بالبيت، وقد أخرت قريش عودته إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فحسب المسلمون أنها قتلته «1» ، وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن عثمان قد قتل «2» فدعا أصحابه إلى البيعة تحت شجرة سمرة، فبايعوه جميعا على الموت «3» سوى الجد بن قيس وكان من المنافقين «4» ، وكان أول من بايع من الصحابة أبو سنان عبد الله بن وهب الأسدي «5» وتابعه الصحابة يبايعون النبي صلّى الله عليه وسلّم على بيعته فأثنى عليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «أنتم خير أهل الأرض» «6» وقال صلّى الله عليه وسلّم أيضا: «لا يدخل النّار إن شاء الله من أصحاب الشّجرة أحد الّذين بايعوا تحتها» «7» .
ولما كان عثمان بن عفان قد حبس في مكة، فقد أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى يده اليمنى وقال: «هذه يد عثمان» ، فضرب بها على يده، وقال: «هذه لعثمان» «8» وبذلك فقد عدّ عثمان بن عفان- رضي الله عنه- في المبايعين تحت الشجرة. وقبل أن تتطور الأمور وتتأزم، عاد عثمان إلى معسكر المسلمين بعد بيعة الرضوان هذه مباشرة. وقد عرفت البيعة بذلك لأن الله تعالى أخبر أنه رضي عن المبايعين فيها فقال جل جلاله: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً* وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً «9» .
أرسلت قريش عددا من المبعوثين للتفاوض مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد سفارة بديل بن ورقاء، فقد أرسلوا عروة بن مسعود الثقفي، وقبل أن يباشر عروة ما عهدت به إليه قريش، ورغبة منه في منع تكرار ما حصل مع بديل قبله من تعنيف وسوء المقالة، وضح لهم موقفه منهم وأقروا له بأنه غير متهم لديهم، ثم أوضح لهم أن ما عرضه عليهم محمد صلّى الله عليه وسلّم هو أمر رشد دعاهم إلى قبوله، فوافقوا على رأيه، وعندما وصل عروة إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، قال له مثل ما قال لبديل فأجابه عروة: «أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله
__________
(1) أحمد- المسند 4/ 324 باسناد حسن وقد تقدم.
(2) أحمد- المسند 4/ 324.
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري حديث 4169) ، مسلم- الصحيح- كتاب الإمارة (ص/ 81) ، وفي رواية صحيحة أخرى كانت البيعة على الصبر وعدم الفرار، البخاري- الصحيح (حديث 4169) ، مسلم- الصحيح (3/ 1483، حديث 1856) ، ولا تعارض في ذلك لأن المبايعة على الموت تعني الصبر وعدم التولي، انظر ابن حجر- فتح الباري (شرح الحديث 4169 ج 6/ 118) .
(4) مسلم- الصحيح 3/ 1483 (حديث 1856) وانظر كتاب الإمارة (ص/ 69) من حديث الصحابي جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- وهو من الذين بايعوا تحت الشجرة.
(5) ابن حجر- الإصابة ط/ 95- 96 من حديث الشعبي، وقال: وأخرجه ابن منده من طريق عاصم عن ذر بن حبيش، وصححهما.
(6) البخاري- الصحيح (فتح الباري، حديث 4154) .
(7) مسلم- الصحيح- كتاب فضائل الصحابة 4/ 1942 حديث 2496) .
(8) البخاري- الصحيح (فتح الباري، حديث 3698) .
(9) القرآن الكريم- سورة الفتح، الآيات 18- 19، وانظر الطبري- التفسير 26/ 86.(1/337)
قبلك؟ «1» .. ولاحظ عروة مبلغ تعظيم المسلمين للرسول صلّى الله عليه وسلّم وحبهم له وتفانيهم في طاعته، فلما رجع إلى مكة، قال لقريش: «أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكا قط، يعظمه أصحابه مثل ما يعظم أصحاب محمد محمدا» «2» .
