "شهراً تاماً منذ قدم المدينة غير رمضان".(1/560)
* عن علقمة قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يختص من الأيام شيئاً؟ قالت: لا، كان عمله ديمة (1) ، وأيكم يطيق ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُطيق؟!. رواه البخاري.
قال ابن حجر: "قال الزين بن المنير: ظاهر الحديث إدامته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العبادة ومواظبته على
وظائفها، ويعارضه ما صح عن عائشة نفسها مما يقتضي نفي المداومة (2) . فأبقى الترجمة (3) على الاستفهام ليترجح أحد الخبرين أو يتبين الجمع بينهما، ويمكن الجمع بينهما بأن قولها: "كان عمله ديمة" معناه أن اختلاف حاله من الإكثار من الصوم ثم من الفطر كان مستداماً مستمراً، وبأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوظف على نفسه العبادة فربما شغله عن بعضها شاغل فيقضيها على التوالي فيشتبه الحال على من يرى ذلك، فقول عائشة: "كان عمله ديمة" منزل على التوظيف، وقولها: "كان لا تشاء أن تراه صائماً إلا رأيته" منزل على الحال الثاني" (4) .
قال ابن حجر: "صوم الاثنين والخميس قد وردت فيهما أحاديث وكأنها لم تصح على شرط البخاري (5) فلهذا أبقى الترجمة على الاستفهام، فإن ثبت فيهما ما يقتضي تخصيصهما استثنى من عموم قول عائشة: لا.
فلعل المراد بالأيام المسئُول عنها الأيام الثلاثة من كل شهر، هل كان يخصها بالبيض؟ فقالت: لا، تعني لو جعلها البيض لتعينت وداوم عليها، لأنه كان يجب أن يكون عمله دائماً، لكن أراد التوسعة بعدم تعينها فكان لا يبالي من أي الشهر صامها.
روى مسلم من حديث عائشة أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وما يبالي من أي الشهر صام".
__________
(1) الديمة: مطر يدوم أياماً، ثم أطلقت على كل شيء مستمر "الفتح" (4/278) .
(2) حديث عبد الله بن شقيق لها السابق ذكره.
(3) ترجمة البخاري: هل يخص شيئاً من الأيام؟
(4) "فتح الباري" (4/277) .
(5) وإن صحت لغيره.(1/561)
ومن هديه صلى الله عليه وسلم في الصوم
ما يقول عند رؤية الهلال:
* عن طلحة رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كان إذا رأى الهلال قال: "اللهم أهله علينا باليُمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربي وربك الله" (1) .
* وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "صوموا من وضح إلى وضح (2) " (3) .
* وكان إذا كان صائما أمر رجلا فأوفى (4) على شيء، فإذا قال. غابت الشمس أفطر (5) .
هديه في الإفطار:
* كان لا يصلي المغرب حتى يفطر ولو على شربة من الماء (6) .
* وكان يُفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فتمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء (7) . حسا. شرب.
* وإذا كان الرطب لم يفطر إلا على الرطب، وإذا لم يكن الرطب لم يفطر إلا على التمر (8) .
__________
(1) حسن: رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4726) .
(2) أي من الهلال إلى الهلال.
(3) رواه الطبراني في "الكبير" عن والد أبي المليح، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3812) .
(4) صعد.
(5) صحيح: رواه الحاكم عن سهل بن سعد، والطبراني في "الكبير" عن أبي الدرداء، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4772) .
(6) صحيح: رواه الحاكم والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أنس، ورواه ابن عدي والضياء وابن أبي شيبة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4858) .
(7) حسن: رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن أنس، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4995) .
(8) صحيح: رواه عبد بن حميد عن جابر، وأحمد وأبو داود والترمذي عن أنس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4770) .(1/562)
* وكان يبدأ إذا أفطر بالتمر (1) .
وورثت أمته عنه هذا الهدي.
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا كان أحدكم صائماً فليفطر على التمر، فإن لم يجد التمر فعلى الماء فإن الماء طهور" (2) .
ومن هديه في الدعاء عند الإفطار:
كان إذا أفطر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله" (3) .
وإذا أفطر عند قوم:
كان إذا أفطر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند قوم قال: "أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وتنزلت عليكم الملائكة" (4) .
كان إذا أفطر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند قوم، قال: "أفطر عندكم الصائمون وصلت عليكم الملائكة" (5) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة" (6) .
ومن هديه صلى الله محليه وسلم "السحور":
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن السحور بركة أعطاكموها الله فلا تدعوها" (7) .
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أراد أن يصوم فليتسحر بشيء" (8) .
__________
(1) صحيح: رواه النسائي عن أنس وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4892) .
(2) صحيح: رواه أبو داود والحاكم في "المستدرك" والبيهقي في "سننه" عن سلمان بن عامر ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (746) .
(3) حسن: رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر، وحسنه الألباني في "الإرواء" (920) .
(4) صحيح: رواه النسائي وابن أبي شيبة وأحمد والبيهقي عن أنس، وكذا رواه الطحاوي وأبو داود وابن السني وابن عساكر، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4677) ، وقال: اعلم أن الحديث ليس خاصاً بالصائم كما تفيده كلمة: "أفطر" فإن في ثبوتها نظراً.
(5) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير" عن ابن الزبير وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4679) .
(6) صحيح: رواه ابن ماجه وابن حبان عن ابن الزبير، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1137) .
(7) صحيح: رواه أحمد والنسائي عن رجل، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1636) .
(8) صحيح: رواه أحمد والضياء عن جابر وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6005) .(1/563)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تسحروا فإن في السحور بركة" (1) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تسحروا ولو بجرعة من ماء" (2) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تسحروا ولو بالماء" (3) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "البركة في ثلاثة: في الجماعة والثريد والسحور" (4) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "السحور أكله بركة، فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" (5) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نعم السحور التمر" (6) .
ومن هديه وسنته تعجيل الإفطار وتأخير السحور مخالفة لليهود والنصارى:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عجلوا الإفطار، وأخروا السحور" (7) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنا -معشر الأنبياء- أُمرنا أن نعجل إفطارنا ونؤخر سحورنا ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة" (8) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بكروا بالإفطار وأخروا السحور" (9) .
__________
(1) صحيح: رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أنس، والنسائي عن أبي هريرة وابن مسعود وأحمد عن أبي سعيد.
(2) صحيح: رواه أبو يعلي عن أنس، والضياء في "المختارة" وأحمد عن أبي سعيد، وابن حبان عن ابن عمرو وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2945) .
(3) صحيح: رواه ابن عساكر عن عبد الله بن سراقة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2944) .
(4) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير" والبيهقي في "شعب الإيمان" عن سلمان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2882) .
(5) حسن: رواه أحمد عن أبي صعيد، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3683) .
(6) صحيح: رواه ابن حبان والبيهقي في "سننه" عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6772) .
(7) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير" عن أم حكيم، ورواه أبو يعلي وابن منده وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3989) .
(8) صحيح: رواه الطيالسي، والطبراني في "الكبير" و"الصغير" عن ابن عباس، وابن حبان والدارقطني في "الإفراد" وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2286) .
(9) صحيح: رواه ابن عدي عن أنس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2835) .(1/564)
كم كان بين سحوره صلى الله عليه وسلم وصلاته؟
عن زيد بن ثابت قال: تسحّرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قمنا إلى الصلاة، قال أنس: فقلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: خمسين آية. متفق عليه.
وفي رواية للبخاري عن أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وزيد بن ثابت تسحّرا، فلما فرغا من سحورهما قام نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الصلاة فصلّى، قال: قلنا لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية.
***(1/565)
بسم الله الرحمن الرحيم(2/2)
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف.
الطبعة الثالثة
1419هـ - 1998م(2/4)
الباب الرابع عشر
فقه الصوم ورمضان(2/5)
الصيام لغة:
الصيام لغة: الإمساك: يُقال: صام النهار إِذا وقف سير الشمس قال تعالى -إخباراً عن مريم-: (إني نذرت للرحمن صوماً) أي صمتا؛ لأنه إِمساك عن الكلام، وقال النابغة الذيباني:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
يعني بالصائمة: الممسكة عن الصهيل.
وقال صاحب المحكم: الصوم ترك الطعام والشراب والنكاح والكلام.
وقال الراغب: الصوم في الأصل الإمساك عن الفعل، ولذلك قيل للفرس الممسك عن السير: صائم.
الصيام شرعاً:
"إمساك مخصوص في زمن مخصوص عن شيء مخصوص بشرائط مخصوصة".
أو "إمساك المكلّف بالنيَّة عن تناول المطعم والمشرب والاستمناء والاستسقاء من الفجر إلى المغرب" (1) .
وقال ابنُ قدامة: "هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس".
الصوم الواجب:
ثلاثة أقسام:
الأول: الواجب للزمان وهو صوم شهر رمضان.
والثاني: صوم الكفارات "وهو الوجب لعلة".
والثالث: صوم النذور "وهو الواجب بإيجاب الإنسان ذلك على نفسه".
__________
(1) "فتح الباري" (4/123) .(2/7)
صوم رمضان:
صوم رمضان واجب بالكتاب والسنة والإجماع وهو رابع أركان الإسلام الخمسة.
فأما الكتاب فقوله تعالى: (كتب عليكم الصيام) .
وأما السنة فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بُني الإسلام على خمس" وذكر الصوم منها، وقوله للأعرابي
الذي سأله عن الواجب: "وصوم شهر رمضان" فقال: هل عليّ غيرها: قال: "لا إلا أن تطوّع".
وأما الإجماع فلم ينقل إلينا عن أحد من المسلمين القول بعدم وجوبه.
وأما من يجب عليه فهو: المسلم البالغ العاقل الصحيح الحاضر؛ لقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) .
شهر رمضان:
قال ابنُ حجر (4/124) : "قد ذكر أبو الخير الطالقاني في كتابه "حظائر القدس" لرمضان ستين اسماً".
قال ابن الجوزي في "التبصرة" (2/71-72) : "إنما سمي الشهر شهراً لشهرته في دخوله وخروجه، قاله النحاس. وأما أسماء الشهور فذكر أبو منصور الأزهري عن المفضل قال: "كانت العرب في الجاهلية تقول لرمضان ناتق، ولشوال وَعِل، وللمحرم مُؤتمر، ولصفر ناجِر، ولربيع الأول خُوّان، ولربيع الآخر بُصَّان، ولجمادي الأولى رُييّ، ولجماد الآخر حَنِين، ولرجب الأصمَّ، ولشعبان عاذل. قال: وكانت قبيلة عاد تسمي هذه الأشهر بهذا فلما نقلت العرب أسماء هذه الأشهر سمّوها بما وقعت فيه من الزمان.
قال ثعلب: سمي رمضان؛ لأن الإبل تَرْمض فيه من الحر، وسمي شوّال؛ لأن الألبان كانت تَشُول فيه أي: تذهب وتقل، وسمي ذو القعدة؛ لأنهم كانوا يقعدون فيه، وذو الحجة؛ لأنهم كانوا يحجون فيه، والمحرم؛ لتحريم القتال فيه، وصفر؛ لأنهم كانوا يطلبون القَطرِ فيه، يُقال صَفِر السقاء إذا خلا، وربيع لأنهم كانوا يربعون فيهما، وجُمادى؛ لأن الماء يجمد فيهما ورجب من التعظيم يقال: رجَّبه يرجِّبه إذا عظمه. وقال(2/8)
شمّر: ومنه سمي رجب، وشعبان لأنهم يتفرقون ويتشعبون فيه".
قال ابن حجر (4/136) : "اختلف في تسمية هذا الشهر رمضان فقيل: لأنه ترمض فيه الذنوب أي: تحرق لأن الرمضاء. شدة الحر، وقيل: وافق ابتداء الصوم فيه زمناً حاراً والله أعلم".
هل يقال رمضان أو شهر رمضان؟ ومن رأى كله واسعاً؟ وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "من صام رمضان":
قال ابن حجر (4/135-136) : "أشار البخاري بهذه الترجمة إلى حديث ضعيف رواه أبو معشر نجيح المدني عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعاً "لا تقولوا رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله، ولكن قولوا شهر رمضان" أخرجه ابن عدي في الكامل وضعفه بأبي معشر. قال البيهقي: وقد احتجّ البخاري لجواز ذلك بعدة أحاديث.
وقد ترجم النسائي لذلك أيضاً فقال: "باب الرخصة في أن يقال شهر رمضان: رمضان، وقد يتمسك للتقييد بالشهر بورود القرآن به حيث قال تعالى (شهر رمضان) مع احتمال أن يكون حذف لفظ شهر من الأحاديث من تصرف الرواه، وكأن هذا هو السر في عدم حزم المصنِّف بالحكم، ونقل عن أصحاب مالك الكراهية، وعن ابن الباقلاني منهم وكثير من الشافعية: إن كان هناك قرينة تصرفه إلى الشهر فلا يُكره، والجمهور على الجواز".
فرض الصوم على أحوال
فرض رمضان في شعبان (1) في السنة الثانية من الهجرة قبل بدر
ولكن للصوم بعد نزول (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) ثلاثُ رتب:
(الرتبة الأولى) إيجابه بوصف التخيير: (من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم) .
فرخص الله لمطيقي الصيام والراغبين في الفطر أن يفطروا ويطعموا عن كل يوم مسكيناً.
__________
(1) لليلتين خلتا منه.(2/9)
عن ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (نزل رمضان فشُق عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه، ورخص لهم في ذلك، فنسختها (وأن تصوموا خير لكم) فأُمروا بالصوم". (1) .
* وعن ابن عمر -رضى الله عنه- قرأ (فدية طعام مسكين) قال: هي منسوخة نسختها (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) [البقرة: 185] رواه البخاري.
وعن سلمة بن الأكوع -رضى الله عنه- قال: "لما نزلت (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) كان من أراد أن يفطر أفطر وافتدى حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها" رواه البخاري.
(الرتبة الثانية) تحتمه: لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة فنسخ ذلك بالرتبة الثالثة.
* عن البراء -رضى الله عنه- قال: "كان أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يُفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صِرمة الأنصاري كان صائماً فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل فغلبته عيناه فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك. فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت هذه الآية (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) ففرحوا بها فرحا شديداً، ونزلت (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) الآية، رواه البخاري.
(الرتبة الثالثة) وهي التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة.
• فرع:
صام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمضان تسع سنين، لأنه فرض في شعبان في السنة الثانية من الهجرة وتوفي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شهر ربيع الأول في سنة إحدى عشرة من الهجرة.
__________
(1) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم ووصله أبو نعيم في "المستخرج"، ومن طريقه البيهقي.(2/10)
على من يجب الصيام؟
يجب صوم رمضان في الحال على كل مسلم بالغ عاقل طاهر صحيح مقيم وفي ذلك مسائل:
(1) وجوب الصوم على المسافر والحائض متحتم أيضاً لكن يؤخرانه ثم يقضيانه.
(2) الكافر الأصلي: الكفار مخاطبون بفروع الشرع في حال كفرهم على المذهب الصحيح بمعنى أنهم يزاد في عقوبتهم في الآخرة ومع هذا فلا يطالب الكافر الأصلي بفعل الصوم في حال كفره بلا خلاف، ولو صام في كفره لم يصحّ بلا خلاف سواء أسلم بعد ذلك أم لا، وإذا أسلم لا يجب عليه القضاء. وهو قول الشافعي وأحمد وقتادة والشعبي ومالك والأوزاعي وأبو ثور وأصحاب الرأي.
(3) المرتدّ: لا يطالب بفعل الصوم في حال ردته، ويأثم بترك الصوم في حال ردته وهو واجب عليه، وإذا أسلم لزمه قضاؤه. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه قضاء مدة الردة إذا أسلم.
(4) إذا أسلم الكافر في شهر رمضان صام ما يستقبله من شهره بلا خلاف، فأما اليوم الذي أسلم فيه، استحب له إمساك بقية النهار لحرمة الوقت عند الشافعي ولا يقضيه، وعند أحمد يلزمه إمساكه ويقضيه، وبه قال ابن الماجشون وإسحاق. وقال مالك وأبو ثور وابن المنذر لا قضاء عليه.
(5) الصبيان: هل يشرع صومهم أم لا؟
قال ابن حجر في "الفتح" (4/236-237) : "الجمهور على أنه لا يجب على من دون البلوغ، واستحب جماعة من السلف منهم ابن سيرين والزهري وبه قال الشافعي أنهم يؤمرون به للتمرين عليه إذا أطاقوه، وحدَّه أصحابه بالسبع والعشر كالصلاة، وحدَّه إسحاق باثنتي عشرة سنة، وأحمد في رواية بعشر سنين، وقال الأوزاعي: إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعاً لا يضعف فيهن حُمِل على الصوم. والمشهور عن المالكية أنه لا يشرع في حق الصبيان.(2/11)
وقد تلطف البخاري في التعقيب عليهم بإيراد أثر عمر في صدر الترجمة لأن أقصى ما يعتمدونه في معارضة الأحاديث دعوى عمل أهل المدينة على خلافها ولا عمل يستند إليه أقوى من العمل في عهد عمر مع شدة تحرّيه ووفور الصحابة في زمانه "أن عمر بن الخطاب أتى برجل شرب الخمر في رمضان، فلما دنا منه جعل يقول: للمنخرين، والفم، [فلما رفع إليه عثر] فقال عمر: على وجهك، ويلك، وصبياننا صيام، ثم أمر به فضرب ثمانين سوطاً ثم سيره إلى الشام".
وأغرب ابن الماحشون من المالكية فقال: إذا أطاق الصبيان الصوم ألزموه. فإن أفطروا لغير عذرٍ فعليهم القضاء.
وفي حديث الربيع بنت معوذ قالت: "أرسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطراً فليتم بقية صومه، ومن أصبح صائماً فليصم. قالت: فكنا نصومه ونصوّم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكون عند الإفطار".
وعند مسلم "أعطيناهم اللعبة تُلهيهم حتى يتموا صومهم".
ولقد أغرب القرطبي فقال: لعلّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعلم بذلك، ويبعد أن يكون أمر بتعذيب صغير بعبادة غير متكررة في السنة.
ويرد عليه حديث رزينة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان يأمر مرضعاته في عاشوراء ورضعاء فاطمة فيتفل في أفواهم، ويأمر أمهاتهم أن لا يرضعن إلى الليل".
"فهكذا تربية الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك ربى الصحابة الكرام أبناءهم، فخرجت أجيال مسلمة تنشر الخير في ربوع الأرض، وعاشت بالإسلام وللإسلام، أما أن نترك أبناءنا وبناتنا يقضون أوقاتهم في الطرقات وفي منابت السوء، ينشأون على الفاسد من الأخلاق والذميم من الأفعال، فيشتد عودهم على ذلك وتشحن قلوبهم بغير الإسلام ثم نريدهم بعد بلوغهم سن الرشد مسلمين يعملون بالإسلام ويدعون إليه فإنهم لا يستجيبون لنا ولا يلقون بالاً لحديثنا وهل يجنى من الشوك العنب" (1) .
__________
(1) من كلام للشيخ عمر الأشقر بتصرف. كتاب "الصوم في ضوء الكتاب والسنة" (ص23) .(2/12)
وينشأ ناشيء الفتيان منا ... على ما كان عوده أبوه
ويرحم الله من قال:
وإنما أولادنا أكبادنا تمشي على الأرض
إن هبت الريح على أحدهم ... امتنعت عيني عن الغمض
فأين أنت من قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة) الآية، قال ابن عباس: أدبوهم وعلموهم فيؤمر الغلام والجارية بالصوم ويضربان على تركه إذا أطاقا الصيام ليتمرنا عليه. ولا يجب عليهما الصوم حتى يبلغ الصبي، وحتى تحيض الجارية وهذا قول أكثر أهل العلم.
(6) وإذا نوى الصبي الصوم من الليل فبلغ في أثناء النهار بالاحتلام أو السن يتم صومه ولا قضاء عليه. وإن بلغ الصبي وهو مفطر استحب له إمساك بقية اليوم ولا يجب عليه القضاء.
(7) المجنون لا يلزمه الصوم بالإجماع للحديث والإجماع، وإذا أفاق لا يلزمه قضاء ما فاته في الجنون سواء قل أو كثر، وسواء أفاق بعد رمضان أو في أثنائه. وهو قول الجمهور خلافا للثوري. ويستحب للمجنون إذا أفاق، في أثناء يوم رمضان إمساك بقية النهار لحرمة الشهر ولا يجب عليه القضاء عند الشافعي. وقال مالك وأحمد يلزمه القضاء ومن نوى الصوم ليلا ثم جن جميع النهار لم يصح صومه وإن أفاق في جزء من النهار صحّ صومه.
(8) المغمى عليه لا يلزمه الصوم في حال الإغماء بلا خلاف ويلزمه القضاء، ومن نوى الصوم ليلاً ثم أُغمي عليه جميع النهار لم يصح صومه، وإن أفاق المغمى عليه في أول النهار أو جزء منه صح صومه.
(9) الحائض والنفساء:
لا يصح صوم الحائض والنفساء ولا يجب عليهم ويحرم عليهما ويجب قضاؤه وهذا كله مجمع عليه، ولو أمسكت بنية الصوم أثمت.
عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم
فذلك نقصان دينها" رواه البخاري.(2/13)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنا نُؤمر بقضاء الصوم ولا نُؤمر بقضاء الصلاة" رواه مسلم.
قال أبو الزناد: "إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيراً على خلاف الرأي، فما يجد المسلمون بداً من اتباعها. من ذلك أن الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة".
* إذا طهرت الحائض في أثناء الصيام يُستحبُّ لها إمساك بقيته ولا يلزمها، وقطع به الجمهور.
* وجوب قضاء الصوم على الحائض والنفساء، إنما هو بأمر مجدد، وليس هو واجباً عليها في حال الحيض والنفاس، وبه قطع الجمهور.
* مما يفرق فيه بين الصوم والصلاة في حق الحائض أنها لو طهرت قبل الفجر ونوت صحّ صومها في قول الجمهور ولا يتوقف على الغسل بخلاف الصلاة.
* المستحاضة في نزف الدم أشد من الحائض ويباح لها الصوم.
(10) الشيخ الكبير الذي يجهده الصوم ويلحقه به مشقة شديدة، والمريض الذي لا يُرجى برؤه لا صوم عليهما ونقل ابنُ المنذر الإجماع فيه (1) لقول الله عز وجل: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) [الحج: 78] ، وتلزمهما الفدية.
روى البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "الشيخ الكبير يطعم عن كل يوم مسكيناً".
ورُوي أن أنساً -رضي الله عنه- ضعف عن الصوم عاما قبل وفاته فأفطر وأطعم.
والفدية: مدٌّ من طعام عن كل يوم سواء في الطعام البر والتمر والشعير وغيرها من أقوات البلد عند الشافعي. وقال أحمد: من حنطة أو مدَّان من تمر أو شعير، وقال أبو حنيفة: صاع من تمر، أو نصف صاع حنطة. وقال مكحول وربيعة ومالك وأبو ثور وابن المنذر: لا فدية.
__________
(1) قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن للشيخ والعجوز العاجزين الفطر.(2/14)
ولا يجوز تعجيل الفدية قبل دخول رمضان، ويجوز بعد طلوع فجر كل يوم، ويجوز قبل الفجر في رمضان.
* ولو نذر الشيخ الكبير العاجز أو المريض الذي لا يُرجى برؤه فلا ينعقد على الصحيح لأنه عاجز.
* والشيخ والمريض المأيوس من برئه إذا كان معسراً هل تلزمه الفدية إذا أيسر؟ على الأصح أنها لا تلزمه لأنه عاجز حال التكليف بالفدية وليست في مقابلة جناية كالكفارة تبقى في ذمته إلي اليسار لأنها في مقابلة جنايته.
* قال ابنُ مفلح في "الفروع" (3/28) : "قال الآجُري: من صنعته شاقة فإن خاف تلفاً أفطر وقضى، وإن لم يضره تركها أثم، وإلا فلا، قال: هذا قول الفقهاء رحمهم الله".
* وإن خاف بالصوم ذهاب ماله جاز.
* قال النووي في "المجموع" (6/262) : "من غلبه الجوع والعطش فخاف الهلاك لزمه الفطر، وإن كان صحيحاً مقيما لقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) [النساء: 29] ، ويلزمه القضاء كالمريض.
* قال ابن مفلح في "الفروع" (3/29) : "ومن به شبق يخاف أن تنشق مثانته جامع قضى ولا يكفر قال الأصحاب: هذا إن لم تندفع شهوته بدونه، وإلا لم يجز".
أركان الصوم
ثلاثة: (1) الزمان. (2) الإمساك عن المفطرات. (3) النية (1) .
الركن الأول: الزمان
ينقسم إلي قسمين: 1- زمن الوجوب وهو شهر رمضان.
2- زمن الإمساك وهو أيام رمضان دون لياليه.
__________
(1) أصح الأقوال أنها شرط وليس بركن.(2/15)
وفي كلا الزمنين مسائل اختلف فيها العلماء.
أولها: تحديد طرفيهما.
الثاني: معرفة العلامة التي يميز بها كل شخص حد هذا الزمان الواجب صومه دون غيره.
أما طرفاه:
فقد اتفق العلماء على أن الشهر الشرعي يكون تسعاً وعشرين ويكون ثلاثين، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الشهر يكون تسعة وعشرين، ويكون ثلاثين، فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمّ عليكم فأكملوا العدة" (1) .
إحصاء عدة شعبان:
ينبغي على الأمة الإسلامية أن تحصي عدة شعبان استعداداً لرمضان لأن الشهر يكون تسعة وعشرين، ويكون ثلاثين يوماً.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام" (2) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أحصوا هلال شعبان لرمضان" (3)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أحصوا هلال شعبان لرمضان، ولا تخلطوا برمضان، إلاَّ أن يوافقَ ذلك
صياماً كان يصومه أحدكم، وصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة
__________
(1) صحيح: رواه النسائي وأحمد عن أبي هريرة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3744) .
(2) صحيح على شرط مسلم: رواه أبو داود وابن حبان والحاكم والبيهقي، وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين
ووافقه الذهبي، وفيه نظر فإن ابن صالح وابن أبي قيس لم يحتج بهما البخاري فهو على شرط مسلم قاله الألباني
في "إرواء الغليل" (4/8) .
(3) صحيح: رواه الترمذي والحاكم وصححه عن أبي هريرة. قال المناوي (1/193) "رجاله رجال الصحيح إلا محمد بن عمرو فإنه لم يُخرجه الشيخان" وصححه السيوطي، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (198) .(2/16)
ثلاثين يوماً، فإنها ليست تغمى عليكم العدة" (1) .
قال المناوي في "فيض القدير": أحصوا: عدوا واضبطوا والإحصاء أبلغ من العد في الضبط لما فيه من إعمال الجهد في العد. والمراد أحصوا هلاله حتى تكملوا العدة إن غمّ عليكم أو تراؤوا هلال شعبان وأحصوه ليترتب عليه رمضان بالاستكمال أو الرؤية.
قال ابنُ قدامة في "المغني" (4/325) : "يستحب للناس ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان وتطلبه ليحتاطوا بذلك لصيامهم، ويسلموا من الاختلاف فإذا رأوه وجب عليهم الصيام إجماعاً".
رؤية الهلال هي المعتبرة فقط دون الحساب:
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر
هكذا وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين" رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر (4/151-152) : "قيل للعرب: أميون لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة. قال الله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم) ولا يرد على ذلك أنه كان فيهم من يكتب ويحسب لأن الكتابة فيهم قليلة نادرة، والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضاً إلاَّ النزر اليسير، فعلّق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلا، ويوضحه قوله في الحديث: "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين".
يقل فسلوا أهل الحساب، والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم، وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك وهم الروافض، ونُقل عن بعض الفقهاء موافقتهم. قال الباجي: وإجماع السلف الصالح حُجَّة عليهم. وقال ابن بزيزة: وهو مذهب باطل فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن غالب، مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق إذ لا يعرفها إلا القليل".
__________
(1) صحيح: رواه الدارقطني، والبيهقي في سننه عن أبي هريرة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (199) .(2/17)
قال ابن بطال: "في الحديث رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المعول رؤية الأهلة وقد نهينا عن التكلف. ولا شك أن في مراعاة ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين" (1) .
* وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له" (2) .
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا جاء رمضان فصوموا ثلاثين إلاَّ أن تروا الهلال قبل ذلك" (3) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا رأيتُم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُم عليكم فاقدروا له" (4) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "جعل الله الأهلة مواقيت للناس، فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً" (5) .
