التجسس
التّجسّس لغة:
مصدر قولهم: تجسّس يتجسّس، وهو مأخوذ من مادّة (ج س س) الّتي تدلّ على تعرّف الشّيء بمسّ لطيف يقال: جسست العرق وغيره جسّا، والجاسوس فاعول من هذا لأنّه يتخبّر ما يريده بخفاء ولطف، وقال الرّاغب: أصل الجسّ: مسّ العرق وتعرّف نبضه للحكم به على الصّحّة والسّقم وهو أخصّ من الحسّ فإنّ الحسّ تعرّف ما يدركه الحسّ، ومن لفظ الجسّ اشتقّ الجاسوس، وقول الله تعالى وَلا تَجَسَّسُوا قرأها أبو رجاء والحسن وغيرهما ولا تحسّسوا (الحجرات/ 12) بالحاء، قال القرطبيّ: واختلف هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ فقال الأخفش: ليس تبعد إحداهما عن الأخرى، لأنّ التحسّس البحث عمّا يكتم عنك، والتّجسّس: طلب الأخبار والبحث عنها. ومعنى الآية: خذوا ما ظهر ولا تتبّعوا عورات المسلمين، أي لا يبحث أحدكم عن غيب أخيه حتى يطّلع عليه بعد أن ستره الله «1» .
وقال الطّبريّ: لا تَجَسَّسُوا أي لا يتتبّع
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
1/ 4/ 6
بعضكم عورة أخيه ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظّهور على عيوبه «2» ، وقال ابن منظور:
الجسّ: جسّ الخبر، ومنه التّجسّس. وجسّ الخبر وتجسّسه: بحث عنه وفحص. وتجسّست فلانا، ومن فلان بحثت عنه، وتجسّست الخبر وتحسّسته بمعنى واحد. والجاسوس: العين يتجسّس الأخبار ثم يأتي بها، وقيل الجاسوس الّذي يتجسّس الأخبار «3» .
التّجسّس اصطلاحا:
قال ابن الأثير: التّجسّس: التّفتيش عن بواطن الأمور وأكثر ما يقال في الشّرّ «4» .
وقال الكفويّ: التّجسّس: هو السّؤال عن العورات من غيره «5» .
التّجسّس: هو أن تتبّع عيب أخيك فتطّلع على سرّه «6» .
الفرق بين التجسّس والتّحسّس:
قال بعض العلماء: هما بمعنى واحد هو تطلّب معرفة الأخبار. ولكنّ الأكثرين على التّفريق، فالتّجسّس أن يطلب الخبر لغيره والتّحسّس أن يطلبه
__________
(1) تفسير القرطبي (16/ 218) .
(2) تفسير الطبري (11/ 394) .
(3) لسان العرب (6/ 38) .
(4) النهاية (1/ 272) .
(5) الكليات (303) .
(6) الدر المنثور، للسيوطي (7/ 567) .(9/4129)
لنفسه، وقيل: التّجسّس: البحث عن العورات والتّحسّس: الاستماع «1» ، وقيل التّجسّس: البحث عمّا يكتم عنك، وبالحاء: طلب الأخبار والبحث عنها، وقيل: إنّ التّجسّس بالجيم هو البحث، ومنه قيل رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور، والتّحسّس: هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسّه «2» .
وقال ابن كثير- رحمه الله-: التّجسّس غالبا يطلق في الشّرّ ومنه الجاسوس، وأمّا التّحسّس فيكون غالبا في الخير، كما قال- عزّ وجلّ- إخبارا عن يعقوب أنّه قال يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ (يوسف/ 87) وقد يستعمل كلّ منهما في الشّرّ كما ثبت في الصّحيح أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ولا تجسّسوا ولا تحسّسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا» «3» .
[للاستزادة: انظر صفات: الفضح- الأذى- الإساءة- انتهاك الحرمات- الخيانة- إفشاء السر.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الستر- تكريم الإنسان- تعظيم الحرمات- الأمانة- كتمان السر- النزاهة] .
الآيات الواردة في «التجسس»
1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) «4»
__________
(1) النهاية (1/ 272) .
(2) تفسير القرطبي (16/ 218) .
(3) تفسير ابن كثير (4/ 213) .
(4) الحجرات: 12 مدنية.(9/4130)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التجسس)
1-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إيّاكم والظّنّ، فإنّ الظّنّ أكذب الحديث، ولا تجسّسوا، ولا تحسّسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا) * «1» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (التجسس) معنى
2-* (عن المقدام بن معد يكرب وأبي أمامة- رضي الله عنهما- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الأمير إذا ابتغى الرّيبة في النّاس أفسدهم) * «2» .
3-* (عن معاوية- رضي الله عنه- قال:
«سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّك إن اتّبعت عورات النّاس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم) * «3» .
4-* (عن أبي برزة الأسلميّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتّبعوا عوراتهم فإنّه من اتّبع عوراتهم يتّبع الله عورته، ومن يتّبع الله عورته يفضحه في بيته) * «4» .
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (التجسس)
1-* (قال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه:
«إنّا قد نهينا عن التّجسّس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به) * «5» .
2-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في قوله تعالى وَلا تَجَسَّسُوا (الحجرات/ 12) قال:
نهى الله المؤمن أن يتّبع عورات أخيه المؤمن) * «6» .
3-* (عن عبد الرّحمن بن عوف- رضي الله عنه- أنّه حرس مع عمر بن الخطّاب ليلة المدينة، فبينما هم يمشون شبّ لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمّونه»
، فلمّا دنوا منه إذا باب مجاف «8» على قوم لهم فيه أصوات
__________
(1) مسلم (2563) .
(2) أبو داود (4889) وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود (4089) : صحيح.
(3) أبو داود (4888) وصحيح سنن أبو داود (4088) .
(4) أبو داود (4880) وقال الحافظ العراقي في الإحياء (3/ 140) : سنده جيد، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود (4083) : حسن صحيح.
(5) أبو داود (4890) .
(6) الدر المنثور (7/ 567) .
(7) يؤمونه: يقصدونه.
(8) مجاف: من قولهم: أجفت الباب: رددته، والمعنى باب مغلق عليهم.(9/4131)
مرتفعة ولغط «1» ، فقال عمر وأخذ بيد عبد الرّحمن بن عوف: أتدري بيت من هذا؟ قال: هذا بيت ربيعة بن أميّة بن خلف وهم الآن شرب «2» ، فما ترى؟ قال: أرى أن قد أتينا ما نهى الله عنه، قال الله وَلا تَجَسَّسُوا فقد تجسّسنا، فانصرف عنهم وتركهم) * «3» .
4-* (قال الأوزاعيّ رحمه الله: «التّجسّس البحث عن الشّيء، والتّحسّس الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون، أو يتسمّع على أبوابهم» ) * «4» .
5-* (إنّ من ثمرات سوء الظّنّ التّجسّس، فالقلب عند ما يبتلى بسوء الظّنّ فإنّه لا يقتنع بهواجسه الظّنّيّة، بل يمتدّ به الظّنّ إلى طلب التّحقيق تجسّسا وتحسّسا، ولمّا كان هذا غاية من غايات ظنّ السّوء تناوله النّهي. أمّا التّجسّس بعد الظّنّ، وكلاهما يستلزم الآخر فالظّنّ عندما يحقّق لا مفرّ من التّجسّس، وكلّ تجسّس الباعث والدّاعي إليه هو الظّنّ) * «5» .
6-* (قال مجاهد- رحمه الله- في قوله تعالى:
وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ (التوبة/ 47) : وفيكم مخبرون لهم يؤدّون إليهم ما يسمعون منكم وهم الجواسيس) * «6» .
من مضار (التجسس)
(1) دليل ضعف الإيمان وفساد الخلق.
(2) دليل دناءة النّفس وخسّتها.
(3) يوغر الصّدور ويورث الفجور.
(4) يورد صاحبه موارد الهلاك.
(5) يؤدّي إلى فساد الحياة وكشف العورات.
(6) يستحقّ صاحبه غضب الله ورسوله والمؤمنين.
__________
(1) لغط: أصوات مختلطة.
(2) شرب: أي سكرى من الشرب.
(3) الدر المنثور (7/ 567) .
(4) تفسير ابن كثير (4/ 213) .
(5) انظر منهج الدعوة الاسلامية في البناء الاجتماعي (ص 417)
(6) تفسير البغوي، (مج 2، ج 10، ص 298) .(9/4132)
التحقير والاشمئزاز
التحقير لغة:
مصدر قولهم: حقّر الشّيء أي قلّل من شأنه ونسبه إلى الحقارة، وهو مأخوذ من مادّة (ح ق ر) الّتي تدلّ على معنى واحد هو «استصغار الشّيء» يقال:
شيء حقير أي صغير، وقيل: صغير ذليل، تقول منه:
حقر (بالضّمّ) حقارة وحقرة هان قدره فلا يعبأ به، وحقره واستحقره: استصغره، وتحاقرت إليه نفسه:
تصاغرت، والتّحقير: التّصغير. والمحقّرات: الصّغائر.
وحقر إذا صار حقيرا أي ذليلا، والحقير أيضا ضدّ الخطير «1» .
التحقير اصطلاحا:
التّحقير: هو أن يستصغر شخص شخصا آخر أو ما يصدر عنه من معروف يسديه أو هديّة يعطيها «2» .
وقد يكون التّحقير أيضا للذّات وما يصدر عنها من معروف أو هديّة.
الاشمئزاز لغة:
الاشمئزاز: مأخوذ من الشّمز وهو التّقبّض، يقال: اشمأزّ اشمئزازا، أي انقبض واجتمع بعضه إلى بعض، وقيل: معناه: ذعر من الشّيء، والشّمز أيضا هو
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
4/ 13/ 2
نفور النّفس من الشّيء تكرهه «3» ، أمّا قول الله تعالى:
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ (الزمر/ 45) فمعناه أنّ المشركين كانوا إذا قيل لهم: «لا إله إلّا الله» نفروا وكفروا، وقال قتادة: معنى اشمأزّت: نفرت واستكبرت وكفرت وتعصّت، وقال القرطبّيّ: وأصل الاشمئزاز: النّفور والازورار «4» ، وذكر ابن كثير أنّ المعنى: استكبرت عن المتابعة والانقياد فقلوبهم لا تقبل الخير ومن لا يقبل الخير يقبل الشّرّ «5» .
الاشمئزاز اصطلاحا:
لم يعرّف الاشمئزاز اصطلاحا، ويمكننا في ضوء ما ذكره اللّغويّون والمفسّرون أن نعرّفه بأنّه: نفور النّفس واستكبارها عن قبول الحقّ مع إبراز ما يدلّ على ذلك من تقبّض الوجه والازورار، لإظهار الكراهة.
[للاستزادة: انظر صفات: الاستهزاء- الأذى- الإساءة- السخرية- سوء الخلق- سوء المعاملة- الغرور- الكبر والعجب- السفاهة.
وفي ضد ذلك: انظر صفة: تكريم الإنسان- الإحسان- التواضع- حسن الخلق- حسن المعاملة- حسن العشرة- الكلم الطيب] .
__________
(1) مقاييس اللغة (2/ 92) ، الصحاح (2/ 365) ، المصباح المنير (1/ 143) ولسان العرب (حقر) (ص 939) ط. دار المعارف.
(2) انظر في احتقار الهدية من المهدي والمهدى إليه، فتح الباري (10/ 459) .
(3) بتصرف يسير واختصار عن «لسان العرب» 4/ 2324 (ط. دار المعارف) .
(4) الجامع لأحكام القرآن 15/ 264 (باختصار وتصرف يسير) .
(5) نقل ابن كثير هذا التفسير عن زيد بن أسلم، انظر تفسير ابن كثير 4/ 61.(9/4133)
الآيات الواردة في «التحقير» معنى
1- فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) «1»
2- وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) «2»
3- قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) «3»
الآيات الواردة في «الاشمئزاز»
4- وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) «4»
__________
(1) هود: 27 مكية
(2) هود: 31 مكية
(3) الشعراء: 111- 115 مكية
(4) الزمر: 45 مكية(9/4134)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التحقير)
1-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التّقوى هاهنا» ويشير إلى صدره ثلاث مرّات «بحسب امرىء من الشّرّ أن يحقر أخاه المسلم، كلّ المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه» ) * «1» .
2-* (عن أبي جريّ جابر بن سليم قال:
رأيت رجلا يصدر النّاس عن رأيه «2» ، لا يقول شيئا إلّا صدروا عنه. قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قلت: عليك السّلام يا رسول الله. مرّتين، قال:
«لا تقل عليك السّلام، فإنّ عليك السّلام تحيّة الميّت، قل: السّلام عليك» قال: قلت: أنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟
قال: «أنا رسول الله، الّذي إذا أصابك ضرّ فدعوته كشف عنك، وإن أصابك عام سنة «3» فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفراء «4» ، أو فلاة «5» فضلّت راحلتك فدعوته ردّها عليك» . قلت: اعهد إليّ. قال:
«لا تسبّنّ أحدا» . قال: فما سببت بعده حرّا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة، قال: «لا تحقرنّ شيئا من المعروف وأن تكلّم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك، إنّ ذلك من المعروف، وارفع إزارك إلى نصف السّاق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإيّاك وإسبال الإزار «6» فإنّها من المخيلة، وإنّ الله لا يحبّ المخيلة، وإن امرؤ شتمك وعيّرك بما يعلم فيك فلا تعيّره بما تعلم فيه فإنّما وبال ذلك عليه» ) * «7» .
3-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنّه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من سمّع النّاس بعمله سمّع الله به سامع خلقه وصغّره وحقّره» فذرفت عينا عبد الله) * «8» .
4-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يا نساء المسلمات، لا تحقرنّ جارة لجارتها ولو فرسن شاة «9» » ) * «10» .
__________
(1) مسلم (2564) .
(2) يصدر الناس عن رأيه: أي لا يفعلون إلا ما يشير به إليهم ويأتمرون بأمره وينتهون بنهيه.
(3) عام سنة: أي عام قحط وجدب.
(4) قفراء: أي خالية ليس فيها أحد.
(5) فلاة: الأرض التي لا ماء فيها.
(6) إسبال الإزار: أي تطويله إلى ما بعد الكعبين.
(7) أبو داود (4084) وقوله: وبال ذلك عليه أي إثمه. وذكره الألباني في صحيح أبي داود (2/ 769) وقال: صحيح، والترمذي (2722) . وقال محقق «جامع الأصول» (11/ 746) : إسناده صحيح.
(8) أحمد (2/ 162) رقم (6473) وقال الشيخ أحمد شاكر (10/ 14) : إسناده صحيح. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 65) من حديث ابن عمرو وقال: رواه الطبراني في الكبير بأسانيد أحدها صحيح وكذا البيهقي.
(9) فرسن شاة: حافرها.
(10) البخاري- الفتح 10 (6017) ، ومسلم (1030) . متفق عليه.(9/4135)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التحقير) معنى
5-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من أربى الرّباء الاستطالة في عرض المسلم بغير الحقّ» ) * «1» .
6-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتدرون ما المفلس؟» .
قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال:
«إنّ المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثمّ طرح في النّار» ) * «2» .
7-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّه قال: إنّ عبد الله بن سلام بلغه مقدم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأتاه يسأله عن أشياء فقال: إنّي أسألك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبيّ. ما أوّل أشراط السّاعة؟ وما أوّل طعام يأكله أهل الجنّة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمّه؟. قال: «أخبرني بها جبريل آنفا» قال ابن سلام: ذاك عدوّ اليهود من الملائكة. قال: «أمّا أوّل أشراط السّاعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأمّا أوّل طعام يأكله أهل الجنّة فزيادة كبد الحوت «3» ، وأمّا الولد فإذا سبق ماء الرّجل ماء المرأة نزع الولد «4» ، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرّجل نزعت الولد» قال:
أشهد أن لا إله إلا الله وأنّك رسول الله، قال: يا رسول الله إنّ اليهود قوم بهت «5» فاسألهم عنّي قبل أن يعلموا إسلامي. فجاءت اليهود فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أيّ رجل عبد الله بن سلام فيكم؟» قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟» قالوا: أعاذه الله من ذلك.
فأعاد عليهم، فقالوا مثل ذلك، فخرج إليهم عبد الله.
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمّدا رسول الله، قالوا: شرّنا وابن شرّنا وتنقّصوه»
قال: هذا كنت أخاف يا رسول الله) * «7» .
8-* (عن عائشة- رضي الله عنها- أنّها قالت: قلت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: حسبك من صفيّة كذا وكذا تعني قصيرة- فقال: «لقد قلت كلمة لو مزجت
__________
(1) أبو داود (4876) وذكره الألباني (3/ 923) وقال: صحيح، ورواه أحمد (1/ 190) واللفظ له من حديث سعيد بن زيد برقم (1654) وقال محقق جامع الأصول (8/ 449) : إسناده صحيح.
(2) مسلم (2581) .
(3) زيادة كبد الحوت: هي القطعة المنفردة المعلقة في الكبد. وهي في المطعم في غاية اللذة.
(4) نزع الولد: أي جذبه إليه. وماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فأيهما أعلى كان الشبه له.
(5) بهت: بضم الباء والهاء أو ضم فسكون: جمع بهيت وهو الذي يبهت السامع بما يفتريه عليه من الكذب.
(6) تنقصوه: أي ذكروا نقائصه وعيوبه.
(7) البخاري- الفتح 7 (3938) .(9/4136)
بماء البحر لمزجته» قالت: وحكيت له إنسانا، فقال:
«ما أحبّ أنّي حكيت إنسانا، وأنّ لي كذا وكذا» ) * «1» .
9-* (عن أبي مسعود البدريّ- رضي الله عنه قال: لمّا أمرنا بالصّدقة كنّا نتحامل «2» ، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إنّ الله لغنيّ عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلّا رئاء «3» . فنزلت: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ الآية (التوبة/ 79)) * «4» .
10-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: إنّ رجلا أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكان رجلا جميلا، فقال:
يا رسول الله إنّي رجل حبّب إليّ الجمال، وأعطيت منه ما ترى حتّى ما أحبّ أن يفوقني أحد، وإمّا قال:
بشراك نعلي، وإمّا قال: بشسع نعلي أفمن الكبر ذلك؟ قال: «لا، ولكنّ الكبر بطر الحقّ وغمط النّاس «5» » ) * «6» .
11-* (عن ابن مسعود- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل الجنّة من كان في قلبه ذرّة من كبر» قال رجل: إنّ الرّجل يحبّ أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال: «إنّ الله جميل يحبّ الجمال، الكبر بطر الحقّ وغمط النّاس» ) * «7» .
12-* (عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أنّه قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأيت مثل قرّائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللّقاء. فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنّك منافق. لأخبرنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر:
وأنا رأيته متعلّقا بحقب ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. تنكبه الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله إنّما كنّا نخوض ونلعب! ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (التوبة/ 65) الآية «8» .
__________
(1) أبو داود (4875) واللفظ له. وذكره الألباني (3/ 923) وقال: صحيح. والترمذي (2502) ، (2503) وقال: حسن صحيح، وقال محقق جامع الأصول (8/ 448) : إسناده صحيح.
(2) نتحامل: أي يحمل بعضنا لبعض بالأجرة.
(3) رئاء: أي نفاقا.
(4) البخاري- الفتح 8 (4668) واللفظ له ومسلم (1018) .
(5) غمط الناس: قال ابن الأثير: غمطت حق فلان: إذا احتقرته ولم تره شيئا وكذلك غمصته إذا انتقصته وازدريت به.
(6) أبو داود (4092) وقال محقق جامع الأصول (10/ 615) : حديث صحيح.
(7) مسلم (91)
(8) تفسير ابن جرير (14/ 333- 334) وجاء في حاشيته: إسناده صحيح. وابن كثير (2/ 368) واللفظ له، وذكره مقبل بن هادي في الصحيح المسند من أسباب النزول (78) ، وعزاه كذلك لابن أبي حاتم وقال: إسناده حسن.(9/4137)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الاشمئزاز)
13-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يكون عليكم امراء تطمئنّ إليهم القلوب وتلين لهم الجلود، ثمّ يكون عليكم أمراء تشمئزّ منهم القلوب وتقشعرّ منهم الجلود» ، فقال رجل: أنفاتلهم يا رسول الله، قال: «لا ما أقاموا الصّلاة» ) * «1» .
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (التحقير)
1-* (قال أبو حازم- رحمه الله تعالى-:
لا تكون عالما حتّى يكون فيك ثلاث خصال: لا تبغ على من فوقك، ولا تحتقر من دونك، ولا تؤثر على علمك دنيا) * «2» .
2-* (قال ابن كثير- رحمه الله تعالى- في معنى قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ.. الآية. (الحجرات/ 11) . ينهى تعالى عن السّخرية بالنّاس واحتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «الكبر بطر الحقّ وغمط النّاس» والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم وهذا حرام، فإنّه قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند الله تعالى وأحبّ إليه من السّاخر منه، المحتقر له ولهذا قال الله تعالى: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (القلم/ 11) أي أنّه يحتقر النّاس ويهمزهم طاغيا عليهم ويمشي بينهم بالنّميمة) * «3» .
من مضار (التحقير والاشمئزاز)
(1) التّحقير دليل الكبر والعجب بالنّفس.
(2) التّحقير يؤذي الآخرين فيتسلّطون عليه.
(3) التّحقير يفسد المودّة، ويقطع أواصر القربى.
(4) التّحقير أثر من آثار الجهل بالنّفس والغرور بها.
(5) التّحقير يحبط كثيرا من حسنات الإنسان.
(6) التّحقير نوع من أنواع الكبر يبغض الله صاحبه.
(7) التّحقير يجعل صاحبه منعزلا مكروها بين النّاس.
(8) الاشمئزاز يدلّ على الكبرياء وتحقير الآخرين.
(9) الاشمئزاز يؤذي من نشمئزّ منه ويجرح مشاعره.
(10) الاشمئزاز من صفة المشركين المعاندين ولا يجلب لصاحبه إلّا الشّرّ والوبال.
__________
(1) رواه أحمد (5/ 28) .
(2) سنن الدارمي (1/ 100) .
(3) تفسير ابن كثير (4/ 212) بتصرف.(9/4138)
التخاذل
التخاذل لغة:
مصدر قولهم: تخاذل القوم أي خذل بعضهم بعضا، وهو مأخوذ من مادّة (خ ذ ل) الّتي تدلّ على ترك الشّيء والقعود عنه، فالخذلان: ترك المعونة، يقال:
خذلت الوحشيّة (ولدها) فهي خذول أي قعدت وتركته، ومن الباب تخاذلت رجلاه: ضعفتا، ويقال:
رجل خذلة للّذي لا يزال يخذل، أي كثيرا ما يخذل، وقول الله تعالى: وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا (الفرقان/ 29) أي كثير الخذلان، قال الطّبريّ: أي مسلما (إيّاه) لما ينزل به من البلاء غير منقذه ولا منجّيه «1» .
يقال: خذله خذلانا: إذا ترك عونه ونصرته، وخذّل عنه أصحابه تخذيلا أي حملهم على خذلانه، وتخاذل (القوم) خذل بعضهم بعضا، وقال ابن منظور: الخاذل ضدّ النّاصر (وجمعه خذّال) ، يقال:
خذله يخذله خذلا وخذلانا وخذلانا أي أسلمه وخيّبه
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
7/ 8/ 9
وترك نصرته وعونه، والتّخذيل: حمل الرّجل على خذلان صاحبه، وتثبيطه عن نصرته، وخذلان الله للعبد ألّا يعصمه من الشّبه فيقع فيها، وقول الله تعالى:
وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ (آل عمران/ 160) معناه كما قال القرطبيّ: يترك عونكم «2» ، والخاذل: المنهزم، وتخاذل القوم تدابروا، وقول الله تعالى: وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا (الفرقان/ 29) الخذل: التّرك من الإعانة، ومنه خذلان إبليس للمشركين لمّا ظهر لهم في صورة سراقة بن مالك، فلمّا رأى الملائكة تبرّأ منهم، وكلّ من صدّ عن سبيل الله وأطيع في معصية الله فهو شيطان للإنسان يخذله عند نزول العذاب والبلاء «3» ، والخذول من الخيل: الّتي إذا ضربها المخاض لم تبرح من مكانها، ورجل خذول الرّجل: تخذله رجله من ضعف أو عاهة أو سكر، وخذلت الظّبية غيرها إذا تخلّفت عن صواحبها فلم تلحق بهم «4» .
__________
(1) تفسير القرطبي (9/ 385) .
(2) المرجع السابق (4/ 163) .
(3) المرجع السابق (7/ 19) .
(4) المفردات للرّاغب (ص 144) ، ومقاييس اللغة لابن فارس (2/ 167) ، الصحاح (4/ 1683) ، لسان العرب (2/ 1118) ، وبصائر ذوي التمييز (2/ 531) .(9/4139)
التخاذل اصطلاحا:
قال المناويّ: الخذلان: خلق قدرة المعصية في العبد، وخذّله تخذيلا: حمله على الفشل وترك القتال «1» .
وقال الرّاغب: الخذلان: ترك النّصرة ممّن يظنّ به أن ينصر «2» .
وقال ابن الأثير: الخذل: ترك الإغاثة والنّصرة «3» ، وإذا كان التّخاذل: هو أن يخذل بعض القوم بعضا. فإنّ التّخاذل اصطلاحا: «أن يترك الإنسان نصرة أخيه، ويترك أخوه نصرته إذا كان كلّ منهما يظنّ به نصرة صاحبه وإغاثته» «4» .
[للاستزادة: انظر صفات: الأثرة- الإعراض التخلف عن الجهاد- التولي- الجبن- صغر الهمة الوهن- الفتنة- التفرق- التهاون.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الإغاثة- التناصر- جهاد الأعداء- المروءة- الرجولة- علو الهمة- النشاط- الثبات- الشهامة- الشجاعة- العزم والعزيمة] .
__________
(1) التوقيف (153) .
(2) المفردات (بتصرف يسير) (ص 144) .
(3) النهاية (2/ 16) .
(4) اقتبسنا هذا التعريف من جملة أقوال المفسرين واللغويين ولم نعثر عليه مصطلحا ضمن كتب المصطلحات التي تيسرت لنا.(9/4140)
الآيات الواردة في «التخاذل»
1- إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) «1»
2- لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا (22) «2»
3- وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)
يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا (28)
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا (29) «3»
الآيات الواردة في «التخاذل» معنى
4- وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) «4»
5- وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) «5»
6- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) «6»
7- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) «7»
__________
(1) آل عمران: 160 مدنية
(2) الإسراء: 22 مكية
(3) الفرقان: 27- 29 مكية
(4) آل عمران: 121- 122 مدنية
(5) آل عمران: 152 مدنية
(6) التوبة: 38 مدنية
(7) الحشر: 11- 12 مدنية(9/4141)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التخاذل)
1-* (عن ثوبان- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم حتّى يأتي أمر الله وهم كذلك» ) * «1» .
2-* (عن جابر وأبي طلحة الأنصاريّ- رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من امرئ يخذل مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلّا خذله الله في موطن يحبّ فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلّا نصره الله في موطن يحبّ فيه نصرته» ) * «2» .
3-* (عن سعيد بن وهب وعن زيد بن يثيع قالا: نشد عليّ النّاس في الرّحبة: من سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول يوم غدير خمّ «3» إلّا قام؟ قال: فقام من قبل سعيد ستّة، ومن قبل زيد ستّة، فشهدوا أنّهم سمعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لعليّ يوم غدير خمّ:
«أليس الله أولى بالمؤمنين؟» قالوا: بلى، قال: اللهمّ من كنت مولاه فعليّ مولاه، «اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه» ، وزاد فيه في رواية أخرى: «وانصر من نصره، واخذل من خذله» ) * «4» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (التخاذل) معنى
4-* (عن أنس- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» قالوا:
يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟
قال: «تأخذ فوق يديه» ) *» .
5-* (عن سهل بن حنيف عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «من أذلّ عنده مؤمن فلم ينصره وهو قادر على أن ينصره أذلّه الله- عزّ وجلّ- على رؤوس الخلائق يوم القيامة» ) * «6» .
6-* (عن المستورد: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أكل برجل مسلم أكلة فإنّ الله يطعمه مثلها في جهنّم،
__________
(1) البخاري- الفتح 6 (3641) من حديث معاوية، ورواه مسلم برقم (1920) واللفظ له.
(2) رواه أبو داود برقم (4884) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 267) واللفظ له وقال: رواه الطبراني في الأوسط واسناده حسن.
(3) غدير خم: موضع بين مكة والمدينة تصب فيه عين هناك والرحبة: محلّة بالكوفة وهي المراد هنا.
(4) رواه أحمد (1/ 118) وقال الشيخ أحمد شاكر (2/ 195) حديث رقم (950، 951) إسناده صحيح.
(5) البخاري- الفتح 5 (2444) واللفظ له، وعند مسلم مطولا من حديث جابر (2584) .
(6) أحمد (3/ 487) ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 267) واللفظ لهما، وقال: رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة وهو حسن الحديث، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات.(9/4142)
ومن كسي ثوبا برجل مسلم فإنّ الله يكسوه مثله من جهنّم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء، فإنّ الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة» ) * «1» .
7-* (عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أخبر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة» ) * «2» .
8-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الغد يوم النّحر- وهو بمنى-:
«نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر، يعني بذلك المحصّب، وذلك أنّ قريشا وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطّلب- أو بني المطّلب- أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتّى يسلّموا إليهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم» وقال سلامة عن عقيل، ويحيى عن الضّحّاك عن الأوزاعيّ: أخبرني ابن شهاب. وقالا: بني هاشم وبني عبد المطلّب. قال أبو عبد الله: بني المطّلب أشبه) * «3» .
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (التخاذل)
1-* (عن أنس أنّ أبا طلحة قال: غشينا ونحن في مصافّنا يوم أحد، حدّث أنّه كان فيمن غشيه النّعاس يومئذ قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط من يدي وآخذه والطّائفة الأخرى المنافقون ليس لهم همّ إلّا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه وأخذله للحقّ) * «4» .
2-* (قال مجاهد- رحمه الله- في قوله تعالى:
وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ (التوبة/ 47) : وفيكم مخبرون لهم يؤدّون إليهم ما يسمعون منكم وهم الجواسيس) * «5» .
3-* (وقال قتادة- رحمه الله-: وفيكم مطيعون لهم أي يستمعون كلامهم ويطيعونهم) * «6» .
4-* (قال البغويّ- رحمه الله- في قوله تعالى: وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (التوبة/ 46) : أي قال بعضهم لبعض: اقعدوا. وقيل: أوحي إلى قلوبهم وألهموا أسباب الخذلان) * «7» .
__________
(1) رواه أبو داود (4881) وأحمد في «المسند» (4/ 229) وقال الألباني في صحيح أبي داود (3/ 923) صحيح والصحيحة (934) . وقال محقق «جامع الأصول» (8/ 449) : وفي سنده وقاص بن ربيعة العنسي لم يوثقه غير ابن حبّان وباقي رجاله ثقات.
(2) البخاري- الفتح 5 (2442) واللفظ له، مسلم (2580) .
(3) البخاري- الفتح 3 (1590) .
(4) البخاري- الفتح (4068) ، والترمذي رقم (3008) واللفظ له، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(5) تفسير البغوي، (مج 2، ج 10، ص 298) .
(6) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(7) المرجع السابق. نفسه، والصفحة نفسها.(9/4143)
5-* (قال ابن كثير- رحمه الله- في قوله تعالى لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا (التوبة/ 47) أي لأنّهم جبناء مخذولون. وفي قوله تعالى وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ (التّوبة/ 47) أي مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم ويستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم فيؤدّي إلى وقوع الشّرّ بين المؤمنين) * «1» .
6-* (وقال أيضا في قوله تعالى قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (الأحزاب/ 18) : يخبر تعالى عن إحاطة علمه بالمعوّقين لغيرهم عن شهود الحرب، والقائلين لأصحابهم وعشرائهم وخلطائهم: تعالوا إلى ما نحن فيه من الإقامة في الظّلال والثّمار) * «2» .
7-* (قال بعضهم: أفضل المعروف إغاثة الملهوف) * «3» .
8-* (قال بعضهم: شرّ النّاس من ينصر الظّلوم ويخذل المظلوم) * «4» .
9-* (وقال آخر: لا تحاجّ من يذهلك خوفه، ويملكك سيفه) * «5» .
من مضار (التخاذل)
(1) يبغض الله فاعله ويجعله عرضة لأليم عقابه.
(2) يفكّك عرى المجتمع ويهدم بنيانه.
(3) صفة ذميمة في النّفس ونقص في المروءة.
(4) من فعله كان سبّة في مجتمعه منبوذا في عشيرته.
(5) يدلّ حدوثه على تبلّد الوجدان وموت الضّمير.
(6) تحرم صاحبها من متعة نصرة الحقّ، ولذّة الأخذ بيد المظلوم.
(7) صفة ذميمة تدلّ على خسّة في الطّبع ولؤم في النّفس.
__________
(1) تفسير ابن كثير، (مج 2، ج 10، ص 375) .
(2) المرجع السابق (482) .
(3) المستطرف (1/ 41) .
(4) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(5) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.(9/4144)
التخلف (القعود) عن الجهاد
التخلف لغة:
التخلّف مصدر قولهم: تخلّف عن الشّيء يتخلّف، وهو مأخوذ من مادّة (خ ل ف) الّتي تدلّ على الخلف الّذي هو خلاف قدّام أي التأخّر الّذي هو نقيض التّقدّم، يقول ابن فارس:
الخاء واللّام والفاء أصول ثلاثة: أحدها أن يجيء شيء بعد شيء يقوم مقامه، والثّاني: خلاف قدّام، والثّالث: التغيّر، يقال من المعنى الأوّل: هو خلف صدق من أبيه، وخلف سوء من أبيه. فإذا لم يذكروا صدقا ولا سوءا، قالوا للجيّد خلف وللرّديء خلف، قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ (مريم/ 59) وسمّيت الخلافة بذلك لأنّ الثّاني يجيء بعد الأوّل قائما مقامه، وتقول: قعدت خلاف فلان أي بعده، والخوالف في قوله تعالى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ (التوبة/ 87) هنّ النّساء؛ لأنّ الرّجال يغيبون في حروبهم وغاراتهم وهنّ يخلفنهم في البيوت والمنازل وقيل: الخالفة: عمود الخيمة المتأخّر، ويكنى بها عن المرأة لتخلّفها عن المرتحلين، وجمعها: خوالف، ويقولون في الدّعاء: خلف الله عليك أي كان الله تعالى
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
9/ 10/ 8
الخليفة عليك لما فقدت من أب أو حميم، وأخلف الله لك: أي عوّضك من الشّيء الذّاهب ما يكون يقوم بعده ويخلفه، ويقال من المعنى الثّاني (وهو خلف ضدّ قدّام) : هذا خلفي وهذا قدّامي، ومن المعنى الثّالث قولهم: خلف فوه إذا تغيّر. وقال الرّاغب: ويقال:
خلّفته: تركته خلفي، قال تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ (التوبة/ 81) أي مخالفين. وقال القرطبيّ: المخلّف: المتروك، أي خلّفهم الله وثبّطهم أو خلّفهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون لمّا علموا تثاقلهم عن الجهاد، وكان هذا في غزوة تبوك، والخلاف: المخالفة، ومن قرأ خلف رسول الله: أراد التّأخّر عن الجهاد «1» ، والخالف كالمتخلّف: المتأخّر لنقصان أو قصور، قال تعالى: فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (التوبة/ 83) قال ابن عبّاس: الخالفون: من تخلّف من المنافقين، وقال الحسن: من النّساء والضّعفاء من الرّجال (فغلّب المذكّر) وقيل: المعنى فاقعدوا مع الفاسدين من قولهم: فلان خالفة أهل بيته إذا كان فاسدا فيهم من خلوف فم الصّائم «2» ، والخلف: القرن بعد القرن، والخلف: الرّديء من القول، والخلف
__________
(1) تفسير القرطبي (8/ 137) .
(2) المصدر السابق (8/ 138) وهذا راجع إلى المعنى الثالث الذي ذكره ابن فارس.(9/4145)
والخلف: ما جاء من بعد، والخلف أيضا: ما استخلفته من شيء والخلف بالضّمّ: الاسم من الإخلاف، والخلف بالكسر حلمة ضرع النّاقة، والخلفة: أن يذهب أحد الشّيئين ويجيء الآخر، والخلفة: اختلاف اللّيل والنّهار، والقوم خلفة: أي مختلفون، والخلاف:
المخالفة، والتّخلّف: التّأخر. يقال: خلّفت فلانا ورائي فتخلّف عنّي أي تأخّر، وخلفه يخلفه صار خلفه، واختلفه أخذه من خلفه وخلّفه وأخلفه: جعله خلفه، وخلف عن أصحابه: تخلّف عنهم، والتّخلّف:
التّأخّر، وفي حديث سعد: فخلّفنا فكنّا آخر الأربع، أي أخّرنا ولم يقدّمنا. وفي حديث الصّلاة: «ثمّ أخالف إلى رجال فأحرّق عليهم بيوتهم» أي آتيهم من خلفهم، أو أخالف ما أظهرت من إقامة الصّلاة، وأرجع إليهم فآخذهم على غفلة، ويكون بمعنى أتخلّف عن الصّلاة بمعاقبتهم، وفي حديث السّقيفة «وخالف عنّا عليّ والزّبير» أي تخلّفا، وجاء خلافه أي خلفه «1» .
الجهاد في اللغة والاصطلاح:
انظر صفة: الجهاد.
التخلف عن الجهاد اصطلاحا:
لم تذكر كتب المصطلحات هذا التّعبير ضمن المصطلحات الّتي أوردتها، ويمكننا أن نعرّف ذلك في ضوء ما ذكره اللّغويّون والمفسّرون فنقول:
التخلّف عن الجهاد: هو أن يتقاعس المسلم ويتأخّر عن استفراغ وسعه في مدافعة العدوّ من الكفّار والمشركين.
حكم التخلف عن الجهاد أو تركه:
قال الإمام ابن حجر: من الكبائر ترك الجهاد عند تعيّنه بأن دخل الحربيّون دار الإسلام أو أخذوا مسلما وأمكن تخليصه منهم وترك النّاس الجهاد من أصله، وترك أهل الإقليم تحصين
ثغورهم بحيث يخاف عليها من استيلاء الكفّار بسبب ترك ذلك التّحصين.
[للاستزادة: انظر صفات: الأثرة- التخاذل- الضعف- الوهن- التولي- التفرق- صغر الهمة- التهاون- التفريط والإفراط- اتباع الهوى.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: جهاد الأعداء- الرجولة- الشجاعة- المسئولية- العزم والعزيمة- قوة الإرادة- القوة- علو الهمة- الثبات- النشاط] .
__________
(1) مقاييس اللغة لابن فارس (2/ 210) ، المفردات للراغب (157) ، القاموس المحيط (3/ 178) ، الصحاح (4/ 1358) ، ولسان العرب (2/ 1232) .(9/4146)
الآيات الواردة في «التخلف (القعود) عن الجهاد»
1- وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) «1»
2- انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) «2»
3- فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) «3»
__________
(1) آل عمران: 167- 168 مدنية
(2) التوبة: 41- 46 مدنية
(3) التوبة: 81- 84 مدنية(9/4147)
4- وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) «1»
5- لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) «2»
6- لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) «3»
7- ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
__________
(1) التوبة: 86- 90 مدنية
(2) التوبة: 91- 94 مدنية
(3) التوبة: 117- 118 مدنية(9/4148)
وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) «1»
8- سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11)
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) «2»
9- سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) «3»
__________
(1) التوبة: 120- 121 مدنية
(2) الفتح: 11- 12 مدنية
(3) الفتح: 15- 16 مدنية(9/4149)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التخلف (القعود) عن الجهاد)
1-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- أنّ رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الغزو تخلّفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، فإذا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ (آل عمران/ 188) الآية» ) * «1» .
2-* (قال كعب بن مالك- رضي الله عنه-:
لم أتخلّف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة غزاها قطّ إلّا في غزوة تبوك. غير أنّي قد تخلّفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلّف عنه. إنّما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون يريدون عير قريش حتّى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة العقبة «2» حين تواثقنا على الإسلام «3» ، وما أحبّ أنّ لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر «4» في النّاس منها. وكان من خبري حين تخلّفت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك أنّي لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنه في تلك الغزوة. والله ما جمعت قبلها راحلتين قطّ حتّى جمعتهما في تلك الغزوة. فغزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حرّ شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا «5» ، واستقبل عدوّا كثيرا، فجلا للمسلمين أمرهم «6» ليتأهّبوا أهبة غزوهم»
، فأخبرهم بوجههم «8» الّذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ (يريد بذلك الدّيوان) . قال كعب: فقلّ رجل يريد أن يتغيّب «9» يظنّ أنّ ذلك سيخفى له، ما لم ينزل فيه وحي من الله- عزّ وجلّ- وغزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك الغزوة حين طابت الثّمار والظّلال. فأنا إليها أصعر «10» . فتجهّز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهّز معهم فأرجع ولم أقض شيئا، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت.
فلم يزل ذلك يتمادى بي حتّى استمرّ بالنّاس الجدّ فأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا. ثمّ غدوت فرجعت ولم أقض شيئا.
__________
(1) البخاري- الفتح 8 (4567)
(2) ليلة العقبة: هي الليلة التي بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأنصار فيها على الإسلام، وأن يؤووه وينصروه، وهي العقبة التي في طرف منى، التي يضاف إليها جمرة العقبة. وكانت بيعة العقبة مرتين، في سنتين: في السنة الأولى كانوا اثني عشر، وفي الثانية سبعين، كلهم من الأنصار رضي الله عنهم.
(3) تواثقنا على الإسلام: أي تبايعنا عليه وتعاهدنا.
(4) وإن كانت بدر أذكر: أي أشهر عند الناس بالفضيلة.
(5) ومفازا: أي صحراء طويلة قليلة الماء، يخاف فيها الهلاك.
(6) فجلا للمسلمين أمرهم: أي كشفه وبينه وأوضحه. وعرفهم ذلك على وجهه من غير تورية. يقال: جلوت الشيء كشفته.
(7) ليتأهبوا أهبة غزوهم: أي ليستعدوا بما يحتاجون إليه في سفرهم ذلك.
(8) فأخبرهم بوجههم: أي بمقصدهم.
(9) فقل رجل يريد أن يتغيب ... الخ: قال القاضي: هكذا هو في جميع نسخ مسلم. وصوابه: إلا يظن أن ذلك سيخفى له. بزيادة إلا. وكذا رواه البخاري.
(10) فأنا إليها أصعر: أي أميل.(9/4150)
فلم يزل ذلك يتمادى بي حتّى أسرعوا وتفارط الغزو «1» . فهممت أن أرتحل فأدركهم فياليتني فعلت.
ثمّ لم يقدّر ذلك لي. فطفقت إذا خرجت في النّاس بعد خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحزنني أنّي لا أرى لي أسوة، إلّا رجلا مغموصا عليه في النّفاق «2» ، أو رجلا ممّن عذر الله من الضّعفاء. ولم يذكرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى بلغ تبوكا «3» فقال، وهو جالس في القوم بتبوك «ما فعل كعب بن مالك؟» قال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه والنّظر في عطفيه «4» . فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلّا خيرا. فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيّضا «5» يزول به السّراب «6» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «كن أبا خيثمة» فإذا هو أبو خيثمة «7» الأنصاريّ- وهو الّذي تصدّق بصاع التّمر حين لمزه المنافقون «8» - فقال كعب بن مالك: فلمّا بلغني أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد توجّه قافلا «9» من تبوك، حضرني بثّي «10» ، فطفقت أتذكّر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غدا؟ وأستعين على ذلك كلّ ذي رأي من أهلي. فلمّا قيل لي: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أظلّ «11» قادما، زاح «12» عنّي الباطل حتّى عرفت أنّي لن أنجو منه بشيء أبدا. فأجمعت صدقه «13» . وصبّح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قادما. وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثمّ جلس للنّاس. فلمّا فعل ذلك جاءه المخلّفون. فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له. وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علانيتهم. وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله. حتّى جئت فلمّا سلّمت تبسّم تبسّم المغضب ثمّ قال: «تعال» فجئت أمشي حتّى جلست بين يديه فقال لي: «ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ «14» » قال: قلت: يا رسول الله إنّي- والله- لو جلست عند
__________
(1) وتفارط الغزو: أي تقدم الغزاة وسبقوا وفاتوا.
(2) مغموصا عليه في النفاق: أي متهما به.
(3) حتى بلغ تبوكا: هو في أكثر النسخ: تبوكا، بالنصب. وكذا هو في نسخ البخاري. وإنه صرفها لإرادة الموقع، دون البقعة.
(4) والنظر في عطفيه: أي جانبيه. وهو إشارة إلى إعجابه بنفسه ولباسه.
(5) مبيضا: هو لابس البياض. ويقال: هم المبيّضة والمسوّدة، أي لا بسو البياض والسواد.
(6) يزول به السراب: أي يتحرك وينهض. والسراب هو ما يظهر للإنسان في الهواجر، في البراري، كأنه ماء.
(7) كن أبا خيثمة: قيل: معناه أنت أبو خيثمة. قال ثعلب: العرب تقول: كن زيدا، أي أنت زيد. قال القاضي عياض: والأشبه عندي أن كن هنا للتحقق والوجود. أي لتوجد، يا هذا الشخص، أبا خيثمة حقيقة. وهذا الذي قاله القاضي هو الصواب. وهو معنى قول صاحب التحرير: وتقديره اللهم اجعله أبا خيثمة.
(8) لمزه المنافقون: أي عابوه واحتقروه.
(9) توجه قافلا: أي راجعا.
(10) حضرني بثي: هو أشد الحزن.
(11) أظل قادما: أي أقبل ودنا قدومه كأنه ألقى علي ظله.
(12) زاح: أي زال
(13) فأجمعت صدقه: أي عزمت عليه. يقال: أجمع أمره وعلى أمره، وعزم عليه، بمعنى.
(14) ابتعت ظهرك: أي اشتريت ما تركبه للجهاد.(9/4151)
غيرك من أهل الدّنيا، لرأيت أنّي سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا «1» . ولكنّي- والله- لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنّي ليوشكنّ «2» الله أن يسخطك عليّ. ولئن حدّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه «3» إنّي لأرجو فيه عقبى الله «4» والله ما كان لي عذر،. والله ما كنت قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنك. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أمّا هذا- فقد صدق، فقم حتّى يقضي الله فيك» فقمت، وثار رجا من بني سلمة فاتّبعوني فقالوا لي:
والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما اعتذر به إليه المخلّفون. فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لك. قال: فو الله ما زالوا يؤنّبونني «5» حتّى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأكذّب نفسي. قال: ثمّ قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم.
لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت. فقيل لهما مثل ما قيل لك. قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن ربيعة العامريّ «6» ، وهلال بن أميّة الواقفيّ. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة. قال:
فمضيت حين ذكروهما لي. قال: ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسلمين عن كلامنا أيّها الثّلاثة «7» من بين من تخلّف عنه. قال: فاجتنبنا النّاس، وقال: تغيّروا لنا حتّى تنكّرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض الّتي أعرف «8» . فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأمّا صاحباي فاستكانا «9» وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأمّا أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم «10» . فكنت أخرج فأشهد الصّلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلّمني أحد. وآتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلّم عليه- وهو في مجلسه بعد الصّلاة- فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بردّ السّلام أم لا؟ ثمّ أصلّى قريبا منه وأسارقه النّظر. فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ، وإذا التفتّ نحوه أعرض عنّي. حتّى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين مشيت حتّى تسوّرت «11» جدار حائط أبي قتادة- وهو ابن عمّي وأحبّ النّاس إليّ- فسلّمت عليه، فو الله
__________
(1) أعطيت جدلا: أي فصاحة وقوة في الكلام وبراعة، بحيث أخرج عن عهدة ما ينسب إلي، إذا أردت.
(2) ليوشكن: أي ليسرعن.
(3) تجد عليّ فيه: أي تغضب.
(4) إني لأرجو فيه عقبى الله: أي أن يعقبني خيرا، وأن يثيبني عليه.
(5) يؤنبونني: أي يلومونني أشد اللوم.
(6) العامري: هكذا: العامري. وأنكره العلماء وقالوا: هو غلط إنما صوابه العمري. من بني عمرو بن عوف. وكذا ذكره البخاري. وكذا نسبه محمد بن إسحاق وابن عبد البر، وغيرهما من الأئمة. قيل: وهو الصواب.
(7) أيها الثلاثة: قال القاضي: هو بالرفع، وموضعه نصب على الاختصاص. قال سيبويه، نقلا عن العرب: اللهم اغفر لنا، أيتها العصابة، وهذا مثله.
(8) فما هي بالأرض التي أعرف: معناه: تغير علي كل شيء. حتى الأرض، فإنها توحشت علي وصارت كأنها أرض لم أعرفها، بتوحشها علي.
(9) فاستكانا: أي خضعا.
(10) أشب القوم وأجلدهم: أي أصغرهم سنا وأقواهم.
(11) حتى تسورت: معنى تسورته علوته وصعدت سوره، وهو أعلاه.(9/4152)
ماردّ عليّ السّلام. فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله «1» هل تعلمنّ أنّي أحبّ الله ورسوله؟ قال: فسكت.
فعدت فناشدته فسكت. فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي، وتولّيت، حتّى تسوّرت الجدار. فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطيّ من نبط أهل الشّام «2» ممّن قدم بالطّعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلّ على كعب بن مالك؟ قال:
فطفق النّاس يشيرون له إليّ حتّى جاءني فدفع إليّ كتابا من ملك غسّان- وكنت كاتبا- فقرأته فإذا فيه: أمّا بعد. فإنّه قد بلغنا أنّ صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة «3» . فالحق بنا نواسك» .
قال: فقلت حين قرأتها: وهذا أيضا من البلاء فتياممت «5» بها التّنّور فسجرتها «6» بها. حتّى إذا مضت أربعون من الخمسين، واستلبث الوحي «7» ، إذا رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتيني فقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال فقلت: أطلّقها أم ماذا أفعل؟
قال: لا. بل اعتزلها فلا تقربنّها. قال: فأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك. قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتّى يقضي الله في هذا الأمر.
قال فجاءت امرأة هلال بن أميّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت له: يا رسول الله إنّ هلال بن أميّة شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟ قال: «لا. ولكن لا يقربنّك» فقالت: إنّه- والله- ما به حركة إلى شيء.
ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في امرأتك؟ فقد أذن لامرأة هلال بن أميّة أن تخدمه. قال: فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وما يدريني ماذا يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شابّ. قال: فلبثت بذلك عشر ليال.
فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا. قال:
ثمّ صلّيت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة، على ظهر بيت من بيوتنا. فبينا أنا جالس على الحال الّتي ذكر الله عزّ وجلّ- منّا. قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت «8» ، سمعت صوت صارخ أو فى على سلع «9» يقول، بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر.
قال: فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج. قال:
__________
(1) أنشدك بالله: أي أسألك بالله، وأصله من النشيد، وهو الصوت.
(2) نبطي من نبط أهل الشام: يقال: النبط والأنباط والنبيط، وهو فلاحو العجم.
(3) مضيعة: فيها لغتان: إحداهما مضيعة، والثانية مضيعة. أي موضع وحال يضيع فيه حقك.
(4) نواسك: وفي بعض النسخ: نواسيك، بزيادة ياء. وهو صحيح، أي ونحن نواسيك، وقطعه عن جواب الأمر. ومعناه نشاركك فيما عندنا.
(5) فتياممت: وهي لغة في تيممت. ومعناها قصدت.
(6) فسجرتها: أي أحرقتها. وأنث الضمير لأنه أراد معنى الكتاب، وهو الصحيفة.
(7) واستلبث الوحي: أي أبطأ.
(8) وضاقت علي الأرض بما رحبت: أي بما اتسعت. ومعناه: ضاقت علي الأرض مع أنها متسعة. والرحب السعة.
(9) أوفى على سلع: أي صعده وارتفع عليه. وسلع جبل بالمدينة معروف.(9/4153)
فآذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّاس «1» بتوبة الله علينا، حين صلّى صلاة الفجر. فذهب النّاس يبشّروننا. فذهب قبل صاحبيّ مبشّرون، وركض رجل إليّ فرسا، وسعى ساع من أسلم قبلي، وأوفى الجبل «2» . فكان الصّوت أسرع من الفرس. فلمّا جاءني الّذي سمعت صوته يبشّرني. فنزعت له ثوبيّ فكسوتهما إيّاه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما.
فانطلقت أتأمّم «3» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتلقّاني النّاس فوجا فوجا «4» يهنّئوني بالتّوبة ويقولون: لتهنئك توبة الله عليك حتّى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس في المسجد وحوله النّاس. فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتّى صافحني وهنّأني. والله ما قام رجل من المهاجرين غيره. قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة.
قال كعب: فلمّا سلّمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال وهو يبرق وجهه من السّرور ويقول: «أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك» قال: فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ فقال «لا. بل من عند الله» وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سرّ استنار وجهه كأنّ وجهه قطعة قمر. قال: وكنّا نعرف ذلك. قال: فلمّا جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي «5» صدقة إلى الله وإلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمسك بعض مالك، فهو خير لك» قال:
فقلت: فإنّي أمسك سهمي الّذي بخيبر. قال وقلت:
يا رسول الله إنّ الله إنّما أنجاني بالصّدق وإنّ من توبتي أن لا أحدّث إلّا صدقا ما بقيت. قال: فو الله ما علمت أنّ أحدا من المسلمين أبلاه الله «6» في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى يومي هذا أحسن ممّا أبلاني الله به. والله ما تعمّدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى يومي هذا، وإنّي لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي. قال: فأنزل الله- عزّ وجلّ-:
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ* وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ (التوبة/ 117- 118) حتّى بلغ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (التوبة/ 119) . قال كعب:
والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قطّ بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن لا أكون كذبته «7» فأهلك كما هلك الّذين كذبوا. إنّ الله قال للّذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحد، وقال الله: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ
__________
(1) فآذن ... الناس: أي أعلمهم.
(2) وأوفى الجبل: صعده وارتقى عليه.
(3) أتامم: أي أقصد.
(4) فوجا فوجا: الفوج الجماعة.
(5) أن أنخلع من ما لي: أي أخرج منه وأتصدق به.
(6) أبلاه الله: أي أنعم عليه. والبلاء والإبلاء يكون في الخير والشر. لكن إذا أطلق، كان للشر غالبا فإذا أريد الخير. قيد كما قيد هنا، فقال أحسن مما أبلاني.
(7) أن لا أكون كذبته: هكذا في جميع نسخ مسلم، وكثير من روآيات البخاري. قال العلماء: لفظة (لا) في قوله: أن لا أكون، زائدة. ومعناه: أن أكون كذبته. كقوله تعالى ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ (الأعراف/ 12) .(9/4154)
لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ* يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (التوبة/ 95- 96) . قال كعب: كنّا خلّفنا أيّها الثّلاثة عن أمر أولئك الّذين قبل منهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرنا حتّى قضى الله فيه. فبذلك قال الله- عزّ وجلّ-: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.
وليس الّذي ذكر الله ممّا خلّفنا تخلّفنا عن الغزو، وإنّما هو تخليفه إيّانا، وإرجاؤه أمرنا «1» عمّن حلف له واعتذر إليه فقبل منه) * «2» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (التخلف (القعود) عن الجهاد) معنى
3-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا تبايعتم بالعينة «3» ، وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزّرع وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلّا لا ينزعه حتّى ترجعوا إلى دينكم» ) * «4» .
4-* (عن صفوان بن عسّال- رضي الله عنه- قال: قال يهوديّ لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النّبيّ.
فقال صاحبه: لا تقل نبيّ؛ إنّه لو سمعك كان له أربعة أعين. فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألاه عن تسع آيات بيّنات. فقال لهم: «لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النّفس الّتي حرّم الله إلّا بالحقّ، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الرّبا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولّوا الفرار يوم الزّحف. وعليكم خاصّة اليهود أن لا تعتدوا في السّبت. قال: فقبّلوا يده ورجله» . فقالا: نشهد أنّك نبيّ. قال: «فما يمنعكم أن تتّبعوني؟» قالوا: إنّ داود دعا ربّه أن لا يزال في ذرّيّته نبيّ، وإنّا نخاف- إن تبعناك- أن تقتلنا اليهود) * «5» .
5-* (عن سهل بن سعد السّاعديّ أنّه قال:
رأيت مروان بن الحكم جالسا في المسجد فأقبلت حتّى جلست إلى جنبه فأخبرنا أنّ زيد بن ثابت أخبره أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أملى عليّ لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال: فجاءه ابن أمّ مكتوم وهو يملّها عليّ فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت- وكان رجلا أعمى- فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم وفخذه على فخذي. فثقلت عليّ حتّى خفت أن ترضّ فخذي، ثمّ سرّي عنه فأنزل الله
__________
(1) وإرجاؤه أمرنا: أي تأخيره.
(2) البخاري- الفتح 7 (4418) . ومسلم (2769) واللفظ له.
(3) تبايعتم بالعينة: أن يبيع شيئا من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلى المشتري، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن أقل من ذلك القدر يدفعه نقدا.
(4) أبو داود (3462) وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 663) : صحيح. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (1/ 15) وما بعده (ص 116) . وقال محقق «جامع الأصول» (11/ 765) : وهو حديث صحيح.
(5) الترمذي (2733) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأحمد في «المسند» (4/ 240) .(9/4155)
- عزّ وجلّ- غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ (النساء/ 95) «1» .
6-* (عن سلمة بن نفيل الكنديّ- رضي الله عنه- قال: كنت جالسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رجل: يا رسول الله، أذال «2» النّاس الخيل، ووضعوا السّلاح، وقالوا: لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها «3» ، فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوجهه وقال: «كذبوا. الآن جاء القتال، ولا يزال من أمّتي أمّة يقاتلون على الحقّ، ويزيغ «4» الله لهم قلوب أقوام، ويرزقهم منهم، حتّى تقوم السّاعة، وحتّى يأتي وعد الله. الخيل معقود في نواصيها «5» الخير إلى يوم القيامة، وهو يوحى إليّ: أنّي مقبوض غير ملبّث «6» ، وأنتم تتّبعوني، أفنادا «7» يضرب بعضكم رقاب بعض، وعقر دار «8» المؤمنين الشّام» ) * «9» .
7-* (عن أبي بكر- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما ترك قوم الجهاد إلّا عمّهم الله بالعذاب» ) * «10» .
8-* (عن أبي أمامة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لم يغز أو يجهّز غازيا أو يخلف غازيا في أهله بخير أصابه الله بقارعة» . قال يزيد بن عبد ربّه في حديثه: قبل يوم القيامة) * «11» .
9-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من مات ولم يغز، ولم يحدّث به نفسه مات على شعبة من نفاق» . قال ابن سهم: قال عبد الله بن المبارك: فنرى «12» أنّ ذلك كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) * «13» .
10-* (قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما-:
«استنفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيّا من العرب فتثاقلوا عنه فأمسك الله عنهم القطر فكان عذابهم» ) * «14» .
__________
(1) البخاري- الفتح 6 (2832) .
(2) أذال الإذالة: الإهانة والابتذال.
(3) أوزارها: الأوزار: الثقال، ومعنى «حتّى تضع الحرب أوزارها» أي: ينقضي أمرها، وتخف أثقالها، ولا يبقى قتال.
(4) يزيغ: من أزاغ الشيء يزيغ: إذا مال، والغالب استعماله في الميل عن الحق إلى الباطل.
(5) نواصي: جمع ناصية، وهو شعر مقدم الرأس.
(6) ملبّث: اسم مفعول من: لبثه غيره أو لبثه بالتشديد.
(7) أفنادا: جماعات متفرقين.
(8) عقر الدار: أصلها- بفتح العين-، وهو محلة القوم، وأهل المدينة يقولون: عقر الدار بالضم.
(9) أخرجه النسائي (6/ 214 و215) . وقال محقق جامع الأصول (2/ 570) : إسناده صحيح.
(10) المنذري في الترغيب (2/ 331) وقال: رواه الطبراني بإسناد حسن. وقال محقق «مجمع البحرين في زوائد المعجمين» للهيثمي (5/ 38) : رواه الطبراني في «الأوسط وهو حسن الإسناد إن شاء الله.
(11) أبو داود (2503) . وقال الألباني (2/ 475) : حسن
(12) فنرى: بضم النون. أي نظن. وهذا الذي قاله ابن المبارك محتمل. وقد قال غيره: إنه عام. والمراد أن من فعل فقد أشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد في هذا الوصف. فإنّ ترك الجهاد إحدى شعب النفاق.
(13) مسلم (1910) .
(14) ابن كثير، مج 2 ص 358 أو 372. ذكره الحاكم في المستدرك 2/ 104 وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.(9/4156)
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (التخلف (القعود) عن الجهاد)
1-* (قال عمر بن الخطّاب: «كرم المؤمن تقواه، ودينه حسبه، ومروءته خلقه، والجرأة والجبن غرائز يضعها الله حيث شاء، فالجبان يفرّ عن أبيه وأمّه، والجريء يقاتل عمّا لا يؤوب به إلى رحله، والقتل حتف من الحتوف، والشّهيد من احتسب نفسه على الله» ) *» .
2-* (عن أبي عمران «2» - رضي الله عنه- قال: كنّا بمدينة الرّوم فأخرجوا إلينا صفّا عظيما من الرّوم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر- رضي الله عنه- وعلى الجماعة فضالة بن عبيد- رضي الله عنه- فحمل رجل من المسلمين على صفّ الرّوم حتّى دخل بينهم، فصاح النّاس، وقالوا: سبحان الله يلقي بيده إلى التّهلكة، فقام أبو أيّوب، فقال: أيّها النّاس إنّكم لتؤوّلون هذا التّأويل، وإنّما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لمّا أعزّ الله الإسلام، وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرّا دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ أموالنا قد ضاعت، وإنّ الله تعالى قد أعزّ الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم يردّ علينا ما قلنا، وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (البقرة/ 195) .
وكانت التّهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو، فما زال أبو أيّوب شاخصا في سبيل الله حتّى دفن بأرض الرّوم» ) * «3» .
3-* (عن ابن عون قال: «كتبت إلى نافع أسأله: ما أقعد ابن عمر عن الغزو، أو عن القوم إذا غزوا بما يدعون العدوّ قبل أن يقاتلوهم، وهل يحمل الرّجل إذا كان في الكتيبة بغير إذن إمامه؟ فكتب إليّ: أنّ ابن عمر قد كان يغزو ولده، ويحمل على الظّهر، وكان يقول: إنّ أفضل العمل بعد الصّلاة الجهاد في سبيل الله تعالى، وما أقعد ابن عمر عن الغزو إلّا وصايا لعمر وصبيان صغار وضيعة كثيرة، وقد أغار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بني المصطلق وهم غارّون يسقون على نعمهم، فقتل مقاتلتهم، وسبى سباياهم، وأصاب جويرية بنت الحارث. قال: فحدّثني بهذا الحديث ابن عمر، وكان في ذلك الجيش وإنّما كانوا يدعون في أوّل الإسلام، وأمّا الرّجل فلا يحمل على الكتيبة إلّا بإذن إمامه» ) * «4» .
4-* (عن شقيق قال: «لقي عبد الرّحمن بن عوف الوليد بن عقبة فقال له الوليد: مالي أراك قد جفوت أمير المؤمنين عثمان؟ فقال له عبد الرّحمن:
أبلغه أنّي لم أفرّ يوم حنين. قال عاصم: يقول: يوم أحد، ولم أتخلّف يوم بدر، ولم أترك سنّة عمر- رضي
__________
(1) تنوير الحوالك: 2/ 19.
(2) هو أسلم بن يزيد النجيبي المصري.
(3) رواه الترمذي (2972) ، وقال: حديث غريب صحيح. ونحوه عند أبي داود (2512) . وقال الألباني (2/ 478) : صحيح.
(4) أحمد: 2/ 32 وقال الشيخ أحمد شاكر (7/ 46) : إسناده صحيح. والترمذي رقم 2976، وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود رقم 2512، وقال محقق جامع الأصول (2/ 32) : إسناده صحيح، وصححه الحاكم (2/ 275) ، ووافقه الذهبي.(9/4157)
الله عنه- قال: فانطلق فخبّر ذلك عثمان. قال: فقال:
أمّا قوله أنّي لم أفرّ يوم حنين فكيف يعيّرني بذنب وقد عفا الله عنه فقال إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ (آل عمران/ 155) وأمّا قوله إنّي تخلفت يوم بدر فإنّي كنت أمرّض رقيّة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين ماتت، وقد ضرب لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسهمي، ومن ضرب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسهمه فقد شهد، وأمّا قوله إنّي لم أترك سنّة عمر- رضي الله عنه- فإنّي لا أطيقها ولا هو، فأته فحدّثه بذلك» ) * «1» .
5-* (وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي (التوبة/ 49) أي إن كان إنمّا يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة بتخلّفه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والرّغبة بنفسه عن نفس رسول الله أعظم، وهكذا روي عن ابن عبّاس ومجاهد وغير واحد أنّها نزلت في الجدّ بن قيس) * «2» .
6-* (وقال القرطبيّ في تفسير قوله تعالى:
اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ (التوبة/ 38) قال المفسّرون:
معناه اثّاقلتم إلى نعيم الأرض. وهو توبيخ على ترك الجهاد وعتاب على التّقاعد عن المبادرة إلى الخروج، وهو نحو من أخلد إلى الأرض» ) * «3» .
7-* (وقال- رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (التوبة/ 39) ... وهذا تهديد ووعيد مؤكّد في ترك النّفير» ) * «4» .
8-* (وقال أيضا: «إنّ المراد بهذه الآية وجوب النّفير عند الحاجة وظهور الكفرة واشتداد شوكتهم» ) * «5» .
من مضار (التخلف (القعود) عن الجهاد)
(1) أنّ السّعي في إبطال الجهاد والتخلّف عنه سبب لشمول اللّعنة من الله- عزّ وجلّ- وفي التّقاعس عنه تفويت لكثير من الخير.
(2) القعود عن الجهاد يسبّب كثيرا من المفاسد العاجلة والآجلة: فأمّا العاجلة فإنّه يستعدي الكفّار على المسلمين ويطمعهم في بلادهم، وأمّا الآجلة فإنّه سبب لتراكم الذّنوب والمعاصي.
(3) إذا تخلّف المسلمون عن الجهاد كثر الفساد في الأرض وضاعت فرص السّلم والسّلام.
(4) يورث الذّلّ في الدّنيا والهوان على الله في الآخرة.
(5) مظهر من مظاهر النّفاق وسوء الأخلاق.
(6) به تنتهك الحرم وتنهزم الأمم.
(7) دليل الجبن والخنوع والانهزاميّة.
__________
(1) أحمد: 1/ 68 وقال الشيخ أحمد شاكر (1/ 373) : إسناده صحيح. وذكره ابن كثير في تفسيره: (1/ 419) . والهيثمي في مجمع الزوائد: 7/ 226 و9/ 83 ونسبه لأبي يعلى والطبراني والبزار.
(2) تفسير ابن كثير (2/ 363) .
(3) تفسير القرطبي (مج 8 ص 90) ط. دار الكتب العلمية.
(4) المرجع السابق (مج 8 ص 91) .
(5) المرجع السابق: مج 8 ص 91 دار الكتب العلمية بيروت.(9/4158)
ترك الصلاة
الترك لغة:
مصدر قولهم: تركت الشّيء تركا، أي خلّيته، وهو مأخوذ من مادّة (ت ر ك) الّتي تدلّ على «التّخلية عن الشّيء» وهو قياس الباب، ولذلك تسمّى البيضة بالعراء تريكة، وتركة الميّت: ما يتركه من تراثه، وقال الرّاغب: ترك الشّيء: رفضه قصدا واختيارا أو قهرا واضطرارا، ومن الأوّل قوله تعالى وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ (الكهف/ 99) ومن الثّاني قوله- عزّ وجلّ- كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (الدخان/ 25) والتّريكة من النّساء: الّتي تترك فلا يتزوّجها أحد، والتّريكة أيضا: روضة يغفلها النّاس فلا يرعونها، يقال تاركته البيع متاركة (أي تركت البيع منه وترك البيع منّي) ، وقولهم: فما اتّرك: أي ما ترك شيئا، وتراك بمعنى: اترك اسم لفعل الأمر من ترك، وقال ابن منظور:
التّرك: ودعك الشّيء، يقال: تركه يتركه تركا واتّركه. والتّرك في قوله تعالى: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (الصافات/ 78) أي أبقينا عليه، وفي الحديث الشّريف: «العهد الّذي بيننا وبينهم الصّلاة.
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
5/ 13/ 18
فمن تركها فقد كفر» قال ابن الأثير: قيل: هو لمن تركها جاحدا، وقيل: أراد المنافقين؛ لأنّهم يصلّون رياء ولا سبيل عليهم حينئذ، ولو تركوها في الظّاهر كفروا، وقيل أراد بالتّرك: تركها مع الإقرار بوجوبها أو حتّى يخرج وقتها، ولذلك ذهب أحمد بن حنبل إلى أنّه يكفر بذلك حملا للحديث على ظاهره، وقال الشّافعيّ: يقتل بتركها ويصلّى عليه ويدفن مع المسلمين «1» .
الصلاة اصطلاحا: (انظر صفة الصّلاة) .
ترك الصلاة اصطلاحا:
أن يدع الإنسان إقامة الصّلاة المفروضة عمدا «2» .
ترك الصلاة وإضاعة الصلاة والسهو عن الصلاة:
أمّا ترك الصّلاة: فهو عدم إقامتها عمدا، وأمّا إضاعتها فقد قال ابن مسعود: وليس معنى أضاعوها تركوها بالكلّيّة. ولكن أخّروها عن أوقاتها، وقال سعيد ابن المسيّب إمام التّابعين: هو أن لا يصلّي الظّهر حتّى يأتي العصر، ولا يصلّي العصر إلى المغرب، ولا يصلّي المغرب إلى العشاء، ولا يصلّي العشاء إلى الفجر، ولا
__________
(1) مقاييس اللغة (1/ 346) ، المفردات (ص 74) ، الصحاح (2/ 1576) ، لسان العرب (1/ 430) ، النهاية (1/ 188) .
(2) كتاب الصلاة لابن القيم (21) .(9/4159)
يصلّي الفجر إلى طلوع الشّمس، فمن مات وهو مصرّ على هذه الحالة ولم يتب أوعده الله بغيّ، وهو واد في جهنّم بعيد قعره، شديد عقابه «1» .
وقال القرظيّ (محمّد بن كعب) : هي إضاعة كفر وجحود بها وقيل: إضاعة أوقاتها وعدم القيام بحقوقها، قال القرطبيّ: وهو الصّحيح «2» .
أمّا السّهو عن الصّلاة فقد اختلف فيه على أقوال عديدة ذكر منها الإمام الطّبريّ:
1- تأخيرها عن وقتها: روي عن مصعب بن سعد قال: قلت لأبي: أرأيت قول الله- عزّ وجلّ- الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (الماعون/ 5) .
أهي تركها: قال: لا. ولكنّه تأخيرها عن وقتها.
2- وقيل عنى بذلك (بالسّهو) أنّهم يتركونها فلا يصلّونها، وذكر من قال ذلك عن ابن عبّاس في قوله فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (الماعون/ 4- 5) فهم المنافقون. كانوا يراءون النّاس بصلاتهم إذا حضروا ويتركونها إذا غابوا وقيل أيضا عن مجاهد في عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قال: التّرك لها.
3- يتهاونون بها ويتغافلون عنها.
قال مجاهد قوله عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قال:
لاهون، وعن قتادة ساهُونَ: غافلون. وقال ابن زيد في قوله الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (الماعون/ 5) يصلّون وليست الصّلاة من شأنهم، وعن مجاهد ساهُونَ يتهاونون.
قال الطّبريّ: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصّواب قوله ساهُونَ: لاهون. يتغافلون عنها وفي اللهو عنها والتشاغل بغيرها تضييعها أحيانا وتضييع وقتها أخرى وإذا كان كذلك صحّ بذلك قول من قال: عنى بذلك ترك وقتها وقول من قال عنى تركها.
وممّا يؤيّد ذلك ما روي عن سعد بن أبي وقّاص قال: سألت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قال هم الّذين يؤخّرون الصّلاة عن وقتها، وما روي عن أبي برزة الأسلميّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لمّا نزلت هذه الآية» «3» . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ «هذا خير لكم من أن لو أعطي كلّ رجل منكم مثل جميع الدّنيا هو الّذي إن صلّى لم يرج خير صلاته، وإن تركها لم يخف ربّه» .
حكم ترك الصلاة:
وقال ابن القيّم رحمه الله: «لا يختلف المسلمون أنّ ترك الصّلاة المفروضة عمدا من أعظم الذّنوب وأكبر الكبائر، وأنّ إثمه عند الله أعظم من إثم قتل النّفس، وأخذ الأموال، ومن إثم الزّنى والسّرقة وشرب الخمر، وأنّه متعرّض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدّنيا والآخرة. وقد كان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه- يكتب إلى الآفاق، أنّ أهمّ أموركم عندي الصّلاة، فمن حفظها، حفظ دينه، ومن ضيّعها فهو لما سواها أضيع، ولا حظّ في الإسلام
__________
(1) الغزالي مكاشفة القلوب (358) .
(2) تفسير القرطبي (11/ 122)
(3) المرجع السابق (30/ 706، 708) .(9/4160)
لمن ترك الصّلاة، والصّلاة أوّل فروض الإسلام، وهي آخر ما يفقد من الدّين، فهي أوّل الإسلام وآخره، فإذا ذهب أوّله وآخره فقد ذهب جميعه، وكلّ شيء ذهب أوّله وآخره فقد ذهب جميعه» «1» .
وقد عدّ ابن حجر تعمّد ترك الصّلاة من الكبائر، وذكر قول الله تعالى: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (المدثر/ 42- 43) ونقل بعضهم أنّه صحّ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ تارك الصّلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ تارك الصّلاة عمدا من غير عذر حتّى يذهب وقتها كافر، وقال أيّوب: ترك الصّلاة كفر لا يختلف فيه «2» .
[للاستزادة: انظر صفات: اتباع الهوى- الإعراض- التفريط والإفراط- انتهاك الحرمات- التهاون- الإلحاد- الزندقة- الضلال- الكفر- الردة- الإهمال- العصيان- الفسوق- الكسل- الفجور.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الصلاة- الذكر- العبادة- تعظيم الحرمات- الإيمان- الإسلام- الطاعة- الاتباع- الدعاء- الضراعة والتضرع- الابتهال- التوسل- القنوت- الاستغفار التوبة] .
__________
(1) انظر كتاب الصلاة لابن القيم (21، 22) .
(2) الزواجر لابن حجر (172) .(9/4161)
الآيات الواردة في «ترك الصلاة»
1- إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
(142) «1»
2- وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ (54) «2»
3- فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) «3»
4- كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ (39)
فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40)
عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)
ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45)
وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)
حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) «4»
5- فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5)
الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6)
وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) «5»
__________
(1) النساء: 142 مدنية
(2) التوبة: 54 مدنية
(3) مريم: 59 مكية
(4) المدثر: 38- 47 مكية
(5) الماعون: 4- 7 مكية(9/4162)
الأحاديث الواردة في ذمّ (ترك الصلاة)
1-* (عن عبادة بن الصّامت- رضي الله عنه- قال: أوصاني خليلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بسبع خصال، فقال: «لا تشركوا بالله شيئا وإن قطّعتم أو حرّقتم أو صلّبتم، ولا تتركوا الصّلاة متعمّدين، فمن تركها متعمّدا فقد خرج من الملّة، ولا تركبوا المعصية، فإنّها سخط الله، ولا تشربوا الخمر، فإنّها رأس الخطايا» ) * «1» .
2-* (عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بين الرّجل وبين الشّرك والكفر ترك الصّلاة» ) * «2» .
3-* (عن ثوبان- رضي الله عنه- قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «بين العبد وبين الكفر والإيمان الصّلاة، فإذا تركها فقد أشرك» ) * «3» .
4-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «عرى الإسلام، وقواعد الدّين ثلاثة عليهنّ أسّس الإسلام، من ترك واحدة منهنّ فهو بها كافر، حلال الدّم: شهادة أن لا إله إلّا الله، والصّلاة المكتوبة، وصوم رمضان» ) * «4» .
5-* (عن بريدة الأسلميّ- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «العهد الّذي بيننا وبينهم الصّلاة، فمن تركها فقد كفر» ) * «5» .
6-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: لمّا قام «6» بصري قيل: نداويك وتدع الصّلاة أيّاما، قال: لا، إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «من ترك الصّلاة لقي الله وهو عليه غضبان» ) * «7» .
7-* (عن أبي المليح قال: كنّا مع بريدة في غزوة في يوم ذي غيم، فقال: بكّروا بصلاة العصر، فإنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» ) * «8» .
__________
(1) رواه محمد بن نصر المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» رقم (920) وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 379) ، وقال: رواه الطبراني ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة بإسنادين لا بأس بهما.
(2) مسلم (82) .
(3) الترغيب والترهيب للمنذري (1/ 379) وقال: رواه الطبري بإسناد صحيح.
(4) رواه أبو يعلى في مسنده بإسناد حسن (3/ 13) ح (2345) من رواية حماد بن زيد عن عمرو بن مالك الذكري وهو صدوق، وثقه ابن حبان (التهذيب (8/ 96) والتقريب (426) والحديث حسنه الهيثمي في الزوائد (1/ 47) والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 379) .
(5) الترمذي (2621) واللفظ له. والنسائي (1/ 231) .. وأحمد (5/ 346) ، وصححه الحاكم (1/ 6، 7) ووافقه الذهبي. وقال محقق «جامع الأصول» (5/ 204) : وهو حديث صحيح.
(6) قامت العين: إذا ذهب بصرها والحدقة صحيحة.
(7) الترغيب والترهيب للمنذري (1/ 381) . وقال: رواه البزار والطبراني في الكبير، وإسناده حسن.
(8) البخاري- الفتح 2 (553) .(9/4163)
الأحاديث الواردة في ذمّ (ترك الصلاة) معنى
8-* (عن سمرة بن جندب- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعني ممّا يكثر أن يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم من رؤيا؟. قال:
فيقصّ عليه ما شاء الله أن يقصّ، وإنّه قال لنا ذات غداة: إنّه أتاني اللّيلة آتيان وإنّهما ابتعثاني «1» وإنّهما قالا لي: انطلق، وإنّي انطلقت معهما، وإنّا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصّخرة لرأسه فيثلغ «2» رأسه فيتدهده «3» الحجر هاهنا، فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتّى يصحّ رأسه كما كان، ثمّ يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل به المرّة الأولى ... الحديث. وفيه «قال: قلت لهما:
فإنّي قد رأيت منذ اللّيلة عجبا، فما هذا الّذي رأيت؟
قال: قالا لي: أما إنّا سنخبرك: أمّا الرّجل الأوّل الّذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنّه الرّجل يأخذ بالقرآن فيرفضه وينام عن الصّلاة المكتوبة ... الحديث» ) *» .
9-* (عن ابن مسعود- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لقوم يتخلّفون عن الجمعة: «لقد هممت أن آمر رجلا يصلّي بالنّاس، ثمّ أحرّق على رجال يتخلّفون عن الجمعة بيوتهم» ) * «5» .
10-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الّذي تفوته صلاة العصر كأنّما وتر أهله «6» وماله» ) * «7» .
11-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، لقد هممت أن آمر المؤذّن فيقيم، ثمّ آمر رجلا يؤمّ النّاس، ثمّ آخذ شعلا من نار فأحرّق على من لا يخرج إلى الصّلاة بعد» ) * «8» .
12-* (عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة- رضي الله عنهم- أنّهما سمعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول، على أعواد منبره: «لينتهينّ أقوام عن ودعهم «9» الجمعات، أو ليختمنّ الله على قلوبهم، ثمّ ليكوننّ من الغافلين» ) * «10» .
13-* (عن أبي الدّرداء- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو، لا تقام فيهم الصّلاة إلّا قد استحوذ عليهم الشّيطان. فعليك بالجماعة فإنّما يأكل الذّئب من الغنم القاصية» ) * «11» .
__________
(1) ابتعثاني: أرسلاني وأذهباني. وقيل معناه: أيقظاني. قال ابن حجر: يحتمل أن يكون رأى في المنام أنهما أيقظاه فرأى ما رأى في المنام ثم وصفه بعد أن أفاق، على أن منامه كاليقظة.
(2) فيثلغ رأسه: أي يشدخه ويكسره.
(3) فيتدهده: أي ينحط ويتدحرج.
(4) البخاري- الفتح 12 (7047) واللفظ له. ومسلم (2274) .
(5) مسلم (652) .
(6) وتر أهله: أي فقد أهله.
(7) البخاري- الفتح 2 (552) . ومسلم (626) متفق عليه.
(8) البخاري- الفتح 2 (657) واللفظ له. ومسلم (651) .
(9) ودعهم: أي تركهم.
(10) مسلم (865) .
(11) أبو داود (547) . والنسائي (2/ 106، 107) . والحاكم (1/ 246) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وقال محقق «جامع الأصول» (9/ 407) : وهو حديث صحيح.(9/4164)
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (ترك الصلاة)
1-* (عن عمر- رضي الله عنه- قال: «لا إسلام لمن لم يصلّ» ) * «1» .
2-* (قال عليّ- رضي الله عنه-: «من ترك صلاة واحدة متعمّدا، فقد برئ من الله وبرىء الله منه» ) * «2» .
3-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- في قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (مريم/ 59) قال: «هو نهر في جهنّم خبيث الطّعم بعيد القعر» ) * «3» .
4-* (عن عبد الله- رضي الله عنه- قال:
من سرّه أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصّلوات حيث ينادى بهنّ، فإنّ الله شرع لنبيّكم صلّى الله عليه وسلّم سنن الهدى، وإنّهنّ من سنن الهدى ولو أنّكم صلّيتم في بيوتكم كما يصلّي هذا المتخلّف في بيته لتركتم سنّة نبيّكم، ولو تركتم سنّة نبيّكم لضللتم، وما من رجل يتطهّر فيحسن الطّهور ثمّ يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلّا كتب الله له بكلّ خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحطّ عنه بها سيّئة، ولقد رأيتنا وما يتخلّف عنها إلّا منافق معلوم النّفاق. ولقد كان الرّجل يؤتى به يهادى بين الرّجلين حتّى يقام في الصّفّ» ) * «4» .
5-* (عن عبد الله بن شقيق العقيلي- رضي الله عنه- قال: «كان أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصّلاة» ) * «5» .
6-* (عن زرّ بن حبيش، قال: كان عبد الله رضي الله عنه- يعجبه أن يقعد حيث تعرض المصاحف، فجاءه ابن رجل من ثقيف، فقال: أيّ درجات الإسلام أفضل؟ قال: «الصّلاة على وقتها، من ترك الصّلاة فلا دين له» ) * «6» .
7-* (عن مصعب بن سعد- رضي الله عنه- قال: قلت لأبي: يا أبتاه أرأيت قوله- تبارك وتعالى- الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (الماعون/ 5) أيّنا لا يسهو، أيّنا لا يحدّث نفسه؟ قال: ليس ذاك، إنّما هو إضاعة الوقت بلهو حتّى يضيع الوقت» ) * «7» .
8-* (عن سعيد الأنصاريّ، أنّه حدّث عن سعد بن عمارة أخي ابن سعد بن بكر وكانت له صحبة؛ أنّ رجلا قال له: عظني في نفسي، رحمك الله فقال: إذا أنت قمت إلى الصّلاة، فأسبغ الوضوء، فإنّه لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا إيمان لمن لا صلاة له، ثمّ
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة، للمروزي (2/ 879) .
(2) المرجع السابق (2/ 897) .
(3) الصلاة، لابن القيم (40) .
(4) مسلم (654) .
(5) الترغيب والترهيب للمنذري (1/ 379) .
(6) تعظيم قدر الصلاة، للمروزي (2/ 898) .
(7) الترغيب والترهيب للمنذري (1/ 387) . وقال: رواه أبو يعلى بإسناد حسن.(9/4165)
إذا صلّيت، فصلّ صلاة مودّع، واترك طلب كثير من الحاجات؛ فإنّه فقر حاضر، وأجمع اليأس ممّا عند النّاس فإنّه هو الغنى، وانظر إلى ما تعتذر منه من القول والفعل فاجتنبه» ) * «1» .
9-* (عن معقل الخثعميّ، أنّ رجلا سأل عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- عن امرأة لا تصلّي؟ فقال عليّ- رضي الله عنه-: «من لم يصلّ فهو كافر» ) * «2» .
10-* (عن محمّد بن كعب القرظيّ في قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قال: «هو تركها» ) * «3» .
11-* (عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: قلت له: ما كان يفرّق بين الكفر والإيمان عندكم من الأعمال في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: «الصّلاة» ) * «4» .
12-* (عن محمّد بن سيرين قال: «نبّئت أنّ أبا بكر وعمر- رضي الله عنهما- كانا يعلّمان النّاس الإسلام: تعبد الله، ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصّلاة الّتي افترض الله تعالى بمواقيتها، فإنّ في تفريطها الهلكة» ) * «5» .
13-* (عن الضّحّاك في قوله تعالى: لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ (المنافقون/ 9) قال: «الصّلوات الخمس» ) * «6» .
14-* (عن القاسم بن مخيمرة في قوله تعالى:
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (مريم/ 59) قال:
أضاعوها عن مواقيتها» ) * «7» .
15-* (قال الإمام أحمد- رحمه الله-:
«كلّ شيء يذهب آخره فقد ذهب جميعه، فإذا ذهبت صلاة المرء ذهب دينه» ) * «8» .
16-* (قال الإمام أبو عبد الله المروزيّ رحمه الله-: «لقد شدّد تبارك وتعالى الوعيد في تركها، ووكّده على لسان نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بأنّ تاركها يخرج من الإيمان بتركها، ولم تجعل فريضة من أعمال العباد علامة بين الكفر والإيمان إلّا الصّلاة، فقال: ليس بين العبد وبين الكفر من الإيمان إلّا ترك الصّلاة» فأخبر أنّها نظام للتّوحيد، ويكفر بتركها، كما يكفر بترك التّوحيد» ) * «9» .
17-* (قال الحافظ عبد العظيم المنذريّ: قد ذهب جماعة من الصّحابة، ومن بعدهم إلى تكفير من ترك الصّلاة متعمّدا لتركها حتّى يخرج جميع وقتها، منهم: عمر بن الخطّاب، وعبد الله بن مسعود،
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/ 903) .
(2) المرجع السابق (2/ 898) .
(3) الصلاة لابن القيم (ص 40) .
(4) تعظيم قدر الصلاة، للمروزي (2/ 877) .
(5) المرجع السابق (2/ 897) .
(6) المرجع السابق (1/ 127) .
(7) المرجع السابق (1/ 122) .
(8) كتاب الصلاة لابن القيم (16/ 21- 22) .
(9) تعظيم قدر الصلاة للمروزي (1/ 132) .(9/4166)
وعبد الله بن عبّاس، ومعاذ بن جبل، وجابر بن عبد الله، وأبو الدّرداء- رضي الله عنهم- ومن غير الصّحابة: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن المبارك، والنّخعيّ، والحكم بن عتيبة، وأيّوب السّختيانيّ، وأبو داود الطّيالسيّ، وأبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب. وغيرهم- رحمهم الله تعالى-» ) * «1» .
18-* (قال محمّد بن نصر المروزيّ: سمعت إسحاق يقول: كان رأي أهل العلم من لدن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أنّ تارك الصّلاة عمدا من غير عذر حتّى يذهب وقتها كافر» ) * «2» .
من مضار (ترك الصلاة)
(1) طريق يؤدّي إلى الكفر والخروج من الملّة.
(2) استحقاق سخط الله وغضبه.
(3) حلول النّقم وذهاب النّعم.
(4) دليل على قلّة توفيق المرء وسوء عاقبته.
(5) البعد عن الله والبغض من النّاس.
(6) يورث الهوان والذّلّ في الدّنيا والآخرة.
(7) يحشر صاحبها مع هامان وقارون وفرعون وأبيّ بن خلف.
(8) يصحرم صاحبها نعمة لقاء الله ويسمّى مضيّعا لأمانة الله.
(9) يحرم من أهمّ مصدر لتكفير السّيّئات وزيادة الحسنات.
__________
(1) الترغيب والترهيب للمنذري (1/ 394، 395) .
(2) الترغيب والترهيب للمنذري (1/ 386) .(9/4167)
التسول
التسول في اللغة:
التّسوّل أصلها التّسؤّل وهي مأخوذة من مادّة (س أل) ، والسّؤال ما يسأله الإنسان. وقرىء أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (طه/ 36) بالهمز، وبغير الهمز.
وسألته الشّيء، وسألته عن الشّيء سؤالا ومسألة «1» .
يقول الرّاغب: «السّؤل: الحاجة الّتي تحرص النّفس عليها، والتّسويل تزيين النّفس لما تحرص عليه، وتصوير القبيح منه بصورة الحسن، قال تعالى: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ (يوسف/ 18) ، وقال أيضا: السّؤال: استدعاء معرفة أو ما يؤدّي إلى المعرفة واستدعاء مال، أو ما يؤدّي إلى المال، فاستدعاء المعرفة، جوابه على اللّسان، واليد خليفة له بالكتابة أو الإشارة، واستدعاء المال جوابه على اليد، واللّسان خليفة لها إمّا بوعد أو بردّ «2» .
ويقول الأزهريّ: وأصل السّؤال مهموز، غير أنّ العرب استثقلوا ضغطة الهمزة فيه فخفّفوا الهمزة،
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
5/ 8/ 5
وسؤلة كهمزة: الكثير السّؤال من النّاس، بالهمز وبغير الهمز «3» والسّول والسّولة بالضّمّ، المسألة، والفرق بينها وبين الأمنيّة «4» أنّ السّولة فيما طلب، والأمنيّة فيما قدّر، وكأنّ السّولة تكون بعد الأمنيّة، والتّسوّل بمعناه الحاضر مولّد، فقد جاء في المعجم الوسيط «تسوّل» استعطى (مولّد) «5» .
التسول اصطلاحا:
لم تذكر كتب الاصطلاحات القديمة «التّسوّل» ضمن ما أوردته، وقد تكفّلت بذلك المعاجم الحديثة، فقال أحمد بدويّ: التّسوّل: طلب الصّدقة من الأفراد في الطّرق العامّة، والمتسوّل: الشّخص الّذي يتعيّش من التّسوّل ويجعل منه حرفة له ومصدرا وحيدا للرّزق «6» .
ويعتبر التّسوّل في بعض البلاد جريمة يعاقب عليها، خاصّة إذا كان المتسوّل صحيح البدن، كما يكون التّسوّل محظورا، حيث توجد مؤسّسات خيريّة»
، وأضاف بعضهم: أو إذا هدّد المتسوّل أمن
__________
(1) الصحاح (5/ 1723) .
(2) المفردات (249، 250) .
(3) التاج (4/ 324) .
(4) المرجع السابق (14/ 366) .
(5) المعجم الوسيط (1/ 465) .
(6) معجم مصطلحات الرعاية والتنمية الاجتماعية (29) .
(7) المرجع السابق نفس الصفحة.(9/4168)
المجتمع؛ أو دخل في مسكن دون استئذان «1» .
حكم التسول:
قال أبو حامد الغزاليّ- رحمه الله-: السّؤال حرام في الأصل، وإنّما يباح بضرورة أو حاجة مهمّة قريبة من الضّرورة، وإنّما قلنا: إنّ الأصل فيه التّحريم لأنّه لا ينفكّ عن ثلاثة أمور محرّمة: الأوّل: إظهار الشّكوى من الله تعالى، إذ السّؤال إظهار للفقر، وذكر لقصور نعمة الله تعالى عنه وهو عين الشّكوى.
الثّاني: أنّ فيه إذلال السّائل نفسه لغير الله تعالى وليس للمؤمن أن يذلّ نفسه لغير الله بل عليه أن يذلّ نفسه لمولاه، فإنّ فيه عزّه. فأمّا سائر الخلق فإنّهم عباد أمثاله، فلا ينبغي أن يذلّ لهم إلّا لضرورة، وفي السّؤال ذلّ للسّائل بالإضافة إلى إيذاء المسئول.
الثّالث: أنّه لا ينفكّ عن إيذاء المسئول غالبا، لأنّه ربّما لا تسمح نفسه بالبذل عن طيب قلب منه فإن بذل حياء من السّائل، أو رياء فهو حرام على الآخذ، وإن منع ربّما استحيا وتأذّى في نفسه بالمنع، إذ يرى نفسه في صورة البخلاء، ففي البذل نقصان ماله، وفي المنع نقصان جاهه، وكلاهما مؤذيان، والسّائل هو السّبب في الإيذاء، والإيذاء حرام إلّا بضرورة «2» .
[للاستزادة: انظر صفات: الذل- اتباع الهوى صغر الهمة- الكسل- التخاذل- التهاون- الطمع.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: العزة- العمل- النشاط- العفة- القناعة- النزاهة- الرضا- الزهد- النشاط- قوة الإرادة- الشرف] .
__________
(1) معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية (37) للدكتور أحمد زكي بدوي.
(2) إحياء علوم الدين للامام أبي حامد الغزالي (4/ 223) .(9/4169)
الآيات الواردة في «التسول» *
1- لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) «1»
2- لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) «2»
3- وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) «3» 4- وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) «4»
5- وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) «5»
__________
* الآيات الواردة هنا في السؤال عامة الجائز والمذموم.
(1) البقرة: 177 مدنية
(2) البقرة: 273 مدنية
(3) الذاريات: 19 مكية
(4) المعارج: 24- 25 مكية
(5) الضحى: 10 مكية(9/4170)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التسول) معنى
1-* (عن قبيصة بن مخارق الهلاليّ- رضي الله عنه- قال: تحمّلت حمالة «1» فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسأله فيها. فقال: «أقم حتّى تأتينا الصّدقة فنأمر لك بها» قال: ثمّ قال: «يا قبيصة! إنّ المسألة لا تحلّ إلّا لأحد ثلاثة: رجل تحمّل حمالة فحلّت له المسألة حتّى يصيبها ثمّ يمسك. ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتّى يصيب قواما من عيش «2» (أو قال: سدادا من عيش) . ورجل أصابته فاقة حتّى يقول ثلاثة من ذوي الحجا «3» من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة. فحلّت له المسألة حتّى يصيب قواما من عيش (أو قال سدادا من عيش) فما سواهنّ من المسألة، يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا «4» » ) * «5» .
2-* (عن أبي كبشة الأنماريّ- رضي الله عنه- قال: إنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ثلاث أقسم عليهنّ وأحدّثكم حديثا فاحفظوه» قال: «ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلّا زاده الله عزّا، ولا فتح عبد باب مسألة إلّا فتح الله عليه باب فقر» أو كلمة نحوها «وأحدّثكم حديثا فاحفظوه» قال: «إنّما الدّنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتّقي فيه ربّه، ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقّا، فهذا بأفضل المنازل. وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النّيّة يقول: لو أنّ لي مالا لعملت بعمل فلان فهو نيّته فأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغير علم:
لا يتّقي فيه ربّه ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقّا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أنّ لي مالا لعملت فيه بعمل فلان. فهو نيّته فوزرهما
سواء» ) * «6» .
3-* (عن حكيم بن حزام- رضي الله عنه- قال: سألت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأعطاني، ثمّ سألته فأعطاني، ثمّ سألته فأعطاني، ثمّ قال: «إنّ هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف «7» نفس لم يبارك فيه وكان كالّذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السّفلى» ) * «8» .
4-* (عن سعد بن أبي وقّاص- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعودني عام حجّة الوداع من وجع اشتدّ بي، فقلت: إنّي قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال، ولا يرثني إلّا ابنة لي، أفأتصدّق بثلثي مالي؟ قال: «لا» . فقلت: بالشّطر؟ فقال: «لا» .
ثمّ قال: «الثّلث، والثّلث كبير- أو كثير-. إنّك أن تذر
__________
(1) الحمالة بفتح الحاء: الدية والغرامة التي يحملها الإنسان بسبب الصلح بين الناس
(2) قواما من عيش: أي ما يقيم به صلبه.
(3) الحجا: مقصور، وهو العقل.
(4) سحتا: أي حراما.
(5) مسلم (1044) .
(6) الترمذي (2325) وقال: حديث حسن صحيح. وقال محقق «جامع الأصول» (11/ 10) : وهو كما قال.
(7) بإشراف نفس: أي بتطلع وطمع.
(8) مسلم (1035) .(9/4171)
ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفّفون النّاس «1» ، وإنّك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلّا أجرت بها حتّى ما تجعل في في امرأتك» «2» . فقلت:
يا رسول الله أخلّف بعد أصحابي؟ قال: «إنّك لن تخلّف «3» ، فتعمل عملا صالحا إلّا ازددت به درجة ورفعة، ثمّ لعلّك أن تخلّف حتّى ينتفع بك أقوام ويضرّ بك آخرون. اللهمّ أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردّهم على أعقابهم» لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن مات بمكّة) * «4» .
5-* (عن عوف بن مالك الأشجعيّ- رضي الله عنه- قال: كنّا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسعة أو ثمانية أو سبعة. فقال: «ألا تبايعون رسول الله؟» وكنّا حديث عهد ببيعة «5» . فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله ثمّ قال: «ألا تبايعون رسول الله؟» فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثمّ قال: «ألا تبايعون رسول الله؟» قال:
فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله! فعلام نبايعك؟ قال: «على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، الصّلوات الخمس، وتطيعوا (وأسرّ كلمة خفيّة) ، ولا تسألوا النّاس شيئا، فلقد رأيت بعض أولئك النّفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدا يناوله إيّاه» ) * «6» .
6-* (عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتّى يلقى الله، وليس في وجهه مزعة لحم «7» » ) * «8» .
7-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «ليس المسكين بهذا الطّوّاف الّذي يطوف على النّاس، فتردّه اللّقمة واللّقمتان، والتّمرة والتّمرتان» . قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟
قال: «الّذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدّق عليه، ولا يسأل النّاس شيئا» ) * «9» .
8-* (عن ثوبان- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من يكفل لي أن لا يسأل النّاس شيئا وأتكفّل له بالجنّة؟» فقال ثوبان: أنا. فكان لا يسأل أحدا شيئا) * «10» .
__________
(1) يتكففون الناس: أي يسألون الناس بمد أكفهم اليهم.
(2) في في امرأتك: أي في فمها.
(3) إنك لن تخلف: المراد بالتخلف طول العمر والبقاء في الحياة بعد أصحابه.
(4) البخاري- الفتح 3 (1295) واللفظ له. ومسلم (1628) .
(5) أفرد الخبر (حديث) مع أن الاسم (كنّا) لتأول الجمع بالمجموع. أي وكان المجموع حديث عهد الخ ...
(6) مسلم (1043) .
(7) مزعة لحم: أي قطعة لحم.
(8) البخاري- الفتح 3 (1474) . ومسلم (1040) واللفظ له.
(9) الفتح 3 (1476) . ومسلم (1039) واللفظ له.
(10) أحمد في المسند (5/ 376) . وأبو داود (1643) واللفظ له. والبغوي في شرح السنة (6/ 117) وقال محققه: إسناده صحيح.(9/4172)
من الآثار الواردة في ذمّ (التسول)
1-* (سمع عمر- رضي الله عنه- سائلا يسأل بعد المغرب، فقال لواحد من قومه: عشّ الرّجل، فعشّاه، ثمّ سمعه ثانيا يسأل، فقال: ألم أقل لك عشّ الرّجل؟ قال: قد عشّيته. فنظر عمر، فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزا فقال: لست سائلا ولكنّك تاجر.
ثمّ أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصّدقة، وضربه بالدّرّة «1» وقال: لا تعد) * «2» .
2-* (قال الشّاعر:
لا تحسبنّ الموت موت البلى ... فإنّما الموت سؤال الرّجال
كلاهما موت ولكنّ ذا ... أشدّ من ذاك لذلّ السؤال) * «3» .
3-* (قال الشّاعر:
من يسأل النّاس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
4-* (وقال آخر:
ومتى تصبك خصاصة فارج الغنى ... وإلى الّذي يهب الرّغائب فارغب) * «4» .
5-* (قال مؤنس:
إنّ الوقوف على الأبواب حرمان ... والعجز أن يرجو الإنسان إنسان
متى تؤمّل مخلوقا وتقصده ... إن كان عندك بالرّحمن إيمان؟
ثق بالّذي هو يعطي ذا ويمنع ذا ... في كلّ يوم له في خلقه شان) * «5» .
من مضار (التسول)
(1) يورث الذّلّ والهوان في الدّنيا والآخرة.
(2) عمل دنيء تمجّه الأذواق السّليمة.
(3) استحقاق الوعيد عليه في الآخرة.
(4) دليل على دناءة النّفس وحقارتها.
(5) يورث سفولا وانحطاطا في المجتمع.
(6) انتزاع البركة من المال.
(7) حرمان إجابة الدّعاء.
(8) دليل على سوء الخاتمة.
__________
(1) الدّرّة: السوط.
(2) إحياء علوم الدين، للامام أبي حامد الغزالي (4/ 224) .
(3) كتاب الآداب الشرعية، لابن مفلح: ج 3، ص 280.
(4) المرجع السابق نفسه.
(5) المرجع السابق نفسه.(9/4173)
التشامل
التشامل لغة:
مصدر قولهم: تشامل أي أخذ جهة الشّمال وهو ضدّ التّيامن، وهو مأخوذ من مادّة (ش م ل) الّتي تدلّ على الجانب الّذي يخالف اليمين»
، ومن ذلك: اليد الشّمال ومنه: الرّيح الشّمال، لأنّها تأتي عن شمال القبلة إذا استند المستند إليها من ناحية العراق، ويقال للثّوب يغطّى به: الشّمال تسمية له باسم العضو الّذي يستره، والاشتمال بالثّوب: أن يلتفّ به الإنسان فيطرحه على الشّمال، وفي الحديث نهي عن اشتمال الصّمّاء، أي أن يجلّل جسده كلّه بالكساء أو الإزار وأشمل الرّجل من الشّمال (أي دخل في جهة الشّمال) كقولهم: أجنب من الجنوب، ويقال: أشمل القوم: إذا دخلوا في ريح الشمال فإذا أردت أنّها أصابتهم قلت: شملوا. والشّمال: الرّيح الّتي تهبّ من ناحية القطب وفيها لغات «2» . عديدة وجمعها شمالات، وشمائل. وغدير مشمول: تضربه ريح الشّمال حتّى يبرد، ومنه قيل للخمر: مشمولة إذا كانت باردة الطّعم، والنّار مشمولة: إذا هبّت عليها ريح الشّمال ويقال: شملت الرّيح تشمل شمولا أي تحوّلت شمالا، ريح الشّمال، واليد الشّمال (بالكسر)
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
9/ 17/ 5
خلاف اليمين والجمع أشمل لأنّها مؤنّثة وشمائل أيضا على غير قياس.
وقال ابن منظور: جمع الشّمال: أشمل وشمائل، وشمل. وفي التّنزيل العزيز: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ (النحل/ 48) . وفيه أيضا: وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ (الأعراف/ 17) والعرب تقول:
فلان عندي باليمين أي بمنزلة حسنة، وإذا خسّت منزلته قالوا: أنت عندي بالشّمال. والشّمال: الشّؤم حكاه ابن الأعرابيّ والشّمال: الطّبع والجمع شمائل، وهو أيضا: الخلق «3» . ويرادف التّشامل: التّياسر.
التشامل اصطلاحا:
وإذا كان التّشامل نقيض التّيمّن ويرادف التّياسر، وكان التّيمّن: هو الابتداء في الأفعال باليد اليمنى والرّجل اليمنى والجانب الأيمن فإنّنا نستطيع على ضوء ذلك أن نعرّف التّشامل بأنّه: الابتداء في الأفعال باليد اليسرى أو الرّجل اليسرى والجانب الأيسر.
[للاستزادة: انظر صفات: التطير- القدوة السيئة- الغي والإغواء- اتباع الهوى- الإصرار على الذنب.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: التيمن- الأسوة الحسنة- الاتباع- الطاعة] .
__________
(1) لهذه المادة معنى آخر هو: دوران الشيء وأخذه إياه من جوانبه كما في قولك: شملهم الأمر إذا عمهم. انظر مقاييس اللغة (3/ 214) .
(2) من هذه اللغات: شمل (بالتحريك) وشمل بالتسكين وشمال، وشمأل (وشأمل) .
(3) مقاييس اللغة (3/ 214) ، المفردات للراغب (267) ، والصحاح (5/ 1740) ، وبصائر ذوي التمييز (3/ 246) ، ولسان العرب (4/ 2339) .(9/4174)
الآيات الواردة في «التشامل»
الشمال مقترنا باليمين (دون مدح أو ذم) :
1- وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) «1»
2- أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) «2»
3- أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ
__________
(1) الأعراف: 11- 18 مكية
(2) النحل: 45- 53 مكية(9/4175)
عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) «1»
4- لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18)
فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) «2»
5- وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) «3»
6- فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) «4»
الشمال مشعرا بالذم:
7- إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1)
__________
(1) الكهف: 9- 18 مكية
(2) سبأ: 15- 19 مكية
(3) ق: 16- 22 مكية
(4) المعارج: 36- 42 مكية(9/4176)
لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) «1»
8- وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42)
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) «2»
9- فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19)
إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25)
وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26)
يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) «3»
__________
(1) الواقعة: 1- 12 مكية
(2) الواقعة: 41- 56 مكية
(3) الحاقة: 13- 32 مكية(9/4177)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التشامل)
1-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا انتزع فليبدأ بالشّمال، لتكن اليمنى أوّلهما تنعل وآخرهما تنزع» ) * «1» .
2-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإنّ الشّيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» ) *.
وفي رواية: «لا يأكلنّ أحد منكم بشماله، ولا يشربنّ بها؛ فإنّ الشّيطان يأكل بشماله ويشرب بها» ) * «2» .
3-* (عن سهل بن سعد السّاعديّ- رضي الله عنه- أنّه قال: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ. فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟» فقال الغلام: لا، والله لا أوثر بنصيبي منك أحدا. فتلّه «3» . رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يده) * «4» .
4-* (عن سلمة بن الأكوع- رضي الله عنه- أنّه قال: إنّ رجلا أكل عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشماله، فقال: «كل بيمينك» قال: لا أستطيع. قال:
«لا استطعت» ما منعه إلّا الكبر قال: فما رفعها إلى فيه» ) * «5» .
5-* (عن أبي سعيد- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أبصر نخامة «6» في قبلة المسجد فحكّها بحصاة، ثمّ نهى أن يبزق الرّجل بين يديه أو عن يمينه ولكن عن يساره أو تحت قدمه اليسرى) * «7» .
6-* (عن أبي قتادة- رضي الله عنه- أنّه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الرّؤيا من الله، والحلم من الشّيطان، فإذا حلم أحدكم حلما يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثا، وليتعوّذ بالله من شرّها؛ فإنّها لن تضرّه» ) * «8» .
7-* (عن وائل بن حجر- رضي الله عنه- قال: إنّه رأى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم رفع يديه حين دخل في الصّلاة.
كبّر حيال أذنيه، ثمّ التحف بثوبه، ثمّ وضع يده اليمنى على اليسرى، فلمّا أراد أن يركع أخرج يديه من الثّوب، ثمّ رفعهما، ثمّ كبّر فركع. فلمّا قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه، فلمّا سجد سجد بين كفّيه) * «9» .
8-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما-
__________
(1) البخاري- الفتح 10 (5856) . واللفظ له. ومسلم (2097) .
(2) مسلم (2020) .
(3) تله: ألقاه في يده، والمعنى أنه أعطى الغلام أولا لكونه على يمينه.
(4) البخاري- الفتح 5 (2451) . ومسلم (2030) واللفظ له.
(5) مسلم (2021) .
(6) نخامة: هي البلغم الذي يتفله الإنسان.
(7) البخاري- الفتح 1 (414) واللفظ له. ومسلم (548) .
(8) البخاري- الفتح 12 (6986) . مسلم (2261) واللفظ له.
(9) مسلم (401) .(9/4178)
أنّه قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا أيّها النّاس، إنّكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا. ثمّ قال: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (الأنبياء/ 104) إلى آخر الآية. ثمّ قال: «ألا وإنّ أوّل الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم. ألا وإنّه يجاء برجال من أمّتي فيؤخذ بهم ذات الشّمال، فأقول: يا ربّ، أصحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصّالح: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلمّا توفّيتني كنت أنت الرّقيب عليهم. فيقال إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم» ) * «1» .
9-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سبعة يظلّهم الله تعالى في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: إمام عادل، وشابّ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلّق في المساجد، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إنّي أخاف الله، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» ) * «2» .
10-* (عن أبي ذرّ- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فرج سقف بيتي وأنا بمكّة، فنزل جبريل صلّى الله عليه وسلّم ففرج صدري، ثمّ غسله من ماء زمزم، ثمّ جاء بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا، فأفرغها في صدري، ثمّ أطبقه، ثمّ أخذ بيدي فعرج بي إلى السّماء. فلمّا جئنا السّماء الدّنيا قال جبريل عليه السّلام لخازن السّماء الدّنيا: افتح. قال: من هذا؟
قال: هذا جبريل. قال: هل معك أحد؟ قال: نعم.
معي محمّد صلّى الله عليه وسلّم. قال: فأرسل إليه؟ قال: نعم. ففتح، قال: فلمّا علونا السّماء الدّنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة «3» . وعن يساره أسودة. قال: فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. قال: فقال:
مرحبا بالنّبيّ الصّالح والابن الصّالح. قال: قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا آدم صلّى الله عليه وسلّم. وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه «4» : فأهل اليمين أهل الجنّة، والأسودة الّتي عن شماله أهل النّار فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. قال: ثمّ عرج بي جبريل حتّى أتى السّماء الثّانية فقال لخازنها:
افتح. قال: فقال له خازنها مثل ما قال خازن السّماء الدّنيا؛ ففتح. فقال أنس بن مالك: فذكر أنّه وجد في السّماوات آدم وادريس وعيسى وموسى وإبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين- ولم يثبت كيف منازلهم.
غير أنّه ذكر أنّه قد وجد آدم عليه السّلام في السّماء الدّنيا، وإبراهيم في السّماء السّادسة قال: فلمّا مرّ جبريل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإدريس صلوات الله عليه
__________
(1) البخاري- الفتح 8 (4625) واللفظ له. ومسلم (2860) .
(2) البخاري- الفتح 3 (1423) واللفظ له. ومسلم (1031) .
(3) أسودة: جمع سواد. كقذال وأقذلة، وسنام وأسنمة، وزمان وأزمنة. وتجمع الأسودة على أساود. وقال أهل اللغة: السواد الشخص. وقيل: السواد الجماعات.
(4) نسم بنيه: الواحدة نسمة. قال الخطابي وغيره: هي نفس الإنسان. والمراد أرواح بني آدم.(9/4179)
قال: مرحبا بالنّبيّ الصّالح والأخ الصّالح. قال: ثمّ مرّ فقلت: من هذا؟ فقال: هذا إدريس. قال: ثمّ مررت بموسى عليه السّلام فقال: مرحبا بالنّبيّ الصّالح والأخ الصّالح. قال: قلت: من هذا؟ قال:
هذا موسى. قال: ثمّ مررت بعيسى. فقال: مرحبا بالنّبيّ الصّالح والأخ الصّالح. قلت: من هذا؟ قال:
هذا عيسى ابن مريم. قال: ثمّ مررت بإبراهيم عليه السّلام فقال: مرحبا بالنّبيّ الصّالح والابن الصّالح قال: قلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم ثمّ عرج بي حتّى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام «1» ففرض الله على أمّتي خمسين صلاة. قال: فرجعت بذلك حتّى أمرّ بموسى، فقال موسى عليه السّلام:
ماذا فرض ربّك على أمّتك؟ قال: قلت: فرض عليهم خمسين صلاة. قال لي موسى عليه السّلام: فراجع ربّك، فإنّ أمّتك لا تطيق ذلك. قال: فراجعت ربّي فوضع شطرها. قال: فرجعت إلى موسى عليه السّلام فأخبرته، قال: راجع ربّك، فإنّ أمّتك لا تطيق ذلك.
قال: فراجعت ربّي. فقال: هي خمس وهي خمسون. لا يبدّل القول لديّ. قال: فرجعت إلى موسى. فقال:
راجع ربّك. فقلت: قد استحييت من ربّي. قال: ثمّ انطلق بي جبريل حتّى نأتي سدرة المنتهى. فغشيها ألوان لا أدري ما هي. قال: ثمّ أدخلت الجنّة فإذا فيها جنابذ «2» اللّؤلؤ، وإذا ترابها المسك» ) * «3» .
11-* (عن أنس- رضي الله عنه- أنّه قال:
قدم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة وأنا ابن عشر. ومات وأنا ابن عشرين، وكنّ أمّهاتي يحثثنني على خدمته فدخل علينا دارنا فحلبنا له من شاة داجن «4» وشيب «5» . له من بئر في الدّار. فشرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له عمر- وأبو بكر عن شماله-: يا رسول الله أعط أبا بكر، فأعطاه أعرابيّا عن يمينه وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الأيمن فالأيمن» ) * «6» .
12-* (عن عائشة- رضي الله عنها- أنّها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اغتسل بدأ بيمينه فصبّ عليها من الماء فغسلها، ثمّ صبّ الماء على الأذى الّذي به بيمينه، وغسل عنه بشماله. حتّى إذا فرغ من ذلك صبّ على رأسه» ) * «7» .
13-* (عن ميمونة- رضي الله عنها- أنّها قالت: وضعت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ماء للغسل فغسل يديه مرّتين- أو ثلاثا- ثمّ أفرغ على شماله فغسل مذاكيره»
، ثمّ مسح يده بالأرض ثمّ مضمض
__________
(1) صريف الأقلام: تصويتها حال الكتابة. قال الخطابي: هو صوت ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى ووحيه وما ينسخونه من اللوح المحفوظ.
(2) جنابذ: هي القباب. واحدتها جنبذة بضم الجيم وسكون النون وفتح الباء.
(3) البخاري- الفتح 1 (349) . ومسلم (163) واللفظ له
(4) داجن: هي التي تعلف في البيوت.
(5) شيب له: وضع عليه ماء أو خلط بماء.
(6) البخاري- الفتح 5 (2571) مسلم (2029) واللفظ له.
(7) البخاري- الفتح 1 (258) مسلم (321) واللفظ له.
(8) مذاكيره: أي القبل وما حوله.(9/4180)
واستنشق، وغسل وجهه ويديه، ثمّ أفاض على جسده، ثمّ تحوّل من مكانه فغسل قدميه) * «1» .
14-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنّه قال: لا يجعلنّ أحدكم للشّيطان من نفسه جزءا لا يرى إلّا أنّ حقّا عليه أن لا ينصرف إلّا عن يمينه. أكثر ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينصرف عن شماله) * «2» .
15-* (عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أنّه كان يرمي الجمرة الدّنيا بسبع حصيات، ثمّ يكبّر على إثر كلّ حصاة، ثمّ يتقدّم فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة قياما طويلا، يدعو ويرفع يديه، ثمّ يرمي الجمرة الوسطى كذلك، فيأخذ ذات الشّمال فيسهل ويقوم مستقبل القبلة قياما طويلا، فيدعو ويرفع يديه، ثمّ يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ويقول: هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعل) * «3» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (التشامل) معنى
16-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: «إنّه بات ليلة عند ميمونة زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم- وهي خالته- فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأهله في طولها فنام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى انتصف اللّيل- أو قبله بقليل أو بعده بقليل- استيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجلس يمسح النّوم عن وجهه بيده، ثمّ قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران، ثمّ قام إلى شنّ «4» . معلّقة فتوضّأ منها فأحسن وضوءه، ثمّ قام يصلّي. فقمت فصنعت مثل ما صنع، ثمّ ذهبت فقمت إلى جنبه. فوضع يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى يفتلها فصلّى ركعتين ثمّ ركعتين ثمّ ركعتين ثمّ ركعتين ثمّ ركعتين ثمّ ركعتين ثمّ أوتر ثمّ اضطجع حتّى أتاه المؤذّن فقام فصلّى ركعتين خفيفتين ثمّ خرج فصلّى الصّبح) * «5»
17-* (عن أبي قتادة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يمسكنّ أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسّح من الخلاء بيمينه. ولا يتنفّس في الإناء» ) * «6» .
__________
(1) البخاري- الفتح 1 (257) .
(2) البخاري- الفتح 2 (852) . مسلم (707) واللفظ له.
(3) البخاري- الفتح 3 (1752) .
(4) الشن: وعاء كالقربة فيه ماء.
(5) البخاري- الفتح 1 (183) واللفظ له. مسلم (763) .
(6) البخاري- الفتح 1 (153) . مسلم (267) واللفظ له.(9/4181)
من الآثار وأقوال العلماء الواردة في ذمّ (التشامل)
1-* (قال أنس بن مالك- رضي الله عنه-:
«من السّنّة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى» ) * «1» .
2-* (قال ابن عبد البرّ- رحمه الله تعالى-:
«من بدأ بالانتعال في اليسرى أساء لمخالفة السّنّة، ولكن لا يحرم عليه لبس نعله» ) * «2» .
3-* (قال الحليميّ- رحمه الله تعالى-:
«وجه الابتداء بالشّمال عند الخلع أنّ اللّبس كرامة لأنّه وقاية للبدن، فلمّا كانت اليمنى أكرم من اليسرى بدىء بها في الملبس وأخّرت في الخلع لتكون الكرامة لها أدوم وحظّها منها أكثر» ) * «3» .
4-* (قال النّوويّ- رحمه الله تعالى-:
«يستحبّ البداءة باليمين في كلّ ما كان من باب التّكريم أو الزّينة، والبداءة باليسار في ضدّ ذلك كالدّخول إلى الخلاء ونزع الخفّ والخروج من المسجد والاستنجاء وغيره من جميع المستقذرات» ) * «4» .
5-* (قال بعض الشّعراء:
ولربّما اعتضد الحليم بجاهل ... لا خير في اليمنى بغير يسار) * «5» .
من مضار (التشامل)
(1) مخالفة سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
(2) أنّ أهل الشّمال في الآخرة هم أهل النّار.
(3) أنّه يحرم التّوفيق في أموره.
(4) أنّ البدء بالشّمال يكون في الأمور الدّنيّة والأحوال غير الكريمة.
(5) فيه تشبّه بالشّيطان الرّجيم والكفّار أصحاب الجحيم.
(6) تنزع البركة ممّن يأكل بشماله ويشرب بشماله.
__________
(1) فتح الباري (1/ 623) وعزاه للحاكم.
(2) الفتح (10/ 312) .
(3) الفتح (10/ 312) .
(4) الفتح (10/ 324) .
(5) الآداب الشرعية (2/ 218) .(9/4182)
التطفيف
التطفيف لغة:
مصدر قولهم: طفّف الكيل يطفّفه، وهو مأخوذ من مادّة (ط ف ف) الّتي تدور حول معنى القلّة، يقول ابن فارس: الطّاء والفاء (المضعّفة) يدلّ على قلّة الشّيء، ومن ذلك قولهم: هذا شيء طفيف (قليل) ، والتّطفيف: نقص الكيل والميزان، وقد سمّي بذلك لأنّ الّذي ينقصه منه يكون طفيفا، ويقال لما فوق الإناء الطّفاف والطّفافة، وطفّ المكّوك (المكيال) والإناء وكذلك طففه وطفافه (بفتح الطاء وكسرها) ما ملأ أصباره، يقال: هذا طفّ المكيال وطفافه: إذا قارب ملأه، وفي الحديث «كلّكم بنو آدم طفّ الصّاع، ليس لأحد على أحد فضل إلّا بالتّقوى» . قال ابن الأثير:
المعنى: كلّكم في الانتساب إلى أب واحد بمنزلة واحدة في النّقص والتّقاصر عن غاية التّمام، شبّههم في نقصانهم بالمكيل الّذي لم يبلغ أن يملأ المكيال، وفي حديث عمر- رضي الله عنه- «قال لرجل: ما حبسك عن صلاة العصر؟ فذكر له عذرا، فقال عمر: طفّفت:
أي أنقصت» والتّطفيف يكون بمعنى الوفاء والنّقص، يقال: طفّفت بفلان موضع كذا: أي رفعته إليه
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
5/ 5/ 16
وحاذيته به، ومن ذلك: حديث عمر- رضي الله عنه-: «سبقت النّاس وطفّف بي الفرس مسجد بني زريق» أي وثب بي حتّى كاد يساوي المسجد، والطّفافة بالضّمّ، والطّففة، ما فوق المكيال، وقيل: الطّفافة بالضّمّ، والطّففة، ما فوق المكيال، وقيل: الطّفافة ما قصر عن ملء الإناء من شراب وغيره، وإناء طفّان:
بلغ الكيل طفافه أي قرب أن يمتلىء ويساوي أعلاه، تقول منه: أطففته، وطفّ الشّيء منه: إذا دنا، ومنه سمّي الطّفّ (الجانب) والمطفّف مأخوذ من الطّفيف وهو القليل وسمّي بذلك لأنّه لا يكاد يسرق إلّا الشّيء الطّفيف الخفيف، وإنّما أخذ من طفّ الشّيء وهو جانبه، وفي التّنزيل العزيز: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (المطففين/ 1) قال القرطبيّ: التّطفيف: تقليل الحقّ بنقصانه في كيل أو وزن، وقيل: نقص المكيال، وهو ألّا تملأه إلى أصباره (أي جوانبه) ، وقال الطّبريّ: هو نقصان النّاس وبخسهم حقوقهم في مكاييلهم إذا كالوهم أو في موازينهم إذا وزنوا لهم عن الواجب لهم من الوفاء «1» ، وقال ابن منظور: طفّ الشّيء يطفّ طفّا دنا وتهيّأ وهو أن يؤخذ أعلاه ولا يتمّ كيله فهو طفّان، ويقال: هذا طفّ المكيال وطفافه وطفافه إذا قارب
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (20/ 383) ، وتفسير الطبري (19/ 165) .(9/4183)
ملأه ولمّا يملأ، ولهذا قيل للّذي يسيء الكيل ولا يوفيه مطفّف، يعني أنّه إنّما يبلغ به الطّفاف «1» .
التطفيف اصطلاحا:
قال الرّاغب: طفّف الكيل: قلّل نصيب المكيل له في إيفائه، واستيفائه ومن ثمّ يكون التّطفيف: تقليل نصيب المكيل له في الإيفاء والاستيفاء «2» .
وقال المناويّ: التّطفيف: التّقليل، ومنه تطفيف الميزان والمكيال، ولا يستعمل إلّا في الإيجاب، فلا يقال: ما طفّف «3» .
ويستنبط ممّا جاء به القرآن الكريم أنّ التّطفيف: هو الاستيفاء من النّاس عند الكيل أو الوزن، والإنقاص والإخسار عند الكيل أو الوزن لهم. ويلحق بالوزن والكيل ما أشبههما من المقاييس والمعايير الّتي يتعامل بها النّاس «4» .
الفرق بين البخس والتطفيف:
يتمثّل الفرق بينهما في أنّ البخس نقص الشّيء على الظّلم قليلا أو كثيرا، أمّا التّطفيف فهو النّقص القليل أو النّزر الّذي لا يعتدّ به، وأيضا فإنّ التّطفيف يكون بالاستيفاء إذا كان المطفّف آخذا وبالنّقصان إذا كان معطيا، أمّا البخس فلا يكون إلّا نقصانا، يقول الكفويّ: كلّ ما في القرآن من بخس فهو النّقص إلّا في قوله تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ (يوسف/ 20) فمعناه حرام «5» .
حكم التطفيف:
عدّ ابن حجر التّطفيف من الكبائر وجعله شاملا لبخس نحو الكيل أو الوزن أو الذّرع، وذلك لأنّه من أكل أموال النّاس بالباطل؛ ولهذا اشتدّ الوعيد عليه كما علمته من الآية والأحاديث، وأيضا فإنّما سمّي مطفّفا لأنّه لا يكاد يأخذ إلّا الشّيء الطّفيف وذلك ضرب من السّرقة والخيانة مع ما فيه من الإنباء عن عدم الأنفة والمروءة بالكلّيّة، ومن ثمّ عوقب بالويل الّذي هو شدّة العذاب، أو الوادي في جهنّم لو سيّرت فيه جبال الدّنيا لذابت من شدّة حرّه، نعوذ بالله منه، وأيضا فقد شدّد الله تعالى عقوبة قوم شعيب- على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام- على بخسهم المكيال والميزان «6» .
[للاستزادة: انظر صفات: أكل الحرام- الخيانة- السرقة- الطمع- الظلم- الربا- الخداع- التناجش- الغش- الغلول.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: القسط- الأمانة- الإنصاف- العدل والمساواة- حسن المعاملة- الصلاح- العفة] .
__________
(1) راجع المادة اللغوية في: مقاييس اللغة (3/ 405) ، المفردات (314) النهاية (30/ 129) الصحاح (4/ 1395) تاج العروس (22/ 355) ولسان العرب (9/ 222) ط. بيروت.
(2) المفردات للراغب (314) ، ومعنى هذه العبارة أنّ المطفف يقلل نصيب من يتعامل معه فإن كان مشتريا منه زاد، وإن كان بائعا له أنقص.
(3) التوقيف (99- 100) .
(4) انظر المفردات للراغب (38) (بخس) ، 314 (طفف) .
(5) الكليات للكفوي (1/ 387) .
(6) انظر الزواجر لابن حجر (334) .(9/4184)
الآيات الواردة في «التطفيف»
1- وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)
وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) «1»
الآيات الواردة في «التطفيف» معنى
2- وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) «2»
3- وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) «3»
4- كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)
إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179)
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) «4»
5- الرَّحْمنُ (1)
عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)
خَلَقَ الْإِنْسانَ (3)
عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5)
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6)
وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7)
أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8)
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) «5»
__________
(1) المطففين: 1- 6 مكية
(2) الأعراف: 85 مكية
(3) هود: 84- 85 مكية
(4) الشعراء: 176- 181 مكية
(5) الرحمن: 1- 9 مكية(9/4185)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التطفيف)
1-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خمس بخمس، قيل: يا رسول الله وما خمس بخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد إلّا سلّط الله عليهم عدوّهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلّا فشا فيهم الموت، ولا منعوا الزّكاة إلّا حبس عنهم القطر، ولا طفّفوا المكيال إلّا حبس عنهم النّبات، وأخذوا «1» بالسّنين» ) * «2» .
2-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: «لمّا قدم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة كانوا من أخبث «3» النّاس كيلا، فأنزل الله- عزّ وجلّ-: وَيْلٌ «4» لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل بعد ذلك» ) * «5» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (التطفيف) معنى
3-* (عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا وزنتم فأرجحوا» ) * «6» .
4-* (وعن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- أيضا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحاب الكيل والوزن: «إنّكم قد ولّيتم أمرا فيه هلكت الأمم السّالفة قبلكم» ) * «7» .
5-* (عن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: «يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهنّ- وأعوذ بالله أن تدركوهنّ-: لم تظهر الفاحشة في قوم قطّ، حتّى يعلنوا بها، إلّا فشا فيهم الطّاعون والأوجاع الّتي لم تكن مضت في أسلافهم الّذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلّا أخذوا بالسّنين وشدّة المئونة وجور السّلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلّا منعوا القطر من السّماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلّا سلّط الله عليهم عدوّا من غيرهم، فأخذوا بعض ما
__________
(1) وأخذوا بالسنين: أي أقحطوا وأجدبوا.
(2) الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 65) واللفظ له، وقال: رواه الطبراني في الكبير وفيه إسحاق بن عبد الله بن كيسان المروزي لينه الحاكم وبقية رجاله موثقون وفيهم كلام. وله شواهد عند ابن ماجة رقم (4019) من حديث ابن عمر، وذكره الألباني في صحيح الجامع (6/ 616) برقم (3240) .
(3) أخبث: أنقص. وفي لفظ المستدرك (أبخس) .
(4) (ويل) واد في جهنم لأولئك الذين ينقصون الكيل أو الوزن، والتطفيف: البخس، وطفيف أي حقير.
(5) الحاكم في المستدرك (2/ 33) وصححه ووافقه الذهبي. والمنذري في الترغيب (2/ 567) واللفظ له وقال: رواه ابن ماجة، وابن حبان في صحيحه والبيهقي.
(6) ابن ماجة رقم (2222) في الزوائد: إسناده صحيح، على شرط البخاري.
(7) المنذري في الترغيب (2/ 568) واللفظ له وقال: رواه الترمذي (1217) والحاكم (2/ 31) كلاهما من طريق حسين بن قيس عن عكرمة عنه، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الترمذي: روي بإسناد صحيح عن ابن عباس موقوفا.(9/4186)
في أيديهم وما لم تحكم أئمّتهم بكتاب الله، ويتخيّروا ممّا أنزل الله إلّا جعل الله بأسهم بينهم» ) * «1» .
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (التطفيف)
1-* (وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: «القتل في سبيل الله يكفّر الذّنوب كلّها إلّا الأمانة» . ثمّ قال: «يؤتى بالعبد يوم القيامة، وإن قتل في سبيل الله، فيقال: أدّ أمانتك فيقول: أي ربّ كيف وقد ذهبت الدّنيا. قال: فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية فينطلق به إلى الهاوية، وتمثّل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه فيراها فيعرفها فيهوي في أثرها حتّى يدركها فيحملها على منكبيه حتّى إذا نظر ظنّ أنّه خارج زلّت عن منكبيه فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين» ثمّ قال:
«الصّلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة وأشياء عدّها، وأشدّ ذلك الودائع قال- يعني زاذان»
- فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى ما قال ابن مسعود؟ قال: كذا قال كذا. قال: صدق. أما سمعت الله يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها (النساء/ 58) » ) * «3» .
2-* (عن عبد الله بن عبّاس- رضي الله عنهما- أنّه قال: «ما ظهر الغلول في قوم إلّا ألقى الله في قلوبهم الرّعب، ولا فشا الزّنا في قوم قطّ إلّا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلّا قطع الله عنهم الرّزق، ولا حكم قوم بغير حقّ إلّا فشا فيهم الدّم، ولا ختر قوم بالعهد «4» إلّا سلّط الله عليهم العدوّ» ) * «5» .
3-* (وقال رجل لعبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-: يا أبا عبد الرّحمن إنّ أهل المدينة ليوفون الكيل. قال: وما يمنعهم أن يوفوا الكيل وقد قال الله تعالى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ- حتّى بلغ- يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) * «6» .
4-* (قال هلال بن طلق: بينما أنا أسير مع ابن عمر، فقلت: من أحسن النّاس هيئة وأوفاهم كيلا أهل مكّة وأهل المدينة قال: حقّ لهم. أما سمعت الله تعالى يقول: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (المطففين/ 1) * «7» .
5-* (قال أبيّ- رضي الله عنه-: لا تلتمس الحوائج ممّن رزقه الله رؤوس المكاييل وألسن
__________
(1) ابن ماجة رقم (4019) واللفظ له والبزار والبيهقي والمنذري في الترغيب (2/ 570) ورواه مالك موقوفا على ابن عباس ورفعه الطبراني وغيره إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والحاكم (4/ 540) وصححه ووافقه الذهبي. في الزوائد: هذا الحديث صالح للعمل. وقد اختلفوا في ابن أبي مالك وأبيه.
(2) زاذان: هو زاذان أبو عمر الكندي من رواة الحديث.
(3) المنذري في الترغيب (2/ 570- 571) وقال: رواه البيهقي موقوفا ورواه بمعناه هو وغيره مرفوعا والموقوف أشبه.
(4) ختر بالعهد: غدر به.
(5) الترغيب والترهيب (2/ 569، 570) .
(6) تفسير ابن كثير (4/ 484) .
(7) المرجع السابق نفسه(9/4187)
الموازين) * «1» .
6-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قدم المدينة في رهط من قومه- والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بخيبر وقد استخلف سباع بن عرفطة على المدينة- قال:
فانتهيت إليه وهو يقرأ في صلاة الصّبح في الرّكعة الأولى بكهيعص (مريم/ 1) ، وفي الثّانية وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (المطففين/ 1) ، قال: فقلت لنفسي:
ويل لفلان إذا اكتال اكتال بالوافي، وإذا كال كال بالنّاقص قال: فلمّا صلّى زوّدنا شيئا حتّى أتينا خيبر، وقد افتتح النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خيبر قال: فكلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسلمين فأشركونا في سهامهم) * «2» .
7-* (قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
(الأنعام/ 152) يأمر الله تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء، كما توعّد على تركه في قوله تعالى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ «3» .
8-* (وقال ابن كثير: كان ابن عبّاس يقول:
يا معشر الموالي إنّكم ولّيتم أمرين بهما هلك النّاس قبلكم هذا المكيال وهذا الميزان) *.
9-* (وقال أيضا- رحمه الله-: في تفسير قوله تعالى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ المراد بالتّطفيف ههنا البخس في المكيال والميزان إمّا بالازدياد إن اقتضى من النّاس وإمّا بالنّقصان إن قضاهم) * «4» .
10-* (وقال أيضا: أهلك الله قوم شعيب ودمّرهم على ما كانوا يبخسون النّاس في الميزان والمكيال) * «5» .
11-* (قال ابن كثير- رحمه الله تعالى-:
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (الرحمن/ 9) أي لا تبخسوا الوزن بل زنوا بالحقّ والقسط كما قال تعالى وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ* (الإسراء/ 35، الشعراء/ 182)) * «6» .
12- وقال أيضا في تفسير قوله تعالى وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ (الإسراء/ 35) أي من غير تطفيف، ولا تبخسوا النّاس أشياءهم) * «7» .
13-* (وقال الإمام أبو جعفر الطّبريّ في تفسير قوله تعالى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ... : الوادي الّذي يسيل من صديد أهل جهنّم في أسفلها للّذين يطفّفون يعني للّذين ينقصون النّاس، ويبخسونهم حقوقهم في مكاييلهم إذا كالوا لهم، أو موازينهم إذا وزنوا لهم عن الواجب لهم من الوفاء) * «8» .
14-* (قال الإمام النّيسابوريّ- رحمه الله تعالى-: صدّر الله سبحانه وتعالى سورة المطفّفين
__________
(1) تفسير غرائب القرآن (مج 12، ج 30، ص 45) .
(2) أحمد (2/ 345) وقال الشيخ أحمد شاكر (16/ 229) : إسناده صحيح.
(3) تفسير ابن كثير (2/ 190) .
(4) المرجع السابق (2/ 197) .
(5) المرجع السابق (4/ 484) .
(6) المرجع السابق نفسه.
(7) تفسير القرآن العظيم (4/ 271) .
(8) المرجع السابق (3/ 40) .(9/4188)
بالنّعي على قوم آثروا الحياة الزّائلة على الحياة الباقية، وتهالكوا في الحرص على استيفاء أسبابها حتّى اتّسموا بأخسّ السّمات وهي التّطفيف) * «1» .
15-* (قال الإمام النّيسابوريّ- رحمه الله-: اعلم أنّ أمر المكيال والميزان عظيم؛ لأنّ مدار معاملات الخلق عليهما ولهذا جرى على قوم شعيب بسببه ما جرى) * «2» .
16-* (قال وهب بن منبّه- رحمه الله تعالى:
ترك المكافاة من التّطفيف) * «3» .
من مضار (التطفيف)
(1) سبب لسخط الجبّار وولوج النّار.
(2) يعاقب الله عليه في الدّنيا بالقحط والجدب وجور السّلطان.
(3) دليل على شحّ النّفس وتعلّق القلب بالكسب الخبيث.
(4) الأمّة الّتي يفشو فيها هذا الدّاء آيلة إلى الذّلّ والهوان.
(5) الكيل والوزن أمانة فمن طفّف فقد خان.
(6) يعدّ صاحبها- بين النّاس- غير أمين، ويكون محتقرا في المجتمع.
(7) يتسبّب في إفساد العلاقات بين أفراد المجتمع.
(8) يكون المطفّف قدوة سيّئة لمن يتبعه في هذا الأمر ولذلك فهو يتحمّل وزرهم معهم.
__________
(1) جامع البيان في تفسير القرآن (12/ 482) .
(2) تفسير غرائب القرآن (مج 12، ج 30، ص 44) .
(3) الآداب الشرعية (1/ 314) .(9/4189)
التطير
التطير لغة:
مصدر قولهم: تطيّر من الشّيء، وهو مأخوذ من مادّة (ط ي ر) ، الّتي يقول عنها ابن فارس: «الطّاء والياء والرّاء أصل واحد يدلّ على خفّة الشّيء في الهواء، ثمّ يستعار ذلك في غيره وفي كلّ سرعة، من ذلك الطّير جمع طائر، سمّي بذلك لما قلناه ... ثمّ يقال لكلّ من خفّ قد طار ... فأمّا قولهم تطيّر من الشّيء فاشتقاقه من الطّير كالغراب وما أشبهه «1» .
وقد بيّن الرّاغب العلاقة بين الطّير والتّطيّر فقال: «وتطيّر فلان، واطّيّر: أصله التّفاؤل بالطّير، ثمّ يستعمل في كلّ ما يتفاءل به ويتشاءم» «2» .
ويقول الفيّوميّ: «وتطيّر من الشّيء واطّيّر منه، والاسم الطّيرة وزان عنبة، وهي التّشاؤم وكانت العرب إذا أرادت المضيّ لمهمّ مرّت بمجاثم الطّير وأثارتها لتستفيد، هل تمضي أو ترجع، فنهى الشّارع عن ذلك» «3» .
والطّيرة:- بكسر ففتح- ما يتشاءم به من الفأل الرّديء، وفي الحديث «أنّه كان يحبّ الفأل،
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
3/ 10/ 11
ويكره الطّيرة» وفي آخر «ثلاثة لا يسلم منها أحد:
الطّيرة، والحسد، والظّنّ. قيل: فما نصنع؟ قال: إذا تطيّرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تصحّح» . ويقول ابن الأثير: وأصله- فيما يقال- التّطيّر بالسّوانح والبوارح من الظّباء والطّير وغيرهما، وكان ذلك يصدّهم عن مقاصدهم فنفاه الشّرع، وأبطله ونهى عنه «4» .
والطّائر: ما تيمّنت به أو تشاءمت، وأصله في ذي الجناح، وقالوا للشّيء يتطيّر به: طائر الله لا طائرك، قال ابن الأنباريّ: معناه فعل الله وحكمه لا فعلك وما تتخوّفه «5» .
وقول الله تعالى في قصّة ثمود وتشاؤمهم بنبيّهم صالح عليه السّلام قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ (النمل/ 47) اطّيّرنا تشاءمنا، وقوله: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ (يس/ 19) أي شؤمكم معكم، وهو كفرهم، وقيل للشّؤم طائر وطير وطيرة؛ لأنّ العرب كان من شأنها عيافة الطّير وزجرها، والتّطيّر ببارحها وبنعيق غربانها، وأخذها ذات اليسار
__________
(1) المقاييس (3/ 446) .
(2) المفردات (322) .
(3) المصباح (3/ 382) .
(4) النهاية (3/ 152) .
(5) التاج (7/ 154، 155) .(9/4190)
إذا أثاروها، وأعلم الله جلّ ثناؤه على لسان رسوله أنّ طيرتهم باطلة، وقال: «لا طيرة ولا هامة» ، قال الأزهريّ: كانت العرب مذهبها في الفأل والطّيرة واحد فأثبت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الفأل واستحسنه، وأبطل الطّيرة ونهى عنها «1» ، أمّا قوله- عزّ وجلّ- في قصّة موسى عليه السّلام: يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ (الأعراف/ 131) أي يتشاءموا به ويقولون:
ما أصابنا ذلك إلّا بشؤمهم، وقيل: يقولون: ذهبت حظوظنا وأنصباؤنا من الرّخاء والخصب والعافية منذ جاءنا موسى عليه السّلام «2» .
وقال ابن منظور: التّطيّر: التّشاؤم، والطّائر: ما تشاءمت به، والطّائر: الحظّ وهو الّذي تسمّيه العرب البخت، والطّيرة: ما يتشاءم به من الفأل الرّديء «3» .
التطير اصطلاحا:
التطيّر هو التّشاؤم بما يرى من مجيء الطّير والظّباء ونحو ذلك ناحية الشّمال أو بما يسمع من صوت طائر، كائنا ما كان وعلى أيّ حال كان. هذا هو التّطيّر عند العرب.
أمّا تطيّر الأعاجم وتشاؤمهم فهو عند ما يرون صبيّا يذهب به إلى المعلّم بالغداة، أو برؤية السّقّاء على ظهره قربة مملوءة مشدودة، أو بالحمّال المثقل بالحمل، والدّابّة الموقرة (أي الّتي عليها حمل شديد) «4» .
أصل التطير:
قال ابن حجر- رحمه الله تعالى-: إنّهم كانوا في الجاهليّة يعتمدون على الطّير فإذا خرج أحدهم لأمر فإن رأى الطّير طار يمنة تيمّن به واستمرّ، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع، وربّما كان أحدهم يهيّج الطّير ليطير فيعتمدها، فجاء الشّرع بالنّهي عن ذلك، وكانوا يسمّونه السّانح ويتيمّنون به إذا ولّاك ميامنه بأن يمرّ عن يسارك إلى يمينك، والبارح بالعكس من ذلك وليس في شيء من سنوح الطّير وبروحها ما يقتضي ما اعتقدوه، وإنّما هو تكلّف بتعاطي مالا أصل له، إذ لا نطق للطّير ولا تمييز فيستدلّ بفعله على مضمون معنى فيه، وطلب العلم من غير مكانه جهل من فاعله «5» .
التطير شقاء في الدنيا وعذاب في الآخرة:
قال ابن القيّم- رحمه الله تعالى-: التّطيّر إنّما يضرّ من أشفق منه وخاف، وأمّا من لم يبال به ولم يعبأ به شيئا لم يضرّه ألبتّة، ولا سيّما إن قال عند رؤية ما يتطيّر به أو سماعه: اللهمّ لا طير إلّا طيرك، ولا خير إلّا خيرك، ولا إله غيرك، اللهمّ لا يأتي بالحسنات إلّا أنت، ولا يذهب بالسّيّئات إلّا أنت، ولا حول ولا قوّة إلّا بك. وذلك لأنّ الطّيرة باب من أبواب الشّرك وإلقاء الشّيطان وتخويفه ووسوسته وهذا يعظم شأنه
__________
(1) تهذيب الأزهري (15/ 12) .