وبعثت قريش بعد ذلك سيد الأحابيش، الحليس بن علقمة الكناني، فلما اقترب من معسكر المسلمين ورآه النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إنّ هذا من قوم يتألّهون فابعثوا الهدي في وجهه حتّى يراه» «3» ، كما أمر المسلمين أن يلبّوا، فلما رأى الحليس الهدي في قلائده، وسمع تلبية المسلمين عاد أدراجه قبل أن يصل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذلك إعظاما لما رأى، وقال لقريش: «رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت» «4» ، فكان جوابهم عليه أن طلبوا منه السكوت واتهموه بالجهل «5» ، وقد أنكر الحليس عليهم موقفهم وقال: «يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، أيصدّ عن بيت الله من جاءه معظما له؟! والذي نفس الحليس بيده لتخلنّ بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد» ، فقالوا له: «كف عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به» «6» .
أرسل زعماء قريش مكرز بن حفص الذي وصفه النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه «رجل فاجر» ، ثم أعقبوه بسهيل بن عمرو، فتفاءل النبي صلّى الله عليه وسلّم بقدومه قائلا لأصحابه: «لقد سهّل لكم أمركم» «7» ، وقال صلّى الله عليه وسلّم «قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل» «8» ، وكانت قريش قد ألزمت سهيل بن عمرو أن «لا يكون في صلحه (محمدا) إلّا أن يرجع عنا عامه هذا، فو الله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا» ، فلما انتهى إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم تكلم فأطال الكلام، وتراجعا، ثم جرى بينهما الصلح «9» .
بدأ الرسول صلّى الله عليه وسلّم يملي شروط الصلح، وعلي بن أبي طالب- رضي الله عنه- هو كاتب الصحيفة «10» ، وأراد النبي صلّى الله عليه وسلّم إعطاء عقد الصلح صبغة إسلامية فبدأه بالبسملة، فاعترض سهيل قائلا: «ما (الرحمن) فو الله ما أدري ما هو ولكن اكتب (باسمك اللهم) كما كنت تكتب» ، ورفض المسلمون ذلك، ولكن النبي صلّى الله عليه وسلّم وافق على اعتراض سهيل، ثم اعترض سهيل على عبارة «محمد رسول الله» التي وردت في صدر الصحيفة قائلا: «والله لو كنا
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري- الاحاديث 2731- 2732) ، أحمد- المسند 4/ 324 باسناد حسن.
(2) مصادر الهامش السابق.
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 2731) .
(4) المرجع السابق (الحديث 2732) .
(5) ورد في الرواية الصحيحة قولهم له: «اجلس، إنما أنت أعرابي لا علم لك» ، مع أنهم كانوا قد أوفدوه ليفاوض نيابة عنهم.
(6) البخاري- الصحيح (فتح الباري- الأحاديث 2731، 2732) .
(7) المرجع السابق (الأحاديث 2731- 2732) .
(8) المرجع السابق نفسه، وانظر ابن هشام- السيرة 3/ 439 من حديث برواية ابن إسحاق وبإسناد حسن.
(9) البخاري- الصحيح (الأحاديث 2731- 2) ، ابن هشام- السيرة 3/ 439.
(10) صرح بهذه التسمية الشيخان (البخاري- الصحيح حديث 2698- 2699، مسلم- الصحيح 3/ 1410 حديث 1783) .(1/338)
نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب «محمد بن عبد الله» فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «والله إنّي لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمّد بن عبد الله» ، وحين أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يثبت في صحيفة الصلح عبارة «على أن تخلّوا بيننا وبين البيت فنطوف به» إعترض سهيل قائلا: «والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة (قهرا) ، ولكن ذلك في العام المقبل، فنخرج عنها فتدخلها في أصحابك، فأقمت فيها ثلاثا معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب» ، فوافق النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك «1» ، ثم قال سهيل: «وعلى أن لا يأتيك منا رجل- وإن كان على دينك- إلّا رددته إلينا» فقال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن تردّه إليّ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّا لم نقض الكتاب بعد» ، فقال سهيل: «والله إذا لن أصالحك على شيء أبدا» ، وقد حاول النبي صلّى الله عليه وسلّم استثناء أبا جندل من الشرط غير أن سهيلا أصر على موقفه رغم موافقة مكرز بن حفص على طلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلم يجد النبي صلّى الله عليه وسلّم إزاء إصرار سهيل بدّا من إعادته إليه «2» .