قال ابنُ حجر (4/146) : "للعلماء فيه تأويلان، وذهب آخرون إلى تأويل ثالث، قالوا: معناه فاقدروه بحساب المنازل. قاله أبو العباس بن سريج من الشافعية، ومطرف بن عبد الله من التابعين، وابن قتيبة من المحدثين.
قال ابن عبد البر: لا يصح عن مطرف، وأما ابن قتيبة هو ممن يعرج عليه في مثل هذا.
قال: ونقل ابن خويز منداد عن الشافعي مسألة ابن سريج والمعروف عن الشافعي ما عليه الجمهور.
__________
(1) رواه الشيخان والنسائي وغيرهم عن عدة من الصحابة.
(2) أخرجه الشيخان ومالك وغيرهم.
(3) صححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" رقم (1308) . رواه الطبراني في الكبير وأحمد والطحاوي. وصححه الألباني أيضاً في "صحيح الجامع".
(4) رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة وابن حبان عن عمر.
(5) صحيح: رواه البيهقي في سننه، وأحمد، والطبراني في الكبير، والديلمي وابن عساكر عن طلق بن علي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3093) .(2/18)
ونقل ابنُ العربي عن ابن سريج أن قولَه "فاقدروا له" خطاب لمن خصّه الله بهذا العلم، وأن قوله "فأكملوا العدة" خطاب للعامة. قال ابن العربي: فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال يجب على قوم. بحساب الشمس والقمر وعلى آخرين بحساب العدد، قال: وهذا بعيد عن النُّبلاء.
وقال ابنُ الصلاح: معرفة منازل القمر هي معرفة سير الأهلة، وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بمعرفته الآحاد، قال: فمعرفة منازل القمر تدرك بأمر محسوس يدركه من يراقب النجوم، وهذا هو الذي أراده ابنُ سريج وقال به في حق العارف بها في خاصة نفسه. ونقل الروياني عنه أنه لم يقل بوجوب ذلك عليه، وإنما قال بجوازه، وهو اختيار القفال وأبي الطيب، وأما أبو إسحاق في "المهذب" فنقل عن ابن سريج لزوم الصوم في هذه الصورة فتعدّدت الآراء في هذه المسألة بالنسبة إلى خصوص النظر في الحساب والمنازل:
أحدها: الجواز ولا يجزيء عن الفرض.
ثانيها: يجوز ويجزيء.
ثالثها: يجوز للحاسب ويجزئه لا للمنجم.
رابعها: يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم.
خامسها: يجوز لهما ولغيرهما مطلقاً.
وقال ابنُ الصباغ: أما بالحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا. قلت: ونقل ابن المنذر قبله الإجماع على ذلك، فقال في الإشراف: صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة، وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته، هكذا أطلق ولم يفصل بين حاسب وغيره، فمن فرّق بينهم كان محجوجاً بالإجماع قبله".
* قال النووي في "روضة الطالبين" (2/347-348) : لا يجب مما يقتضيه حساب المنجم الصوم عليه، ولا على غيره.
قال الروياني: وكذا من عرف منازل القمر، لا يلزمه الصوم به على الأصح.(2/19)
وأما الجواز فقال في "التهذيب": لا يجوز تقليد المنجم في حساب، لا في الصوم ولا في الفطر.
* قال ابن حجر في "تلخيص الخبير" (2/187-188) : قال ابن دقيق العيد: "إن الحساب لا يجوز أن يعتمد عليه في الصوم لمقارنة القمر للشمس على ما يراه المنجمون، فإنهم قد يقدمون الشهر بالحساب على الرؤية بيوم أو يومين، وفي اعتبار ذلك إحداث شرع لم يأذن الله به، وأما إذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع على وجه يرى، لكن وجد مانع من رؤيته كالغيم فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي، قلت: لكن يتوقف قبول ذلك على صدق المخبر به، ولا نجزم بصدقه إلاَّ لو شاهد، والحال أنه لم يشاهد، فلا اعتبار بقوله إذاً، والله أعلم".
* وقال ابن عبد البر في "الاستذكار" (10/15) : (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) يريد والله أعلم: من علم منكم بدخول الشهر علم يقين فليصمه، والعلم اليقين: الرؤية الصحيحة الفاشية الظاهرة أو إكمال العدد.
وقال فيه (10/115) أيضاً: "قد كان بعض كبار التابعين فيما ذكر محمد بن سيرين ذهب في هذا الباب إلى اعتباره بالنجوم ومنازل القمر وطريق الحساب قال ابن سيرين: كان أفضل له لو لم يفعل".
وقال في "التمهيد" (14/350-352) : "ذهب بعض فقهاء البصريين إلى أن معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فاقدروا له": ارتقاب منازل القمر وهو علم كانت العرب تعرف منه قريبا من علم العجم. ثم قال: وفيما ذكر هذا القائل من الضيق والتنازع والاضطراب ما لا يليق أن يتعلق به أولوا الألباب، وهو مذهب تركه العلماء قديماً وحديثاً للأحاديث الثابتة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته.." ولم يتعلق أحد من فقهاء المسلمين فيما علمت باعتبار المنازل في ذلك، وإنما هو شيء روي عن مطرف بن الشخير، وليس بصحيح عنه، والله أعلم، ولو صح، ما وجب اتباعه عليه لشذوذه، ولمخالفة الحجة له، وقول ابن قتيبة قول قد ذكرنا شذوذه ومخالفة أهل العلم له، وليس هذا من شأن ابن قتيبة، ولا هو ممن يعرج عليه في هذا الباب، وقد حكي عن الشافعي أنه قال: من كان مذهبه(2/20)
الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر، ثم تبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة وغمّ عليه، جاز له أن يعتقد الصيام ويبيته ويجزئه، والصحيح عنه في كتبه وعند أصحابه، أنه لا يصح اعتقاد رمضان إلاَّ برؤية أو شهادة عادلة.
وقال ابن عمر في "الاستذكار" (10/19) : "الذي عندنا في كتبه أنه لا يصح اعتقاد رمضان إلاَّ برؤية فاشية".
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (25/131-132) : "إني رأيت الناس في شهر صومهم، وفي غيره أيضاً: منهم من يصغي إلى ما يقوله بعض جهال أهل الحساب من أن الهلال يرى أو لا يرى. ويبني على ذلك إما في باطنه وإما في ظاهره حتى بلغني أن من القضاة من كان يرد شهادة العدد من العدول لقول الحاسب الجاهل الكاذب: إنه يرى أو لا يرى فيكون ممن كذب بالحق لما جاءه".
ويقول (ص132-133) : إنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز. والنصوص المستفيضة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك كثيرة.
وقد أجمع المسلمون عليه. ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلا، ولا خلاف حديث، إلاَّ أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا. وهذا القول وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصا بالحاسب فهو شاذ، مسبوق بالإجماع على خلافه، فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم.
وقد يقارب من هذا قول من يقول من الإسماعيلية بالعدد دون الهلال وبعضهم يروي عن جعفر الصادق جدولاً يعمل عليه، وهو الذي افتراه عليه عبد الله بن معاوية.
وهذه الأقوال خارجة عن دين الإسلام. وقد برَّأ الله منها جعفر وغيره.
ويقول أيضاً (ص164) : قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم، بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة فيكون قد فعل ما ليس من دينها، والخروج عنها محرم منهي عنه، فيكون الكتاب والحساب المذكوران محرمين منهياً عنهما.(2/21)
ويقول أيضاً (ص174) : "ظهر بذلك أن الأمية المذكورة هنا صفهْ مدح وكمال، من وجوه: من جهة الاستغناء عن الكتاب والحساب بما هو أبين منه وأظهر وهو الهلال، ومن جهة أن الكتاب والحساب هنا يدخلهما غلط، ومن جهة أن فيهما تعباً كثيراً بلا فائدة، فإن ذلك شغل عن المصالح. فمن دخل فيه فقد خرج عن الأمة الأمية فيما هو من الكمال والفضل السالم عن المفسدة، ودخل في أمر ناقص يؤديه إلى الفساد والاضطراب، وأيضا فإنه جعل هذا وصفاً للأمة وصفة الكمال التي للأمة يجب حفظها عليها.
ويقول أيضاً (ص207) : "والمعتمد على الحساب في الهلال، كما أنه ضال في الشريعة، مبتدع في الدين، فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب، فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي بل خطؤها كثير وقد جرب وهم يختلفون كثيراً: هل يرى؟ أم لا يرى؟ وسبب ذلك: أنهم ضبطوا بالحساب ما لا يعلم بالحساب، فأخطأوا طريق الصواب".
وفي "المجموع" (6/289) : قال الدارمي: لا يصوم بقول منجم.
الشهادة على رؤية الهلال:
عن ابن عمر قال: "تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه" (1) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وأنسكوا لها، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين، فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا" (2) ، وعند أحمد "فإن شهد شاهدان مسلمان"، وقال الدارقطني "ذوا عدل".
__________
(1) صحيح: رواه أبو دواد والدارمي وابن حبان والدارقطني والبيهقي وصححه الألباني في "إرواء الغليل" رقم (908) . وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي وهو كما قالا. وأقره ابن حجر في "التلخيص".
(2) رواه أحمد والنسائي والدارقطني عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، والحديث صححه الألباني في "إرواء الغليل" رقم (909) .(2/22)
* قال ابن عبد البر في "التمهيد" (14/354-135) : "أجمع العلماء على أنه لا يقبل في شهادة شوال في الفطر إلاَّ رجلان عدلان، واختلفوا في هلال رمضان: * فقال مالك والثوري والأوزاعي والليث والحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن وابن علية: لا يقبل في هلال رمضان ولا شوال إلا شاهدا عدل رجلان.
* وقال أبو حنيفة وأصحابه في رؤية هلال رمضان: شهادة رجل واحد عدل إذا كان في السماء علة -غيماً أو غباراً-، وإن لم يكن في السماء علة لم يقبل إلاَّ شهادة العامة.
ولا يقبل في هلال شوال إلاَّ شهادة عدلين يقبل مثلهما في الحقوق.
هكذا حكاه الطحاوي عن أبي حنيفة في كتابه الكبير في الخلاف في اشتراط العدالة ولم يذكر المرأة، وذكر عنه في المختصر في الشهادة على هلال رمضان شاهد واحد مسلم أو امرأة مسلمة. لم يشترط العدالة، وفي الشهادة على هلال شوال رجل وامرأتان كسائر الحقوق.
واختلف قول الشافعي في هذه المسألة، فحكى المزني عنه أنه قال: إذا شهد على رؤية هلال رمضان رجل عدل واحد رأيت أن أقبله للأثر الذي جاء فيه والاحتياط والقياس ألا يقبل إلا شاهدان، قال: ولا أقبل على رؤية هلال الفطر إلا عدلين.
وفي البويطي: ولا يصام رمضان ولا يفطر منه بأقل من شاهدين حُرّيْن مسلميِنْ عدليْن، وقال أحمد بن حنبل: من رأى هلال رمضان وحده صام، فإن كان عدلاً صام الناس بقوله، ولا يفطر إلاَّ بشهادة عدلين، ولا يفطر إذا رآه وحده".
قال النووي في "روضة الطالبين" (2/345) : "وكذا إن شهد عدل على الأظهر المنصوص في أكثر كتبه".
وقال في "المجموع" (6/283) : قال في القديم والجديد يقبل من عدل واحد وهو الصحيح وبه قطع المصنف، فهل يقبل من العبد والمرأة؟ فيه وجهان: لا يقبل وهو الصحيح؛ لأن طريقها طرق الشهادة بدليل أنه لا يقبل من شاهد الفرع مع حضور شاهد الأصل فلم قبل من العبد والمرأة كسائر الشهادات. ونص عليه في "الأم"(2/23)
وأما الكافر والفاسق والمغفل فلا يقبل قولهم بلا خلاف.
* وفي "الفروع" لابن مفلح -حنبلي- يقبل في هلال رمضان قول عدل واحد نص عليه وحكاه الترمذي عن أكثر العلماء لحديث ابن عباس وابن عمر، ولأنه خبر ديني، وهو أحوط ولا تهمة فيه، لخلاف آخر الشهر.
وتقبل المرأة والعبد ولا يختص بحاكم فيلزم الصوم من سمعه من عدل.
وجزم في "المستوعب": لا يقبل صبي، وفي "الكافي" يقبل العبد.
* وفي "روضة الطالبين" -شافعي- (2/380-346) : في الصبي المميز الموثوق به طريقان: والمذهب الذي قطع به الأكثرون: القطع بأنه لا تقبل.
وقال ابن حجر في "الفتح" (4/147) : "فلا تصوموا حتى تروه. المراد بذلك رؤية بعضهم وهو من يثبت به ذلك، إما واحد على رأي الجمهور أو اثنان على رأى آخرين.
ووافق الحنفية على الأول إلا أنهم خصّوا ذلك بما إذا كان في السماء علة من غيم وغيره، وإلا متى كان صحو لم يقبل إلا من جمع كثير يقع العلم بخبرهم.
قال أبو عمر بن عبد البر في "التمهيد" (14/355) : لم يختلف العلماء فيمن رأى هلال رمضان وحده فلم تقبل شهادته أنه يصوم؛ لأنه متعبد بنفسه لا بغيره، وعلى هذا أكثر العلماء، لا خلاف في ذلك إلا شذوذ لا يشتغل به، ومن رأى هلال شوال وحده، أفطر عند الشافعي، والحسن بن حي.
وروي عن مالك أنه لا يفطر للتهمة، ومثله قول الليث وأحمد: لا يفطر من رآه وحده، واستحب الشافعي أن يخفي فطره.
وقال مالك: من رأى هلال رمضان وحده فأفطر فعليه الكفارة مع القضاء، وقال أبو حنيفة: لا كفارة عليه.
وكان الشعبي والنخعي يقولان: لا يصوم أحد إلا مع جماعة الناس، وقال الحسن: يفعل ما يفعل إمامهم.(2/24)
* وعند ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (25/114-115) : "يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس وهذا أظهر الأقوال.
* وفي "الفروع" لابن مفلح (3/17) : "وإن صاموا ثمانية وعشرين، ثم رأوا هلال شوال قضوا يوماً فقط نقله ابن حنبل واحتج بقول علي -رضي الله عنه- ولبُعد الغلط بيومين".
وإن صمنا بشاهدين ثلاثين يوماً فلم نر الهلال بعد الثلاثين نفطر على الصحيح من قول الشافعي وإن صمنا بشاهد عدل فلم نر الهلال بعد الثلاثين نفطر، نص عليه في "الأم".
في الرؤية بالحس: اتفقوا على أن من رأى شهر رمضان وجب عليه الصوم إلا ما روي عن عطاء أنه قال: لا يصح إلا بشهادة غيره.
واختلفوا إذا رأى شوالاً وحده هل يفطر أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: لا يفطر، وقال الشافعي: يفطر، وبه قال أبو ثور لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" والجمهور إنما فرقوا بين الصوم والفطر سدًّا للذريعة لأن الصوم ثقيل على النفوس لا يتهم أحد عليه، وأما الفطر فالعادة أنه تتوق إليه النفوس الضعيفة ولو ترك لهم المجال لادّعى كل ضعيف النفس رؤيته وينتهك حرمة رمضان، وأن الصوم عبادة، والفطر فضيلة ولا يسوى بينهما (1) .
قال النووي في "المجموع" (6/295) : "ذكرنا أن الصحيح من مذهبنا أنه لا تقبل شهادة النساء في هلال رمضان، وحكاه ابن المنذر عن الليث واختاره ابن الماجشون المالكي، ولم يحك عن أحد قبولها".
مذاهب العلماء فيما إذا رأى الهلال أهل بلد دون غيرهم:
عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إِلى معاوية بالشام قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهلّ على رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت
__________
(1) "إرشاد المسترشد" (ص310) لمحمد ولي بن المنذر الأنصاري.(2/25)
المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أو لا تكتفي رؤية معاوية وصيامه فقال: لا. هكذا أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رواه مسلم والترمذي وأبو داود.
* بوّب النووي في شرح صحيح مسلم "باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم وأم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم" وقال (3/141) : فيه حديث كريب عن ابن عباس، وهو ظاهر الدلالة للترجمة، والصحيح عند أصحابنا أن الرؤية لا تعم الناس، بل تختص بمن قرب على مسافة لا تقصر فيها الصلاة. وقال بعض أصحابنا: تعم الرؤية في موضع جميع أهل الأرض، فعلى هذا نقول: إنما لم يعمل ابن عباس بخبر كريب؛ لأنه شهادة فلا تثبت بواحد، لكن ظاهر حديثه أنه لم يردّه لهذا وإنما ردّه لأن الرؤية لم يثبت حكمها في حق البعيد.
* قال ابن حجر: اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
أحدها: لأهل كل بلد رؤيتهم، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس ما يشهد له، وحكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق، وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحك سواه، وحكاه الماوردي وجهاً للشافعية.
ثانيها: مقابله إذا رؤي ببلدة لزم أهل البلاد كلها.
قال النووي في "المجموع": عن الليث والشافعي وأحمد يلزم الجميع، قال: ولا أعلمه إلا قول المدني والكوفي يعني مالكاً وأبا حنيفة (6/282) .
قال ابن حجر: -وهو المشهور عند المالكية-، لكن حكى ابن عبد البر الإجماع على خلافه، وقال: أجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلاد كخراسان والأندلس.
قال القرطبي: قد قال شيوخنا إذا كانت رؤية الهلال ظاهرة قاطعة بموضع ثم نقل إلى غيرهم بشهادة اثنين لزمهم الصوم.(2/26)
وقال ابن الماجشون: لا يلزمهم الشهادة إلا لأهل البلد الذي ثبتت فيه الشهادة إلا أن يثبت عند الأمام الأعظم فيلزم الناس كلهم لأن البلاد في حقه كالبلد الواحد إذ حكمه نافذ في الجميع.
وقال بعض الشافعية: أن تقاربت البلاد كان الحكم واحداً وإن تباعدت فوجهان: لا يجب عند الأكثر، وبه قال النووي.
واختار أبو الطيب وطائفة الوجوب وحكاه البغوي عن الشافعي.
وفي ضبط البعد أوجه: أحدهما: اختلاف المطالع قطع به العراقيون والصيدلاني وصححه النووي في "الروضة" و"شرح المهذب". ثانيها: مسافة القصر قطع به الإمام والبغوي وصححه الرافعي في "الصغير" والنووي في "شرح مسلم" ا. هـ بتصرف.
قال ابن عبد البر في "التمهيد" (14/358) : "إلى القول الأول أذهب؛ لأن فيه أثراً مرفوعاً وهو حديث حسن تلزم به الحجة، وهو قول صاحب كبير لا مخالف له من الصحابة، وقول جماعة من فقهاء التابعين، ومع هذا، إن النظر يدل عليه عندي؛ لأن الناس لا يكلفون علم ما غاب عنهم في غير بلدهم، ولو كلفوا ذلك لضاق عليهم. أرأيت لو رؤي بمكة أو بخراسان هلال رمضان أعواماً بغير ما كان بالأندلس ثم ثبت ذلك وبزمان عند أهل الأندلس أو عند بعضهم، أو عند رجل واحد منهم، أكان يجب عليه قضاء ذلك وهو قد صام برؤية وأفطر برؤية أو بكمال ثلاثين يوماً كما أمر، ومن عمل بما يجب عليه مما أمر به فقد قضى الله عنه، وقول ابن عباس عندي صحيح في هذا الباب والله الموفق للصواب.
قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (25/105، 107) : "فالصواب في هذا والله أعلم ما دلّ عليه قوله "صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون"، فإذا شهد شاهد ليلة الثلاثين من شعبان أنه رآه بمكان من الأمكنة قريب أو بعيد وجب الصوم. وكذلك إذا شهد بالرؤية نهار تلك الليلة فعليهم إمساك ما بقي سواء كان من إقليم أو إقليمين.
وقال ابن تيمية (25/104) : الذين قالوا لا تكون رؤية لجميعها، كأكثر أصحاب(2/27)
الشافعي منهم من حدد ذلك بما تختلف فيه المطالع: كالحجاز مع الشام، والعراق مع خراسان، وكلاهما ضعيف، فإن مسافة النصر لا تعلق لها بالهلال.
وأيضاً فإن هلال الحج ما زال المسلمون يتسكعون فيه برؤية الحجاج القادمين، وإن كان فوق مسافة القصر.
وأيضاً إذا اعتبرناها كمسافة القصر، أو الأقاليم، فكان رجل في آخر المسافة والإقليم فعليه أن يصوم ويفطر وينسك وآخر بينه غلوة سهم لا يفعل شيئاً من ذلك، وهذا ليس من دين المسلمين.
ثم يقول "والاعتبار ببلوغ الرؤية في وقت يفيد. الأشبه أنه إن رؤي بمكان قريب وهو ما يمكن أن يبلغهم خبره في اليوم الأول فهو كما لو رؤي في بلدهم، ولم يبلغهم، وأما إذا رؤي بمكان لا يمكن وصول خبره إليهم إلا بعد مضي الأول فلا قضاء عليهم".
وقال (ص107) "فالضابط أن مدار هذا الأمر على البلوغ لقوله "صوموا لرؤيته" فمن بلغه أنه رؤي ثبت في حقه من غير تحديد بمسافة أصلاً، وهذا يطابق ما ذكره ابن عبد البر في أن طرفي المعمورة لا يبلغ الخبر فيهما إلا بعد شهر فلا فائدة فيه، بخلاف الأماكن الذي يصل الخبر فيها قبل انسلاخ الشهر فإنها محل الاعتبار.
ويقول ابن تيمية في (ص108) : وهذا الذي ذكرته هو الذي ذكره أصحابنا، إلا وجوب القضاء إذا لم يكن مما يمكنهم فيه بلوغ الخبر.
والحجة فيه أنا نعلم بيقين أنه ما زال في عهد الصحابة والتابعين يرى الهلال في بعض أمصار المسلمين، بعد بعض، فإن هذا من الأمور المعتادة التي لا تبديل لها، ولابد أن يبلغهم الخبر في أثناء الشهر، فلو كانوا يجب عليهم القضاء لكانت هممهم تتوفر على البحث عن رؤيته في سائر بلدان الإسلام، كتوفرها على البحث عن رؤيته في بلده، ولكان القضاء يكثر في أكثر الرمضانات، ومثل هذا لو كان لنقل، ولما لم ينقل دل على أنه لا أصل له، وحديث ابن عباس يدل على هذا فتلخص: أنه من بلغه رؤية الهلال في الوقت الذي يؤدي بتلك الرؤية الصوم أو الفطر أو النسك وجب اعتبار ذلك بلا شك، والنصوص وآثار السلف تدل على ذلك.(2/28)
ومن حدّد ذلك بمسافة قصر أو إقليم فقوله مخالف للعقل والشرع.
* ومن لم يبلغه إلا بعد الأداء، وهو مما لا يقضي كالعيد المفعول والنسك فهذا لا تأثير له، وعليه الإجماع الذي حكاه ابن عبد البر.
* وأما إذا بلغه في أثناء المدة: فهل يؤثر في وجوب القضاء؟ وفي بناء الفطر عليه، والقضاء يظهر لي أنه لا يجب وفي بناء الفطر عليه نظر. فهذا متوسط في المسألة.
* والقول بشمول كل من بلغه رؤية الهلال من أي بلد أو إقليم من غير تحديد مسافة يقول فيه الألباني: "أخذ بعموم الحديث الصحيح، وبخاصة أنه مذهب الجمهور، وقد اختاره كثير من العلماء المحققين مثل شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (المجلد 25) والشوكاني في "نيل الأوطار" وصديق حسن خان في "الروضة الندية" (1/224-225) وغيره، فهو الحق الذي لا يصح سواه، ولا يعارضه حديث ابن عباس لأمور ذكرها الشوكاني -رحمه الله-، ولعل الأقوى أن يقال: إن حديث ابن عباس ورد فيمن صام على رؤية بلده، ثم بلغه في أثناء رمضان أنهم رأوا الهلال في بلد آخر قبله بيوم، ففي هذه الحالة يستمر في الصيام مع أهل بلده حتى يكملوا ثلاثين، أو يروا هلالهم.
وبذلك يزول الإشكال، ويبقى حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وغيره على عمومه؛ يشمل كل من بلغه رؤية الهلال من أي بلد أو إقليم من غير تحديد مسافة أصلاً كما قال ابن تيمية في "الفتاوى" (25/107) وهذا أمر متيسر اليوم للغاية كما هو معلوم، ولكنه يتطلب شيئاً من اهتمام الدول حتى تجعله حقيقة واقعية إن شاء الله تبارك وتعالى. وإلى أن تجتمع الدول الإسلامية على ذلك، فإني أرى على شعب كل دولة أن يصوم مع دولته، ولا ينقسم على نفسه، فيصوم بعضهم معها، وبعضهم مع غيرها، تقدمت في صيامها أو تأخرت، لما في ذلك من توسيع دائرة الخلاف في الشعب الواحد، كما وقع في بعض الدول العربية منذ بضع سنين والله المستعان" (1) .
إذا رأى القمر نهاراً
اختلفوا إذا رأى القمر نهاراً:
__________
(1) "تمام المنة في التعليق على فقه السنة" (ص398) الطبعة الثالثة- المكتبة الإسلامية.(2/29)
* فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أنه لليلة المقبلة وهو رواية عن أحمد.
* وقال أحمد وأبو يوسف والثوري وابن حبيب المالكي: إذا رآه قبل الزوال فهو للماضية، وإذا رآه بعده فهو للمقبلة.
وسبب الخلاف:
أولاً: أنه ما ورد عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء في ذلك.
والثاني: أنه ورد أثران في ذلك عن عمر، أحدهما عام والآخر خاص، فأما العام فما رواه أبو وائل شقيق بن سلمة قال: "أتانا كتاب عمر ونحن بخانقين أن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهاراً فلا تفطروا حتى يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس" رواه الدارقطني والبيهقي إسناد صحيح وبه أخذ الجمهور.
وأما الخاص فهو ما رواه الثوري عنه أنه بلغ عمر أن قوماً رأوا الهلال بعد الزوال فأفطروا فكتب إليهم يلومهم وقال: "إذا رأيتم الهلال نهاراً قبل الزوال فأفطروا، وإذا رأيتموه بعد الزوال فلا تفطروا". وبه أخذ من فرّق بين الرؤية في أول النهار وفي آخره والله أعلم.
قال ابن حجر في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصوموا حتى تروا الهلال" (4/145) : "ظاهره إيجاب الصوم حين الرؤية متى وجدت ليلاً أو نهاراً لكنه محمول على صوم اليوم المستقبل، وبعض العلماء فرّق بين ما قبل الزوال أو بعد وخالف الشيعة الإجماع فأوجبوه مطلقاً، وهو ظاهر في النهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال".
فرع:
قال النووي في "المجموع" (6/292) : "لو كانت ليلة الثلاثين من شعبان ولم ير الناس الهلال، فرأى إنسان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنام فقال له: الليلة أول رمضان لم يصح الصوم بهذا المنام لا لصاحب المنام ولا لغيره، ذكره القاضي حسين في الفتاوى وآخرون من أصحابنا. ونقل القاضي عياض الإجماع عليه، لأن شرط الراوي والمخبر والشاهد أن يكون متيقظاً حال التحمل، وهذا مجمع عليه ومعلوم أن النوم لا تيقظ فيه، ولا ضبط،(2/30)
فترك العمل بهذا المنام لاختلال ضبط الراوي، لا للشك في الرؤية، فقد صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي" والله تعالى أعلم".
صيام الأسير والمطمور
قد لا يستطع الأسير المسلم الذي وقع في أيدي الكفار معرفة شهر الصيام فما حكم صيامه إذا صام؟
* إن صام بغير تحرّ فصومه غير صحيح، لأنه مطالب بأن يبذل جهده، ويتحرّى كما هو الحال فيمن اشتبهت عليه القبلة.
* فإن تحرى وصام فله الحالات:
الحالة الأولى:
أن لا يتضح للأسير الأمر، أَوافق بصيامه رمضان أو خالف؟ فهذه تجزئه لأنه بذل وسمعه، والله يقول: (فاتقوا الله ما استطعتم) [التغابن: 16] .
الحالة الثانية:
أن يُوافق صومه صوم رمضان، وهذه لها ثلاثة أوجه:
الأول: أن يصومه بنية التطوّع فإن صومه عن رمضان لا يصح عند الأئمة الثلاثة وعند أبي حنيفة يصح؛ لأنه يصحح الصوم من رمضان بمطلق النية وبنية التطوع.