(2) تفسير القرطبي، وروح المعاني للألوسي (9/ 32) ، وتفسير الطبري (7/ 169) .
(3) لسان العرب (5/ 2735، 2738) .
(4) تفسير القرطبي (7/ 169) .
(5) الفتح (10/ 212- 213) بتصرف يسير.(9/4191)
على من أتبعها نفسه واشتغل بها وأكثر العناية بها فتكون إليه أسرع من السّيل إلى منحدره، وتفتّحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ويعطاه فيفتح له الشّيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللّفظ والمعنى ما يفسد عليه دينه وينكّد عليه عيشه فإذا سمع كلمة سفرجل، أو أهدي إليه تطيّر به، وقال:
سفر وجلاء، وإذا رأى ياسمينا أو أهدي إليه أو سمع اسمه تطيّر به وقال: يأس ومين، وإذا خرج من داره فاستقبله أعور أو أشلّ أو أعمى أو صاحب آفة تطيّر به وتشاءم بيومه، وعلى هذا فإنّ المتطيّر متعب القلب، منكّد الصّدر، كاسف البال سيّء الخلق يتخوّف من كلّ ما يراه ويسمعه فيصير أشدّ النّاس وجلا وأنكدهم عيشا، وأضيقهم صدرا، وأحزنهم قلبا، وكم قد حرم نفسه بذلك من حظّ ومنعها من رزق وقطع عليها من فائدة. وأمّا من لم يلتفت إليها ولم يلق إليها باله، ولم يشغل نفسه بها ولا فكره، فإنّ ذلك يذهب عنه ويضمحلّ. وقد شفى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمّته في الطّيرة حيث سئل عنها فقال: «ذلك شيء يجده أحدكم فلا يصدّنّه» «1» .
حكم التطير:
عدّ ابن حجر ترك السّفر بسبب التّطيّر من الكبائر. وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الطّيرة شرك الطّيرة شرك، وما منّا إلّا، ولكنّ الله يذهبه بالتّوكّل» . رواه التّرمذيّ وابن ماجة في صحيحه من غير تكرار وقال التّرمذيّ: حديث حسن صحيح.
وقال الحافظ أبو القاسم الأصفهانيّ وغيره: في الحديث إضمار والتّقدير: ما منّا إلّا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك يعني قلوب أمّته، ولكنّ الله تعالى يذهب ذلك عن قلب كلّ من يتوكّل على الله ولا يثبت على ذلك. انتهى. واعترضه الحافظ المنذريّ بأنّ الصّواب ما ذكره البخاريّ وغيره أنّ قوله وما منّا ... إلخ من كلام ابن مسعود مدرج غير مرفوع «2» ونقل البخاريّ عن سليمان بن حرب أنّه كان ينكر رفع ذلك ويقول: كأنّه من قول ابن مسعود وروى أبو داود والنّسائيّ وابن حبّان في صحيحه «العيافة أي الحظّ والطّيرة والطّرق أي الزّجر، من الخبث» «3» ، وروى الطّبرانيّ بسند صحيح والبيهقيّ «لن ينال الدّرجات العلا من تكهّن، أو استقسم، أو رجع من سفر تطيّرا» ، وقال: هذا هو ظاهر الحديث الأوّل والثّاني، وينبغي حمله على ما إذا كان معتقدا حدوث تأثير للتّطيّر «4» .
التطير وكفارته:
قال الماورديّ: اعلم أنّه ليس شيء أضرّ بالرّأي، ولا أفسد للتّدبير من اعتقاد الطّيرة، ومن ظنّ
__________
(1) انتهى بتصرف من مفتاح دار السعادة (2/ 230- 234) وقوله «فلا يصدنّه» أي يصرفنّه عن حاجته.
(2) أي ليس من قوله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما من كلام ابن مسعود.
(3) هكذا في الزواجر والذي أورده أبو داود وغيره «الجبت» (وهو كل ما عبد من دون الله) . انظر الحديث رقم (6) .
(4) انظر الزواجر لابن حجر (197)(9/4192)
أنّ خوار بقرة أو نعيب غراب يردّ قضاء، أو يدفع مقدورا فقد جهل «1» ، وقد أجمل القرطبيّ حكم التّطيّر وكفّارته إن وقع فنقل عن عكرمة قوله: «كنت عند ابن عبّاس- رضي الله عنهما- فمرّ طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير، خير. فقال ابن عبّاس: ما عند هذا لا خير ولا شرّ. قال علماؤنا: وأمّا أقوال الطّير فلا تعلّق لها بما يجعل دلالة عليه، ولا لها علم بكائن فضلا عن مستقبل تتخبّر به، ولا في النّاس من يعلم منطق الطّير؛ إلّا ما كان الله تعالى خصّ به سليمان صلّى الله عليه وسلّم من ذلك، فالتحق التّطيّر بجملة الباطل. والله أعلم. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ليس منّا من علم أو تكهّن أو ردّه عن سفره تطيّر» . وروى أبو داود عن عبد الله بن مسعود عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الطّيرة شرك- ثلاثا- وما منّا إلّا، ولكنّ الله يذهبه بالتّوكّل» وروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من رجّعته الطّيرة عن حاجته فقد أشرك» قيل: وما كفّارة ذلك يا رسول الله؟ قال: «أن يقول أحدهم: اللهمّ لا طير إلّا طيرك، ولا خير إلّا خيرك. ولا إله غيرك، ثمّ يمضي لحاجته» .
وفي خبر آخر: «إذا وجد ذلك أحدكم فليقل: اللهمّ لا يأتي بالحسنات إلّا أنت. ولا يذهب بالسّيّئات إلّا أنت، لا حول ولا قوّة إلّا بك» . ثمّ يذهب متوكّلا على الله؛ فإنّ الله يكفيه ما وجد في نفسه من ذلك، وكفاه الله تعالى ما يهمّه» .
علاج التطير:
ينبغي لمن مني بالتّطيّر أن يصرف عن نفسه دواعي الخيبة وذرائع الحرمان، ولا يجعل للشّيطان سلطانا في نقض عزائمه، ومعارضة خالقه، ويعلم أنّ قضاء- الله تعالى- عليه غالب، وأنّ رزقه له طالب، إلّا أنّ الحركة سبب، فلا يثنيه عنها مالا يضير مخلوقا ولا يدفع مقدورا، وليمض في عزائمه واثقا بالله تعالى إن أعطى، وراضيا به وإن منع «3» .
[للاستزادة: انظر صفات: سوء الظن- الضعف- الوهن- الوهم- الشك- القلق- الوسوسة- العجلة- الجزع.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: التفاؤل- التوكل- حسن الظن- العزم والعزيمة- قوة الإرادة الطمأنينة- الرضا- اليقين] .
__________
(1) أدب الدنيا والدين للماوردى (303) .
(2) تفسير القرطبي (7/ 170) .
(3) أدب الدنيا والدين (302) للماوردي.(9/4193)
الآيات الواردة في «التّطيّر»
1- وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131)
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) «1»
2- وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45)
قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) «2»
3- وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)
إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)
قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)
وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18)
قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) «3»
__________
(1) الأعراف: 130- 132 مكية
(2) النمل: 45- 47 مكية
(3) يس: 13- 19 مكية(9/4194)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التطير)
1-* (عن بريدة- رضي الله عنه- أنّه قال:
إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، كان لا يتطيّر من شيء، وكان إذا بعث عاملا سأل عن اسمه، فإذا أعجبه اسمه فرح به ورؤي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمه رؤي كراهية ذلك في وجهه، وإذا دخل قرية سأل عن اسمها: فإن أعجبه اسمها فرح بها، ورؤي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمها، رؤي كراهية ذلك في وجهه» ) * «1» .
2-* (عن معاوية بن الحكم السّلميّ- رضي الله عنه- أنّه قال: بينا أنا أصلّي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ عطس رجل من القوم. فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم «2» ، فقلت: واثكل أمّياه «3» ما شأنكم تنظرون إليّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلمّا رأيتهم يصمّتونني «4» لكنّي سكتّ. فلمّا صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فبأبي هو وأمّي، ما رأيت معلّما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فو الله ما كهرني «5» ، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: «إنّ هذه الصّلاة لا يصلح فيها شيء من كلام النّاس» «إنّما هو التّسبيح والتّكبير وقراءة القرآن» أو كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قلت: يا رسول الله إنّي حديث عهد بجاهليّة، وقد جاء الله بالإسلام وإنّ منّا رجالا يأتون الكهّان. قال: «فلا تأتهم» . قال: ومنّا رجال يتطيّرون. قال: «ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدّنّهم» قال ابن الصّبّاح: فلا تصدّنّكم قال:
قلت: ومنّا رجال يخطّون «6» . قال: «كان نبيّ من الأنبياء يخطّ. فمن وافق خطّه فذاك» قال: وكانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوّانيّة «7» فاطّلعت ذات يوم فإذا الذّيب قد ذهب بشاة من غنمها وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون «8» . لكنّي صككتها صكّة «9» . فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعظّم ذلك عليّ. قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها. قال: ائتني بها فأتيته بها فقال لها: «أين الله؟» قالت في السّماء. قال:
«من أنا» ؟ قالت: أنت رسول الله. قال: «أعتقها فإنّها مؤمنة» ) * «10» .
3-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عرضت عليّ الأمم فرأيت النّبيّ ومعه الرّهيط «11» ، والنّبيّ ومعه الرّجل
__________
(1) أبو داود (3920) واللفظ له، وذكره ابن الأثير في جامع الأصول وقال محققه: إسناده صحيح (7/ 629) ، وأحمد في المسند (5/ 347) .
(2) فرماني القوم بأبصارهم: أي زجروني بأبصارهم من غير كلام.
(3) وا ثكل أمّياه: أي وافقد أمّي إيّاي فإنّي هلكت. وهذا كناية عن الحزن.
(4) يصمّتونني: أي يسكّتونني.
(5) ماكهرني: أي ما نهرني ولا زجرني.
(6) يخطون: إشارة إلى علم الرمل.
(7) الجوّانيّة: موضع بشمال المدينة قرب أحد.
(8) آسف كما يأسفون: أي أغضب كما يغضبون.
(9) صككتها صكة: أي ضربتها بيدي مبسوطة.
(10) مسلم (537) .
(11) الرّهيط: تصغير رهط وهم الجماعة دون العشرة.(9/4195)
والرّجلان، والنّبيّ ليس معه أحد. إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنّهم أمّتي. فقيل لي: هذا موسى وقومه.
ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم. فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر. فإذا سواد عظيم. فقيل لي:
هذه أمّتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنّة بغير حساب ولا عذاب» ثمّ نهض فدخل منزله. فخاض النّاس في أولئك الّذين يدخلون الجنّة بغير حساب ولا عذاب. فقال بعضهم: فلعلّهم الّذين صحبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال بعضهم: فلعلّهم الّذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله. وذكروا أشياء. فخرج عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «ما الّذي تخوضون فيه» .
فأخبروه. فقال: «هم الّذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيّرون، وعلى ربّهم يتوكّلون» . فقام عكّاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: «أنت منهم» . ثمّ قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: «سبقك بها عكّاشة» ) * «1» .
4-* (عن عائشة- رضي الله عنها- أنّها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الطّير تجري بقدر» . وكان يعجبه الفأل الحسن) * «2» .
5-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الطّيرة شرك (ثلاثا) وما منّا إلّا «3» ، ولكنّ الله يذهبه بالتّوكّل «4» » ) * «5» .
6-* (عن قبيصة الهلاليّ- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «العيافة «6» والطّيرة والطّرق «7» من الجبت «8» » ) * «9» .
7-* (عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ردّته الطّيرة من حاجة فقد أشرك» قالوا: يا رسول الله، ما كفّارة ذلك؟. قال: «أن يقول أحدهم: اللهمّ لا خير إلّا خيرك، ولا طير إلّا طيرك، ولا إله غيرك» ) * «10» .
__________
(1) البخاري- الفتح 10 (5705) . ومسلم (220) واللفظ له.
(2) أحمد (6/ 130) واللفظ له. وذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه البزار وقال: لا يروى إلا بهذا الإسناد، ورجاله رجال الصحيح غير يوسف بن أبي بردة وثقه ابن حبان (7/ 209) .
(3) وما منا إلّا: هكذا ورد بدون ذكر المستثنى أي إلا وقد يعتريه التطير، وتسبق إلى قلبه الكراهة فحذف اختصارا واعتمادا على فهم السامع. وقيل: إن قوله: «وما منا إلا» من قول ابن مسعود أدرجه في الحديث، وإنما جعل الطيرة من الشرك لأنهم اعتقدوا أنها تجلب لهم نفعا، أو تدفع عنهم ضرّا إذا عملوا بموجبها.
(4) ولكن الله يذهبه بالتوكل: أي إذا خطر له عارض التطير فتوكل على الله وسلّم إليه ولم يعمل بذلك الخاطر غفر الله له ولم يؤاخذه به.
(5) أبو داود (3910) واللفظ له. الترمذي (1614) وقال: هذا حديث حسن صحيح ونقل عن البخاري أن سليمان بن حرب كان يقول: كلمة «وما منا إلا» من كلام ابن مسعود، وذكره ابن الأثير في جامع الأصول وقال محققه: ورواه أيضا ابن حبان في صحيحه وأقر كلام الترمذي (7/ 630)
(6) العيافة: زجر الطير والتفاؤل بها، كما كانت العرب تفعله.
(7) الطرق: الضرب بالعصا، وقيل: هو الخط في الرمل.
(8) الجبت: كل ما عبد من دون الله، وقيل: هو الكاهن والشيطان.
(9) أبو داود (3907) واللفظ له. أحمد (3/ 477) وقال محقق جامع الأصول: حسن (7/ 639) .
(10) أحمد (2/ 220) واللفظ له رقم (7063) وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح (7045) .(9/4196)
8-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا عدوى، ولا طيرة، والشّؤم في ثلاث: في المرأة، والدّار، والدّابّة» ) * «1» .
9-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا عدوى، ولا هامة «2» ولا نوء «3» ، ولا صفر «4» » ) * «5» .
10-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا طيرة، وخيرها الفأل» قالوا: وما الفأل؟ قال: «الكلمة الصّالحة يسمعها أحدكم» ) * «6» .
من الآثار وأقوال العلماء الواردة في ذمّ (التطير)
1-* (قال لبيد الشّاعر:
لعمرك ما تدري الضّوارب بالحصى ... ولا زاجرات الطّير ما الله صانع) *» .
2-* (قال عكرمة- رحمه الله تعالى-: «كنّا جلوسا عند ابن عبّاس. فمرّ طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير. فقال له ابن عبّاس: لا خير ولا شرّ» . مبادرة منه بالإنكار عليه لئلّا يعتقد أنّ له تأثيرا في الخير أو الشّرّ) * «8» .
3-* (قيل لكعب الأحبار: هل تتطيّر؟ قال:
نعم، فقيل له: كيف تقول إذا تطيّرت؟ قال: أقول:
«اللهمّ لا طير إلّا طيرك، ولا خير إلّا خيرك، ولا ربّ غيرك، ولا قوّة إلّا بك» ) * «9» .
4-* (خرج طاوس مع صاحب له في سفر فصاح غراب فقال الرّجل: خير. فقال طاوس: «وأيّ خير عنده والله لا تصحبني» ) * «10» .
5-* (قال ابن عبد الحكم: لمّا خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة، قال مزاحم: فنظرت فإذا القمر في الدّبران «11» فكرهت أن أقول له. فقلت: ألا تنظر
__________
(1) البخاري- الفتح 10 (5753) واللفظ له. ومسلم (2225) .
(2) الهامة: واحدة الهوام، وهي ذوات السموم، وقيل: دواب الأرض التي تهم بأذى الناس وقيل: إن العرب كانت تقول في الجاهلية: إذا قتل الرجل ولم يؤخذ بثأره خرجت من رأسه هامة فتدور حول قبره فتقول: اسقوني اسقوني، فإن أدرك بثأره ذهبت وإلا بقيت.
(3) ولا نوء: أي لا تقولوا: مطرنا بنوء كذا، ولا تعتقدوه.
(4) والصفر: دواب في البطن وهي دودة وكانوا يعتقدون أن في البطن دابة تهيج عند الجوع وربما قتلت صاحبها. وقيل: كانوا يتشاءمون بدخول شهر صفر.
(5) مسلم (2220) .
(6) البخاري- الفتح 10 (5754) اللفظ له. ومسلم (2224) .
(7) أدب الدنيا والدين (304) .
(8) مفتاح دار السعادة (2/ 235) .
(9) المرجع السابق نفسه.
(10) المرجع السابق (2/ 535) .
(11) الدّبران: منزل من منازل القمر سمّي دبرانا؛ لأنه يدبر الثّريّا أي يتبعها، وهو نجم عملاق أحمر استهدي به قديما.(9/4197)
إلى القمر؟ ما أحسن استواءه في هذه اللّيلة! قال: فنظر عمر فإذا هو في الدّبران فقال: «كأنّك أردت أن تعلمني أنّ القمر في الدّبران يا مزاحم، إنّا لا نخرج بشمس ولا بقمر، ولكنّا نخرج بالله الواحد القهّار» ) * «1» .
6-* (قال الماورديّ- رحمه الله تعالى-:
«واعلم أنّه قلّما يخلو من الطّيرة أحد، لا سيّما من عارضته المقادير في إرادته، وصدّه القضاء عن طلبته، فهو يرجو واليأس عليه أغلب، ويأمل والخوف إليه أقرب، فإذا عاقه القضاء، وخانه الرّجاء جعل الطّيرة عذر خيبته، وغفل عن قضاء الله- عزّ وجلّ- ومشيئته، فإذا تطيّر أحجم عن الإقدام ويئس من الظّفر، وظنّ أنّ القياس فيه مطّرد، وأنّ العبرة فيه مستمرّة، ثمّ يصير له عادة، فلا ينجح له سعي، ولا يتمّ له قصد» ) * «2» .
7-* (قال الشّاعر في إنكار التّطيّر:
ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيامن ... والأيامن كالأشائم) *.
8-* (وقال آخر:
الزّجر والطّير والكهّان كلّهم ... مضلّلون ودون الغيب أقفال) *.
9-* (وقال آخر:
وما عاجلات الطّير تدني من الفتى ... نجاحا ولا عن ريثهنّ قصور) *.
10-* (وقال آخر:
تخيّر طيرة فيها زياد ... لتخبره، وما فيها خبير
تعلّم أنّه لا طير إلّا ... على متطيّر وهو الثّبور
بلى شيء يوافق بعض شيء ... أحايينا وباطله كثير) * «3» .
11-* (قال الشّاعر:
طيرة النّاس لا تردّ قضاء ... فاعذر الدّهر لا تشبه بلوم
أيّ يوم تخصّه بسعود ... المنايا ينزلن في كلّ يوم
ليس يوم إلّا وفيه سعود ... ونحوس تجري لقوم وقوم) * «4» .
__________
(1) مفتاح دار السعادة (2/ 235) .
(2) أدب الدنيا والدين (304) .
(3) كله من الفتح (10/ 223، 224) .
(4) أدب الدنيا والدين (304) .(9/4198)
من مضار (التطير)
(1) ينافي الإيمان، ويضادّ التّوكّل.
(2) لا يدفع مكروها ولا يجلب محبوبا.
(3) دليل قلّة العقل وذهاب الحلم.
(4) اضطراب النّفس وبلبلة الفكر.
(5) الفشل في الحياة.
(6) دعوة إلى تعطيل المصالح وترك السّعي.
(7) صفة من صفات الجاهليّة، وعادة مذمومة من عاداتهم.
(8) دعوة صريحة للكفر بالقضاء والقدر.
(9) تجعل الإنسان عبدا للخزعبلات والدّجل.
(10) فيها مخالفة صريحة لأمر الرّسول صلّى الله عليه وسلّم.(9/4199)
التعاون على الإثم والعدوان
التعاون لغة واصطلاحا:
(انظر صفة التّعاون على البرّ والتّقوى)
الإثم لغة:
مصدر قولهم: أثم يأثم، وهو مأخوذ من مادّة (أث م) الّتي تدلّ على البطء والتّأخّر، ومن ذلك ناقة آثمة: أي متأخّرة، والإثم مشتقّ من ذلك، لأنّه بطيء عن الخير متأخّر عنه، يقال: أثم فلان: وقع في الإثم أي الذّنب، ويجمع على آثام. والأثام: جزاء الإثم، قال تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً أراد مجازاة الأثام يعني العقوبة، والأثام والإثام: عقوبة الإثم.
وقال القرطبيّ: الأثام في كلام العرب:
العقاب، وقيل: واد في جهنّم جعله الله عقابا للكفرة «1» .
ويقول الرّاغب: الإثم والأثام اسم للأفعال المبطئة عن الثّواب والجمع آثام، وتسمية الكذب والقمار والخمر والمعصية وغير ذلك بالإثم لكونها من جملته، وقال الجوهريّ: الإثم: الذّنب، والأثام جزاء
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
1/ 12/ 11
الإثم، يقال: أثم الرّجل إثما ومأثما، إذا وقع في الإثم فهو آثم وأثيم وأثوم أيضا، يقال: أثمه الله في كذا يأثمه ويأثمه أي عدّه عليه إثما وقيل عاقبه على الإثم فهو مأثوم أي مجزيّ جزاء إثمه، وآثمه: أوقعه في الإثم، وأثّمه أي قال له: أثمت (ورماه بالإثم) ، وقد تسمّى الخمر إثما، وتأثّم من كذا: أي تحرّج عنه وكفّ، وقال ابن منظور: تأثّم: تاب من الإثم، واستغفر منه، وهو (أي صيغة التأثّم) على السّلب كأنّه سلبه بالتّوبة والاستغفار أو رام ذلك بهما، وفي حديث معاذ: فأخبر بها عند موته تأثّما أي تجنّبا للإثم، كما يقال أيضا: تأثّم فلان: إذا فعل فعلا خرج به من الإثم، كما يقال تحرّج: إذا فعل ما يخرج به عن الحرج «2» .
الإثم اصطلاحا:
قال الجرجانيّ: الإثم: ما يجب التّحرّز منه شرعا وطبعا «3» .
وقال المناويّ: الإثم والأثام: هي الأفعال المبطّئة للثّواب والآثم المتحمّل للإثم «4» .
وقال الكفويّ: الإثم: هو الذّنب الّذي تستحقّ
__________
(1) تفسير القرطبي (13/ 51) .
(2) مقاييس اللغة (1/ 60) ، المفردات (ص 5) .، الصحاح (5/ 1858) ، ولسان العرب (1/ 28) (ط. دار المعارف) .
(3) التعريفات (7) .
(4) التوقيف (38) .(9/4200)
العقوبة عليه، ولا يصحّ أن يوصف به إلّا المحرّم «1» .
الفرق بين الإثم والذنب والوزر:
قال الكفويّ: إنّ الذّنب هو مطلق الجرم عمدا كان أو سهوا، بخلاف الإثم فإنّه ما يستحقّ فاعله العقاب، فيختصّ بما يكون عمدا.
أمّا الإثم والوزر فهما واحد في الحكم العرفيّ وإن اختلفا في الوضع، فإنّ وضع الوزر للقوّة لأنّه من الإزار، وهو ما يقوّي الإنسان، ووضع الإثم للّذّة وإنّما خصّ به فعل الشّرّ لأنّ الشّرور (في الغالب) ما تكون مستلذّة «2» .
العدوان لغة:
مصدر قولنا عدا عليه، وهو مأخوذ من مادّة (ع د و) الّتي تدلّ على تجاوز في الشّيء وتقدّم لما ينبغي أن يقتصر عليه، والعدوان: الظّلم الصّراح، يقال: عدا عليه (عدوانا) واعتدى عليه (اعتداء) ، وتعدّى عليه (تعدّيا) كلّه بمعنى واحد. وفي اللّسان: عدا عليه عدوا، وعداء، وعدوّا، وعدوانا، وعدوانا، وعدوى، وتعدّى واعتدى كلّه: ظلمه.
وقد أوضح الرّاغب ارتباط فروع هذه المادّة فقال: العدو: التّجاوز ومنافاة الالتئام، فتارة يعتبر (التّجاوز) بالقلب فيقال له: العداوة والمعاداة، وتارة بالمشي فيقال له: العدو، وتارة في الإخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له: العدوان والعدو قال تعالى: فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ (الأنعام/ 108) أي عدوانا، ومن العدوان المحظور ابتداء قوله تعالى: وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ (المائدة/ 2) . العدوان: هنا هو ظلم النّاس كما يقول القرطبيّ، أو هو تجاوز ما حدّ الله لكم في دينكم وفرض عليكم في أنفسكم «3» ، ومن العدوان الّذي هو على سبيل المجازاة ويصحّ أن يتعاطى مع من ابتدأ به، قول الله تعالى: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (البقرة/ 193) أي لا سبيل إلّا عليهم، والظّالمون هم المشركون بالله، وذلك على وجه المجازاة لما كان من المشركين من الاعتداء، والمعنى حينئذ: افعلوا بهم مثل الّذي فعلوا بكم، كما يقال: إن تعاطيت منّي ظلما تعاطيته منك، والثّاني: ليس بظلم، «4» ، والعادي: الظّالم، يقال: لا أشمت الله بك عاديك، أي عدوّك الظّالم لك، وقولهم: فلان عدوّ فلان معناه: فلان يعدو على فلان بالمكروه ويظلمه، يقال: عدا عدوا: ظلم وجار، وفي حديث قتادة «أنّه عدي عليه» أي ظلم وسرق ماله، يقال: عدا بنو فلان على بني فلان أي ظلموهم، وعدا الأمر وتعدّاه:
تجاوزه، وعداه عن الأمر عدوا وعدوانا، وعدّاه:
كلاهما صرفه وشغله، والعداء والعدواء والعادية كلّه:
الشّغل يعدوك عن الشّيء، وتعادى ما بينهم: تباعد، وتعادى القوم عادى بعضهم بعضا من العداوة، والعادي: المعتدي، والمعادي أي المتجاوز الطّور،
__________
(1) الكليات للكفوي (40) .
(2) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(3) تفسير القرطبي (6/ 33) ، والطبري (4/ 405) .
(4) المرجع السابق (2/ 202) .(9/4201)
والعدوّ: ضدّ الصّديق، وقيل: ضدّ الوليّ، يكون للواحد والجمع، والذّكر والأنثى بلفظ واحد وجمعه أعداء واسم الجمع عدى وعدى، وجمع الجمع أعاد، قال الفيروز آباديّ: وقد يثنّى ويجمع ويؤنّث في بعض اللّغات «1» .
العدوان اصطلاحا:
قال المناويّ: العدوان: أسوأ الاعتداء في قول أو فعل أو حال «2» .
وقال الكفويّ: تجاوز المقدار المأمور بالانتهاء إليه والوقوف عنده «3» .
التعاون على الإثم والعدوان اصطلاحا:
أن يعين بعض النّاس بعضا على ترك ما أمر الله بفعله وتجاوز ما حدّ في الدّين وفرض على النّاس في أنفسهم وفي التّعامل مع غيرهم «4» .
الفرق بين الإثم والعدوان:
قال ابن القيّم- رحمه الله تعالى-: معنى قول الله تعالى ذكره: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ (المائدة/ 2) . أنّ كلّا منهما (الإثم والعدوان) إذا أفرد تضمّن الآخر، فكلّ إثم عدوان إذ هو فعل ما نهى الله عنه أو ترك ما أمر الله به. فهو عدوان على أمره ونهيه وكذلك كلّ عدوان إثم فإنّه يأثم به صاحبه. هذا ولكن عند اقترافهما يكونان شيئين بحسب متعلّقهما. فالإثم ما كان محرّم الجنس كالكذب والزّنا وشرب الخمر ونحو ذلك. والعدوان:
ما كان محرّم القدر والزّيادة. فالعدوان تعدّي ما أبيح منه إلى القدر المحرّم كالاعتداء في آخذ الحقّ ممّن هو عليه. إمّا بأن يتعدّى على ماله أو بدنه أو عرضه، فإذا غصبه خشبة لم يرض عوضها إلّا داره وإذا أتلف عليه شيئا أتلف عليه أضعافه، وإذا قال فيه كلمة قال فيه أضعافها فهذا كلّه عدوان وتعدّ للعدل «5» .
وقال القرطبيّ: العدوان تجاوز الحدّ، والظّلم وضع الشّيء في غير موضعه، وقيّد الوعيد بذكر العدوان والظّلم ليخرج منه فعل السّهو والغلط «6» .
[للاستزادة: انظر صفات: التخاذل- الغي والإغواء- الفتنة- الحرب والمحاربة- البغي- الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف- العدوان- العتو- الظلم.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: التعاون على البر والتقوى- الإخاء- الإغاثة- تفريج الكربات- التناصر- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- الاستعانة- الاستغاثة- الصفح- السلم] .
__________
(1) مقاييس اللغة (4/ 249) ، المفردات للراغب (339) ، وبصائر ذوي التمييز (4/ 31) ، الصحاح (6/ 2421) ، لسان العرب (عدو) 4/ 2850) (ط. دار المعارف) .
(2) التوقيف (238) .
(3) الكليات (584) .
(4) اقتبسنا هذا التعريف مما ذكره الطبري في تفسير قوله تعالى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ انظر تفسير الطبريّ (4/ 405) .
(5) التفسير القيم لابن القيم (228) .
(6) تفسير القرطبي (5/ 103) .(9/4202)
الآيات الواردة في النهي عن «التعاون على الإثم والعدوان»
1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) «1»
__________
(1) المائدة: 1- 2 مدنية(9/4203)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التعاون على الإثم والعدوان)
1-* (عن كعب بن عجرة- رضي الله عنه- أنّه قال: «خرج إلينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونحن تسعة خمسة وأربعة أحد العددين من العرب والآخر من العجم فقال: «اسمعوا، هل سمعتم أنّه سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس منّي ولست منه وليس بوارد عليّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدّقهم بكذبهم فهو منّي وأنا منه وهو وارد عليّ الحوض» ) * «1» .
2-* (عن عائشة- رضي الله عنها- أنّها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق. إن نسي ذكّره وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء. إن نسي لم يذكّره وإن ذكر لم يعنه» ) * «2» .
3-* (عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لكعب بن عجرة: «أعاذك الله من إمارة السّفهاء. قال: وما إمارة السّفهاء؟ قال: «أمراء يكونون بعدي لا يهتدون بهديي ولا يستنّون بسنّتي، فمن صدّقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا منّي ولست منهم ولا يردون عليّ حوضي، ومن لم يصدّقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك منّي وأنا منهم وسيردون عليّ حوضي، يا كعب بن عجرة:
الصّيام جنّة، والصّدقة تطفىء الخطيئة، والصّلاة قربان أو قال برهان، يا كعب بن عجرة: النّاس غاديان:
فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها» ) * «3» .
4-* (عن ابن مسعود- رضي الله عنه- أنّه قال: انتهيت إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو في قبّة حمراء من أدم «4» في نحو من أربعين رجلا، فقال: «إنّكم مفتوح عليكم، منصورون ومصيبون فمن أدرك ذلك منكم فليتّق الله وليأمر بالمعروف، ولينه عن المنكر، وليصل رحمه، من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار، ومثل الّذي يعين قومه على غير الحقّ، كمثل بعير ردّي في بئر، فهو ينزع منها بذنبه» ) * «5» .
5-* (عن أيّوب بن سلمان، رجل من صنعاء، قال: كنّا بمكّة، فجلسنا إلى عطاء الخراسانيّ، إلى جنب جدار المسجد، فلم نسأله، ولم يحدّثنا، قال:
فقال: ما بالكم لا تتكلّمون ولا تذكرون الله؟! قولوا:
الله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله وبحمده بواحدة
__________
(1) النسائي (7/ 160) وقال الألباني: صحيح (3/ 1882، 3923، 3924) . والترمذي (2259) واللفظ له وقال: صحيح غريب.
(2) النسائي (7/ 159) مختصر. وأبو داود (2932) واللفظ له وقال محقق جامع الأصول: إسناده صحيح (4/ 73) .
(3) الترمذي (614) وقال: حسن غريب. النسائي (7/ 160) . وقال محقق جامع الأصول: أقل أحواله أنه حسن (4/ 76) . وذكره المنذري في الترغيب والترهيب وقال: رواه أحمد واللفظ له والبزار ورواتهما محتج بهم في الصحيح. ورواه ابن حبان في صحيحه بنحوه. ورواه الترمذي والنسائي من حديث كعب بن عجرة نفسه وقال الترمذي في أحد أسانيده: حديث غريب صحيح (3/ 194، 195) واللفظ له.
(4) القبّة من الخيام: البيت الصغير المستدير والأدم: الجلد المدبوغ.
(5) أحمد (1/ 401) واللفظ له وقال الشيخ أحمد شاكر (5/ 305) برقم (3801) : إسناده صحيح، والترمذي (2257) ، وجامع الأصول (1/ 332) وقال محققه: إسناده حسن.(9/4204)
عشرا وبعشر مائة، من زاد زاده الله، ومن سكت غفر له، ألا أخبركم بخمس سمعتهنّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟
قالوا: بلى، قال: «من حالت شفاعته دون حدّ من حدود الله فهو مضادّ الله في أمره، ومن أعان على خصومة بغير حقّ فهو مستظلّ في سخط الله حتّى يترك، ومن قفا مؤمنا أو مؤمنة حبسه الله في ردغة الخبال، عصارة أهل النّار، ومن مات وعليه دين أخذ لصاحبه من حسناته، لا دينار ثمّ ولا درهم، وركعتا الفجر حافظوا عليهما، فإنّهما من الفضائل» ) * «1» .
6-* (عن سعيد بن المسيّب عن أبيه- رضي الله عنه- أنّه قال: لمّا حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أميّة بن المغيرة، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي طالب: يا عمّ، قل لا إله إلّا الله كلمة أشهد لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أميّة: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطّلب؟ فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتّى قال أبو طالب آخر ما كلّمهم: هو على ملّة عبد المطّلب، وأبى أن يقول: لا إله إلّا الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله تعالى فيه ما كانَ لِلنَّبِيِّ ... (التوبة/ 113) ... الآية» ) * «2» .
7-* (عن أبي هريرة وأبي سعيد- رضي الله عنهما- أنّهما قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أنّ أهل السّماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبّهم الله في النّار» ) * «3» .
ورواه البيهقيّ من حديث ابن عبّاس- رضي الله عنهما- وفيه: أنّ قتيلا قتل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لا يدرى من قتله، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يقتل قتيل
وأنا فيكم لا يدرى من قتله؟» فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لو أنّ أهل السّماء وأهل الأرض اشتركوا في قتل مؤمن لعذّبهم الله إلّا أن لا يشاء ذلك» ) *» .
8-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أعان على خصومة بظلم لم يزل في سخط الله حتّى ينزع» ) * «5» .
9-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما بعث الله من نبيّ ولا استخلف من خليفة إلّا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشّرّ وتحضّه عليه. فالمعصوم من عصم الله تعالى» ) * «6» .
10-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من خرج من الطّاعة وفارق الجماعة، فمات، مات ميتة جاهليّة «7» ، ومن قاتل تحت
__________
(1) أحمد (2/ 82) وقال الشيخ أحمد شاكر (7/ 254) برقم (5544) : إسناده صحيح، والترغيب والترهيب للمنذري (3/ 197، 198) ، وقال: رواه أبو داود والطبراني بإسناد جيد وصححه الألباني في صحيح الجامع (6196) .
(2) البخاري- الفتح 3 (1360) واللفظ له. ومسلم (24) .
(3) الترمذي (1398) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 57) برقم (1128) .
(4) السننى الكبرى للبيهقي (8/ 22) .
(5) الحاكم (4/ 99) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وروى البيهقي نحوه من حديث ابن مسعود (10/ 234) . وقال الألباني: «صحيح» انظر صحيح الجامع (2/ 1045) برقم (6049) واللفظ له.
(6) البخاري- الفتح 13 (7198) .
(7) مات ميتة جاهلية: أي على صفة موتهم من حيث هم فوضى لا إمام لهم.(9/4205)
راية عمّيّة «1» يغضب لعصبة «2» أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة، فقتل، فقتلة جاهليّة «3» . ومن خرج على أمّتي يضرب برّها وفاجرها ولا يتحاش «4» من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده فليس منّي ولست منه» ) * «5» .
11-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» ) * «6» .
12-* (عن جندب بن عبد الله البجليّ- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قتل تحت راية عمّيّة يدعو عصبيّة أو ينصر عصبيّة، فقتلة جاهليّة» ) * «7» .
من الآثار وأقوال العلماء الواردة في ذمّ (التعاون على الإثم والعدوان)
1-* (قال ابن عمر- رضي الله عنهما-: «الجلاوزة «8» والشّرط «9» كلاب النّار يوم القيامة» ) * «10» .
2-* (قال سعيد بن المسيّب- رحمه الله تعالى-:
«لا تملأوا أعينكم من أعوان الظّلمة إلّا بإنكار من قلوبكم لئلّا تحبط أعمالكم الصّالحة» ) * «11» .
3-* (قال مكحول الدّمشقيّ- رحمه الله تعالى-:
«ينادي مناد يوم القيامة أين الظّلمة وأعوانهم؟ فما يبقى أحد مدّ لهم يدا أو حبّر لهم دواة أو برى لهم قلما فما فوق ذلك إلّا حضر معهم فيجمعون في تابوت من نار فيلقون في جهنّم» ) * «12» .
4-* (قال مالك بن دينار يوصي ختنه «13» :
«يا مغيرة انظر كلّ أخ لك، وصاحب لك، وصديق لك، لا تستفيد منه في دينك خيرا فانبذ عنك صحبته، فإنّما ذلك لك عدوّ، يا مغيرة: النّاس أشكال: الحمام مع الحمام، والغراب مع الغراب، والصّعو «14» مع الصّعو، وكلّ مع شكله» ) * «15» .
5-* (قال الإمام أحمد- رحمه الله تعالى-: «إذا اشترى الرّجل من رجل شيئا وهو يعلم أنّه سرقه فقد شاركه» ) * «16» .
6-* (قال عديّ بن زيد:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكلّ قرين بالمقارن يقتدي
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ... ولا تصحب الأردا فتردى مع الرّدي) * «17» .
__________
(1) العمية: المراد بها: الأمر الأعمى الذي لا يستبين وجهه.
(2) عصبة الرجل: قرابته من جهة الأب.
(3) فقتلة جاهلية: أي فقتلته كقتلة أهل الجاهلية.
(4) لا يتحاش: لا يكترث بما يفعله فيها، ولا يخاف وبال عقوبته.
(5) مسلم (1848) .
(6) مسلم (2674) .
(7) مسلم (1850) .
(8) الجلاوزة: أعوان الظلمة.
(9) الشّرط: طائفة من أعوان الولاة لهم علامات يعرفون بها.
(10) الكبائر (112) .
(11) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(12) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(13) الختن: أبو امرأة الرجل، وأخو امرأته.
(14) الصّعو: صغار العصافير.
(15) مساوىء الأخلاق للخرائطي (243) .
(16) مسائل الإمام أحمد، رواية البغوي (68) .
(17) أدب الدنيا والدين (166) .(9/4206)
7-* (قال الماورديّ- رحمه الله تعالى-:
«يلزم على العاقل أن يتحرّز من دخلاء السّوء، ويجانب أهل الرّيب، ليكون موفور العرض سليم الغيب، فلا يلام بملامة غيره» ) * «1» .
8-* (قال ابن الجوزيّ- رحمه الله تعالى- «ما رأيت أكثر أذى للمؤمن من مخالطة من لا يصلح، فإنّ الطّبع يسرق فإن لم يتشبّه بهم ولم يسرق منهم فتر عمله «2» . فإنّ رؤية الدّنيا تحثّ على طلبها وكذلك رؤية أرباب الدّنيا ودورهم وأحوالهم، ومثله سماع الأغاني إذ كلّ هذا يعين على المعصية ويدلّ عليها» ) * «3» .
9-* (قال الخطّاب بن المعلّى المخزوميّ القرشيّ لابنه وهو يعظه بموعظة طويلة فيها: المرء يعرف بقرينه، وإيّاك وإخوان السّوء فإنّهم يخونون من وافقهم، ويحزنون من صادقهم، وقربهم أعدى من الجرب ورفضهم من استكمال الأدب، واستخفار المستجير «4» لؤم، والعجلة شؤم، وسوء التّدبير وهن» ) * «5» .
10-* (قال الشّنقيطيّ- رحمه الله تعالى-:
«ثبت عن عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- أنّه قتل سبعة بواحد وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا، وروي نحو ذلك عن عليّ- رضي الله عنه- أنّه توقّف عن قتال الحروريّة، حتّى يحدثوا، فلمّا ذبحوا عبد الله بن خبّاب كما تذبح الشّاة وأخبر عليّ بذلك، قال: الله أكبر، نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خبّاب. فقالوا: كلّنا قتله، ثلاث مرّات. فقال لأصحابه: دونكم القوم. فما لبث أن قتلهم عليّ وأصحابه» ) * «6» .
11-* (قال بعض السّلف: «ما انتهك المرء من أخيه حرمة أعظم من أن يساعده على معصية ثمّ يهوّنها عليه» ) * «7» .
من مضار (التعاون على الإثم والعدوان)
(1) تقلب نظام المجتمع وتساعد على فساد الذّمم.
(2) تفتح أبواب الشّرّ وتطمس معالم الحقّ ليرتع الباطل.
(3) تنبيء عن خسّة صاحبها ودناءة نفسه.
(4) دليل كامل على ضعف الإيمان وقلّة المروءة.
(5) يبشّر صاحبها بعاقبة وخيمة وعذاب أليم.
(6) ينبذ صاحبها ويهمل شأنه إذا كان المجتمع صالحا.
(7) تساعد على طغيان الحاكم وترخّص له الظّلم.
(8) إذا تحقّقت في مجتمع كانت سببا في خرابه.
(9) تضيع الحقوق، وتصل لغير أهلها ومستحقّيها.
__________
(1) بتصرف من أدب الدنيا والدين (166) .
(2) فتر عمله: أي ضعف وسكن.
(3) بتصرف من صيد الخاطر (411) ط دار الكتب العلمية.
(4) استخفار المستجير: أي عدم إجارته ونصرته.
(5) باختصار من روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (/ 2011) .
(6) أضواء البيان (2/ 94، 95) .
(7) إحياء علوم الدين (4/ 33) .(9/4207)
التعسير
التعسير لغة:
مصدر قولهم: عسّر الأمر تعسيرا، وهو مأخوذ من مادّة (ع س ر) الّتي تدلّ على معنى الصّعوبة والشّدّة، يقول ابن فارس: العين والسّين والرّاء أصل صحيح واحد، يدلّ على صعوبة وشدّة، فالعسر:
نقيض اليسر والإقلال أيضا عسرة، لأنّ الأمر ضيّق عليه شديد، قال الله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ (البقرة/ 280) . وأعسر الرّجل، إذا صار من ميسرة إلى عسرة، وعسرته أنا أعسره، إذا طالبته بدينك وهو معسر، ولم تنظره إلى ميسرته. ويقال:
عسّرت عليه تعسيرا إذا خالفته. والعسرى خلاف اليسرى، وتعسّر الأمر: التوى.. ويقال للّذي يعمل بشماله: أعسر، والعسرى هي الشّمال، وإنّما سمّيت عسرى، لأنّه يتعسّر عليها ما يتيسّر على اليمنى.
ويقال: رجل أعسر بيّن العسر، وامرأة عسراء إذا كانت قوّتهما في أشملهما ويعمل كلّ واحد منهما بشماله ما يعمل غيره بيمينه. واستعسر الأمر وتعسّر إذا صار عسيرا.. ويقال: أعسرت المرأة، إذا عسر عليها ولادها. ويوم عسر وعسير وأعسر. شديد ذو عسر،
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
12/ 21/ 7
قال تعالى في صفة القيامة فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ* عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (المدثر/ 9- 10) يوم عسير أي شديد «1» وقال ابن منظور: العسر الضّيق والشّدّة والصّعوبة، وهو نقيض اليسر. قال عيسى بن عمر:
كلّ اسم على ثلاثة أحرف أوّله مضموم وأوسطه ساكن فمن العرب من يثقّله فيقول: عسر، ورحم، وحلم (بضمّ الحرف الثّاني منها) ، ومنهم من يخفّفه فيقول:
عسر، ورحم، وحلم (بإسكان الحرف الثّاني) . وتقول:
عسر الأمر (بالضّمّ) يعسر عسرا فهو عسير. وعسر عليه الأمر (بالكسر) يعسر (بالفتح) عسرا: أي التاث فهو عسير: أي شديد.
وتقول: تعسّر الأمر وتعاسر واستعسر إذا اشتدّ والتوى وصار عسيرا، وتقول: تعاسر الزّوجان والبيّعان إذا لم يتّفقا. وعسر الزّمان: أي اشتدّ علينا وعسّر عليه أي ضيّق، وأعسر الرّجل: أضاق. وكذلك تقول: عسر الرّجل عسرا فهو عسر وعسارة (بالفتح) إذا قلّ سماحه في الأمور «2» .
وقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (البقرة/ 185) العسر: الشّدّة والمشقّة، وقال
__________
(1) تفسير الطبري (12/ 305) .
(2) مقاييس اللغة (4/ 320) ، الصحاح (2/ 744) ، ولسان العرب (5/ 2938- 2940) ، وتاج العروس (7/ 215- 216) المصباح المنير (409) .(9/4208)
ابن عبّاس: العسر هو الصّيام في السّفر «1» . وقال القرطبيّ: وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ هو بمعنى قوله:
يريد بكم اليسر فكرّر تأكيدا «2» .
التعسير اصطلاحا:
لم تذكر كتب المصطلحات التّعسير ضمن ما أوردته من مصطلحات، ويمكن أن نستخلص ذلك من جملة أقوال المفسّرين واللّغويّين فنقول:
التّعسير: أن يشدّد الإنسان على نفسه أو غيره في أمر الدّين بالزّيادة على المشروع، أو في أمر الدّنيا بترك الأيسر ما لم يكن إثما.
من شدّد شدّد الله عليه:
قال ابن القيّم- رحمه الله-: نهى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن التّشديد في الدّين بالزّيادة على المشروع، وأخبر صلّى الله عليه وسلّم أنّ تشديد العبد على نفسه هو سبب لتشديد الله عليه إمّا بالقدر وإمّا بالشّرع.
فبالقدر كفعل أهل الوسواس، فإنّهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد عليهم حتّى استحكم وصار صفة لازمة لهم.
وأمّا التّشديد بالشّرع: كمن شدّد على نفسه بالنّذر فشدّد الله عليه فألزمه الوفاء به» .
الكمال لا يعني التشدد:
قال ابن المنيّر- رحمه الله-: رأينا ورأى النّاس قبلنا أنّ كلّ متنطّع في الدّين يقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة فإنّه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدّي إلى الملال أو المبالغة في التّطوّع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلّي اللّيل كلّه ويغالب النّوم إلى أن غلبته عيناه في آخر اللّيل فنام عن صلاة الصّبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشّمس فخرج وقت الفريضة «4» .
[للاستزادة: انظر صفات: الغلو- التفريط والإفراط- التنفير- الأثرة- التخاذل- التكلف- الشح- البخل- الاحتكار.
وفي ضد ذلك انظر صفات: التيسير- التوسط الرفق- تفريج الكربات- الإغاثة- الإخاء التناصر- المواساة- الألفة] .
__________
(1) تفسير الطبريّ (2/ 163) .
(2) تفسير القرطبي (2/ 185) .
(3) إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 132) بتصرف يسير.
(4) الفتح (1/ 94) .(9/4209)
الآيات الواردة في «التعسير»
1- شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) «1»
2- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) «2»
3- لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) «3»
4- قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72)
قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) «4»
5- وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) «5»
6- لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) «6»
7- فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) «7»
8- إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى
(11) «8»
__________
(1) البقرة: 185 مدنية
(2) البقرة: 278- 281 مدنية
(3) التوبة: 117 مدنية
(4) الكهف: 72- 73 مكية
(5) القمر: 4- 8 مكية
(6) الطلاق: 7 مدنية
(7) المدثر: 8- 10 مكية
(8) الليل: 4- 11 مكية(9/4210)
9- أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)
الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)
وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5)
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)
فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)
وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) «1»
الآيات الواردة في «التعسير» معنى
10- وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) «2»
11- لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) «3»
12- وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) «4»
__________
(1) الشرح: 1- 8 مكية
(2) البقرة: 67- 71 مدنية
(3) البقرة: 286 مدنية
(4) الأعراف: 156- 157 مكية(9/4211)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التعسير)
1-* (عن عبادة بن الصّامت- رضي الله عنه- قال: بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على السّمع والطّاعة في المنشط والمكره «1» ، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم- أو نقول بالحقّ حيثما كنّا، ولا نخاف في الله لومة لائم) * «2» .
2-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قام أعرابيّ فبال في المسجد فتناوله النّاس، فقال لهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «دعوه، وهريقوا على بوله سجلا «3» من ماء أو ذنوبا «4» من ماء- فإنّما بعثتم ميسّرين، ولم تبعثوا معسّرين» ) * «5» .
3-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليك السّمع والطّاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك «6» » ) * «7» .
4-* (عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه، عن جدّه- رضي الله عنه- قال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا بعثه إلى اليمن ومعاذ بن جبل قال لهما: «يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا، وتطاوعا» قال أبو موسى: يا رسول الله، إنّا بأرض يصنع فيها شراب من العسل يقال له البتع «8» وشراب من الشّعير يقال له المزر «9» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ مسكر حرام» ) * «10» .
5-* (عن أنس- رضي الله عنه- قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يسّروا ولا تعسّروا، وسكّنوا ولا تنفّروا» ) * «11» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (التعسير) معنى
6-* (عن عائشة- رضي الله عنها- أنّها قالت لعبد الرّحمن بن شماسة وقد جاء يسألها عن شيء: ممّن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر، فقالت:
كيف كان صاحبكم لكم في غزاتكم هذه؟ فقال: ما نقمنا منه شيئا «12» ، إن كان ليموت للرّجل منّا البعير فيعطيه البعير، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النّفقة فيعطيه النّفقة، فقالت: أما إنّه لا يمنعني الّذي فعل في محمّد ابن أبي بكر أخي أن أخبرك ما سمعت من
__________
(1) المنشط والمكره: أي وقت النشاط والكراهية.
(2) البخاري- الفتح (7199- 7200) واللفظ له ومسلم (1709) .
(3) سجلا: الدلو ملأى، وقيل الدلو الضخمة.
(4) الذنوب- بفتح الذال- قالوا: هى الدلو ملأى ماء وقيل: هى الدلو العظيمة، وعلى هذا فهي والسجل مترادفان.
(5) البخاري- الفتح 1 (220) مسلم من حديث أنس (284) .
(6) الأثرة: الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا عليكم، الأثرة- بفتحتين- الاسم من آثر إذا أعطى. أراد أنه يستأثر عليكم فيفضل غيركم في نصيبه.
(7) مسلم (1836) .
(8) البتع: نبيذ العسل.
(9) المزر: نبيذ الذرة
(10) البخاري- الفتح 10 (6124) ، مسلم (1733) .
(11) البخاري- الفتح 10 (6125) .
(12) ما نقمنا منه شيئا: أي ما كرهنا منه شيئا.(9/4212)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في بيتي هذا: «اللهمّ! من ولي من أمر أمّتي شيئا فشقّ عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمّتي شيئا فرفق بهم فارفق به» ) * «1» .
7-* (عن عائشة- رضي الله عنها- قالت:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا نعس أحدكم في الصّلاة فليرقد حتّى يذهب عنه النّوم، فإنّ أحدكم إذا صلّى وهو ناعس لعلّه يذهب يستغفر فيسبّ نفسه» ) * «2» .
8-* (عن سعد بن أبي وقّاص- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ أعظم المسلمين في المسلمين جرما، من سأل عن شيء لم يحرّم على المسلمين، فحرّم عليهم من أجل مسألته» ) * «3» .
9-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الدّين يسر، ولن يشادّ الدّين أحد إلّا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة «4» والرّوحة «5» وشيء من الدّلجة «6» » ) *» .
10-* (عن أبي ثعلبة الخشنيّ- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تقربوها، وترك أشياء- عن غير نسيان- فلا تبحثوا عنها» ) * «8» .
11-* (عن هشام بن حكيم بن حزام- رضي الله عنه- قال: مرّ بالشّام على أناس وقد أقيموا في الشّمس، وصبّ على رؤوسهم الزّيت فقال:
ما هذا؟ قيل: يعذّبون في الخراج. فقال: أما إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الله يعذّب الّذين يعذّبون في الدّنيا» ) * «9» .
12-* (عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ هذا الدّين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغّض إلى نفسك عبادة الله فإنّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» ) * «10» .
13-* (عن بريدة الأسلميّ- رضي الله عنه- قال: خرجت ذات يوم لحاجة فإذا أنا بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يمشي بين يديّ فأخذ بيدي فانطلقنا نمشي جميعا فإذا نحن بين أيدينا برجل يصلّى يكثر الرّكوع والسّجود فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أتراه يرائي» «11» فقلت: الله ورسوله أعلم. فترك يدي من يده ثمّ جمع بين يديه فجعل يصوّبهما ويرفعهما ويقول: «عليكم هديا قاصدا، عليكم هديا قاصدا، عليكم هديا قاصدا، فإنّه من يشادّ هذا الدّين يغلبه» ) * «12» .
14-* (عن أبي جحيفة السّوائيّ وهب بن
__________
(1) مسلم (1828) .
(2) مسلم (786) .
(3) البخاري- الفتح 13 (7289) ، مسلم (2358) واللفظ له.
(4) الغدوة: السير أول النهار.
(5) الروحة: السير بعد الزوال.
(6) الدلجة: السير آخر الليل.
(7) البخاري- الفتح 1 (39) .
(8) ذكره ابن الأثير في جامع الأصول (5/ 59) وعزاه مخرجه إلى الحاكم في المستدرك والبزار وغيرهما ونقل تحسين أبي بكر السمعاني في أماليه والنووي في أربعينه.
(9) مسلم (2613) .
(10) البيهقي: في السنن الكبرى (3/ 18) واللفظ له، وذكره الألباني في صحيح الجامع. وقال: حسن (1/ 256) رقم (2242) .
(11) أتراه يرائي: أي يفعل ذلك مراءاة أمام الناس.
(12) أحمد (5/ 350) واللفظ له، والحاكم في المستدرك (1/ 312) ، السنن الكبرى للبيهقي (3/ 18) السنة لابن أبي عاصم(9/4213)
عبد الله- رضي الله عنه- قال: آخى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين سلمان وأبي الدّرداء، فزار سلمان أبا الدّرداء، فرأى أمّ الدّرداء متبذّلة «1» فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدّرداء ليس له حاجة في الدّنيا «2» . فجاء أبو الدّرداء، فصنع له طعاما فقال له: كل. قال: فإنّي صائم، قال: ما أنا بآكل حتّى تأكل. قال: فأكل، فلمّا كان اللّيل ذهب أبو الدّرداء يقوم، قال: نم، فنام. ثمّ ذهب يقوم، فقال: نم. فلمّا كان من آخر اللّيل قال سلمان: قم الآن، فصلّيا. فقال له سلمان: إنّ لربّك عليك حقّا، ولنفسك عليك حقّا، ولأهلك عليك حقّا، فأعط كلّ ذي حقّ حقّه. فأتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فذكر ذلك له، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «صدق سلمان» ) * «3» .
15-* (عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- أنّه قال: أقبل رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة، فوقف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يعطي النّاس. قال: يا محمّد، قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أجل فكيف رأيت؟» قال: لم أرك عدلت! قال: فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ قال: «ويحك إن لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟» . فقال عمر بن الخطّاب: يا رسول الله الا نقتله؟ قال: «لا، دعوه، فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدّين حتّى يخرجوا منه كما يخرج السّهم من الرّميّة، ينظر في النّصل «4» فلا يوجد شيء ثمّ في القدح «5» فلا يوجد شيء، ثمّ في الفوق «6» فلا يوجد شيء، سبق الفرث والدّم» ) * «7» .
16-* (عن أنس- رضي الله عنه- قال:
واصل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم آخر الشّهر وواصل أناس من النّاس، فبلغ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «لو مدّ بي الشّهر لواصلت وصالا يدع المتعمّقون تعمّقهم «8» ، إنّي لست مثلكم، إنّي أظلّ يطعمني ربّي ويسقيني» ) * «9» .
17-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: إنّ نفرا من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم سألوا أزواج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن عمله في السّرّ؟ فقال بعضهم: لا أتزوّج النّساء، وقال بعضهم: لا آكل اللّحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله وأثنى عليه فقال: «ما بال أقوام قالوا:
كذا وكذا، لكنّي أصلّي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوّج
__________
(46) رقم (95، 96، 97) ، وقال الألباني: إسناده صحيح وعزاه كذلك للطحاوي في مشكل الآثار والمروزي في زوائد الزهد (1113) والخطيب في التاريخ (8/ 91) .
(1) متبذلة: أي تاركة لباس الزينة.
(2) ليس له حاجة في الدنيا: أي زاهد فيها غير منشغل بشهواتها.
(3) البخاري- الفتح 4 (1968) .
(4) النصل: حديدة السيف والرمح.
(5) القدح: العود إذا بلغ فشذّب عنه الغصن وقطع على مقدار النبل الذي يراد من الطول والقصر.
(6) الفوق من السهم: موضع الوتر.
(7) هذا لفظ أحمد وأصله في الصحيحين من حديث أبي سعيد. أحمد (2/ 219) واللفظ له وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح (12/ 3) رقم (7038) ، وذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه أحمد والطبراني باختصار ورجال أحمد ثقات (6/ 227- 228) .
(8) يدع المتعمقون تعمقهم: أي المتشددون في الأمور المجاوزون للحد.
(9) البخاري- الفح 13 (7241) واللفظ له، مسلم (1104) .(9/4214)
النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» ) * «1» .
18-* (عن أنس- رضي الله عنه- قال: إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم رأى شيخا يهادى «2» بين ابنيه قال: «ما بال هذا؟» قالوا: نذر أن يمشي. قال: «إنّ الله عن تعذيب هذا لنفسه لغنيّ» وأمره أن يركب) * «3» .
19-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- أنّه قال: بينا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه. فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظلّ ولا يتكلّم ويصوم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مره، فليتكلّم وليستظلّ وليقعد وليتمّ صومه» ) * «4» .
20-* (عن أنس- رضي الله عنه- قال:
دخل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فإذا حبل ممدود بين السّاريتين فقال:
«ما هذا الحبل؟» قالوا: هذا حبل لزينب. فإذا فترت «5» تعلّقت به، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا، حلّوه، ليصلّ أحدكم نشاطه «6» ، فإذا فتر فليقعد» ) * «7» .
21-* (عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا عبد الله ألم أخبر أنّك تصوم النّهار وتقوم اللّيل؟» فقلت:
بلى يا رسول الله. قال: «فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإنّ لجسدك عليك حقّا، وإنّ لعينك عليك حقّا، وإنّ لزوجك عليك حقّا، وإنّ لزورك «8» عليك حقّا، وإنّ بحسبك أن تصوم كلّ شهر ثلاثة أيّام، فإنّ لك بكلّ حسنة، عشر أمثالها، فإذن ذلك صيام الدّهر كلّه» فشدّدت فشدّد عليّ قلت: يا رسول الله إنّي أجد قوّة.
قال: «فصم صيام نبيّ الله داود عليه السّلام ولا تزد عليه» قلت: وما كان صيام نبيّ الله داود عليه السّلام؟
قال: «نصف الدّهر» فكان عبد الله يقول بعد ما كبر:
يا ليتني قبلت رخصة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم) * «9» .
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (التعسير)
1-* (قال عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه-:
وكتب إلى أبي عبيدة وهو محصور: مهما تنزل بامرئ شديدة «10» يجعل الله بعدها فرجا، فإنّه لن يغلب عسر يسرين) * «11» .
2-* (قال حذيفة بن اليمان- رضي الله عنهما- لمّا قالوا له إنّ أبا موسى يشدّد في البول، ويبول في قارورة ويقول: إنّ بني إسرائيل كان إذا أصاب جلد أحدهم بول قرضه بالمقاريض، فقال حذيفة: لوددت أنّ
__________
(1) البخاري- الفتح (9/ 5063) ، مسلم (1401) واللفظ له.
(2) يهادي: معناه يمشي بينهما، متوكئا عليهما.
(3) البخاري- الفتح 4 (1865) ، مسلم (1642) واللفظ له.
(4) البخاري- الفتح 11 (6704) .
(5) فترت: أي ضعفت.
(6) نشاطه: أي مدة نشاطه.
(7) البخاري- الفتح 3 (1150) واللفظ له، مسلم (784) .
(8) زورك: أي ضيفك.
(9) البخاري- الفتح 4 (1975) واللفظ له، مسلم (1159) .
(10) شديدة: أي شدة.
(11) لسان العرب (5/ 2938- 2939) .(9/4215)
صاحبكم لا يشدّد هذا التّشديد) * «1» .
3-* (قال ابن الجوزيّ- رحمه الله تعالى-:
العسر بين اليسرين إمّا فرج عاجل في الدّنيا، وإمّا ثواب آجل في الآخرة) * «2» .
4-* (قال شيخ الإسلام ابن تيميّة- رحمه الله تعالى-: نهى الشّارع عن الغلوّ والتّشديد نهيا عامّا في الاعتقادات والأعمال) * «3» .
5-* (قال ابن القيّم- رحمه الله-: من كيد الشّيطان العجيب أنّه يشامّ النّفس، حتّى يعلم أيّ القوّتين تغلب عليها: قوّة الإقدام والشّجاعة، أم قوّة الانكفاف والإحجام والمهانة؟ وقد اقتطع أكثر النّاس إلّا أقلّ القليل في هذين الواديين، وادي التّقصير، ووادي المجاوزة والتّعدّي، والقليل منهم جدّا الثّابت على الصّراط الّذي كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو الوسط) * «4» .
6-* (قال ابن حجر- رحمه الله-: لا يتعمّق أحد في الأعمال الدّينيّة ويترك الرّفق إلّا عجز وانقطع فيغلب) * «5» .
7-* (وقال أيضا- رحمه الله- الأخذ بالعزيمة في موضع الرّخصة تنطّع، كمن يترك التّيمّم عند العجز عن استعمال الماء فيفضى به استعماله إلى حصول الضّرر) * «6» .
من مضار (التعسير)
(1) دليل على ضعف العقل، وسبب لتسلّط الشّيطان على الإنسان.
(2) لا يحبّه الله- عزّ وجلّ- ويؤدّي إلى بغضه.
(3) يؤدّي إلى الانقطاع عن العمل وعدم الاستمرار فيه.
(4) دليل على الجهل وقلّة الفهم عند من يتّصف به.
(5) بعد النّاس عن المتّصفين به وبغضهم لهم.
(6) ينفّر النّاس عن الوصول للحقّ والعمل بالخير.
(7) يصعّب على النّاس ما سهّلته لهم الشّريعة فيقيّدهم عن معرفته فضلا عن الالتزام به.
(8) مخالفة أمر الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في قوله وفعله.
(9) قد يؤدّي إلى شطحات تضرّ به في دين ودنيا.
__________
(1) مسلم (221) رقم (273) .
(2) لسان العرب (5/ 2938) .
(3) فتح المجيد (227) .
(4) إغاثة اللهفان (1/ 136) .
(5) فتح الباري (1/ 117) الريان.
(6) المصدر السابق نفسه، والصفحة نفسها.(9/4216)
التفرق
التفرق لغة:
مصدر تفرّق يتفرّق، إذا تشتّت ولم يجتمع، وهو مأخوذ من مادّة (ف ر ق) الّتي تدلّ على معنى «التّمييز والتّفريق» يقول ابن فارس: الفاء والرّاء والقاف أصيل صحيح يدلّ على تمييز وتزييل بين شيئين، من ذلك فرق الشّعر، يقال: فرقت الشّعر فرقا، والفرق: الفلق من الشّيء إذا انفلق منه، ومنه قوله تعالى: فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (الشعراء/ 63) .
والفرق: القطعة المنفصلة، ومنه الفرقة للجماعة المتفرّدة من النّاس، والفريق الجماعة المتفرّقة عن آخرين، وقيل: الفرقة طائفة من النّاس، والفريق أكثر منهم، وفي الحديث «أفاريق العرب» وهو جمع أفراق، وأفراق: جمع فرقة.
وقال الرّاغب: يقال: فرقت بين الشّيئين:
فصلت بينهما سواء كان ذلك بفصل يدركه البصر، أو بفصل تدركه البصيرة، وقيل لعمر- رضي الله عنه- «الفاروق» لكونه فارقا بين الحقّ والباطل، وقول الله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ (الإسراء/ 106) أي بيّنّا فيه الأحكام وفصّلناه وقيل: فرقناه أي أنزلناه مفرّقا،
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
10/ 24/ 6
والتّفريق أصله للتّكثير (في الفرق) ، ويقال ذلك في تشتيت الشّمل والكلمة كما في قوله سبحانه يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ (البقرة/ 102) ، وقوله سبحانه رَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
(طه/ 64) أمّا قوله سبحانه وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ (النساء/ 150) فمعناه أنّهم يظهرون الإيمان بالله ويكفرون برسله خلاف ما أمرهم الله به، والفرقان أبلغ من الفرق؛ لأنّه يستعمل في الفرق بين الحقّ والباطل، والفرق يستعمل في ذلك وفي غيره، ويوم الفرقان هو اليوم الّذي يفرق فيه بين الحقّ والباطل، والحجّة والشّبهة، وقال الجوهريّ: يقال: فرقت بين الشّيئين أفرق فرقا وفرقانا، وفرّقت الشّيء تفريقا وتفرقة، فانفرق وافترق وتفرّق «1» ، ويقال: فرق له الطّريق أي اتّجه له طريقان، وقال ابن منظور: الفرق: خلاف الجمع، يقال: فرق فرقا، وفرّق تفريقا، وفر (يستعمل) في الصّلاح، والتّفريق للإفساد، ويقال: انفرق الشّيء وتفرّق وافترق، والتّفرّق والافتراق سواء، ومنهم من يجعل التّفرّق للأبدان، والافتراق في الكلام، يقال:
فرّقت بين الكلامين فافترقا، وفرّقت بين الرّجلين فتفرّقا، وفي الحديث «من فارق الجماعة فميتته جاهليّة،
__________
(1) معنى هذا أنّ هذه الصيغ الثلاث تدلّ على المطاوعة.(9/4217)
يعني أنّ كلّ جماعة عقدت عقدا يوافق الكتاب والسّنّة فلا يجوز لأحد أن يفارقهم في ذلك العقد، فإن خالفهم فيه استحقّ الوعيد، وتفارق القوم: فارق بعضهم بعضا، وفارق فلان امرأته مفارقة وفراقا:
باينها، والفرق والفرقة والفريق: الطّائفة من الشّيء المتفرّق، والمفرق والمفرق: وسط الرّأس، وهو الّذي يفرق فيه الشّعر، ومفرق الطّريق، متشعّبه الّذي يتشعّب منه طريق آخر «1»
التفرق اصطلاحا:
وقال المناويّ: التفرّق: تشتيت الشّمل والكلمة «2» .
وقال الكفويّ: التّفرّق: إيقاع التّباين بين شيئين من نوع واحد «3» .
[للاستزادة: انظر صفتي: التنازع- التخاذل- الفتنة- الجدال والمراء- الهجر- اتباع الهوى- سوء المعاملة.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الاجتماع- الاعتصام- الألفة- الإخاء- السماحة- حسن المعاملة- حسن العشرة- حسن الخلق] .
__________
(1) مقاييس اللغة (4/ 493) ، الصحاح (4/ 1540- 1541) ، المفردات (377) ، ولسان العرب (فرق) (ص 3397) . ط. المعارف.
(2) التوقيف على مهمات التعاريف (103) .
(3) الكليات (2/ 78) .(9/4218)
الآيات الواردة في «التفرق»
التفرق في سياق النهي عنه أو ما يؤدى إليه:
1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) «1»
2- قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) «2»
3- مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) «3»
4- شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) «4»
التفرق في سياق ذم من يحدث منهم التفرق أو يقومون بما يؤدي إليه:
5- وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ
__________
(1) آل عمران: 102- 105 مدنية
(2) الأنعام: 151- 153 مكية
(3) الروم: 31- 32 مكية
(4) الشورى: 13- 14 مكية(9/4219)
نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ
(102) «1»
6- إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) «2»
7- إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) «3»
8- لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) «4»
التفرق في سياق التحرز منه، وفي سياق اختلاف الجزاء:
9- قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) «5»
10- وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) «6»
__________
(1) البقرة: 101- 102 مدنية
(2) النساء: 150- 151 مدنية
(3) الأنعام: 159 مدنية
(4) البينة: 1- 5 مكية
(5) طه: 92- 94 مكية
(6) الروم: 12- 16 مكية(9/4220)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التفرق)
1-* (عن معاوية بن أبي سفيان- رضي الله عنه- قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «ألا إنّ من قبلكم من أهل الكتاب، افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة، وإنّ هذه الملّة ستفترق «1» على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النّار، وواحدة في الجنّة، وهي الجماعة» .
زاد في رواية: «وإنّه سيخرج في أمّتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء، كما يتجارى الكلب «2» بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلّا دخله» ) * «3» .
2-* (عن عليّ- رضي الله عنه- قال: أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أبيع أخوين من السّبي، فبعتهما، ثمّ أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته ببيعهما. فقال: «فرّقت بينهما؟» قلت: نعم، قال: «فارتجعهما ثمّ بعهما ولا تفرّق بينهما» ) * «4» .
3-* (عن جابر- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ إبليس يضع عرشه على الماء، ثمّ يبعث سراياه. فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة. يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا. فيقول: ما صنعت شيئا. قال: ثمّ يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتّى فرّقت بينه وبين امرأته. قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت» ) * «5» .
4-* (عن عبد الله بن زيد- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا فتح حنينا قسّم الغنائم. فأعطى المؤلّفة قلوبهم، فبلغه أنّ الأنصار يحبّون أن يصيبوا ما أصاب النّاس «6» . فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: «يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلّالا فهداكم الله بي؟ وعالة «7» فأغناكم الله بي؟ ومتفرّقين «8» فجمعكم الله بي؟» ويقولون: الله ورسوله أمنّ. فقال: «ألا تجيبوني؟» فقالوا: الله
__________
(1) ستفترق: قال الخطابي: قوله صلّى الله عليه وسلّم «ستفترق أمتي» فيه دلالة على أن هذه الفرق غير خارجة عن الملة والدين، إذ جعلهم من أمته.
(2) يتجارى الكلب: التّجاري، تفاعل من الجري، وهو الوقوع في الأهواء الفاسدة، والتداعي فيها، تشبيها بجري الفرس، والكلب داء معروف يعرض للكلب، إذا عض حيوانا عرض له أعراض رديئة فاسدة قاتلة، فإذا تجارى بالإنسان وتمادى هلك.
(3) أبو داود (4597) واللفظ له. وأحمد (4/ 102) . برقم (16940) وقال محقق جامع الأصول (10/ 32) : إسناده صحيح وقال الألباني (3/ 3843) : حسن.
(4) الترمذي (1284) . وابن ماجة (2249) . وأحمد (760) وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح. والهيثمي في المجمع (4/ 107) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. والحاكم في المستدرك (2/ 125) واللفظ له وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وله إسناد آخر عن الحكم بن عتيبة صحيح أيضا على شرطهما.
(5) مسلم (2813)
(6) أن يصيبوا ما أصاب الناس: أي أن يجدوا ما وجد الناس من القسمة.
(7) عالة: أي فقراء، جمع عائل.
(8) ومتفرقين: يعني متدابرين، يعادي بعضكم بعضا. كما قال تعالى: إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ الآية.(9/4221)
ورسوله أمنّ. فقال: «أما إنّكم لو شئتم أن تقولوا كذا وكذا. وكان من الأمر كذا وكذا» لأشياء عدّدها. زعم عمرو أن لا يحفظها. فقال: «ألا ترضون أن يذهب النّاس بالشّاء «1» والإبل، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ الأنصار شعار والنّاس دثار «2» . ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار. ولو سلك النّاس واديا وشعبا، لسلكت وادي الأنصار وشعبهم. إنّكم ستلقون
بعدي أثرة «3» . فاصبروا حتّى تلقوني على الحوض» ) * «4» .
5-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا «5» . فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وأن تعتصموا بحبل الله جميعا «6» ولا تفرّقوا «7» ويكره لكم قيل وقال «8» وكثرة السّؤال «9» . وإضاعة المال «10» » ) * «11» .
6-* (عن ربعيّ بن حراش، أنّه أتى حذيفة بن
__________
(1) بالشاء: هو جمع شاة، كشياه، وهي الغنم.
(2) الأنصار شعار والناس دثار: قال أهل اللغة: الشعار الثوب الذي يلي الجسد، والدثار فوقه. ومعنى الحديث: الأنصار هم البطانة والخاصة والأصفياء وألصق الناس بي من سائر الناس.
(3) الأثرة: الحال غير المرضية كتفضيل غيركم في نصيبه من الفيء.
(4) البخاري- الفتح 7 (4330) . ومسلم (1061) واللفظ له.
(5) يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا: قال العلماء: الرضا والسخط والكراهة من الله تعالى، المراد بها أمره ونهيه، أو ثوابه وعقابه. أو إرادته الثواب لبعض العباد والعقاب لبعضهم.
(6) وأن تعتصموا بحبل الله جميعا: الاعتصام بحبل الله هو التمسك بعهده. وهو اتباع كتابه العزيز وحدوده، والتأدب بأدبه. والحبل يطلق على العهد وعلى الأمان وعلى الوصلة وعلى السبب. وأصله من استعمال العرب الحبل في مثل هذه الأمور، لاستمساكهم بالحبل عند شدائد أمورهم، ويوصلون به المتفرق. فاستعير اسم الحبل لهذه الأمور.
(7) ولا تفرقوا: بحذف إحدى التاءين. أي لا تتفرقوا. وهو أمر بلزوم جماعة المسلمين وتألف بعضهم ببعض. وهذه إحدى قواعد الإسلام.
(8) قيل وقال: هو الخوض في أخبار الناس وحكايات ما لا يعني من أحوالهم وتصرفاتهم. واختلفوا في حقيقة هذين اللفظين على قولين: أحدهما أنهما فعلان. فقيل مبني لما لم يسم فاعله، وقال فعل ماض. والثاني: أنهما اسمان مجروران منونان. لأن القيل والقال والقول والقالة كله بمعنى. ومنه قوله تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا. ومنه قولهم: كثر القيل والقال.
(9) وكثرة السؤال: قيل: المراد به التنطع في المسائل والإكثار من السؤال عما لم يقع ولا تدعو إليه حاجة. وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن ذلك. وقيل: المراد به سؤال الناس أموالهم وما في أيديهم. وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن ذلك. قيل: يحتمل أن المراد كثرة سؤال الإنسان عن حاله وتفاصيل أمره، فيدخل ذلك في سؤاله عما لا يعنيه، ويتضمن ذلك حصول الحرج في حق المسئول. فإنه لا يؤثر إخباره بأحواله فإن أخبره شق عليه، وإن كذبه في الاخبار أو تكلف التعريض لحقته المشقة. وإن أهمل جوابه ارتكب سوء الأدب.
(10) وإضاعة المال: هو صرفه في غير وجوهه الشرعية وتعريضه للتلف. وسبب النهي أنه فساد والله لا يحب المفسدين. ولأنه إذا ضاع ماله تعرض لما في أيدي الناس.
(11) مسلم (1715) .(9/4222)
اليمان ببرودة، وكانت أخته تحت حذيفة فقال حذيفة:
يا ربعيّ، ما فعل قومك- وذلك زمن خرج النّاس إلى عثمان- قال: قد خرج منهم ناس، قال: فيمنيّ منهم، فقال حذيفة: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«من فارق الجماعة، واستذلّ الإمارة، لقي الله ولا حجّة له عند الله» ) * «1» .
7-* (عن عرفجة- رضي الله عنه- قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّه ستكون هنات وهنات «2» . فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأمّة، وهي جميع، فاضربوه بالسّيف، كائنا من كان «3» ) * «4» .
8-* (عن عليّ- رضي الله عنه- أنّه فرّق بين جارية وولدها فنهاه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك وردّ البيع) * «5» .
9-* (عن أسامة بن شريك- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيّما رجل خرج يفرّق بين أمّتي فاضربوا عنقه» ) * «6» .
10-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: بينا نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقسم قسما، أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله! اعدل. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ويلك، ومن يعدل إن لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أعدل» . فقال عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه-: يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دعه. فإنّ له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم.
يقرأون القرآن، لا يجاوز تراقيهم. يمرقون من الإسلام كما يمرق السّهم من الرّميّة. ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثمّ ينظر إلى رصافه «7» فلا يوجد فيه شيء، ثمّ ينظر إلى نضيّه «8» فلا يوجد فيه شيء (وهو القدح «9» ) . ثمّ ينظر إلى قذذه «10» فلا يوجد فيه شيء. سبق الفرث والدّم «11» آيتهم رجل أسود. إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل
__________
(1) رواه أحمد (5/ 378) ، والحاكم في المستدرك (1/ 119) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) هنات وهنات: الهنات جمع هنة، وتطلق على كل شيء. والمراد بها هنا: الفتن والأمور الحادثة.
(3) فاضربوه بالسيف كائنا من كان: فيه الأمر بقتال من خرج على الإمام، أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك. وينهى عن ذلك، فإن لم ينته قوتل، وإن لم يندفع شره إلا بقتله فقتل كان هدرا، فقوله صلّى الله عليه وسلّم «فاضربوه بالسيف» وفي الرواية الأخرى «فاقتلوه» معناه إذا لم يندفع إلا بذلك.
(4) مسلم (1852) .
(5) أبو داود (2696) واللفظ له وقال الألباني (2/ 514) : حسن. والحاكم في المستدرك (2/ 125) وقال: صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي.
(6) النسائي (7 (93) قال محقق جامع الأصول: وفي سنده زيد بن عطاء بن السائب، لم يوثقه غير ابن حبان وباقي رجاله ثقات ولكن له شواهد (10/ 32) .
(7) إلى رصافه: الرصاف مدخل النصل من السهم. والنصل هو حديدة السهم.
(8) نضيه: النضي، كغني، السهم بلا نصل ولا ريش.
(9) القدح: قال ابن الأثير: القدح هو السهم الذي كانوا يستقسمون به، أو الذي يرمى به عن القوس. يقال للسهم أول ما يقطع: قطع. ثم ينحت ويبرى فيسمى: بريّا. ثم يقوم فيسمى: قدحا ثم يراش ويركّب نصله فيسمى: سهما.
(10) إلى قذذه: القذذ ريش السهم، واحدتها قذة
(11) سبق الفرث والدم: أي أن السهم قد جاوزهما ولم يعلق فيه منهما شيء. والفرث اسم ما في الكرش.(9/4223)
البضعة تدردر «1» ، يخرجون على حين فرقة «2» من النّاس» . قال أبو سعيد: فأشهد أنّي سمعت هذا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأشهد أنّ عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرّجل فالتمس، فوجد، فأتي به، حتّى نظرت إليه، على نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «3» الّذي نعت) * «4» .
11-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطّائفتين بالحقّ» ) * «5» .
12-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: خطّ لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطّا ثمّ قال: «هذا سبيل الله» ، ثمّ خطّ خطوطا عن يمينه وعن شماله ثمّ قال: «هذه سبل» - قال يريد: متفرّقة- «على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثمّ قرأ: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (الأنعام/ 103) » ) * «6» .
13-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: خطبنا عمر بالجابية فقال: يا أيّها النّاس إنّي قمت فيكم كمقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا فقال: «أوصيكم بأصحابي، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ يفشو الكذب حتّى يحلف الرّجل ولا يستحلف، ويشهد الشّاهد ولا يستشهد، ألا لا يخلونّ رجل بامرأة إلّا كان ثالثهما الشّيطان، عليكم بالجماعة، وإيّاكم والفرقة، فإنّ الشّيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنّة فليلزم الجماعة، من سرّته حسنته وساءته سيّئته فذلك المؤمن» ) * «7» .
14-* (عن عبد الرّحمن بن غنم يبلغ به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «خيار عباد الله الّذين إذا رؤوا «8» ذكر الله، وشرار عباد الله المشّاءون بالنّميمة، المفرّقون بين الأحبّة، الباغون للبرآء العنت «9» » ) * «10» .
__________
(1) مثل البضعة تدردر: البضعة القطعة من اللحم. وتدردر أصله تتدردر، معناه تضطرب وتذهب وتجيء.
(2) على حين فرقة: ضبطوه في الصحيحين بوجهين. أحدهما: حين فرقة، أي وقت افتراق الناس، أي افتراق يقع بين المسلمين، وهو الافتراق الذي كان بين علي ومعاوية- رضي الله عنهما- والثاني: خير فرقة، أي أفضل الفرقتين. والأول أكثر وأشهر. ويؤيده الرواية الأخرى: يخرجون في فرقة من الناس فإنه بضم الفاء بلا خلاف، ومعناه ظاهر.
(3) على نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي على الصفة التي وصفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بها.
(4) البخاري- الفتح 12 (6933) . ومسلم (1064) واللفظ له.
(5) أبو داود (4667) وقال الألباني (3/ 883) : صحيح.
(6) أحمد (435، 465) وصححه الشيخ أحمد شاكر (4142، 4437) ، وابن حبان (1741) موارد الظمآن، والحاكم (2/ 318) وأقره الذهبي.
(7) الترمذي (2165) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد رواه ابن المبارك عن محمد بن سوقة وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(8) إذا رآهم الناس اعترفوا بوجود الله فأثنوا عليه.
(9) الباغون للبرآء العنت: الطالبون العيوب القبيحة للشرفاء المنزهين عن الفواحش، أي صفات الأشرار ثلاثة: أ- السعي بالفساد وحب الشقاق والصيد في الماء العكر، وإيقاد نار العداوة. ب- إزالة كل مودة وإماتة كل محبة بالتفريق، والخصام والتنافر بين الأخوين المتصافيين. ج- كيل التهم جزافا للأبرياء وإرخاء العنان للسب والشتم وذكر القبائح والهنات للطاهرين والطاهرات.
(10) أحمد (4/ 227) ونحوه عن أسماء بنت يزيد (6/ 459) ، وفي سندهما شهر بن حوشب قال فيه الهيثم: قد وثقه غير واحد، وبقية رجالهما رجال الصحيح (مجمع الزوائد 8/ 93) .(9/4224)
15-* (عن أبي إدريس الخولانيّ يقول:
سمعت حذيفة بن اليمان- رضي الله عنهما- يقول:
كان النّاس يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخير، وكنت أسأله عن الشّرّ، مخافة أن يدركني. فقلت: يا رسول الله إنّا كنّا في جاهليّة وشرّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شرّ؟ قال: «نعم» ، فقلت: هل بعد ذلك الشّرّ من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن «1» » قلت:
وما دخنه؟ قال: «قوم يستنّون بغير سنّتي، ويهدون بغير هديي «2» تعرف منهم وتنكر» . فقلت: هل بعد ذلك الخير من شرّ؟ قال: «نعم. دعاة على أبواب جهنّم «3» . من أجابهم إليها قذفوه فيها» فقلت: يا رسول الله! صفهم لنا. قال: «نعم، قوم من جلدتنا، ويتكلّمون بألسنتنا» قلت: يا رسول الله! فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلّها، ولو أن تعضّ على أصل شجرة، حتّى يدركك الموت، وأنت على ذلك» ) * «4» .
16-* (عن عبد الله- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحلّ دم امرىء مسلم «5» ، يشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّي رسول الله، إلّا بإحدى ثلاث «6» : الثّيّب الزّاني «7» والنّفس بالنّفس «8» والتّارك لدينه «9» ، المفارق للجماعة» ) * «10» .
17-* (عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «لا يحلّ لرجل أن يفرّق بين اثنين إلّا بإذنهما» ) * «11» .
18-* (عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي
__________
(1) دخن: قال أبو عبيد وغيره: الدخن أصله أن تكون في لون الدابة كدورة إلى سواد. قالوا: والمراد هنا، أن لا تصفو القلوب بعضها لبعض، ولا يزول خبثها ولا ترجع إلى ما كانت عليه من الصفاء.
(2) هديي: الهدي الهيئة والسيرة والطريقة.
(3) دعاة على أبواب جهنم: قال العلماء: هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلال. كالخوارج والقرامطة وأصحاب المحنة. وفي حديث حذيفة هذا، لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ووجوب طاعته، وإن فسق وعمل المعاصي من أخذ الأموال، وغير ذلك. فتجب طاعته في غير معصية. وفيه معجزات لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهي هذه الأمور التي أخبر بها وقد وقعت كلها.
(4) البخاري- الفتح 6 (3606) ومسلم (1847) واللفظ له.
(5) لا يحل دم امرىء مسلم: أي لا يحل إراقة دمه كله، وهو كناية عن قتله ولو لم يرق دمه.
(6) إلا بإحدى ثلاث: أي علل ثلاث.
(7) الزان: هكذا هو في النسخ: الزان من غير ياء بعد النون. وهي لغة صحيحة. قريء بها في السبع. كما في قوله تعالى: الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ. والأشهر في اللغة إثبات الياء في كل ذلك.
(8) والنفس بالنفس: المراد به القصاص بشرطه.
(9) والتارك لدينه المفارق للجماعة: عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت. فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام. قال العلماء: ويتناول أيضا كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي أو غيرهما. وكذا الخوارج.
(10) البخاري- الفتح 12 (6878) ومسلم (1676) واللفظ له.
(11) أبو داود (4845) واللفظ له، وقال الألباني (3/ 918) : حسن صحيح. وهو عند البخاري 2 (910) .(9/4225)
الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليأتينّ على أمّتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النّعل بالنّعل «1» ، حتّى أن كان منهم من أتى أمّه علانية، ليكوننّ في أمّتي من يصنع ذلك، وإنّ بني إسرائيل تفرّقت على ثنتين وسبعين ملّة، وستفترق أمّتي على ثلاث وسبعين ملّة، كلّها في النّار، إلّا ملّة واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي» ) * «2» .
19-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ أنّه قال: «من خرج من الطّاعة، وفارق الجماعة، فمات، مات ميتة جاهليّة «3» . ومن قاتل تحت راية عمّيّة «4» ، يغضب لعصبة «5» ، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل، فقتلة «6» جاهليّة. ومن خرج على أمّتي، يضرب برّها وفاجرها. ولا يتحاش «7» من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس منّي ولست منه» ) * «8» .
20-* (عن أبي بكرة: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«ينزل ناس من أمّتي بغائط يسمّونه: البصرة، عند نهر يقال له: دجلة، يكون عليه جسر يكثر أهلها وتكون من أمصار المهاجرين» قال ابن يحيى: قال أبو معمر:
وتكون من أمصار المسلمين «فإذا كان في آخر الزّمان، جاء بنو قنطوراء عراض الوجوه، صغار الأعين، حتّى ينزلوا على شطّ النّهر، فيتفرّق أهلها ثلاث فرق: فرقة يأخذون أذناب البقر والبريّة وهلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا، وفرقة يجعلون ذراريّهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم وهم الشّهداء» ) * «9» .
__________
(1) حذو النعل بالنعل: أي: مثل النعل، لأن إحدى النعلين يقطع، وتقدر على قدر النعل الأخرى، والحذو: التقدير، وكل من عمل عملا مثل عمل رجل آخر من غير زيادة ولا نقصان، قيل: عمل فلان حذو النعل بالنعل.
(2) الترمذي (2643) واللفظ له وقال: حسن غريب. وحسنه مخرج جامع الأصول (10/ 34) .
(3) ميتة جاهلية: أي على صفة موتهم من حيث هم فوضى لا إمام لهم.
(4) عمية: هي بضم العين وكسرها. لغتان مشهورتان. والميم مكسورة مشددة والياء مشددة أيضا. قالوا: الأمر الأعمى لا يستبين وجهه. كذا قاله أحمد بن حنبل والجمهور. قال إسحاق بن راهويه: هذا كتقاتل القوم للعصبية.
(5) لعصبة: عصبة الرجل أقاربه من جهة الأب. سموا بذلك لأنهم يعصبونه ويعتصب بهم. أي يحيطون به ويشتد بهم. والمعنى يغضب ويقاتل ويدعو غيره كذلك لا لنصرة الدين والحق بل لمحض التعصب لقومه ولهواه. كما يقاتل أهل الجاهلية، فإنهم إنما كانوا يقاتلون لمحض العصبية.
(6) فقتلة: خبر لمبتدأ محذوف. أي فقتلته كقتلة أهل الجاهلية.
(7) ولا يتحاش: وفي بعض النسخ: يتحاشى، بالياء. ومعناه لا يكترث بما يفعله فيها، ولا يخاف وباله وعقوبته.
(8) مسلم (1848) .
(9) أبو داود (4306) واللفظ له وقال الألباني (3/ 811) : حسن.(9/4226)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التفرق) معنى
21-* (عن عائشة- رضي الله عنها- قالت:
سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الأرواح جنود مجنّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» ) * «1» .
22-* (عن جابر- رضي الله عنه- قال:
سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الشّيطان قد أيس أن يعبده المصلّون في جزيرة العرب، ولكن في التّحريش بينهم «2» » ) * «3» .
23-* (عن عبد الله- رضي الله عنه- قال:
كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمّرة «4» معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمّرة فجعلت تفرش. فجاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «من فجع هذه بولدها؟ ردّوا ولدها إليها» ) * «5» .
24-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «المؤمن مؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف» ) * «6» .
من الآثار وأقوال العلماء الواردة في ذمّ (التفرق)
1-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (الأنعام/ 153) وفي قوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (الشورى/ 13) ... قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والتّفرقة) * «7» .
2-* (عن سيّار قال: جيء برؤوس «8» من قبل العراق فنصبت عند باب المسجد وجاء أبو أمامة فدخل المسجد فركع ركعتين، ثمّ خرج إليهم، فنظر إليهم فرفع رأسه فقال: «شرّ قتلى تحت ظلّ السّماء- ثلاثا-» ، وخير قتلى تحت ظلّ السّماء من قتلوه» وقال:
«كلاب النّار- ثلاثا» ، ثمّ إنّه بكى، ثمّ انصرف عنه، فقال له قائل: يا أبا أمامة أرأيت هذا الحديث حيث قلت: كلاب النّار، شيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو شيء تقوله برأيك؟ قال: سبحان الله إنّي إذا لجريء، لو سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّة أو مرّتين، حتّى ذكر سبعا، لخلت أن لا أذكره، فقال الرّجل: لأيّ شيء
__________
(1) البخاري- الفتح 6 (3336) واللفظ له، ومسلم عن أبي هريرة (2638) .
(2) ولكن في التحريش بينهم: أي ولكنه يسعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن وغيرها.
(3) مسلم (2812) .
(4) الحمرة: طائر صغير كالعصفور.
(5) أبو داود (2675) وقال الألباني (2/ 508) : صحيح.
(6) أحمد (2/ 400) وقال الشيخ أحمد شاكر (18/ 17) برقم (9187) : إسناده صحيح، وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: رواه أحمد والطبراني من حديث سهل بن سعد والحاكم من حديث أبي هريرة وصححه (2/ 172) ولفظه في الإحياء (المؤمن آلف مألوف ولا خير ... ) .
(7) تفسير ابن كثير (2/ 191) .
(8) أي من الخوارج.(9/4227)
بكيت؟ قال: رحمة لهم أو من رحمتهم» ) * «1» .
3-* (قال ابن كثير- رحمه الله-: قوله تعالى وَلا تَفَرَّقُوا أمرهم بالجماعة، ونهاهم عن التّفرقة) * «2» .
4-* (وقال أيضا: «خيف عليهم الافتراق والاختلاف فقد وقع ذلك في هذه الأمّة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة: منها فرقة ناجية إلى الجنّة، ومسلّمة من عذاب النّار، وهم الّذين على ما كان عليه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه» ) * «3» .
5-* (قال الغزاليّ- رحمه الله-: «إنّ الألفة ثمرة حسن الخلق، والتّفرّق ثمرة سوء الخلق.
فحسن الخلق يوجب التّحابّ والتّآلف والتّوافق، وسوء الخلق يثمر التّباغض والتّحاسد والتّدابر) * «4» .
6-* (قال بعضهم:
وجدت مصيبات الزّمان جميعها ... سوى فرقة الأحباب هيّنة الخطب «5» .
من مضار (التفرق)
(1) نهى الله عن التّفرّق في كلّ صوره؛ لأنّه يشلّ حركة المجتمع المسلم ويوهن المسلمين ويضعفهم.
(2) الحذر من الكافرين؛ لأنّهم يفرّقون بين الله ورسله ويؤمنون ببعض الرّسل ويكفرون ببعض
(3) سبيل الله واحدة، وسبل الشّيطان متفرّقة، فمن تبعها فقد ضلّ وغوى.
(4) اتّباع الأهواء يفرّق، والحبّ والإخاء يجمّع، فلينظر كلّ واحد ماذا يعمل.
(5) الاتّحاد قوّة، والتّفرّق وهن وضعف.
(6) وهو دليل خبث النّفس وسوء الطّويّة.
(7) طريق موصل إلى النّار وسخط الجبّار.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (5/ 250) برقم (22213) .
(2) تفسير ابن كثير (1/ 390) .
(3) المرجع السابق. نفسه، والصفحة نفسها.
(4) الإحياء (2/ 171) .
(5) المرجع السابق (2/ 188) .(9/4228)
التفريط والإفراط
التفريط لغة:
مصدر قولهم: فرّط في الأمر يفرّط بمعنى قصّر، وهو مأخوذ من مادّة (ف ر ط) الّتي تدلّ على إزالة شيء عن مكانه، وتنحيته عنه. يقال: فرّطت عنه ما كرهه، أي نحّيته، هذا هو الأصل، ثمّ يقال: أفرط.
إذا تجاوز الحدّ في الأمر. يقولون: إيّاك والفرط، أي لا تجاوز القدر. وهذا هو القياس، لأنّه إذا جاوز القدر فقد أزال الشّيء عن جهته، وكذلك التّفريط، وهو التّقصير، لأنّه إذا قصّر فيه فقد قعد به عن رتبته الّتي هي له «1» .
والفارط: المتقدّم السّابق، ويقال: فرط يفرط فروطا.. وفرّط إليه رسوله: قدّمه وأرسله، وفرّطه في الخصومة: جرّأه. وفرط القوم يفرطهم فرطا وفراطة:
تقدّمهم إلى الورد لإصلاح الأرشية والدّلاء ونحوها.
وفرطت القوم أفرطهم فرطا أي سبقتهم إلى الماء. فأنا فارط، والفرط: الماء المتقدّم لغيره من الأمواه، والفراطة الماء يكون شرعا بين عدّة أحياء، من سبق إليه فهو له، والفرط: ما تقدّمك من أجر وعمل، وفرط الولد:
صغاره ما لم يدركوا، وجمعه أفراط، وفي الدّعاء
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
8/ 8/ 14
للطّفل الميّت: اللهمّ اجعله لنا فرطا، أي أجرا يتقدّمنا حتّى نرد عليه. وفرط فلان ولدا، وافترطهم: ماتوا صغارا.
والإفراط: أن تبعث رسولا مجرّدا خاصّا في حوائجك. وفارطت القوم مفارطة وفراطا، أي سابقتهم، وهم يتفارطون، وفلان لا يفترط إحسانه وبرّه، أي لا يخاف فوته. والفرطة: اسم للخروج والتّقدّم. وفي حديث أمّ سلمة قالت لعائشة- رضي الله عنها- إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهاك عن الفرطة في الدّين، يعني السّبق والتّقدّم ومجاوزة الحدّ. والفرط: الأمر يفرط فيه، وقيل:
هو الإعجال، وقيل: النّدم، وفرط عليه يفرط، عجل عليه وعدا وآذاه، ومن ذلك قوله تعالى: قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا (طه/ 45) .
والإفراط: إعجال الشّيء في الأمر قبل التّثبّت.
يقال: أفرط فلان في أمره أي عجل فيه. وفرط الشّهوة والحزن: غلبتهما، وأفرط عليه: حمّله فوق ما يطيق، وكلّ شيء جاوز قدره فهو مفرط. والفرط: الحين، وقيل:
الفرط أن تأتيه في الأيّام ولا تكون أقلّ من ثلاثة ولا أكثر من خمس عشرة ليلة. وفرّط: كفّ عنه وأمهله «2» .
__________
(1) المقاييس (4/ 490) .
(2) اللسان «فرط» (368- 370) .(9/4229)
وفرّط الشّيء وفيه تفريطا: ضيّعه وقدّم العجز فيه، وفرّط في جنب الله، ضيّع ما عنده فلم يعمل، ومنه قوله تعالى: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ (الزمر/ 56) وأمره فرط أي متروك، وقوله تعالى:
وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (الكهف/ 28) أي متروكا، ترك فيه الطّاعة وغفل عنها.
وقال الطّبريّ في تفسيره: ما فرّطت في جنب الله، معناه فيما تركت من أمر الله، وقال القرطبيّ: قال الحسن: في طاعة الله، وقال الضّحّاك: أي في ذكر الله- عزّ وجلّ- قال: يعني القرآن والعمل به «1» .
وفي الحديث «ليس في النّوم تفريط، إنّما التّفريط أن لا يصلّى حتّى يدخل وقت الأخرى» وفرّطه تفريطا: مدحه حتّى أفرط في مدحه، مثل قرّظه. وقال الخليل: فرّط الله تعالى عن فلان ما يكره: نحّاه، وأفرط الأمر إذا نسيه، فهو مفرط، أي منسيّ، وبه فسّر مجاهد وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ أي منسيّون «2» .
التفريط والإفراط اصطلاحا:
قال الكفويّ: الإفراط: التّجاوز عن الحدّ ويقابله التّفريط «3» ، ويؤخذ منه أنّ التّفريط: هو التّقصير والوقوف دون الحدّ في الأمور، فإذا كان حدّ الاعتدال في أمر من الأمور هو عشر درجات كان الإفراط تجاوز ذلك إلى إحدى عشرة فما فوقها، وكان التّفريط هو تحصيل تسع فما دونها.
وقيل: التّفريط في الأمر: التّقصير فيه، وتضييعه حتّى يفوت «4» .
التفريط والإفراط مهلكة للفرد والمجتمع:
لقد أمر الإسلام بالتّوسّط في الأمور كلّها، فقال سبحانه: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (البقرة/ 143) والوسطيّة الّتي هي سمة هذه الأمّة يضيّعها أمران: أحدهما: التّقصير الّذي هو التّفريط وما يترتّب عليه من تضييع الحقوق، والتّكاسل عن أداء الواجبات، وينجم عن ذلك تأخّر الأمّة في المجالات الاقتصاديّة من زراعيّة وصناعيّة وتجاريّة وغيرها، وعلى حسب درجة التّفريط يكون اعتماد الأمّة على غيرها، ذلك الاعتماد الّذي يفقدها استقلالها وإرادتها ويجعلها عالة على من يقدّم لها المساعدة.
ثانيهما: الإفراط وهو على العكس من ذلك، يؤدّي إلى الغلوّ والإسراف والتّطرّف في الأمور كلّها، وقد يحسب هؤلاء المفرطون أنّهم يحسنون صنعا، إذ يشدّدون على أنفسهم وعلى غيرهم، ولا يجنون من وراء ذلك إلّا كما يجنيه المنبتّ الّذي يهلك دابّته ولا يصل إلى تحقيق غرضه، وقد حذّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من هذا عندما قال: «إنّ هذا الدّين متين فأوغلوا فيه برفق «5» » وقد يحسب هؤلاء المفرطون أنّهم بتسرّعهم وتشدّدهم يقدّمون لأنفسهم ولأمّتهم، وأنّى لهم ذلك وهم
__________
(1) انظر تفسير الطبري (11/ 19) ، تفسير القرطبي (15/ 176) .
(2) التاج (10/ 361، 362، 363) .
(3) الكليات للكفوي (155) .
(4) الصحاح للجوهري (3/ 1148) .
(5) مسند الإمام أحمد (3/ 199) .(9/4230)
يخالفون صريح ما جاءت به الآيات والأحاديث الّتي تنهى عن التّفريط والإفراط كليهما، وتدعوا إلى التّوسّط والاعتدال؟! وكم من فورة أعقبتها حسرة، وعجلة تبعتها ندامة، والواجب على كلّ مسلم ومسلمة أن ينأى عن التّفريط، وأن يبعد نفسه عن الإفراط حتّى يكون من هؤلاء الّذين قال الله فيهم: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً وليعلم أنّ الفضائل كلّها منوطة بعدم التّفريط والإفراط في الأمور كلّها «1» .
[للاستزادة: انظر صفات: التهاون- الكسل- صغر الهمة- الإهمال- التخلف عن الجهاد- الوهن التخاذل- انتهاك الحرمات- التولي.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: التوسط- الاستقامة- علو الهمة- جهاد الأعداء- تعظيم الحرمات- القوة- قوة الإرادة- الشجاعة- العزم والعزيمة- الصبر والمصابرة] .
__________
(1) مثال ذلك أن الشجاعة هي المنزلة الوسط بين الجبن والتهور، والجود وسط بين التقصير والإسراف.(9/4231)
الآيات الواردة في «التفريط والإفراط»
1- قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) «1»
2- وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) «2»
3- وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) «3»
4- فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) «4»
5- وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) «5»
6- وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) «6»
7- اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43)
فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) «7»
8- أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) «8»
__________
(1) الأنعام: 31 مكية
(2) الأنعام: 38 مكية
(3) الأنعام: 61 مكية
(4) يوسف: 80 مكية
(5) النحل: 62 مكية
(6) الكهف: 27- 28 مكية
(7) طه: 43- 46 مكية
(8) الزمر: 56 مكية(9/4232)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التفريط والإفراط)
1-* (عن أبي قتادة- رضي الله عنه- قال:
خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إنّكم تسيرون عشيّتكم وليلتكم، وتأتون الماء إن شاء الله غدا» ، فانطلق النّاس لا يلوي «1» أحد على أحد، قال أبو قتادة: فبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسير حتّى ابهارّ «2» اللّيل وأنا إلى جنبه، قال:
فنعس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمال عن راحلته فأتيته فدعمته «3» من غير أن أوقظه ... - إلى أن قال: فمال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الطّريق، فوضع رأسه، ثمّ قال: «احفظوا علينا صلاتنا، فكان أوّل من استيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والشّمس في ظهره، قال: فقمنا فزعين، ثمّ قال: «اركبوا» فركبنا، فسرنا حتّى إذا ارتفعت الشّمس نزل، ثمّ دعا بميضأة «4» كانت معي فيها شيء من ماء قال: فتوضّأ منها وضوءا دون وضوء، قال: وبقي فيها شيء من ماء، ثمّ قال لأبي قتادة: «احفظ علينا ميضأتك فسيكون لها نبأ» ، ثمّ أذّن بلال بالصّلاة، فصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعتين ثمّ صلّى الغداة، فصنع كما كان يصنع كلّ يوم، قال: وركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وركبنا معه، قال: فجعل بعضنا يهمس إلى بعض ما كفّارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟ ثمّ قال: «أما لكم فيّ أسوة؟» ثمّ قال: «أما إنّه ليس في النّوم تفريط، إنّما التّفريط على من لم يصلّ الصّلاة حتّى يجيء وقت الصّلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلّها حين ينتبه لها ... الحديث) * «5» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (التفريط والإفراط) معنى
2-* (عن المخدجيّ: أنّه سمع رجلا بالشّام يكنى أبا محمّد يقول: الوتر واجب، قال المخدجيّ:
فرحت إلى عبادة بن الصّامت، فاعترضت له وهو رائح إلى المسجد، فأخبرته بالّذي قال أبو محمّد، فقال عبادة:
كذب أبو محمّد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «خمس صلوات كتبهنّ الله على العباد، من جاء بهنّ لم يضيّع منهنّ شيئا استخفافا بحقّهنّ كان له عند الله عهد أن يدخله الجنّة، ومن لم يأت بهنّ فليس له عند الله عهد، إن شاء عذّبه وإن شاء أدخله الجنّة» ) * «6» .
3-* (عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي
__________
(1) لا يلوي أحد على أحد: لا يعطف.
(2) ابهارّ الليل: انتصف.
(3) فدعمته: أقمت ميله من النوم وصرت تحته كالدعامة.
(4) ميضأة: هي الإناء الذي يتوضأ به.
(5) البخاري- الفتح (2/ 595) ، مسلم (681) واللفظ له، وخرجاه من حديث جماعة من الصحابة.
(6) النسائي (1/ 230) واللفظ له، وقال الألباني (1/ 447) ص (1000) : صحيح، أبو داود (425) ، ابن ماجه (1401) ، أحمد (5/ 315- 316) . ومالك في «الموطأ» (1/ 123) وقال محقق «جامع الأصول» (6/ 45) : وهو حديث صحيح لطرقه.(9/4233)
الله عنهما- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقوت» ) * «1» .
4-* (عن أبي المليح أنّ عبيد الله بن زياد عاد معقل بن يسار- رضي الله عنه- في مرضه فقال له معقل: إنّي محدّثك بحديث لولا أنّي في الموت لم أحدّثك به. سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من أمير يلي أمر المسلمين ثمّ لا يجهد لهم وينصح إلّا لم يدخل معهم الجنّة» ) * «2» .
5-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد ناسا في بعض الصّلوات فقال:
«لقد هممت أن آمر رجلا يصلّي بالنّاس ثمّ أخالف إلى رجال يتخلّفون عنها فآمر بهم فيحرّقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم، ولو علم أحدهم أنّه يجد عظما سمينا لشهدها- يعني صلاة العشاء-» ) * «3» .
6-* (عن ابن عمر وأبي هريرة- رضي الله عنهم- أنّهما سمعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول على أعواد منبره: «لينتهينّ أقوام عن ودعهم «4» الجمعات، أو ليختمنّ الله على قلوبهم، ثمّ ليكوننّ من الغافلين» ) * «5» .
7-* (عن عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- قال: حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الّذي كان عنده، فأردت أن أشتريه منه، وظننت أنّه بائعه برخص، فسألت عن ذلك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال:
«لا تشتره، وإن أعطاكه بدرهم واحد، فإنّ العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه» ) * «6» .
8-* (عن أبي الجعد الضّمريّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه» ) * «7» .
__________
(1) أبو داود (1692) ، الحاكم (1/ 415) ، وقال: صحيح الإسناد، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 65) ، وذكره الألباني في صحيح الجامع (2/ 164) ، وكذا في الإرواء (3/ 406- 407) متفق عليه، وعزاه إلى جماعة آخرين.
(2) البخاري- الفتح 13 (7150) ، مسلم (142) واللفظ له.
(3) مسلم (651) .
(4) ودعهم: تركهم الجمعات.
(5) مسلم (865) واللفظ له والنسائي (3/ 88) .
(6) البخاري- الفتح 5 (2623) واللفظ له، مسلم (1620) ، وفيه فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له.
(7) النسائي (3/ 88) ، وقال الألباني (2968) : حسن صحيح، أبو داود (1052) واللفظ لهما، الترمذي (500) ، ابن ماجة (1125) ، وذكره المنذري في الرغيب والترهيب (1/ 509) ، وزاد نسبته إلى ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، قال الأرناؤوط في تخريج جامع الأصول (5/ 666) : صحيح بشواهده.(9/4234)
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (التفريط والإفراط)
1-* (قال عليّ- رضي الله عنه-: لا يرى الجاهل إلّا مفرطا «1» ) * «2» .
2-* (قال عليّ- رضي الله عنه-: يهلك فيّ رجلان: محبّ مفرط يقرّظني بما ليس فيّ، ومبغض يحمله شنآني «3» على أن يبهتني «4» ) * «5» .
3-* (قال ابن عمر- رضي الله عنهما- لمّا بلغه حديث أبي هريرة في فضل اتّباع الجنائز: لقد فرّطنا في قراريط كثيرة) * «6» .
4-* (قال أبو جعفر: كان ابن عمر إذا سمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حديثا لم يعده، ولم يقصّر دونه) * «7» .
5-* (قال سعيد بن المسيّب: لمّا صدر عمر ابن الخطّاب- رضي الله عنه- من منى أناخ بالأبطح، ثمّ كوّم كومة بطحاء، ثمّ طرح عليها رداءه واستلقى، ثمّ مدّ يديه إلى السّماء، فقال: اللهمّ كبرت سنّي، وضعفت قوّتي، وانتشرت رعيّتي فاقبضني إليك غير مضيّع ولا مفرّط. وذكر خطبته) * «8» .
6-* (عن ثابت الشّيبانيّ قال: كنّا مع أنس ابن مالك فأخّر الحجّاج الصّلاة، فقام أنس يريد أن يكلّمه فنهاه إخوانه شفقة عليه منه، فخرج فركب دابّته فقال في مسيره ذلك: والله ما أعرف شيئا ممّا كنّا عليه على عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلّا شهادة أن لا إله إلّا الله، فقال رجل: فالصّلاة يا أبا حمزة؟ قال: قد جعلتم الظّهر عند المغرب، أفتلك كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟) * «9» .
7-* (قال أبو جعفر الطّحاويّ- رحمه الله تعالى- في الطّحاويّة: ودين الله في الأرض والسّماء واحد، وهو دين الإسلام، وهو بين الغلوّ والتّقصير، وبين التّشبيه والتّعطيل، وبين الجبر والقدر، وبين الأمن واليأس) * «10» .
8-* (قال ابن الجوزيّ- رحمه الله تعالى-:
الويل كلّ الويل على المفرّط الّذي لا ينظر في عاقبته) * «11» .
9-* (قال ابن كثير- رحمه الله تعالى- في معنى قوله تعالى وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا (الكهف/ 28) : لا تطع من شغل عن الدّين وعبادة ربّه بالدّنيا، والحال أنّ أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع، ولا تكن مطيعا له ولا محبّا لطريقته بما هو فيه) * «12» .
__________
(1) المفرط بالتخفيف: المسرف، والمفرّط بالتشديد: المقصر.
(2) لسان العرب (6/ 3391) .
(3) شنآني: بغضي وكرهي.
(4) يبهتني: البهتان أشد الكذب.
(5) أحمد (1/ 160) ، وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده حسن (2/ 354) .
(6) البخاري- الفتح (3/ 1324) .
(7) ابن ماجة (4) .
(8) الموطأ (824) .
(9) البخاري- الفتح (2/ 17، 18) .
(10) شرح الطحاوية لابن أبي العز بتخريج الألباني (585) .
(11) صيد الخاطر (245) .
(12) التفسير (3/ 82) .(9/4235)
10- قال الماورديّ في قوله تعالى وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (الكهف/ 28) فيه خمسة تأويلات، أحدها:
ضيّقا، وهو قول مجاهد، الثّاني: متروكا قاله الفرّاء، الثّالث: ندما قاله ابن قتيبة، الرّابع: سرفا وإفراطا قاله مقاتل، الخامس: سريعا، قاله ابن بحر، يقال: أفرط إذا أسرف، وفرّط إذا قصّر) * «1» .
11-* (وقال في قوله تعالى: أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا (طه/ 45) فيه وجهان: أحدهما أن يعجل علينا، الثّاني: يعذّبنا عذاب الفارط في الذّنب وهو المتقدّم فيه، قاله المبرّد، ويقال لمن أكثر في الشّيء:
أفرط، ولمن نقص منه: فرّط) * «2» .
12-* (وقال ابن عطيّة في قوله تعالى: وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً يحتمل أن يكون الفرط بمعنى التّفريط والتّضييع، أي كان أمره الّذي يجب أن يلزم ويهتمّ به من الدّين تفريطا، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف، أي كان أمره وهواه الّذي هو سبيله إفراطا وإسرافا) * «3» .
13-* (قال القرطبيّ في قوله تعالى: وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً قيل: هو من التّفريط الّذي هو التّقصير وتقديم العجز بترك الإيمان، وقيل: من الإفراط ومجاوزة الحدّ، وكان القوم قالوا: نحن أشراف مضر إن أسلمنا أسلم النّاس، وكان هذا من التّكبّر والإفراط في القول) * «4» .
14-* (قال الطّبريّ في قوله تعالى: إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (طه/ 45) الإفراط: هو الإسراف والإشطاط والتّعدّي، والتّفريط: التّواني) * «5» .
من مضار (التفريط والإفراط)
(1) يؤدّي إلى العقاب الشّديد.
(2) في التّفريط ضياع للثّواب.
(3) البعد عن الله واستحقاق البغض.
(4) التّفريط في العبادة مدعاة إلى الكسل.
(5) يستجلب الغفلة عن ذكر الله.
(6) شيوع الفساد في المجتمع.
(7) الانقطاع عن الطّاعة، وعدم الاستمرار فيها، قد يؤدّي إلى تركها بالكليّة.
__________
(1) النكت والعيون (3/ 302) .
(2) المرجع السابق (3/ 405) .
(3) روح المعاني للألوسي (15/ 265) .
(4) تفسير القرطبي (5/ 255) .
(5) جامع البيان (8/ 420) بتصرف.(9/4236)
التكاثر
التكاثر لغة:
مصدر قولهم: تكاثر فلان وفلان أي قال كلّ منهما أنا أكثر منك في كذا أو طلب أن يكون كذلك، وهو مأخوذ من مادّة (ك ث ر) الّتي تدلّ على خلاف القلّة، يقال من ذلك: كاثر بنو فلان بني فلان فكثروهم، أي كانوا أكثر منهم، وعدد كاثر أي كثير، قال الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنّما العزّة للكاثر «1»
وقال الرّاغب: الكثرة والقلّة يستعملان في الكمّيّات المنفصلة كالأعداد، ويستعمل العظم والصّغر في الأجسام، ثمّ يستعمل كلّ واحد من الكثرة والعظم ومن القلّة والصّغر للآخر «2» ، وعلى ذلك فقول الله تعالى: وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ جعلها كثيرة اعتبارا بمطاعم الدّنيا، وليست الإشارة للعدد فقط بل إلى الفضل كذلك «3» ، وعدد كثير وكثار وكاثر أي زائد، ورجل كاثر إذا كان كثير المال، وقول الله تعالى إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (الكوثر/ 1) قيل هو: نهر في الجنّة،
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
24/ 29/ 19
وقيل بل هو: الخير العظيم الّذي أعطيه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «4» .
وعن مجاهد: هو خير الدّنيا والآخرة، وقال عكرمة: هو ما أعطاه الله إيّاه من النّبوّة والخير والقرآن «5» . وقيل:
الكوثر هاهنا: الخير الكثير الّذي يعطيه الله أمّته يوم القيامة، قال ابن منظور: وكلّ ذلك راجع إلى معنى الكثرة، إذ جميع ذلك قد أعطيه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أعطي النّبوّة، وإظهار الدّين الّذي بعث به على كلّ دين، والنّصر على أعدائه، والشّفاعة لأمّته، وما لا يحصى من الخير، وقد أعطي من الجنّة على قدر فضله على أهل الجنّة «6» ، والكوثر على ذلك (فوعل) من الكثرة أي المفرط فيها، قيل لأعرابيّة رجع ابنها من السّفر: بم آب ابنك؟ قالت: بالكوثر، وقال الكميت:
وأنت كثير يا بن مروان طيّب ... وكان أبوك ابن العقائل كوثرا «7»
الكوثر هنا: قيل: الرّجل السّخيّ، وقيل: السّيّد الكثير الخير، ويقال: تكوثر الشّيء: كثر كثرة متناهية، واستكثرت من الشّيء أكثرت منه، والكثر من المال:
الكثير، يقال: الحمد لله على الكثر والقلّ أي على
__________
(1) مقاييس اللغة (5/ 161) .
(2) المفردات للراغب (410) .
(3) يشير الراغب بذلك إلى أن الكثرة قد تستعمل في الكيف كما تستعمل في الكمّ.
(4) المفردات للراغب (246) ، معاني القرآن للفراء (3/ 295) .
(5) الدر المنثور للسيوطي (6/ 688) .
(6) لسان العرب «كثر» (8293) ط. دار المعارف.
(7) المفردات للراغب (326) ، لسان العرب (3828) .(9/4237)
الكثير والقليل، والتّكاثر: المكاثرة، وفلان يتكثّر بمال غيره، وإذا نفد ماله وكثرت عليه الحقوق قيل: فلان مكثور عليه «1» . وفي حديث قزعة: أتيت أبا سعيد وهو مكثور عليه، أراد أنّه كان عنده جمع من النّاس يسألونه عن أشياء فكأنّهم كان لهم عليه حقوق فهم يطلبونها، ويقال: كاثرناهم فكثرناهم أي غلبناهم بالكثرة، وكثّر الشّيء: جعله كثيرا وأكثر: أتى بكثير، وقيل: هما بمعنى، وأكثر الله فينا مثلك، أي جعل، وأكثر الرّجل:
كثر ماله، وكثّر في الأمر أي أكثر القول والعيب، وفي حديث الإفك «ولها ضرائر إلّا كثّرن فيها» قال ابن الأثير: أي كثّرن القول فيها والعيب لها «2» ، وقول الله تعالى أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (التكاثر/ 1- 2) قيل نزلت في حيّين تفاخروا أيّهم أكثر عددا وهم بنو عبد مناف وبنو سهم فكثرت بنو عبد مناف بني سهم، فقالت بنو سهم: إنّ البغي أهلكنا في الجاهليّة فعادّونا بالأحياء والأموات.
فكثرتهم بنو سهم، فأنزل الله تعالى أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي حتّى زرتم الأموات، وقيل: بل المعنى: ألهاكم التّفاخر بكثرة العدد والمال حتّى زرتم المقابر أي حتّى متّم، قال جرير للأخطل:
زار القبور أبو مالك ... فأصبح ألأم زوّارها
فجعل زيارة القبور بالموت، وقولهم: أكثر النّخل: أطلع، من قولهم، الكثر: جمّار النّخل وهو شحمه الّذي في وسط النّخلة «3» .
التكاثر اصطلاحا:
قال الرّاغب: التّكاثر: التّباري في كثرة المال والعزّ «4» .
وقال ابن القيّم: التّكاثر أن يطلب الرّجل أن يكون أكثر من غيره، قال: وهو مذموم إلّا فيما يقرّب إلى الله عزّ وجلّ «5» .
مجالات التكاثر:
قال ابن القيّم: التّكاثر يكون في كلّ شيء من مال، أو جاه، أو رياسة، أو نسوة، أو حديث، أو علم، ولا سيّما إذا لم يحتج إليه ويكون التّكاثر (أيضا) في الكتب والتّصانيف وكثرة المسائل وتفريعها وتوليدها «6» .
التكاثر بين المدح والذم:
التّكاثر قد يكون محمودا إذا كان في طاعة الله عزّ وجلّ، وقد روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدريّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «استكثروا من الباقيات الصّالحات» قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال:
«الملّة» (ثلاث مرّات) قيل: وما الملّة يا رسول الله؟
(للمرّة الرّابعة) قال: «التّكبير والتّهليل والتّسبيح والتّحميد، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم «7» ،
__________
(1) الصحاح (2/ 803) .
(2) النهاية (4/ 153) .
(3) لسان العرب «كثر» (3828) باختصار وتصرف. ط. دار المعارف.
(4) المفردات للراغب (426) .
(5) الفوائد لابن القيم (41) .
(6) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(7) أحمد في المسند 3/ 75 (حديث رقم 11719) .(9/4238)
أمّا إذا كان التّكاثر في غير ذلك من الأعراض الزّائلة من المال والولد ونحوهما فإنّه مذموم ومنهيّ عنه شرعا، يقول الإمام ابن القيّم: كلّ ما يكاثر به العبد غيره سوى طاعة الله ورسوله وما يعود عليه بنفع معاده فهو داخل في التّكاثر المذموم «1» الّذي يلهي الإنسان ويشغله، وربّما وصل به إلى أن يموت ضالّا.
التكاثر وحب الدنيا:
إنّ إيثار الحياة الدّنيا والاغترار بها والخلود إليها هي العوامل الأساسيّة الّتي تدعو إلى التّكاثر في المال أو الجاه وغيرهما من مجالات التّكاثر الّتي أشرنا إليها، ويظلّ حبّ الدّنيا ملازما للإنسان حتّى مع كبر سنّه واقتراب نذر الموت منه، يقول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: «لا يزال قلب الكبير شابّا في اثنتين: في حبّ الدّنيا، وطول الأمل» «2» ، وهؤلاء المتكاثرون هم من أبناء الدّنيا الّذين أشار إليهم عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- في قوله: «ارتحلت الدّنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكلّ واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدّنيا، فإنّ اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل» «3» .
إنّ النّهي عن التّكاثر النّاشيء عن حبّ الدّنيا لا ينبغي بحال أن يفهم منه النّهي عن اكتساب المعايش أو السّعي في طلب الرّزق، قال تعالى: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (القصص/ 77) ، يقول ابن الجوزيّ: بالغ قوم في هجر الدّنيا من غير بحث عن حقيقتها، وذلك أنّه ما لم يعرف حقيقة الشّيء فلا يجوز أن يمدح أو يذمّ، فإذا بحثنا عن الدّنيا رأينا هذه الأرض البسيطة الّتي جعلت قرارا للخلق، تخرج منها أقواتهم، ويدفن فيها أمواتهم، ومثل هذا لا يذمّ لموضع المصلحة فيه، وكلّ ما في هذه الدّنيا من ماء وزرع وحيوان، كلّه لمصالح الآدميّ وفيه حفظ لسبب بقائه، الّذي هو سبب لمعرفته ربّه وطاعته إيّاه، وخدمته، وما كان سببا لبقاء العارف العابد فإنّه يمدح ولا يذمّ، فبان لنا أنّ الذّمّ إنّما هو لا أفعال الجاهل المتكاثر، أو المعاصي المفسد، أمّا إذا اقتنى المرء المال المتاح، وأدّى زكاته، فلا لوم «4» .
[للاستزادة: انظر صفات: الأمن من المكر- البطر- الكبر والعجب- اتباع الهوى- الأثرة- الكنز- البخل- الشح- أكل الحرام- التطفيف- السرقة- الغش- الربا.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الزهد- التواضع- التقوى- الورع- الإنفاق- الإيثار- البر- الجود- السخاء- الصدقة- الإحسان- الزكاة- الكرم- النزاهة- أكل الطيبات] .
__________
(1) الفوائد لابن القيم (41) .
(2) رواه البخاري عن أبي هريرة- رضي الله عنه- في كتاب الرقاق، انظر فتح الباري (11/ 243) .
(3) المرجع السابق (11/ 239) .
(4) صيد الخاطر لابن الجوزي (18) بتصرف يسير.(9/4239)
الآيات الواردة في «التكاثر»
1- وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) «1»
2- قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) «2»
3- اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (20) «3»
4- يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)
قُمْ فَأَنْذِرْ (2)
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)
وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) «4»
5- أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1)
حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2)
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3)
ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)
ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7)
ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) «5»
من الآيات الواردة في حب الدنيا المؤدي للتكاثر
6- ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
__________
(1) الأنعام: 128 مكية
(2) الأعراف: 188 مكية
(3) الحديد: 20 مدنية
(4) المدثر: 1- 7 مكية
(5) التكاثر: 1- 8 مكية(9/4240)
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) «1»
7- بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) «2»
8- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) «3»
9- وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) «4»
10- مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) «5»
11- اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ (26) «6»
12- الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) «7»
13- ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) «8»
14- وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) «9»
15- فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) «10»
16- يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) «11»
17- فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا (29) «12» . «13»
__________
(1) البقرة: 85- 86 مدنية
(2) البقرة: 112 مدنية
(3) النساء: 94 مدنية
(4) يونس: 88 مكية
(5) هود: 15 مكية
(6) الرعد: 26 مكية
(7) إبراهيم: 3 مكية
(8) النحل: 107 مكية
(9) الكهف: 45 مكية
(10) القصص: 79 مكية
(11) غافر: 39 مكية
(12) النجم: 29 مكية
(13) انظر آيات أخرى تتعلق بالنهي عن حب الدنيا والاغترار بها في صفتي: الغرور، واللهو واللعب.(9/4241)
الآيات الواردة في «الكثرة أو التكثير» ولها معنى آخر
18- لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) «1»
19- قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) «2»
20- وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) «3»
21- إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) «4» 22- لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) «5»
23- قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) «6»
24- وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11)
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12)
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) «7»
__________
(1) النساء: 7 مدنية
(2) المائدة: 100 مدنية
(3) الأعراف: 86 مكية
(4) الأنفال: 19 مدنية
(5) التوبة: 25 مدنية
(6) هود: 32- 33 مكية
(7) الفجر: 10- 13 مكية(9/4242)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التكاثر)
1-* (عن أبي ذرّ- رضي الله عنه- قال: كنت أمشي مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في حرّة المدينة فاستقبلنا أحد «1» فقال:
«يا أبا ذرّ» ، قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: «ما يسرّني أنّ عندي مثل أحد هذا ذهبا، تمضي عليّ ثالثة «2» وعندي منه دينار، إلّا شيئا أرصده لدين، إلّا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا» - عن يمينه وعن شماله ومن خلفه- ثمّ مشى ثمّ قال: «إنّ الأكثرين «3» هم المقلّون يوم القيامة، إلّا من قال: هكذا وهكذا وهكذا- عن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه- وقليل ما هم» ثمّ قال لي:
«مكانك، لا تبرح حتّى آتيك» ، ثمّ انطلق في سواد اللّيل حتّى توارى، فسمعت صوتا قد ارتفع، فتخوّفت أن يكون أحد عرض للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأردت أن آتيه، فتذكّرت قوله لي:
«لا تبرح حتّى آتيك» فلم أبرح حتّى أتاني، قلت يا رسول الله، لقد سمعت صوتا تخوّفت (منه) ، فقال: «وهل سمعته؟» قلت: نعم، قال: «ذاك جبريل أتاني فقال: من مات من أمّتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنّة» قلت: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق» ) * «4» .
2-* (عن أبي ذرّ- رضي الله عنه- قال:
خرجت ليلة من اللّيالي، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمشي وحده وليس معه إنسان، قال: فظننت أنّه يكره أن يمشي معه أحد، قال: فجعلت أمشي في ظلّ القمر، فالتفت فرآني فقال: «من هذا؟» قلت: أبو ذرّ، جعلني الله فداءك، قال: «يا أبا ذرّ تعال» فمشيت معه ساعة، فقال لي: إنّ المكثرين هم المقلّون «5» . يوم القيامة، إلّا من أعطاه الله خيرا فنفح فيه يمينه وشماله، وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيرا ... الحديث» ) * «6» .
3-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سأل النّاس أموالهم تكثّرا «7» ، فإنّما يسأل جمرا، فليستقلّ أو ليستكثر» ) * «8» .
4-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أخشى عليكم الفقر، ولكن أخشى عليكم التّكاثر، وما أخشى عليكم الخطأ ولكن أخشى عليكم العمد» ) * «9» .
5-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
كنت أمشي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نخل لبعض أهل المدينة فقال: «يا أبا هريرة هلك المكثرون إلّا من قال هكذا وهكذا وهكذا ثلاث مرّات، حثى «10» بكفّه عن يمينه وعن يساره وبين يديه، وقليل ماهم» ، ثمّ مشى
__________
(1) أحد: جبل معروف بالمدينة.
(2) المراد ليلة ثالثة، وقيّد الليالي بالثلاث لأنها الوقت الذي يلزم لتوزيع مثل هذا المال.
(3) المراد الإكثار من المال والإقلال من ثواب الآخرة.
(4) البخاري- الفتح 11 (6444) واللفظ له، ومسلم 2 (94) .
(5) قال ابن حجر: وقع في رواية المعرور عن أبي ذر «الأخسرون» بدل «المقلون» قال ابن حجر: وهو بمعناه بناء على أنّ المراد بالقلة في الحديث قلة الثواب، وكل من قلّ ثوابه فهو خاسر بالنسبة لمن كثر ثوابه» .
(6) البخاري- الفتح 11 (6443) ، مسلم 2 (94) .
(7) تكثرا: أي يكثر ماله.
(8) مسلم 2 (1041) .
(9) المسند 2/ 308 برقم (8094) ، الترغيب والترهيب 4/ 180 وقال الحافظ المنذري رواه أحمد ورواته محتج بهم في الصحيح، وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.
(10) حثى: المراد هنا فرّق شيئا كان بيده.(9/4243)
ساعة فقال: «يا أبا هريرة ألا أدلّك على كنز من كنوز الجنّة؟» فقلت بلى يا رسول الله. قال: «قل لا حول ولا قوّة إلّا بالله ولا ملجأ من الله إلّا إليه» ثمّ مشى ساعة فقال: «يا أبا هريرة، هل تدري ما حقّ النّاس على الله، وما حقّ الله على النّاس؟» قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: «فإنّ حقّ الله على النّاس أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا فإذا فعلوا ذلك فحقّ عليه أن لا يعذّبهم» ) * «1» .
6-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رجلا شتم أبا بكر والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم جالس، فجعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعجب ويتبسّم، فلمّا أكثر ردّ عليه بعض قوله، فغضب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقام، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس فلمّا رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت. قال: «إنّه كان معك ملك يردّ عنك فلمّا رددت عليه بعض قوله وقع الشّيطان فلم أكن لأقعد مع الشّيطان» ثمّ قال: «يا أبا بكر، ثلاث كلّهنّ حقّ، ما من عبد ظلم بمظلمة فيفضي عنها لله عزّ وجلّ إلّا أعزّ الله بها نصره، وما فتح رجل باب عطيّة يريد بها صلة إلّا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلّا زاده الله عزّ وجلّ بها قلّة» ) * «2» .
7-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قلب الشّيخ شاب على حبّ اثنتين: طول الحياة وكثرة المال» ) * «3» .
8-* (عن مطرّف عن أبيه أنّه انتهى إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ. قال: «يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلّا ما تصدّقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت؟» ) * «4» .
9-* (عن سهل ابن الحنظليّة قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس فسألاه، فأمر لهما بما سألا، فأمّا الأقرع فأخذ كتابه فلفّه في عمامته، وانطلق، وأمّا عيينة فأخذ كتابه وأتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مكانه فقال: يا محمّد، أتراني حاملا إلى قومي كتابا لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمّس «5» ، فأخبره معاوية بقولة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «6» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سأل وعنده ما يغنيه فإنّما يستكثر من النّار» أو قال:
«من جمر جهنّم» فقالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ أو قيل: وما الغنى الّذي لا تنبغي معه المسألة؟ قال: «قدر ما يغدّيه ويعشّيه» أو قال: «أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم» ) * «7» .
10-* (عن عبد الرّحمن بن شبل قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اقرأوا القرآن ولا تغلوا
__________
(1) المسند 18/ 182 برقم (9622) طبعة أحمد شاكر واللفظ له، 2/ 358، 2/ 391، 5/ 181، وابن ماجة 2/ 4129، وفي الزوائد اسناده صحيح ورجاله ثقات، والترمذي 3/ 617، والنسائي 5/ 9 برقم (2440) .
(2) المسند 2/ 436 برقم (9637) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 190) : رواه أحمد والطبراني في الأوسط بنحوه، ورجال أحمد رجال الصحيح، وصحح إسناده الشيخ الألباني في الصحيحة (2231) .
(3) الترمذي 4 (2338) واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجة 2 (4233) ، والمسند 2/ 358 برقم (8720) .
(4) سنن الترمذي 4 (4342) ، وقال: حديث حسن صحيح.
(5) صحيفة المتلمس: كتاب حمله الشاعر المعروف (المتلمس) ولم يكن يدري أن فيه الأمر بقتله، فلما سلّم الكتاب أمر بقتله فقتل فصار ذلك مثلا.
(6) في الكلام إيجاز والمراد أخبر ما كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد قاله وكان عليه الصلاة والسلام قد قال: «من سأل ... الحديث» .
(7) سنن أبي داود 2 (1629) واللفظ له، والمسند 4 (181) ، وقال محقق جامع الأصول (10/ 152) : حديث صحيح.(9/4244)
فيه ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به» ) * «1» .
11-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقوم السّاعة حتّى يكثر فيكم المال فيفيض، حتّى يهمّ ربّ المال من يقبل صدقته، وحتّى يعرضه فيقول الّذي يعرضه عليه: لا أرب «2» لي» ) * «3» .
12-* (عن عمرو بن تغلب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من أشراط السّاعة أن يفشو المال ويكثر وتفشو التّجارة ويظهر العلم ويبيع الرّجل البيع فيقول: لا حتّى أستأمر تاجر بني فلان، ويلتمس في الحيّ العظيم الكاتب فلا يوجد» ) * «4» .
13-* (عن سلمة بن صخر البياضيّ قال:
كنت امرأ أستكثر من النّساء لا أرى رجلا كان يصيب من ذلك ما أصيب، فلمّا دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتّى ينسلخ رمضان، فبينما هي تحدّثني ذات ليلة انكشف منها شيء فوثبت عليها فواقعتها ...
الحديث» ) * «5» .
14-* (قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّه سيصيب أمّتي داء الأمم» قالوا: وما داء الأمم؟ قال: «الأشر «6» والبطر «7» والتّكاثر والتّنافس في الدّنيا، والتّباعد والتّحاسد حتّى يكون البغي ثمّ الهرج «8» » ) * «9» .
15-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أنّه قال: «ليس الغنى عن كثرة العرض «10» ، ولكنّ الغنى غنى النّفس» ) * «11» .
16-* (عن أنس- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قال: «لو أنّ لابن آدم واديا من ذهب أحبّ أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلّا التّراب، ويتوب الله على من تاب» قال أبيّ: كنّا نرى هذا (الحديث) من القرآن، حتّى نزلت أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ» ) * «12» .
17-* (عن ثابت بن الضّحّاك- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس على رجل نذر فيما لا يملك، ولعن المؤمن كقتله، ومن قتل نفسه بشيء في الدّنيا عذّب به يوم القيامة، ومن ادّعى دعوى كاذبة ليتكثّر بها لم يزده الله إلّا قلّة، ومن حلف على يمين صبر فاجرة «13» » ) * «14» .
__________
(1) المسند 3/ 428 برقم (15535) .
(2) لا أرب لي: أي لا حاجة لي لاستغنائي عنه.
(3) البخاري- الفتح 3 (1412) واللفظ له، ومسلم (157) .
(4) النسائي 7/ 174، 175 برقم (4456) .
(5) أبو داود (2213) ، والترمذي (1200) وقال: حديث حسن، ويقال: سليمان بن صخر، وسلمة ابن صخر، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم، في كفارة الظهار، وابن ماجه (2062) .
(6) الأشر: أشدّ البطر.
(7) البطر: الطغيان عند النعمة وطول الغنى.
(8) الهرج: القتل والاختلاط، وأصله الكثرة في الشيء والاتساع فيه.
(9) إحياء علوم الدين 3/ 199، وقال الحافظ العراقي: أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الحسد والطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة بإسناد جيّد.
(10) العرض: هو ما ينتفع به من متاع الدنيا.
(11) البخاري- الفتح 11 (6446) ، ومسلم 2 (1051) .
(12) البخاري- الفتح 11 (6439) و (6440) .
(13) قوله: «ومن حلف على يمين صبر فاجرة» معطوف على قوله: «ومن ادعى دعوى كاذبة» ، أي وكذلك من حلف على يمين صبر فهو مثله (أي يزداد قلة) ، ويمين الصبر هي التي ألزم بها الحالف عند الحاكم ونحوه، والفجور في اليمين، الكذب فيها (انظر هامش 5 في صحيح مسلم ج 1 ص 104) .
(14) البخاري- الفتح 7 (4171) ، ومسلم (110) .(9/4245)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التكاثر) معنى
18-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر وجلسنا حوله فقال: «إنّ ممّا أخاف عليكم ما يفتح الله عليكم من زهرة الدّنيا وزينتها» ) * «1» .
19-* (عن كعب بن مالك- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشّرف «2» لدينه» ) * «3» .
20-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعس «4» عبد «5» الدّينار والدّرهم والقطيفة «6» والخميصة «7» ، إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض» ) * «8» .
21-* (عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الدّنيا دار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له» ) * «9» .
22-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التّراب، ويتوب الله على من تاب» ) * «10» .
23-* (عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما يزال الرّجل يسأل النّاس حتّى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم» ) * «11» .
24-* (عن عوف بن مالك- رضي الله عنه- قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أصحابه، فقال: «الفقر تخافون أو العوز أم تهمّكم الدّنيا؟ فإنّ الله فاتح عليكم فارس والرّوم وتصبّ عليكم الدّنيا صبّا حتّى لا يزيغكم بعد أن زغتم «12» إلّا هي» ) * «13» .
25-* (عن عبد الرّحمن بن عوف- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال الشّيطان- لعنه الله-: لن يسلم منّي صاحب المال من إحدى ثلاث، أغدو عليه بهنّ وأروح: أخذه من غير حلّه، وإنفاقه في
__________
(1) البخاري- الفتح 11 (6427) ، ومسلم (1052) واللفظ له.
(2) الشرف: أي الجاه، وقوله لدينه: أي أفسد لدينه، والمعنى: ليس الذئبان الجائعان بأفسد للغنم من إفساد المال والجاه لدين المسلم.
(3) سنن الترمذي 4 (2376) وقال: حديث حسن صحيح، وأحمد في المسند (3/ 456) ، وقال محقق جامع الأصول (3/ 627) : حديث صحيح.
(4) تعس: هلك.
(5) عبد الدينار: الحريص على جمعه.
(6) القطيفة: ثوب به خمل.
(7) الخميصة: كساء مربع.
(8) البخاري- الفتح 11 (6435) .
(9) المسند 6/ 71 برقم (4473) ، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 288) : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير دويد وهو ثقة.
(10) البخاري- الفتح 11 (6436) واللفظ له، والترمذي 4 (337) .
(11) البخاري- الفتح 3 (1475) وقد ذكر الإمام البخاري هذا الحديث مترجما له بقوله «باب من سأل الناس تكثرا» .
(12) زغتم: أي ملتم وانحرفتم عن الجادّة.
(13) أحمد (6/ 24) وقد صرح فيه «بقية بن الوليد بالتحديث» وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 245) : رواه الطبراني والبزار بنحوه ورجاله وثقوا؛ إلا أن بقية مدلس وإن كان ثقة.(9/4246)
غير حقّه، وأحبّبه إليه فيمنعه من حقّه» ) * «1» .
26-* (عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّما أهلك من كان قبلكم الدّينار والدّرهم وهما مهلكاكم» ) * «2» .
27-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أشرب حبّ الدّنيا التاط «3» منها بثلاث: شقاء لا ينفد عناه، وحرص لا يبلغ غناه، وأمل لا يبلغ منتهاه، فالدّنيا طالبة ومطلوبة، فمن طلب الدّنيا طلبته الآخرة حتّى يدركه الموت فيأخذه، ومن طلب الآخرة طلبته الدّنيا حتّى يستوفي منها رزقه» ) * «4» .
28-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما ذئبان ضاريان في حظيرة يأكلان ويفسدان بأضرّ فيها من حبّ الشّرف وحبّ المال في دين المرء المسلم» ) * «5» .
29-* (عن عمر بن عوف الأنصاريّ- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أظنّكم سمعتم أنّ أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟» فقالوا: أجل يا رسول الله. قال: «فأبشروا وأمّلوا ما يسرّكم فو الله مالفقر أخشى عليكم، ولكنّي أخشى أن تبسط الدّنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم» ) * «6» .
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (التكاثر)
1-* (عن عليّ- رضي الله عنه وكرّم الله وجهه- قال: ما زلنا نشكّ في عذاب القبر حتّى نزلت أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) * «7» .
2-* (عن ابن عبّاس والحسن في قوله تعالى:
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ قالا: التّكاثر من الأموال والأولاد) * «8» .
3-* (عن ابن عبّاس ومقاتل والكلبيّ في قوله تعالى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ: نزلت في حيّين من قريش، بني عبد مناف وبني سهم، تعادّوا وتكاثر وبالسّادة والأشراف في الإسلام، فقال كلّ حيّ منهم:
نحن أكثر سيّدا وأعزّ عزيزا، وأعظم نفرا، وأكثر عائذا فكثر بنو عبد مناف سهما «9» ، ثمّ تكاثروا في الأموات فكثرتهم بنو سهم. فأنزل الله السّورة السّابقة) * «10» .
4-* (عن قتادة في قوله تعالى حَتَّى زُرْتُمُ
__________
(1) الترغيب والترهيب، ج 4 ص 182، وقال المنذري: ورواه الطبراني بإسناد حسن.
(2) المرجع السابق نفسه، وقال المنذري: رواه البزار بإسناد جيّد.
(3) التاط: التصق به.
(4) الترغيب والترهيب ج 4 ص 176، وقال المنذري: رواه الطبراني بإسناد حسن، والهيثمي في المجمع (10/ 249) .
(5) المرجع السابق ج 4 ص 177، وقال المنذري: رواه البزار بإسناد جيّد، وقد سبق تخريجه في نفس الصفة.
(6) البخاري- الفتح 11 (6425) ، وهو عند مسلم كذلك.
(7) تفسير الطبري 12/ 184.
(8) تفسير القرطبي 20/ 115.
(9) كثر بنو عبد مناف: أي غلبو في الكثرة، يقال: كثره يكثره إذا غلبه كثرة.
(10) تفسير القرطبي 20/ 115، والكشاف 4/ 281، ومعاني القرآن للفراء 3/ 287.(9/4247)
الْمَقابِرَ قال: كانوا يقولون: نحن أكثر من بني فلان، ونحن أعدّ من بني فلان، وهم كلّ يوم يتساقطون إلى آخرهم) * «1» .
5-* (عن قتادة في الآية الكريمة أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ قال: نزلت في أهل الكتاب) * «2» .
6-* (قال الضّحّاك: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ أي:
ألهاكم التّشاغل بالمعاش والتّجارة) * «3» .
7-* (وعن مقاتل وقتادة وغيرهما في قوله تعالى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ أنّها نزلت في اليهود حين قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتّى ماتوا ضلّالا) * «4» .
8-* (عن عمرو بن دينار في الآية أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ أنّه حلف أنّ هذه السّورة نزلت في التّجّار) * «5» .
9-* (وعن قتادة في الآية نفسها أنّها نزلت في اليهود) * «6» .
10-* (وقال ابن زيد في الآية السّابقة: أنّها نزلت في فخذ من الأنصار) * «7» .