وقد تم الاتفاق في الصلح بعد ذلك «على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض. وعلى أنه من أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أصحابه بغير إذن وليه رده عليهم، ومن أتى قريشا ممن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يردّوه عليه. وأن بيننا عيبة مكفوفة (صدور نقية) وأنه لا إسلال ولا إغلال (ولا سرقة ولا خيانة) . وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.. «3» ،
وأنك ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة. وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فتدخلها بأصحابك، وأقمت فيهم ثلاثة معك سلاح الراكب، لا تدخلها بغير السيوف في القرب» (أغمادها) . «4»
ولقد تذمر كثير من الصحابة من أغلب شروط هذا الصلح، وخصوصا من التعديلات التي أحدثها سهيل ابن عمرو فيها وأصر عليها، فقد امتنع علي بن أبي طالب عن محو عبارة «رسول الله» التي كانت قد وردت في ديباجة العقد في بادىء الأمر «5» ، وغضب المسلمون لشرط رد المسلمين لإخوانهم الذين يفرون من مكة إلى
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري، الحديثان 2731- 2732) .
(2) المرجع السابق نفسه، مسلم- الصحيح 3/ 1410 حديث 1783، عبد الرزاق الصنعاني- المصنف 5/ 343.
(3) ورد في ثنايا الرواية عن الصلح بعد هذا الموضع من المتن قوله: «فتواثبت خزاعة فقالوا نحن مع عقد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعهده، وتواثبت بكر فقالوا نحن مع عقد قريش وعهدهم» . ولا شك أن هذا قد حصل في وقت لاحق، بناء على ما ورد في العقد وهو ليس جزءا منه، انظر أحمد- المسند 4/ 325.
(4) أحمد- المسند 4/ 325، ابن هشام- السيرة 3/ 308 بإسناد حسن.
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري حديث 2699، 4251، 2698، وقد حصل التباس في تحديد الشخص الذي تولّى الكتابة عند امتناع علي- رضي الله عنه- عن ذلك، أورد الامام مسلم في صحيحه أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لعلي رضي الله عنه: «أرني مكانها» فأراه مكانها فمحاها-(1/339)
المعسكر الإسلامي بغير إذن أوليائهم، وسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا رسول الله تكتب هذا؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «نعم.. إنّه من ذهب إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا» «1» .
ولقد ظهر الغضب الشديد على عمر بن الخطاب بسبب ما تضمنته شروط الصلح التي تصور أنها مهينة وأنها لا تعكس موقفا صلبا في الدفاع عن الحق، ولنستمع من عمر- رضي الله عنه- إلى ردة فعله حينذاك، قال: «فأتيت نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: ألست نبي الله حقّا؟، قال: «بلى» . قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: «بلى» ، قلت:
فلم نعط الدنية في ديننا إذا؟ قال: «إنّى رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري» ، قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: «بلى. أفأخبرتك أنّك تأتيه العام؟»
قلت: لا، قال: «فإنّك آتيه ومطوّف به» «2» .
ولما أعاد عمر- رضي الله عنه- الكلام مع أبي بكر- رضي الله عنه- بمثل ما كلم النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال له أبو بكر: «يا عمر: إنه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولن يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فو الله إنه على الحق» «3» .
ولم يكن المسلمون يشكّون في أنهم سيدخلون مكة ويطوفون بالبيت العتيق كما سبق وأعلمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما جرى صلح الحديبية على الشروط التي تضمنها، فإنهم تألموا وساورت بعضهم الشكوك «حتى كادوا أن يهلكوا» وخصوصا حين أعيد أخوهم أبو جندل وهو يستنجد بهم قائلا: يا معشر المسلمين: أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني عن ديني» والرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يا أبا جندل اصبر واحتسب فإنّ الله- عزّ وجلّ- جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا» «4» .
وكان عمر يمشي بجانب أبي جندل يغريه بأبيه ويقرب إليه سيفه ولكن أبا جندل لم يفعل، فأعيد إلى المشركين «5» .