الثاني: أن يصومه بنية غير جازمة. وصحَّح العلماء صوم الأسير في مثل هذه الحال لأنه معذور، وممن نص على هذا النووي، وقال: إنه مذهب كافة العلماء، ولم يخالف في ذلك إلاَّ الحسن بن صالح، واحتج النووي على ذلك بدليلين: إجماع العلماء على صحة الصوم من الأسير في هذه الحال، والقياس على الاجتهاد في القبلة لمن وافقها، والشك إنما يضر إذا لم يعتضد باجتهاد (1) .
__________
(1) "المجموع" (6/315) .(2/31)
الثالث: أن يصومه بنية جازمة، وهذا صحيح لا إشكال فيه.
الحالة الثالثة:
ألا يُوافق صومه صوم رمضان:
وهذه لها وجهان:
الأول: أن يصوم قبل دخول الشهر، فهذا لا يصح بإجماع المذاهب، لأنه أدى الواجب قبل وجوبه وقبل وجوب سببه" (1) .
الثاني: "أن يصوم بعد دخول الوقت: فلا خلاف بينهم في صحة هذا الصوم قضاء، إلا أنه إذا صام شهر شوال فعليه أن يقضي يوماً واحداً، هو يوم العيد إن وافقت عدّة شوال عدة رمضان ويومين إن كان أقلّ، وإن وافق شهر ذي الحجة قضى أربعة أيام: يوم النحر وأيام التشريق" (2) .
• فرع:
"إذا صام الأسيرُ ونحوه بالاجتهاد فصادف صومُه الليل دون النهار لزمه القضاء بلا خلاف لأنه ليس وقتاً للصوم" (3) .
• فرع:
لو شرع في الصوم بالاجتهاد فأفطر بالجماع في بعض الأيام، فإن تحقّق أنه صادف رمضان لزمته الكفارة، لأنه وطيء في نهار رمضان الثابت بنوع دلالة، فأشبه من وطيء بعد حكم القاضي بالشهر بقول عدل واحد، وإن صادف شهراً غيره فلا كفارة؛ لأن الكفّارة لحرمة رمضان ولم يصادف رمضان وممن ذكر المسألة المتولي (8) .
__________
(1) "بدائع الصنائع" (2/86) .
(2) "مقاصد المكلفين" للشيخ عمر الأشقر (ص234-235) طبع دار النفائس - مكتبة الفلاح.
(3) "المجموع" (6/298) .
(4) "المجموع" (6/299) .(2/32)
• فرع:
إذا لم يعرف الأسير ونحوه الليل ولا النهار، بل استمرت عليه الظلمة دائماً فهذه مسألة مهّمة قلّ من ذكرها.
والأصح أنه يلزمه التحرى والصوم ولا قضاء عليه، هذا إذا لم يظهر له فيما بعد الخطأ، فإن تبينّ له أنه صادف الليل لزمه القضاء بلا خلاف والله أعلم" (1) .
زمن الإمساك
أجمع المسلمون على أن آخر زمن الإمساك هو غروب الشمس وغيبوبتها لقوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) [البقرة: 187] .
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" (2) .
ولفظ مسلم: "إذا غابت الشمس ههنا وجاء الليل من ههنا فقد أفطر الصائم"، وعن عبد الله بن أبي أوفى قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا فقد أفطر الصائم، وأشار بيده قبل المشرق" رواه البخاري.
قال الحافظ في "الفتح" (4/232) : "إنما ذكر الإقبال والإدبار معاً لإمكان وجود أحدهما مع عدم تحقق الغروب".
وقال: "لا يجب إمساك جزء من الليل مطلقاٌ، بل متى تحقق غروب الشمس حل الفطر"، "وأفطر أبو سعيد الخدري حين غاب قرص الشمس" (3) . وعند سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة "دخلنا على أبي سعيد فأفطر ونحن نرى أن الشمس لم تغرب".
قال ابن حجر: "ووجه الدلالة منه أن أبا سعيد لما تحقق غروب الشمس لم يطلب
__________
(1) "المجموع" (6/300) .
(2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عمر رضي الله عنه.
(3) رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم ووصله سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة.(2/33)
مزيداً على ذلك ولا التفت إلى موافقة من عنده على ذلك، فلو كان يجب إمساك جزء من الليل لاشترك الجميع في معرفة ذلك والله أعلم".
واختلفوا في أول زمن الإمساك:
* فقال الجمهور: هو طلوع الفجر الثاني وهو الفجر الصادق والمراد الطلوع الذي يظهر لنا لا الذي في نفس الأمر.
ولا يتعلق بالفجر الكاذب الأول شيء من الأحكام بإجماع المسلمين.
والصوم بطلوع الفجر الصادق "الثاني" وتحريم الطعام والشراب والجماع به هو مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. قال ابن المنذر وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعلماء الأمصار قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الفجر فجران، فأما الفجر الذي يكون كذنب السرحان (1) فلا يُحل الصلاة، ولا يحرم الطعام، وأما الفجر الذي يذهب مستطيلاً في الأفق فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام" (2) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كلوا واشربوا ولا يهدينكم (3) الساطع المصُعد، فكلوا واشربوا حتى
يعترض لكم الأحمر" (4) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس الفجر بالأبيض المستطيل في الأفق، ولكنه الأحمر المعترض" (5) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الفجر فجران: فجر يحرم فيه الطعام، وتحل فيه الصلاة، وفجر تحرم فيه
الصلاة ويحل فيه الطعام" (6) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" (7) .
__________
(1) الذئب.
(2) صحيح: رواه الحاكم في "المستدرك" والبيهقي في سننه عن جابر، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4278) .
(3) يهدينكم: أى يغرنكم.
(4) حسن: رواه أبو داود والترمذي عن طلق، والطحاوي وابن خزيمة والدارقطني وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4506) .
(5) صحيح: رواه أحمد عن طلق بن علي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5378) .
(6) صحيح: رواه الحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4279) .
(7) رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عمر، ورواه البخاري والنسائي عن عائشة.(2/34)
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن بلالاً يؤذن بليل، ليوقظ نائمكم، وليرجع قائمكم" (1) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يغرنكم في سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق المستطيل حتى يستطير" (2) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن بليل ليرجع قائمكم، ولينبه نائمكم، وليس الفجر أن يقول هكذا، حتى يقول هكذا، يعترض في أفق السماء" (3) .
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: "لما نزلت (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت له ذلك فقال: "إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار" (4) ، وفي رواية "إن وسادك إذن لعريض طويل، إنما هو سواد الليل وبياض النهار" (5) .
* وقال سهيل بن سعد: "أنزلت (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) ولم ينزل (من الفجر) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد (من الفجر) فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار" رواه البخاري.
* وذهب حذيفة وابن مسعود إلى أنه طلوع الفجر الأحمر كالشفق الأحمر.
* والجمهور القائلون بأنه الفجر الأبيض المستطيل في الحد المحرم للشرب والأكل والجماع اختلفوا أيضاً:
* فقال الجمهور: هو طلوع الفجر نفسه.
* وذهب جماعة من الصحابة إلى جواز السحور إلى أن يتضح الفجر.
روى ابن المنذر بإسناد صحيح عن علي أنه صلى الصبح، ثم قال: الآن حين يتبينّ الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
__________
(1) رواه النسائي عن ابن مسعود، ورواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو دواد.
(2) رواه أحمد ومسلم وأبو دواد والترمذي والنسائي عن سمرة.
(3) رواه أحمد والبخارى ومسلم وأبو دواد وابن ماجة عن ابن مسعود.
(4) رواه البخاري.
(5) رواه البخاري.(2/35)
قال ابن المنذر: وذهب بعضهم إلى أن المراد بتبينّ بياض النهار من سواد الليل إلى أن ينتشر البياض في الطرق والسكك والبيوت.
قال إسحاق: هؤلاء رأوا جواز الأكل والصلاة بعد طلوع الفجر المعترض حتى يتبين بياض النهار من سواد الليل.
قال إسحاق: وبالقول الأول أقول، لكن لا أطعن على من تأول الرخصة كالقول الثاني ولا أدري عليه قضاء ولا كفّارة.
فمعنى قولهم هو: تبينّ طلوعه عند النظر إليه، وهو مروي عن عروة ومجاهد والحسن وإسحاق قالوا: إن أكل أو شرب يظن أن الفجر لم يطلع فبان له أنه طلع فلا قضاء عليه، وكذلك إذا ظن غياب الشمس ووجدها لم تغب فلا قضاء عليه.
وسبب الخلاف:
الاحتمال الموجود في قوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) هل المراد به الإمساك بالتبين نفسه أو بالمتبين وهو الفجر؟
واستدلّ الجمهور بما رواه البخاري عن فاطمة عن أسماء قالت: أفطرنا في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم غيم ثم طلعت الشمس فقيل لهشام بن عروة راوي الحديث عن فاطمة: أمروا بالقضاء؟ قال: بد من قضاء.
* والقائلون بعدم القضاء حملوا التبين على تبين الفجر إذا نظر إليه الناظر ولو بعد طلوعه بزمن.
مسائل:
(1) "لو غمّ هلال رمضان فأصبحوا مفطرين، ثم تبين أن ذلك اليوم من رمضان فالقضاء واجب بالاتفاق" قاله ابن حجر (4/236) .
(2) من أكل أو شرب شاكاً في طلوع الفجر فذهب ابن عباس وعطاء وهو مروي عن أبي بكر وابن عمر والأوزاعي والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والمشهور عن مالك إلى أنه لا قضاء عليه.(2/36)
وروى عن مالك القول بوجوب القضاء عليه.
والراجح الأول: لظاهر الآية ولحديث أذان ابن أم مكتوم.
روى عبد الرزاق بإسنادٍ صحيح عن ابن عباس قال: "أحل الله لك الأكل والشرب ما شككت". قال ابن المنذر: وإلى هذا صار أكثر العلماء.
"ذكر ابن المنذر في "الإشراف" باباً في إباحة الأكل للشاك في الفجر، فحكاه عن أبي بكر الصديق، وابن عمر وابن عباس وعطاء والأوزاعي وأصحاب الرأي وأحمد وأبي ثور واختاره ولم ينقل المنع إلا عن مالك" (1) .
فقال بتحريمه مالك وأوجب القضاء على من أكل شاكاً.
(3) إذا أكل أو شرب أو جامع ظاناً غروب الشمس أوعدم طلوع الفجر فبان خلافه فعليه القضاء وبه قال ابن عباس ومعاوية بن أبي سفيان وسعيد بن جبير ومجاهد والزهري والثوري، هكذا حكاه ابن المنذر عنهم، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وأبو ثور والجمهور.
وقال إسحاق بن راهوية وداود وعطاء وعروة والحسن ومجاهد: صومه صحيح ولا قضاء.
(4) فيمن أولج ثم نزع مع طلوع الفجر.
قال الشافعي وأبو حنيفة: لا يفطر ولا قضاء ولا كفارة.
روى البيهقي بإسناده الصحيح عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كان إذا نودي بالصلاة والرجل على امرأته لم يمنعه ذلك أن يصوم إذا أراد الصيام قام واغتسل وأتم صيامه".
وقال مالك والمزني وزفر وداود: يبطل صومه.
وعن أحمد رواية: أنه يفطر وعليه الكفّارة. وفي رواية يصح صومه ولا قضاء ولا كفارة.
__________
(1) "المجموع" (6/335-336) .(2/37)
(5) إذا جامع في الليل وأصبح وهو جنب صح صومه، وكذا لو انقطع دم الحائض والنفساء في الليل فنوتا صوم الغد ولم يغتسلا، صح صومهما بلا خلاف وبه قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وممن قال به علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبو ذر وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وابن عباس وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم، وجماهير التابعين والثوري وأحمد ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور خلافاً لقول سالم ابن عبد الله وأبي هريرة والحسن والنخعي والأوزاعي.
وحجة الجمهور أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم" (1) .
وعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما قالتا: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصبح جُنباً من غير حلم ثم يصوم" رواه البخاري ومسلم. وفي روايات لها في الصحيح "من جماع غير احتلام".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير حلم فيغتسل ويصوم" رواه البخاري ومسلم.
وعنها: أن رجلاً جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستفتيه وهي تسمع من وراء الباب، فقال: يا رسول الله.. تدركني الصلاة وأنا جنب أفأصوم؟ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم" فقال: لست مثلنا يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" رواه مسلم.
قال ابن المنذرعن حديث أبي هريرة: "من أصبح جنباً فلا صوم له" رواه الشيخان: أحسن ما سمعت فيه أنه منسوخ.
(6) إذا طلع الفجر وفي فيه طعام فليلفظه، فإن لفظه صح صومه، فإن ابتلعه بعد علمه بالفجر بطل صومه بلا خلاف ودليله قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" رواه البخاري.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ومالك عن عائشة وأم سلمة.(2/38)
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه" (1) ، وفي رواية "وكان المؤذن يؤذن إذا بزغ الفجر".
فيكون "إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده" خبراً عن النداء الأول ليكون موافقاً لحديث ابن عمر وعائشة، قال البيهقي: وعلى هذا تتفق الأحاديث: وقال البيهقي: هذا محمول عند عوام أهل العلم على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنه ينادى قبل طلوع الفجر.
الركن الثاني: وهو الإمساك
أجمعت الأمة على تحريم الطعام والشراب والجماع على الصائم، وممن نقل الإجماع ابنُ المنذر.
قال تعالى: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) .
* واختلفوا من ذلك في مسائل:
(أ) منها ما هو مسكوت عنه.
(ب) ومنها ما هو منطوق به (الحجامة والقيء) .
المسكوت عنه:
فهو ما يرد الجوف من غير المغذيات، وما يرده من المغذيات من غير طريق الطعام والشراب كالحقنة، وما يرد داخل الأعضاء دون الجوف كالدماغ مثلاً فإن ما يدخل من الأذنين يصل إليه ولا يصل إلى الجوف.
* فذهب الشافعي وأبو حنيفة وأحمد إلى إفطار كل ما وصل إلى الجوف سواءً وصله من طريق الغذاء أم لا، وكذلك كل ما وصل إلى الدماغ للتداوي للجائفة والمأمومة وما يدخل الأذنين.
__________
(1) صحيح: رواه أحمد والحاكم وأبو داود عن أبي هريرة، وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (613) .(2/39)
* وذهب مالك إلى أن المفطر كل ما وصل الحلق من أي منفذ كان مغذ أو غير مغذ، وما لم يصل إليه ليس بمفطر كالتداوي للجائفة والمأمومة واختلف عنه في الحقنة فمرة رُوي عنه أنها تفطر؛ لأنها تصل إلى الجوف مباشرة ومرة قال: لا؛ لأنا لا تصل إلى الحلق. ونفصّل:
(1) إذا ابتلع الصائم ما لا يؤكل في العادة كدرهم ودينار أو تراب أو حصاة أو حشيشاً أو ناراً أو حديداً أو خيطاً أو غير ذلك أفطر.
وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وداود وجماهير العلماء من السلف والخلف وخلاف ذلك عن أبي طلحة والحسن بن صالح وبعض أصحاب مالك.
(2) إذا بقي في خلل أسنانه طعام فينبغي أن يخلّله في الليل وينقي فمه، فإن أصبح صائماً وفي خلل أسنانه شيء فابتلعه عمداً أفطر عند الشافعي ومالك وأحمد وأبو يوسف، وقال أبو حنيفة: لا يفطر.
(3) إذا جرى ريقه ولم يقدرعلى دفعه ومجه لا يفطر، ويفطر إذا قدر فلم يفعل وابتلعه. وفيها تفصيل:
ابتلاع الريق لا يفطر بالإجماع إذا كان على العادة لأنه يعسر الاحتراز منه. وإنما يفطر بثلاثة شروط:
الأول: أن يتمحض الريق فلو اختلط بغيره وتغير لونه أفطر بابتلاعه.
الثاني: أن يبتلعه من معدته، فلو خرج من فيه ثم رده بلسانه أوغير لسانه وابتلعه أفطر.
الثالث: أن يبتلعه. على العادة فلو جمعه قصداً ثم ابتلعه فيها وجهان أصحهما: لا يفطر.
ولو اجتمع ريق كثير بغير قصد بأن كثر كلامه أوغير ذلك بغير قصد فابتلعه لم يفطر بلا خلاف.
(4) غبار الطريق وما يشق الاحتراز منه لا يفطر.
(5) لو ابتلع شيئاً يسيراً كحبة السمسم أفطر عند جمهور العلماء.(2/40)
(6) اتفق العلماء على أنه إذا ابتلع ريق غيره أفطر.
(7) الحقنة الشرجية: مفطرة عند الشافعي ونقله ابن المنذر عن عطاء والثوري وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق. وقال الحسن بن صالح وداود وشيخ الأسلام ابن تيمية: لا.
قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (25/233-234) : "وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله، ومداواة المأمومة والجائفة فهذا مما تنازع فيه أهل العلم، فمنهم من لم يفطّر بشيء من ذلك، ومنهم من فطّر الجميع لا بالكحل، ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير، ومنهم من لم يفطر بالكحل ولا بالتقطير ويفطر بما سوى ذلك.
والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويفسد بها الصوم لكان هذا مما يجب على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيانه، ولو ذكر لعلمه الصحابة وبلّغوه للأمة.
(8) السعوط: إذا وصل إلى الدماغ يفطر عند الشافعي وحكاه ابن المنذر عن الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة ومالك وإسحاق وأبي ثور، وقال داود لا يفطر.
(9) الطعام الباقي بين أسنانه إذا ابتلعه: "قال ابنُ المنذر: أجمع العلماء على أنه لا شىِء على الصائم فيما يبلعه مما يجري مع الريق مما بين أسنانه مما لا يقدر على رده، قال: فإن قدر على رده فابتلعه عمداً، قال أبو حنيفة: لا يفطر، وقال سائر العلماء: يفطر وبه أقول" (1) .
مذاهب العلماء في الاكتحال:
قال النووي: "جائز عندنا ولا يكره ولا يفطر به، سواء وجد طعمه في حلقه أم لا.
وحكاه ابن المنذر عن عطاء والحسن البصري والنخعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي ثور.
وحكاه غيره عن ابن عمر وأنس وابن أبي أوفى الصحابيين، وبه قال داود.
__________
(1) "المجموع" (6/347) .(2/41)
* وقال سليمان التيمي ومنصور بن المعتمر وابن شبرمة وابن أبي ليلى: يبطل صومه.
* وقال قتادة: يجوز بالأثمد ويكره بالصبر.
* وقال مالك وأحمد: يكره، وإن وصل إلى الحلق أفطر" (1) .
فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية:
سُئل عمن أفطر في رمضان؟
فأجاب: إن أفطر في رمضان مستحلاً لذلك، وهو عالم بتحريمه استحلالاً له، وجب قتله. وإن كان فاسقاً عُوقب عن فطره في رمضان بحسب ما يراه الإمام، وأخذ منه حد الزنا، وإن كان جاهلاً عرف بذلك، وأخذ منه حد الزنا، ويرجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام والله أعلم (2) .
من أكل أو شرب ناسياً:
* قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أكل أو شرب ناسياً فلا يفطر، فإنما هو رزقٌ رزقه الله" (3) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة" (4) .
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا نسي فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه" (5) .
وعند البخاري: "من أكل ناسياً وهو صائم فإنما أطعمه الله وسقاه".
مذاهبُ العلماءِ في الأكل وغيره ناسياً:
مذهب الشافعية: لا يُفطر بشيء ناسياً الصوم (6) ، وبه قال الحسن البصري ومجاهد
__________
(1) "المجموع" (6/387-388) .
(2) "مجموع فتاوى" (25/265) .
(3) صحيح.
(4) رواه الدارقطني، وقال النووي: إسناده صحيح أو حسن.
(5) رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخارى.
(6) سواء كان الصوم صوم تطوع أم فريضة وهو الأصح والراجح.(2/42)
وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور وداود وابن المنذر وغيرهم.
* وقال عطاء والأوزاعي والليث: يجب قضاؤه في الجماع ناسياً دون الأكل.
* وقال ربيعة ومالك يفسد صوم الناسي في جميع ذلك، وعليه القضاء دون الكفّارة.
* وقال أحمد: يجب بالجماع ناسياً القضاء والكفارة ولا شيء في الأكل (1) .
* مسألة: إذا أكل الصائم أو شرب أو جامع جاهلاً بتحريمه: فإن كان قريب عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة بحيث يخفى عليه كون هذا مفطراً لم يفطر، وإن كان مخالطاً للمسلمين بحيث لا يخفى عليه تحريمه أفطر.
* مسألة: المكره على الأكل وغيره لا يبطل صومه عند الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: يبطل.
وعند الشافعية: إذا فعل به غيره بأن أجبر على الطعام قهره، أو ربطت المرأة وجومعت، أو جومعت نائمة فلا فطر في كل ذلك. وكذا لو استدخلت ذكره نائماً أفطرت هي دونه" (2) .
وأما ما يُفطر من غير المأكول والمشروب:
(1) فقد اتفقوا على أن من قبّل فأمنى أفطر إلا ما روي عن ابن حزم من الخلاف.
(2) واختلفوا إذا أمذى، فذهب مالك وأحمد إلى أنه مفطر وعليه القضاء وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنه مفطر ولا قضاء عليه.
"سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: عما إذا قبل زوجته، أو ضمها، فأمذى هل يفسد صومه؟ أم لا؟ فأجاب يفسد الصوم بذلك، عند أكثر العلماء" (3) .
__________
(1) "المجموع" (6/352-353) .
(2) "المجموع" (6/353-355) .
(3) "مجموع الفتاوى" (25/265) .(2/43)
"القبلة للصائم":
اختلفوا في جواز القبلة للصائم:
* فحرّمَها الشافعي وأبو حنيفة على من تحرك شهوته.
* وحرمها مالك مطلقاً.
* وعن أحمد روايتان مثل المذهبين.
* ومن كرهها مطلقاً قال: لأنها مدعاة إلى الجماع.
* ومن أجازها مطلقاً تمسك بما روي من حديث عائشة وأم سلمة - المتفق عليه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان يُقبّل وهو صائم".
مذاهب العلماء في القبلة للصائم:
قال النووي في "المجموع" (6/397-398) : "مذهبنا كراهتها - أي كراهة تحريمية - لمن حركت شهوته ولا تكره لغيره والأولى تركها، فإن قبل من تحرك شهوته ولم ينزل لم يبطل صومه.
قال ابنُ المنذر: رخص في القبلة عمر بن الخطاب وابن عباس وأبو هريرة وعائشة وعطاء والشعبي والحسن وأحمد وإسحاق، قال: وكان سعد بن أبي وقاص لا يرى بالمباشرة للصائم بأساً.
وكان ابنُ عمر ينهى عن ذلك.
وقال ابن مسعود: يقضي يوماً مكانه.
وكره مالك القبلة للشباب والشيخ في رمضان.
وأباحتها طائفة للشيخ دون الشاب ممن قاله ابن عباس.
هذا نقل ابنُ المنذر ومذهب أبي حنيفة كمذهبنا.
وحكى الخطابي عن سعيد بن المسيّب أن من قبل في رمضان قضى يوماً مكانه قال:(2/44)
وسائر الفقهاء: القبلة لا تفطر إلا أن يكون معها إنزال، فإن أنزل معها أفطر ولزمه القضاء دون الكفارة" (1) .
القيءُ للصائم
* قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يفطر من قاء، ولا من احتلم، ولا من احتجم" (2) .
* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض" (3) .
وعن أبي هريرة: إذا قاء فلا يفطر إنما يخرج ولا يولج.
وقال ابن عباس وعكرمة: الصوم مما دخل وليس مما خرج.
* قال النووي (6/344-345) :
مذاهبُ العلماءِ في القيء:
"مذهبنا أن من تقايأ عمداً أفطر ولا كفارة عليه إن كان في رمضان.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من تقايأ عمداً أفطر.
* قال علي وابن عمر وزيد بن أرقم وعلقمة والزهري ومالك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي: لا كفارة عليه وإنما عليه القضاء.
* قال عطاء وأبو ثور: عليه القضاء والكفارة. قال: وبالأوّل أقول. قال: وأمّا من ذرعه القيء فقال علي وابن عمر وزيد بن أرقم ومالك والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي: لا ييطل صومه. قال: وهذا قول كل من يحفظ عنه العلم وبه أقول".
__________
(1) "إرشاد المسترشد" (ص 310) لمحمد ولي بن المنذر الأنصاري.
(2) حسن: رواه أبو داود عن رجل وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7742) .
(3) صحيح: رواه أبو داود والترمذي والنسائى وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة، وصححه الألبانى في "صحيح الجامع" رقم (6243) ، "الأرواء" (930) ، "حقيقة الصيام" (13-14) . وقال ابن حجر في "الفتح" (4/206) : قال البخارى لم يصح وعبد الله بن سعيد المقبري ضعيف جداً، وقال أبو داود سمعت أحمد يقول: ليس من ذا شيء. ورواه أصحاب السنن والحاكم وقال الترمذي غريب لا نعرفه وسألت محمداً عنه فقال: لا أراه محفوظاً، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ولا يصح إسناده ولكن العمل عليه عند أهل العلم.(2/45)
قال ابنُ حجر (4/206) : "أما القيء فذهب الجمهور إلى التفرقة بين من سبقه فلا يفطر وبين من تعمده فيفطر، ونقل ابن المنذر الإجماع على بطلان الصوم بتعمد القيء، لكن نقل ابن بطال عن ابن عباس وابن مسعود لا يفطر مطلقاً وهي إحدى الروايتين عن مالك. وعطاء والأوزاعي وأبو ثور فقالوا يقضي ويكفّر، ونقل ابن المنذر أيضاً الإجماع على ترك القضاء على من ذرعه القيء ولم يتعمده إلا في إحدى الروايتين عن الحسن".
الحجامة للصائم
عن ابن عباس وعكرمة: الصوم مما دخل وليس مما خرج.
* قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفطر الحاجم والمحجوم" (1) .
* وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم" (2) .
* وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "احتجم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو صائم" (3) .
* سُئل أنس بن مالك رضي الله عنه: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف" (4) . وزاد [على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] .
وكان ابن عمر يحتجم وهو صائم، ثم تركه فكان يحتجم بالليل.
وعن أم علقمة: كنا نحتجم عند عائشة فلا تنهى.
* عن أبي سعيد الخدري قال: "رخص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القبلة للصائم والحجامة" (5) .
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن ثوبان وهو متواتر (رواه 18 صحابي) .
(2) رواه البخاري. وقال الحافظ ابن حجر (4/15) : "والحديث صحيح لا مرية". فلا يلتفت إلى قول ابن القيم أنه لا يصح.
(3) رواه البخاري وأبو داود والترمذي وابن أبي شيية والطحاوي والبيهقي.
(4) رواه البخاري.
(5) صحيح: أخرجه الطبراني والدارقطني وصححه ابن حزم، والألباني في "إرواء الغليل" رقم (931 ج 4/74) ، وأخرجه أيضاً النسائي في "الكبرى" وابن خزيمة. وقال الدارقطني: إسناده كلهم ثقات.(2/46)
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/155) :
وقال ابن حزم: صح حديث "أفطر الحاجم والمحجوم" بلا ريب، لكن وجدنا من حديث أبي سعيد "رخص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحجامة للصائم"، وإسناده صحيح فوجب الأخذ به، لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجماً أو محجوماً.
قال الحافظ ابنُ حجر في "الفتح" (4/206) :
"أما الحجامة فالجمهور على عدم الفطر بها مطلقاً، وعن علي وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور يفطر الحاجم والمحجوم، وأوجبوا عليهما القضاء، وشذ عطاء فأوجب الكفارة أيضاً، وقال بقول أحمد من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وأبو الوليد النيسابوري وابن حبان. ونقل الترمذي عن الزعفراني أن الشافعي علق القول على صحة الحديث، وبذلك قال الداودي من المالكية".
مذاهب العلماء في حجامة الصائم:
قال النوري في "المجموع" (6/389-393) : "مذهبنا أنه لا يفطر بها لا الحاجم ولا المحجوم، وبه قال ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وأم سلمة وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والشعبي والنخعي ومالك والثوري وأبو حنيفة وداود وغيرهم".
قال صاحب الحاوي: وبه قال أكثر الصحابة وأكثر الفقهاء.
* وقال جماعة من العلماء الحجامة تفطر، وهو قول علي بن أبي طالب وأبي هريرة وعائشة والحسن البصري وابن سيرين وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة والحاكم.
* قال الخطابي: قال أحمد وإسحاق: يفطر الحاجم والمحجوم وعليهما القضاء دون الكفارة، وقال عطاء: يلزم المحتجم في رمضان القضاء والكفارة.