11-* (عن ابن بريدة قال: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار في بني حارثة وبني الحارث، تفاخروا وتكاثروا فقالت إحداهما: فيكم مثل فلان ابن فلان، وقال الآخرون مثل ذلك، تفاخروا بالأحياء، ثمّ قالوا انطلقوا بنا إلى قبور، فجعلت إحدى الطّائفتين تقول فيكم مثل فلان يشيرون إلى القبور ومثل فلان، وفعل الآخرون مثل ذلك فأنزل الله أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) * «8» .
12-* (وعن الطّبريّ في قوله تعالى: ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ يقول جلّ ثناؤه: كلّا ما هكذا ينبغي أن تفعلوا، أن يلهيكم التّكاثر بالأموال وكثرة العدد، «سوف تعلمون إذا زرتم المقابر ما تلقون إذا أنتم زرتموها من مكروه اشتغالكم عن طاعة ربّكم بالتّكاثر» ) * «9» .
13-* (عن ميمون بن مهران قال: كنت جالسا عند عمر بن عبد العزيز فقرأ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ فلبث هنيهة ثمّ قال: يا ميمون، ما أرى المقابر إلّا زيارة وما للزّائر بدّ من أن يرجع إلى منزله. قال أبو محمّد: يعني يرجع إلى منزله أي جنّته أو ناره) * «10» .
14-* (قال الطّبريّ في قوله تعالى أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ يقول تعالى ذكره: ألهاكم أيّها النّاس المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة ربّكم وعمّا ينجيكم من سخطه عليكم) * «11» .
15-* (وقال الزّمخشريّ في الآية نفسها:
شغلكم التّكاثر، أي التّباري في الكثرة والتّباهي بها،
__________
(1) تفسير القرطبي 20/ 115.
(2) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(3) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(4) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها، والدر المنثور ج 6 ص 659.
(5) تفسير القرطبي 20/ 115.
(6) الدر المنثور ج 6 ص 659.
(7) تفسير القرطبي 20/ 116.
(8) تفسير ابن كثير 4/ 544.
(9) الطبري مجلد 12 ج 30 ص 184 تفسير- (ط. دار الريان للتراث، القاهرة) .
(10) تفسير ابن كثير 4/ 545.
(11) الطبري مجلد 12 ج 30 ص 183 ط. دار الريان، القاهرة) .(9/4248)
وأن يقول هؤلاء: نحن أكثر، وهؤلاء: نحن أكثر، والمعنى ألهاكم ذلك وهو ممّا لا يعنيكم ولا يجدي عليكم في دنياكم وآخرتكم عمّا يعنيكم أمر الدّين الّذي هو أهمّ وأعنى من كلّ مهمّ) * «1» .
16-* (وقال القرطبيّ في تفسير قوله تعالى أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ المعنى: شغلكم المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة الله تعالى حتّى متّم ودفنتم في المقابر) * «2» .
17-* (وقال ابن كثير في الآية نفسها:
أشغلكم حبّ الدّنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة وابتغائها وتمادى بكم ذلك حتّى جاءكم الموت وزرتم المقابر وصرتم من أهلها) * «3» .
18-* (وقال ابن قتيبة- رحمه الله تعالى-:
التّكاثر يكون بالعدد والقرابات) * «4» .
19-* (وقال ابن القيّم- رحمه الله تعالى-:
والتّكاثر تفاعل من الكثرة، أي تكاثر بعضكم لبعض، وأعرض عن ذكر المتكاثر به إرادة لإطلاقه وعمومه، وأنّ كلّ ما يكاثر به العبد غيره سوى طاعة الله ورسوله وما يعود عليه بنفع معاده فهو داخل في هذا التّكاثر) * «5» .
من مضار (التكاثر)
(1) التّكاثر بالأموال والأولاد ونحوهما يلهي الإنسان ويشغله عن الطّاعات.
(2) التّكاثر ضارّ بدين المسلم كضرر الذّئب الضّاري على الغنم.
(3) التّكاثر في طلب المال خسران في الدّنيا وعذاب في الآخرة.
(4) المكثرون (أو الأكثرون) من أقلّ النّاس ثوابا في الآخرة إلّا من عصم الله تعالى فأنفق كثيرا.
(5) المكثرون هم الأخسرون إلّا إذا أنفقوا في الطّاعات بغير حساب.
(6) المتكثّرون عن طريق المسألة لا يزيدهم الله إلّا فقرا وذلّا في الدّنيا.
(7) المتكثّر بالسّؤال يلقى الله وليس على وجهه مزعة لحم.
(8) التّكاثر مظهر من مظاهر التّرف الّذي يؤدّي إلى الكبر والغرور.
(9) التّكاثر والتّكالب على زهرة الحياة الدّنيا يؤدّي إلى الهلاك وإراقة الدّماء.
(10) التّكاثر والجمع للدّنيا لا يسعى له إلّا من قلّ عقله وانعدم تبصّره.
(11) التّكاثر في العلم عن الحدّ المعقول يؤدّي إلى ضياع ما لا ينبغي ضياعه.
__________
(1) الكشاف 4/ 281.
(2) تفسير القرطبي 20/ 115.
(3) تفسير ابن كثير 4/ 544.
(4) تفسير غريب القرآن ص 537.
(5) الفوائد ص 41.(9/4249)
التكلف
التكلف لغة:
التّكلّف مصدر قولهم: تكلّف الشّيء يتكلّفه، وهو مأخوذ من مادّة (ك ل ف) ، الّتي تدور حول معنى الإيلاع بالشّيء والتّعلّق به، تقول: كلف بالأمر يكلف كلفا (تعلّق به وأولع) ، وأكلفته به: جعلته كلفا، والكلف في الوجه: سمّي (بذلك) لتصوّر كلفة به، وتكلّف الشّيء، أن يفعله الإنسان بإظهار كلف مع مشقّة تناله في تعاطيه، وصارت الكلفة في التّعارف اسما للمشقّة، يقال: كلف بالشّيء كلفا وكلفة، فهو كلف ومكلّف: لهج به. قال أبو زيد: كلفت منك أمرا كلفا. وكلف بها أشدّ الكلف أي أحبّها. والمكلّف والمتكلّف: الوقّاع فيما لا يعنيه. والمتكلّف: العرّيض لما لا يعنيه: يقال: كلفت هذا الأمر وتكلّفته. والكلفة: ما تكلّفت من أمر في نائبة أو حقّ. ويقال: كلفت بهذا الأمر: أي أولعت به. وفي الحديث: «اكلفوا من العمل ما تطيقون» ، وهو من كلفت بالأمر إذا أولعت به وأحببته. والكلف: الولوع بالشّيء مع شغل قلب ومشقّة. وكلّفه تكليفا أي أمره بما يشقّ عليه، وتكلّفت
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
1/ 12/ 17
الشّيء: تجشّمته على مشقّة وعلى خلاف عادتك. وفي الحديث: «أراك كلفت بعلم القرآن» وفي الحديث «أنا وأمّتي برءاء من التّكلّف» ، وكلفته إذا تحمّلته.
ويقال: فلان يتكلّف لإخوانه الكلف والتّكاليف. ويقال: حملت الشّيء تكلفة إذا لم تطقه إلّا تكلّفا، وهو تفعلة. وفي حديث عمر- رضي الله عنه- (نهينا عن التّكلّف) أراد كثرة السّؤال والبحث عن الأشياء الغامضة الّتي لا يجب البحث عنها، والأخذ بظاهر الشّريعة وقبول ما أنت به. قال ابن سيدة:
كلف الأمر وتكلّفه تجشّمه على مشقّة وعسرة. «1» .
وقول الله تعالى: وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (ص/ 86) أي وما أنا ممّن يتكلّف تخرّص القرآن وافتراءه، وقيل: لا أتكلّف ولا أتخرّص ما لم أومر به «2» .
التكلف اصطلاحا:
قال المناويّ: التّكلّف: أن يحمل المرء على أن يكلف بالأمر كلفه بالأشياء الّتي يدعو إليها طبعه «3» .
وقال الرّاغب: التّكلّف: اسم لما يفعل بمشقّة أو تصنّع أو تشبّع «4» . وقال الفيروزابادىّ: التّكلّف: تحمّل الأمر
__________
(1) مقاييس اللغة (5/ 136) ، ولسان العرب (9/ 307) ، والمصباح المنير (2/ 199) بصائر ذوي التمييز (4/ 376) .
(2) تفسير الطبري (10/ 608) ، وتفسير القرطبي (15/ 150) .
(3) التوقيف (107) .
(4) المفردات (439) .(9/4250)
بما يشقّ على الإنسان «1» .
والتّكلّف قد يكون محمودا، وهو ما يتوخّاه الإنسان ليتوصّل به إلى أن يصير الفعل الّذي يتعاطاه سهلا عليه ويصير كلفا به ومحبّا له، ولهذا النّظر استعمل التّكليف في تكلّف العبادات، وقد يكون مذموما، وهو ما يتكلّفه الإنسان مراءاة وهو المقصود هنا «2» .
التكلف بين المدح والذم:
قال الرّاغب: التكلّف على ضربين: الأوّل:
محمود، وهو ما يتحرّاه الإنسان ليتوصّل به إلى أن يصير الفعل الّذي يتعاطاه سهلا عليه ويصير كلفا به ومحبّا له، وبهذا النّظر يستعمل التّكليف في تكلّف العبادات.
الثّاني: مذموم وهو ما يتحرّاه الإنسان مراءاة، وإيّاه عني بقوله تعالى قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (ص/ 86) وقوله صلّى الله عليه وسلّم «أنا وأتقياء أمّتي برءآء من التّكلّف «3» » . وهذا المعنى الثّاني هو المقصود من هذه الصّفة.
[للاستزادة: انظر صفات: التعسير- الغلو- التفريط والإفراط- التنفير.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: التوسط- التيسير- الإخلاص- المروءة] .
الآيات الواردة في «التكلف»
1- قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87)
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) «4»
__________
(1) بصائر ذوي التمييز (4/ 376) .
(2) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(3) المفردات 349، وبصائر ذوي التمييز (4/ 376) .
(4) ص: 86- 88 مكية.(9/4251)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التكلف)
1-* (عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل عليه بيته، فقال: «يا عبد الله ابن عمرو، ألم أخبر أنّك تكلّف قيام اللّيل وصيام النّهار؟» قال: إنّي لأفعل، فقال: «إنّ حسبك، ولا أقول افعل، أن تصوم من كلّ شهر ثلاثة أيّام، الحسنة عشر أمثالها، فكأنّك قد صمت الدّهر كلّه» . قال: فغلّظت فغلّظ عليّ، قال: فقلت: إنّي لأجد قوّة من ذلك، قال: «إنّ من حسبك أن تصوم من كلّ جمعة ثلاثة أيّام» ، قال:
فغلّظت فغلّظ عليّ. فقلت: إنّي لأجد بي قوّة، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أعدل الصّيام عند الله صيام داود، نصف الدّهر» ، ثمّ قال: «لنفسك عليك حقّ، ولأهلك عليك حقّ» ، قال: فكان عبد الله يصوم ذلك الصّيام، حتّى إذا أدركه السّنّ والضّعف، كان يقول: لأن أكون قبلت رخصة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحبّ إليّ من أهلي ومالي) * «1» .
2-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- أنّه قال: مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه- عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتّى خرج حاجّا فخرجت معه، فقلت له: يا أمير المؤمنين من اللّتان تظاهرتا على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أزواجه، فقال: تلك حفصة وعائشة، قال: فقلت: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة، فما أستطيع هيبة لك، قال: فلا تفعل، ما ظننت أنّ عندي من علم فاسألني، فإن كان لي علم خبّرتك به. قال: ثمّ قال عمر: والله إن كنّا في الجاهليّة ما نعدّ للنّساء أمرا، حتّى أنزل الله فيهنّ ما أنزل وقسم لهنّ ما قسم، قال: فبينا أنا في أمر أتأمّره إذ قالت امرأتي: لو صنعت كذا وكذا، قال: فقلت لها: مالك ولما هاهنا، فيم تكلّفك في أمر أريده؟. فقالت لي: عجبا لك يا بن الخطّاب، ما تريد أن تراجع أنت، وإنّ ابنتك لتراجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى يظلّ يومه غضبان، فقام عمر فأخذ رداءه مكانه حتّى دخل على حفصة، فقال لها: يا بنيّة إنّك لتراجعين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى يظلّ يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله إنّا لنراجعه. فقلت: تعلمين أنّي أحذّرك عقوبة الله وغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... الحديث) * «2» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (التكلف) معنى
3-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج حين زاغت الشّمس فصلّى الظّهر، فلمّا سلّم قام على المنبر، فذكر السّاعة وذكر أن بين يديها أمورا عظاما، ثمّ قال: «من أحبّ أن يسأل عن
__________
(1) أحمد (2/ 200) ، وقال الشيخ أحمد شاكر (11/ 96) : إسناده صحيح، وأصله في الصحيحين.
(2) البخاري- الفتح 8 (4913) .(9/4252)
شيء فليسأل عنه، فو الله لا تسألوني عن شيء إلّا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا» ، قال أنس: فأكثر النّاس البكاء، وأكثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول:
«سلوني» فقال أنس: فقام إليه رجل، فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟. قال: «النّار» . فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: «أبوك حذافة» قال: ثمّ أكثر أن يقول: «سلوني، سلوني» . فبرك عمر على ركبتيه، فقال: رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمّد صلّى الله عليه وسلّم رسولا. قال: فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قال عمر ذلك، ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أولى والّذي نفسي بيده، لقد عرضت عليّ الجنّة والنّار آنفا في عرض هذا الحائط، وأنا أصلّي، فلم أر كاليوم في الخير والشّرّ» ) * «1» .
4-* (عن عائشة- رضي الله عنها-: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها وعندها امرأة. قال: «من هذه؟» ، قالت: فلانة- تذكر من صلاتها-. قال: «مه.
عليكم بما تطيقون، فو الله لا يملّ الله حتّى تملّوا» وكان أحبّ الدّين إليه ما داوم عليه صاحبه) * «2» .
5-* (عن أنس- رضي الله عنه-: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم رأى شيخا يهادى بين ابنيه، قال: «ما بال هذا؟» ، قالوا: نذر أن يمشي. قال: «إنّ الله- عن تعذيب هذا نفسه- لغنيّ» ، وأمره أن يركب) * «3» .
6-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- أنّه قال بينا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظلّ ولا يتكلّم ويصوم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مره فليتكلّم وليستظلّ، وليقعد، وليتمّ صومه» ) * «4» .
7-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: دخل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فإذا حبل ممدود بين السّاريتين فقال: «ما هذا الحبل؟» قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلّقت. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لا «حلّوه، ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد» ) * «5» .
8-* (عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، في سفر، فرأى رجلا قد اجتمع النّاس عليه، وقد ظلّل عليه، فقال: «ما له؟» قالوا: رجل صائم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس من البرّ أن تصوموا في السّفر» ) * «6» .
9-* (كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إليّ ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكتب إليه: إنّ نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في دبر كلّ صلاة: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير.
اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» وكتب إليه: أنّه كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السّؤال، وإضاعة المال، وكان ينهى عن عقوق الأمّهات، ووأد البنات، ومنع وهات) * «7» .
10-* (عن زيد بن ثابت- رضي الله عنه-
__________
(1) البخاري- الفتح 13 (7294) ، ومسلم (2359) .
(2) البخاري- الفتح 1 (43) واللفظ له. ومسلم (785) .
(3) البخاري- الفتح 4 (1865) واللفظ له. ومسلم (1642) .
(4) البخاري- الفتح 11 (6704) .
(5) البخاري- الفتح 3 (1150) واللفظ له. ومسلم (784) .
(6) البخاري- الفتح 4 (1946) . ومسلم (1115) واللفظ له.
(7) البخاري- الفتح 13 (7292) .(9/4253)
أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم اتّخذ حجرة في المسجد من حصير فصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها ليالي حتّى اجتمع إليه ناس، ثمّ فقدوا صوته ليلة فظنّوا أنّه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم. فقال: «ما زال بكم الّذي رأيت من صنيعكم حتّى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلّوا أيّها النّاس في بيوتكم، فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلّا الصّلاة المكتوبة» ) * «1» .
11-* (عن سعد بن أبي وقّاص- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم فحرّم من أجل مسألته» ) * «2» .
12-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تحلّم بحلم لم يره كلّف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، أو يفرّون منه صبّ في أذنه الآنك «3» يوم القيامة، ومن صوّر صورة عذّب وكلّف أن ينفخ فيها، وليس بنافخ» . قال سفيان: وصله لنا أيّوب، وقال قتيبة: حدّثنا أبو عوانة عن قتادة عن عكرمة عن أبي هريرة قوله: «من كذب في رؤياه» ) * «4» .
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (التكلف)
1-* (عن ثابت: عن أنس- رضي الله عنه- قال: كنّا عند عمر فقال: نهينا عن التّكلّف) * «5» .
2-* (عن مسروق قال: أتينا عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: يا أيّها النّاس من علم شيئا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإنّ من العلم أن يقول الرّجل لما لا يعلم الله أعلم فإنّ الله- عزّ وجلّ- قال لنبيّكم صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (ص/ 86)) * «6» .
3-* (قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما-: في وصف بني إسرائيل لمّا طلب منهم موسى- عليه السّلام- أن يذبحوا بقرة: لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها، ولكنّهم شدّدوا فشدّد عليهم) * «7» .
4-* (وقال أيضا- رضي الله عنهما- في معنى قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ:
(البقرة/ 71) كادوا أن لا يفعلوا ولم يكن ذلك الّذي أرادوا لأنّهم أرادوا أن لا يذبحوها، يعني- مع هذا البيان، وهذه الأسئلة والأجوبة والإيضاح ما ذبحوها إلّا بعد الجهد، وفي هذا ذمّ لهم وذلك أنّه لم يكن
__________
(1) البخاري- الفتح 13 (7290) .
(2) البخاري- الفتح 13 (7289) واللفظ له. مسلم (2358) .
(3) الآنك: الرصاص المذاب.
(4) البخاري- الفتح 12 (7042) .
(5) البخاري- الفتح 13 (7293) .
(6) تفسير ابن كثير (4/ 44) .
(7) المرجع السابق (1/ 110) ، وقال: إسناده صحيح.(9/4254)
غرضهم إلّا التّعنّت) * «1» .
5-* (قال قتادة: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ (الملك/ 5) : خلق هذه النّجوم لثلاث:
جعلها زينة للسّماء، ورجوما للشّياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأوّل فيها بغير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلّف مالا علم له به. وصله عبد بن حميد من طريق شيبان عنه به وزاد في آخره: وإنّ ناسا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النّجوم كهانة: من غرس بنجم كذا كان كذا، ومن سافر بنجم كذا كان كذا، ولعمري ما من النّجوم نجم إلّا ويولد به الطّويل والقصير والأحمر والأبيض والحسن والدّميم، وما علم هذه النّجوم وهذه الدّابّة وهذا الطّائر شيئا من هذا الغيب) * «2» .
6-* (قال البخاريّ- رحمه الله-: مدح النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم صاحب الحكمة حين يقضي بها ويعلّمها ولا يتكلّف من قبله، ومشاورة الخلفاء وسؤالهم أهل العلم) * «3» .
7-* (قال ابن كثير- رحمه الله تعالى-: يقول تعالى: قل يا محمّد لهؤلاء المشركين: ما أسألكم على هذا البلاغ وهذا النّصح أجرا تعطونيه من عرض الحياة الدّنيا وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (ص/ 86) أي وما أريد على ما أرسلني الله تعالى به، ولا أبتغي زيادة عليه بل ما أمرت به أدّيته لا أزيد عليه ولا أنقص منه، وإنّما أبتغي بذلك وجه الله- عزّ وجلّ- والدّار
الآخرة) * «4» .
8-* (قال ابن عقيل- رحمه الله تعالى-: قال لي رجل: أنغمس في الماء مرارا كثيرة وأشكّ هل صحّ لي الغسل أم لا؟ فما ترى في ذلك؟ فقلت له: اذهب فقد سقطت عنك الصّلاة. قال وكيف؟ قال: لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «رفع القلم عن ثلاثة: المجنون حتّى يفيق، والنّائم حتّى يستيقظ، والصّبيّ حتّى يبلغ» . ومن ينغمس في الماء مرارا ويشكّ هل أصابه الماء أم لا فهو مجنون) * «5» .
9-* (لا يتعمّق أحد في الأعمال الدّينيّة، ويترك الرّفق إلّا عجز، وانقطع فيغلب) * «6» .
10-* (وقال أيضا- رحمه الله-: الأخذ بالعزيمة في موضع الرّخصة تنطّع، كمن يترك التّيمّم عند العجز عن استعمال الماء، فيفضي به استعماله إلى حصول الضّرر) * «7» .
11-* (قال ابن المنيّر- رحمه الله-: رأينا ورأى النّاس قبلنا أنّ كلّ متنطّع في الدّين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة فإنّه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدّي إلى الملال والمبالغة في التّطوّع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلّي اللّيل كلّه ويغالب النّوم إلى أن غلبته عيناه في آخر اللّيل، فنام عن صلاة
__________
(1) تفسير ابن كثير (1/ 111) .
(2) فتح الباري (6/ 341) .
(3) المرجع السابق (13/ 311) .
(4) تفسير ابن كثير (4/ 44) .
(5) إغاثة اللهفان (1/ 134) .
(6) فتح الباري (1/ 117) .
(7) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.(9/4255)
الصّبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشّمس فخرج وقت الفريضة) * «1» .
12-* (قيل في المثل: لا يكن حبّك كلفا، ولا بغضك تلفا) * «2» .
13-* (قال زهير:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم) * «3» .
14-* (قال أبو كبير:
أزهير هل عن شيبة من مصرف ... أم لا خلود لباذل متكلّف؟) * «4» .
15-* (علامة المتكلّف كما قال ابن المنذر ثلاث: أن ينازل من فوقه، ويتعاطى مالا ينال، ويقول مالا يعلم) * «5» .
16-* (قال الماورديّ في قوله تعالى: وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ فيه ثلاثة أوجه أحدها: وما أنا من المتكلّفين لهذا القرآن من تلقاء نفسي.
الثّاني: وما أنا من المتكلّفين لأن آمركم بما لم أومر به.
الثّالث: وما أنا بالّذي أكلّفكم الأجر) * «6» .
17-* (وقال ابن زيد في قوله تعالى: وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ وما أنا من المتكلّفين أتخرّص وأتكلّف ما لم يأمرني الله به) * «7» .
من مضار (التكلف) المذموم
(1) هو أقرب إلى الرّياء منه إلى الحقّ.
(2) يسخط الرّبّ- عزّ وجلّ- ويقود صاحبه إلى النّيران.
(3) لا يحبّه النّاس ويبتعدون عنه.
(4) يشعر بقلق النّفس واضطرابها.
(5) التّكلّف قد يحبط عمل صاحبه، فيلقاه يوم القيامة هباء منثورا.
__________
(1) المرجع السابق نفسه..
(2) بصائر ذوي التمييز (4/ 376) .
(3) بصائر ذوي التمييز (4/ 376) .
(4) لسان العرب (9/ 307) .
(5) روح المعاني (23/ 230) .
(6) النكت والعيون (5/ 112) .
(7) تفسير الطبري (مج 10/ ج 23/ ص 120) .(9/4256)
التناجش
التّناجش لغة:
مصدر قولهم: تناجش يتناجش، وهو مأخوذ من مادّة (ن ج ش) الّتي تدلّ- كما يقول ابن فارس- على إثارة شيء، ومن ذلك النّجش، وهو أن تزايد في المبيع بشيء كثير لينظر إليك النّاظر فيقع فيه، وهو الّذي جاء في حديث «لا تناجشوا» «1» كأنّ النّاجش استثار تلك الزّيادة «2» .
ويقال: نجشت الصّيد أي استثرته، والنّاجش:
الّذي يحوش الصّيد، ونجشت الإبل: جمعتها بعد تفرّق «3» ، وقيل إنّ التّناجش مأخوذ من النّجش بمعنى الختل والخديعة، ومن هذا المعنى قيل للصّائد ناجش لأنّه يختل الصّيد ويحتال له «4» ، وقال ابن حجر:
النّجش في اللّغة: تنفير الصّيد واستثارته من مكانه ليصاد «5» .
وقال ابن منظور: أصل النّجش: البحث وهو استخراج الشّيء والنّجش أيضا: استثارة الشّيء، قال رؤبة:
والخسر قول الكذب المنجوش
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
1/ 10/ 11
والمنجوش (هنا) المفتعل المكذوب، يقال:
رجل نجوش ونجّاش ومنجش ومنجاش: أي مثير للصّيد، والمنجش والمنجاش (أيضا) الوقّاع بين النّاس.
والنّجش «6» والتّناجش: الزّيادة في السّلعة أو المهر ليسمع بذلك، فيزاد فيه..، وفي الحديث الشّريف: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن النّجش في البيع وقال: «لا تناجشوا» والمراد- كما قال أبو عبيد- النّهي عن أن يزيد الرّجل ثمن السّلعة وهو لا يريد شراءها، ولكن ليسمعه غيره، فيزيد بزيادته، وهو الّذي يروى فيه عن ابن أبي أوفى: النّاجش آكل ربا خائن «7» ، وفي التّناجش شيء آخر مباح، وهي المرأة الّتي تزوّجت، وطلّقت مرّة بعد أخرى، أو السّلعة الّتي اشتريت مرّة بعد مرّة ثمّ بيعت، وقال ابن شميل والنّجش أن تمدح سلعة غيرك ليبعيها أو تذمّها لئلّا تنفق عنه «8» ، قال ابن الأثير: الأصل في النّجش: تنفير الوحش من مكان إلى مكان (آخر للإيقاع به) «9» ، وذهب الفيّوميّ إلى أنّ الأصل في ذلك هو معنى الاستتار، لأنّ
__________
(1) انظر تخريج هذا الحديث في قسم «الأحاديث الواردة في الصفة» حديث رقم (3) .
(2) مقاييس اللغة لابن فارس 5/ 394.
(3) الصحاح 3/ 1021.
(4) نقل ابن حجر هذا الرأي عن ابن قتيبة، انظر فتح الباري 4/ 416.
(5) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(6) النجش يقال بسكون الجيم وفتحها.
(7) انظر الأثر رقم 1.
(8) لسان العرب 6/ 350- 351.
(9) النهاية لابن الاثير 5/ 21.(9/4257)
النّاجش يستر قصده «1» . وقد سمّيت عمليّة الإغراء أو الاستثارة ب «التّناجش» (وهو «تفاعل» من النّجش) لأنّ عمليّة الإغراء غالبا ما يشترك فيها النّاجش والبائع، يقول ابن حجر مؤكّدا هذا المعنى:
ويقع ذلك منه (أي النّاجش) بمواطأة المالك، فيشتركان في الإثم «2» ، وقد يختصّ به (أي بالتّناجش) المغري بالسّلعة، وربّما اختصّ به البائع «3» .
التّناجش اصطلاحا:
قال الإمام الشّافعيّ- رحمه الله-: النّجش: أن يحضر الرّجل السّلعة تباع، فيعطي بها الشّيء «4» ، وهو لا يريد شراءها ليقتدي به السّوّام، فيعطون بها أكثر ممّا كانوا يعطون لو لم يسمعوا سومه «5» .
وقال الإمام التّرمذيّ: النّجش: هو أن يأتي الرّجل الّذي يفصل السّلعة إلى صاحب السّلعة فيستام بأكثر ممّا تسوى «6» ، وذلك عندما يحضره المشتري، يريد أن يغترّ المشتري به (أي بما قاله ثمنا للسّلعة) ، وليس من رأيه الشّراء وإنّما يريد أن يخدع المشتري بما يستام» «7» .
وقال الجرجانيّ: النّجش أن تزيد في ثمن سلعة ولا رغبة لك في شرائها «8» .
وقال الإمام ابن حجر: النّجش: هو الزّيادة في ثمن السّلعة ممّن لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، وقد سمّي تناجشا لأنّ النّاجش يثير الرّغبة في السّلعة ويقع ذلك بمواطأة البائع فيشتركان في الإثم «9» .
وقد ذكر الفيّوميّ ما يفيد أنّ التّناجش يقع أيضا في النّكاح عندما قال: يقال: نجش الرّجل: إذا زاد في سلعة أكثر من ثمنها ... وكذلك في النّكاح وغيره، وفعل ذلك هو التّناجش «10» .
أنواع التّناجش:
للتّناجش (النّجش) صور عديدة أهمّها:
الأولى: أن يشترك النّاجش والبائع للسّلعة في خداع المشتري بأن يتواطأ كلاهما على ذلك.
الثّانية: أن يقع الإغراء بدون علم البائع بأن يتطوّع النّاجش من تلقاء نفسه برفع ثمن السّلعة.
الثّالثة: انفراد البائع بعمليّة الإغراء بأن يزعم أنّه اشترى بأكثر ممّا اشتراها به، وربّما حلف على ذلك ليغرّ المشتري، وقد يقع ذلك منه بأن يخبر بأنّه أعطي في السّلعة ما لم يعط.
الرّابعة: أن يأتي شخص إلى وليّ أمر فتاة وقد حضر من يخطبها فيذكر مهرا أعلى ليغرّ الخاطب
__________
(1) المصباح المنير 2/ 594.
(2) انظر فتح الباري 4/ 416.
(3) انظر أنواع التناجش.
(4) يعطى بها الشيء، أي يذكر لها ثمنا معينا.
(5) انظر فتح الباري 4/ 417.
(6) استام اي ساوم، والمراد بالمساومة: المجاذبة بين المشتري والبائع على السلعة، وفصل ثمنها.
(7) سنن الترمذي 3/ 588.
(8) التعريفات ص 259، والى مثل هذا ذهب ابن قدامة في المغنى 4/ 234.
(9) فتح الباري 4/ 416، وقد أشار ابن حجر بذلك الى تقليل تسمية الفقهاء لهذا الضرب من الخديعة ب «التناجش» بدلا من «النجش» .
(10) انظر المصباح المنير 2/ 594.(9/4258)
بذلك، أو يذمّها.
الخامسة: أن يمدح شخص سلعة ما كي تباع، أو يذمّها كي لا تنفق على صاحبها (وذلك كما في الإعلانات المغرضة الّتي لا تتّفق مع الواقع» «1» .
حكم التّناجش:
قال ابن بطّال: أجمع العلماء على أنّ النّاجش عاص بفعله واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك، فقال جماعة من أهل الحديث: إنّ البيع فاسد، وقد جاء ذلك في رواية عن مالك، وهو المشهور عند الحنابلة إذا كان ذلك بمواطأة المالك أو صنعه (أي في الصّورتين الأولى والثّالثة من صور التّناجش) ، وقال الأحناف:
البيع صحيح (مع الإثم) ، وهذا هو الأصحّ عند الشّافعيّة.
والمشهور عند المالكيّة (وهو وجه عند الشّافعيّة أيضا) ثبوت الخيار للمشتري، إن شاء أنفذ البيع وإن شاء نقضه «2» ، وذلك قياسا على المصرّاة «3» ، وقيّد بعضهم تحريم النّجش بأن تكون الزّيادة النّاتجة عنه فوق ثمن المثل، ولو أنّ رجلا رأى سلعة تباع بدون قيمتها فزاد فيها لتصل إلى قيمتها لم يكن ناجشا عاصيا، وفي هذا القول نظر لأنّ له أن يعلم صاحب السّلعة بقيمتها الحقيقيّة ويترك له الخيار في البيع «4» .
وقال ابن قدامة: النّجش منهيّ عنه، وهو حرام وخداع، وفيه تغرير بالمشتري، فإن اشترى مع النّجش فالشّراء صحيح في قول أكثر أهل العلم منهم الشّافعيّ وأصحاب الرّأي، وعن أحمد أنّ البيع باطل لأنّ النّهي يقتضي الفساد..
قال ابن قدامة: ولنا «5» أنّ النّهي عاد إلى النّاجش لا إلى العاقد فلم يؤثّر في البيع، ولأنّ النّهي لحق الآدميّ فلم يفسد العقد.. وحقّ الآدميّ يمكن جبره بالخيار أو زيادة الثّمن، لكن إن كان في البيع غبن لم تجر العادة بمثله، فللمشتري الخيار بين الفسخ والإمضاء، وإن كان يتغابن بمثله فلا خيار له، سواء كان النّجش بمواطأة البائع أو لم يكن. وقال أصحاب الشّافعيّ: إن لم يكن ذلك بمواطأة البائع وعلمه فلا خيار له، واختلفوا فيما إذا كان بمواطأة منه، فقال بعضهم لا خيار للمشتري لأنّ التّفريط منه حيث اشترى ما لا يعرف قيمته «6» (وقال البعض له الخيار) .
للاستزادة: انظر صفات: الغش- الخداع- الغلول- التطفيف- المكر- اللؤم- الخبث- سوء المعاملة- الغدر.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الأمانة- التعاون على البر والتقوى- العفة- حسن المعاملة- الصدق- الإخلاص- المروءة] .
__________
(1) استنبطنا هذه الصور من جملة أقوال الفقهاء وأهل اللغة.
(2) باختصار وتصرف يسير عن ابن حجر، فتح الباري 4/ 416.
(3) المصراة هي الشاة او البقرة او نحوهما إذا صرى لبنها وحقن بالضرع فلم تحلب، وقيل: التصرية ربط أخلاف الناقة أو الشاة وترك حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر، فيظن المشتري أن ذلك عادتها فيزيد في ثمنها.
(4) فتح الباري (بتصرف) 4/ 417.
(5) أي يشهد لصحة مذهبنا.
(6) بتلخيص وتصرف يسير عن المغني لابن قدامة 4/ 234- 235.(9/4259)
الآيات الواردة في «التناجش» معنى
1- إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) «1»
وانظر أيضا الآيات الواردة في صفتي: «الخداع، والغش»
__________
(1) آل عمران: 77 مدنية. وجه ارتباط هذه الآية الكريمة بالتناجش ما روي عن سبب نزولها من أن رجلا أقام سلعته فحلف بالله لقد أعطي فيها ما لم يعط. فنزلت هذه الآية (انظر: فتح الباري 4/ 417) .(9/4260)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التناجش)
1-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال:
نهى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن النّجش «1» ) * «2» .
2-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبيع حاضر لباد «3» ، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرّجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها) * «4» .
3-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إيّاكم والظّنّ فإنّ الظّنّ أكذب الحديث، ولا تجسّسوا- أو لا تحسّسوا- «5» ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا» ) * «6» .
4-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لا يتلقّى الرّكبان لبيع، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا بيع حاضر لباد، ولا تصرّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النّظرين بعد أن يحلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردّها وصاعا من تمر» ) * «7» .
5-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يبيع بعضكم على بيع بعض، ونهى عن النّجش، ونهى عن بيع حبل الحبلة، ونهى عن المزابنة» ) * «8» . والمزابنة بيع الثّمر بالتّمر كيلا، وبيع الكرم بالزّبيب كيلا «9» .
__________
(1) وردت كلمة «النجش» في الحديث بسكون الجيم وفتحها، قال ابن حجر المشهور أنه بفتح الجيم وحكى المطرزي فيه السكون قلت: وأكثر اللغوين ذكروا ما رواه المطرزي: انظر المقدمة اللغوية.
(2) البخاري- الفتح 4 (2142) .
(3) معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم «لا يبيع حاضر لباد» أي لا يكون الحاضر «ساكن الحضر» للبادي «ساكن البادية» سمسارا، أي يتقاضى أجرة منه ليبيع له بضاعته، ويجوز ذلك إذا كان البيع بدون أجرة. من باب النصيحة. انظر تفسير ابن عباس للعبارة وشرح ابن حجر لها في فتح الباري 4 ص (433) .
(4) البخاري- الفتح 4 (2140) واللفظ له، ومسلم (1413) .
(5) الشك من الراوي، وقد عبر عنه بلفظ أو.
(6) البخاري- الفتح 10 (6066) واللفظ له، ومسلم (2563)
(7) البخاري- الفتح 4 (2160) ، ومسلم (1515) واللفظ له.
(8) يبدو أن تفسير المزابنة إمّا من كلام ابن عمر، وإمّا من كلام صاحب المسند.
(9) احمد في المسند (5862) بتحقيق الشيخ أحمد شاكر، قال: إسناده صحيح، وهو في الحقيقة أربعة أحاديث.(9/4261)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التناجش) معنى
6-* (عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أنّ رجلا ذكر للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه يخدع في البيوع فقال: «إذا بايعت فقل: لا خلابة «1» » ) * «2» .
7-* (عن قيس بن سعد بن عبادة- رضي الله عنه- قال: لولا أنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «المكر والخديعة في النّار» لكنت من أمكر النّاس) * «3» .
8-* (عن عائشة- رضي الله عنها- قالت:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ» ) * «4» .
وقد جمع البخاريّ بين جزء من حديث قيس وحديث عائشة- رضي الله عنهم جميعا- في ترجمته لباب النّجش فقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الخديعة في النّار، ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ» ) * «5» .
9-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السّبيل. ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدّقه، وهو على غير ذلك، ورجل بايع إماما لا يبايعه إلّا لدنيا، فإن أعطاه منها وفى، وإن لم يعطه منها لم يف» ) * «6» .
10-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يسم المسلم على سوم أخيه ولا يخطب على خطبته» ) * «7» .
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (التناجش)
1-* (قال ابن أبي أوفى: النّاجش آكل ربا خائن) * «8» .
2-* (قال الإمام البخاريّ: هو (أي النّجش) خداع باطل لا يحلّ) * «9» .
3-* (عن عمر بن عبد العزيز- رحمه الله تعالى- أنّ عاملا له باع سبيّا فقال له: لولا أنّي كنت أزيد فأنفقه لكان كاسدا، فقال له عمر: هذا نجش لا يحلّ، فبعث مناديا ينادي: إنّ البيع مردود، وأنّ البيع
__________
(1) لا خلابة أي لا خديعة، ومعنى يخدع في البيوع أنه يلقى منها غبنا.
(2) البخاري- الفتح 4 (2117) ، واللفظ له، ومسلم (1533) .
(3) فتح الباري 4/ 417 قال ابن حجر إسناده لا بأس به، أخرجه الطبراني في الصغير والحاكم في المستدرك، ومجموع إسنادهما يدل على أن للمتن أصلا وقال الألباني: صحيح، انظر صحيح الجامع (1057) .
(4) البخاري- الفتح 5 (2697) .
(5) انظر فتح الباري ج 4 ص 416
(6) مسلم (108) واللفظ له وبعضه عند البخاري- الفتح 5 (2353) .
(7) مسلم (1413) .
(8) فتح الباري 4/ 416.
(9) جاء ذلك في ترجمة الباب 60 من كتاب البيوع، قال ابن حجر هذه العبارة من تفقه المصنف، وليس من تتمة كلام ابن أبي أوفى، انظر تعقيب ابن حجر في فتح الباري 4/ 417.(9/4262)
لا يحلّ) * «1» .
4-* (قال الإمام الشّافعيّ: إن نجش رجل فالنّاجش آثم فيما يصنع، والبيع جائز لأنّ البائع غير النّاجش) * «2» .
5-* (قال الإمام التّرمذيّ: هذا (النّجش) ضرب من الخديعة) * «3» .
6-* (عن عامر (الشّعبيّ) أنّ رجلا أقام سلعته أوّل النّهار، فلمّا كان آخره جاء رجل يساومه، فحلف: لقد منعها أوّل النّهار من كذا وكذا، ولولا المساء ما باعها به «4» ، فأنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا.. (آل عمران/ 77) «5» ، قال الإمام الطّبريّ: روينا عن مجاهد نحوه) * «6» .
7-* (عن قتادة- رضي الله عنه- في الآية الكريمة السّابقة: أنزلهم الله (أي النّجّاش الّذين يحلفون زورا) منزلة السّحرة) * «7» .
8-* (عن قتادة- رضي الله عنه- أنّ عمران ابن حصين كان يقول: من حلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال أخيه فليتبوّأ مقعده من النّار، فقال له قائل: شيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال لهم: إنّكم لتجدون ذلك (في كتاب الله) ثمّ قرأ هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا ... (آل عمران/ 77)) *.
9-* (قال أيّوب السّختيانيّ: «يخادعون الله كأنّما يخادعون آدميا «8» ، لو أتوا الأمر عيانا كان أهون عليّ» .
قال ابن حجر في شرح هذه العبارة: «لو أعلن (المخادعون) بأخذ الزّائد على الثّمن معاينة بلا تدليس لكان (الأمر) أسهل لأنّه (أي هذا الزّائد يجعل آلة للخداع) » ) * «9» .
10-* (قال ابن حجر: سالك المكر والخديعة حتّى يفعل المعصية أبغض عند النّاس ممّن يظاهر بها، وهو في قلوبهم أوضع، وهم عنه أشدّ نفرة) * «10» .
11-* (قال ابن العربيّ: لو أنّ رجلا رأى سلعة رجل تباع بدون قيمتها فزاد فيها لتنتهي إلى قيمتها لم يكن ناجشا عاصيا، بل يؤجر على ذلك بنيّته) * «11» .
__________
(1) فتح الباري 4/ 416.
(2) سنن الترمذي 3/ 589، وربما كان هذا النجش بدون علم البائع، انظر أحكام النجش فيما سبق.
(3) سنن الترمذي 3/ 589.
(4) أي بالثمن المذكور في المساومة.
(5) انظر الآية بتمامها في قسم الآيات.
(6) تفسير الطبري 3/ 230.
(7) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(8) المراد بالمخادعين هنا من يخدعون الناس في البيوع ويحتالون عليهم حتى يبيعوها بأزيد من ثمنها، وقد صدر البخاري بعبارة أيوب هذه الباب الذي عقده لما ينهى عنه من الخداع في البيوع، انظر فتح الباري 12/ 352.
(9) فتح الباري 12/ 352.
(10) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(11) فتح الباري 4/ 417.(9/4263)
من مضار (التناجش)
(1) التّناجش (النّجش) نوع من الخديعة والمكر يورث صاحبه جهنّم وساءت مصيرا.
(2) التّناجش يغضب الله عزّ وجلّ، ويبوء النّاجش بسخط الجبّار وسخط النّاس وبغضهم له.
(3) التّناجش يفقد الثّقة بين البائع والمشتري، ويجلب ذلك بوار تجارة من يعرف عنه ذلك.
(4) التّناجش أكل لأموال النّاس بالباطل.
(5) المتناجشون لا يكلّمهم الله- عزّ وجلّ- ولا ينظر إليهم يوم القيامة.
(6) النّاجش مكروه من النّاس، ينفرون منه، ويبغضونه بقلوبهم.
(7) شيوع هذه الصّفة الذّميمة في مجتمع من المجتمعات يؤدّي إلى تقويض قوّته الاقتصاديّة لعدم الثّقة وانعدام الأمانة.(9/4264)
التنازع
التنازع لغة:
مصدر قولهم: تنازع يتنازع، وهو مأخوذ من مادّة (ن ز ع) الّتي تدلّ على قلع الشّيء، ومن ذلك:
نزعت الشّيء من مكانه نزعا (إذا قلعته) ، ونازعت إلى الأمر نزاعا، ونزعت إليه، إذا اشتهيته، ونزع عن الأمر نزوعا إذا تركه «1» ، وقال الرّاغب: يقال: نزع الشّيء جذبه من مقرّه، ويستعمل ذلك في الأعراض (أيضا) ، فيقال: نزع العداوة والمحبّة من قلبه، ومنه قول الله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ (الحجر/ 47) ، والنّزع: السّلب في قوله تعالى: وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ (آل عمران/ 26) ، والتّنازع والمنازعة المجاذبة، ويعبّر به عن المخاصمة والمجادلة «2» ، قال تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ (النساء/ 59) قيل في تفسيرها: أي تجادلتم واختلفتم، فكأنّ كلّ واحد ينتزع حجّة الآخر ويذهبها. والمنازعة على ذلك: مجاذبة الحجج «3» ، وهذه المجاذبة تكون في المعاني والأعيان، فمن المنازعة في المعاني قوله تعالى:
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
37/ 23/ 8
فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ (الحج/ 67) المنازعة هنا:
المجادلة، والمعنى: لا تجادلهم في أمر المناسك «4» ، ومن المنازعة في الأعيان ما جاء في الحديث الشّريف: «أنا فرطكم على الحوض، فلألفينّ ما نوزعت في أحدكم، فأقول: هذا منّي» أي يجذب ويؤخذ منّي «5» ، وقال الأعشى:
نازعتهم قضب الرّيحان متّكئا «6»
ومن معاني التّنازع: التّخاصم، قال الجوهريّ:
يقال: نازعته منازعة ونزاعا إذا جاذبته في الخصومة، وبينهم نزاعة أي خصومة في حقّ، وقولهم في المثل:
«صار الأمر إلى النّزعة» إذا قام بإصلاحه أهل الأناة، والمنزعة (بالفتح) ما يرجع إليه الرّجل من أمره ورأيه وتدبيره «7» .
لقد أضاف الفيروز اباديّ إلى المنازعة معنى التّناول «8» ، ولعلّ المراد تناول الحجج، أو تناول الأعيان، ومن الأخير قوله تعالى يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً (الطور/ 23) ، أي يتجاذبونها (ويتناولونها)
__________
(1) مقاييس اللغة لابن فارس 5/ 415.
(2) المفردات للراغب ص 488، وبصائر ذوي التمييز 5/ 36.
(3) تفسير القرطبي 5/ 169.
(4) المرجع السابق 12/ 63.
(5) النهاية لابن الأثير 5/ 40.
(6) ساق القرطبي عن الأعشى شاهدا للمنازعة بمعناها العام الذي يشمل منازعة الحجج وتنازع الأعيان. تفسير القرطبي 5/ 169.
(7) الصحاح للجوهري 3/ 1290.
(8) القاموس المحيط ص 990 (ط. بيروت) .(9/4265)
تجاذب ملاعبة «1» .
وقال ابن منظور: أصل النّزع: الجذب والقلع، ومنه نزع الرّوح من الميّت، ونزع القوس إذا جذبها، وبئر نزوع ونزيع قريبة القعر تنزع دلاؤها بالأيدي نزعا لقربها، وفي الحديث: «رأيتني أنزع على قليب» معناه رأيتني في المنام أستقي بيدي من قليب. والنّزاعة والنّزاعة، والمنزعة والمنزعة الخصومة، والتّنازع في الخصومة مجاذبة الحجج فيما يتنازع فيه الخصمان، يقال قد نازعه منازعة ونزاعا: جاذبه في الخصومة، قال ابن مقبل:
نازعت ألبابها لبّي بمقتصر ... من الأحاديث حتّى زدنني لينا
أي نازع لبّي ألبابهنّ، والتّنزّع التّسرّع، يقال:
رأيت فلانا متنزّعا إلى كذا أي متسرّعا إليه «2» ، وأمّا قول الله تعالى حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ (آل عمران/ 152) فالمراد اختلفتم، يعني الرّماة حين قال بعضهم لبعض: نلحق الغنائم، وقال بعضهم: بل نثبت في مكاننا الّذي أمرنا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالثّبات فيه «3» .
التنازع اصطلاحا:
قال المناويّ: التّنازع والمنازعة: المجاذبة ويعبّر بها عن المخاصمة والمجادلة «4» . قال: والنّازع:
الشّيطان لأنّه ينزع بين القوم أي يفرّق ويفسد «5» .
الفرق بين التّفرق والتنازع:
يتجلّى الفرق بين الأمرين أنّ التّفرّق والتّفريق خاصّ بالأعيان، أمّا التّنازع فيكون في الأعيان والمعاني على سواء، وأيضا فإنّ التّنازع لا بدّ وأن يصحبه اجتماع، أمّا التّفرّق فقد يكون بعد الاجتماع وقد يكون بدونه أي إنّه يحصل ابتداء، ومن وجوه الفرق أيضا أنّ ضدّ التّفرّق الاجتماع، وضدّ التّنازع الاتّحاد (وخاصّة في مجال الرّأي) ، وإذا اجتمع الأمران فإنّ التّنازع يكون سببا للفرقة، بحيث تكون كالنّتيجة له.
التنازع بين المدح والذّم:
قال الشّيخ محمّد الغزاليّ: إنّ التّنازع واختلاف الرّأي حول أمر من الأمور قد يكون مطلوبا إذا صحبته نيّة حسنة، وكان الغرض منه إظهار الحقّ بالبرهان والحجّة، وهو حينئذ أقرب إلى التّشاور منه إلى الجدال والخصام.
إنّ اختلاف الأفهام واشتجار الآراء ليس بمستغرب في الحياة ولكن شريطة ألّا يؤدّي ذلك للتّقاطع (التّفرّق) ، والشّقاق» ، ولو تجرّدت النيّات للبحث عن الحقيقة، وأقبل روّادها وهم بعداء عن طلب الغلب والسّمعة والرّئاسة والثّراء لصفّيت المنازعات الّتي ملأت التّاريخ بالأكدار والمآسي، وأردف- رحمه الله- قائلا: إنّ النّاس إذا لم يجمعهم الحقّ شعّبهم الباطل، وإذا لم يستهوهم نعيم الآخرة
__________
(1) انظر تفسير البحر المحيط 8/ 147.
(2) لسان العرب «نزع» (4395- 4397) بتصرف واختصار.
(3) تفسير القرطبي 4/ 152.
(4) التوقيف على مهمات التعاريف ص 323
(5) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.(9/4266)
تخاصموا على متاع الدّنيا ولهذا كان (التّنازع) والتّطاحن المرّ من خصائص الجاهليّة المظلمة وديدن من لا إيمان لهم «1» .
يقول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: «لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض» «2» . يعني أنّ هذا العراك الدّامي هو شأن الكافرين المنقسمين على أنفسهم أحزابا متنافرة، لقد تلقّى المسلمون في أحد درسا مؤلما أفقدهم من رجالهم سبعين بطلا، وردّتهم إلى المدينة وهم يعانون من آلام الجراحات، ولم ذلك؟ مع أنّ إيمانهم بالله ودفاعهم عن الحقّ كانا يرشّحانهم للفوز المبين، ذلك لأنّهم تنازعوا وانقسموا وعصوا أمر الله ورسوله، قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ (آل عمران/ 152) .
إنّ الإسلام حريص على سلامة أمّته وحفظ كيانها وهو لذلك يطفيء بقوّة بوادر الخلاف والنّزاع، ويهيب بالأفراد كافّة أن يتكاتفوا على إخراج الأمّة من ورطات الشّقاق «يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النّار» «3» . وأعداء الإسلام يودّون أن يضعوا أيديهم ولو على شخص واحد ليكون طرفا ناتئا يستمسكون منه ويجذبون الأمّة كلّها عن طريقه، فلا جرم حينئذ أن يستأصل الإسلام هذا النّتوء لينجّي الجماعة كلّها من أخطار بقائه، ولذلك يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «4» .
ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرّق هذه الأمّة وهي جميع فاضربوه بالسّيف كائنا من كان «5» ، والخلاصة أنّ التّنازع إن كان يراد به مقارعة الحجّة بالحجّة إظهارا للحقّ فهو محمود شريطة أن يصحبه حسن النّيّة والرّغبة الصّادقة للوصول إلى مصلحة الأمّة، أمّا إذا كان المراد به تحقيق المصلحة الشّخصيّة أو حبّ الرّئاسة أو تفريق الجماعة، أو صحبته مخالفة لأمر من أمور الشّرع فهو مذموم منهيّ عنه.
[للاستزادة: انظر صفات: الجدال والمراء- البغض- التفرق- سوء الظن- الطمع- التعاون على الإثم والعدوان- التخاذل- الغي والإغواء- الفتنة- الضلال.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الاجتماع- الإخاء- الاعتصام- التعاون على البر والتقوى- التناصر- الاعتصام- الألفة] .
__________
(1) خلق المسلم (190) بتصرف واختصار.
(2) مسلم (66) ، والبخاري- الفتح 13 (7077) .
(3) الترمذي 4 (2166) ، وانظر صفة الاجتماع.
(4) خلق المسلم للشيخ محمد الغزالي (195- 197) بتصرف واختصار.
(5) مسلم (1852) .(9/4267)
الآيات الواردة في «التنازع»
1- وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) «1»
2- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) «2»
3- إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) «3»
4- وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) «4»
5- وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) «5»
6- قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61)
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) «6»
7- لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) «7»
__________
(1) آل عمران: 152 مدنية
(2) النساء: 59 مدنية
(3) الأنفال: 43 مدنية
(4) الأنفال: 46- 47 مدنية
(5) الكهف: 21 مكية
(6) طه: 61- 63 مكية
(7) الحج: 67 مدنية(9/4268)
الآيات الواردة في «التنازع» معنى
8- وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) «1»
9- ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) «2»
10- وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) «3»
11- كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) «4»
12- إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) «5»
13- إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) «6»
14- وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) «7»
15- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) «8»
16- وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) «9»
__________
(1) البقرة: 113 مدنية
(2) البقرة: 176 مدنية
(3) البقرة: 188 مدنية
(4) البقرة: 213 مدنية
(5) آل عمران: 19 مدنية
(6) آل عمران: 55 مدنية
(7) آل عمران: 105 مدنية
(8) النساء: 29 مدنية
(9) النساء: 157 مدنية(9/4269)
17- وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) «1»
18- قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) «2»
19- وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) «3»
20- وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) «4» 21- وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) «5»
22- لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) «6»
23- وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) «7»
24- وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) «8»
25- إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) «9»
26- فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) «10»
__________
(1) المائدة: 48 مدنية
(2) الأنعام: 164 مكية
(3) يونس: 19 مكية
(4) يونس: 93 مكية
(5) هود: 110 مكية
(6) النحل: 39 مكية
(7) النحل: 64 مكية
(8) النحل: 92 مكية
(9) النحل: 124 مكية
(10) مريم: 37 مكية(9/4270)
27- اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) «1»
28- إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) «2»
29- إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) «3»
30- أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) «4»
31- قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) «5»
32- وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) «6»
33- وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) «7»
34- وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) «8»
35- فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) «9»
36- وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) «10»
وانظر الآيات الواردة في صفة «التفرق»
الآيات الواردة في «التنازع» ولها معنى آخر
37- يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) «11»
__________
(1) الحج: 69 مدنية
(2) النمل: 76 مكية
(3) السجدة: 25 مكية
(4) الزمر: 3 مكية
(5) الزمر: 46 مكية
(6) فصلت: 45 مكية
(7) الشورى: 10 مكية
(8) الزخرف: 63 مكية
(9) الزخرف: 65 مكية
(10) الجاثية: 17 مكية
(11) الطور: 23 مكية(9/4271)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التنازع)
1-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: لمّا اشتدّ بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجعه قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده» قال عمر: إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللّغط. قال: «قوموا عنّي، ولا ينبغي عندي التّنازع» فخرج ابن عبّاس يقول: إنّ الرّزيّة كلّ الرّزيّة ما حال بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين كتابه) * «1» .
2-* (عن جنادة بن أبي أميّة قال: دخلنا على عبادة بن الصّامت وهو مريض، قلنا: أصلحك الله، حدّث بحديث ينفعك الله به سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: دعانا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فبايعناه، فقال «2» فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السّمع والطّاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة «3» علينا، وألّا ننازع الأمر أهله «4» ، قال: «إلّا أن تروا كفرا بواحا «5» عندكم من الله فيه برهان» ) * «6» . زاد في رواية أحمد: «وإن رأيت أن لك» «7» .
3-* (عن عبد الرّحمن بن عبد ربّ الكعبة.
قال: دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظلّ الكعبة والنّاس مجتمعون عليه. فأتيتهم فجلست إليه. فقال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلنا منزلا. فمنّا من يصلح خباءه. ومنّا من ينتضل «8» ، ومنّا من هو في جشره «9» . إذ نادى منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
الصّلاة جامعة «10» . فاجتمعنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فقال: «إنّه لم يكن نبيّ قبلي إلّا كان حقّا عليه أن يدلّ أمّته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شرّ ما يعلمه لهم وإنّ أمّتكم هذه جعل عافيتها في أوّلها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجأ فتنة فيرقّق «11» بعضها بعضا، وتجأ الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي. ثمّ تنكشف. وتجأ الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه. فمن أحبّ أن يزحزح عن النّار ويدخل الجنّة، فلتأته منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر. وليأت إلى النّاس الّذي يحبّ أن يؤتى إليه «12» . ومن بايع إماما، فأعطاه صفقة
__________
(1) البخاري- الفتح 1 (114) .
(2) في الفتح هكذا «فقال» ، ولعلها «فكان مما أخذ علينا» .
(3) المراد أن طاعتهم لمن يتولى عليهم لا تتوقف على إيصال حقوقهم، بل عليهم الطاعة ولو آثر غيرهم عليهم.
(4) زاد في رواية أبي داود (4/ 4090) «وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم» .
(5) الكفر البواح: هو الظاهر الصراح.
(6) البخاري- الفتح 13 (7056، 7057) واللفظ له، وأحمد، المسند 5/ 321، وأبو داود 4 (4090) .
(7) «إن» هنا مخففة من الثقيلة، والمعنى: وإن رأيت أنه لك.
(8) ينتضل: هو من المناضلة وهي المراماة بالنشاب.
(9) في جشره: وهي الدواب التي ترعى وتبيت مكانها.
(10) جامعة: هي بنصب الصلاة على الاغراء ونصب جامعة على الحال.
(11) فيرقّق بعضها بعضا: يرقّق أي يصير بعضها رقيقا أي خفيفا لعظم ما بعده فالثاني يجعل الأول رقيقا. وقيل معناه يشبه بعضها بعضا، وقيل يدور بعضها في بعض، وقيل معناه يسوق بعضها إلى بعض.
(12) أن يؤتى إليه: هذا من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلّم وبديع حكمه وهذه قاعدة مهمة فينبغي الاعتناء بها وإن الإنسان يلزمه أن لا يفعل مع النّاس إلّا ما يحب أن يفعلوه معه.(9/4272)
يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع. فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» فدنوت منه فقلت له:
أنشدك الله! آنت سمعت هذا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟
فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه. وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي. فقلت له: هذا ابن عمّك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا والله يقول:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً «النساء/ 29» . قال: فسكت ساعة ثمّ قال: أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله) * «1» .
4-* (عن سليمان بن يسار، أنّ أبا سلمة بن عبد الرّحمن وابن عبّاس اجتمعا عند أبي هريرة. وهما يذكران المرأة تنفس «2» بعد وفاة زوجها بليال. فقال ابن عبّاس عدّتها آخر الأجلين. وقال أبو سلمة قد حلّت. فجعلا يتنازعان ذلك. قال: فقال أبو هريرة:
أنا مع ابن أخي (أبي سلمة) فبعثوا كريبا (مولى ابن عبّاس) إلى أمّ سلمة يسألها عن ذلك؟ فجاءهم فأخبرهم أنّ أمّ سلمة قالت: إنّ سبيعة الأسلميّة نفست بعد وفاة زوجها بليال. وإنّها ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمرها أن تتزوّج) * «3» .
5-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن نتنازع في القدر فغضب حتّى احمرّ وجهه حتّى كأنّما فقيء في وجنته الرّمّان، فقال: «أبهذا أمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم؟
إنّما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت «4» عليكم، عزمت عليكم ألّا تتنازعوا فيه» ) * «5» .
6-* (عن جندب بن مكيث الجهنيّ- رضي الله عنه- قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غالب بن عبد الله الكلبيّ- كلب ليث- إلى بني ملوّح بالكديد «6» وأمره أن يغير عليهم. فخرج فكنت في سريّته فمضينا حتّى إذا كنّا بقديد به الحارث بن مالك وهو ابن البرصاء اللّيثيّ فأخذناه فقال: إنّما جئت لأسلم فقال غالب ابن عبد الله: إن كنت إنّما جئت مسلما فلن يضرّك رباط يوم وليلة وإن كنت على غير ذلك استوثقنا منك. قال:
فأوثقه رباطا ثمّ خلف عليه رجلا أسود كان معنا.
فقال: امكث معه حتّى نمرّ عليك فإن نازعك فاجتزّ «7» رأسه. قال: ثمّ مضينا حتّى أتينا بطن الكديد فنزلنا عشيشة «8» بعد العصر، فبعثني أصحابي في ربيئة «9» فعمدت إلى تلّ يطلعني على الحاضر فانبطحت عليه ... الحديث» ) * «10» .
__________
(1) مسلم 3 (1844) .
(2) تنفس: أي تلد.
(3) مسلم 2 (1485) .
(4) عزمت عليكم: أي أقسمت عليكم.
(5) سنن الترمذي 4 (2133) ، وقال محقق جامع الأصول (2/ 752) : الحديث حسن بشواهده وقال الترمذي: وفي الباب عن عمر وعائشة وأنس- رضي الله عنهم-.
(6) الكديد: واد ذو تراب ناعم.
(7) اجتز: أي اقتله.
(8) عشيشة: هي تصغير كلمة عشية على غير قياس.
(9) ربيئة: الربيئة: العين، والطليعة: الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو.
(10) المسند 3 (468) ، قال الهيثمي في المجمع (6/ 203) : وعند أبي داود طرف من أوله، ورواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات فقد صرح ابن اسحاق بالسماع في رواية الطبراني.(9/4273)
7-* (عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: أقبلنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية حتّى نزلنا السّقيا فقال معاذ بن جبل: «من يسقينا في أسقيتنا؟» قال جابر: فخرجت في فئة من الأنصار حتّى أتينا الماء الّذي بالإثابة وبينهما قريب من ثلاثة وعشرين ميلا فسقينا في أسقيتنا، حتّى إذا كان بعد عتمة إذا رجل ينازعه بعيره إلى الحوض فقال: أورد. فإذا هو النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأورد ثمّ أخذت بزمام ناقته فأنختها، فقام فصلّى العتمة، وجابر فيما ذكر إلى جنبه، ثمّ صلّى بعدها ثلاث عشرة سجدة) * «1» .
8-* (عن معاوية- رضي الله عنه- قال:
سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ هذا الأمر في قريش لا ينازعهم أحد إلّا أكبّه الله على وجهه ما أقاموا الدّين» ) * «2» .
9-* (عن حميد- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر هذا ينزع آية وهذا ينزع آية، فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا. وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا، فسمع ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرج كأنّما فقيء في وجهه حبّ الرّمّان فقال: «بهذا أمرتم؟ - أو «بهذا بعثتم؟ - أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض! إنّما ضلّت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنّكم لستم ممّا ههنا في شيء، انظروا الّذي أمرتم به فاعملوا به، والّذي نهيتم عنه فانتهوا» ) * «3» .
10-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه وهم يتنازعون في هذه الشّجرة الّتي اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ فقالوا نحسبها الكمأة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الكمأة من المنّ وماؤها شفاء العين والعجوة من الجنّة وهي شفاء من السّمّ» ) * «4» .
11-* (عن فضالة بن عبيد- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «ثلاثة لا تسأل عنهم:
رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصيا. وأمة أو عبد أبق «5» فمات، وامرأة غاب عنها زوجها، قد كفاها مؤنة الدّنيا فتبرّجت بعده. فلا تسأل عنهم.
وثلاثة لا تسأل عنهم: رجل نازع الله- عزّ وجلّ- رداءه فإنّ رداءه الكبرياء وإزاره العزّة، ورجل شكّ في أمر الله، والقنوط من رحمة الله» ) * «6» .
12-* (عن جابر- رضي الله عنه- قال: كنّا في مسير مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا على ناضح «7» إنّما هو في أخريات النّاس، قال: فضربه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو
__________
(1) أحمد في المسند 3 (380) .
(2) والبخاري- الفتح 6 (3500) ، وأحمد في المسند 4 (94) ، واللفظ له،.
(3) أحمد في المسند (2/ 196) ح (6857) ، وله شاهد عند ابن ماجه (85) عن ابن عمرو، وقال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات.
(4) أحمد في المسند 2 (305) ، رواه الطيالسي (2397) والترمذي (2799) وابن ماجه (1455) وسنده حسن.
(5) أبق: هرب.
(6) أحمد في المسند 6/ 19، والحاكم (1/ 119) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولا أعلم له علة وأقره الذهبي، وعزاه الهيثمي (1/ 105) للبزار والطبراني وقال: رجاله ثقات.
(7) ناضح: هو البعير الذي يستقي عليه.(9/4274)
قال: نخسه (أراه قال) بشيء كان معه. قال: فجعل بعد ذلك يتقدّم النّاس ينازعني حتّى إنّي لأكفّه، قال:
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتبيعنيه بكذا وكذا؟ والله يغفر لك» قال: قلت: هو لك يا نبيّ الله ... » ) * «1» .
13-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال الله- عزّ وجلّ-:
الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النّار» ) * «2» .
14-* (عن البراء بن عازب- رضي الله عنهما- في حديث الهجرة قال أبو بكر: ... فقدمنا المدينة ليلا، فتنازعوا أيّهم ينزل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أنزل على بني النّجّار أخوال عبد المطّلب أكرمهم بذلك» ) * «3» .
15-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: إنّ نوحا صلّى الله عليه وسلّم نازعه الشّيطان في عود الكرم «4» فقال نوح: هذا لي. وقال الشّيطان: هذا لي، فاصطلحا على أنّ لنوح ثلثها وللشّيطان ثلثيها» ) * «5» .
16-* (عن حنش الكنانيّ- رضي الله عنه- أنّ قوما باليمن حفروا زبية «6» لأسد فوقع فيها فتكابّ «7» النّاس عليه فوقع فيها رجل فتعلّق بآخر ثمّ تعلّق الآخر بآخر حتّى كانوا فيها أربعة، فتنازع في ذلك «8» حتّى أخذ السّلاح بعضهم لبعض، فقال لهم عليّ- رضي الله عنه-: «أتقتلون مائتين في أربعة؟
ولكن سأقضي بينكم بقضاء إن رضيتموه، للأوّل ربع الدّية وللثّاني ثلث الدّية وللثّالث نصف الدّية وللرّابع الدّية فلم يرضوا بقضائه، فأتوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
«سأقضي بينكم بقضاء» ، فأخبر بقضاء عليّ فأجازه) * «9» .
من الأحاديث الواردة في ذمّ (التنازع) معنى
17-* (عن ابن أبي مليكة- رضي الله عنه- قال: كاد الخيّران أن يهلكا- أبو بكر وعمر لمّا قدم على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم- وفد بني تميم أشار أحدهما بالأقرع بن حابس التّميميّ الحنظليّ أخي بني مجاشع، وأشار الآخر بغيره فقال أبو بكر لعمر: إنّما أردت خلا في فقال عمر: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما عند
__________
(1) مسلم 2 (1466) .
(2) أبو داود 14 (4090) ، وابن ماجه (4174) .
(3) مسلم (2009) وقد روى مسلم الحديث بتمامه عن زهير عن أبي اسحاق عن البراء وعن عثمان بن عمرو الجزء الذي نقلناه هنا من رواية عثمان، انظر صحيح مسلم آخر كتاب الزهد ج 4 ص 2311.
(4) الكرم: العنب.
(5) سنن النسائي 8 (5726) .
(6) زبية: الزبية بضم الزاي هي الحفرة.
(7) فتكابّ الناس عليه: تزاحم الناس عليه.
(8) فتنازع في ذلك: أي تنازع الناس في ذلك واختلفوا فيه.
(9) المسند 1/ 77 رقم (573) ، قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح.(9/4275)
النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ إلى قوله عَظِيمٌ (الحجرات/ 2) قال ابن أبي مليكة: قال ابن الزّبير:
فكان عمر بعد، ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر إذا حدّث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بحديث حدّث كأخي السّرار لم يسمعه حتّى يستفهمه) * «1» .
18-* (عن عائشة أمّ المؤمنين- رضي الله عنها- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في مرضه: «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» قالت عائشة: قلت إنّ أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع النّاس من البكاء. فمر عمر فليصلّ. فقال: «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» . فقالت عائشة: فقلت لحفصة: قولي إنّ أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع النّاس من البكاء، فمر عمر فليصلّ بالنّاس. ففعلت حفصة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّكنّ لأنتنّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا) * «2» .
19-* (عن سهل بن سعد السّاعديّ قال:
جاء عويمر العجلانيّ إلى عاصم بن عديّ فقال:
أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فيقتله أتقتلونه به؟
سل لي يا عاصم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأله. فكره النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المسائل وعابها. فرجع عاصم فأخبره أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كره المسائل فقال عويمر: والله لآتينّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فجاء وقد أنزل الله تعالى القرآن خلف عاصم، فقال له: قد أنزل الله فيكم قرآنا. فدعا بهما فتقدّما فتلاعنا. ثم قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها.
ففارقها ولم يأمره النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بفراقها فجرت السّنّة في المتلاعنين؛ وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «انظروها فإن جاءت به أحمر قصيرا مثل وحرة «3» ، فلا أراه إلّا قد كذب، وإن جاءت به أسحم أعين ذا اليتين فلا أحسب إلّا قد صدق عليها فجاءت به على الأمر المكروه) * «4» .
20-* (عن البراء بن عازب- رضي الله عنهما- قال: جعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على الرّجّالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا- عبد الله بن جبير فقال: «إن رأيتمونا تخطفنا الطّير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتّى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتّى أرسل إليكم» فهزموهم. قال: فأنا والله رأيت النّساء يشددن، قد بدت خلاخلهنّ وأسوقهنّ، رافعات ثيابهنّ. فقال أصحاب ابن جبير: الغنيمة أي قوم! الغنيمة؛ ظهر أصحابكم «5» فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟
قالوا: والله لنأتينّ النّاس فلنصيبنّ من الغنيمة فلمّا أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرّسول فى أخراهم، فلم يبق مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم غير اثني عشر رجلا، فأصابوا منّا سبعين، وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين
__________
(1) البخاري- الفتح 13 (7302) .
(2) البخاري- الفتح 13 (7303) .
(3) وحرة: دويبة كالعظاء تلزق بالأرض.
(4) البخاري- الفتح 13 (7304) .
(5) ظهر أصحابكم: أي انتصر جيش المسلمين.(9/4276)
ومائة، سبعين أسيرا وسبعين قتيلا، فقال أبو سفيان:
أفي القوم محمّد؟ ثلاث مرّات. فنهاهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يجيبوه ثمّ قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاث مرّات، ثمّ قال: أفي القوم ابن الخطّاب؟ ثلاث مرّات، ثمّ رجع إلى أصحابه فقال: أمّا هؤلاء فقد قتلوا، فما ملك عمر نفسه فقال: كذبت والله يا عدوّ الله، إنّ الّذين عددت لأحياء كلّهم، وقد بقي لك ما يسوؤك. قال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال. إنّكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثمّ أخذ يرتجز: أعل هبل، أعل هبل. قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ألا تجيبونه؟» قالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال: «قولوا: الله أعلى وأجلّ» قال (أبو سفيان) : إنّ لنا العزّى ولا عزّى لكم. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ألا تجيبونه؟» قال: قالوا: يا رسول الله ما نقول؟
قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم» ) * «1» .
21-* (عن مالك بن أوس النّصريّ قال:
انطلقت حتّى أدخل على عمر (و) أتاه حاجبه يرفأ «2» فقال: هل لك في عثمان وعبد الرّحمن والزّبير وسعد يستأذنون، قال نعم. فدخلوا فسلّموا وجلسوا فقال هل لك في عليّ وعبّاس، فأذن لهما. قال العبّاس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين الظّالم، استبّا. فقال الرّهط، عثمان وأصحابه: يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر. فقال: اتّئدوا، أنشدكم بالله الّذي بإذنه تقوم السّماء والأرض هل تعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة» - يريد رسول الله نفسه- قال الرّهط: قال ذلك. فأقبل عمر على عليّ وعبّاس فقال: أنشدكما بالله هل تعلمان أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك؟ قالا: نعم. قال عمر: فإنّي محدّثكم عن هذا الأمر. إنّ الله كان خصّ رسوله صلّى الله عليه وسلّم في هذا المال بشيء لم يعطه أحدا غيره، فإنّ الله يقول ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ ... الآية فكانت هذه خالصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ والله ما احتازها «3» دونكم، ولا أستأثر بها عليكم، وقد أعطاكموها وبثّها فيكم، حتى بقي منها هذا المال، وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثمّ يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله. فعمل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بذلك حياته، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك. فقالوا: نعم. ثمّ قال لعليّ وعبّاس:
أنشدكما الله هل تعلمان ذلك. قالا: نعم. ثمّ توفّى الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم فقال أبو بكر: أنا وليّ رسول الله فقبضها أبو بكر فعمل فيها بما عمل فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنتما حينئذ وأقبل على عليّ وعبّاس- فقال تزعمان أنّ أبا بكر فيها كذا «4» ، والله يعلم أنّه فيها صادق بارّ راشد تابع للحقّ.
ثمّ توفّى الله أبا بكر، فقلت أنا وليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر، فقبضتها سنتين أعمل فيها بما عمل به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر، ثمّ جئتماني وكلّمتكما على كلمة واحدة وأمركما جميع، جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك، وأتاني هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها، فقلت: إن شئتما دفعتها إليكما، على أنّ عليكما عهد الله وميثاقه تعملان فيها بما عمل به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبما عمل أبو
__________
(1) البخاري- الفتح 6 (3039)
(2) يرفأ: هو اسم خادم عمر.
(3) احتازها: أي استأثر بها لنفسه.
(4) فيها كذا: أي هو فيها ظالم لكنه كنّى عن ذلك بكلمة كذا.(9/4277)
بكر وبما عملت فيها منذ وليتها، وإلّا فلا تكلّماني فيها، فقلتما: ادفعها إلينا بذلك، فدفعتها إليكما بذلك، أنشدكم بالله هل دفعتها إليهما بذلك، قال الرّهط: نعم.
فأقبل على عليّ وعبّاس فقال: أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما بذلك؟ قالا: نعم. قال: أفتلتمسان منّي قضاء غير ذلك؟ فو الّذي بإذنه تقوم السّماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتّيبتقوم السّاعة، فإن عجزتما عنها فادفعاها إليّ فأنا أكفيكماها) * «1» .
22-* (عن عبد الله- رضي الله عنه- قال:
سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا اختلف البيّعان وليس بينهما بيّنة فهو ما يقول ربّ السّلعة أو يتتاركان «2» » ) * «3» .
23-* (عن عرفجة- رضي الله عنه- قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأمّة، وهي جميع فاضربوه بالسّيف كائنا من كان) * «4» .
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (التنازع)
1-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال في قوله تعالى حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ... (آل عمران/ 152) : لمّا هزم الله المشركين يوم أحد، قال الرّماة: أدركوا النّاس، لا يسبقونا إلى الغنائم فتكون لهم دونكم، وقال بعضهم (أي الرّماة) : لا نريم «5» حتّى يأذن لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزل قوله تعالى:
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) * «6» .
2-* (وعن مجاهد- رحمه الله- في قوله تعالى: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ قال:
(المعنى) لا تختلفوا فتجبنوا ويذهب نصركم) * «7» .
3-* (وعنه- رحمه الله- (أيضا) في قوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ (النساء/ 59) قال: فإن تنازع العلماء (في شيء) ردّوه إلى كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم) * «8» .
4-* (عن قتادة- رحمه الله- في قوله تعالى وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا قال: لا تختلفوا فتجبنوا ويذهب نصركم) * «9» .
5-* (قال القرطبيّ في تفسير قوله تعالى:
فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ (النساء/ 59) : أي تجادلتم
__________
(1) البخاري- الفتح 13 (7305) .
(2) يتتاركان: يترك بعضهما بعضا.
(3) النسائي (2/ 229) ، والحاكم (2/ 45) وقال: صحيح، ووافقه الذهبي.
(4) مسلم (1852) واللفظ له، وأبو داود 4/ 4762، والنسائي 7/ 92.
(5) لا نريم: أي لا نبرح مكاننا.
(6) الدر المنثور 2/ 152.
(7) المرجع السابق 2/ 318.
(8) المرجع السابق 3/ 343.
(9) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.(9/4278)
واختلفتم فكأنّ كلّ واحد ينتزع حجّة الآخر ويذهبها.
والنّزع: الجذب، والمنازعة: مجاذبة الحجج) * «1» .
6-* (قال القرطبيّ في تفسير قوله تعالى:
وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ (الأنفال/ 43) أي اختلفتم) * «2» .
7-* (وقال القرطبيّ في تفسير قوله تعالى:
يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً (الطور/ 23) : أي يتناولها بعضهم من بعض وهو المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنّة) * «3» .
8-* (وقال القرطبيّ: ومعنى تنازعتم:
اختلفتم، يعني الرّماة حين قال بعضهم لبعض: نلحق الغنائم، وقال بعضهم: بل نلبث في مكاننا الّذي أمرنا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالثّبوت فيه) * «4» .
من مضار (التنازع)
(1) يؤدّي إلى الفشل وضعف القوّة وذهاب الرّيح والهزيمة.
(2) يؤدّي إلى الكره والبغضاء بين النّاس.
(3) يؤدّي إلى سخط الرّبّ عزّ وجلّ.
(4) يؤدّي إلى إراقة الدّماء.
(5) خسارة في الدّنيا وعذاب في الآخرة.
(6) التّنازع يضعف قوّة الأمّة ويمكّن منها أعداءها.
(7) التّنازع على المناصب وأمور الدّنيا يؤدّي إلى الفتن وإشعال الحروب الأهليّة.
(8) التّنازع يشغل أصحابه عمّا يفيدهم في دنياهم وآخرتهم.
(9) التّنازع يفتّت قوّة المجتمع ويؤدّي إلى الفرقة.
(10) التّنازع مدخل واسع من مداخل الشّيطان الّتي يتمكّن بها من إفساد العقيدة وإشاعة البغضاء بين الأخ وأخيه، بل بين الأب وابنه.
__________
(1) تفسير القرطبي 5/ 169.
(2) المرجع السابق 17/ 46.
(3) المرجع السابق 8/ 16.
(4) المرجع السابق 4/ 152.(9/4279)
التّنصّل من المسئولية والتّهرّب منها
التّنصّل لغة:
مصدر قولهم: تنصّل من الشّيء: تبرّأ منه وهو مأخوذ من مادّة (ن ص ل) الّتي تدلّ على بروز شيء من كنّ أوستر أو مركب أو نحو ذلك، يقال: نصل الحافر أي خرج من موضعه، وتنصّل من ذنبه: تبرّأ منه «1» ، وقولهم: أنصلت الرّمح، إذا نزعت نصله، وتنصّلت الشّيء واستنصلته إذا استخرجته «2» ، وفي الحديث «من تنصّل إليه أخوه فلم يقبل ... » أي من انتفى من ذنبه واعتذر إليه «3» ، وقال ابن منظور:
النّصل: حديدة السّهم والرّمح، وهو حديدة السّيف ما لم يكن لها مقبض فإذا كان لها مقبض فهو سيف، يقال: أنصل السّهم ونصّله: أي جعل فيه النّصل.
وقيل: أنصله: أزال عنه النّصل، ونصّله: ركّب فيه النّصل، ونصل فيه السّهم: ثبت فلم يخرج. وقيل:
نصل: خرج، فهو من الأضداد، ويقال: نصلت اللّسعة والحمة. تنصل: خرج سمّها وزال أثرها،
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
44/ 7/ 30
والتّنصّل شبه التّبرّء من جناية أو ذنب، وتنصّل إليه من الجناية: خرج وتبرّأ، واستنصلت الرّيح اليبيس إذا اقتلعته من أصله، وبرّ نصيل: نقيّ من الغلث «4» .
التّهرّب لغة:
مصدر قولهم: تهرّب من الشّيء يتهرّب إذا فرّ منه، وهو مأخوذ من مادّة (هـ ر ب) الّتي تدلّ على الفرار «5» ، قال في الصّحاح: يقال: هرب من الشّيء (فرّ) وهرّبه غيره تهريبا، وأهرب الرّجل: إذا جدّ في الذّهاب مذعورا، وقوله: ما له هارب ولا قارب أي صادر عن الماء ولا وارد «6» ، وقال ابن منظور:
يقال: هرب يهرب هربا، يكون ذلك للإنسان وغيره من أنواع الحيوان، وقولهم: جاء مهربا أي جادّا في الأمر.
وجاء مهربا (أيضا) إذا أتاك هاربا فزعا، وأهرب الرّجل: إذا أبعد في الأرض، وأهرب فلان فلانا إذا اضطرّه إلى الهرب «7» . وفيما يتعلّق بلفظ «التّهرّب» فإنّه تفعّل من الهرب، وتفيد هذه الصّيغة معاني
__________
(1) مقاييس اللغة 5/ 433.
(2) الصحاح 5/ 1831.
(3) النهاية لابن الأثير 5/ 67، وهذه الرواية التي أثبتها ابن الأثير نقلا عن أبي موسى المديني في المجموع المغيث (ج 3 ص 307) قريبة مما أثبتناه في الحديث الأول في هذه الصفة وهي «من أتاه أخوه متنصلا» انظر الحديث الأول.
(4) لسان العرب 5/ 4446 (ط. دار المعارف) .
(5) مقاييس اللغة لابن فارس 6/ 49.
(6) الصحاح 1/ 237.
(7) لسان العرب (هرب) 4646.(9/4280)
عديدة منها: الطّلب كاستفعل، ومنها المطاوعة «1» كانفعل، ومنها التّدرّج في الفعل كما في تجرّع (أي أخذه جرعة بعد جرعة) ، وغير ذلك «2» ، والمناسب هنا المعنى الأخير أي أنّ التّهرّب هو الإتيان على الهرب وأخذه جزءا بعد جزء على تهاد ومهلة، ومن الممكن أيضا أن تفيد الصّيغة معنى الطّلب فيكون التّهرّب: التماس الهروب من المسئوليّة.
المسئولية لغة:
انظر صفة المسئوليّة.
التّنصّل والتّهرّب من المسئولية اصطلاحا:
لم تذكر كتب المصطلحات الّتي وقفنا عليها هذين اللّفظين ضمن ما أوردته من ألفاظ اصطلاحيّة، ومن ثمّ يكون معناهما في المجال الأخلاقيّ باقيا على أصل معناهما في اللّغة، ويمكننا أن نستنبط هذا التّعريف في ضوء ما ذكره أهل اللّغة والتّصريف فنقول: التّنصّل من المسئوليّة والتّهرّب منها يعني التّبرّؤ من الالتزام بما سبق للإنسان تحمّله من مسئوليّة والخروج من عهدة ذلك شيئا فشيئا.
ويمكن أن نقول أيضا: إنّ ذلك يعني التّخلّص التّدريجيّ ممّا سبق للشّخص أن تعهّد به والتماس عذر غير حقيقيّ للتبرّؤ من تبعة التّقصير في الأداء.
[للاستزادة: انظر صفات: التهاون- البلادة والغباء- التولي- النفاق- التخلف عن الجهاد- التخاذل- الأثرة- الضعف- الوهن.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: المسئولية- الصدق- الوفاء- جهاد الأعداء- الرجولة- الإخلاص- الاستقامة- الشجاعة] .
__________
(1) المطاوعة: أن تريد من الشيء أمرا ما فتبلغه (الممتع 1/ 183) .
(2) ذكر ابن جنّيّ في شرح الملوكي ص 75- 77 خمسة معان لهذه الصيغة: الثلاثة التي ذكرناها، ومعنى الاتخاذ كما في توسّدت السّاعد أي اتخذته وسادة، والسلب والإزالة كما في تحوّب أي أزال الحوب (الإثم) ، وذكر لها ابن عصفور في الممتع (ج 1 ص 183- 185) ثمانية معان، الخمسة التي ذكرناها وأضاف إليها معاني: الختل، والتوقع، والتكثير.(9/4281)
الآيات الواردة في «التّنصّل والتّهرّب من المسئولية» معنى
أولا: التّنصّل والتّهرّب في الحياة الدنيا:
1- أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) «1»
2- وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) «2»
3- قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) «3»
4- وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) «4»
5- وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) «5»
6- وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) «6»
7- يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) «7»
__________
(1) البقرة: 246 مدنية
(2) آل عمران: 167 مدنية
(3) المائدة: 22- 24 مدنية
(4) الأنعام: 124 مكية
(5) الأعراف: 28 مكية
(6) الأعراف: 172- 173 مكية
(7) الأنفال: 6 مدنية(9/4282)
8- وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) «1»
9- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) «2»
10- لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) «3»
11- وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) «4»
12- وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) «5»
13- فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) «6»
14- فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) «7»
15- وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) «8»
16- وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) «9»
17- إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) «10»
18- وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17)
__________
(1) الأنفال: 48 مدنية
(2) التوبة: 38 مدنية
(3) التوبة: 42 مدنية
(4) التوبة: 46 مدنية
(5) التوبة: 49 مدنية
(6) التوبة: 76 مدنية
(7) التوبة: 81 مدنية
(8) التوبة: 86 مدنية
(9) التوبة: 90 مدنية
(10) التوبة: 93 مدنية(9/4283)
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) «1»
19- وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) «2»
20- وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) «3»
21- وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً (13) «4»
22- قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) «5»
23- وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) «6»
24- فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27)
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) «7»
25- سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) «8»
26- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) «9»
27- هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) «10»
__________
(1) يوسف: 16- 18 مكية
(2) النور: 47 مدنية
(3) القصص: 57 مكية
(4) الأحزاب: 13 مدنية
(5) الأحزاب: 18 مدنية
(6) يس: 47 مكية
(7) محمد: 27- 28 مدنية
(8) الفتح: 11 مدنية
(9) الحشر: 11- 12 مدنية
(10) المنافقون: 7 مدنية(9/4284)
ثانيا: التّنصّل والتّهرّب في الحياة الآخرة:
28- إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166)
وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) «1»
29- ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) «2»
30- سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) «3»
31- وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) «4»
32- وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) «5»
33- وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) «6»
34- حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) «7»
35- وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) «8»
36- وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)
__________
(1) البقرة: 166- 167 مدنية
(2) الأنعام: 23 مكية
(3) الأنعام: 148 مكية
(4) يونس: 28 مكية
(5) إبراهيم: 22 مكية
(6) النحل: 35 مكية
(7) المؤمنون: 99- 100 مكية
(8) الفرقان: 17- 18 مكية(9/4285)
يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا (28)
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا (29) «1»
37- قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) «2»
38- وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) «3»
39- قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) «4»
40- وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) «5»
41- وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) «6»
42- بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) «7»
43- قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) «8»
44- كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) «9»
__________
(1) الفرقان: 27- 29 مكية
(2) القصص: 63 مكية
(3) سبأ: 31- 32 مكية
(4) سبأ: 41 مكية
(5) فصلت: 29 مكية
(6) الزخرف: 20 مكية
(7) الزخرف: 22- 23 مكية
(8) ق: 27 مكية
(9) الحشر: 16 مدنية(9/4286)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التّنصّل والتّهرّب من المسئولية)
1-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «عفّوا عن نساء النّاس تعفّ نساؤكم، وبرّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم، ومن أتاه أخوه متنصّلا فليقبل ذلك محقّا كان أو مبطلا، فإن لم يفعل لم يرد عليّ الحوض» ) * «1» .
من الأحاديث الواردة في ذمّ (التّنصّل والتّهرّب من المسئولية) معنى
2-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- أنّ رجالا من المنافقين، في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا إذا خرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى الغزو تخلّفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا قدم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) * «2» .
3-* (عن زيد بن الأرقم- رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر، أصاب النّاس فيه شدّة فقال عبد الله بن أبيّ لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى ينفضّوا من حوله) * «3» .
4-* (عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من يصعد الثّنيّة «4» ثنيّة المرار، فإنّه يحطّ عنه ما حطّ عن بني إسرائيل» قال:
فكان أوّل من صعدها خيلنا، خيل بني الخزرج. ثمّ تتامّ النّاس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وكلّكم مغفور له، إلّا صاحب الجمل «5» الأحمر» فأتيناه فقلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «والله؛ لأن أجد ضالّتي أحبّ إليّ من أن يستغفر لي صاحبكم. قال:
وكان رجل ينشد «6» ضالّة له) * «7» .
5-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لمّا خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كلّ نسمة هو خالقها من ذرّيّته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كلّ إنسان منهم وبيصا «8» من نور، ثمّ عرضهم على آدم فقال: أي ربّ
__________
(1) الترغيب والترهيب 3/ 492، وقال المنذري: رواه الحاكم من رواية سويد عن قتادة عن أبي رافع، وقال: صحيح الإسناد.
(2) مسلم 4 (2777) .
(3) مسلم 4 (2772) .
(4) الثّنيّة: أصلها الطريق بين الجبلين، وهذه الثنية عند الحديبية.
(5) إلّا صاحب الجمل الأحمر: قيل هو الجد بن قيس المنافق.
(6) ينشد ضالة: يسأل عنها.
(7) مسلم 4 (2780) .
(8) وبيصا: بريقا.(9/4287)
من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذرّيّتك، فرأى رجلا منهم وأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي ربّ من هذا؟
فقال: هذا رجل من آخر الأمم من ذرّيّتك يقال له داود. فقال: ربّ كم جعلت عمره؟ قال: ستّين سنة.
قال: أي ربّ زده من عمري أربعين سنة، فلما قضي عمر آدم جاءه ملك الموت فقال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أو لم تعطها ابنك داود؟ قال:
فجحد «1» آدم فجحدت ذرّيّته، ونسّي آدم فنسّيت ذرّيّته، وخطيء آدم فخطئت ذرّيّته» ) * «2» .
6-* ( ... فقال كعب بن مالك- رضي الله عنه- فلمّا بلغني أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد توجّه قافلا من تبوك حضرني بثّي «3» ، فطفقت أتذكّر الكذب وأقول:
بم أخرج من سخطه غدا؟ وأستعين على ذلك كلّ ذي رأي من أهلي، فلمّا قيل لي: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أظلّ قادما «4» زاح عنّى الباطل، حتّى عرفت أنّي لن أنجو منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقه «5» ، وصبّح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثمّ جلس للنّاس فلمّا فعل ذلك جاءه المخلّفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا. فقبل منهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله ... الحديث) * «6» .
7-* (عن عبد الله بن عامر قال: حدّثني من سمع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه أمر برجم رجل بين مكّة والمدينة، فلمّا وجد مسّ الحجارة خرج فهرب، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«فهلّا تركتموه؟» ) * «7» .
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (التّنصّل والتّهرّب من المسئولية)
1-* (قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في تفسير قوله تعالى كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (الحشر/ 16) ضرب الله هذا مثلا للمنافقين مع اليهود. وذلك أنّ الله أمر نبيّه عليه السّلام أن يجلي بني النّضير من المدينة فدسّ إليهم المنافقون ألّا تخرجوا من دياركم فإن قاتلوكم كنّا معكم، وإن أخرجوكم كنّا معكم، فحاربوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فخذلهم المنافقون وتبرّؤوا منهم كما تبرّأ الشّيطان من برصيص العابد» ) * «8» .
2-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في قوله تعالى ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ قال: هي مدينة
__________
(1) جحد: أنكر.
(2) سنن الترمذي 5 (3078) ، وقال: حسن صحيح، والحاكم في المستدرك 2/ 322، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
(3) بثّي: البث هو أشد الحزن.
(4) أظل قادما: أي أقبل ودنا قدومه كأنه ألقى عليّ ظله.
(5) فأجمعت صدقه: عزمت عليه.
(6) هذا الحديث جزء من حديث كعب بن مالك في غزوة تبوك، مسلم 4 (2769) .
(7) المسند 4/ 66 برقم (16627) ، والهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 267، وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات.
(8) تفسير القرطبي (18/ 28) .(9/4288)
الجبّارين لمّا نزل بها موسى وقومه بعث منهم اثني عشر رجلا وهم النّقباء الّذين ذكرهم الله تعالى ليأتوهم بخبرهم، فساروا ولقيهم رجل من الجبّارين فجعلهم في كساءته، فحملهم حتّى أتى بهم المدينة ونادى في قومه فاجتمعوا إليه فقالوا: من أنتم؟ قالوا: نحن قوم موسى بعثنا لنأتيه بخبركم. فأعطوه حبّة من عنب تكفي الرّجل، وقالوا لهم: اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم: اقدروا قدر فاكهتهم. فلمّا أتوهم قالوا:
يا موسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «فقال رجلان من الّذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا» ، وكانا من أهل المدينة فأسلما واتّبعا موسى فقالا لموسى ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ «1» . وهذا في تفسير قوله تعالى قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ* قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ (المائدة/ 22- 23) .
3-* (قال ابن عبّاس ومقاتل- رضي الله عنهم- في تفسير قوله تعالى قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (ق/ 27) : قرينه الملك؛ وذلك أنّ الوليد بن المغيرة يقول للملك الّذي كان يكتب سيّئاته: ربّ إنّه أعجلني، فيقول الملك: ربّنا ما أطغيته أي ما أعجلته) * «2» .
4-* (قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في تفسير قوله تعالى قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (ق/ 27) : أي يقول عن الإنسان الّذي قد وافى القيامة كافرا يتبرّأ منه شيطانه ربّنا ما أطغيته: أي ما أضللته) * «3» .
5-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (التوبة/ 75) : أنّ رجلا كان يقال له ثعلبة من الأنصار أتى مجلسا فأشهدهم فقال: لئن آتاني الله من فضله آتيت كلّ ذي حق حقّه وتصدّقت منه وجعلت منه للقرابة، فابتلاه الله فآتاه من فضله فأخلف ما وعد فأغضب الله بما أخلفه ما وعده) * «4» .
6-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- في تفسير قوله تعالى كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (الحشر/ 16) قال: كانت امرأة ترعى الغنم وكان لها أربعة إخوة وكانت تأوي باللّيل إلى صومعة راهب. قال: فنزل الرّاهب ففجر بها فحملت فأتاه الشّيطان فقال اقتلها ثمّ ادفنها فإنّك رجل مصدّق يسمع قولك فقتلها ثمّ دفنها. قال: فأتى الشّيطان إخوتها في المنام فقال لهم: إنّ الرّاهب صاحب الصومعة فجر بأختكم فلمّا أحبلها قتلها ثمّ دفنها في مكان كذا وكذا. فلمّا أصبحوا قال رجل
__________
(1) تفسير القرطبي (18/ 28) .
(2) المرجع السابق (18/ 13) .
(3) تفسير ابن كثير (4/ 226) .
(4) الدر المنثور (3/ 468) .(9/4289)
منهم: والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصّها عليكم أم أترك. قالوا: بل قصّها علينا. قال: فقصّها.
فقال الآخر: وأنا والله رأيت ذلك. فقال الآخر: وأنا والله رأيت ذلك؛ قالوا: فو الله ما هذا إلّا لشيء.
قال: فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الرّاهب فأتوه فأنزلوه ثمّ انطلقوا به، فلقيه الشّيطان فقال: إنّي الّذي أوقعتك في هذا ولن ينجيك منه غيري فاسجد لي سجدة واحدة وأنجيك ممّا أوقعتك فيه. قال:
فسجد له فلمّا أتوا به ملكهم تبرّأ منه وأخذ فقتل) * «1» .
7-* (عن محمّد بن كعب القرظيّ قال: كان المشركون الرّجال يطوفون بالبيت بالنّهار عراة والنّساء باللّيل عراة؛ ويقولون: إنّا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها، فلمّا جاء الإسلام وأخلاقه الكريمة نهوا عن ذلك، وذلك في تفسير قوله تعالى وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها (الأعراف/ 28)) * «2» .
8-* (عن قتادة وعطاء والرّبيع- رحمهم الله- في قوله تعالى إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (البقرة/ 166) قالوا: المعنى أنّ السّادة والرّؤساء تبرّءوا ممّن اتّبعهم على الكفر. وقال قتادة أيضا: هم الشّياطين المضلّون تبرّءوا من الإنس. وقيل هو عامّ في كلّ متبوع يتنصّل من مسئوليّة إضلال تابعه) * «3» .
9-* (عن مجاهد- رحمه الله- في قوله تعالى لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ (آل عمران/ 167) المعنى: لو نعلم أنّكم تلقون حربا لجئناكم ولكن لا تلقون قتالا «4» . قال القرطبيّ: وكان عبد الله بن أبيّ وأصحابه قد انصرفوا عن نصرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكانوا ثلاثمائة فمشى في أثرهم عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ فقال لهم: اتّقوا الله ولا تتركوا نبيّكم وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا «5» ونحو هذا من القول. فقال له ابن أبيّ: ما أرى أن يكون قتال، ولو علمنا أن يكون قتال لكنّا معكم. فلمّا يئس منهم عبد الله قال: اذهبوا أعداء الله فسيغني الله رسوله عنكم. ومضى مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم واستشهد رحمه الله تعالى. أمّا قول الله تعالى في نفس الآية يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فالمعنى أنّهم يقولون القول ولا يعتقدون صحّته لأنّ قولهم لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ فإنّهم متحقّقون أنّ جندا من المشركين قد جاؤا من بلاد بعيدة يتحرّقون على المسلمين بسبب ما أصيب من أشرافهم يوم بدر) * «6» .
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/ 341) .
(2) الدر المنثور (3/ 143) .
(3) تفسير القرطبي (2/ 183) ، والدر المنثور (1/ 304) وجاء فيه عن قتادة «أنّ الذين اتبعوا هم الجبابرة والقادة والرؤوس في الشّرّ والشّرك وأنّ الذين اتبعوا هم الأتباع والضعفاء.
(4) تفسير ابن كثير (1/ 425) .
(5) ادفعوا: كثروا سواد المسلمين.
(6) تفسير ابن كثير 1/ 425 (بتصرف يسير) والمراد من هذا الأثر أن المنافقين قد تنصلوا من مسئوليتهم في الدفاع من المدينة ونصرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأعذار واهية وأقوال مردودة.(9/4290)
10-* (عن الحسن- رحمه الله- في قوله تعالى وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ (الأنفال/ 48) قال: سار إبليس ببدر برايته وجنوده وألقى في قلوب المشركين أنّ أحدا لن يغلبكم وأنتم تقاتلون على دين آبائكم ولن تغلبوا كثرة. فلمّا التقوا نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ، يقول: رجع مدبرا وقال إنّي بريء منكم إنّي أرى ما لا ترون يعني الملائكة) * «1» .
11-* (عن مجاهد والسّدّيّ- رحمهما الله- في قوله تعالى وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ (يوسف/ 16) أنّهم عمدوا إلى سخلة «2» فذبحوها ولطّخوا ثوب يوسف بدمها موهمين أنّ هذا قميصه الّذي أكله فيه الذّئب وقد أصابه من دمه ولكنّهم نسوا أن يخرقوه ولهذا لم يرج «3» هذا الصّنيع على نبيّ الله يعقوب) * «4» .
12-* (عن الضّحّاك- رحمه الله- قال:
خرج المنافقون مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى تبوك وكانوا إذا خلا بعضهم إلى بعض سبّوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وطعنوا في الدّين فنقل حذيفة ما قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أهل النّفاق ما هذا الّذي بلغني عنكم؟» فحلفوا ما قالوا شيئا من ذلك) * «5» .
13-* (وعن قتادة- رحمه الله- أنّ رجلين اقتتلا رجل من جهينة ورجل من غفار «6» وظهر الغفاريّ على الجهنيّ. فنادى عبد الله بن أبيّ: يا بني الأوس انصروا أخاكم فو الله ما مثلنا ومثل محمّد إلّا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك ... فسعى بها رجل من المسلمين إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأرسل إليه فجعل يحلف بالله ما قال. فنزل قوله تعالى يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ (التوبة/ 74)) * «7» .
14-* (قال ابن جريج- رحمه الله- في تفسير الآية الكريمة السّابقة: قائل ذلك أبو جهل بن هشام، وقيل: إنّ أهل الكتاب قالوا للمشركين: صفة محمّد في كتابنا فسلوه، فلمّا سألوه فوافق ما قال أهل الكتاب، قال المشركون: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالّذي أنزل قبله من التّوراة والإنجيل بل نكفر بالجميع، وكانوا قبل ذلك يراجعون أهل الكتاب ويحتجّون بقولهم فظهر بهذا تناقضهم وقلّة علمهم) * «8» .
15-* (عن مقاتل- رحمه الله- في تفسير قوله تعالى وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ (الزخرف/ 23) أنّ هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأبي سفيان وأبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة
__________
(1) تفسير الطبري مجلد 6 (10/ 15) .
(2) السخلة: النعجة الصغيرة.
(3) لم يرج: أي لم يلق قبولا.
(4) تفسير النيسابوري بهامش الطبري مجلد 6 (10/ 126) .
(5) تفسير النيسابوري بهامش الطبري مجلد 6 (10/ 127) .
(6) جهينة وغفار: قبيلتان من العرب.
(7) تفسير النيسابوري بهامش الطبري مجلد 6 (10/ 127) .
(8) تفسير القرطبي (14/ 193) .(9/4291)
من قريش أي وكما قال هؤلاء فقد قال من قبلهم أيضا) * «1» .
16-* (قال قتادة- رحمه الله- في تفسير نفس الآية الكريمة السّابقة: مقتدون متّبعون، وفي هذا دليل على إبطال التقليد لذمّه إيّاهم على تقليد آبائهم وتركهم النّظر فيما دعاهم إليه الرّسول صلّى الله عليه وسلّم) * «2» .
17-* (عن الحسن- رحمه الله- أنّ رجلا من الأنصار هو الّذي قال هذا، فمات ابن عمّ له، فورث منه مالا فبخل به ولم يف بما عاهد عليه فأعقبه الله بذلك نفاقا إلى أن يلقاه قال تعالى بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (التوبة/ 77)) * «3» .
18-* (عن السّدّيّ- رحمه الله- في قوله تعالى وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا (الأحزاب/ 13) قال إلى المدينة عن قتال أبي سفيان وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ قال جاءه رجلان من الأنصار ومن بني حارثة أحدهما يدعى أبا عرابة بن أوس والآخر يدعى أوس بن قيظيّ فقالا: يا رسول الله إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ يعنون أنّها ذليلة الحيطان وهي في أقصى المدينة ونحن نخاف السّرق فائذن لنا. فقال الله تعالى وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) * «4» .
19-* (عن السّدّيّ- رحمه الله- في قوله تعالى وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها (الأعراف/ 28) قال: كانت قبيلة من العرب من أهل اليمن يطوفون بالبيت عراة فإذا قيل لهم لم تفعلون ذلك. قالوا وجدنا عليها آباءنا وأمرنا الله بها) * «5» .
20-* (عن الحسن- رحمه الله- في قوله تعالى وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ (التوبة/ 90) قال: اعتذروا بشيء ليس بحقّ) * «6» .
21-* (عن مجاهد- رحمه الله- قال: يأتي على النّاس يوم القيامة ساعة فيها لين. يرى أهل الشّرك أهل التّوحيد يغفر لهم فيقولون: والله ربّنا ما كنّا مشركين. قال الله تعالى انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (الأنعام/ 24) ثمّ يكون من بعد ذلك ساعة فيها شدّة تنصب لهم الآلهة الّتي كانوا يعبدون من دون الله. فيقول: هؤلاء الّذين كنتم تعبدون من دون الله. فيقولون: نعم هؤلاء الّذين كنّا نعبد. فتقول لهم الآلهة: والله ما كنّا نسمع ولا نبصر ولا نعقل أنّكم كنتم تعبدوننا. فيقولون: بلى والله لإيّاكم كنّا نعبد) * «7» .
22-* (قال مجاهد في قوله تعالى سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا (الأنعام/ 148) يعني كفّار قريش أخبر سبحانه وتعالى بالغيب عمّا سيقولونه وظنّوا أنّ هذا متمسّك لهم لمّا لزمتهم الحجّة
__________
(1) تفسير القرطبي (16/ 50/ 512) .
(2) المرجع السابق (16/ 50) .
(3) الدر المنثور (3/ 468) .
(4) المرجع السابق (5/ 359) .
(5) المرجع السابق (3/ 143) .
(6) المرجع السابق (3/ 477) .
(7) المرجع السابق (3/ 550) .(9/4292)
وتيقّنوا باطل ما كانوا عليه. والمعنى: لو شاء الله لأرسل إلى آبائنا رسولا فنهاهم عن الشّرك وعن تحريم ما أحلّ لهم فينتهوا، فاتّبعناهم على ذلك) * «1» .
23-* (قال الطّبريّ في تفسير قوله تعالى وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً (الأحزاب/ 13) فقوله فَارْجِعُوا أي إلى منازلكم، أمرهم بالهرب من عسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والفرار منه وترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقيل إنّ ذلك من قبل أوس بن قيظيّ ومن وافقه على رأيه. وقوله وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ يقول تعالى ذكره: ويستأذن بعضهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الإذن بالانصراف عنه إلى منزله ولكنّه يريد الفرار والهرب من عسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) * «2» .
24-* (وقال ابن جرير- رحمه الله- أيضا في الآية السّابقة: قل يا محمّد لهؤلاء الّذين يستأذنونك ويقولون إنّ بيوتنا عورة هربا من القتل: من ذا الّذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا في أنفسكم من قتل أو بلاء أو غير ذلك، أو أراد عافية وسلامة. وهل ما يكون بكم في أنفسكم من سوء أو رحمة إلّا من قبلنا) * «3» .
25-* (قال القرطبيّ في تفسير قوله تعالى فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا (البقرة/ 246) :
أخبر الله تعالى أنّه لمّا فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب، وأنّ نفوسهم ربّما تذهب. تَوَلَّوْا أي اضطربت نيّاتهم وفترت عزائمهم، وهذا شأن الأمم المتنعّمة المائلة إلى الدّعة تتمنّى الحرب أوقات الأنفة فإذا حضرت الحرب كعّت «4» وانقادت لطبعها) * «5» .
26-* (قال القرطبيّ في تفسير قوله تعالى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (الأنعام/ 23) : تبرّأوا من الشّرك وانتفوا منه لما رأوا من تجاوزه ومغفرته للمؤمنين، قال ابن عبّاس: يغفر الله تعالى لأهل الإخلاص ذنوبهم ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره، فإذا رأى المشركون ذلك، قالوا إنّ ربّنا يغفر الذّنوب ولا يغفر الشّرك، فتعالوا نقول: إنّا كنّا أهل ذنوب ولم نكن مشركين. فقال إذ كتموا الشّرك: فاختموا على أفواههم، فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، فعند ذلك يعرف المشركون أنّ الله لا يكتم حديثا) * «6» .
27-* (يقول القرطبيّ في قوله تعالى وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ (الأنعام/ 124) : بيّن شيئا آخر من جهلهم وهو أنّهم قالوا لن نؤمن حتّى نكون أنبياء، فنؤتى مثلما أوتي
__________
(1) تفسير القرطبي (7/ 84) .
(2) تفسير الطبري مجلد 10 (21/ 86) .
(3) تفسير الطبري (20/ 87) .
(4) كعّت: أي جبنت وأحجمت.
(5) تفسير القرطبي (3/ 160) .
(6) تفسير القرطبي (6/ 258، 259) .(9/4293)
موسى وعيسى من الآيات، ونظيره بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (المدثر/ 52) .
والكناية في جاءَتْهُمْ ترجع إلى الأكابر الّذين جرى ذكرهم، قال الوليد بن المغيرة: لو كانت النّبوّة حقّا لكنت أولى بها منك لأنّي أكبر منك سنّا وأكثر منك مالا، وقال أبو جهل: والله لا نرضى به فلا نتّبعه أبدا إلّا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزلت الآية، وقيل لم يطلبوا النّبوّة ولكن قالوا لا نصدّقك حتّى يأتينا جبريل والملائكة يخبروننا بصدقك) * «1» .
28-* (يقول القرطبيّ في تفسير قوله تعالى وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ... الآية (الأعراف/ 28) الفاحشة هنا في قول أكثر المفسّرين «طوافهم بالبيت عراة» . وقال الحسن: هي الشّرك والكفر واحتجّوا على ذلك بتقليدهم أسلافهم وبأنّ الله أمرهم بها، قال الحسن: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قالوا: لو كره الله ما نحن عليه لنقلنا عنه قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ بيّن أنّهم متحكّمون ولا دليل لهم على أنّ الله أمرهم بما ادّعوا، وقد مضى ذمّ التّقليد وذمّ كثير من جهالاتهم وهذا منها) * «2» .
29-* (قال القرطبيّ: قال مجاهد- رحمه الله- في قوله تعالى ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (يونس/ 28) : ينطق الله الأوثان فتقول: ما كنّا نشعر بأنّكم إيّانا تعبدون وما أمرناكم بعبادتنا، وإن حمل الشّركاء على الشّياطين فالمعنى أنّهم يقولون ذلك دهشا، أو يقولون كذبا واحتيالا للخلاص) * «3» .
30-* (يقول القرطبيّ في تفسير قوله تعالى قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ (سبأ/ 41) : أي أنت ربّنا الّذي نتولّاه ونطيعه ونعبده ونخلص له في العبادة، وفي التّفاسير أنّ حيّا يقال لهم بنو مليح من خزاعة كانوا يعبدون الجنّ ويزعمون أنّ الجنّ تتراءى لهم، وأنّهم ملائكة، وأنّهم بنات الله) * «4» .
من مضار (التّنصّل والتّهرّب من المسئولية)
(1) هي صفة من صفات النّفاق وخصلة من خصال المنافقين.
(2) فشوّ المفسدين في مجتمع المسلمين.
(3) يحمل صاحبه على الكذب، والحلف الكاذب.
(4) من لم يقبل عذر من تنصّل حرم من الورود على الحوض.
__________
(1) تفسير القرطبي (7/ 53) .
(2) تفسير القرطبي (7/ 120، 121) .
(3) تفسير القرطبي (8/ 212) .
(4) تفسير القرطبي (14/ 309) .(9/4294)
(5) المتنصّل يستحقّ عذاب الله ومقته.
(6) المتنصّل من المسئوليّة مبغض عند الله وعند النّاس.
(7) المتنصّل من المسئوليّة يستصغره النّاس ويحتقرونه.
(8) التّنصّل من المسئوليّة مخالف لصفات الرّجولة ومخلّ بالمروءة.
(9) داء التّنصّل من المسئوليّة من الأمراض الاجتماعيّة الخطيرة الّتي تفقد النّاس الثّقة فيما بينهم.
(10) التنصّل من المسئوليّة والتّهرّب منها ينجم عنه الفوضى والإخلال بالالتزامات الأدبيّة والمادّية وضياع الحقوق.
(11) التّنصّل من المسئوليّة يؤدّي إلى تعطيل الأعمال وتأخير مواعيدها لأنّ البحث عن بديل للمتنصّل لا يتيسّر دائما أو في الوقت المناسب.
(12) التّهرّب من المسئوليّة أو التّنصّل منها يتنافى مع حمل الأمانة الّتي شرّف الله بها الإنسان.(9/4295)
التنفير
التنفير لغة:
الإفزاع والدّفع عن الشّيء وهو مصدر قولهم:
نفّره تنفيرا.
وهو مأخوذ من مادّة (ن ف ر) الّتي تدلّ على تجاف وتباعد.
يقول ابن فارس: «النّون والفاء والرّاء أصل صحيح يدلّ على تجاف وتباعد، ومن ذلك نفر الحيوان، وغيره نفارا، وذلك تجافيه وتباعده عن مكانه» «1» .
يقول الجوهريّ: نفرت الدّابّة تنفر، وتنفر نفارا ونفورا، يقال: في الدّابّة نفار، وهو اسم مثل الحران، ونفر الحاجّ من منى نفرا. ونفر القوم في الأمور نفورا.
والإنفار عن الشّيء، والتّنفير عنه، والاستنفار، كلّه بمعنى. والاستنفار أيضا النّفور..
ويقول الرّاغب: النّفر: الانزعاج عن الشّيء، كالفزع إلى الشّيء، وعن الشّيء يقال: نفر عن الشّيء، نفورا قال ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (فاطر/ 42) ونفر إلى الحرب ينفر وينفر نفرا، ومنه يوم النّفر، قال:
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
/ 7/ 7
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا (التوبة/ 41) والاستنفار: حمل القوم على أن ينفروا، أي من الحرب، والاستنفار أيضا حثّ القوم على النّفر إلى الحرب «2» .
ونفر ينفر نفورا ونفارا، إذا فرّ وذهب، ومنه الحديث «إنّ منكم منفّرين» أي من يلقى النّاس بالغلظة والشّدّة، فينفّرون من الإسلام والدّين، وفي حديث عمر- رضي الله عنه- لا تنفّر النّاس، وفي الحديث: أنّه اشترط لمن أقطعه أرضا، ألّا ينفّر ماله، أي لا يزجر ما يرعى من ماله، ولا يدفع عن الرّعي «3» .
ونفر نفرا ونفورا: هجر وطنه، وضرب في الأرض، وفي التّنزيل: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ (التوبة/ 122) وأنفر القوم: تفرّقت دوابّهم، ونافره: خاصمه، وتنافر القوم:
تخاصموا وتفاخروا «4» .
وقال ابن منظور: النّفر: التّفرّق. نفرت الدّابّة تنفر وتنفر نفارا ونفورا. والإنفار عن الشّيء والتّنفير عنه والاستنفار كلّه بمعنى. والاستنفار أيضا: النّفور.
وفي الحديث: «بشّروا ولا تنفّروا» ، أي لا
__________
(1) المقاييس (5/ 459) .
(2) المفردات (501) .
(3) اللسان نفر (6/ 4498) وانظر التاج (7/ 547، 548) .
(4) المعجم الوسيط (2/ 948) .(9/4296)
تلقوهم بما يحملهم على النّفور.
ونفرت العين وغيرها من الأعضاء تنفر نفورا:
هاجت وورمت.
قال الأصمعيّ: نفر فوه: أي ورم.
قال أبو عبيد: وأراه مأخوذا من نفار الشّيء من الشّيء فذلك نفاره «1» .
التنفير اصطلاحا:
قال المناويّ: النّفر: الانزعاج عن الشّيء أو إليه، والمنافرة المحاكمة في المفاخرة «2» .
ويؤخذ من كلام ابن الأثير أنّ التّنفير: هو أن تلقى النّاس أو تعاملهم بالغلظة والشّدّة ونحو ذلك ممّا يحمل على النّفور من الإسلام والدّين «3» . وتعدّ إطالة الصّلاة الّتي لا يطيقها المأمومون أو بعضهم من التّنفير المنهيّ عنه.
التنفير والتّبشير:
جاء في الحديث الشّريف الأمر بالتّبشير مرّة وبالتّسكين أخرى، وفي مقابلة ذلك ورد النّهي عن التّنفير، قال ابن حجر: وهو ضدّ التّسكين، والتّبشير يصاحب التّسكين غالبا، ومن ثمّ كان ضدّ التّنفير (أيضا) «4» .
[للاستزادة: انظر صفات: التعسير- الجفاء- الغلو- التنازع- البغض- التفرق- الجدال والمراء- الفتنة.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الرغبة والترغيب البشارة- التيسير- المحبة- الألفة- الاعتصام- التناصر- التعارف] .
__________
(1) لسان العرب لابن منظور (5/ 224، 227) .
(2) التوقيف على مهمات التعاريف (327) .
(3) انظر: النهاية لابن الأثير (5/ 92) .
(4) فتح الباري (10/ 542) (بتصرف) .(9/4297)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التنفير)
1-* (عن أبي مسعود الأنصاريّ- رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّي لأتأخّر عن صلاة الصّبح من أجل فلان ممّا يطيل بنا.
فما رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم غضب في موعظة قطّ أشدّ ممّا غضب يومئذ، فقال: «يا أيّها النّاس! إنّ منكم منفّرين، فأيّكم أمّ النّاس فليوجز، فإنّ من ورائه الكبير والضّعيف، وذا الحاجة» ) * «1» .
2-* (عن أبي موسى الأشعريّ- رضي الله عنه، أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعثه ومعاذا إلى اليمن، فقال: «يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا، وتطاوعا ولا تختلفا» ) * «2» .
3-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يسّروا ولا تعسّروا، وسكّنوا ولا تنفّروا» ) * «3» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (التنفير) معنى
4-* (عن عبّاد بن شرحبيل، قال: أصابتني سنة، فدخلت حائطا من حيطان المدينة، ففركت سنبلا فأكلت وحملت في ثوبي، فجاء صاحبه فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له: «ما علّمت إذ كان جاهلا، ولا أطعمت إذ كان جائعا» أو قال «ساغبا» وأمره فردّ عليّ ثوبي، وأعطاني وسقا، أو نصف وسق من طعام) * «4» .
5-* (عن معاوية بن الحكم السّلميّ- رضي الله عنه- قال: بينما أنا أصلّي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذ عطس رجل من القوم. فقلت: يرحمك الله ...
الحديث وفيه «فو الله ما كهرني «5» ، ولا ضربني، ولا شتمني ... » ) * «6» .
6-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ جاء أعرابيّ فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مه مه «7» ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزرموه «8» ، دعوه» فتركوه حتّى بال، ثمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعاه فقال له: «إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا
__________
(1) البخاري- الفتح 2 (702) . مسلم (466) واللفظ له.
(2) البخاري- الفتح 6 (3038) . مسلم (1733) واللفظ له
(3) البخاري- الفتح 10 (6125) . مسلم (1734) واللفظ له.
(4) أبو داود (2620) واللفظ له، والنسائي (8/ 240) ، ابن ماجة (2298) ، وقال محقق جامع الأصول (7/ 451) : حديث صحيح.
(5) ما كهرني: نهرني.
(6) مسلم (537) .
(7) مه مه: كلمة زجر وقيل معناه: اسكت.
(8) لا تزرموه: أي لا تقطعوا عليه بوله، يقال: زرم البول: إذا انقطع.(9/4298)
البول ولا القذر، إنّما هي لذكر الله- عزّ وجلّ- والصّلاة، وقراءة القرآن» ، أو كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: فأمر رجلا من القوم، فجاء بدلو من ماء، فشنّه «1» عليه) * «2» .
7-* (عن جابر- رضي الله عنه- قال: كان معاذ يصلّي مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ يأتي فيؤمّ قومه، فصلّى ليلة مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم العشاء، ثمّ أتى قومه فأمّهم، فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رجل فسلّم، ثمّ صلّى وحده وانصرف، فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا والله! ولآتينّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلأخبرنّه، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إنّا أصحاب نواضح نعمل بالنّهار، وإنّ معاذا صلّى معك العشاء، ثمّ أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على معاذ، فقال: يا معاذ أفتّان أنت؟ «3» اقرأ بكذا واقرأ بكذا» ) * «4» .
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (التنفير)
1-* (قال ابن كثير عند قوله تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ (المائدة/ 6) أي فلهذا سهّل عليكم ويسّر ولم يعسّر، بل أباح التّيمّم عند المرض وعند فقد الماء توسعة عليكم ورحمة بكم ...
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (المائدة/ 6) أي لعلّكم تشكرون نعمه عليكم فيما شرعه لكم من التّوسعة والرّحمة والتّسهيل والسّماحة) * «5» .
2-* (وقال عند قوله تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (الحج/ 78) أي ما كلّفكم مالا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلّا جعل الله لكم فرجا ومخرجا، فالصّلاة الّتي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشّهادتين تجب في الحضر أربعا، وفي السّفر تقصر إلى اثنتين) * «6» .
3-* (وقال ابن عاشور: أي فضّل الله لهذا الدّين المستتبع بفضل أهله بأن جعله دينا لا حرج فيه، لأنّ ذلك يسهّل العمل به مع حصول مقصد الشّريعة) * «7» .
4-* (وقال النّوويّ في شرح قوله صلّى الله عليه وسلّم «يسرّوا ولا تعسّروا ... » .
«فيه تأليف من قرب إسلامه وترك التّشديد عليهم، وكذلك من قارب البلوغ من الصّبيان، ومن بلغ ومن تاب من المعاصي، كلّهم يتلطّف به ويدرجون في أنواع الطّاعة قليلا قليلا، وقد كانت أمور الإسلام في التّكليف على التّدريج، فمتى يسّر
__________
(1) فشنّه: أي صبّه.
(2) البخاري- الفتح 1 (219) ، ومسلم (285) واللفظ له.
(3) أفتان أنت: أي منفر عن الدين، وصاد عنه.
(4) البخاري- الفتح 2 (701) ، ومسلم (465) واللفظ له.
(5) تفسير ابن كثير (2/ 29) .
(6) المرجع السابق (3/ 326) .
(7) التحرير والتنوير (17/ 349) .(9/4299)
على الدّاخل في الطّاعة أو المريد للدّخول فيها سهلت عليه، وكانت عاقبته غالبا التّزايد منها، ومتى عسّرت عليه أوشك ألّا يدخل فيها، وإن دخل أوشك ألّا يدوم، أو لا يستحليها.
وفيه: أمر الولاة بالرّفق واتّفاق المتشاركين في ولاية ونحوها، وهذا من المهمّات فإنّ غالب المصالح لا يتمّ إلّا بالاتّفاق) * «1» .
5-* (قال ابن كثير عند قوله تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (آل عمران/ 159) أي لو كنت سيّيء الكلام قاسي القلب عليهم لانفضّوا عنك وتركوك ولكنّ الله جمعهم عليك، والآن جانبك لهم تأليفا لقلوبهم) * «2» .
6-* (وقال عند قوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ (النحل/ 125) أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب كقوله تعالى وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (العنكبوت/ 46) فأمره تعالى بلين الجانب كما أمر به موسى وهارون- عليهما السّلام- حين بعثهما إلى فرعون في قوله فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (طه/ 44)) * «3» .
7-* (وفسّر ابن عاشور الموعظة بأنّها القول الّذي يلين نفس المقول له لعمل الخير، ووصفها بالحسن تحريض على أن تكون النّيّة مقبولة عند النّاس) * «4» .
من مضار (التنفير)
(1) يذهب ثواب العمل.
(2) يفسد الاجتماع على الخير.
(3) يورث كره المجتمع لصاحبها.
(4) يجلب سخط الله ورسوله.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (6/ 284) ط دار أبي حيان.
(2) تفسير ابن كثير (1/ 420) .
(3) المرجع السابق (2/ 591) .
(4) التحرير والتنوير (14/ 327) .(9/4300)
التهاون
التهاون لغة:
مصدر قولهم: تهاون بالشّيء استحقره فرآه هيّنا، وهو مأخوذ من مادّة (هـ ون) الّتي تدلّ على السّكون ونحوه «1» ، والهون: مصدر هان عليه الشّيء أي خفّ، وهوّنه الله عليه سهّله وخفّفه، والهون (بالضّمّ) : الهوان، وأهانه استخفّ به، والاسم من ذلك: الهوان والمهانة، يقال: رجل فيه مهانة أي ذلّ وضعف، واستهان به مثل تهاون به أي استحقره «2» ، وهوّنه (أيضا) أهانه، وقولهم: هو هيّن وهين: ساكن متّئد، وقيل: المشدّد (هيّن) من الهوان، والمخفّف (هين) من اللّين، وعلى هونك أي على رسلك، وهو يهاون نفسه: يرفق بها «3» ، وقول الله تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ المعنى تحسبون ما خضتم فيه في الإفك شيئا يسيرا لا يلحقكم فيه إثم وهو عند الله في الوزر عظيم «4» ، وفي الحديث «ليس المؤمن بالجافي ولا المهين» يروى بفتح الميم وضمّها فالفتح من المهانة (أي الذّل والاحتقار) ، والضّم من الإهانة، وهي الاستخفاف بالشّيء والاستحقار له، يقال: إنّه
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
4/ 4/ 14
ليهون عليّ هونا وهوانا، قال ابن برّيّ: الهون: هوان الشّيء الحقير الهيّن الّذي لا كرامة له، ويقال: إنّه ليأخذ في أمره بالهون أي بالأهون، قال بعضهم:
العرب تمدح بالهين اللّين، وتذمّ بالهيّن اللّيّن «5» .
التهاون اصطلاحا:
لم تذكر كتب المصطلحات الّتي وقفنا عليها تعريفا للتّهاون، ومن ثمّ يكون باقيا على أصل معناه في اللّغة، ونستطيع أن نعرّفه في ضوء ما ذكره المفسّرون واللّغويّون بأنّه استحقار الشّيء والاستخفاف به والتّفريط في أدائه على الوجه الصّحيح.
[للاستزادة: انظر صفات: الإهمال- البلادة التحقير- التخاذل- التفريط والإفراط- التنصل من المسئولية- الكسل- التخلف عن الجهاد- التولي اتباع الهوى- الغي والإغواء- التعاون على الإثم والعدوان.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: العمل- الرجولة القوة- قوة الإرادة- النشاط- التعاون على البر والتقوى- المسئولية- الوفاء- المسارعة في الخيرات] .
__________
(1) مقاييس اللغة لابن فارس 6/ 21.
(2) الصحاح 6/ 2218.
(3) القاموس المحيط (هون) ص 1600 (ط. بيروت) .
(4) انظر، تفسير القرطبي 12/ 136.
(5) لسان العرب (هون) ص 4724 (ط. دار المعارف) .(9/4301)
الآيات الواردة في «التهاون»
1- إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) «1»
الآيات الواردة في «التهاون» معنى
2- قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) «2»
3- وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) «3»
4- قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)
الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) «4»
انظر أيضا الآيات الكريمة الواردة في صفتي «ترك الصلاة، والنفاق»
__________
(1) النور: 15- 17 مدنية
(2) الأنعام: 31 مكية
(3) النحل: 62 مكية
(4) فصلت: 6- 7 مكية(9/4302)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التهاون)
1-* (عن أبي الجعد الضّمريّ- رضي الله عنه- (وكانت له صحبة) أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع «1» الله على قلبه» ) * «2» .
2-* (عن عقبة بن عامر- رضي الله عنه- قال: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهديت له بغلة شهباء فركبها، فأخذ عقبة يقودها له، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعقبة:
«اقرأ» فقال: وما أقرأ يا رسول الله؟، قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«اقرأ قل أعوذ بربّ الفلق» ، فأعادها عليه حتّى قرأها، فعرف أنّي لم أفرح بها جدّا، فقال: «لعلّك تهاونت بها» ، فما قمت تصلّي «3» بشيء مثلها» ) * «4» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (التهاون) معنى
3-* (عن بلال بن الحارث المزنيّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ أحدكم ليتكّلم بالكلمة من رضوان الله ما يظنّ أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله- عزّ وجلّ- له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإنّ أحدكم ليتكلّم بالكلمة من سخط الله ما يظنّ أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله- عزّ وجلّ- عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه» ) * «5» .
4-* (عن أبي ذرّ- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «عرضت عليّ أعمال أمتّي حسنها وسيّئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطّريق ووجدت في مساويء أعمالها النّخاعة «6» تكون في المسجد لا تدفن» ) * «7» .
__________
(1) طبع على قلبه: أي ختم عليه وغشاه ومنعه من ألطافه، وقيل: ما يجعله الله في قلبه من الجهل والجفاء والقسوة.
(2) رواه أبو داود (1052) ، والترمذي (500) وقال: حديث أبي الجعد حديث حسن، والنسائي 3 (1369) ، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 509) ، وقال محقق «جامع الأصول» (5/ 666) : هو حديث صحيح بشواهده.
(3) فما قمت تصلي بشيء مثلها، أي أنك لا تصلي بشيء يماثلها في فضلها، والمراد الحث على قراءتها وعدم التهاون بشأنها.
(4) أحمد في المسند 4/ 149، وله شاهد عند النسائي من حديث عبد الله بن خبيب بإسناد حسن انظر جامع الأصول (8/ 493) .
(5) سنن ابن ماجه 2 (3969) ، وأخرجه الترمذي (2319) في الزهد، وابن حبان (281) وإسناده حسن.
(6) النخاعة هي البزقة التي تخرج من أصل الفم مما يلي النخاع.
(7) مسلم 1 (553) .(9/4303)
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (التهاون)
1-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في قوله سبحانه: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ (النساء/ 8) .
قال: إنّ ناسا يزعمون أنّ هذه الآية نسخت، لا والله ما نسخت، ولكنّها ممّا تهاون النّاس، هما واليان: وال يرث، وذلك الّذي يرزق، ووال لا يرث، فذاك الّذي يقول بالمعروف، يقول: لا أملك لك أن أعطيك) * «1» .
2-* (عن أبي الدّرداء- رضي الله عنه- قال:
لولا ثلاث لأحببت أن لا أبقى في الدّنيا: وضعي وجهي للسّجود لخالقي في اختلاف اللّيل والنّهار أقدّمه لحياتي، وظمأ الهواجر، ومقاعدة أقوام ينتقون الكلام كما تنتقى الفاكهة، وتمام التّقوى أن يتّقي الله العبد حتّى يتّقيه في مثقال ذرّة، حتّى أن يترك بعض ما يرى أنّه حلال خشية أن يكون حراما، وحتّى يكون حاجزا بينه وبين الحرام، وإنّ الله قد بيّن للنّاس الّذي هو يصيّرهم إليه، قال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) * «2» .
3-* (عن سعيد بن المسيّب قال: «ولا تهاون بالحقّ فيهنك الله ولا تسألنّ عمّا لم يكن حتّى يكون، ولا تضع حديثك إلّا عند من يشتهيه، وعليك بالصّدق وإن قتلك الصّدق، واعتزل عدوّك، واحذر صديقك إلّا الأمين ولا أمين إلّا من يخشى الله، وشاور في أمرك الّذين يخشون ربّهم بالغيب) * «3» .
4-* (قال الحافظ العراقيّ: في قوله صلّى الله عليه وسلّم: من ترك ثلاث جمع تهاونا ... الحديث» ) * «4» المراد بالتّهاون التّرك بلا عذر) * «5» .
5-* (وقال الإمام السّنديّ في الحديث السّابق: «التّهاون هنا قلّة الاهتمام بأمرها (الجمعة) ، وليس الاستخفاف بها لأنّ الاستخفاف بفرائض الله كفر» ) * «6» .
6-* (عن سعيد الأنصاريّ، أنّه حدّث عن سعد بن عمارة أخي بني سعد بن بكر وكانت له صحبة؛ أنّ رجلا قال له: عظني في نفسي، رحمك الله فقال: إذا أنت قمت إلى الصّلاة، فأسبغ الوضوء، فإنّه لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا إيمان لمن لا صلاة له، ثمّ إذا صلّيت، فصلّ صلاة مودّع، واترك طلب كثير من الحاجات؛ فإنّه فقر حاضر، وأجمع اليأس ممّا عند النّاس فإنّه هو الغنى، وانظر إلى ما تعتذر منه من القول والفعل فاجتنبه» ) * «7» .
__________
(1) البخاري- الفتح 5 (2759) .
(2) الدر المنثور للسيوطي 6/ 648.
(3) المرجع السابق 6/ 99.
(4) انظر الحديث رقم 1.
(5) سنن النسائي 3/ 88.
(6) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(7) تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/ 903) .(9/4304)
7-* (عن محمّد بن سيرين قال: «نبّئت أنّ أبا بكر وعمر- رضي الله عنهما- كانا يعلّمان النّاس الإسلام: تعبد الله، ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصّلاة الّتي افترض الله تعالى بمواقيتها، فإنّ في تفريطها الهلكة» ) * «1» .
8-* (قال ابن عمر- رضي الله عنهما- لمّا بلغه حديث أبي هريرة في فضل اتّباع الجنائز: لقد فرّطنا في قراريط كثيرة) * «2» .
9-* (عن ثابت الشّيبانيّ قال: كنّا مع أنس ابن مالك فأخّر الحجّاج الصّلاة، فقام أنس يريد أن يكلّمه فنهاه إخوانه شفقة عليه منه، فخرج فركب دابّته فقال في مسيره ذلك: والله ما أعرف شيئا ممّا كنّا عليه على عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلّا شهادة أن لا إله إلّا الله، فقال رجل: فالصّلاة يا أبا حمزة؟ قال: قد جعلتم الظّهر عند المغرب، أفتلك كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟) * «3» .
10-* (قال ابن الجوزيّ- رحمه الله تعالى-:
الويل كلّ الويل على المفرّط الّذي لا ينظر في عاقبته) * «4» .
11-* (قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى:
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (الإنسان/ 8) كان المسلمون يرون أنّهم لا يؤجرون على الشّيء القليل إذا أعطوه فيجيء المسكين إلى أبوابهم فيستقلّون أن يعطوه الثّمرة والكسرة والجوزة ونحو ذلك فيردّونه ويقولون ما هذا بشيء إنّما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبّه، وكان آخرون يرون أنّهم لا يلامون على الذّنب اليسير: الكذبة والنّظرة وأشباه ذلك، يقولون إنّما وعد الله النّار على الكبائر فرغّبهم في القليل من الخير أن يعملوه فإنّه يوشك أن يكبر، وحذّرهم اليسير من الشّرّ فإنّه يوشك أن يكثر، فنزلت فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) * «5» .
12-* (يقول الغزاليّ في بيان ما تعظم به الصّغائر من الذّنوب: اعلم أنّ الصّغيرة تكبر بأسباب منها: أن يتهاون بستر الله عليه، وحلمه عنه وإمهاله إيّاه ولا يدري أنّه إنّما يمهل مقتا ليزداد بالإمهال إثما فيظنّ أنّ تمكّنه من المعاصي عناية من الله به، فيكون ذلك لأمنه من مكر الله وجهله بمكامن الغرور بالله.
كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ (المجادلة/ 8)) * «6» .
13-* (قال بعض الصّحابة رضي الله عنهم للتّابعين: وإنّكم لتعملون أعمالا هي في أعينكم أدقّ من الشّعر كنّا نعدّها على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الموبقات) * «7» .
14-* (قال ابن الجوزيّ: كثير من النّاس يتسامحون في أمور يظنّونها قريبة وهي تقدح في
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة، للمروزي (2/ 877) .
(2) البخاري- الفتح (3/ 1324) .
(3) البخاري- الفتح (2/ 17، 18) .
(4) صيد الخاطر (245) .
(5) تفسير ابن كثير 4/ 541.
(6) الإحياء 4/ 35.
(7) الإحياء 4/ 34.(9/4305)
الأصول كاستعارة طلّاب العلم جزءا لا يريدونه، وقصد الدّخول على من يأكل ليؤكل معه. والتّسامح بعرض العدوّ التذاذا بذلك، واستصغارا لمثل هذا الذّنب واطلاق البصر استهانة بتلك الخطيئة. وأهون ما يصنع ذلك بصاحبه أن يحطّه من مرتبة المتميّزين بين النّاس، ومن مقام رفعة القدر عند الحقّ، أو فتوى من لا يعلم، لئلّا يقال: هو جاهل ونحو ذلك ممّا يظنّ صغيرا وهو عظيم. وربّما قيل له بلسان الحال: يا من أؤتمن على أمر يسير فخان. كيف ترجو بتدليسك رضا الدّيّان؟ قال بعض السّلف: تسامحت بلقمة فتناولتها، فأنا اليوم من أربعين سنة إلى خلف. فالله الله، اسمعوا ممّن قد جرّب، كونوا على مراقبة. وانظروا في العواقب واعرفوا عظمة النّاهي. واحذروا من نفخة تحتقر، وشررة تستصغر، فربّما أحرقت بلدا، وهذا الّذي أشرت إليه يسير يدلّ على كثير، وأنموذج يعرّف باقي المحقّرات من الذّنوب) * «1» .
من مضار (التهاون)
(1) التّهاون في العبادات يستلزم الطّبع على القلب.
(2) التّهاون بالصّغائر يهلك المؤمن.
(3) التّهاون بالطّاعات، وصغائر أعمال الخير فيه فوات لخير كثير.
(4) التّهاون بالمؤمن يؤدّي إلى أن يكون المؤمن أهون عند الله من أضعف المخلوقات.
(5) في التّهاون مرضاة للشّيطان ومغضبة للرّحمن.
(6) في التّهاون خسران في الدّارين.
(7) التّهاون في أداء الأعمال واستصغار بعضها يؤدّي إلى تخلّف المجتمعات وتأخّر نهضتها.
(8) التّهاون بستر الله تعالى يؤدّي إلى غضبه ومقته.
(9) التّهاون بالقليل من الذّنب يؤدّي إلى جعله من الكبائر.
(10) التّهاون باليسير من أعمال الخير يؤدّي إلى ترك الكبير منها.
(11) التّهاون ببعض الخلق تحقيرا لهم يؤذيهم ويجرح مشاعرهم.
(12) التّهاون ببعض الخلق يقطع علاقات المودّة بين النّاس.
__________
(1) صيد الخاطر لابن الجوزي ص 155- 156.(9/4306)
التولي
التولي لغة:
التّولّي مأخوذ من مادّة «ولي» الّتي تدلّ على القرب، يقول ابن فارس: «الواو والّلام والياء أصل صحيح يدلّ على قرب، من ذلك الولي: القرب «1» والتّولّي: الإعراض بعد قرب. يقول الجوهريّ: وتولّى عنه، أي أعرض وولّى هاربا: أي أدبر، وقوله تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
(البقرة/ 148) أي مستقبلها بوجهه «2» » .
ويقول الرّاغب: وقولهم: تولّى إذا عدّي بنفسه اقتضى معنى الولاية وحصوله في أقرب المواضع منه.
يقال: ولّيت سمعي كذا، وولّيت عيني كذا، وولّيت وجهي كذا، أقبلت به عليه. وإذا عدّي بعن لفظا أو تقديرا اقتضى معنى الإعراض، وترك قربه، فمن الأوّل قوله وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ (المائدة/ 51) ومن الثّاني قوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (آل عمران/ 63) والتولّي، قد يكون بالجسم، وقد يكون بترك الإصغاء والائتمار، قال الله- عزّ وجلّ-: وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (الأنفال/ 20) ويقال: ولّاه دبره، إذا انهزم، وقال
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
6/ 21/ 6
تعالى وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ «3» ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (آل عمران/ 111) .
وولّى الشّيء وتولّى: أدبر. وولّى عنه: أعرض عنه أو نأى، وولّى هاربا: أدبر. وقد يكون ولّيت الشّيء وولّيت عنه بمعنى، وقد تكون التّولية إقبالا، ومنه قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (البقرة/ 144) والتّولية تكون انصرافا. قال الله تعالى: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ... (التوبة/ 25) وقال أبو معاذ النّحويّ: قد تكون التّولية بمعنى التّولّي. يقال: ولّيت وتولّيت بمعنى واحد ... وقد ولّى الشّيء وتولّى إذا ذهب هاربا ومدبرا، والتّولّي يكون بمعنى الإعراض، ويكون بمعنى الاتّباع قال الله تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ (محمد/ 38) أي إن تعرضوا عن الإسلام. وقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ (المائدة/ 51) معناه من يتّبعهم وينصرهم، تقول: تولّيت فلانا أي اتّبعته ورضيت به، وتولّيت الأمر تولّيا إذا وليته، قال الله تعالى: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (النور/ 11) أي ولي وزر الإفك وإشاعته «4» .
__________
(1) المقاييس (6/ 141) .
(2) الصحاح (6/ 2529) .
(3) المفردات (534) .
(4) لسان العرب (15/ 415) . وانظر مختار الصحاح (736) وكذا في المصباح (351) . وكذا السجستاني في الأضداد (236) .(9/4307)
التّولّي اصطلاحا:
قال المناويّ: التّولّي هو الإعراض المتكلّف بما يفهمه (التّفعّل) «1» .
وقال الكفويّ: التّولّي: الإعراض مطلقا، ولا يلزمه الإدبار والتّولّي بالإدبار (يوم الزّحف) قد يكون على حقيقة، وقد يكون كناية عن الانهزام، كما في قوله تعالى ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (التوبة/ 25) .
والتّولّي قد يكون لحاجة تدعو إلى الانصراف مع ثبوت العقد (النّيّة) «2» .
حكم التولي يوم الزحف:
عدّ الإمام ابن حجر التّولّي يوم الزّحف من كافر أو كفّار لم يزيدوا عن الضّعف إلّا لتحرّف لقتال أو لتحيّز إلى فئة يستنجد بها ضمن الكبائر، مستدلّا بقوله تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (الأنفال/ 16) وبما أخرجه الشّيخان من قوله صلّى الله عليه وسلّم «اجتنبوا السّبع الموبقات ... وذكر منها:
التّولّي يوم الزّحف» .
ونقل عن الشّافعيّ- رحمه الله- قوله: إذا غزا المسلمون فلقوا ضعفهم من العدوّ حرم عليهم أن يولّوا إلّا متحرّفين لقتال أو متحيّزين إلى فئة، وإن كان المشركون أكثر من ضعفهم لم أحبّ لهم أن يولّوا، ولا يستوجبون السّخط من الله لو ولّوا عنهم على غير التّحرّف للقتال أو التّحيّز إلى فئة، وهذا مذهب ابن عبّاس- رضي الله عنهما- المشهور عنه «3» .
[للاستزادة: انظر صفات: الجبن- صغر الهمة الضعف- الوهن- التخلف عن الجهاد- التهاون الإهمال- التخاذل- التنصل من المسئولية.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الثبات- الرجولة الشجاعة- علو الهمة- العزة- المسئولية- الشرف جهاد الأعداء- العزم والعزيمة- الشهامة- النشاط] .
__________
(1) التوقيف على مهمات التعاريف (216) . وقوله «بما يفهمه التّفعّل» معناه أنّ صيغة تفعّل هنا تفيد التكلف كما في قولهم: تحلّم، أي تكلف الحلم.
(2) الكليات للكفوي (28، 309) .
(3) الزواجر لابن حجر (604) .(9/4308)
الآيات الواردة في «التولي»
1- أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) «1»
2- إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
(156) «2»
3- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) «3»
4- لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) «4»
5- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ
__________
(1) البقرة: 246 مدنية
(2) آل عمران: 155- 156 مدنية
(3) الأنفال: 15- 16 مدنية
(4) التوبة: 25- 27 مدنية(9/4309)
الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) «1»
6- سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11)
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12)
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) «2»
__________
(1) الأحزاب: 9- 17 مدنية
(2) الفتح: 11- 17 مدنية(9/4310)
الأحاديث الواردة في ذمّ (التولي)
1-* (عن ابن الخصاصية- رضي الله عنه- يقول: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبايعه على الإسلام فاشترط عليّ «تشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله وتصلّي الخمس، وتصوم رمضان، وتؤدّي الزّكاة، وتحجّ البيت، وتجاهد في سبيل الله. قال: قلت:
يا رسول الله، أمّا اثنتان فلا أطيقهما: أمّا الزّكاة فما لي إلّا عشر ذود هنّ رسل أهلي «1» وحمولتهم، وأمّا الجهاد فيزعمون أنّه من ولّى فقد باء بغضب من الله فأخاف إذا حضرني قتال كرهت الموت وخشعت نفسي «2» قال:
فقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده ثمّ حرّكها ثمّ قال: «لا صدقة ولا جهاد، فبم تدخل الجنّة؟» . قال: ثمّ قلت: يا رسول الله، أبايعك، فبايعني عليهنّ كلّهنّ) * «3» .
2-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجتنبوا السّبع الموبقات. قيل:
يا رسول الله، وما هنّ؟ قال: «الشّرك بالله، والسّحر، وقتل النّفس الّتي حرّم الله إلّا بالحقّ، وأكل مال اليتيم، وأكل الرّبا، والتّولّي يوم الزّحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» ) * «4» .