ولم تكف قريش عن التحرش بالمسلمين خلال مرحلة المفاوضات وكتابة وثيقة الصلح بل حتى بعد إنجاز
__________
- رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكتب مكانها «ابن عبد الله» ، ولا يستدل من ذلك على معرفته صلّى الله عليه وسلّم القراءة والكتابة فإن معرفة رسم هاتين الكلمتين ومحوه لهما أو معرفته رسم اسمه صلّى الله عليه وسلّم مما يتكرر كتابته أمامه كثيرا من قبل كتابه، لا يخرجه عن كونه أميّا كما وصفه القرآن الكريم، وذهب الجمهور إلى أن المقصود من قوله «كتب» بمعنى أمر بالكتابة انظر ابن حجر- فتح الباري 7/ 504 (حديث 4251) .
(1) مسلم- الصحيح- كتاب الجهاد ص/ 93، (3/ 1411- حديث 1084) .
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري، حديث 2731- 2732، 3182) ، مسلم- الصحيح 3/ 1412، حديث 1785، أحمد- المسند 4/ 325 باسناد حسن.
(3) البخاري- الصحيح الأحاديث 2731، 2732، 3182، وفي مسند أحمد 4/ 325 بإسناد حسن حيث صرح ابن إسحاق بالتحديث (ابن هشام- السيرة 3/ 308) وفيه أن عمر- رضي الله عنه- تكلم أولا مع أبي بكر- رضي الله عنه- ثم أعاد الكلام مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفيه قوله: يا عمر الزم غرزه (أي تمسك بأمره) حيث كان فإني أشهد أنه رسول الله قال عمر: وأنا أشهد» ... كما نقل قول عمر- رضي الله عنه-: «ما زلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرا، ويرى ابن حجر أن «جميع ما صدر منه كان معذورا فيه بل هو مأجور لأنه مجتهد» فتح الباري 5/ 346- 7.
(4) أحمد- المسند 4/ 325.
(5) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.(1/340)
ذلك؛ وربما كان ذلك من أساليب الضغط على المسلمين خلال مرحلة المفاوضات، وقد تكون التحرشات المتأخرة بسبب طيش شبابها وتهورهم، غير أن الملاحظ هو أن المسلمين قد احتملوا تلك التحرشات بصبر وجلد، وانضباط دقيق، مع يقظة تامة واستعداد، وعند ما حاولت مجموعة كبيرة من رجال قريش قاربت ثمانين رجلّا الاستيلاء على معسكر المسلمين بشكل مباغت، سارع المسلمون بتطويقهم وأسرهم، ثم عفا الرسول صلّى الله عليه وسلّم عنهم فأطلق سراحهم «1» ، ثم أسر المسلمون بعد ذلك ثلاثين شابّا من قريش اعتدوا على معسكرهم، وأطلق النبي صلّى الله عليه وسلّم سراحهم «2» .
كما عفا صلّى الله عليه وسلّم عن سبعين آخرين أسروا بعد إبرام الصلح، وعن أربعة آخرين كانوا يقعون بالرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد عقد الصلح واختلاط المسلمين بالمشركين «3» ، وفي ذلك نزل قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ «4» .
وحينما تم الصلح وأبرم العقد، أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم من معه من المسلمين أن ينحروا الهدي ويحلقوا رءوسهم، وكرر ذلك ثلاث مرات فلم يقم أحد منهم بالاستجابة لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذلك ما يعكس الحالة النفسية الانفعالية التي قاسى منها المسلمون حينذاك بسبب استفزازات قريش المتكررة إضافة إلى تصورهم الخاطيء في أن شروط الصلح قد تضمنت إجحافا بهم، وكأنهم كانوا يأملون الرجوع عن الصلح.
قام النبي صلّى الله عليه وسلّم بمشورة من أم المؤمنين أم سلمة- رضي الله عنها- بذبح الهدي وحلق رأسه، فتابعه المسلمون عند ذلك، «فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غمّا» «5» فدعا لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم «6» وبذلك تحلل النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن معه من المسلمين من عمرتهم، وشرع التحلل للمحصر وأنه لا يلزمه القضاء «7» .
وبعد أن أقام المسلمون في الحديبية عشرين يوما «8» عاد بهم النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وكانت غيبتهم هذه عنها قد امتدت شهرا ونصف الشهر «9» .