واحتج هؤلاء بحديث ثوبان قال: سمعت رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "أفطر الحاجم(2/47)
والمحجوم". رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة وإسناد أبي داود على شرط مسلم.
* وعن شدّاد بن أوس: أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رجل بالبقيع وهو يحتجم وهو آخذ بيدي لثمان عشرة خلت من رمضان فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم". رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة. وعن رافع بن خديج عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أفطر الحاجم والمحجوم" رواه الترمذي وقال حديث حسن.
وهذا الحديث صححه لفيف من العلماء، فحديث أبي موسى عند الحاكم قال عنه ابن المديني: صحيح، وحديث ثوبان قال عنه ابن حنبل: أصح ما روي في الباب. وعن علي بن المديني: لا أعلم فيها أصح من حديث رافع بن خديج.
قالما الحاكم: فقد حكم أحمد لأحد الحديثين بالصحة، وعلي للآخر بالصحة، وحكم إسحاق بن راهويه لحديث شداد بن أوس بالصحة وقال: هذا إسناد تقوم به الحجة. قال إسحاق: وقد صح هذا الحديث بأسانيد وبه نقول.
قال الحاكم: رضي الله عن إسحاق فقد حكم بالصحة لحديث صحته ظاهرة وقال به.
وصحح الدارمي: حديث شداد وثوبان: قال: وبه أقول. قال: وسمعت أحمد بن حنبل يقول: صح عندي حديث ثوبان وشداد.
واحتج الجمهور بحديث ابن عباس "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وهو محرم وأحتجم وهو صائم" رواه البخاري.
* وحديث ابن أبي ليلى قال: "حدثني رجل من أصحاب النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الحجامة والمواصلة، ولم ينه عنهما إلا إبقاء على أصحابه".
رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم. واحتج به أبو داود والبيهقي وغيرهما في أن الحجامة لا تفطر.
* وعن أنس قال: "أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "أفطر هذان" ثم رخص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد في الحجامة(2/48)
للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم" رواه الدارقطني وقال: رواته كلهم ثقات، قال: ولا أعلم له علة.
قال البيهقي: وروينا في الرخصة في ذلك عن سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وابن عباس والحسين بن علي وزيد بن أرقم وعائشة وأم سلمة - رضي الله عنهم -، واستدل الأصحاب بالقياس على الفصد والرعاف.
وقد رد العلماء على حديث "أفطر الحاجم والمحجوم" بأجوبة:
(أحدها) ما ذكره الشافعي في "الأم" وتابعه عليه الخطابي والبيهقي أنه منسوخ بحديث ابن عباس وغيره.
فحديث شداد بن أوس قال الشافعي: وابن عباس إنما صحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محرماً في حجة الوداع سنة عشر من الهجرة ولم يصحبه محرماً قبل ذلك، وكان الفتح سنة ثمان بلا شك، فحديث ابن عباس بعد حديث شداد بسنتين وزيادة، قال: فحديث ابن عباس ناسخ.
قال البيهقي: ويدل على النسخ أيضاً قوله في حديث أنس "ثم رخص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد في الحجامة" قال: وحديث أبي سعيد الخدري السابق أيضاً فيه لفظ الترخيص، وغالب ما يستعمل الترخيص بعد النهي.
(الجواب الثاني) أجاب به الشافعي أيضاً أن حديث ابن عباس أصح، ويعضده أيضاً القياس فوجب تقديمه.
* قال ابن خزيمة: ثبتت الأحاديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أفطر الحاجم والمحجوم" فقام بعض من خالفنا في هذه المسألة وقال: لا يفطر لحديث ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "احتجم وهو محرم صائماً" ولا حجة له في هذا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما احتجم وهو محرم صائم في السفر لأنه لم يكن قط محرماً مقيماً ببلده، والمسافر إذا نوى الصوم له الفطر بالأكل والشرب والحجامة وغيرها، فلا يلزم من حجامته أنها لا تفطر فاحتجم وصار مفطراً، وذلك جائز. هذا كلام ابن خزيمة حكاه الخطابي في "معالم السنن" ثم قال: وهذا تأويل باطل، لأنه قال: احتجم وهو صائم فأثبت له الصيام مع الحجامة، ولو بطل صومه بها لقال: أفطر بالحجامة كما يقال: أفطر الصائم بأكل الخبز، ولا يقال: أكله وهو(2/49)
صائم قلت: ولأن السابق إلى الفهم من قول ابن عباس "احتجم وهو صائم" الإخبار بأن الحجامة لا تبطل الصوم، ويؤيده باقي الأحاديث المذكورة والله أعلم" انتهى من "المجموع" (6/392-394) .
الجماع في نهار رمضان
قال تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يين الله آياته للناس لعلهم يتقون) [البقرة: 187] .
* عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "بينما نحن جلوس عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت: قال: مالك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟
قال: لا. قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا. قال: فمكث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبينا نحن على ذلك أُتِي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَق (1) فيها تمر - والعرق: المكتل - قال: أين السائل؟ فقال: أنا. قال: خذ هذا فتصدق به. فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحَرَّتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت أنيابه ثم قال: أطعمه أهلك" (2) .
* عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "إن رجلاً أتى النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال إنه احترق قال: مالك؟ قال: أصبت أهلي في رمضان. فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكتل يُدعى العرق، فقال: أين المحترق؟ قال: أنا. قال: تصدق بهذا" (3) .
قال النووي (6/348-350) : "أجمعت الأمة على تحريم الجماع في القبل
__________
(1) العرق: هو المكتل الضخم وهو الزبيل وسمي عرقا لأنه يضفر عرقه عرقة، والعرقة الضفيرة من الخوص.
(2) رواه البخاري واللفظ له ومسلم وأحمد ومالك والنسائي والدارقطني وابن خزيمة وأبو عوانة والطحاوى والبزار.
(3) رواه البخاري واللفظ له ورواه مسلم مطولاً.(2/50)
والدبر على الصائم، وعلى أن الجماع يبطل صومه للآيات الكريمة وللأحاديث الصحيحة، ولأنه مناف للصوم فأبطله كالأكل، وسواء أنزل أم لا، فيبطل صومه في الحالين بالإجماع لعموم الآية والأحاديث ولحصول المنافي".
وفيه مسائل:
(1) من أفسد صوماً واجباً بجماع فعليه القضاء سواءً كان في رمضان أوغيره وهذا قول أكثر الفقهاء. قال العبدري: وبإيجاب قضائه قال جميع الفقهاء سوى الأوزاعي فقال: إن كفّر بالصوم لم يجب قضاؤه، وإن كفر بالعتق أو الإطعام قضاه.
(2) أن الكفارة تلزم من جامع في الفرج عامداً أنزل أو لم ينزل في قول عامة أهل العلم، وحكي عن الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير: لا كفارة عليه.
(3) الجماع دون الفرج إذا اقترن به الإنزال: فقال أحمد في رواية عنه ومالك وعطاء والحسن وابن المبارك وإسحاق: عليه الكفارة.
والثانية لا كفارة عليه: وهي رواية عن أحمد وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة.
(4) لا فرق بين كون الفرج قبلاً أو دبراً من ذكر أو أنثى، وبه قال أحمد والشافعي، وقال أبو حنيفة في أشهر الروايتين عنه: لا كفارة في الوطء في الدبر.
(5) الوطء في فرج البهيمة - قبلها أو دبرها - موجب للكفارة في أصح الروايتين عند أحمد والشافعي.
(6) ويفسد صوم المرأة بالجِماع. فهل تلزمها الكفارة؟ على قولين:
تلزمها: وهو اختيار أبي بكر وقول مالك وأبي حنيفة وأبي ثور وابن المنذر وإحدى الروايتين عن أحمد والشافعي ورجحه في "الفتح" ابن حجر.
* والقول الآخر: لا تلزمها، وهو قول للشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وهو قول الحسن.
(7) إن تساحقت امرأتان فلم ينزلا، فلا شيء عليهما؛ وإن أنزلتا فسد صومهما(2/51)
وأصح الوجهين عند الحنابلة: لا كفّارة عليهما، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.
(8) وإذا جامع في أول النهار ثم مرض أو جن، أو كانت امرأة فحاضت أو نفست في أثناء النهار، لم تسقط الكفارة. وبه قال أحمد ومالك والليث وابن الماجشون وإسحاق، وقال أصحاب الرأي: لا كفارة عليهم، وللشافعي قولان.
(9) ومن جامع يظن أن الفجر لم يطلع فتبين أنه كان قد طلع، فعليه عند أحمد القضاء والكفارة، وقال أصحاب الشافعي: لا كفارة عليه.
(10) إذا استمنى بيده - وهو: استخراج المني - أفطر.
(11) إذا نظر إلى امرأة وتلذذ فأنزل لم يفطر عند الشافعي وسفيان الثوري وأبو الشعثاء وأبو حنيفة وأبو يوسف وابن المنذر.
* وعند الحسن: عليه القضاء والكفارة. وعن مالك روايتان:
إحداهما: كالحسن.
والثانية: إن تابع النظر فعليه القضاء والكفارة وإلا فالقضاء.
(12) لو قبل امرأة وتلذذ فأمذى، قال مالك وأحمد: يفطر، وعند الشافعية: لا يفطر، وبه قال الحسن البصري والشعبي والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو ثور قال ابن المنذر: وبه أقول.
(13) مذاهب العلماء فيمن كرر جماع زوجته في يوم من رمضان:
* عليه كفارة واحدة بالجماع الأول، سواء كفر عن الأول أم لا، وهو قول الشافعي ومالك وأبي حنيفة لأنه لم يصادف صوماً منعقداً بخلاف الجماع الأول.
* وعن أحمد: إن كان الوطء الثاني قبل تكفيره عن الأول لزمه كفارة أخرى لأنه وطء محرم فأشبه الأول.
(14) مذاهب العلماء فيمن وطء في يومين أو أيام من رمضان:
* عند الشافعي ومالك وأحمد في أصح الروايتين عنده: يجب لكل يوم كفارة سواءً كفر عن الأول أم لا.
* وعند أبي حنيفة: إن وطيء في الثاني قبل تكفيره عن الأول كفته كفارة واحدة،(2/52)
وإن كفر عن الأول فعنه روايتان، قال: ولو جامع في رمضانيين ففي رواية عنه أنه كرمضان واحد، وفي رواية تتكرّر الكفارة.
(15) فيمن رأى هلال رمضان وحده ولم يقبل القاضي شهادته:
فلو صام وجامع في ذلك اليوم فعليه الكفارة وهو مذهب عامة العلماء.
وقال عطاء والحسن وابن سيرين وأبو ثور وإسحاق بن راهويه: لا يلزمه الصوم.
وقال أبو حنيفة: يلزمه الصوم، ولكن إن جامع فلا كفارة.
ومن رأى هلال شوال وحده يلزمه الفطر وقال به أكثر العلماء.
وقال مالك والليث وأحمد: لا يجوز له الأكل فيه.
(16) إن كان الزوج مجنوناً فوطئها وهي صائمة مختارة فعلى قول من يقول على كل واحد كفارة وهو قول الجمهور لزمتها الكفارة في مالها، ولا يتحملها الزوج لأنه ليس أهلاً للتحمل، كما لا تلزمه عن فعل نفسه.
* وإن قلنا تجب كفارة عنه وعنها فلا شيء عليه ولا عليها.
(17) قال النووي: "لو كان الزوج مسافراً صائماً وهي حاضرة صائمة فإن أفطر بالجماع بنية الترخص فلا كفارة عليه عن نفسه بلا خلاف، وإن لم يقصد به الترخص فوجهان: أصحهما: لا كفارة عليه أيضاً، لأنه لا يلزمه الصوم فصار كقاصد الترخص.
ولو قدم المسافر مفطراً فأخبرته أنها مفطرة وكانت صائمة فوطئها، فإن قلنا الكفارة عنه فقط فلا شيء عليه ولا عليها، وإن قلنا عنه وعنها وجبت الكفارة عليها في مالها لأنها غرته - هكذا قالوه -.
(18) الوطء بزنا أو شبهة أو نكاح فاسد سواء في إفساد الصوم ووجوب القضاء والكفارة وإمساك بقية النهار.
(19) إذا وطيء الصائم في نهار رمضان وقال: جهلت تحريمه، فإن كان ممن يخفى عليه لقرب إسلامه ونحوه فلا كفارة وإلّا وجبت.(2/53)
(20) مذاهب العلماء في المباشرة فيما دون الفرج - القُبل والدبُر -:
* إن لم ينزل فلا شيء عليه.
* وإن أنزل فعليه القضاء ولا كفارة عند الشافعي وأبي حنيفة وهو الراجح والأصح.
* وقال داود: كل إنزال تجب به الكفارة حتى الاستمناء إلا إذا كرر النظر فأنزل فلا قضاء ولا كفارة.
وقال مالك وأبو ثور والزهري والأوزاعي والثوري وإسحاق وعطاء والحسن وابن المبارك: عليه القضاء والكفارة.
* وقال أحمد: يجب بالوطء فيما دون الفرج الكفارة.
(21) قال ابن تيمية في "حقيقة الصيام" (ص 26-27) : "المجامع الناسي فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، ويذكر ثلاث روايات عنه:
إحداها: لا قضاء عليه ولا كفارة، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والأكثرين.
والثانية: عليه القضاء بلا كفارة، وهو قول مالك.
والثالثة: عليه الأمران، وهو المشور عن أحمد.
والأول أظهر، فإنه قد ثبت بدلالة الكتاب والسُنة أن من فعل محظوراً مخطئاً أو ناسياً لم يؤاخذه الله بذلك، وحينئذ يكون بمنزلة من لم يفعله، فلا يكون عليه إثم ومن لا إثم عليه لم يكن عاصياً ولا مرتكب لما نهي عنه، وحينئذ فيكون قد فعل ما أمر به ولم يفعل ما نهي عنه، ومثل هذا لا يبطل عبادته".
مسائل:
(1) لو رأى الصائم في رمضان مشرفاً على الغرق ونحوه ولم يمكنه تخليصه إلا بالفطر ليتقوى فأفطر لذلك جاز، بل هو واجب عليه ويلزمه القضاء.
(2) الإمساك تشبيهاً بالصائمين من خواص رمضان كالكفارة، فلا إمساك على متعدٍ بالفطر في نذر أو قضاء أو كفارة، كما لا كفارة عليه.(2/54)
(3) إذا نام جميع النهار وكان قد نوى من الليل صحّ صومه.
(4) لو نوى من الليل ولم ينم النهار ولكن كان غافلاً عن الصوم في جميعه صح صومه بالإجماع.
(5) لو نوى الصوم في الليل ثم شرب دواء فزال عقله نهاراً بسببه، قال البغوي: إن قلنا لا يصح صوم المغمى عليه فهذا أولى، وإلا فوجهان: أصحهما: لا يصح، لأنه بفعله.
قال المتولي: ولو شرب المسكر ليلاً وبقي سكره جميع النهار لم يصح صومه وعليه القضاء في رمضان وإن صحا في بعضه.
(6) مذاهب العلماء فيمن أفطر بغير الجماع في نهار رمضان عدواناً:
* إذا قضى يوماً كفاه عن الصوم: وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء.
* وحكى ابن المنذر وغيره عن ربيعة بن عبد الرحمن أنه يلزمه أن يصوم اثني عشر يوماً مكان كل يوم؛ لأن السنة اثنا عشر شهراً.
* وقال سعيد بن المسيب: يلزمه صوم ثلاثين يوماً.
* وقال النخعي: يلزمه صوم ثلاثة آلاف يوم - كذا حكاه ابن المنذر -.
* وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود - رضي الله عنهما -: لا يقضيه صوم الدهر.
* والمشهور عن مالك أنه يوجب الكفارة عن فطر لمعصية قاله النووي.
الركن الثالث: النية
وقت نيّة الصوم (*)
تقديم النيّة في الصوم
لم يختلف العلماء في جواز تقديم النية في الصوم كما اختلفوا في الوضوء والصلاة، والسبب في ذلك أمران:
__________
(*) بحث النية بأكمله اكتفينا فيه بجمع الشيخ عمر الأشقر.(2/55)
1- النصوص الصريحة الدالة على أنَّ محلَّ النية في الصوم هو الليل، وسيأتي بيانها.
2- أن اشتراط مقارنة النيّة لأول الصوم فيه مشقّة بالغة، وحرج شديد والله يقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78] ، ووجه المشقة والحرج أنَّ أول الصوم يأتي في وقت غفلة من الناس، ولعسر مراقبة أول الصوم وهو الفجر (1) .
تأخير النية في الصوم
اختلف العلماء في جواز تأخير النية في بعض أنواع الصوم، وسأحاول تحقيق مذاهب العلماء في ذلك، والراجح منها.
1- القضاء والكفّارة:
لا يجوز تأخير نيّة صوم الكفارة وقضاء رمضان، ولا يصحّ صومهما إلا بنيّة من الليل عند كافة العلماء.
قال النووي: "ولا نعلم أحداً خاف في ذلك" (2) .
2- صوم رمضان:
القائلون بجواز صومه بنيّة من النَّهار:
ذهب الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - وأصحابه إلى أن صوم رمضان يتأدى بنية من بعد غروب الشمس إلى منتصف النَّهار" (3) .
وخالف زفر (4) من الأحناف في المريض والمسافر إِذا صاما رمضان، قال: لابدَّ لهما
__________
(1) راجع في هذا الموضوع "الإحكام في آيات الأحكام" لابن العربي (2/564، 4/1908) ، "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص 24) ، "إرشاد الساري" (1/54) ، "المحلى" لابن حزم (6/162) ، "الذخيرة" (1/243) .
(2) "المجموع" (6/337) .
(3) "فتح القدير" لابن الهمام (2/48) ، "تحفة الفقهاء" (1/534) ، "المغني" (3/91) ، "الإفصاح" (1/157) ، "حاشية ابن عابدين" (2/92) ، "بدائع الصنائع" (2/ 85) .
(4) هو: زفر بن الهذيل من تميم، فقيه كبير من أصحاب أبي حنيفة، أصله من أصبهان، أقام بالبصرة، وولي قضاءها، وتوفي بها سنة 158 هـ، "شذرات الذهب" (1/243) ، "العبر" (1/299) .(2/56)
من تبييت النيّة من الليل؛ لأنه في حقهما كالقضاء، لعدم تعينه عليهما، ولم يرتض الأحناف منه ذلك؛ لأن صوم رمضان متعينّ بنفسه على الكلّ، غير أنه جاز لهما تأخيره تخفيفاً للرخصة، فإذا صاما وتركا الترخيص التحقا بالمقيم الصحيح (1) .
وقد استدل الأحناف بأدلّة كثيرة نجملها فيما يأتي:
1- احتجوا بحديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث رجلا ينادي في النّاس يوم عاشوراء: "أن من أكل فليتم، أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل" (2) .
ولا يتم لهم الاستدلال بالحديث إلا على القول بأن صوم عاشوراء كان واجبا، وقد نازع في ذلك بعض مخالفيهم (3) .
وإذا حققنا أن صوم عاشوراء كان واجبا فهل يتم للأحناف الاستدلال بالحديث على جواز صيام رمضان بنية من النهار؟
قال منازعوهم: لا؛ لأنَّ الحديث منسوخ، فلا يصحّ الاستدلال به. إلاَّ أن الأحناف قالوا: لا يلزم من كون الحديث منسوخا أن تنسخ كل الأحكام التي تتعلق به، فالحديث دل على شيئين: أحدهما: وجوب صوم عاشوراء، والثاني: أن الصوم الواجب في يوم بعينه يصحُّ بنية من نهار، والمنسوخ الأول: ولا يلزم من نسخه نسخ الثاني (4) .
ومع ذلك فإنّني أرى أنَّ الحديث لا تقوم به حُجة، لأن المتنازع فيه في صوم الفرض المقدور هل يجوز أن ينويه من النهار بلا عذر أم الذي دل عليه الحديث؟ فهو صحة صوم من لم يعلم وجوب الصوم عليه من الليل، كالذي لم يبلغه أن اليوم أول رمضان إلا بعد أن أصبح، وقد احتج ابن حزم بالحديث على صحة صوم من لم يعلم وجوب الصوم إلا بعد طلوع الفجر كما سيأتي.
__________
(1) "فتح القدير" (2/48) .
(2) رواه البخاري "فتح الباري" (4/140) .
(3) وهو الأقوى.
(4) "حاشية السندي على النسائي" (4/193) .(2/57)
وقد أجاب النووي بجواب آخر حيث يقول: "وعلى فرض وجوبه فكان في ابتداء فرض عليهم من حين بلغهم، ولم يخاطبوا بما قبله، كأهل قباء في استقبال الكعبة، فإن استقبالها بلغهم في أثناء الصلاة، فاستداروا وهم فيها من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة، وأجزأتهم صلاتهم حيث لم يبلغهم الحكم إلا حينئذ، وإن كان الحكم باستقبال القبلة قد سبق في حق غيرهم قبل هذا" (1) .
2- استدل صاحب الهداية من الأحناف بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدما شهد الأعرابي برؤية الهلال: "إلا من أكل فلا يأكل بقية يومه، ومن لم يأكل فليصم" (2) .
وقد اختلط على المؤلف حديث الأعرابي هذا بحديث سلمة بن الأكوع (3) في صوم عاشوراء، إذ هذا اللفظ الذي ذكره صاحب الهداية لم يذكر في حديث الأعرابي، وحديث الأعرابي أخرجه أصحاب السنن وابن خزيمة (4) ، وابن حبان (5) ، والدارقطني، والبيهقي، والحاكم، عن ابن عباس أن أعرابياً جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إني رأيت الهلال، فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال: نعم. قال: "أتشهد أنَّ محمداً رسول الله؟ " قال: نعم. قال: "فأذّن في الناس يا بلال أن يصوموا غداً" (6) .
فرؤية الأعرابي وإخباره للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت ليلاً، والأمر بصومه كان في الليل، كما هو واضح من قوله: "أن يصوموا غداً"، وقد استغرب ابن الهمام ما ذكره صاحب الهداية (7) .
__________
(1) "المجموع" (6/337) .
(2) "الهداية" (2/43) .
(3) سلمة بن عمرو بن سنان الأكوع صحابي، كان شجاعاً رامياً عداء يسبق الخيل، من الذين بايعوا تحت الشجرة، له في الصحيحين (77) حديثاً، توفي بالمدينة سنة 47 هـ.
راجع: "تهذيب التهذيب" (4/150) ،"خلاصة تهذيب الكمال" (1/404) ، "الكاشف" (1/385) .
(4) هو محمد بن إسحق بن خزيمة السلمي، إمام نيسابور في عصره، ولد وتوفي بنيسابور (223- 311 هـ) ، كان فقيهاً مجتهداً عالماً بالحديث، تزيد مؤلفاته على (140) مؤلفاً.
(5) هو محمد بن حبان التميمي أبو حاتم البستي، مؤرخ محدث، من مؤلفاته "المسند الجامع الصحيح" المعروف بصحيح ابن حبان، وفاته في سنة (354 هـ) .
را جع: "شذرات الذهب" (3/6) ، "طبقات الحفاظ" (ص 374) ، "الأعلام" (6/306) .
(6) "تلخيص الحبير" (2/187) .
(7) "فتح القدير" (2/43) .(2/58)
3- واحتجوا بقرله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] .
فقد أباح للمؤمنين الأكل والشرب والجماع في ليالي رمضان إلى طلوع الفجر، وأمر بالصيام عنها بعد طلوع الفجر: متأخراً عنه، لأنَّ كلمة "ثم" للتعقيب مع التراخي، فكان هذا أمراً بالصوم متراخياً عن أول النهار، والأمر بالصوم أمر بالنيّة، إذ لا صحة للصوم شرعا بدون النية، فكان أمراً بالصوم بنية متأخرة عن أوّل النهار، ومن أتى به فقد أتى بالمأمور به، فيخرج عن العهدة، وفيه دلالة على أنَّ الإمساك في أول النَّهار يقع صوماً وجدت فيه النية أو لم توجد؛ لأن إتمام الشيء يقتضي سابقية وجود بعض منه، ولأنه صام في وقت متعين شرعاً لصوم رمضان لوجود ركن الصوم مع شرائطه.
هكذا احتجّ صاحب بدائع الصنائع بالآية الكريمة (1) .
ونحن نخالفه في عدّة أمور:
أولاً: نخالفه في أن "الأمر بالصوم أمر بالنيّة"، وتعليله لذلك بأنّه "لا صحة للصوم شرعاً بدون النية". ذلك أن وجوب النية في الصوم غير مأخوذ من مجرد الأمر بالصوم، بل من أدلّة أخرى منفصلة، كقوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة: 5] . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنما الأعمال بالنيّات" (2) ، وبناء على ذلك فليس الأمر بالصوم أمرا بالنية.
ثانياَ: إذا تقرّر الأمر السابق بطل مابناه عليه من أن الشارع أمر بالصوم بنية متأخرة عن أول النهار، ولو كان قوله هذا حقا لكان الأفضل أن نأتي بالنيّة بعد طلوع الفجر، وهذا لم يقل به أحد، حتى ولا الأحناف الذين يجيزون النية من النهار.
ثالثا: أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينّ هذه الآية كما بين غيرها من الآيات بقوله: "لا صوم لمن لم يبيّت الصيام من الليل"، فوجب أن نأخذ ببيانه.
__________
(1) "بدائع الصنائع" (2/86) .
(2) صحيح.(2/59)
رابعاً: ونخالفه في أن الإمساك في أول النهار يقع صوما وجدت فيه النية أم لم توجد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّما الأعمال بالنيات"، وهذا لم ينو فكيف يقع صوما ولم توجد منه نيّة؟ ويلزم بناء على قوله: أنَّ من أصبح ناويا الإفطار في رمضان أن يكون صائماً إذا لم يأكل أو يشرب أو يجامع.
وتعليله بأنه صام في وقت متعين شرعاً يلزم منه أن من صلى ركعتين في آخر وقت الصبح بحيث لم يبق من الوقت إلاَّ ما يكفي لصلاة الفرض، ولم ينو بهما فرض الوقت أن تجزيا عن صلاة الفريضة، لأن الوقت أصبح متعيناً لصلاة الصبح، ولا يصح منه غيرهما، وهم لا يقولون بذلك.
4- واحتجوا بالقياس: ولهم في القياس طريقان:
الأول: قياس الفرض على النفل (1) ، فالنفل صح فيه أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينويه من النهار. وقال منازعوهم: هذا قياس لا يصحّ، لأننا عهدنا من الشارع أنه يخفف في النوافل ما لا يخفف في الفرائض.
ففي الصلاة مثلاً سامح الشارع في ترك القيام في صلاة التطوع، وترك استقبال القبلة فيه في السفر تكثيراً له بخلاف الفرض (2) .
ثم نقول لهم: صحَّ الحديث في أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحدث الصوم بنيّة من النَّهار في النوافل، وصحَّ أن أكثر من صحابي قال: "لا صيام لمن لم يبيت الصوم من الليل" أو نحو هذا، وهذا له حكم المرفوع، لأنه لا يقال بالرأي بل الذي نرجّحه صحته مرفوعاً إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله، كما سيأتي بيانه. فلمّا صح هذا وهذا كان الواجب ألا نضرب حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعضه ببعض، بل علينا أن نوفق بين الأحاديث، وهذا ما فعلناه
عندما حملنا حديث إحداثة النية من النهار على صوم النفل، بل هو صريح في ذلك، وحملنا حديث "لا صوم لمن لم يييت الصيام من الليل" على صيام الفرض.
الثاني: قياس النيّه المتأخرة على المتقدمة من أوّل الغروب والجامع بينهما "التيسير ودفع الحرج" (3) .
__________
(1) "فتح القدير" (2/48) .
(2) "المغني" لابن قدامة (3/92) .
(3) "فتح القدير" (2/48) .(2/60)
قالوا: "الأصل أن النيّه لا يصح اعتبارها إلا بالمقارنة، أو مقدمة مع عدم اعتراض ما ينافي المنوي بعدها قبل الشروع فيه، فإنه يقطع اعتبارها على ما قدمنا في شروط الصلاة" (1) .