3-* (عن العبّاس بن عبد المطّلب- رضي الله عنه. قال: شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين «5» .
فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث «6» بن عبد المطلّب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم نفارقه. ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بغلة له بيضاء «7» أهداها له فروة بن نفاثة الجذاميّ. فلمّا التقى المسلمون والكفّار ولّى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يركض بغلته «8» قبل الكفّار: قال عبّاس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أكفّها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أي عبّاس، ناد أصحاب السّمرة «9» .
فقال عبّاس: (وكان رجلا صيّتا «10» ) فقلت بأعلى صوتي: أي أصحاب السّمرة؟ قال: فو الله لكأنّ
__________
(1) الذود بفتح الذال وسكون الواو القطيع من الإبل أقله ثلاث وأكثره يترواح بين العشرة والثلاثين ولا يكون إلا من الإناث دون الذكور. والرّسل: هو اللبن.
(2) خشعت نفسي: أي خشيت الموت.
(3) الحاكم في المستدرك (2/ 80) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وبشير بن الخصاصية من المذكورين في الصحابة من الأنصار رضي الله عنهم.
(4) البخاري- الفتح 5 (2766) . مسلم (89) واللفظ له.
(5) حنين: واد بين مكة والطائف، وراء عرفات، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا. وهو معروف كما جاء به القرآن العزيز.
(6) أبو سفيان بن الحارث: أبو سفيان هذا هو ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال جماعة من العلماء: اسمه هو كنيته. وقال آخرون: اسمه المغيرة.
(7) على بغلة له بيضاء: كذا قال في هذه الرواية ورواية أخرى بعدها: أنها بغلة بيضاء، وقال آخر الباب: على بغلته الشهباء. وهي واحدة. قال العلماء: لا يعرف له صلّى الله عليه وسلّم بغلة سواها.
(8) يركض بغلته: أي يضربها برجله الشريفة على كبدها لتسرع.
(9) أصحاب السمرة: هي الشجرة التي بايعوا تحتها بيعة الرضوان. ومعناه ناد أهل بيعة الرضوان يوم الحديبية.
(10) صيتا: أي قوي الصوت. ذكر الحازمي في المؤتلف أن العباس رضي الله عنه- كان يقف على سلع فينادي غلمانه في آخر الليل، وهم في الغابة، فيسمعهم. قال: وبين سلع والغابة ثمانية أميال.(9/4311)
عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها «1» فقالوا: يا لبّيك يا لبّيك. قال: فاقتتلوا والكفّار «2» . والدّعوة في الأنصار «3» يقولون: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار، قال: ثمّ قصرت الدّعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج، يا بني الحارث بن الخزرج، فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا حين حمي الوطيس «4» » قال: ثمّ أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حصيات فرمى بهنّ وجوه الكفّار،. ثمّ قال: «انهزموا، وربّ محمّد.» قال: فذهبت انظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى. قال: فو الله ما هو إلّا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدّهم كليلا «5» وأمرهم مدبرا» ) * «6» .
4-* (عن صفوان بن عسّال- رضي الله عنه- قال: قال يهوديّ لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النّبيّ، فقال صاحبه: لا تقل نبيّ؛ إنّه لو سمعك كان له أربعة أعين، فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألاه عن تسع آيات بيّنات. فقال لهم: «لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النّفس الّتي حرّم الله إلّا بالحقّ، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الرّبا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولّوا الفرار يوم الزّحف، وعليكم خاصّة اليهود «7» أن لا تعتدوا في السّبت» قال: فقبّلوا يده ورجله فقالا: نشهد إنّك نبيّ. قال: «فما يمنعكم أن تتّبعوني؟» قالوا: إنّ
__________
(1) لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها: أي عودهم لمكانتهم وإقبالهم إليه صلّى الله عليه وسلّم عطفة البقر على أولادها. أي كان فيها انجذاب مثل ما في الأمات حين حنت على الأولاد. قال النووي: قال العلماء: في هذا الحديث دليل على أن فرارهم لم يكن بعيدا. وأنه لم يحصل الفرار من جميعهم، وإنّما فتحه عليهم من في قلبه مرض من مسلمة أهل مكة المؤلفة قلوبهم ومشركيها الذين لم يكونوا أسلموا. وإنما كانت هزيمتهم فجأة لا نصبابهم عليهم دفعة واحدة، ورشقهم بالسهام، ولاختلاط أهل مكة معهم ممن لم يستقر الإيمان في قلبه، وممن يتربص بالمسلمين الدوائر. وفيهم نساء وصبيان خرجوا للغنيمة، فتقدم أخفاؤهم. فلما رشقوهم بالنبل ولوا فانقلبت أولاهم على أخراهم. إلى أن أنزل الله سكينته على المؤمنين، كما ذكر الله تعالى في القرآن.
(2) والكفار: هكذا هو في النسخ. وهو بنصب الكفار. أي مع الكفار.
(3) والدعوة في الأنصار: هي بفتح الدال. يعني الاستغاثة والمناداة إليهم.
(4) هذا حين حمى الوطيس: قال الأكثرون: الوطيس شبه تنور يسجر فيه. ويضرب مثلا لشدة الحرب التي يشبه حرها حره. قال آخرون: قيل الوطيس هو التنور نفسه. وقال الأصمعي: هي حجارة مدورة، إذا حميت لم يقدر أحد أن يطأ عليها، فيقال: الآن حمى الوطيس. وقيل: هو الضرب في الحرب. وقيل: هو الحرب الذي يطيس الناس، أي يدقهم. قالوا: وهذه اللفظة من فصيح الكلام وبديعه الذي لم يسمع من أحد قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(5) فما زلت أرى حدهم كليلا: أي ما زلت أرى قوتهم ضعيفة.
(6) البخاري- الفتح 6 (2930) . مسلم (1775) واللفظ له.
(7) قوله خاصة: مفعول مطلق والتقدير أخص خاصة اليهود لتأكيد اختصاصهم بما ألزمتهم به شريعتهم من عدم الاعتداء في السبت.(9/4312)
داود دعا ربّه أن لا يزال في ذرّيّته نبيّ، وإنّا نخاف إن تبعناك أن تقتلنا اليهود) * «1» .
5-* (عن أبي سعيد- رضي الله عنه- قال:
نزلت في يوم بدر وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ (الأنفال/ 16)) * «2» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (التولي) معنى
6-* (عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استعاذ من سبع موتات:
موت الفجاءة، ومن لدغ الحيّة، ومن السّبع، ومن الحرق، ومن الغرق، ومن أن يخرّ على شيء أو يخرّ عليه شيء، ومن القتل عند فرار الزّحف» ) * «3» .
7-* (عن أبي اليسر- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من الهدم، وأعوذ بك من التّردّي، وأعوذ بك من الغرق، والحرق، والهرم، وأعوذ بك أن يتخبّطني الشّيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا، وأعوذ بك أن أموت لديغا» ) * «4» .
8-* (عن عمير اللّيثيّ- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجّة الوداع: «إنّ أولياء الله المصلّون، ومن يقيم الصّلوات الخمس الّتي كتبهنّ الله عليه، ويصوم رمضان، ويحتسب صومه، ويؤتي الزّكاة محتسبا طيّبة بها نفسه، ويجتنب الكبائر الّتي نهى الله عنها» فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله، وكم الكبائر؟ قال: «تسع، أعظمهنّ: الإشراك بالله، وقتل المؤمن بغير حقّ، والفرار من الزّحف، وقذف المحصنة، والسّحر، وأكل مال اليتيم، وأكل الرّبا، وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا. لا يموت رجل لم يعمل هؤلاء الكبائر، ويقيم الصّلاة، ويؤتي الزّكاة إلّا رافق محمّدا صلّى الله عليه وسلّم في بحبوحة «5» جنّة أبوابها مصاريع الذّهب» ) * «6» .
9-* (عن أبي قتادة- رضي الله عنه- يحدّث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قام فيهم فذكر لهم: أنّ الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال. فقام رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفّر عنّي خطاياي؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نعم. إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب «7» ، مقبل غير مدبر»
__________
(1) الترمذي (2733) واللفظ له وقال: حسن صحيح. والحاكم في المستدرك (1/ 9) وقال: هذا حديث صحيح لا نعرف له علّة بوجه من الوجوه ووافقه الذهبي.
(2) أبو داود (2648) وقال الألباني (2/ 502) : صحيح.
(3) أحمد (2/ 171) واللفظ له، وقال الشيخ أحمد شاكر (10/ 100) : إسناده صحيح. وهو في مجمع الزوائد (2/ 318) . وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في «الكبير» و «الأوسط» وفيه ابن لهيعة وفيه كلام.
(4) أبو داود (1552) واللفظ له، وقال الألباني (1/ 288) : صحيح. والنسائي (8/ 282) .
(5) بحبوحة المكان: بحاءين مهملتين وباءين موحدتين مضمومتين: هو وسطه.
(6) المنذري في الترغيب (2/ 304) وقال: رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن.
(7) محتسب: المحتسب هو المخلص لله تعالى.(9/4313)
ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كيف قلت؟» قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفّر عنّي خطاياي؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم. وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر.
إلّا الدّين «1» ؛ فإنّ جبريل- عليه السّلام- قال لي ذلك» ) * «2» .
10-* (عن جابر- رضي الله عنه- قال:
أوصاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعشر كلمات، قال: «لا تشرك بالله شيئا، وإن قتلت وحرّقت، ولا تعقّنّ والديك، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك، ولا تتركنّ صلاة مكتوبة متعمّدا؛ فإنّ من ترك صلاة مكتوبة متعمّدا، فقد برئت منه ذمّة الله، ولا تشربنّ خمرا؛ فإنّه رأس كلّ فاحشة، وإيّاك والمعصية؛ فإنّ بالمعصية حلّ سخط الله- عزّ وجلّ- وإيّاك والفرار من الزّحف، وإن هلك النّاس، إذا أصاب النّاس موتان «3» وأنت فيهم فاثبت، وأنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدبا، وأخفهم في الله» ) * «4» .
11-* (عن عطاء يزعم «5» أنّ أبا العبّاس أخبره أنّه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- يقول: بلغ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّي أصوم أسرد «6» ، وأصلّي اللّيل. فإمّا أرسل إليّ وإمّا لقيته. فقال: «ألم أخبر أنّك تصوم ولا تفطر، وتصلّي اللّيل؟ فلا تفعل، فإنّ لعينك حظّا، ولنفسك حظّا، ولأهلك حظّا، فصم وأفطر، وصلّ ونم، وصم من كلّ عشرة أيّام يوما، ولك أجر تسعة» قال: إنّي أجدني أقوى من ذلك يا نبيّ الله قال: «فصم صيام داود (عليه السّلام) » قال: وكيف كان داود يصوم يا نبيّ الله؟ قال: «كان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفرّ إذا لاقى» قال: من لي بهذه يا نبيّ الله؟ (قال عطاء: فلا أدري كيف ذكر صيام الأبد) فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا صام من صام الأبد «7» ، لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد» ) * «8» .
12-* (عن البراء بن عازب- رضي الله عنهما- قال: جعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على الرّجّالة يوم أحد عبد الله بن جبير، وأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرّسول في أخراهم) * «9» .
__________
(1) إلا الدين: فيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين. وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر، لا يكفر حقوق الآدميين، وإنما يكفر حقوق الله تعالى.
(2) مسلم (1885) .
(3) الموتان بفتح الميم والواو: الموت الكثير الوقوع وهو ما يحدث في الأوبئة.
(4) أحمد (5/ 238) واللفظ له وذكره الهيثمي في المجمع (4/ 215) وقال: رجال أحمد ثقات، إلا أن عبد الرحمن بن جبير لم يسمع من معاذ، ورواه الطبراني في الكبير، وأخرجه المنذري في الترغيب (1/ 383) وقال نحو قول الهيثمي.
(5) يزعم: أي يقول: وقد كثر الزعم بمعنى القول.
(6) أسرد: من سرد الشيء بمعنى تابعه ووالاه.
(7) لا صام من صام الأبد: قال الإمام النووي: أجابوا عن حديث «لا صام من صام الأبد» بأجوبة: أحدها: أنه محمول على حقيقته بأن يصوم معه العيدين والتشريق. وبهذا أجابت عائشة. رضي الله عنها. والثاني: أنه محمول على من تضرر به أو فوت به حقّا. والثالث: أن معنى لا صام: أنه لا يجد من مشقته ما يجدها غيره. فيكون إخبارا، لا دعاء.
(8) البخاري- الفتح 4 (1977) . ومسلم (1159) واللفظ له.
(9) البخاري- الفتح 7 (4067)(9/4314)
13-* (عن عمرو بن حزم- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسّنن والدّيات فذكر فيه: «وإنّ أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة: الإشراك بالله، وقتل النّفس المؤمنة بغير الحقّ، والفرار في سبيل الله يوم الزّحف، وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة، وتعلّم السّحر، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم» ) * «1» .
14-* (عن جابر- رضي الله عنه- قال:
كنّا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة «2» . فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشّجرة. وهي سمرة «3» . وقال: بايعناه على أن لا نفرّ، ولم نبايعه على الموت «4» ) * «5» .
15-* (عن البراء- رضي الله عنه- قال:
لقينا المشركين يومئذ «6» ، وأجلس النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم جيشا من الرّماة وأمّر عليهم عبد الله وقال: لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا. فلمّا لقينا هربوا حتّى رأيت النّساء يشتددن «7» في الجبل، رفعن عن سوقهنّ قد بدت خلاخلهنّ فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة. فقال عبد الله: عهد إليّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن لا تبرحوا فأبوا، فلمّا أبوا صرف وجوههم، فأصيب سبعون قتيلا. وأشرف أبو سفيان «8» فقال: أفي القوم محمّد؟ فقال: لا تجيبوه.
فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة) ؟ «9» قال: لا تجيبوه.
فقال: أفي القوم ابن الخطّاب؟ فقال: إنّ هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه فقال:
كذبت يا عدوّ الله، أبقى الله عليك ما يخزيك. قال أبو سفيان: اعل هبل «10» . فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أجيبوه» .
قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله أعلى وأجلّ» قال أبو سفيان: لنا العزّى «11» ولا عزّى لكم. فقال النّبيّ
__________
(1) المنذري في الترغيب (2/ 304) وقال: رواه ابن حبان في صحيحه انظر الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (14/ 6559) وقال محققه: يشهد له حديث أبي هريرة برقم (5561) ، وحديث عبد الله بن عمرو برقم (5562) وعبد الله بن أحبش برقم (5563) وله شواهد في الصحيحين.
(2) (ألفا وأربعمائة) وفي رواية: ألفا وخمسمائة، وفي رواية: ألفا وثلاثمائة. وقد ذكر البخاري ومسلم هذه الروايات الثلاث في صحيحيهما. وأكثر روايتهما. ألفا وأربعمائة.
(3) سمرة: واحدة السمر، كرجل، شجر الطلح.
(4) بايعناه على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت: وفي رواية سلمة: أنهم بايعوه يومئذ على الموت، وهو معنى رواية عبد الله بن زيد بن عاصم. وفي رواية مجاشع بن مسعود: البيعة على الهجرة، والبيعة على الإسلام والجهاد. وفي حديث ابن عمر وعبادة: بايعنا على السمع والطاعة وأن لا ننازع الأمر أهله. وفي رواية ابن عمر، في غير صحيح مسلم: البيعة على الصبر. قال العلماء: هذه الرواية تجمع المعاني كلها وتبين مقصود كل الروايات. فالبيعة على أن لا نفر معناه الصبر حتى نظفر بعدونا أو نقتل، وهو معنى البيعة على الموت. أي نصبر وإن آل بنا ذلك إلى الموت. لا أن الموت مقصود في نفسه وكذا البيعة على الجهاد، أي والصبر فيه، والله اعلم.
(5) مسلم (1856) .
(6) يقصد يوم موقعة أحد.
(7) يشتددن: أي يسرعن المشي.
(8) أشرف أبو سفيان: أي تطلع.
(9) ابن أبي قحافة: يريد أبا بكر.
(10) اعل هبل: أي ظهر دينك وعلا، وهبل: اسم صنم لهم.
(11) العزّى: اسم صنم لهم.(9/4315)
صلّى الله عليه وسلّم: «أجيبوه» . قالوا: ما نقول؟ قال قولوا: «الله مولانا ولا مولى لكم» . قال أبو سفيان يوم بيوم بدر، والحرب سجال «1» ، وتجدون مثلة «2» لم آمر بها ولم تسؤني) * «3» .
16-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: لمّا كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان بذراريّهم ونعمهم «4» . ومع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يومئذ عشرة آلاف. ومعه الطّلقاء «5» فأدبروا عنه «6» . حتّى بقي وحده. قال:
فنادى يومئذ نداءين. لم يخلط بينهما شيئا. قال: فالتفت عن يمينه فقال: «يا معشر الأنصار» فقالوا: لبّيك يا رسول الله، أبشر، نحن معك. قال: ثمّ التفت عن يساره فقال: «يا معشر الأنصار» قالوا: لبّيك يا رسول الله أبشر، نحن معك. قال: وهو على بغلة بيضاء، فنزل فقال: «أنا عبد الله ورسوله» فانهزم المشركون وأصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غنائم كثيرة، فقسّم في المهاجرين والطّلقاء. ولم يعط الأنصار شيئا. فقالت الأنصار: إذا كانت الشّدّة فنحن ندعى وتعطى الغنائم غيرنا فبلغه ذلك. فجمعهم في قبّة، فقال: «يا معشر الأنصار ما حديث بلغني عنكم؟» فسكتوا. فقال: «يا معشر الأنصار، أما ترضون أن يذهب النّاس بالدّنيا وتذهبون بمحمّد تحوزونه «7» إلى بيوتكم؟» قالوا:
بلى. يا رسول الله، رضينا. قال: فقال: «لو سلك النّاس واديا، وسلكت الأنصار شعبا «8» ، لأخذت شعب الأنصار» ) * «9» .
17-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- لمّا نزلت إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ (الأنفال/ 65) فكتب عليهم أن لا يفرّ واحد من عشرة فقال سفيان غير مرّة: أن لا يفرّ عشرون من مائتين، ثمّ نزلت الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ (الأنفال/ 66) ... الآية، فكتب أن لا يفرّ مائة من مائتين، وزاد سفيان مرّة: نزلت حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ (الأنفال/ 65) قال سفيان وقال ابن شبرمة: وأرى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مثل هذا) * «10» .
18-* (عن بلال بن يسار بن زيد مولى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: سمعت أبي يحدّثنيه عن جدّي: أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من قال: استغفر الله
__________
(1) سجال: أي أن يدال عليه مرة ويدال علينا أخرى وأصله أن المستقيين بسجلين (بدلوين) من البئر يكون لكل واحد منهما سجل أي دلو.
(2) مثلة: بضم الميم وسكون الباء: التمثيل بالقتلى وتقطيع الآذان والأنوف ونحوها.
(3) البخاري- الفتح 7 (4043) .
(4) الذراري: الأهل، ونعمهم: النعم واحد الأنعام. وهي الأموال الراعية. وأكثر ما يقع على الإبل. قال القسطلاني: وكانت عادتهم إذا أرادوا التثبت في القتال، استصحاب الأهالي ونقلهم معهم إلى موضع القتال.
(5) ومعهم الطلقاء: يعني مسلمة الفتح الذين منّ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يوم الفتح، فلم يأسرهم ولم يقتلهم. وهو جمع طليق.
(6) فأدبروا عنه: أي ولوه أدبارهم. وما أقبلوا على العدو معه، حتى بقي صلّى الله عليه وسلّم وحده.
(7) تحوزونه: في المصباح: وكل من ضم إلى نفسه شيئا فقد حازه.
(8) الشعب: بكسر الشين الطريق بين جبلين.
(9) مسلم (1059) .
(10) البخاري- الفتح 8 (4652) .(9/4316)
الّذي لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه غفر له وإن كان فرّ من الزّحف» ) * «1» .
19-* (عن أبي عامر الأشعريّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم الحيّ: الأسد، والأشعريّون: لا يفرّون في القتال، ولا يغلّون هم منّي، وأنا منهم» . قال:
فحدّثت بذلك معاوية، حدّثني فقال: ليس هكذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «هم منّي وإليّ» ، فقلت: ليس هكذا حدّثني أبي ولكنّه حدّثني، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «هم منّي وأنا منهم» ، قال: فأنت أعلم بحديث أبيك) * «2» .
20-* (عن أبي إسحاق. قال: قال رجل للبراء: يا أبا عمارة أفررتم يوم حنين؟ قال: لا والله ما ولّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكنّه خرج شبّان أصحابه «3» وأخفّاؤهم «4» حسّرا «5» ليس عليهم سلاح، أو كثير سلاح، فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم «6» . جمع هوازن وبني نضر. فرشقوهم رشقا «7» ما يكادون يخطئون، فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بغلته البيضاء، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب يقود به. فنزل فاستنصر «8» وقال: أنا النّبيّ لا كذب «9» أنا ابن عبد المطّلب، ثمّ صفّهم» ) * «10» .
21-* (عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أنّه كان في سريّة من سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: فحاص «11» النّاس حيصة فكنت فيمن حاص، قال: فلمّا برزنا قلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزّحف وبؤنا بالغضب؟ فقلنا: ندخل المدينة فنتثبّت فيها ونذهب ولا يرانا أحد، قال: فدخلنا فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن كانت لنا توبة أقمنا، وإن كان غير ذلك ذهبنا. قال: فجلسنا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل صلاة الفجر، فلمّا خرج قمنا إليه فقلنا: نحن الفرّارون. فأقبل إلينا فقال: «لا، بل أنتم العكّارون «12» » قال: فدنونا فقبّلنا يده فقال: «أنا فئة المسلمين» ) * «13» .
__________
(1) أبو داود (1517) واللفظ له، وقال الألباني (1/ 283) : صحيح. وأطال محقق «جامع الأصول» (4/ 389) في التعليق عليه ووافق الحاكم والذهبي على تصحيحه.
(2) الترمذي (3947) واللفظ له وقال: حسن غريب. وأحمد (4/ 129) . والحاكم في المستدرك (2/ 138) وقال: صحيح ووافقه الذهبي.
(3) شبان أصحابه: جمع شاب. كواحد ووحدان.
(4) وأخفاؤهم: جمع خفيف. كطبيب وأطباء. وهم المسارعون المستعجلون.
(5) حسرا: جمع حاسر. كساجد وسجد. أي بغير دروع. وقد فسره بقوله: ليس عليهم سلاح. والحاسر من لا درع له ولا مغفر.
(6) لا يكاد يسقط لهم سهم: يعني أنهم رماة مهرة، تصل سهامهم إلى أغراضهم، كما قال: ما يكادون يخطئون.
(7) فرشقوهم رشقا: أي رموهم بالسهام رميا شديدا.
(8) فاستنصر: أي طلب من الله تعالى النصرة، ودعا بقوله: اللهم أنزل نصرك.
(9) أنا النبي لا كذب: أي أنا النبي حقّا، فلا أفر ولا أزول.
(10) البخاري- الفتح (7/ 4315) ، مسلم (1776) واللفظ له.
(11) فحاص: عدل وحاد.
(12) العكارون: أي أنتم العائدون إلى القتال. والعاطفون عليه. يقال: عكرت على الشيء: أي عطفت عليه وانصرفت إليه بعد الذهاب عنه.
(13) أحمد (2/ 70) قال الشيخ أحمد شاكر (7/ 203- 204) : إسناده صحيح. والترمذي (1716) وحسنه. وأبو داود (2647) واللفظ له.(9/4317)
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (التولي)
1-* (عن مالك عن يحيى بن سعيد أنّ عمر ابن الخطّاب- رضي الله عنه- قال: «كرم المؤمن تقواه، ودينه حسبه، ومروءته خلقه، والجرأة والجبن غرائز يضعها الله حيث شاء، فالجبان يفرّ عن أبيه وأمّه، والجريء يقاتل عمّا لا يؤوب به إلى رحله، والقتل حتف من الحتوف، والشّهيد من احتسب نفسه على الله» ) * «1» .
2-* (قال المنذريّ- رحمه الله-: «كان الشّافعيّ- رحمه الله- يقول: «إذا غزا المسلمون فلقوا ضعفهم من العدوّ حرم عليهم أن يولّوا إلّا متحرّفين لقتال، أو متحيّزين إلى فئة، وإن كان المشركون أكثر من ضعفهم لم أحبّ لهم أن يولّوا، ولا يستوجبون السّخط عندي من الله لو ولّوا عنهم على غير التّحرّف للقتال، أو التّحيّز إلى فئة. وهذا مذهب ابن عبّاس المشهور» ) * «2» .
3-* (قال الإمام النّوويّ- رحمه الله-: «وأمّا عدّه صلّى الله عليه وسلّم التّولّي يوم الزّحف من الكبائر، فدليل صريح لمذهب العلماء كافّة في كونه كبيرة» ) * «3» .
4-* (قال القرطبيّ عند قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (الأنفال/ 15) «أمر الله- عزّ وجلّ- في هذه الآية ألّا يولّي المؤمنون أمام الكفّار، وهذا الأمر مفيد بالشّريطة المنصوصة في مثلى المؤمنين، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنين من المشركين فالفرض ألّا يفرّوا أمامهم. فمن فرّ من اثنين فهو فارّ من الزّحف، ومن فرّ من ثلاثة فليس بفارّ من الزّحف، ولا يتوجّه عليه الوعيد، والفرار كبيرة موبقة بظاهر القرآن وإجماع الأكثر من الأئمّة» ) * «4» .
5-* (وعند القرطبيّ: قال ابن القاسم:
لا تجوز شهادة من فرّ من الزّحف، ولا يجوز لهم الفرار، وإن فرّ إمامهم لقوله- عزّ وجلّ- وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ.. الآية (الأنفال/ 16) «5» .
6-* (قال ابن كثير: «فأمّا إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب فإنّه حرام وكبيرة من الكبائر» ) * «6» .
__________
(1) الموطأ تنوير الحوالك (2/ 19) .
(2) الترغيب والترهيب (2/ 304) .
(3) صحيح مسلم بشرح النووي: (مج 1 ج 2، ص 88) .
(4) تفسير القرطبي (4/ 2905) . ط. دار الغد العربي.
(5) المرجع السابق (4/ 2907) .
(6) تفسير ابن كثير (2/ 294) .(9/4318)
من مضار (التولي)
(1) يسخط الرّبّ- عزّ وجلّ- ويرضي الشّيطان.
(2) الّذي يفرّ يوم الزّحف غير متحيّز إلى فئة أو متحرّف لقتال إنّما يخاف الموت، وهذا دليل على ضعف الإيمان.
(3) من تولّى من الزّحف فقد ارتكب جريمة عظمى في حقّ المجتمع، وأصبح منبوذا ينظر إليه شزرا.
(4) وهو في نفسه منتقص يرى نفسه ذليلا دون غيره في الرّجولة.(9/4319)
[حرف الجيم]
الجبن
الجبن لغة:
مصدر قولهم: جبن يجبن أي صار جبانا، وهو مأخوذ من مادّة (ج ب ن) الّتي تدلّ على ضعف في القلب «1» وذلك صفة الجبان، يقال: رجل جبان وجبّان وجبين: هيّاب للأشياء فلا يتقدّم عليها، ومن المجاز قولهم: جبان الكلب، أي في نهاية الكرم، لأنّه لكثرة تردّد الضّيفان إليه يأنس كلبه فلا يهرّ أبدا، وقال ابن منظور: جمع الجبان جبناء، وهو ضدّ الشّجاع والأنثى: جبان (أيضا) مثل حصان ورزان، والفعل جبن وجبن بالفتح والضّمّ، والمصدر الجبن والجبن والجبانة، واجبنه: وجده جبانا أو حسبه إيّاه، ومن ذلك قول عمرو بن معديكرب: لله درّكم يا بني سليم، قاتلناكم فما أجبنّاكم. أي فما وجدناكم جبناء، وحكي أيضا قولهم: هو يجبّن أي يرمى بالجبن ويقال له، وجبّنه تجبينا نسبه إلى الجبن، وفي الحديث «أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم احتضن أحد ابني ابنته، وهو يقول: والله إنّكم لتجبّنون
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
3/ 9/ 9
وتبخّلون وتجهّلون، وإنّكم لمن ريحان الله» .
يقال: جبّنت الرّجل وبخّلته وجهّلته، إذا نسبته إلى الجبن والبخل والجهل. وكانت العرب تقول: الولد مجبنة مبخلة. لأنّه يحبّ البقاء والمال لأجله وتجبّن الرّجل: غلظ «2» .
الجبن اصطلاحا:
قال الجاحظ: هو الجزع عند المخاوف والإحجام عمّا تحذر عاقبته أو لا تؤمن مغبّته «3» .
وقال الفيروز آباديّ: الجبن: ضعف القلب عمّا يحقّ أن يقوى عليه «4» .
وقال الجرجانيّ: هيئة حاصلة للقوّة الغضبيّة بها يحجم عن مباشرة ما ينبغي وما لا ينبغي «5» .
الجبان لا يكاد ينام:
قال الأبشيهيّ- رحمه الله تعالى-: الجبن خلق مذموم قد استعاذ منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونحن نعوذ بالله ممّا استعاذ منه سيّد الخلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويكفي في
__________
(1) لهذه المادة معنيان آخران هما: الجبن الذي يؤكل، والجبينان ما عن يمين الجبهة وشمالها، كل واحد منهما جبين.
(2) مقاييس اللغة لابن فارس (1/ 305) . لسان العرب (1/ 539- 540) . والصحاح (5/ 2090- 2091) ، وتاج العروس (18/ 102) ، ومقاييس اللغة (1/ 305) .
(3) تهذيب الأخلاق للجاحظ (33) .
(4) بصائر ذوي التمييز (1/ 366) .
(5) التعريفات (73) .(9/4320)
ذمّه أن يقال في وصف الجبان: إن أحسّ بعصفور طار فؤاده، وإن طنّت بعوضة طال سهاده، يفزع من صرير الباب، ويقلق من طنين الذّباب. إن نظرت إليه شزرا أغمي عليه شهرا، يحسب خفوق الرّياح قعقعة الرّماح.
قال الشّاعر:
إذا صوّت العصفور طار فؤاده ... وليث حديد النّاب عند الثّرائد «1» .
[للاستزادة: انظر صفات: التولي- صغر الهمة الضعف- طول الأمل- الوهن- التخاذل- التنصل من المسئولية- الإهمال- التهاون.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الشجاعة- الثبات- الرجولة- علو الهمة- المسئولية- جهاد الأعداء- الشرف- العزة] .
__________
(1) المستطرف (2/ 23) .(9/4321)
الآيات الواردة في «الجبن» معنى
1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9)
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً (11) «1»
2- أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) «2»
3- وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) «3»
__________
(1) الأحزاب: 9- 11 مدنية.
(2) الأحزاب: 19- 20 مدنية.
(3) المنافقون: 4 مدنية.(9/4322)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الجبن)
1-* (عن عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- أنّه قال: «إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، كان يتعوّذ من خمس: من البخل، والجبن، وفتنة الصّدر «1» ، وعذاب القبر، وسوء العمر» ) * «2» .
2-* (عن عقبة بن عامر- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ أنسابكم هذه ليست بسباب على أحد، وإنّما أنتم ولد آدم، طفّ الصّاع، لم تملؤوه، ليس لأحد فضل إلّا بالدّين أو عمل صالح، حسب الرّجل أن يكون فاحشا بذيّا بخيلا جبانا» ) * «3» .
3-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال لأبي طلحة: «التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني حتّى أخرج إلى خيبر، فخرج بي أبو طلحة مردفي وأنا غلام راهقت الحلم، فكنت أخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل، فكنت أسمعه كثيرا يقول:
«اللهمّ إنّي أعوذ بك من الهمّ والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدّين «4» ، وغلبة الرّجال ... الحديث» ) * «5» .
4-* (عن جبير بن مطعم- رضي الله عنه- قال: بينا أنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه النّاس مقبلا من حنين علقت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأعراب يسألونه حتّى اضطرّوه إلى سمرة «6» فخطفت رداءه، فوقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أعطوني ردائي فلو كان عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم ثمّ لا تجدونني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا» ) * «7» .
5-* (عن يعلى- رضي الله عنه- قال: جاء الحسن والحسين يسعيان إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فضمّهما إليه وقال: «إنّ الولد مبخلة مجبنة» ) * «8» .
6-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «شرّ ما في رجل شحّ هالع وجبن خالع» ) «9» .
7-* (عن سعد بن أبي وقّاص- رضي الله
__________
(1) فتنة الصّدر: الصدر بالتحريك: رجوع المسافر من مقصده والمراد: رجوع الناس إلى خالقهم يوم المحشر فاستعاذ النبي صلّى الله عليه وسلّم من فتنة هذا اليوم.
(2) أحمد (1/ 22) . وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح (1/ 218) . وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تعليقه على «المسند» (1/ 290) طبع مؤسسة الرسالة: إسناده صحيح.
(3) أحمد (4/ 145) واللفظ له وفي (4/ 158) بلفظ قريب. وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة وفيه لين وبقية رجاله وثقوا (8/ 84) .
(4) ضلع الدّين: ثقله، والضلع الاعوجاج أي يثقله حتى يميل صاحبه عن الاستواء.
(5) البخاري- الفتح 6 (2893) واللفظ له. ومسلم (2706) .
(6) سمرة: نوع من الشجر.
(7) البخاري- الفتح 6 (3148) .
(8) ابن ماجة (3666) واللفظ له. وقال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وأحمد (4/ 172) ورواه الترمذي وأحمد أيضا منقطعا من حديث خولة بنت حكيم. والحاكم (3/ 164) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.
(9) أحمد (2/ 302) ، وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح(9/4323)
عنه- كان يأمر بهؤلاء الخمس ويحدّثهنّ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أردّ إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدّنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر» ) * «1» .
8-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من عذاب القبر» ) * «2» .
9-* (عن زيد بن أرقم- رضي الله عنه- قال: لا أقول لكم إلّا كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول، كان يقول: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر. اللهمّ آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها. أنت وليّها ومولاها، اللهمّ إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها» ) * «3» .
من الآثار وأقوال العلماء الواردة في ذمّ (الجبن)
1-* (قال أبو بكر- رضي الله عنه- يوصي يزيد بن أبي سفيان وقد أمّره على جيش بعثه إلى الشّام:
«إنّي موصيك بعشر خلال: لا تقتلوا امرأة، ولا صبيّا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطعوا شجرا مثمرا، ولا تخرّبنّ عامرا، ولا تعقرنّ شاة ولا بعيرا إلّا لمأكلة، ولا تغرقنّ نخلا، ولا تحرقنّه، ولا تغلل، ولا تجبن» ) * «4» .
2-* (قال أبو بكر لعمر- رضي الله عنهما- في حروب الرّدّة: «أجبّار في الجاهليّة وخوّار في الإسلام؟» ) * «5» .
3-* (قال عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه-:
كرم المؤمن تقواه، ودينه حسبه، ومروءته خلقه، والجرأة والجبن غرائز يضعها الله حيث شاء، فالجبان يفرّ عن أبيه وأمّه، والجريء يقاتل عمّا لا يؤوب به إلى رحله، والقتل حتف من الحتوف «6» ، والشّهيد من احتسب نفسه على الله «7» » ) * «8» .
4-* (قال أبو الزّناد- رحمه الله تعالى-:
__________
الموضع الأول (15/ 164) والموضع الثاني (16/ 116) . وذكره الألباني في صحيح الجامع (2/ 228) / (3603) ، وهو في الصحيحة (2/ 98) رقم (560) وعزاه كذلك لابن حبان 8 (3250) .
(1) البخاري- الفتح 6 (2822)
(2) البخاري- الفتح 6 (2823) واللفظ له. ومسلم (2706) .
(3) مسلم (2722) .
(4) ذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء (120) طبع دار صادر، وعزاه للبيهقي وغيره عن أبي عمران الجوني.
(5) لسان العرب (3/ 1285) .
(6) حتف من الحتوف: أي نوع من أنواع الموت.
(7) الشهيد من احتسب نفسه على الله: أي رضي بالقتل في طاعة الله رجاء ثوابه تعالى.
(8) الموطأ (2/ 463) .(9/4324)
«لمّا حضرت خالد بن الوليد الوفاة بكى، ثمّ قال: لقد حضرت كذا وكذا زحفا وما في جسدي شبر إلّا وفيه ضربة سيف أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء» ) * «1» .
5-* (قال عمرو بن أمامة:
لقد حسوت الموت قبل ذوقه ... إنّ الجبان حتفه من فوقه
كلّ امرىء مقاتل عن طوقه ... والثّور يحمي أنفه بروقه «2» ) * «3» .
6-* (قال ابن تيمية- رحمه الله تعالى.: «إنّ الجميع يتمادحون بالشّجاعة والكرم حتّى إنّ ذلك عامّة ما يمدح به الشّعراء ممدوحيهم في شعرهم، وكذلك يتذامّون بالبخل والجبن» ) * «4» .
7-* قال طرفة:
فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثا حول قبّتنا تخور) * «5» .
8-* (قال الرّاجز:
لا أقعد الجبن عن الهيجاء ... ولو توالت زمر الأعداء) *
«6» .
9-* (وقال الآخر في الحجّاج بن يوسف الثّقفيّ الأمير المعروف:
أسد عليّ وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصّافر
هلّا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر) * «7» .
من مضار (الجبن)
(1) الذّلّ في الدّنيا، والخزي في الآخرة.
(2) الجبان لا يسود ولا يكون إماما.
(3) من أسوأ الخلال وشرّ الخصال.
(4) لا يؤخّر أجلا ولا يقرّب نفعا.
(5) الجبان مبغض حتّى إلى أقربائه.
(6) يؤدّي إلى احتلال الأوطان، وهتك الأعراض.
(7) وجود الجبناء في المعركة يفتّ في عضد الجيش الكبير.
__________
(1) البداية والنهاية (7/ 117) .
(2) الروق: القرن من كل شيء.
(3) مجمع الأمثال لأبي الفضل أحمد بن محمد النيسابوري الميداني (1/ 39) .
(4) باختصار من الاستقامة (2/ 263) .
(5) الجواب الكافي (85) .
(6) أوضح المسالك الى ألفية ابن مالك (2/ 46) ط دار الندوة الجديدة، بيروت.
(7) البداية والنهاية (9/ 22) ط. دار الريان. لسان العرب (3/ 1285) .(9/4325)
الجحود
الجحود لغة:
الجحود والجحد مصدر قولهم: جحد يجحد جحدا وجحودا وهو مأخوذ من مادّة (ج ح د) الّتي تدلّ على قلّة الخير. يقال: عام جحد: قليل المطر، والجحد من كلّ شيء، القلّة.
وقال الشّيبانيّ: أجحد الرّجل وجحد إذا أنفض وذهب ماله ... ومن هذا الباب الجحود، ولا يكون إلّا مع علم الجاحد به أنّه صحيح. قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ (النمل/ 14) وما جاء جاحد بخير قطّ «1» .
ويقول الجوهريّ: الجحود: الإنكار مع العلم.
يقال: جحده حقّه وبحقّه، والجحد أيضا: قلّة الخير، وكذلك الجحد بالضّمّ ... والجحد بالتّحريك مثله.
يقال: نكدا له وجحدا.
وجحد الرّجل- بالكسر- جحدا، فهو جحد إذا كان ضيّقا قليل الخير، وأجحد مثله «2» .
وقال الرّاغب: يقال: رجل جحد شحيح، قليل الخير، يظهر الفقر ... وأجحد: صار ذا جحد «3» .
والجحد والجحد: الضّيق في المعيشة، يقال:
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
11/ 13/ 11
جحد عيشهم جحدا، إذا ضاق واشتدّ «4» .
وجحد فلانا: صادفه بخيلا، قليل الخير..
وجحد: نكد. وفرس جحد- ككتف- غليظ قصير، وجمعه جحاد «5» .
الجحود اصطلاحا:
قال الجرجانيّ: هو عبارة عن الإخبار عن ترك الفعل في الماضي «6» .
يقول الرّاغب: الجحود: نفي ما في القلب إثباته، وإثبات ما في القلب نفيه «7» .
وقال المناويّ: الجحد إنكار ما سبق له وجود، وهو خلاف النّفي «8» .
الفرق بين النفي والجحد:
الجحد مختصّ بالماضي، والنّفي عامّ يشمل الماضي والحاضر، والجحد يقال فيما ينكر باللّسان دون القلب، والنّفي يقال فيهما، والنّافي إذا كان كلامه صادقا يسمّى كلامه نفيا، ولا يسمّى جحدا، قال تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ (الأحزاب/ 40) فهذا نفي، وإن كان كاذبا يسمّى جحدا ونفيا كما في قوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ (النمل/ 14) «9» .
__________
(1) المقاييس (1/ 426) .
(2) الصحاح (2/ 452) .
(3) المفردات (88) .
(4) اللسان (1/ 547) .
(5) التاج (4/ 376، 377) .
(6) التعريفات (77) .
(7) المفردات (88) .
(8) التوقيف (121) .
(9) التوقيف (2) ، والتعريفات (77) ، والكليات للكفوي (160) .(9/4326)
أسباب كفران النعم وجحودها:
قال الغزاليّ- رحمه الله تعالى- لم يقصّر بالخلق عن شكر النّعم إلّا الجهل والغفلة، فإنّهم منعوا بالجهل والغفلة عن معرفة النّعم، ولا يتصوّر شكر النّعمة إلّا بعد معرفة كونها نعمة، ثمّ إنّهم إن عرفوا نعمة ظنّوا أنّ الشّكر عليها أن يقول باللّسان: الحمد لله والشّكر لله. ولم يعرفوا أنّ معنى الشّكر أن يستعمل النّعمة في إتمام الحكمة الّتي أريدت بها وهي طاعة الله عزّ وجلّ- فلا يمنع من الشّكر بعد حصول هاتين المعرفتين إلّا غلبة الشّهوة واستيلاء الشّيطان.
أمّا الغفلة عن النّعم فلها أسباب، وأحد أسبابها أنّ النّاس بجهلهم لا يعدّون ما يعمّ الخلق ويسلم لهم في جميع أحوالهم نعمة، فلذلك لا يشكرون على ما عمّ الله به الخلق من شتّى النّعم في الكون والنّفس كالشّمس والقمر واللّيل والنّهار والحرارة والبرودة واستساغة الطّعام، ذلك ممّا لا يحصى كثرة؛ لأنّها عامّة للخلق، مبذولة لهم في جميع أحوالهم، فلا يرى كلّ واحد لنفسه منهم اختصاصا به فلا يعدّه نعمة، فلا تراهم يشكرون الله على روح الهواء ولو أخذ بمختنقهم لحظة حتّى انقطع الهواء عنهم ماتوا، ولو حبسوا في بيت حمّام فيه هواء حارّ أو في بئر فيه هواء ثقل برطوبة الماء ماتوا غمّا، فإن ابتلي واحد منهم بشيء من ذلك ثمّ نجا ربّما قدّر ذلك نعمة وشكر الله عليها، وهذا غاية الجهل إذ صار شكرهم موقوفا على أن تسلب عنهم النّعمة ثمّ تردّ عليهم في بعض الأحوال.
والنّعمة في جميع الأحوال أولى بأن تشكر في بعضها فلا ترى البصير يشكر صحّة بصره إلّا أن تعمى عيناه فعند ذلك لو أعيد عليه بصره أحسّ به وشكره وعدّه نعمة، وهذا الجاهل الّذي لم يقدّر نعمة الله عليه مثل العبد السّوء، حقّه أن يضرب دائما حتّى إذا ترك ضربه ساعة تقلّد به منّة، فإن ترك ضربه على الدّوام غلبه البطر وترك الشّكر، فصار النّاس لا يشكرون إلّا المال الّذي يتطرّق إليه الاختصاص من حيث الكثرة والقلّة وينسون جميع نعم الله تعالى عليهم. ولو أمعن الإنسان النّظر في أحواله رأى من الله نعما كثيرة تخصّه لا يشاركه فيها النّاس كافّة بل يشاركه عدد يسير من النّاس، وربّما لا يشاركه فيها أحد من الخلق، وذلك يتمثّل في ثلاثة أمور يعترف بها كلّ عبد:
أحدها: العقل. فإنّه ما من عبد لله تعالى إلّا وهو راض عن الله في عقله يعتقد أنّه أعقل النّاس، وقلّ من يسأل الله تعالى العقل، ولذا وجب على كلّ الخلق شكر الله.
والأمر الثّاني: الخلق. فما من عبد إلّا ويرى من غيره عيوبا يكرهها وأخلاقا يذمّها، وإنّما يذمّها من حيث يرى نفسه بريئا منها فإذا لم يشتغل بذمّ الغير وجب عليه أن يشكر الله إذ حسن خلقه وابتلي غيره بسوء الخلق.
والأمر الثّالث الّذي يقرّ به كلّ واحد: العلم.
فما من أحد إلّا ويعرف بواطن أمور نفسه وخطايا أفكاره وما هو منفرد به، ولو كشف الغطاء حتّى اطّلع عليه أحد من الخلق لا فتضح، فكيف لو اطّلع النّاس كافّة ألا يوجب ستر القبيح وإخفاؤه عن عين النّاس شكر هذه النّعمة العظيمة؟ ولم يصرف الخلق عن شكر هذه النّعمة إلّا الغفلة والجهل. وأعمّ من هذه الأمور أمور(9/4327)
أخرى فما من واحد من الخلق إلّا وقد رزقه الله تعالى في صورته أو أخلاقه أو صفاته أو أهله أو والده أو مسكنه أو بلده أو رفيقه أو زوجه أو ولده أو عزّه أو جاهه أو في سائر أموره، فإنّه لو سلب ذلك منه وأعطي ما خصّص به غيره فإنّه لا يرضى به فإذا كان الأمر كذلك فقد وجب على كلّ الخلق أن يشكروه على أن جعلهم على هذه الحالة الّتي هم عليها ولم يجعلهم على حال الآخرين، ولكن غلب عليهم كفر النّعمة.
وما سدّ على الخلق طريق الشّكر إلّا جهلهم بضروب النّعم الظّاهرة والباطنة والخاصّة والعامّة، أو الغفلة عنها لحصولهم عليها بلا أدنى سبب «1» .
الجحود بآيات الله:
لقد نعى القرآن الكريم على المشركين وأهل الكتاب جحودهم بآيات الله رغم معرفتهم بها، وشدّد النّكير عليهم فوسمهم بالظّلم، في قوله سبحانه وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (الأنعام/ 33) ، وقد كان هذا الجحود سببا للعنة قوم عاد وإبعادهم وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ* وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (هود/ 59- 60) ، وقد وصف القرآن الكريم من يجحد بآيات الله بالكفر حينا وبالظّلم حينا فقال- عزّ من قائل-:
وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ (العنكبوت/ 47) ، وقال سبحانه وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ (العنكبوت/ 49) ، وجاء وصفهم بأنّهم أهل الإفك والختر، فقال تعالى: كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (غافر/ 63) ، وقال سبحانه: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (لقمان/ 32) وقد أوضح المولى- عزّ وجلّ- أنّ الجحود من عوامل الاستكبار والغرور فقال سبحانه: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (فصلت/ 15) .
إنّ الجاحد بآيات الله لن يغني عنه سمعه ولا بصره، ولا فؤاده، وكأنّه حرم نفسه من نعمة الله الّتي أنعم الله بها عليه، يقول سبحانه: وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ (الأحقاف/ 26) .
والنّتيجة الحتميّة للجحود هي الخلود في النّار وفوق ذلك فإنّهم أعداء لله فاستحقّوا بذلك الوعيد الشّديد ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (فصلت/ 28) .
[للاستزادة: انظر صفات: نكران الجميل- اتباع الهوى- الإصرار على الذنب- الضلال- الغرور- الكفر- التفريط والإفراط- عقوق الوالدين- قطيعة الرحم- الجفاء.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الاعتراف بالفضل- الإيمان- الشكر- الثناء- الإحسان- المروءة- بر الوالدين- صلة الرحم] .
__________
(1) انتهى بتصرف من إحياء علوم الدين للغزالي (4/ 123- 126) .(9/4328)
الآيات الواردة في «الجحود»
الجاحدون من أكبر النادمين:
1- وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) «1»
الجاحدون سفهاء ظالمون:
2- قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) «2»
3- وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) «3»
4- وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) «4»
__________
(1) الأعراف: 44- 51 مكية
(2) الأنعام: 33 مكية
(3) النحل: 71 مكية
(4) العنكبوت: 47- 49 مكية(9/4329)
5- أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)
وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) «1»
6- اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61)
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)
كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64)
هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) «2»
الجحود سمة الكافرين السابقين:
7- وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) «3»
8- إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) «4»
__________
(1) لقمان: 31- 32 مكية
(2) غافر: 61- 65 مكية
(3) هود: 59- 60 مكية
(4) النمل: 7- 14 مكية(9/4330)
9- فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13)
إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14)
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15)
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16)
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) «1»
10- وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27)
ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) «2»
11- وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)
قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23)
فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24)
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) «3»
__________
(1) فصلت: 13- 17 مكية
(2) فصلت: 26- 28 مكية
(3) الأحقاف: 21- 26 مكية(9/4331)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الجحود)
1-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- أنّه قال: لمّا نزلت آية الدّين قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ أوّل من جحد آدم (عليه السّلام) أو أوّل من جحد آدم- إنّ الله- عزّ وجلّ- لمّا خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو من ذراريّ إلى يوم القيامة. فجعل يعرض ذرّيّته عليه، فرأى منهم رجلا يزهر «1» ، فقال: أي ربّ، من هذا؟. قال: هذا ابنك داود. قال: أي ربّ، كم عمره؟. قال: ستّون عاما. قال: ربّ زد في عمره.
قال: لا. إلّا أن أزيده من عمرك، وكان عمر آدم ألف عام، فزاده أربعين عاما، فكتب الله- عزّ وجلّ- عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة، فلمّا احتضر آدم وأتته الملائكة لتقبضه قال: إنّه قد بقي من عمري أربعون عاما. فقيل: إنّك قد وهبتها لابنك داود. قال:
ما فعلت وأبرز الله- عزّ وجلّ- عليه الكتاب وشهدت عليه الملائكة» ) * «2» .
2-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من تعلّم الرّمي ثمّ نسيه فهي نعمة جحدها» ) * «3» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (الجحود) معنى
3-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: إنّ ناسا من عرينة قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فاجتووها «4» فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصّدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها» ففعلوا فصحّوا، ثمّ مالوا على الرّعاة فقتلوهم وارتدّوا عن الإسلام، وساقوا ذود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبلغ ذلك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فبعث في أثرهم فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم «5» ، وتركهم في الحرّة «6» حتّى ماتوا) * «7»
4-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أضحى أو فطر إلى المصلّى، ثمّ انصرف فوعظ النّاس، وأمرهم بالصّدقة فقال: «أيّها النّاس، تصدّقوا، فمرّ على النّساء فقال:
«يا معشر النّساء، تصدّقن، فإنّي رأيتكنّ أكثر أهل النّار» . فقلن: وبم ذلك يا رسول الله؟. قال:
«تكثرن اللّعن، وتكفرن العشير «8» ما رأيت من
__________
(1) يزهر: يضىء وجهه حسنا.
(2) أحمد (1/ 251- 252) واللفظ له، وقال الشيخ أحمد شاكر (4/ 71) : صحيح، والحديث في مجمع الزوائد (8/ 206) وزاد نسبته إلى الطبراني وكذا ابن كثير (2/ 71) .
(3) ذكره المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 282) . وقال: رواه البزار والطبراني في الصغير والأوسط بإسناد حسن
(4) اجتووها: لم توافقهم وكرهوها لسقم أصابهم.
(5) سمل أعينهم: فقأها وأذهب ما فيها.
(6) الحرة: أرض ذات حجارة سود معروفة بالمدينة.
(7) البخاري- الفتح 12 (6802) ومسلم (1671) وهذا لفظه.
(8) تكفرن العشير: لا تشكرن أزواجكن.(9/4332)
ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرّجل الحازم من إحداكنّ يا معشر النّساء» ثمّ انصرف فلمّا صار إلى منزله جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن عليه.
فقيل: يا رسول الله، هذه زينب. فقال: «أيّ الزّيانب؟» فقيل: امرأة ابن مسعود. قال: «نعم.
ائذنوا لها» فأذن لها. قالت: يا نبيّ الله، إنّك أمرت اليوم بالصّدقة، وكان عندي حليّ لي فأردت أن أتصدّق بها فزعم ابن مسعود أنّه وولده أحقّ من تصدّقت به عليهم. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «صدق ابن مسعود. زوجك وولدك أحقّ من تصدّقت به عليهم» ) * «1» .
5-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه سمع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ ثلاثة في بني إسرائيل:
أبرص «2» وأقرع وأعمى. فأراد الله أن يبتليهم «3» .
فبعث إليهم ملكا. فأتى الأبرص فقال: أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن، ويذهب عنّي الّذي قد قذرني النّاس. قال: فمسحه فذهب عنه قذره، وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا. قال:
فأيّ المال أحبّ إليك؟ قال: الإبل. قال: فأعطي ناقة عشراء «4» . قال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع فقال: أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عنّي هذا الّذي قذرني النّاس. قال:
فمسحه فذهب عنه وأعطي شعرا حسنا. قال: فأيّ المال أحبّ إليك؟ قال: البقر. فأعطي بقرة حاملا.
فقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأعمى فقال:
أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال: أن يردّ الله إليّ بصري فأبصر به النّاس. قال: فمسحه فردّ الله إليه بصره.
قال: فأيّ المال أحبّ إليك؟. قال: الغنم. فأعطي شاة والدا «5» . فأنتج هذان، وولّد هذا «6» . قال:
فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم. قال: ثمّ إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئته. فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال «7» في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلّا بالله ثمّ بك. أسألك بالّذي أعطاك اللّون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلّغ عليه في سفري. فقال: الحقوق كثيرة.
فقال له: كأنّي أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك النّاس؟ فقيرا فأعطاك الله؟ فقال: إنّما ورثت هذا المال كابرا عن كابر «8» . فقال: إن كنت كاذبا، فصيّرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأقرع في صورته فقال له مثل ما قال لهذا، وردّ عليه مثل ما ردّ على
__________
(1) البخاري- الفتح 3 (1462) واللفظ له، ومسلم (1000) مثله لكن من حديث زينب امرأة ابن مسعود.
(2) أبرص: البرص بياض يظهر في ظاهر البدن، لفساد مزاج. برص، كفرح، فهو أبرص. وأبرصه الله.
(3) يبتليهم: أي يختبرهم.
(4) ناقة عشراء: هي الحامل القريبة الولادة.
(5) شاة والدا: أي وضعت ولدها، وهو معها.
(6) فأنتج هذان وولد هذا: هكذا الرواية: فأنتج، رباعي وهي لغة قليلة الاستعمال. والمشهور نتج، ثلاثي. ومعناه تولى الولادة، وهي النتج والانتاج، ومعنى ولّد هذا، بتشديد اللام، معنى أنتج. والنتاج للإبل، والمولد للغنم وغيرها، هو كالقابلة للنساء.
(7) انقطعت بي الحبال: هي الأسباب. وقيل: الطرق.
(8) إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر: أي ورثته من آبائي الذين ورثوه من آبائهم، كبيرا عن كبير، في العز والشرف والثروة.(9/4333)
هذا، فقال: إن كنت كاذبا فصيّرك الله إلى ما كنت.
قال: وأتى الأعمى في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلّا بالله ثمّ بك. أسألك، بالّذي ردّ عليك بصرك شاة أتبلّغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فردّ الله إليّ بصري، فخذ ما شئت، ودع ما شئت، فو الله لا أجهدك اليوم «1» شيئا أخذته لله.
فقال: أمسك مالك، فإنّما ابتليتم، فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك» ) * «2» .
6-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- أنّه قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أريت النّار فإذا أكثر أهلها النّساء يكفرن. قيل: أيكفرن بالله؟. قال: يكفرن العشير، ويكفرن
الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهنّ الدّهر ثمّ رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قطّ» ) * «3» .
7-* (عن وائل بن حجر- رضي الله عنه- قال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتاه رجلان يختصمان في أرض فقال أحدهما: إنّ هذا انتزى على أرضي يا رسول الله في الجاهليّة. قال: «بيّنتك» ، قال: ليس لي بيّنة. قال: «يمينه» . قال: إذن يذهب بها. قال:
«ليس لك إلّا ذاك» ، قال: فلمّا قام ليحلف قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من اقتطع أرضا ظالما، لقي الله وهو عليه غضبان» ) * «4» .
8-* (عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرا صابرا. ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا. من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضّله به عليه كتبه الله شاكرا صابرا، ومن نظر في دينه إلى من هو دونه، ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منه لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا» ) * «5» .
9-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال الله- عزّ وجلّ-:
يؤذيني ابن آدم يسبّ الدّهر وأنا الدّهر، بيدي الأمر، أقلّب اللّيل والنّهار» ) * «6» .
10-* (عن زيد بن خالد الجهنيّ- رضي الله عنه- أنّه قال: صلّى لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الصّبح بالحديبية على أثر سماء كانت من اللّيلة، فلمّا انصرف أقبل على النّاس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربّكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأمّا من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي، وكافر بالكوكب، وأمّا من قال: بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي، ومؤمن
__________
(1) أجهدك: معناه لا أشق عليك برد شيء تأخذه.
(2) البخاري- الفتح 6 (3464) . ومسلم (2964) واللفظ له.
(3) البخاري- الفتح 1 (29) واللفظ له، ومسلم (907) .
(4) مسلم (139) .
(5) الترمذي (2512) واللفظ له، وقال: حسن غريب. وبعضه في مسلم من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- (2963) ، ابن ماجة (4142) .
(6) البخاري- الفتح 8 (4826) .(9/4334)
بالكوكب» ) * «1» .
11-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنزل الله من السّماء من بركة إلّا أصبح فريق من النّاس بها كافرين. ينزل الله الغيث، فيقولون: الكوكب كذا وكذا» ) * «2» .
12-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمر على الصّدقة فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعبّاس عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«ما ينقم ابن جميل إلّا أنّه كان فقيرا فأغناه الله، وأمّا خالد فإنّكم تظلمون خالدا. قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأمّا العبّاس فهي عليّ ومثلها معها» ثمّ قال: «يا عمر، أما شعرت أنّ عمّ الرّجل صنو أبيه؟» ) * «3» .
13-* (عن النّعمان بن بشير- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر النّاس لم يشكر الله، والتّحدّث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب» ) * «4» .
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (الجحود)
1-* (قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في تفسير قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (العاديات/ 6) : أي كفور.
وكذا قاله جماعة، وقال أبو أمامة الباهليّ- رضي الله عنه-: الكنود: الّذي يأكل وحده، ويضرب عبده، ويمنع رفده.
وقال الحسن البصريّ- رحمه الله تعالى-: الكنود هو الّذي يعدّ المصائب وينسى نعم الله عليه) * «5» .
2-* (قال سعيد بن جبير- رحمه الله تعالى- عند تفسير قوله تعالى: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ (القلم/ 17) . كان أصحابها من قرية يقال لها ضروان على ستّة أميال من صنعاء وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنّة وكانوا من أهل الكتاب، وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة فإنّ ما يستغلّ منها يردّ فيها ما تحتاج إليه، ويدّخر لعياله قوت سنتهم، ويتصدّق بالفاضل. فلمّا مات وورثه بنوه قالوا: لقد كان أبونا أحمق؛ إذ كان يصرف من هذه شيئا للفقراء، ولو أنّا منعناهم لتوفّر ذلك علينا، فلمّا عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم فأذهب الله ما بأيديهم بالكلّيّة رأس المال والرّبح والصّدقة فلم يبق لهم شيء) * «6» .
__________
(1) البخاري- الفتح 2 (846) واللفظ له، ومسلم (71) .
(2) مسلم (72) ، وقد خرجه الشيخان من حديث زيد بن خالد الجهني بغير هذا اللفظ.
(3) البخاري- الفتح 3 (1468) ، ومسلم (983) واللفظ له.
(4) أحمد (4/ 278) ، وذكره الألباني في الصحيحة برقم (667) ، (2/ 276) ، وعزاه أيضا للقضاعي (3/ 1) .
(5) تفسير ابن كثير (4/ 542) .
(6) تفسير ابن كثير (4/ 406- 407) ط. دار المعرفة.(9/4335)
وقال عقب ذلك ابن كثير- رحمه الله تعالى- هكذا عذاب من خالف أمر الله، وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه، ومنع حقّ المسكين والفقير وذوي الحاجات وبدّل نعمة الله كفرا.
3-* (قال كعب الأحبار- رحمه الله تعالى-:
ما أنعم الله على عبد من نعمة في الدّنيا فشكرها لله وتواضع بها لله إلّا أعطاه نفعها في الدّنيا، ورفع له بها درجة في الآخرة، وما أنعم الله على عبد نعمة في الدّنيا فلم يشكرها لله، ولم يتواضع بها إلّا منعه الله نفعها في الدّنيا، وفتح له طبقات من النّار يعذّبه إن شاء أو يتجاوز عنه) * «1» .
4-* (قال وهب بن منبّه- رحمه الله تعالى-:
ترك المكافأة من التّطفيف) * «2» .
5-* (كتب ابن السّمّاك إلى محمّد بن الحسن رحمهما الله تعالى- حين ولي القضاء بالرّقّة: أمّا بعد، فلتكن التّقوى من بالك على كلّ حال، وخف الله من كلّ نعمة أنعم بها عليك من قلّة الشّكر عليها مع المعصية بها «3» ، وأمّا التّبعة فيها فقلّة الشّكر عليها، فعفا الله عنك كلّ ما ضيّعت من شكر، أو ركبت من ذنب، أو قصّرت من حقّ) * «4» .
6-* (قال الأصمعيّ- رحمه الله تعالى-:
سمعت أعرابيّا يقول: أسرع الذّنوب عقوبة كفر المعروف) * «5» .
7-* (قال إبراهيم بن مهديّ مخاطبا المأمون:
البرّ بي منك وطّا العذر عندك لي ... فيما فعلت فلم تعذل ولم تلم
وقام علمك بي فاحتجّ عندك لي ... وقام شاهد عدل غير متّهم
لئن جحدتك معروفا مننت به ... إنّي لفي اللّؤم أحظى منك بالكرم
تعفو بعدل وتسطو إن سطوت به ... فلا عدمتك من عاف ومنتقم) * «6» .
8-* (قال ابن المبارك- رحمه الله تعالى-:
يد المعروف غنم حيث كانت ... تحمّلها شكور أو كفور
ففي شكر الشّكور لها جزاء ... وعند الله ما كفر الكفور) * «7» .
9-* (قال ابن الأثير: من كان عادته وطبعه كفران نعمة النّاس وترك شكره لهم كان من عادته كفر نعمة الله- عزّ وجلّ- وترك الشّكر له) * «8» .
10-* (قال الشّنقيطيّ- رحمه الله تعالى- في معنى قوله تعالى: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (النحل/ 71) : هذا إنكار من الله عليهم جحودهم بنعمته؛ لأنّ الكافر يستعمل نعم الله في معصية الله فيستعين
__________
(1) عدة الصابرين (145) .
(2) الآداب الشرعية (1/ 314) .
(3) فإن في النعم حجة وفيها تبعة، فأما الحجة بها فالمعصية بها.
(4) عدة الصابرين (130) .
(5) الآداب الشرعية (1/ 311) .
(6) أدب الدنيا والدين للماوردي (252) .
(7) الآداب الشرعية (1/ 311) .
(8) جامع الأصول (2/ 560) ، ونقله عنه ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/ 313) .(9/4336)
بكلّ ما أنعم الله به عليه على معصيته؛ فإنّه يرزقهم ويعافيهم، وهم يعبدون غيره، وجحود النّعمة كفرانها) * «1» .
11-* (قال بعض الحكماء: لا يزهدنّك في المعروف كفر من كفر؛ فإنّه يشكرك عليه من لا تصنعه إليه.
ويقال أيضا: إعطاء الفاجر يقوّيه على فجوره، ومسألة اللّئيم إهانة للعرض، وتعليم الجاهل زيادة في الجهل، والصّنيعة عند الكفور إضاعة للنّعمة، فإذا هممت بشيء من هذا فارتد الموضع قبل الإقدام عليه أو على الفعل) * «2» .
من مضار (الجحود)
(1) يسبّب غضب الرّبّ- عزّ وجلّ-.
(2) يعرض عنه الخلق ولا يمدّون إليه يد المساعدة.
(3) الجحود من أسباب منع النّعم ومنع نزولها وزوالها بعد حصولها.
(4) فيه تشبّه باليهود والكفّار والملحدين.
(5) يقطّع أواصر المجتمع المسلم.
(6) لا يصرف الله عن شكر نعمه إلّا غافلا أو جاهلا.
__________
(1) أضواء البيان (3/ 288) .
(2) الآداب الشرعية (1/ 310) .(9/4337)
الجدال والمراء
الجدال لغة:
مصدر قولهم: جادله يجادله جدالا ومجادلة وهو مأخوذ من مادّة (ج د ل) الّتي تدلّ على استحكام الشّيء في استرسال يكون فيه وامتداد الخصومة ومراجعة الكلام، تقول من ذلك: جادله أي ناظره وخاصمه، والاسم من ذلك: الجدل، وهو شدّة الخصومة، وجدل الحبل: إحكام فتله، وإلى هذا المعنى أرجع الرّاغب معنى الجدال (والمجادلة) فقال:
الجدال المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وكأنّ المتجادلين يفتل كلّ واحد الآخر عن رأيه، وأصله من جدلت الحبل، ومن ذلك جدلت البناء: أحكمته، والأجدل: الصّقر المحكم البنية، وقيل: الأصل في الجدال: الصّرع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصّلبة، والجدل: اللّدد في الخصومة والقدرة عليها، ويقال رجل جدل ومجدل ومجدال إذا كان شديد الخصومة والجدل. كما يقال: جادلت الرّجل فجدلته جدلا أي غلبته. كما يأتي منه المصدر على جدال ومجادلة، ومعناه المناظرة والمخاصمة.
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
25/ 10/ 14
والرّجل مجدول إذا انقطع في الخصام. وهما يتجادلان إذا كانا يتخاصمان.
والمجدل الجماعة من النّاس، وذلك لأنّ الغالب عليهم إذا اجتمعوا أن يتجادلوا، والجدال (أيضا) المخاصمة بما يشغل عن ظهور الحقّ ووضوح الصّواب، قال الفيّوميّ: هذا هو الأصل، ثمّ استعمل على لسان حملة الشّرع في مقابلة الأدلّة لظهور أرجحها. وهو محمود إذا كان للوقوف على الحقّ وإلّا فمذموم، ومن معنى الصّرع قيل: جدله جدلا، وجدّله فانجدل، وتجدّل: أي صرعه على الجدالة، وهو مجدول ومجدّل ومجندل، وأكثر ما يقال: جدّلته تجديلا، وفي الحديث أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا خاتم النّبيّين في أمّ الكتاب، وإنّ آدم لمنجدل في طينته» ، والمجدّل الملقى بالجدالة وهي الأرض، ومنه حديث عليّ- رضي الله عنه- حين وقف على طلحة وهو قتيل (بعد معركة الجمل) فقال: «أعزز عليّ أبا محمّد أن أراك مجدّلا تحت نجوم السّماء» أي ملقى على الأرض قتيلا «1» .
__________
(1) مقاييس اللغة لابن فارس (1/ 433) ، المفردات للراغب 87، لسان العرب (1/ 571) . والصحاح (4/ 1653) . والمصباح المنير (1/ 93) .(9/4338)
الجدال اصطلاحا:
الجدل: دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجّة أو شبهة، أو يقصد به تصحيح كلامه وهو الخصومة في الحقيقة، والجدال: عبارة عن مراء يتعلّق بإظهار المذاهب وتقريرها «1» .
وقال المناويّ: هو مراء يتعلّق بإظهار المذاهب وتقريرها.
وقيل: هو التّخاصم بما يشغل عن ظهور الحقّ ووضوح الصّواب «2» .
وقال الكفويّ: هو عبارة عن دفع المرء خصمه عن فساد قوله بحجّة أو شبهة وهو لا يكون إلّا بمنازعة غيره.
والمجادلة: هي المنازعة في المسألة العلميّة لإلزام الخصم سواء كان كلامه فاسدا أو لا «3» .
حكم الجدال:
الجدال قد يكون محمودا إذا تعلّق بإظهار الحقّ وقد أمر بذلك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قوله سبحانه وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل/ 125) .
وقد يكون مذموما إذا شغل عن ظهور الحقّ ووضوح الصّواب، وهذا هو المقصود بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أوتي الجدل قوم إلّا ضلّوا» «4» .
وقد عدّ الذّهبيّ هذا النّوع من الكبائر، وقال:
إن كان الجدال للوقوف على الحقّ وتقريره كان محمودا، وإن كان الجدال في مدافعة الحقّ، أو كان بغير علم كان مذموما، وعلى هذا التّفصيل تنزّل النّصوص الواردة في إباحته وذمّه «5» .
[للاستزادة: انظر صفات: التنازع- التفرق الهجر- التخاذل- الإعراض- البذاءة- البغض سوء الظن.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الألفة- الإخاء- السماحة- المروءة- الحياء- المحبة- حسن الظن] .
__________
(1) التعريفات للجرجاني (74، 75) .
(2) التوقيف على مهمات التعاريف (122) .
(3) الكليات (353، 849) .
(4) انظر المصباح المنير (1/ 93) .
(5) كتاب الكبائر (221) .(9/4339)
الآيات الواردة في «الجدال»
الجدال يفسد العبادة:
1- الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) «1»
2- إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) «2»
لا جدال عن الباطل:
3- إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)
وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107)
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108)
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) «3»
4- الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
__________
(1) البقرة: 197 مدنية
(2) الأنفال: 2- 6 مكية
(3) النساء: 105- 109 مدنية(9/4340)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) «1»
5- وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) «2»
6- وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) «3»
7- قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) «4»
8- وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71)
__________
(1) الأنعام: 20- 25 مكية
(2) الأنعام: 121 مكية
(3) الأعراف: 65- 72 مكية
(4) هود: 32- 34 مكية(9/4341)
قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) «1»
9- وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) «2»
10- حم (1)
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) «3»
11- وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53)
هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55)
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) «4»
12- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) «5»
13- وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ
(35) «6»
14- وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)
__________
(1) هود: 69- 75 مكية
(2) الحج: 68- 69 مدنية
(3) غافر: 1- 5 مكية
(4) غافر: 53- 56 مكية
(5) غافر: 69- 72 مكية
(6) الشورى: 22- 35 مكية(9/4342)
وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) «1»
الجدال يكون بالحسنى:
15- ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) «2»
16- وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) «3»
لا يجوز الجدال في الله- عزّ وجلّ-:
17- وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) «4»
18- يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) «5»
19- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) «6»
20- أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) «7»
21- الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) «8»
__________
(1) الزخرف: 57- 59 مكية
(2) النحل: 125 مكية
(3) العنكبوت: 46 مكية
(4) الرعد: 13 مكية
(5) الحج: 1- 4 مدنية
(6) الحج: 8 مدنية
(7) لقمان: 20- 21 مكية
(8) غافر: 35 مكية(9/4343)
كل نفس تجادل:
22- يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) «1»
23- وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا (55)
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) «2»
24- قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) «3»
الآيات الواردة في «الجدال» معنى
25- وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) «4»
__________
(1) النحل: 111 مكية
(2) الكهف: 54- 56 مكية
(3) المجادلة: 1 مدنية
(4) الكهف: 32- 41 مكية(9/4344)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الجدال)
1-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «جدال في القرآن كفر» ) * «1» .
2-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الصّيام جنّة فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إنّي صائم- مرّتين- والّذي نفسي بيده لخلوف فم الصّائم أطيب عند الله من ريح المسك. يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي. الصّيام لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها» ) * «2» .
وفي رواية لسعيد بن منصور في سننه: «فلا يرفث ولا يجادل» «3» .
3-* (عن عائشة- رضي الله عنها- زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم- حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرّأها الله ممّا قالوا ... الحديث إلى قولها: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على المنبر- «يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي؟ فو الله ما علمت على أهلي إلّا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلّا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلّا معي» فقام سعد بن معاذ الأنصاريّ فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله. إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقام سعد بن عبادة- وهو سيّد الخزرج- وكان رجلا صالحا، ولكن اجتهلته الحميّة «4» - فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير- وهو ابن عمّ سعد بن معاذ- فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله، لنقتلنّه، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين ... الحديث» ) * «5» .
4-* (عن أبي أمامة الباهليّ- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلّا أوتوا الجدل، ثمّ تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (الزخرف/ 58) «6» .
5-* (عن كعب بن مالك قال: لم أتخلّف عن غزوة غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا في غزوة تبوك ...
الحديث إلى أن قال فيه: فلمّا بلغني أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) أبو داود (4603) . وأحمد (2/ 258) . وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح (13/ 249) واللفظ له. وذكره في المشكاة وقال الشيخ الألباني: رواه أحمد وأبو داود وإسناده حسن وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، قال: وهو صحيح باعتبار أن له شواهد صحيحة (1/ 79) .
(2) البخاري- الفتح 4 (1894) .
(3) ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح (4/ 126) وقال: من رواية سهيل بن أبي صالح يعني أنه صحيح.
(4) اجتهلته: أغضبته وحملته على الجهل.
(5) البخاري- الفتح 5 (2661) . ومسلم (2770) واللفظ له.
(6) الترمذي (3453) وقال: حسن صحيح. وابن ماجة (48) ، وأحمد (5/ 252، 256) وقال محقق جامع الأصول (2/ 749) : إسناده صحيح.(9/4345)
قد توجّه قافلا «1» من تبوك، حضرني بثّي «2» . فطفقت «3» أتذكّر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غدا؟
وأستعين على ذلك كلّ ذي رأي من أهلي. فلمّا قيل لي:
إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أظلّ قادما زاح عنّي الباطل، حتّى عرفت أنّي لن أنجو منه بشيء أبدا. فأجمعت صدقه.
وصبّح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قادما- وكان إذا قدم من سفر، بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثمّ جلس للنّاس. فلمّا فعل ذلك جاءه المخلّفون فطفقوا يعتذرون إليه- وكانوا بضعة وثمانين رجلا- فقبل منهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علانيّتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله حتّى جئت. فلمّا سلّمت تبسّم تبسّم المغضب ثمّ قال:
«تعال» فجئت أمشي حتّى جلست بين يديه فقال لي: «ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك «4» ؟» قال:
قلت: يا رسول الله إنّي، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدّنيا لرأيت أنّي سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكنّي والله لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنّي ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه «5» إنّي لأرجو فيه عقبى الله، والله ما كان لي عذر. والله ما كنت قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنك. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمّا هذا فقد صدق، فقم حتّى يقضي الله فيك» ... الحديث» ) * «6» .
6-* (عن عائشة- رضي الله عنها- أنّها قالت: تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.. إلى قوله: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (آل عمران/ 8) . فقال: «يا عائشة: إذا رأيتم الّذين يجادلون فيه فهم الّذين عناهم الله فاحذروهم» ) «7» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (الجدال) معنى
7-* (عن وائل بن حجر- رضي الله عنه- قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال الحضرميّ: يا رسول الله، إنّ هذا قد غلبني على أرض لي كانت لأبي، فقال الكنديّ:
هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حقّ. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للحضرميّ: «ألك بيّنة؟» قال: لا.
قال: «فلك يمينه» . قال: يا رسول الله، إنّ الرّجل فاجر لا يبالي عن ما حلف عليه وليس يتورّع من شيء. فقال: «ليس لك منه إلّا ذلك» . فانطلق ليحلف، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- لمّا أدبر- «أما لئن
__________
(1) قافلا: راجعا.
(2) البث: الحزن، والمعنى أنني حزنت.
(3) طفقت: بدأت.
(4) ابتعت ظهرك: أي اشتريت دابة للحرب.
(5) تجد عليّ فيه: أي تغضب عليّ بسببه.
(6) البخاري- الفتح 7 (4418) . ومسلم (2769) واللفظ له.
(7) البخاري- الفتح 8 (4547) . ومسلم (2665) . وابن ماجة (47) واللفظ له.(9/4346)
حلف على مال ليأكله ظلما ليلقينّ الله وهو عنه معرض» ) * «1» .
8-* (عن عبادة بن الصّامت- رضي الله عنه- قال: خرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى «2» رجلان من المسلمين فقال: «خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرا، فالتمسوها في التّاسعة والسّابعة والخامسة» ) * «3» .
9-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ترك الكذب- وهو باطل- بني له في ربض «4» الجنّة، ومن ترك المراء- وهو محقّ- بني له في وسطها، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها» ) * «5»
10-* (عن كعب بن مالك- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السّفهاء، ويصرف به وجوه النّاس إليه أدخله الله النّار» ) * «6» .
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (الجدال)
1-* (قال سليمان بن داود- عليهما السّلام- لابنه: دع المراء، فإنّ نفعه قليل، وهو يهيّج العداوة بين الإخوان) * «7» .
2-* (عن زياد بن حدير قال: قال لي عمر:
هل تعرف ما يهرم الإسلام؟ قال: قلت: لا. قال:
يهرمه زلّة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمّة المضلّين) * «8» .
3-* (وقال- رضي الله عنه- إنّه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسّنن؛ فإنّ أصحاب السّنن أعلم بكتاب الله) * «9» .
4-* (قال عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- لإياس بن عمر- رحمه الله- إنّك إن بقيت سيقرأ
__________
(1) مسلم (139) .
(2) فتلاحى: فتخاصم وتنازع وتشاتم.
(3) البخاري- الفتح 4 (2023) .
(4) ربض الجنة: أي منزل، وربض المدينة أي ما حولها.
(5) أبو داود (4800) . والترمذي (1993) وقال: حسن- واللفظ له. وابن ماجة (51) . وقال محقق جامع الأصول (11/ 734) : إسناده حسن.
(6) الترمذي (2655) واللفظ له. وابن ماجة (253) من حديث ابن عمر، (254) من حديث جابر وقال في الزوائد: رجال إسناده ثقات. وذكره ابن الأثير في جامع الأصول وقال محققه: له شواهد بمعناه يتقوى بها (4/ 543) واللفظ له وكذلك ذكره في المشكاة وقال مخرجه: يشهد له حديث ابن عمر عند ابن ماجة وحديث أبي هريرة عنده وعند أبي داود- انظر المشكاة (1/ 77) .
(7) الدارمي (1/ 102) .
(8) الدارمي (1/ 82) . وقال الألباني: إسناده صحيح- مشكاة المصابيح (1/ 89) .
(9) الدارمي (1/ 62) .(9/4347)
القرآن ثلاثة أصناف: فصنف لله، وصنف للجدال، وصنف للدّنيا، ومن طلب به أدرك) * «1» .
5-* (قال أبو الدّرداء- رضي الله عنه- لا تكون عالما حتّى تكون متعلّما، ولا تكون بالعلم عالما حتّى تكون به عاملا، وكفى بك إثما أن لا تزال مخاصما، وكفى بك إثما أن لا تزال مماريا، وكفى بك كذبا أن لا تزال محدّثا في غير ذات الله) * «2» .
6-* (قال ميمون بن مهران- رحمه الله- يوصي بعض تلامذته: «إيّاك والخصومة والجدال في الدّين، ولا تجادلنّ عالما ولا جاهلا. أمّا العالم فإنّه يحزن عنك علمه، ولا يبالي ما صنعت؛ وأمّا الجاهل فإنّه يخشّن بصدرك، ولا يطيعك» ) * «3» .
7-* (كتب عمر بن عبد العزيز- رحمه الله- إلى أهل المدينة: من تعبّد بغير علم كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح، ومن عدّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلّا فيما يعنيه، ومن جعل دينه غرضا للخصومات كثر تنقّله) * «4» .
8-* (وقال- رحمه الله تعالى-: قد أفلح من عصم من المراء والغضب والطّمع) * «5» .
9-* (قال الأوزاعيّ- رحمه الله تعالى-: إذا أراد الله بقوم شرّا ألزمهم الجدل، ومنعهم العمل) * «6» .
10-* (قال مسعر بن كدام- رحمه الله تعالى- يوصي ابنه كداما:
إنّي منحتك يا كدام نصيحتي ... فاسمع لقول أب عليك شفيق
أمّا المزاحة والمراء فدعهما ... خلقان لا أرضاهما لصديق
إنّي بلوتهما فلم أحمدهما ... لمجاور جارا ولا لرفيق
والجهل يزري بالفتى في قومه ... وعروقه في النّاس أيّ عروق؟) * «7» .
11-* (قال مالك- رحمه الله تعالى-: قال الله تعالى فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ (البقرة/ 197) الرّفث: إصابة النّساء، والفسوق:
الذّبح للأنصاب، والجدال في الحجّ: أنّ قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة بقزح، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة فكانوا يتجادلون، يقول هؤلاء:
نحن أصوب، ويقول هؤلاء: نحن أصوب. فقال الله تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (الحج/ 67) . فهذا الجدال) * «8» .
12-* (قال سهل بن عبد الله التّستريّ- رحمه الله تعالى- لرجل سأله متى يعلم الرّجل أنّه من أهل السّنّة والجماعة؟ فقال: إذا عرف من نفسه عشر
__________
(1) الدارمي (2/ 526) .
(2) الدارمي (1/ 101) .
(3) الدارمي (1/ 102) .
(4) الدارمي (1/ 103) .
(5) البداية والنهاية (9/ 209) .
(6) شرح أصول الاعتقاد (مج ط 1/ 145) .
(7) جامع بيان العلم وفضله (2/ 99) .
(8) الموطأ (388) .(9/4348)
خصال: لا يترك الجماعة، ولا يسبّ أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولا يخرج على هذه الأمّة بالسّيف، ولا يكذّب بالقدر، ولا يشكّ في الإيمان، ولا يماري في الدّين، ولا يترك الصّلاة على من يموت من أهل القبلة بالذّنب، ولا يترك المسح على الخفّين، ولا يترك الجماعة (أو قال الجمعة) خلف كلّ وال جار أو عدل) * «1» .
13-* (قال خالد بن برمك: من استطاع أن يمنع نفسه من أربعة أشياء فهو خليق أن لا ينزل به مكروه: العجلة، واللّجاجة، والعجب، والتّواني، فثمرة العجلة النّدامة، وثمرة اللّجاجة الحيرة، وثمرة العجب البغضة، وثمرة التّواني الذّلّ) * «2» .
14-* (روي عن يزيد بن هارون- رحمه الله تعالى- أنّه كان جالسا في مجلس فذكر حديث الرّؤية، فقال له رجل في المجلس: يا أبا خالد ما معنى هذا الحديث؟ فغضب وقال: ما أشبهك بصبيغ وأحوجك إلى مثل ما فعل به «3» . ويلك، ومن يدري كيف هذا؟
ومن يجوز له أن يجاوز هذا القول الّذي جاء به الحديث أو يتكلّم فيه بشيء من تلقاء نفسه إلّا من سفه نفسه واستخفّ بدينه؟ إذا سمعتم الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاتّبعوه ولا تبتدعوا فيه، فإنّكم إن اتّبعتموه ولم تماروا فيه سلمتم، وإن لم تفعلوا هلكتم) * «4» .
من مضار (الجدال)
(1) الجدال يحرم صاحبه من الوصول إلى الحقّ ومعرفة الرّشد.
(2) يورث البغضاء والكراهية.
(3) يحذر منه النّاس ويتحاشونه.
(4) سبب للمعاقبة بالحرمان من السّعادة الّتي يحظى بها الباحث عن الحقّ.
(5) طول ممارسته يغري بالتّمادي في الباطل.
(6) يؤدّي إلى سوء العاقبة بالحرمان من المنزلة العالية في الجنّة.
__________
(1) شرح أصول الاعتقاد (مج 1، ج 2/ 183) .
(2) روضة العقلاء (217) .
(3) صبيغ: رجل قدم المدينة في عهد عمر بن الخطاب فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر ليعاقبه فقال له: من أنت؟ قال: عبد الله صبيغ. قال: وأنا عبد الله عمر، فضربه حتى دمي رأسه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي، ثم نفاه إلى البصرة الإصابة (3/ 258) .
(4) عقيدة السلف أصحاب الحديث أو الرسالة في اعتقاد أهل السنة وأصحاب الحديث والأئمة للشيخ أبي إسماعيل عبد الرحمن بن إسماعيل الصابوني (50- 51) .(9/4349)
الجزع
الجزع لغة:
مصدر قولهم: جزع يجزع جزعا، وهو مأخوذ من مادّة (ج ز ع) الّتي تدلّ على الانقطاع، من ذلك جزعت الرّملة إذا قطعتها، وجزع الوادي، وهو الموضع الّذي يقطعه من أحد جانبيه إلى الجانب الآخر، والجزع نقيض الصّبر؛ لأنّ فيه انقطاع المنّة «1» عن حمل ما نزل.
يقال من ذلك: جزع يجزع جزعا، والوصف من ذلك جازع وجزع وجزع، فإذا كثر ذلك منه قيل جزوع وجزاع، والجزوع في قوله تعالى: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (المعارج/ 20) هو الّذي لا صبر عنده إذا مسّه الشّرّ، ويقال: أجزعه إذا أزال جزعه، ومن ذلك ما جاء في الحديث: لمّا طعن عمر- رضي الله عنه- جعل ابن عبّاس- رضي الله عنهما- يجزّعه، قال ابن الأثير:
أي يقول له ما يسليه ويزيل جزعه، ويقال أيضا: أجزعه الأمر، إذا أصابه بالجزع، قال أعشى باهلة:
فإذا جزعنا فإنّ الشّرّ أجزعنا ... وإن صبرنا فإنّا معشر صبر
وقال الرّاغب: أصل الجزع قطع الحبل من نصفه، ولتصوّر الانقطاع قيل جزع الوادي لمنقطعه، ولانقطاع اللّون بتغيّره قيل للخرز الملوّن جزع،
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
5/ 11/ 3
وعنه استعير قولهم لحم مجزّع إذا كان ذا لونين، ورجل جزع إذا ضعفت قوّته عن حمل ما نزل به ولم يجد صبرا والجزع (بسكون الزاي) مصدر جزعت الوادي إذا قطعته عرضا، وفي
الحديث «أنّه وقف على محسّر فقرع راحلته فخبّت حتّى جزعه» أي قطعه، ولا يكون إلّا عرضا، ومنه حديث مسيره إلى بدر «ثمّ جزع الصّفيراء» أي قطعها عرضا، والجزيعة: القطعة من الغنم، وربّما استعملت تصغيرا لجزعة وهي القليل من اللّبن أو الماء.
الجزوع ضدّ الصّبور على الشّرّ، والجزع نقيض الصّبر. جزع بالكسر، يجزع جزعا فهو جازع وجزع وجزع وجزوع. وقيل إذا كثر منه الجزع فهو جزوع وجزاع. قال الله تعالى: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (المعارج/ 20- 21) «2» .
واصطلاحا:
قال المناويّ: الجزع حزن يصرف الإنسان عمّا هو بصدده، ويقطعه عنه قهرا «3» ، وهو أبلغ من الحزن.
وقال الجاحظ: الجزع خلق مركّب من الخرق والجبن «4» .
وقال أيضا: الجزع مستقبح (ومكروه) إذا لم يكن مجديا ولا مفيدا، فأمّا إظهار الجزع لتمحّل حيلة
__________
(1) المنة: أي القوة.
(2) مقاييس اللغة لابن فارس (1/ 453) ، والمفردات للراغب (92) ، لسان العرب (8/ 47) ، (ط، بيروت) ، المصباح المنير (1/ 99) ، والصحاح (3/ 1196) ، والنهاية (1/ 269) .
(3) التوقيف على مهمات التعاريف (125) ، وقد ذكر الراغب نفس التعريف إلا أنه لم يذكر لفظ «قهر» ووافقه على ذلك الكفوي في الكليات. انظر المفردات (90) ، والكليات للكفوي (354) .
(4) تهذيب الأخلاق للجاحظ (34) .(9/4350)
بذلك عند الوقوع في الشّدّة، أو استغاثة مغيث، أو اجتلاب معين فغير مكروه ولا يعدّ نقيصة «1» .
أسباب الجزع:
ذكر الماورديّ للجزع أسبابا عديدة منها:
1- تذكّر المصاب حتّى لا يتناساه، وتصوّره حتّى لا يعزب عنه، ولا يجد من التّذكار سلوة، ولا يخلط مع التّصوّر تعزية، وقد قال عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- لا تستفزّوا الدّموع بالتّذكّر. وقال الشّاعر: «ولا يبعث الأحزان مثل التّذكّر» .
2- الأسف وشدّة الحسرة فلا يرى من مصابه خلفا، ولا يجد لمفقوده بدلا؛ فيزداد بالأسف ولها، وبالحسرة هلعا. ولذلك قال الله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ (الحديد/ 23) .
وقال بعض الشّعراء:
إذا بليت فثق بالله وارض به ... إنّ الّذي يكشف البلوى هو الله
إذا قضى الله فاستسلم لقدرته ... ما لامريء حيلة فيما قضى الله
اليأس يقطع أحيانا بصاحبه ... لا تيأسنّ فإنّ الصّانع الله
3- كثرة الشّكوى، وبثّ الجزع، فقد قيل في قوله تعالى: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا (المعارج/ 5) إنّه الصّبر الّذي لا شكوى فيه ولا بثّ. روى أنس بن مالك أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما صبر من بثّ» . وحكى كعب الأحبار أنّه مكتوب في التّوراة: من أصابته مصيبة فشكا إلى النّاس، فإنّما يشكو ربّه. وحكي أنّ أعرابيّة دخلت من البادية، فسمعت صراخا في دار فقالت: ما هذا؟ فقيل لها: مات لهم إنسان، فقالت:
ما أراهم إلّا من ربّهم يستغيثون، وبقضائه يتبرّمون، وعن ثوابه يرغبون. وقد قيل في منثور الحكم: من ضاق قلبه اتّسع لسانه.
4- اليأس من جبر مصابه، وطلابه، فيقترن بحزن الحادثة قنوط الإياس، فلا يبقى معهما صبر، ولا يتّسع لهما صدر. وقد قيل: المصيبة بالصّبر أعظم المصيبتين. وقال ابن الرّوميّ:
اصبري أيّتها النف ... س فإنّ الصّبر أحجى
ربّما خاب رجاء ... وأتى ما ليس يرجى
وأنشد بعض أهل العلم:
أتحسب أنّ البؤس للحرّ دائم ... ولو دام شيء عدّه النّاس في العجب
لقد عرّفتك الحادثات ببؤسها ... وقد أدّبت إن كان ينفعك الأدب
ولو طلب الإنسان من صرف دهره ... دوام الّذي يخشى لأعياه ما طلب
5- أن يغرى بملاحظة من حيطت سلامته، وحرست نعمته، حتّى التحف بالأمن والدّعة، واستمتع بالثّروة والسّعة «2» .
بين الجزع والفزع والهلع والخوف:
الفزع هو انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشّيء المخيف، وهو من جنس الجزع، وذلك مثل الفزع من دخول النّار «3» ، وقد سوّى بعضهم بين الفزع والذّعر «4» ، وذهب آخرون إلى جعله بمعنى
__________
(1) تهذيب الأخلاق (34) .
(2) أدب الدنيا والدين (286- 287) .
(3) المفردات للراغب 379- 380 (بتصرف) ، وللفزع معنى آخر هو الإغاثة.
(4) انظر مقاييس اللغة لابن فارس 4/ 501.(9/4351)
الخوف «1» ، والأرجح ما ذكره الرّاغب من أنّ الفزع ناتج عن الخوف (الشّديد) وليس مساويا له «2» ، أمّا الهلع فهو أشدّ الجزع والضّجر «3» ، وهذه الأمور الأربعة وإن كانت متقاربة في معناها العام، إلّا أنّها مختلفة في الدّرجة والكيفيّة، فأوّل ذلك الخوف، فإن زاد وصاحبه اضطراب وانقباض صار فزعا، فإذا زاد الفزع وأقعد صاحبه عن العمل وأورثه حزنا، أصبح جزعا، فإن زاد الجزع صار هلعا.
الفرق بين الجزع ورقة القلب:
والفرق بين رقّة القلب والجزع أنّ الجزع ضعف في النّفس وخوف في القلب يمدّه شدّة الطّمع والحرص ويتولّد من ضعف الإيمان بالقدر وإلّا فمتى علم أنّ المقدّر كائن ولا بدّ كان الجزع عناء محضا ومصيبة ثانية.
أمّا رقّة القلب فإنّها من الرّحمة وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرقّ النّاس قلبا وأبعدهم من الجزع، فرقّة القلب رأفة ورحمة، وجزعه مرض وضعف، فالجزع حال قلب مريض بالدّنيا قد غشيه دخان النّفس الأمّارة فأخذ بأنفاسه وضيّق عليه مسالك الآخرة وصار في سجن الهوى والنّفس وهو سجن ضيّق الأرجاء مظلم المسلك فانحصار القلب وضيقه يجعله يجزع من أدنى ما يصيبه ولا يحتمله فإذا أشرق فيه نور الإيمان واليقين بالوعد وامتلأ من محبّة الله وإجلاله رقّ وصارت فيه الرّأفة والرّحمة فتراه رحيما رفيق القلب بكلّ ذي قربى ومسلم يرحم النّملة في جحرها والطّير في وكره فضلا عن بنيي جنسه فهذا أقرب القلوب من الله تعالى «4» .
علاج الجزع والهلع:
لقد أوضح القرآن الكريم علاج هذه الأمور القلبيّة في قوله سبحانه إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ فأوضح بجلاء لا ريب فيه أنّ الصلاة تقي صاحبها هذه المشاعر القلبيّة، يقول ابن بطّال: المراد من الآيات الكريمة إثبات خلق الله تعالى للإنسان بأخلاقه من الهلع والصّبر، والمنع والإعطاء، وقد استثنى الله المصلّين الّذين هم على صلاتهم دائمون، لا يضجرون بتكرّرها عليهم «5» .
وفي السّنّة المطهّرة ما يفيد تأثير الصّلاة في راحة القلب بها، ويدلّ على ذلك، قوله صلّى الله عليه وسلّم «يا بلال أقم الصّلاة أرحنا بها» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا حزبه أمر فزع إلى الصّلاة «6» .
وأمّا ذكر الله عزّ وجلّ، قال تعالى أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «7» .
وإضافة إلى الصّلاة والذّكر، فإنّ الرّضا بقضاء الله- عزّ وجلّ- والتّذرّع بالصّبر الجميل ممّا يساعد على التّخلّص من هذه الأمور ونحوها «8» .
[للاستزادة: انظر صفات: اليأس- الحزن- الضعف- القنوط- الوهن- القلق- الشك- صغر الهمة- السخط.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الصبر والمصابرة- الاحتساب- التفاؤل- علو الهمة- قوة الإرادة- الرضا- اليقين] .
__________
(1) انظر الكليات للكفوي 3/ 358.
(2) واستعمالهم الفزع في معنى الخوف إنما هو تسامح في العبارة.
(3) النهاية لابن الأثير 5/ 269.
(4) الروح لابن القيم، ص 226.
(5) فتح الباري 13/ 520.
(6) انظر الحديث رقم (18) في صفة الصلاة
(7) انظر فوائد الذكر.
(8) انظر فوائد الرضا والصبر.(9/4352)
الآيات الواردة في «الجزع»
1- أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)
وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) «1»
2- إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19)
إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20)
وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)
إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)
الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) «2»
الآيات الواردة في «الجزع» معنى*
3- وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88)
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) «3»
4- وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) «4»
5- إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) «5»
__________
(1) إبراهيم: 19- 21 مكية
(2) المعارج: 19- 23 مكية
(3) النمل: 87- 89 مكية
(4) سبأ: 51 مكية
(5) ص: 22 مكية
* ذكرنا هذه الآيات لما ذكره الراغب الاصفهاني من أن الفزع من جنس الجزع، انظر المفردات للراغب ص 379، قلت: عدّه الراغب كذلك لأنّه يسبقه ويؤدي إليه.(9/4353)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الجزع)
1-* (عن عمرو بن تغلب- رضي الله عنه-:
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتي بمال، أو سبي، فقسمه، فأعطى رجالا وترك رجالا. فبلغه أنّ الّذين ترك عتبوا، فحمد الله ثمّ أثنى عليه ثمّ قال: «أمّا بعد فو الله إنّي لأعطي الرّجل والّذي أدع أحبّ إليّ من الّذي أعطي، ولكن أعطي أقواما لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، فيهم عمرو بن تغلب» ، فو الله ما أحبّ أنّ لي بكلمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حمر النّعم» ) * «1» .
2-* (عن جابر- رضي الله عنه- أنّ الطّفيل ابن عمرو الدّوسيّ أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين ومنعة؟ فأبى ذلك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم للّذي ذخر الله للأنصار، فلمّا هاجر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة هاجر إليه الطّفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص «2» له فقطع بها براجمه «3» فشخبت «4» يداه حتّى مات فرآه الطّفيل بن عمرو في منامه، فرآه وهيئته حسنة ورآه مغطّيا يديه فقال ما صنع بك ربّك؟ فقال:
غفر لي بهجرتي إلى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم. فقال: ما لى أراك مغطّيا يديك؟ قال: قيل لي لن نصلح منك ما أفسدت، فقصّها الطّفيل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ وليديه فاغفر» ) * «5» .
3-* (عن محمود بن لبيد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أحبّ الله قوما ابتلاهم. فمن صبر فله الصّبر ومن جزع فله الجزع» ) * «6» .
4-* (عن عائشة- رضي الله عنها- قالت:
إنّا كنّا أزواج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عنده جميعا لم تغادر منّا واحدة فأقبلت فاطمة- عليها السّلام- تمشي- ولا والله ما تخفى مشيتها من مشية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فلمّا رآها رحّب قال: «مرحبا بابنتي ثمّ أجلسها عن يمينه- أو عن شماله- ثمّ سارّها فبكت بكاء شديدا، فلمّا رأى حزنها سارّها الثّانية فإذا هي تضحك. فقلت لها أنا من بين نسائه: خصّك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالسّرّ من بيننا ثمّ أنت تبكين؟ فلمّا قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سألتها: عمّ سارّك؟ قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرّه. فلمّا توفّي قلت لها: عزمت عليك بما لي عليك من الحقّ لما أخبرتني. قالت: أمّا الآن فنعم، فأخبرتني قالت: أمّا حين سارّني في الأمر الأوّل فإنّه أخبرني أنّ جبريل كان يعارضه بالقرآن كلّ سنة مرّة، وأنّه قد عارضني به العام مرّتين، ولا أرى الأجل إلّا قد
__________
(1) البخاري- الفتح 2 (923)
(2) مشاقص: جمع مشقص وهو سهم فيه نصل عريض.
(3) براجمه: هي مفاصل الأصابع.
(4) فشخبت يداه: سال دمها، وقيل: سال بقوة.
(5) مسلم (116) .
(6) قال المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 283) واللفظ له رواه أحمد ورواته ثقات، ومحمود بن لبيد رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم واختلف في سماعه منه. وقال الهيثمي في المجمع (2/ 291) : رواه أحمد ورواته ثقات.(9/4354)
اقترب، فاتّقي الله واصبري، فإنّي نعم السّلف أنا لك.
قالت: فبكيت بكائي الّذي رأيت. فلمّا رأى جزعي سارّني الثّانية قال: يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء المؤمنين، أو سيّدة نساء هذه الأمّة؟» ) * «1» .
5-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمّه: «قل: لا إله إلّا الله أشهد لك بها يوم القيامة» قال: لولا أن تعيّرني قريش.
يقولون: إنّما حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك.
فأنزل الله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ (القصص/ 56) » ) * «2» .
6-* (عن صهيب- رضي الله عنه- قال:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا صلّى العصر همس- والهمس في بعض قولهم تحرّك شفتيه كأنّه يتكلّم- فقيل له:
إنّك يا رسول الله إذا صلّيت العصر همست قال: إنّ نبيّا من الأنبياء كان أعجب بأمّته فقال: من يقوم لهؤلاء؟ فأوحى الله إليه أن خيّرهم بين أن أنتقم منهم وبين أن أسلّط عليهم عدوّهم، فاختار النّقمة فسلّط عليهم الموت فمات منهم في يوم سبعون ألفا. قال:
وكان إذا حدّث بهذا الحديث حدّث بهذا الحديث الآخر. قال: كان ملك من الملوك وكان لذلك الملك كاهن يكهن له، فقال الكاهن: انظروا لي غلاما فهما- أو قال فطنا لقنا- فأعلّمه علمي هذا ...
الحديث، وفيه: فقال الغلام للملك: إنّك لا تقتلني حتّى تصلبني وترميني وتقول إذا رميتني: باسم الله ربّ هذا الغلام. قال: فأمر به فصلب ثمّ رماه، فقال باسم الله ربّ هذا الغلام. قال: فوضع الغلام يده على صدغه حين رمي ثمّ مات، فقال النّاس: لقد علم هذا الغلام علما ما علمه أحد، فإنّا نؤمن بربّ هذا الغلام. قال: فقيل للملك أجزعت أن خالفك ثلاثة؟
فهذا العالم كلّهم قد خالفوك. قال: فخذّ أخدودا ثمّ ألقى فيها الحطب والنّار، ثمّ جمع النّاس، فقال: من رجع عن دينه تركناه، ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النّار، فجعل يلقيهم في تلك الأخدود. قال: يقول الله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ* النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ حتّى بلغ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (البروج/ 4- 8) » قال:
فأمّا الغلام فإنّه دفن. فيذكر أنّه أخرج في زمن عمر بن الخطّاب وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل) * «3»
7-* (عن جندب بن عبد الله- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الّذي كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع «4» فأخذ سكّينا فحزّ «5» بها يده، فما رقأ الدّم «6» حتّى مات. قال الله تعالى (بادرني عبدي بنفسه، حرّمت عليه الجنّة» ) * «7» .
__________
(1) البخاري- الفتح 11 (6285) واللفظ له. ومسلم (2450) .
(2) البخاري، الفتح 8 (4772) . ومسلم (25) واللفظ له
(3) مسلم (3005) . والترمذي (3340) واللفظ له وقال: حديث حسن غريب.
(4) فجزع: أي لم يصبر على ألم ذلك الجرح.
(5) حز: أي قطع.
(6) فما رقأ الدم: أي لم ينقطع.
(7) البخاري- الفتح 6 (3463) واللفظ له. ومسلم (113) .(9/4355)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الجزع) معنى
8-* (عن سهل بن سعد- رضي الله عنه- أنّ رجلا من أعظم المسلمين غناء عن المسلمين في غزوة غزاها مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنظر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال:
«من أحبّ أن ينظر إلى رجل من أهل النّار فلينظر إلى هذا، فأتبعه رجل من القوم وهو على تلك الحال من أشدّ النّاس على المشركين حتّى جرح فاستعجل الموت، فجعل ذبابة سيفه بين ثدييه حتّى خرج من بين كتفيه، فأقبل الرّجل إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مسرعا فقال: أشهد أنّك رسول الله. فقال: وما ذاك؟ قال قلت لفلان من أحبّ أن ينظر إلى رجل من أهل النّار فلينظر إليه- وكان من أعظمنا غناء عن المسلمين- فعرفت أنّه لا يموت على ذلك. فلمّا جرح استعجل الموت فقتل نفسه. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك: «إنّ العبد ليعمل عمل أهل النّار وإنّه من أهل الجنّة، ويعمل عمل أهل الجنّة وإنّه من أهل النّار، وإنّما الأعمال بالخواتيم» ) * «1» .
9-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
شهدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيبر فقال لرجل ممّن يدّعي الإسلام: هذا من أهل النّار. فلمّا حضر القتال قاتل الرّجل قتالا شديدا فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله، الّذي قلت إنّه من أهل النّار فإنّه قاتل اليوم قتالا شديدا، وقد مات. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى النّار. قال:
فكاد بعض النّاس أن يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل إنّه لم يمت، ولكنّ به جراحا شديدة، فلمّا كان من اللّيل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه. فأخبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بذلك فقال: الله أكبر. أشهد أنّي عبد الله ورسوله.
ثمّ أمر بلالا فنادى في النّاس: إنّه لا يدخل الجنّة إلّا نفس مسلمة وإنّ الله ليؤيّد هذا الدّين بالرّجل الفاجر» ) * «2» .
10-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الّذي يخنق نفسه يخنقها في النّار «3» والّذي يطعنها يطعنها في النّار» ) * «4» .
11-* (عن جابر بن سمرة- رضي الله عنه- قال: مرض رجل فصيح عليه، فجاء جاره إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّه قد مات. قال: ما يدريك؟ قال: أنا رأيته. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّه لم يمت ... الحديث وفيه:
ثمّ انطلق الرّجل فرآه قد نحر نفسه بمشقص معه فانطلق إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخبره أنّه قد مات. فقال: ما يدريك؟ قال: رأيته ينحر نفسه بمشاقص معه. قال:
أنت رأيته؟ قال: نعم قال: إذا لا أصلّي عليه» ) * «5» .
__________
(1) البخاري- الفتح 11 (6607) واللفظ له. ومسلم (112) .
(2) البخاري- الفتح 6 (3062) واللفظ له. ومسلم (111) .
(3) واضح أن في الكلام إيجازا بالحذف والتقدير: الذي يخنق نفسه، أي حذف الموصول وبقيت صلته.
(4) البخاري- الفتح 3 (1365) .
(5) أبو داود (3185) . وهو عند مسلم مختصرا.(9/4356)
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (الجزع)
1-* (لمّا طعن عمر جعل يألم. فقال له ابن عبّاس- رضي الله عنهما- وكأنّه يجزّعه- «1» : يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذاك لقد صحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأحسنت صحبته، ثمّ فارقته وهو عنك راض، ثمّ صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثمّ فارقته وهو عنك راض، ثمّ صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنّهم وهم عنك راضون. قال: أمّا ما ذكرت من صحبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضاه فإنّما ذاك منّ من الله تعالى منّ به عليّ. وأمّا ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنّما ذاك منّ من الله جلّ ذكره- منّ به عليّ، وأمّا ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك. والله لو أنّ لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من عذاب الله- عزّ وجلّ- قبل أن أراه» ) * «2»
2-* (قال الشّاعر:
لا تجزعنّ لخطب ما به حيل ... تغني وإلّا فلا تعجز عن الحيل
وقدر شكر الفتى لله نعمته ... كقدر صبر الفتى للحادث الجلل) * «3» .
3- قال ابن كثير عند قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً (يونس/ 12) . يخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا مسّه الضّرّ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ
(فصلت/ 51) أي كثير، وهما في معنى واحد، وذلك لأنّه إذا أصابته شدّة قلق لها، وجزع منها، وأكثر الدّعاء عند ذلك فدعا الله في كشفها ورفعها عنه ... ) * «4» .
من مضار (الجزع)
(1) سوء الظّنّ بالله وعدم الثّقة به سبحانه.
(2) انتفاء كمال الإيمان.
(3) عدم الرّضا بالمقدور وعجزه عن فعل المأمور.
(4) استحقاق العذاب في الآخرة.
(5) قلق النّفس واضطرابها.
(6) الجزع يشقى به جلساؤه ويملّه أقرباؤه.
__________
(1) يجزعه: أي يزيل عنه الجزع.
(2) البخاري- الفتح 7 (3692) .
(3) هامش الترغيب والترهيب للمنذري (4/ 53) .
(4) تفسير ابن كثير (2/ 410) .(9/4357)
الجفاء
الجفاء لغة:
الجفاء بالمدّ نقيض البرّ، وهو مأخوذ من مادّة (جفو) الّتي تدلّ على نبوّ الشّيء عن الشّيء، يقول ابن فارس:
«الجيم والفاء والحرف المعتلّ يدلّ على أصل واحد: نبوّ الشّيء عن الشّيء، من ذلك جفوت الرّجل أجفوه، وهو ظاهر الجفوة، أي الجفاء» «1» .
ويقول الجوهريّ: وقد جفوت الرّجل أجفوه جفاء فهو مجفوّ، ولا تقل جفيت، ويقول الفيّوميّ: وجفوت الرّجل أجفوه، أعرضت عنه، وهو مأخوذ من جفاء السّيل وهو ما نفاه السّيل، وقد يكون مع بغض، وجفا الثّوب يجفو إذا غلظ فهو جاف، ومنه جفاء البدو، وهو غلظتهم، وفظاظتهم «2» .
ويقول ابن منظور: جفا الشّيء يجفو جفا، وتجافى: لم يلزم مكانه كالسّرج يجفو عن الظّهر، وكالجنب يجفو عن الفراش.
والجفاء: البعد. وأجفيته أنا: أنزلته عن مكانه. وجفا جنبه عن الفراش وتجافى: نبا عنه ولم يطمئنّ عليه. وفي التّنزيل: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ (السجدة/ 16) . قيل في تفسير هذه الآية: إنّهم كانوا يصلّون في اللّيل. وفي الحديث: أنّه كان صلّى الله عليه وسلّم يجافي عضديه عن جنبيه في السّجود، أي يباعدهما، وأجفاه إذا أبعده. ومنه الحديث: «اقرؤوا القرآن ولا تجفوا عنه» . أي تعاهدوه ولا تبعدوا عن تلاوته، وفي الحديث أيضا: «غير الغالي فيه والجافي» . وفي الحديث عن أبي هريرة- رضي الله عنه-
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
8/ 21/ 6
قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنّة، والبذاء من الجفاء والجفاء في النّار» . وفي الحديث الآخر: «من بدا جفا» ، أي من سكن البادية غلظ طبعه لقلّة مخالطة النّاس. والجفاء: غلظ الطّبع.
قال اللّيث: الجفوة الزم في ترك الصّلة من الجفاء.
والجفاء يكون في الخلقة والخلق. يقال رجل جافي الخلقة وجافي الخلق إذا كان كزّا غليظ العشرة والخرق في المعاملة والتّحامل عند الغضب والسّورة على الجليس.
وقال هند بن أبي هالة وفي صفته صلّى الله عليه وسلّم: ليس بالجافي المهين، أي ليس بالغليظ الخلقة ولا الطّبع، أو ليس بالّذي يجفو أصحابه، ويقال: فلان ظاهر الجفوة بالكسر أي ظاهر الجفاء، ورجل فيه جفوة وجفوة، وإنّه لبيّن الجفوة بالكسر فإذا كان هو المجفوّ قيل: به جفوة «3» .
واصطلاحا:
قال المناويّ: الجفاء (بفتح الجيم) الغلظ في العشرة والخرق في المعاملة وترك الرّفق في الأمور «4» .
[للاستزادة: انظر صفات: الجحود- الحمق- سوء المعاملة- الطيش- العنف- القسوة- العبوس- سوء الظن- عقوق الوالدين.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الرفق- البر- الرحمة- صلة الرحم- العطف- الحلم- حسن المعاملة- حسن العشرة- حسن الظن- بر الوالدين] .
__________
(1) الصحاح (1/ 465) .
(2) المصباح المنير (1/ 304) .
(3) لسان العرب (14/ 147- 149) .
(4) التوقيف (127) .(9/4358)
الآيات الواردة في «الجفاء» معنى
1- ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) «1»
2- فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) «2»
3- فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) «3»
4- فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) «4»
5- وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) «5»
6- أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) «6»
7- أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) «7»
8- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) «8»
__________
(1) البقرة: 74 مدنية
(2) آل عمران: 159 مدنية
(3) المائدة: 13 مدنية
(4) الأنعام: 43 مكية
(5) الحج: 52- 53 مكية
(6) الزمر: 22 مكية
(7) الحديد: 16 مدنية
(8) التحريم: 6 مدنية(9/4359)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الجفاء)
1-* (عن أبي تميمة الهجيميّ- رضي الله عنه- قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو محتب بشملة له وقد وقع هدبها على قدميه، فقلت: أيّكم محمّد أو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فأومأ بيده إلى نفسه. فقلت: يا رسول الله، إنّي من أهل البادية وفيّ جفاؤهم فأوصني.
فقال: «لا تحقرنّ من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وإن امرؤ شتمك بما يعلم فيك فلا تشتمه بما تعلم فيه، فإنّه يكون لك أجره وعليه وزره، وإيّاك وإسبال الإزار؛ فإنّ إسبال الإزار من المخيلة، وإنّ الله عزّ وجلّ- لا يحبّ المخيلة، ولا تسبّنّ أحدا» فما سببت بعده أحدا ولا شاة ولا بعيرا) * «1» .
2-* (عن عبد الرّحمن بن شبل- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «اقرؤوا القرآن، فإذا قرأتموه فلا تستكبروا به، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا «2» عنه، ولا تأكلوا به» وقال: «إنّ النّساء هم أصحاب النّار» فقال رجل: يا رسول الله، أليس أمّهاتنا وأخواتنا «3» وبناتنا فذكر كفرهنّ لحقّ الزّوج وتضييعهنّ لحقّه) * «4» .
3-* (عن أبي موسى الأشعريّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من إجلال الله إكرام ذي الشّيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السّلطان المقسط» ) * «5» .
4-* (عن أبي مسعود البدريّ- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: «الإيمان هاهنا- وأشار بيده إلى اليمن- والجفاء وغلظ القلوب في الفدّادين «6» عند أصول أذناب الإبل من حيث يطلع قرنا الشّيطان ربيعة ومضر» ) * «7» .
5-* (عن أبي بكرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحياء من الإيمان. والإيمان في الجنّة. والبذاء من الجفاء «8» والجفاء في النّار» ) * «9» .
6-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
__________
(1) أحمد (5/ 64) واللفظ له، وأبو داود (4084) وقال الألباني (2/ 770) : صحيح والترمذي (2692) وقال محقق جامع الأصول (11/ 746) : إسناده صحيح.
(2) أي تعاهدوه ولا تبعدوا عن تلاوته.
(3) في الكلام إيجاز بالحذف والتقدير أليس النساء أمهاتنا، ويؤيده رواية أحمد: «أولسن أمهاتنا؟» .
(4) أحمد (3/ 428) ، والهيثمي في المجمع (4/ 314) واللفظ له وقال: رواه الطبراني في الأوسط وله طرق رواها أحمد وغيره، ورجاله ثقات. والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (260) وصححه.
(5) أبو داود (4843) وقال الألباني (3/ 918) : حسن.
(6) الفدادين: بالتشديد هم المكثرون من الإبل.
(7) البخاري- الفتح 7 (4387) . ومسلم (53) نحوه.
(8) الجفاء: هنا، بمعنى ترك الصلة والبر.
(9) ابن ماجة (4184) واللفظ له. والترمذي (2009) وقال: حديث حسن صحيح- صحيح الجامع الصغير (3194) . وفي الزوائد: رواه ابن حبان في صحيحه.(9/4360)
كان رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم يوما بارزا للنّاس فأتاه رجل فقال:
يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتابه، ولقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث الآخر» . قال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال:
«الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصّلاة المكتوبة وتؤتي الزّكاة المفروضة، وتصوم رمضان» قال:
يا رسول الله، ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنّك تراه فإنّك إن لا تراه فإنّه يراك» فقال: يا رسول الله، متى السّاعة؟ قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السّائل، ولكن سأحدّثك عن أشراطها. إذا ولدت الأمة ربّها فذاك من أشراطها، وإذا كانت العراة الحفاة الجفاة رؤوس النّاس فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاة البهم «1» في البنيان فذلك من أشراطها في خمس لا يعلمهنّ إلّا الله ثمّ تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (لقمان/ 34) . ثمّ أدبر الرّجل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ردّوا عليّ الرّجل» فأخذوا ليردّوه فلم يروا شيئا. فقال: «هذا جبريل- عليه السّلام- جاء ليعلّم النّاس دينهم» ) * «2» .
7-* (عن البراء- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من بدا جفا «3» » ) * «4» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (الجفاء) معنى
8-* (عن عائشة- رضي الله عنها- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أبغض الرّجال إلى الله الألدّ الخصم» ) * «5» .
9-* (عن عوف بن مالك بن الطّفيل- هو ابن الحارث وهو ابن أخي عائشة زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأمّها «أنّ عائشة حدّثت؛ أنّ عبد الله بن الزّبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: والله لتنتهينّ عائشة أو لأحجرنّ عليها. فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم.
قالت: هو لله عليّ نذر أن لا أكلّم ابن الزّبير أبدا.
فاستشفع ابن الزّبير إليها حين طالت الهجرة، فقالت:
لا. والله لا أشفّع فيه أبدا، ولا أتحنّث إلى نذري. فلمّا طال ذلك على ابن الزّبير كلّم المسور بن مخرمة وعبد الرّحمن بن الأسود بن عبد يغوث- وهما من بني زهرة- وقال لهما: أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة؛ فإنّها لا يحلّ لها أن تنذر قطيعتي. فأقبل به المسور
__________
(1) البهم- بفتح الباء وسكون الهاء: الصغير من أولاد الضأن والمعز وقال ثعلب: البهم صغار المعز وهذا التعبير كناية عن ثراء أشد الناس فقرا.
(2) أحمد (2/ 426) وهذا لفظه، والبخاري- الفتح 8 (4777) . وهو عند مسلم (9) .
(3) ومعناه: من خرج إلى البادية وسكنها غلظ طبعه.
(4) أحمد (2/ 371) واللفظ له. والترمذي (2256) وقال: حديث حسن صحيح غريب. والهيثمي في المجمع (5/ 254) وقال: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.
(5) البخاري- الفتح 8 (4523) واللفظ له. ومسلم (2668) .(9/4361)
وعبد الرّحمن مشتملين بأرديتهما حتّى استأذنا على عائشة فقالا: السّلام عليك ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا. قالوا: كلّنا؟ قالت: نعم. ادخلوا كلّكم.
ولا تعلم أنّ معهما ابن الزّبير فلمّا دخلوا دخل ابن الزّبير الحجاب فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبد الرّحمن يناشدانها إلّا ما كلّمته وقبلت منه، ويقولان: إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهى عمّا قد علمت من الهجرة، فإنّه لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، فلمّا أكثروا على عائشة من التّذكرة والتّحريج طفقت تذكّرهما وتبكي وتقول: إنّي نذرت والنّذر شديد. فلم يزالا بها حتّى كلّمت ابن الزّبير.
واعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة. وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتّى تبلّ دموعها خمارها) * «1» .
10-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله قال: من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به، وبصره الّذي يبصر به، ويده الّتي يبطش بها، ورجله الّتي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذ بي لأعيذنّه. وما تردّدت عن شيء أنا فاعله تردّدي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته» ) * «2» .
11-* (عن محمّد بن جبير بن مطعم يحدّث أنّه: بلغ معاوية وهم عنده في وفد من قريش أنّ عبد الله بن عمرو يحدّث أنّه سيكون ملك من قحطان، فغضب فقام فأثنى على الله بما هو أهله ثمّ قال: أمّا بعد فإنّه بلغني أنّ رجالا منكم يحدّثون أحاديث ليست في كتاب الله، ولا تؤثر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأولئك جهّالكم، فإيّاكم والأمانيّ الّتي تضلّ أهلها، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلّا كبّه الله في النّار على وجهه ما أقاموا الدّين» ) * «3» .
تابعه نعيم عن ابن المبارك عن معمر عن الزّهريّ عن محمّد بن جبير.
12-* (عن عائشة أمّ المؤمنين- رضي الله عنها- أنّها قالت: أوّل ما بدىء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرّؤيا الصّالحة في النّوم. فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح، ثمّ حبّب إليه الخلاء. فكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه (وهو التّعبّد) اللّيالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك. ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها. حتّى جاءه الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ قال: «ما أنا بقارىء» قال: «فأخذني فغطّني حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارىء. قال:
فأخذني فغطّني الثّانية حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارىء فأخذني فغطّني الثّالثة حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني «4»
__________
(1) البخاري- الفتح 10 (6073، 6074، 6075) .
(2) البخاري- الفتح 11 (6502)
(3) البخاري- الفتح 13 (7139) .
(4) أرسلني: أي أطلقني.(9/4362)
فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (العلق/ 1- 3) .
فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده. فدخل على خديجة بنت خويلد- رضي الله عنها- فقال: «زمّلوني زمّلوني» . فزمّلوه حتّى ذهب عنه الرّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلّا. والله ما يخزيك الله أبدا، إنّك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضّيف، وتعين على نوائب الحقّ. فانطلقت به خديجة حتّى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عمّ خديجة وكان امرأ تنصّر في الجاهليّة، وكان يكتب الكتاب العبرانيّ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانيّة ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا
النّاموس الّذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا «1» ، ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أو مخرجيّ هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلّا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا. ثمّ لم ينشب «2» ورقة أن توفّي، وفتر الوحي) * «3» .
13-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تفتح أبواب الجنّة يوم الاثنين، ويوم الخميس، فيغفر لكلّ عبد لا يشرك بالله شيئا إلّا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء. فيقال: أنظروا هذين حتّى يصطلحا، أنظروا هذين حتّى يصطلحا، أنظروا هذين حتّى يصطلحا» ) * «4» .
14-* (عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي لأعلم إذا كنت عنّي راضية، وإذا كنت عليّ غضبى» ، قالت: فقلت:
ومن أين تعرف ذلك؟ فقال: «أمّا إذا كنت عنّي راضية فإنّك تقولين: لا. وربّ محمّد، وإذا كنت غضبى قلت لا وربّ إبراهيم» ، قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله، ما أهجر إلّا اسمك» ) * «5» .
15-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تهجر امرأة فراش زوجها إلّا لعنتها ملائكة الله- عزّ وجلّ-» ) * «6» .
16-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تهجّروا «7» ، ولا تدابروا، ولا
__________
(1) جذعا: أي شابا قويا. وجذعا بالنصب على أنه خبر كان المحذوفة مع اسمها. وفي رواية «جذع» على أنه خبر ليت. ولا حذف عندئذ.
(2) ثم لم ينشب: أي لم يلبث.
(3) البخاري- الفتح 1 (3) واللفظ له. ومسلم (160)
(4) مسلم (2565)
(5) البخاري- الفتح 9 (5228) واللفظ له. ومسلم 2439)
(6) أحمد (2/ 348) وقال الشيخ أحمد شاكر (16/ 238) : رواه البخاري ومسلم بلفظ قريب منه. ورواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة ولفظه: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح، وفي رواية حتى ترجع» .
(7) لا تهجروا: أي لا تتكلموا بالهجر وهو الكلام القبيح.(9/4363)
تحسّسوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض. وكونوا عباد الله إخوانا» ) * «1» .
17-* (عن أبي أيّوب الأنصاريّ- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحلّ لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الّذي يبدأ بالسّلام) «2» .
18-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النّار» ) * «3» .
19-* (عن عائشة- رضي الله عنها- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يكون لمسلم أن يهجر مسلما فوق ثلاثة، فإذا لقيه سلّم عليه ثلاث مرار كلّ ذلك لا يردّ عليه فقد باء بإثمه» ) * «4» .
20-* (عن أبي خراش السّلميّ- رضي الله عنه- أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من هجر أخاه سنة، فهو كسفك دمه» ) * «5» .
21-* (عن سهل بن سعد- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمن مألفة، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف» ) * «6» .
من الآثار وأقوال العلماء الواردة في ذمّ (الجفاء)
1-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: «إنّ من الجفاء أن تبول وأنت قائم» ) * «7» .
2-* (عن عبد الرّحمن بن أبزى قال: كان داود عليه السّلام- يقول: «لا تعدنّ أخاك شيئا لا تنجزه له، فإنّ ذلك يورث بينك وبينه عداوة» ) * «8» .
3-* (قال الثّوريّ- رحمه الله-: «لا تعد أخاك وتخلفه فتعود المحبّة بغضة» ) * «9» .
4-* (قال ابن حزم: «الصّبر على الجفاء ينقسم ثلاثة أقسام: فصبر على من يقدر عليك ولا تقدر عليه، وصبر على من تقدر عليه ولا يقدر عليك، وصبر على من لا تقدر عليه ولا يقدر عليك. فالأوّل ذلّ ومهانة وليس من الفضائل، والثّاني فضل وبرّ وهو
__________
(1) مسلم (2563) .
(2) البخاري- الفتح 10 (6077) واللفظ له. مسلم (2560)
(3) أبو داود (4914) وقال الألباني فى صحيح سنن أبي داود (3/ 928) : صحيح.
(4) أبو داود (4913) وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 928) : حسن.
(5) أبو داود (4915) قال الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 928) : صحيح. وصححه الحاكم (4/ 163) ووافقه الذهبي.
(6) أحمد (5/ 335) واللفظ له، والهيثمي في المجمع في موضعين (8/ 87، 10/ 273) . قال في الآخر: رواه أحمد والطبراني وإسناده جيد. وقال أيضا: رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في سلسلة الصحيحة (1/ 711) : هو صحيح على شرط مسلم.
(7) الترمذي (1/ 28) .
(8) مكارم الأخلاق: (1/ 207) برقم (192) .
(9) آداب العشرة (14) .(9/4364)
الحلم على الحقيقة وهو الّذي يوصف به الفضلاء، والثّالث: فيقسم قسمين: إمّا أن يكون الجفاء ممّن لم يقع منه إلّا على سبيل الغلط ويعلم قبح ما أتى به ويندم عليه. فالصّبر عليه فرض وفضل. وأمّا من كان لا يدري مقدار نفسه ويظنّ أنّ لها حقّا يستطيل به فلا يندم على ما سلف منه، فالصّبر عليه ذلّ للصّابر وإفساد للمصبور عليه، والمعارضة له سخف، والصّواب إعلامه بأنّه كان ممكنا أن ينتصر منه، وأنّه إنّما ترك ذلك استرذالا له فقط» ) * «1» .
5-* (عن سعيد بن عبد الرّحمن الزّبيديّ، يقول: «يعجبني من القرّاء كلّ سهل طلق مضحاك، فأمّا من تلقاه ببشر ويلقاك بضرس «2» يمنّ عليك بعمله فلا كثّر الله في النّاس أمثال هؤلاء» ) * «3» .
6-* (كتب عالم إلى من هو مثله: «اكتب لي بشيء ينفعني في عمري» فكتب إليه: «استوحش من لا إخوان له، وفرّط المقصّر في طلبهم، وأشدّ تفريطا من ظفر بواحد منهم فضيّعه» ) * «4» .
من مضار (الجفاء)
(1) خلق الجفاء من الغلظة، والغلظة يبغضها الله عزّ وجلّ- والملائكة والنّاس أجمعون.
(2) الجفاء قد يكون طبعا وقد يكون تطبّعا وكلاهما سيّء، والمؤمن الحقّ يتدارك بالتّأسّي الحسن.
(3) الجفوة بين الأحبّة فجوة للشّيطان فليحذروا دخوله بينهم.
(4) الجافي يفرّ منه إخوانه، ويبتعدون عنه فلا يجد نفسه إلّا وحده، وعندئذ يسهل وقوعه في مصيدة الشّيطان.
(5) مظهر من مظاهر سوء الخلق.
(6) يورث التّفرّق والوحشة بين النّاس.
__________
(1) كتاب مداواة النفوس (2120) .
(2) ضرس: بمعنى شرس.
(3) ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان (196)
(4) آداب العشرة (19)(9/4365)
الجهل
الجهل لغة:
الجهل مصدر قولهم جهل يجهل، وهو مأخوذ من مادّة (ج هـ ل) الّتي تدلّ على معنيين، يقول ابن فارس «الجيم والهاء واللّام» أصلان: أحدهما خلاف العلم، والآخر: الخفّة وخلاف الطّمأنينة، فالأوّل الجهل نقيض العلم، ويقال للمفازة الّتي لا علم بها مجهل، والثّاني: قولهم للخشبة الّتي يحرّك بها الجمر مجهل، ويقال: استجهلت الرّيح الغصن إذا حرّكته فاضطرب «1» .
وتجاهل، أي أرى من نفسه ذلك، وليس به، واستجهله: عدّه جاهلا، والمجهل: المفازة لا أعلام فيها، يقال: ركبتها على مجهولها «2» .
ويقول الرّاغب: «والجاهل تارة يذكر على سبيل الذّمّ وهو الأكثر، وتارة لا على سبيل الذّمّ نحو يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ (البقرة/ 273) أي من لا يعرف حالهم وليس يعني المتخصّص بالجهل المذموم، والمجهل: الأمر والأرض والخصلة الّتي تحمل الإنسان على الاعتقاد بالشّيء خلاف ما هو عليه «3» .
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
23/ 29/ 52
وجهل على غيره سفه وأخطأ، وجهل الحقّ أضاعه فهو جاهل وجهول «4» .
وقال ابن منظور: الجهل نقيض العلم، والجهل:
ضدّ الخبرة، يقال: هو يجهل ذلك أي لا يعرفه، ويقال:
مثلي لا يجهل مثلك، وقد جهله فلان جهلا وجهالة، وجهل عليه وتجاهل: أظهر الجهل واستجهله: عدّه جاهلا واستخفّه، والتّجهيل: أن تنسبه إلى الجهل، وأجهلته أي جعلته جاهلا. الجهالة: أن تفعل فعلا بغير العلم. والمجهلة: ما يحملك على الجهل. وفي الحديث: «الولد مبخلة مجبنة مجهلة» : أي إنّ الأبناء يحملون الآباء على الجهل بملاعبتهم إيّاهم حفظا لقلوبهم. ويقال: إنّ من العلم جهلا: معناه أن يتعلّم مالا يحتاج إليه كالنّجوم وعلوم الأوائل، ويدع ما يحتاج إليه في دينه من علم القرآن والسّنّة. وقيل: أن يتكلّف العالم إلى علم مالا يعلمه فيجهّله ذلك.
والجاهليّة: زمن الفترة قبل الإسلام، وقالوا الجاهليّة الجهلاء، فبالغوا، والثّانية توكيد للأولى، اشتقّ له من اسمه ما يؤكّد به كما يقال: وتد واتد، وليلة ليلاء، ويوم أيوم، وفي الحديث: «إنّك امرؤ فيك جاهليّة» . والمراد:
__________
(1) المقاييس (1/ 489) .
(2) الصحاح (4/ 1664) .
(3) المفردات (100) .
(4) المصباح المنير (1/ 113) .(9/4366)
الحالة الّتي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله سبحانه، ورسوله وشرائع الدّين والمفاخرة بالأنساب والكبر والتّجبّر وغير ذلك «1» .
الجهل اصطلاحا:
قال الجرجانيّ: الجهل: هو اعتقاد الشّيء على خلاف ما هو عليه، واعترضوا عليه بأنّ الجهل قد يكون بالمعدوم، وهو ليس بشيء، والجواب عنه أنّه شيء في الذّهن «2» .
وقال المناويّ: الجهل: هو التّقدّم في الأمور المنبهمة بغير علم «3» .
وقال ابن نجيم: حقيقة الجهل: عدم العلم بما من شأنه أن يكون معلوما فإن قارن اعتقاد النّقيض، أي الشّعور بالشّيء على خلاف ما هو به فهو الجهل المركّب، فإن عدم الشّعور بذلك فهو الجهل البسيط «4» .
أنواع الجهل:
قال الجرجانيّ: الجهل على ضربين:
الأوّل: الجهل البسيط: هو عدم العلم عمّا من شأنه أن يكون معلوما.
الآخر: الجهل المركّب: هو عبارة عن اعتقاد جازم غير مطابق للواقع «5» .
وقال الرّاغب: الجهل على ثلاثة أضرب:
الأوّل: هو خلوّ النّفس من العلم.
الثّاني: اعتقاد الشّيء بخلاف ما هو عليه.
الثّالث: فعل الشّيء بخلاف ما حقّه أن يفعل، سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا. كمن يترك الصّلاة متعمّدا، وعلى ذلك قوله تعالى: قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (البقرة/ 67) فجعل فعل الهزو جهلا «6» .
أنواع الجهّال وكيفية التعامل معهم:
قال الرّاغب: الإنسان في الجهل على أربعة منازل:
الأوّل: من لا يعتقد اعتقادا لا صالحا ولا طالحا، فأمره في إرشاده سهل إذا كان له طبع سليم، فإنّه كلوح أبيض لم يشغله نقش، وكأرض بيضاء لم يلق فيها بذر، ويقال له باعتبار العلم النّظريّ: غفل، وباعتبار العلم العمليّ: غمر، ويقال له: سليم الصّدر.
والثّانيّ: معتقد لرأي فاسد، لكنّه لم ينشأ عليه، ولم يتربّ به، واستنزاله عنه سهل، وإن كان أصعب من الأوّل، فإنّه كلوح يحتاج فيه إلى محو وكتابة، وكأرض يحتاج فيها إلى تنظيف، ويقال له: غاو وضالّ.
والثّالث: معتقد لرأي فاسد قد ران على قلبه، وتراءت له صحّته، فركن إليه لجهله وضعف نحيزته، ممّن وصفهم الله تعالى بقوله: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ
__________
(1) مقاييس اللغة لابن فارس 1/ 489، والمفردات للراغب ص 101، لسان العرب (2/ 713، 714) بتصرف. وانظر الصحاح (4/ 1663، 1664) . ومختار الصحاح (115) .
(2) التعريفات للجرجاني (80) .
(3) التوقيف (123) .
(4) الأشباه والنظائر لابن نجيم (303) بواسطة رفع الحرج لصالح بن حميد (229) .
(5) التعريفات (80) .
(6) المفردات (102) .(9/4367)
الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (الأنفال/ 22) فهذا ذو داء أعيا الأطبّاء، فما كلّ داء له دواء، فلا سبيل إلى تنبّهه وتهذيبه.
كما قيل لحكيم يعظ شيخا جاهلا: ما تصنع؟
فقال: أغسل مسحا لعلّه يبيضّ.
والرّابع: معتقد اعتقادا فاسدا عرف فساده، أو تمكّن من معرفته، لكنّه اكتسب دنيّة لرأسه، وكرسيّا لرئاسته، فهو يحامي عليها، فيجادل بالباطل ليدحض به الحقّ، ويذمّ أهل العلم ليجرّ إلى نفسه الخلق، ويقال له: فاسق ومنافق، وهو من الموصوفين بالاستكبار والتّكبّر في نحو قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ (المنافقون/ 5) فنبّه تعالى أنّهم ينكرون ما يقولونه لمعرفتهم ببطلانه، لكن يستكبرون عن التزام الحقّ وذلك حال إبليس فيما دعي إليه من السّجود لآدم عليه السّلام «1» .
عقوبة أهل الجهل في الحال والمآل:
قال ابن القيّم- رحمه الله تعالى-: أهل الجهل والظّلم الّذين جمعوا بين الجهل بما جاء به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم والظّلم باتّباع أهوائهم الّذين قال الله تعالى فيهم: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (النجم/ 23) وهؤلاء قسمان:
أحدهما: الّذين يحسبون أنّهم على علم وهدى وهم أهل الجهل والضّلال، فهؤلاء أهل الجهل المركّب الّذين يجهلون الحقّ ويعادونه ويعادون أهله، وينصرون الباطل ويوالون أهله، وهم يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (المجادلة/ 18) ، فهم لاعتقادهم الشّيء على خلاف ما هو عليه بمنزلة رائي السّراب الّذي يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً (النور/ 39) وهكذا هؤلاء أعمالهم وعلومهم بمنزلة السّراب الّذي يكون صاحبه أحوج ما هو إليه، ولم يقتصر على مجرّد الخيبة والحرمان كما هو الحال فيمن أمّ السّراب فلم يجده ماء، بل انضاف إلى ذلك أنّه وجد عنده أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين سبحانه وتعالى- فحسب له ما عنده من العلم والعمل فوفّاه إيّاه بمثاقيل الذّرّ، وقدم إلى ما عمل من عمل يرجو نفعه، فجعله هباء منثورا؛ إذ لم يكن خالصا لوجهه ولا على سنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وصارت تلك الشّبهات الباطلة الّتي كان يظنّها علوما نافعة كذلك هباءا منثورا، فصارت أعماله وعلومه (هكذا) .
والقسم الثّاني من هذا الصّنف: أصحاب الظّلمات وهم المنغمسون في الجهل بحيث قد أحاط بهم من كلّ وجه، فهم بمنزلة الأنعام بل هم أضلّ سبيلا، فهؤلاء أعمالهم الّتي عملوها على غير بصيرة، بل بمجرّد التّقليد واتّباع الآباء من غير نور من الله تعالى، كظلمات عديدة وهي ظلمة الجهل، وظلمة الكفر، وظلمة الظّلم واتّباع الهوى، وظلمة الشّكّ والرّيب، وظلمة الإعراض عن الحقّ الّذي بعث الله تعالى به رسله- صلوات الله وسلامه عليهم-،
__________
(1) الذريعة إلى مكارم الشريعة (131، 132) .(9/4368)
والنّور الّذي أنزله معهم ليخرجوا به النّاس من الظّلمات إلى النّور، فإنّ المعرض عمّا بعث الله تعالى به محمّدا صلّى الله عليه وسلّم من الهدى ودين الحقّ يتقلّب في خمس ظلمات: قوله ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظّلمة، وقلبه مظلم، ووجهه مظلم، وكلامه مظلم، وحاله مظلم؛ وإذا قابلت بصيرته الخفّاشيّة ما بعث الله به محمّدا صلّى الله عليه وسلّم من النّور جدّ في الهرب منه، وكاد نوره يخطف بصره، فهرب إلى ظلمات الآراء الّتي هي به أنسب وأولى كما قيل:
خفافيش أعشاها النّهار بضوئه ... ووافقها قطع من اللّيل مظلم
فإذا جاء إلى زبالة الأفكار ونخالة الأذهان، جال ومال، وأبدى وأعاد، وقعقع وفرقع، فإذا طلع نور الوحي وشمس الرّسالة انحجز في حجرة الحشرات «1» .
[للاستزادة: انظر صفات: البلادة والغباء- الحمق- السفاهة- الضلال- الطيش- الغفلة- القلق- اتباع الهوى- انتهاك الحرمات.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: العلم- الفطنة الفقه- معرفة الله عز وجل- اليقظة- اليقين- الهدى- تعظيم الحرمات] .
__________
(1) اجتماع الجيوش الاسلامية على غزو المعطلة والجهمية (15- 17) باختصار.(9/4369)
الآيات الواردة في «الجهل»
الجهل بمعنى خلو النفس من العلم:
1- وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) «1»
2- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) «2»
الجهل بمعنى اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه:
3- لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) «3»
4- إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) «4»
5- وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) «5»
__________
(1) النحل: 118- 119 مكية
(2) الحجرات: 6 مدنية
(3) البقرة: 272- 273 مدنية
(4) آل عمران: 153- 154 مدنية
(5) الأنعام: 111 مكية(9/4370)
6- وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139)
قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) «1»
7- خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) «2»
8- وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) «3»
9- إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72)
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) «4»
10- قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65)
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
__________
(1) الأعراف: 138- 140 مكية
(2) الأعراف: 199- 202 مكية
(3) هود: 25- 29 مكية
(4) الأحزاب: 72- 73 مدنية(9/4371)
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) «1»
11- وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) «2»
الجهل بمعنى فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل:
12- وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) «3»
13- وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17)
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) «4»
14- وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
__________
(1) الزمر: 64- 67 مكية
(2) الأحقاف: 21- 25 مكية
(3) البقرة: 67 مدنية
(4) النساء: 15- 18 مدنية(9/4372)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49)
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) «1»
15- وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) «2»
16- وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) «3»
17- وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46)
قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) «4»
18- وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) «5»
__________
(1) المائدة: 48- 50 مدنية
(2) الأنعام: 34- 35 مكية
(3) الأنعام: 54- 55 مكية
(4) هود: 45- 47 مكية
(5) يوسف: 30- 34 مكية(9/4373)
19- فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89)
قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) «1»
20- وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) «2»
21- وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) «3»
22- وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) «4»
23- يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً (32)
__________
(1) يوسف: 88- 90 مكية
(2) الفرقان: 63- 68 مكية
(3) النمل: 54- 58 مكية
(4) القصص: 51- 55 مكية(9/4374)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) «1»
__________
(1) الأحزاب: 32- 34 مدنية(9/4375)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الجهل)
1-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أربع في أمّتي من أمور الجاهليّة لن يدعهنّ النّاس: النّياحة، والطّعن في الأحساب، والعدوى (جرب بعير فأجرب مائة بعير.
من أجرب البعير الأوّل؟) والأنواء (مطرنا بنوء كذا وكذا) » ) * «1» .
2-* (عن أبي مالك الأشعريّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أربع في أمّتي من أمر الجاهليّة لا يتركونهنّ، الفخر في الأحساب، والطّعن في الأنساب، والاستسقاء بالنّجوم، والنّياحة» ) * «2» .
3-* (عن عياض بن حمار المجاشعيّ: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ذات يوم في خطبته: «ألا إنّ ربّي أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم ممّا علّمني يومي هذا. كلّ مال نحلته عبدا حلال، وإنّي خلقت عبادي حنفاء كلّهم، وإنّهم أتتهم الشّياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإنّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلّا بقايا من أهل الكتاب.
وقال: إنّما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظان، وإنّ الله أمرني أن أحرّق قريشا. فقلت: ربّ إذا يثلغوا رأسي «3» فيدعوه خبزة. قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشا نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك.
قال: وأهل الجنّة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدّق موفّق؛ ورجل رقيق القلب لكلّ ذي قربى ومسلم؛ وعفيف متعفّف ذو عيال. قال: وأهل النّار خمسة:
الضّعيف الّذي لا زبر له «4» ، الّذين هم فيكم تبعا لا يتبعون أهلا ولا مالا؛ والخائن الّذي لا يخفى له طمع وإن دقّ إلّا خانه؛ ورجل لا يصبح ولا يمسي إلّا وهو يخادعك عن أهلك ومالك» . وذكر البخل أو الكذب «والشّنظير الفحّاش» ) * «5» .
4-* (عن عبد الله بن مسعود وأبي موسى- رضي الله عنهما- قالا: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ بين يدي السّاعة لأياما ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج، والهرج القتل» ) * «6» .
5-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
إنّ رجلا قال: يا رسول الله، إنّ لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ. فقال: «لئن كنت كما قلت،
__________
(1) الترمذي (1001) وقال: حديث حسن، وأخرجه أحمد (2/ 455، 531) .
(2) مسلم (934) .
(3) إذا يثلغوا رأسى: أي يشدخوه ويشجوه كما يشدخ الخبز أي يكسر.
(4) لا زبر له: أي لا عقل له.
(5) مسلم (2865) .
(6) البخاري- الفتح 13 (7062) واللفظ له. ومسلم 4 (2672) .(9/4376)
فكأنّما تسفّهم الملّ ولا يزال معك من الله ظهير «1» عليهم ما دمت على ذلك» ) * «2» .
6-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله- عزّ وجلّ- قد أذهب عنكم عبّيّة الجاهليّة «3» وفخرها بالآباء، مؤمن تقيّ، وفاجر شقيّ. أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعنّ رجال فخرهم بأقوام إنّما هم فحم من فحم جهنّم أو ليكوننّ أهون على الله من الجعلان الّتي تدفع بأنفها النّتن» ) * «4» .
7-* (عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتّى إذا لم يبق عالم اتّخذ النّاس رؤوسا جهّالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا» ) * «5» .
8-* (عن الأسود بن خلف- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الولد مبخلة مجبنة مجهلة محزنة» ) * «6» .
9-* (عن أبي موسى- رضي الله عنه- قال:
بلغنا مخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه، أنا وأخوان لي أنا أصغرهما، أحدهما أبو بردة، والآخر أبو رهم، إمّا قال بضعا وإمّا قال ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلا من قومي قال: فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النّجاشيّ بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده، فقال جعفر: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثنا هاهنا، وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا، فأقمنا معه حتّى قدمنا جميعا. قال: فوافقنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين افتتح خيبر، فأسهم لنا، أو قال: أعطانا منها، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا.
إلّا لمن شهد معه، إلّا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم. قال: فكان ناس من النّاس يقولون لنا يعني لأهل السّفينة: نحن سبقناكم بالهجرة. قال: فدخلت أسماء بنت عميس، وهي ممّن قدم معنا، على حفصة زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النّجاشيّ فيمن هاجر إليه، فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس. قال عمر:
الحبشيّة هذه؟ البحريّة هذه؟ فقالت أسماء: نعم.
فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحقّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم منكم. فغضبت، وقالت كلمة: كذبت يا عمر.
__________
(1) المل: الرماد الحار، والظهير: المعين.
(2) مسلم (2558) .
(3) عبية الجاهلية: يعني الكبر. «النهاية» (3/ 169) .
(4) أبو داود (5116) واللفظ له وقال المنذري في المختصر: أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح (8/ 16) . والترمذي (3955) وقال: حسن، وقال الألباني: حسن (4269) - صحيح أبي داود. وقال محقق «جامع الأصول» (10/ 618) : إسناده حسن.
(5) البخاري- الفتح 1 (100) واللفظ له. مسلم (2673) .
(6) صحيح الجامع (1990) واللفظ له. وعزاه للحاكم، والطبراني، من حديث خولة بنت حكيم وبعضه في المشكاة من حديث عائشة (3/ 1329) رقم (4692) وقال: إسناده جيد، وله شواهد من حديث خولة بنت حكيم عند الحاكم، ومن حديث يعلى عند ابن ماجه وأحمد بأسانيد صحيحة.(9/4377)
كلّا. والله كنتم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنّا في دار- أو في أرض- البعداء البغضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله ...
الحديث) * «1» .
10-* (عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما- قال: جاء رجل أعرابيّ جاف جريء فقال: يا رسول الله، أين الهجرة إليك حيثما كنت، أم إلى أرض معلومة، أو لقوم خاصّة، أم إذا متّ انقطعت؟ قال: فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ساعة، ثمّ قال: «أين السّائل عن الهجرة؟» قال: ها أنا ذا يا رسول الله. قال: «إذا أقمت الصّلاة، وآتيت الزّكاة فأنت مهاجر وإن متّ بالحضرمة» قال: يعني أرضا باليمامة، قال: ثمّ قام رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت ثياب أهل الجنّة، أتنسج نسجا أم تشقّق من ثمر الجنّة؟ قال: فكأنّ القوم تعجّبوا من مسألة الأعرابيّ فقال: «ما تعجبون من جاهل يسأل عالما؟» قال: فسكت هنيّة، ثمّ قال: «أين السّائل عن ثياب الجنّة؟» قال: أنا. قال: «لا. بل تشقّق من ثمر الجنّة» ) * «2» .
11-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الصّيام جنّة، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إنّي صائم (مرّتين) والّذي نفسي بيده لخلوف فم الصّائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي. الصّيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها» ) * «3» .
12-* (عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: غزونا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقد ثاب معه «4» ناس من المهاجرين حتّى كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعّاب «5» فكسع «6» أنصاريّا فغضب الأنصاريّ غضبا شديدا حتّى تداعوا، وقال الأنصاريّ:
يا للأنصار، وقال المهاجريّ: يا للمهاجرين. فخرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ما بال دعوى أهل الجاهليّة؟» ثمّ قال: «ما شأنهم؟» فأخبر بكسعة المهاجريّ الأنصاريّ. قال: فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «دعوها فإنّها خبيثة» «7» . وقال عبد الله ابن أبيّ ابن سلول: أقد تداعوا علينا؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. فقال عمر: ألا نقتل يا نبيّ الله هذا الخبيث؟ - لعبد الله-: فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا يتحدّث النّاس أنّه كان يقتل أصحابه» ) * «8» .
13-* (عن ابن بريدة عن أبيه- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «القضاة ثلاثة،
__________
(1) البخاري- الفتح 7 (4230، 4231) . ومسلم (2502) واللفظ له.
(2) رواه أحمد (2/ 203) رقم (6904) . وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح (11/ 114) .
(3) البخاري- الفتح 4 (1894) واللفظ له. ومسلم بنحوه رقم (1151) .
(4) ثاب معه: أي اجتمع.
(5) لعّاب: أي بطّال، وقيل: كان يلعب بالحراب كما تصنع الحبشة.
(6) فكسع أنصاريا: أي ضربه على دبره.
(7) دعوها فإنها خبيثة: أي كريهة قبيحة، والمراد دعوى الجاهلية.
(8) البخاري- الفتح 6 (3518) واللفظ له. ومسلم (2584) .(9/4378)
واحد في الجنّة، واثنان في النّار. فأمّا الّذي في الجنّة فرجل عرف الحقّ فقضى به، ورجل عرف الحقّ فجار فهو في النّار، ورجل قضى للنّاس على جهل فهو في النّار» ) * «1» .
14-* (عن سماك بن حرب. قال: قلت لجابر ابن سمرة: أكنت تجالس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال:
نعم، كثيرا. كان لا يقوم من مصلّاه الّذي يصلّي فيه الصّبح أو الغداة حتّى تطلع الشّمس، فإذا طلعت الشّمس قام، وكانوا يتحدّثون فيأخذون في أمر الجاهليّة فيضحكون ويتبسّم) * «2» .
15-* (عن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنهما- قال: كان النّاس يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخير، وكنت أسأله عن الشّرّ مخافة أن يدركني، فقلت:
يا رسول الله، إنّا كنّا في جاهليّة وشرّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شرّ؟ قال: «نعم» قلت:
وهل بعد ذلك الشّرّ من خير؟ قال: «نعم وفيه دخن» قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر» ، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شرّ؟ قال: «نعم. دعاة على أبواب جهنّم، من أجابهم إليها قذفوه فيها» . قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال:
«هم من جلدتنا، ويتكلّمون بألسنتنا» . قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» ، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟
قال: «فاعتزل تلك الفرق كلّها ولو أن تعضّ بأصل شجرة حتّى يدركك الموت وأنت على ذلك» ) * «3» .
16-* (عن أبي موسى- رضي الله عنه- قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدعو بهذا الدّعاء: «ربّ اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري كلّه وما أنت أعلم به منّي. اللهمّ اغفر لي خطاياي وعمدي وجهلي وجدّي وكلّ ذلك عندي، اللهمّ اغفر لي ما قدّمت وما أخّرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدّم وأنت المؤخّر، وأنت على كلّ شيء قدير» ) * «4» .
17-* (عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحبّ أنّ لي به حمر النّعم «5» أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخد من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جلوس عند باب من أبوابه فكرهنا أن نفرّق بينهم فجلسنا حجرة «6» إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها حتّى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مغضبا قد احمرّ وجهه يرميهم بالتّراب، ويقول: «مهلا يا قوم، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إنّ القرآن لم ينزل يكذّب بعضه بعضا، بل
__________
(1) أبو داود (3573) واللفظ له. وصححه الألباني في الإرواء (2614) . والحاكم (4/ 90) وقال: إسناده صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وقال محقق «جامع الأصول» (10/ 167) : وهو حديث صحيح.
(2) مسلم (670) .
(3) البخاري- الفتح 13 (7084) واللفظ له. ومسلم (1847) .
(4) البخاري- الفتح 11 (6398) واللفظ له. ومسلم (2719) .
(5) حمر النّعم: النعم الإبل، والحمر جمع أحمر وهي أصبر الإبل على الهواجر.
(6) جلسنا حجرة: أي ناحية منفردين.(9/4379)
يصدّق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه» ) * «1» .
18-* (عن المعرور بن سويد- رحمه الله تعالى- قال: لقيت أبا ذرّ بالرّبذة «2» وعليه حلّة وعلى غلامه حلّة فسألته عن ذلك فقال: إنّي ساببت رجلا فعيّرته بأمّه فقال لي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا ذرّ أعيّرته بأمّه؟
إنّك امرؤ فيك جاهليّة، إخوانكم خولكم «3» جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممّا يأكل، وليلبسه ممّا يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم فأعينوهم» ) * «4» .
19-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ليس منّا من لطم الخدود، وشقّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهليّة» ) * «5» .
20-* (عن أمّ سلمة- رضي الله عنها- قالت: ما خرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من بيتي قطّ إلّا رفع طرفه إلى السّماء فقال: «اللهمّ إنّي أعوذ بك أن أضلّ أو أضلّ، أو أزلّ أو أزلّ، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل عليّ» ) * «6» .
21-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «من خرج من الطّاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهليّة، ومن قاتل تحت راية عمّيّة يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهليّة، ومن خرج على أمّتي يضرب برّها وفاجرها ولا يتحاش «7» من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس منّي ولست منه» ) * «8» .
22-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كره من أميره شيئا فليصبر عليه فإنّه ليس أحد من النّاس خرج من السّلطان شبرا فمات عليه إلّا مات ميتة جاهليّة» ) * «9» .
23-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لم يدع قول الزّور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه» ) * «10» .
24-* (عن عبد الرّحمن بن شماسة المهريّ قال: كنت عند مسلمة بن مخلد، وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص. فقال عبد الله: لا تقوم السّاعة إلّا على شرار الخلق. هم شرّ من أهل الجاهليّة، لا يدعون الله بشيء إلّا ردّه عليهم ... الحديث) * «11» .
__________
(1) رواه أحمد (2/ 181) رقم (6711) . وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله (10/ 174) : إسناده صحيح.
(2) بالربذة: هو موضع بالبادية شمال المدينة.
(3) خولكم: أي خدمكم، من التخويل بمعنى الإعطاء والتمليك.
(4) البخاري- الفتح 1 (30) واللفظ له. ومسلم (1661) .
(5) البخاري- الفتح 3 (1294) واللفظ له. مسلم (103) .
(6) أبو داود (5094) ، وابن ماجة (3884) ، وقال الألباني في صحيح أبي داود 3 (4248) ص 959: صحيح.
(7) ولا يتحاش- وفي بعض النسخ: يتحاشى بالياء ومعناه: لا يكترث بما يفعله فيها ولا يخاف وباله وعقوبته.
(8) مسلم (1848) .
(9) مسلم (1849) .
(10) البخاري- الفتح 10 (6057) .
(11) مسلم (1924) .(9/4380)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الجهل) معنى
25-* (عن عامر بن واثلة، أنّ نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكّة، فقال من استعملت على أهل الوادي؟ فقال ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا.
قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنّه قارىء لكتاب الله- عزّ وجلّ- وإنّه عالم بالفرائض قال عمر: أما إنّ نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم قد قال: «إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين» ) * «1» .
26-* (عن عوف بن مالك- رضي الله عنه- قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم فنظر في السّماء ثمّ قال: «هذا أوان العلم أن يرفع» ، فقال له رجل من الأنصار، يقال له زياد بن لبيد: أيرفع العلم يا رسول الله وفينا كتاب الله، وقد علّمناه أبناءنا ونساءنا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن كنت لأظنّك من أفقه أهل المدينة» ثمّ ذكر ضلالة أهل الكتابين وعندهما ما عندهما من كتاب الله- عزّ وجلّ- فلقي جبير بن نفير شدّاد بن أوس بالمصلّى فحدّثه هذا الحديث عن عوف بن مالك فقال: صدق عوف، ثمّ قال: وهل تدري ما رفع العلم؟ قال قلت: لا أدري، قال: ذهاب أوعيته، قال: وهل تدري أيّ العلم أوّل أن يرفع؟ قال: قلت لا أدري. قال: الخشوع حتّى لا تكاد ترى خاشعا) * «2» .
27-* (عن أبي كبشة الأنماريّ- رضي الله عنه- أنّه قال: سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ثلاثة أقسم عليهنّ وأحدّثكم حديثا فاحفظوه، قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلّا زاده الله عزّا، ولا فتح عبد باب مسألة إلّا فتح الله عليه باب فقر أو كلمة نحوها، وأحدّثكم حديثا فاحفظوه قال: إنّما الدّنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتّقي فيه ربّه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا، فهو صادق النّيّة يقول: لو أنّ لي مالا لعملت بعمل فلان فهو نيّته فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتّقي فيه ربّه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقّا. فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أنّ لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو نيّته فوزرهما سواء» ) * «3» .
28-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أفتي بغير علم، كان
__________
(1) مسلم (817) .
(2) أحمد (6/ 26، 27) واللفظ له. وقال الألباني: صحيح (تقييد العلم للخطيب البغدادي (189) . وعزاه كذلك للحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
(3) الترمذي (2325) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأحمد (4/ 231) ، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 58) وقال الألباني: صحيح.(9/4381)
إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أنّ الرّشد في غيره فقد خانه» ) * «1» .
29-* (عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهنّ شيئا. قالت الأولى:
زوجي لحم جمل غثّ على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل. قالت الثّانية: زوجي لا أبثّ خبره، إنّي أخاف أن لا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره. قالت الثّالثة: زوجي العشنّق، إن أنطق أطلّق، وإن أسكت أعلّق. قالت الرّابعة: زوجي كليل تهامة، لا حرّ ولا قرّ، ولا مخافة ولا سآمة. قالت الخامسة:
زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عمّا عهد. قالت السّادسة: زوجي إن أكل لفّ، وإن شرب اشتفّ، وإن اضطّجع التفّ، ولا يولج الكفّ ليعلم البثّ. قالت السّابعة: زوجي غياياء أو عياياء طباقاء، كلّ داء له داء، شجّك أو فلّك أو جمع كلّا لك. قالت الثّامنة: زوجي المسّ مسّ أرنب، والرّيح ريح زرنب.
قالت التّاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النّجاد، عظيم الرّماد، قريب البيت من النّاد. قالت العاشرة:
زوجي مالك وما مالك، مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح، وإذا سمعن صوت المزهر، أيقنّ أنّهنّ هوالك. قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع فما أبو زرع؟ أناس من حليّ أذنيّ، وملأ من شحم عضديّ، وبجّحني فبجحت إليّ نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشقّ، فجعلني في أهل صهيل وأطيط، ودائس ومنقّ، فعنده أقول فلا أقبّح، وأرقد فأتصبّح، وأشرب فاتقنّح. أمّ أبي زرع، فما أمّ أبي زرع؟ عكومها رداح، وبيتها فساح، ابن أبي زرع، فما ابن أبي زرع؟
مضجعه كمسلّ شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة. بنت أبي زرع، فما بنت أبي زرع؟ طوع أبيها، وطوع أمّها، وملء كسائها، وغيظ جارتها. جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع؟ لا تبثّ حديثنا تبثيثا ولا تنقّث ميرتنا تنقيثا، ولا تملأ بيتنا تعشيشا؛ قالت: خرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمّانتين، فطلّقني ونكحها، فنكحت بعده رجلا سريّا، ركب شريّا، وأخذ خطّيّا، وأراح عليّ نعما ثريّا، وأعطاني من كلّ رائحة زوجا، وقال كلي أمّ زرع وميري أهلك، قالت: فلو جمعت كلّ شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع. قالت عائشة: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كنت لك كأبي زرع لأمّ زرع» ) * «2» .
__________
(1) أبو داود (3657) واللفظ له. وقال محقق جامع الأصول: إسناده حسن (11/ 562) .
(2) البخاري- الفتح 9 (5189) ، ومسلم (2448) . وسبق تفسير غريبه في صفحات سابقة.(9/4382)
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (الجهل)
1-* (قال لقمان الحكيم- رضي الله عنه- لابنه: «يا بنيّ لا تعلّم العلم لتباهي به العلماء أو لتماري به السّفهاء أو ترائي به في المجالس، ولا تترك العلم زهدا فيه ورغبة في الجهالة. يا بنيّ اختر المجالس على عينك، وإذا رأيت قوما يذكرون الله فاجلس معهم؛ فإنّك إن تكن عالما ينفعك علمك، وإن تكن جاهلا يعلّموك، ولعلّ الله أن يطّلع عليهم برحمة فيصيبك بها معهم، وإذا رأيت قوما لا يذكرون الله فلا تجلس معهم؛ فإنّك إن تكن عالما لا ينفعك علمك، وإن تكن جاهلا زادوك غيّا، أو عيّا، ولعلّ الله يطّلع عليهم بعذاب فيصيبك معهم» ) * «1» .
2-* (كان عيسى ابن مريم- عليهما السّلام- يقول: «لا تمنع العلم من أهله فتأثم، ولا تنشره عند غير أهله فتجهّل، وكن طبيبا رفيقا يضع دواءه حيث يعلم أنّه ينفع» ) * «2» .
3-* (قال بزر جمهر: «الجهل في القلب، كالنّزّ في الأرض يفسد ما حوله» ) * «3» .
4-* (وقال أيضا لمّا قيل له: ما لكم لا تعاتبون الجهّال؟ فقال: «إنّا لا نكلّف العمي أن يبصروا، ولا الصّمّ أن يسمعوا» ) «4» .
5-* (قال عليّ- رضي الله عنه- «لا يؤخذ على الجاهل عهد بطلب العلم حتّى يؤخذ على العلماء عهد ببذل العلم للجهّال، لأنّ العلم كان قبل الجهل به» ) «5» .
6-* (قال عليّ- رضي الله عنه-:
فلا تصحب أخا الجهل ... وإيّاك وإيّاه
يقاس المرء بالمرء ... إذا ما المرء ما شاه
قياس النّعل بالنّعل ... إذا ما النّعل حاذاه
وللشّيء على الشّيء ... مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه «6» .
7-* (قال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-:
«اغد عالما أو متعلّما ولا تغد فيما بين ذلك فإنّ ما بين ذلك جاهل، وإنّ الملائكة تبسط أجنحتها للرّجل غدا يبتغي العلم من الرّضا بما يصنع» ) * «7» .
8-* (قال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-:
«قرّاؤكم وعلماؤكم يذهبون ويتّخذ النّاس رؤوسا جهّالا يقيسون الأمور برأيهم» ) * «8» .
9-* (قال أبو الدّرداء- رضي الله عنه-:
«علامة الجاهل ثلاث: العجب، وكثرة المنطق فيما لا يعنيه، وأن ينهى عن شيء ويأتيه» ) * «9» .
__________
(1) رواه الدارمي (1/ 117) رقم (377) .
(2) الدارمي رقم (379) .
(3) أدب الدنيا والدين (50) ط بيروت.
(4) المرجع السابق (51) ط بيروت.
(5) جامع بيان العلم وفضله (1/ 123) .
(6) الآداب الشرعية (3/ 564) .
(7) الدارمي (1/ 109) رقم (339) .
(8) جامع بيان العلم وفضله (2/ 136) .
(9) المرجع السابق (1/ 143) .(9/4383)
10-* (عن أبي الدّرداء- رضي الله عنه- قال: «مالي أرى علماءكم يذهبون، وجهّالكم لا يتعلّمون. تعلّموا قبل أن يرفع العلم، فإنّ رفع العلم ذهاب العلماء» ) * «1» .
11-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: «قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس وكان من النّفر الّذين يدنيهم عمر، وكان القرّاء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبّانا. فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه. قال ابن عبّاس: فاستأذن الحرّ لعيينة فأذن له عمر، فلمّا دخل عليه قال: هي يا ابن الخطّاب، فو الله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتّى همّ به، فقال له الحرّ: يا أمير المؤمنين إنّ الله تعالى قال لنبيّه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (الأعراف/ 199) . وإنّ هذا من الجاهلين.
والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقّافا عند كتاب الله» ) * «2» .
12-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- أنّه كان يقول: «لا يزال عالم يموت وأثر للحقّ يدرس حتّى يكثر أهل الجهل، وقد ذهب أهل العلم فيعملون بالجهل، ويدينون بغير الحقّ، ويضلّون عن سواء السّبيل» ) * «3» .
13-* (قال ميمون بن مهران- رحمه الله تعالى-: «لا تمار عالما ولا جاهلا، فإنّك إذا ماريت عالما خزن عنك علمه، وإن ما ريت جاهلا خشّن بصدرك» ) * «4» .
14-* (قال مسروق- رحمه الله تعالى-:
«كفى بالمرء علما أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعمله» ) * «5» .
15-* (قال عمر بن عبد العزيز- رحمه الله تعالى-: «من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح» ) * «6» .
16-* (كان عمر بن عبد العزيز- رحمه الله- كثيرا ما يتمثّل بهذه الأبيات:
يرى مستكينا وهو للهو ماقت ... به عن حديث القوم ما هو شاغله
وأزعجه علم عن الجهل كلّه ... وما عالم شيئا كمن هو جاهله
عبوس عن الجهّال حين يراهم ... فليس له منهم خدين يهازله
تذكّر ما يبقى من العيش آجلا ... فيشغله عن عاجل العيش آجله «7» .
17-* (قال مجاهد- رحمه الله تعالى-: «من
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله (1/ 156) .
(2) البخاري- الفتح 8 (4642) .
(3) جامع بيان العلم وفضله (1/ 155) .
(4) المرجع السابق (1/ 129) .
(5) الدارمي رقم (383) . وجامع بيان العلم (1/ 143) .
(6) مجموع الفتاوى (2/ 382) .
(7) جامع بيان العلم وفضله (1/ 137) .(9/4384)
عصى الله خطأ أو عمدا فهو جاهل حتّى ينزع عن الذّنب» ) * «1» .
18-* (قال الشّعبيّ- رحمه الله تعالى-:
«جالسوا العلماء، فإنّكم إن أحسنتم حمدوكم، وإن أسأتم تأوّلوا لكم وعذروكم، وإن أخطأتم لم يعنّفوكم وإن جهلتم علّموكم، وإن شهدوا لكم نفعوكم» ) * «2» .
19-* (أوصى يحيى بن خالد ابنه جعفرا رحمهما الله تعالى- فقال: «لا تردّ على أحد جوابا حتّى تفهم كلامه، فإنّ ذلك يصرفك عن جواب كلامه إلى غيره ويؤكّد الجهل عليك، ولكن افهم عنه، فإذا فهمته فأجبه، ولا تعجل بالجواب قبل الاستفهام، ولا تستحي أن تستفهم إذا لم تفهم فإنّ الجواب قبل الفهم حمق، وإذا جهلت فاسأل، فيبدو لك، واستفهامك أجمل بك وخير من السّكوت على العيّ» ) * «3» .
20-* (قال يحيى بن خالد بن برمك- رحمه الله تعالى- لابنه: «يا بنيّ خذ من كلّ علم بحظّ وافر، فإنّك إن لم تفعل جهلت، وإن جهلت شيئا من العلم عاديته، وعزيز عليّ أن تعادي شيئا من العلم» ) * «4» .
21-* (قال الخليل بن أحمد- رحمه الله تعالى-:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنّك جاهل فعذرتكا «5»
22-* (وقال أيضا- رحمه الله تعالى-:
«الرّجال أربعة: رجل لا يدري ويدري أنّه لا يدري فذلك جاهل فعلّموه، ورجل يدري ولا يدري أنّه يدري فذلك غافل فنبّهوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنّه لا يدري فذلك مائق فاحذروه) * «6» .
23-* (قال أكثم بن صيفيّ- رحمه الله تعالى-:
«ويل عالم أمر من جاهله، من جهل شيئا عاداه، ومن أحبّ شيئا استعبده» ) * «7» .
24-* (قال جعفر بن عون: «سمعت مسعرا يوصي ولده كداما:
إنّي منحتك يا كدام نصيحتي ... فاسمع مقال أب عليك شفيق
أمّا المزاحة والمراء فدعهما ... خلقان لا أرضاهما لصديق
إنّي بلوتهما فلم أحمدهما ... لمجاور جارا ولا لرفيق
والجهل يزري بالفتى في قومه ... وعروقه في النّاس أيّ عروق) * «8» .
25-* (عن كثير بن مرّة- رحمه الله تعالى- قال: «لا تحدّث الباطل للحكماء فيمقتوك، ولا تحدّث
__________
(1) ابن كثير (1/ 463) .
(2) جامع بيان العلم وفضله (1/ 130) .
(3) المرجع السابق (1/ 148) .
(4) المرجع السابق (1/ 130) .
(5) المرجع السابق (1/ 144) .
(6) المرجع السابق (2/ 48) . هكذا في الأصل. والرابع: ورجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاسألوه. والمائق: الهالك حمقا وغباوة.
(7) المرجع السابق (1/ 148) .
(8) سير النبلاء (7/ 170) .(9/4385)
الحكمة للسّفهاء فيكذّبوك، ولا تمنع العلم أهله فتأثم، ولا تضعه في غير أهله فتجهّل، إنّ عليك في علمك حقّا، كما أنّ عليك في مالك حقّا» ) * «1» .
26-* (قال الثّوريّ- رحمه الله تعالى-:
«تعوّذوا بالله من فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإنّ فتنتهما فتنة لكلّ مفتون» ) * «2» .
27-* (قال سفيان بن عيينة- رحمه الله تعالى-: «أجهل النّاس: من ترك ما يعلم، وأعلم النّاس:
من عمل بما يعلم، وأفضل النّاس: أخشعهم لله» ) * «3» .
28-* (قال الفضيل بن عياض- رحمه الله تعالى-: «من علم ليس كمن لم يعلم» ) * «4» .
29-* (قال الإمام أحمد- رحمه الله تعالى-:
دين النّبيّ محمّد أخبار ... نعم المطيّة للفتى آثار
لا ترغبنّ عن الحديث وأهله ... فالرّأي ليل والحديث نهار
ولربّما جهل الفتى سبل الهدى ... والشّمس بازغة لها أنوار) * «5» .
30-* (قال سهل بن عبد الله التّستريّ- رحمه الله تعالى-: «الدّنيا جهل وموات إلّا العلم، والعلم كلّه حجّة إلّا العمل به، والعمل كلّه هباء إلّا الإخلاص، والإخلاص على خطر عظيم حتّى يختم به» ) * «6» .
31-* (قال سهل بن مزاحم- رحمه الله تعالى-: «الأمر أضيق على العالم من عقد التّسعين، مع أنّ الجاهل لا يعذر بجهالته، لكنّ العالم أشدّ عذابا إذا ترك ما علم فلم يعمل به» ) * «7» .
32-* (قال أبو حاتم- رحمه الله تعالى-:
إذا أمن الجهّال جهلك مرّة ... فعرضك للجهّال غنم من الغنم
فعمّ عليه الحلم والجهل والقه ... بمنزلة بين العداوة والسّلم
إذا أنت جاريت السّفيه كما جرى ... فأنت سفيه مثله غير ذي حلم
ولا تغضبن عرض السّفيه وداره ... بحلم فإن أعيا عليك فبالصّرم
فيرجوك تارات ويخشاك تارة ... ويأخذ فيما بين ذلك بالحزم
فإن لم تجد بدّا من الجهل فاستعن ... عليه بجهّال فذاك من العزم) * «8»
__________
(1) الدارمي (378) .
(2) الآداب الشرعية (2/ 46) وعزاه للبيهقي. ومثله من كلام ابن المبارك كما في جامع بيان العلم وفضله (1/ 192) .
(3) الدارمي (1/ 107) رقم (330) .
(4) جامع بيان العلم وفضله (1/ 192) .
(5) المرجع السابق (2/ 35) .
(6) اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي (29) نسخة الألباني.
(7) المرجع السابق (15) النسخة نفسها.
(8) أدب الدنيا والدين (249) .(9/4386)
33-* (قال بشر بن المعتمر البصريّ المتكلّم:
إن كنت تعلم ما أقو ... ل وما تقول فأنت عالم
أو كنت تجهل ذا وذا ... ك فكن لأهل العلم لازم
أهل الرّياسة من ينا ... زعهم رياستهم فظالم
لا تطلبنّ رياسة ... بالجهل أنت لها مخاصم
لولا مقامهم رأي ... ت الدّين مضطرب الدّعائم) * «1» .
34-* (قال سابق البربريّ- رحمه الله تعالى-:
والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه ... كما يجلّي سواد الظّلمة القمر
وليس ذو العلم بالتّقوى كجاهلها ... ولا البصير كأعمى ماله بصر) * «2» .
35-* (وقال رحمه الله:
الجهل داء قاتل وشفاؤه ... أمران في التّركيب متّفقان
نصّ من القرآن أو من سنّة ... وطبيب ذاك العالم الرّباني) * «3» .
36-* (قال أبو بكر بن دريد:
جهلت فعاديت العلوم وأهلها ... كذاك يعادي العلم من هو جاهله
ومن كان يهوى أن يرى متصدّرا ... ويكره لا أدري أصيبت مقاتله) * «4» .
37-* (قال الماورديّ- رحمه الله تعالى-:
«ليس يجهل فضل العلم إلّا أهل الجهل، لأنّ فضل العلم إنّما يعرف بالعلم. وهذا أبلغ في فضله، لأنّ فضله لا يعلم إلّا به، فلمّا عدم الجاهلون العلم الّذي به يتوصّلون إلى فضل العلم جهلوا فضله، واسترذلوا أهله، وتوهّموا أنّ ما تميل إليه نفوسهم من الأموال المقتناة، والطّرف المشتهاة، أولى أن يكون إقبالهم عليها، وأحرى أن يكون اشتغالهم بها» ) * «5» .
38-* (قال الشّيخ ظهير الدّين المرغنانيّ رحمه الله تعالى-:
والجاهلون فموتى قبل موتهم ... والعالمون وإن ماتوا فأحياء) * «6» .
39-* (وقيل:
حياة القلب علم فاغتنمه ... وموت القلب جهل فاجتنبه) * «7» .
40-* (وقيل:
العلم تاج للفتى ... والعقل طوق من ذهب
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله (1/ 144) .
(2) المرجع السابق (1/ 50) .
(3) فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد (417) .
(4) أدب الدنيا والدين (17) ط. بولاق.
(5) المرجع السابق (17) .
(6) مختصر نصيحة أهل الحديث (62) .
(7) المرجع السابق (62) .(9/4387)
والعلم نور يلتظي ... والجهل نار تلتهب) * «1» .
41-* (وقال بعضهم:
تنزّه تلك النّفس عن سوء فعلها ... وتعيب أقدار الإله وتظلم
وتزعم مع هذا بأنّك عارف ... كذبت يقينا في الّذي أنت تزعم
وما أنت إلّا جاهل ثمّ ظالم ... وإنّك بين الجاهلين مقدّم)) * «2» .
42-* (قال ابن القيّم- رحمه الله تعالى-:
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... أو كنت تدري فالمصيبة أعظم) * «3» .
43-* (وقال- رحمه الله تعالى-: «الجهل نوعان: جهل علم ومعرفة، وجهل عمل وغيّ.
وكلاهما له ظلمة ووحشة في القلب. وكما أنّ العلم يوجب نورا وأنسا فضدّه يوجب ظلمة ويوقع وحشة.
وقد سمّى الله سبحانه وتعالى العلم الّذي بعث به رسوله نورا وهدى وحياة، وسمّى ضدّه ظلمة وموتا وضلالا. قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ (البقرة/ 257) وقال تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها (الأنعام/ 122) » ) * «4» .
44-* (قال السّيوطيّ- رحمه الله تعالى-:
«كل من جهل تحريم شيء ممّا يشترك فيه غالب النّاس لم يقبل إلّا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية يخفى عليه مثل ذلك» ) * «5» .
45-* (وقال آخر:
وإنّك تلقى صاحب الجهل نادما ... عليه ولا يأسى على الحلم صاحبه) * «6» .
46-* (وقال آخر:
ولربّما اعتضد الحليم بجاهل ... لا خير في اليمنى بغير يسار) * «7» .
47-* (قالوا: «لا يجترىء على الكلام إلّا فائق «8» أو مائق» «9» ) * «10» .
48-* (قال بعض الشّعراء:
إنّ الرّواة على جهل بما حملوا ... مثل الجمال عليها يحمل الودع
لا الودع ينفعه حمل الجمال له ... ولا الجمال بحمل الودع تنتفع) * «11» .
__________
(1) مختصر نصيحة أهل الحديث (62) .
(2) طريق الهجرتين لابن القيم (114) .
(3) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (33) .
(4) الأشباه والنظائر (220) .
(5) مختصر نصيحة أهل الحديث (160) .
(6) الآداب الشرعية (2/ 218) .
(7) أدب الدنيا والدين (331) .
(8) الفائق: هو الجيد الخالص في نوعه.
(9) المائق: الهالك حمقا وغباوة.
(10) جامع بيان العلم وفضله (1/ 137) .
(11) المرجع السابق (2/ 131) .(9/4388)
49-* (قالوا: «من لم يحتمل ذلّ التّعلّم ساعة، بقي في ذلّ الجهل أبدا) * «1» .
50-* (قال بعض الشّعراء:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... فأجسامهم قبل القبور قبور
وإنّ امرأ لم يحي بالعلم ميّت ... فليس له قبل النّشور نشور) * «2» .
51- (وقال آخر:
فبالعلم النّجاة من المخازي ... وبالجهل المذلّة والرّغام) * «3» .
52-* (قال الشّاعر:
تعلّم فليس المرء يولد عالما ... وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإنّ كبير القوم لا علم عنده ... صغير إذا التفّت عليه المحافل) * «4» .
من مضار (الجهل)
(1) يورد المهالك، ويجلب المصائب.
(2) يفسد ولا يصلح، ويخرّب ولا يعمّر.
(3) يضع رفيع النّسب، ويذلّ عزيز القوم.
(4) المعصية أثر من آثاره وثمرة من ثماره.
(5) شرّ أنواعه ما كان صاحبه لا يعلم بجهله، وشرّ منه من كان يظنّ أنّه على ما فيه عالم.
(6) مرض وبيل وداء وخيم، وشفاؤه السّؤال والتّعلّم.
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله (1/ 99) .
(2) أدب الدنيا والدين (51) .
(3) جامع بيان العلم وفضله (1/ 54) .
(4) المرجع السابق (1/ 159) .(9/4389)
[المجلد العاشر]
محتويات المجلد العاشر
م/ اسم الصفة/ رقم الصفحة
حرف الحاء 64/ الحرب والمحاربة/ 4390
65/ الحزن/ 4407
66/ الحسد/ 4417
67/ الحقد/ 4430
68/ الحكم بغير ما أنزل الله/ 4441
69/ الحمق/ 4449
حرف الخاء 70/ الخبث/ 4459
71/ الخداع/ 4470
72/ الخنوثة والتخنث/ 4477
73/ الخيانة/ 4482
حرف الدال 74/ الدياثة/ 4498
حرف الذال 75/ الذل/ 4502
حرف الراء 76/ الربا/ 4516
77/ الردة/ 4532
78/ الرشوة/ 4542
79/ الرياء/ 4551
م/ اسم الصفة/ رقم الصفحة
حرف الزاي 80/ الزنا/ 4568
81/ الزندقة/ 4584
حرف السين 82/ السحر/ 4589
83/ السخرية/ 4602
84/ السخط/ 4615
85/ السرقة/ 4625
86/ السفاهة/ 4634
87/ سوء الخلق/ 4642
88/ سوء الظن/ 4652
89/ سوء المعاملة/ 4673
حرف الشين 90/ الشح/ 4685
91/ شرب الخمر/ 4695
92/ الشرك/ 4709
93/ الشك/ 4751
94/ الشماتة/ 4769
95/ شهادة الزور/ 4774
حرف الصاد 96/ صغر الهمة/ 4781(10/4388)
م/ اسم الصفة/ رقم الصفحة
حرف الضاد 97/ الضعف/ 4787
98/ الضلال/ 4795
حرف الطاء 99/ الطغيان/ 4834
100/ الطمع/ 4846
101/ طول الأمل/ 4857
102/ الطيش/ 4868
حرف الظاء 103/ الظلم/ 4871
م/ اسم الصفة/ رقم الصفحة
حرف العين 104/ العبوس/ 4927
105/ العتو/ 4932
106/ العجلة/ 4941
107/ العدوان/ 4955
108/ العصيان/ 4972
109/ عقوق الوالدين/ 5011
110/ العنف والإكراه/ 5018(10/4389)
[حرف الحاء]
الحرب والمحاربة*
الحرب والمحاربة لغة:
الحرب: اسم للحالة الّتي هي نقيض السلم، وهي مؤنّثة لأنّها في معنى المحاربة، والمحاربة مصدر قولهم: حارب يحارب، الحرب والمحاربة مأخوذ من مادّة (ح ر ب) الّتي تدلّ على السلب، ومن ذلك:
الحرب، يقال: حربته ماله أي سلبته، واشتقاق الحرب (بمعنى المقاتلة للعدوّ) من ذلك (لأنّها تسلب الأرواح والأموال) ، وقولهم أسد حرب، أي من شدّة غضبه كأنّه حرب شيئا أي سلبه وكذلك الرجل الحرب، يقال: حرب الرجل فهو حريب، أي سليب، وحرب بالكسر: اشتدّ غضبه والتحريب إثارة الحرب، ورجل محرب كأنّه آلة حرب، وقيل صاحب حروب، والحربة آلة للحرب معروفة، والجمع حراب، وأصله الفعلة من الحرب أو الحراب، ومحراب المسجد، قيل:
سمّي بذلك لأنّه موضع محاربة الشيطان والهوى، وقيل: سمّي بذلك لكون حقّ الإنسان فيه أن يكون حريبا (سليبا) من أشغال الدنيا ومن توزّع الخواطر، والحرب نقيض السلم وقال الجوهريّ:
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
6/ 15/ 2
الحرب، تؤنّث وقد تذكّر، وتصغيرها حريب (بلاتاء) وقولهم: أنا حرب لمن حاربني أي عدوّ (لمن عاداني) يقال: تحاربوا واحتربوا وحاربوا بمعنى (وهو اقتتلوا) ، والتحريب: التحريش، وحرّبته: أغضبته، وحرّبت السنان أي حدّدته، وحربه يحربه حربا، أخذ ماله وتركه بلا شيء، وقد حرب ماله أي سلبه، فهو محروب وحريب وأحربته أي دللته على ما يغنمه من عدوّ يغير عليه، ودار الحرب: بلاد الكفر الّذين لا صلح لهم مع المسلمين، والمحاربة المقاتلة والمنازلة والحرب نقيض السلم، وقول الله تعالى فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (البقرة/ 279) أي بقتل لأنّ الحرب داعية القتل، وقيل: المعنى فإن لم تنتهوا فأنتم حرب لله ورسوله ومحاربة الله ورسوله تعني المعصية وذلك في قوله تعالى إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً (المائدة/ 33) «1» . وقيل:
المراد السرقة والقتل والكفر بعد الإيمان، وقيل نقض العهد وقطع السبيل «2» . والمحروبون في حديث الحديبية «وإلّا تركناهم محروبين» أي مسلوبين
__________
* المقصود بالحرب هنا القتال لسبب غير شرعي كأن يحارب المسلمون بعضهم بعضا، أو يحاربوا أهل الذمة الذين لم ينقضوا عهدهم أو الاقتتال بين أصحاب المذاهب وغير ذلك مما ينطبق عليه وصف البغي والعدوان. [انظر صفتي البغي والعدوان] .
(1) انظر في سبب نزول الآية: تفسير الطبري (6/ 97، 98) .
(2) مقاييس اللغة (2/ 48) ، المفردات للراغب (112) ، الصحاح (1/ 108) ، المصباح المنير (1/ 49) ، لسان العرب (2/ 816) ، (ط. دار المعارف) ، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 358) .(10/4390)
منهوبين، والمحراب في حديث عليّ- رضي الله عنه-:
«فابعث عليهم رجلا محرابا» أي معروفا بالحرب عارفا بها وهو من أبنية المبالغة كالمعطاء من العطاء «1» .
المحاربة اصطلاحا:
قال القرطبيّ: اختلف العلماء فيمن يستحقّ اسم المحاربة، فقال مالك: المحارب: من حمل على الناس في مصر أو برّيّة وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة «2» ولا ذحل «3» ولا عداوة، وقال قوم:
لا تكون المحاربة في المصر «4» .
وعند الحنابلة لا تثبت المحاربة إلّا بما يلى:
1- أن يكون ذلك في الصحراء.
2- أن يكون معهم سلاح.
3- أن يأتوا مجاهرة ويأخذوا المال قهرا «5» . هذا من الناحية الفقهيّة، أمّا من الناحية الأخلاقيّة والسلوكيّة فإنّ مصطلح المحاربة يشمل إلى جانب ما ذكره الفقهاء ما يفعله آكلو الربا، والمنافقون الّذين يقاتلون المسلمين أو يعدّون لقتالهم، وذلك كما فعل أبو عامر الراهب الّذي قال للرّسول صلّى الله عليه وسلّم لا أجد قوما يقاتلونك إلّا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلمّا انهزمت هوازن خرج إلي الروم يستنصر، وأرسل إلى المنافقين، وقال: استعدّوا بما استطعتم من قوّة وسلاح وابنوا مسجدا، فإنّي ذاهب إلى قيصر فآت بجند من الروم لأخرج محمّدا من المدينة، فنزل قول الله تعالى: وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ (التوبة/ 107) وتشمل المحاربة كذلك ما يفعله أهل الحرب من المشركين وأهل الكتاب ضدّ المسلمين.
حكم المحاربة:
عدّ الإمام ابن حجر المحاربة من الكبائر محتجّا بقوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (المائدة/ 33) كما ذكر الله تعالى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير حقّ، أتبعه ببيان أنواع من الفساد في الأرض، فقال: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي أولياءه، وقال الزمخشريّ: محاربة المسلمين في حكم محاربة رسوله يعني أنّ القصد محاربة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذكر اسم الله تعالى تعظيما (لإثم) محاربة رسوله، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ (الفتح/ 10) ، ولك أن تحمل المحاربة على مخالفة أمر الله أي إنّما جزاء الّذين يخالفون أحكام الله وأحكام رسوله ويسعون في الأرض فسادا: القتل أو الصلب.... إلخ، وذكر بعضهم أنّ مجرّد قطع الطريق وإخافة السبيل يعدّ
__________
(1) النهاية (1/ 358، 359) .
(2) نائرة: أي هياج.
(3) ذحل: حقد.
(4) تفسير القرطبى (6/ 99) .
(5) معجم المغني في الفقه الحنبلي (13/ 276) .(10/4391)
ارتكابا للكبيرة فكيف إذا أخذ المال، أو جرح أو قتل أو فعل عدّة كبائر مع ما يغلب على القطّاع من ترك الصلاة وإنفاق ما يأخذونه في الخمر والزنا «1» .
أنواع الحرب وحكمها في الإسلام:
للحرب نوعان:
الأوّل: الحرب المشروعة، وهي الّتي يخوضها المسلمون دفاعا عن أرواحهم وأعراضهم، وهذه الحرب نوع من الجهاد وهي لا تخرج عن حالتين:
1- الدفاع الشرعيّ ضدّ العدوان الواقع على الجماعة الإسلاميّة أو على حرّيّة الدولة الإسلاميّة.
2- الإغاثة الواجبة لشعب مسلم أو حليف عاجز عن الدفاع عن نفسه أو فتح البلدان غير المسلمة لنشر دين الله «2» .
وهذه الحرب المشروعة فرض كفاية وقد تصبح فرض عين على كلّ مسلم ومسلمة في حالات كثيرة، كما إذا دخل الكفّار المقاتلون بلاد الإسلام.
الثاني: الحرب غير المشروعة وهي المقصودة باعتبارها صفة ذميمة منهيّا عنها ولها صور عديدة منها:
أ- أن يقتتل المسلمون فيما بينهم من أجل زعامة أو طمع في حقّ الغير، والذمّ هنا متوجّه لمن يبدأ بالقتال.
ب- أن يقاتل أصحاب المذاهب الدينيّة بعضهم بعضا لنصرة مذهبهم كما في اقتتال السنّة والشيعة.
ج- أن يقاتل أصحاب الأحزاب والشيع السياسيّة بعضهم بعضا لنصرة هذا الحزب أو ذلك.
د- أن يتقاتل المسلمون والذمّيون في الوطن الواحد وذلك كما حدث في لبنان.
كلّ ذلك يذمّ البادىء به والمتسبّب فيه ويتحمّل مسؤوليّته من أشعل نار الحرب أمام الله- عزّ وجلّ- وعامّة المسلمين.
[للاستزادة: انظر صفات: البغي- الطغيان- العتو- العدوان- الفتنة- الظلم- الطمع- الأذى القسوة- اتباع الهوى.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: تكريم الإنسان السلم- الصلح- الإنصاف- الزهد- القناعة- الرضا] .
__________
(1) الزواجر (565- 568) .
(2) الثقافة الإسلامية، للدكتور/ عبد الواحد محمد الفار (271) .(10/4392)
الآيات الواردة في «الحرب»
1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) «1»
2- إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) «2»
3- وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) «3»
4- فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) «4»
5- وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) «5»
6- فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) «6»
__________
(1) البقرة: 278- 280 مدنية
(2) المائدة: 33- 34 مدنية
(3) المائدة: 64 مدنية
(4) الأنفال: 57 مدنية
(5) التوبة: 107 مدنية
(6) محمد: 4- 5 مدنية(10/4393)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الحرب والمحاربة)
1-* (عن النعمان بن بشير- رضي الله عنهما- قال: استأذن أبو بكر- رضي الله عنه- على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسمع صوت عائشة عاليا، فلمّا دخل تناولها ليلطمها، وقال: ألا أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحجزه، وخرج أبو بكر مغضبا، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين خرج أبو بكر: «كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟» قال: فمكث أبو بكر أيّاما، ثمّ استأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما:
أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «قد فعلنا قد فعلنا» ) * «1» .
2-* (عن أبي قلابة؛ أنّه كان جالسا خلف عمر بن عبد العزيز فذكروا وذكروا، فقالوا وقالوا قد أقادت بها الخلفاء، فالتفت إلى أبي قلابة وهو خلف ظهره فقال: ما تقول يا عبد الله بن زيد؟ أو قال: ما تقول يا أبا قلابة؟ قلت: ما علمت نفسا حلّ قتلها في الإسلام إلّا رجل زنى بعد إحصان، أو قتل نفسا بغير نفس، أو حارب الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. فقال عنبسة:
حدّثنا أنس بكذا وكذا. قلت: إيّاي حدّث أنس، قال:
قدم قوم على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فكلّموه فقالوا: قد 2 ستوخمنا «2» هذه الأرض، فقال: «هذه نعم لنا تخرج لترعى فاخرجوا فيها، فاشربوا من ألبانها وأبوالها» فخرجوا فيها فشربوا من أبوالها وألبانها واستصحّوا، ومالوا على الراعي فقتلوه، واطّردوا «3» النعم فما يستبطأ من هؤلاء قتلوا النفس، وحاربوا الله ورسوله، وخوّفوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «سبحان الله» فقلت: تتّهمني؟
قال: حدّثنا بهذا أنس. قال: وقال: يأهل كذا، إنّكم لن تزالوا بخير ما أبقي هذا فيكم ومثل هذا) * «4» .
3-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال:
«حاربت قريظة والنضير، فأجلى بني النضير وأقرّ قريظة ومنّ عليهم حتّى حاربت قريظة، فقتل رجالهم، وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين إلّا بعضهم لحقوا بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فآمنهم وأسلموا. وأجلى يهود المدينة كلّهم: بني قينقاع وهم رهط عبد الله بن سلام، ويهود بني حارثة، وكلّ يهود المدينة) * «5» .
4-* (عن جابر- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحرب خدعة «6» » ) * «7» .
5-* (عن المسور بن مخرمة ومروان- رضي
__________
(1) أبو داود (4999) واللفظ له، وقال الهيثمي (9/ 127) : رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ورواه الطبراني بإسناد ضعيف.
(2) استوخموها: أي لم توافقهم وكرهوها لسقم أصابهم.
(3) واطّردوا: اي أخرجوها طردا أي سوقا.
(4) البخاري- الفتح 8 (4610) واللفظ له، مسلم (1671) .
(5) البخاري- الفتح 7 (4028) .
(6) الحرب خدعة: فيها ثلاث لغات مشهورات. اتفقوا على أن أفصحهن خدعة. قال ثعلب وغيره: هي لغة النبي صلّى الله عليه وسلّم والثانية: خدعة. والثالثة: خدعة. واتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب كيف أمكن الخداع إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل.
(7) البخاري- الفتح 6 (3030) واللفظ له، مسلم (1739) و (1740) .(10/4394)
الله عنهما- يصدّق كلّ منهما حديث صاحبه قالا:
خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زمن الحديبية حتّى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين» فو الله ما شعر بهم خالد حتّى إذا هم بقترة «1» الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش، وسار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، حتّى إذا كان بالثّنيّة الّتي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل «2» . فألحّت. فقالوا: خلأت «3» القصواء فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما خلأت القصواء. وما ذاك لها بخلق. ولكن حبسها «4» حابس الفيل. ثمّ قال:
«والّذي نفسي بيده لا يسألونني خطّة يعظّمون فيها حرمات الله إلّا أعطيتهم إيّاها» ثمّ زجرها فوثبت. قال:
فعدل عنهم حتّى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرّضه الناس تبرّضا «5» ، فلم يلبّثه الناس حتّى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العطش؛ فانتزع سهما من كنانته، ثمّ أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالرّيّ حتّى صدروا عنه فبينما هم كذلك، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعيّ في نفر من قومه من خزاعة وكانوا عيبة نصح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل تهامة- فقال: إنّي تركت كعب بن لؤيّ وعامر بن لؤيّ نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ «6» . المطافيل، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«إنّا لم نجىء لقتال أحد، ولكنّا جئنا معتمرين، وإنّ قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرّت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدّة ويخلّوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلّا فقد جمّوا. وإن هم أبوا فوالّذي نفسي بيده لأقاتلنّهم على أمري هذا حتّى تنفرد سالفتي «7» ، ولينفذنّ الله أمره» .
الحديث وفيه: إلى أن قال: ثمّ رجع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الّذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتّى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إنّي لأرى سيفك هذا يا فلان جيّدا، فاستلّه الآخر فقال: أجل والله إنّه لجيّد، لقد جرّبت به ثمّ جرّبت به ثمّ جرّبت به فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتّى برد «8» ، وفرّ الآخر حتّى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين رآه: «لقد رأى هذا ذعرا» ، فلمّا انتهى إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: قتل والله صاحبي وإنّي لمقتول. فجاء
__________
(1) قال ابن حجر في «فتح الباري» (5/ 335) : القترة: الغبار الأسود.
(2) حل حل: كلمة تقال للناقة إذا تركت السير.
(3) خلأت القصواء: هو كالحران للخيل.
(4) حبسها حابس الفيل: أي حبسها الله- عز وجل- عن دخول مكة حبس الفيل عن دخولها.
(5) تبرضا: أي أخذه أخذا قليلا قليلا.
(6) العوذ: هي الناقة ذات اللبن. والمطافيل: الأمهات اللاتي معها أطفالها، يريد أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل.
(7) تنفرد سالفتي: كنى بذلك عن القتل لأن القتيل تنفرد مقدمة عنقه.
(8) حتى برد: حتى مات.(10/4395)
أبو بصير فقال: يا نبيّ الله، قد والله أوفى الله ذمّتك قد رددتني إليهم، ثمّ أنجاني الله منهم. قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«ويل أمّه مسعر حرب لو كان له أحد» ، فلمّا سمع ذلك عرف أنّه سيردّه إليهم، فخرج حتّى أتى سيف البحر «1» . قال وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلّا لحق بأبي بصير، حتّى اجتمعت منهم عصابة، فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلّا اعترضوا لها. فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تناشده الله والرحم لمّا أرسل فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إليهم، فأنزل الله تعالى (الفتح/ 24) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ حتّى بلغ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ وكانت حميّتهم أنّهم لم يقرّوا أنّه نبيّ الله، ولم يقرّوا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت) * «2» .
6-* (عن عبيد الله بن كعب- وكان من أعلم الأنصار- أنّ أباه كعب بن مالك- وكان كعب ممّن شهد العقبة وبايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بها- قال:
خرجنا في حجّاج قومنا من المشركين وقد صلّينا وفقهنا ومعنا البراء بن معرور كبيرنا وسيّدنا فلمّا توجّهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة، قال: البراء لنا: يا هؤلاء إنّي قد رأيت والله رأيا، وإنّي والله ما أدري توافقوني عليه أم لا؟ قال: قلنا له: وما ذاك؟ قال قد رأيت أن لا أدع هذه البنيّة منّي بظهر- يعني الكعبة- وأن أصلّي إليها، قال: فقلنا: والله ما بلغنا أنّ نبيّنا يصلّي إلّا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه فقال: إنّي أصلّي إليها فقلنا له: لكنّا لا نفعل، فكنّا إذا حضرت الصلاة صلّينا إلى الشام وصلّى إلى الكعبة حتّى قدمنا مكّة، قال أخي:
وقد كنّا عبنا عليه ما صنع، وأبى إلّا الإقامة عليه، فلمّا قدمنا مكّة قال: يابن أخي انطلق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاسأله عمّا صنعت في سفري هذا، فإنّه والله قد وقع في نفسي منه شيء لما رأيت من خلافكم إيّاي فيه، قال:
فخرجنا نسأل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكنّا لا نعرفه لم نره قبل ذلك، فلقينا رجل من أهل مكّة فسألناه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: هل تعرفانه؟ قال: قلنا: لا. قال:
فهل تعرفان العبّاس بن عبد المطلّب عمّه؟ قلنا: نعم.
قال: وكنّا نعرف العبّاس كان لا يزال يقدم علينا تاجرا.
قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العبّاس. قال: فدخلنا المسجد فإذا العبّاس جالس ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم معه جالس، فسلّمنا ثمّ جلسنا إليه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للعبّاس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ قال: نعم. هذا البراء بن معرور سيّد قومه، وهذا كعب بن مالك قال: فو الله ما أنسى قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الشاعر؟» قال: نعم. قال: فقال البراء ابن معرور: يا نبيّ الله إنّي خرجت في سفري هذا وهداني الله للإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البنيّة منّي بظهر، فصلّيت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك حتّى وقع في نفسي من ذلك شيء فماذا ترى يا رسول الله؟ قال: لقد كنت على قبلة لو صبرت
__________
(1) سيف البحر- بكسر السين- أي ساحله.
(2) البخاري- الفتح (5/ 2731، 2732) واللفظ له، ومسلم (1783، 1784، 1785) .(10/4396)
عليها، قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلّى معنا إلى الشام. قال: وأهله يزعمون أنّه صلّى إلى الكعبة حتّى مات وليس ذلك كما قالوا، نحن أعلم به منهم. قال: وخرجنا إلى الحجّ فواعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العقبة من أوسط أيّام التشريق فلمّا فرغنا من الحجّ، وكانت الليلة الّتي وعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعنا عبد الله بن عمرو ابن حرام أبو جابر، سيّد من سادتنا وكنّا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلّمناه وقلنا له: يا أبا جابر إنّك سيّد من سادتنا وشريف من أشرافنا، وإنّا نرغب بك عمّا أنت فيه أن تكون حطبا للنّار غدا، ثمّ دعوته إلى الإسلام وأخبرته بميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبا قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتّى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنتسلّل مستخفين تسلّل القطا حتّى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن سبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائهم نسيبة بنت كعب أمّ عمارة إحدى نساء بني مازن بن النجّار وأسماء بنت عمرو بن عديّ بن ثابت إحدى نساء بني سلمة وهي أمّ منيع، قال: فاجتمعنا بالشّعب ننتظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى جاءنا ومعه يومئذ عمّه العبّاس بن عبد المطّلب وهو يومئذ على دين قومه إلّا أنّه أحبّ أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثّق له، فلمّا جلسنا كان العبّاس بن عبد المطّلب أوّل متكلّم فقال:
يا معشر الخزرج- قال: وكانت العرب ممّا يسمّون هذا الحيّ من الأنصار الخزرج، أوسها وخزرجها- إنّ محمّدا منّا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممّن هو على مثل رأينا فيه وهو في عزّ من قومه ومنعة في بلده. قال: فقلنا قد سمعنا ما قلت فتكلّم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربّك ما أحببت. قال: فتكلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتلا ودعا إلى الله- عزّ وجلّ- ورغّب في الإسلام، قال: «أبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» قال: فأخذ البراء بن معرور بيده ثمّ قال: نعم. والّذي بعثك بالحقّ لنمنعنّك ممّا نمنع منه أزرنا، فبايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنحن أهل الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر قال: فاعترض القول والبراء يكلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو الهيثم بن التّيهان حليف بني عبد الأشهل فقال: يا رسول الله إنّ بيننا وبين الرجال حبالا وإنّا قاطعوها- يعني العهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثمّ أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم، وأنتم منّي، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم» وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لى: «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم» فأخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا، منهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، وأمّا معبد ابن كعب فحدّثني في حديثه عن أخيه عن أبيه كعب ابن مالك قال: كان أوّل من ضرب على يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البراء بن معرور، ثمّ تتابع القوم، فلمّا بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأبعد صوت سمعته قطّ: يأهل الجباجب- والجباجب المنازل- هل لكم في مذمّم والصباة معه قد أجمعوا على حربكم؟ قال عليّ:- يعني ابن إسحاق- ما يقول(10/4397)
عدوّ الله محمّد؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا أذبّ العقبة هذا ابنه أذيب، اسمع أي عدوّ الله، أما والله لأفرغنّ لك» ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ارفعوا إلى رحالكم» قال: فقال له العبّاس بن عبادة بن نضلة:
والّذي بعثك بالحقّ لئن شئت لنميلنّ على أهل منى غدا بأسيافنا، قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم أومر بذلك» قال: فرجعنا فنمنا حتّى أصبحنا فلمّا أصبحنا غدت علينا جلّة قريش حتّى جاؤونا في منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج، إنّه قد بلغنا أنّكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، والله إنّه ما من العرب أحد أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينه منكم، قال: فانبعث من هنالك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه، وقد صدقوا لم يعلموا ما كان منّا، قال فبعضنا ينظر إلى بعض، قال: وقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ، وعليه نعلان جديدان، قال: فقلت كلمة كأنّي أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا، ما تستطيع يا أبا جابر وأنت سيّد من سادتنا أن تتّخذ نعلين مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ فسمعها الحارث فخلعها «1» ثمّ رمى بهما إليّ فقال: والله لتنتعلنّهما. قال: يقول أبو جابر: أحفظت والله الفتى فاردد عليه نعليه. قال: فقلت والله لا أردّهما قال: والله صلح، والله لئن صدق الفأل لأسلبنّه. فهذا حديث كعب بن مالك من العقبة وما حضر منها) * «2» .
7-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما سالمناهنّ «3» منذ حاربناهنّ، ومن ترك شيئا منهنّ خيفة فليس منّا» ) * «4» .
8-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
نظر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى عليّ والحسن والحسين وفاطمة، فقال: «أنا حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم» ) * «5» .
__________
(1) تحرف في المطبوع إلى: (فخلعها) .
(2) أحمد (3/ 461- 462) واللفظ له، وقال ابن حجر في الفتح (7/ 261) : أخرجه ابن إسحاق وصححه ابن حبان من طريقه بطوله وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 42- 45) : رواه أحمد والطبراني بنحوه ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع. وراجع: المسند الجامع (14/ 604- 609) .
(3) الضمير يعود على الحيّات.
(4) أبو داود (5248) واللفظ له، وقال الألباني في سنن أبي داود (3/ 985) : حسن صحيح، وأحمد (2/ 247) و (1/ 230) من حديث ابن عباس.
(5) أحمد (2/ 442) وقال الشيخ أحمد شاكر (19/ 6) واللفظ له: إسناده صحيح، ورواه الترمذي (3870) ، وابن ماجة (7/ 145) .(10/4398)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الحرب والمحاربة) معنى
9-* (عن أبي النضر، عن كتاب رجل من أسلم من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، يقال له عبد الله بن أبي أوفى. فكتب إلى عمر بن عبيد الله، حين سار إلى الحروريّة «1» . يخبره أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان في بعض أيّامه الّتي لقي فيها العدوّ، ينتظر حتّى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال: «يأيّها الناس لا تتمنّوا لقاء العدوّ «2» واسألوا الله العافية «3» . فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السيوف» ثمّ قام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال: «اللهمّ منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم» ) * «4» .
10-* (عن عائشة أمّ المؤمنين- رضي الله عنها- أنّها قالت: أوّل ما بدىء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم. فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح. ثمّ حبّب إليه الخلاء. وكان يخلو بغار حراء ويتحنّث فيه- وهو التعبّد- الليالي أولات العدد- قبل أن ينزع إلى أهله. ويتزوّد لذلك، ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها. حتّى جاءه الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: «ما أنا بقارئ» . قال: «فأخذني فغطّني حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني. فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ.
فأخذني فغطّني الثانية حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني. فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطّني الثالثة، ثمّ أرسلني. فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (العلق/ 1- 3» ) . فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده. حتّى دخل على خديجة بنت خويلد- رضي الله عنها- فقال: «زمّلوني، زمّلوني» فزمّلوه حتّى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة وأخبرها الخبر.
قال: «لقد خشيت على نفسي» . فقالت خديجة: كلّا.
والله ما يخزيك الله أبدا. إنّك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ. فانطلقت به خديجة حتّى أتت به ورقة ابن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عمّ خديجة وكان امرأ تنصّر في الجاهليّة، وكان يكتب الكتاب العبرانيّ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانيّة ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت له خديجة: أي عمّ اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الّذي نزّل الله على موسى، يا ليتني
__________
(1) إلى الحرورية: أي لقتالهم. وهم الخوارج.
(2) لا تتمنوا لقاء العدو: إنما نهى عن تمني لقاء العدو لما فيه من صورة الإعجاب والاتكال على النفس والوثوق بالقوة، وهو نوع بغي. وقد ضمن الله تعالى لمن بغي عليه أن ينصره. ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو واحتقاره. وهذا يخالف الاحتياط والحزم.
(3) واسألوا الله العافية: قد كثرت الأحاديث في الأمر بسؤال العافية. وهي من الألفاظ العامة المتناولة لدفع جميع المكروهات في البدن والبطن، في الدين والدنيا والآخرة.
(4) مسلم (1742) .(10/4399)
فيها جذعا، ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أو مخرجيّ هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلّا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا. ثمّ لم ينشب ورقة أن توفّي، وفتر الوحي) * «1» .
11-* (عن سلمة بن الأكوع ... الحديث وفيه: قال: ثمّ خرجنا راجعين إلى المدينة فنزلنا منزلا.
بيننا وبين بني لحيان جبل. وهم المشركون «2» . فاستغفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمن رقي هذا الجبل الليلة. كأنّه طليعة للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه. قال سلمة: فرقيت تلك الليلة مرّتين أو ثلاثا. ثمّ قدمنا المدينة. فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بظهره «3» مع رباح غلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا معه.
وخرجت معه بفرس طلحة أندّيه «4» مع الظهر. فلمّا أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاريّ قد أغار على ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فاستاقه أجمع. وقتل راعيه. قال:
فقلت: يا رباح خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة بن عبيد الله. وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ المشركين قد أغاروا على سرحه. قال: ثمّ قمت على أكمة فاستقبلت المدينة.
فناديت ثلاثا: يا صباحاه! ثمّ خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل. وأرتجز أقول:
أنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضّع
فألحق رجلا منهم. فأصكّ سهما في رحله «5» . حتّى خلص نصل السهم إلى كتفه. قال قلت: خذها:
وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضّع
قال: فو الله ما زلت أرميهم وأعقر بهم «6» ، فإذا رجع إليّ فارس أتيت شجرة فجلست في أصلها، ثمّ رميته، فعقرت به، حتّى إذا تضايق الجبل فدخلوا في تضايقه «7» ، علوت الجبل. فجعلت أردّيهم بالحجارة «8» . قال: فما زلت كذلك أتبعهم حتّى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «9» إلّا
__________
(1) البخاري- الفتح 1 (3) واللفظ له، مسلم (160)
(2) وهم المشركون: هذه اللفظة ضبطوها بوجهين. أحدهما: وهم المشركون على الابتداء والخبر. والثاني وهمّ المشركون، أي هموا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وخافوا غائلتهم. يقال: همّني الأمر وأهمّني. وقيل: همني أذابني وأهمني أغمني. وقيل: معناه همّ أمر المشركين النبي صلّى الله عليه وسلّم خوف أن يبيتوهم لقربهم منهم.
(3) بظهره: الظهر الإبل تعد للركوب وحمل الأثقال.
(4) أنديه: معناه أن يورد الماشية الماء فتسقي قليلا ثم ترسل في المرعى، ثم ترد الماء فترد قليلا ثم ترد إلى المرعى.
(5) فأصك سهما في رحله: أي أضرب.
(6) أرميهم وأعقر بهم: أي أرميهم بالنبل وأعقر خيلهم. وأصل العقر ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف. ثم اتسع حتى استعمل في القتل كما وقع هنا. وحتى صار يقال: عقرت البعير أي نحرته.
(7) حتى إذا تضايق الجبل فدخلوا في تضايقه: التضايق ضد الاتساع. أي تدانى فدخلوا في تضايقه. أي المحل المتضايق منه بحيث استتروا به عنه، فصار لا يبلغهم ما يرميهم به من السهام.
(8) فجعلت أرديهم بالحجارة: يعني لما امتنع علي رميهم بالسهام عدلت عن ذلك إلى رميهم من أعلى الجبل بالحجارة التي تسقطهم وتهورهم. يقال: ردّى الفرس راكبه اذا أسقطه وهوّره.
(9) حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من، هنا، زائدة. أتى بها لتأكيد العموم. وانما سميت زائدة لأن الكلام يستقيم بدونها فيصح أن يقال: ما خلق الله بعيرا. ومن، في قوله: من ظهر، بيانية. والمعنى أنه ما زال بهم الى أن استخلص منهم كل بعير أخذوه من ابل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(10/4400)
خلّفته وراء ظهري «1» . وخلّوا بيني وبينه. ثمّ اتّبعتهم «2» أرميهم. حتّى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحا. يستخفّون «3» . ولا يطرحون شيئا إلّا جعلت عليه آراما «4» من الحجارة. يعرفها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه. حتّى أتوا متضايقا من ثنيّة «5» فإذا هم قد أتاهم فلان ابن بدر الفزاريّ. فجلسوا يتضحّون (يعني يتغدّون) . وجلست على رأس قرن «6» . قال الفزاريّ: ما هذا الّذي أرى؟ قالوا: لقينا، من هذا، البرح، والله ما فارقنا منذ غلس يرمينا حتّى انتزع كلّ شيء في أيدينا. قال: فليقم إليه نفر منكم، أربعة.
قال: فصعد إليّ منهم أربعة في الجبل. قال: فلمّا أمكنوني من الكلام قال قلت: هل تعرفوني؟ قالوا:
لا. ومن أنت؟ قال قلت: أنا سلمة بن الأكوع.
والّذي كرّم وجه محمّد صلّى الله عليه وسلّم لا أطلب رجلا منكم إلّا أدركته. ولا يطلبني رجل منكم فيدركني. قال أحدهم: أنا أظنّ. قال: فرجعوا. فما برحت مكاني حتّى رأيت فوارس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتخلّلون الشجر «7» .
قال: فإذا أوّلهم الأخرم الأسدي. على إثره أبو قتادة الأنصاريّ. وعلى إثره المقداد بن الأسود الكنديّ.
قال: فأخذت بعنان الأخرم قال: فولّوا مدبرين.
قلت: يا أخرم احذرهم. لا يقتطعوك حتّى يلحق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه. قال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، وتعلم أنّ الجنّة حقّ والنار حقّ، فلا تحل بيني وبين الشهادة. قال: فخلّيته.
فالتقى هو وعبد الرحمن. قال: فعقر بعبد الرحمن فرسه. وطعنه عبد الرحمن فقتله. وتحوّل على فرسه.
ولحق أبو قتادة، فارس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعبد الرحمن.
فطعنه فقتله. فو الّذي كرّم وجه محمّد صلّى الله عليه وسلّم لتبعتهم أعدو على رجليّ. حتّى ما أرى ورائي، من أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم ولا غبارهم، شيئا. حتّى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء. يقال له ذا قرد «8» .
ليشربوا منه وهم عطاش. قال: فنظروا إليّ أعدو وراءهم. فحلّيتهم عنه «9» (يعني أجليتهم عنه) فما ذاقوا منه قطرة. قال: ويخرجون فيشتدّون في ثنيّة.
__________
(1) إلا خلفته وراء ظهري: خلفته أي تركته. يريد أنه جعله في حوزته وحال بينهم وبينه.
(2) ثم اتبعتهم: هكذا هو في أكثر النسخ: اتبعتهم. وفي نسخة: أتبعتهم، بهمزة القطع. وهي أشبه بالكلام وأجود موقعا فيه.. وذلك أن تبع المجرد واتبع بمعنى مشى خلفه على الإطلاق. وأما أتبع الرباعي فمعناه لحق به بعد أن سبقه. ومنه قوله تعالى: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ أي لحقهم مع جنوده بعد أن سبقوه. وتعبيره هنا بثم المفيدة للتراخي يشعر أنه بعد أن استخلص منهم جميع الإبل توقف عن اتباعهم ولعل ذلك ريثما جمع الإبل وأقامها على طريق يأمن عليها فيه. والمعنى على هذا الوجه: وبعد أن توقفت عن اتباعهم حتى سبقوني، تبعتهم حتى لحقت بهم.
(3) يستخفون: أي يطلبون بإلقائها الخفة ليكونوا أقدر على الفرار.
(4) آراما من الحجارة: الآرام هي الأعلام. وهي حجارة تجمع وتنصب في المفازة ليهتدي بها. واحدها إرم كعنب وأعناب.
(5) حتى أتوا متضايقا من ثنية: الثنية العقبة والطريق في الجبل. أي حتى أتوا طريقا في الجبل ضيقة.
(6) على رأس قرن: هو كل جبل صغير منقطع عن الجبل الكبير
(7) يتخللون الشجر: أي يدخلون من خلالها، أي بينها.
(8) ذا قرد: هكذا هو في أكثر النسخ المعتمدة: ذا قرد. وفي بعضها: ذو قرد.
(9) فحليتهم عنه: أي طردتهم عنه. وقد فسرها في الحديث بقوله: يعني أجليتهم عنه. قال القاضي: كذا روايتنا فيه هنا غير مهموز قال وأصله الهمز، فسهله. وقد جاء مهموزا بعد هذا في الحديث(10/4401)
قال: فأعدو فألحق رجلا منهم فأصكّه بسهم في نغض «1» كتفه. قال: قلت: خذها
وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضّع
قال: يا ثكلته أمّه أكوعه بكرة «2» . قال: قلت: نعم. يا عدوّ نفسه أكوعك بكرة. قال: وأردوا «3» فرسين على ثنيّة. قال: فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال: ولحقني عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن «4» وسطيحة فيها ماء. فتوضّأت وشربت. ثمّ أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على الماء الّذي حلأتهم عنه «5» .
فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أخذ تلك الإبل. وكلّ شيء استنقذته من المشركين وكلّ رمح وبردة. وإذا بلال نحر ناقة من الإبل الّذي «6» استنقذت من القوم. وإذا هو يشوي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كبدها وسنامها. قال:
قلت: يا رسول الله خلّني فأنتخب من القوم مائة رجل.
فأتّبع القوم فلا يبقى منهم مخبر إلّا قتلته. قال:
فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى بدت نواجذه «7» في ضوء النار. فقال: «يا سلمة أتراك كنت فاعلا؟» قلت:
نعم والّذي أكرمك. فقال: «إنّهم الآن ليقرون «8» في أرض غطفان» قال: فجاء رجل من غطفان. فقال:
نحر لهم فلان جزورا. فلمّا كشفوا جلدها رأوا غبارا.
فقالوا: أتاكم القوم. فخرجوا هاربين. فلمّا أصبحنا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة.
وخير رجّالتنا سلمة» قال: ثمّ أعطاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سهمين: سهم الفارس وسهم الراجل. فجمعهما لي جميعا. ثمّ أردفني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وراءه على العضباء «9» راجعين إلى المدينة. قال: فبينما نحن نسير. قال: وكان رجل من الأنصار لا يسبق شدّا «10» . قال: فجعل يعيد ذلك. قال: فلمّا سمعت كلامه قلت: أما تكرم كريما، ولا تهاب شريفا؟ قال: لا. إلّا أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: قلت: يا رسول الله بأبي وأمّي، ذرني فلأسابق الرجل. قال: «إن شئت» قال: قلت: اذهب
__________
(1) نغض: هو العظم الرقيق على طرف الكتف. سمى بذلك لكثرة تحركه. وهو الناغض أيضا.
(2) قال: يا ثكلته أمه أكوعه بكرة: معنى ثكلته أمه، فقدته. وقوله: أكوعه، هو برفع العين، أي أنت الأكوع الذي كنت بكرة هذا النهار؟ ولهذا قال: نعم. وبكرة منصوب غير منون. قال أهل العربية: يقال أتيته بكرة بالتنوين، إذا أردت أنك لقيته باكرا في يوم غير معين. قالوا: وإن أردت بكرة يوم بعينه، قلت: أتيته بكرة، غير مصروف. لأنها من الظروف المتمكنة.
(3) وأردوا: رواية الجمهور بالدال المهملة، ورواه بعضهم بالمعجمة. قال: وكلاهما متقارب المعنى. فبالمعجمة معناه خلفوهما. والرذي الضعيف من كل شيء وبالمهملة معناه أهلكوهما وأتعبوهما حتى أسقطوهما وتركوهما. ومنه المتردية وأردت الفرس الفارس أسقطته.
(4) بسطيحة فيها مذقة من لبن: السطيحة إناء من جلود سطح بعضها على بعض. والمذقة قليل من لبن ممزوج بماء.
(5) حلأتهم: كذا هو في أكثر النسخ: حلأتهم. وفي بعضها حليتهم.
(6) من الإبل الذي: كذا في أكثر النسخ: الذي. وفي بعضها: التي. وهو أوجه لأن الإبل مؤنثة، وكذا أسماء الجموع من غير الآدميين. والأول صحيح أيضا. وأعاد الضمير إلى الغنيمة، لا إلى لفظ الإبل.
(7) نواجذه: أي أنيابه.
(8) ليقرون: أي يضافون، والقرى الضيافة.
(9) العضباء: هو لقب ناقة النبي صلّى الله عليه وسلّم. والعضباء مشقوقة الأذن. ولم تكن ناقته صلّى الله عليه وسلّم كذلك، وإنما هو لقب لزمها.
(10) شدا: أي عدوا على الرجلين.(10/4402)
إليك وثنيت رجليّ فطفرت «1» فعدوت. قال: فربطت عليه شرفا أو شرفين أستبقي نفسي «2» ثمّ عدوت في إثره. فربطت عليه شرفا أو شرفين. ثمّ إنّي رفعت حتّى ألحقه «3» . قال: فأصكّه بين كتفيه. قال: قلت: قد سبقت والله. قال: أنا أظنّ «4» قال: فسبقته إلى المدينة» قال: فو الله ما لبثنا إلّا ثلاث ليال حتّى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: فجعل عمّي «5» عامر يرتجز بالقوم:
تا الله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا ... فثبّت الأقدام إن لاقينا
وأنزلن سكينة علينا
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من هذا؟» قال: أنا عامر. قال: «غفر لك ربّك» قال: وما استغفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لإنسان يخصّه إلّا استشهد. قال: فنادى عمر بن الخطّاب، وهو على جمل له: يا نبيّ الله لولا ما متّعتنا بعامر. قال: فلمّا قدمنا خيبر قال: خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه «6» ويقول:
قد علمت خيبر أنّي مرحب ... شاكي السلاح «7» بطل مجرّب «8»
إذا الحروب أقبلت تلهّب
قال: وبرز له عمّي عامر، فقال:
قد علمت خيبر أنّي عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر «9»
قال: فاختلفا ضربتين: فوقع سيف مرحب في ترس عامر. وذهب عامر يسفل له «10» . فرجع سيفه على نفسه. فقطع أكحله. فكانت فيها نفسه. قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقولون: بطل عمل عامر. قتل نفسه. قال: فأتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأنا أبكي. فقلت: يا رسول الله بطل عمل عامر؟. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال ذلك؟» قال
__________
(1) فطفرت: أي وثبت وقفزت.
(2) فربطت عليه شرفا أو شرفين أستبقي نفسي: معنى ربطت حبست نفسي عن الجري الشديد. والشرف ما ارتفع من الأرض. وقوله: أستبقي نفسي، أي لئلا يقطعني البهر
(3) رفعت حتى ألحقه: أي أسرعت. قوله: حتى ألحقه. حتى، هنا، للتعليل بمعنى كي. وألحق منصوب بأن مضمرة بعدها.
(4) أظن: أي أظن ذلك. حذف مفعوله للعلم به.
(5) فجعل عمي: هكذا قال، هنا: عمي. وقد سبق في حديث أبي الطاهر عن ابن وهب أنه قال: أخي. فلعله كان أخاه من الرضاعة، وكان عمه من النسب.
(6) يخطر بسيفه: أي يرفعه مرة ويضعه أخرى. ومثله: خطر البعير بذنبه يخطر، إذا رفعه مرة ووضعه أخرى.
(7) شاكي السلاح: أي تام السلاح. يقال: شاكي السلاح، وشاكّ السلاح، وشاكّ في السلاح، من الشوكة وهي القوة. والشوكة أيضا السلاح. ومنه قوله تعالى: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ.
(8) بطل مجرب: أي مجرب بالشجاعة وقهر الفرسان. والبطل الشجاع يقال بطل الرجل يبطل بطالة وبطولة، إذا صار شجاعا.
(9) بطل مغامر: أي يركب غمرات الحرب وشدائدها ويلقي بنفسه فيها.
(10) يسفل له: أي يضربه من أسفله.(10/4403)
قلت: ناس من أصحابك. قال: «كذب من قال ذلك «1» بل له أجره مرّتين» . ثمّ أرسلني إلى عليّ، وهو أرمد. فقال: «لأعطيّن الراية رجلا يحبّ الله ورسوله، أو يحبّه الله ورسوله» قال: فأتيت عليّا فجئت به أقوده، وهو أرمد «2» . حتّى أتيت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فبسق «3» في عينيه فبرأ. وأعطاه الراية. وخرج مرحب فقال:
قد علمت خيبر أنّي مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرّب
إذا الحروب أقبلت تلهّب
فقال عليّ:
أنا الّذي سمّتني أمّي حيدره «4» ... كليث غابات «5» كريه المنظره
أو فيهم بالصّاع كيل السندره
«6» قال: فضرب رأس مرحب فقتله. ثمّ كان الفتح على يديه) * «7» .
12-* (عن الزهريّ قال: كان محمّد بن جبير ابن مطعم يحدّث أنّه: بلغ معاوية وهم عنده في وفد من قريش أن عبد الله بن عمرو يحدّث أنّه سيكون ملك من قحطان، فغضب، فقام فأثنى على الله بما هو أهله ثمّ قال: أمّا بعد، فإنّه بلغني أنّ رجالا منكم يحدّثون أحاديث ليست في كتاب الله، ولا تؤثر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأولئك جهّالكم، فإيّاكم والأمانيّ الّتي تضلّ أهلها، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«إنّ هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلّا كبّه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين» ) * «8» .
13-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنّه قال: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، مات ميتة جاهليّة «9» . ومن قاتل تحت راية عمّيّة «10» ، يغضب لعصبة «11» ، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل، فقتله «12» جاهليّة.
__________
(1) كذب من قال: كذب، هنا بمعنى أخطأ.
(2) وهو أرمد: قال أهل اللغة: يقال رمد الانسان يرمد رمدا فهو رمد وأرمد. إذا هاجت عينه.
(3) بسق: هكذا في الأصل وهي صحيحة لأنه يقال: بسق وبصق وبزق بمعنى واحد.
(4) أنا الذي سمتني أمي حيدرة: حيدرة اسم للأسد. وكان علي رضي الله عنه قد سمي أسدا في أول ولادته. وكان مرحب قد رأى في المنام أن أسدا يقتله. فذكره علي رضي الله عنه بذلك ليخيفه ويضعف نفسه. وسمي الأسد حيدرة لغلظه. والحادر الغليظ القوي. ومراده: أنا الأسد في جراءته وإقدامه وقوته.
(5) غابات: جمع غابة. وهي الشجر الملتف. وتطلق على عرين الأسد أي مأواه. كما يطلق العرين على الغابة أيضا. ولعل ذلك لاتخاذه اياه داخل الغاب غالبا.
(6) أو فيهم بالصاع كيل السندرة: معناه أقتل الأعداء قتلا واسعا ذريعا. والسندرة مكيال واسع. وقيل: هي العجلة. أي أقتلهم عاجلا. وقيل: مأخوذ من السندرة: وهي شجرة الصنوبر يعمل منها النبل والقسي.
(7) مسلم (1807) .
(8) البخاري- الفتح 13 (7139) .
(9) ميتة جاهلية: أي على صفة موتهم من حيث هم فوضى لا إمام لهم.
(10) عمية: هي بضم العين وكسرها. لغتان مشهورتان. والميم مكسورة مشددة والياء مشددة أيضا. قالوا: هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه. كذا قاله أحمد بن حنبل والجمهور. قال اسحاق بن راهويه: هذا كتقاتل القوم للعصبية.
(11) لعصبة: عصبة الرجل أقاربه من جهة الأب. سموا بذلك لأنهم يعصبونه ويعتصب بهم أي يحيطون به ويشتد بهم. والمعنى يغضب ويقاتل ويدعو غيره كذلك. لا لنصرة الدين والحق بل لمحض التعصب لقومه ولهواه. كما يقاتل أهل الجاهلية، فإنهم إنما كانوا يقاتلون لمحض العصبية.
(12) فقتلة: خبر لمبتدأ محذوف. أي فقتلته كقتلة أهل الجاهلية.(10/4404)
ومن خرج على أمّتي، يضرب برّها وفاجرها. ولا يتحاشى «1» من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس منّي ولست منه» ) * «2» .
14-* (عن جندب بن عبد الله البجليّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قتل تحت راية عمّيّة، يدعو عصبيّة، أو ينصر عصبيّة، فقتلة جاهليّة» ) * «3» .
15-* (عن أبي الطفيل قال: كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة «4» ؟ قال: فقال له القوم: أخبره إذ سألك. قال:
كنّا نخبر أنّهم أربعة عشر. فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر. وأشهد بالله أنّ اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
وعذر ثلاثة. قالوا: ما سمعنا منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا علمنا بما أراد القوم. وقد كان في حرّة «5» فمشى فقال: «إنّ الماء قليل. فلا يسبقني إليه أحد» فوجد قوما قد سبقوه. فلعنهم يومئذ) * «6» .
من الآثار الواردة في ذمّ (الحرب والمحاربة)
1-* (قال ابن الجوزيّ: «عداوة الأقارب صعبة وربّما دامت كحرب بكر وتغلب ابني وائل وعبس وذبيان ابني بغيض، والأوس والخزرج ابني قيلة» ) * «7» .
قال الحافظ: ركدت هذه الحروب أربعين عاما.
2-* (قال زهير بن أبي سلمى:
وما الحرب إلّا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجّم «8»
مّتى تبعثوها «9» تبعثوها ذميمة ... وتضر «10» إذا ضرّيتموها فتضرم
فتعرككم «11» عرك الرحى بثفالها «12» ... وتلقح كشافا «13» ثمّ تنتج فتتئم «14»
__________
(1) ولا يتحاشى: وفي بعض النسخ (يتحاش) بحذف الياء. ومعناه لا يكترث بما يفعله فيها، ولا يخاف وباله وعقوبته.
(2) مسلم (1848) .
(3) مسلم (1850) .
(4) العقبة: هذه العقبة ليست العقبة المشهورة بمنى، التي كانت بها بيعة الأنصار، رضي الله عنهم. وإنما هذه عقبة على طريق تبوك، اجتمع المنافقون فيها للغدر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك. فعصمه الله منهم.
(5) حرة: الحرة أرض ذات حجارة سود، والجمع حرار.
(6) مسلم (2779) .
(7) صيد الخاطر (580) .
(8) المرجم: المظنون.
(9) تبعثوها: تثيروها لا تحمدوا أمرها، وذميمة مذمومة.
(10) تضر أي تعود، ضري يضرى ضراوة إذا تعود. إذا ضريتموها أي عودتموها، يعني الحرب.
(11) تعرككم: أراد تطحنكم هذه الحرب.
(12) بثفالها: أي لها ثفال وهي جلدة تكون تحت الرحى يقع الدقيق عليها.
(13) وتلقح كشافا: أي تدارككم الحرب.
(14) فتتئم: تأتيكم باثنين اثنين، تفظيعا لها.(10/4405)
فتنتج لكم غلمان أشأم كلّهم ... كأحمر عاد «1» ثمّ ترضع فتفطم
فتغلل لكم ما لا تغلّ لأهلها «2» ... قرى بالعراق من قفيز ودرهم) * «3»
من مضار (الحرب والمحاربة)
(1) الحروب ابتلاء وسخط من الله عزّ وجلّ يسلّطها على من خالف أمره.
(2) فيها خراب البلاد وإضاعة الأموال وإزهاق الأرواح.
(3) تورث الفقر والدمار للمحروبين.
(4) تشيع العداوة والبغضاء وتنتج أجيالا ضائعة.
__________
(1) كأحمر عاد: المراد أحمر ثمود عاقر الناقة.
(2) هذا تهكم من الشاعر واستهزاء، أي تكثر أموالكم من ديات قتلاكم.
(3) شرح ديوان زهير بن أبي سلمى (18- 21) .(10/4406)
الحزن*
الحزن لغة:
مصدر قولهم: حزن يحزن، وهو مأخوذ من مادّة (ح ز ن) الّتي تدلّ على خشونة في الشيء وشدّة فيه، فمن ذلك: الحزن وهو ما غلظ من الأرض، والحزن (ضدّ الفرح) ، يقال: حزنني الشيء يحزنني، وقد قالوا:
أحزنني، وقال الرّاغب: الحزن والحزن: خشونة في الأرض، وخشونة في النفس لما يحصل فيها من الغمّ، وقول الله تعالى: وَلا تَحْزَنُوا (آل عمران/ 139) وقوله جلّ من قائل: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ (الحجر/ 88) فليس ذلك بنهي عن تحصيل الحزن، فالحزن ليس يحصل بالاختيار، ولكنّ النهي في الحقيقة إنّما هو عن تعاطي ما يورث الحزن، وعن اكتسابه.
وقال الجوهريّ: الحزن والحزن خلاف
السرور، يقال: حزن الرجل (بالكسر) فهو حزن وحزين وأحزنه غيره وحزنه مثل أسلكه وسلكه، وقال بعضهم: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرىء بهما، واحتزن وتحزّن بمعنى، والحزانة: عيال الرجل الّذي يتحزّن بأمرهم، ويقال: فلان يقرأ بالتّحزين: إذا أرقّ صوته به.
وقال ابن منظور: الحزن والحزن نقيض الفرح، وهو خلاف السرور، والجمع أحزان، وقد حزن،
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
20/ 12/ 4
()
بالكسر حزنا وتحازن وتحزّن. ورجل حزنان ومحزان:
شديد الحزن. وحزنه الأمر يحزنه حزنا وأحزنه فهو محزون ومحزن وحزين وحزن ... قال سيبويه: أحزنه، جعله حزينا، وحزّنه جعل فيه حزنا «1» .
واصطلاحا:
الحزن: عبارة عمّا يحصل لوقوع مكروه، أو فوات محبوب في الماضي «2» .
وقال المناويّ: الحزن (بالضّمّ) هو الغمّ الحاصل لوقوع مكروه أوفوات محبوب، ويضادّه الفرح «3» .
وقال الكفويّ: الحزن: غمّ يلحق من فوات نافع أو حصول ضارّ، وقال بعضهم: الخوف علّة المتوقّع والحزن علّة الواقع «4» .
الفرق بين الحزن والجزع:
إنّ الجزع حزن يصرف الإنسان عمّا هو بصدده ويقطعه عنه، وهو أبلغ من الحزن لأنّ الحزن عامّ، يشمل ما يصرف الإنسان وما لا يصرفه عمّا هو بصدده «5» .
[للاستزادة: انظر صفات القنوط- الكرب- العبوس- اليأس- الذل- الضعف- الوهن- التخاذل- السخط.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: السرور- البشاشة- الرضا- طلاقة الوجه- الفرح- البشارة- الرجولة- الطموح- الصبر والمصابرة- الاحتساب] .
__________
* الحزن المبحوث هنا هو الحزن المذموم شرعا.
(1) لسان العرب «ح ز ن» (13/ 111) ، مقاييس اللغة (2/ 54) ، المفردات (115- 116) ، الصحاح (5/ 2098) .
(2) انظر التعريفات للجرجاني (9) .
(3) التوقيف (139) .
(4) الكليات (428) .
(5) المرجع السابق (354) .(10/4407)
الآيات الواردة في «الحزن»
النهي عن الحزن على المصائب:
1- وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) «1»
2-* إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) «2»
3- قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) «3»
4- وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) «4»
الحزن بمعنى الخوف:
5- إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) «5»
6- قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) «6»
7- (*) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) «7»
__________
(1) آل عمران: 139 مدنية
(2) آل عمران: 153 مدنية
(3) الأنعام: 33 مكية
(4) يوسف: 84- 86 مكية
(5) التوبة: 40 مدنية
(6) يوسف: 11- 13 مكية
(7) مريم: 22- 24 مكية(10/4408)
8- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) «1»
الحزن بمعنى الغمّ:
9- أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) «2»
10- قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40)
وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) «3»
11- وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) (*) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) «4»
12- وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) «5»
__________
(1) المجادلة: 9- 10 مدنية
(2) يونس: 62- 65 مكية
(3) طه: 36- 40 مكية
(4) القصص: 7- 13 مكية
(5) فاطر: 34 مكية(10/4409)
13- إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) «1»
14- الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) «2»
النهي عن الحزن على الكافرين أو منهم:
15- (*) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) «3»
16- وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) «4»
17- قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) «5»
18- وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) «6»
19- (*) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) «7»
20- فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) «8»
__________
(1) فصلت: 30 مكية
(2) الزخرف: 67- 68 مكية
(3) المائدة: 41 مدنية
(4) النحل: 127- 128 مكية
(5) النمل: 69- 70 مكية
(6) العنكبوت: 33 مكية
(7) لقمان: 22- 23 مكية
(8) يس: 76 مكية(10/4410)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الحزن)
1-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب. وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا. ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءا من النبوّة، والرؤيا ثلاثة: فرؤيا الصالحة «1» بشرى من الله. ورؤيا تحزين من الشيطان. ورؤيا ممّا يحدّث المرء نفسه. فإن رأى أحدكم ما يكره، فليقم فليصلّ ولا يحدّث بها الناس» ) * «2» .
2-* (عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا صار أهل الجنّة إلى الجنّة، وصار أهل النار إلى النار، أتي بالموت حتّى يجعل بين الجنّة والنار. ثمّ يذبح. ثمّ ينادي مناد:
يأهل الجنّة لا موت. ويأهل النار لا موت. فيزداد أهل الجنّة فرحا إلى فرحهم. ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم» ) * «3» .
3-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر. حتّى تختلطوا بالنّاس، من أجل أن يحزنه» ) * «4» .
4-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: لأبي طلحة: «التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني حتّى أخرج إلى خيبر.
فخرج بي أبو طلحة مردفي وأنا غلام راهقت الحلم، فكنت أخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل، فكنت أسمعه كثيرا يقول: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من الهمّ والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين «5» ، وغلبة الرجال» ) * «6» .
5-* (عن عائشة- رضي الله عنها- أنّها كانت تأمر بالتّلبين للمريض وللمحزون على الهالك، وكانت تقول: إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ التلبينة «7» تجمّ فؤاد المريض، وتذهب ببعض الحزن» ) * «8» .
6-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غمّ حتّى الشوكة يشاكها إلّا كفّر الله بها من خطاياه» ) * «9» .
__________
(1) فرؤيا الصالحة: من قبيل إضافة الموصوف إلى صفته.
(2) البخاري- الفتح 12 (7017) ، ومسلم (2263) واللفظ له.
(3) البخاري- الفتح 11 (6548) ، ومسلم (2850) واللفظ له.
(4) مسلم (2184) .
(5) ضلع الدين: ثقل الدين.
(6) البخاري- الفتح 6 (2893) واللفظ له، ومسلم (1365) .
(7) التلبينة: حساء يعمل من دقيق أو نخالة وربما يجعل فيها شيء من العسل أو اللبن وسميت بذلك تشبيها لها باللبن في بياضها ورقتها.
(8) البخاري- الفتح 10 (5689) .
(9) البخاري- الفتح 10 (5641، 5642) ، ومسلم (2573) .(10/4411)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الحزن) معنى
7-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا حضر المؤمن «1» أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي راضية مرضيّا عنك، إلى روح الله وريحان، وربّ غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك، حتّى إنّه ليناوله بعضهم بعضا، حتّى يأتون به باب السماء، فيقولون:
ما أطيب هذه الريح الّتي جاءتكم من الأرض، فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشدّ فرحا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟
فيقولون: دعوه فإنّه كان في غمّ الدنيا، فإذا قال: أما أتاكم؟ قالوا: ذهب به إلى أمّه الهاوية. وإنّ الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون: اخرجي ساخطة مسخوطا عليك، إلى عذاب الله- عزّ وجلّ- فتخرج كأنتن ريح جيفة، حتّى يأتون به باب الأرض فيقولون: ما أنتن هذه الريح، حتّى يأتون به أرواح الكفّار» ) * «2» .
8-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ (مريم/ 39) قال: «يؤتى بالموت كأنّه كبش أملح حتّى يوقف على السور بين الجنّة والنار، فيقال:
يأهل الجنّة فيشرئبّون، ويقال: يأهل النار فيشرئبّون، فيقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، فيضجع فيذبح، فلولا أنّ الله قضى لأهل الجنّة الحياة فيها والبقاء، لماتوا فرحا. ولولا أنّ الله قضى لأهل النار الحياة فيها والبقاء لماتوا ترحا» ) * «3» .
9-* (عن عائشة- رضي الله عنها- زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يخرج سفرا، أقرع بين نسائه. فأيّتهنّ خرج سهمها، خرج بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معه ... الحديث، وفيه: «وكان الّذي تولّى كبره. عبد الله بن أبيّ ابن سلول. فقدمنا المدينة.
فاشتكيت، حين قدمنا المدينة شهرا، والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أنّي لا أعرف من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللطف الّذي كنت أرى منه حين أشتكى. إنّما يدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيسلّم ثمّ يقول: «كيف تيكم؟» فذاك يريبني، ولا أشعر بالشّرّ، حتّى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أمّ مسطح قبل المناصع «4» . وهو متبرّزنا، ولا نخرج إلّا ليلا إلى ليل. وذلك قبل أن نتّخذ الكنف قريبا من بيوتنا. وأمرنا أمر العرب الأوّل في التنزّه. وكنّا نتأذّى بالكنف أن نتّخذها عند بيوتنا. فانطلقت أنا وأمّ مسطح، وهي بنت أبي رهم ابن المطّلب بن عبد مناف، وأمّها ابنة صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصدّيق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عبّاد ابن المطّلب. قالت: فأقبلت أنا وبنت أبي رهم قبل
__________
(1) حضر المؤمن: أي حضرته الوفاة.
(2) صحيح سنن النسائي (1729) ، وقال الألباني (1309) : صحيح.
(3) البخاري- الفتح (4730) ، ومسلم (2849) ، والترمذي (3156) وقال: هذا حديث حسن صحيح. والترح: نقيض الفرح.
(4) المناصع: هي مواضع خارج المدينة كانوا يتبرزون فيها.(10/4412)
بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أمّ مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبّين رجلا قد شهد بدرا؟ قالت: أي هنتاه: أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك. فازددت مرضا إلى مرضي. فلمّا رجعت إلى بيتى فدخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلّم ثمّ قال: «كيف تيكم؟» قلت: أتأذن لي أن آتي أبويّ؟
قالت: وأنا حينئذ أريد أن أتيقّن الخبر من قبلهما. فأذن لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجئت أبويّ فقلت لأمّي: يا أمّتاه! ما يتحدّث الناس؟ فقالت: يا بنيّة! هوّني عليك فو الله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبّها ولها ضرائر إلّا كثّرن عليها. قالت: قلت: سبحان الله، وقد تحدّث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتّى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. ثمّ أصبحت أبكي ... الحديث، وفيه: قالت: وبكيت يومي ذلك، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثمّ بكيت ليلتي المقبلة، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنّان أنّ البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي، وأنا أبكي، استأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها. فجلست تبكي. قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسلّم ثمّ جلس. قالت ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء. قالت: فتشهّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين جلس ثمّ قال: «أمّا بعد: يا عائشة فإنّه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرّئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإنّ العبد إذا اعترف بذنب ثمّ تاب، تاب الله عليه» قالت فلمّا قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقالته، قلص دمعي حتّى ما أحسّ منه قطرة.
فقلت لأبي: أجب عنّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما قال. فقال:
والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقلت لأمّي:
أجيبي عنّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقلت، وأنا جارية حديثة السنّ، لا أقرأ كثيرا من القرآن: إنّي: والله لقد عرفت أنّكم قد سمعتم بهذا حتّى استقرّ في نفوسكم وصدّقتم به. فإن قلت لكم إنّي بريئة، والله يعلم أنّي بريئة، لا تصدّقوني بذلك. ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أنّي بريئة، لتصدّقونني. وإنّي، والله ما أجد لي ولكم مثلا إلّا كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (يوسف/ 18) ...
الحديث» ) * «1» .
10-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: كنت أدعو أمّي إلى الإسلام وهي مشركة فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله ما أكره، فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنا أبكي. قلت: يا رسول الله إنّي كنت أدعو أمّي إلى الإسلام فتأبى عليّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أمّ أبي هريرة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اهد أمّ أبي هريرة» فخرجت مستبشرا بدعوة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا جئت فصرت إلى
__________
(1) البخاري- الفتح 7 (4141) ، مسلم 4 (2770) واللفظ له.(10/4413)
الباب، فإذا هو مجاف «1» فسمعت أمّي خشف قدميّ «2» ، فقالت مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء «3» . قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب، ثمّ قالت:
يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله. قال: فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتيته وأنا أبكي من الفرح. قال: قلت: يا رسول الله أبشر قد استجاب الله دعوتك وهدى أمّ أبي هريرة. فحمد الله وأثنى عليه وقال: خيرا. قال: قلت يا رسول الله ادع الله أن يحبّبني أنا وأمّي إلى عباده المؤمنين ويحبّبهم إلينا.
قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ حبّب عبيدك هذا- يعني أبا هريرة- وأمّه إلى عبادك المؤمنين. وحبّب إليهم المؤمنين» فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلّا أحبّني) * «4» .
11-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل أحد الجنّة إلّا أري مقعده من النار لو أساء، ليزداد شكرا، ولا يدخل النار أحد إلّا أري مقعده من الجنّة لو أحسن ليكون عليه حسرة» ) * «5» .
12-* (قال كعب بن مالك- رضي الله عنه:
لم أتخلّف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة غزاها قطّ، إلّا في غزوة تبوك، غير أنّي قد تخلّفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلّف عنه، إنّما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون يريدون عير قريش حتّى جمع الله بينهم وبين عدوّهم ... الحديث، وفيه: «فقال كعب بن مالك: فلمّا بلغني أنّ رسول الله قد توجّه قافلا «6» من تبوك، حضرني بثّي ... الحديث، وفيه: قال: ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسلمين عن كلامنا، أيّها الثلاثة، من بين من تخلّف عنه. قال: فاجتنبنا الناس. وقال:
تغيّروا لنا حتّى تنكّرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض الّتي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأمّا صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأمّا أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلّمني أحد، وآتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلّم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بردّ السلام، أم لا؟ ثمّ أصلّى قريبا منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ. وإذا التفتّ نحوه أعرض عنّي، حتّى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين، مشيت حتّى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمّي، وأحبّ الناس إليّ، فسلّمت عليه، فو الله ما ردّ عليّ السلام، فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمنّ أنّي أحبّ الله ورسوله؟ قال: فسكت، فعدت فناشدته، فسكت فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله
__________
(1) مجاف: مغلق.
(2) خشف قدمي: أي صوتهما في الأرض.
(3) خضخضة الماء: أي صوت تحريكه.
(4) مسلم (2491) .
(5) البخاري- الفتح 11 (6569) .
(6) توجه قافلا: أي راجعا.(10/4414)
أعلم. ففاضت عيناي، وتولّيت، حتّى تسوّرت الجدار. فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبطيّ من نبط أهل الشام، ممّن قدم بالطّعام يبيعه بالمدينة.
يقول: من يدلّ على كعب ابن مالك؟ قال فطفق الناس يشيرون له إليّ. حتّى جاءني فدفع إليّ كتابا من ملك غسّان- وكنت كاتبا- فقرأته فإذا فيه: أمّا بعد، فإنّه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. قال فقلت، حين قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتياممت بها التنّور فسجرتها بها، حتّى إذا مضت أربعون من الخمسين، واستلبث الوحي، إذا رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتيني فقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال فقلت: أطلّقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها فلا تقربنّها. قال فأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك. قال فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتّى يقضي الله في هذا الأمر. قال فجاءت امرأة هلال بن أميّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقالت له: يا رسول الله إنّ هلال بن أميّة شيخ ضائع ليس له خادم. فهل تكره أن أخدمه؟ قال «لا، ولكن لا يقربنّك» فقالت: إنّه، والله ما به حركة إلى شيء. وو الله مازال يبكي منذ كان من أمره ما كان، إلى يومه هذا، وقال فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في امرأتك؟ فقد أذن لامرأة هلال بن أميّة أن تخدمه. قال فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما يدريني ماذا يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شابّ.
قال فلبثت بذلك عشر ليال. فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا. قال ثمّ صلّيت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة، على ظهر بيت من بيوتنا. فبينا أنا جالس على الحال الّتي ذكر الله- عزّ وجلّ- منّا، قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على سلع «1» يقول، بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر. قال: فخررت ساجدا ... الحديث» ) * «2» .
من الآثار الواردة في ذمّ (الحزن)
1-* (قال إبراهيم التيميّ: «ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار لأنّ أهل الجنّة قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنّة لأنّهم قالوا: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) * «3» .
2-* (قال ابن القيّم- رحمه الله-: «من أعظم أسباب ضيق الصدر الإعراض عن الله تعالى، وتعلّق القلب بغيره، والغفلة عن ذكره، ومحبّة سواه، فإنّ
__________
(1) أوفى على سلع: أي صعده وارتفع عليه. وسلع جبل بالمدينة معروف.
(2) البخاري- الفتح 7 (4418) ، مسلم 4 (2769) واللفظ له.
(3) التخويف من النار، لابن رجب (21) .(10/4415)
من أحبّ شيئا غير الله عذّب به، وسجن قلبه في محبّة ذلك الغير، فما في الأرض أشقى منه. ولا أكسف بالا، ولا أنكد عيشا، ولا أتعب قلبا. ومحبّة غير الله سبحانه هي عذاب الروح، وغمّ النفس، وسجن القلب، وضيق الصدر، وهي سبب الألم والنكد والعناء» ) * «1» .
3-* (وقال أيضا- رحمه الله-: «البخيل الّذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدرا، وأنكدهم عيشا، وأعظمهم همّا وغمّا. وقد ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
مثلا للبخيل والمتصدّق، كمثل رجلين عليهما جنّتان من حديد، كلّما همّ المتصدّق بصدقة، اتّسعت عليه وانبسطت، حتّى يجرّ ثيابه ويعفّي أثره، وكلّما همّ البخيل بالصّدقة، لزمت كلّ حلقة مكانها، ولم تتّسع عليه «2» . فهذا مثل انشراح صدر المتصدّق، وانفساح قلبه، ومثل ضيق صدر البخيل وانحصار قلبه» ) * «3» .
4-* (وقال- رحمه الله-:* (الجبان أضيق الناس صدرا، وأحصرهم قلبا، لا فرحة له ولا سرور، ولا لذّة له، ولا نعيم إلّا من جنس ما للحيوان البهيميّ. وذلك الضيق والحصر، ينقلب في القبر عذابا وسجنا. فحال العبد في القبر، كحال القلب في الصدر، نعيما وعذابا وسجنا وانطلاقا) * «4» .
من مضار (الحزن)
(1) الحزن مع السخط يحبط الثواب.
(2) الّذي يحزن ويستكين للحزن لا يفطن إلى تعاليم الدين.
(3) إهلاك النفس بدون جدوى.
(4) الإضرار بالعقيدة.
(5) الّذي يحزن ويسخط في الدنيا يحزن في الآخرة أيضا.
(6) الحزن من صفات الكفّار في الآخرة.
(7) إدخال الحزن على المؤمن خاصّة فى الرؤيا من عمل الشيطان، وفي الاستكانة لذلك تحقيق لغرضه.
(8) الركون إلى الحزن قرين الهوان والضعف وعلى المسلم الحقّ ألّا يركن لذلك.
__________
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 25) بتصرف واختصار.
(2) المرجع السابق (2/ 25- 26) بتصرف واختصار.
(3) البخاري- الفتح (3/ 141- 242) ، ومسلم (1021) من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد من ثديّهما إلى تراقيهما، فأما المنفق، فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثره، وأما البخيل، فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها، فلا تتسع» .
(4) زاد المعاد (2/ 26- 27) بتصرف واختصار.(10/4416)
الحسد
الحسد لغة:
الحسد مصدر قولهم: حسد يحسد ويحسد- بكسر السين وضمّها- وأصله القشر وهو مأخوذ من الحسدل وهو القراد، فالحسد يقشر القلب، كما تقشر القراد الجلد فتمتصّ دمه.
وحسدتك على الشيء، وحسدتك الشيء بمعنى. يقول الفيّوميّ: «حسدته على النعمة وحسدته النعمة حسدا. بفتح السين أكثر من سكونها، يتعدّى إلى الثاني بنفسه وبالحرف إذا كرهتها عنده، وتمنّيت زوالها عنه» وهو عند أهل التحقيق غير الغبطة، لأنّ الأولى صفة المنافقين، والثانية صفة المؤمنين. قال الراغب: وروي «المؤمن يغبط، والمنافق يحسد» ومنه قوله تعالى حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ (البقرة/ 109) وقوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (الفلق/ 5) وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا حسد إلّا في اثنتين» هو أن يتمنّى الرجل أن يرزقه الله ما لا ينفق منه في سبيل الخير، أو
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
4/ 20/ 24
يتمنّى أن يكون حافظا لكتاب الله، فيتلوه آناء اللّيل وأطراف النّهار، ولا يتمنّى أن يرزأ صاحب المال في ماله أو تالي القرآن في حفظه، وهذا هو الحسد المباح، وهو ما يسمّى بالغبطة، وقال ابن منظور: الحسد أن تتمنّى زوال نعمة المحسود، وحسده يحسده ويحسده حسدا وحسّده إذا تمنّى أن تتحوّل إليه نعمته وفضيلته أو يسلبهما.
وتحاسد القوم، ورجل حاسد من قوم حسّد «1» .
الحسد اصطلاحا:
كراهة النعمة وحبّ زوالها عن المنعم عليه.
وقال الجرجانيّ: الحسد تمنّي زوال نعمة المحسود إلى الحاسد «2» .
وقال الجاحظ: الحسد: هو التألّم بما يراه الإنسان لغيره وما يجده فيه من الفضائل، والاجتهاد في إعدام ذلك الغير ما هو له، وهو خلق مكروه وقبيح بكلّ أحد «3» .
وقال الماورديّ: حقيقة الحسد: شدّة الأسى
__________
(1) الصحاح للجوهري (2/ 546) ، ولسان العرب (3/ 148- 149) ، ومقاييس اللغة (2/ 61) ، والمفردات (117) ، والمصباح المنير (1/ 135) .
(2) الإحياء (3/ 189) ، والتعريفات (87) .
(3) تهذيب الأخلاق (34) .(10/4417)
على الخيرات تكون للنّاس الأفاضل «1» .
وقال المناويّ: الحسد: تمنّي زوال نعمة عن مستحقّ لها، وقيل: هو ظلم ذي النعمة بتمنّي زوالها عنه وصيرورتها إلى الحاسد «2» .
وقال الكفويّ: الحسد: اختلاف القلب على الناس لكثرة الأموال والأملاك «3» .
وقال الراغب: الحسد تمنّي زوال نعمة من مستحقّ لها، وربّما كان مع ذلك سعي في إزالتها.
فضيلة الابتعاد عن الحسد:
قال الماورديّ- رحمه الله-: اعلم أنّ الحسد خلق ذميم، مع إضراره بالبدن، وإفساده للدّين، حتّى لقد أمر الله بالاستعاذة من شرّه، فقال تعالى: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (الفلق/ 5) . وناهيك بحال ذلك شرّا، ولو لم يكن من ذمّ الحسد إلّا أنّه خلق دنيء، يتوجّه نحو الأكفاء والأقارب، ويختصّ بالمخالط والصاحب، لكانت النزاهة عنه كرما، والسلامة منه مغنما، فكيف وهو بالنّفس مضرّ، وعلى الهمّ مصرّ حتّى ربّما أفضى بصاحبه إلى التلف، من غير نكاية في عدوّ، ولا إضرار بمحسود.
بين الحسد والمنافسة:
إذا كان الحسد شدّة الأسى على الخيرات تكون للنّاس الأفاضل، فإنّه غير المنافسة، وربّما غلط قوم فظنّوا أنّ المنافسة في الخير هي الحسد، وليس الأمر على ما فطنوا؛ لأنّ المنافسة طلب التشبّه بالأفاضل من غير إدخال ضرر عليهم، والحسد مصروف إلى الضرر؛ لأنّ غايته أن يعدم الأفاضل فضلهم من غير أن يصير الفضل له، فهذا الفرق بين المنافسة والحسد، فالمنافسة إذن فضيلة لأنّها داعية إلى اكتساب الفضائل والاقتداء بأخيار الأفاضل، واعلم أنّه بحسب فضل الإنسان، وظهور النعمة عليه، يكون حسد الناس له، فإن كثر فضله كثر حسّاده، وإن قلّ قلّوا، لأنّ ظهور الفضل يثير الحسد، وحدوث النعمة يضاعف الكمد «4» .
الفرق بين البخل والحسد:
قال الكفويّ: البخل والحسد مشتركان في أنّ صاحبهما يريد منع النعمة عن الغير، ثمّ يتميّز البخيل بعدم دفع ذي النعمة شيئا، والحاسد يتمنّى ألّا يعطى أحد سواه شيئا «5» .
الفرق بين الحسد والغبطة:
قال الكفويّ: الغبطة: تمنّي الإنسان أن يكون له من الّذي لغيره من غير إرادة إذهاب ما لغيره، أمّا الحسد فهو إرادة زوال نعمة الغير، ثمّ إنّ الغبطة صفة المؤمن، والحسد صفة المنافق «6» .
دواعي الحسد:
قال الماورديّ- رحمه الله-: اعلم أنّ دواعي الحسد ثلاثة:
1- بغض المحسود، فيأسى عليه بفضيلة
__________
(1) أدب الدنيا والدين (260) .
(2) التوقيف (139، 140) .
(3) الكليات للكفوي (408، 672) .
(4) أدب الدنيا والدين للماوردي (260- 226) ، (176، 177) ط. بولاق.
(5) الكليات (242) .
(6) المرجع السابق (672) ، وانظر المفردات للراغب (117) .(10/4418)
تظهر، أو منقبة تشكر، فيثير حسدا قد خامر بغضا وهذا النوع لا يكون عامّا، وإن كان أضرّها، لأنّه ليس يبغض كلّ الناس.
2- أن يظهر من المحسود فضل يعجز عنه، فيكره تقدّمه فيه، واختصاصه به، فيثير ذلك حسدا لولاه لكفّ عنه، وهذا أوسطها، لأنّه لا يحسد من الأكفاء من دنا، وإنّما يختصّ بحسد من علا، وقد يمتزج بهذا النوع ضرب من المنافسة، ولكنّها مع عجز، فلذلك صارت حسدا.
3- أن يكون في الحاسد شحّ بالفضائل، وبخل بالنّعم وليست إليه، فيمنع منها، ولا بيده، فيدفع عنها، لأنّها مواهب قد منحها الله من شاء، فيسخط على الله- عزّ وجلّ- في قضائه، ويحسد على ما منح من عطائه، وإن كانت نعم الله- عزّ وجلّ- عنده أكثر، ومنحه عليه أظهر، وهذا النوع من الحسد أعمّها وأخبثها، إذ ليس لصاحبه راحة، ولا لرضاه غاية، فإن اقترن بشرّ وقدرة كان جورا وانتقاما، وإن صادف عجزا ومهانة كان جهدا وسقاما.
وأضاف الغزالي إلى ذلك أسبابا أخرى أهمّها:
الخوف من فوت المقاصد، وذلك يختصّ بمتزاحمين على مقصود واحد. فإن كان واحد يحسد صاحبه في كلّ نعمة تكون عونا له في الانفراد بمقصوده، ومن هذا الجنس تحاسد الضرّات في التزاحم على مقاصد الزوجيّة، وتحاسد الإخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلب الأبوين للتّوصّل به إلى مقاصد الكرامة والمال «1» .
دواء الحسد:
الحسد يعالج بأمور هي له حسم، إن صادفها عزم، فمنها: اتّباع الدين في اجتنابه، والرجوع إلى الله عزّ وجلّ- في آدابه فيقهر نفسه على مذموم خلقها، وينقلها عن لئيم طبعها وإن كان نقل الطباع عسرا، لكن بالرّياضة والتدريج يسهل منها ما استصعب، ويحبّب منها ما أتعب.
ومنها: العقل الّذي يستقبح به من نتائج الحسد ما لا يرضيه، ويستنكف من هجنة مساويه. فيذلّل نفسه أنفة، ويطهّرها حميّة، فتذعن لرشدها، وتجيب إلى صلاحها.
وهذا إنّما يصحّ لدى النفس الأبيّة، والهمّة العليّة، وإن كان ذو الهمّة يجلّ عن دناءة الحسد.
ومنها: أن يستدفع ضرره، ويتوقّى أثره، ويعلم أنّ مكانته في نفسه أبلغ، ومن الحسد أبعد، فيستعمل الحزم في دفع ما كدّه وأكمده، ليكون أطيب نفسا وأهنأ عيشا. ومنها: أن يرضى بالقضاء، ويستسلم للمقدور، ولا يرى أن يغالب قضاء الله، فيرجع مغلوبا، ولا أن يعارضه في أمره، فيردّ محروما مسلوبا.
فإن أظفرته السعادة بأحد هذه الأسباب، واقتادته المراشد إلى استعمال الصواب، سلم من سقامه، وخلص من غرامه، واستبدل بالنّقص فضلا، واعتاض من الذمّ حمدا، ولمن استنزل نفسه عن
__________
(1) أدب الدنيا والدين (176) ، وإحياء علوم الدين للغزالي (3/ 200) (ط. الريان) .(10/4419)
مذمّة، وصرفها عن لائمة هو أظهر حزما، وأقوى عزما، ممّن كفته النّفس جهادها، وأعطته قيادها «1» .
قال ابن القيّم- رحمه الله-: «ويندفع شرّ الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب:
السبب الأوّل: التعوّذ بالله من شرّه، والتحصّن به واللجوء إليه.
السبب الثاني: تقوى الله، وحفظه عند أمره ونهيه. فمن اتّقى الله تولّى الله حفظه، ولم يكله إلى غيره.
السبب الثالث: الصبر على عدوّه، وأن لا يقاتله ولا يشكوه، ولا يحدّث نفسه بأذاه أصلا. فما نصر على حاسده وعدوّه بمثل الصبر عليه.
السبب الرابع: التوكّل على الله. فمن توكّل على الله فهو حسبه، والتوكّل من أقوى الأسباب الّتي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم. وهو من أقوى الأسباب في ذلك، فإنّ الله حسبه، أي كافيه. ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوّه.
السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلّما خطر له. فلا يلتفت إليه، ولا يخافه، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه. وهذا من أنفع الأدوية، وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شرّه.
السبب السادس: وهو الإقبال على الله، والإخلاص له وجعل محبّته ورضاه والإنابة إليه في محلّ خواطر نفسه وأمانيّها تدبّ فيها دبيب تلك الخواطر شيئا حتّى يقهرها ويغمرها ويذيبها بالكلّيّة. فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيّه كلّها في محابّ الربّ، والتقرّب إليه.
السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب الّتي سلّطت عليه أعداءه. فإنّ الله تعالى يقول:
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (الشورى/ 30) .
السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه، فإنّ لذلك تأثيرا عجيبا في دفع البلاء، ودفع العين، وشرّ الحاسد ولو لم يكن في هذا إلّا بتجارب الأمم قديما وحديثا لكفي به. فما حرس العبد نعمة الله عليه بمثل شكرها ولا عرّضها للزّوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله. وهو كفران النعمة. وهو باب إلى كفران المنعم.
السبب التاسع: وهو من أصعب الأسباب على النفس، وأشقّها عليها، ولا يوفّق له إلّا من عظم حظّه من الله، وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلّما ازداد أذى وشرّا وبغيا وحسدا ازددت إليه إحسانا، وله نصيحة، وعليه شفقة. وما أظنّك تصدّق بأنّ هذا يكون فضلا عن أن تتعاطاه، فاستمع الآن إلى قوله- عزّ وجلّ-: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ
__________
(1) أدب الدنيا والدين للماوردي (262- 264) ، (176) وما بعدها (ط. بولاق) .(10/4420)
صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ* وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (فصلت/ 34- 36) .
السبب العاشر: وهو الجامع لذلك كلّه، وعليه مدار هذه الأسباب، وهو تجريد التوحيد، والترحّل بالفكر في الأسباب إلى المسبّب العزيز الحكيم، والعلم بأنّ هذه الآلات بمنزلة حركات الرّياح، وهي بيد محرّكها، وفاطرها وبارئها، ولا تضرّ ولا تنفع إلّا بإذنه.
فهو الّذي يحسن عبده بها، وهو الّذي يصرفها عنه وحده لا أحد سواه. قال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يونس/ 107) » «1» .
[للاستزادة: انظر صفات: الغل- الأثرة- صغر الهمة- الطمع- النقمة- البخل- الشح- السخط.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الرضا- القناعة- المحبة- الإيثار- الزهد- السخاء] .
__________
(1) التفسير القيم، لابن القيم (585، 593) .(10/4421)
الآيات الواردة في «الحسد»
1- وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) «1»
2- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) «2»
3- سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) «3»
4- قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) «4»
__________
(1) البقرة: 109 مدنية
(2) النساء: 51- 54 مدنية
(3) الفتح: 15 مدنية
(4) الفلق: 1- 5 مكية(10/4422)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الحسد)
1-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- أنّ جبريل أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا محمّد اشتكيت؟» فقال: «نعم» . قال: «باسم الله أرقيك. من كلّ شيء يؤذيك، من شرّ كلّ نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك» ) * «1» .
2-* (عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «إذا فتحت عليكم فارس والروم أيّ قوم أنتم؟» قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله «2» قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أو غير ذلك.
تتنافسون، ثمّ تتحاسدون، ثمّ تتدابرون، ثمّ تتباغضون، أو نحو ذلك، ثمّ تنطلقون في مساكين المهاجرين، فتجعلون بعضهم على رقاب بعض» ) * «3» .
3-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّه سيصيب أمّتي داء الأمم» قالوا: وما داء الأمم؟ قال: «الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا والتباعد والتحاسد حتّى يكون البغي ثمّ الهرج» ) * «4» .
4-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إيّاكم والظنّ «5» ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث، ولا تحسّسوا ولا تجسّسوا «6» ، ولا تنافسوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» ) * «7» .
5-* (عن الزبير بن العوّام- رضي الله عنه- أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «دبّ إليكم داء الأمم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين، والّذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنّة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتّى تحابّوا، أفلا أنبّئكم بما يثبت ذاكم لكم؟ أفشوا السلام بينكم» ) * «8» .
6-* (عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيّ الناس أفضل؟ قال: «كلّ مخموم القلب، صدوق اللسان» قالوا: صدوق اللسان نعرفه. فما مخموم القلب؟ قال:
«هو التقيّ النقيّ. لا إثم فيه ولا بغي ولا غلّ ولا حسد» ) * «9» .
__________
(1) مسلم (2186) .
(2) نقول كما أمرنا الله: أي نحمده ونشكره.
(3) مسلم (2962) .
(4) قال الحافظ العراقي في الإحياء (3/ 199) : أخرجه ابن أبي الدنيا، والطبراني في الأوسط بإسناد جيد.
(5) إياكم والظن: المراد النهي عن ظن السوء.
(6) ولا تحسسوا ولا تجسسوا: التحسس الاستماع لحديث القوم. والتجسس البحث عن العورات.
(7) البخاري الفتح 10 (6066) . ومسلم (2563) واللفظ له
(8) الترمذي (2510) واللفظ له. وقال محقق جامع الأصول (3/ 626) : له شواهد وهو بها حسن. والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 548) وقال: رواه البزار بإسناد جيد والبيهقي وغيرهما.
(9) ابن ماجة (4216) وفي الزوائد: هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات.(10/4423)
7-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يجتمعان في النار مسلم قتل كافرا، ثمّ سدّد وقارب، ولا يجتمعان في جوف مؤمن غبار في سبيل الله، وفيح جهنّم، ولا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد» ) * «1» .
8-* (عن ضمرة بن ثعلبة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا» ) * «2» .
9-* (عن عائشة- رضي الله عنها- عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: «ما حسدتكم اليهود على شيء، ما حسدتكم على الإسلام والتأمين» ) * «3» .
10-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والله لينزلنّ ابن مريم حكما عادلا. فليكسرنّ الصليب. وليقتلنّ الخنزير. وليضعنّ الجزية. ولتتركنّ القلاص «4» فلا يسعى عليها.
ولتذهبنّ الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعونّ (وليدعونّ) إلى المال فلا يقبله أحد» ) * «5» .
11-* (عن عائشة- رضي الله عنها- قالت:
ما حسدت أحدا ما حسدت خديجة، وما تزّوجني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا بعد ما ماتت، وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشّرها ببيت في الجنّة من قصب «6» لا صخب فيه ولا نصب) * «7» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (الحسد) معنى
12-* (عن عمرو بن عوف- رضي الله عنه- وهو حليف بني عامر بن لؤيّ، وكان شهد بدرا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أخبره، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث أبا عبيدة ابن الجرّاح إلى البحرين يأتي بجزيتها. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو صالح أهل البحرين. وأمّر عليهم العلاء بن الحضرميّ. فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين. فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة. فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلمّا صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انصرف. فتعرّضوا له. فتبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين رآهم. ثمّ قال: «أظنّكم سمعتم أنّ أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟» فقالوا: أجل. يا رسول الله. قال:
«فأبشروا وأمّلوا ما يسرّكم. فو الله ما الفقر أخشى
__________
(1) صحيح سنن النسائي (2912) وقال الألباني: حسن. وصدره عند مسلم (1891) .
(2) المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 547) وقال: رواه الطبراني ورواته ثقات.
(3) ابن ماجة (856) . وفي الزوائد: هذا إسناده صحيح ورجاله ثقات. والمراد ب «التأمين» هنا هو قول المصلي «آمين» عقب قراءة الفاتحة.
(4) القلاص: هي من الإبل كالفتاة من النساء وذكرت هنا لكونها أشرف الإبل التي هي أنفس الأموال عند العرب، والمعنى: أن يزهد فيها لكثرة الأموال.
(5) مسلم (155) .
(6) من قصب: يعني من اللؤلؤ المجوف الواسع كالقصر المنيف. والقصب من الجوهر: ما كان مستطيلا أجوف، وقيل: أنابيب من جوهر.
(7) الترمذي (3876) وقال: هذا حديث حسن، ورواه الحاكم في المستدرك (3/ 186) وصححه ووافقه الذهبي.(10/4424)
عليكم، ولكنّي أخشى عليكم أن تبسط الدّنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها «1» كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم» ) * «2» .
13-* (عن أمّ سلمة زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لجارية، في بيت أمّ سلمة، زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، رأى بوجهها سفعة «3» ، فقال: «بها نظرة «4» ، فاسترقوا لها» (يعني بوجهها صفرة» ) * «5» .
14-* (عن عائشة- رضي الله عنها- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يأمرها أن تسترقي من العين) * «6» .
15-* (عن أنس- رضي الله عنه- قال:
رخّص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الرقية من العين، والحمة «7» ، والنملة «8» ) * «9» .
16-* (عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: رخّص النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لآل حزم في رقية الحيّة.
وقال لأسماء بنت عميس: «مالي أرى أجسام بني أخي ضارعة «10» تصيبهم الحاجة» قالت: لا. ولكنّ العين تسرع إليهم. قال: «ارقيهم» قالت: فعرضت عليه، فقال: «ارقيهم» ) * «11» .
17-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «العين حقّ» ) * «12» .
18-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «العين حقّ ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغتسلوا» ) * «13» .
19-* (عن أبي سعيد- رضي الله عنه- قال:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتعوّذ من عين الجانّ، ثمّ أعين الإنس، فلمّا نزلت المعوّذتان، أخذ بهما، وترك ما سوى ذلك) * «14» .
20-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعوّذ الحسن والحسين ويقول: «إنّ أباكما كان يعوّذ بهما إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامّة، من كلّ شيطان وهامّة «15» ، ومن كلّ عين لامّة» ) * «16» .
__________
(1) قال العلماء: التنافس إلى الشيء المسابقة إليه وكراهة أخذ غيرك إياه، وهو أوّل درجات الحسد.
(2) البخاري- الفتح 6 (3158) . ومسلم (2961) واللفظ له.
(3) السفعة: فسرها في الحديث بالصفرة، وقيل: سواد. وقيل: هي لون يخالف لون الوجه.
(4) نظرة: النظرة هي العين، أي أصابتها عين.
(5) البخاري- الفتح 10 (5739) . ومسلم (2197) واللفظ له.
(6) البخاري- الفتح 10 (5738) . ومسلم (2195) واللفظ له. وابن ماجة (3512) .
(7) الحمة: هي السم، ومعناه أذن في الرقية من كل ذات سم.
(8) النملة: هي قروح تخرج في الجنب.
(9) مسلم (2196) واللفظ له. والترمذي (2056) وابن ماجة (3516) .
(10) ضارعة: أي نحيفة. والمراد أولاد جعفر رضي الله عنه.
(11) مسلم (2198) .
(12) مسلم (2187) .
(13) مسلم (2188) .
(14) ابن ماجة (3511) واللفظ له، والترمذي (2058) وقال: حديث حسن، والنسائي (8/ 271) ، وصححه الألباني، صحيح سنن النسائي (5069) .
(15) الهامة: واحدة الهوام وهي الحيات.
(16) البخاري- الفتح 6 (3371) .(10/4425)
من الآثار وأقوال العلماء الواردة في ذمّ (الحسد)
1-* (قال معاوية- رضي الله عنه-: ليس في خصال الشرّ أعدل من الحسد، يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود) * «1» .
2-* (قال معاوية- رضي الله عنه-: كلّ الناس أقدر على رضاه إلّا حاسد نعمة فإنّه لا يرضيه إلّا زوالها، ولذلك قيل:
كلّ العداوات قد ترجى إماتتها ... إلّا عداوة من عاداك عن حسد
) «2»
3-* (قال عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه:
ما كانت نعمة الله على أحد إلّا وجّه لها حاسدا) * «3» .
4-* (قال أبو الدرداء: ما أكثر عبد ذكر الموت إلّا قلّ فرحه وقلّ حسده) * «4» .
5-* (قال الحسن: يا بن آدم لم تحسد أخاك؟
فإن كان الّذي أعطاه لكرامته عليه، فلم تحسد من أكرمه الله؟ وإن كان غير ذلك فلم تحسد من مصيره إلى النار) * «5» .
6-* (قال رجل للحسن: هل يحسد المؤمن؟
قال: ما أنساك بني يعقوب؟ نعم، ولكن غمّه في صدرك «6» فإنّه لا يضرّك ما لم تعد به يد ولا لسان «7» ) * «8» .
7-* (قال ابن سيرين- رحمه الله-: ما حسدت أحدا على شيء من أمر الدنيا لأنّه إن كان من أهل الجنّة فكيف أحسده وهي حفيرة في الجنّة؟ وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟) * «9» .
8-* (قال بكر بن عبد الله: كان رجل يغشى بعض الملوك فيقوم بحذاء الملك فيقول: أحسن إلى المحسن بإحسانه؛ فإنّ المسيء سيكفيه إساءته، فحسده رجل على ذلك المقام والكلام، فسعى به إلى الملك فقال: إنّ هذا الّذي يقوم بحذائك ويقول ما يقول زعم أنّ الملك أبخر، فقال له الملك: وكيف يصحّ ذلك عندي؟ قال: تدعوه إليك، فإنّه إذا دنا منك وضع يده على أنفه لئلّا يشمّ ريح البخر، فقال له: انصرف حتّى أنظر، فخرج من عند الملك فدعا الرجل من عنده وقام بحذاء الملك على عادته فقال: أحسن إلى المحسن بإحسانه فإنّ المسيء سيكفيه إساءته، فقال له الملك:
ادن منّي، فدنا منه فوضع يده على فيه مخافة أن يشمّ الملك منه رائحة الثوم، فقال الملك في نفسه: ما أرى فلانا إلّا قد صدق قال: وكان الملك لا يكتب بخطّه إلّا بجائزة أو صلة فكتب له كتابا بخطّه إلى عامل من
__________
(1) أدب الدنيا والدين (176) ط بولاق.
(2) الإحياء للغزالي (3/ 201) ط الريان.
(3) أدب الدنيا والدين (177) ط بولاق.
(4) الإحياء (3/ 201) .
(5) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(6) غمّه في صدرك: أخفه واكتمه فيه.
(7) أي: لم تعتد بسببه اليد واللسان فإن اعتد أي منهما وجد الضرر.
(8) الإحياء (3/ 201) ط. الريان.
(9) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.(10/4426)
عمّاله: إذا أتاك حامل كتابي هذا فاذبحه واسلخه واحش جلده تبنا وابعث به إليّ، فأخذ الكتاب وخرج، فلقيه الرجل الّذي سعى به فقال: ما هذا الكتاب؟ قال خطّ الملك لي بصلة، فقال: هبه لي، فقال: هو لك، فأخذه ومضى به إلى العامل، فقال العامل: في كتابك أن أذبحك وأسلخك، قال: إنّ الكتاب ليس هو لي، فالله الله في أمري حتّى تراجع الملك، فقال: ليس لكتاب الملك مراجعة، فذبحه وسلخه وحشا جلده تبنا وبعث به، ثمّ عاد الرجل إلى الملك كعادته، وقال مثل قوله، فعجب الملك وقال: ما فعل الكتاب؟ فقال:
لقيني فلان فاستوهبه منّي فوهبته له، قال له الملك: إنّه ذكر لي أنّك تزعم أنّي أبخر. قال: ما قلت ذلك قال:
فلم وضعت يدك على فيك؟ قال: لأنّه أطعمني طعاما فيه ثوم فكرهت أن تشمّه، قال: صدقت. ارجع إلى مكانك، فقد كفي المسىء إساءته) «1» .
9-* (قال ابن المعتزّ: الحسد داء الجسد) * «2» .
10-* (وقال أيضا: الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له. بخيل بما لا يملكه، طالب ما لا يجده) * «3» .
11-* (قال عبد الله بن المعتزّ- رحمه الله-:
اصبر على كيد الحسو ... د فإنّ صبرك قاتله
فالنّار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله) * «4» .
12-* (قال بعض الحكماء: يكفيك من الحاسد أنّه يغتمّ في وقت سرورك) * «5» .
13-* (قال بعض الحكماء: الحسد جرح لا يبرأ، وحسب الحسود ما يلقى) * «6» .
14-* (قال بعض السلف: الحسد أوّل ذنب عصي الله به في السماء، يعني حسد إبليس لآدم- عليه السلام- وأوّل ذنب عصي الله به في الأرض، يعني حسد ابن آدم لأخيه حتّى قتله) * «7» .
15-* (قال بعضهم: الحاسد لا ينال من المجالس إلّا مذمّة وذلّا، ولا ينال من الملائكة إلّا لعنة وبغضا، ولا ينال من الخلق إلّا جزعا وغمّا، ولا ينال عند النزع إلّا شدّة وهولا، ولا ينال عند الموقف إلّا فضيحة ونكالا) * «8» .
16-* (قال بعض الحكماء: من رضي بقضاء الله تعالى لم يسخطه أحد، ومن قنع بعطائه لم يدخله حسد) * «9» .
17-* (قال بعض البلغاء: الناس حاسد ومحسود، ولكلّ نعمة حسود) * «10» .
18-* (قال بعض الأدباء: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحسود، نفس دائم، وهمّ لازم، وقلب هائم، فأخذه بعض الشعراء، فقال:
__________
(1) الإحياء (3/ 200- 201) ط. الريان.
(2) أدب الدنيا والدين (179) ط. الريان.
(3) المصدر السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(4) المصدر السابق (176) ط بولاق.
(5) المصدر السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(6) الإحياء (3/ 201) .
(7) أدب الدنيا والدين (176) .
(8) الإحياء (3/ 201) .
(9) أدب الدنيا والدين (ص 176) ط. بولاق.
(10) المصدر السابق نفسه، والصفحة نفسها.(10/4427)
إنّ الحسود الظّلوم في كرب ... يخاله من يراه مظلوما
ذا نفس دائم على نفس ... يظهر منها ما كان مكتوما
) * «1» .
19- قال عبد الحميد الكاتب: الحسود من الهمّ كساقي السمّ، فإن سرى سمّه زال عنه همّه) * «2» .
20-* (وقال أيضا: أسد تقاربه خير من حسود تراقبه) * «3» .
21-* (قال الشاعر:
إن يحسدوني فإنّي غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظا بما يجد
) * «4» .
22-* (وقال آخر:
يا حاسدا لي على نعمتي ... أتدري على من أسأت الأدب؟
أسأت على الله في حكمه ... لأنّك لم ترض لي ما وهب
فأخزاك ربّي بأن زادني ... وسدّ عليك وجوه الطلب
) * «5» .
23-* (وقال آخر:
إنّي لأرحم حاسدي من حرّ ما ... ضمّت صدورهم من الأوغار
نظروا صنيع الله بي فعيونهم ... في جنّة وقلوبهم في النار
) * 6.
24-* (وقال آخر:
جامل عدوّك ما استطعت فإنّه ... بالرّفق يطمع في صلاح الفاسد
واحذر حسودك ما استطعت فإنّه ... إن نمت عنه فليس عنك براقد
إنّ الحسود وإن أراك تودّدا ... منه أضرّ من العدوّ الحاقد
ولربّما رضي العدوّ إذا رأى ... منك الجميل فصار غير معاند
ورضا الحسود زوال نعمتك التي ... أوتيتها من طارف أو تالد
فاصبر على غيظ الحسود فناره ... ترمي حشاه بالعذاب الخالد
) * «7» .
__________
(1) أدب الدنيا والدين (176) ط. بولاق.
(2) المصدر السابق (177) ط. بولاق.
(3) المصدر السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(4) أدب الدنيا والدين (177) ط. بولاق.
5، 6 الترغيب والترهيب للمنذري (3/ 555- 557) .
(7) المصدر السابق (3/ 555- 557) الهامش.(10/4428)
من مضار (الحسد)
(1) إسخاط الله تعالى في معارضته، واجتناء الأوزار في مخالفته، إذ ليس يرى قضاء الله عدلا ولا لنعمه من الناس أهلا.
(2) حسرات النفس وسقام الجسد، ثمّ لا يجد لحسرته انتهاء، ولا يؤمّل لسقامه شفاء.
(3) انخفاض المنزلة، وانحطاط المرتبة.
(4) مقت الناس له، حتّى لا يجد فيهم محبّا، وعداوتهم له حتّى لا يرى فيهم وليّا، فيصير بالعداوة مأثورا وبالمقت مزجورا.
(5) يجلب النقم ويزيل النعم.
(6) منبع الشرور العظيمة ومفتاح العواقب الوخيمة.
(7) يورث الحقد والضغينة في القلب.
(8) معول هدم في المجتمع.
(9) دليل على سفول الخلق ودناءة النفس.(10/4429)
الحقد
الحقد لغة:
هو الاسم من قولهم: حقد فلان يحقد، وهو مأخوذ من مادّة (ح ق د) الّتي تدلّ على الضغن، يقول ابن فارس: «الحاء والقاف والدال أصلان: أحدهما الضغن، والآخر ألّا يوجد ما يطلب، فالأوّل الحقد، والآخر قولهم: أحقد القوم إذا طلبوا الذهبة في المعدن فلم يجدوها «1» ، وقال الجوهريّ: الحقد: الضغن وجمعه أحقاد، يقال: حقد عليه وحقد عليه، وأحقده غيره، ورجل حقود «2» .
وقال ابن منظور: الحقد إمساك العداوة في القلب والتربّص لفرصتها، والحقد: الضغن، وهو الحقيدة والجمع حقائد، قال أبو صخر الهذليّ:
وعدّ إلى قوم تجيش صدورهم ... بغشّي، لا يخفون حمل الحقائد
يقال من ذلك: حقد عليّ يحقد حقدا، وحقد (بالكسر) حقدا وحقدا فيهما «3» ، فالحقد: الفعل (أي المصدر) ، والحقد: الاسم (من ذلك) ، وتحقّد كحقد
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
8/ 13/ 12
()
(في المعنى) ، قال جرير:
ولقد جمعن مع البعاد تحقّدا
ورجل حقود: كثير الحقد، وأحقده الأمر:
صيّره حاقدا، وأحقده غيره (جعله يحقد) «4» .
الحقد اصطلاحا:
قال الجرجانيّ: الحقد: هو طلب الانتقام، وتحقيقه: أنّ الغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفّي في الحال رجع إلى الباطن واحتقن فيه فصار حقدا «5» .
وقيل: هو سوء الظنّ في القلب على الخلائق لأجل العداوة «6» .
وقال الجاحظ: الحقد: هو إضمار الشرّ للجاني إذا لم يتمكّن من الانتقام منه فأخفى ذلك الاعتقاد إلى وقت إمكان الفرصة «7» .
بين الحقد والضغينة:
إنّ تأمّل ما ذكره الجوهريّ وابن فارس وصاحب اللسان يشير بوضوح إلى أنّ الحقد يتساوى مع الضغينة ويرادفها تماما عند ابن فارس والجوهريّ،
__________
(1) مقاييس اللغة 2/ 89.
(2) الصحاح 2/ 466.
(3) مراد ابن منظور أنه يقال في الفعلين حقد (بالتحريك) ، وحقد (بكسر القاف) حقد، ثم فسّر ذلك بأن الكلمة بكسر الحاء (حقد) هي الاسم من الفعلين جميعا.
(4) لسان العرب 3/ 154، وانظر أيضا: القاموس المحيط ص 354 (ط. بيروت) .
(5) التعريفات ص 95.
(6) المرجع السابق، ص 96، وقد ذكر أبو البقاء الكفوي التعريف ذاته (انظر: الكليات 2/ 26) .
(7) تهذيب الأخلاق ص 33.(10/4430)
وجزئيّا عند ابن منظور لأنّه جعلها والضغن سواء في المعنى الثاني للحقد، فما الضغينة إذن؟
أمّا الجوهريّ فلم يزد على أن قال: الضغينة هي الحقد «1» ، ثمّ ذكر مشتقّاتها بما لا يخرج عن معنى الحقد أيضا، وكأنّ اللفظين مترادفان عنده تماما، وذهب ابن فارس إلى أنّ الضغن أصل صحيح يدلّ على تغطية الشيء في ميل واعوجاج ولا يدلّ على خير، ثمّ قال عقب ذلك: من ذلك الضغن: الحقد ... «2» ، ومن ثمّ يكون الحقد عند ابن فارس أيضا مرادفا للضّغن له معناه نفسه، وقال ابن منظور في (ضغن) : الضغن والضغن: الحقد، والضغن: الحقد والعداوة والبغضاء «3» ، ومنه حديث عمر- رضي الله عنه-: «أيّما قوم شهدوا على رجل بحدّ، ولم يكن (ذلك) بحضرة صاحب الحدّ فإنّما شهدوا على ضغن» أي حقد وعداوة، يريد فيما كان بين الله والعباد كالزنا والشرب ونحوهما «4» ، أمّا قول الله عزّ وجلّ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (محمد/ 29) ، فقد جاء في تفسيره أنّ الضغينة: هي ما يضمر من المكروه، ثمّ اختلف في تفسيره فقيل: الغشّ، وقيل: الحسد، وقيل: الحقد «5» ، وقال القرطبيّ: المعنى: أم حسبوا أن لن يظهر الله عداوتهم وحقدهم لأهل الإسلام «6» ، ونخلص من ذلك إلى أنّ الضغينة والضغن قديراد بهما الحقد مطلقا، وقد يراد بهما الحقد الّذي تصاحبه العداوة ومن ثمّ فسّر الراغب الضغينة بأنّها: الحقد الشديد «7» .
الألفاظ المرادفة أو المقاربة للحقد:
وردت في اللغة ألفاظ عديدة يقترب معناها من الحقد بمعناه الاصطلاحيّ، وربّما استعملت في نفس معناه منها:
1- الضغينة: إذا فسّرت كما سبق بأنّها الحقد الشديد أو الحقد المصحوب بالعداوة (الظاهرة) .
2- النقمة: وهي الكراهية الّتي تصل إلى حدّ السخط «8» .