ولم يجب فيما نحن فيه، لا المقارنة وهو ظاهر، فإنه لو نوى بعد الغروب أجزأه، ولا عدم تخلل المنافي لجوازالصوم بنية يتخلل بينها وبينه الأكل والشرب والجماع مع انتفاء حضورها بعد ذلك إلى انقضاء يوم الصوم (2) . ثم أخذ يبين الحرج الذي سينشأ من عدم إجازة النية من النهار: "فكثير من النّاس يقع في الحرج لو لم تجز من النهار، كالذي نسيها ليلاً، وفي حائض طهرت قبل الفجر ولم تعلم إلا بعده، وهو كثير جداً، فإن عادتهن وضع الكرسف عشاء، ثم النوم، ثم رفعه بعد الفجر، وكثير ممن تفعلن ذلك تصبح فترى الطهر، وهو محكوم بثبوته قبل الفجر، ولذا نلزمها بصلاة العشاء، وفي صبي بلغ بعده، ومسافر أقام، وكافر أسلم" (3) .
ثم قال: "فيجب القول بصحتها نهاراً، وتوهم أنَّ مقتضاه قصر الجواز على هؤلاء، أن هؤلاء لا يكثرون كثرة غيرهم بعيد عن النظر ... " (4) .
فهو بذلك يثبت أن "المعنى الذي لأجله صحت النية المتقدمة لذلك التيسير ودفع الحرج موجود في النية المتأخرة ... " (5) .
والإجابة على ذلك أن القول بهذا يلزمهم القول بإجازة الصوم بنيّة من النهار قبل الزوال وبعده، لا كما يقولون بأن النية بعد الزوال لا تصح، وذلك لأنَّ الحرج قد يوجد بعد الزوال، فقد يبلغ الصبي، ويسلم الكافر، ويفيق المجنون، ويصحو المغمى عليه، وهم لا يقولون بذلك.
ثمّ إنَّ إجازة صوم هؤلاء من النهار بلا نية على القول به كما هو مذهب ابن حزم
__________
(1) المصدر السابق.
(2) المصدر السابق.
(3) "فتح القدير" (2/48) ، بتصرف يسير.
(4) المصدر السابق.
(5) المصدر السابق.(2/61)
خاص بهم للضرورة (1) ، وقد احتج لمذهبه هذا بحديث صيام عاشوراء حيث أمر من أكل بالإمساك، ومن لم يأكل بالصيام، أما الذين كانوا قادرين على النية من الليل فلم يفعلوا فلا حرج في إيجاب النية عليهم من الليل لإباحة النية في الليل بطوله، وقد تابع ابن حزم في مذهبه الشوكاني من المتأخرين (2) .
إلا أن كثيراً من الفقهاء نازع في إيجاب النية على الكافر يسلم في نهار يوم الصيام، والصبي يبلغ أثناءه، لكونهما غير مُكَلفَينِ من أوله، فهم يرون أن الصيام عليهما غير واجب، والحائض لها أن تنوي من الليل إذا علمت أنَّ عادتها الطهر قبيل الفجر.
الفريق الموجب للنية من الليل في صوم رمضان:
وذهب مالك وأحمد وإسحق (3) والشافعي وداود وجماهير العلماء من السلف والخلف إلى أنه لا يصح صوم رمضان إلا بنية من الليل (4) .
أدلتهم:
أولاً: احتجوا بما رواه النسائي (5) من طريق أحمد بن أزهر عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب عن سالم عن عبد الله بن عمر (6) عن حفصة (7) ، قالت:
__________
(1) "المحلى" (6/164-166) .
(2) "نيل الأوطار" (4/208) .
(3) هو إسحق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي التيمي المعروف بإسحق بن راهويه، عالم خراسان في عصره، وهو أحد كبار الحفاظ، أخذ عنه الأمام أحمد، والبخاري ومسلم والنسائي وغيرهم، ولد في سنة (161 هـ) وتوفي سنة (238 هـ) .
راجع: "خلاصة تهذيب الكمال" (1/69) ، "طبقات الحفاظ" (ص 188) ، "تهذيب التهذيب" (1/216) .
(4) "المجموع" للنووي (6/337) ، وراجع "المغني" لابن قدامة (3/91) .
(5) هو أحمد بن شعيب، أصله من (نسا) بخراسان، استوطن مصر، وهو صاحب كتاب السنن الصغرى، أحد الكتب الستة المعتمدة في الحديث، ولادته في سنة (215 هـ) ، ووفاته في القدس أو مكة سنة (303 هـ) .
راجع: "تذكرة الحفاظ" (4/699) ، "خلاصة تهذيب الكمال" (1/17) ، "طبقات الحفاظ" (ص 303) .
(6) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، أسلم مع أبيه وهاجر، راوية مكثر من الحديث عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اشتهر بالحرص الشديد على اتباع السُنة، والاجتهاد في العبادة، ولد قبل الهجرة بعشر سنوات وتوفي سنة (84 هـ) .
راجع: "خلاصة تهذيب الكمال" (2/81) ، "الكاشف" (2/112) ، "طبقات الحفاظ" (ص 9) .
(7) هي أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب، لها في البخاري ومسلم (60) حديثاً، ولدت قبل الهجرة =(2/62)
قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم يبيّت الصيام من الليل فلا صيام له" (1) .
وقد اعترض الأحناف على الحديث باعتراضات عدة:
1- أن الحديث ضعيف لا تقوم به حجة (2) ، وهذا الذي ذكروه من ضعف الحديث قاله جماعة من الحفاظ، فضعفوا رفعه إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورجحوا أن الحديث موقوف.
قال البخاري: هو خطأ، وهو حديث فيه اضطراب، والصحيح عن ابن عمر موقوف.
وقال الترمذي: الموقوف أصح.
وقال النسائي: الصواب عندي أنّه موقوف ولم يصح رفعه.
وجوابنا على ذلك من وجهين:
أ- أن جماعة من الحفاظ حكموا بصحته مرفوعاً، منهم ابن خزيمة وابن حبان، وقال الحاكم (3) في "الأربعين": صحيح على شرط الشيخين، وقال في "المستدرك": صحيح على شرط البخاري.
وقال البيهقي رواته ثقات إلا أنه روي موقوفاً (4) .
والسبب الذي من أجله ضعفه من ضعّفه لا يعتبر سبباً قوياً لتضعيف الحديث، فكونه روي موقوفاً، وروي مرفوعاً، ليس سبباً موجباً لتضعيفه، خاصة وأن الذي رفعه
__________
= بـ (18) سنة، وتوفيت سنة (45 هـ) .
راجع: "تهذيب التهذيب" (12/410) ، "خلاصة تهذيب الكمال" (3/378) ، "الكاشف" (3/468) .
(1) "سنن النسائي" (4/196) .
(2) "فتح القدير" لابن الهمام (2/46) .
(3) هو محمد بن عبد الله بن حمدويه الضبي النيسابوري من أكابر حفاظ الحديث، أخذ عن نحو ألفي شيخ، صنف كتباً كثيرة منها: "تاريخ نيسابور"، "المستدرك على الصحيحين"، وتوفي سنة (405 هـ) .
راجع: "تذكرة الحفاظ" (3/1039) ، "شذرات الذهب" (3/176) ، "طبقات الحفاظ" (ص 409) .
(4) انظر تحقيق ابن حجر للحديث في "تلخيص الحبير" (2/188) ، فمنه نقلنا، والحديث رواه غير النسائي: أبو داود والترمذى وابن ماجه، أقول: وقد وهم ابن رشد إذ عزاه في "بداية المجتهد" (1/301) إلى البخاري.(2/63)
ثقة ثبت، بل إن روايته مرفوعاً وموقوفاً تعتبر سبباً موجباً لقوة الحديث.
يقول ابن حزم - بعد أن ساق رواية النسائي -: "وهذا إسناد صحيح، ولا يضر إسناد ابن جريج له، وإن وقفه معمر (1) ، ومالك، وعبيد الله، ويونس، وابن عيينة (2) ، فابن جريج (3) لا يتأخر عن أحد من هؤلاء في الثقة والحفظ". ثم قال: "والزهري (4) واسع الدراية، فمرة يرويه عن سالم عن أبيه، ومرة عن حمزة عن أبيه، وكلاهما ثقة.
وابن عمر كذلك مرة رواه مسنداً، ومرة روى أن حفصة أفتت به، ومرة أفتى به هو".
ثم يقول: "وكل هذا قوة للخبر" (5) .
وقال الخطابي: "أسنده عبد الله بن أبي بكر (6) ، والزيادة من الثقة مقبولة" (7) .
ب- وعلى التسليم لهم بضعف الحديث: فإنه قد رُوي موقوفاً عن ثلاثة من الصحابة بأسانيد صحيحة، والصحابة الذين يروى موقوفاً عليهم هم: ابن عمر، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وعائشة بنت أبي بكر - رضي الله عنهم - جميعاً (8) .
__________
(1) هو معمر بن راشد بن أبي عمرو الأزدي، فقيه حافظ للحديث، ولد في البصرة (95 هـ) ، وسكن اليمن، وتوفي بها (153 هـ) .
راجع: "خلاصة تهذيب الكمال" (3/47) ، "طبقات الحفاظ" (ص 82) ، "الكاشف" (3/164) .
(2) هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران: ميمون الهلالي أبو محمد الكوفي الأعور، أحد أئمة الإسلام، قال الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز، توفي بمكة سنة (198 هـ) .
راجع: "خلاصة تهذيب الكمال" (1/397) ، "طبقات الحفاظ" (ص 113) ، "الكاشف" (1/379) .
(3) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، فقيه الحرم المكي، وإمام أهل الحجاز في عصره، رومى الأصل، ولد وتوفي بمكة سنة (80-150 هـ) .
راجع: "خلاصة تهذيب الكمال" (2/178) ، "الكاشف" (2/210) ، "طبقات الحفاظ" (ص 74) .
(4) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، من بني زهرة بن كلاب من قريش، أول من دون الحديث، وأحد كبار الحفاظ الفقهاء، تابعي من أهل المدينة، عاش ما بين (58-124 هـ) .
راجع: "خلاصة تهذيب الكمال" (2/457) ، "الكاشف" (3/96) ، "طبقات الحفاظ" (ص 42) .
(5) "المحلى" (6/162) .
(6) هو عبد الله بن أبي بكر الصديق صحابي من العقلاء الشجعان السابقين الى الإسلام، كان له دور هام في هجرة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، توفي سنة (11هـ) .
راجع: "الأعلام" (4/234) .
(7) "تلخيص الحبير" (2/188) .
(8) راجع سنن النسائي، و"المحلى" (6/161) ، و"تلخيص الحبير" (2/188) .(2/64)
وهؤلاء لا يعرف لهم مخالف من الصحابة أصلاً، والأحناف يستعظمون مخالفة الصحابي الذي لم يعرف له مخالف.
فإن قالوا: حديث عاشوراء يدل على جواز الصوم بنية من النهار، وهو أصح من هذا الحديث كما قاله أبن الهمّام (1) ، فالجواب أن حديثَ عاشوراء لا يدل على مدعاهم كما سبق بيانه.
2- أنَّه من الآحاد، فلا يصلح ناسخاً للكتاب (2) .
وكون الزيادة على النص القرآني تعتبر نسخاً لا يسلم لهم، كما بحثناه من قبل.
3- أنهم حملوه على صوم القضاء والنذر:
وهذا تأويل بعيد كما يقول الآمدي: وإنما كان هذا التأويل بعيداً، لأن الصوم في الحديث نكرة، وقد دخل عليه حرف النفي، فكان ظاهره العموم في كل صوم، ثم المتبادر إلى الفهم من لفظ الصوم إنما هو الصوم الأصلي المتخاطب به في اللغات: وهو الفرض والتطوع، دون ما وجوبه بعارض، ووقوعه نادر، وهو القضاء والنذر.
وقد أصابَ الآمدي في رده عليهم عندما يينّ أنّ ترك ما هو قوي في العموم، وإخراج الأصل الغالب من النص، وإرادة العارض البعيد النادر إلغاز في القول. وقرّب هذا بمثال ضربه، فالسيد إذا قال لعبده: من دخل داري من أقاربي فأكرمه، ثم قال: إنّما أردت قرابة السبب دون قرابة النسب، أو ذوات الأرحام البعيدة، دون العصبات القريية، كان قوله منكراً مستبعداً (3) .
4- وقالوا ليس معناه كما ذكرتم، بل إنَّ المراد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام"، أي لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل بأن نوى الصيام من وقت النيّة (4) .
وهذا تأويل غريب للحديث، يبطله أدنى تأمل في نص الحديث، فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
__________
(1) "فيض القدير" (2/47) .
(2) "بدائع الصنائع" (2/86) .
(3) "الإحكام في أصول الأحكام للآمدي" (3/83) .
(4) "الهداية" (2/46) ، و"العنايهّ" (2/46) .(2/65)
"لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" نصّ في أنّ مراد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الليل، لقوله: "يبيت"، والتبييت فعل الأمر في البيات وهو الليل.
ومما يوضح هذا الأمر رواية ابن عمر الموقوفة عليه "لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر"، وقالت عائشة مثل ذلك.
وقالت حفصة: "لا صيام لمن لم يجمع قبل الفجر". فنص الحديث المرفوع، والأحاديث الموقوفة صريحة في إيجاب إيقاع النيَّة في الليل، وهذا التأويل الذي ذكروه لا وجه له، بل هو تمحل من قائله لنصرة المذهب، وهذا لا يجوز لهم.
5- قالوا أيضاً: الحديث محمول على نفي الفضيلة أو الكمال: كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" (1) .
وجوابنا أنَّ هذا الحديث ضعيف (2) ، ولو ثبت لما صحت صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، ونظيره الصحيح قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (3) ، فنفي الشيء كالصلاة والصوم لعدم وجود شيء يدل على وجوبه لا استحبابه.
ثانياً: احتجّ الموجبون للنيّه في الليل على أبي حنيفة وأصحاب بالقياس، فقاسوا صوم رمضان على القضاء والكفارة، بجامع الفرضية والوجوب في كل، وفرّق الأحناف بين صوم الكفارة والقضاء وصوم رمضان بأن الوقت في رمضان متعينّ لصومه، أما في القضاء والكفارة فالوقت غير متعين لهما شرعاً؛ لأن خارج رمضان متعين للنفل، فلا يكون لغيره إلا بتعيينه، فإذا لم ينو من الليل صوماً آخر بقي الوقت متعيناً للتطوع فلا يملك تغييره (4) .
فمناط التفرقة عندهم بين صوم القضاء والكفارة وصوم رمضان هو أن الوقت غير
__________
(1) "بدائع الصنائع" (2/86) ، "الهداية" (2/46) .
(2) قال الحافظ السخاوي في حديث "لا صلاة لجار المسجد": رواه الدارقطني والحاكم والطبراني فيما أملاه، ومن طريقه الديلمي..، وابن حبان في "الضعفاء"، وأسانيدها ضعيفة، وليس له - كما قال شيخنا - إسناد ثابت، وقد قال ابن حزم: هذا حديث ضعيف "المقاصد الحسنة" (ص 467) .
(3) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (رواه أحمد والبخاري في جزء القراءة، وصححه أبو داود والترمذي والدارقطني وابن حبان والحاكم) ، ولفظه عندهم: (فإنه لا صلاة لمن لم يقرأها) "تلخيص الحبير" (1/231) .
(4) "بدائع الصنائع" (2/86) .(2/66)
متعينّ للأولين، ولكنّه متعين لصوم رمضان. وجوابنا أن وقت الصلاة قد يتضيق على المصلّي بألا يبقى إلا ما يكفي لصلاة الفرض، فهل تصح صلاته فرضاً إذا نوى أن يصليها نفلاً.
الأحناف هنا لا يخالفون غيرهم في أنَّ الصلاة لا تصحُّ فرضاً، على الرغم من أنَّ الوقت لا يتسع لغير الفريضة، ولا فرق بين هذه الحالة وصوم رمضان.
النية لكل يوم
مذهب مالك وإسحق ورواية عن أحمد أنه يجزيء الصائم نيّة واحدة لجميع الشهر في أوله (1) .
واستدوا على ذلك بأدلة منها:
أولاً: أنَّ صوم الشهر عبادة واحدة.
ثانياً: أنَّ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ولكل امريء ما نوى"، وهذا نوى صيام الشهر فله ما نوى.
ثالثاً: قاسوا الصوم على الحج، فالحج: طوافه، وسعيه، والوقوف بعرفة ... إلخ، يجزيء بنيّة واحدة.
وذهب الإمام الشافعي وأبو حنيفة ورواية عن أحمد إلى القول بوجوب نيّة مستقلّة لكلّ يوم (2) .
وهذا هو المذهب الراجح؛ لأنَّ صوم كلّ يوم عبادة مستقلة، يدلّ على ذلك أنَّ فساد بعض أيام الشهر لا يفسد بعضها الآخر. ولأنه يتخلل صوم أيام الشهر ما ينافيها؛ إذ يباح في الليل الطعام والشراب والنكاح.
وقد وهم من قاس أيام رمضان على أعمال الحج باعتبار التعدّد للأفعال، لأن الحج عمل واحد، ولا يتم إلا بفعل ما اعتبره الشارع من المناسك، والإخلال بواحد من أركانه يستلزم عدم إجزائه.
__________
(1) "المغني" لابن قدامة (3/97) ، "العيني على البخاري" (1/33) ، "الإفصاح" (1/157) .
(2) المصادر السابقة.(2/67)
حكم من ظهر له وجوب الصيام نهاراً
مالحكم فيمن ظهر له وجوب الصيام عليه من النهار، كالمجنون يفيق، والصبي يحتلم، والكافر يسلم، وكمن انكشف له من النهار أن ذلك اليوم من رمضان؟ أما على مذهب أبي حنيفة وأصحابه فالحكم واضح؛ إذ يعتبرون صوم من نوى قبل منتصف النهار صحيحاً.
وعلى مذهب القائلين بوجوب تبييت النية من الليل لا يصحّ صومُهم، ولا خلاف في ذلك عند الشافعية (1) .
وقد نصّ الشافعي - رحمه الله - على أن من أصبح لا يرى أن يومه من رمضان، ولم يطعم، ثم استبان ذلك له، فعليه صيامه وإعادته (2) .
وابنُ حزم يصحّح صوم الناسي، والنائم، والجاهل، بنيّة من النهار، بل يرى أنَّ هؤلاء إن أكلوا وشربوا وحصل منهم الجماع، ثم ظهر لهم أن يومهم من رمضان وجب عليهم الإمساك وأجزأ عنهم، وقد احتجَّ على ما ذهب إليه بأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر من أكل في نهار عاشوراء بالكف والإمساك، ولم يثبت أنه أمرهم بالقضاء (3) .
وابن حجر لم يرتض ذلك الاحتجاج: "لأنَّ الأمر بالإمساك لا يستلزم الإجزاء، فيحتمل أن يكون أمراً بالإمساك لحرمة الوقت، كما يؤمر من قدم من سفر في رمضان نهاراً، وكما يؤمر من أفطر يوم الشك، ثم رأى الهلال. وكل ذلك لا ينافي أمرهم بالقضاء".
وقد بينّ ابن حجر أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالقضاء صريحاً في حديث أخرجه أبو داود والنسائي، وفيه أنَّ أسلم أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "صمتم يومكم هذا؟ " قالوا: لا، قال: "فأتموا بقية يومكم واقضوه".
ثم بينّ أنه على تقدير عدم ثبوت هذا الحديث في الأمر بالقضاء فلا يتعينّ ترك
__________
(1) "المجموع" (6/34) .
(2) "مختصر المزني" (2/6) .
(3) "المحلى" (6/164) .(2/68)
القضاء، لأنَّ من لم يدرك اليوم بكماله لا يلزمه القضاء، كمن بلغ أو أسلم أثناء النَّهار" (1) .
الليل كلة وقت للنية
لا تصحّ النيةُ قبل بداية الليل، فلو نوى قبل دخول الليل بلحظة لم يصح (2) ، وفي مذهب الحنابلة (3) إن نوى من النهار صوم الغد لم تجزئه تلك النيّة إلا أن يستصحبها إلى جزء من الليل. وقد روى سعيد بن منصور عن أحمد: من نوى الصوم عن قضاء رمضان بالنهار، ولم ينو من الليل فلا بأس، إلا أن يكون فسخ النيّة بعد ذلك، فظاهر هذا حصول الإجزاء بنيّة من النَّهار، إلا أن القاضي قال: هذا محمول على من استصحب النيّة إلى جزء من الليل، وهذا صحيح ظاهر، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صيام لمن لم يبيت من الليل".
وكما لا تصح النيّة قبل الغروب لا تصح بعد انقضاء الليل ولو بلحظة، خلافاً لأبي حنيفة كما سبق، وهل تصح مع الفجر؟ قال النووي: الصحيح لا تصحّ، لأن أول وقت الصوم يخفى، فوجب تقديم النيّة عليه، بخلاف سائر العبادات (4) .
والليل كلّه محلّ للنيّة، وقد خطأ علماء الشافعية وغيرهم أبا الطيب بن أسامة من الشافعية فيما ذهب إليه من أن النيّة لا تصح إلا بعد منتصف الليل، قال النووي: "واتفق أصحابُنا على تغليطه" (5) .
وقد قاس أبو الطيّب الصوم على أذان الصبح والدفع من مزدلفة.
قال النووي: وهو قياس عجيب، وأي علّة تجمعهما؟ ولو جمعتهما علّة فالفرق ظاهر، لأنَّ اختصاص الأذان والدفع بالنصف الثاني لا حرج فيه، بخلاف النيّة، فقد يستغرق كثير من الناس النصف الثاني بالنوم، فيؤدي إلى تفويت الصوم، وفي هذا حرج شديد لا أصل له (6) .
__________
(1) "فتح الباري" (4/142) .
(2) "المجموع" (6/332) .
(3) "المغني" لابن قدامة (3/93) .
(4) "المجموع" (6/332) .
(5) "المجموع" (6/332) .
(6) المصدر السابق.(2/69)
ومما يدلّ على خطئه أنَّ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صيام لمن لم يبيت الصوم من الليل" ليس فيه هذا التحديد الذي حدّه، بل يفهم منه أنَّ من نوى في أي جزء من الليل صحَّ صومه.
ومما يدل على بطلان قياسه أن الأذان والدفع من مزدلفة "يجوزان بعد الفجر بخلاف نية الصوم، ولأنَّ اختصاصهما بالنصف الأخير بمعنى تجويزهما فيه، واشتراط النيّة بمعنى الإيجاب والحتم وفوات الصوم بفواتها، وهذا فيه مشقة ومضرة بخلاف التجويز، ولأن منعهما في النصف الأول لا يفضي إلى اختصاصهما بالنصف الأخير لجوازهما بعد الفجر، والنية بخلافه".
3- صوم النذر:
يجب تبييت النية من الليل في صوم النذر عند جماهير العلماء؛ لأنَّ النذر كالواجب، وبذلك قطع جمهور فقهاء الشافعية، وقد حكى بعضهم فيه وجهين بناء على أنّه يسلك بالنذر مسلك واجب الشرع، أو جائزه ومندوبه إن قلنا كواجب لم يصح بنيّة من النهار وإلا فيصح كالنفل.
وجمهور فقهاء الشافعية لم يجروا الخلاف في هذه المسألة في الصوم المنذور كما أجروها في بقية المسائل، وذلك لأنّ الحديث هنا عام في اشتراط تبييت النية للصوم، خص منه النفل بدليل، وبقي النذر على عمومه (1) .
ومذهب أبي حنيفة وأصحابه أن النذر المعينّ يجوز بنيّة من النهار، لأنه كصوم رمضان، لأنَّ الوقت متعين لصومه كما سبق.
أمّا النذرالمطلق فلابدَّ له من نية من الليل، وذلك لأنَّ الوقت غير متعين لصيامه (2) ، وقد سبق أن بيّنا أنَّ هذا الذي اعتمدوه في التفرقة هنا، وفي غير هذا الموضع، لا يصح أن يكون مفرقاً.
4- صوم النفل:
الإمام مالك - رحمه الله تعالى - لا يجيز صوم النفل إلا بنيّة من الليل كالفرض،
__________
(1) "المجموع" (6/332) .
(2) "بدائع الصنائع" (2/85) ، "تحفة الفقهاء" (1/534) .(2/70)
وقال بهذا القول غير مالك عبد الله بن عمر، وزفر من الأحناف، وداود الظاهري، وتابعه ابن حزم، وبه قال المزني (1) من الشافعية، ونقل ابن المنذر عن مالك أنه استثنى من يسرد الصوم، فصحح نيته من النهار (2) ، وحجة هؤلاء قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لاصيام لمن لم يبيّت الصيام من الليل".
وذهب جماهير العلماء إلى أنَّ صوم النفل يصحُّ بنيّة من النهار، وبذلك قال علي ابن أبي طالب (3) ، وابن مسعود وحذيفة بن اليمان، وطلحة، وابن عباس، وأبو حنيفة، وأحمد، والشافعي، وسعيد بن المسيّب (4) ، وسعيد بن جبير، والنخعي، وآخرون (5) . وقال ابن حزم: "قال بهذا جمهور السلف" (6) .
واحتجّ هؤلاء بحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "دخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم، فقال: "هل عندكم شيء؟ " قلنا: لا. قال: "فإني إذن صائمٌ" (7) ، وفي رواية قال: "إذن أصوم" (8) .
وروى البيهقي والشافعي بالإسناد الصحيح عن حذيفة أنّه بدا له الصوم بعد ما زالت الشمس (9) .
__________
(1) هو إسماعيل بن يحيى المزني صاحب الإمام الشافعي من أهل مصر، كان زاهداً عالما قوي الحُجة، من كتبه "الجامع الكبير"، و"الجامع الصغير"، نسبته إلى مزينة من مضر. وُلد سنة (175هـ) ، وتوفي سنة (264هـ) .
راجع: "وفيات الأعيان" (1/217) ، "الأعلام" (1/327) .
(2) "المجموع" (6/339) .
(3) هو علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وزوج ابنته فاطمة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ورابع الخلفاء الراشدين، ومن أكابر الخطباء والعلماء بالقضاء، توفي شهيداً سنة (40هـ) .
راجع: "خلاصة تهذيب الكمال" (2/250) ، "الكاشف" (2/287) ، "طبقات الحفاظ" (ص 4) .
(4) هو سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي القرشي، من كبار التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، ولد سنة (13هـ) ، وتوفي سنة (94هـ) .
راجع: "خلاصة تهذيب الكمال" (1/390) ، "طبقات الحفاظ" (ص 17) ، "الكاشف" (1/372) .
(5) "المجموع" (6/339) ، وانظر "المُغني" (3/196) ، و"المحلى" (6/172) .
(6) "المحلى" (6/172-173) .
(7) رواه مسلم "مشكاة المصابيح" (1/643) .
(8) رواه البيهقي.
(9) "المجموع" (6/339) .(2/71)
قالوا: حديث تبييت النية عام، فنخصه بما ذكرناه جمعاً بين الأحاديث.
ومع أنَّ ابن حزم روى حديث عائشة السابق، وروى عن عشرة من الصحابة أنَّهم كانوا يعزمون على صوم النفل في النَّهار إلا أنه لم يقل بجواز صيام النفل بنيّة من النهار.
قال: "لأنّه ليس في الحديث أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن نوى الصيام من الليل، ولا أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصبح مفطراً، ثم نوى الصوم بعد ذلك، ولو كان هذا في ذلك الخبر لقلنا به، لكن فيه أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصبح متطوعاً صائما ثم يفطر، وهذا مباح عندنا....، فلما لم يكن في الخبر ما ذكرنا، وكان قد صح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صيام لمن لم يبيته من الليل" لم يجز أن نترك هذا اليقين لظنٍ كاذب، ولو أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصبح مفطراً ثمَّ نوى الصوم نهارا لبيّنه" (1) .
وتابع الصنعاني من المتأخرين ابنَ حزم فيما ذهب إليه، فبعد أن ساق حديث عائشة الذي احتجّ به الجمهور قال: "فالجواب عنه أنه أعمّ من أن يكون بيَّت الصوم أو لا، فيحمل على التبييت، لأنّ المحتمل يردّ إلى العامّ ونحوه" (2) .
ثم قال: "والأصل عموم حديث التبييت، وعدم الفرق بين الفرض والنفل والقضاء والنذر، ولم يقم ما يرفع هذين الأصلين فتعينّ البقاء عليهما" (3) .
والجواب على ما ذكراه:
أولاً: أنّ ابن حزم تناقض هنا تناقضا بينا، فهو يرى أنَّ من نوى في حال صيامه أنّه تارك للصوم عامداً بذلك ذاكراً لصومه، إلاّ أنَّه لم يأكل، ولم يشرب، ولا وطيء، ولا فعل فعلا ينقض الصوم، فإنَّ صومه قد بطل وأنّه أفطر (4) .