3- الغلّ: وممّن استعمل ذلك القرطبيّ في تفسيره عندما قال: الغلّ: هو الحقد الكامن في الصّدر «9» .
4- الدخن: وممّن استعمل الدخن في معنى الحقد أو فسّره به ابن حجر في الفتح عندما قال:
الدخن: وهو الحقد «10» .
5- الدخل: قال الفرّاء: هو الدغل والخديعة
__________
(1) انظر الصحاح 6/ 2154.
(2) مقاييس اللغة 3/ 206.
(3) لسان العرب 13/ 254، وقد أخذ هذا التفسير من النهاية 3/ 92.
(4) النهاية لابن الأثير 3/ 92.
(5) انظر تفسير القرطبي 16/ 251.
(6) المرجع السابق، 16/ 252.
(7) المفردات للراغب 297 (ت. كيلاني) .
(8) انظر صفة النقمة.
(9) انظر صفة الغل، وتفسير القرطبي 7/ 133.
(10) فتح الباري 13/ 39.(10/4431)
والمكر، وقال أبو عبيدة: هو الغلّ والغشّ «1» .
6- الغشّ (المتعلّق بالقلب) «2» .
7- البغضاء «3» .
8- الداغلة: قال في اللسان: هي الحقد المكتتم «4» ، ومثلها الدغل.
حكم الحقد:
ذكر ابن حجر الحقد مع كلّ من الغضب بالباطل والحسد على أنّها جميعا من كبائر الباطن، وعلّل جمعه لهذه الكبائر الثلاث بقوله: لمّا كانت هذه الثلاثة بينها تلازم وترتّب، إذ الحسد من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب كانت بمنزلة خصلة واحدة، وذمّ كلّ يستلزم ذمّ الآخر، لأنّ ذمّ الفرع وفرعه يستلزم ذمّ الأصل وأصله وبالعكس «5» .
سبب الحقد وعلاجه:
قال الغزاليّ: إنّ من آذاه شخص بسبب من الأسباب، وخالفه في غرضه بوجه من الوجوه، أبغضه قلبه وغضب عليه، ورسخ في قلبه الحقد عليه، والحقد يقتضي التشفّي والانتقام، فإن عجز المبغض (الحقود) أن يتشفّى بنفسه أحبّ أن يتشفّى من خصمه الزمان، وقد يحدث الحقد بسبب خبث النفس وشحّها بالخير لعباد الله تعالى «6» .
أمّا علاج الحقد فيكمن أوّلا في القضاء على سببه الأصليّ وهو الغضب «7» ، فإذا حدث ذلك الغضب ولم تتمكّن من قمعه بالحلم وتذكّر فضيلة كظم الغيظ ونحوهما، فإنّ الشعور بالحقد يحتاج إلى مجاهدة النفس والزهد في الدنيا، وعليه أن يحذّر نفسه عاقبة الانتقام، وأن يعلم أنّ قدرة الله عليه أعظم من قدرته، وأنّه سبحانه بيده الأمر والنهي لا رادّ لقضائه ولا معقّب لحكمه، هذا من ناحية العلم، أمّا من حيث العمل فإنّ من أصابه داء الحقد فإنّ عليه أن يكلّف نفسه أن يصنع بالمحقود عليه ضدّ ما اقتضاه حقده فيبدّل الذمّ مدحا، والتكبّر تواضعا، وعليه أن يضع نفسه في مكانه ويتذكّر أنّه يحبّ أن يعامل بالرّفق والودّ فيعامله كذلك «8» . إنّ العلاج الأنجع لهذا الدّاء يستلزم أيضا من المحقود عليه إن كان عاديا على غيره أن يقلع عن غيّه ويصلح سيرته، وأن يعلم أنّه لن يستلّ الحقد من قلب خصمه إلّا إذا عاد عليه بما يطمئنه ويرضيه وعليه أن يصلح من شأنه ويطيّب خاطره، وعلى الطرف الآخر أن يلين ويسمح ويتقبّل العذر، وبهذا تموت الأحقاد وتحلّ المحبّة والألفة «9» .
__________
(1) انظر هذين الرأيين في لسان العرب 11/ 241، وقال القرطبي هو الدغل والخديعة والغش، فجمع بين الرأيين، انظر: تفسير القرطبي 10/ 171.
(2) انظر صفة الغش.
(3) انظر صفة البغض.
(4) لسان العرب 12/ 245.
(5) الزواجر 1/ 52، وقد ذكر الغزالي في الإحياء 3/ 186 العلاقة ذاتها بين الغضب والحقد من ناحية، وبين الحقد والحسد من ناحية أخرى عندما قال: اعلم أن الحسد من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب.
(6) تناول الغزالي هذين السببين في الإحياء 3/ 192- 193، وذكر أنهما من مسببات الحسد، وذلك صحيح ولكنهما يؤديان في البداية إلى الحقد الذي يتحوّل إلى الحسد.
(7) انظر في ذلك: صفة الغضب، وقد تحدثنا هناك عن ذلك تفصيلا.
(8) بتصرف عن الزواجر لابن حجر 1/ 64- 65.
(9) انظر في ذلك: خلق المسلم للشيخ الغزالي ص 92.(10/4432)
الحقد داء دفين يفتك بالأفراد والمجتمعات:
قال بعض العلماء: ليس أروح للمرء، ولا أطرد لهمومه، ولا أقرّ لعينه من أن يعيش سليم القلب، مبرّأ من وساوس الضغينة، وثوران الأحقاد، إذا رأى نعمة تنساق لأحد رضي بها، وأحسّ فضل الله فيها، وفقر عباده إليها، وإذا رأى أذى يلحق أحدا من خلق الله رثى له، ورجا الله أن يفرّج كربه ويغفر ذنبه، وبذلك يحيا المسلم ناصع الصفحة، راضيا عن الله وعن الحياة، مستريح النفس من نزعات الحقد الأعمى، ذلك أنّ فساد القلب بالضّغائن داء عضال، وما أسرع أن يتسرّب الإيمان من القلب المغشوش، كما يتسرّب السائل من الإناء المثلوم.
إنّ الشيطان ربّما عجز أن يجعل من الرجل العاقل عابد صنم، ولكنّه- وهو الحريص على إغواء الإنسان وإيراده المهالك لن يعجز عن المباعدة بينه وبين ربّه، حتّى يجهل حقوقه أشدّ ممّا يجهلها الوثنيّ المخرّف، وهو يحتال لذلك بإيقاد نار العداوة في القلوب، فإذا اشتعلت استمتع الشيطان برؤيتها وهي تحرق حاضر الناس ومستقبلهم، وتلتهم علائقهم وفضائلهم، ذلك أنّ الشرّ إذا تمكّن من الأفئدة (الحاقدة) تنافر ودّها وارتدّ الناس إلى حال من القسوة والعناد، يقطعون فيها ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض.
إنّ الحقد هو المصدر الدفين لكثير من الرذائل الّتي رهّب منها الإسلام، فالافتراء على الأبرياء جريمة يدفع إليها الكره الشديد (الحقد) ، وقد عدّها الإسلام من أقبح الزور، أمّا الغيبة فهي متنفّس حقد مكظوم، وصدر فقير إلى الرحمة والصفاء، ومن لوازم الحقد سوء الظنّ وتتبّع العورات، واللمز، وتعيير الناس بعاهاتهم، أو خصائصهم البدنيّة أو النفسيّة، وقد كره الإسلام ذلك كلّه كراهية شديدة.
إنّ جمهور الحاقدين تغلي مراجل الحقد في أنفسهم، لأنّهم ينظرون إلى الدنيا فيجدون ما تمنّوه لأنفسهم قد فاتهم، وامتلأت به أكفّ أخرى، وهذه هي الطامّة الّتي لا تدع لهم قرارا، وهم بذلك يكونون خلفاء إبليس- الّذي رأى أنّ الحظوة الّتي كان يتشهّاها قد ذهبت إلى آدم- فآلى ألّا يترك أحدا يستمتع بها بعدما حرمها، وهذا الغليان الشيطانيّ هو الّذي يضطرم في نفوس الحاقدين ويفسد قلوبهم، فيصبحون واهني العزم، كليلي اليد، وكان الأجدر بهم أن يتحوّلوا إلى ربّهم يسألونه من فضله، وأن يجتهدوا حتّى ينالوا ما ناله غيرهم، إذ خزائنه سبحانه ليست حكرا على أحد، والتطلّع إلى فضل الله عزّ وجلّ مع الأخذ بالأسباب هي العمل الوحيد المشروع عند ما يرى أحد فضل الله ينزل بشخص معيّن، وشتّان ما بين الحسد والغبطة أو بين الطموح والحقد «1» .
[للاستزادة: انظر صفات: الحسد- الخبث- الغل- اتباع الهوى- نكران الجميل- الأذى- السخط- الطمع- الغش- الغضب.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الرضا- القناعة- المحبة- الاعتراف بالفضل- الشكر] .
__________
(1) باختصار وتصرف عن «خلق المسلم» للشيخ محمد الغزالي ص 90- 102.(10/4433)
الآيات الواردة في «الحقد» معنى
1- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) «1»
2- كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) «2»
3- يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) «3»
4- وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) «4»
5- ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) (*) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83)
إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) «5» *
6- ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) «6»
7- إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36)
إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) «7»
8- سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) «8»
__________
(1) البقرة: 204- 205 مدنية
(2) التوبة: 8 مدنية
(3) التوبة: 64 مدنية
(4) الشعراء: 87- 89 مكية
(5) الصافات: 82- 84 مكية
* وجه ذكر هذا الشاهد والذي قبله أن الله عز وجل امتدح القلب السليم أي الى الخالص من الأوصاف الذميمة وفيها الحقد والحسد والغل وغيرها من الأمراض، ويقتضي ذلك ذم القلب المريض بالحقد ونحوه.
(6) محمد: 28- 29 مدنية
(7) محمد: 36- 37 مدنية
(8) الفتح: 11- 12 مدنية(10/4434)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الحقد)
1-* (عن أبي ثعلبة- رضي الله عنه- قال:
قال النبيّ؟: «يطّلع الله إلى عباده ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمؤمنين ويمهل الكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتّى يدعوه» ) * «1» .
2-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله؟: «ثلاث من لم يكن فيه واحدة منهنّ، فإنّ الله يغفر له ما سوى ذلك لمن يشاء: من مات لا يشرك بالله شيئا، ولم يكن ساحرا يتّبع السحرة، ولم يحقد على أخيه» ) * «2» .
3-* (عن عائشة- رضي الله عنها- قالت:
قام رسول الله؟ من الليل، فصلّى فأطال السجود حتّى ظننت أنّه قبض، فلمّا رأيت ذلك قمت حتّى حرّكت إبهامه، فتحرّك فرجع، فلمّا رفع رأسه من السجود، وفرغ من صلاته قال: «يا عائشة،- أو يا حميراء- أظننت أنّ النبيّ؟ قد خاس بك «3» » ، قلت: لا والله يا رسول الله، ولكنّي ظننت أنّك قبضت لطول سجودك، فقال:
«أتدرين أيّ ليلة هذه؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال:
هذه ليلة النصف من شعبان، إنّ الله عزّ وجلّ يطّلع على عباده ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين، ويرحم المسترحمين، ويؤخّر أهل الحقد كما هم» ) * «4» .
4-* (عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله؟ يقول: «النميمة والشتيمة والحميّة فى النار» وفي لفظ: «إنّ النميمة والحقد في النار، لا يجتمعان في قلب مسلم» ) * «5» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (الحقد) معنى
5-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: كنّا جلوسا مع رسول الله؟ فقال: «يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنّة» ، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علّق نعليه بيده الشمال، فلمّا كان الغد قال النبيّ؟ مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرّة الأولى، فلمّا كان اليوم الثالث
__________
(1) المنذري في الترغيب والترهيب 3/ 461، وقال: رواه البيهقي وهو مرسل جيّد.
(2) المرجع السابق، وقال المنذري: رواه الطبراني في الكبير والأوسط من رواية ليث بن أبي سليم، وهو قوي بشواهده.
(3) خاس بك: أي غدر بذمتك وضيّع وقت وجوده معك.
(4) المنذري، الترغيب والترهيب 3/ 461- 462، وقال: رواه البيهقي، وهو مرسل جيّد.
(5) المنذري في الترغيب والترهيب 3/ 497، 498 وقال رواه الطبراني.(10/4435)
قال النبيّ؟ مثل مقالته أيضا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأوّل، فلمّا قام النبيّ؟ تبعه عبد الله بن عمرو، فقال: إنّى لاحيث «1» أبي، فأقسمت أنّي لا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتّى تمضي فعلت. قال: نعم. قال أنس: فكان عبد الله يحدّث أنّه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئا غير أنّه إذا تعارّ تقلّب على فراشه ذكر الله عزّ وجلّ، وكبّر حتّى لصلاة الفجر «2» . قال عبد الله:
غير أنّي لم أسمعه يقول إلّا خيرا، فلمّا مضت الثلاث الليالي، وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله؟ يقول لك ثلاث مرّات: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنّة، فطلعت أنت الثلاث المرّات، فأردت أن آوي إليك، فأنظر ما عملك، فأقتدي بك، فلم أرك عملت كبير عمل، فما الّذي بلغ بك ما قال رسول الله؟؟ قال: ما هو إلّا ما رأيت، فلمّا ولّيت دعاني فقال:
ما هو إلّا ما رأيت، غير أنّي لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشّا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إيّاه، فقال عبد الله: هذه الّتي بلغت بك. وفي رواية البزّار- سمّى الرجل المبهم سعدا- وقال في آخره:
فقال سعد: ما هو إلّا ما رأيت يا ابن أخي إلّا أنّي لم أبت ضاغنا على مسلم. أو كلمة نحوها) * «3» .
6-* (عن جابر- رضي الله عنه- قال:
تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فمن مستغفر فيغفر له، ومن تائب فيتاب عليه، ويردّ أهل الضغائن بضغائنهم حتّى يتوبوا) * «4» . قال المنذريّ: الضغائن:
هي الأحقاد.
7-* (عن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنهما- قال: كان الناس يسألون رسول الله؟ عن الخير، وكنت أسأله عن الشرّ مخافة أن يدركني، فقلت:
يا رسول الله، إنّا كنّا في جاهليّة وشرّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شرّ؟ قال: «نعم» ، فقلت: هل بعد ذلك الشرّ من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن «5» » ، قلت: وما دخنه؟ قال قوم يستنّون بغير سنّتي ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر ...
الحديث» ) * «6» .
8-* (جاء في حديث الدية عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله؟: «عقل شبه العمد مغلّظة، مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه، وذلك أن ينزو الشيطان بين
__________
(1) لا حيث: جادلت وخاصمت.
(2) كبر حتى لصلاة الفجر أي حتى يؤذن لصلاة الفجر.
(3) أحمد 3/ 166، والمنذري في الترغيب والترهيب 3/ 499 وقال: رواه أحمد بإسناد على شرط البخاري ومسلم والنسائي، ورواته احتجّا بهم أيضا إلّا شيخه سويد بن نصر، وهو ثقة، وأبو يعلى والبزار بنحوه.
(4) المنذري، الترغيب والتريب 1/ 459، وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورواته ثقات.
(5) الدخن: أصله أن تكون في لون الدابة كدورة إلى سواد، والمراد هنا ألا تصفو القلوب بعضها لبعض، ولا يزول خبثها ولا ترجع إلى ما كان عليه من الصفاء.
(6) البخاري- الفتح (3606) ، ومسلم (1847) واللفظ له.(10/4436)
الناس فتكون دماء في غير ضغينة ولا حمل سلاح ...
الحديث» ) * «1» .
9-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله؟: «لا يبلّغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا، فإنّي أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم «2» الصدر) * «3» .
10-* (عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله؟ يقول: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما مشبّهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى، ألا وإنّ حمى الله في أرضه محارمه. ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه «4» ، ألا وهي القلب) * «5» .
11-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله؟ يقول: «سيصيب أمّتي داء الأمم، فقالوا: يا رسول الله وماداء الأمم؟ قال:
«الأشر «6» والبطر والتكاثر والتناجش في الدنيا والتباغض والتحاسد حتّى يكون البغي» ) * «7» .
12-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله؟: «تفتح أبواب الجنّة يوم الاثنين، ويوم الخميس. فيغفر لكلّ عبد لا يشرك بالله شيئا إلّا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أنظروا هذين حتّى يصطلحا. أنظروا هذين حتّى يصطلحا. أنظروا هذين حتّى يصطلحا» ) * «8» .
13-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: كان النبيّ؟ يقول: «ربّ أعنّي ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ولا تمكر عليّ، واهدني ويسّر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليّ، ربّ
__________
(1) هذا جزء من حديث طويل رواه عمرو بن شعيب عن أبيه (محمد، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهم جميعا-) وقد أورده أحمد في المسند رقم (7033) بتحقيق الشيخ أحمد شاكر، الذي قال: إسناده صحيح، وروى أبو داود هذا الجزء من الحديث إلّا أنه زاد كلمة في «عمّيّا» قبل قوله «في غير ضغينة» انظر سنن أبي داود (4565) ، وقال محقق «جامع الأصول» (4/ 414) : وهو حديث حسن.
(2) سلامة الصدر هنا تعني خلوه من الكراهية والبغضاء وغير ذلك من أمراض القلب، ولما كانت النميمة تثير الصدر وتوغر القلب كانت كالعداوة في جلب الحقد وسببا من أسبابه، والقضاء عليها يقضي على سبب مهم من الأسباب التي تجلب الضغائن وتثير الأحقاد، ولذا جمع بينهما في الحديث رقم (4) .
(3) أبو داود (4860) ، وقال محقق جامع الأصول (8/ 452) : حديث صحيح.
(4) وجه ذكر الحديث هنا أن سلامة القلب تعني خلوه من الحقد والحسد والبغضاء والرياء وغيرها من كبائر الباطن.
(5) البخاري- الفتح 1 (52) واللفظ له، ومسلم (1599) .
(6) الأشر: المرح وقيل: هو البطر، والبطر: هو الطغيان في النعمة، والتناجش هو أن يزيد الرجل ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها.
(7) الحاكم في المستدرك (4/ 168) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
(8) مسلم (2565) .(10/4437)
اجعلني لك شكّارا، لك ذكّارا، لك رهّابا، لك مطواعا، لك مخبتا، إليك أوّاها منيبا، ربّ تقبّل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبّت حجّتي، وسدّد لساني، واهد قلبي، واسلل سخيمة صدري «1» » ) * «2» .
وانظر الأحاديث الواردة في ذمّ صفات: البغض- الحسد- الغل
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (الحقد)
1-* (قال: عثمان- رضي الله عنه- ما أسرّ أحد سريرة إلّا أظهرها الله- عزّ وجلّ- على صفحات وجهه وفلتات لسانه) * «3» .
2-* (قال زيد بن أسلم- رضي الله عنه-:
دخل على أبي دجانة وهو مريض، وكان وجهه يتهلّل، فقيل له: ما لوجهك يتهلّل؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلّم فيما لا يعنيني، أمّا الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليما) * «4» .
3-* (وقال قتادة- رضي الله عنه- في تفسير قوله تعالى: إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (محمد/ 37) : قد علم الله أنّ في سؤال الأموال خروج الأضغان) * «5» .
4-* (ذكر الذّهبيّ أنّ أبا إسحاق (الشيرازيّ) نزع عمامته- وكانت بعشرين دينارا- وتوضّأ في دجلة، فجاء لصّ فأخذها، وترك عمامة رديئة بدلها، فطلع الشيخ فلبسها، وما شعر حتّى سألوه وهو يدرّس، فقال: لعلّ الّذي أخذها محتاج «6» ) * «7» .
5-* (قال ابن كثير في قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (محمد/ 29) : والأضغان جمع ضغن وهو ما في النفوس من الحسد والحقد للإسلام وأهله
__________
(1) سخيمة صدري: غشه وحقده وغله.
(2) الترمذي (3551) واللفظ له، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجة (3830) .
(3) الآداب الشرعية 1/ 136.
(4) نزهة الفضلاء 1/ 42.
(5) تفسير القرطبي 16/ 257.
(6) ذكر صاحب نزهة الفضلاء هذه الحكاية تدليلا على سلامة الصدر والتماس العذر عند الفضلاء، ويقابل ذلك حقد الأشرار وإضمارهم العداوة لمن يؤذيهم.
(7) نزهة الفضلاء 3/ 1307.(10/4438)
والقائمين بنصره) * «1» .
6-* (قال ابن عقيل: للإيمان روائح ولوائح لا تخفى على اطّلاع مكلّف وذلك بالتّلمّح للمتفرّس، وقلّ أن يضمر مضمر شيئا إلّا وظهر مع الزّمان على فلتات لسانه وصفحات وجهه) * «2» .
7-* (قال الشيخ تقيّ الدين بن تيميّة- رحمه الله- معلّقا على الحديث «ألا إنّ فى الجسد مضغة ... » : أخبر؟ أنّ صلاح القلب مستلزم لصلاح سائر الجسد، وفساده مستلزم لفساده، فإذا رأى أحد ظاهر الجسد فاسدا غير صالح علم أنّ القلب ليس بصالح بل فاسد، ويمتنع فساد الظاهر مع صلاح الباطن كما يمتنع صلاح الظاهر مع فساد الباطن، إذ كان صلاح الظاهر وفساده ملازما لصلاح الباطن وفساده) * «3» .
8-* (قال: ابن القيّم- رحمه الله تعالى-: من أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهواته، إذ القلوب المتعلّقة بالشّهوات «4» محجوبة عن الله تعالى بقدر تعلّقها، القلوب آنية الله في أرضه، فأحبّها إليه أرقّها وأصلبها وأصفاها، وإذا غذّي القلب بالتّذكّر وسقي بالتّفكّر ونقّي من الدغل «5» رأى العجائب وألهم الحكمة) * «6» .
9-* (قال الغزاليّ: اعلم أنّ الحسد من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب فهو (أي الحسد) فرع فرعه، والغضب أصل أصله- أي أصل الحقد-) * «7» .
10-* (قال الشاعر:
بني عمّنا إنّ العداوة شأنها ... ضغائن تبقى في نفوس الأقارب)
* «8» .
11-* (قال عنترة:
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ... ولا ينال العلا من دأبه الغضب
) * «9» .
12-* (وقال عمرو بن كلثوم:
وإنّ الضغن بعد الضغن يفشو ... عليك ويخرج الداء الدفينا)
* «10» .
__________
(1) تفسير ابن كثير 4/ 194.
(2) الآداب الشرعية 1/ 136.
(3) الآداب الشرعية 1/ 136.
(4) من هذه الشهوات: شهوة الحقد المتعلقة بالانتقام من الخلق.
(5) الدغل: هو الفساد ويعني به فساد القلب من الغل والحقد ونحوهما.
(6) الفوائد (بتصرف) ص 134.
(7) إحياء علوم الدين 3/ 198.
(8) المستطرف 1/ 49.
(9) خلق المسلم للشيخ محمد الغزالي ص 93.
(10) ورد البيت في تفسير القرطبي 16/ 251.(10/4439)
من مضار (الحقد)
(1) الحقد يفضي إلى التنازع والتقاتل واستغراق العمر في غمّ وحزن.
(2) الحقد مرض عضال من أمراض القلب، يخشى معه أن يتسرّب الإيمان من هذا القلب المريض.
(3) الأحقاد نزغ من عمل الشيطان لا يستجيب له إلّا من خفّت أحلامهم وطاشت عقولهم.
(4) الحقد مصدر للعديد من الرذائل مثل الحسد والافتراء والبهتان والغيبة.
(5) في الحقد دليل على غباء صاحبه ووضاعته لأنّه ينظر إلى الأمور نظرة قاصرة لا تجاوز شهواته الخاصّة.
(6) الحقد يغضب الربّ عزّ وجلّ ويؤدّي بصاحبه إلى الخسران المبين في الدنيا والآخرة.
(7) الحاقد قلق النفس دائما لا يهدأ له بال طالما رأى نعمة الله يسعد بها سواه.
(8) الحاقد ساقط الهمّة، ضعيف النفس، واهن العزم، كليل اليد.
(9) الحاقد رجل مضلّل ضائع، مخطيء في تقديره فهو محصور التفكير في الدنيا ومتاعها ويتّبع بالغيظ من نال منها حظّا أوفر.
(10) الحاقد جاهل بربّه وبسننه في هذا الكون، لأنّ لله حكما قد لا تظهر فى التوّ واللحظة، وقد يكون ما ظنّه الحاقد نعمة فاتته وأدركت غيره مجرّد ابتلاء واختبار تجلب على صاحبها من العناء ما لا يطيقه الحاقد الّذي يتمنّاها.
(11) الحقد يظهر عيوب الإنسان ويكشف عن الداء الدفين فيه.(10/4440)
الحكم بغير ما أنزل الله
الحكم لغة:
انظر (الحكم بما أنزل الله) .
الحكم بغير ما أنزل الله اصطلاحا:
الحكم بغير ما أنزل الله يعني تحكيم القوانين الطاغوتيّة وتنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمّد صلّى الله عليه وسلّم في الحكم بين العالمين والردّ إليه عند تنازع المتنازعين «1» .
حكم من يحكم بغير ما أنزل الله:
قال الشيخ محمّد بن إبراهيم (رحمه الله) :-
من الممتنع أن يسمّي الله- سبحانه- الحاكم بغير ما أنزل الله، كافرا، ولا يكون كافرا، بل هو كافر مطلقا، إمّا كفر عمل، وإمّا كفر اعتقاد، وما جاء عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في تفسير هذه الآية، من رواية طاوس وغيره يدلّ أنّ الحاكم بغير ما أنزل الله كافر، إمّا كفر اعتقاد ناقل عن الملّة، وإمّا كفر عمل لا ينقل عن الملّة، أمّا القسم الأوّل وهو كفر الاعتقاد، فهو أنواع:
أحدها: أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقّيّة حكم الله ورسوله وهو معنى ما روي عن ابن
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
3/ 3/ 11
()
عبّاس، واختاره ابن جرير أنّ ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعيّ وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم.
الثاني: أن لا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كون حكم الله ورسوله حقّا، لكن اعتقد أنّ حكم غير الرسول صلّى الله عليه وسلّم أحسن من حكمه، وأتمّ وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع إمّا مطلقا أو بالنّسبة إلى ما استجدّ من الحوادث الّتي نشأت عن تطوّر الزمان وتغيّر الأحوال، وهذا أيضا لا ريب أنّه كفر، لتفضيله أحكام المخلوقين على حكم الحكيم الحميد.
الثالث: أنّه لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنّه مثله، فهذا كالنّوعين اللذين قبله، في كونه كافرا الكفر الناقل عن الملّة، لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة والمعاندة لقوله- عزّ وجلّ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (الشورى/ 11) .
الرابع: أن لا يعتقد كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلا لحكم الله ورسوله. فضلا عن أن
__________
(1) انظر رسالة تحكيم القوانين للشيخ محمد بن ابراهيم (ص 1) .(10/4441)
يعتقد كونه أحسن منه. لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله. فهذا كالّذي قبله يصدق عليه ما يصدق عليه. لاعتقاده جواز ما علم بالنّصوص الصحيحة الصريحة القاطعة تحريمه.
الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشّرع ومكابرة لأحكامه، ومشاقّة لله ولرسوله، وتشكيلا وتنويعا وحكما وإلزاما، ومراجع ومستندات، ويحملون على التحاكم إليه عند النزاع، بقاء على أحكام الجاهليّة، وإعراضا ورغبة عن حكم الله ورسوله فلا حول ولا قوّة إلّا بالله.
وأمّا القسم الثاني من قسمي الحاكم بغير ما أنزل الله، فهو مرويّ عن ابن عبّاس وذلك في قوله- رضي الله عنه- في الآية وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (المائدة/ 44) «كفر دون الكفر» وقوله أيضا «ليس بالكفر الّذي تذهبون إليه» وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضيّة بغيرها ومجانبة الهدى.
وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملّة، فإنّه معصية عظمى أكبر من الكبائر كالزّنا، وشرب الخمر، والسرقة واليمين الغموس وغيرها، فإنّها معصية لم يسمّها كفرا، نسأل الله أن يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه، انقيادا ورضاء فإنّه وليّ ذلك والقادر عليه «1» .
الحكم بغير ما أنزل الله ينافي الإيمان به سبحانه:
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز: إنّ التحاكم إلى الطواغيت والرؤساء والعرّافين ينافي الإيمان بالله عزّ وجلّ وهو كفر وظلم وفسق، وبعد أن استشهد على ذلك بآيات سورة المائدة «2» ، ذكر أنّ المولى سبحانه قد بيّن أنّ الحكم بغير ما أنزله هو حكم الجاهلين، وأنّ الإعراض عن حكمه- عزّ وجلّ- سبب في حلول عقابه وبأسه الّذي لا يردّ عن القوم الظالمين. قال تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ* أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (المائدة/ 49، 50) «3» .
[للاستزادة: انظر صفات: الابتداع- اتباع الهوى- الضلال- الفسوق- الكفر- الظلم- موالاة الكفار- الردة- العصيان.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الحكم بما أنزل الله- الإيمان- الإنصاف- العدل والمساواة- الولاء والبراء- الطاعة] .
__________
(1) انظر رسالة تحكيم القوانين للشيخ محمد بن إبراهيم (ص 1) وما بعدها.
(2) المائدة: 3
(3) انظر ما ذكره الشيخ بتمامه في صفة الحكم بما أنزل الله ج 5 ص 1709- 1714.(10/4442)
الآيات الواردة في «الحكم بغير ما أنزل الله»
1- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً (60) «1»
2- إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) «2»
3- وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49)
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) «3»
__________
(1) النساء: 60 مدنية
(2) المائدة: 44- 47 مدنية
(3) المائدة: 49- 50 مدنية(10/4443)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الحكم بغير ما أنزل الله)
1-* (عن المقدام بن شريح عن أبيه عن جدّه شريح عن أبيه هانىء أنّه لمّا وفد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع قومه سمعهم يكنّونه بأبي الحكم، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إنّ الله هو الحكم وإليه الحكم فلم تكنّى أبا الحكم؟» فقال: إنّ قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما أحسن هذا، فما لك من الولد» ؟ قال: لي شريح ومسلم وعبد الله، قال: «فمن أكبرهم» ؟ قلت:
شريح قال: «فأنت أبو شريح» ) * «1» .
2-* (عن عديّ بن حاتم قال: أتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال يا عديّ: اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (التوبة/ 31) قال: أما إنّهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنّهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئا استحلّوه، وإذا حرّموا عليهم شيئا حرّموه» ) * «2» .
3-* (عن الشعبيّ قال: كانت بين رجل ممّن يزعم أنّه مسلم، وبين رجل من اليهود خصومة، فقال اليهوديّ: أحاكمك إلى أهل دينك- أو قال: إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأنّه قد علم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يأخذ الرشوة في الحكم فاختلفا، فاتّفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة، قال: فنزلت: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني الّذي من الأنصار وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يعني اليهوديّ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ (النساء/ 60) إلى الكاهن) * «3» .
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (الحكم بغير ما أنزل الله)
1-* (عن طاووس وعطاء أنّهما قالا في قوله تعالى وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (المائدة/ 45) كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق) * «4» .
2-* (قال شيخ الإسلام ابن تيميّة في معنى قوله: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وهؤلاء الّذين اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا حيث أطاعوهم في تحليل ما حرّم الله، وتحريم ما أحلّ الله يكونون على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنّهم بدّلوا دين الله فيتّبعونهم على هذا التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرّم الله أو تحريم ما أحلّ الله، اتّباعا لرؤسائهم مع علمهم
__________
(1) أبو داود (4955) ، والنسائي (5387) . وقال المحدّث الألباني في تعليقه على «مشكاة المصابيح» رقم (4766) : إسناده جيد.
(2) الترمذي (3095) وحسّنه الألباني في غاية المرام (20) ، وانظر: جامع الأصول حاشية ص 161 مج 2.
(3) رواه ابن جرير (5/ 97) مرسلا، وابن كثير في تفسيره مج 2 ص 519 ويشهد له أيضا ما رواه ابن جرير (8/ 509- 511) في نسخة شاكر المحقق بسند قال عنه الحافظ ابن حجر: جيد.
(4) تفسير ابن كثير (2/ 64) .(10/4444)
أنّهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركا، وإن لم يكونوا يصلّون لهم، ويسجدون لهم، فكان من اتّبع غيره في خلاف للدّين، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله، مشركا مثل هؤلاء.
الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتا، لكنّهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعله المسلم من المعاصي الّتي يعتقد أنّها معاص. فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما قد ثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «إنّما الطاعة في المعروف» ثمّ ذلك المحرّم للحلال والمحلّل للحرام إن كان مجتهدا قصده اتّباع الرسول لكن خفي عليه الحقّ في نفس الأمر، وقد اتّقى الله ما استطاع، فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه، بل يثبته على اجتهاده الّذي أطاع به ربّه.
ولكن من علم أنّ هذا أخطأ فيما جاء به الرسول ثمّ اتّبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول، فهذا له نصيب من هذا الشرك الّذي ذمّه الله، ولا سيّما إن اتّبع في ذلك هواه ونصره باليد واللّسان، مع علمه أنّه مخالف للرّسول، فهذا شرك يستحقّ صاحبه العقوبة عليه) * «1» .
3-* (قال ابن تيميّة- رحمه الله-: وبما ذكرته في مسمّى الشريعة والحكم الشرعيّ يتبيّن أنّه ليس لإنسان أن يخرج عن الشريعة في شيء من أموره، بل كلّ ما يصلح له فهو في الشرع من أصوله وفروعه وأحواله وأعماله وسياسته ومعاملته وغير ذلك، والحمد لله ربّ العالمين.. وحقيقة الشريعة:
اتّباع الرسل، وطاعة الرسل هي دين الله الّذي أمر بالقتال عليه. وقال: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ (الأنفال/ 39) فعلى كلّ من الرعاة والرعية والرؤوس والمرؤوسين أن يطيع كلّ منهم الله ورسوله في حاله، ويلتزم شريعة الله الّتي شرعها له) * «2» .
4-* (قال ابن كثير- رحمه الله- في قوله تعالى فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ (المائدة/ 48) أي فاحكم يا محمّد بين الناس، عربهم وعجمهم، أمّيّهم وكتابيّهم، بما أنزل الله إليك من هذا الكتاب العظيم وبما قرّره لك من حكم من كان قبلك، من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك) * «3» .
5-* (قال الحافظ ابن كثير في قوله تعالى أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (المائدة/ 50) قال: ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كلّ خير، الناهي عن كلّ شرّ، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات الّتي وضعها الرجال، بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهليّة يحكمون به من الضلالات والجهالات، ممّا يضعونها بآرائهم
__________
(1) انظر: فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن (141، 142) .
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم (19/ 309) .
(3) تفسير ابن كثير (2/ 67) .(10/4445)
وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات المملكيّة المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الّذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتّى من اليهوديّة، والنصرانيّة والملّة الإسلاميّة وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرّد نظره وهواه. فصارت في بينه شرعا متّبعا يقدّمونه على الحكم بكتاب الله وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمن فعل ذلك فهو كافر، يجب قتاله، حتّى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكّم سواه في قليل ولا كثير) * «1» .
6-* (قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ (النساء/ 60) هذا إنكار من الله- عزّ وجلّ- على من يدّعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنّة رسوله كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنّها في رجل من الأنصار، ورجل من اليهود تخاصما فجعل اليهوديّ يقول: بيني وبينك محمّد وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف، وقيل في جماعة من المنافقين ممّن أظهروا الإسلام أرادوا أن يتحاكموا إلى حكّام الجاهليّة، وقيل غير ذلك، والآية أعمّ من ذلك كلّه فإنّها ذامّة لمن عدل عن الكتاب والسنّة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطّاغوت هنا) * «2» .
7-* (قال ابن كثير- رحمه الله- فمن ترك الشرع المحكم المنزّل على محمّد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدّمها عليه، من فعل ذلك فقد كفر بإجماع المسلمين) * «3» .
8-* (عن الحسن قال: «من حكم بغير حكم الله فحكم الجاهليّة» ) * «4» .
9-* (قال الشوكانيّ- رحمه الله- في قوله تعالى وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (النساء/ 58) والعدل هو فصل الحكومة على ما في كتاب الله سبحانه وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم لا الحكم بالرّأي المجرّد، فإنّ ذلك ليس من الحقّ في شيء إلّا إذا لم يوجد دليل تلك الحكومة في كتاب الله ولا في سنّة رسوله، فلا بأس باجتهاد الرأي من الحاكم الّذي يعلم بحكم الله سبحانه وبما هو أقرب إلى الحقّ عند عدم وجود النصّ، وأمّا الحاكم الّذي لا يدري بحكم الله ورسوله، ولا بما هو أقرب إليهما، فهو لا يدري ما هو العدل، لأنّه لا يعقل الحجّة إذا جاءته، فضلا عن أن يحكم بها بين عباد الله» «5» .
10-* (قال الشيخ أحمد شاكر: إنّ الأمر في هذه القوانين الوضعيّة واضح وضوح الشمس، هي
__________
(1) تفسير ابن كثير (2/ 68) .
(2) المرجع السابق (1/ 519) .
(3) البداية والنهاية (13/ 119) .
(4) تفسير ابن كثير (2/ 67) .
(5) فتح القدير للشوكاني (1/ 571) .(10/4446)
كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مداراة، ولا عذر لأحد ممّن ينتسب للإسلام- كائنا من كان- في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكلّ امريء حسيب نفسه» ) * «1» .
11-* (قال الطبريّ في قوله تعالى أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ... (المائدة/ 50) أي: أيبغي هؤلاء اليهود الّذين احتكموا إليك، فلم يرضوا بحكمك إذ حكمت فيهم بالقسط فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يعني أحكام عبدة الأوثان من أهل الشرك، وعندهم كتاب الله فيه بيان حقيقة الحكم الّذي حكمت به فيهم، وأنّه الحقّ الّذي لا يجوز خلافه) * «2» .
سلبيات ومضار (الحكم بغير ما أنزل الله)
1- استحقاق غضب الله وسخطه وحلول عقابه بمن خالف أمره ونهيه وتحاكم إلى غيره.
2- انحراف الشباب من الجنسين «الذكور والإناث» في سنّ مبكّرة، سواء في انغماسهم في الموبقات والشذوذ ورذيلة المخدّرات، الّتي أصبحت «ظاهرة» تقدّميّة تنفث سمومها في أذهان الشباب تحت ضجيج شعارات التطوّر والإنطلاق.
3- ظاهرة القلق والاكتئاب الّتي ترتّب عليها انتشار العيادات النفسيّة، كما ترتّب عليها ارتفاع نسبة الانتحار واستحالة النوم وذهاب الطمأنينة.
4- تلاشي أو انعدام الروح الفرديّة «الأنانيّة» تبعا لسيطرة الأفكار والنظم الوضعيّة القائمة أساسا على المنفعة الفرديّة.
5- تفكّك الأسرة وضعف الرابطة الأسريّة ممّا يترتّب عليه انعدام الشعور بالحنان والدفء والتكافل.
6- فقدان الإنسان للمقاييس الأساسيّة للحياة عن مفهومي الخير والشرّ والحسن والقبح، وبناؤه حياته على أساس قاعدة «التجربة والخطإ» أو الخوف من القانون والتحايل للتّهرّب من المسؤوليّة القانونيّة.
7- ينشأ الإنسان فاقد الولاء لمجتمعه الّذي يعيش فيه، والأنظمة الّتي تحكمه، حاقدا عليها، متمرّدا ظاهرا وباطنا على كلّ ما فيها. ما لم يكن منتفعا شخصيّا بتناقضاتها.
8- إنّ المجتمعات الّتي تعيش في ظلّ أنظمة وضعيّة من صنع البشر وترفض أو تحرم من نعمة تطبيق الشريعة الحنيفيّة السمحة (الإسلام) ، تفتقد الاستمرار والثبات وتظلّ في التأرجح والتذبذب في قوانينها ودساتيرها وتشريعاتها وذلك لأنّ الأنظمة الوضعيّة من صنع عقل الإنسان، وعقل الإنسان لا يصلح لأن يشرّع نظاما صحيحا كاملا.
__________
(1) عمدة التفسير للشيخ أحمد شاكر (2/ 172- 174) .
(2) جامع البيان (4/ 614) .(10/4447)
9- إذا عاش الناس في ظلّ الدساتير والقوانين الوضعيّة، فإنّهم لا يحترمونها ولا يحملون لها الولاء؛ لأنّها من وضع بشر مثلهم، ولكنّهم يحترمون القوانين المنبثقة من عقيدتهم، لأنّها جزء لا يتجزّأ منهم وهم يتعبّدون بتطبيق أحكامها في المعاملات بينهم.
10- إذا عاش الناس في ظلّ الدساتير والقوانين الوضعيّة فإنّهم لا يمتنعون عن المنهيّات والمحظورات للأشياء الضارّة بصحّتهم وممتلكاتهم الشخصيّة أو الممتلكات العامّة للدّولة، كالقمار والخمر والمخدّرات والزنا وغيرها من الأمور الّتي حظرها ونهى عنها الإسلام والشرائع السماويّة.
11- إذا عاش الناس في ظلّ الدساتير والقوانين الوضعيّة فإنّ الحوادث والجرائم تكثر بشكل مذهل وبنسبة عظيمة متزايدة عاما بعد عام وهذا ما يلمس واضحا من واقع أرقام الإحصائيّات الرسميّة للجرائم والجنايات في الأقطار والبلاد بتلك الأنظمة والقوانين.
12- انتشار المبادىء والمعتقدات والأفكار الهدّامة من شيوعيّة ورأسماليّة وغيرها، لأنّ المواطنين لم يكونوا محصّنين ضدّها بالعقيدة الصحيحة ولا يطبّق عليهم النظام الربّانيّ الصحيح للحياة الّذي يعيشون في ظلّه سعداء.(10/4448)
الحمق
الحمق لغة:
مصدر قولهم: حمق فلان، وهو مأخوذ من مادّة (ح م ق) الّتي تدلّ على كساد الشيء والضعف والنقصان. ومن ذلك الحمق: نقصان العقل، وقال الجوهريّ: الحمق، والحمق: قلّة العقل، يقال: حمق الرجل حمقا وحمقا وحماقة فهو أحمق، وحمق بالكسر يحمق حمقا فهو حمق، وامرأة حمقاء، وقوم ونسوة حمق وحمقى، وحماقى، وحمقت السوق: كسدت. وأحمقت المرأة: جاءت بولد أحمق فهي محمق ومحمقة، وأحمقت الرجل: وجدته أحمق، وحمّقته تحميقا نسبته إلى الحمق، وحامقته ساعدته على الحمق. وتحامق: تكلّف الحمق، واستحمقته: عددته أحمق. وقال ابن الأثير: استحمق الرجل إذا فعل فعل الحمقى، ومنه الحديث «أرأيت إن عجز واستحمق» ، والحموقة: فعولة من الحمق وفي الحديث «ينطلق أحدكم فيركب الحموقة» أى خصلة ذات حمق، وبمعناها: الأحموقة.
وقال ابن منظور: الحمق ضدّ العقل، وقولهم:
أتاه فأحمقه: وجده أحمق، وأحمق به: ذكره بحمق، وأمّا
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
3/ 5/ 28
قول الشاعر:
إنّ للحمق نعمة في رقاب ال ... نّاس تخفى على ذوي الألباب
فمعناه: أنّ للحمق نعمة في رقاب العقلاء تغيب وتخفى على غيرهم من سائر الناس لأنّهم أفطن وأذكى من غيرهم، ويقال: سرنا في ليال محمقات، إذا استتر القمر فيها بغيم أبيض فيسير الراكب ويظنّ أنّه قد أصبح، حتّى يملّ، ومنه أخذ اسم الأحمق لأنّه يغرّك في أوّل مجلسه بتعاقله، فإذا انتهى إلى آخر كلامه تبيّن حمقه، وقال ابن الأعرابيّ: الحمق أصله الكساد، ويقال: الأحمق: الكاسد العقل، قال: والحمق أيضا الغرور، وقال الأزهريّ: الأحمق مأخوذ من انحماق السوق إذا كسدت، فكأنّه فسد عقله حتّى كسد «1» .
واصطلاحا:
قال ابن حجر- رحمه الله-: الحمق وضع الشيء في غير موضعه مع العلم بقبحه «2» .
وقال النوويّ- رحمه الله-: حقيقة الأحمق:
من يعمل ما يضرّه مع علمه بقبحه «3» .
__________
(1) مقاييس اللغة (2/ 106) ، الصحاح (4/ 1465) ، والنهاية (1/ 442) ، وتهذيب اللغة (4/ 85) ، واللسان (2/ 1000) (ط دار المعارف.
(2) فتح الباري: 1/ 557. وكذا في لسان العرب (10/ 68) .
(3) صحيح مسلم بشرح النووي (18/ 136) .(10/4449)
وقال ابن الأثير: حقيقة الحمق: وضع الشيء في غير موضعه مع العلم بقبحه «1» .
وقال المناويّ: الحمق فساد في العقل «2» .
الفرق بين الحمق والجنون:
قال ابن الجوزيّ- رحمه الله-: الحمق: هو الغلط في الوسيلة والطريق إلى المطلوب مع صحّة المقصود، بخلاف الجنون، فإنّه عبارة عن الخلل في الوسيلة والمقصود جميعا. فمن ذلك: أنّ طائرا طار من أمير فأمر أن تغلق أبواب المدينة. فمقصود هذا الرجل حفظ الطائر، ولكنّه أخطأ في الوسيلة «3» .
[للاستزادة: انظر صفات: الجهل- السفاهة الطيش- الغرور- الفساد- التبذير- الجفاء- البلادة والغباء- العنف.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الحكمة- الفطنة- الفقه- الحلم- كظم الغيظ- العطف] .
__________
(1) النهاية لابن الأثير (1/ 442) .
(2) التوقيف على مهمات التعاريف (147) .
(3) أخبار الحمقى (27) .(10/4450)
الآيات الواردة في «الحمق» معنى
1- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) «1»
2- وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) «2»
3- أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) «3»
__________
(1) البقرة: 8- 20 مدنية
(2) الأعراف: 179 مكية
(3) الفرقان: 43- 44 مكية(10/4451)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الحمق)
1-* (عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: أخذ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيد عبد الرّحمن بن عوف؛ فانطلق به إلى ابنه إبراهيم؛ فوجده يجود بنفسه؛ فأخذه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فوضعه في حجره فبكى فقال له عبد الرّحمن:
أتبكي؟ أو لم تكن نهيت عن البكاء؟. قال «لا؛ ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند مصيبة، خمش وجوه وشقّ جيوب ورنّة شيطان» ) * «1» .
وفي الحديث كلام أكثر من هذا.
2-* (عن الأسود بن سريع- رضي الله عنه- أنّ نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أربعة يوم القيامة: رجل أصمّ لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة. فأمّا الأصمّ فيقول: لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأمّا الأحمق فيقول: يا ربّ لقد جاء الإسلام والصّبيان يحذفوني بالبعر، وأمّا الهرم فيقول:
يا ربّ لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا وأمّا الّذي مات في فترة فيقول: ما أتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنّه فيرسل إليهم أن ادخلوا النّار فو الّذي نفسي بيده لو دخلوها كانت عليهم بردا وسلاما» ) * «2» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (الحمق) معنى
3-* (عن عائشة- رضي الله عنها- قالت:
جلس إحدى عشرة امرأة. فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهنّ شيئا. قالت الأولى:
زوجي لحم جمل غثّ «3» . على رأس جبل وعر.
لا سهل فيرتقى؛ ولا سمين فينتقل. قالت الثّانية:
زوجي لا أبثّ خبره «4» . إنّي أخاف أن لا أذره. إن أذكره أذكر عجره. وبجره «5» . قالت الثّالثة: زوجي العشنّق «6» . إن أنطلق أطلّق. وإن أسكت أعلّق.
قالت الرّابعة: زوجي كليل تهامة «7» لا حرّ ولا قرّ.
ولا مخافة ولا سآمة. قالت الخامسة: زوجي إن
__________
(1) الترمذي (1005) واللفظ له وقال: هذا حديث حسن. وفي بعض النسخ حسن صحيح. وقال محقق جامع الأصول (11/ 106) أصل الحديث وأوله في الصحيحين من حديث أنس.
(2) أخرجه أحمد (4/ 24) والطبراني (841) والبيهقي في الاعتقاد (169) والبزار (2174) وابن حبان في صحيحه (7357) وذكره الهيثمي في «المجمع» (7/ 216) وقال: رجال أحمد في طريق الأسود بن سريع وأبي هريرة رجال صحيح.
(3) غث: قال أبو عبيد وسائر أهل الغريب والشرح: المراد بالغث المهزول.
(4) لا أبث خبره: أي لا أنشره وأشيعه.
(5) عجره وبجره: المراد بهما عيوبه.
(6) زوجي العشنق: العشنق هو الطويل. ومعناه ليس فيه أكثر من طول بلا نفع.
(7) زوجي كليل تهامة: هذا مدح بليغ. ومعناه ليس فيه أذى بل هو راحة ولذاذة عيش كليل تهامة.(10/4452)
دخل فهد «1» وإن خرج أسد. ولا يسأل عمّا عهد.
قالت السادسة: زوجي إن أكل لفّ «2» وإن شرب اشتفّ. وإن اضطجع التفّ. ولا يولج الكفّ ليعلم البثّ. قالت السّابعة: زوجي غياياء أو عياياء «3» .
طباقاء. كلّ داء له دواء. شجّك «4» أو فلّك أو جمع كلّا لك. قالت الثّامنة: زوجي الرّيح ريح زرنب «5» والمسّ مسّ أرنب. قالت التّاسعة: زوجي رفيع العماد «6» طويل النّجاد عظيم الرّماد. قريب البيت من النّاد. قالت العاشرة: زوجي مالك. وما مالك «7» ؟
مالك خير من ذلك. له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح وإذا سمعن صوت المزهر «8» أيقنّ أنّهنّ هوالك. قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع. فما أبو زرع؟ أناس من حليّ أذنيّ «9» وملأ من شحم عضديّ. وبجّحني فبجحت إليّ نفسي «10» وجدني في أهل غنيمة بشقّ. فجعلني في أهل صهيل وأطيط، ودائس ومنقّ. فعنده أقول فلا أقبّح. وأرقد فأتصبّح، وأشرب فأتقنّح. أمّ أبي زرع. فما أمّ أبي زرع؟
عكومها رداح «11» وبيتها فساح. ابن أبي زرع. فما
__________
(1) زوجي إن دخل فهد: هذا أيضا مدح. فقولها فهد، تصفه إذا دخل البيت بكثرة النوم والغفلة في منزله عن تعهد ما ذهب من متاعه وما بقي. وشبهته بالفهد لكثرة نومه. يقال أنوم من فهد. وهو معنى قولها ولا يسأل عما عهد. أي لا يسأل عما كان عهده في البيت من ماله ومتاعه. وإذا خرج أسد وهو وصف له بالشجاعة. ومعناه إذا صار بين الناس أو خالط الحرب كان كالأسد. يقال: أسد واستأسد.
(2) زوجي إن أكل لف: قال العلماء: اللف في الطعام الإكثار منه مع التخليط من صنوفه حتى لا يبقى منها شيء. والاستشفاف في الشراب: أي يستوعب جميع ما في الإناء.
(3) زوجي غياياء أو عياياء: وهو الذي لا يلقح وقيل هو العنين الذي تعييه مباضعة النساء ويعجز عنها. وقال القاضي وغيره: غياياء، بالمعجمة، صحيح وهو مأخوذ من الغياية وهي الظلمة وكل ما أظل الشخص. ومعناه لا يهتدي إلى مسلك. وقيل هو الغبي الأحمق الفدم.
(4) شجك: أي جرحك في الرأس. فالشجاج جراحات الرأس، والجراح فيه وفي الجسد.
(5) زوجي الريح ريح زرنب: الزرنب نوع من الطيب معروف قيل أرادت طيب ريح جسده. وقيل طيب ثيابه في الناس.
(6) زوجي رفيع العماد: قيل إن بيته الذي يسكنه رفيع العماد ليراه الضيفان وأصحاب الحوائج فيقصدوه. وهكذا بيوت الأجواد
(7) زوجي مالك وما مالك: معناه أن له إبلا كثيرا. فهي باركة بفنائه. لا يوجهها تسرح إلا قليلا. فإذا نزل به الضيفان كانت الإبل حاضرة فيقريهم من ألبانها ولحومها.
(8) المزهر: هو العود الذي يضرب. أرادت أن زوجها عود إبله، إذا نزل به الضيفان، نحر لهم منها وأتاهم بالعيدان والمعازف والشراب. فإذا سمعت الإبل صوت المزهر علمن أنه قد جاءه الضيفان، وأنهن منحورات هوالك.
(9) أناس من حلي أذني: الحلي بضم الحاء وكسرها، لغتان مشهورتان. والنوس الحركة من كل شيء متدل فهي تنوس أي تتحرك من كثرتها.
(10) وبجحني فبجحت إلي نفسي: بجحت بكسر الجيم وفتحها لغتان مشهورتان أفصحهما الكسر. قال الجوهري: الفتح ضعيفة. ومعناه فرحني ففرحت. وقال ابن الأنباري: وعظمني فعظمت عند نفسي. يقال فلان يتبجح بكذا أي يتعظم ويفتخر.
(11) عكومها رداح: قال أبو عبيد وغيره: العكوم الأعدال والأوعية التي فيها الطعام والأمتعة.(10/4453)
ابن أبي زرع؟ مضجعه كمسلّ شطبة «1» . ويشبعه ذراع الجفرة «2» . بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع؟ طوع أبيها وطوع أمّها. وملء كسائها وغيظ جارتها.
جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع؟ لا تبثّ حديثنا تبثيثا «3» ، ولا تنقّث ميرتنا تنقيثا «4» ، ولا تملأ بيتنا تعشيشا. قالت: خرج أبو زرع والأوطاب تمخض.
فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين. يلعبان من تحت خصرها برمّانتين. فطلّقني ونكحها. فنكحت بعده رجلا سريّا ركب شريّا. وأخذ خطّيّا. وأراح عليّ نعما ثريّا. وأعطاني من كلّ رائحة زوجا. قال: كلي أمّ زرع وميري أهلك. فلو جمعت كلّ شيء أعطاني ما بلغ أصغر آنية أبي زرع. قالت عائشة: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كنت لك كأبي زرع لأمّ زرع» ) * «5» .
4-* (عن أبي ذرّ- رضي الله عنه- قال «سألت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أيّ العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله وجهاد في سبيله. قلت: فأيّ الرّقاب أفضل؟
قال: أعلاها ثمنا، وأنفسها عند أهلها: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين ضائعا، أو تصنع لأخرق «6» . قال:
فإن لم أفعل؟ قال: تدع النّاس من الشّرّ، فإنّها صدقة تصّدّق بها على نفسك» ) * «7» .
5-* (عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل نكحت يا جابر؟ قلت: نعم. قال: ماذا؟ أبكرا أم ثيّبا؟ قلت:
لا. بل ثيّبا. قال: «فهلّا جارية تلاعبك» . قلت:
يا رسول الله، إنّ أبي قتل يوم أحد وترك تسع بنات كنّ لي تسع أخوات، فكرهت أن أجمع إليهنّ جارية خرقاء «8» مثلهنّ، ولكن امرأة تمشّطهنّ وتقوم عليهنّ.
قال: «أصبت» ) * «9» .
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (الحمق)
1-* (تلا عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- هذه الآية ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟ قال: الحمق يا ربّ» ) * «10» .
2-* (وقال عليّ- رضي الله عنه-: «ليس من أحد إلّا وفيه حمقة فبها يعيش» ) * «11» .
3-* (عن مجاهد، قال: كنت عند ابن
__________
(1) مضجعه كمسل شطبة: مرادها أنه مهفهف خفيف اللحم كالشطبة وهو مما يمدح به الرجل. والشطبة ما شطب من جريد النخل، أي شق. وهي السعفة.
(2) وتشبعه ذراع الجفرة: الذراع مؤنثة وقد تذكّر. والجفرة الأنثى من أولاد المعز. وقيل من الضأن. وهي ما بلغت أربعة اشهر وفصلت عن أمها. والذكر جفر. لأنه جفر جنباه، أي عظما. والمراد أنه قليل الأكل. والعرب تمدح به.
(3) لا تبث حديثنا تبثيثا: أي لا تشيعه وتظهره، بل تكتم سرنا وحديثنا كله.
(4) ولا تنقث ميرتنا تنقيثا: الميرة الطعام المجلوب. ومعناه لا تفسده ولا تفرقه ولا تذهب به. ومعناه وصفها بالأمانة.
(5) البخاري- الفتح 9 (5189) . ومسلم (2448) واللفظ له.
(6) الأخرق: الأحمق.
(7) البخاري- الفتح 5 (2518) واللفظ له. ومسلم (84) .
(8) خرقاء: حمقاء.
(9) البخاري- الفتح 7 (4052) .
(10) أخبار الحمقى (25) .
(11) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.(10/4454)
عبّاس، فجاء رجل فقال: إنّه طلّق امرأته ثلاثا. قال:
فسكت حتّى ظننت أنّه رادّها إليه. ثمّ قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثمّ يقول: يا ابن عبّاس،، يا ابن عبّاس، وإنّ الله قال وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وإنّك لم تتّق الله فلم أجد لك مخرجا، عصيت ربّك وبانت منك امرأتك، وإنّ الله قال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ في قبل عدّتهنّ» ) * «1» .
4-* (عن عكرمة قال: «صلّيت خلف شيخ بمكّة، فكبّر ثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لابن عبّاس: إنّه أحمق، فقال: ثكلتك أمّك، سنّة أبي القاسم صلّى الله عليه وسلّم» «2» ) * «3» .
5-* (عن أنس بن سيرين، قال: سمعت ابن عمر قال: «طلّق ابن عمر امرأته وهي حائض، فذكر عمر للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ليراجعها» قلت:
تحتسب؟ قال: «فمه» ؟ وعن قتادة عن يونس بن جبير عن ابن عمر قال: «مره فليراجعها» قلت: تحتسب؟
قال: أرأيته إن عجز واستحمق» ) * «4» .
6-* (عن محمّد بن المنكدر؛ قال: صلّى جابر في إزار قد عقده من قبل قفاه وثيابه موضوعة؟
على المشجب. قال له قائل: تصلّي في إزار واحد؟
فقال: إنّما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك. وأيّنا كان له ثوبان على عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟» ) * «5» .
7-* (قال عمر بن عبد العزيز: «ما عدمت من الأحمق فلن تعدم خلّتين: سرعة الجواب، وكثرة الالتفات» ) * «6» .
8-* (قال الأصمعيّ: «إذا أردت أن تعرف عقل الرّجل في مجلس واحد فحدّثه بحديث لا أصل له، فإن رأيته أصغى إليه وقبله فاعلم أنّه أحمق، وإن أنكره فهو عاقل) * «7» .
9-* (وقال جعفر الصّادق: «الأدب عند الأحمق كالماء في أصول الحنظل، كلّما ازداد ريّا زاد مرارة» ) * «8» .
10-* (قال ابن أبي زياد: قال لي أبي: «يا بنيّ الزم أهل العقل، وجالسهم، واجتنب الحمقى، فإنّي ما جالست أحمق فقمت إلّا وجدت النّقص في عقلي» ) * «9» .
11-* (وعن مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير قال: «لو حلفت لرجوت أن أبرّ أنّه ليس أحد من النّاس إلّا وهو أحمق فيما بينه وبين الله- عزّ وجلّ-:
غير أنّ بعض الحمق أهون من بعض» ) * «10» .
__________
(1) أبو داود (2197) . وقال الألباني (2/ 414) : صحيح.
(2) وذلك في صلاة الظهر وبذلك يصح عدد التكبير الذي ذكره لأن في كل ركعة خمس تكبيرات فيتبع في الرباعية عشرون تكبيرة وتكبيرة الافتتاح والقيام من التشهد الأول. (انظر الفتح 2/ 318) .
(3) البخاري- الفتح 2 (788) .
(4) البخاري- الفتح 9 (5252) واللفظ له ومسلم (1471) . ورد هذا الأثر في سياقه حديث والمقصود الاستشهاد بالأثر.
(5) البخاري- الفتح 1 (352) .
(6) أخبار الحمقى (34) .
(7) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(8) المرجع السابق (23) .
(9) المرجع السابق (36) .
(10) المرجع السابق (26) .(10/4455)
12- قال أبو حاتم بن حيّان الحافظ: «علامة الحمق سرعة الجواب، وترك التّثبّت، والإفراط في الضّحك، وكثرة الالتفات، والوقيعة في الأخيار، والاختلاط بالأشرار، والأحمق إن أعرضت عنه أعتم «1» . وإن أقبلت عليه اغترّ، وإن حلمت عنه جهل عليك، وإن أحسنت إليه أساء إليك.
ويظلمك إن أنصفته» ) * «2» .
13-* (يروى عن الأحنف بن قيس أنّه قال: «قال الخليل بن أحمد: النّاس أربعة: رجل يدري ويدري أنّه يدري، فذاك عالم فخذوا عنه، ورجل يدري وهو لا يدري أنّه يدري، فذاك ناس فذكّروه، ورجل لا يدري وهو يدري أنّه لا يدري فذاك طالب فعلّموه، ورجل لا يدري ولا يدري أنّه لا يدري فذاك أحمق فارفضوه» ) * «3» .
14-* (عن أبي إسحاق؛ قال: «إذا بلغك أنّ غنيّا افتقر فصدّق، وإذا بلغك أنّ فقيرا استغنى فصدّق، وإذا بلغك أنّ حيّا مات فصدّق، وإذا بلغك أنّ أحمق استفاد عقلا فلا تصدّق» ) * «4» .
15-* (قيل لإبراهيم النّظّام: ما حدّ الحمق؟
فقال: سألتني عمّا ليس له حدّ» ) * «5» .
16-* (عن الأوزاعيّ أنّه قال: «بلغني أنّه قيل لعيسى ابن مريم عليهما السّلام: يا روح الله إنّك تحيي الموتى؟ قال: نعم. بإذن الله. قيل: وتبرأ الأكمه؟
قال: نعم. بإذن الله. قيل: فما دواء الحمق؟ قال: هذا الّذي أعياني» ) * «6» .
17-* (وقد نظم هذا المعنى بعضهم فقال:
لكلّ داء دواء يستطبّ به ... إلّا الحماقة أعيت من يداويها
) * «7» .
18-* (روى أبو الحسن محمّد بن هلال الصّابيء قال: «خرج قوم من الدّيلم إلى إقطاعهم فظفروا باللّصّ المعروف بالعراقيّ فحملوه إلى الوزير أبي عبد الله المهلّبيّ، فأمر بإحضار أبي الحسين أحمد بن محمّد القزوينيّ الكاتب، وكان ينظر في شرطة بغداد فقال له الوزير: هذا اللّصّ العيّار العراقيّ الّذي عجزتم عن أخذه فخذه واكتب خطّك بتسليمه، فقال: السّمع والطّاعة إلى ما يأمر به الوزير ولكنّك تقول ثلاثة وهذا واحد، فكيف أكتب خطّي بتسليم ثلاثة؟ فقال: يا هذا، هذا العدد صفة لهذا الواحد، فكتب يقول: أحمد بن محمّد القزوينيّ الكاتب.
تسلّمت من حضرة الوزير اللّصّ العيّار العراقيّ ثلاثة وهم واحد رجل، وكتب بخطّه في التّاريخ، فضحك الوزير وقال لنصرانيّ هناك: قد صحّح القزوينيّ مذهبكم في تسليم هذا اللّصّ» ) * «8» .
19-* (عن عبد الله بن إبراهيم الموصليّ قال:
__________
(1) أعتم: بمعنى عبس.
(2) أخبار الحمقى (35) .
(3) المرجع السابق (36) .
(4) أخبار الحمقى (23) .
(5) المرجع السابق (25) .
(6) المرجع السابق (23) .
(7) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(8) المرجع السابق (98) .(10/4456)
«نابت الحجّاج في صديق له مصيبة ورسول لعبد الملك شاميّ عنده، فقال الحجّاج: ليت إنسانا يعزّيني بأبيات، فقال الشّاميّ: أقول؟ قال: قل، فقال: (وكلّ خليل سوف يفارق خليلا، يموت أو يصاب أو يقع من فوق البيت أو يقع البيت عليه أو يقع في بئر أو يكون شيئا لا نعرفه) فقال الحجّاج: قد سلّيتني عن مصيبتي بأعظم منها في أمير المؤمنين إذ وجّه مثلك لي رسولا» ) * «1» .
20-* (عن أبي بكر النّقّاش قال: قيل لعبد الله بن مسعود القاضي، تجيز شهادة العفيف التّقيّ الأحمق؟ قال: لا، وسأريكم هذا، ادع يا غلام أبا الورد حاجبي وكان أحمق. فلمّا أتاه، قال: اخرج فانظر ما الرّيح؟ فخرج ثمّ رجع فقال: شمال يشوبها جنوب، فقال: كيف ترون؟ أتروني أجيز شهادة مثل هذا؟
قال: وقد ذكر مثل هذه الحكاية ابن قتيبة» ) * «2» .
21-* (نظر بعض الحكماء إلى أحمق جالس على حجر فقال: حجر على حجر) * «3» .
22-* (قال بعضهم: العاقل المحروم خير من الأحمق المرزوق» ) * «4» .
23-* (يقال: فلان ذو حمق وافر وعقل نافر، ليس معه من العقل إلّا ما يوجب حجّة الله عليه) * «5» .
24-* (مرّ بعض الأمراء على بيّاع ثلج فقال:
أرني ما عندك، فكسر له قطعة وناوله إيّاها، فقال: أريد أبرد من هذا فكسر له من الجانب الآخر، فقال: كيف سعر هذا؟ فقال: رطل بدرهم ومن الأوّل رطل ونصف بدرهم، فقال: زن من الثّاني» ) * «6» .
25-* (وممّن اشتهر من الحمقى عجل بن لجيم بن بكر بن وائل، من حمقه أنّه قيل له: ما سمّيت فرسك؟ فقام إليه ففقأ إحدى عينيه وقال: سمّيته الأعور. قال العنزيّ:
رمتني بنو عجل بداء أبيهم ... وأيّ امرىء في النّاس أحمق من عجل
أليس أبوهم عار عين جواده ... فصارت به الأمثال تضرب بالجهل
) * «7» .
ومنهم أزهر الحمار. وقد قدم على الأمير عمرو رسول من عند السّلطان، فأحضر أزهر على مائدته، فقيل لأزهر: جمّلنا بسكوتك اليوم، فسكت طويلا، ثمّ لم يصبر فقال: بنيت في القرية برجا ارتفاعه ألف خطوة، فأومأ إليه حاجبه أن اسكت، فقال له الرّسول: في عرض كم؟ قال: في عرض خطوة، فقال له الرّسول: ما كان ارتفاعه ألف خطوة لا يكفي عرضه خطوة قال: أردت أن أزيد فيه فمنعني هذا الواقف» ) * «8» .
26-* (قال بعض الحكماء: «من أخلاق
__________
(1) المرجع السابق (107) .
(2) المرجع السابق (106) .
(3) المستطرف (1/ 27) .
(4) المرجع السابق (1/ 25) .
(5) المرجع السابق (1/ 27) .
(6) أخبار الحمقى (99) .
(7) المرجع السابق (43) .
(8) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.(10/4457)
الأحمق: إن استغنى بطر، وإن افتقر قنط، وإن فرح أشر، وإن قال فحش، وإن سئل بخل، وإن سأل ألحّ، وإن قال لم يحسن، وإن قيل له لم يفقه، وإن ضحك نهق وإن بكى خار» ) * «1» .
27-* (وقال آخر: «مؤنة العاقل على نفسه ومؤنة الأحمق على النّاس، ومن لا عقل له فلا دنيا له ولا آخرة» ) * «2» .
28-* (أنشد بعضهم:
اتّق الأحمق أن تصحبه ... إنّما الأحمق كالثّوب الخلق
كلّما رقّعت منه جانبا ... خرقته الرّيح وهنا فانخرق
أو كصدع في زجاج فاحش ... هل ترى صدع زجاج يرتتق
كحمار السّوق إن أقضمته ... رمح النّاس وإن جاع نهق
أو غلام السّوء إن أسغبته «3» ... سرق النّاس وإن يشبع فسق
وإذا عاتبته كي يرعوي ... أفسد المجلس منه بالخرق
) * «4» .
من مضار (الحمق)
(1) الأحمق كاسد العقل والرّأي لا يحسن شيئا.
(2) مجالسة الحمقى ومصاحبتهم تعدي.
(3) الاغترار بالله عزّ وجلّ.
(4) سرعة الانفعال والتّدخّل في شئون النّاس.
(5) الخفّة وسرعة الجواب من غير رويّة.
(6) الحمق شرّ كلّه فيجب اجتنابه.
(7) الأحمق عدوّ نفسه لما يسبّب لنفسه من الضّرر.
__________
(1) أخبار الحمقي (35) .
(2) المرجع السابق (37) .
(3) أسغبته: أجعته.
(4) أخبار الحمقى (38) .(10/4458)
[حرف الخاء]
الخبث
الخبث لغة:
الخبث هو المكروه الرّديء من كلّ شيء، ومنه الخبيث ضدّ الطّيّب، يقول ابن فارس: الخاء والباء والثّاء أصل واحد يدلّ على خلاف الطّيّب، يقال خبيث، أي ليس بطيّب ... ومن ذلك التّعوّذ من الخبيث. فالخبيث في نفسه، والمخبث الّذي أصحابه وأعوانه خبثاء «1» . وقال الرّاغب: أصل الخبيث:
الرّديء الدّخلة الجاري مجرى خبث الحديد، وذلك يتناول الباطل في الاعتقاد والكذب في المقال والقبيح في الفعال.
وخبث الرّجل خبثا فهو خبيث، أي رديء، وأخبثه غيره، أي علّمه الخبث وأفسده. ويقال في النّداء: يا خبث، كما يقال: يا لكع، تريد: يا خبيث، وللمرأة يا خباث، بني على الكسر مثل يا لكاع..
وخبث الحديد وغيره: ما نفاه الكير.
الخبائث في قوله تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ (الأعراف/ 157) ، ما لا يوافق النّفس من المحظورات، والخبائث (أيضا) كناية عن إتيان الرّجال، والأخبثان: البول والغائط وفي الحديث: «لا
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
10/ 22/ 6
يصلّي الرّجل، وهو يدافع الأخبثين» . وقد خبث بها ككرم أي فجر، وفي الحديث: «إذا كثر الخبث كان كذا وكذا» أراد الفسق والفجور، والخابثة، الخباثة، والخبّيث- كسكّيت- الرّجل الكثير الخبث، والخبّيثى بكسر وتشديد الباء: اسم الخبث، من أخبث إذا كان أهله خبثاء.. وفى الحديث « ... اللهمّ إنّي أعوذ بك من الخبث والخبائث» فالمراد بالخبث الكفر، والخبائث:
الشّياطين، والخبيث: نعت كلّ شيء فاسد، يقال: هو خبيث الطّعم خبيث اللّون خبيث الفعل ... وكلام خبيث، وهي أخبث اللّغتين، يراد الرّداءة والفساد وأنا استخبثت هذه اللغة، وكلّ ذلك من المجاز، وقول الله تعالى: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ (المائدة/ 100) معناه الكافر والمؤمن، والأعمال الصّالحة والأعمال الفاسدة «2» .
وجاء في لسان العرب أنّ أصل الخبث في كلام العرب: المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشّتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطّعام فهو الحرام، وإن كان من الشّراب فهو الضّارّ.
والخبيث ضدّ الطّيّب من الرّزق والولد والنّاس
__________
(1) المقاييس (2/ 238) .
(2) لسان العرب (2/ 1087- 1090) والصحاح (1/ 281) وتاج العروس (3/ 203) .(10/4459)
ويجمع على خبثاء وخباث وخبثة، والأنثى منه خبيثة وجمعها خبيثات، والخبيث أيضا النّجس، والمخبث الّذي يعلّم النّاس الخبث، أو هو الّذي ينسب النّاس إلى الخبث أو المراد أنّ أعوانه وأصحابه خبثاء، ولذلك يقال: أخبث الرّجل أي اتّخذ أصحابا خبثاء. ويقال:
خبث الرّجل بالمرأة إذا زنى بها من باب قتل، والخابث الرّديء من كلّ شيء فاسد فيقال: هو خبيث الطّعم واللّون والفعل، ولذلك فإنّ كلّ حرام بحت خبيث كالزّنا والمال الحرام والدّم وما أشبهها ممّا حرّمه الله تعالى، كما يطلق أيضا على الشّيء الكريه الطّعم والرّائحة كالثّوم والبصل والكرّاث. والمراد بالخبائث في آية الأعراف: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ...
الأعراف/ 157) كلّ ما كانت تستقذره العرب ولا تأكله مثل الأفاعي والعقارب والبرصة والخنافس والورلان والفأر، فحرّم ربّنا عزّ وجلّ كلّ ما كانت تستقذره مع ما نصّ على تحريمه كالميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله عند الذّبح وأكل كلّ ذي ناب من السّباع وكلّ ذي مخلب من الطّير «1» .
الخبث اصطلاحا:
قال الجاحظ: الخبث: هو إضمار الشّرّ للغير وإظهار الخير له واستعمال الغيلة والمكر والخديعة في المعاملات «2» .
وقال الكفويّ والمناويّ: الخبيث: ما يكره رداءة وخسّة محسوسا أو معقولا وذلك يتناول الباطل في الاعتقاد والكذب في المقال، والقبح في الأفعال «3» .
مقتضيات الخبث:
قال ابن الأثير- رحمه الله تعالى- في معنى حديث: نهى عن كلّ دواء خبيث- وخبثه من جهتين:
إحداهما: النّجاسة، وهو الحرام كالخمر والأرواث والأبوال، كلّها نجسة خبيثة، وتناولها حرام إلّا ما خصّته السّنّة من أبوال الإبل عند بعضهم وروث ما يؤكل لحمه عند آخرين.
الجهة الثّانية: من طريق الطّعم والمذاق، ولا ينكر أن يكون نهي عن ذلك لما فيه من المشقّة على الطّباع وكراهية النّفوس لها، ومن هذه الجهة نهي عن أكل البصل والثّوم وسمّاهما خبيثتين فقال صلّى الله عليه وسلّم: «من أكل من هذه الشّجرة الخبيثة فلا يقربنّ مسجدنا» .
وهو يريد الثّوم والبصل والكرّاث فخبثها من جهة رائحتها وطعمها، وإلّا فهي طاهرة «4» .
من معاني الخبيث والطّيّب في القرآن الكريم:
قال ابن الجوزيّ- رحمه الله تعالى-: ذكر أهل التّفسير أنّ الخبيث والطّيّب في القرآن على ثلاثة أوجه:
__________
(1) لسان العرب (2/ 1087- 1090) . والصحاح (1/ 281) ، وتاج العروس (3/ 203) ، والمصباح المنير (162) ، ومقايس اللغة (2/ 238) والمفردات للراغب (131) .
(2) تهذيب الأخلاق (33) .
(3) التوقيف على مهمات التعاريف لابن المناوي (152) ، والكليات للكفوي (428) .
(4) النهاية في غريب الحديث (2/ 4، 5) وما بعدها (بتصرف) .(10/4460)
أحدها: الخبيث بمعنى الحرام والطّيّب الحلال ومنه قوله تعالى في سورة النّساء وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ (الآية/ 2) وفي المائدة قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ (الآية/ 100) .
والثّاني: الخبيث بمعنى الكافر والطيّب المذكور معه هو المؤمن، ومنه قوله تعالى في آل عمران حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (الآية/ 179) وفي الأعراف وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً (الآية/ 58) وقال: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر.
والثّالث: الخبيث: كلمة الكفر، والطّيّب كلمة الإسلام. ومنه قوله تعالى في سورة إبراهيم ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً (الآية/ 24) وهي قول: لا إله إلّا الله. وقال سبحانه وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ (إبراهيم/ 26) يعني كلمة الكفر «1» .
[للاستزادة: انظر صفات: اللؤم- الخداع- سوء المعاملة- المكر- سوء الخلق- الغش- الخيانة- إفشاء السر- الإساءة.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الإخلاص- حسن الخلق- حسن العشرة- الصدق- الطهارة- المروءة- الأدب- الأمانة- حسن الخلق] .
__________
(1) نزهة الأعين النواظر (270- 271) .(10/4461)
الآيات الواردة في «الخبث»
الخبيث بمعنى الحرام:
1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) «1»
2- يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) «2»
3- ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) «3»
4- وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74)
وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) «4»
الخبيث بمعنى الكافر:
5- ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) «5»
6- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) «6»
7- إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)
__________
(1) البقرة: 267 مدنية
(2) النساء: 1- 2 مدنية
(3) المائدة: 99- 100 مدنية
(4) الأنبياء: 74- 75 مكية
(5) آل عمران: 179 مدنية
(6) الأنفال: 36- 38 مدنية(10/4462)
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) «1»
الخبيث بمعنى كلمة الكفر:
8- أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ
(26) «2»
الخبيث بمعنى السيء الأصل:
9- ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) «3»
الخبيث بمعنى الضار:
10- الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) «4»
__________
(1) النور: 23- 26 مدنية
(2) إبراهيم: 24- 26 مكية
(3) الأعراف: 55- 58 مكية
(4) الأعراف: 157 مكية(10/4463)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الخبث)
1-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
إنّي لشاهد لوفد عبد قيس قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فنهاهم أن يشربوا في هذه الأوعية: الحنتم والدّبّاء «1» والمزفّت «2» والنّقير «3» . فقام إليه رجل من القوم فقال: يا رسول الله، إنّ النّاس لا ظروف لهم.
قال: فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنّه يرثي للنّاس قال:
فقال: «اشربوا ما طاب لكم، فإذا خبث فذروه» ) «4» .
2-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّه قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إذا دخل الخلاء قال: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من الخبث والخبائث» ) * «5» .
3-* (عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أنّه قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الماء وما ينوبه من الدّوابّ والسّباع. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان الماء قلّتين لم يحمل الخبث» ) * «6» .
4-* (عن أبي موسى الأشعريّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسّهل والحزن «7» ، والخبيث والطّيّب» ) * «8» .
5-* (عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: إنّ أعرابيّا بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأصاب الأعرابيّ وعك بالمدينة فأتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمّد! أقلني بيعتى «9» ، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ جاءه فقال:
أقلني بيعتي، فأبى، ثمّ جاءه فقال: أقلني بيعتي، فأبي، فخرج الأعرابيّ. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّما المدينة كالكير. تنفي خبثها وينصع طيّبها» ) * «10» .
6-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: ألا أخبركم بما سمعت من في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ سمعته أذناي، ووعاه قلبي: «إنّ عبدا قتل تسعة وتسعين نفسا، ثمّ عرضت له التّوبة. فسأل عن أعلم أهل الأرض. فدلّ على رجل فأتاه. فقال: إنّي قتلت
__________
(1) الدباء: الإناء المعمول من القرع.
(2) المزفت: هو الإناء المطلي بالزفت.
(3) النقير: هو الخشب المنقور.
(4) مسلم (1993) ، وأحمد (2/ 355) وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/ 62) وقال: رواه أحمد وفيه شهر بن حوشب وفيه ضعف وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات، وصححه شاكر (16/ 368) 8641 واللفظ له.
(5) البخاري- الفتح 1 (142) . واللفظ له، ومسلم (375) ، والخبث: بضم الباء وإسكانها. قيل: الخبث: جماعة الخبيث، والخبائث جمع الخبيثة، يريد ذكران الشياطين وإناثهم.
(6) أبو داود (63) واللفظ له، والترمذي (67) ، والنسائي (1/ 46) . وأحمد (2/ 12، 38) . والدارمي (1/ 202) . وقال الألباني في صحيح الجامع (1/ 173) : صحيح.
(7) الحزن: الصعب الذي لا يمكن صحبته ولا تلين أخلاقه كالأرض الحزنة.
(8) الترمذي (2955) . وقال: حسن صحيح واللفظ له. وأحمد (4/ 400 و406) وصححه الألباني في تعليقه علي «مشكاة المصابيح» رقم (100) وأورده في «سلسلته الصحيحة» (1630) ..
(9) أقلني بيعتي: ظاهره أنه سأل الإقالة من الإسلام، وقيل: إنما استقاله من الهجرة وإلا لكان قتله على الردة.
(10) البخاري- الفتح 5 (1883) . ومسلم (1383) واللفظ له.(10/4464)
تسعة وتسعين نفسا. فهل لي من توبة؟ قال: بعد تسعة وتسعين نفسا! قال: فانتضى «1» سيفه فقتله. فأكمل به المائة. ثمّ عرضت له التّوبة فسأل عن أعلم أهل الأرض. فدلّ على رجل. فأتاه فقال: إنّي قتلت مائة نفس، فهل لي من توبة؟ قال: فقال: ويحك! ومن يحول بينك وبين التّوبة؟ اخرج من القرية الخبيثة الّتي أنت فيها، إلى القرية الصّالحة، قرية كذا وكذا. فاعبد
ربّك فيها. فرجع يريد القرية الصّالحة، فعرض له أجله في الطّريق. فاختصمت فيه ملائكة الرّحمة وملائكة العذاب. قال إبليس: أنا أولى به، إنّه لم يعصني ساعة قطّ. قال: فقالت ملائكة الرّحمة: إنّه خرج تائبا. قال:
فبعث الله عزّ وجلّ ملكا فاختصموا إليه ثمّ رجعوا.
فقال: انظروا أيّ القريتين كانت أقرب، فألحقوه بأهلها. قال: لمّا حضره الموت احتفز بنفسه «2» فقرب من القرية الصّالحة، وباعد منه القرية الخبيثة. فألحقوه بأهل القرية الصّالحة» ) * «3» .
7-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت بقرية تأكل القرى «4» ، يقولون: يثرب، وهي المدينة «5» ، تنفي النّاس كما ينفي الكير خبث الحديد» ) * «6» .
8-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- أنّه قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلمّا رأى القوم ألقوا نعالهم، فلمّا قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاته قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟» قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ جبريل صلّى الله عليه وسلّم أتاني فأخبرني أنّ فيهما خبثا وقال: «إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر. فإن رأى في نعليه خبثا أو أذى فليمسحه وليصلّ فيهما» ) * «7» .
9-* (عن أبي كبشة الأنماريّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة أقسم عليهنّ وأحدّثكم حديثا فاحفظوه. قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلّا زاده الله عزّا، ولا فتح عبد باب مسألة إلّا فتح الله عليه باب فقر- أو كلمة نحوها- وأحدّثكم حديثا فاحفظوه، قال: إنّما الدّنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتّقي فيه ربّه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقّا فهذا بأفضل المنازل. وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه
__________
(1) فانتضى سيفه: أي أخرجه من غمده.
(2) احتفز بنفسه: أي دفع نفسه.
(3) الحديث في الصحيحين: البخاري- الفتح 6 (3470) . ومسلم (2766) . وابن ماجة (2622) واللفظ له.
(4) أمرت بقرية تأكل القرى: معناه أمرت بالهجرة إليها واستيطانها. ومعنى أكلها القرى أنها مركز الإسلام في أول الأمر أو أن أكلها وميرتها تكون من القرى المنفتحة وإليها تساق غنائمها.
(5) يقولون يثرب وهي المدينة: يعني أن بعض الناس يسمونها يثرب وإنما اسمها المدينة، وطابة وطيبة، ففي هذا كراهة تسميتها يثرب.
(6) البخاري- الفتح 4 (1871) . ومسلم (1382) .
(7) أبو داود (650- 651) واللفظ له، وهو في رقم (651) بلفظ الخبث في الموضعين، وفي (650) بلفظ القذر، وأحمد (3/ 20) ، والرواية التي فيها (الخبث) قال المنذري في مختصر أبي داود مرسلة (1/ 328) ، وانظر مجمع الزوائد فقد ذكر له شواهد كثيرة (2/ 53- 56) بتقديمها.(10/4465)
مالا، فهو صادق النّيّة يقول: لو أنّ لي مالا لعملت بعمل فلان فهو نيّته فأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما، فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتّقي فيه ربّه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقّا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أنّ لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو نيّته فوزرهما سواء» ) * «1» .
10-* (عن رافع بن خديج- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثمن الكلب خبيث، ومهر البغيّ خبيث، وكسب الحجّام خبيث» ) * «2» .
11-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- أنّه قال: لم نعد أن فتحت خيبر. فوقعنا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تلك البقلة. الثّوم. والنّاس جياع. فأكلنا منها أكلا شديدا. ثمّ رحنا إلى المسجد فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرّيح. فقال: «من أكل من هذه الشّجرة الخبيثة شيئا فلا يقربنّا في المسجد» ، فقال النّاس: حرّمت حرّمت. فبلغ ذاك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال:
«أيّها النّاس إنّه ليس بي تحريم ما أحلّ الله لي، ولكنّها شجرة أكره ريحها» ) * «3» .
12-* (عن زينب بنت جحش- رضي الله عنها- أنّها قالت: استيقظ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من النّوم محمرّا وجهه، وهو يقول: «لا إله إلّا الله، ويل للعرب من شرّ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج، مثل هذه» وعقد سفيان تسعين أو مائة. قيل: أنهلك وفينا الصّالحون؟ قال: «نعم. إذا كثر الخبث» ) * «4» .
13-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- أنّه قال: لمّا قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله سبحانه وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل بعد ذلك) * «5» .
14-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ قال: «الميّت تحضره الملائكة. فإذا كان الرّجل صالحا، قالوا: اخرجي أيّتها النّفس الطّيّبة.
كانت في الجسد الطّيّب. اخرجي حميدة، وأبشري بروح «6» وريحان «7» وربّ غير غضبان. فلا يزال يقال لها، حتّى تخرج. ثمّ يعرج بها إلى السّماء. فيفتح لها.
فيقال: من هذا؟ فيقولون فلان. فيقال: مرحبا بالنّفس الطّيّبة، كانت في الجسد الطّيّب. ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان وربّ غير غضبان. فلا يزال يقال لها ذلك حتّى ينتهى بها إلى السّماء الّتي فيها الله عزّ وجلّ. وإذا كان الرّجل السّوء قال: اخرجي أيّتها النّفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث. اخرجي
__________
(1) الترمذي (2325) وقال: حسن صحيح. أحمد- المسند (4/ 231) ، والمنذري في لا ترغيب (1/ 58) وقال: إسناده صحيح.
(2) مسلم (1568) وخرجاه من حديث أبي مسعود الأنصاري بمعناه.
(3) مسلم (565) .
(4) البخاري- الفتح 13 (7059) واللفظ له، ومسلم (2280) .
(5) ابن ماجة (2223) واللفظ له، وقال في الزوائد: إسناده صحيح. والحاكم (2/ 33) وقال: صحيح ووافقه الذهبي. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 567) وعزاه لابن ماجة وابن حبان والبيهقي.
(6) روح: أي رحمة.
(7) ريحان: أي طيب.(10/4466)
ذميمة، وأبشري بحميم وغسّاق «1» . وآخر من شكله أزواج. فلا يزال يقال لها ذلك حتّى تخرج ثمّ يعرج بها إلى السّماء. فلا يفتح لها. فيقال: من هذا؟ فيقال:
فلان. فيقال: لا مرحبا بالنّفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث. ارجعي ذميمة. فإنّها لا تفتح لك أبواب السّماء. فيرسل بها من السّماء، ثمّ تصير إلى القبر) * «2» .
15-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطّعام. ولم يخنز اللّحم، ولولا حوّاء لم تخن أنثى زوجها، الدّهر» ) * «3» .
16-* (عن ابن أبي عتيق أنّه قال: تحدّثت أنا والقاسم عند عائشة- رضي الله عنها- حديثا.
وكان القاسم رجلا لحّانة «4» . وكان لأمّ ولد فقالت له عائشة: ما لك لا تحدّث كما يتحدّث ابن أخي هذا؟
أما إنّي قد علمت من أين أتيت. هذا أدّبته أمّه وأنت أدّبتك أمّك. قال: فغضب القاسم وأضبّ «5» عليها. فلمّا رأى مائدة عائشة قد أتي بها قام. قالت: اجلس غدر «6» . إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا صلاة بحضرة الطّعام. ولا هو يدافعه الأخبثان «7» » ) * «8» .
17-* (عن سهل بن حنيف- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقل أحدكم خبثت نفسي. وليقل: لقست نفسي» «9» ) * «10» .
18-* (عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- أنّه قال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل على أمّ السّائب أو أمّ المسيّب فقال: «لا تسبّي الحمّى، فإنّها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد» ) * «11» .
19-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الدّواء الخبيث) * «12» .
20-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يأتي على النّاس زمان يدعو الرّجل ابن عمّه وقريبه: هلمّ إلى الرّخاء! هلمّ إلى
__________
(1) الحميم: الماء الحار. والغساق: البارد المنتن.
(2) ابن ماجة (4262) واللفظ له. وأحمد (2/ 364) ، وقال الشيخ أحمد شاكر (16/ 313) : إسناده صحيح.
(3) مسلم (1470) وخنز اللحم إذا تغير وأنتن.
(4) لحانة: أي كثير اللحن- وهو الخطأ- في كلامه.
(5) أضب: حقد.
(6) اجلس غدر: الغدر ترك الوفاء ويقال لمن غدر: غادر وغدر وأكثر ما يستعمل في النداء بالشتم وإنما قالت له غدر لأنه مأمور باحترامها لأنها أم المؤمنين وعمته وأكبر منه وناصحة له ومؤدبة. فكان حقه أن يحتملها ولا يغضب عليها.
(7) الأخبثان: البول والغائط
(8) مسلم (560) .
(9) لقست: فترت وكسلت. قال أبو عبيد وغيره لقست وخبثت بمعنى واحد وإنما كره صلّى الله عليه وسلّم، معنى الخبث لبشاعة الاسم وعلّمهم الأدب في الألفاظ واستعمال حسنها وهجران خبيثها.
(10) البخاري- الفتح 10 (6180) . ومسلم (2251) واللفظ له.
(11) مسلم (2575) .
(12) أبو داود (3870) . والترمذي (2045) بلفظه. وأحمد (2/ 305) . وقال الشيخ أحمد شاكر (15/ 193) : صحيح. والحاكم (4/ 410) وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه والدواء الخبيث هو الخمر بعينه بلاشك فيه ووافقه الذهبي.(10/4467)
الرّخاء! والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. والّذي نفسي بيده لا يخرج منهم أحد رغبة عنها إلّا أخلف الله فيها خيرا منه. ألا إنّ المدينة كالكير تخرج الخبيث.
لا تقوم السّاعة حتّى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد» ) * «1» .
21-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يعقد الشيّطان على قافية رأس أحدكم «2» ثلاث عقد إذا نام بكلّ عقدة يضرب عليك ليلا طويلا «3» . فإذا استيقظ، فذكر الله انحلّت عقدة. وإذا توضّأ انحلّت عنه عقدتان. فإذا صلّى انحلّت العقد. فأصبح نشيطا طيّب النّفس. وإلّا أصبح خبيث النّفس كسلان» ) * «4» .
22-* (عن أبي موسى- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمن الّذي يقرأ القرآن مثل الأترجّة ريحها طيّيب وطعمها طيّب. ومثل المؤمن الّذي لا يقرأ القرآن مثل التّمرة لا ريح لها وطعمها حلو. ومثل المنافق الّذي يقرأ القرآن مثل الرّيحانة ريحها طيّب وطعمها مرّ. ومثل المنافق الّذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مرّ» ) * «5» .
ولفظه عند أحمد: «ومثل المنافق الّذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها خبيث» ) * «6» .
من الآثار وأقوال العلماء الواردة في ذمّ (الخبث)
1-* (قال عثمان- رضي الله عنه- اجتنبوا الخمر؛ فإنّها أمّ الخبائث. إنّه كان رجل ممّن خلا قبلكم تعبّد فعلقته امرأة غويّة فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنّا ندعوك للشّهادة، فانطلق مع جاريتها، فطفقت كلّما دخل بابا أغلقته دونه حتّى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر «7» فقالت: إنّي والله ما دعوتك للشّهادة ولكن دعوتك لتقع عليّ أو تشرب من هذه الخمر كأسا أو تقتل هذا الغلام، قال: فاسقني من هذا الخمر كأسا فسقته كأسا، قال: زيدوني فلم يرم «8» حتّى وقع عليها «9» ، وقتل النّفس، فاجتنبوا الخمر؛ فإنّها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلّا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه) * «10» .
2-* (قال قيس بن وهبان لابن عبّاس- رضي الله عنهما-: إنّ لي جريرة «11» أنتبذ فيها حتّى إذا غلى وسكن شربته. قال: مذ كم هذا شرابك؟ قلت:
مذ عشرون سنة- أو قال: مذ أربعون سنة- قال:
__________
(1) مسلم (1381) .
(2) قافية رأس أحدكم: القافية آخر الرأس، وقافية كل شيء آخره.
(3) عليك ليلا طويلا: هكذا رواه الأكثرون بالنصب على الإغراء ورواه بعضهم: عليك ليل طويل بالرفع.
(4) البخاري- الفتح 3 (1142) . ومسلم (776) واللفظ له،
(5) البخاري- الفتح 13 (7560) . ومسلم (797) واللفظ له. والموطأ (ص 176) .
(6) أحمد (4/ 408) .
(7) باطية خمر: الباطية: إناء، وهو لفظ معرب.
(8) فلم يرم: أي فلم يبرح.
(9) حتى وقع عليها: أي فعل معها الفاحشة.
(10) النسائي (8/ 315) .
(11) الجريرة: تصغير الجرّة.(10/4468)
طالما تروّت عروقك من الخبث) * «1» .
3-* (جاء رجل إلى ابن عمر- رضي الله عنهما- فقال له: يا أبا عبد الرّحمن. إنّي أسلفت رجلا سلفا، واشترطت عليه أفضل ممّا أسلفته. فقال عبد الله ابن عمر: فذلك الرّبا. قال: فكيف تأمرني يا أبا عبد الرّحمن. فقال عبد الله: السّلف على ثلاثة وجوه:
سلف تسلفه تريد وجه الله، فلك وجه الله، وسلف تسلفه تريد به وجه صاحبك، فلك وجه صاحبك.
وسلف تسلفه لتأخذ خبيثا بطيّب فذلك الرّبا. قال:
فكيف تأمرني يا أبا عبد الرّحمن؟ قال: أرى أن تشقّ الصّحيفة. فإن أعطاك مثل الّذي أسلفته قبلته. وإن أعطاك دون الّذي أسلفته فأخذته أجرت. وإن أعطاك أفضل ممّا أسلفته طيّبة به نفسه فذلك شكر. شكره لك، ولك أجر ما أنظرته) * «2» .
4-* (قال عمرو بن ميمون- رحمه الله تعالى:
كنت في اليمن في غنم لأهلي، وأنا على شرف، فجاء قرد مع قردة فتوسّد يدها، فجاء قرد أصغر منه فغمزها، فسلّت يدها من تحت رأس القرد الأوّل سلّا رفيقا وتبعته فوقع عليها وأنا أنظر، ثمّ رجعت فجعلت تدخل يدها تحت خدّ الأوّل برفق فاستيقظ فزعا، فشمّها فصاح، فاجتمعت القرود، فجعل يصيح ويومىء إليها بيده، فذهب القرود يمنة ويسرة، فجاءوا بذلك القرد أعرفه، فحفروا لهما حفرة فرجموهما، فلقد رأيت الرّجم في غير بني آدم) * «3» .
5-* (قال مالك بن دينار- رحمه الله تعالى-:
أصاب النّاس في بني إسرائيل قحط فخرجوا مرارا فأوحى الله- عزّ وجلّ- إلى نبيّهم أن أخبرهم أنّكم تخرجون إليّ بأبدان نجسة وترفعون إليّ أكفّا قد سفكتم بها الدّماء وملأتم بطونكم من الحرام الآن قد اشتدّ غضبي عليكم ولن تزدادوا منّي إلّا بعدا) * «4» .
6-* (قال ابن القيّم- رحمه الله تعالى-: حرّم الله الجنّة على من في قلبه نجاسة وخبث فلا يدخلها إلّا بعد طيبه وطهره، فالجنّة لا يدخلها خبيث ولا من فيه شيء من الخبث فمن تطهّر في الدّنيا ولقي الله طاهرا من نجاساته وخبثه دخلها بغير معوّق، ومن لم يتطهّر في الدّنيا فإن كانت نجاسته وخبثه عينيّا كالكافر لم يدخلها بحال، وإن كان خبثه كسبيّا عارضا دخلها بعدما يتطهّر من هذا الخبث) * «5» .
من مضار (الخبث)
1- الخبث يحبط ثواب العمل.
2- الخبث في الثّياب يبطل الصّلاة.
3- الخبث في الأشياء يحرّم اقتناءها.
4- الخبث في المكان يعمّه بالبلوى.
5- تناول الخبيث يؤذي الجسد ويؤذي الإخوان.
6- الخبيث مغضوب عليه من الله ورسوله والمؤمنين.
__________
(1) النسائي (8/ 323) وتروّت من الري، والخبث: النجس.
(2) الموطأ (681- 682) .
(3) الفتح (7/ 196) وعزاه للإسماعيلي وأصله عند البخاري- الفتح 7 (3849) .
(4) إحياء علوم الدين (1/ 307) .
(5) بتصرف من إغاثة اللهفان (1/ 56) .(10/4469)
الخداع
الخداع لغة:
مصدر قولهم: خدع يخدع خدعا وخداعا، وهو مأخوذ من مادّة (خ د ع) الّتي تدلّ على إخفاء الشّيء، من ذلك: خدعت الرّجل: خذلته، وخدع الرّيق في الفم، وذلك أنّه يخفى في الحلق ويغيب، ولفلان خلق خادع، إذا تخلّق بغير خلقه، لأنّه يخفي خلاف ما يظهره، ويقال إنّ الخدعة الدّهر. والخدعة: الرّجل يخدع النّاس، وخدعة يخدعه النّاس، ودينار خادع أي ناقص الوزن وكأنّه أرى التّمام وأخفى النّقصان حتّى أظهره الوزن، والأخدعان: عرقان تصوّر منهما الخداع لاستتارهما تارة وظهورهما تارة، يقال: خدعه يخدعه قطع أخدعيه، وخدعه: ختله وأراد به المكروه من حيث لا يعلم، والاسم: الخديعة، يقال: هو يتخادع، أي يري ذلك من نفسه، وخدعته فانخدع، وخادعته خداعا ومخادعة وفي التّنزيل: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
(النساء/ 142) . قال الجوهريّ: أي يخادعون أولياء الله «1» .
وقال الرّاغب: يخادعون الرّسول والأولياء،
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
3/ 11/ 4
ونسب ذلك إلى الله من حيث إنّ معاملة الرّسول كمعاملته، وجعل ذلك خداعا تفظيعا لفعلهم وتنبيها على عظم الرّسول وأوليائه ولا تستقيم دعوى الحذف هنا لأنّه لو ذكر المحذوف لما كان تنبيه على فظاعة فعلهم ولا على عظيم المقصود بالخداع، وخادعهم:
مجازيهم بالخداع «2» .
وقال الطّبريّ: نزلت في عبد الله بن أبيّ وأبي عامر بن النّعمان قال: وروي عن السّدّيّ قال: يعطيهم يوم القيامة نورا يمشون به مع المسلمين كما كانوا معهم في الدّنيا، ثمّ يسلبهم ذلك النّور فيطفئه، فيقومون في ظلمتهم ويضرب بينهم بالسّور «3» .
وعن الحسن قوله: يلقى على كلّ مؤمن ومنافق نور يمشون به حتّى إذا انتهوا إلى الصّراط طفيء نور المنافقين، ومضى المؤمنون بنورهم فينادونهم، انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ... (الحديد/ 13) قال الحسن فذلك خديعة الله إيّاهم «4» .
وأمّا قوله تعالى في المنافقين يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (البقرة/ 9) .
__________
(1) تأويل ذلك يقتضي أنّ في الكلام حذفا.
(2) المفردات (143) .
(3) تفسير الطبري (4/ 332) .
(4) المصدر السابق نفسه، والصفحة نفسها.(10/4470)
قال القرطبيّ: أي عند أنفسهم وعلى ظنّهم، وقيل: لعملهم عمل المخادع، ومخادعهم: ما أظهروه من الإيمان خلاف ما أبطنوه من الكفر ليحقنوا دماءهم وأموالهم ويظنّون أنّهم قد نجوا وخدعوا. وقيل: المعنى:
أنّهم يفسدون إيمانهم وأعمالهم فيما بينهم وبين الله تعالى بالرّياء، وما تحلّ عاقبة الخدع إلّا بهم. لأنّ الخداع إنّما يكون مع من لا يعرف البواطن، وأمّا من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنّما يخدع نفسه، ودلّ هذا على أنّ المنافقين لم يعرفوا الله، إذ لو عرفوه لعرفوا أنّه لا يخدع «1» . وقال الطّبريّ: خداع المنافق ربّه والمؤمنين إظهاره بلسانه من القول والتّصديق خلاف الّذي في قلبه من الشّكّ والتّكذيب «2» .
أمّا ما جاء في الحديث: «الحرب خدعه بفتح الخاء وضمّها، (وخدعة) بضمّ الخاء مع فتح الدّال فالأوّل (خدعة) معناه أنّ الحرب ينقضي أمرها بخدعة واحدة، أي أنّ المقاتل إذا خدع مرّة واحدة لم تكن له إقالة، والثّاني (خدعة) هو الاسم من الخداع، وأمّا الثّالث: (خدعة) فمعناه: أنّ الحرب تخدع الرّجال وتمنّيهم ولا تفي لهم، وقال ابن منظور: الخدع: إظهار خلاف ما تخفيه. وقيل الخداع: الحيلة. وقيل: خدعه يخدعه خدعا، بالكسر، مثل سحره يسحره سحرا.
ويقال: هو يتخادع أي يري ذلك من نفسه. وتخادع القوم: خدع بعضهم بعضا، ويقال: رجل خدّاع وخدوع وخدعة إذا كان خبّا. والخدعة ما تخدع به «3» .
الخداع اصطلاحا:
وقال الرّاغب: الخداع: إنزال الغير عمّا هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه «4» .
وقال المناويّ: إظهار خير يتوسّل به إلى إبطان شرّ يؤول إليه أمر ذلك الخير المظهر.
وقيل: هو إظهار ما يخالف الإضمار «5» .
[للاستزادة: انظر صفات: التناجش- الخبث- سوء المعاملة- الغدر- الغش- اللؤم- المكر- النفاق- الخيانة- الكذب.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الأمانة- الإيمان- الاستقامة- حسن المعاملة- الصدق- المروءة- النبل] .
__________
(1) القرطبي (1/ 195- 196) .
(2) الطبري (1/ 103) .
(3) مقاييس اللغة (2/ 162) ، المفردات للراغب (143) انظر: النهاية لابن الأثير (2/ 14) ، ولسان العرب (8/ 63- 65) والصحاح (3/ 1201) .
(4) المفردات (143) .
(5) انظر: التوقيف على مهمات التعاريف لابن المناوي (153) .(10/4471)
الآيات الواردة في «الخداع»
1- يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) «1»
2- إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
(142) «2»
3- وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) «3»
__________
(1) البقرة: 9 مدنية
(2) النساء: 142 مدنية
(3) الأنفال: 62 مدنية(10/4472)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الخداع)
1-* (عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أنّ رجلا ذكر للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه يخدع في البيوع، فقال: «إذا بايعت فقل: لا خلابة «1» » ) * «2» .
2-* (عن عياض بن حمار المجاشعيّ- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبته: «ألا إنّ ربّي أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم ممّا علّمني، يومي هذا. كلّ مال نحلته عبدا، حلال. وإنّي خلقت عبادي حنفاء كلّهم: وإنّهم أتتهم الشّياطين فاجتالتهم عن دينهم. وحرّمت عليهم ما أحللت لهم. وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. وإنّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلّا بقايا من أهل الكتاب. وقال: إنّما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك.
وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء. تقرؤه نائما ويقظان. وإنّ الله أمرني أن أحرّق قريشا. فقلت: ربّ إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة. قال: استخرجهم كما استخرجوك. واغزهم نغزك. وأنفق فسننفق عليك.
وابعث جيشا نبعث خمسة مثله. وقاتل بمن أطاعك من عصاك. قال: وأهل الجنّة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدّق موفّق. ورجل رحيم رقيق القلب لكلّ ذي قربى ومسلم. وضعيف متعفّف ذو عيال. قال:
وأهل النّار خمسة: الضّعيف الّذي لا زبر له «3» ، الّذين هم فيكم تبعا لا يتبعون أهلا ولا مالا. والخائن الّذي لا يخفى له طمع، وإن دقّ إلّا خانه. ورجل لا يصبح ولا يمسي إلّا وهو يخادعك عن أهلك ومالك» . وذكر البخل أو الكذب «والشّنظير الفحّاش» ) * «4» .
3-* (عن قيس بن سعد بن عبادة- رضي الله عنه- قال: لولا أنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«المكر والخديعة في النّار» لكنت من أمكر النّاس) * «5» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (الخداع) معنى
4-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السّبيل. ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدّقه، وهو على غير ذلك، ورجل بايع إماما لا يبايعه إلّا لدنيا، فإن أعطاه منها وفى، وإن لم يعطه منها لم يف» ) * «6» .
__________
(1) لا خلابة: لا تخلبوني أي لا تخدعوني.
(2) البخاري- الفتح 4 (2117) واللفظ له، ومسلم (1533) .
(3) لا زبر له: أي لا عقل له.
(4) مسلم (2865) .
(5) فتح الباري (4/ 417) وقال الحافظ ابن حجر: إسناده لا بأس به، وقال الألباني: صحيح، وانظر صحيح الجامع (1057) .
(6) مسلم (108) واللفظ له وبعضه عند البخاري- الفتح 5 (2353) .(10/4473)
5-* (عن أسماء- رضي الله عنها- جاءت امرأة إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إنّ لي ضرّة. فهل عليّ جناح أن أتشبّع من مال زوجي بما لم يعطني؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المتشبّع بما لم يعط، كلابس ثوبي زور» ) * «1» .
6-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يتلقّى الرّكبان لبيع «2» ولا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا «3» ولا يبع حاضر لباد، ولا تصرّوا الإبل والغنم «4» . فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النّظرين، بعد أن يحلبها فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردّها، وصاعا من تمر» ) * «5» .
7-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لعن الواصلة والمستوصلة «6» والواشمة والمستوشمة «7» ) * «8» .
8-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لم يتكلّم في المهد إلّا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلا عابدا، فاتّخذ صومعة، فكان فيها، فأتته أمّه وهو يصلّي، فقالت: يا جريج. فقال: يا ربّ أمّي وصلاتي. فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلمّا كان من الغد أتته وهو يصلّي فقالت: يا جريج. فقال: يا ربّ أمّي وصلاتي فأقبل على صلاته، فانصرفت فلمّا كان من الغد أتته وهو يصلّي. فقالت: يا جريج فقال: أي ربّ أمّي وصلاتي. فأقبل على صلاته. فقالت: اللهم لا تمته حتّى ينظر إلى وجوه المومسات «9» . فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته. وكانت امرأة بغيّ يتمثّل بحسنها «10» . فقالت: إن شئتم لأفتننّه لكم. قال:
فتعرّضت له، فلم يلتفت إليها. فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها. فوقع عليها.
فحملت. فلمّا ولدت. قالت: هو من جريج. فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه. فقال:
ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغيّ. فولدت منك.
فقال: أين الصّبيّ؟ فجاءوا به فقال: دعوني حتّى أصلّي. فصلّى. فلمّا انصرف أتى الصّبيّ فطعنه في بطنه.
وقال: يا غلام، من أبوك؟ قال: فلان الرّاعي. قال:
فأقبلوا على جريج يقبّلونه ويتمسّحون به. وقالوا:
نبني لك صومعتك من ذهب. قال: لا. أعيدوها من طين كما كانت. ففعلوا. وبينا صبيّ يرضع من أمّه.
__________
(1) البخاري- الفتح 9 (5219) ومسلم (2130) واللفظ له.
(2) لا يتلقّى الركبان لبيع: هو أن يتلقى الحضري البدوي قبل وصوله إلى البلد. ويخبره ما معه كذبا ليشتري منه سلعته بالوكس وأقل من ثمن المثل.
(3) التناجش: الاستثارة أي يثير رغبة الناس فيها ويرفع ثمنها.
(4) لا تصروا الإبل والغنم: من التصرية وهي الجمع أي لا تجمعوا اللبن في ضرعها عند إرادة بيعها حتى يعظم ضرعها فيظن المشتري أن كثرة لبنها عادة لها مستمرة.
(5) البخاري- الفتح 4 (2150) ، ومسلم (1515) واللفظ له.
(6) الواصلة: هي التي تصل شعر المرأة بشعر آخر، والمستوصلة هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك.
(7) الواشمة: من تفعل الوشم وهي أن تغرز إبرة أو نحوها في ظهر الكف أو المعصم أو الشفة أو غيرها حتى يسيل الدم، والمستوشمة هي من طلبت فعل ذلك.
(8) البخاري- الفتح 10 (5937) ، ومسلم (2124) واللفظ له.
(9) المومسات: أي الزواني البغايا المتجاهرات بذلك والواحدة مومسة وتجمع مياميس أيضا.
(10) يتمثل بحسنها: أي يضرب به المثل لانفرادها به.(10/4474)
فمرّ رجل راكب على دابّة فارهة «1» وشارة «2» حسنة فقالت أمّه: اللهمّ اجعل ابني مثل هذا. فترك الثّدي وأقبل إليه فنظر إليه. فقال: اللهمّ لا تجعلني مثله، ثمّ أقبل على ثديه فجعل يرتضع» . قال: فكأنّي أنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السّبّابة في فمه. فجعل يمصّها. قال: «ومرّوا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنيت. سرقت. وهي تقول:- حسبي الله ونعم الوكيل. فقالت أمّه: اللهمّ لا تجعل ابني مثلها. فترك الرّضاع ونظر إليها. فقال: اللهمّ اجعلني مثلها. فهناك تراجعا الحديث «3» .
فقالت: حلقى «4» ، مرّ رجل حسن الهيئة فقلت: اللهمّ اجعل ابني مثله فقلت: اللهمّ لا تجعلني مثله. ومرّوا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون: زنيت. سرقت.
فقلت: اللهمّ لا تجعل ابني مثلها. فقلت: اللهم اجعلني مثلها «5» قال: إنّ ذاك الرّجل كان جبّارا فقلت: اللهمّ لا تجعلني مثله. وإنّ هذه يقولون لها:
زنيت ولم تزن. وسرقت ولم تسرق. فقلت: اللهمّ اجعلني مثلها» ) * «6» .
9-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمن غرّ «7» كريم، والفاجر خبّ «8» لئيم» ) * «9» .
10-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر «10» » ) * «11» .
11-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: «نهى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن النّجش «12» » ) * «13» .
من الآثار وأقوال العلماء الواردة في ذمّ (الخداع)
1-* (عن عائشة- رضي الله عنها- قالت:
«كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج- وكان أبو بكر يأكل من خراجه- فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟
قال: كنت تكهّنت لإنسان في الجاهليّة وما أحسن الكهانة، إلّا أنّي خدعته فأعطاني بذلك، فهذا الّذي
__________
(1) فارهة: الفارهة النشيطة الحادة القوية. وقد فرهت فراهة وفراهية.
(2) وشارة: الشارة الهيئة واللباس.
(3) تراجعا الحديث: معناه أقبلت على الرضيع تحدثه. وكانت أولا، لا تراه أهلا للكلام. فلما تكرر منه الكلام، علمت أنه أهل له فسألته وراجعته.
(4) حلقى: أي أصابه الله تعالى بوجع في حلقه.
(5) مثلها: أي سالما من المعاصي كما هي سالمة.
(6) البخاري- الفتح 6 (3436) ، مسلم (2550) واللفظ له.
(7) الغر: الذي لم يجرب الأمور، وإنما جعل المؤمن غرا نسبة له إلى سلامة الصدر وحسن الباطن والظن في الناس فكأنه لم يجرب بواطن الأمور.
(8) الخب: الخداع المكار الخبيث.
(9) الترمذي (1964) ، وأبو داود (4790) ، والحاكم في المستدرك (1/ 43) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني (1599) ، وقال محقق جامع الأصول (11/ 701) حديث حسن.
(10) الغرر: ما له ظاهر تؤثره وباطن تكرهه.
(11) مسلم (1513) .
(12) النجش هو الختل والخداع. وقيل: هو دخول الرجل في السلعة وهو لا يريد شراءها بل ليرفع ثمنها.
(13) البخاري- الفتح 4 (2142) ، ومسلم (1516) .(10/4475)
أكلت منه. فأدخل أبو بكر يده فقاء كلّ شيء في بطنه» ) * «1» .
2-* (قال ابن أبي أوفى: «النّاجش آكل ربا خائن» ) * «2» .
3-* (قال أيّوب السّختيانيّ: «يخادعون الله كأنّما يخادعون آدميّا، لو أتوا الأمر عيانا كان أهون عليّ» ) * «3» .
4-* (بوّب البخاريّ- رحمه الله- في صحيحه: «باب النّهي عن تلقّي الرّكبان، وأنّ بيعه مردود لأنّ صاحبه عاص آثم إذا كان به عالما، وهو خداع في البيع، والخداع لا يجوز» ) * «4» .
من مضار (الخداع)
(1) ظلم النّاس وغبنهم وأكل أموالهم بالباطل.
(2) انتهاك حرمات الله وحرمات النّاس.
(3) دليل على عدم الإيمان بالله العليم.
(4) فيه تحطيم لدعائم المجتمع المسلم المتكافل المسالم.
(5) عمل من أعمال المنافقين والفسقة المجرمين.
(6) كبيرة من كبائر الذّنوب.
(7) طريق موصّل إلى النّار.
(8) سبب في فقد ثقة النّاس بعضهم ببعض.
__________
(1) البخاري- الفتح 7 (3842) .
(2) البخاري- الفتح (4/ 416) .
(3) فتح الباري (12/ 352) .
(4) البخاري- الفتح (4/ 436) .(10/4476)
الخنوثة والتخنث
الخنوثة لغة:
التّخنّث مصدر تخنّث، أمّا الخنوثة فهي مصدر قولهم: خنث خنوثة، وكلاهما مأخوذ من مادّة (خ ن ث) الّتي يقول عنها صاحب المقاييس: «الخاء والنّون والثّاء أصل واحد يدلّ على تكسّر وتثنّ» فالخنث:
المسترخي المتكسّر، وخنثت السّقاء، إذا كسرت فمه إلى خارج فشربت منه، وامرأة خنث: متثنّية، ويقول الجوهريّ: والاسم من ذلك: الخنث، ويقال خنّثت الشّيء فتخنّث أي: عطفته فتعطّف، ومنه سمّي المخنّث «1» ، وقال ابن منظور:
الانخناث: التّثنّي والتّكسّر، فتقول: تخنّث الرّجل إذا فعل فعل المخنّث، وقيل: المخنّث الّذي يفعل فعل الخناثي، وخنث الرّجل خنثا فهو خنث والاسم الخنث. وأطلق على المخنّث للينه وتكسّره ويوصف به الإنسان ذكرا كان أو أنثى في المشي والكلام، فيقال: فلان تخنّث في كلامه، وتخنّث الرّجل وغيره إذا سقط من الضّعف ويقال في المثل: أخنث من دلال، والخنثى الّذي لا يخلص لذكر ولا أنثى،
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
/ 5/ 10
فيقال: رجل خنثى، له ما للذّكر والأنثى، والجمع الخناثى مثل الحبالى، ويجمع أيضا على خناث (بكسر المعجمة) «2» .
الخنوثة اصطلاحا:
إذا كان الخنثى- كما يقول الجرجانيّ- شخصا له آلة الرّجال والنّساء أو ليس له شيء أصلا «3» بل له ثقبة لا تشبههما من الخنث وهو اللّين «4» ، والمخنّث كما يقول الكفويّ: هو من يمكّن غيره من نفسه، أو الّذي في أعضائه لين وتكسّر في أصل الخلقة ولا يشتهي النّساء «5» أو هو كما يقول ابن حجر:
المتكسّر المتعطّف المتخلّق بخلق النّساء «6» .
فالتّخنّث اصطلاحا: تكسّر الرّجل وتخلّقه بخلق النّساء تعطّفا وتدلّلا.
حكم المخنّث:
قال الإمام الذّهبيّ: إنّ تشبّه الرّجال بالنّساء من الكبائر بدليل قول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: «لعن الله المتشبّهات من النّساء بالرّجال والمتشبّهين من الرّجال بالنّساء» وقوله أيضا: «لعن الله المخنّثين من الرّجال
__________
(1) مقاييس اللغة (2/ 222) .
(2) لسان العرب (2/ 272، 273) ، والصحاح للجوهري (1/ 281) .
(3) التعريفات للجرجاني (107) .
(4) التوقيف (160) .
(5) الكفوي (822) .
(6) هدي الساري مقدمة فتح الباري (114) .(10/4477)
والمترجّلات من النّساء» يعني اللّاتي يتشبّهن بالرّجال في لبسهم وحديثهم.
وقال: إذا لبست المرأة زيّ الرّجال فقد شابهتهم في لبسهم فتلحقها لعنة الله ورسوله ولزوجها إذا أمكنها من ذلك أي رضي به، لأنّه مأمور بتقويمها على طاعة الله ونهيها عن المعصية وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لعن الله المرأة تلبس لبسة الرّجل، والرّجل يلبس لبسة المرأة» «1» .
[للاستزادة: انظر صفات: الدياثة- صغر الهمة- الفجور- الزنا- الغي والإغواء- الفحش- إطلاق البصر- اتباع الهوى.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الرجولة- الإيمان- الشرف- علو الهمة- العفة- المروءة- غض البصر- العزة- حفظ الفرج- الغيرة] .
__________
(1) الكبائر للذهبي (134، 135) .(10/4478)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الخنوثة والتخنث)
1-* (عن أمّ سلمة- رضي الله عنها- أنّها قالت: دخل عليّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وعندي مخنّث، فسمعته يقول لعبد الله بن أبي أميّة: يا عبد الله أرأيت إن فتح الله عليكم الطّائف غدا فعليك بابنة غيلان فإنّها تقبل بأربع وتدبر بثمان. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخلنّ هؤلاء عليكنّ» ) * «1» .
2-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- أنّه قال: «لعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المخنّثين من الرّجال والمترجّلات من النّساء. وقال: أخرجوهم من بيوتكم. قال:
فأخرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فلانا، وأخرج عمر فلانة» ) * «2» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (الخنوثة والتخنث) معنى
3-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنّه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكره عشر خلال:
تختّم الذّهب، وجرّ الإزار، والصّفرة (يعني الخلوق) وتغيير الشّيب- قال جرير: إنّما يعني بذلك نتفه- وعزل الماء عن محلّه، والرّقى إلّا بالمعوّذات، وفساد الصّبيّ غير محرّمه «3» ، وعقد التّمائم، والتّبرّج بالزّينة لغير محلّها، والضّرب بالكعاب «4» » ) * «5» .
4-* (عن عمّار بن ياسر- رضي الله عنهما- أنّه قال: قدمت على أهلي ليلا وقد تشقّقت يداي، فخلّقوني بزعفران فغدوت على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسلّمت عليه، فلم يردّ عليّ ولم يرحّب بي. فقال: «اذهب فاغسل هذا عنك» فذهبت فغسلته ثمّ جئت وقد بقي عليّ منه ردع «6» . فسلّمت فلم يردّ عليّ ولم يرحّب بي.
وقال: «اذهب فاغسل هذا عنك» فذهبت فغسلته ثمّ جئت فسلّمت عليه، فردّ عليّ، ورحّب بي وقال: «إنّ الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير ولا المتضمّخ بالزّعفران، ولا الجنب» قال: ورخّص للجنب إذا نام أو أكل أو شرب أن يتوضّأ) * «7» .
5-* (عن أنس- رضي الله عنه- أنّه قال:
نهى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يتزعفر الرّجل) * «8» .
__________
(1) البخاري- الفتح 7 (4324) واللفظ له. ومسلم (2179) .
(2) البخاري- الفتح 10 (5886) . وجاء تسمية من غرّبه (أخرجه) النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عند الطبراني وهو: أنجشة.
(3) قوله «فساد الصبي» معناه أن ترضع المرأة طفلها وهي حامل فذلك إفساد له، وقوله (غير محرمه) أي لم يجعل هذا حراما مثل بقية العشر فهي محرمة وكأنه ذكره مع المحرمات الأخرى إشارة إلى أنه قد يصل إلى درجة التحريم حين يبلغ الإفساد مبلغا ظاهرا. وفي هذا الحديث ما يعرف بمراعاة النظائر في الحكم الشرعي.
(4) ضرب الكعاب: النرد وغيره.
(5) أبو داود (4222) . وأحمد (1/ 380، 397) واللفظ له، وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح (5/ 213) برقم (3605) .
(6) ردع منه: أي أثر لم يزل بالغسلة الأولى.
(7) أبو داود (4176) . وقال محقق جامع الأصول: للحديث شواهد بالمعنى يتقوى بها (4/ 749) .
(8) البخاري- الفتح 10 (5846) . ومسلم (2101) وجاء النهي عن ذلك لأن التزعفر من فعل النساء فإذا فعله الرجال كان دليلا على الخنوثة.(10/4479)
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (الخنوثة والتخنث)
1-* (كان ابن عمر وعبد الله بن عمرو عند الزّبير بن عبد المطّلب إذ أقبلت امرأة تسوق غنما متنكّبة قوسا، فقال عبد الله بن عمر: أرجل أنت أم امرأة؟ فقالت: امرأة. فالتفت إلى ابن عمرو فقال:
«إنّ الله تعالى لعن على لسان نبيّه صلّى الله عليه وسلّم المتشبّهات من النّساء بالرّجال والمتشبّهين من الرّجال بالنّساء» ) * «1»
2-* (نفى عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- نصر بن حجّاج، من المدينة ومن وطنه إلى البصرة لمّا سمع تشبّه النّساء به وتشبّهه بهنّ» ) * «2» .
3-* (قال محمّد بن المنكدر وصفوان بن سليم وموسى بن عقبة؛ إنّ خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصّدّيق- رضي الله عنهما-: أنّه وجد في بعض ضواحي العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة، وقامت عليه بذلك البيّنة، فاستشار أبو بكر في ذلك أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان أشدّهم في ذلك قول عليّ بن أبي طالب- رضوان الله عليه- قال: «إنّ هذا ذنب لم تعص به أمّة من الأمم إلّا أمّة واحدة صنع الله تعالى بها ما علمتم، أرى أن نحرقه بالنّار، فكتب أبو بكر- رضي الله عنه- إلى خالد بن الوليد تحرقه بالنّار، ثمّ حرقهم ابن الزّبير في زمانه بالنّار، ثمّ حرقهم هشام بن عبد الملك، ثمّ حرقهم القسريّ بالعراق» ) * «3» .
4-* (خطب رجل من ابن عبّاس- رضي الله عنهما- يتيمة كانت عنده فقال له: لا أرضاها لك، قال: ولم وفي دارك نشأت؟ قال: إنّها تتشرّف «4» . قال:
لا أبالي، فقال له: الآن لا أرضاك لها) * «5» .
5-* (قال مجاهد في قوله تعالى: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قال: «كان يجامع بعضهم بعضا في المجالس» ) * «6» .
6-* (قال الزّهريّ- رحمه الله تعالى: «لا نرى أن يصلّى خلف المخنّث إلّا من ضرورة لا بدّ منها» ) .* «7» .
وقال ابن حجر تعليقا على هذا الكلام: «المخنّث الذّي يتعمّد التّشبّه بالنّساء مبتدع بدعة قبيحة» «8» .
7-* (قال مالك- رحمه الله تعالى- «بلغني أنّ ناسا من أهل العلم كرهوا إخضاب اليدين والرّجلين للرّجال (يعني لما فيه من التّشبّه بالنّساء) «9» .
__________
(1) الكبائر للذهبي (135) .
(2) فتاوى في الخمر والمخدرات لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع أحمد حرك (87) .
(3) البيهقي (8/ 405) في سننه. والخرائطي في مساوئ الأخلاق (168) .
(4) تتشرف: يعني أنها تتشرف بك كناية عن أنّها لا شرف لها في ذاتها.
(5) أدب الدنيا والدين للماوردي (157) .
(6) الطبري في تفسيره (20/ 94) .
(7) البخاري- الفتح 2 (221) .
(8) الفتح (2/ 223) .
(9) ذكره ابن الأثير في جامع الأصول (4/ 745) ، وانظر تعليق محققه عليه.(10/4480)
8-* (قال ابن تيمية- رحمه الله تعالى- «إنّ الرّجل المتشبّه بالنّساء يكتسب من أخلاقهنّ بحسب تشبّهه، حتّى يفضي به الأمر إلى التّخنّث المحض والتّمكين من نفسه كأنّه امرأة، ولمّا كان الغناء مقدّمة ذلك وكان بين عمل النّساء كانوا يسمّون الرّجال المغنّين مخانيث» ) * «1» .
9-* (وقال أيضا- رحمه الله تعالى- «إنّ الرّجل إذا كان متزوّجا من الزّانية فهو زان ومذموم عند النّاس أعظم ممّا يذمّ الّذي يزني بنساء النّاس.
ولهذا يقال في الشّتم (سبّه بالزّاي والقاف) أي قال له:
يا زوج القحبة، فهذا أعظم ما يتشاتم به النّاس، لما قد استقرّ عند المسلمين من قبح ذلك، والّذي يتزوّج البغيّ ديّوث وهو أمر فطر الله على ذمّه وعيبه جميع عباده المؤمنين بل وغير
المسلمين من أهل الكتاب وغيرهم كلّهم يذمّ من تكون امرأته بغيّا، ويشتم بذلك، ويعيّر به» ) * «2» .
10-* (وقال أيضا- رحمه الله تعالى-: «إنّ الحشيشة المصنوعة من ورق القنّب حرام، ويجلد صاحبها كما يجلد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنّها تفسد العقل والمزاج حتّى يصير في الرّجل تخنّث ودياثة» ) * «3» .
من مضار (الخنوثة والتخنث)
(1) قلّة الإيمان وفقد الحياء وانعدام الحشمة.
(2) كثرة الفواحش وانتشار الزّنا واللّواطة.
(3) جلب غضب الرّبّ والّذي يجب أن يخاف منه كلّ عبد.
(4) تغيير الفطرة الّتي فطر الله النّاس عليها.
(5) الطّرد والإبعاد من رحمة الله.
__________
(1) حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة للألباني (77) .
(2) مجموع الفتاوى (32/ 117- 118) بتصرف يسير.
(3) المصدر السابق (28/ 339) .(10/4481)
الخيانة
الخيانة لغة:
مصدر قولهم: خان يخون، وهو مأخوذ من مادة (خ ون) الّتي تدلّ على التّنقّص، يقال: خانه يخونه خونا، وذلك نقصان الوفاء، وتخوّنني فلان أي تنقّصني، ونقيض الخيانة الأمانة، يقال خنت فلانا، وخنت أمانة فلان، وعلى ذلك قوله سبحانه لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ (الأنفال/ 28) فخيانتهم لله ورسوله كانت بإظهار من أظهر منهم للرّسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين الإيمان في الظّاهر وهو يستسرّ الكفر والغشّ لهم في الباطن ويدلّون المشركين على عورتهم ويخبرونهم بما خفي عنهم من خبرهم، قيل:
نزلت في منافق كتب إلى أبي سفيان يطلعه على سرّ المسلمين، وقوله وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ هي ما يخفى عن أعين النّاس من فرائض الله، وقيل: هي الدّين «1» .
والاختيان: مراودة الخيانة، أي تحرّك شهوة الإنسان لتحرّي الخيانة. قال تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ (البقرة/ 187) قيل في تفسير هذه الآية: معناه أن يستأمر بعضكم بعضا في موافقة
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
10/ 30/ 3
المحظور من الجماع، والأكل بعد النّوم في ليالي الصّوم، وقيل: إنّ المراد، أنّ كلّ واحد منهم يريد خيانة نفسه، وسمّي خائنا لأنّ الضّرر عائد عليه «2» .
ويقال: خانه في كذا. يخونه خونا وخيانة وخانة ومخانة: ائتمن فلم ينصح. وخان العهد نقضه. ويقال:
خان العهد والأمانة أي في العهد والأمانة. ويقال أيضا: خان عهده وأمانته. وخان الرّجل خونا كان به خون أي ضعف وفترة في نظره. وخوّنه تخوينا نسبه إلى الخيانة. وتخوّنه أيضا: تعهّده. واختانه اختيانا بمعنى خانه. والاختيان أبلغ من الخيانة. كما أنّ الاكتساب أبلغ من الكسب. واستخانه استخانة حاول خيانته.
والخائن اسم فاعل، جمعه خانة وخونة وخوّان.
والخائنة: مؤنّث الخائن. وقد يستعمل للخائن أيضا بزيادة التّاء المربوطة للمبالغة كرواية للكثير الرّواية.
وخائنة الأعين ما يسارق من النّظر إلى مالا يحلّ.
وقيل: هي أن ينظر نظرة بريبة. ومنه الحديث: «وما كان لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين» أي يضمر في نفسه غير ما يظهره فإذا كفّ لسانه وأومأ بعينه فقد خان «3» .
__________
(1) تفسير الطبري (6/ 221، 222) .
(2) المرجع السابق (2/ 212) بتصرف.
(3) مقاييس اللغة (2/ 230) المفردات للراغب، لسان العرب (13/ 144- 145) باختصار. وانظر: النهاية في غريب الحديث (2/ 89) ، وجمهرة اللغة (2/ 244) (3/ 240) ، وبصائر ذوي التمييز (2/ 582) .(10/4482)
الخيانة اصطلاحا:
قال الجاحظ: الخيانة هي الاستبداد بما يؤتمن الإنسان عليه من الأموال والأعراض والحرم، وتملّك ما يستودع ومجاحدة مودعه، وفيها أيضا طيّ الأخبار إذا ندب لتأديتها، وتحريف الرّسائل إذا تحمّلها فصرفها عن وجوهها «1» .
وقال المناويّ: الخيانة: هي التّفريط في الأمانة، وقيل: هي مخالفة الحقّ بنقض العهد في السّرّ «2» .
وقال الكفويّ: إنّ الخيانة تقال اعتبارا بالعهد والأمانة، وخيانة الأعين: ما تسارق من النّظر إلى ما لا يحلّ «3» .
وقال ابن الجوزيّ: الخيانة: التّفريط فيما يؤتمن الإنسان عليه. ونقيضها: الأمانة.
وقال القرطبيّ: الخيانة: الغدر وإخفاء الشّيء، ومنه يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ (غافر/ 19) «4» .
الفرق بين النفاق والخيانة:
قال الرّاغب: الخيانة والنّفاق واحد، إلّا أنّ الخيانة تقال: اعتبارا بالعهد والأمانة، والنّفاق يقال:
اعتبارا بالدّين، ثمّ يتداخلان. فالخيانة: مخالفة الحقّ بنقض العهد في السّرّ. ونقيض الخيانة الأمانة. يقال:
خنت فلانا وخنت أمانة فلان. قال تعالى: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ (الأنفال/ 28) «5» .
من معاني كلمة «الخيانة» في القرآن الكريم:
أحدها: المعصية، ومنه قوله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ (البقرة/ 187) قال ابن قتيبة: تخونونها بالمعصية «6» .
الثّاني: نقض العهد. ومنه قوله تعالى في الأنفال: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ (الأنفال/ 58) .
الثّالث: ترك الأمانة. ومنه قوله تعالى في النّساء: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (النساء/ 105) . (نزلت في طعمة بن أبيرق المنافق كان عنده درع فخانها) .
الرّابع: المخالفة في الدّين. ومنه قوله تعالى في التّحريم: كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما «7» (التحريم/ 10) .
وزاد ابن سلّام وجها خامسا فقال: والخيانة تعني الزّنا في قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ «8» (يوسف/ 52) .
حكم الخيانة:
عدّ الإمام الذّهبيّ الخيانة من الكبائر بدليل
__________
(1) تهذيب الأخلاق (31) .
(2) التوقيف (162) .
(3) الكليات (434) .
(4) الجامع لأحكام القرآن (7/ 395) .
(5) بصائر ذوي التمييز (2/ 582) .
(6) تأويل مشكل القرآن (478) .
(7) نزهة الأعين النواظر (281- 283) .
(8) التصاريف لابن سلام (178) .(10/4483)
قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «آية المنافق ثلاث، إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» «1» ولقوله أيضا «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» «2» .
وقال: الخيانة قبيحة في كلّ شيء، وبعضها شرّ من بعض، وليس من خانك في فلس كمن خانك في أهلك ومالك وارتكب العظائم «3» .
أمّا ابن حجر فقد ذكر: أنّ الخيانة في الأمانات والوديعة والعين المرهونة والمستأجرة أو غير ذلك من الكبائر، وقال: عدّ ذلك كبيرة هو ما صرّح به غير واحد، وظاهر ممّا ذكر في الآيات والأحاديث «4» .
[للاستزادة: انظر صفات: إفشاء السر- التناجش- التنصل من المسئولية- الغدر- الغش- الغلول- نقض العهد- التطفيف.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الأمانة- كتمان السر- المسئولية- النزاهة- العفة- الوفاء- الإخلاص] .
__________
(1) البخاري (33) ، ومسلم (107، 109) .
(2) أبو داود (3534) ، والترمذي (1264) وقال: حسن غريب، والحاكم (2/ 46) ، وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي.
(3) الكبائر للذهبي (141، 150) .
(4) الزواجر لابن حجر (363) .(10/4484)
الآيات الواردة في «الخيانة»
الخيانة ثمرة الكفر أو النفاق:
1-* وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) «1»
2-* إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) «2»
3- يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) «3»
4- ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
__________
(1) المائدة: 12- 13 مدنية
(2) الحج: 38- 40 مدنية
(3) غافر: 16- 20 مكية(10/4485)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) «1»
الخيانة في مجال الحرب:
5- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) «2»
6- إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) «3»
7- يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) «4»
خيانة النفس أو الغير:
8- أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا
__________
(1) التحريم: 10- 12 مدنية
(2) الأنفال: 24- 28 مدنية
(3) الأنفال: 55- 59 مدنية
(4) الأنفال: 70- 71 مدنية(10/4486)
عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) «1»
9- إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108)
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) «2»
10- وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52)
* وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) «3»
__________
(1) البقرة: 187 مدنية
(2) النساء: 105- 109 مدنية
(3) يوسف: 50- 53 مكية(10/4487)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الخيانة)
1-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب. وإذا وعد أخلف. وإذا ائتمن خان» ) * «1» .
2-* (عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» ) * «2» .
3-* (عن عياض بن حمار المجاشعيّ- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبته: «ألا إنّ ربّي أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم ممّا علّمني، يومي هذا. كلّ مال نحلته عبدا حلال «3» . وإنّي خلقت عبادي حنفاء كلّهم «4» . وإنّهم أتتهم الشّياطين فاجتالتهم «5» عن دينهم. وحرّمت عليهم ما أحللت لهم. وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. وإنّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم «6» ، عربهم وعجمهم، إلّا بقايا من أهل الكتاب «7» . وقال: إنّما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك «8» . وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء «9» . تقرؤه نائما ويقظان. وإنّ الله أمرني أن أحرّق قريشا. فقلت: ربّ إذا يثلغوا رأسي «10» فيدعوه خبزة.
قال: استخرجهم كما استخرجوك. واغزهم نغزك «11» ، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشا نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك. قال: وأهل الجنّة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدّق موفّق. ورجل رحيم رقيق القلب لكلّ ذي قربى ومسلم. وعفيف متعفّف
__________
(1) البخاري- الفتح 1 (33) ، ومسلم 1 (59) متفق عليه.
(2) البخاري الفتح 1 (34) واللفظ له. ومسلم 1 (58) .
(3) كل مال نحلته عبدا حلال: في الكلام حذف. أي قال الله تعالى: كل مال الخ.. ومعنى نحلته أعطيته. أي كل مال أعطيته عبدا من عبادي فهو له حلال. والمراد إنكار ما حرموا على أنفسهم من السائبة والوصيلة والبحيرة والحامي وغير ذلك. وكل مال ملكه العبد فهو له حلال حتى يتعلق به حق.
(4) حنفاء كلهم: أي مسلمين، وقيل: طاهرين من المعاصي. وقيل: مستقيمين منيبين لقبول الهداية.
(5) فاجتالتهم: أي استخفوهم فذهبوا بهم، وأزالوهم عما كانوا عليه، وجالوا معهم في الباطل.
(6) فمقتهم: المقت أشد البغض. والمراد بهذا المقت والنظر، ما قبل بعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
(7) إلا بقايا من أهل الكتاب: المراد بهم الباقون على التمسك بدينهم الحق، من غير تبديل.
(8) انما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك: معناه لأمتحنك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به من تبليغ الرسالة، وغير ذلك من الجهاد في الله حق جهاده، والصبر في الله تعالى، وغير ذلك. وأبتلي بك من أرسلتك إليهم. فمنهم من يظهر إيمانه ويخلص في طاعته، ومن يتخلف وينابذ بالعداوة والكفر، ومن ينافق.
(9) كتابا لا يغسله الماء: معناه محفوظ في الصدور لا يتطرق إليه الذهاب، بل يبقى على مر الزمان.
(10) إذا يثلغوا رأسي: أي يشدخوه ويشجوه كما يشدخ الخبز، أي يكسر.
(11) نغزك: أي نعينك.(10/4488)
ذو عيال. قال: وأهل النّار خمسة: الضّعيف الّذي لا زبر له «1» ، الّذين هم فيكم تبعا لا يتبعون «2» أهلا ولا مالا. والخائن الّذي لا يخفى له طمع «3» ، وإن دقّ إلّا خانه. ورجل لا يصبح ولا يمسي إلّا وهو يخادعك عن أهلك ومالك» . وذكر البخل أو الكذب «4» «والشّنظير «5» الفحّاش» ولم يذكر أبو غسّان في حديثه «وأنفق فسننفق عليك» ) * «6» .
4-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضّجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنّها بئست البطانة» ) * «7» .
5-* (عن بريدة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «حرمة نساء المجاهدين «8» على القاعدين، كحرمة أمّهاتهم. وما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله، فيخونه فيهم، إلّا وقف له يوم القيامة، فيأخذ من عمله ماشاء. فما ظنّكم «9» ؟» ) * «10» .
6-* (عن عمران بن حصين- رضي الله عنهما- قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «خيركم قرني، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ الّذين يلونهم» - قال عمران: لا أدري أذكر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد قرنين أو ثلاثة- قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«إنّ بعدكم قوما يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السّمن» ) * «11» .
7-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنّه قال: «سيأتي على النّاس سنون يصدّق فيها الكاذب، ويكذّب فيها الصّادق، ويخوّن فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، وينطق فيها الرّويبضة» قال قيل: يا رسول الله؛ وما الرّويبضة؟ قال: «السّفيه يتكلّم في أمر العامّة» قال ابن قدامة: وحدّثني يحيى بن
__________
(1) لا زبر له: أي لا عقل له يزبره ويمنعه مما لا ينبغي. وقيل: هو الذي لا مال له. وقيل: الذي ليس عنده ما يعتمده.
(2) لا يتبعون: مخفف ومشدد من الاتباع. أي يتبعون ويتبعون. وفي بعض النسخ: يبتغون أي يطلبون.
(3) والخائن الذي لا يخفى له طمع: معنى لا يخفى لا يظهر. قال أهل اللغة: يقال خفيت الشيء إذا أظهرته. وأخفيته إذا سترته وكتمته. هذا هو المشهور. وقيل: هما لغتان فيهما جميعا.
(4) وذكر البخل أو الكذب: هكذا هو في أكثر النسخ: أو الكذب. وفي بعضها: والكذب. والأول هو المشهور.
(5) الشنظير: فسره في الحديث بأنه الفحاش، وهو السيء الخلق.
(6) مسلم (2865) .
(7) أبو داود (1547) وقال الألباني في صحيح أبي داود 1 (1368) حديث حسن (8/ 263- ح 3354) . وقال محقق جامع الأصول (4/ 357) : حسن.
(8) حرمة نساء المجاهدين: هذا في شيئين: أحدهما تحريم التعرض لهن بريبة من نظر محرم وخلوة وحديث محرم وغير ذلك. والثاني في برهن والإحسان إليهن وقضاء حوائجهن التي لا يترتب عليها مفسدة، ولا يتوصل بها إلى ريبة، ونحوها.
(9) فما ظنكم: معناه: ما تظنون في رغبته في أخذ حسناته والاستكثار منها في ذلك المقام، أي لا يبقى منها شيئا إن أمكنه.
(10) مسلم (1897) .
(11) البخاري- الفتح 5 (2651) واللفظ له. مسلم (2535) .(10/4489)
سعيد الأنصاريّ عن المقبريّ قال: «وتشيع فيها الفاحشة» ) * «1» .
8-* (عن أبي سبرة قال: كان عبيد الله بن زياد يسأل عن الحوض، حوض محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وكان يكذّب به، بعد ما سأل أبا برزة والبراء بن عازب وعائذ ابن عمرو ورجلا آخر، وكان يكذّب به، فقال أبو سبرة: أنا أحدّثك بحديث فيه شفاء هذا، إنّ أباك بعث معي بمال إلى معاوية، فلقيت عبد الله بن عمرو، فحدّثني عمّا سمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأملى عليّ، فكتبت بيدي، فلم أزد حرفا، ولم أنقص حرفا، حدّثني أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله لا يحبّ الفحش، أو يبغض الفاحش والمتفحّش» قال: ولا تقوم السّاعة حتّى يظهر الفحش والتّفاحش، وقطيعة الرّحم، وسوء المجاورة، وحتّى يؤتمن الخائن ويخوّن الأمين، وقال:
ألا إنّ موعدكم حوضي، عرضه وطوله واحد، وهو كما بين أيلة ومكّة، وهو مسيرة شهر، فيه مثل النّجوم أباريق، شرابه أشدّ بياضا من الفضّة، من شرب منه مشربا لم يظمأ بعده أبدا» فقال عبيد الله: ما سمعت في الحوض حديثا أثبت من هذا، فصدّق به. وأخذ الصّحيفة فحبسها عنده) * «2» .
9-* (عن يوسف بن ماهك المكّيّ، قال:
كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليّهم، فغالطوه بألف درهم، فأدّاها إليهم، فأدركت لهم من مالهم مثليها «3» ، قال: قلت: أقبض الألف الّذي ذهبوا به منك؟ قال: لا، حدّثني أبي أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» ) * «4» .
10-* (عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تجوز «5» شهادة خائن ولا خائنة، وردّ شهادة القانع، الخادم والتّابع، لأهل البيت، وأجازها لغيرهم» ) * «6» .
11-* (عن سعد- رضي الله عنه- قال: لمّا كان يوم فتح مكّة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفّان، فجاء به حتّى أوقفه على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه، ثلاثا، كلّ ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثمّ أقبل على أصحابه فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله» ؟ فقالوا:
__________
(1) ابن ماجة (4036) . وأحمد (2/ 291) . والحاكم في المستدرك (4/ 512) واللفظ له، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(2) أحمد في المسند 2 (162، 163) . وقال الشيخ أحمد شاكر 10 (6514) (ص 20) : إسناده صحيح. ورواه الحاكم (1/ 75، 76) بثلاثة أسانيد ثم قال: حديث صحيح ووافقه الذهبي.
(3) هكذا في الأصل في سنن أبي داود، وفي صحيح سنن أبي داود. والمعنى إنما يستقيم بإفراد الضمير بأن يقال: «فأدركت له من مالهم ... الخ» .
(4) أبو داود (3534) واللفظ له. والترمذي (1264) من حديث أبي هريرة وقال: حديث حسن غريب. وقال الألباني في صحيح أبي داود (3018، 1019) : صحيح.
(5) ولا تجوز: بمعنى لا تقبل.
(6) أحمد (2/ 181) وقال الشيخ أحمد شاكر (6698) : إسناده صحيح.(10/4490)
ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال: «إنّه لا ينبغي لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين» ) * «1» .
12-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فذكر أحاديث. منها: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لولا بنو إسرائيل، لم يخبث الطّعام. ولم يخنز اللّحم «2» . ولولا حوّاء لم تخن أنثى زوجها، الدّهر» ) * «3» .
13-* (عن جابر- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقطع الخائن ولا المنتهب ولا المختلس «4» » ) * «5» .
14-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنّه قال: «من تقوّل عليّ ما لم أقل فليتبوّا مقعده من النّار، ومن أفتى بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على من أفتاه، ومن استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه» ) * «6» .
15-* (عن جابر- رضي الله عنه- قال:
نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يطرق الرّجل أهله ليلا.
يتخوّنهم أو يلتمس عثراتهم) * «7» .
16-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- «8» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (البقرة/ 183) فكان النّاس على عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، إذا صلّوا العتمة، حرم عليهم الطّعام والشّراب والنّساء، وصاموا إلى القابلة. فاختان رجل نفسه، فجامع امرأته، وقد صلّى العشاء، ولم يفطر، فأراد الله- عزّ وجلّ- أن يجعل ذلك يسرا لمن بقي، ورخصة ومنفعة، فقال سبحانه: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ (البقرة/ 187) . وكان هذا ممّا نفع الله به النّاس، ورخّص لهم ويسّر) * «9» .
17-* (عن عبد الله بن أبي أوفى- رضي الله عنهما- يقول: «أقام رجل سلعته فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعطها. فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا (آل عمران/ 77) قال ابن أبي أوفى: النّاجش: آكل ربا خائن» ) * «10» .
__________
(1) أبو داود (4359) واللفظ له وقال الألباني في صحيح أبي داود 3 (3664) : صحيح. النسائي (7/ 105، 106) وقال محقق جامع الأصول (8/ 376) : حديث حسن.
(2) يخنز اللحم: تتغير رائحته، ويصير نتنا.
(3) البخاري- الفتح 6 (3330) ومسلم (1470) واللفظ له.
(4) ليس عليه حد في الدنيا وإنما ينال جزاءه في الآخرة بمقتضى النصوص الأخرى.
(5) أبو داود: 4 (4391، 4392) وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود 3 (3690، 3691) : صحيح. وابن ماجة (2591) واللفظ له.
(6) أحمد (2/ 321) رقم (8286) واللفظ له. وقال الألباني في صحيح أبي داود (3105) : حسن. وقال الشيخ أحمد شاكر (8761) : رواه البخاري ومسلم وابن ماجة والحاكم والشافعي في الرسالة والدارمي بنحوه.
(7) مسلم (3/ 1528) كتاب الإمارة برقم (715) . وأصله عند البخاري إلى قوله ليلا، فتح الباري 10 (5243) .
(8) هكذا بالأصل، والمراد أنه قال في تفسير هذه الآية.
(9) أبو داود (2313) وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود (2028) : حسن. وأصله في البخاري. الفتح 8 (4508) .
(10) البخاري- الفتح 5 (2675) .(10/4491)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الخيانة) معنى
18-* (عن حذيفة- رضي الله عنه- قال:
حدّثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر. حدّثنا: «أنّ الأمانة «1» نزلت في جذر قلوب الرّجال «2» . ثمّ نزل القرآن. فعلموا من القرآن وعلموا من السّنّة» ثمّ حدّثنا عن رفع الأمانة قال:
«ينام الرّجل النّومة فتقبض الأمانة من قلبه. فيظلّ أثرها مثل الوكت «3» . ثمّ ينام النّومة فتقبض الأمانة من قلبه. فيظلّ أثرها مثل المجل «4» . كجمر دحرجته على رجلك. فنفط «5» فتراه منتبرا «6» . وليس فيه شيء (ثمّ أخذ حصى فدحرجه على رجله) فيصبح النّاس يتبايعون. لا يكاد أحد يؤدّي الأمانة حتّى يقال: إنّ في بني فلان رجلا أمينا. حتّى يقال للرّجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبّة من خردل من إيمان. ولقد أتى عليّ زمان «7» وما أبالي أيّكم بايعت.
لئن كان مسلما ليردّنّه عليّ دينه. ولئن كان نصرانيّا أو يهوديّا ليردّنّه عليّ ساعيه. وأمّا اليوم فما كنت لأبايع
__________
(1) الأمانة: الظاهر أن المراد بها التكليف الذي كلف الله تعالى به عباده، والعهد الذي أخذه عليهم. الأمانة في الحديث هي الأمانة المذكورة في قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ، وهي عين الإيمان. فإذا استمكنت الأمانة من قلب العبد قام حينئذ بأداء التكاليف، واغتنم ما يرد عليه منها، وجد في إقامتها.
(2) جذر قلوب الرجال: الجذر، بفتح الجيم وكسرها، لغتان. قال في الفائق: الجذر، بالفتح والكسر، الأصل.
(3) الوكت: هو الأثر اليسير. وقيل: هو سواد يسير. وقيل: هو لون يحدث مخالف للون الذي كان قبله.
(4) المجل: بإسكان الجيم وفتحها: لغتان. والمشهور الإسكان. يقال: مجلت يده تمجل مجلا. ومجلت تمجل مجلا، لغتان مشهورتان. والمجل هو التنفط الذي يصير في اليد من العمل بفأس أو نحوها ويصير كالقبة فيه ماء قليل.
(5) فنفط: يقال: نفطت يده نفطا، من باب تعب، ونفيطا إذا صار بين الجلد واللحم ماء. وتذكير الفعل المسند إلى الرجل، وكذا تذكير قوله: فتراه منتبرا. مع أن الرّجل مؤنثة، باعتبار معنى العضو.
(6) ومنتبرا: مرتفعا. وأصل هذا اللفظ الارتفاع. ومنه المنبر لارتفاعه وارتفاع الخطيب عليه. قال صاحب التحرير: معنى الحديث أن الأمانة تزول عن القلوب شيئا فشيئا. فإذا زال أول جزء منها زال نورها وخلفته ظلمة كالوكت. وهو اعتراض لون مخالف للون الذي قبله. فإذا زال شيء آخر صار كالمجل وهو أثر محكم لا يكاد يزول إلا بعد مدة. وهذه الظلمة فوق التي قبلها. ثم شبه زوال ذلك النور بعد وقوعه في القلب وخروجه بعد استقراره فيه، واعتقاب الظلمة إياه، بجمر يدحرجه على رجله حتى يؤثر فيها ثم يزول الجمر ويبقى التنفط.
(7) ولقد أتى عليّ زمان: معنى المبايعة هنا البيع والشراء المعروفان. ومراده أني كنت أعلم أن الأمانة لم ترتفع، وأن في الناس وفاء بالعهود. فكنت أقدم على مبايعة من اتفق غير باحث عن حاله، وثوقا بالناس وأمانتهم. فإنه إن كان مسلما فدينه وأمانته تمنعه من الخيانة وتحمله على أداء الأمانة. وإن كان كافرا فساعيه، وهو الوالي عليه، كان يقوم أيضا بالأمانة في ولايته، فيستخرج حقي منه. وأما اليوم فقد ذهبت الأمانة، فما بقى لي وثوق بمن أبايعه، ولا بالساعي في أدائهما الأمانة. فما أبايع إلا فلانا وفلانا، يعني أفرادا من الناس، أعرفهم وأثق فيهم.(10/4492)
منكم إلّا فلانا وفلانا» ) * «1» .
19-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: بينما النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مجلس يحدّث القوم جاءه أعرابيّ فقال: متى السّاعة؟ فمضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحدّث.
فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتّى إذا قضى حديثه قال: أين أراه السّائل عن السّاعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله.
قال: «فإذا ضيّعت الأمانة فانتظر السّاعة» . قال:
كيف إضاعتها؟ قال: «إذا وسّد الأمر إلى غير أهله فانتظر السّاعة» ) * «2» .
20-* (عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: بينا نحن صفوفا «3» خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الظّهر أو العصر إذ رأيناه يتناول شيئا بين يديه في الصّلاة ليأخذه ثمّ يتناوله ليأخذه، ثمّ حيل بينه وبينه، ثمّ تأخّر وتأخّرنا، ثمّ تأخّر الثّانية وتأخّرنا فلمّا سلّم، قال أبيّ بن كعب: يا رسول الله رأيناك اليوم تصنع في صلاتك شيئا لم تكن تصنعه. قال: «إنّي عرضت عليّ الجنّة بما فيها من الزّهرة والنّضرة فتناولت قطفا منها لآتيكم به ولو أخذته لأكل منه من بين السّماء والأرض لا ينقصونه فحيل بيني وبينه. ثمّ عرضت عليّ النّار فلمّا وجدت حرّ شعاعها تأخّرت، وأكثر من رأيت فيها النّساء اللّاتي إن ائتمنّ أفشين وإن سألن أحفين- قال زكريّا: ألحفن- وإن أعطين لم يشكرن، ورأيت فيها لحيّ بن عمرو يجرّ قصبه. وأشبه من رأيت به معبد بن أكثم قال معبد: أي رسول الله يخشى عليّ من شبهه فإنّه والد، قال: لا، أنت مؤمن وهو كافر، وهو أوّل من جمع العرب على عبادة الأصنام» ) * «4» .
21-* (عاد عبيد الله بن زياد، معقل بن يسار المزنيّ. في مرضه الّذي مات فيه. فقال معقل: إنّي محدّثك حديثا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. لو علمت أنّ لي حياة ما حدّثتك. إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«ما من عبد يسترعيه الله رعيّة، يموت يوم يموت وهو غاشّ لرعيّته، إلّا حرّم الله عليه الجنّة» ) * «5» .
22-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «غزا نبيّ من الأنبياء. فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع «6» امرأة، وهو يريد أن يبني بها، ولمّا يبن. ولا آخر قد بنى بنيانا، ولمّا يرفع سقفها. ولا
__________
(1) البخاري- الفتح 11 (6497) . مسلم (143) واللفظ له.
(2) البخاري- الفتح 1 (59) .
(3) هكذا في الأصل (صفوفا) وذلك بتقدير (نقف صفوفا) وفي المسند نفسه 3 (352، 353) بلفظ آخر وهو الموافق لما في مجمع الزوائد. والمسند الجامع برقم (3081) .
(4) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 88) واللفظ له. وقال: رواه أحمد (5/ 137) وروى عن أبي بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وسلم قال بمثله وفي الإسنادين عبد الله بن محمد بن عقيل وفيه ضعف وقد وثق.
(5) مسلم (142) .
(6) بضع: بضم الباء هو فرج المرأة. أي ملك فرجها بالنكاح.(10/4493)
آخر قد اشترى غنما أو خلفات «1» ، وهو منتظر ولادها «2» . قال: فغزا. فأدنى للقرية «3» حين صلاة العصر. أو قريبا من ذلك. فقال للشّمس: أنت مأمورة، وأنا مأمور. اللهمّ احبسها عليّ شيئا «4» .
فحبست عليه حتّى فتح الله عليه. قال: فجمعوا ما غنموا. فأقبلت النّار «5» لتأكله. فأبت أن تطعمه.
فقال: فيكم غلول. فليبايعني من كلّ قبيلة رجل.
فبايعوه. فلصقت يد رجل بيده. فقال: فيكم الغلول.
فلتبايعني قبيلتك. فبايعته. قال: فلصقت بيد رجلين أو ثلاثة. فقال: فيكم الغلول. أنتم غللتم. قال:
فأخرجوا له مثل رأس بقرة «6» من ذهب. قال:
فوضعوه في المال وهو بالصّعيد «7» . فأقبلت النّار فأكلته. فلم تحلّ الغنائم لأحد من قبلنا. ذلك بأنّ الله تبارك وتعالى- رأى ضعفنا وعجزنا، فطيّبها «8» لنا» ) * «9» .
23-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة:
رجل أعطى بي ثمّ غدر، ورجل باع حرّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره) * «10» .
24-* (عن بريدة- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذا أمّر أميرا على جيش أو سريّة «11» ، أوصاه في خاصّته «12» بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا. ثمّ قال: «اغزوا باسم الله. في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلّوا «13» . ولا تغدروا «14» ولا
__________
(1) خلفات: جمع خلفة ككلمة وكلمات وهي الحامل من الإبل.
(2) ولادها: أي نتاجها. وقال النووي: وفي هذا الحديث أن الأمور المهمة ينبغي أن لا تفوض إلا إلى أولي الحزم وفراغ البال لها. ولا تفوض إلى متعلق القلب بغيرها. لأن ذلك يضعف عزمه، ويفوت كمال بذل وسعه.
(3) فأدنى للقرية: فأدنى. بهمزة قطع. كذا هو في جميع النسخ: فأدنى رباعي إما أن يكون تعدية لدنا، أي قرب، فمعناه أدنى جيوشه وجموعه للقرية. وإما أن يكون أدنى بمعنى حان أي قرب فتحها. من قولهم: أدنت الناقة إذا حان نتاجها. ولم يقولوه في غير الناقة.
(4) اللهم احبسها: قال القاضي: اختلف في حبس الشمس المذكور هنا. فقيل: ردت على أدراجها. وقيل: وقفت ولم ترد. وقيل: أبطىء بحركتها.
(5) فأقبلت النار: أي من جانب السماء لتأكله، كما هو السنّة في الأمم الماضية، لغنائمهم وقرابينهم المتقبلة.
(6) فأخرجوا له مثل رأس بقرة: أي كقدره أو كصورته من ذهب كانوا غلوه وأخفوه.
(7) بالصعيد: يعني وجه الأرض.
(8) فطيبها: أي جعلها لنا حلالا بحتا، ورفع عنا محقها بالنار، تكرمة لنا.
(9) مسلم (1747) .
(10) البخاري- الفتح 4 (2227) .
(11) سرية: هي قطعة من الجيش تخرج منه تغير وتعود إليه. وقيل: هي الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها قالوا: سميت سرية لأنها تسري في الليل ويخفى ذهابها. وهي فعيلة بمعنى فاعلة. يقال: سرى وأسرى، إذا ذهب ليلا.
(12) في خاصته: أي في حق نفس ذلك الأمير خصوصا.
(13) ولا تغلوا: من الغلول. ومعناه الخيانة في الغنم. أي لا تخونوا في الغنيمة.
(14) ولا تغدروا: أي ولا تنقضوا العهد.(10/4494)
تمثلوا «1» ولا تقتلوا وليدا «2» . وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) . فأيّتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم. ثمّ ادعهم إلى الإسلام «3» . فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم. ثمّ ادعهم إلى التّحوّل من دراهم إلى دار المهاجرين.
وأخبرهم أنّهم، إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا أن يتحوّلوا منها، فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب المسلمين. يجري عليهم حكم الله الّذي يجري على المؤمنين. ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء. إلّا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا فسلهم الجزية. فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم. فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمّة الله «4» وذمّة نبيّه. فلا تجعل لهم ذمّة الله ولا ذمّة نبيّه. ولكن اجعل لهم ذمّتك وذمّة أصحابك. فإنّكم أن تخفروا «5» ذممكم وذمم أصحابكم، أهون من أن تخفروا ذمّة الله وذمّة رسوله. وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله. ولكن أنزلهم على حكمك. فإنّك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» ) * «6» .
25-* (عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كيف أنت إذا بقيت في حثالة من النّاس؟» قال: قلت:
يا رسول الله، كيف ذلك؟ قال: «إذا مرجت عهودهم وأماناتهم، وكانوا هكذا» وشبّك يونس بين أصابعه:
يصف ذلك- قال: قلت: ما أصنع عند ذاك يا رسول الله؟ قال: «اتّق الله- عزّ وجلّ- وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بخاصّتك، وإيّاك وعوامّهم) * «7» .
26-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تلقّوا البيع «8» ، ولا تصرّوا الغنم والإبل «9» للبيع، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النّظرين: إن شاء أمسكها، وإن شاء ردّها بصاع تمر، لا سمراء «10» » ) * «11» .
27-* (عن أبي سعيد- رضي الله عنه-
__________
(1) ولا تمثلوا: أي لا تشوهوا القتلى يقطع الأنوف والآذان.
(2) وليدا: أي صبيا، لأنه لا يقاتل.
(3) ثم ادعهم إلى الإسلام: هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم: ثم ادعهم. قيل: صواب الرواية: ادعهم، بإسقاط ثم. وقد جاء بإسقاطها على الصواب في كتاب أبي عبيد وفي سنن أبي داود وغيرهما. لأنه تفسير للخصال الثلاث، وليست غيرها. وقال المازري: ليست ثم، هنا زائدة. بل دخلت لاستفتاح الكلام والأخذ.
(4) ذمة الله: الذمة، هنا، العهد.
(5) أن تخفروا: يقال: أخفرت الرجل اذا نقضت عهده. وخفرته أمنته وحميته.
(6) مسلم (1731) .
(7) رواه أحمد: 2/ 162 وقال الشيخ أحمد شاكر 10 (6508) : إسناده صحيح. ورواه الحاكم (4/ 435) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(8) لا تلقوا البيع: هو أن يستقبل الحضري البدوي قبل وصوله للبلد ويخبره كذبا بكساد ما معه ليشتري منه سلعته بأقل من ثمن المثل.
(9) لا تصروا الإبل والغنم: معناه: لا تجمعوا اللبن في ضرعها عند إرادة بيعها حتى يعظم ضرعها فيظن المشتري أن كثرة لبنها عادة لها مستمرة.
(10) لا سمراء: السمراء: الحنطة والمعنى أنه لا يلزم بدفع صاع منها لأنها أكثر ثمنا من التمر في عصرهم.
(11) أحمد (2/ 242) ، وقال الشيخ أحمد شاكر 14 (7303) : إسناده صحيح، وأصله عند البخاري- الفتح 4 (2151) . ومسلم (1515) ، وأبي داود (3443) ومالك والنسائي وغيرهم.(10/4495)
قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لكلّ غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره. ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامّة» ) * «1» .
28-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: لمّا فتحت خيبر أهديت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شاة فيها سمّ، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اجمعوا لي من كان هاهنا من يهود» فجمعوا له، فقال: «إنّي سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقيّ عنه؟» فقالوا: نعم. قال لهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من أبوكم؟» قالوا: فلان. فقال: «كذبتم، بل أبوكم فلان» . قالوا: «صدقت» . قال: فهل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألت عنه؟» فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا، كما عرفته في أبينا. فقال لهم: «من أهل النّار؟» قالوا: نكون فيها يسيرا، ثمّ تخلفونا فيها.
فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اخسأوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدا» . ثمّ قال: «هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم. قال: «هل جعلتم في هذه الشّاة سمّا؟» قالوا: نعم. قال: «ما حملكم على ذلك؟» قالوا: إن كنت كاذبا نستريح، وإن كنت نبيّا لم يضرّك) * «2» .
29-* (عن أبي زرارة عديّ بن عميرة الكنديّ- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«من استعملناه منكم على عمل، فكتمنا مخيطا «3» فما فوقه، كان غلولا «4» يأتي به يوم القيامة» قال: فقام رجل من الأنصار أسود، كأنّي أنظر إليه فقال: يا رسول الله، اقبل عنّي عملك، قال: «ومالك؟» قال: سمعتك تقول: كذا وكذا، قال: «وأنا أقوله الآن: من استعملناه منكم على عمل فيجيء بقليله وكثيره. فما أوتي منه أخذ، وما نهي عنه انتهى» ) * «5» .
30-* (عن أبي حميد السّاعديّ- رضي الله عنه- قال: استعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من الأسد يقال له ابن اللّتبيّة (قال عمرو وابن أبي عمر: على الصّدقة) فلمّا قدم قال: هذا لكم. وهذا لي، أهدي لي.
قال: فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر. فحمد الله وأثنى عليه، وقال: «ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي. أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمّه حتّى ينظر أيهدى إليه أم لا؟ والّذي نفس محمّد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلّا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، بعير له رغاء. أو بقرة لها خوار. أو شاة تيعر» . ثمّ رفع يديه حتّى رأينا عفرتي إبطيه. ثمّ قال:
«اللهمّ هل بلّغت؟» مرّتين) * «6» .
__________
(1) البخاري- الفتح 6 (3188) عن عبد الله. ومسلم (1738) واللفظ له، وقوله «أمير عامة» أي من غدر صاحب الولاية العامة لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير.
(2) البخاري- الفتح 6 (3169) .
(3) المخيط: الإبرة.
(4) الغلول: الخيانة.
(5) مسلم (1833) .
(6) البخاري- الفتح 13 (7197) . ومسلم (1832) واللفظ له.(10/4496)
من الآثار الواردة في ذمّ (الخيانة)
1-* (عن عديّ بن حاتم قال: أتينا عمر في وفد، فجعل يدعو رجلا رجلا ويسمّيهم. فقلت: أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: «بلى، أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا. فقال عديّ- رضي الله عنه-: فلا أبالي إذا) * «1» 2-* (قال علي- رضي الله عنه-:
أدّالأمانة والخيانة فاجتنب ... واعدل ولا تظلم يطيب المكسب) *
«2» 3-* (كان شريح يقضي في المضارب بقضائين: كان ربّما قال للمضارب: بيّنتك على مصيبة تعذر بها. وربّما قال لصاحب المال: بيّنتك أنّ أمينك خائن وإلّا فيمينه بالله ما خانك «3» ) * «4» .
من مضار (الخيانة)
(1) تسخط الله- عزّ وجلّ- على العبد.
(2) داء وبيل إذا استشرى بالإنسان جرّده من إنسانيّته وجعله وحشايهيم وراء ملذّاته.
(3) من علامات النّفاق.
(4) طريق موصل إلى العار في الدّنيا والنّار في الآخرة.
(5) أسوأ ما يبطن الإنسان.
(6) خيانة المجاهد في أهله أعظم جرما من خيانة غير المجاهد.
(7) انتشار الخيانة في المجتمع من علامات اضمحلاله وهو علامة من علامات السّاعة.
(8) انتشار الغلول والرّشوة والمطل والغشّ لأنّها كلّها من الخيانة.
__________
(1) البخاري- الفتح 7 (4394) .
(2) ديوان علي- رضي الله عنه- (48) .
(3) المعنى: أن تأتي ببينة أن أمينك (الذي هو شريك) خائن.
(4) النسائي (7/ 53، 54) .(10/4497)
[حرف الدال]
الدّياثة
الدّياثة لغة:
مصدر قولهم: داث الرّجل يديث إذا ذلّ، وهو مأخوذ من مادّة (د ي ث) الّتي تدلّ على التّذليل، يقال من ذلك: ديّثته إذا أذللته، من قولهم: طريق مديّث أي مذلّل.
وقال الجوهريّ: الدّيّوث: القنذع: وهو الّذي لا غيرة له، وقال ابن الأثير: وفي حديث عليّ «وديّث بالصّغار» أي ذلّل، والدّيّوث: هو الّذي لا يغار على أهله، وقيل: هذا اللّفظ سريانيّ معرّب، أي ليس له أصل في العربيّة يشتقّ منه.
وقال ابن منظور: الدّياثة والتّياثة (بالكسر) فعل الدّيّوث. ويقال: ديّث الأمر: ليّنه وذلّلّه، وديّث الطّريق: وطّأه، والتّدييث: القيادة والدّيّوث: القوّاد على أهله، والّذي لا يغار على أهله. وقال في المحكم:
هو الّذي يدخل الرّجال على حرمته بحيث يراهم، وقيل له ديّوث لأنّه ليّن نفسه على ذلك.
وقال ثعلب: هو الّذي تؤتى أهله وهو يعلم، ويقال للدّيّوث أيضا: القندع والقنذع (بالدّال المهملة والذّال المعجمة) «1» .
الآيات/ الأحاديث/ الآثار/
1/ 5
الدياثة اصطلاحا:
الدّياثة في الاصطلاح فعل الدّيّوث، والدّيّوث: هو الّذي يقرّ الخبث في أهله أي يستحسنه على أهله «2» .
وقيل: هو الّذي لا غيرة له على أهله «3» .
قبح الدياثة:
قال ابن تيميّة- رحمه الله تعالى-: إنّ المرأة إذا كانت زانية فإنّها لا تحصن فرجها عن غير زوجها، بل يأتيها هو وغيره كان الزّوج زانيا ديّوثا أمّا كونه زانيا فلأنّه يشترك هو وغيره فيها، فشأنه وشأنهم سواء، وهذا حال الزّناة، وأمّا كونه ديّوثا فلأنّه أقرّ على أهله الزّنا وهو يعلم بذلك. وفاعل ذلك إمّا مشرك أو زان ليس من المؤمنين الّذين يمنعهم إيمانهم من ذلك وقد رضي لنفسه بالقيادة والدّياثة، وهذا الفعل منه مخالف للفطرة ونقل لها عن طبيعتها، إذ قد جعل الله في نفوس بني آدم من الغيرة ما هو معروف، بحيث يستعظم الرّجل أن يطأ رجل آخر امرأته أعظم من غيرته على نفسه أن يزني، فإذا لم يكره أن تكون زوجته بغيّا فهو ديّوث. ولا يوجد ديّوث قوّاد إلّا وهو زان لأنّه إن لم
__________
(1) المقاييس (2/ 317) ، لسان العرب (2/ 1465) ، والصحاح (1/ 282) ، والمصباح المنير (205) ، والنهاية (2/ 147) .
(2) الذهبي، الكبائر (137) .
(3) السيوطي في شرحه على سنن النسائي (5/ 80) وبمثل قوله قال السّندي في حاشيته، انظر سنن النسائي (بالهامش) (5/ 81) .(10/4498)
يكن معه إيمان يكره به زنا غيره بزوجته كيف يكون معه إيمان يمنعه من الزّنا؟ «1» .
حكم الدياثة:
عدّ الذّهبيّ الدّياثة من الكبائر ثمّ قال: فمن كان يظنّ بأهله الفاحشة ويتغافل لمحبّته فيها أو لأنّ لها عليه دينا وهو عاجز، أو صداقا ثقيلا، أو له أطفال صغار فترفعه إلى القاضي وتطلب فرضهم، فهو دون من يعرض عنه، ولا خير فيمن لا غيرة له «2» .
[للاستزادة: انظر صفات: الخنوثة- صغر الهمة- الضعف- الفجور- الزنا- الفحش- الغي والإغواء- اتباع الهوى- إطلاق البصر.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: حفظ الفرج- الرجولة- الشهامة- العزة- المروءة- النزاهة- الشرف- غض البصر- الغيرة] .
__________
(1) بتصرف شديد من مجموع الفتاوي (15/ 318- 320) .
(2) الكبائر ص 137.(10/4499)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الدياثة)
1-* (عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة لا ينظر الله- عزّ وجلّ- إليهم يوم القيامة: العاقّ لوالديه، والمرأة المترجّلة، والدّيّوث. وثلاثة لا يدخلون الجنّة:
العاقّ لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنّان بما أعطى» ) * «1» .
من الآثار وأقوال العلماء الواردة في ذمّ (الدياثة)
1-* (قال قتادة- رحمه الله تعالى-: حرّم الله على المؤمنين نكاح البغايا) * «2» .
2-* (قال الغزاليّ- رحمه الله تعالى-: إنّ من ثمرة الحميّة الضعيفة قلّة الأنفة من التّعرّض للحرم والزّوجة والأمة، واحتمال الذّلّ من الأخسّاء، وصغر النّفس، والقماءة، وقد يثمر عدم الغيرة على الحريم، فإذا كان الأمر كذلك اختلطت الأنساب، ولذلك قيل: كلّ أمّة ضعفت الغيرة في رجالها ضعفت الصّيانة في نسائها، فإنّه قد خلقت الغيرة لحفظ الأنساب- فعلى هذا- كلّ أمّة فقدت الغيرة في رجالها فقدت الصّيانة في نسائها) * «3» .
3-* (قال ابن تيميّة- رحمه الله تعالى-: إنّ الحشيشة المصنوعة من ورق القنّب حرام يجلد صاحبها كما يجلد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنّها تفسد العقل والمزاج حتّى يصير في الرّجل تخنّث ودياثة وغير ذلك من الفساد) * «4» .
4-* (وقال- رحمه الله تعالى-: إنّ الإنسان إذا قلّت غيرته وزادت حميّته بفعل أشياء وتعاطي بعض الموادّ يتدرّج به الحال حتّى يصير ديّوثا أو مأبونا وإمّا يجمع بين الوصفين القبيحين) * «5» .
5-* (قال الذّهبيّ- رحمه الله تعالى-: من كان يظنّ بأهله الفاحشة ويتغافل لمحبّته فيها أو أنّ لها عليه دينا وهو عاجز أو صداقا ثقيلا، أو له أطفال صغار. ولا خير فيمن لا غيرة له. يعني فمن كان هكذا فهو الدّيّوث) * «6» .
__________
(1) النسائي (5/ 80- 81) وقال الألباني (2/ 541) : حسن صحيح. وأحمد (2/ 134) رقم (6185) ، وقال أحمد شاكر (9/ 34) : إسناده صحيح. وقال الأرناؤوط في تعليقه على «جامع الأصول» (11/ 707) : وهو حديث حسن.
(2) تفسير ابن كثير (3/ 262) .
(3) إحياء علوم الدين (3/ 168) بتصرف.
(4) فتاوى الخمر والمخدرات لشيخ الإسلام ابن تيمية، إعداد وتعليق: أحمد حرك (20) ، دار البشير، المعادي، القاهرة، ط. 1، بدون تاريخ.
(5) مجموع الفتاوى (34/ 223) بتصرف.
(6) كتاب الكبائر (137) .(10/4500)
من مضار (الدياثة)
1- تؤدّي هذه الصّفة الذّميمة إلى مفاسد اجتماعيّة خطيرة.
2- فيها مخالفة للفطرة الإنسانيّة السّليمة.
3- تجلب غضب الله وسخط رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
4- كبيرة من الكبائر الّتي نهى عنها ديننا الحنيف.
5- لا خير فيمن لا يغار على أهله.
6- الدّيّوث لا قيمة له في المجتمع الصّالح.(10/4501)
[حرف الذال]
الذل
الذل لغة:
مصدر قولهم: ذلّ يذلّ ذلّا، وهو مأخوذ من مادّة (ذ ل ل) الّتي تدلّ على الخضوع والاستكانة واللّين، فالذّلّ ضدّ العزّ. يقول ابن فارس: وهذه مقابلة في التّضادّ صحيحة تدلّ على الحكمة الّتي خصّت بها العرب؛ لأنّ العزّ من العزاز، وهي الأرض الصّلبة الشّديدة، والذّلّ خلاف الصّعوبة، وحكي عن بعضهم: بعض الذّلّ (بكسر الذّال) أبقى للأهل والمال، ومن هذا دابّة ذلول ويقال لما وطأ من الطّريق ذلّ، وذلّل القطف تذليلا إذا لان وتدلّى «1» .
وقال الرّاغب: الذّلّ ما كان عن قهر. يقال:
ذلّ يذلّ ذلّا، والذّلّ (بالكسر) ما كان بعد تصعّب، وقول الله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ (الإسراء/ 24) أي كن كالمقهور لهما، وقريء جَناحَ الذُّلِّ أي لن، وانقد لهما «2» .
قال القرطبيّ: الذّلّ هو اللّين، وقال الطّبريّ:
المعنى أن تلين لهما حتّى لا تمتنع من شيء أحبّاه «3» .
وقال الجوهريّ: الذّلّ ضدّ العزّ. يقال: رجل
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
16/ 26/ 7
ذليل بيّن الذّلّ والذّلّة والمذلّة من قوم أذلّاء وأذلّة.
وتذلّل له: أي خضع، وأذلّ الرّجل أي صار أصحابه أذلّاء «4» .
وقال ابن منظور: يقال ذلّ (الرّجل) يذلّ ذلّا وذلّة وذلالة ومذلّة، فهو ذليل بيّن الذّلّ والمذلّة، من قوم أذلّاء، وأذلّة وذلال، والذّلّ بالكسر اللّين، وهو ضدّ الصّعوبة. يقال: دابّة ذلول: بيّنة الذّلّ من دوابّ ذلل. وأذلّه هو وأذلّ الرّجل: صار أصحابه أذلّاء.
وأذلّه: وجده ذليلا. واستذلّوه: رأوه ذليلا، ويجمع الذّليل من النّاس أذلّة وذلّانا. والذّلّ: الخسّة. وأذلّه واستذلّه كلّه بمعنى واحد. وتذلّل له أي خضع. وفي أسماء الله تعالى: المذلّ؛ هو الّذي يلحق الذّلّ بمن يشاء من عباده وينفي عنه أنواع العزّ جميعها.
وفي التّنزيل العزيز: سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا (الأعراف/ 152) قيل:
الذّلّة ما أمروا به من قتل أنفسهم «5» .
وقيل الذّلّة هي الهوان لعقوبة الله إيّاهم على كفرهم بربّهم وذلك بقتل (اليهود) بعضهم بعضا «6»
__________
(1) مقاييس اللغة (2/ 345) .
(2) المفردات (181) .
(3) تفسير الطبري (8/ 61) ، والقرطبي (10/ 159) .
(4) الصحاح (4/ 1701، 1702) .
(5) لسان العرب (11/ 256، 258) ، وانظر: بصائر ذوي التمييز (3/ 17) .
(6) تفسير الطبري (6/ 71) .(10/4502)
الذل اصطلاحا:
قال المناويّ: الذّلّ- بالضّمّ- ما كان عن قهر- وبالكسر- ما كان عن تصعّب بغير قهر «1» .
وقال الكفويّ: الذّلّ (بالكسر) في الدّابّة ضدّ الصّعوبة، وبالضّمّ في الإنسان ضدّ العزّ؛ لأنّ ما يلحق الإنسان أكثر قدرا ممّا يلحق الدّابّة، وقيل الذّلّ (بالضّمّ) ما كان عن قهر، (وبالكسر) ما كان عن تصعّب، والذّليل في النّاس هو الفقير الخاضع المهان «2» .
الذل بين المدح والذم:
قال الرّاغب: الذّلّ متى كان من جهة الإنسان نفسه لنفسه فمحمود، نحو قوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (المائدة/ 54) وقال تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ (آل عمران/ 123) «3» ، وفيما عدا ذلك يكون مذموما لأنّ العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين.
من معاني كلمة «الذل» في القرآن الكريم:
أحدها: القلّة. ومنه قوله تعالى في (آل عمران/ 23) : وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ.
والثّاني: التّواضع. ومنه قوله تعالى في (المائدة/ 54) : فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وفي سورة (بني إسرائيل/ 24) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ.
والثّالث: السّهولة. ومنه قوله تعالى في سورة الإنسان/ 14) : وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا. وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (يس/ 71) «4» .
[للاستزادة: انظر صفات: التسول- صغر الهمة- الضعف- الوهن- اليأس- التخاذل- التهاون.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: العزة- الرجولة- الشرف- القوة- النبل- قوة الإرادة- العزم والعزيمة] .
__________
(1) التوقيف على مهمات التعاريف (350) .
(2) الكليات (462، 463) .
(3) المفردات (181) .
(4) نزهة الأعين النواظر (300- 301) .(10/4503)
الآيات الواردة في «الذل»
آيات في سياق عقاب الدنيا وأفعال أهلها:
1- وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) «1»
2- قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) «2»
3- كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) «3»
4- وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) «4»
5- إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) «5»
__________
(1) البقرة: 61 مدنية
(2) آل عمران: 26 مدنية
(3) آل عمران: 110- 112 مدنية
(4) آل عمران: 123- 126 مدنية
(5) الأعراف: 152 مكية(10/4504)
6- قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) «1»
7- يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) «2»
الذل بمعنى التواضع:
8- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) «3»
9- وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) «4»
في سياق نفي الذل عن الله- عز وجل-:
10- قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) «5»
آيات في سياق عقاب الآخرة:
11-* لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) «6»
12- وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133)
__________
(1) النمل: 34- 37 مكية
(2) المنافقون: 8 مدنية
(3) المائدة: 54 مدنية
(4) الإسراء: 24 مكية
(5) الإسراء: 110- 111 مكية
(6) يونس: 26- 28 مكية(10/4505)
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) «1»
13- وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) «2»
14- إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) «3»
15- يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) «4»
16- فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) «5»
__________
(1) طه: 133- 135 مكية
(2) الشورى: 44- 45 مكية
(3) المجادلة: 20 مدنية
(4) القلم: 42- 43 مكية
(5) المعارج: 42- 44 مكية(10/4506)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الذل)
1-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: اجتمع أناس من الأنصار فقالوا: آثر علينا غيرنا فبلغ ذلك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فجمعهم ثمّ خطبهم فقال:
«يا معشر الأنصار، ألم تكونوا أذلّة فأعزّكم الله؟ قالوا:
صدق الله ورسوله. قال: «ألم تكونوا ضلّالا فهداكم الله؟» . قالوا: صدق الله ورسوله. قال: «ألم تكونوا فقراء فأغناكم الله؟. قالوا: صدق الله ورسوله. ثمّ قال: «ألا تجيبونني؟ ألا تقولون أتيتنا طريدا فآويناك، وأتيتنا خائفا فأمّنّاك؟ ألا ترضون أن يذهب النّاس بالشّاء والبقران- يعني البقر- وتذهبون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتدخلونه بيوتكم؟ لو أنّ النّاس سلكوا واديا أو شعبة، وسلكتم واديا أو شعبة، سلكت واديكم أو شعبتكم، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار وإنّكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتّى تلقوني على الحوض» ) * «1» .
2-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة «2» وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزّرع، وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلّا لا ينزعه حتّى ترجعوا إلى دينكم» ) * «3» .
3-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، كان يقول: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من الفقر، والقلّة، والذّلّة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم» ) * «4» .
4-* (عن أبي الطّفيل قال: انطلقت أنا وعمرو بن صليع حتّى أتينا حذيفة، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ هذا الحيّ من مضر لا تدع لله في الأرض عبدا صالحا إلّا أفتنته وأهلكته حتّى يدركها الله بجنود من عباده فيذلّها حتّى لا تمنع ذنب تلعة «5» » ) * «6» .
5-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت بين يدي السّاعة بالسّيف حتّى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظلّ رمحي وجعل الذّلّ والصّغار على من خالف أمري، ومن تشبّه بقوم فهو منهم» ) * «7» .
6-* (عن عائشة- رضي الله عنها- قالت:
__________
(1) أحمد (3/ 57) واللفظ له، وأصله عند البخاري الفتح 7 (4330) ، ومسلم (1059) .
(2) العينة: هي أن يبيع رجل لآخر سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى. ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به. فإن حدث ذلك بشرط أن لا يبيعها المشتري إلّا له فالبيع فاسد عند جميع الفقهاء.
(3) أبو داود (3462) ، وقال الألباني (2/ 663) : صحيح. وصحّحه أيضا الأرناؤوط في تعليقه على «جامع الأصول» (11/ 765) .
(4) أحمد (2/ 305) ، وأبو داود 1544) ، واللفظ له، وقال الألباني (1/ 287) : صحيح، والنسائي الاستعاذة 8 (261) ، ابن ماجه الدعاء (3842) .
(5) والتلعة: واحدة التلاع، مسايل الماء من علو إلى أسفل والمعنى أنها تحتمي بأعالى الجبال فرارا من الهلاك.
(6) أحمد (5/ 390) ، واللفظ له، والحاكم في المستدرك (4/ 470) وصححه ووافقه الذهبي بلفظ متقارب.
(7) أحمد (2/ 92) واللفظ له، والهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 49) وقال: رواه أحمد (2/ 92) وفيه عبد الرحمن بن ثابت وثقه ابن المديني وغيره وضعفه أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات. فهو حديث حسن.(10/4507)
جاءت هند بنت عتبة بن ربيعة فقالت: يا رسول الله والله ما كان على ظهر الأرض خباء «1» أحبّ إليّ من أن يذلّوا من أهل خبائك. وما أصبح اليوم على ظهر الأرض خباء أحبّ إليّ من أن يعزّوا من أهل خبائك.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وأيضا «2» . والّذي نفسي بيده» .
ثمّ قالت: يا رسول الله إنّ أبا سفيان رجل مسّيك «3» .
فهل عليّ حرج من أن أطعم من الّذي له عيالنا؟ فقال لها: «لا. إلّا بالمعروف «4» » ) * «5» .
7-* (عن أبي الحوراء قال: قال الحسن بن عليّ- رضي الله عنهما-: علّمني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلمات أقولهنّ في الوتر- قال ابن جوّاس في قنوت الوتر-: «اللهمّ اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولّني فيمن تولّيت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرّ ما قضيت، إنّك تقضي ولا يقضى عليك، وإنّه لا يذلّ من واليت، تباركت ربّنا وتعاليت» ) * «6» .
8-* (عن جابر- رضي الله عنه- يقول:
«غزونا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقد ثابت معه ناس من المهاجرين حتّى كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعّاب «7» فكسع «8» أنصاريّا، فغضب الأنصاريّ غضبا شديدا حتّى تداعوا، وقال الأنصاريّ: يا للأنصار، وقال المهاجريّ: يا للمهاجرين. فخرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ما بال دعوى أهل الجاهليّة؟ ثمّ قال: «ما شأنهم؟» «فأخبر بكسعة المهاجريّ الأنصاريّ. قال: فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «دعوها فإنّها خبيثة» . وقال عبد الله بن أبيّ ابن سلول: أقد تداعوا علينا؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. فقال عمر: ألا نقتل يا نبيّ الله هذا الخبيث؟ - لعبد الله- فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا يتحدّث النّاس أنّه كان يقتل أصحابه» ) * «9» .
9-* (عن المقداد بن الأسود الكنديّ- رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يبقى على ظهر الأرض من بيت مدر ولا وبر إلّا أدخل
__________
(1) أهل خباء: أرادت بقولها: أهل خباء نفسه صلّى الله عليه وسلّم. فكنّت عنه بأهل الخباء إجلالا له. قال: ويحتمل أن تريد بأهل الخباء أهل بيته. والخباء يعبر به عن مسكن الرجل وداره.
(2) وأيضا. والذي نفسي بيده: معناه: وستزيدين من ذلك، ويتمكن الإيمان من قلبك، ويزيد حبك لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، ويقوى رجوعك عن بغضه. وأصل هذه اللفظة: آض يئيض أيضا، إذا رجع.
(3) مسيك: أي شحيح وبخيل. واختلفوا في ضبطه على وجهين حكاهما القاضي: أحدهما مسّيك. والثاني مسيك. وهذا الثاني هو الأشهر في روايات المحدثين. والأولى أصح عند أهل العربية. وهما جميعا للمبالغة.
(4) لا. إلا بالمعروف: هكذا هو في نسخ مسلم. وهو صحيح. ومعناه لا حرج. ثم ابتدأ فقال: إلا بالمعروف. أي لا تنفقي إلا بالمعروف. أو لا حرج إذا لم تنفقي إلا بالمعروف.
(5) البخاري- الفتح 13 (7161) ، مسلم (1714) واللفظ له
(6) أبو داود (1425) واللفظ له، وقال الألباني (1/ 267) : صحيح، والترمذي (464) وقال: هذا حديث حسن ولا نعرف عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في القنوت في الوتر أحسن من هذا. وقال الشيخ أحمد شاكر في تخريجه: صحيح. وحسّنه أيضا الأرناؤوط في تعليقه على «جامع الأصول» (5/ 392) .
(7) لعاب: أي بطال. وقيل: كان يلعب الحراب كما تصنع الحبشة.
(8) فكسع: أي ضربه على دبره.
(9) البخاري الفتح 6 (3518) واللفظ له، ومسلم (2772) من حديث زيد بن أرقم نحوه.(10/4508)
الله عليهم كلمة الإسلام بعزّ عزيز وذلّ ذليل يعزّهم الله فيجعلهم من أهلها أو يذلّهم فلا يدينوا لها» ) * «1» .
10-* (عن أبي أمامة الباهليّ- رضي الله عنه- قال: ورأى سكّة «2» وشيئا من آلة الحرث فقال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يدخل هذا بيت قوم إلّا أدخله الله الذّلّ «3» » ) * «4» .
11-* (عن حذيفة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه» قالوا: وكيف يذلّ نفسه؟ قال: «يتعرّض من البلاء لما لا يطيق» ) * «5» .
12-* (عن حذيفة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: «ما من قوم مشوا إلى سلطان الله ليذلّوه إلّا أذلّهم الله قبل يوم القيامة» ) * «6» .
13-* (عن سهل بن حنيف- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أنّه قال: «من أذلّ عنده مؤمن فلم ينصره- وهو يقدر على أن ينصره- أذلّه الله- عزّ وجلّ- على رؤوس الخلائق يوم القيامة» ) * «7» .
14-* (عن ربعيّ بن حراش- رضي الله عنه- قال: انطلقت إلى حذيفة بالمدائن ليالي سار النّاس إلى عثمان فقال: يا ربعيّ ما فعل قومك؟ قال:
قلت عن أيّ بالهم تسأل؟ قال: من خرج منهم إلى هذا الرّجل. فسمعت رجالا فيمن خرج إليه. فقال:
__________
(1) أحمد (6/ 4) و (4/ 103) من حديث تميم الداري بلفظ نحوه، والحاكم في المستدرك (4/ 430) واللفظ له، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وصححه ووافقه الذهبي.
(2) قوله (سكة) : بكسر المهملة هي الحديدة التي تحرث بها الأرض.
(3) قوله (إلا أدخله الله الذل) : في رواية أبي نعيم المذكورة «إلا أدخلوا على أنفسهم ذلا لا يخرج عنهم إلى يوم القيامة» والمراد بذلك ما يلزمهم من حقوق الأرض التي تطالبهم بها الولاة، وكان العمل في الأراضي أول ما افتتحت على أهل الذمة فكان الصحابة يكرهون تعاطي ذلك. قيل: هذا من إخباره صلّى الله عليه وسلّم بالمغيبات، لأن المشاهد الآن أن أكثر الظلم إنما هو على أهل الحرث، وقد أشار البخاري بالترجمة إلى الجمع بين حديث أبي أمامة وحديث آخر في فضل الزرع والغرس وذلك بأحد أمرين: إما أن يحمل ما ورد من الذم على عاقبة ذلك ومحله ما إذا اشتغل به فضيع بسببه ما أمر بحفظه، وإما أن يحمل على ما إذا لم يضيع إلا أنه جاوز الحد فيه. والذي يظهر أن كلام أبي أمامة محمول على من يتعاطى ذلك بنفسه، أما من له عمال يعملون له وأدخل داره الآلة المذكورة لتحفظ لهم فليس مرادا، ويمكن الحمل على عمومه فإن الذل شامل لكل من أدخل على نفسه ما يستلزم مطالبة آخر له، ولا سيما إذا كان المطالب من الولاة. وعن الداودي هذا لمن يقرب من العدو، فإنه إذا اشتغل بالحرث لا يشتغل بالفروسية فيتأسد عليه العدو، فحقهم أن يشتغلوا بالفروسية وعلى غيرهم إمدادهم بما يحتاجون إليه.
(4) البخاري- الفتح 5 (2321) .
(5) الترمذي (2255) واللفظ له وقال: حسن غريب، ابن ماجة (4016) ، رواه أحمد (5/ 405) وانظر الصحيحة للشيخ الألباني (613) .
(6) الهيثمي (5/ 216) وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا كثير بن أبي كثير التميمي وهو ثقة.
(7) أحمد (3/ 487) ، وقال الهيثمي في مجموع الزوائد (7/ 267) : رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة، وهو حسن الحديث، وفيه ضعف.(10/4509)
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من فارق الجماعة واستذلّ الإمارة لقي الله- عزّ وجلّ- ولا وجه له عنده» ) * «1» .
15-* (عن جويرية- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لبس ثوب حرير في الدّنيا ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلّة من نار أو ثوبا من النّار» ) * «2» .
16-* (عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحشر المتكبّرون يوم القيامة أمثال الذّرّ في صور الرّجال يغشاهم الذّلّ من كلّ مكان، فيساقون إلى سجن في جهنّم يسمّى بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النّار طينة الخبال» ) * «3» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (الذل) معنى
17-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- في رواية قال: أخنع اسم عند الله- وقال: سفيان غير مرّة:- أخنع الأسماء عند الله- رجل تسمّى بملك الأملاك، قال سفيان: يقول غيره: تفسيره شاهان شاه) * «4» .
18-* (عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: أقبل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهنّ- وأعوذ بالله أن تدركوهنّ- لم تظهر الفاحشة في قوم قطّ حتّى يعلنوا بها إلّا فشا فيهم الطّاعون والأوجاع الّتي لم تكن مضت في أسلافهم الّذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلّا أخذوا بالسّنين وشدّة المئونة وجور السّلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلّا منعوا القطر من السّماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلّا سلّط الله عليهم عدوّا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمّتهم بكتاب الله، ويتخيّروا ممّا أنزل الله إلّا جعل الله بأسهم بينهم» ) * «5» .
__________
(1) أحمد (5/ 387) واللفظ له، والحاكم في المستدرك (1/ 119) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) أحمد (6/ 430) ، وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني وفيه جابر الجعفي وهو ضعيف، وقد وثق. مجمع الزوائد 5/ 141 وله شاهد عن ابن عمر عند أبي داود 4029، 4030، وابن ماجة 3607.
(3) الترمذي (2492) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وحسّنه الأرناؤوط في تعليقه على «جامع الأصول» (10/ 616) .
(4) البخاري- الفتح 10 (6206) ، قال ابن حجر رحمه الله (10/ 605) : عن سفيان قال: «أخنع: أذل» وأخرج مسلم عن أحمد بن حنبل قال: سألت أبا عمرو الشيباني يعني إسحق اللغوي عن أخنع فقال: أوضع، قال عياض: معناه أنه أشد الأسماء صغارا. وبنحو ذلك فسره أبو عبيد، والخانع الذليل وخنع الرجل ذل. قال ابن بطال: وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذلا.
(5) ابن ماجة (4019) ، وفي الزوائد: هذا حديث صالح للعمل به. وقد اختلفوا في ابن أبي مالك وأبيه، وذكره المنذري في الترغيب (2/ 568، 569) وقال: رواه ابن ماجه واللفظ له، ورواه الحاكم بنحوه من حديث بريدة وقال: صحيح على شرط مسلم ورواه مالك بنحوه موقوفا على ابن عباس- رضي الله عنهما-.(10/4510)
19-* (عن أمّ سلمة- رضي الله عنها- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا تزوّج أمّ سلمة أقام عندها ثلاثا.
وقال: «إنّه ليس بك على أهلك هوان. إن شئت سبّعت لك، وإن سبّعت لك سبّعت لنسائي) * «1» .
20-* (عن البراء بن عازب- رضي الله عنهما- قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى جنازة فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على القبر، وجلسنا حوله كأنّ على رؤوسنا الطّير وهو يلحد له فقال: «أعوذ بالله من عذاب القبر» ثلاث مرار. ثمّ قال: «إنّ المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدّنيا تنزّلت إليه الملائكة كأنّ على وجوههم الشّمس مع كلّ واحد كفن وحنوط، فجلسوا منه مدّ البصر حتّى إذا خرج روحه صلّى عليه كلّ ملك بين السّماء والأرض وكلّ ملك في السّماء، وفتحت له أبواب السّماء ليس من أهل باب إلّا وهم يدعون الله أن يعرج بروحه من قبلهم، فإذا عرج بروحه قالوا: ربّ عبدك فلان، فيقول: أرجعوه؛ فإنّي عهدت إليهم أنّي منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى» قال: «فإنّه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولّوا عنه، فيأتيه آت فيقول: من ربّك؟ ما دينك؟ من نبيّك؟ فيقول: ربّي الله وديني الإسلام ونبيّي محمّد صلّى الله عليه وسلّم فينتهره. فيقول: من ربّك؟
ما دينك؟ من نبيّك؟ وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن. فذلك حين يقول الله- عزّ وجلّ-: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ فيقول: ربّي الله وديني الإسلام ونبيّي محمّد صلّى الله عليه وسلّم. فيقول له: صدقت. ثمّ يأتيه آت حسن الوجه طيّب الرّيح حسن الثّياب، فيقول: أبشر بكرامة من الله، ونعيم مقيم فيقول: وأنت فبشرّك الله بخير. من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصّالح كنت والله سريعا في طاعة الله بطيئا عن معصية الله فجزاك الله خيرا، ثمّ يفتح له باب من الجنّة وباب من النّار، فيقال: هذا كان منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنّة قال: ربّ عجّل قيام السّاعة كيما أرجع إلى أهلي ومالي، فيقال له: اسكن. وإنّ الكافر إذا كان في انقطاع من الدّنيا وإقبال من الآخرة نزلت عليه ملائكة غلاظ شداد، فانتزعوا روحه كما ينتزع السّفّود الكثير الشّعب من الصّوف المبتلّ، وتنزع نفسه مع العروق فيلعنه كلّ ملك بين السّماء والأرض، وكلّ ملك في السّماء، وتغلق أبواب السّماء ليس من أهل باب إلّا وهم يدعون الله أن لا تعرج روحه من قبلهم فإذا عرج بروحه قالوا: ربّ فلان ابن فلان عبدك.
قال: أرجعوه فإنّي عهدت إليهم أنّي منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال: فإنّه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولّوا عنه. قال: فيأتيه آت فيقول: من ربّك؟ ما دينك؟ من نبيّك؟ فيقول: لا أدري. فيقول: لا دريت ولا تلوت، ويأتيه آت قبيح الوجه، قبيح الثّياب، منتن الرّيح فيقول: أبشر بهوان من الله وعذاب مقيم، فيقول: وأنت فبشّرك الله
__________
(1) مسلم (1460) .(10/4511)
بالشّرّ. من أنت؟ فيقول: أنا عملك الخبيث كنت بطيئا عن طاعة الله، سريعا في معصية الله فجزاك الله شرّا ثمّ يقيّض له أعمى أصمّ أبكم في يده مرزبة لو ضرب بها جبل كان ترابا، فيضربه ضربة حتّى يصير ترابا، ثمّ يعيده الله كما كان، فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعه كلّ شيء إلّا الثّقلين» قال البراء بن عازب: «ثمّ يفتح له باب من النّار يمهد من فرش النّار» ) * «1» .
21-* (عن عبيد الله بن محمّد بن حفص بن عمر التّميميّ قال: سمعت أبي يقول: سمعت عمّي عبيد الله بن عمر بن موسى يقول: كنت عند سليمان بن عليّ، فدخل شيخ من قريش فقال سليمان: انظر إلى الشّيخ فأقعده مقعدا صالحا؛ فإنّ لقريش حقّا فقلت:
أيّها الأمير: ألا أحدّثك حديثا بلغني عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: بلى. قال: قلت له: بلغني أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أهان قريشا أهانه الله» . قال: سبحان الله، ما أحسن هذا! من حدّثك هذا؟ قال: قلت: حدّثنيه ربيعة بن أبي عبد الرّحمن عن سعيد بن المسيّب عن عمرو بن عثمان بن عفّان- رضي الله عنه- قال: قال لي أبي: يا بنيّ: إن وليت من أمر النّاس شيئا فأكرم قريشا؛ فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من أهان قريشا أهانه الله» ) * «2» .
22-* (عن عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- يقول: كان إذا نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوحي يسمع عند وجهه دويّ كدويّ النّحل. فمكثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال: «اللهمّ زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنّا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنّا وأرضنا، ثمّ قال: لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنّة، ثمّ قرأ علينا: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حتّى ختم العشر» ) * «3» .
23-* (عن زياد بن كسيب العدويّ- رحمه الله- قال: كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر- وهو يخطب، وعليه ثياب رقاق- فقال أبو بلال:
انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفسّاق ويعظ، فقال أبو بكرة: اسكت. سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله» ) * «4» .
24-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لينتهينّ أقوام يفتخرون بآبائهم الّذين ماتوا. إنّما هم فحم جهنّم، أو ليكوننّ أهون على الله من الجعل الّذي يدهده الخرء بأنفه. إنّ الله قد أذهب عنكم عبّيّة الجاهليّة، إنّما هو مؤمن تقيّ وفاجر شقيّ.
النّاس كلّهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب» . قال: وفي
__________
(1) أحمد (4/ 296) واللفظ له، أبو داود (3212، 4753، 4754) وقال الألباني (3/ 902) : صحيح، وقال محقق جامع الأصول (11/ 179) : إسناده حسن.
(2) أحمد (1/ 64) واللفظ له، ونحوه عند الترمذي (3905) من حديث سعد بن أبي وقاص، وقال الشيخ أحمد شاكر (1/ 359) : إسناده صحيح.
(3) أحمد (1/ 34) وقال الشيخ أحمد شاكر (1/ 223) : إسناده صحيح.
(4) الترمذي (2224) واللفظ له وقال: حديث حسن غريب، والهيثمي وقال: رواه أحمد ورجال أحمد ثقات (5/ 215) وفى مسند أحمد 5 (42، 49) . وصحّحه الأرناؤوط في تعليقه على «جامع الأصول» (4/ 73) .(10/4512)
الباب عن ابن عمر وابن عبّاس) * «1» .
25-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ولدت له ابنة فلم يئدها، ولم يهنها، ولم يؤثر ولده عليها- يعني الذّكر- أدخله الله بها الجنّة» ) * «2» .
26-* (عن ثوبان- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها» فقال قائل: ومن قلّة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السّيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن» فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: «حبّ الدّنيا، وكراهية الموت» ) * «3» .
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (الذل)
1-* (عن طارق قال: خرج عمر إلى الشّام- ومعنا أبو عبيدة- فأتوا على مخاضة، وعمر على ناقة له، فنزل عنها وخلع خفّيه فوضعهما على عاتقه وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أأنت تخلع خفّيك وتضعهما على عاتقك وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة؟ ما يسرّني أنّ أهل البلد استشرفوك. فقال عمر: أوّه لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالا لأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
إنّا كنّا أذلّ قوم فأعزّنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزّ بغير ما أعزّنا الله به أذلّنا الله» ) * «4» .
2-* (عن أبي فراس النّهديّ قال: خطب عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- فقال: يا أيّها النّاس، ألا إنّا إنّما كنّا نعرفكم إذ بين ظهرينا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وإذ ينزل الوحي، وإذ ينبّئنا الله من أخباركم ألا وإنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد انطلق، وقد انقطع الوحي، وإنّما نعرفكم بما نقول لكم: من أظهر منكم خيرا ظننّا به خيرا وأحببناه عليه، ومن أظهر منكم لنا شرّا ظننّا به شرّا وأبغضناه عليه، سرائركم بينكم وبين ربّكم، ألا إنّه قد أتى عليّ حين وأنا أحسب أنّ من قرأ القرآن يريد الله وما عنده، فقد خيّل إليّ بآخرة ألا إنّ رجالا قد قرؤوه يريدون به ما عند النّاس، فأريدوا الله بقراءتكم، وأريدوه بأعمالكم، ألا إنّي والله ما أرسل عمّالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلّموكم دينكم وسنّتكم، فمن
__________
(1) أبو داود (5116) وقال الألباني (3/ 964) : حسن، وفي صحيح سنن الترمذي (4233) ، والترمذي (3955) واللفظ له وقال: هذا حديث حسن غريب. وحسّنه الأرناؤوط في تعليقه على «جامع الأصول» (10/ 618) .
(2) أحمد (1/ 223) وقال الشيخ أحمد شاكر (4/ 294) : إسناده حسن.
(3) أبو داود (4297) ، أحمد (5/ 278) وقال مخرج جامع الأصول: سند حديث أحمد قوي (10/ 28) ، وقال الألباني (3/ 810) : صحيح.
(4) الحاكم في المستدرك (1/ 62) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين لاحتجاجهما جميعا بأيوب بن عائذ الطائي وسائر رواته ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(10/4513)
فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إليّ، فو الّذي نفسي بيده إذن لأقصّنّه منه. فوثب عمرو بن العاص فقال:
يا أمير المؤمنين، أو رأيت إن كان رجل من المسلمين على رعيّة فأدّب بعض رعيّته أئنّك لمقتصّه منه؟ قال:
إي والّذي نفس عمر بيده، إذن لأقصّنّه منه، وقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقصّ من نفسه. ألا لا تضربوا المسلمين فتذلّوهم، ولا تجمّروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفّروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيّعوهم) * «1» .
3-* (عن عليّ- رضي الله عنه- قال: يأتي على النّاس زمان عضوض، يعضّ الموسر على ما في يديه، قال: ولم يؤمر بذلك. قال الله- عزّ وجلّ: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ وينهد الأشرار، ويستذلّ الأخيار ويبايع المضطرّون، قال: «وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بيع المضطرّين، وعن بيع الغرر، وعن بيع الثّمرة قبل أن تدرك» ) * «2» .
4-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: إنّ الله- عزّ وجلّ- أنزل وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وفَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وفَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ قال: قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما-: أنزلها الله في الطّائفتين من اليهود، وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهليّة، حتّى ارتضوا أو اصطلحوا على أنّ كلّ قتيل تقتله العزيزة من الذّليلة فديته خمسون وسقا، وكلّ قتيل قتلته الذّليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتّى قدم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فذلّت الطّائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويومئذ لم يظهر ولم يوطئهما عليه وهو في الصّلح، فقتلت الذّليلة من العزيزة قتيلا، فأرسلت العزيزة إلى الذّليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت الذّليلة: وهل كان هذا في حيّين قطّ دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض؟ إنّا إنّما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وفرقا منكم، فأمّا إذ قدم محمّد فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثمّ ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهم، ثمّ ذكرت العزيزة، فقالت:
والله ما محمّد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلّا ضيما منّا وقهرا لهم) * «3» .
__________
(1) أحمد (1/ 41) واللفظ له وهو عند أبي داود مختصرا (4537) وقال الشيخ أحمد شاكر (1/ 278) : إسناده حسن.
(2) أحمد (1/ 116) ، وأبو داود (3/ 263) مختصرا وغيره وهو حسن.
(3) أحمد (1/ 246) ، وقال الشيخ أحمد شاكر (4/ 44) : إسناده صحيح ونسبه السيوطي في الدر المنثور: 2/ 281 لأبي داود وابن جرير وابن المنذر والطبري وغيرهم.(10/4514)
5-* (قال إبراهيم النّخعيّ- رحمه الله-:
«كان السّلف يكرهون أن يستذلّوا فإذا قدروا عفوا» ) * «1» .
6-* (قال الحسن البصريّ- رحمه الله تعالى-:
«أبى الله إلّا أن يذلّ أهل معصيته فمهما طقطقت بهم البغل وهملجت «2» بهم البراذين فإنّ ذلّ المعصية في رقابهم» ) * «3» .
7-* (قال الشاعر:
لا تخضعنّ لمخلوق على طمع ... فإنّ ذلك نقص منك في الدّين
واسترزق الله ممّا في خزائنه ... فأمر ربّك بين الكاف والنّون
) *.
من مضار (الذل)
(1) الذّليل غير مهيب فردا كان أو دولة.
(2) الذّليل ضعيف الهمّة لا عزيمة عنده يدفع بها الهوان عن نفسه.
(3) الذّليل يمقته أفراد مجتمعه وينبذونه.
(4) من يتبع الباطل في الحياة الدّنيا يعرض على النّار ذليلا في الآخرة.
(5) سبب الذّلّ ارتكاب المعاصي وعدم التّمسّك بأخلاق الإسلام.
__________
(1) فتح الباري (5/ 119) .
(2) هملجت بهم البراذين: مشت مشيا سهلا. والبرذون: الفرس غير الأصيل.
(3) الجواب الكافي (67) .(10/4515)
[حرف الراء]
الربا
الربا لغة:
مصدر قولهم: ربا يربو، إذا زاد، وهو مأخوذ من مادّة (ر ب و) الّتي تدلّ على الزّيادة والنّماء والعلوّ «1» ، تقول من ذلك: ربا الشّيء يربو، إذا زاد، وربا الرّابية يربوها: إذ علاها، وربا فلان: أصابه الرّبو وهو علوّ في النّفس، وأربت الحنطة تربي، إذا زكت، والرّبا في المال والمعاملة: هو الزّيادة على رأس المال، وباعتبار هذه الزّيادة قال تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ (الروم/ 39) ونبّه بقوله يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ (البقرة/ 276) أنّ الزّيادة المعقولة المعبّر عنها ب «البركة» مرتفعة عن الرّبا، ولذلك قال في مقابلته وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (الروم/ 39) ، وقال الطّبريّ في تفسير الآية الأولى: الرّبا هو ما يعطى النّاس بينهم، بعضهم بعضا، يعطي الرّجل الرّجل العطيّة يريد أن يعطى أكثر منها، وأمّا كونه لا يربو عند الله فمعناه: ما أعطيتم من شيء تريدون به مثابة الدّنيا ومجازاة النّاس، فذاك
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
4/ 31/ 12
هو الرّبا الّذي لا يقبله الله ولا يجزي به «2» ، وقال في تفسير الآية الثّانية يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا (البقرة/ 276) المعنى: ينقص الله الرّبا فيذهبه كما جاء في الحديث:
«الرّبا وإن كثر فإلى قلّ» «3» ، وقال القرطبيّ: معنى يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا (البقرة/ 276) يعني في الدّنيا بإذهاب بركته وإن كان (في الظّاهر) كثيرا، وعن ابن عبّاس- رضي الله عنهما-: المحق ألّا يقبل الله منه صدقة ولا حجّا ولا جهادا ولا صلة «4» .
وقال الجوهريّ: الرّبا في البيع: تثنيته ربوان وربيان، والرّبية مخفّفة لغة في الرّبا، وفي الحديث:
«ليس عليهم ربية ولا دم» أي أنّه أسقط عنهم كلّ دم كانوا يطلبون به. وكلّ ربا كان عليهم إلّا رؤوس أموالهم فإنّهم يردّونها «5» ، وقال ابن منظور: يقال: ربا الشّيء يربو ربوّا ورباء أي زاد ونما، وأربيته: نمّيته ومنه أخذ الرّبا الحرام، وأربى الرّجل دخل في الرّبا «6» .
الربا اصطلاحا:
قال الرّاغب:: الرّبا في الشّرع خصّ بالزّيادة على وجه دون وجه «7» .
__________
(1) المقاييس (2/ 484) .
(2) تفسير الطبري (3/ 107) .
(3) السابق (10/ 188) .
(4) تفسير القرطبي (2/ 234) .
(5) الصحاح (6/ 2350) .
(6) اللسان (3/ 1572) ط. دار المعارف.
(7) المفردات (187) وبه أخذ الفيروزبادي في البصائر (3/ 34) .(10/4516)
وقال الجرجانيّ: الرّبا شرعا هو فضل خال عن عوض شرط لأحد العاقدين «1» .
وقيل: هو عقد على عوض مخصوص غير معلوم التّماثل في معيار الشّرع حالة العقد مع تأخير في البدلين أو أحدهما «2» .
وقال التّهانويّ: الرّبا في الشّرع هو عبارة عن عقد فاسد، وإن لم تكن فيه زيادة لأنّ بيع الدّرهم بالدّرهم نسيئة ربا وإن لم تتحقّق فيه زيادة.
وقال أيضا: وقيل هو فضل ماليّ بلا عوض في معاوضة مال بمال شرط لأحد المتعاقدين «3» .
أنواع الربا:
ربا الفضل: وهو البيع مع زيادة أحد العوضين المتّفقي الجنس على الآخر.
وربا اليد: وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما عند التّفرّق من المجلس أو التّخاير فيه بشرط اتّحادهما علّة، بأن يكون كلّ منهما معلوما، أو كلّ منهما نقد وإن اختلف الجنس.
وربا النّسيئة: وهو البيع للمطعومين أو للنّقدين المتّفقي الجنس أو المختلفيه لأجل، ولو لحظة، وإن استويا وتقابضا في المجلس.
فالأوّل وهو ربا الفضل: كبيع صاع برّ بدون صاع برّ أو بأكثر؛ أو درهم فضّة بدون درهم فضّة أو بأكثر. سواء أتقابضا أم لا، وسواء أجّلا أم لا. (ودون صاع: أي أقلّ منه) .
والثّاني وهو ربا اليد: كبيع صاع برّ بصاع برّ، أو درهم ذهب بدرهم ذهب، أو صاع برّ بصاع شعير أو أكثر، أو درهم ذهب بدرهم فضّة أو أكثر، لكن تأخّر قبض أحدهما من المجلس أو التّخاير.
والثّالث وهو ربا النّساء: كبيع صاع برّ بصاع برّ، أو درهم فضّة بدرهم فضّة، لكن مع تأجيل أحدهما ولو إلى لحظة، وإن تساويا وتقابضا في المجلس.
والحاصل: أنّه متى استوى العوضان جنسا وعلّة، كبرّ ببرّ، أو ذهب بذهب، اشترط ثلاثة شروط: التّساوي، وعلمهما به يقينا عند العقد، والحلول والتّقابض قبل التّفرّق؛ ومتى اختلفا جنسا واتّحدا علّة، كبرّ بشعير، أو ذهب بفضّة. اشترط شرطان: الحلول والتّقابض. وجاز التّفاضل، ومتى اختلفا جنسا وعلّة، كبرّ بذهب أو ثوب، لم يشترط شيء من هذه الثّلاثة.
فالمراد بالعلّة هنا: إمّا الطّعم، بأن يقصد الشّيء للاقتيات أو الأدم أو التّفكّه أو التّداوي، وإمّا النّقديّة، وهي منحصرة في الذّهب والفضّة مضروبة وغيرها، فلا ربا في الفلوس وإن راجت.
وزاد المتولّي نوعا رابعا وهو: ربا القرض: لكنّه في الحقيقة يرجع إلى ربا الفضل، لأنّه الّذي فيه شرط يجرّ نفعا للمقرض، فكأنّه أقرضه هذا الشّيء بمثله مع زيادة ذلك النّفع الّذي عاد عليه.
__________
(1) التعريفات للجرجاني (114) .
(2) التوقيف: للمناوي (173) ، وابن حجر في الزواجر (299) .
(3) كشاف اصطلاحات الفنون (593) .(10/4517)
حكم الربا:
وكلّ من هذه الأنواع الأربعة حرام بالإجماع بنصّ الآيات والأحاديث، وكلّ ما جاء في الرّبا من الوعيد شامل للأنواع الأربعة، نعم بعضها معقول المعنى وبعضها تعبّديّ، وربا النّسيئة هو الّذي كان مشهورا في الجاهليّة، لأنّ الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل على أن يأخذ منه كلّ شهر قدرا معيّنا ورأس المال باق بحاله، فإذا حلّ طالبه برأس ماله، فإن تعذّر عليه الأداء زاد في الحقّ والأجل.
وتسمية هذا نسيئة مع أنّه صدق عليه ربا الفضل أيضا؛ لأنّ النّسيئة هي المقصودة فيه بالذّات، وهذا النّوع مشهور الآن بين النّاس، وواقع كثيرا «1» .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: المراباة حرام بالكتاب والسّنّة، والإجماع. وقد لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«آكل الرّبا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه. والمحلّل، والمحلّل له» .
وإن كان أصل الرّبا في الجاهليّة: أنّ الرّجل يكون له على الرّجل المال المؤجّل. فإذا حلّ الأجل قال له: أتقضي؟ أم تربى؟ فإن وفّاه وإلّا زاد هذا في الأجل وزاد هذا في المال. فيتضاعف المال والأصل واحد. وهذا الرّبا حرام بإجماع المسلمين.
وأمّا إذا كان هذا هو المقصود ولكن توسّلوا بمعاملة أخرى؛ فهذا تنازع فيه المتأخّرون من المسلمين، وأمّا الصّحابة فلم يكن بينهم نزاع أنّ هذا محرّم، فإنّما الأعمال بالنّيّات، والآثار عنهم بذلك كثيرة مشهورة.
والله تعالى حرّم الرّبا لما فيه من ضرر المحتاجين، وأكل المال بالباطل، وهو موجود في المعاملات الرّبويّة. وأمّا إذا حلّ الدّين وكان الغريم معسرا: لم يجز بإجماع المسلمين أن يقلب بالقلب لا بمعاملة ولا غيرها؛ بل يجب إنظاره، وإن كان موسرا كان عليه الوفاء، فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره، ولا مع إعساره.
والواجب على ولاة الأمور بعد تعزير المتعاملين بالمعاملة الرّبويّة: أن يأمروا المدين بأن يؤدّي رأس المال. ويسقطوا الزّيادة الرّبويّة. فإن كان معسرا وله مغلّات يوفّي منها وفّي دينه منها بحسب الإمكان «2» .
وقال ابن حجر: عدّ الرّبا كبيرة هو ما أطبقوا عليه اتّباعا لما جاء في الأحاديث الصّحيحة من تسميته كبيرة، بل هو من أكبر الكبائر وأعظمها «3» .
[للاستزادة: انظر صفات: أكل الحرام- التطفيف- السرقة- الغلول- المكر- سوء المعاملة- التناجش- الغش- الخداع- الخبث.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: أكل الطيبات- الصلاح- النزاهة- حسن المعاملة- النبل- المروءة- العفة] .
__________
(1) الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيثمي (299)
(2) الفتاوى الكبرى (29/ 418- 419) .
(3) الزواجر عن اقتراف الكبائر (309) .(10/4518)
الآيات الواردة في «الربا»
1- الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) «1»
2- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) «2»
3- فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160)
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) «3»
4- أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) «4»
__________
(1) البقرة: 275- 280 مدنية
(2) آل عمران: 130- 132 مدنية
(3) النساء: 160- 161 مدنية
(4) الروم: 37- 39 مكية(10/4519)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الربا)
1-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: «آكل الرّبا وموكله، وشاهداه، وكاتباه إذا علموا به، والواشمة والمستوشمة للحسن، ولاوي الصّدقة، والمرتدّ أعرابيّا بعد الهجرة، ملعونون على لسان محمّد صلّى الله عليه وسلّم» ) * «1» .
2-* (عن أبي سعيد- رضي الله عنه- قال:
أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتمر. فقال: «ما هذا التّمر من تمرنا» فقال الرّجل: يا رسول الله! بعنا تمرنا صاعين بصاع من هذا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا الرّبا. فردّوه. ثمّ بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا» ) * «2» .
3-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجتنبوا السّبع الموبقات «3» » .
قيل: يا رسول الله وما هنّ؟ قال: «الشّرك بالله، والسّحر، وقتل النّفس الّتي حرّم الله إلّا بالحقّ، وأكل مال اليتيم. وأكل الرّبا، والتّولّي يوم الزّحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات «4» » ) * «5» .
4-* (عن عوف بن مالك- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إيّاك والذّنوب الّتي لا تغفر:
الغلول «6» ، فمن غلّ شيئا أتي به يوم القيامة، وأكل الرّبا، فمن أكل الرّبا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبّط، ثمّ قرأ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ (البقرة/ 275) * «7» .
ومن حديث أنس: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يأتي آكل الرّبا يوم القيامة مخبّلا «8» يجرّ شقّيه، ثمّ قرأ: لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» ) * «9» .
5-* (عن ابن مسعود- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «بين يدي السّاعة يظهر الرّبا، والزّنا، والخمر» ) * «10» .
6-* (عن جعفر بن محمّد عن أبيه، قال:
__________
(1) المنذري في الترغيب (3/ 5) وقال: رواه أحمد، وأبو يعلى، وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، وزاد في آخره: يوم القيامة. قال الحافظ: رووه كلهم عن الحارث، وهو الأعور عن ابن مسعود إلا ابن خزيمة فإنه رواه عن مسروق عن عبد الله بن مسعود. والهيثمي في المجمع (4/ 118) وقال: رواه الطبراني في الكبير وفيه الحارث الأعور ضعيف وقد وثق.
(2) مسلم (1594) .
(3) الموبقات: هي المهلكات، يقال: وبق الرجل يبق ووبق يوبق إذا هلك. وأوبق غيره إذا أهلكه.
(4) المحصنات الغافلات المؤمنات: المحصنات بكسر الصاد وفتحها. قراءتان في السبع. والمراد بالمحصنات هنا العفائف. وبالغافلات، الغافلات عن الفواحش وما قذفن به. وقد ورد الإحصان في الشرع على خمسة أقسام: العفة والإسلام والنكاح والتزويج والحرية.
(5) البخاري- الفتح 5 (2766) ، ومسلم (89) واللفظ له.
(6) الغلول: الخيانة.
(7) الهيثمي في المجمع (4/ 119) ، وقال فيه الحسين بن عبد الأول وهو ضعيف، والترغيب والترهيب (3/ 10) واللفظ له، وسكت عنه.
(8) قال الأصبهاني: المخبل: المجنون.
(9) ذكره المنذري في الترغيب (3/ 10) وقال: رواه الطبراني والأصبهاني من حديث أنس، ونحوه عند ابن أبي حاتم عن ابن عباس (الفتح 8/ ص 51) فهو على هذا حسن أو صحيح على شرط ابن حجر في الفتح.
(10) ذكره المنذري في الترغيب (3/ 9) وقال: رواه الطبراني ورواته رواة الصحيح.(10/4520)
دخلنا على جابر بن عبد الله. فسأل عن القوم «1» حتّى انتهى إليّ. فقلت: أنا محمّد بن عليّ بن حسين. فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زرّي الأعلى «2» ، ثمّ نزع زرّي الأسفل، ثمّ وضع كفّه بين ثدييّ وأنا يومئذ غلام شابّ. فقال: مرحبا بك، يا ابن أخي سل عمّا شئت.
فسألته- وهو أعمى، وحضر وقت الصّلاة. فقام في نساجة «3» ملتحفا بها، كلّما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها، ورداؤه إلى جنبه، على المشجب «4» ، فصلّى بنا. فقلت: أخبرني عن حجّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال بيده «5» ، فعقد تسعا، فقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكث تسع سنين لم يحجّ، ثمّ أذّن في النّاس «6» في العاشرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجّ ...
الحديث وفيه: «فأجاز «7» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى أتى عرفة، فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتّى إذا زاغت الشّمس أمر بالقصواء، فرحلت «8» له، فأتى بطن الوادي «9» فخطب النّاس وقال: «إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا «10» ، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كلّ شيء من أمر الجاهليّة تحت قدميّ موضوع، ودماء الجاهليّة موضوعة، وإنّ أوّل دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهليّة موضوع، وأوّل ربا أضع ربانا، ربا عبّاس بن عبد المطّلب، فإنّه موضوع كلّه، فاتّقوا الله في النّساء، فإنّكم أخذتموهنّ بأمان الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله «11» ، ولكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه «12» ، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضربا غير مبرّح «13» ، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلّوا
__________
(1) فسأل عن القوم: أي عن جماعة الرجال الداخلين عليه، فإنه إذ ذاك كان أعمى، عمي في آخر عمره.
(2) فنزع زري الأعلى: أي أخرجه من عروته لينكشف صدري عن القميص.
(3) نساجة: هذا هو المشهور. ووقع في بعض النسخ: في ساجة. بحذف النون. ونقله القاضي عياض عن رواية الجمهور. قال: وهو الصواب. قال: والساجة والساج، جميعا، ثوب كالطيلسان وشبهه. وقال في النهاية: هي ضرب من الملاحف منسوجة، كأنها سميت بالمصدر. يقال: نسجت أنسج نسجا ونساجة.
(4) المشجب: هو عيدان تضم رؤوسها، ويفرج بين قوائمها، توضع عليها الثياب.
(5) فقال بيده: أي أشاربها.
(6) ثم أذن في الناس: معناه أعلمهم بذلك وأشاعه بينهم ليتأهبوا للحج معه، ويتعلموا المناسك والأحكام ويشهدوا أقواله وأفعاله ويوصيهم ليبلغ الشاهد الغائب وتشيع دعوة الإسلام.
(7) فأجاز: أي جاوز المزدلفة ولم يقف بها، بل توجه إلى عرفات.
(8) فرحلت: أي وضع عليها الرحل. والقصواء: ناقته صلّى الله عليه وسلّم.
(9) بطن الوادي: هو وادي عرنة وليست عرنة من أرض عرفات.
(10) كحرمة يومكم هذا: معناه متأكدة التحريم، شديدته.
(11) بكلمة الله: قيل: معناه قوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وقيل: المراد كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم. وقيل: قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ. وهذا الثالث هو الصحيح.
(12) ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه: قال الإمام النووي: المختار أن معناه: أن لا يأذنّ لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم، سواء كان المأذون له رجلا أجنبيا أو امرأة أو أحدا من محارم الزوجة. فالنهي يتناول جميع ذلك. وحكم المسألة عند الفقهاء أنها لا يحل لها أن تأذن لرجل ولا امرأة، لا محرم ولا غيره، في دخول منزل الزوج إلا من علمت أو ظنت أن الزوج لا يكرهه.
(13) فاضربوهن ضربا غير مبرح: الضرب المبرح هو الضرب الشديد الشاق. ومعناه اضربوهن ضربا ليس بشديد ولا شاق. والبرح المشقة.(10/4521)
بعده- إن اعتصمتم به- كتاب الله «1» ، وأنتم تسألون عنّي، فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت وأدّيت ونصحت. فقال بإصبعه السّبّابة يرفعها إلى السّماء وينكتها إلى النّاس «2» : «اللهمّ اشهد، اللهمّ اشهد. ثلاث مرّات» ) * «3» .
7-* (عن عبد الله بن حنظلة (غسيل الملائكة) - رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «درهم ربا يأكله الرّجل- وهو يعلم- أشدّ من ستّة وثلاثين زنية» ) * «4» .
8-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الذّهب بالذّهب وزنا بوزن.
مثلا بمثل. والفضّة بالفضّة وزنا بوزن. مثلا بمثل.
فمن زاد أو استزاد فهو ربا» ) * «5» .
9-* (عن عون بن أبي جحيفة؛ قال: رأيت أبي اشترى عبدا حجّاما، فسألته، فقال: «نهى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ثمن الكلب وثمن الدّم، ونهى عن الواشمة والموشومة، وآكل الرّبا وموكله، ولعن المصوّر» ) * «6» .
10-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ قال: «الرّبا بضع وسبعون بابا، والشّرك مثل ذلك» ) * «7» .
11-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الرّبا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرّجل أمّه، وإنّ أربى الرّبا عرض الرّجل المسلم» ) * «8» .
12-* (عن أبي نضرة قال: سألت ابن عمر وابن عبّاس عن الصّرف «9» ؟ فلم يريا به بأسا «10» .
فإنّي لقاعد عند أبي سعيد الخدريّ فسألته عن الصّرف؟ فقال: ما زاد فهو ربا. فأنكرت ذلك لقولهما.
__________
(1) كتاب الله: النصب، بدل عما قبله. وبالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف.
(2) وينكتها إلى الناس: هكذا ضبطناه: ينكتها. كذا الرواية فيه، بالتاء المثناة فوق. وقيل صوابة: ينكبها. قيل: وروي في سنن أبي داود بالتاء المثناة من طريق ابن العربي. وبالموحدة من طريق أبي بكر التمار. ومعناه يقلبها ويرددها إلى الناس مشيرا إليهم. ومنه: نكب كنانته إذا قلبها.
(3) مسلم (1218) .
(4) المنذري في الترغيب (3/ 7) وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير،، ورجال أحمد رجال الصحيح. قال الحافظ: حنظلة والد عبد الله، لقب بغسيل الملائكة لأنه كان يوم أحد جنبا، وقد غسل أحد شقّي رأسه، فلما سمع الهيعة (النداء إلى الحرب) خرج فاستشهد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد رأيت الملائكة تغسله» .
(5) مسلم (1588) .
(6) البخاري- الفتح 4 (2086) .
(7) المنذري في الترغيب (3/ 6) وقال: رواه البزار، ورواته رواة الصحيح، وهو عند ابن ماجه بإسناد صحيح باختصار: «والشرك مثل ذلك» .
(8) الحاكم في المستدرك (2/ 37) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وذكره المنذري في الترغيب من حديث البراء وعزاه للطبراني في الأوسط (3/ 8) .
(9) الصرف: يعني بالصرف، هنا، بيع الذهب بالذهب متفاضلا.
(10) فلم يريا به بأسا: يعني أنهما كانا يعتقدان أنه لا ربا فيما كان يدا بيد. كانا يريان جواز بيع الجنس بالجنس بعضه ببعض متفاضلا، وأن الربا لا يحرم في شيء من الأشياء إلا إذا كان نسيئة. ثم رجعا عن ذلك.(10/4522)
فقال: لا أحدّثك إلّا ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاءه صاحب نخله بصاع من تمر طيّب- وكان تمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هذا اللّون- «1» فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أنّى لك هذا؟» قال: انطلقت بصاعين فاشتريت به هذا الصّاع. فإنّ سعر هذا في السّوق كذا. وسعر هذا كذا.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ويلك أربيت. إذا أردت ذلك فبع تمرك بسلعة. ثمّ اشتر بسلعتك أيّ تمر شئت» .
قال أبو سعيد: فالتّمر بالتّمر أحقّ أن يكون ربا أم الفضّة بالفضّة «2» ؟ قال: فأتيت ابن عمر بعد فنهاني. ولم آت ابن عبّاس. قال: فحدّثني أبو الصّهباء أنّه سأل ابن عبّاس عنه بمكّة، فكرهه) * «3» .
13-* (عن أبي صالح قال: سمعت أبا سعيد الخدريّ يقول: الدّينار بالدّينار، والدّرهم بالدّرهم، مثلا بمثل. من زاد أو ازداد فقد أربى.
فقلت له: إنّ ابن عبّاس يقول غير هذا. فقال: لقد لقيت ابن عبّاس. فقلت: أرأيت هذا الّذي تقول أشيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو وجدته في كتاب الله- عزّ وجلّ-؟ فقال: لم أسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ولم أجده في كتاب الله، ولكن حدّثني أسامة بن زيد أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الرّبا في النّسيئة «4» » ) * «5» .
14-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الرّبا» ) * «6» .
15-* (عن سمرة بن جندب- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعني ممّا يكثر أن يقول لأصحابه «هل رأى أحد منكم من رؤيا؟» . قال:
فيقصّ عليه ما شاء الله أن يقصّ، وإنّه قال لنا ذات غداة: «إنّه أتاني اللّيلة آتيان، وإنّهما ابتعثاني، وإنّهما قالا لي: انطلق، وإنّي انطلقت معهما، وإنّا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصّخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر هاهنا، فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتّى يصحّ رأسه كما كان، ثمّ يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل به المرّة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله ما هذان؟
قال: قالا لي: انطلق، انطلق. فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلّوب من حديد وإذا هو يأتي أحد شقّي وجهه ليشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، قال:- وربّما قال أبو رجاء فيشقّ- قال: ثمّ يتحوّل إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأوّل فما يفرغ من ذلك
__________
(1) هذا اللون: أي هذا النوع.
(2) فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا أم الفضة بالفضة؟: هذا استدلال بطريق نظريّ. ألحق الفرع- الذي هو الفضة بالفضة- بالأصل الذي هو التمر بالتمر بطريق أحرى. وهو أقوى طرق القياس. ولذا قال به أكثر منكري القياس. وإنما ذكر أبو سعيد هذا الطريق من الاستدلال، لأنه لم يحضره شيء من أحاديث النهي. وإلا، فالأحاديث أقوى في الاستدلال لأنها نص.
(3) مسلم (1594) .
(4) ولعل هذا كان في أول الأمر ثم حرم سائر أنواعه.
(5) مسلم (1596) .
(6) الحاكم في المستدرك (2/ 45) وصححه ووافقه الذهبي.(10/4523)
الجانب حتّى يصحّ ذلك الجانب كما كان، ثمّ يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرّة الأولى. قال: قلت:
سبحان الله! ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا فأتينا على مثل التّنّور، قال: وأحسب أنّه كان يقول: فإذا فيه لغط وأصوات. قال: فاطّلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا «1» قال: قلت لهما: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال:
فانطلقنا فأتينا على نهر حسبت أنّه كان يقول- أحمر مثل الدّم- وإذا في النّهر رجل سابح يسبح، وإذا على شطّ النّهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السّابح يسبح ما يسبح، ثمّ يأتي ذلك الّذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجرا فينطلق يسبح ثمّ يرجع إليه، كلّما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجرا. قال: قلت لهما: ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا فأتينا على رجل كريه المرآة كأكره ما أنت راء رجلا مرآة، وإذا عنده نار يحشّها ويسعى حولها. قال: قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا فأتينا على روضة معتمّة فيها من كلّ لون الرّبيع، وإذا بين ظهري الرّوضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا في السّماء، وإذا حول الرّجل من أكثر ولدان رأيتهم قطّ. قال: قلت لهما: ما هذا؟
ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا فانتهينا إلى روضة عظيمة لم أر روضة قطّ أعظم منها ولا أحسن. قال: قالا لي: ارق. فارتقيت فيها قال:
فارتقينا فيها فانتهينا إلى مدينة مبنيّة بلبن ذهب ولبن فضّة، فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح لنا، فدخلناها فتلقّانا فيها رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء، قال: قال لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النّهر، قال: وإذا نهر معترض يجري كأنّ ماءه المحض من البياض فذهبوا فوقعوا فيه، ثمّ رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السّوء عنهم فساروا في أحسن صورة.
قال: قالا لي: هذه جنّة عدن وهذاك منزلك. قال: فسما بصري صعدا. فإذا قصر مثل الرّبابة البيضاء. قال:
قالا لي هذاك منزلك، قال: قلت لهما: بارك الله فيكما.
ذراني فأدخله. قالا: أمّا الآن فلا، وأنت داخله. قال:
قلت لهما: فإنّي قد رأيت منذ اللّيلة عجبا، فما هذا الّذي رأيت؟ قال: قالا لي: أما إنّا سنخبرك: أمّا الرّجل الأوّل الّذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنّه الرّجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصّلاة المكتوبة. وأمّا الرّجل الّذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنّه الرّجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق. وأمّا الرّجال والنّساء العراة الّذين في مثل بناء التّنّور فهم الزّناة والزّواني.
وأمّا الرّجل الّذي أتيت عليه يسبح في النّهر ويلقم الحجر فإنّه آكل الرّبا. وأمّا الرّجل الكريه المرآة الّذي عند النّار يحشّها ويسعى حولها فإنّه مالك خازن جهنّم. وأمّا الرّجل الطّويل الّذي في الرّوضة فإنّه
__________
(1) فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا: أي ضجوا واستغاثوا.(10/4524)
إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم، وأمّا الولدان الّذين حوله فكلّ مولود مات على الفطرة» قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وأولاد المشركين. وأمّا القوم الّذين كانوا شطر منهم حسن وشطر قبيح فإنّهم قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا تجاوز الله عنهم» ) * «1» .
16-* (عن أبي قلابة قال: كنت بالشّام في حلقة فيها مسلم بن يسار. فجاء أبو الأشعث. قال:
قالوا: أبو الأشعث. أبو الأشعث. فجلس فقلت له:
حدّث أخانا حديث عبادة بن الصّامت. قال: نعم.
غزونا غزاة- وعلى النّاس معاوية- فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من فضّة فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في أعطيات النّاس «2» ، فتسارع النّاس في ذلك. فبلغ عبادة بن الصّامت فقام فقال: إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينهى عن بيع الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح إلّا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى «3» ، فردّ النّاس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال: ألا ما بال رجال يتحدّثون عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحاديث قد كنّا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه. فقام عبادة بن الصّامت فأعاد القصّة ثمّ قال: لنحدّثنّ بما سمعنا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإن كره معاوية (أو قال: وإن رغم «4» ) . ما أبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء «5» ) * «6» .
17-* (عن جابر- رضي الله عنه- قال:
لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آكل الرّبا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء) * «7» .
18-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أحد أكثر من الرّبا إلّا كان عاقبة أمره إلى قلّة» ) * «8» .
19-* (عن ابن مسعود- رضي الله عنه- ذكر حديثا عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال فيه: «ما ظهر في قوم الزّنا والرّبا إلّا أحلّوا بأنفسهم عذاب الله» ) * «9» .
20-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تشترى الثّمرة حتّى تطعم، وقال: «إذا ظهر الزّنا والرّبا في قرية فقد أحلّوا بأنفسهم عذاب الله» ) * «10» .
__________
(1) البخاري- الفتح 12 (7047) واللفظ له، وأوله عند مسلم (2275) . وسبق تفسير غريبه مرات عديدة.
(2) أعطيات الناس: هي جمع أعطية، وهي جمع عطاء، وهو اسم لما يعطى، كالعطية.
(3) فمن زاد أو ازداد فقد أربى: معناه فقد فعل الربا المحرم، فدافع الزيادة وآخذها عاصيان مربيان.
(4) رغم: بكسر الغين وفتحها: ومعناه ذل وصار كاللاصق بالرغام، وهو التراب.
(5) ليلة سوداء: أي مظلمة غير مستنيرة بالقمر.
(6) مسلم (1587) .
(7) مسلم (1598) .
(8) ذكره المنذري في الترغيب (3/ 10) وقال: رواه ابن ماجه، والحاكم (4/ 318) ، و (2/ 37) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وفي لفظ له قال: الربا وإن كثر، فإن عاقبته الى قل. وقال: فيه أيضا صحيح الإسناد.
(9) المنذري في الترغيب (3/ 8) وقال: رواه أبو يعلى بإسناد جيد، وأخرجه الحاكم (2/ 37) وصححه، ووافقه الذهبي.
(10) رواه الحاكم في المستدرك (2/ 37) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وذكره المنذري في الترغيب (3/ 8) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وذكر تصحيح الحاكم.(10/4525)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الربا) معنى
21-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال لمروان: أحللت بيع الرّبا فقال مروان: ما فعلت.
فقال أبو هريرة: أحللت بيع الصّكاك «1» . وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الطّعام حتّى يستوفى. قال:
فخطب مروان النّاس فنهى عن بيعها. قال سليمان:
فنظرت إلى حرس يأخذونها من أيدي النّاس) * «2» .
22-* (قال نافع: فذهب عبد الله وأنا معه واللّيثيّ، حتّى دخل على أبي سعيد الخدريّ؛ فقال:
إنّ هذا أخبرني أنّك تخبر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نهى عن بيع الورق بالورق إلّا مثلا بمثل، وعن بيع الذّهب بالذّهب إلّا مثلا بمثل. فأشار أبو سعيد بإصبعيه إلى عينيه وأذنيه. فقال: أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تبيعوا الذّهب بالذّهب. ولا تبيعوا الورق بالورق إلّا مثلا بمثل.
ولا تشفّوا «3» بعضه على بعض. ولا تبيعوا شيئا غائبا منه بناجز، إلّا يدا بيد» ) * «4» .
23-* (عن سعيد بن المسيّب يحدّث أنّ أبا هريرة وأبا سعيد الخدريّ حدّثاه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
بعث أخا بني عديّ الأنصاريّ فاستعمله على خيبر.
فقدم بتمر جنيب «5» . فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أكلّ تمر خيبر هكذا؟» قال: لا، والله يا رسول الله إنّا لنشتري الصّاع بالصّاعين من الجمع «6» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«لا تفعلوا. ولكن مثلا بمثل. أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا. وكذلك الميزان» ) * «7» .
24-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الدّينار بالدّينار، لا فضل بينهما.
والدّرهم بالدّرهم، لا فضل بينهما» ) * «8» .
25-* (عن فضالة بن عبيد- رضي الله عنه- قال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر. نبايع اليهود، الوقيّة «9» الذّهب بالدّينارين والثّلاثة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تبيعوا الذّهب بالذّهب إلّا وزنا بوزن» ) * «10» .
26-* (عن حنش الصّنعانيّ أنّه قال: كنّا مع فضالة بن عبيد في غزوة. فطارت لي ولأصحابي قلادة «11» فيها ذهب وورق وجوهر فأردت أن أشتريها.
فسألت فضالة بن عبيد فقال: انزع ذهبها فاجعله في كفّة واجعل ذهبك في كفّة ثمّ لا تأخذنّ إلّا مثلا بمثل
__________
(1) الصّكاك: جمع صك وهو الورقة المكتوبة بدين، ويجمع- أيضا- على صكوك. والمراد هنا: الورقة التي تحمل أمر الحاكم بالرزق لمن يستحقه.
(2) مسلم (1528) .
(3) تشفوا: تزيدوا.
(4) مسلم (1584) .
(5) جنيب: نوع من التمر، من أغلاه وأحسنه.
(6) الجمع: تمر رديء. وقد فسر في حديث آخر بأنه الخلط من التمر.
(7) البخاري- الفتح 4 (2201، 2202) ، ومسلم (1593) واللفظ له.
(8) مسلم (1588) .
(9) الوقية: هي لغة في الأوقية.
(10) مسلم (1591) .
(11) فطارت لي ولأصحابي قلادة: أي أصابتنا وحصلت لنا من القسمة.(10/4526)
فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذنّ إلّا مثلا بمثل» ) * «1» .
27-* (عن أبي سعيد- رضي الله عنه- قال:
كنّا نرزق تمر الجمع على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهو الخلط «2» من التّمر. فكنّا نبيع صاعين بصاع. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «لا صاعي تمر بصاع «3» ، ولا صاعي حنطة بصاع. ولا درهم بدرهمين» ) * «4» .
28-* (عن عثمان بن عفّان- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تبيعوا الدّينار بالدّينارين، ولا الدّرهم بالدّرهمين» ) * «5» .
29-* (عن أبي بكرة- رضي الله عنه- قال:
نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الفضّة بالفضّة، والذّهب بالذّهب، إلّا سواء بسواء، وأمرنا أن نشتري الفضّة بالذّهب كيف شئنا، ونشتري الذّهب بالفضّة كيف شئنا. قال: فسأله رجل فقال: يدا بيد؟ فقال: هكذا سمعت) * «6» .
30-* (عن عطاء بن يسار- رحمه الله- قال: إنّ معاوية بن أبي سفيان باع سقاية «7» من ذهب، أو ورق، بأكثر من وزنها، فقال أبو الدّرداء: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينهى عن مثل هذا إلّا مثلا بمثل، فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسا. فقال أبو الدّرداء:
من يعذرني «8» من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وهو يخبرني عن رأيه؟ - لا أساكنك بأرض أنت فيها، ثمّ قدم أبو الدّرداء على عمر بن الخطّاب فذكر له ذلك، فكتب عمر بن الخطّاب إلى معاوية: أن لا تبع ذلك إلّا مثلا بمثل، وزنا بوزن) * «9» .
31-* (عن معمر بن عبد الله أنّه أرسل غلامه بصاع قمح فقال: بعه، ثمّ اشتر به شعيرا. فذهب الغلام فأخذ صاعا وزيادة بعض صاع. فلّما جاء معمرا أخبره بذلك. فقال له معمر: لم فعلت ذلك؟
انطلق فردّه. ولا تأخذنّ إلّا مثلا بمثل. فإنّي كنت أسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الطّعام بالطّعام مثلا بمثل» قال: وكان طعامنا يومئذ الشّعير. قيل له: فإنّه ليس بمثله. قال: إنّي أخاف أن يضارع «10» » ) * «11» .
__________
(1) مسلم (1591) .
(2) الخلط من التمر: أي المجموع من أنواع مختلفة، وإنما خلط لرداءته.
(3) لا صاعي تمر بصاع: أي لا يحل بيع صاعين من تمر بصاع منه.
(4) البخاري- الفتح (4/ 208010 ومسلم (1595) واللفظ له.
(5) مسلم (1585) .
(6) البخاري- الفتح 4 (2184) ، ومسلم (1590) واللفظ له.
(7) سقاية: السقاية: إناء يشرب فيه.
(8) يعذرني: يقال: من يعذرني من فلان، أي: من يقوم بعذري إن كافأته على صنيعه.
(9) أخرجه الموطأ (2/ 492) ، وأخرج النسائي منه إلى قوله: «مثلا بمثل (7/ 279) ، وقال محقق جامع الأصول (1/ 560) : إسناده صحيح.
(10) يضارع: أي يشابه ويشارك. ومعناه أخاف أن يكون في معنى المماثل، فيكون له حكمه في تحريم الربا.
(11) مسلم (1592) .(10/4527)
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (الربا)
1-* (عن مالك- رضي الله عنه- قال:
بلغني أنّ رجلا أتى ابن عمر- رضي الله عنهما- فقال: إنّي أسلفت رجلا سلفا، واشترطت عليه أفضل ممّا أسلفته، فقال عبد الله بن عمر: فذلك الرّبا. قال:
فكيف تأمرني يا أبا عبد الرّحمن؟ فقال عبد الله بن عمر:
السّلف على ثلاثة وجوه: سلف تسلفه تريد به وجه الله فلك وجه الله تعالى، وسلف تسلفه تريد به وجه صاحبك فلك وجه صاحبك، وسلف تسلفه لتأخذ خبيثا بطيّب فذلك الرّبا. قال: فكيف تأمرني يا أبا عبد الرّحمن؟ قال: أرى أن تشقّ الصّحيفة فإن أعطاك مثل الّذي أسلفته قبلته، وإن أعطاك دون الّذي أسلفته فأخذته أجرت، وإن أعطاك أفضل ممّا أسلفته طيّبة به نفسه فذلك شكر شكره لك، ولك أجر ما أنظرته) * «1» .
2-* (عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أنّ عمر بن الخطّاب قال: «لا تبيعوا الذّهب بالذّهب إلّا مثلا بمثل، ولا تشفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق، إلّا مثلا بمثل، ولا تشفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالذّهب أحدهما غائب والآخر ناجز، وإن استنظرك «2» إلى أن يلج بيته فلا تنظره، إنّي أخاف عليكم الرّماء «3» والرّماء: هو الرّبا.
وفي رواية عن القاسم بن محمّد قال: قال عمر ابن الخطّاب- رضي الله عنه-: «الدّينار بالدّينار، والدّرهم بالدّرهم، والصّاع بالصّاع، ولا يباع كالىء «4» بناجز» ) * «5» .
3-* (قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في قوله تعالى: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... أي استيقنوا بحرب من الله ورسوله) * «6» .
4-* (وقال أيضا: «آكل الرّبا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق» ) * «7» .
5-* (وقال أيضا: «يقال يوم القيامة لآكل الرّبا: خذ سلاحك للحرب» ) * «8» .
6-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما-: «من كان مقيما على الرّبا لا ينزع منه فحقّ على إمام المسلمين أن يستتيبه «9» فإن نزع وإلّا ضرب عنقه» ) * «10» .
7-* (عن مجاهد بن جبر- رحمه الله- قال:
«كنت مع ابن عمر فجاءه صائغ فقال: يا أبا
__________
(1) أخرجه في الموطأ (2/ 681، 682) ، وأخرج نحوه عن ابن عمر وقال: إسناده صحيح.
(2) استنظر: الاستنظار: استفعال من الإنظار: التأخير.
(3) الرماء: الربا: وهو الزيادة على ما يحل لك.
(4) كاليء: الكاليء بالهمز: النسيئة.
(5) أخرجه الموطأ (2/ 634) وقال محقق «جامع الأصول» (1/ 492) : إسناده صحيح.
(6) تفسير ابن كثير (1/ 331) .
(7) المصدر السابق (1/ 327) .
(8) المصدر السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(9) يستتيبه: يطلب توبته.
(10) شرح الترهيب (3/ 15) .(10/4528)
عبد الرّحمن، إنّي أصوغ الذّهب فأبيعه بالذّهب بأكثر من وزنه فأستفضل قدر عمل يدي (في صنعته) فنهاه عن ذلك. فجعل الصّائغ يردّد عليه المسألة- وابن عمر ينهاه- حتّى انتهى إلى باب المسجد، أو إلى دابّته يريد أن يركبها، فقال له آخر ما قال: الدّينار بالدّينار، والدّرهم بالدّرهم، لا فضل بينهما هذا عهد نبيّنا إلينا وعهدنا إليكم» ) * «1» .
8-* (روى أحمد بإسناد جيّد عن كعب الأحبار قال: «لأن أزني ثلاثا وثلاثين زنية أحبّ إليّ من أن آكل درهم ربا يعلم الله أنّي أكلته حين أكلته ربا» ) * «2» .
9-* (قال قتادة: «إنّ آكل الرّبا يبعث يوم القيامة مجنونا، وذلك علم أي: علامة لأكلة الرّبا يعرفهم به أهل الموقف» ) * «3» .
10-* (عن عبيد أبي صالح مولى السّفّاح قال: بعت بزّا لي من أهل دار نخلة إلى أجل، ثمّ أردت الخروج إلى الكوفة، فعرضوا عليّ أن أضع عنهم بعض الثّمن وينقدوني، فسألت زيد بن ثابت فقال: «لا آمرك أن تأكل هذا ولا توكله» ) * «4» .
11-* (سئل شيخ الإسلام ابن تيميّة- رحمه الله-: عن رجل تداين دينا فدخل به السّوق فاشترى شيئا بحضرة الرّجل، ثمّ باعه عليه بفائدة هل يجوز ذلك أم لا؟.
فأجاب: الحمد لله. هذا على ثلاثة أوجه:
الأوّل: أن يكون بينهم مواطأة لفظيّة، أو عرفيّة، على أن يشتري السّلعة من ربّ الحانوت فهذا لا يجوز.
والثّاني: أن يشتريها منه على أن يعيدها إليه.
فهذا أيضا لا يجوز. فقد دخلت أمّ ولد زيد بن أرقم على عائشة فقالت: يا أمّ المؤمنين، إنّي ابتعت من زيد ابن أرقم غلاما إلى العطاء بثمانمائة درهم نسيئة، ثمّ ابتعته منه بستّمائة نقدا، فقالت لها عائشة: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت. أخبري زيدا أنّه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا أن يتوب. وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الرّبا» وسئل ابن عبّاس عن ذلك فقال: «دراهم بدراهم دخلت بينهما حريريّة، وقال أنس بن مالك: هذا ممّا حرّم الله ورسوله.
والوجه الثّالث: أن يشتري السّلعة سرّا، ثمّ يبيعها للمستدين بيانا فيبيعها أحدهما فهذه تسمّى «التّورّق» . لأنّ المشتري ليس غرضه في التّجارة، ولا في البيع. ولكن يحتاج إلى دراهم، فيأخذ مائة، ويبقى عليه مائة وعشرون مثلا. فهذا قد تنازع فيه السّلف والعلماء. والأقوى أيضا أنّه منهيّ عنه، كما قال عمر ابن عبد العزيز ما معناه: أنّ التّورّق أصل الرّبا. فإنّ الله حرّم أخذ دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل؛ لما في
__________
(1) الموطأ (2/ 492) وقال محقق جامع الأصول (1/ 560) : إسناده صحيح، وأخرج النسائي (7 (278) المسند منه.
(2) ذكره المنذري في الترغيب (3 (7) .
(3) الزواجر عن اقتراف الكبائر (300) .
(4) أخرجه الموطأ (2/ 519) .(10/4529)
ذلك من ضرر المحتاج وأكل ماله بالباطل، وهذا المعنى موجود في هذه الصّورة. وإنّما الأعمال بالنّيّات وإنّما لكلّ امرىء مانوى. وإنّما الّذي أباحه الله البيع والتّجارة، وهو أن يكون المشتري غرضه أن يتجر فيها.
فأمّا إذا كان قصده مجرّد الدّراهم بدراهم أكثر منها:
فهذا لا خير فيه.
وسئل- رحمه الله-: عن رجل يداين النّاس كلّ مائة بمائة وأربعين، ويجعل سلفا على حرير، فإذا جاء الأجل، وأعسر المدين عن وفائه قال له: عاملني، فيأخذ ربّ الحرير من عنده، ويقول للمدين: اشتريت منّي هذا الحرير بمائة وتسعين. إلّا أنّه يأتيه على حساب كلّ مائة بمائة وأربعين. وإذا قبضه المدين منه قال: أوفني هذا الحرير عن السّلف الّذي لي عندك، وإذا جاءت السّنة الثّانية طالبه بالدّراهم المذكورة، فأعسرت عليه، أو بعضها. قال: عاملني، فيحسب المتبقّي والأصل. ويجعل ذلك سلفا على حرير. فما يجب على هذا الرّجل؟.
فأجاب: هذا هو عين الرّبا الّذي أنزل فيه القرآن؛ فإنّه كان يكون للرّجل على الرّجل الدّين.
فيأتي إليه عند محلّ الأجل، فيقول: إمّا أن تقضي، وإمّا أن تربي، فإن وفّاه وإلّا زاده المدين في الدّين.
وزاده الغريم في الأجل، حتّى يتضاعف المال. فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ* وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ (البقرة/ 278- 280) .
وهذه المعاملة الّتي يفعلها مثل هذا المربي:
مقصودها مقصود أولئك المشركين المربين؛ لكنّ هذا أظهر صورة المعاملة، وهذا لا ينفعه باتّفاق أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنّ هذا المربي يبيعه ذلك الحرير إلى أجل؛ ليوفيه إيّاه عن دينه، فهو بمنزلة أن يبيعه إيّاه إلى أجل ليشتريه بأقلّ من ذلك وقد سئل ابن عبّاس عن مثل هذا، فقال: هذا حرام، حرّمه الله ورسوله.
وسألت أمّ ولد زيد بن أرقم عائشة أمّ المؤمنين عن مثل هذا. فقالت: إنّي بعت من زيد غلاما إلى العطاء بثمانمائة درهم، ثمّ ابتعته بستّمائة، فقالت لها عائشة:
بئس ما اشتريت، وبئس ما بعت. أخبري زيدا أنّه أبطل جهاده مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا أن يتوب. قالت:
يا أمّ المؤمنين أرأيت إن لم أجد إلّا رأس مالي. فقالت عائشة فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ (البقرة/ 275) . وفي السّنن عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الرّبا» .
وقد قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحلّ سلف وبيع» فنهى أن يبيع ويقرض ليحابيه في البيع؛ لأجل القرض. وثبت عنه في الصّحيح أنّه قال: «إنّما الأعمال بالنّيّات» فهذان المتعاملان إن كان قصدهما أخذ دراهم بدراهم إلى أجل فبأيّ طريق توصّل إلى ذلك كان حراما؛ لأنّ المقصود حرام لا يحلّ قصده، بل قد نهى السّلف عن كثير من ذلك سدّا للذّرائع؛ لئلّا يفضي إلى هذا المقصود، وهذا المرابي لا يستحقّ في ذمم النّاس إلّا ما أعطاهم أو نظيره. فأمّا الزّيادات فلا يستحقّ شيئا منها، لكن ما قبضه قبل ذلك بتأويل فإنّه يعفى عنه، وأمّا ما بقى له في الذّمم فهو ساقط.(10/4530)
لقوله: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا «1» .
12-* (قال ابن القيّم: «إذا ظهر الزّنا والرّبا في قرية أذن بهلاكها» ) * «2» .
من مضار (الربا)
(1) آكل الرّبا مطرود من رحمة الله تعالى محارب من الله ورسوله.
(2) لم يتهدّد الله- عزّ وجلّ- ويتوعّد مرتكب كبيرة كمرتكب جريمة الرّبا.
(3) الرّبا جريمة اجتماعيّة إذا تفشّت في مجتمع من المجتمعات دمّرته وقوّضت بنيانه.
(4) آكل الرّبا وموكله وكاتبه وشاهداه وكلّ من يعين في رواج هذه الجريمة النّكراء آثمون عند الله مبعدون من رحمته.
(5) قرن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الرّبا والزّنا في كثير من المواضع لأنّهما جريمتان اجتماعيّتان متشابهتان في آثارهما السّلبيّة على المجتمع.
(6) الرّبا يزرع الأحقاد في القلوب وينزع منها الرّأفة والرّحمة وبذلك تموت الأخوّة وتتفكّك بنية المجتمع.
(7) دليل خبث نفس المرابي وسوء طويّته.
(8) وعمله هذا يدلّ على سوء خاتمته.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (29/ 437433) .
(2) الفوائد (226) .(10/4531)
الردة
الردة لغة:
الرّدّة مصدر قولهم: ردّ يردّ ردّا وردّة، وقيل الرّدّة الاسم من الارتداد، وكلّ ذلك مأخوذ من مادّة (ردد) الّتي تدلّ على رجع الشّيء، تقول: رددت الشّيء أردّه ردّا (رجعته) ، وسمّي المرتدّ بذلك لأنّه ردّ نفسه إلى كفره والأصل في ذلك قولهم: شاة مردّ وناقة مردّة، وذلك إذا أضرعت كأنّها لم تكن ذات لبن فردّ عليها، أو ردّت هي لبنها.
وقال الرّاغب: الرّدّ: صرف الشّيء بذاته أو بحالة من أحواله، ومن الرّدّ بالذّات قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ (الأنعام/ 128) ومن الرّدّ إلى حالة كان عليها قوله سبحانه: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ، (يونس/ 107) والارتداد والرّدّة:
الرّجوع؛ لكن الرّدّة تختصّ بالرّجوع إلى الكفر، والارتداد يستعمل فيه وفي غيره، وقول الله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ (المائدة/ 54) الارتداد هو الرّجوع من الإسلام إلى الكفر.
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
9/ 8/ 3
وقال الطّبريّ: من يرجع منكم عن دينه الحقّ الّذي هو عليه اليوم فيبدّله ويغيّره بدخوله في الكفر، إمّا في النّصرانيّة أو اليهوديّة أو غير ذلك من صنوف الكفر «1» ، وقال القرطبيّ: كانت ردّتهم على قسمين:
قسم نبذ الشّريعة كلّها وخرج عنها، وقسم نبذ وجوب الزّكاة واعترف بوجوب غيرها «2» والارتداد: الرّجوع ومنه المرتدّ، وشيء ردّ أي رديء، وقال ابن منظور:
الرّدّ: صرف الشّيء ورجعه، وردّه عن وجه يردّه ردّا ومردّا أو تردادا: صرفه، وهو بناء للتّكثير. وقد ارتدّ وارتدّ عنه: تحوّل.
وقال الخطّابيّ- رحمه الله تعالى-: الرّدّة اسم لغويّ لكلّ من انصرف عن أمر كان مقبلا عليه.
وتقول: ردّ عليه الشّيء إذا لم يقبله وكذلك إذا خطّأه.
واسم الفاعل منه: المرتدّ «3» .
الردة اصطلاحا:
قال الكفويّ: الرّدّة: الرّجوع في الطّريق الّذي جاء منه، وكذا الارتداد؛ لكنّ الرّدّة تختصّ بالكفر وهو (أي الارتداد) أعمّ «4» .
__________
(1) انظر الطبري (4/ 266) ، الصحاح (2/ 472) .
(2) تفسير القرطبي (3/ 142) ومقاييس اللغة (2/ 386) والمفردات (192) .
(3) لسان العرب (3/ 172 175) . وشرح مسلم للنووي (1/ 204) . وانظر: النهاية لابن الأثير (2/ 213- 217) .
(4) الكليات (477) .(10/4532)
وقال ابن قدامة: هي الإتيان بما يخرج عن الإسلام إمّا نطقا أو اعتقادا أو شكّا ينقل عن الإسلام.
أمّا المرتدّ فهو الرّاجع عن دين الإسلام «1» .
وقال في الإقناع (المرتدّ) : هو الّذي يكفر بعد إسلامه نطقا أو اعتقادا أو شكّا أو فعلا، ولو كان هازلا «2» .
أقسام الردة:
قال عزّ الدّين بليق: قد قسّم بعض العلماء الرّدّة إلى أقسام أربعة: وهي ردّة في الاعتقاد، وردّة في الأقوال، وردّة في الأفعال، وردّة في التّرك. قال: ومن نافلة القول أنّ هذه الأقسام قد تتداخل، فمن اعتقد شيئا فقد يعبّر عنه بلسانه أو بعمل من أعماله وبذلك تتداخل هذه الأقسام «3» .
حكم المرتد:
قال ابن قدامة: من ارتدّ عن الإسلام من الرّجال والنّساء وكان بالغا عاقلا دعي إليه ثلاثة أيّام، وضيّق عليه، فإن رجع (فبها ونعمت) وإلّا قتل «4» .
موقف أبي بكر- رضي الله عنه- من المرتدين:
لقد كان موقف أبي بكر الصّدّيق- رضي الله عنه- من المرتدّين هو التّطبيق العمليّ لتنفيذ حكم الله فيهم، يقول الطّبريّ: عقد أبو بكر أحد عشر لواء، عقد لخالد بن الوليد وأمره بطليحة بن خويلد (المرتدّ الكذّاب) ، فإذا فرغ سار إلى مالك بن نويرة. ولعكرمة ابن أبي جهل وأمره بمسيلمة (الكذّاب) ، وللمهاجر ابن أميّة «5» وأمره بجنود العنسيّ (من المرتدّين في اليمن) «6» .
وقد كتب إليهم مع القادة المسلمين كتابا جاء فيه: «قد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقرّ بالإسلام وعمل به، اغترارا بالله تعالى، وجهالة بأمره، وإجابة للشّيطان ... ، وإنّي بعثت إليكم فلانا في جيش من المهاجرين والأنصار والتّابعين لهم بإحسان وأمرته ألّا يقاتل أحدا ولا يقتله حتّى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقرّ وكفّ وعمل صالحا، قبل منه ذلك وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك، ثمّ لا يبقي على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنّار ويقتلهم كلّ قتلة، وأن يسبي النّساء والذّراريّ ولا يقبل من أحد إلّا الإسلام، فمن اتّبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كلّ مجمع لكم، والدّاعية الأذان، فإذا أذّن المسلمون فأذّنوا كفّوا عنهم، وإن لم يؤذّنوا عاجلوهم، وإن أذّنوا اسألوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم وإن أقرّوا قبل منهم «7» .
__________
(1) معجم المغنى في الفقه الحنبلي (368) .
(2) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (5/ 853) .
(3) منهاج الصالحين من أحاديث وسنة خاتم الأنبياء والمرسلين (102) .
(4) المغني لابن قدامة (10/ 74) .
(5) انظر في أسماء بقية قادة المسلمين، وفي الجهات التي وجهوا إليها، وأسماء زعماء الردة في جزيرة العرب، تاريخ الطبري (3/ 248) وما بعدها.
(6) كان الأسود العنسي قد تكهن وادعى النبوة وتبعته قبيلة عنس، انظر فتوح البلدان (109) .
(7) انظر نص كتاب أبي بكر- رضي الله عنه- كاملا في المرجع السابق (3/ 250) وما بعدها.(10/4533)
وقد عهد- رضي الله عنه- إلى الأمراء بأن «يمنع كلّ قائد أصحابه من العجلة والفساد، وأن لا يدخل في جنوده حشوا حتّى يعرفهم ويعلم ما هم، (حتّى) لا يكونوا عيونا، ولئلّا يؤتى المسلمون من قبلهم «1» .
لقد كان لحزم أبي بكر- رضي الله عنه- وصلابته في التّعامل مع هؤلاء المرتدّين أثره الواضح في استئصال شأفة الرّدّة من جميع أنحاء بلاد العرب، وحفظ بذلك وحدة الأمّة ووقاها من الهلكة، يقول ابن مسعود- رضي الله عنه- «لقد قمنا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقاما كدنا نهلك فيه لولا أنّ الله منّ علينا بأبي بكر،.. عزم الله له على قتال المرتدّين، فو الله ما رضي منهم إلّا بالخطّة المجزية أو الحرب المجلية ... » «2» ، نعم لقد أخزى الله المرتدّين على يديه ولم ينج منهم إلّا من هرب هائما على وجهه خاسرا الدّنيا والآخرة.
للاستزادة: انظر صفات: الإلحاد- الزندقة- الضلال- الكفر- الإعراض- اتباع الهوى- الشرك.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الإيمان- الهدى اليقين- الاعتصام- الطاعة- الفرار إلى الله] .
__________
(1) انظر عهد أبي بكر- رضي الله عنه- إلى قادة جيوش المسلمين الذين وجههم لمحاربة المرتدين، المرجع السابق (3/ 151- 152) .
(2) انظر كلام ابن مسعود- رضي الله عنه- عاما في فتوح البلدان للبلاذري (100) .(10/4534)
الآيات الواردة في «الردة»
1- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) «1»
2- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) «2»
3- يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) «3»
4- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) «4»
5- إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27)
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) «5»
__________
(1) البقرة: 217 مدنية
(2) آل عمران: 100- 101 مدنية
(3) المائدة: 21 مدنية
(4) المائدة: 54 مدنية
(5) محمد: 25- 28 مدنية(10/4535)
الآيات الواردة في «الردة» معنى
6- وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) «1»
7- وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) «2»
8- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149)
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) «3»
9- قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) «4»
__________
(1) البقرة: 143 مدنية
(2) آل عمران: 144 مدنية
(3) آل عمران: 149- 150 مدنية
(4) الأنعام: 71 مدنية(10/4536)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الردة)
1-* (عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه- قال: أشرف عثمان بن عفّان يوم الدّار فقال: أنشدكم بالله أتعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحلّ دم امرىء إلّا بإحدى ثلاث: زنا بعد إحصان، أو ارتداد بعد إسلام، أو قتل نفسا بغير حقّ فقتل به» . ثمّ قال: فو الله ما زنيت في جاهليّة ولا في إسلام، ولا ارتددت منذ بايعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا قتلت النّفس الّتي حرّم الله، فبم تقتلونني؟) * «1» .
2-* (عن عبد الله بن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: إنّ أبا سفيان بن حرب أخبره أنّ هرقل أرسل إليه في ركب «2» من قريش، وكانوا تجّارا بالشّام في المدّة الّتي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مادّ فيها «3» أبا سفيان وكفّار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الرّوم، ثمّ دعاه ودعا بترجمانه فقال: أيّكم أقرب نسبا بهذا الرّجل الّذي يزعم أنّه نبيّ؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبا. فقال: أدنوه منّي، وقرّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره. ثمّ قال لترجمانه: قل لهم إنّي سائل هذا الرّجل فإن كذبني فكذّبوه، فو الله لولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذبا لكذبت عنه. ثمّ كان أوّل ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قطّ قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف النّاس يتّبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم.
قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال:
فهل يرتدّ أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟
قلت: لا. قال: فهل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدّة «4» لا ندري ما هو فاعل فيها. قال:
ولم تمكنّي كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة. قال:
فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إيّاه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال؛ ينال منّا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم. ويأمرنا بالصّلاة والصّدق والعفاف والصّلة. فقال للتّرجمان:
قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنّه فيكم ذو نسب، فكذلك الرّسل تبعث في نسب قومها. وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا. فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي «5» بقول قيل قبله. وسألتك هل كان من آبائه من ملك؟
فذكرت أن لا. قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت:
رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتّهمونه
__________
(1) النسائي (7/ 92) . والترمذي (2158) . واللفظ له وأبو داود (4353) . وقال محقق جامع الأصول: إسناده صحيح (10/ 215) وله شواهد كثيرة من طريق ابن مسعود وعائشة وابن عباس في الصحيحين وغيرهما.
(2) ركب من قريش: الركب: جماعة المسافرين.
(3) مادّ فيها ... إلخ: عاهده على ترك الحرب مدة وقدرها عشر سنوات وذلك معروف باسم صلح الحديبية.
(4) في مدة: في هدنة.
(5) يأتسي: يتخذ غيره أسوة. والأسوة: القدوة.(10/4537)
بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت: أن لا. فقد أعرف أنّه لم يكن ليذر الكذب على النّاس ويكذب على الله. وسألتك: أشراف النّاس اتّبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أنّ ضعفاءهم اتّبعوه، وهم أتباع الرّسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت: أنّهم يزيدون. وكذلك أمر الإيمان حتّى يتمّ. وسألتك: أيرتدّ أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت: أن لا.
وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك:
هل يغدر؟ فذكرت: أن لا. وكذلك الرّسل لا تغدر.
وسألتك: بما يأمركم؟ «1» فذكرت أنّه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصّلاة والصّدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقّا فسيملك موضع قدميّ هاتين. وقد كنت أعلم أنّه خارج ولم أكن أظنّ أنّه منكم. فلو أنّي أعلم أنّي أخلص إليه لتجشّمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه) * «2» .
3-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: إنّ ناسا من عرينة «3» قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فاجتووها «4» فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصّدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها» ففعلوا فصحّوا. ثمّ مالوا على الرّعاة فقتلوهم، وارتدّوا عن الإسلام، وساقوا ذود «5» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبلغ ذلك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فبعث في أثرهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم «6» ، وتركهم في الحرّة «7» حتّى ماتوا) * «8» .
4-* (عن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا والزّبير والمقداد، قال:
«انطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخ فإنّ بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها» فذهبنا تعادى «9» بنا خيلنا حتّى أتينا الرّوضة فإذا نحن بالظّعينة. فقلنا: أخرجي الكتاب فقالت: ما معي من كتاب. فقلنا: لتخرجنّ الكتاب أو لتلقينّ الثّياب. فأخرجته من عقاصها «10» ، فأتينا به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممّن بمكّة يخبرهم ببعض أمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما هذا يا حاطب؟» قال: لا تعجل عليّ يا رسول الله، إنّي كنت امرأ من قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكّة، فأحببت إذ فاتني من النّسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّه قد صدقكم» فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه. فقال:
«إنّه شهد بدرا، وما يدريك لعلّ الله- عزّ وجلّ- اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت
__________
(1) هكذا ورد في صحيح البخاري (بما) والمعروف أن ما الاستفهامية تحذف ألفها إذا دخل عليها حرف جر. إثبات الألف في «ما» الاستفهامية المجرورة جائز على لغة بعض العرب. انظر شرح الشافية (2/ 297) ، وخزانة الأدب (2/ 538) .
(2) البخاري- الفتح 1 (7) واللفظ له. ومسلم (1773) .
(3) عرينة: فرع من قبيلة تسمى بجيلة.
(4) اجتووها: لم توافقهم وكرهوها لسقم أصابهم.
(5) ذود: الذود من الإبل من ثلاثة إلى عشرة وقيل إلى ثلاثين.
(6) سمل أعينهم: فقأها وأذهب ما فيها.
(7) الحرة: أرض ذات حجارة سود معروفة بالمدينة.
(8) البخاري- الفتح 12 (6802) . ومسلم (1671) واللفظ له.
(9) تعادى: أصلها تتعادى أي تتسابق.
(10) عقاصها: ضفائر شعرها جمع عقصة بمعنى ضفيرة.(10/4538)
لكم» ونزلت فيه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ الآية (الممتحنة/ 1) * «1» .
5-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثمّ ارتدّ ولحق بالشّرك ثمّ تندّم فأرسل إلى قومه سلوا لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. هل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنّ فلانا قد ندم وإنّه أمرنا أن نسألك هل له من توبة؟ فنزلت كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ إلى قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ (آل عمران/ 86- 89) فأرسل إليه فأسلم) * «2» .
6-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ترتدّوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض» ) * «3» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (الردة) معنى
7- (عن أبي موسى- رضي الله عنه- قال:
أقبلت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعي رجلان من الأشعريّين، أحدهما عن يميني والآخر عن يساري ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستاك، فكلاهما سأل فقال: يا أبا موسى، أو يا عبد الله بن قيس، قال: قلت: والّذي بعثك بالحقّ ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنّهما يطلبان العمل- فكأنّي أنظر إلى سواكه تحت شفته قلصت- فقال: «لن،- أو لا- نستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى- أو يا عبد الله بن قيس- إلى اليمن، ثمّ أتبعه معاذ بن جبل فلمّا قدم عليه ألقى له وسادة قال: انزل، فإذا رجل عنده موثق. قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديّا فأسلم ثمّ تهوّد.
قال: اجلس. قال: لا أجلس حتّى يقتل، قضاء الله ورسوله (ثلاث مرّات) فأمر به فقتل. ثمّ تذاكرا قيام اللّيل، فقال أحدهما: اللّيل «4» ، فقال أحدهما: أمّا أنا فأقوم وأنام، وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي) * «5» .
8-* (عن ثوبان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله زوى «6» لي الأرض» ، أو قال: «إنّ ربّي زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنّ ملك أمّتي سيبلغ ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض «7» ، وإنّي سألت ربّي لأمّتي: أن لا يهلكها بسنة
__________
(1) البخاري- الفتح 8 (4890) واللفظ له. مسلم (2494) .
(2) النسائي (7/ 107) واللفظ له. وذكره الألباني في صحيح النسائي برقم (3792) وقال: صحيح الإسناد، الحاكم (4/ 366) وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وذكره ابن كثير في التفسير وعزاه أيضا لابن حبان. وقال الشيخ أحمد شاكر في المسند (4/ 37) برقم (2218) : إسناده صحيح. وقال الأرناؤوط في تعليقه على «جامع الأصول» (2/ 68) : سنده حسن.
(3) البخاري- الفتح 13 (7079) واللفظ له. ورواه هو ومسلم من حديث جماعة من الصحابة كابن عمر وابن مسعود وجرير بن عبد الله البجلي وغيرهم بلفظ «لا ترجعوا» .
(4) الليل: يبدو لنا أن الأول يقصد أنه يستغرق الليل كله في الطاعة بدليل قول الآخر أما أنا فأقوم وأنام ... إلخ.
(5) البخاري- الفتح 12 (6923) .
(6) زوى: جمع.
(7) الكنزين الأحمر والأبيض: المراد الذهب والفضة.(10/4539)
بعامّة «1» ، ولا يسلّط عليهم عدوّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم «2» ، وإنّ ربّي قال لي: يا محمّد! إنّي إذا قضيت قضاء فإنّه لا يردّ، ولا أهلكهم بسنة بعامّة، ولا أسلّط عليهم عدوّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، لو اجتمع عليهم من بين أقطارها- أو قال بأقطارها- حتّى يكون بعضهم يهلك بعضا، وحتّى يكون بعضهم يسبي بعضا. وإنّما أخاف على أمّتي الأئمّة المضلّين، وإذا وضع السّيف في أمّتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم السّاعة حتّى تلحق قبائل من أمّتي بالمشركين. وحتّى تعبد قبائل من أمّتي الأوثان، وإنّه سيكون في أمّتي كذّابون ثلاثون، كلّهم يزعم أنّه نبيّ، وأنا خاتم النّبيّين، لا نبيّ بعدي، ولا تزال طائفة من أمّتي على الحقّ ظاهرين، لا يضرّهم من خالفهم حتّى يأتي أمر الله» ) * «3» .
من الآثار وأقوال العلماء الواردة في ذمّ (الردة)
1-* (قال ابن تيمية- رحمه الله تعالى-:
المرتدّ شرّ من الكافر الأصليّ من وجوه كثيرة) * «4» .
2-* (قال شريك العامريّ- رحمه الله تعالى-:
قيل لعليّ: إنّ هنا قوما على باب المسجد يدّعون أنّك ربّهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم، ما تقولون؟ قالوا:
أنت ربّنا ورازقنا، فقال: ويلكم إنّما أنا عبد مثلكم، آكل الطّعام كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء وإن عصيته خشيت أن يعذّبني، فاتّقوا الله وارجعوا، فأبوا، فلمّا كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال: أدخلهم فقالوا كذلك، فلمّا كان الثّالث قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنّكم بأخبث قتلة فأبوا إلّا ذلك، فقال: يا قنبر ائتني بفعلة معهم مرورهم فخدّ لهم أخدودا بين باب المسجد والقصر وقال: احفروا فأبعدوا في الأرض، وجاء بالحطب فطرحه بالنّار في الأخدود وقال: إنّي طارحكم فيها أو ترجعوا، فأبوا أن يرجعوا فقذف بهم فيها حتّى إذا احترقوا قال:
إنّي إذا رأيت أمرا منكرا ... أوقدت ناري ودعوت قنبرا
) * «5» .
3-* (حكى الجاحظ: لمّا دخل المرتدّ الخراسانيّ على المأمون، وكان قد حمله معه من خراسان حتّى وافى به العراق، قال له المأمون: لأن أستحييك بحقّ أحبّ إليّ من أقتلك بحقّ، ولأن أقبلك بالبراءة أحبّ إليّ من أن أدفعك بالتّهمة، قد كنت مسلما بعد أن كنت نصرانيّا وكنت فيها أتنخ «6» وأيّامك أطول، فاستوحشت ممّا كنت به آنسا ثمّ لم تلبث أن رجعت عنّا نافرا، فخبّرنا عن الشّيء الّذي صار آنس لك من إلفك القديم، وأنسك الأوّل. فإن وجدت عندنا دواء دائك
__________
(1) بسنة بعامة: قحط عام.
(2) البيضة: العز والملك.
(3) مسلم (2889) وأبو داود (4252) ، وصححه الألباني (3577) واللفظ له.
(4) مجموع الفتاوى (2/ 193) .
(5) الفتح (12/ 282) وقال الحافظ: سنده حسن.
(6) في الأصول: «أتيح» ولا وجه له. ويقال تنخ بالمكان تنوخا، أي قام وثبت.(10/4540)
تعالجت به، والمريض من الأطبّاء يحتاج إلى المشاورة.
وإن أخطأك الشّفاء ونباعن دائك الدّواء، كنت قد أعذرت ولم ترجع على نفسك بلائمة، فإن قتلناك قتلناك بحكم الشّريعة. أو ترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار والثّقة، وتعلم أنّك لم تقصّر في اجتهاد، ولم تفرّط في الدّخول في باب الحزم، قال المرتدّ: أوحشني كثرة ما رأيت من الاختلاف فيكم!
قال المأمون: لنا اختلافان: أحدهما كالاختلاف في الأذان وتكبير الجنائز، والاختلاف في التّشهّد وصلاة الأعياد وتكبير التّشريق، ووجوه القراءات واختلاف وجوه الفتيا وما أشبه ذلك. وليس هذا باختلاف، إنّما هو تخيير وتوسعة، وتخفيف من المحنة فمن أذّن مثنى وأقام مثنى لم يؤثّم، ومن أذّن مثنى وأقام فرادى لم يحوّب «1» ، لا يتعايرون ولا يتعايبون، أنت ترى ذلك عيانا وتشهد عليه بتاتا «2» .
والاختلاف الآخر كنحو اختلافنا في تأويل الآية من كتابنا، وتأويل الحديث عن نبيّنا، مع إجماعنا على أصل التّنزيل، واتّفاقنا على عين الخبر. فإن كان الّذي أوحشك هذا حتّى أنكرت من أجله هذا الكتاب، فقد ينبغي أن يكون اللّفظ بجميع التّوراة والإنجيل متّفقا على تأويله، كما يكون متّفقا على تنزيله، ولا يكون بين جميع النّصارى واليهود اختلاف في شيء من التّأويلات. وينبغي لك أن لا ترجع إلّا إلى لغة لا اختلاف في تأويل ألفاظها ولو شاء الله أن ينزّل كتبه ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا يحتاج إلى تفسير لفعل، ولكنّا لم نر شيئا من الدّين والدّنيا دفع إلينا على الكفاية، ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة، وذهبت المسابقة والمنافسة، ولم يكن تفاضل وليس على هذا بنى الله الدّنيا.
قال المرتدّ: أشهد أنّ الله واحد لا ندّ له ولا ولد، وأنّ المسيح عبده، وأنّ محمّدا صادق، وأنّك أمير المؤمنين حقّا! فأقبل المأمون على أصحابه فقال: فروا عليه عرضه «3» ، ولا تبرّوه في يومه ريثما يعتق إسلامه؛ كي لا يقول عدوّه إنّه أسلم رغبة، ولا تنسوا بعد نصيبكم من برّه وتأنيبه ونصرته، والعائدة عليه «4» .
من مضار (الردة)
(1) تودي بحياة المرتدّ في الدّنيا وتوجب له الخلود في النّار في الآخرة.
(2) تلقي على الأمّة عبئا ثقيلا من الحذر والاحتياط إذا تمكّن المرتدّ من الفرار إلى خارج مجتمعها.
(3) قد يفتح المرتدّ لأعداء الأمّة ثغرات للإضرار بها بما يقدّمه لهم من معلومات يبنون عليها خطّتهم في مواجهتها.
(4) قد تؤدّي الرّدّة إلى اضطراب المجتمع بإغراء البسطاء بالاقتداء بالمرتدّ حين يظفر بحماية أعداء الأمّة وما يغدقون عليه من رفاهية العيش.
__________
(1) لم يحوب، من الحوب، بالضم.. وهو الإثم. وهذا الفعل مما لم يذكر في المعاجم.
(2) بتاتا، اي قطعا.
(3) فروا، من الوفر- يقال: وفره عرض ووفره له: لم يشتمه.
(4) البيان والتبيين 3/ 375 وما بعدها.(10/4541)
الرشوة
الرشوة لغة:
هي الاسم من قولهم رشاه يرشوه رشوا إذا أعطاه الجعل، وهي مأخوذة من مادّة (ر ش و) الّتي تدلّ على التّسبّب للشّيء برفق وملاينة، تقول: ترشّيت الرّجل إذا لاينته، ومن ذلك قول امريء القيس:
نزيف «1» إذا قامت لوجه تمايلت ... تراشي الفؤاد الرّخص ألّا تختّرا
«2» وقال الجوهريّ: يقال: الرّشوة (بالكسر) والرّشوة (بالضّمّ) وجمعها رشى ورشا، وارتشى: أخذ الرّشوة، واسترشى في حكمه: طلب الرّشوة عليه، ويقال: ترشّيت الرّجل إذا لاينته، وراشيته إذا ظاهرته «3» .
وقال ابن منظور: الرّشو: فعل الرّشوة، والمراشاة: المحاباة، والرّشوة (بالفتح) ، والرّشوة (بالكسر) ، والرّشوة (بالضّمّ) الجعل، قال: وهي مأخوذة من رشا الفرخ إذا مدّ رأسه إلى أمّه لتزقّه،
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
3/ 7/ 9
والرّائش: الّذي يسدي بين الرّاشي والمرتشي «4» . وفي الحديث: «لعن الله الرّاشي والمرتشي والرّائش» ، قال ابن الأثير: الرّاشي: من يعطي الّذي يعينه على الباطل، والمرتشي: الآخذ (للرّشوة) ، والرّائش الّذي يسعى بينهما يستزيد لهذا، ويستنقص لهذا «5» . قال: وأصل ذلك من الرّشاء الّذي يتوصّل به إلى الماء «6» .
الرشوة اصطلاحا:
قال الفيّوميّ: الرّشوة: ما يعطيه الشّخص الحاكم وغيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد «7» .
وقال الجرجانيّ: الرّشوة: ما يعطى لإبطال حقّ أو إحقاق باطل «8» .
وقال التّهانويّ: حدّ الرّشوة: بذل المال فيما هو غير مستحقّ على الشّخص، وقيل: هي ما يعطيه رجل شخصا حاكما أو غير حاكم ليحكم له أو يحمله على ما يريده «9» .
__________
(1) ورد البيت في ديوانه ص 61، والنزيف: السكران الذي نزف السكر عقله، والوجه: ما يتوجه لها أن تفعله من الأمور، وتراشي: أي تعطيه الرشوة. والمراد هنا المداراة والمخاتلة.
(2) مقاييس اللغة 2/ 397.
(3) الصحاح 6/ 2357.
(4) لسان العرب (رشو) ص 1653 (ط. دار المعارف) ، والقاموس المحيط (رشا) ص 1662 (ط. بيروت) .
(5) النهاية لابن الأثير 2/ 226.
(6) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها، ولسان العرب 1653.
(7) المصباح المنير للفيومي ص 228.
(8) التعريفات للجرجاني ص 116، والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص 177.
(9) كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي (3/ 86) .(10/4542)
وقال ابن الأثير: الرّشوة (بالكسر والضّمّ) :
الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، قال: وأمّا ما يعطى توصّلا إلى أخذ حقّ أو دفع ظلم فغير داخل في الرّشوة «1» .
وقد استنبط بعض الباحثين ممّا ذكره الفقهاء تعريفا جامعا للرّشوة فقال: هي ما يؤخذ (من جعل) عمّا وجب على الشّخص فعله، سواء أكان واجبا على العين، كالقاضي أو على الكفاية، كما في شخص يقدر على دفع الظّلم أو استخلاص حقّ من يد ظالم.
وسواء أكان الوجوب شرعيّا كما في وليّ المرأة لا يزوّجها إلّا بالرّشوة، أو شاعر يخاف منه الهجو، لأنّ الكفّ عن عرض المسلم واجب شرعا، أو كان الوجوب عرفيّا (عن طريق العقد) ، كمن آجر نفسه لإقامة أمر من الأمور المتعلّقة بالمسلمين كأعوان القاضي أو أعضاء النّيابة وأهل الدّيوان من الموظّفين «2» .
أنواع الرّشوة وحكم كل نوع:
قال التّهانويّ: الرّشوة على أربعة أوجه:
الأوّل: رشوة محرّمة من الجانبين (الرّاشي والمرتشي) ، ولها صورتان: الأولى: تقلّد القضاء بحيث لا يصير (القاضي) قاضيا بدونها. والثّانية: دفع الرّشوة إلى القاضي ليقضي له، سواء كان القضاء بحقّ أو بغير حقّ.
الثّاني: دفع الرّشوة خوفا على النّفس أو المال، وهذه حرام على الآخذ غير حرام على الدّافع، وكذا إذا طمع ظالم في ماله فرشاه ببعض المال، ومن هذا النّوع ما يدفعه شخص إلى شاعر، قلت (أو صحفيّ) خوفا من الهجاء أو الذّمّ.
الثّالث: الرّشوة تدفع للحاكم ليسوّي أمرا من الأمور، بحيث يشترط عليه ذلك وهذه حلال للدّافع حرام للآخذ، فإن طلب منه أن يسوّي أمره ولم يذكر له الرّشوة ثمّ أعطاه بعد ذلك شيئا، اختلف فيه العلماء، فقال بعضهم: لا يحلّ له، وقال بعضهم: يحلّ، قلت:
وعلى فرض أنّه حلال عند بعضهم فإنّه من الشّبهات الّتي ينبغي أن يتّقيها المسلم الّذي يستبرأ لدينه.