ووجه التناقض أنّه يرى أنَّ من نوى قطع الصوم وتركه فإنَّ صومه يبطل، والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندما دخل على عائشة طلب طعاما ليأكله، فلما لم يجد شيئاً قال: إنِّي صائم، فإذا كان نوى الصوم من الليل، وكان الصوم لا يجزيء بنيّة إلا من الليل، فعلى
__________
(1) "المحلى" (6/172-173) .
(2) "سبل السلام" (2/154) .
(3) المصدر السابق.
(4) "إحكام الأحكام" (المجلد الثاني 711) .(2/72)
قول ابن حزم يعتبر صيام الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باطلا. ولما لم يكن باطلا حتما، فيلزمه أحد أمرين: الأول: القول بأنّ من عزم على قطع نيّة الصوم أو تركه لا يبطل صومه بذلك. والثاني: أن يجيز الصوم بنية من النهار.
ثانياً: ورد في رواية البيهقي "إذن أصوم"، كما ورد عن الصحابة الذين روى ابن حزم أقوالهم ما يدلّ على أنهم كانوا يحدثون النيّة من النّهار، فعائشة تقول: "إنّي لأصبح يوم طهري، وأنا أريد الصوم، فأستبين طهري فيما بيني وبين نصف النهار، فأغتسل، وأصوم".
وروي عن عُبيد الله بن عمر أنّ أبا هريرة كان يصبح مفطراً، فيقول: هل من طعام؟
فيجده أو لا يجده، فيتم ذلك اليوم.
وسأل رجل علي بن أبي طالب، فقال: أصبحت ولا أريد الصوم؟ فقال له علي: أنت بالخيار بينك وبين نصف النهار، فليس لك أن تفطر، وكذلك قال أكثر من صحابي (1) .
والصحابة أعلم بالتنزيل وبمراد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منّا، خاصّة ورواية البيهقي تكاد تكون صريحة في أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدث النيّة من النهار.
المدى الذي يصحّ أن يحدث فيه النيّة من النَّهار:
ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن المتنفل يجوز له أن يحدث الصوم بنيّة من النهار، إلا أنهم حدّوا منتصف النهار كحدّ أقصى، فلا يجوز عندهم أن ينوي الصوم بعد منتصف النهار (2) ، قالوا: "لأنَّ الصوم هو الإمساك عن الغداء، وتأخير العشاء إلى اللّيل، وبعد الزوال لا يجوز؛ لأنه لم يوجد الإمساك عن الغداء لله تعالى" (3) .
وذهب الشافعي في القديم إلى القول بقولهم، وذهب في الجديد إلى صحة صوم من نوى بعد الزوال، وهو قول معظم أصحاب الشافعي، وقال الأصحاب بناء على ذلك:
__________
(1) انظر "المحلى" (6/172) .
(2) "حاشية ابن عابدين" (2/92) ، "بدائع الصنائع" (2/85) .
(3) "تحفة الفقهاء" (1/534) .(2/73)
"يصحّ في أيّ لحظة، لكن يشترط ألا يتصل غروب الشمس بالنيّة، بل يبقى بينهما زمن ولو أدنى لحظة" (1) .
وهذا مذهب الحنابلة أيضاً أنه: "يصح صوم النفل بنية من النهار قبل الزوال وبعده، هذا هو المذهب، نصّ عليه، وعليه أكثر الأصحاب" (2) .
وهذا القول هو الراجح؛ لأنَّ النصوص الدالة على جواز الصوم بالنيّة من النّهار لم تُفرّق بين إحداث النية قبل الزوال وبعده.
شروط من أجاز صوم النفل بنيّةٍ من النهار:
يشترط الذين يقولون بصحة صيام من أحدث النية من النهار ألا يأتي بمناف قبل أن ينوي من أكل أو شرب أو جماع.
وذهب أبو العباس بن سريج (3) ، ومحمد بن جرير الطبري إلى أن من شرب أو أكل أو جامع من النهار، ثم نوى بعد ذلك الصوم تطوعاً صحّ صومه (4) .
قال النووي: "وهذا خلاف قول جماهير العلماء" (5) .
ويدلّ على بطلان هذا القول أن القرآن اشترط الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى الليل، فهذا الذي تناول المفطرات عمداً في النهار لا يصحّ الصوم منه، لأنه أكل بعد الفجر، فالشارع أباح تأخير النيّة، ولم يبح ابتداء الصوم لمن تناول مفطراً من النهار.
المقدار الذي يثاب عليه الناوي من النهار:
قال الشافعي يثاب من حين نوى (6) ، ويمكن أن يحتجّ له بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما الأعمال
__________
(1) "المجموع" (6/335) .
(2) "الإنصاف" (3/297) .
(3) هو أحمد بن عمر بن سريج الشافعي، مولده ووفاته ببغداد سنة (249-306هـ) ، ولي قضاء شيراز، له أربعمائة مصنف، كان ناصراً للسنة خاذلا للبدعة، حاضر الجواب، له مناظرات ومساجلات.
راجع: "تاريخ بغداد" (4/287) ، "الأعلام" (1/178) .
(4) "المجموع" (6/326) .
(5) "المجموع" (6/326) .
(6) "الهداية" (2/51) .(2/74)
بالنيات، وإنما لكلّ امريء ما نوى"، فهذا لم ينو الصوم إلا بعد مضي جزء من النهار، فليس له من الثواب إلا المقدار الذي نواه.
وهذا مذهب الحنابلة، قال صاحب الإنصاف: "الثواب من وقت النية على الصحيح من المذهب" (1) .
ولعل ما ذهب إليه الأحناف (2) من أنَّه يُثاب على النَّهار كلّه أصحّ؛ لأنه يلزم على قول الشافعية والحنابلة أن يكون الصوم متجزئاً، ونحن نعلم أنّ الصوم إنَّما يكون يوماً كاملاً من الفجر إلى الليل، وهذا أمسك النَّهار كلَّه وأخّر النيّة، وفضل الله واسع فلا يحجر، فيثاب الناوي نهارا على اليوم كلّه، كما يثاب من يدرك بعض صلاة الجماعة ثواب الجماعة، وذلك بالانعطاف الذي اقتضاه فضل الله تعالى.
صفة النيّة في الصوم
أما الصوم فلا يتأدى بمجرد نيّة الفعل، بل لابد من أن ينوي صوم رمضان، والسبب في هذا أنَّ الصوم منه التطوع ومنه الواجب، والواجب قد يكون عن شهر رمضان أو كفّارة أو نذر، ولا يتميز رمضان عما سواه إلا بقصده قصداً واضحاً بحيث لا يختلط بغيره.
وهذا مذهب الإمام مالك والشافعي، وأحمد في أظهر روايتيه، بل إنَّ هؤلاء الأئمة الأعلام قالوا بوجوب نيّة الفرضية في الصوم، وممن قال بذلك إسحاق وداود الظاهري، وإن كان الأرجح في مذهب الشافعية والحنابلة عدم اشتراطها.
وخالف الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- وجميع أصحابه، فقالوا: يتأدى صوم شهر رمضان بنيّةٍ مطلقة من المقيم الصحيح، بل ويتأدى عندهم بنيّة النفل، ونيّة القضاء والكفارة، وحُجَّة أبي حنيفة عدم قابلية المحل؛ لأن شهر رمضان متعينّ لصوم الفرض لمن شهده صحيحاً غير مريض، واحتجّوا بقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] . والصحيح المقيم شهد الشهر وصامه، فيخرج من العهدة.
وقد أوردنا فيما سبق اعتراض الشافعي -رحمه الله- أن الواجب الموسع قد يتضيق
__________
(1) "الإنصاف" (3/398) .
(2) "الهداية" (2/51) .(2/75)
كما لو أخر صلاة الظهر إلى آخر وقتها بحيث لم يبق من الوقت إلا ما يكفي صلاة الفرض، فيلزم الأحناف -بناءً على ذلك القول- بأن الفريضة هنا تتأدى بنية النافلة، إلا أن الأحناف يُفرّقون بين ما تضيق بحكم شرعي أصلي كرمضان، وبين ما تضيق بفعل الإنسان كما في تأخير الصلاة إلى آخر وقتها وكما في نذر يوم بعينه فالأول يتأدى ولو نوى به شيئاً آخر، والثاني لا يتأدى إلا بقصده بعينه. وأقوى ما يردّ به على هؤلاء قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وإنما لكل امريء ما نوى"، وهذا لم ينو الفرض أو رمضان؛ فلا يحصل له، وقد تناقض الأحناف هنا، فقد قالوا في الحجّ: إنّه لا يتأدى بنيّة النفل إذا كان عليه حجَّة الفريضة، وإذا نوى من عليه حجَّة الإسلام عن غيره فإنه يقع عن المحجوج عنه، واحتجوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وإنما لكلِّ امريء ما نوى"، ولكنَّهم لم يسيروا على النسق نفسه في الصيام مما جعل مخالفيهم يرمونهم بالتناقض، إلا أن الأحناف رفضوا ذلك، وقالوا: شهر رمضان متعينّ للصوم لمن شهده صحيحاً، بخلاف وقت الحج فإنّه لم يتمحض للحجّ. ولكن أين الدليل على أنَّ ما تعين وقته للعبادة بحيث يصبح ظرفاً لها لا يحتاج إلى تعيينه، ويصحّ أداؤه بنيّة النفل؟! وما الذي أخرج هذه الصورة من الحديث "إنما الأعمال بالنيات"؟!
أما استدلالهم بالآية فلا حُجة فيه، فالآية تأمر بالصوم الشرعي، والصوم الشرعي لابدَّ له من النية التي تحدده وتميزه، وإلا لم يكن صياماً، وفي الحديث (1) "لا صيام لمن لم يجمع الصيامَ من الليل" (2) .
صوم رمضان
* قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر، فلا صيام له" (3) .
__________
(1) رواه ابن عمر بهذا اللفظ "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" رواه الخمسة. انظر "نيل الأوطار" (4/219) .
(2) راجع في "صفة نية الصيام" ما يأتي:
"الأم" (2/18) ، "مختصر المزني" (1/15) ، "المجموع" (6/186، 6/328، 6/338-346، 3/345-346) ، "بدائع الفوائد" (3/93) ، "المُغني" (3/94، 95) ، "التوضيح" (19، 95) ، "حاشية ابن عابدين" (1/308) ، "بدائع الفوائد" (2/83) ، "الإفصاح" لابن هبيرة (1/156) ، "فتح القدير" (2/49) ، "إرشاد الساري" (1/53) ، "العينيى على البخاري" (1/33) .
(3) صحيح: رواه الدارقطني في "الأفراد"، والبيهقي في سننه عن عائشة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6534) .(2/76)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم يبيت الصيام من الليل، فلا صيام له" (1) .
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" (2) .
مذهب كافة العلماء أنَّه لا يصح صوم إلا بنية، سواء أكان الصوم واجبًا أم تطوعًا (3) .
وحجتهم أن الصوم عبادة محضة لا تتأدى إلا بالنية، والنصوص الدالة على لزوم النية للعبادات تشمل الصوم، هذا عدا النصوص المصرحة بإيجاب النية في الصوم.
وخالف الجمهور عطاء ومجاهد (4) وزفر (5) ، في حالة ما إذا كان الصوم متعينًا، بأن يكون الصائم صحيحًا مقيمًا في شهر رمضان، فهذا عندهم لا يفتقر إلى نية، وحجَّتهم أنَّ رمضان مستحقُّ الصوم يمنع غيره من الوقوع فيه، فهم لاحظوا أن الصوم في هذه الحالة متعين بصورته، ولا يحتاج إلى نيّة تميّزه. عن العادات أو تميز مراتبه، يقول الكاساني مبينا ما يمكن أن يحتجّ به لزفر:
__________
(1) صحيح: رواه النسائي عن حفصة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6535) .
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6538) .
(3) "بداية المجتهد" (1/300) ، "المجموع" (6/336) ، وقد نقل ابن هبيرة الإجماع على وجوب النية في الصوم، "الإفصاح" (1/157) ، وليس الأمر كما قال.
(4) هو مجاهد بن جبير أبو الحجاج المكي، تابعي مفسر من أهل مكة، قال فيه الذهبي: شيخ القراء والمفسرين، أخذ التفسير عن ابن عباس، وتوفي بمكة سنة (104هـ) ، وكانت ولادته سنهّ (21هـ) .
راجع: (تهذيب التهذيب (10/402) ، (تذكرة الحفاظ 1/92) ، (شذرات الذهب 1/125) ، (الكاشف 3/120) ، (طبقات الحفاظ ص 35) .
(5) "المجموع" (6/366) ، "المحلى" (6/161) ، "بداية المجتهد" (1/300) ، وقد ينقل بعضهم أن أبا حنيفة ممن يقول بذلك، وليس هذا بصواب، فأبو حنيفة يوجب النية في الصوم، إلا أنه يجوز إنشاءها من النهار كما ذكرنا في فصل "وقت النية".(2/77)
"النيّة إنما تشترط للتعين، والحاجة إلى التعيين إنَّما تكون عند المزاحمة، ولا مزاحمة لأنَّ الوقت لا يحتمل إلا صومًا واحداً في حقّ المقيم، وهو صوم رمضان، فلا حاجة إلى تعيين بالنية" (1) .
واحتجّ له أيضاً بأنّ الآية الآمرة بالصيام (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) مطلقة عن شرط النية، والصوم هو الإمساك، وقد أتي به فيخرج عن العهد" (2) .
من هنا قصر زفر قوله في الصوم الذي لا يحتاج إلى نيّة على صوم رمضان من الحاضر المقيم، أما المسافر فلا بد أن يأتي بالنيّة إذا صام رمضان؛ لأنَّ صوم رمضان غير متعيّن في حقه، فله -عند زفر- أن يصومه نافلة أو قضاء، ولأنَّه لم يشهد الشهر.
أمَّا صوم النَّذر والكفّارة فيشترط لهما النيّة إجماعاً (3) .
ومن هنا نعلم أن ابن رشد (4) . لم يصب الحقيقة عندما قرر أن سبب الاختلاف في هذا الموضوع هو الاحتمال المتطرق إلى الصوم: أهو عبادة معقولة المعنى، أو غير معقولة المعنى؟ فهو يرى أن من ذهب إلى أنها غير معقولة المعنى أوجب النية، ومن رأى أنّها معقولة المعنى قال: قد حصل المعنى إذا صام ولم ينو (5) .
هذا الذي ذهب إليه ليس هو السبب كما بينا؛ إذ الجميع يرون أنّ الصيام
__________
(1، 2) "بدائع الصنائع" (2/83) .
(3) "المجموع" (6/336) ، و"المحلى" (6/161) ، وأنكر الكرخي أنَّ زفر يقول بصحة الصوم من الحاضر بغير نية، وادّعى أنّ مذهب زفر كمذهب جواز الصوم بنيّة واحدة من أول الشهر، وقال آخرون: إنَّ زفر رجع عن ذلك لما كبر ("الهداية" (2/92) .
(4) هو محمد بن أحمد بن رشد الأندلسي الفيلسوف، عني بكلام أرسطو وترجمته إلى العربية، له "بداية المجتهد" في الفقه، ولد عام (520هـ) ، وتوفي سنة (595هـ) .
راجع: "شذرات الذهب" (4/320) ، "الأعلام" (6/212) .
(5) "بداية المجتهد" (1/300) .(2/78)
عبادة محضة غير معقولة المعنى، والسبب الحقيقي أن زفر ومن معه يرون أن الصوم متعيّن بنفسه فلا يحتاج إلى نية.
والجمهور يردّون على زفر ومن معه بالنصوص الآمرة بالنية في العبادات عمومًا، وفي الصوم على وجه الخصوص، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما الأعْمَالُ بِالنِّيات" (1) ، وقوله: "لا صِيَامَ لمَنْ لَمْ يُبيِّت الصيَام مِنَ الليْل" (2) .
ورد الشافعي حجّتهم في أنّ الصوم لا يحتاج إلى نيّة؛ لأنه متعيّن بصورته، إذ له وقت محصور محدود، بأنّ هذا يمكن أن يقع في الصلاة.
فوقت الصلاة قد يتضيّق حتى لا يسع إلا الفرض، ومع ذلك لا بدَّ للصلاة التي وقعت في الوقت المتضيّق من نية (3) .
وكذلك من نذر أن يصوم شهرًا من هذه السنة، ثم أخره حتى لم يبق إلا شهر واحد، ولا يجوز أن يصومه بغير نيّة بحجّة أن وقته أصبح محصورًا محدودًا.
أما قول زفر: إنَّ الصوم مأمور به في الآية مطلقًا عن شرط النية فمردود عليه؛ لأنَّ اسم الصوم المطلق ينصرف حين الأمر به إلى الصوم الشرعي، وهو: الإمساك عن المفطر مع اقتران النيّة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
مباحث تتعلق بالنية في الصوم:
1- استصحاب حكم النية:
هو شرط من شروط النية، والإتيان بالنية في أول العبادة شرط لا تصح العبادة بدونه.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والطحاوي والدارقطني وابن خزيمة وابن حبان.
(2) سبق تخريجه.
(3) "الأم" (2/83) ، ومن هنا ذهب الشوكاني في "السيل الجرار" (1/20) ، إلى أنّ النيّة واجبة في كلّ عبادة، سواء كانت مما يتلبس أم لا، لورود الأمر بها، والتقيد بهذا الضابط غير صحيح.(2/79)
ولكن هل يجب على العابد أن يبقى ذاكرًا لهذه النية غير غافل عنها طيلة العبادة؟
الجواب: لا، لا يجب عليه ذلك؛ لأن إلزام العباد بهذا في غاية المشقة والكلفة، بل لو قيل بوجوبه لكان من التكليف بما لا يطاق؛ لأن العباد مأمورون بأشياء أخرى غير النية في أثناء العبادة كالصلاة مثلاً، فإنهم مأمورون بالذكر وقراءة القرآن والتفكر والتفهم لذلك كله.
وفي الصيام يشغل العابد بأمور خارجة عن العبادة لا يتذكر معها النية فقد يكون مشغولاً بالبيع والشراء وأعمال الدنيا، بل قد ينام فيغفل عن كل شيء.
من هنا نصّ العلماء على أن الواجب على العابد "استصحاب حكم النية دون حقيقتها"، ويريدون بالاستصحاب هنا أن الشارع حكم بعدم بطلانها حال ذهول العابد عنها، وعزوبها عنه، وكل ما يلزم العابد في هذه الحال ألا يأتي بما ينافيها ويبطلها، كأن ينوي قطعها أو يرفضها.
وسنذكر فيما يلي مسائل لها صلة بهذا الشرط (1) .
(2) رفض النية:
رفض النية معناه: "تقدير ما وجد من العبادة والنية كالمعدوم".
ورفض العبادة إما أن يكون بعد الانتهاء منها، أو في أثنائها:
(أ) رفض النية بعد تمام العبادة:
رفض الصوم بعد تمامه لا أثر له في إبطاله.
والقول بهذا هو المذهب الصحيح المشهور عند الشافعية.
ومدار الفتوى عند المالكية أن رفض نية العبادة لا أثر له في إبطال الصوم والصلاة وغيرها من العبادات.
__________
(1) راجع في هذه المسألة: "قواعد الأحكام" (1/307) ، "الذخيرة" (1/243) ، "المغني" لابن قدامة (1/112) ، (1/467) ، "الأم" (1/25، 86) ، "الخطاب" على خليل (1/230) .(2/80)
ومن الغريب أن يحكي القرافي أن رفض الصلاة والصوم يؤثر ولو بعد الكمال ويقول: هذا هو المشهور عندهم، إلا أنه استشكل هذا بأنه يقتضي إبطال جميع الأعمال.
ولعلّ القول الفصل في هذه المسالة ما قالة ابن رشد: "من ادَّعى أن التكليف يرجع بعد سقوطه لأجل الرفض فعليه الدليل".
(ب) رفض نية الصوم في أثنائه:
إذا رفض العابد العبادة في أثناءها فما الحكم؟ اختلف وجهات نظر العلماء في ذلك:
يرى داود الظاهري وابن حزم بطلان أي عبادة إذا رفضت النية في أثنائها (1) ؛ لأن النية شرطّ في العبادات كلها، وإذا فقد الشرط فقد المشروط، والأعمال بالنيات وذهب جماهير ومنهم مالك والشافعي وأحمد إلى القول بذلك: أي ببطلان العبادة إذا رفضت النية في الصلاة، وخالفهم في هذا أبو حنيفة فقال بعدم البطلان (2) .
ولكن جماهير العلماء عكسوا القضية في الحج والعمرة، فقد ذهبوا إلى أن هاتين العبادتين لا تبطلان برفض النية.
يقول الحطاب مبينًا هذه المسألة: "الإحرام سواء كان بحج وعمرة أو أيهما أو بإطلاق لا يرتفض، ولو رفضه في أثنائه ولم أر في هذا خلافًا، وهو مذهب الكافة، وهو مذهب مالك والأئمة، وخالف داود الظاهري، فقال: يرفض إحرامه" (3) .
وقد اختلفت تعليلات العلماء للفرق الذي اقتضى تصحيح الحج والعمرة
__________
(1) "المحلى" (6/174) ، "الخطاب" علي خليل (1/240) ، وهو مذهب بعض المالكية وكثير من الأحناف.
(2) "المجموع" (3/250) .
(3) "الحطاب" (1/240) .(2/81)
حال رفض نيتهما، وإبطال الصلاة في الحال نفسه:
(1) فمنهم من يرى إلى أن الأمر يعود إلى حاجة كل من العبادتين إلى النية فأحكام النيات مغلظة في الصلاة عنها في الحج والعمرة.
(2) ومنهم من لاحظ طبيعة كل من العبادتين، فقد علمنا أن الشارع لا يبطل الحج بأقوى المفسدات له كالجماع، ويأمر بإتمام العبادة، فالمحظورات لا تؤثر في الخروج من العبادة بخلاف الصلاة، ورأينا الشارع يصحح عبادة الحاجّ الذي نوى مبهمًا إحرامه، أو نوى النفل، وعليه حجة الإسلام، فيقع الفرض.
(3) ومنهم من نظر إلى أنّ جانب التعبد في الصلاة أكثر وأعظم منه في الحج والعمرة، فهاتان العبادتان تدخلهما الأعمال المالية والبدنية، وقد عهد من الشارع عدم إيجاب النية في جنس هذه الأعمال من غير العبادات.
(4) ولاحظ بعضهم أن الحج والعمرة عبادتان شاقتان فناسب أن يقال بعدم تأثير الرفض دفعًا للمشقة الحاصلة (1) .
وبقية العبادات: من العلماء من يلحق بعضًا منها بالحج والعمرة في عدم اعتبار رفض النية في العبادة، ومنهم من يلحقه بالصلاة لشيء من الاعتبارات التي ذكرها في العبادتين:
فالصوم مثلاً فيه قولان مشهوران عند العلماء:
فالذي يلحقه بالصلاة لاحظ أن تأثير النيه فيه قوي كالصلاة، وأن طبيعة كل من العبادتين متقاربه إذ تبطلان بفعل شيء من مبطلاتهما.
* ففي صحة الصوم قولان مشهوران في مذهب الشافعية إذا رفضت نيته، أصحهما لا يبطل (2) . ومذهب المالكية القول بالبطلان (3) .
__________
(1) راجع هذه التعليلات في "المجموع" (6/331-332) ، "نهاية الأحكام" (45) ، "قواعد الأحكام" (1/214-215) .
(2) "المجموع" (6/331) .
(3) "الذخيرة" (1/511) .(2/82)
* والذي يلحقه بالحج يرى أن الفارق بين الصوم والصلاة يتمثل في أن الصوم ليس له عقد تحرم وتحلل يؤثر فيه القصد؛ ذلك لأن الصلاة يتعلق تحريمها وتحليلها بقصد الشخص واختباره، والصوم بخلافه لأن الناوي ليلاً يصير شارعًا في الصوم بطلوع الفجر، ويفطر بغروب الشمس، وإن لم يشعر بهما، فضعف النية في الصلاة له تأثير كبير بخلاف الصوم، مما يدل على هذا جواز تقديم النية في الصوم في الفرض والنفل، وجواز تأخيرها في النفل، وهذا لا يجوز في الصلاة.
* ومنهم من لا حظ أن الصوم أقل حاجة إلى النيّة من الصلاة؛ لأن الصوم ملحق بالمتروك، بخلاف الصلاة فهي من باب الأفعال.
(3) قلب نية الصوم وتغييرها:
من مبطلات النية في العبادات تغييرها وقلبها، مذهب ابن حزم هنا كمذهبه في رفض النية وقطعها، فهو يرى أن من صرف نيته من صلاة إلى صلاة مثلاً متعمدًا فصلاته باطلة.
وغيره من العلماء يذهب إلى هذا المذهب، إلا في حالات قليلة.
أقسام النية التي قلبت
الذي يُتصور في قلب النية أقسام:
(1) نقل فرض إلى فرض:
في هذه الحال تبطل الأولى، ولا تصح الثانية، وممن نصّ على هذه ابن قدامة في الصلاة، والشافعي لم يصحّح أن يعد الرجل دراهم أخرجها زكاة ماله فوجده هالكًا - أن يعدّ تلك الدراهم زكاة مال آخر.
* أما قلب النية في الصوم:
فالعلماءُ لا يجيزون قلب شهر رمضان إلى غيره، أما قلب صوم نذر إلى صوم كفارة مثلاً، فالخلاف مبني على ما ذكرناه من قبل: هل رفض النية في الصوم مبطل له أم لا؟(2/83)
فعلى القول القائل بعدم بطلانه يصح صرف نيته، وعلى القول الآخر يبطل الصوم (1) .
(2) نقل نفل إلى فرض:
هذا لا يصح في الصلاة بالإجماع، وكذا في الزكاة، وفي الصوم صحح أبو حنيفة صوم الفرض بنية التطوع خلافًا لقول الجمهور، وفي الحج يتأدى الفرض بنية التطوع.
(3) نقل نفل إلى نفل:
إذا كان النفل مطلقًا فغالب العلماء يرون صحة ذلك، أما إذا كان مقيدًا فالذي نصّ عليه الماوردي عدم الصحة (2) .
(4) عدم التشريك في النية:
لا نريد بالتشريك هنا ما ينافي الإخلاص وإنما نريد هنا أن يقصد بالعمل الواحد قربتين، كأن ينوي بالصلاة الرباعية قضاء فائتة وفريضة الوقت الحاضر.
والقاعدة العامة التي يكادُ الفقهاء يجمعون عليها أن هذه النيّة غلط؛ لأن العبادة الواحدة لا يمكن أن تغني غناء عبادتين. إلا أن بعضا منهم استثنى بعض العبادات وحكم بحصول كلتا العبادتين: فمن ذلك منْ نوى بصلاته الفريضة وتحية المسجد، ومن نوى بغسله رفع الحدث الأصغر والأكبر، أو غسل الجمعة والجنابة، أو نوى بتيممه رفع الحدثين: الأكبر والأصغر. والذي يقول بحصول العبادتين بالفعل الواحد في مثل هذه الصور فلأن مراد الشارع يتحقق بحصول الفعل.
أما ما صححّوه من تجويز عبادتين بنية واحدة فالذي يظهر لي فيه أن الشارع قد اعتبر فيه هذين الأمرين المقصودين ولو لم يقصدهما الفاعل، ومن قال: إن الصائم في يوم عرفة قضاء ينال ثواب صيام عرفة ويجزيء عنه من القضاء.
__________
(1) "المجموع" (6/332) .
(2) "المجموع" (4/110) .(2/84)
وابنُ حزم يرى بطلان كلّ عبادة قصد بها تحقيق قربتين سواءً أكانت العبادة صلاة أو صومًا أم زكاة ولم يستثن من ذلك إلا من مزج قصد العمرة بالحج في حالة إحرامه بهما والهدي معه؛ لأن هذا هو الحكم.
وغالبية العلماء يرون أنّ من قصد أكثر من عبادة بالفعل الواحد تحصل واحدة منهما ولا تبطل كلها.
وقسم من الأحناف لهم رأي حسن في اعتبار المقصود الذي ينبغي أن يتحقق، فهم يرون أن العبادة الأوجب لها الأولوية، فإذا صام يوماً عن قضاء وكفارة جعل عن القضاء لأنه أوجب، فإن استويا في القوة فله أن يجعلهما إلى أيّ عبادة شاء، كمن نوى صومًا عن ظهار، وكفارة يمين.
(5) قصد الصوم دفعة واحدة:
وهذا شرط من شروط النية، وقد حقق العز بن عبد السلام القول في هذه المسألة فقال: "تفريق النية على الطاعة يختلف باختلاف الطاعات، والطاعات أقسام:
أولها: طاعة متحددة: وهي التي يفسد أولها بفساد آخرها كالصلاة والصيام، فلا يجوز تفريق النية على أبعاضها.
مثاله في الصيام: أن ينوي إمساك الساعة الأولى وحدها، ثم ينوي إمساك الساعة الثانية، وكذلك يفرد كل إمساك بنية تختص به إلى آخر النهار فإن صومه لا يصح.
وكذلك لو أفرد نية الصلاة على أركانها وأبعاضها، مثل أن يفرد التكبير بنية، والقيام بنية ثانية، والركوع بنية ثالثة. وكذلك إلى انقضاء الصلاة، فإن صلاته لا تصح.
ثانيها: طاعة متعددة كالزكاة والصدقات وقراءة القرآن، فهذا يجوز أن يفرد أبعاضه بالنية، وأن يجمعه في نية واحدة.
فلو فرق النية على أحد جزئي الجملة في القراءة مثل أن قال: بسم الله، أو قال: فالذين آمنوا؛ فالذي أراه أنه لا يثاب على ذلك، ولا يثاب إلا(2/85)
إذا فرّق النيّة على الجمل المفيدة وجمل القرآن ضربان:
أحدهما: ما لا يذكر إلا قرآنًا كقوله: (كذبت قوم نوح المرسلين) [الشعراء 105] فهذا يحرم على الجنب قراءته.
الضرب الثاني: ما يغلب عليه كونه ذكرًا ليس بقرآن كقوله: بسم الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، فهذا لا يحرم على الجنب قراءته إلا أن ينوي به القراءة لغلبة الذكر عليه.
ثالثهما: ما اختلف في اتحاده كالوضوء والغسل فمن رآهما متحدين منع من تفريق النية على أجزائهما، ومن رآهما متعددين جوّز تفريق النية على أبعاضهما" (1) .
__________
(1) "قواعد الأحكام" (1/219) ، "المجموع" (1/379-380) ، "الإنصاف" (1/151) .(2/86)
النيابة في النيات في الصوم
مقدمة وتمهيد هام:
مرادنا بالنية هنا: أن ينوي شخص ما تأدية عبادة عن غيره في صلاة أو صوم أو حج. وقد اختلف العلماء في ذلك بين مانع مطلقًا، ومجيز مطلقًا، ومجيز في بعض دون بعض.
فقد ذهب إلى المنع مطلقًا علماء المعتزلة (1) ، والإمام مالك (2) وأصحابه.
وذهب إلى الإجازة مطلقًا ابن تيمية في أحد أقواله (3) .
وذهب جماهير العلماء إلى جواز النيابة في الحجّ، وممن قال بذلك: ابن عباس، وعليّ بن أبي طالب، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأهل الظاهر، وغيرهم.
ومن هؤلاء المجيزين للنيابة في الحجّ من منع النيابة في الصوم، منهم الشافعي، والثوري، وقال بذلك: ابن عمر، وعائشة، وأبو حنيفة (4) .
وأجاز أحمد النيابة في صوم النذر خاصة، وهو قول ابن عباس وإسحاق، وأبي عبيد،. والليث بن سعد (5) .
***
__________
(1) "نيل الأوطار" (4/99) ، "أصول الفقه" لأبي زهرة ص 323.
(2) "الوافقات" (2/174) .
(3) نسبه إليه محمد رشيد رضا في "التفسير" (8/254) .
(4) "المجموع" للنووي (6/431) .
(5) "المجموع" (6/431) ، "تهذيب السنن" (3/281) .(2/87)
أدلة الذين منعوا مطلقًا
أولاً: النصوص التي تدل بعمومها على منع النيابة:
استدلّوا بقوله تعالى: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [النجم: 36 - 39]
يقول القرطبي: "أخبر تعالى أنّه ليس للإنسان إلا سعي نفسه، فمن قال إنّ له سعي غيره، فقد خالف الآية" (1) .
ويقول ابن كثير: "كلّ نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب فإنَّما عليها وزرها، لا يحمله عنها أحد، وكذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه" (2) .
ويعتبر ما دلت عليه هذه الآية قاعدة من قواعد دين الله في كلّ شريعة أنزلها، فقد أخبر هنا أنَّ هذا كان مقررًا في الكتب الماضية العظيمة، وعند الرسل العظام: عند إبراهيم وموسى.
وعندما نجيل النظر في شريعتنا الغراء نرى نصوصًا كثيرة تدلّ على مثل ما دلت عليه الآية الماضية، فمن ذلك قوله تعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164] ، فهذه الآية كتلك في معناها.
وجاءت النصوص تقرر أن الهداية والضلال، والمجاهدة والقعود، والتزكية والقدسية، كلّ ذلك خاص بمن حصل منه: (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الإسراء: 15] .
وقوله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى
__________
(1) "تفسير القرطبي" (4/151) .
(2) "تفسير ابن كثير" (6/462) .(2/88)
فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) [فاطر: 18] ، وقال تعالى: (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ) [العنكبوت: 6] .
واحتجوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وإنما لكل امريء مَا نَوَى" فإنَّ مفهوم هذه العبارة: أنّه لا يحصل على ما نوى غيره (1) ، والجنَّة يدخلها النّاس بأعمالهم: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف: 43] ، ويصلى الكفرة النار بأعمالهم: (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) [يس: 64] .
وفي يوم القيامة لا يملك أحد لغيره شيئاً: (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا) [الإنفطار: 19] . وقد قرر هذه الحقيقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببيان عام أعلنه على الملأ وعمّ وخصّ، فقد روى أبو هريره -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام حين أنزل الله عليه (وأنذر عشيرتك الأقربين) [الشعراء: 214] ، فقال: "يا معشر قريش، -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف، اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس ابن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً يا صفية عمّة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً. ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي، لا أغني عنك من الله شيئًا" (2) .
ثانياً: النصوص المصرحة بمنع النيابة في بعض العبادات:
فقد استدلّوا بحديث ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه" (3) .
***
__________
(1) راجع "فتح الباري" (1/14) ، العيني على البخاري (1/27) ، "دليل الفالحين" (1/50) .
(2) "صحيح البخاري" (ص 11) - كتاب الوصايا.
(3) أخرجه النسائي في "سننه".(2/89)
ثالثًا: قالوا: جواز النيابة في العبادات تنافي الغرض من تشريعها:
لأن المقصود من العبادات الخضوع لله، والتوجه إليه، والتذلل بين يديه، والانقياد تحت حكمه، وعمارة القلب بذكره؛ حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرًا مع الله، ومراقبا له غير غافل عنه، وأن يكون ساعيًا في مرضاته، وما يقرب إليه على حسب طاقته، والنيابة تنافي هذا المقصود وتضاده؛ لأنَّ معنى ذلك ألا يكون العبد عبدًا، ولا المطلوب بالخضوع والتوجه خاضعًا، ولا متوجهًا، إذا ناب عنه غيره في ذلك، وإذا قام غيره في ذلك مقامه فذلك القائم هو الخاضع المتوجه، والخضوع والتوجه ونحوهما إنما هو اتصاف بصفات العبودية، والاتصاف لا يعدو المتصف به، ولا ينتقل عنه إلى غيره. والنيابة إنّما معناها أن يكون المنوب عنه بمنزلة النائب، حتى يعدّ المنوب عنه متصفًا بما اتصف به النائب، وذلك لا يصحّ في العبادات كما يصحّ في التصرفات (1) .
يقول العز بن عبد السلام موضحًا هذه المسألة: "لا يثاب الإنسان ولا يعاقب إلا على كسبه واكتسابه؛ لأنَّ الغرض بالتكاليف تعظيم الإله بطاعته، واجتناب معصيته، وذلك مختص بفاعليه؛ إذ لا يكون معظّم الحرمات منتهكًا لها بانتهاك غيره، ولا منتهك الحرمات معظمًا لها بتعظيم غيره، فكذلك لا تجوز الاستنابة في المعاصي والمخالفات، ولا في الطاعات البدنيات إلا ما استثني ... " (2) .
رابعًا: قالوا: لو صحت النيابة في العبادات البدنية لصحت في الأعمال القلبية كالإيمان وغيره من الصبر والشكر والرضى والتوكل والخوف والرجاء وما أشبه ذلك.
ولو كانت النيابة جائزة، فإنَّ التكاليف ينبغي ألا تكون محتومة على المكلف عينًا لجواز النيابة، فكان يجوز أمره ابتداء على التخيير بين العمل والاستنابة، ولصحّ مثل ذلك في المصالح المختصة بالأعيان من العبادات كالأكل
__________
(1) "الموافقات" (2/167-168) .
(2) "قواعد الأحكام" (1/135) .(2/90)
والشرب والوقاع واللباس، وما أشبه ذلك، وفي الحدود والقصاص والتعزيرات وأشباهها من أنواع الزجر، وكل ذلك باطل بلا خلاف، من جهة أنّ حكم هذه الأحكام مختصة فكذلك سائر العبادات (1) .
خامسًا: احتجّ مالك بعمل أهل المدينة: فعملهم على عدم النيابة، قال
القرطبي: "وهو أقوى ما يحتج به لمالك" (2) .
***
المجيزون مطلقًا
موقفهم من حجج المانعين:
ذهب بعض العلماء إلى أنَّ قوله تعالى: (وأن ليس للإِنسان إِلا ما سعى) منسوخ، وقد نسب بعض المفسرين القول بذلك إلى ابن عباس (3) ، وعندي في صحة هذه النسبة إلى ابن عباس نظر، لما سنعلمه بعد من أنّه كان يفتي بألا يصام عن الميت في صوم فرض، بل يُطْعم عنه، ولأنَّه راوي الحديث الذي سبق ذكره: "لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد.." الحديث.
كما نسبت كتب التفسير إلى عكرمة مولي ابن عباس أنَّه كان يقول: "كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى، أما هذه الأمة فلها ما سعى غيرها، يدلُّ عليه حديث سعد بن عبادة: هل لأمي إن تطوعت عنها؟ قال: "نعم" (4) .
ونسبوا إلى بعض أهل العلم أنَّ هذه الآية: (وأن ليس للإِنسان إلا ما سعى) ، خاصة بالكافر، أما المؤمن فله ما سعى غيره (5) .
وهذه الأقوال: من القول بأنَّ الآية منسوخة، أو أنَّها خاصة بالأمم من
__________
(1) "الموافقات" (2/168) .
(2) "تفسير القرطبي" (2/282) .
(3) انظر "البحر المحيط" لأبي حيان عند تفسيره لهذه الآية.
(4) المصدر السابق.
(5) المصدر السابق.(2/91)
قبلنا، أو خاصة بالكافر غير صحيحة:
أولاً: لأنّ الآية خبر لم يتضمن تكليفًا، وما كان كذلك لا يجري فيه النسخ.
ثانيًا: ولأنَّه قد دلَّ على معناها نصوص كثيرة من الكتاب والسُنة، وقد ذكرنا جملة منها.
ثالثًا: مما يدلّ على بطلان خصوصيتها بالأمم السابقة وجود النصوص الدالة على ما دلت عليه في شريعتنا، وشرع من قبلنا شرع لنا إذا وجد في شرعنا ما يقره ويؤيده.
رابعًا: القول بخصوصيتها بالكافر خلاف الظاهر، وليس عليه دليل.
أدلة المجيزين للنيابة مطلقًا أوفي حال دون حال:
الذين قالوا بالإجازة خصوا النصوص التي استدلّ بها المانعون بمخصصات كثيرة نذكر منها ما يأتي:
1- ما رواه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان الفضل رديف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصرف وجه الفضل إلى الشقِّ الآخر، فقالت: إنَّ فريضة الله أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: " نعم". وذلك في حجِّة الوداع" (1) .
2- حديث أبي رزين العقيلي (2) ، أنَّه أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنَّ أبي شيخ كبير، لا يستطيع الحجّ، ولا العمرة، ولا الظعن، قال: "حج عن
__________
(1) رواه البخاري (24) - - كتاب جزاء الصيد، "فتح الباري" (4/67) ، ومسلم (انظره: بشرح النووي) (9/69) .
(2) هو: لقيط بن عامر بن صبرة بن عقيل بن كعب العقيلي أبو رزين صحابي، لم يذكروا تاريخ مولده ووفاته.
راجع: "تهذيب التهذيب" (8/456) ، و"خلاصة تهذيب الكمال" (2/372) ، "الكاشف" (3/13) .(2/92)
أبيك، واعتمر" (1) .
3- حديث عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- قال: "جاء رجل من خثعم إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: إنَّ أبي أدركه الإسلام، وهو شيخ كبير، لا يستطيع ركوب الرحل، والحج مكتوب عليه، أفأحج عنه؟ قال: "أنت أكبر ولده؟ " قال: نعم. قال: "أرايت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه، أكان ذلك يجزيء عنه"، قال: نعم، قال: "فاحجج عنه" (2) .
4- عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من شبرمة؟ " قال: أخ لي، أو قريب لي. قال: "حجَّ عن نفسك، ثم عن شبرمة". وفي رواية: "هذه عنك، ثم عن شبرمة" (3) .
ومنها الأحاديث الدالة على صحّة صوم الولي عن ميت عليه صيام من رمضان أو نذر، فمن هذه الأحاديث:
5- حديث عائشة -رضي الله عنها- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" (4) .
6- وحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنَّ امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله تبارك وتعالى أنجاها أن تصوم شهرًا، فأنجاها الله عز وجل، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها (إمَّا أختها أو ابنتها) إلى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له، فقال: "أرأيت لو كان عليها دين، كنت تقضينه؟ " قالت: نعم.
قال "فَدَيْنُ الله أحقّ أن يقضى، فاقض عن أمك" (5) .
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(2) رواه أحمد والنسائي.
(3) رواه أبو داود، وابن ماجه، قال البيهقي: إسناده صحيح، وروي موقوفًا، ورجّح ابن القطان رفعه، وقال الطحاوي: الصحيح أنه موقوف، وقال ابن حجر بعد أن ذكر الحديث ومخرجيه والكلام فيه "فيجتمع من هذا صحّة الحديث"، انظر "تلخيص الحبير" لابن حجر (2/223-224) .
(4) متفق عليه "مشكاة المصابيح" (1/633) .
(5) رواه السبعة.(2/93)
7- حديث ابن عباس أيضاً، أن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- استفتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إن أمي ماتت وعليها نذر؟ فقال: "اقضه عنها" (1) .
موقف المانعين للنيابة في العبادات من هذه النصوص الدالة على الجواز ومناقشتهم:
أولاً: تضعيف هذه النصوص:
قالوا يدلّ على ضعفها اضطرابها، ففي بعض الروايات أنَّ الذي سأل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل، وفي رواية امرأة، وفي رواية أن المسؤول عن الصيام عنه أب، وفي رواية أم، وفي رواية أخت، والمسؤول فيه في رواية حج، وفي أخرى صوم (2) .
وحسبنا في الردّ عليهم أن هذه التي قالوا: إنَّها مضطربة، اتفق على إخراجها البخاري ومسلم.
وقد حقَّق العلماء أن هذا الاضطراب غير قادح؛ لأنه من باب اختلاف الوقائع، بل في بعض الروايات توضيح لذلك، كتلك الرواية التي أخرجها مسلم، وقد سألت المرأة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحجّ عن أمها، والصيام عنها. ثم توجد نصوص من تلك الأحاديث لا اضطراب فيها. وضعفوها أيضاً من جهة مخالفة الرواة لها "عائشة وابن عباس" -رضي الله عنهما- بفتواهما، وهذا غير قادح؛ لأنَّ الحُجة بما روياه.
ثانياً: جعل الشاطبي عدم أخذ العلماء بهذه الأحاديث أو ببعضها دليلاً على ضعف الأخذ بها في النظر، ومما ضعّفها في نظره أنها تدلّ على جواز النيابة في الحجّ، والحج يشتمل على ركعتي الطواف، وقد أجمع العلماء على عدم جواز النيابة في الصلاة (3) . وهذا الذي ذكره لا يوجب ضعف هذه
__________
(1) متفق عليه.
(2، 3) "الموافقات" (2/74) .(2/94)
الأحاديث؛ إذ ليس مما يضعّف الحديث عدم أخذ العلماء به كما هو مقرر في علم أصول الحديث، والصلاة في الحج "ركعتا الطواف" إنّما جازتا على وجه التبعية؛ إذ هما تابعتان ولم يقصدهما مؤديهما على أنّهما صلاة مستقلة عن الحج.
ثالثًا: قالوا هي خاصة بالمأذون لهم بالنيابة:
فقد ذكر ابن عبد البر أن حديث الخثعمية التي أذن لها الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحج عن أبيها، محمول عند مالك وأصحابه على الخصوصية (1) ، واستدلّوا على ذلك بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للسائل: "حج عنه، وليس لأحد بعده" (2) .
ويجاب عن ذلك بأمور:
1- أنَ الخصوصية لا تثبت بغير دليل، فقد دلَّ صريح لفظ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باختصاص أبي بُردة بن نيار (3) بجواز التضحية بعناق دون غيره، حيث قال له: "لا تجزيء عن أحد بعدك" (4) وكما خصّ خزيمة (5) دون غيره بكون شهادته بشهادة رجلين (6) .
2- وكيف تتمّ دعوى الخصوصية، وقد صحّ في بقية الأحاديث
__________
(1) "تفسير القرطبي" (4/152) .
(2) ضعف ابن حجر هذه الرواية في "فتح الباري" (4/69) .
(3) اسمه: هانيء، وقيل: الحارث بن عمرو، وقيل: مالك بن هبيرة، خال البراء بن عازب، صحابي توفي عام (41هـ) .
راجع: "تهذيب التهذيب" (12/19) ، "الكاشف" (3/312) .
(4) رواه البخاري ومسلم وأبو داود "تلخيص الحبير" (4/139) .
(5) هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الأنصاري، صحابي جليل، من أشراف الأوس في الجاهلية والإسلام، له في "الصحيحين" (38) حديثًا، قتل بصفين سنة (37هـ) .
راجع: "تهذيب التهذيب" (3/140) ، "خلاصة تذهيب الكمال" (1/289) ، "الكاشف" (1/279) .
(6) البخاري في "صحيحه" انظر: "فتح الباري" (6/22) .(2/95)
إذن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغيرها في الصوم عن الأب أو الأم أو الحج عنهما؟
كما أذن لأبي رزين العقيلي (1) .
3- والرواية التي أوردوها دالة على الخصوصية ضعيفة كما حقق ذلك ابن حجر (2) .
رابعًا: ومنهم من تأول هذه الأحاديث على وجه يوجب ترك اعتبارها مطلقًا:
وذلك أنّه قال: سبيل الأنبياء -صلوات الله عليهم-: ألا يمنعوا أحدًا من فعل الخير. يريد أنَّهم سئلوا عن القضاء في الحجّ والصوم، فأنفذوا ما سئلوا فيه، من جهة كونه خيرًا، لا من جهة أنه جاز عن المنوب عنه، هكذا قال الشاطبي، وذكر قريبًا منه ابن العربي، والقرطبي (3) .
وهذا الذي قالوه كلام -بعيد فكيف يُظنّ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن- يقرَّ السائلين عن خلاف الحق، مجاراة لرغبة السائل في عمل الخير، بل كيف يقول للسائلين: حجّوا، وصوموا، ويجزيء ذلك عن من فعلوه عنه، وواقع الأمر على خلاف ذلك. هذا ما لا يكون أبدًا، ولا يظنّ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك، وغفر الله لهم مقالتهم هذه.
خامسًا: حملوا بعض هذه الأحاديث محملاً بعيدًا، فقالوا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صام عنه وليه" محمول على ما تصحّ النيابة فيه، وهو الصدقة مجازًا؛ لأنَّ القضاء تارة يكون بمثل المقضي، وتارة بما يقوم مقامة عند تعذره، وذلك في الصيام: الإطعام، وفي الحج: النفقة عمّن يحج عنه، أو ما أشبه ذلك (4) .
__________
(1) انظر الأحاديث الدالة على جواز النيابة التي سقناها.
(2) "فتح الباري" (4/69) .
(3) "الموافقات" (2/174) ، "تفسير القرطبي" (4/152) ، "أحكام القرآن" لابن العربي (1/287، 288) .
(4) "الموافقات" (2/175) .(2/96)
وهذا حمل بعيد، يدلّ على ضعفه إذنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأحاديث الأخرى بالحجّ والصيام، وبقوله للملبي عن شبرمة: "حجّ عن نفسك أولاً، ثم حجّ عن شبرمة".
السادس: ردّوا هذه الأحاديث بدعوى أنَّها مخالفة لظاهر القرآن:
يقول القرطبي: "رأي مالك أنَّ ظاهر حديث الخثعمية مخالف لظاهر القرآن، فرجح ظاهر القرآن"، وقد رجح القرطبي ظاهر القرآن لأمرين، قال: "ولا شك في ترجيحه من جهة تواتره، ومن جهة أنَّ القول المذكور قول امرأة ظنَّت ظنًا"، ثم أورد إشكالا على ما ذهب إليه، ولم يستطع الردَّ عليه ردا مجزئًا، فقال: "لا يقال: قد أجابها الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن سؤالها، ولو كان غلطا لبينه لها، لأنَّا نقول: إنَّما أجابها عن قولها: أفاحج عنه؟ قال: "حجي عنه" (1) . فأين الجواب عن الإشكال الذي أورده؟ ولقد صدق ابن حجر وبرَّ حين قال معقبًا على ما ذكره القرطبي: "وتعقّب بأنَّ في تقرير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها على ذلك حجَّة ظاهرة" (2) .
وما ذكره القرطبي ذكره الشاطبي بأجلى من عبارة القرطبي، قال: "هذه الأحاديث على قلتها معارضة لأصل ثابت في الشريعة قطعي، ولم تبلغ مبلغ التواتر اللفظي ولا المعنوي، فلا يعارض الظن القطع، كما تقرر أن خبر الواحد لا يعمل به إلا إذا لم يعارضه أصل قطعي، وهو أصل مالك بن أنس وأبي حنيفة". ثمَّ بين أنَّ هذا الجواب عن الأحاديث هو الجواب القوي المرضيّ، فقال: "وهذا الوجه هو نكتة الموضع، وهو المقصود فيه، وما سواه من الأجوبة تضعيف لمقتضى التمسك بتلك الأحاديث، وقد وضح مأخذ هذا الأصل الحسن" (3) .
وفي الردّ نقول: إنَّ هذا الذي ردّوا به الأحاديث ليس بحسن، فإنَّ ما
__________
(1) "فتح الباري" (4/70) .
(2) "الموافقات" (2/175) .
(3) "الموافقات" (2/175) .(2/97)
قالوه لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن التوفيق، وفي حال إمكان التوفيق بين النصوص فلا يعدل عنه، وقد أمكن هنا كما سيأتي بيانه قريبًا.
موقف الذين أجازوا النيابة في بعض العبادات من حجج المجيزين مطلقًا:
عرضنا موقف المانعين من النيابة تجاه النصوص الدالة على جواز النيابة، فما موقف غيرهم من العلماء؟
جماهير العلماء -كما ذكرنا في مقدمة هذا الفصل- احتجّوا على جواز النيابة في الحج بالأحاديث الأربعة الأولى (1) . فقد أذن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها للخثعمية، وللخثعمي، ولأبي رزين العقيلي، بالحج عن آبائهم.
وأقر ذلك الملبي عن شبرمة بالحج عنه، وإنما اعترض عليه في أمر آخر،.
وهو أن عليه أن يحج عن نفسه أولاً، ثم ليحج بعد ذلك عن شبرمة، ومما يستأنس به أنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن للولي أن ينوي عن الصغير في الحج (2) .
والشافعي ومن معه أجازوا أن يحجّ المرء نيابة عن غيره، ولكنّه منع النيابة في الصوم مطلقًا، وعندما قيل له: لم فرّقت بين الصوم والحج؟ قال: "قد فرّق الله بينهما، فإن قيل: أنَّى قلت: فرض الله الحج على من وجد إليه سبيلاً، وسن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقضي عمن يحج، ولم يجعل الله ورسوله من الحجّ بدلاً غير الحج".
وفرض تعالى الصوم، فقال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: 184] ، فقيل: يطيقونه: كانوا يطيقونه، ثم عجَزوا عنه، فعليهم في كل يوم طعام مسكين" (3) .
__________
(1) من أدلة المجيزين مطلقًا.
(2) رواه مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما "أن امرأة رفعت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صبيًا
قائلة: ألهذا حج؟ قال: "نعم، ولك أجر"، انظر: "شرح النووي على مسلم" (9/99) .
(3) اختلاف الحديث، انظر: هامش كتاب "الأم" (2/89) .(2/98)
وبهذا فرق بين الصلاة، والحج فقال: "وأمر بالصلاة، وسنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألا تقضي الحائض، ولا يقضي عنها ما تركت من الصلاة، وقال عوام المفتين: ولا المغلوب على عقله، ولم يجعلوا في ترك الصلاة كفارة، ولم يذكر في ذلك كتاب ولا سُنة عن صلاة كفارة من صدقة، ولا أن يقوم به أحد عن أحد، وكان عمل كل امريء لنفسه، وكان الصوم والصلاة عمل المرء لنفسه لا يعمله غيره، وكان يعمل الحج عن الرجل اتباعًا للسنة وبخلافه الصوم والصّلاة" (1) . ثم ذكر فرقًا آخر بين الحجّ والصوم والصلاة، وهو أنَّ الحجّ "فيه نفقة من المال، وليس ذلك في الصوم والصّلاة" (2) .
ومع هذا الفرق الذي ذكره الشافعي إلا أنَّ النصوص الدالَّة على جواز النيابة في الصوم لا تزال قائمة تلزمه بأن يقول بمقتضاها، لكنَّه لا يرى صحتها، وقد بيَّن ضعفها في أكثر من موضع في كتبه، قال الشافعي: "فإن قيل: أفروي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه أمر أحدًا أن يصوم عن أحد؟ قيل: نعم.
روى ابن عباس رضي الله عنهما وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإن قيل: لِمَ لم تأخذ به؟
قيل: حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله ابن عباس - رضي الله عنهما عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نذر نذرًا"، ولم يسمّه مع حفظ الزهري، وطول مجالسة عبيد الله لابن عباس.
فلما جاء غيره عن رجل عن ابن عباس -رضي الله عنهما- بغير ما في حديثه أشبه ألا يكون محفوظا. فإن قيل: أتعرف الذي جاء بهذا الحديث يغلط عن
__________
(1) اختلاف الحديث، انظر هامش كتاب "الأم" (2/849) .
(2) المصدر السابق. والشافعي -رحمه الله- يجيب هُنا عن الذين قاسوا الصوم والصلاة على الحج بحجة أن ذلك كله دين الله ثابت في الذمة فشمله قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فدين الله أحقّ
بالقضاء"، وقد وضّح هذه المسألة الغزالي في "شفاء الغليل" (ص 45) ، فبّين أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شبه الحج بدين عرف من جهة الشرع تطرق النيابة إلى أدائه، وعرف أيضاً أنَّ الحج تتطرق النية إلى أدائه، وعرف أن الصلاة والصوم لا مدخل للنيابة في تبرئة الذمة عنهما، ثم قال: "فالأدلة المعرفة للجمع والفرق في النيابة تخصص العلة بالحج، وتقطع عنه الصوم والصلاة".(2/99)
ابن عباس؟ قيل: نعم، وروى أصحاب ابن عباس عن ابن عباس أنه قال لابن الزبير: إنَّ الزبير حل من متعة الحج، فروي هذا عن ابن عباس أنَّها متعة النساء، وهذا غلط فاحش" (1) .
وقد ساق البيهقي كلام الشافعي، ثمَّ قال (2) : "يعني به -أي الحديث الذي ضعّفه- حديث الشافعي عن مالك عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس: "أنَّ سعد بن عبادة (3) استفتى ... " الحديث؛ قال البيهقي: وهو حديث صحيح رواه البخاري ومسلم من رواية مالك وغيره عن الزهري، إلا أن في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أنَّ امرأة سألت يعني عن صوم أمها، وكذلك رواية الحكم بن عتيبة، وسلمة بن كهيل (4) عن مجاهد عن ابن عباس - رضي الله عنهما" (5) .
وقد تكلم البيهقي عن هذه الأحاديث الدالة على جواز صوم الولي عن الميت في "معرفة السنن والآثار"، وبيَّن قوة هذه الأحاديث، واختتم كلامه قائلاً: "وقد أودعها صاحبا "الصحيحين" كتابيهما، ولو وقف الشافعي على جميع طرقها ونظائرها لم يخالفها إن شاء الله تعالى" (6) .