الرّابع: وهو ما أشبه الرّشوة وليس بها، وهو ما كان الدّفع فيه على سبيل التّودّد والتّحبّب، وهذا حلال للجانبين «3» .
استرداد الرّشوة:
الرّشوة مال حرام على آخذه، يلزمه ردّه، من ذلك على سبيل المثال ما يدفعه الرّجل إلى وليّ أمر المرأة ليزوّجها إيّاه فإن دفع له وزوّجه إيّاها فإنّ للزّوج أن يستردّ ما دفعه حتّى ولو مات الوليّ لأنّه رشوة.
ولو مات المرتشي وعلم الوارث أنّ ما تركه من الرّشوة، فإنّه لا يحلّ له أخذه، وإن لم يعلم عين الرّشوة فإنّ له الأخذ حكما، ويتصدّق به بنيّة الخصماء، وإن
__________
(1) النهاية لابن الأثير (2/ 266) .
(2) بتلخيص وتصرف عن كشاف اصطلاحات الفنون (3/ 88) .
(3) كشاف اصطلاحات الفنون 3/ 68، قلت وعد النوع الأخير من الرشوة إنّما هو تسامح في العبارة، وإلّا فإنه لا ينطبق عليه تعريفها ولا حكمها.(10/4543)
ارتشى القاضي ردّ قضاؤه، فإن ارتشى أحد أعوانه ليعين المرتشي ولم يعلم القاضي نفذ قضاؤه، وعلى القابض ردّ ما قبضه، ويأثم الرّاشي «1» .
الرّشوة من الكبائر:
قال الذّهبيّ: الكبيرة الثّانية والثّلاثون: أخذ الرّشوة على الحكم، وقد استدلّ على ذلك بقوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة/ 188) قال الذّهبيّ: لا تدلوا بأموالكم إلى الحكّام: أي لا تصانعوهم بها ولا ترشوهم ليقتطعوا لكم حقّا لغيركم وأنتم تعلمون أنّ ذلك لا يحلّ لكم، وبعد أن ذكر الأحاديث الدّالّة على التّحريم «2» ، قال: إنّما تلحق اللّعنة الرّاشي إذا قصد بها أذيّة مسلم، أو ليدفع له بها ما لا يستحقّ، أمّا إذا أعطى ليتوصّل إلى حقّ له، أو ليدفع عن نفسه ظلما، فإنّه غير داخل في اللّعنة، أمّا الحاكم فالرّشوة عليه حرام سواء أبطل بها حقّا أو دفع بها ظلما، والرّائش (وهو السّاعي بالرّشوة) تابع للرّاشي في قصده إن قصد خيرا لم تلحقه اللّعنة وإلّا لحقته «3» .
الهدية للحاكم رشوة أم لا؟
سئل ابن تيميّة- رحمه الله تعالى- عن رجل أهدى الأمير هديّة لطلب حاجة، أو للتّقرّب منه، أو للاشتغال بالخدمة عنده أو ما أشبه ذلك، فهل أخذ الهديّة على هذه الصّورة رشوة أم لا؟ وهو إن أخذ الهديّة انبعثت نفسه إلى قضاء الشّغل، وإن لم يأخذ لم تنبعث النّفس في قضائه، فهل يجوز أخذها؟ وقضاء شغله، أو لا يأخذ ولا يقضي؟ ورجل مسموع القول عند مخدومه (سكرتير أو حاجب أو مستشار أو ما أشبه ذلك) إذا أعطوه شيئا للأكل أو لغير قضاء حاجة، فهل يجوز أخذها؟ وهو إن ردّها على المهدي انكسر خاطره، فهل يجوز أخذ هذا أم لا؟.
أجاب- رحمه الله تعالى- عن الحالتين فقال:
في سنن أبي داود وغيره أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هديّة فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الرّبا» «4» . وسئل ابن مسعود عن السّحت فقال: هو أن تشفع لأخيك شفاعة فيهدي لك هديّة فتقبلها. فقال له: أرأيت إن كانت هديّة في باطل. فقال: ذلك كفر وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (المائدة/ 44) .
ولهذا قال العلماء: إنّ من أهدى هديّة لوليّ الأمر ليفعل معه ما لا يجوز، كان حراما على المهدي والمهدى إليه، وهذه من الرّشوة الّتي قال فيها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «لعن الله الرّاشي والمرتشي» ، والرّشوة تسمّى البرطيل، والبرطيل في اللّغة هو الحجر المستطيل فاه، فأمّا إذا أهدى له هديّة ليكفّ ظلمه عنه أو ليعطيه حقّه الواجب كانت الهديّة حراما على الآخذ، وجاز
__________
(1) السابق (3/ 88) ، وقد أفاض التهانوي في أحكام رشوة المحتسب، انظرها في الموضع المذكور.
(2) انظر الأحاديث أرقام (1، 5) .
(3) الكبائر للذهبي 142- 143.
(4) انظر الحديث رقم 6، وقد تم تخريجه هناك.(10/4544)
للدّافع أن يدفعها إليه كما كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول «إنّي لأعطي أحدهم العطيّة فيخرج بها يتأبّطها نارا» قيل:
يا رسول الله فلم تعطهم؟ قال «يأبون إلّا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل» «1» .
ومثل ذلك مثل من أسرّ خبرا، أو كان ظالما للنّاس، فأعطاه هؤلاء (كي يمتنع من نشر السّرّ أو من الظّلم) فهذا جائز للمعطي حرام على الآخذ، أمّا الهديّة في الشّفاعة كأن يشفع لرجل عند وليّ أمر ليرفع عنه مظلمة أو يوصل إليه حقّه أو يولّيه ولاية يستحقّها، أو يستخدمه في الجند المقاتلة- وهو مستحق لذلك، أو يعطيه من المال الموقوف على الفقراء أو الفقهاء أو القرّاء أو النّسّاك أو غيرهم- وهو من أهل الاستحقاق، ونحو هذه الشّفاعة الّتي فيها إعانة على فعل واجب أو ترك محرّم. فهذه أيضا لا يجوز فيها قبول الهديّة. ويجوز للمهدي أن يبذل في ذلك ما يتوصّل به إلى أخذ حقّه أو دفع الظّلم عنه. هذا هو المنقول عن السّلف والأئمّة الأكابر، وقد رخّص بعض المتأخّرين من الفقهاء في ذلك وجعل هذا من باب الجعالة، وهذا مخالف للسّنّة وأقوال الصّحابة والأئمّة، وهو غلط لأنّ مثل هذا العمل هو من المصالح العامّة الّتي يكون القيام بها فرضا: إمّا على الأعيان وإمّا على الكفاية.
ومتى شرع أخذ الجعل على مثل هذا لزم أن تكون الولاية وإعطاء أموال الفيء والصّدقات وغيرها لمن يبذل في ذلك، ولزم (أيضا) أن يكون كفّ الظّلم عمّن يبذل في ذلك، والّذي لا يبذل لا يولّى ولا يعطى ولا يكفّ عنه الظّلم، وإن كان أحقّ وأنفع للمسلمين من هذا. ولمّا كانت المنفعة لعموم النّاس: أعني المسلمين.
فإنّه يجب أن يولّى في كلّ مرتبة أصلح من يقدر عليها وأن يرزق من رزق المقاتلة والأئمة والمؤذّنين، وأهل العلم الّذين هم أحقّ النّاس وأنفعهم للمسلمين، وهذا واجب على الإمام، وعلى الأمّة أن يعاونوه على ذلك فأخذ جعل من شخص معيّن على ذلك يفضي إلى أن تطلب هذه الأمور بعوض، ونفس طلب الولايات منهيّ عنه فكيف بالعوض؟ ولزم أنّ من كان ممكّنا فيها يولّى ويعطى وإن كان غيره أحقّ وأولى، بل يلزم على ذلك تولية الجاهل والفاسق والفاجر وترك العالم القادر، وأن يرزق في ديوان المقاتلة الفاسق والجبان العاجز عن القتال، ويترك العدل الشّجاع النّافع للمسلمين وفساد مثل هذا كبير «2» .
وإذا أخذ وشفع لمن لا يستحقّ وغيره أولى، فليس له أن يأخذ ولا يشفع وتركهما خير، وإذا أخذ وشفع لمن هو الأحقّ الأولى، وترك من لا يستحقّ، فحينئذ ترك الشّفاعة والأخذ أضرّ من الشّفاعة لمن لا يستحقّ، ويقال لهذا الشّافع الّذى له الحاجة الّتي تقبل بها الشّفاعة: يجب عليك أن تكون ناصحا لله ورسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم، وعليك أن تنصح المشفوع إليه فتبيّن له من يستحقّ الولاية والاستخدام والعطاء، ومن لا يستحقّ ذلك، وتنصح للمسلمين بفعل مثل
__________
(1) انظر الحديث رقم (1) .
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية المجلد 31 ص 285.(10/4545)
ذلك، وتنصح لله ولرسوله بطاعته فإنّ هذا من أعظم طاعته، وتنفع هذا المستحقّ بمعاونته على ذلك، كما عليك أن تصلّي وتصوم وتجاهد في سبيل الله.
وأمّا الرّجل المسموع الكلام فإذا أكل قدرا زائدا على الضّيافة الشّرعيّة، فلا بدّ له أن يكافىء المطعم بمثل ذلك، أو لا يأكل القدر الزّائد وإلّا فقبوله الضّيافة الزّائدة مثل قبوله للهديّة، وهو من جنس الشّاهد والشّافع إذا أدّى الشّهادة وقام بالشّفاعة لضيافة أو جعل فإنّ هذا من أسباب الفساد «1» .
الفرق بين الرشوة والهدية:
قال ابن قيّم الجوزيّة: الفرق بين الهديّة والرّشوة- وإن اشتبها في الصّورة- القصد، فإنّ الرّاشي قصده بالرّشوة التّوصّل إلى إبطال حقّ، أو تحقيق باطل، فهذا الرّاشي الملعون على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن رشا لدفع الظّلم عن نفسه اختصّ المرتشي وحده باللّعنة، وأمّا المهدي فقصده استجلاب المودّة والمعرفة والإحسان، فإن قصد المكافأة فهو معاوض، وإن قصد الرّبح فهو مستكثر «2» .
[للاستزادة: انظر صفات: أكل الحرام- التعاون على الإثم والعدوان- السرقة- الغش- الغلول- التطفيف- التناجش.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: النزاهة- الاستقامة- الشرف- محاسبة النفس- مجاهدة النفس- النبل- التعاون على البر والتقوى- العفة] .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية المجلد 31 ص 287- 288.
(2) الروح لابن القيم 240.(10/4546)
الآيات الواردة في «الرشوة» معنى
1- وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) «1»
2-* يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) «2»
3- قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) «3»
4-* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) «4»
5- وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) «5»
__________
(1) البقرة: 188 مدنية
(2) المائدة: 41- 42 مدنية
(3) المائدة: 60- 63 مدنية
(4) التوبة: 34 مدنية
(5) النمل: 35- 36 مكية(10/4547)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الرشوة)
1-* (عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرّاشي والمرتشي) * «1» .
2-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرّاشي والمرتشي في الحكم) «2» .
وزاد ابن حبّان والحاكم (والرّائش: يعني الّذي يسعى بينهما) * «3» .
3-* (عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الرّاشي والمرتشي في النّار» ) * «4» .
4-* (عن عمرو بن العاص- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من قوم يظهر فيهم الرّبا إلّا أخذوا بالسّنة «5» وما من قوم يظهر فيهم الرّشا إلّا أخذوا بالرّعب» ) * «6» .
5-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- مرفوعا، أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ولي عشرة فحكم بينهم بما أحبّوا، أو بما كرهوا جيء به مغلولة يده، فإن عدل، ولم يرتش، ولم يحف «7» فكّ الله عنه، وإن حكم بغير ما أنزل الله وارتشى، وحابى فيه. شدّت يساره إلى يمينه ثمّ رمي به في جهنّم، فلم يبلغ قعرها خمسمائة عام» ) * «8» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (الرشوة) معنى
6-* (عن أبي أمامة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من شفع لأخيه بشفاعة، فأهدى له هديّة عليها، فقبلها، فقد أتى بابا عظيما من أبواب الرّبا» ) * «9» .
7-* (عن أبي حميد السّاعديّ قال: استعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من الأسد يقال له ابن اللّتبيّة، فلمّا قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي. قال: فقام
__________
(1) سنن الترمذي 3 (1337) واللفظ له، وقال: حديث حسن، أبو داود 3 (3580) ، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود 2 (3055) : صحيح، والترغيب والترهيب 3/ 179.
(2) سنن الترمذي 3 (1336) ، وحسنه وأخرجه أحمد (2/ 387، 388) .
(3) الترغيب والترهيب 3/ 180، وقال: رواه ابن حيان في صحيحه والحاك 4/ 103 وصححه المسند 5/ 279 حديث رقم (22461) واللفظ لهما، ومجمع الزوائد 4/ 198.
(4) مجمع الزوائد 4/ 199، وقال: رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات، الترغيب والترهيب 3/ 180 واللفظ لهما، وقال المنذري: رواه الطبراني ورواته ثقات معروفون.
(5) السّنة: القحط والجدب.
(6) المسند 4/ 205 حديث رقم (17840) ، الترغيب والترهيب 3/ 180، وقال: رواه أحمد بإسناد فيه نظر.
(7) لم يحف: لم يجر ولم يظلم.
(8) الحاكم (4/ 103) ، وقال سعدان بن الوليد البجلي كوفي: قليل الحديث، لم يخرجا عنه، وأقره الذهبي، وقال الهيثمي: سعدان بن الوليد، ولم أعرفه، وذكر له روايه مختصرة ثم قال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير ورجاله ثقات، انظر: مجمع الزوائد (5/ 206) .
(9) سنن أبي داود 3 (3541) ، وحسنه الألباني في الصحيحة 2 (3025) .(10/4548)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه. وقال:
«ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي! أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمّه حتّى ينظر أيهدى إليه أم لا؟ والّذي نفس محمّد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئا إلّا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر» . ثمّ رفع يديه حتّى رأينا عفرتي إبطيه. ثمّ قال: «اللهمّ هل بلّغت؟» مرّتين) * «1» .
وانظر أيضا الأحاديث الواردة في صفة «الغلول»
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (الرشوة)
1-* (روي أنّ ابن مسعود- رضي الله عنه- أخذ بأرض الحبشة في شيء فأعطى دينارين حتّى خلّي سبيله) * «2» .
2-* (عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: الرّشوة في الحكم كفر، وهي بين النّاس سحت) * «3» .
3-* (عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: السّحت أن تطلب لأخيك الحاجة، فتقضى، فيهدي إليك هديّة فتقبلها منه) * «4» .
4-* (عن قتادة قال في قوله تعالى إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ (النمل/ 35) : قالت: إنّي باعثة إليهم بهديّة، فمصانعتهم بها عن ملكي، إن كانوا أهل دنيا، فبعثت إليهم بلبنة من ذهب في حرير وديباج، فبلغ ذلك سليمان فأمر بلبنة من ذهب فصنعت، ثمّ قذفت تحت أرجل الدّوابّ على طريقهم تبول عليها وتروث، فلمّا جاء رسولها، واللّبنة تحت أرجل الدّوابّ، صغر في أعينهم الّذي جاءوا به) * «5» .
5-* (عن مسروق أنّه كلّم ابن زياد في مظلمة، فردّها، فأهدى إليه صاحب المظلمة وصيفا «6» ، فردّها، ولم يقبلها، وقال: سمعت ابن مسعود يقول: من ردّ عن مسلم مظلمة فأعطاه على ذلك قليلا أو كثيرا فهو سحت. فقال الرّجل: يا أبا عبد الرّحمن ما كنّا نظنّ أنّ السّحت إلّا الرّشوة في الحكم. فقال: ذلك كفر نعوذ بالله منه) * «7» .
6-* (روي عن جماعة من أئمة التّابعين قالوا: لا بأس أن يصانع الرّجل عن نفسه وماله إذا خاف الظّلم) * «8» .
__________
(1) البخاري- الفتح 13 (7197) ، مسلم (1832) واللفظ له.
(2) النهاية لابن الأثير 2/ 226، ويبدو أن ابن مسعود كان قد أخذ ظلما فدفع دينارين ليدفع عن نفسه هذا الظلم وهذا ليس من الرشوة المحرمة على الدافع.
(3) الترغيب والترهيب 3/ 181، مجمع الزوائد 4/ 200.
(4) الكبائر للذهبي 143.
(5) الدر المنثور 5/ 203.
(6) الوصيف: الخادم.
(7) الكبائر للذهبي 143.
(8) النهاية لابن الأثير 2/ 226.(10/4549)
7-* (يقول القرطبيّ في معنى قوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ (البقرة/ 188) : والمعنى: لا تجمعوا بين أكل المال بالباطل، وبين الإدلاء إلى الحكّام بالحجج الباطلة، وهو كقوله تعالى وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ (البقرة/ 43) ، وقيل المعنى: لا تصانعوا بأموالكم الحكّام، وترشوهم ليقضوا لكم على أكثر منها، قال ابن عطيّة:
وهذا القول يترجّح لأنّ الحكّام مظنّة الرّشاء، إلّا من عصم، وهو الأقّلّ) * «1» .
8-* (وقال ابن كثير في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ (التوبة/ 34) قال: وذلك أنّهم يأكلون الدّنيا بالدّين، ومناصبهم ورياستهم في النّاس. يأكلون أموالهم بذلك كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهليّة شرف، ولهم عندهم خراج وهدايا وضرائب تجبى إليهم) * «2» .
9-* (وقال أبو حيّان في قوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ ...
الآية (البقرة/ 188) : يجوز أن تكون المناسبة بين هذه الآية وآية الصّيام قبلها، أنّه سبحانه لمّا أوجب عليهم الصّوم، كما أوجبه على الّذين قبلهم، خالف بين أهل الكتاب وبينهم فأحلّ لهم الأكل والشّرب والجماع في ليالي الصّوم، ثمّ أمرهم ألّا يوافقوهم في أكل الرّشا من ملوكهم وسفلتهم) * «3» .
من مضار (الرشوة)
(1) هي مغضبة للرّبّ، ومخالفة لسنّة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ومجلبة للعذاب.
(2) تسبّب الهلاك والخسران في الدّارين وربّما أدّت إلى الكفر.
(3) هي إفساد للمجتمع حكّاما ومحكومين.
(4) تبطل حقوق الضّعفاء وتنشر الظّلم.
(5) الرّاشي والمرتشي والرّائش كلّهم ملعونون عند الله ورسوله.
(6) الرّشوة في تولّي القضاء والوظائف العامّة تفسد أحوال المجتمع وتنشر الفساد.
(7) الرّشوة في أمور الجند تجعل الكفاءة فيهم غير معتبرة ويؤول الأمر إلى أن يتولّى الدّفاع عن البلاد من هم غير أهل لذلك فتحيق بهم الهزيمة، ويلحق العار البلاد بأسرها.
(8) المرتشي تشدّ يساره إلى يمينه ثمّ يرمى به في جهنّم وساءت مصيرا.
__________
(1) تفسير القرطبي 2/ 226.
(2) تفسير ابن كثير 2/ 300.
(3) تفسير البحر المحيط لأبي حيان 2/ 62.(10/4550)
الرياء
الرياء لغة:
مصدر قولهم: راءاه يرائيه رياء ومراءاة «1» ، وهو مأخوذ من مادّة (ر أى) الّتي تدلّ- كما يقول ابن فارس- على نظر وإبصار بعين أو بصيرة، يقال من ذلك: راءى فلان، وفعل ذلك رئاء النّاس (ورياء النّاس) ، وهو أن يفعل شيئا ليراه النّاس «2» ، أمّا قولهم:
هم رئاء فالمعنى: يقابل بعضهم بعضا، وكذلك: بيوتهم رئاء أي متقابلة، والوصف من ذلك، رجل مراء، وقوم مراءون، ويسترأى فلان مثل يستحمق (أي ينسب إلى الرّياء) «3» ، واسترأى الشّيء: استدعى رؤيته وراءيت الرّجل مراءاة ورياء: أريته أنّي على خلاف ما أنا عليه «4» ، وفي التّنزيل وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ (الأنفال/ 47) . قال القرطبيّ في تفسيرها: يعني أبا جهل وأصحابه الخارجين يوم بدر لنصرة العير. خرجوا بطرين مرائين صادّين عن سبيل الله «5» . وقولهم: تراءى القوم أي رأى بعضهم بعضا، وترأّى لي وتراءى لي: تصدّى لي كي أراه، ورأى المكان المكان: قابله حتّى كأنّه يراه، وتراءى
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
12/ 20/ 32
النّخل: ظهرت ألوان بسره، وكلّ ذلك من رؤية العين، وقولهم: ألم تر إلى فلان، ألم تر إلى كذا: كلمة تقولها العرب عند التّعجّب من الشّيء، وعند تنبيه المخاطب، وذلك كما في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ (النساء/ 51) ، أي ألم تعجب لفعلهم، وألم ينته شأنهم إليك «6» .
وقال ابن منظور (أيضا) : يستعمل راءيت واسترأيت بمعنى: استشرت، يقال: استرأيت الرّجل في الرّأي أي استشرته، وراءيته (كذلك) ، قال عمران بن حطّان:
فإن تكن حين شاورناك قلت لنا ... بالنّصح منك لنا فيما نرائيكا
أي نستشيرك.
أمّا قول الله عزّ وجلّ: يُراؤُنَ النَّاسَ
(النساء/ 142) ، وقوله عزّ من قائل: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ* وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (الماعون/ 6، 7) فليس من المشاورة، ولكنّ معناه: إذا أبصرهم النّاس صلّوا، وإذا لم يروهم تركوا الصّلاة، وهذا عمل المرائي
__________
(1) للفعل راءى مصدران قياسان هما: المراءاة والرياء، وكلاهما مستعمل لنفس المعنى، وقد تقلب ياؤه همزة فيقال: رئاء النّاس، أي رياءهم.
(2) مقاييس اللغة لابن فارس 2/ 472- 473 (بتصرف واختصار) .
(3) الصحاح «ر أى» 6/ 2348- 2349.
(4) لسان العرب 14/ 296 (ط. بيروت) .
(5) تفسير القرطبي 8/ 25.
(6) اللسان 14/ 299، والنهاية لابن الأثير 3/ 178.(10/4551)
(وسمّي بذلك) لأنّه يري النّاس أنّه يفعل، ولا يفعل بالنّيّة، من ذلك قولهم: أرأى الرّجل: إذا عمل عملا صالحا رياء وسمعة «1» .
الرياء اصطلاحا:
قال الجرجانيّ: الرّياء: ترك الإخلاص في العمل بمراعاة غير الله فيه «2» . وقال التّهانويّ: حدّ الرّياء: فعل الخير لإراءة الغير، وقيل: هو فعل لا تدخل فيه النّيّة الخالصة، ولا يحيط به الإخلاص «3» . وقال الغزاليّ:
أصل الرّياء: طلب المنزلة في قلوب النّاس بإيرائهم خصال الخير، واسم الرّياء مخصوص- بحكم العادة- بطلب المنزلة في القلوب بالعبادة وإظهارها، ومن ثمّ يكون الرّياء (المذموم شرعا) إرادة العباد بطاعة الله «4» .
وقال ابن حجر (الهيتميّ) : حدّ الرّياء المذموم:
إرادة العامل بعبادته غير وجه الله تعالى، كأن يقصد اطّلاع النّاس على عبادته وكماله، فيحصل له منهم نحو مال أو جاه أو ثناء «5» .
وقال ابن حجر العسقلانيّ: الرّياء إظهار العبادة لقصد رؤية النّاس لها فيحمدوا صاحبها «6» .
الفرق بين الرياء والسمعة والنّفاق:
قال التّهانويّ: الفرق بين الرّياء والسّمعة أنّ الرّياء يكون في الفعل، والسّمعة تكون في القول «7» ، وقال ابن عبد السّلام: الرّياء أن يعمل لغير الله، والسّمعة أن يخفي عمله ثمّ يحدّث به النّاس «8» .
أمّا الفرق بين النّفاق والرّياء فيتمثّل في أنّ الأصل في الرّياء الإظهار، والأصل في النّفاق:
الإخفاء إذ المرائي يظهر نيّته الحقيقيّة في طلب المنزلة عند النّاس، أمّا المنافق فإنّه يخفي على النّاس ما بداخله ويظهر خلافه، وقد يلتقي الأمران: الرّياء والنّفاق (الأصغر) في عمل المنافق، كما قال عزّ وجلّ في شأن المنافقين: يُراؤُنَ النَّاسَ
(النساء/ 142) ، أي بإظهار مجرّد الطّاعة، وقد يختلفان كما في قيامهم (أي المنافقين) إلى الصّلاة كسالى وعدم ذكرهم الله إلّا قليلا، فالمرائي يظهر النّشاط ويكثر من الذّكر لينال مكانة عند النّاس بخلاف المنافق.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّ النّفاق ينقسم إلى نفاق أكبر وهو النّفاق المتعلّق بالعقيدة، ونفاق أصغر وهو المتعلّق بالأعمال، وإذا كان الرّياء داخلا في النّفاق العمليّ فيكون ثمّت بينهما عموم وخصوص مطلق يجتمعان في النّفاق العمليّ وهو كما يقول ابن رجب: أن يظهر الإنسان علانية (العمل الصّالح) ويبطن خلاف ما يظهر «9» ، ينفرد
__________
(1) باختصار وتصرف عن (لسان العرب) 14/ 300- 303 (ط. بيروت) .
(2) التعريفات ص 119.
(3) كشاف اصطلاحات الفنون 3/ 607- 608.
(4) إحياء علوم الدين 3/ 297.
(5) الزواجر 1/ 43.
(6) فتح الباري 11/ 344.
(7) كشاف اصطلاحات الفنون 3/ 607، وانظر أيضا: فتح الباري لابن حجر 11/ 344.
(8) نقل ذلك عنه ابن حجر في فتح الباري 11/ 344.
(9) جامع العلوم والحكم 375.(10/4552)
كلّ منهما، ينفرد النّفاق بإظهار الإيمان وإبطان الكفر (وهو النّفاق العقديّ) ، وينفرد الرّياء بأنّه قد يكون في غير العبادات لطلب جاه، وليس هذا النّوع بحرام إلّا إذا حملته كثرة الجاه على مباشرة ما لا يجوز «1» .
الفرق بين الرياء والشرك الأكبر:
قال ابن حجر: يتّضح الفرق بين الرّياء (وهو الشّرك الأصغر) وبين الشّرك الأكبر بمثال هو أنّ المصلّي مراءاة يكون رياؤه سببا باعثا له على العمل، وهو تارة يقصد بعمله تعظيم الله تعالى، وتارة لا يقصد شيئا، وفي كلّ منهما لا يصدر عنه مكفّر، بخلاف الشّرك الأكبر الّذي لا يحدث إلّا إذا قصد تعظيم غير الله تعالى، وعلم بذلك أنّ المرائي إنّما حدث له هذا النّوع من الشّرك بتعظيمه قدر المخلوق عنده حتّى حمله ذلك على الرّكوع والسّجود، فكأنّ المخلوق هو المعظّم بالسّجود من وجه، وذلك غاية الجهل «2» .
أقسام الرياء:
ذكر الغزاليّ: أنّ الرّياء بحسب ما يراءى به خمسة أقسام:
الأوّل: الرّياء في الدّين بالبدن، وذلك بإظهار النّحول والصّفار ليوهم بذلك شدّة الاجتهاد، وعظم الحزن على أمر الدّين وغلبة خوف الآخرة.
أمّا رياء أهل الدّنيا فيكون بإظهار السّمن وصفاء اللّون واعتدال القامة، وحسن الوجه ونظافة البدن وقوّة الأعضاء.
الثّاني: الرّياء بالهيئة والزّيّ، وذلك بتشعيث شعر الرّأس، وإبقاء أثر السّجود على الوجه، وغلظ الثّياب وتقصير الأكمام وترك تنظيف الثّوب وتركه مخرّقا، كلّ ذلك لإظهار أنّه متّبع للسّنّة.
أمّا مراءاة أهل الدّنيا فبالثّياب النّفيسة، والمراكب الرّفيعة وأنواع التّوسّع والتّجمّل في الملبس والمسكن.
الثّالث: الرّياء بالقول، ويكون من أهل الدّين بالوعظ والتّذكير والنّطق بالحكمة وحفظ الأخبار والآثار لإظهار غزارة العلم، ومن ذلك تحريك الشّفتين بالذّكر في محضر النّاس، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أمامهم.
وأمّا أهل الدّنيا فيكون رياؤهم بحفظ الأشعار والأمثال، والتّفاصح بالعبارات، وحفظ الغريب من النّحو واللّغة للإغراب على أهل الفضل.
الرّابع: الرّياء بالعمل، وذلك كمراءاة المصلّي بطول القيام والرّكوع والسّجود ونحو ذلك.
أمّا أهل الدّنيا فمراءاتهم بالتّبختر والاختيال وغيرهما ممّا يدلّ على الجاه والحشمة.
الخامس: المراءاة بالأصحاب والزّائرين، كأن يطلب المرائي من عالم أن يزوره ليقال: إنّ فلانا قد زار فلانا، ومن ذلك كثرة ذكر الشّيوخ.
قال الغزاليّ: فهذه الخمسة هي مجامع ما يرائي
__________
(1) إحياء علوم الدين 3/ 299، والزواجر 1/ 45.
(2) باختصار وتصرف عن الزواجر لابن حجر 1/ 44.(10/4553)
به المراءون، وكلّهم يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد.
درجات الرياء:
للرّياء بحسب قصد المرائي أربع درجات:
الأولى: وهي أغلظها ألّا يكون مراده الثّواب أصلا، كالّذي يصلّي أمام النّاس، ولو انفرد فإنّه لا يصلّي، وربّما دفعه الرّياء إلى الصّلاة من غير طهر.
الثّانية: أنّ قصده للثّواب أقلّ من قصده لإظهار عمله. وهذا النّوع قريب ممّا قبله في الإثم.
الثّالثة: أن يتساوى قصد الثّواب وقصد الرّياء، بحيث إنّ أحدهما وحده لا يبعثه على العمل، ولكن لمّا اجتمع القصدان انبعثت فيه الرّغبة في العمل، وهذا قد أفسد بمقدار ما أصلح، وظواهر الأخبار تدلّ على أنّه لا يسلم (من العقاب) .
الرّابعة: أن يكون اطّلاع النّاس مرجّحا ومقوّيا لنشاطه، ولو لم يكن ذلك ما ترك العبادة، وهذا النّوع لا يحبط أصل الثّواب ولكنّه ينقص منه أو يعاقب صاحبه على مقدار قصد الرّياء، ويثاب على مقدار قصد الثّواب «1» .
حكم الرياء:
ذكر الذّهبيّ الرّياء ضمن الكبائر، وذكر أدلّة ذلك من الكتاب والسّنّة وآثار السّلف الصّالح «2» ، وعدّه ابن حجر الكبيرة الثّانية بعد الشّرك بالله، وقال:
شهد بتحريمه الكتاب والسّنّة وانعقد عليه إجماع الأمّة، وبعد أن أشبع القول في ذكر أدلّة تحريمه قال:
المعنى في تحريمه وكونه كبيرة وشركا مقتضيا للّعن أنّ فيه استهزاء بالحقّ تعالى، ومن ثمّ كان الرّياء من كبائر الكبائر المهلكة ولذلك سمّاه الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: «الشّرك الأصغر» «3» ، وفي الرّياء أيضا تلبيس على الخلق لإيهام المرائي لهم أنّه مخلص مطيع لله تعالى وهو بخلاف ذلك «4» .
وقال ابن حجر أيضا: إذا أطلق لفظ الرّياء- شرعا- فالمراد الرّياء المذموم (وهو العبادة الّتي يراد بها غير وجه الله تعالى) ، وقد يطلق الرّياء على أمر مباح وهو طلب نحو الجاه والتّوقير بغير عبادة «5» ، كأن يقصد بزينة لباسه الثّناء عليه بالنّظافة والجمال ونحو ذلك، ووجه عدم حرمة هذا النّوع أنّه ليس فيه ما في الرّياء المحرّم من التّلبيس بالدّين والاستهزاء بربّ العالمين.
وأقبح أنواع الرّياء ما تعلّق بأصل الإيمان وهو شأن المنافقين، يلي ذلك المراءاة بأصول العبادات الواجبة، كأن يعتاد تركها في الخلوة، ويفعلها في الملأ
__________
(1) باختصار وتصرف عن إحياء علوم الدين 3/ 297- 302.
(2) انظر الكبيرة السابعة والثلاثين في كتاب الكبائر للذهبي ص 154 157. ولم نذكر ما أورده الذهبي هنا لأنه لم يخرج عما ورد من الآيات والأحاديث والآثار المذكورة في هذه الصفة.
(3) انظر الأحاديث (11، 15، 16) .
(4) الزواجر 2/ 44.
(5) انظر رياء أهل الدنيا في الأقسام التي ذكرها الغزالي للرياء بحسب الشيء المراءى به.(10/4554)
خوف المذمّة، وهذا يؤدّي إلى أعلى أنواع المقت، يلي ذلك المراءة بالنّوافل الّتي يفعلها المرائي باعتياد أمام النّاس ويرغب عنها في الخلوة، ويلي ذلك في القبح المراءاة بأوصاف العبادات كتحسينها وإظهار الخشوع فيها في الملأ والاقتصار في الخلوة على أدنى درجاتها «1» .
معالجة الرياء:
قال الغزاليّ ما خلاصته: لا يستطيع أحد أن يقمع الرّياء إلّا بمجاهدة شديدة ومكابدة لقوّة الشّهوات، ويكون ذلك بأمرين:
الأوّل: قلع عروقه واستئصال أصوله وهي:
لذّة المحمدة والفرار من ألم الذّمّ، والطّمع فيما في أيدي النّاس، وهذه الثّلاثة راجعة إلى حبّ المنزلة والجاه.
الثّاني: أن يشمّر الإنسان عن ساعد الجدّ لدفع ما يعرض من خاطر الرّياء، وخواطره ثلاثة أيضا وهي: العلم باطّلاع الخلق ورجاء اطّلاعهم، ثمّ هيجان الرّغبة من النّفس في حمدهم، وحصول المنزلة عندهم، ويعقب ذلك هيجان الرّغبة في قبول النّفس له (أي الحمد والمنزلة) والرّكون إليه وعقد الضّمير على تحقيقه، والخاطر الأوّل يسمّى معرفة، والثّاني رغبة وشهوة، والثّالث هو العزم وكمال القوّة في دفع الخاطر الأوّل قبل أن يعقبه الثّاني، فإذا خطر له معرفة اطّلاع الخلق أو رجاء اطّلاعهم دفع ذلك بأن قال: مالي وللخلق علموا أو لم يعلموا، والله عالم بحالي فأيّ فائدة في علم غيره؟ فإن هاجت الرّغبة إلى لذّة الحمد فعليه أن يذكر تعرّض المرائي للمقت عند الله يوم القيامة وخيبته- في أحوج أوقاته- إلى أعماله، وعندئذ تثور عنده كراهة للرّياء تقابل تلك الشّهوة إذ يتفكّر في تعرّضه لمقت الله وعقابه الأليم، الشّهوة تدعوه إلى القبول والكراهة تدعوه إلى الإباء والنّفس تطاوع- لا محالة- أقواهما ويتضّح من ذلك أنّه لا بدّ في ردّ الرّياء الّذي خطر أثناء العبادة من المعرفة والكراهة والإباء.
أمّا من الناحية العملية:
فإنّ دفع الرّياء يستلزم من المرء أن يعوّد نفسه إخفاء العبادات، وإغلاق الأبواب دونها، كما تغلق الأبواب دون الفواحش، حتّى يقنع قلبه بعلم الله ولا تنازعه نفسه بطلب علم غير الله به، وهذا وإن كان يشقّ في البداية إلّا أنّه يهون بالصّبر عليه وبتواصل ألطاف الله عزّ وجلّ وما يمدّ به عباده من التأييد والتّسديد «2» .
[للاستزادة: انظر صفات: المن- الأذى- الغرور- الكبر والعجب- النفاق- الكذب.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الإخلاص- الإيمان- الإحسان- الصدق- المروءة- النبل] .
__________
(1) باختصار وتصرف عن الزواجر لابن حجر 1/ 43- 46.
(2) بتصرف عن إحياء علوم الدين 3/ 310- 314.(10/4555)
الآيات الواردة في «الرياء»
1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) «1»
2- وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) «2»
3- إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا
(143) «3»
4- وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) «4»
5- فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) «5»
الآيات الواردة في «الرياء» معنى
6- لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) «6»
7- مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) «7»
__________
(1) البقرة: 264 مدنية
(2) النساء: 38- 39 مكية
(3) النساء: 142- 143 مدنية
(4) الأنفال: 47 مدنية
(5) الماعون: 4- 7 مكية
(6) البقرة: 284 مدنية
(7) هود: 15- 16 مكية(10/4556)
8- قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) «1»
9- مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) «2»
10- وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) «3»
11- وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) «4»
12- وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) «5»
__________
(1) الكهف: 110 مكية
(2) فاطر: 10 مكية
(3) الزمر: 47- 48 مكية
(4) الإنسان: 8- 9 مدنية
(5) البينة: 5 مدنية(10/4557)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الرياء)
1-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سمّع سمّع الله به، ومن يرائي يرائي «1» الله به» ) * «2» .
2-* (عن أبي موسى الأشعريّ- رضي الله عنه- أنّ رجلا أعرابيّا أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، الرّجل يقاتل للمغنم، والرّجل يقاتل ليذكر، والرّجل يقاتل ليرى مكانه «3» ، فمن في سبيل الله «4» ؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله» ) * «5» .
3-* (عن أبي مسعود- رضي الله عنه- قال: أمرنا بالصّدقة، قال: (و) كنّا نحامل «6» ، قال:
فتصدّق أبو عقيل بنصف صاع، قال: وجاء إنسان بشيء أكثر منه، فقال المنافقون: إنّ الله لغنيّ عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلّا رياء فنزلت (الآية) : الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ (التوبة/ 79) » ) * «7» .
4-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الإيمان يمان، والكفر قبل المشرق، والسّكينة في أهل الغنم، والفخر والرّياء في الفدّادين «8» أهل الخيل والوبر» ) * «9» .
5-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من صاحب ذهب ولا فضّة لا يؤدّي منها حقّها «10» إلّا إذا كان يوم القيامة،
__________
(1) قال ابن حجر: قال الخطّابي: المعنى من عمل عملا على غير إخلاص، يريد أن يراه الناس ويسمعوه جوزي على ذلك بأن يشهّر الله به ويفضحه ويظهر ما كان يبطنه، وقيل: من قصد بعمله الجاه والمنزلة عند الناس ولم يرد به وجه الله فإنّ الله يجعله حديثا عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم ولا ثواب له في الآخرة، وقيل: المراد: من قصد بعمله أن يسمعه الناس ويروه ليعظّموه وتعلو منزلته عندهم، حصل له ما قصد، وكان ذلك جزاؤه على عمله، ولا يثاب عليه في الآخرة، وقيل: المعنى: من سمّع بعيوب الناس وأذاعها أظهر الله عيوبه وسمّعه المكروه ... وقيل غير ذلك. انظر: فتح الباري 11 (344- 345) .
(2) البخاري- الفتح (6499) ، ومسلم (2986) ، وسنن الترمذي (2381) .
(3) المعنى: لترى مكانته ومرتبته وقدرته على القتال أو شجاعته ونحو ذلك مما يقصد به الرّياء.
(4) المعنى: فمن من هؤلاء يكون قتاله في سبيل الله؟
(5) البخاري- الفتح (2810) ، ومسلم (1904) واللفظ له.
(6) نحامل: أي نحمل على ظهورنا بالأجرة، ونتصدّق بشيء من تلك الأجرة، قال ابن الأثير: المعنى: كنا نتحامل أي نحمل لمن يحمل لنا، أو هو من التحامل أي تكلّف الشيء بمشقة، النهاية 1/ 443.
(7) البخاري (1415) و (2668) ، ومسلم (1018) واللفظ له.
(8) الفدّادين: هم الذين تعلو أصواتهم في إبلهم وخيلهم وحروثهم، ونحو ذلك.
(9) مسلم (86) ، والترمذي (2223) ، واللفظ له.
(10) لا يؤدي منها حقها: قد جاء الحديث على وفق التنزيل: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ (التوبة/ 34) الآية، فاكتفى ببيان حال صاحب الفضة عن بيان حال صاحب الذهب، لأن الفضة مع كونها أقرب مرجع للضمير أكثر تداولا في المعاملات من الذهب، ولذا اكتفى بها.(10/4558)
صفّحت له صفائح «1» من نار «2» فأحمي عليها في نار جهنّم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلّما بردت «3» أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتّى يقضى بين العباد فيرى سبيله «4» ، إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار» قيل: يا رسول الله: فالإبل؟ قال: «ولا صاحب إبل لا يؤدّي منها حقّها، ومن حقّها حلبها «5» يوم وردها إلّا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر «6» أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلا واحدا، تطؤه بأخفافها وتعضّه بأفواهها، كلّما مرّ عليه أولاها ردّ عليه أخراها «7» في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتّى يقضى بين العباد. فيرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار» قيل: يا رسول الله، البقر والغنم؟ قال: «ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدّي منها حقّها إلّا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء «8» تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها «9» كلّما مرّ عليه أولاها ردّ عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. حتّى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار» قيل: يا رسول الله فالخيل؟ قال: «الخيل ثلاثة هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر، فأمّا الّتي هي له وزر «10» فرجل ربطها رياء وفخرا ونواء على أهل الإسلام «11» فهي له وزر، وأمّا الّتي هي له ستر، فرجل «12» ربطها في سبيل الله «13» ثمّ لم ينس حقّ الله في ظهورها ولا رقابها، فهي له ستر. وأمّا الّتي هي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام، في مرج وروضة فما أكلت من ذلك المرج والرّوضة من شيء إلّا كتب له عدد ما أكلت، حسنات وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات ولا تقطع طولها
__________
(1) صفحت له صفائح: الصفائح جمع صفيحة. وهي العريضة من حديد وغيره أي جعلت كنوزه الذهبية والفضية كأمثال الألواح.
(2) من نار: يعني كأنها نار، لا أنها نار.
(3) كلما بردت: هكذا هو في بعض النسخ: بردت بالباء، وفي بعضها ردت، وذكر القاضي الروايتين. وقال: الأولى هي الصواب، قال: والثانية رواية الجمهور.
(4) فيري سبيله: ضبطناه بضم الياء وفتحها. وبرفع لام سبيله، ونصبها، ويكون يرى، بالضم، من الإراءة. وفيه إشارة إلى أنه مسلوب الاختيار يومئذ، مقهور لا يقدر أن يذهب حتى يعين له أحد السبيلين.
(5) حلبها: هو بفتح اللام، على اللغة المشهورة، وحكى إسكانها، وهو غريب ضعيف، وإن كان هو القياس.
(6) بطح لها بقاع قرقر: بطح، قال جماعة: معناه ألقى على وجهه. وقال القاضي: ليس من شرط البطح كونه على الوجه، وإنما هو في اللغة بمعنى البسط والمد، فقد يكون على وجهه وقد يكون على ظهره، ومنه سميت بطحاء مكة لانبساطها.
(7) كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها: هكذا في جميع الأصول قيل: هو تغيير وتصحيف، والصواب ما جاء في الحديث الآخر: كلما مرّ عليه أخراها رد عليه أولاها.
(8) ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء: قال أهل اللغة: العقصاء ملتوية القرنين، والجلحاء التي لا قرن لها، والعضباء التي انكسر قرنها الداخل.
(9) تطؤه بأظلافها: الأظلاف جمع ظلف، وهو للبقر والغنم بمنزلة الحافر للفرس.
(10) فأما التي هى له وزر: هكذا هو في أكثر النسخ «التي» ووقع في بعضها «الذي» وهو أوضح وأظهر، والمعنى صحيح في الحالتين.
(11) ونواء على أهل الإسلام: أي مناوأة ومعاداة.
(12) فرجل: أي فخيل رجل.
(13) ربطها في سبيل الله: أي أعدها للجهاد، وأصله الربط، ومنه الرباط، وهو حبس الرجل نفسه في الثغر وإعداد الأهبة لذلك.(10/4559)
فاستنّت شرفا أو شرفين «1» إلّا كتب الله له عدد آثارها وأرواثها حسنات. ولا مرّ بها صاحبها على نهر فشربت منه ولا يريد أن يسقيها إلّا كتب الله له عدد ما شربت حسنات» قيل: يا رسول الله فالحمر «2» ؟ قال: ما أنزل عليّ في الحمر شيء إلّا هذه الآية الفاذّة الجامعة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (الزلزلة/ 7، 8)) * «3» .
6-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من صاحب كنز لا يؤدّي زكاته إلّا أحمي عليه في نار جهنّم ... الحديث» وفيه:
«الخيل ثلاثة: فهي لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر «4» ... وأمّا الّذي عليه وزر فالّذي يتّخذها أشرا وبطرا وبذخا ورياء النّاس ... الحديث» ) * «5» .
7-* (عن عبد الله بن عثمان عن رجل من ثقيف كان يقال له معروفا، أي يثنى عليه خيرا، إن لم يكن اسمه زهير بن عثمان فلا أدري ما اسمه، أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الوليمة أوّل يوم حقّ، والثّاني معروف، واليوم الثّالث سمعة ورياء» ) * «6» .
8-* (عن المستورد- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أكل برجل مسلم «7» أكلة فإنّ الله يطعمه مثلها من جهنّم، ومن كسي ثوبا برجل مسلم فإنّ الله يكسوه مثله من جهنّم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإنّ الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة» ) * «8» .
9-* (عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: يا رسول الله أخبرني عن الجهاد والغزو، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا عبد الله بن عمرو، إن قاتلت صابرا محتسبا بعثك الله صابرا محتسبا، وإن قاتلت مرائيا مكابرا بعثك
__________
(1) طولها فاستنت شرفا: الطّول: الحبل الطويل، واستنت: جرت، والشرف هو العالي من الأرض.
(2) فالحمر: جمع حمار، أي فما حكمها؟
(3) البخاري- الفتح 3 (1402- 1403) ، مسلم (987) واللفظ له.
(4) اكتفينا بما جاء في الحديث السابق عن النوعين الأولين: الأجر والستر، واقتصرنا على النوع الثالث لأنه هو الذي يتعلّق بالرّياء وفيه نوع مخالفة عن الحديث السابق.
(5) مسلم (987) ، وقد ورد الجزء الذي اقتبسناه في ص 683 من الجزء الثاني.
(6) أبو داود (3745) واللفظ له، وابن ماجه (عن أبي هريرة) (1915) ، ورواه الترمذي عن ابن مسعود مرفوعا، ورواه أحمد في المسند عن زهير بن عثمان، انظر: المسند 5/ 28 وهذه الروايات يأخذ بعضها بحجز بعض فيقوى بها الحديث.
(7) أكل برجل مسلم: أي اغتابه فأكل بسبب ذلك، ومثل ذلك اكتسى به، قال ابن الأثير: معنى ذلك: الرّجل يكون صديقا للرّجل ثم يذهب إلى عدوه فيتكلّم فيه بغير الجميل ليجيزه عليه بجائزة فلا يبارك الله له فيها. انظر: النهاية (1/ 57- 58) .
(8) أبو داود (4881) . وأحمد في «المسند» (4/ 229) . وقال الأرناؤوط في تعليقه على «جامع الأصول» (8/ 449) : وفي سنده وقاص بن ربيعة العنسي، لم يوثقه غير ابن حبّان، وباقي رجاله ثقات.(10/4560)
الله مرائيا مكابرا، يا عبد الله بن عمر وعلى أيّ حال قاتلت أو قتلت بعثك الله على تيك الحال» ) * «1» .
10-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعوّذوا بالله من جبّ «2» الحزن» (أو الحزن) ، قالوا: يا رسول الله، وما جبّ الحزن (الحزن) ؟ قال: «واد في جهنّم يتعوّذ «3» منه جهنّم كلّ يوم أربعمائة مرّة» قالوا: يا رسول الله، ومن يدخله؟ قال: «أعدّ للقرّاء المرائين بأعمالهم، وإنّ من أبغض القرّاء إلى الله تعالى الّذين يزورون الأمراء» قال المحاربيّ: أي الجورة «4» ) * «5» .
11-* (عن محمود بن لبيد- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشّرك الأصغر» ، قالوا: يا رسول الله، وما الشّرك الأصغر؟ قال: «الرّياء، إنّ الله تبارك وتعالى يقول يوم تجازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الّذين كنتم تراءون بأعمالكم في الدّنيا فانظروا، هل تجدون عندهم جزاء؟» ) * «6» .
12-* (عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه- رضي الله عنهم جميعا- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
«لا يقصّ على النّاس إلّا أمير، أو مأمور، أو مراء» ) * «7» .
13-* (عن معاذ بن جبل- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنّه قال: «الغزو غزوان، فأمّا من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة، وياسر الشّريك، واجتنب الفساد. فإنّ نومه ونبهه أجر كلّه.
وأمّا من غزا فخرا ورياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنّه لم يرجع بالكفاف» ) * «8» .
14-* (عن بريدة الأسلميّ- رضي الله عنه- قال: خرجت ذات يوم لحاجة، فإذا أنا بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يمشي بين يديّ، فأخذ بيدي فانطلقنا نمشي جميعا، فإذا نحن بين أيدينا برجل يصلّي يكثر الرّكوع والسّجود، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أتراه يرائي؟» فقلت: الله ورسوله أعلم، فترك يده من يدي، ثمّ جمع بين يديه، فجعل يصوّبهما ويرفعهما ويقول: «عليكم هديا قاصدا، عليكم هديا قاصدا، عليكم هديا قاصدا، فإنّه من يشادّ هذا الدّين يغلبه» ) * «9» .
__________
(1) أبو داود (2519) ، والحاكم (2/ 85- 86) ، وقال: حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
(2) الجب: هو البئر التي لم تطو، والمراد جبّ فيه الحزن.
(3) يتعوّذ منه جهنم، لعلّ المراد أهل جهنم.
(4) هذه الزيادة من المحاربي لبيان أن المقصود المنع من زيارة أهل الجور من الأمراء لا جميعهم.
(5) سنن ابن ماجه (256) واللفظ له، والترمذي (2383) ، وقال الترمذي: حسن غريب.
(6) أحمد، المسند 5/ 429، قال الحافظ العراقي: أخرجه (أيضا) البيهقي في الشعب من حديث محمود بن لبيد، قال: ورجاله ثقاة، وهو في الشعب (5/ 332) / 6831 وذكر شواهد كثيرة قبله وبعده، فلتنظر هناك، وقال الهيثمي: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد للهيثمي 1/ 102.
(7) أحمد، المسند (6661) ، قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(8) أبو داود (2515) واللفظ له، والحاكم في المستدرك (2/ 85) ، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقال الأرناؤوط في تعليقه على «جامع الأصول» (2/ 577) : إسناده صحيح.
(9) أحمد، المسند 5/ 350، وينظر تخريجه في الغلو.(10/4561)
15-* (عن شدّاد بن أوس- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أتخوّف على أمّتي الشّرك، والشّهوة الخفيّة «1» » قال: قلت: يا رسول الله، أتشرك أمّتك من بعدك؟ قال: «نعم، أما إنّهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا، ولا حجرا ولا وثنا، ولكن يراءون بأعمالهم» ) * «2» .
16-* (عن شدّاد بن أوس- رضي الله عنه- قال: إنّي قد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من صلّى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدّق يرائي فقد أشرك ... الحديث» ) * «3» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (الرياء) معنى
17-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ أوّل النّاس يقضى يوم القيامة عليه، رجلّ استشهد، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتّى استشهدت، قال: كذبت، ولكنّك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتّى ألقي في النّار، ورجل تعلّم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟
قال: تعلّمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن، قال:
كذبت، ولكنّك تعلّمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قاريء، فقد قيل: ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتّى ألقي في النّار، ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كلّه، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحبّ أن ينفق فيها إلّا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنّك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه، ثمّ ألقي في النّار» ) * «4» .
18-* (عن عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّما الأعمال بالنّيّة، وإنّما لامريء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله «5» ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزّوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» ) * «6» .
19-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال الله تعالى: أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته
__________
(1) الشّهوة الخفيّة- فيما ذكر عقب الحديث-: أن يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه، انظر: المسند 4/ 124، وروى أحمد عن عبادة بن الصامت وأبي الدرداء أن الشهوة الخفية هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها، انظر: المسند 4/ 126.
(2) أحمد، المسند 4/ 124، والبيهقي في الشعب (5/ 331) وهو صحيح لغيره.
(3) أحمد، المسند 4/ 126، وقد اقتصرنا على موضع الشاهد.
(4) مسلم (1905) .
(5) المعنى: من قصد بهجرته وجه الله تعالى وقع أجره على الله، ومن قصد بها دنيا أو امرأة فهي حظه ولا نصيب له في الآخرة.
(6) البخاري- الفتح (1) ، ومسلم (1907) واللفظ له.(10/4562)
وشركه» ) * «1» .
20- (عن جابر بن عبد الله أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
«لا تعلّموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السّفهاء، ولا تخيّروا به المجالس. فمن فعل ذلك فالنّار النّار» ) * «2» .
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (الرياء)
1-* (ضرب عمر- رضي الله عنه- رجلا بالدّرّة، ثمّ قال له: اقتصّ منّي. فقال: لا، بل أدعها لله ولك. فقال له عمر: ما صنعت شيئا، إمّا أن تدعها لي فأعرف ذلك، أو تدعها لله وحده. فقال: ودعتها لله وحده. فقال: فنعم إذا) * «3» .
2-* (أتى أبو أمامة الباهليّ- رضي الله عنه- على رجل في المسجد وهو ساجد يبكي ويدعو، فقال:
أنت أنت! لو كان هذا في بيتك) * «4» .
3-* (رأى عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- رجلا يطأطىء رقبته فقال: يا صاحب الرّقبة، ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرّقاب، إنّما الخشوع في القلوب) * «5» .
4-* (قال عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه-: للمرائي ثلاث علامات، يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في النّاس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه، وينقص إذا ذمّ) * «6» .
5-* (قال رجل لعبادة بن الصّامت- رضي الله عنه-: أقاتل بسيفي في سبيل الله أريد به وجه الله تعالى ومحمدة النّاس، قال: لا شيء لك، فسأله ثلاث مرّات، كلّ ذلك يقول: لا شيء لك، ثمّ قال في الثّالثة: إنّ الله يقول: أنا أغنى الأغنياء عن الشّرك ... الحديث) * «7» .
6-* (عن العرباض بن سارية السّلميّ- رضي الله عنه-، أنّه قال: لولا أن يقال: فعل أبو نجيح، لألحقت مالي سبلة، ثمّ لحقت واديا من أودية لبنان عبدت الله حتّى أموت) * «8» .
7-* (عن جابر بن سمرة- رضي الله عنه- قال: شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر- رضي الله عنهما- فعزله، واستعمل عليهم عمّارا، فشكوا حتّى
__________
(1) مسلم (2985) .
(2) ابن ماجة (مقدمة: 254) ، وفي الزوائد رجال إسناده ثقات. والحاكم في المستدرك (1/ 86) مرفوعا وموقوفا بعدة روايات يدعم بعضها بعضا.
(3) الإحياء 3/ 196.
(4) نزهة الفضلاء 1/ 281 وإحياء علوم الدين 3/ 296.
(5) الإحياء 3/ 296.
(6) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(7) الإحياء 3/ 296 وتفسير ابن كثير (مج 3، ج 1/ ص 114) ، وانظر الحديث وتخريجه برقم (19) في الأحاديث الواردة في الرّياء معنى.
(8) نزهة الفضلاء 1/ 293.(10/4563)
ذكروا أنّه لا يحسن يصلّي، فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق، إنّ هؤلاء يزعمون أنّك لا تحسن تصلّي، قال أبو إسحاق: أمّا أنا والله فإنّي كنت أصلّي بهم صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أخرم عنها، أصلّي صلاة العشاء فأركد في الأوليين وأخفّ في الأخريين، قال: ذاك الظّنّ بك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رجلا- أو رجالا- إلى الكوفة فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يدع مسجدا إلّا سأل عنه، ويثنون معروفا، حتّى دخل مسجدا لبني عبس، فقام رجل منهم يقال له أسامة بن قتادة يكنى أبا سعدة، قال: أما إذ نشدتنا فإنّ سعدا كان لا يسير بالسّريّة، ولا يقسم بالسّويّة، ولا يعدل في القضيّة، قال سعد، أما والله لأدعونّ بثلاث: اللهمّ إن كان عبدك هذا كاذبا قام رياء وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرّضه بالفتن، وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد، قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنّه ليتعرّض للجواري فى الطّرق يغمزهنّ) * «1» .
8-* (عن ابن بريدة (بن الحصيب) عن أبيه- رضي الله عنهما- قال: شهدت خيبر، وكنت فيمن صعد الثّلمة، فقاتلت حتّى رئي مكاني، وعليّ ثوب أحمر، فما أعلم أنّي ركبت في الإسلام ذنبا أعظم عليّ منه- أي الشّهرة. قلت (الكلام للإمام شمس الدّين الذّهبيّ) : بلى، جهّال زماننا يعدّون اليوم مثل هذا الفعل من أعظم الجهاد، وبكلّ حال فالأعمال بالنّيّات، ولعلّ بريدة- رضي الله عنه- بإزرائه على نفسه يصير له عمله طاعة وجهادا! وكذلك يقع في العمل الصّالح، ربّما افتخر به الغرّ ونوّه به، فيتحوّل إلى ديوان الرّياء. قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً
(الفرقان/ 23)) * «2» .
9-* (قال الزّين بن المنيّر في قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ... إلى قوله ... وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (البقرة/ 264) : وجه الاستدلال من الآية أنّ الله تعالى شبّه مقارنة المنّ والأذى للصّدقة «3» أو اتّباعها بذلك بإنفاق الكافر المرائي الّذي لا يجد بين يديه شيئا منه، ومقارنة الرّياء من المسلم لصدقته أقبح من مقارنة الإيذاء، وأولى أن يشبّه بإنفاق الكافر المرائي في إبطال نفاقه) «4» * «5» .
10-* (عن عبدة بن أبي لبابة قال: لوددت أنّ حظّي من أهل الزّمان أنّهم لا يسألوني عن شيء، ولا أسألهم، إنّهم يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثر أهل الدّراهم بالدّراهم) * «6» .
11-* (سأل رجل سعيد بن المسيّب فقال:
إنّ أحدنا يصطنع المعروف يحبّ أن يحمد ويؤجر، فقال له: أتحبّ أن تمقت؟ قال: لا. قال: فإذا عملت لله عملا فأخلصه) * «7» .
__________
(1) البخاري- الفتح 2 (755) .
(2) نزهة الفضلاء 1/ 179.
(3) المراد بالمقارنة هنا اقتران الصدقة بالمن والأذى ومصاحبتهما لها.
(4) نفاقه تعني هنا إنفاقه.
(5) فتح الباري 3/ 325.
(6) نزهة الفضلاء 1/ 485.
(7) الإحياء 3/ 296.(10/4564)
12-* (قال الحسن- رضي الله عنه-: لقد صحبت أقواما إن كان أحدهم لتعرض له الحكمة لو نطق بها لنفعته ونفعت أصحابه، وما يمنعه منها إلّا مخافة الشّهرة. وإن كان أحدهم ليمرّ فيرى الأذى في الطّريق فما يمنعه أن ينحّيه إلّا مخافة الشّهرة) * «1» .
13-* (عن عبد الرّحمن بن يزيد- رضي الله عنه- قال: قلنا لعلقمة (بن قيس بن عبد الله) : لو صلّيت في المسجد وجلسنا معك فتسأل، قال: أكره أن يقال: هذا علقمة) * «2» .
14-* (قال الفضيل بن عياض: كانوا يراءون بما يعملون، وصاروا اليوم يراءون بما لا يعملون) * «3» .
15-* (قال إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله من أراد أن يشتهر) * «4» .
16-* (قال ابن عبد السّلام: يستثنى من استحباب إخفاء العمل من يظهره ليقتدى به، أو لينتفع به ككتابة العلم) * «5» .
17-* (عن عاصم قال: كان أبو وائل (شقيق ابن سلمة) إذا صلّى في بيته ينشج نشيجا، ولو جعلت له الدّنيا على أن يفعله وواحد يراه، ما فعله) * «6» .
18-* (عن الأعمش- رضي الله عنه- قال:
كان عبد الرّحمن بن أبي ليلى يصلّي، فإذا دخل الدّاخل نام على فراشه) * «7» .
19-* (عن عبد الله بن عبد الرّحمن بن أبي حسين قال: بلغني أنّ لقمان كان يقول: يا بنيّ لا تعلّم العلم لتباهي به العلماء، أو تماري به السّفهاء وترائي به في المجالس) * «8» .
20-* (قال الخطّابيّ في شرح حديث «من سمّع سمّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به» : معناه: من عمل عملا على غير إخلاص، وإنّما يريد أن يراه النّاس ويسمعوه جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه ويظهر ما كان يبطنه) * «9» .
21-* (وقال ابن حجر: وقيل من قصد بعمله الجاه والمنزلة عند النّاس ولم يرد به وجه الله فإنّ الله يجعله حديثا عند النّاس الّذين أراد نيل المنزلة عندهم، ولا ثواب له في الآخرة. ومعنى (يرائي الله به) : أي يطلعهم على أنّه فعل ذلك لهم لا لوجهه.
وقيل: المعنى: من يرائي النّاس بعمله أراه الله ثواب ذلك العمل وحرمه إيّاه) * «10» .
__________
(1) الإحياء 3/ 296.
(2) نزهة الفضلاء 1/ 331.
(3) الإحياء 3/ 296، 297.
(4) المرجع السابق 3/ 297.
(5) فتح الباري 11/ 345.
(6) نزهة الفضلاء 1/ 357.
(7) المرجع السابق 1/ 382.
(8) قال الشيخ أحمد شاكر هذا الشطر بلاغ عن لقمان وليس حديثا، وعبد الله هذا من صغار التابعين، روى له أصحاب الكتب الستة، وقد روى هذا الشطر الذي أخذناه حيث رواه سعيد بن زيد، وقد ذكرهما معا الإمام أحمد على أنهما حديث واحد. انظر: المسند رقم (1651) ، ج 3 ص 1650 (ت. الشيخ أحمد شاكر) .
(9) فتح الباري 11/ 344.
(10) المرجع السابق، 11/ 344، 345.(10/4565)
22-* (نظر رجاء بن حيوة- رضي الله عنه- إلى رجل ينعس بعد الصّبح فقال: انتبه، لا يظنّون أنّ ذا عن سهر- أي بسبب قيام اللّيل والتّعبّد فيه-) * «1» .
23-* (كان أيّوب السّختيانيّ- رضي الله عنه- يقوم اللّيل كلّه فيخفي ذلك، فإذا كان عند الصّبح رفع صوته كأنّه قام تلك السّاعة) * «2» .
24-* (روى الأوزاعيّ عن عبدة بن أبي لبابة- رضي الله عنهما-، قال: أقرب النّاس إلى الرّياء آمنهم منه) * «3» .
25-* (عن ابن عيينة قال: بكى ربيعة (بن أبي عبد الرّحمن فرّوخ) يوما، فقيل: ما يبكيك؟ قال:
رياء حاضر، وشهوة خفيّة، والنّاس عند علمائهم كصبيان في حجور أمّهاتهم، إن أمروهم ائتمروا، وإن نهوهم انتهوا) * «4» .
26-* (قال يوسف بن الحسين: أعزّ شيء في الدّنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرّياء عن قلبي فكأنّه ينبت على لون آخر) * «5» .
27-* (يقال: إنّ المرائي ينادى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا مرائي، يا غادر، يا خاسر، يا فاجر.
اذهب فخذ أجرك ممّن عملت له، فلا أجر لك عندنا) * «6» .
28-* (عن أيّوب السّختيانيّ- رضي الله عنه- قال: ليتّق الله رجل، فإن زهد، فلا يجعلنّ زهده عذابا على النّاس، فلأن يخفي الرّجل زهده خير من أن يعلنه) * «7» .
29-* (قال أبو سليمان الدّرانيّ- رضي الله عنه-: إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرّياء) * «8» .
30-* (عن ابن الأعرابيّ: أخسر الخاسرين من أبدى للنّاس صالح أعماله، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد) * «9» .
31-* (عن سهل بن عبد الله التّستريّ قال:
لا يعرف الرّياء إلّا مخلص، ولا النّفاق إلّا مؤمن، ولا الجهل إلّا عالم، ولا المعصية إلّا مطيع) * «10» .
32-* (وعن بعض العلماء: خوّفوا المؤمنين بالله، والمنافقين بالسّلطان، والمرائين بالنّاس) * «11» .
__________
(1) نزهة الفضلاء 1/ 446.
(2) المرجع السابق 1/ 514.
(3) المرجع السابق 1/ 485.
(4) المرجع السابق 1/ 523.
(5) مدارج السالكين 2/ 96.
(6) الإحياء 3/ 296.
(7) نزهة الفضلاء 1/ 514.
(8) مدارج السالكين 2/ 96.
(9) مختصر شعب الإيمان (98) .
(10) المرجع السابق (96) .
(11) مختصر شعب الإيمان (98) .(10/4566)
من مضار (الرياء)
(1) الرّياء محبط للأعمال مضيّع لثوابها.
(2) الرّياء سبب للمقت عند الله، والمرائي ملعون ومطرود من رحمة الله تعالى.
(3) الرّياء من كبائر المهلكات «1» .
(4) الرّياء دليل على غاية جهل المرائي.
(5) الرّياء غصن من شجرة في القلب ثمرها في الدّنيا الخوف والغمّ وضيق الصّدر وظلمة القلب، وثمرها في الآخرة الزّقّوم والعذاب المقيم «2» .
(6) الرّياء يجلب الفقر ويعرّض صاحبه للفتن (انظر الأثر السّابع) .
(7) الرّياء يفضح أصحابه على رؤوس الأشهاد يوم القيامة.
(8) يضاعف الله عذاب المرائين من القرّاء فيجعلهم في وادي الحزن في جهنّم وساءت مصيرا.
(9) الرّياء يحوّل العمل الصّالح إلى نقيضه فيحمل صاحبه به وزرا بدلا من أن يكون له أجرا أو يكون عليه سترا.
(10) لا يسلم المرائي من أن يفتضح أمره في الدّنيا فيسقط من أعين النّاس وتذهب هيبته، ناهيك عن حسرته يوم القيامة.
(11) يظهر الله عيوب المرائي ويسمعه المكروه جزاء ما قدّمت يداه.
__________
(1) ذكر هذه المذام الثلاثة ابن حجر في الزواجر 1/ 47، والغزالي في الإحياء 3/ 310، وقد أعدنا صياغتها فقط تمشيا مع أسلوب الموسوعة في عرض المذام أو المضار.
(2) هذا التشبيه لابن القيم- رحمه الله تعالى- أما بقية أغصان هذه الشجرة البائسة فالشرك والكذب، انظر الفوائد ص 226.(10/4567)
[حرف الزاء]
الزنا
الزنا لغة:
مصدر قولهم: زنى يزني زنا وزناء (بالقصر لغة الحجاز وبالمدّ لغة تميم) ، وهو مأخوذ من مادّة (ز ن ى) الّتي تدلّ على الوطء المحرّم، يقال: هو زان بيّن الزّنا، وخرجت فلانة تزاني وتباغي أي تفجر (وتحلّ لنفسها ما حرّمه الله) وزنّاه تزنية: نسبه إلى الزّنا. والأصل في الزّناء الضّيق، ومنه الحديث: لا يصلّينّ أحدكم وهو زناء، أي مدافع للبول، ويقال:
من ذلك زنا الموضع يزنو أي ضاق، وهو لغة في يزنأ.
وقال ابن منظور: الزّنا يمدّ ويقصر، فتقول:
زنى الرّجل يزني زنى مقصور، وزناء ممدود وكذلك المرأة، ومثله زانى مزاناة وزناء. والزّنا: البغاء. يقال:
امرأة تزاني مزاناة وزناء أي تباغي، أمّا إذا قيل: زنّاه تزنية فمعناه نسبه إلى الزّنى أي قذفه به. وقال له: يا زان، كما يقال زانى المرأة مزاناة وزناء. قال اللّحيانيّ قيل لابنة الخسّ: ما أزناك؟ قالت: قرب الوساد، وطول السّواد. ومعناه: ما حملك على الزّنى؟ «1» .
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
6/ 39/ 9
واصطلاحا:
قال الرّاغب: الزّنا هو وطء المرأة من غير عقد شرعيّ «2» .
وقال الجرجانيّ: الزّنا: الوطء في قبل خال عن ملك أو شبهة «3» .
وقال المناويّ: الزّنا شرعا هو إيلاج الحشفة (أو قدرها من مقطوعها) بفرج محرّم لعينه (وذلك بخلاف المحرّم لعارض كالحيض ونحوه) خال عن الشّبهة مشتهى «4» .
وقال الكفويّ: الزّنا اسم لفعل معلوم وإيلاج فرج (ذكر) في محلّ محرّم مشتهى يسمّى قبلا، ومعناه قضاء شهوة الفرج بسفح الماء (المنيّ) في محلّ محرّم مشتهى من غير داعية الولد حتّى إنّه ليسمّى الزّاني سفّاحا «5» .
وقال في نهاية المحتاج: هو إيلاج الذّكر بفرج محرّم لعينه خال عن الشّبهة مشتهى طبعا «6» .
خبث الزنا:
وأوضح ابن القيّم- رحمه الله تعالى- مدى
__________
(1) لسان العرب (3/ 1875، 1876) . ومقاييس اللغة (3/ 26) ، وانظر الصحاح (6/ 2369) ، القاموس المحيط (4/ 339) أساس البلاغة (196) .
(2) المفردات (220) .
(3) التعريفات (120) .
(4) التوقيف على مهمات التعاريف (187) ، وقد ذكر أيضا ما ذكره الجرجانى من تعريف الزنا.
(5) الكليات (489) .
(6) نهاية المحتاج (7/ 402، 403) .(10/4568)
خبث الزّنا واللّواطة فقال: «وسم الله سبحانه الشّرك والزّنا واللّواطة بالنّجاسة والخبث في كتابه دون سائر الذّنوب، وإن كانت جميعا تشتمل على ذلك، لكنّ الله- عزّ وجلّ- خصّ هذه الذّنوب لغلظها فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (التوبة/ 28) وقال في حقّ اللّواطة وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (الأنبياء/ 74) كما ذكر عن اللّوطيّة أنفسهم أنّهم نفوا عن أنفسهم الطّهارة فقال أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (الأعراف/ 82) .
وأمّا الزّناة فجاء وصفهم صريحا فقال تعالى الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ. (النور/ 26) والمقصود الآن بيان ما في الزّنا واللّواطة من نجاسة وخبث أكثر وأغلظ من سائر الذّنوب ما دون الشّرك، وذلك لأنّها تفسد القلب وتضعف توحيده جدّا. ولهذا كان أحظى النّاس بهذه النّجاسة أكثرهم شركا، فكلّما كان الشّرك في العبد أغلب كانت هذه النّجاسة والخبائث فيه أكثر وكلّما كان العبد أعظم إخلاصا كان منها أبعد، فليس في الذّنوب أفسد للقلب والدّين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصّيّة في إبعاد القلب من الله فإذا انصبغ القلب بهما بعد من الله الطّيّب الّذي لا يصعد إليه إلّا الطّيّب» «1» .
وقال الذّهبيّ- رحمه الله-: النّظرة بشهوة إلى المرأة والأمرد زنا، ولا أجل ذلك بالغ الصّالحون في الإعراض عن المردان «2» وعن النّظر إليهم وعن مخالطتهم ومجالستهم. وكان يقال: لا يبيتنّ رجل مع أمرد في مكان واحد. وحرّم بعض العلماء الخلوة مع الأمرد في بيت أو حانوت أو حمّام قياسا على المرأة؛ لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «ما خلا رجل بامرأة إلّا كان الشّيطان ثالثهما» وفي المردان من يفوق النّساء بحسنه فالفتنة به أعظم، وأنّه يمكن في حقّه من الشّرّ ما لا يمكن في حقّ النّساء، ويتسهّل في حقّه من طريق الرّيبة والشّرّ ما لا يتسهّل في حقّ المرأة، فهو بالتّحريم أولى.
وأقاويل السّلف في التّنفير منهم والتّحذير من رؤيتهم أكثر من أن تحصر وجاء رجل إلى الإمام أحمد- رحمه الله تعالى ومعه صبيّ حسن، فقال الإمام: ما هذا منك؟ قال: ابن أختي. قال: «لا تجأ به إلينا مرّة أخرى، ولا تمش معه في طريق لئلّا يظنّ بك من لا يعرفك ولا يعرفه سوءا» «3» .
وقال الإمام ابن حجر: عدّ الزّنا من الكبائر هو ما أجمعوا عليه واختلف في أيّهما أشنع وأقبح، هل القتل أو الزّنا؟ والصّحيح أنّ الّذي يلي الشّرك في الكبائر هو القتل (أي قتل النّفس الّتي حرّم الله إلّا بالحقّ) ثمّ الزّنا، وأفحش أنواعه الزّنا بحليلة الجار، والزّنا أكبر إثما من اللّواط، لأنّ الشّهوة داعية إليه من الجانبين فيكثر وقوعه ويعظم الضّرر بكثرته، ولما يترتّب عليه من اختلاط الأنساب، وبعض الزّنا أغلظ من بعض، فالزّنا بحليلة الجار، أو بذات الرّحم، أو بأجنبيّة في شهر رمضان، أو في البلد الحرام، فاحشة مشينة، وأمّا ما دون الزّنا الموجب للحدّ فإنّه من
__________
(1) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (78- 82) بتصرف.
(2) المردان: جمع أمرد وهو الشاب الوسيم الذي لم تنبت له لحية.
(3) الكبائر (58- 59) بتصرف يسير.(10/4569)
الصّغائر إلّا إذا انضاف إليه ما يجعله كبيرة كأن يكون مع امرأة الأب أو حليلة الابن أو مع أجنبيّة على سبيل القهر والإكراه «1» .
مراتب القبح في الزنا:
قال ابن حجر: الزّنا له مراتب (متفاوتة) فهو بأجنبيّة لا زوج لها عظيم، وأعظم منه بأجنبيّة لها زوج، وأعظم منه بمحرم، وزنا الثّيّب أقبح من البكر بدليل اختلاف حدّيهما، وزنا الشّيخ لكمال عقله أقبح من زنا الشّابّ، وزنا الحرّ والعالم لكمالهما أقبح من زنا العبد والجاهل «2» .
السّفاح والمخادنة:
لقد نهى الدّين الإسلاميّ الحنيف عن كلّ أنواع الزّنا، سرّا كان أو جهرا، وسواء كان احترافا أو مجرّد نزوة، من حرّة أو من أمة، من مسلمة أو غير مسلمة، كما نهى أيضا عن الخطوات الّتي تسبقه وتؤدّي إليه من نحو المخادنة والمصادقة، وقد سوّى في ذلك بين الرّجال والنّساء، فقال تعالى: غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ (المائدة/ 5) ، وقال عزّ من قائل: غَيْرَ
مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ
(النساء/ 25) ، وقد عدّ العلماء كلا الأمرين أي السّفاح والمخادنة من الزّنا المحرّم، يقول النّيسابوريّ: السّفاح: هو الزّنا على سبيل الإعلان.
والمخادنة: هي اتّخاذ خدن (أي خليل أو صديق) على سبيل الإسرار «3» .
وقال الطّبريّ: غير مسافحين: أي غير معالنين بالسّفاح (الزّنا) بكلّ فاجرة ولا متّخذي أخدان أي ولا منفردين ببغيّ واحدة، ومعنى خادنها:
اتّخذها لنفسه صديقة ليفجر بها، وذات الخدن: أي ذات الخليل الواحد «4» .
وقال القرطبيّ: غير مسافحات: أي غير معلنات بالزّنا، لا أنّ الجاهليّة كان فيهم الزّواني في العلانية ولهنّ رايات منصوبة كراية البيطار، وذوات الأخدان هنّ اللّائي يتّخذن أصدقاء على الفاحشة.
وكانت العرب تعيب الإعلان بالزّنا ولا تعيب اتّخاذ الأخدان، ثمّ رفع الإسلام جميع ذلك «5» .
وقال ابن كثير في تفسير آية المائدة/ 5:
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ: كما شرط الإحصان في النّساء وهي العفّة عن الزّنا، كذلك شرطها في الرّجال، وهو أن يكون الرّجل محصنا عفيفا، ولذلك قال: غَيْرَ مُسافِحِينَ وهم الزّناة الّذين لا يرتدعون عن معصية ولا يردّون أنفسهم عمّن جاءهم، ولا متّخذي أخدان: أي ذوي العشيقات الّذين لا يفعلون إلّا معهم «6» .
[للاستزادة: انظر صفات: إطلاق البصر- التبرج- الدياثة- الإغواء- الفجور- الفحش- القذف- اتباع الهوى- الفسوق- الغي والإغواء- الفساد- العصيان- الفتنة.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: العفة- تعظيم الحرمات- حفظ الفرج- الشرف- غض البصر- الغيرة] .
__________
(1) الزواجر (541- 554) باختصار وتصرف.
(2) المرجع السابق (455) .
(3) رغائب الفرقان (على هامش الطبري) مجلد 4 ج 6 ص 63.
(4) تفسير الطبري مجلد 4 ج 6 ص 70- 71.
(5) تفسير القرطبي (5/ 127) .
(6) تفسير ابن كثير (2/ 22) .(10/4570)
الآيات الواردة في النهي عن «الزنا»
1-* وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا (32) «1»
2- سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) «2»
3- وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) «3»
__________
(1) الإسراء: 23- 32 مكية
(2) النور: 1- 5 مدنية.
(3) الفرقان: 68- 70 مدنية.(10/4571)
4- يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) «1»
الآيات الواردة في النهي عن «الزنا» معنى
5-* وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) «2»
6- الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) «3»
__________
(1) الممتحنة: 12 مدنية.
(2) النساء: 24- 25 مدنية.
(3) المائدة: 5 مدنية(10/4572)
الأحاديث الواردة في ذمّ (الزنا)
1-* (عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تقتلوا النّفس الّتي حرّم الله إلّا بالحقّ، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تشربوا مسكرا. فمن فعل من ذلك شيئا فأقيم عليه حدّه فهو كفّارة، ومن ستر الله عليه فحسابه على الله- عزّ وجلّ- ومن لم يفعل من ذلك شيئا ضمنت له على الله الجنّة» ) * «1» .
2-* (عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- أنّه قال: «إنّ جارية لعبد الله بن أبيّ ابن سلول يقال لها: مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة. فكان يكرههما على الزّنا. فشكتا ذلك إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فأنزل الله وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إلى قوله:
غَفُورٌ رَحِيمٌ (النور/ 33)) * «2» .
3-* (عن أنس- رضي الله عنه- أنّه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من أشراط السّاعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزّنا» ) * «3» .
4-* (عن أبي موسى- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيّما امرأة استعطرت فمرّت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية» ) * «4»
5-* (عن البراء بن عازب- رضي الله عنهما- قال: مرّ على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيهوديّ محمّها «5» مجلودا.
فدعاهم صلّى الله عليه وسلّم فقال: «هكذا تجدون حدّ الزّاني في كتابكم؟» قالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم. فقال:
«أنشدك بالله الّذي أنزل التّوراة على موسى أهكذا تجدون حدّ الزّاني في كتابكم؟» قال: لا،. ولولا أنّك نشدتني بهذا لم أخبرك. نجده الرّجم. ولكنّه كثر في أشرافنا، فكنّا إذا أخذنا الشّريف تركناه. وإذا أخذنا الضّعيف أقمنا عليه الحدّ. قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشّريف والوضيع. فجعلنا التّحميم والجلد مكان الرّجم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ إنّي أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه» . فأمر به فرجم. فأنزل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ.. إلى قوله إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ (المائدة/ 41) يقول: ائتوا محمّدا صلّى الله عليه وسلّم. فإن أمركم بالتّحميم والجلد فخذوه. وإن أفتاكم بالرّجم فاحذروا. فأنزل الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (المائدة/ 44) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (المائدة/ 45) .
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (المائدة 47) . في الكفّار كلّها» ) * «6» .
6-* (عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- أنّ مرثد بن أبي مرثد الغنويّ وكان رجلا
__________
(1) الهيثمي في المجمع (1/ 104) وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله موثقون.
(2) مسلم (3029)
(3) البخاري- الفتح 1 (80) واللفظ له. ومسلم (2671)
(4) النسائي (8/ 153) واللفظ له. وأبو داود (4173) نحوه. والترمذي (2786) وقال: حسن صحيح. وأحمد (4/ 400) وذكره الألباني في حجاب المرأة المسلمة (64) وعزاه أيضا لابن خزيمة وابن حبان وقال: صحيح كما قال الحاكم والذهبي.
(5) محمما: أي مسود الوجه، من الحممة، الفحمة.
(6) البخاري- الفتح 12 (6819) . ومسلم (1700) واللفظ له.(10/4573)
شديدا وكان يحمل الأسارى من مكّة إلى المدينة قال:
فدعوت رجلا لأحمله وكان بمكّة بغيّ يقال لها: عناق وكانت صديقته «1» خرجت فرأت سوادي في ظلّ الحائط فقالت: من هذا؟ مرثد، مرحبا وأهلا يا مرثد.
انطلق اللّيلة فبت عندنا في الرّحل، قلت: يا عناق إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرّم الزّنا. قالت: يأهل الخيام هذا الدّلدل «2» ، هذا الّذي يحمل أسراءكم من مكّة إلى المدينة، فسلكت الخندمة «3» فطلبني ثمانية فجاءوا حتّى قاموا على رأسي فبالوا، فطاربولهم عليّ وأعماهم الله عنّي، فجئت إلى صاحبي فحملته، فلمّا انتهيت به إلى الأراك فككت عنه كبله «4» ، فجئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله أنكح عناق، فسكت عنّي، فنزلت:
الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ فدعاني فقرأها عليّ وقال: لا تنكحها» ) * «5» .
7-* (عن سلمة بن قيس- رضي الله عنه- قال: إنّما هي أربع، فما أنا بأشحّ منّي عليهنّ يوم سمعتهنّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ألا لا تشركوا بالله شيئا، ولا تقتلوا النّفس الّتي حرّم الله إلّا بالحقّ، ولا تزنوا ولا تسرقوا» ) * «6» .
8-* (عن عبادة بن الصّامت- رضي الله عنه- وكان شهد بدرا، وهو أحد النّقباء ليلة العقبة؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال- وحوله عصابة من أصحابه-:
«بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف. فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدّنيا فهو كفّارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثمّ ستره الله فهو إلى الله. إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه. فبايعناه على ذلك» ) * «7» .
9-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا يزكّيهم. ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذّاب، وعائل «8» مستكبر» ) * «9» .
10-* (عن أبي ذرّ- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة يحبّهم الله، وثلاثة يبغضهم الله: فأمّا الّذين يحبّهم الله: فرجل أتى قوما فسألهم بالله ولم يسألهم بقرابة بينه وبينهم فمنعوه، فتخلّف رجل بأعقابهم فأعطاه سرّا لا يعلم بعطيّته إلّا الله والّذي أعطاه، وقوم ساروا ليلتهم حتّى إذا كان النّوم أحبّ إليهم ممّا يعدل به نزلوا فوضعوا رؤوسهم،
__________
(1) صديقته: أي يزني بها قبل الإسلام.
(2) الدّلدل: هو القنفذ وقيل ذكر القنافذ شبهته به. لأنه أكثر ما يظهر في الليل ولأنه يخفي رأسه في جسده ما استطاع.
(3) الخندمة: جبل بمكة.
(4) فككت عنه كبله: بفتح الكاف وسكون الموحدة القيد الضخم.
(5) النسائي (6/ 66، 67) واللفظ له وقال الألباني: حسن الإسناد (2/ 68) رقم (3027) . وأبو داود (2051) . والترمذي (3177) وقال: حسن غريب. وقال الأرناؤوط في تعليقه على «جامع الأصول» (2/ 274) : إسناده حسن.
(6) الهيثمي في المجمع (1/ 104) وقال: رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات.
(7) البخاري- الفتح 1 (18) واللفظ له. ومسلم (1709) .
(8) العائل: الفقير.
(9) مسلم (107) .(10/4574)
فقام أحدهم يتملّقني ويتلو آياتي. ورجل كان في سريّة فلقي العدوّ فهزموا وأقبل بصدره حتّى يقتل أو يفتح له. والثّلاثة الّذين يبغضهم الله: الشّيخ الزّاني، والفقير المختال، والغنيّ الظّلوم» ) * «1» .
11-* (عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- أنّه قال: جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تبايعه على الإسلام. فقال: «أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئا، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تبرّجي تبرّج الجاهليّة الأولى» ) * «2» .
12-* (عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: خسفت الشّمس في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ...
الحديث، وفيه قال: «إنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبّروا وصلّوا، وتصدّقوا. ثمّ قال: يا أمّة محمّد. والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمّة محمّد. لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا» ) * «3» .
13-* (عن جابر بن سمرة- رضي الله عنهما- أنّه قال: رأيت ما عز بن مالك حين جيء به إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، رجل قصير أعضل «4» ليس عليه رداء.
فشهد على نفسه أربع مرّات أنّه زنى. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فلعلّك» ؟ قال: لا، والله إنّه قد زنى الأخر «5» . قال: فرجمه. ثمّ خطب فقال: «ألا كلّما نفرنا غازين في سبيل الله خلف أحدهم له نبيب كنبيب التّيس «6» ، يمنح أحدهم الكثبة «7» ، أما والله إن يمكنّي من أحدهم لأنكّلنّه عنه» «8» ) * «9» .
14-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال رجل لأتصدقنّ اللّيلة بصدقة.
فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدّثون: تصدّق اللّيلة على زانية. قال: اللهمّ لك الحمد على زانية. لأتصدقنّ بصدقة. فخرج بصدقته فوضعها في يد غنيّ. فأصبحوا يتحدّثون: تصدّق على
__________
(1) الترمذي (2568) واللفظ له وقال: هذا حديث صحيح. النسائي (5/ 84) . أحمد (5/ 153) . وهو في المشكاة حديث (1922) . وقال الأرناؤوط في تعليقه على «جامع الأصول» (9/ 564) : وهو حديث حسن.
(2) أحمد (2/ 196) رقم (6862) . وذكره الشيخ أحمد شاكر في نسخته وقال: إسناده صحيح (11/ 75) برقم (6850) . ونحوه عند الترمذي من حديث أميمة (1597) . وقال: حديث حسن صحيح. وكذا النسائي (7/ 149) وقال الألباني: صحيح (3/ 876) (3897) . والموطأ (982 و983) . وذكره ابن كثير في تفسيره (4/ 352) وقال: هذا إسناد صحيح.
(3) البخاري- الفتح 2 (1044) واللفظ له. ومسلم (901) .
(4) أعضل: أي شديد الخلق ورجل قصير خبر مبتدأ محذوف، والتقدير هو رجل قصير أعضل.
(5) الأخر: معناه الأرذل والأبعد والأدنى، وقيل: اللئيم. وقيل: الشقى.
(6) نبيب التيس: صوت يصدره التيس عند السفاد.
(7) الكثبة: القليل من اللبن وغيره. ومفعول «يمنح» محذوف. أي إحداهن، والمراد: إحدى النساء المغيبات أي اللاتي غاب عنهن أزواجهن.
(8) لأنكلنه عنه: أي لأمنعنه عن ذلك بعقوبة. وفي الصحاح: نكله به تنكيلا أي جعله نكالا وعبرة لغيره.
(9) مسلم (1692) . ورواه البخاري من رواية جماعة من الصحابة في كتاب الحدود: البخاري- الفتح 12 (6824) .(10/4575)
غنيّ. قال: اللهمّ لك الحمد على غنيّ؛ لأتصدّقنّ بصدقة. فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق.
فأصبحوا يتحدّثون: تصدّق على سارق. فقال: اللهمّ لك الحمد على زانية وعلى غنيّ وعلى سارق. فأتي فقيل له: أمّا صدقتك فقد قبلت. أمّا الزّانية فلعلّها تستعفّ بها عن زناها، ولعلّ الغنيّ يعتبر فينفق ممّا أعطاه الله.
ولعلّ السّارق يستعفّ بها عن سرقته» ) * «1» .
15-* (عن سمرة بن جندب- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعني ممّا يكثر أن يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم من رؤيا؟» قال فيقصّ عليه ما شاء الله أن يقصّ، وإنّه قال لنا ذات غداة: «إنّه أتاني اللّيلة آتيان، وإنّهما ابتعثاني، وإنّهما قالا لي: انطلق، وإنّي انطلقت معهما، وإنّا أتينا على رجل مضطجع، ... الحديث وفيه: وأمّا الرّجال والنّساء العراة الّذين في مثل بناء التّنّور فهم الزّناة والزّواني. وأمّا الرّجل الّذي أتيت عليه يسبح في النّهر ويلقم الحجر فإنّه آكل الرّبا. وأمّا الرّجل الكريه المرآة الّذي عند النّار يحشّها «2» ويسعى حولها، فإنّه مالك خازن جهنّم. وأمّا الرّجل الطّويل الّذي في الرّوضة فإنّه إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم: وأمّا الولدان الّذين حوله فكلّ مولود مات على الفطرة» قال: فقال بعض المسلمين:
يا رسول الله وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«وأولاد المشركين. وأمّا القوم الّذين كانوا شطر منهم حسن وشطر قبيح فإنّهم قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا. تجاوز الله عنهم» ) * «3» .
16-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كتب على ابن آدم نصيبه من الزّنى مدرك ذلك لا محالة. فالعينان زناهما النّظر.
والأذنان زناهما الاستماع. واللّسان زناه الكلام، واليد زناها البطش. والرّجل زناها الخطا. والقلب يهوى ويتمنّى، ويصدّق ذلك الفرج ويكذّبه» ) * «4» .
17-* (عن أبي هريرة- وزيد بن خالد- رضي الله عنهما- قالا: كنّا عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقام رجل فقال: أنشدك الله إلّا ما قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه وكان أفقه منه فقال: اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي. قال: قل: قال: إنّ ابني هذا كان عسيفا «5» على هذا، فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، ثمّ سألت رجالا من أهل العلم، فأخبروني أنّ على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرّجم. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «والّذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله جلّ ذكره، المائة شاة والخادم ردّ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس
__________
(1) البخاري- الفتح 3 (1421) . ومسلم (1022) واللفظ له.
(2) يحشها: يوقدها من قولهم حشّ النار أوقدها.
(3) البخاري- الفتح 12 (7047) واللفظ له. ومسلم (2275) مختصرا.
(4) البخاري- الفتح 12 (6612) . ومسلم (2657) واللفظ له.
(5) العسيف: الأجير وجمعه عسفاء.(10/4576)
على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها.
فاعترفت. فرجمها) * «1» .
18-* (عن المقداد بن الأسود- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «ما تقولون في الزّنا؟» قالوا: حرام حرّمه الله- عزّ وجلّ- ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «لأن يزني الرّجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره» ) * «2» .
19-* (عن أنس- رضي الله عنه- أنّه قال:
سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حديثا لا يحدّثكم به غيري قال: «من أشراط السّاعة أن يظهر الجهل، ويقلّ العلم، ويظهر الزّنا، ويشرب الخمر، ويقلّ الرّجال، وتكثر النّساء حتّى يكون لخمسين امرأة قيّمهنّ رجل واحد» ) * «3» .
20-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لم يتكلّم في المهد إلّا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلا عابدا. فاتّخذ صومعة، فكان فيها، فأتته أمّه وهو يصلّي فقالت: يا جريج. فقال: يا ربّ أمّي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت! فلمّا كان من الغد، أتته وهو يصلّي فقالت: يا جريج فقال: يا ربّ أمّي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت. فلمّا كان من الغد، أتته وهو يصلّي فقالت: يا جريج. فقال: أي ربّ أمّي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهمّ لا تمته حتّى ينظر إلى وجوه المومسات «4» . فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته، وكانت امرأة بغيّ يتمثّل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننّه لكم. قال:
فتعرّضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها «5» ، فوقع عليها، فحملت. فلمّا ولدت، قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغيّ «6» فولدت منك.
فقال: أين الصّبيّ؟ فجاءوا به، فقال: دعوني حتّى أصلّي فصلّى، فلمّا انصرف أتى الصّبيّ فطعن في بطنه، وقال: يا غلام! من أبوك؟ قال: فلان الرّاعي. قال:
فأقبلوا على جريج يقبّلونه ويتمسّحون به «7» ، وقالوا:
نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا. أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا. وبينا صبيّ يرضع من أمّه، فمرّ رجل راكب على دابّة فارهة وشارة حسنة «8» فقالت أمّه: اللهمّ! اجعل ابني مثل هذا، فترك الثّدي وأقبل إليه فنظر إليه. فقال: اللهمّ لا تجعلني مثله، ثمّ أقبل على ثديه فجعل يرتضع، قال: فكأنّي أنظر إلى
__________
(1) البخاري- الفتح 12 (6827، 6828) واللفظ له. ومسلم (1697، 1698)
(2) ذكره في الترغيب والترهيب وقال: رواه أحمد ورواته ثقات والطبراني في الكبير والأوسط (3/ 278، 279) واللفظ له وأحمد (6/ 8) .
(3) البخاري- الفتح 10 (5577) واللفظ له. ومسلم (2671) .
(4) المومسات: الزوانى والمجاهرات بالزنا.
(5) أمكنته من نفسها: استجابت لرغبته فجامعها.
(6) البغىّ: الفاجرة.
(7) يتمسحون به: يتقربون منه يلتمسون البركة.
(8) الفارهة: الحادة النشيطة، والشارة: الهيئة واللباس.(10/4577)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السّبّابة في فمه فجعل يمصّها. قال: ومرّوا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنيت، سرقت، وهي تقول:
حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمّه: اللهمّ لا تجعل ابني مثلها، فترك الرّضاع ونظر إليها، فقال: اللهمّ اجعلني مثلها، فهناك تراجعا الحديث. فقالت:
حلقى «1» مرّ رجل حسن الهيئة فقلت: اللهمّ اجعل ابني مثله، فقلت: اللهمّ لا تجعلني مثله، ومرّوا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون: زنيت، سرقت، فقلت: اللهمّ لا تجعل ابني مثلها، فقلت: اللهمّ اجعلني مثلها، قال: إنّ ذاك الرّجل كان جبّارا، فقلت: اللهمّ لا تجعلني مثله، وإنّ هذه يقولون لها:
زنيت ولم تزن، وسرقت ولم تسرق، فقلت: اللهمّ اجعلني مثلها» ) * «2» .
21-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من زنى وشرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه» ) * «3» .
22-* (عن أمّ المؤمنين ميمونة بنت الحارث- رضي الله عنها- أنّها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزال أمّتي بخير ما لم يفش «4» فيهم ولد الزّنا، فإذا فشا فيهم ولد الزّنا فأوشك أن يعمّهم الله بعذاب» ) * «5» .
23-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحلّ دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّي رسول الله إلّا بإحدى ثلاث: النّفس بالنّفس، والثّيّب الزّاني، والمفارق لدينه التّارك للجماعة» ) * «6» .
24-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السّارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع النّاس إليه أبصارهم فيها حين ينتهبها وهو مؤمن» ) * «7» .
25-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ينظر الله عزّ وجلّ إلى الأشيمط «8» الزّاني، ولا العائل «9» المزهوّ» ) * «10» .
__________
(1) حلقى: قال النووى نقلا عن أهل اللغة: أصابها بوجع فى حلقها، وهذا على مذهب العرب فى الدعاء على الشيء من غير إرادة وقوعه، ونظيره: تربت يداه، وقاتله الله ما أشجعه وما أشعره.
(2) البخاري- الفتح 6 (3436) . ومسلم (2550) واللفظ له.
(3) الحاكم (1/ 22) واللفظ له على شرط مسلم. وذكره الذهبي في الكبائر (82، 83) وأورده المنذرى فى الترغيب والترهيب (3/ 252) .
(4) لم يفش: لم يكثر.
(5) ذكره المنذري في ترغيبه وقال: رواه أحمد وإسناده حسن ومثله عند أبي يعلى (3/ 277) .
(6) البخاري- الفتح 12 (6878) واللفظ له. ومسلم (1676) .
(7) البخاري- الفتح 10 (5578) واللفظ له. ومسلم (57) .
(8) الأشيمط: تصغير أشمط وهو من اختلط شعر رأسه الأسود بالأبيض. وذلك في سن الشيخوخة.
(9) العائل: الفقير المتكبر المعجب بنفسه.
(10) ذكره المنذري في الترغيب والترهيب 3 (275) . وقال: رواه الطبراني ورواته ثقات.(10/4578)
26-* (قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما-:
«ما ظهر الغلول «1» في قوم قطّ إلّا ألقي في قلوبهم الرّعب، ولا فشا «2» الزّنا في قوم قطّ إلّا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلّا قطع عنهم الرّزق، ولا حكم قوم بغير الحقّ إلّا فشا فيهم الدّم «3» ولا ختر «4» قوم بالعهد إلّا سلّط الله عليهم العدوّ» ) * «5» .
27-* (عن عبد الله بن زيد- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا بغايا العرب، يا بغايا العرب، إنّ أخوف ما أخاف عليكم الزّنا والشّهوة الخفيّة» ) * «6» .
28-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا شباب قريش احفظوا فروجكم، لا تزنوا، من حفظ فرجه فله الجنّة» ) * «7» .
29-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رجل: يا رسول الله، أيّ الذّنب أكبر عند الله؟ قال: «أن تدعو لله ندّا وهو خلقك» قال: ثمّ أيّ؟ قال: «ثمّ أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك» . قال: ثمّ أيّ؟ قال: «ثمّ أن تزاني حليلة جارك» فأنزل الله عزّ وجلّ تصديقها وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (الفرقان/ 68)) * «8» .
الأحاديث الواردة في ذمّ (الزنا) معنى
30-* (عن وائل بن حجر- رضي الله عنه- أنّه قال: إنّ امرأة خرجت على عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تريد الصّلاة، فتلقّاها رجل، فتجلّلها «9» فقضى حاجته منها، فصاحت، وانطلق، فمرّ عليها رجل فقالت:
إنّ ذاك فعل بي كذا وكذا، ومرّت عصابة من المهاجرين فقالت: إنّ ذلك الرّجل فعل بي كذا وكذا، فانطلقوا فأخذوا الرّجل الّذي ظنّت أنّه وقع عليها، فأتوها به، فقالت: نعم هو هذا، فأتوا به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا أمر به قام صاحبها الّذي وقع عليها فقال: يا رسول الله أنا صاحبها، فقال لها: «اذهبي فقد غفر الله لك» وقال للرّجل (المأخوذ) قولا حسنا، وقال للرّجل الّذي وقع عليها: ارجموه، فقال: «لقد تاب توبة لو
__________
(1) الغلول: أخذ شيء من الغنائم دون إذن من الإمام.
(2) فشا: انتشر وكثر وقوعه.
(3) فشا فيهم الدم: كثر القتل.
(4) ختر قوم بالعهد: نقضوه.
(5) الموطا (2/ 367) واللفظ له، وقال ابن عبد البر: مثله لا يقال رأيا. والبيهقي (3/ 346) وقال الألباني: مثله لا يقال بالرأي، الصحيحة (1/ 170) .
(6) ذكره المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 271) وقال: رواه الطبراني بإسنادين أحدهما صحيح.
(7) ذكره الحافظ الدمياطي في المتجر الرابح وعزاه للحاكم والبيهقي ونقل قول الحاكم: صحيح على شرط البخاري ومسلم (490) ، وهو عند الحاكم (4/ 358) .
(8) البخاري- الفتح 12 (6861) واللفظ له. ومسلم (86) .
(9) تجللها: وقع عليها حتى صار فوقها مثل الجلّ على الفرس ونحوها من الحيوان.(10/4579)
تابها أهل المدينة لقبل منهم» ) * «1» .
31-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّه قال: قيل يا رسول الله: متى نترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر؟ قال: «إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم» قلنا: يا رسول الله، وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: «الملك في صغاركم «2» والفاحشة في كباركم «3» ، والعلم في رذالتكم» «4» ) * «5» .
32-* (عن أبي مسعود الأنصاريّ- رضي الله عنه- أنّه قال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغيّ «6» ، وحلوان الكاهن «7» ) * «8» .
33-* (عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أنّه قال: «أقبل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهنّ، وأعوذ بالله أن تدركوهنّ: لم تظهر الفاحشة في قوم قطّ، حتّى يعلنوا بها إلّا فشا فيهم الطّاعون والأوجاع الّتي لم تكن مضت في أسلافهم الّذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلّا أخذوا بالسّنين «9» وشدّة المؤونة، وجور السّلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلّا منعوا القطر «10» من السّماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلّا سلّط الله عليهم عدوّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمّتهم بكتاب الله، ويتخيّروا ممّا أنزل الله، إلّا جعل الله بأسهم بينهم» ) * «11» .
34-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول حين نزلت آية الملاعنة: «أيّما امرأة أدخلت على قوم رجلا ليس منهم فليست من الله في شيء، ولا يدخلها الله جنّته، وأيّما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عزّ وجلّ منه، وفضحه على رؤوس الأوّلين والآخرين يوم القيامة» ) * «12» .
35-* (عن بريدة بن الحصيب الأسلميّ- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمّهاتهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في
__________
(1) أبو داود (4379) . واللفظ له. والترمذي (1454) وقال: حسن غريب صحيح. وأحمد (6/ 399) .
(2) في صغاركم: أي إن الملوك يكونون صغار الناس سنا، غير مجربين للأمور، أو ضعافهم عقلا.
(3) في كباركم: المعنى أن الفاحشة وهي الزنا تنتشر وتفشو إلى أن توجد في الكبار أيضا.
(4) والعلم في رذالتكم: إذا كان العلم في الفساق.
(5) ابن ماجة (4015) واللفظ له. وقال في الزوائد: إسناده صحيح. رجاله ثقات. وأحمد (3/ 187) .
(6) مهر البغي: ما تأخذه الزانية على الزنا سماه مهرا مجازا.
(7) حلوان الكاهن: ما يأخذه الكاهن من أجره على فعله القبيح.
(8) البخاري- الفتح 4 (2237) ، واللفظ له. ومسلم (1567) ، وروياه من حديث جماعة من الصحابة
(9) بالسنين: أي بالقحط.
(10) القطر: أي المطر.
(11) ابن ماجة (4019) واللفظ له. وقال في الزوائد: هذا حديث صالح للعمل به. والحاكم (4/ 540) وقال: صحيح ووافقه الذهبي. وذكره الألباني في صحيح الجامع (2/ 1321) رقم (7978) . والصحيحة (1/ 167، 168) رقم (106) وعزاه أيضا إلى الحلية ومسند الروياني.
(12) النسائي (6/ 179، 180) واللفظ له. وأبو داود (2263) . والدارمي (2/ 204) رقم (2238) . والحاكم (2/ 202، 203) وقال: صحيح ووافقه الذهبي. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 278) . وعزاه محقق جامع الأصول (10/ 741) أيضا لابن حبان.(10/4580)
أهله، فيخونه فيهم إلّا وقف له يوم القيامة، فيأخذ من عمله ما شاء. فما ظنّكم؟» «1» ) * «2» .
36-* (عن عبادة بن الصّامت- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا عنّي، خذوا عنّي، قد جعل الله لهنّ سبيلا «3» ، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثّيّب بالثّيّب «4» ، جلد مائة والرّجم» ) * «5» .
37-* (عن بريدة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما نقض قوم العهد قطّ إلّا كان القتل بينهم، ولا ظهرت فاحشة في قوم قطّ إلّا سلّط الله- عزّ وجلّ- عليهم الموت، ولا منع قوم الزّكاة إلّا حبس الله عنهم القطر» ) * «6» .
38-* (عن سعيد بن جبير- رضي الله عنه- قال: سئلت عن المتلاعنين في إمرة مصعب «7» .
أيفرّق بينهما؟ قال: فما دريت ما أقول فمضيت إلى منزل ابن عمر بمكّة. فقلت للغلام: استأذن لي.
قال: إنّه قائل «8»
. فسمع صوتي. قال: ابن جبير؟
قلت: نعم. قال: ادخل. فو الله ما جاء بك هذه السّاعة إلّا حاجة. فدخلت. فإذا هو مفترش برذعة.
متوسّد وسادة حشوها ليف. قلت: أبا عبد الرّحمن! المتلاعنان، أيفرّق بينهما؟ قال: سبحان الله! نعم. إنّ أوّل من سأل عن ذلك فلان بن فلان. قال: يا رسول الله، أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة، كيف يصنع؟ إن تكلّم تكلّم بأمر عظيم. وإن سكت سكت على مثل ذلك. قال: فسكت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فلم يجبه. فلمّا كان بعد ذلك أتاه فقال: إنّ الّذي سألتك عنه قد ابتليت به. فأنزل الله- عزّ وجلّ- هؤلاء الآيات في سورة النّور: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ (النور/ 6- 9) فتلاهنّ عليه ووعظه وذكّره. وأخبره أنّ عذاب الدّنيا أهون من عذاب الآخرة. قال: لا، والّذي بعثك بالحقّ. ما كذبت عليها. ثمّ دعاها فوعظها وذكّرها وأخبرها أنّ عذاب الدّنيا أهون من عذاب الآخرة قالت: لا، والّذي بعثك بالحقّ إنّه لكاذب. فبدأ بالرّجل فشهد أربع شهادات بالله إنّه لمن الصّادقين. والخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثمّ ثنّى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنّه
__________
(1) فما ظنكم: يعني ما تظنون في رغبته في أخذ حسناته والاستكثار منها في ذلك المقام، ومعناه لا يبقي منها شيئا إن أمكنه.
(2) مسلم (1897) .
(3) قد جعل الله لهن سبيلا: إشارة إلى قوله تعالي: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا فبين النبي صلّى الله عليه وسلّم أن هذا هو ذلك السبيل. وهذا الحديث مفسر لها. وقيل: منسوخة بالآية التي في أول سورة النور.
(4) (البكر بالبكر.. والثّيّب بالثّيّب) ليس على سبيل الاشتراط. بل حدّ البكر الجلد والتعذيب سواء زنى ببكر أم بثيب، وحد الثيب الرجم سواء زنى ببكر أم بثيب.
(5) مسلم (1690) .
(6) الحاكم (2/ 126) ، واللفظ له. والبيهقي في السنن (3/ 346) وله شاهد عنده من حديث ابن عباس. وذكره الهيثمي في المجمع (7/ 269) رواه البزار. ورجاله رجال الصحيح. وذكره الألباني في الصحيحة وعزاه أيضا للطبراني في الأوسط، ولتمام في الفوائد (1/ 169، 171) رقم (107) .
(7) في إمرة مصعب: أي في زمن توليه الإمارة.
(8) قائل: أي نائم وقت القيلولة وهو وقت الظهر.(10/4581)
لمن الكاذبين. والخامسة أنّ غضب الله عليها إن كان من الصّادقين. ثمّ فرّق بينهما) * «1» .
39-* (عن أبي مالك الأشعريّ- رضي الله عنه- أنّه سمع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ليكوننّ من أمّتي أقوام يستحلّون الحر «2»
والحرير والخمر والمعازف، ولينزلنّ أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة «3»
لهم، يأتيهم- يعني الفقير- لحاجة فيقولوا: ارجع إلينا غدا. فيبيّتهم الله «4»
ويضع العلم «5»
ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة» ) * «6» .
من الآثار وأقوال العلماء الواردة في ذمّ (الزنا)
1-* (قال المسيح- عليه الصّلاة والسّلام-:
«لا يكون البطّالون من الحكماء، ولا يلج الزّناة ملكوت السّماء» ) * «7» .
2-* (قال عثمان بن عفّان- رضي الله عنه- للّذين حصروه في الدّار بعدما أشرف عليهم وسلّم عليهم فلم يردّوا عليه: أفي القوم طلحة؟ قال طلحة:
نعم. قال: فإنّا لله وإنّا إليه راجعون! أسلّم على قوم أنت فيهم فلا تردّون؟! قال: قد رددت. قال: ما هكذا الرّدّ، أسمعك ولا تسمعني؟!. يا طلحة.
أنشدك الله، أسمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يحلّ دم المسلم إلّا واحدة من ثلاث: أن يكفر بعد إيمانه، أو يزني بعد إحصانه، أو يقتل نفسا فيقتل بها» . قال:
اللهمّ نعم. فكبّر عثمان فقال: «والله ما أنكرت الله منذ عرفته، ولا زنيت في جاهليّة، ولا إسلام، وقد تركته في الجاهليّة تكرّما، وفي الإسلام تعفّفّا، وما قتلت نفسا يحلّ بها قتلي» ) * «8» .
3-* (وقال أيضا- رضي الله عنه- على المنبر: «لا تكلّفوا الأمة، غير ذات الصّنعة، الكسب.
فإنّكم متى كلّفتموها ذلك كسبت بفرجها. ولا تكلّفوا الصّغير الكسب، فإنّه إذا لم يجد سرق، وعفّوا إذا أعفّكم الله، وعليكم من المطاعم بما طاب منها» ) * «9» .
4-* (قال أبو هريرة- رضي الله عنه:- «من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه» ) * «10» .
5-* (قال عثمان بن أبي صفيّة: «كان ابن عبّاس- رضي الله عنهما- يدعو غلمانه غلاما غلاما فيقول: ألا أزوّجك؟ ما من عبد يزني إلّا نزع الله منه نور الإيمان» ) * «11» .
6-* (قال اللّحيانيّ:
أمّا الزّناء فإنّي لست قاربه ... والمال بيني وبين الخمر نصفان
) * «12» .
__________
(1) البخاري- الفتح 12 (6855) . ومسلم (1493) واللفظ له.
(2) الحر: بكسر الحاء وفتح الراء: هو الفرج. والمعنى يستحلون الزنا.
(3) بسارحة: هي الماشية التي تسرح بالغداة إلى رعيها، وتروح أي ترجع بالعشي.
(4) فيبيتهم الله: أي يهلكهم ليلا، والبيات: هجوم العدو ليلا.
(5) العلم: الجبل العالي- يروح: الفاعل محذوف والتقدير: الراعي.
(6) البخاري- الفتح 10 (5590) .
(7) إغاثة اللهفان (1/ 80) .
(8) أحمد (1/ 163) . ورد هذا الأثر في سياقه حديث والمقصود الاستشهاد بالأثر.
(9) الموطأ (2/ 747) .
(10) الفتح (12/ 62) .
(11) المرجع السابق (12/ 60) .
(12) لسان العرب (3/ 1875) .(10/4582)
7-* (قال خويلد بن نوفل الكلابيّ يعيب على الحارث بن أبي شمر الغسّانيّ، وكان إذا أعجبته امرأة من بني قيس اغتصبها:
يا أيّها الملك المخوف أما ترى ... ليلا وصبحا كيف يختلفان؟
هل تستطيع الشّمس أن تأتي بها ... ليلا وهل لك بالمليك يدان؟
يا حار إنّك ميّت ومحاسب ... واعلم بأنّ كما تدين تدان
) * «1» .
8-* (قال المنذريّ- رحمه الله تعالى-: «صحّ أنّ مدمن الخمر إذا مات لقي الله كعابد وثن، ولا شكّ أنّ الزّنا أشدّ وأعظم عند الله من شرب الخمر» ) * «2» .
9-* (قال الذّهبيّ- رحمه الله- ورد في الزّبور مكتوبا: إنّ الزّناة معلّقون بفروجهم في النّار يضربون عليها بسياط من حديد، فإذا استغاث من الضّرب نادته الزّبانية: أين كان هذا الصّوت وأنت تضحك وتفرح وتمرح ولا تراقب الله تعالى ولا تستحي منه؟» ) * «3» .
من مضار (الزنا)
(1) الزّنا يجمع خلال الشّرّ كلّها من قلّة الدّين وذهاب الورع وفساد المروءة وقلّة الغيرة.
(2) في الزّنا غضب الرّبّ تبارك وتعالى بانتهاك حرمه وإفساد خلقه.
(3) من أضرار الزّنا خبث النّفس وإذهاب الحياء ورفع الحشمة.
(4) سواد وجه الزّاني وظلمته وما يعلوه من الكآبة والمقت الّذي يبدو عليه للنّاظرين.
(5) ظلمة القلب وطمس نوره.
(6) الفقر اللّازم لأنّ الله- عزّ وجلّ- مفقر الزّناة.
(7) الزّنا يذهب حرمة فاعله ويعرّضه للحدّ في الدّنيا والعذاب الأليم في الآخرة.
(8) الزّنا يسلب الزّاني أحسن الأسماء، وهي العفّة والبرّ والأمانة، ويعطيه أضدادها كالفاجر والفاسق والزّاني والخائن.
(9) يفارق الزّاني وصف «الطّيّب» الّذي يتّسم به أهل العفاف، ويتبدّل به الخبث الّذي يتّصف به الزّناة، وقد حرّم الله الجنّة على كلّ خبيث وجعلها مأوى للطّيّبين «4» .
(10) من أضرار الزّنا على المجتمع اختلاط الأنساب واشتباهها ويؤدّي إلى ضيق في الأرزاق وخراب في الدّيار، وإيقاع الوحشة بين أبناء المجتمع.
(11) يسبّب الزّنا ظهور أمراض وبلايا لا يعلمها إلّا الله عزّ وجلّ- ومنها مرض فقد المناعة (الإيدز) الّذي شاع في المجتمعات الفاجرة هذه الأيّام.
(12) في زنا الزّاني جناية على ذرّيّته بجلب العار والخزي لهم من ناحية، وتعريضهم- إلّا من رحم الله- لمثل هذه الفعلة الشّائنة من ناحية أخرى.
__________
(1) لسان العرب (3/ 1868) .
(2) الترغيب والترهيب (3/ 277) .
(3) الكبائر (51) .
(4) (بتصرف) من غذاء الألباب (1/ 443) .(10/4583)
الزندقة
الزندقة لغة:
الزّندقة كلمة معرّبة من اللّغة الفارسيّة استعملها العرب منذ فترة مبكّرة في التّاريخ الإسلاميّ للتّعبير عن طائفة من الملاحدة، وقد شقّت طريقها إلى المعجم العربيّ منذ القرن الثّاني للهجرة فقال عنها الخليل في أقدم معجم عربيّ (هو كتاب العين) : زندقة الزّنديق: ألّا يؤمن بالآخرة وبالرّبوبيّة «1»
، وقيل: هو الّذي لا يؤمن بالآخرة ووحدانيّة الخالق «2» .
وقال الجوهريّ:
الزّنديق من الثّنويّة «3»
، وهو معرّب، والجمع:
الزّنادقة، والهاء (أي التّاء الموقوف عليها بالهاء) عوض من الياء المحذوفة، وأصله زناديق، (والفعل من ذلك) تزندق، والاسم: الزّندقة «4» .
وقال ابن منظور: الزّنديق: القائل ببقاء الدّهر، وهو بالفارسيّة: (زندكراي) أي يقول بدوام بقاء الدّهر، والزّندقة: الضّيق، وقيل الزّنديق منه لأنّه ضيّق على نفسه، وقال أحمد بن يحيى (ثعلب) : ليس
الآيات/ الأحاديث/ الآثار/
-/ 2
زنديق من كلام العرب (بالمعنى الدّينيّ المعروف للزّندقة) ، وإنّما تقول العرب: رجل زندق وزندقيّ إذا كان شديد التّخيّل، فإذا أرادت العرب معنى ما تقوله العامّة (أي المعنى الدّينيّ) قالوا: ملحد، ودهريّ «5»
، وإذا أرادوا السّنّ (أي النّسبة إلى الدّهر بمعني الزّمن) قالوا: دهريّ، وقد ذكر ابن دريد أنّ الأصل الفارسيّ للكلمة هو «زنده» أي يقول بدوام بقاء الدّهر «6» .
الزندقة اصطلاحا:
قال التّهانويّ: الزّنديق: هو الثّنويّ القائل بإلهين منهما يكون النّور والظّلمة ويسمّيهما: يزدان، وأهريمن، الأوّل: خالق الخير، والثّاني: خالق الشّرّ يعني الشّيطان، (وقيل) هو الّذي لا يؤمن بالحقّ تعالى وبالآخرة، وقيل: هو الّذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر، وقال بعضهم: إنّه معرّب.. «زنديق «7»
» أي من يكون له دين النّساء، والصّحيح المعنى الأوّل وهو معرّب «زنديّ» أي من يؤمن بالزّند الّذي هو كتاب زراد شت، والقائل بوجود يزدان، وأهريمن،
__________
(1) كتاب العين (5/ 255) .
(2) تهذيب اللغة للأزهرى (9/ 400) .
(3) الثّنويّة: فرقة تؤمن بوجود إلهين أحدهما للنور والآخر للظلمة (انظر تعريف الزندقة اصطلاحا) .
(4) الصحاح «ز ن ق» (4/ 1489) .
(5) لسان العرب (ز ن ق) (ص 1871) ط. دار المعارف.
(6) التهذيب (9/ 400) .
(7) زن فى الفارسية تعني امرأة.(10/4584)
والزّنادقة فرقة متشبّهة مبطلة متّصلة بالمجذوبين «1» .
حكم الزندقة:
الزّندقة كفر، والزّنديق كافر، لأنّه مع وجود الاعتراف بنبوّة سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم يكون في عقائده كفر وهذا بالاتّفاق «2» .
حقيقة الزندقة:
قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله تعالى-:
الزّنادقة جمع زنديق، وقال: قال أبو حاتم السّجستانيّ وغيره: الزّنديق: فارسيّ معرّب أصله «زنده كرداي» يقول بدوام الدّهر لأنّ (زنده) الحياة و (كرد) العمل، ويطلق على من يكون دقيق النّظر في الأمور. وقال ثعلب: ليس في كلام العرب زنديق وإنّما قالوا زندقيّ لمن يكون شديد التّحيّل، وإذا أرادوا ما تريد العامّة قالوا ملحد ودهريّ أي يقول بدوام الدّهر، وقال الجوهريّ: الزّنديق من الثّنويّة. وفسّره بعض الشّرّاح بأنّه الّذي يدّعي أنّ مع الله إلها آخر، وتعقّب بأنّه يلزم منه أن يطلق على كلّ مشرك. ثمّ قال: والتّحقيق أنّ أصل الزّنادقة أتباع ديصان ثمّ ماني ثمّ مزدك.
وحاصل مقالتهم أنّ النّور والظّلمة قديمان وأنّهما امتزجا فحدث العالم كلّه منهما، فمن كان من أهل الشّرّ فهو من الظّلمة ومن كان من أهل الخير فهو من النّور. وأنّه يجب السّعي في تخليص النّور من الظّلمة فيلزم إزهاق كلّ نفس. وكان بهرام جدّ كسرى تحيّل على ماني حتّى حضر عنده وأظهر له أنّه قبل مقالته ثمّ قتله وقتل أصحابه وبقيت منهم بقيّة اتّبعوا مزدك، وقام الإسلام والزّنديق يطلق على من يعتقد ذلك، وأظهر جماعة منهم الإسلام خشية القتل ومن ثمّ أطلق الاسم على كلّ من أسرّ الكفر وأظهر الإسلام حتّى قال مالك: الزّندقة ما كان عليه المنافقون وكذا أطلق جماعة من الفقهاء الشّافعيّة وغيرهم أنّ الزّنديق هو الّذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر.
ونقل ابن حجر عن النّوويّ قوله: الزّنديق الّذي لا ينتحل دينا.
ونقل أيضا عن محمّد بن معن قوله: الزّنادقة من الثّنويّة يقولون ببقاء الدّهر وبالتّناسخ. قال: ومن الزّنادقة: الباطنيّة، وهم قوم زعموا أنّ الله خلق شيئا ثمّ خلق منه شيئا آخر. فدبّر العالم بأسره ويسمّونهما العقل والنّفس وتارة العقل الأوّل والعقل الثّاني، وهو من قول الثّنويّة في النّور والظّلمة إلّا أنّهم غيّروا الاسمين، وقال محمّد بن معن ولهم مقالات سخيفة في النّبوّات وتحريف الآيات وفرائض العبادات، وقد قيل إنّ سبب تفسير الفقهاء الزّنديق بما يفسّر به المنافق قول الشّافعيّ في كتابه «المختصر» : وأيّ كفر ارتدّ إليه ممّا يظهر أو يسرّ من الزّندقة وغيرها ثمّ تاب سقط عنه القتل، وهذا لا يلزم منه اتّحاد الزّنديق والمنافق بل كلّ زنديق منافق ولا عكس. وكان من أطلق عليه في الكتاب والسّنّة المنافق يظهر الإسلام ويبطن عبادة الوثن أو اليهوديّة، وأمّا الثّنويّة فلا يحفظ أنّ أحدا
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون (3/ 117) .
(2) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.(10/4585)
منهم أظهر الإسلام في العهد النّبويّ. والله أعلم «1» .
أصل الزندقة:
قال ابن كمال باشا: وأمّا الّذي ذهب إليه صاحب القاموس من أنّ كلمة زنديق معرّب (زنده) فلا وجه له كما لا يخفى، و (زنده) اسم كتاب أظهره مزدك. ودين الزّنادقة خارج عن الأديان السّماويّة كلّها وما في كتابهم من إباحة الأموال والنّساء والحكم باشتراك النّاس فيها كاشتراكهم في الماء والكلأ مخالف لما في الكتب الإلهيّة كلّها. سمّى العرب زنديقا ونسب إلى كتابهم كلّ من خرج عن الأديان السّماويّة كلّها بالإنكار بواحد أو أكثر من أصول الدّين الّتي اتّفقت عليها الأديان السّماويّة كلّها سواء كان ما أنكره وجود الباري- عزّ اسمه- فيوافق الدّهريّ أو لا.
وكلمة الزّنديق في لسان العرب تطلق على من ينفي الباري- عزّ اسمه- وعلى من يثبت الشّريك له وعلى من ينكر حكمته غير مخصوص بالأوّل كما زعمه ثعلب ولا بالثّاني. كما هو الظّاهر من كلام الجوهريّ والفرق بينه وبين المرتدّ أنّه قد لا يكون زنديقا كما إذا ارتدّ عن دين الإسلام وتديّن بواحد من الأديان السّماويّة الباطلة. واعتبروا في الزّنديق أن يكون مبطنا للكفر على ما نقلناه عن العلّامة الشّيرازيّ. وذلك القيد غير معتبر في مفهوم المرتدّ فاتّسعت دائرة الفرق، ومع هذا فالنّسبة بينهما على حالهما، وفي الزّنديق قيد آخر اعتبره أيضا أهل الشّرع وبه أيضا يفارق المرتدّ وهو أن يكون معترفا بنبوّة نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم على ما صرّح به العلّامة التّفتازانيّ في شرحه للمقاصد حيث قال في تفصيل فرق الكفّار: قد ظهر أنّ الكافر اسم لمن لا إيمان له، فإن أظهر الإيمان خصّ باسم المنافق وإن كفر بعد الإسلام خصّ باسم المرتدّ لرجوعه عن الإسلام، وإن قال بإلهين وأكثر خصّ باسم المشرك لإثباته الشّريك في الألوهيّة، وإن كان متديّنا ببعض الأديان والكتب المنسوخة خصّ باسم الكتابيّ كاليهوديّ والنّصرانيّ، وإن كان يقول بقدم الدّهر وإسناد الحوادث إليه خصّ باسم الدّهريّ، وإن كان لا يثبت الباري تعالى خصّ باسم المعطّل، وإن كان مع اعترافه بنبوّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وإظهاره عقائد الإسلام يبطن عقائد هي كفر بالاتّفاق خصّ بالزّنديق. إلّا أنّ أهل الشّرع إنّما اعتبروا القيد المذكور في الزّنديق الإسلاميّ لا في مطلق الزّنديق لأنّه قد يكون من المشركين، وقد يكون من أهل الذّمّة.
الفرق بين الزنديق وغيره من أصناف الكفار:
وأمّا الفرق بين الزّنديق والمنافق مع اشتراكهما في إبطان الكفر: هو أنّ الزّنديق معترف بنبوّة نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، دون المنافق وهذا الفرق بين الزّنديق من أهل الإسلام والمنافق الاصطلاحيّ. وأمّا الفرق بين الزّنديق والدّهريّ فيما ذكر فإنّ الدّهريّ ينكر استناد الحوادث إلى الصّانع المختار بخلاف الزّنديق. وأمّا
__________
(1) الفتح (12/ 282- 283) ، ونيل الأوطار للشوكاني (8/ 4) .(10/4586)
الفرق بينه وبين الملحد الّذي يعتبر أيضا- من زمرة الكفرة على ما دلّ قول حافظ الدّين الكرديّ في فتاواه:
لو قال أنا ملحد يكفر فيما أنّ الاعتراف بنبوّته صلّى الله عليه وسلّم معتبر في الزّنديق دون الملحد وإن لم يكن عدم الاعتراف دون الملحد وإن لم يكن بالعدم أيضا معتبرا فيه. وبهذا أي بعدم اعتبار القول بعدم الصّانع المختار في الملحد يفارق الملحد الدّهريّ.
أحكام الزنادقة:
وقال الآمديّ في أبكار الأفكار: حكم أموال الزّنادقة حكم المرتدّين فلا تقبل منهم جزية ولا تنكح نساؤهم ولا دية على قاتل واحد منهم، فإن استرقّ لحق واحد منهم بدار الحرب وسبي، ولو تاب واحد منهم فإن كان ذلك ابتداء منه غير خوف قبلت توبته، وإن كان ذلك خوفا من القتل بعد الظّهور على بدعته فقد اختلف في قبول توبته فقبلها الشّافعيّ وأبو حنيفة ومنع من ذلك مالك وبعض أصحاب الشّافعيّ وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق ولو قتل واحد منهم أو مات فما له مخمّس عند الشّافعيّ وأبي حنيفة، وعند مالك ماله كلّه لا خمس فيه. قلت: لا بعد فيه فإنّ الزّنديق يموّه كفره ويروّج العقيدة الفاسدة ويخرجها في الصّورة الصّحيحة وهذا معنى إبطانه الكفر فلا ينافي إظهاره الدّعوة إلى الملّة الضّالّة. فالملحد أوسع فرق الكفر جدّا، فافهم هذا الفرق.
أنواع الزندقة:
والزّنادقة على ثلاثة أوجه: إمّا أن يكون زنديقا من الأصل على الشّرك أو يكون مسلما فتزندق أو يكون ذمّيّا فتزندق. ففي الوجه الأوّل يترك على شركه، وفي الوجه الثّاني يعرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلّا قتل لأنّه مرتّد، وفي الوجه الثّالث يترك على حاله لأنّ الكفر ملّة واحدة «1» .
[للاستزادة: انظر صفات: الإلحاد- الردة- الشرك- الكفر- الضلال- النفاق- الرياء- اتباع الهوى- الفجور- الإعراض- التفريط والإفراط.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الإيمان- الإسلام- الثبات- الهدى- اليقين] .
الأحاديث الواردة في ذمّ «الزندقة»
انظر صفات: الإلحاد، والردة، والشرك، والكفر، والنفاق، والرياء.
__________
(1) مخطوط جزء من مجموع رسالة الزنديق لابن كمال باشا (157- 163) باختصار.(10/4587)
من الآثار الواردة في ذمّ «الزندقة»
1-* (قال مالك بن أنس- رحمه الله-:
«توبة الزّنديق لا تقبل» وهذا يحكى عن أحمد بن حنبل- رحمه الله تعالى-) * «1» .
2-* (قال ابن تيميّة- رحمه الله تعالى-:
«الزّنديق يجب قتله» ) * «2» .
من مضار «الزندقة»
(1) شيوع الزّندقة يغري ضعاف الإيمان بالانزلاق إليها.
(2) انتشار المعصية، فليس بعد الكفر ذنب، ومن ثمّ يسهل على الزّنديق ارتكابها.
(3) اضطراب المجتمع، فإنّ الزّنادقة لا يحكمهم مبدأ، ومن ثمّ فإنّهم يفعلون ما تدعوهم إليه أهواؤهم بغير رعاية لحقوق الآخرين.
(4) انصراف النّاس إلى الشّهوات وتلبية دعوة الهوى يضعف المجتمع فيطمع فيه أعداؤه ويستولون عليه ويسلبون عزّته وكرامته.
__________
(1) شرح مسلم للنووي (1/ 206) .
(2) مجموع الفتاوى (2/ 378) .(10/4588)
[حرف السين]
السحر
السحر لغة:
مصدر قولهم: سحره يسحره أي خدعه، وهو مأخوذ من مادّة «سحر» الّتي تدلّ على أصول ثلاثة، يقول ابن فارس: السّين والحاء والرّاء أصول ثلاثة متباينة: أحدها عضو من الأعضاء، والآخر خدع وشبهه، والثّالث: وقت من الأوقات.
فالعضو: السّحر، وهو ما لصق بالحلقوم والمريء من أعلى البطن. وأمّا الثّاني فالسّحر، قال قوم: هو إخراج الباطل فى صورة الحقّ، ويقال، هو الخديعة ... وأمّا الوقت فالسّحر والسّحرة وهو قبل الصّبح، وجمع السّحر أسحار.
ويقال سحره إذا خدعه، وكذلك إذا علّله، والتّسحير مثله، وقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (الشعراء/ 153) يقال: المسحّر: الّذي خلق ذا سحر. ويقال: من المعلّلين، والسّحر: عمل تقرّب فيه إلى الشّيطان، وبمعونة منه، كلّ ذلك الأمر كينونة للسّحر، ومن السّحر الأخذة الّتي تأخذ العين حتّى يظنّ أنّ الأمر، كما يرى، وليس الأمر على ما يرى وكلّ ما لطف مأخذه ودقّ فهو سحر، والجمع أسحار وسحور. وأصل السّحر صرف الشّيء عن حقيقته إلى
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
30/ 12/ 8
غيره فكأنّ السّاحر- لمّا أرى الباطل في صورة الحقّ وخيّل الشّيء على غير حقيقته- قد سحر الشّيء عن وجهه أي صرفه. والعرب إنّما سمّت السّحر سحرا لأنّه يزيل الصّحّة إلى المرض، وإنّما يقال سحره أي أزاله عن البغض إلى الحبّ، وقال الكميت:
وقاد إليها الحبّ فانقاد صعبه ... بحبّ من السّحر الحلال التّحبّب
ورجل ساحر من قوم سحرة وسحّار، وسحّار من قوم سحّارين.
والسّحر البيان في فطنة، وقد جاء في الحديث «إنّ من البيان لسحرا» قال ابن الأثير: أي منه ما يصرف قلوب السّامعين، وإن كان غير حقّ، وقيل:
معناه أنّ من البيان ما يكسب من الإثم، ما يكتسبه السّاحر بسحره، فيكون في معرض الذّمّ، ويجوز أن يكون في معرض المدح؛ لأنّه تستمال به القلوب، ويرضى به السّاخط، ويستنزل به الصّعب والسّحر:
الفساد. وطعام مسحور، إذا أفسد عمله، وأرض مسحورة: أصابها من المطر أكثر ممّا ينبغى، فأفسدها.
وغيث ذو سحر، إذا كان ماؤه أكثر ممّا ينبغي وسحر المطر الطّين والتّراب سحرا، أفسده فلم يصلح للعمل.(10/4589)
وسحره بكلامه، استماله برقّته وحسن تركيبه..
وإذا أطلق ذمّ فاعله، وقد يستعمل مقيّدا فيما يمدح «1» .
السحر اصطلاحا:
قال ابن قدامة- رحمه الله-: هو عقد ورقى يتكلّم به أو يكتبه السّاحر أو يعمل شيئا يؤثّر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له.
وقالا لتّهانويّ: هو الإتيان بخارق عند مزاولة قول أو فعل محرّم في الشّرع أجرى الله سبحانه عنده ابتداء «2» .
وقال الكفويّ: السّحر: كلّ ما لطف مأخذه ودقّ، وهذا في السّحر الحلال «3» ، أمّا السّحر الحرام المنهيّ عنه فقد عرّفه بقوله: مزاولة النّفوس الخبيثة لأفعال وأحوال يترتّب عليها أمور خارقة للعادة لا يتعذّر معارضته، ويطلق على ما يفعله صاحب الحيل بمعونة الآلات والأدوية، وما يريك إيّاه صاحب خفّة اليد «4» .
وقال بعضهم: السّحر: قلب الحواسّ في مدركاتها عن الوجه المعتاد في صحّتها عن سبب باطل لا يثبت مع ذكر الله عليه وقيل: أمر خارق للعادة صادر عن نفس شرّيرة ولا يتعذّر معارضته «5» .
السحر حقيقة وتخيل:
قال الرّاغب: السّحر يقال على معان:
الأوّل: الخداع وتخييلات لا حقيقة لها نحو ما يفعله المشعوذ بصرف الأبصار عمّا يفعله لخفّة يد، وما يفعله النّمّام بقول مزخرف عائق للأسماع، وعلى ذلك قوله تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ (الأعراف/ 116) .
الثّاني: استجلاب معاونة الشّيطان بضرب من التّقرّب إليه، كما في قوله تعالى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (البقرة/ 102) .
الثّالث: ما يذهب إليه الأغتام (جمع أغتم وهو الّذي لا يفصح شيئا) وهو اسم لفعل يزعمون أنّه من قوّته يغيّر الصّور والطّبائع فيجعل الإنسان حمارا ولا حقيقة له عند المحصّلين.
وقد تصوّر من السّحر تارة حسنه فقيل: إنّ من البيان لسحرا، وتارة دقّة فعله حتّى قالت الأطبّاء:
الطّبيعة ساحرة، وسمّوا الغذاء سحرا من حيث إنّه يدقّ ويلطف تأثيره «6» .
ثمّ إنّ السّحر يطلق ويراد به الآلة الّتي يسحر بها، ويطلق ويراد به فعل السّحر، والآلة تارة تكون معنى من المعاني فقط، كالرّقى والنّفث في العقد وتارة تكون بالمحسوسات كتصوير الصّورة على صورة المسحور وتارة بجمع الأمرين: الحسّيّ والمعنويّ وهو
__________
(1) مقاييس اللغة (3/ 138) ، الصحاح (2/ 679) .، اللسان (سحر) (3/ 1951، 1952) .
(2) المغني لابن قدامة (8/ 150) .
(3) الكليات (495) ، ومن ذلك السحر الكلامي الذي عرفه بقوله: غرابة الكلام ولطافته المؤثرة في القلوب المحولة إياها من حال إلى حال كالسحر (510) .
(4) الكليات (510) .
(5) التوقيف (191) .
(6) المفردات للراغب (226) ، والتوقيف على مهمات التعاريف (191) .(10/4590)
أبلغ، واختلف في السّحر فقيل: هو تخييل فقط ولا حقيقة له.
قال النّوويّ: والصّحيح أنّ له حقيقة وبه قطع الجمهور وعليه عامّة العلماء، ويدلّ عليه الكتاب والسّنّة الصّحيحة المشهورة.
قال المازريّ: جمهور العلماء على إثبات السّحر وأنّ له حقيقة، ونفى بعضهم حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة، وهو مردود لورود النّقل بإثبات السّحر، ولأنّ العقل لا ينكر أنّ الله قد يخرق العادة عند نطق السّاحر بكلام ملفّق أو تركيب أجسام أو مزج بين قوى على ترتيب مخصوص، ونظير ذلك ما يقع من حذّاق الأطبّاء من مزج بعض العقاقير ببعض حتّى ينقلب الضّارّ منها بمفرده فيصير بالتّركيب نافعا.
الفرق بين السحر والمعجزة والكرامة:
والفرق بين السّحر والمعجزة والكرامة: أنّ السّحر يكون بمعاناة أقوال وأفعال حتّى يتمّ للسّاحر ما يريد، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك بل إنّما تقع غالبا اتّفاقا، وأمّا المعجزة فتمتاز عن الكرامة بالتّحدّي، ونقل إمام الحرمين الإجماع على أنّ السّحر لا يظهر إلّا من فاسق، وأنّ الكرامة لا تظهر على فاسق «1» .
حكم السحر:
قال الكفويّ: الصّحيح أنّ تعلّمه حرام مطلقا لأنّه توسّل إلى محظور عنه غنى، وتوقّيه بالتّجنّب أصلح وأحوط.
وقال الإمام الذّهبيّ: السّاحر لابدّ وأن يكفر؛ إذ ليس للشّيطان الملعون غرض في تعليمه الإنسان السّحر إلّا ليشرك بالله، وترى خلقا كثيرا من الضّلّال يدخلون في السّحر ويظنّونه حراما فقط، وما يشعرون أنّه الكفر، وحدّ السّاحر: القتل، لأنّه كفر بالله أو مضارع له، وهو من السّبع الموبقات، وقد جعل من الشّرك لاعتقاد الجهّال أنّ ذلك يؤثّر بخلاف ما قدّر الله تعالى «2» وقد عدّه الإمام ابن حجر ضمن الكبائر، وحدّه عنده: كلّ كلام يغيّر الإنسان أو شيئا من أعضائه، وهو من كبائر اللّسان «3» .
[للاستزادة: انظر صفات: التطير- الفساد- الكفر الوهم- انتهاك الحرمات- الضلال- الغي والإغواء.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الإيمان- الاستقامة- اليقين- الهدى- تعظيم الحرمات- الصلاح- الأمن من المكر- العفة] .
__________
(1) البخاري- الفتح (10/ 233) .
(2) الكبائر (14- 16) باختصار وتصرف يسير.
(3) الزواجر (15) .(10/4591)
الآيات الواردة في «السحر»
1- وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ
وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ
(102) «1»
2- إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) «2»
3- قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) * وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119)
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) «3»
__________
(1) البقرة: 101- 102 مدنية
(2) المائدة: 110 مدنية
(3) الأعراف: 111- 122 مكية(10/4592)
4- وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) «1»
5- أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) «2»
6- فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) «3»
7- وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) «4»
8- وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) «5»
9- نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (47) «6»
10- قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا
__________
(1) الأعراف: 132 مكية
(2) يونس: 2 مكية
(3) يونس: 76- 81 مكية
(4) هود: 7 مكية
(5) الحجر: 14- 15 مكية
(6) الإسراء: 47 مكية(10/4593)
النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65)
قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) «1»
11- اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) «2»
12- قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) «3»
13- وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً
(8) «4»
__________
(1) طه: 57- 73 مكية
(2) الأنبياء: 1- 3 مكية
(3) المؤمنون: 88- 90 مكية
(4) الفرقان: 7- 8 مكية(10/4594)
14- فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40)
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)
فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46)
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) «1»
15- قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) «2»
16- قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) «3»
17- فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) «4»
18- فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) «5»
19- فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) «6»
20- وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) «7»
21- وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) «8»
22- وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23)
إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) «9»
__________
(1) الشعراء: 32- 47 مكية
(2) الشعراء: 49 مكية
(3) الشعراء: 185 مكية
(4) النمل: 13 مكية
(5) القصص: 36 مكية
(6) القصص: 48 مكية
(7) الصافات: 14- 15 مكية
(8) ص: 4 مكية
(9) غافر: 23- 24 مكية(10/4595)
23- وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) «1»
24- وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) «2»
25- وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) «3»
26- وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) «4»
27- كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) «5»
28- أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) «6»
29- اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) «7»
30- ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23)
فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) «8»
__________
(1) الزخرف: 30 مكية
(2) الزخرف: 49 مكية
(3) الأحقاف: 7 مكية
(4) الذاريات: 38- 40 مكية
(5) الذاريات: 52 مكية
(6) الطور: 15 مكية
(7) القمر: 1- 2 مكية
(8) المدثر: 23- 24 مكية(10/4596)
الأحاديث الواردة في ذمّ (السحر)
1-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجتنبوا السّبع الموبقات «1» » قيل:
يا رسول الله، وما هنّ؟ قال: «الشّرك بالله، والسّحر، وقتل النّفس الّتي حرّم الله إلّا بالحقّ، وأكل مال اليتيم، وأكل الرّبا، والتّولّي يوم الزّحف، وقذف المحصنات الغافلات «2» المؤمنات» ) * «3» .
2-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
إنّ نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قضى الله الأمر في السّماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنّه سلسلة على صفوان «4» ، فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربّكم؟ قالوا للّذي قال: الحقّ وهو العليّ الكبير، فيسمعها مسترق السّمع، ومسترق السّمع هكذا بعضه فوق بعض- ووصف سفيان بكفّه فحرفها وبدّد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثمّ يلقيها الآخر إلى من تحته حتّى يلقيها على لسان السّاحر أو الكاهن فربّما أدركه الشّهاب قبل أن يلقيها، وربّما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيصدّق بتلك الكلمة الّتي سمعت من السّماء» ) * «5» .
3-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- أنّ ضمادا قدم مكّة. وكان من أزد شنوءة وكان يرقي «6» من هذه الرّيح «7» . فسمع سفهاء من أهل مكّة يقولون:
إنّ محمّدا مجنون، فقال: لو أنّي رأيت هذا الرّجل لعلّ الله يشفيه على يديّ. قال فلقيه فقال: يا محمّد، إنّي أرقي من هذه الرّيح، وإنّ الله يشفي على يدي من شاء. فهل لك «8» ؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأنّ محمّدا عبده ورسوله. أمّا بعد» . قال:
فقال: أعد عليّ كلماتك هؤلاء. فأعادهنّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرّات. قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول السّحرة وقول الشّعراء. فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر «9» . قال:
فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام. قال: فبايعه.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «وعلى قومك» قال: وعلى قومي.
قال: فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريّة فمرّوا بقومه فقال
__________
(1) الموبقات: المهلكات.
(2) المحصنات الغافلات: المحصنات بكسر الصاد وفتحها. والمراد بالمحصنات هنا العفائف، وبالغافلات، الغافلات عن الفواحش وما قذفن به.
(3) البخاري- الفتح 10 (5764) . ومسلم (89) واللفظ له.
(4) سلسلة على صفوان: السلسلة من الحديد على الصفوان الذي هو الحجر الأملس.
(5) البخاري- الفتح 8 (4800) .
(6) يرقي: من الرقية وهي العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة.
(7) من هذه الريح: المراد بالريح، هنا، الجنون ومس الجن.
(8) فهل لك: أي فهل لك رغبة في رقيتي، وهل تميل إليها.
(9) ناعوس البحر: قال القاضي عياض: أكثر نسخ صحيح مسلم وقع فيها قاموس. قال أبو عبيد: قاموس البحر وسطه. وقال ابن دريد: لجته. وقال صاحب كتاب العين: قعره الأقصى.(10/4597)