وقال النووي بعد نقله كلام البيهقي، وبعد جزمه بصحّة الأحاديث الدالة
__________
(1) اختلاف الحديث، انظر: هامش كتاب "الأم" (2/89) .
(2) "المجموع" (6/426) .
(3) هو سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي، صحابي جليل، سيد الخزرج، شهد بيعة العقبة الثانية، وكان أحد النقباء الاثنى عشر، توفي عام (14هـ) .
راجع: "تقريب التهذيب" (3/475) ، "خلاصة تهذيب الكمال" (1/369) ، "الكاشف" (1/9352) .
(4) سلمة بن كهيل الحضرمي الكوفي تابعي ثقة، سمع زيد بن أرقم، وابن عمر توفي سنة (121هـ) .
راجع: "تقريب التهذيب" (1/318) ، "خلاصة تهذيب الكمال" (1/405) ، "الكاشف" (1/386) .
(5) "المجموع" (6/426) .
(6) "المصدر السابق".(2/100)
على جواز النيابة في الصوم، قال: "ويتعين أن يكون هذا -جواز النيابة في الصوم- مذهب الشافعي؛ لأنه قال: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، واتركوا قولي المخالف له".
ثم قال -معتذرًا للشافعي في تضعيفه للحديث-: "وقد صحت في المسألة أحاديث، والشافعي إنَّما وقف على حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- من بعض طرقه، ولو وقف على جميع طرقه، وعلى حديث يزيد، وحديث عائشة -رضي الله عنها- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُخالف ذلك" (1) .
أما الإمام أحمد ومن ذهب مذهبه من الذين قالوا بجواز النيابة في صوم النذر خاصة فحجّتهم:
أولاً: أنَّ السائلة في "الحديث الخامس" (2) . حديث ابن عباس قد صرَّحت أنَّ أمَّها نذرت أن تصوم شهرًا، ثم توفيت قبل أن تفي بنذرها (3) .
ثانياً: حملوا حديث عائشة -رضى الله عنها-: "الحدث الرابع": "من مات وعليه صوم صام عنه وليه" (4) . على صوم النذر؛ لأنه قد ورد النهي في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- من النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أن يصلي أحد عن أحد، أو يصوم أحد عن أحد (5) ، وقالوا: وفقنا بين هذين النصّين بحمل النهي على النيابة في صوم الفرض، وحملنا الإذن في النيابة على صوم النذر.
ثالثًا: قالوا هذا الذي صرنا إليه هو الذي أفتى به رواة هذه الأحاديث، فعائشة -رضي الله عنها- التي روت: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه"، وابن عباس -رضي الله عنهما- الذي روى إفتاء الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرأة بأن تصوم عن أمها، لم يفهما من هذه النصوص جواز النيابة في صوم الفرض، فقد
__________
(1) "المجموع" (6/426) .
(2) من أدلة المجيزين مطلقًا.
(3) سبق تخريجه من قبل.
(4) سبق تخريجه من قبل.
(5) سبق تخريجه من قبل.(2/101)
أخرج الطحاوي عن عَمْرة أن أمّها ماتت وعليها من رمضان، فقالت لعائشة: -رضي الله عنها- أقضيه عنها؟ قالت: "بل تصدقي عنها مكان كلّ يوم نصف صاع على كل مسكين" (1) .
وابن عباس -رضي الله عنهما- أفتى: "إذا مرض الرجل ثم مات ولم يصم، أطعم عنه، ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نذر قضي عنه" (2) .
قالوا: فرواة الأحاديث لم يفهموا منها جواز النيابة في صوم الفرض، وقد تقرّر عند علماء الشريعة، أن راوي الحديث أدرى بمعنى ما روى، لا سيما إذا كان ما فهم هو الموافق لقواعد الشريعة وأصولها، كما هو الشأن هنا، خاصة إذا كان الراوي من كبار فقهاء الصحابة مثل أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنهما-، وحبر هذه الأمة ابن عباس رضي الله عنهما-.
رابعًا: قالوا وفي هذا الذي صرنا إليه رفع للإشكال الذي سببّه حديث عائشة، فما صرنا إليه فيه إعمال للقاعدة القاضية بأن الفرائض لا تقبل النيابة، وإعمال للنصوص المجيزة للصوم عن الولي.
خامسًا: وقد قوى ابن القيم مذهب الحنابلة، وقال: "وهو مقتضى الدليل والقياس" ثم أخذ يبين وجه ذلك: "لأن النَّذر ليس واجبا بأصل الشرع، وإنما أوجبه العبد على نفسه، فصار بمنزلة الدَّيْن الذي استدانه، ولهذا شبَّهه النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدّيْن في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، والمسؤول عنه فيه: أنَّه كان صوم نذر".
وتابع استدلاله قائلاً: "والدَّين تدخله النيابة، وأمَّا الصوم الذي فرضه الله عليه ابتداء فهو أحد أركان الإسلام، فلا تدخله النيابة بحال، كما لا يدخل الصلاة والشهادتين، فإن المقصود منها طاعة العبد بنفسه، وقيامه بحق العبودية التي خلق لها، وأمر بها، وهذا أمر لا يؤديه عنه غيره، كما لا يسلم
__________
(1) أخرجه الطحاوي، وابن حزم في "المحلى" (7/4) ، واللفظ له بإسناد صحيح كما قال ابن التركماني.
(2) أخرجه أبو داود بإسناد صحيح على شرط الشيخين، وله طريق آخر عند ابن حزم في "المحلى" (7/7) .(2/102)
عنه غيره، ولا يصلي عنه غيره".
ثم أخذ يبين أنَّ النذر أخف حكمًا من الفرض وبذلك يفارقه: "وسر الفرق: أنَّ النذر التزام المكلَّف لما شغل به ذمته، لا أنَّ الشارع ألزمه به ابتداء، فهو أخف حكمًا مما جعله الشارع حقًا له عليه، شاء أم أبى، والذمة تسع المقدور عليه، المعجوز عنه، ولهذا تقبل أن يشغلها المكلَّف بما لا قدرة له عليه، بخلاف واجبات الشرع فإنَّها على قدر طاقة البدن، لا تجب على عاجز"، إلى أن قال: " ... فلا يلزم من دخول النيابة في واجب النذر بعد الموت، دخلوها في واجب الشرع" (1) .
أما الذين قالوا بأنّه لا ينوب أحد عن أحد في حج ولا صوم إلا الابن عن أبيه فقد احتجوا بأنَّ السائل في غالب الأحاديث ولد، وحملوا بقيّة الأحاديث على الولد؛ لأنَّ النصوص من أمثال قوله: (وأن ليس للإِنسان إِلا ما سعى) مانعة من النيابة، قالوا: ولا تعارض بين الآية ونيابة الابن؛ لأن الابن من سعي أبيه كما صح الحديث بذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إنَّ أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإنَّ ولده من كسبه" (2) .
ويشكل على ما قرروه حديث شُبْرمة الملبي في الحج عن أخيه، وحديث عائشة -رضي الله عنها- الذي فيه: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه"، فإنَّه أطلقه ولم يقيده بالولد، وفي حديث السائلة عن النذر قيل: المسؤول عن الصوم عنها كانت أختها كما في إحدى الروايات. وفي حديث الصدقة تحمل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزكاة عن عمه.
ولذا وصف ابن حجر القائلين بقصر النيابة على الولد بالجمود.
تحرير محل النزاع
بعد أن عرضنا مذاهب العلماء في النيابة وأدلتهم وما ورد عليها من
__________
(1) "تهذيب السنن" (3/282) .
(2) أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والدارمي، وهذا اللفظ للدارمي وأبي داود، ولفظ الرواية الأخرى: "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم" انظر: "مشكاة المصابيح" (2/75) .(2/103)
مناقشات يجدر بنا أن نحرر محل النزاع فنقول: ليس كلّ العبادات موضع خلاف، ولا كلّ الأشخاص تجوز نيابتهم عن غيرهم، ولذا سأبين العبادات التي اتفق العلماء على أنه لا مجال للنيابة فيها، ثم الذين لا تجوز النيابة عنهم باتفاق.
أولاً: عبادات لا مجال للنيابة فيها:
أ- العبادات القلبية كإيمان القلب وإسلامه، وحبه ورجائه ... فقد اتفق العلماء على أنّه لا مجال للنيابة فيها، ولم يذكروا خلافًا في ذلك، بل لا يتصور الخلاف.
ب- العبادات الشبيهة بالعاديّات كالوضوء والغسل والتيمم، وما ذكره بعض الفقهاء من وجوب النيّة في غسل الميّت فليس هو من باب النيابة؛ لأنَّ الميت هنا غير مكلف غسل نفسه، وإنما هو فعل أمُر به الأحياء للأموات، فينوي قصد الفعل الذي أمر به، وكذلك ما ذكروه من غسل الزوج زوجته المجنونة إذا طهرت من حيضها ونفاسها، وغسله للزوجة الذمية إذا طهرت في حيضها ونفاسها قهرًا إذا امتنعت فلا يدخل في هذا الباب؛ لأن المجنونة والذميَّة لو اغتسلتا بنفسيهما صحّ مع أنهما ليستا من أهل النيّة.، فالقول بوجوب غسلهما أو اغتسالهما إنّما هو لمجرد التطهر.
وكذلك ما ذكروه من أنّ الشخص قد يوضيء غيره أو ييممه أو يغسله، والمتوضيء والمتيمم والمغتسل من أهل النية، كمن وضّأ مريضاً أو يمم أقطعًا، ليس من باب النيابة؛ لأنَّ هذا الموضيء والمغسل والميمم بمثابة الآلة، فمثله كمثل جهاز من الأجهزة الحديثة يقوم بغسل الإنسان أو توضئته، وكمثل جنب أمطرت السماء فوقف صامدًا تحت المطر ينوي الغسل من الجنابة، فالنية هنا على المتوضيء والمغتسل والمتيمم، لا على من فعل ذلك به، وهذا واضح، وغفل من قال بأن النية على الموضيء.
جـ- نقل الطبري وغيره الإجماع على أنَّ النيابة لا تدخل الصلاة (1) ،
__________
(1) "فتح الباري" (4/69) .(2/104)
ولا يعتدُّ بمخالفة الظاهرية في تجويزهم النيابة في الصلاة المنذورة خاصة لمخالفته للإجماع، وممّن نصَّ على أن الصلاة المنذورة لا تقضي عن الميت الشافعي في اختلاف علوم الحديث (1) .
ثانياً: الذين لا تجوز النيابة عنهم:
أ- لا تجوز النيابة عن الأحياء القادرين على الفعل؛ فلا يجوز أن ينيب حيّ قادر غيره ليحج عنه أو يصوم عنه، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على عدم جواز النيابة عن القادر في حج واجب (2) .
ب- ولا يجوز أن ينيب الحيُّ غير القادر أحدًا عنه إلا في الحجّ، أما الذي لا يستطيع الصوم فيطعم عن كل يوم مسكينًا، والخلاف في الحيّ غير القادر في الحجّ، إذا كان غير مستطيع بنفسه، ولكنَّه مستطيع بغيره.
جـ- ولا تجوز النيابة عن ميّت لم يفرّط ولم يقصّر، فمذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي والجمهور أنَّ من كان عليه صوم، ولم يتمكن من قضائه حتى مات بسبب سفر أو مرض -أو غيرهما من الأعذار- فهذا لا شيء عليه، ولا يصام عنه، ولا يطعم عنه، قال العبدري: وهو قول كافة العلماء إلا طاووسًا وقتادة، فقالا: يجب أن يطعم عنه لكلّ يوم مسكينًا، لأنَّه عاجز فأشبه الشيخ الهرم" (3) .
د- ولا تجوز النيابة عن شخص كان متعمدًا لترك العبادة، يقول ابن القيم: "من ترك الحجّ عمدًا حتى مات، أو ترك الزكاة فلم يخرجها حتى مات فإنَّ مقتضى الدليل وقواعد الشرع أن فعلهما عنه بعد الموت لا يبريء ذمته، ولا يقبل منه، والحق أحق أن يتبع" (4) .
وقال في موضع آخر: "ولا يحج عن أحد إلا إذا كان معذورًا بالتأخير
__________
(1) "اختلاف علوم الحديث" هامش "الأم" (2/89) .
(2) "فتح الباري" (4/66) .
(3) "المجموع للنووي" (6/431) .
(4) "تهذيب السنن" (3/282) .(2/105)
كما يعطم الولي عمن أفطر في رمضان لعذر".
"فأما المفرط في غير عذر أصلا فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله تعالى التي فرط فيها، وكان هو المأمور بها ابتلاءً وامتحانًا دون الولي" (1) .
وبهذا يتحرر محل النزاع، فالنزاع بين العلماء في النيابة في العبادات في عبادتين.
الأولى: في الصوم عن الميت الذي عليه صوم نذر، أو صوم من رمضان، كان يمكنه قضاؤه، ثم توفّي قبل أن يقضيه.
الثانية: في الحجّ في حالتين: في ميّت لم يحجّ ولم يكن متعمدًا للترك، ولكنَّه كان يسوف ويؤجل فوافاه الأجل. وفي حيّ غْير قادر على الحجّ بنفسه، ولكنّه قادر بغيره، بأن ينفق على من يحجّ عنه من ماله، أو يجد من يطيعه من ولد أو قريب إذا أمره بالحجّ عنه.
الرأي الراجح:
وما ذهب إليه الجمهور من جواز النيابة في الحجّ في الحالتين المذكورتين هو الرأي الراجح الذي تشهد له الأدلة كما بينا، ونرى أنّه تجوز النيابة فيه من الولد ومن غير الولد -خلافًا لمن قيده بذلك-.
ومذهب الإمام الشافعي في عدم جواز النيابة في صوم الفريضة مذهب قويّ، إلا أننا نرجح مذهب الحنابلة في جواز النيابة في صوم النذر؛ لصحة الأحاديث في ذلك، على أن يكون النائب وليًا: ولدًا أو أبًا، أما غير الولي فلا؛ وذلك للحديث: "منْ مات وعليه صوم صام عنه وليه".
ونستطيع القول بأن العبادات البدنية التي لا مدخل للمال فيها لا تجوز النيابة فيها مطلقًا، وهي الوضوء، والغسل، والتيمم، والصلاة، والصوم غير المنذور.
والعبادات المالية تجوز فيها النيابة مطلقًا، ولذلك أقرَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل حبَّب قضاء الدين عن الميّت، فعن سلمة بن الأكوع: "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بجنازة، فقالوا:
__________
(1) "إعلام الموقعين" (4/482) .(2/106)
صل عليه. قال: "هل ترك شيئاً؟ " قالوا: لا. قال: "هل عليه دين؟ " قالوا: ثلاثة دنانير، قال: "صلّوا على صاحبكم"، قال رجل من الأنصار -يقال له أبو قتادة-: صلّ عليه يا رسول الله وعليَّ دينه" (1) .
وعن أبي قتادة -رضي الله عنه- نحو من حديث سلمة بن الأكوع، وفيه: "أرأيت إن قضيت عنه، أتصلي عليه؟ قال: إن قضيت عنه بالوفاء صليت عليه، قال: فذهب أبو قتادة فقضى عنه، فقال: أوفيت ما عليه؟ قال: نعم، فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى عليه" (2) .
ويدلّ على ذلك ما سيأتي من جواز الصدقة عن الميت.
أما العبادات التي فيها مدخل للمال كالحجّ، فالراجح دخول النياية فيها لأجل ذلك. -وبناء على هذا الأصل-: جاز للولي أن يقوم بتفريق زكاة مال اليتيم، وزكاة مال المحجوز عليه لجنون أو سفه، وجاز أن يفوض الرجل غيره في التصرف في ماله بما في ذلك إخراج الزكاة عنه.
إهداء ثواب العبادة للأموات
هذه المسألة شديدة الارتباط بالمسألة السابقة، بل إنَّ الفقهاء يعرضون هاتين المسالتين، وكأنهما مسألة واحدة.
والأقوال فيهما متقاربة:
فالإمام مالك -رحمه الله تعالى- منع من إهداء الثواب مطلقًا، وبذلك قالت المعتزلة (3) .
وذهب ابن تيمية إلى جواز إهداء ثواب ما يتعبد به المرء للميّت مطلقًا، أي سواء أكان صلاة، أم صيامًا، أم حجًا، أم قراءة قرآن (4) .، وقد انتصر
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه.
(2) رواه أحمد والسياق له "مشكاة المصابيح" (2/110) ، (5/297، 301، 302، 304، 311) ، وأخرجه الترمذي والنسائي والدارمي، (انظر: "أحكام الجنائز (ص 85)) .
(3) "نيل الأوطار" (4/99) .
(4) انظر: "مجموع الفتاوى" (26/16) ، وقد نسب هذا القول إلى ابن تيمية محمد رشيد رضا في "تفسير المنار" (8/254، 270) ، والألباني في "أحكام الجنائز" (ص 174) .(2/107)
ابن القيم لشيخه في كتاب "الروح"، و"أطال الاستدلال" و"الاحتجاج لنصرة هذا المذهب.
وأجاز الإمام أحمد وبعض الشافعية إهداء ثواب قراءة القرآن إلى الأموات (1) ، ومنع من ذلك الشافعي -رحمه الله تعالى- كما منعه مالك.
ويرى بعض العلماء أن جواز الإهداء مقصور على الابن، فيجوز له أن يهدي لأمه وأبيه، ولا يجوز من غيره (2) .
حجج المانعين:
احتج المانعون هنا بالحجج نفسها التي استدلّ بها مانعو النيابة في العبادات، وقد سبق ذكرها.
حجج المجيزين:
احتجوا بالنصوص التي تدل على جواز النيابة.
وبالنظر في هذه الأدلة والنصوص التي ساقوها نجد أنها لا تنهض للاستدلال على جواز إهداء الثواب إلى الميت في كل العبادات.
النية: ركن أم شرط في الصوم؟
* مذهب الحنابلة أن النية في العبادات شرط في صحتها.
* ومذهب الأحناف كمذهب الحنابلة باستثناء الوضوء والغسل، فإنها سنة فيهما عندهم.
* ومذهب المالكية كمذهب الحنابلة والأحناف كما أشار لذلك ابن العربي (3) .
* واختلف علماء الشافعية -كما يقول النووي- في نية الصلاة: هل هي
__________
(1) "نيل الأوطار" (4/99) .
(2) انظر: "نيل الأوطار" (4/99) ، "تفسير المنار" (8/254) و"أحكام الجنائز" (ص 174) .
(3) "أحكام القرآن" (1/286) .(2/108)
ركن أم شرط.؟ الأكثرون هي فرض وركن من أركان الصلاة.
وممن عدها ركنًا إمام الحرمين -الجويني-. ومال الغزالي في "الوسيط" إلى عدّها شرطا في الصلاة، ونفى أن تكون من الأركان، إلا أنه جعلها في الصوم ركنًا (1) .
* وحجة الحنابلة والأحناف والمالكية ومن وافقهم من الشافعية في أن النية شرط حديث "إنما الأعمال بالنيات" فالحديث يقضي بعدم المشروط عند عدم الشرط، فإذا قدرنا أن الذات الشرعية لا تكون إلا بالنية انتفت الشرعية بانتفاء النية، وهذا هو معنى الشرط.
* وإذا قدرنا "الصحة" التي هي أقرب المجازين إلى الحقيقة - أفاد انتفاء الصحة بانتفاء النية.
* وليست النية ركنًا عندهم، لأن ركن الشيء ما يتم به، وهو داخل فيه، والنية هنا ليست داخلة في العبادة، بل العبادة متوقفة عليها لا تصح إلا بها.
* ومذهب الذين عدّوا النيّة ركنًا من الشافعية لا غبار عليه في العبادات التي يشترطون أن تكون النيّة فيها مقارنة لأول العبادة، ففي الصلاة يرى الشافعية أن النية يجب أن تقارن التكبير، ولا يجوز أن تتقدم عليه.
* وعلى ذلك فيمكننا أن نقرر أن النية ينبغي أن تكون شرطا في العبادات إذا أجزنا تقدّم النيّة على العبادة، وركنًا إذا قلنا بوجوب مقارنتها لأول العبادة، أما القول بتقدم النيّة على العبادة كالصوم، ثم عدّها في هذه الحالة ركنًا - فهذا خطأ بيّن" (2) .
الصوم في السفر
المفطرون أقسام:
* قال ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/165) :
__________
(1) "نهاية الإحكام" (ص 43) .
(2) "مقاصد المكلفين" لعمر الأشقر (ص 342-344) .(2/109)
"المفطرون في الشرع على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: صنف يجوز له الفطر والصوم بإجماع.
القسم الثاني: وصنف يجب عليه الفطر على اختلاف في ذلك بين المسلمين.
القسم الثالث: وصنف لا يجوز له الفطر.
وكل واحد من هؤلاء تتعلق به أحكام.
* أما الذين يجوز لهم الأمران:
أ- فالمريض: باتفاق.
ب- والمسافر: باختلاف.
جـ- والحامل والمرضع.
د- والشيخ الكبير.
وهذا التقسيم كله مجمع عليه.
* أما المسافر فالنظر فيه في مواضع:
(1) هل إن صام أجزأه صومه أم ليس يجزئه؟
(2) هل إن كان يجزيء المسافر صومه، الأفضل له الصوم أو الفطر أو هو مخير بينهما؟
(3) وهل الفطر الجائز له هو في سفر محدود أم في كل ما ينطلق عليه اسم السفر في وضع اللغة؟
(4) ومتى يفطر المسافر؟
(5) ومتى يمسك؟
(6) وهل إذا مرّ بعض الشهر له أن ينشيء السفر أم لا؟
(7) ثم إذا أفطر ما حكمه؟
* وأما المريض فالنظر فيه أيضاً في تحديد المرض الذي يجوز له فيه الفطر وفي حكم الفطر.(2/110)
المسألة الأولى [إن صام المريض أو المسافر هل يجزيه؟] إن صام المريض والمسافر هل يجزيه صومه عن فرضه أم لا؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فذهب الجمهور إلى أنه إن صام، وقع صيامه وأجزأه، وذهب أهل الظاهر إلى أنه لا يجزيه، وأن فرضه أيام أخر (1) .
قال ابن عبد البر في "التمهيد" (22/48) : "قالوا: المسافر لا يصوم في سفره؛ لأن الله أراد منه صيام أيام أُخر، وهذا قول يروى عن عبيدة وسويد بن غفلة" ثم رد عليه -رحمه الله-.
* قال النووي في "المجموع" (6/269-271) : في مذاهب العلماء في جواز الصوم والفطر في السفر "مذهبنا جوازهما وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. قال العبدري: هو قول العلماء.
وقال الشيعة: لا يصح وعليه القضاء، واختلف أصحاب داود الظاهري فقال بعضهم.: يصح صومه، وقال بعضهم: لا يصح.
وقال ابن المنذر: "كان ابن عمر وسعيد بن جبير يكرهان صوم المسافر" فقال: وروينا عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "إن صام قضاه"، قال: وروي عن ابن عباس فقال: "لا يجزئه الصيام" وحكى أصحابنا بطلان صوم المسافر عن أبي هريرة وأهل الظاهر والشيعة.
* قال ابن حجر في "الفتح" (4/216) : "اختلف السلف في هذه المسألة فقالت طائفة: لا يجزيء الصوم في السفر عن الفرض، بل من صام في السفر وجب قضاؤه في الحضر لظاهر قوله تعالى: (فعدة من أيام أخر) ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس من البر الصيام في السفر" (2) ومقابلة البر الإثم، وإذا كان آثما بصومه لم يجزئه وهذا قول بعض أهل الظاهر، وحكي عن عمر وابن عمر وأبي هريرة والزهري وإبراهيم النخعي وغيرهم، واحتجوا بقوله تعالى: (فمن كان
__________
(1) "بداية المجتهد" (2/165) .
(2) رواه البخاري ومسلم عن جابر.(2/111)
مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر) قالوا: ظاهره فعليه عدة أو فالواجب عدّة، وتأوله الجمهور بأن التقدير فأفطر فعدة".
قال ابن رشد: "وهذا الحذف في الكلام هو الذي يعرفه أهل صناعة الكلام بلحن الخطاب".
* ودليل من ذهبوا إلى أن الصوم في السفر لا يصح ما رواه مسلم في "صحيحه" عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس البر أن تصوموا في السفر".
* وروي مسلم عن جابر أيضاً: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراغ الغميم فصام الناس ثم دعا بقدح ماء فرفعه.
حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل بعد ذلك أن بعض الناس قد صام، فقال: "أولئك العصاة، أولئك العصاة".
* عن أنس -رضي الله عنه- قال: "كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر أكثرنا ظلاً صاحب الكساء، فمنا من يقي الشمس بيده، فسقط الصوام، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ذهب المفطرون اليوم بالأجر" رواه البخاري ومسلم.
* وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره تؤتى معصيته" (1) . وفي حديث آخر: "إن الله تعالى يحب أن تؤتي رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه" (2) .
* واحتج الجمهور بأحاديث منها:
* عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أأصوم في السفر؟ -وكان في الصيام- فقال: "إن شئت فصم، وإن
__________
(1) صحيح: رواه أحمد، وابن خزيمة وَابن حبان والبيهقي في "شعب الإيمان" وصححه ابن خزيمة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1886) .
(2) صحيح: رواه أحمد والبيهقي في "سننه" عن ابن عمر، والطبراني في "الكبير" عن ابن عباس وعن ابن مسعود وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1885) .(2/112)
شئت فأفطر" (1) .
* وعن حمزة بن عمرو -رضي الله عنه- أنه قال: "يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل عليّ جناح؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هي رخصة من الله تعالى فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" رواه مسلم.
* وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: "خرجنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم، إلا ما كان من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وابن رواحة" رواه البخاري ومسلم.
* وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كنا نسافر مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم" رواه الشيخان.
* وعن أبي سعيد الخدري وجابر -رضي الله عنهما- قالا: "سافرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيصوم الصائم ويفطر المفطر، ولا يعيب بعض على بعض" رواه مسلم.
* عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "كنا نغزو مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفًا فأفطر فإن ذلك حسن" رواه مسلم.
* وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "سافر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء من ماء فشرب نهارًا ليراه الناس، فأفطر حتى قدم مكة"؛ فكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: "صام رسول الله في السفر وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر، رواه البخاري.
* وعن ابن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: "كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فقال لرجل: "انزِلْ فاجْدَح لي"، قال: يا رسول الله الشمس،
__________
(1) رواه البخاري واللفظ له، ومسلم.(2/113)
قال: "انزلْ فاجدح" (1) ، قال: يا رسول الله الشمس قال: "انزل فاجدح لي، فنزل فجدح له فشرب، ثم رمى بيده هنا ثم قال: "إذا رأيتم الليل أقبل من ها هنا فقد أفطر الصائم" فهو ظاهر في أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان صائماً.
* وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرة في رمضان فأفطر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصمت، وقصّر وأتممت، فقلت: بأبي وأمي أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت فقال: "أحسنت يا عائشة" (2) .
ورد الجمهور على استدلال المانعين الصوم في السفر بحديث جابر "خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف من المسلمين، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة فسار ومن معه من المسلمين يصوم ويصومون حتى بلغ الكديد فأفطر وأفطروا" (3) قال الزهري: وإنما يؤخذ بالآخرة فالآخرة من أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذه الزيادة التي في آخره من قول الزهري، وقعت مدرجة عند مسلم ولفظه: "حتى بلغ الكديد فأفطر" قال: وكان صحابة رسول الله يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره. وجزم البخاري في الجهاد أنها من قول الزهري، وفي رواية عند مسلم: "فلما بلغ الكديد بلغه أن الناس يشق عليهم الصيام، فدعا بقدح من لبن ثم أمسكه بيده حتى رآه الناس وهو على راحلته ثم شرب فأفطر" فمن أخذ بظاهر الحديث ظن أن الصوم في السفر منسوخ وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفطر بعد أن صام ونسب من صام إلى العصيان، ولا حجة في شيء من ذلك لأن مسلمًا أخرج من حديث أبي سعيد أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صام بعد هذه القصة في السفر ولفظه: "سافر مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى مكة ونحن صيام، فنزلنا منزلاً، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا"، فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر، فنزلنا منزلاً فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنكم مصبحو عدوكم فالفطر أقوى لكم فأفطروا"، فكانت عزيمة فأفطرنا. ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك في السفر"
__________
(1) الجدح: تحريك السويق ونحوه بالماء بعود يقال له: المجدح مجنح الرأس.
(2) رواه الدارقطني وقال: إسناده حسن، "المجموع" (6/270) .
(3) رواه مسلم.(2/114)