وفي طريق عودة المسلمين من الحديبية تكررت معجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم في تكثير الطعام والماء «10» ، وأنزلت سورة
__________
(1) مسلم- الصحيح، كتاب الجهاد ص/ 33.
(2) أحمد- المسند 4/ 86 بسند صحيح.
(3) مسلم- الصحيح- كتاب الجهاد (ص/ 132) حديث 1807.
(4) القرآن الكريم- سورة الفتح، الآية/ 24.
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري- الاحاديث 2731، 2732) ، أحمد- المسند 4/ 326.
(6) أحمد- المسند 2/ 34 باسناد صحيح.
(7) البخاري- الصحيح (حديث 2701) ، مسلم- الصحيح، كتاب الجهاد والسير ص/ 97، أبو داود- السنن- كتاب المناسك (م 1749) ، الحاكم- المستدرك 1/ 467.
(8) وقيل سبعة عشر يوما، انظر الواقدي- مغازي 2/ 616، ابن سعد- الطبقات 2/ 98.
(9) ابن سيد الناس- عيون الأثر 2/ 123.
(10) البخاري- الصحيح (فتح الباري، حديث 4152) ، مسلم- الصحيح 3/ 1354 (حديث 1785) ، أحمد- المسند 3/ 417- 418، البيهقي- دلائل النبوة 2/ 222- 3.(1/341)
الفتح، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم واقفا براحلته «بكراع الغمام» ، فأسرع الناس إليه، فقرأ عليهم قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً «1» .
فقال رجل: يا رسول الله أفتح هو؟ قال: «نعم والّذي نفسي بيده إنّه لفتح» «2» ، وأورد البخاري برواية صحيحة»
أن أصحابه قالوا: هنيئا مريئا فما لنا؟ فأنزل الله تعالى: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً «4» ، فانقلبت كآبة المسلمين وحزنهم إلى فرح وحبور، وأدركوا أنهم لا يمكنهم أن يحيطوا بالأسباب والنتائج، وأن الخير كله هو في التسليم لأمر الله ورسوله.
ولقد أتاحت الهدنة المبرمة بين الطرفين للمسلمين فرصة التفرغ لتصفية آخر معاقل يهود في خيبر والتي كانت بؤرة تحريض ومكر ضد الدعوة الإسلامية، كما أتاحت لهم فرصة التفرغ لنشر الإسلام في بطون القبائل، وذلك ما عمل على التعجيل بنشر عقيدة التوحيد على نطاق واسع وهذا ما عناه الزهري في قوله عن صلح الحديبية: «فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلّم أحد بالإسلام بعقل إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك» «5» وقد ساق ابن هشام في السيرة الدليل على صحة قول الزهري ودقته فقال: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف» «6» .
فترة ما بين الحديبية وفتح مكة:
ما إن عاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون إلى المدينة، حتى جاءه أبو بصير مسلما فارّا من قريش. وقد أرسلت قريش اثنين من رجالها مطالبة النبي صلّى الله عليه وسلّم بتنفيذ بنود صلح الحديبية بشأنه، فسلمه النبي صلّى الله عليه وسلّم إليهما، غير أن أبا بصير سرعان ما تمكن من قتل أحد الرجلين وهم في طريق العودة إلى مكة، وفر ثانيهما إلى المدينة وخلفه أبو بصير، فلما انتهى إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال أبو بصير: «قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم نجّاني الله منهم» . فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ويل أمّه، مسعر حرب لو كان له أحد» !. فلما سمع أبو بصير مقالة النبي صلّى الله عليه وسلّم عرف أنه سيرده ثانية إلى
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الفتح، الآية/ 1، البخاري- الصحيح (فتح الباري: حديث 4172) ، وفيه أوضح قتادة رواية عن أنس- رضي الله عنه- أن تفسيره الفتح بالحديبية مأخوذ عن أنس.
(2) أبو داود- سنن، كتاب الجهاد (م 2736) ، أحمد- المسند 3/ 420.
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري، حديث 4172) .
(4) القرآن الكريم- سورة الفتح، الآية/ 5.
(5) ابن هشام- السيرة 3/ 322.
(6) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.(1/342)
قريش، فخرج من المدينة وحده حتى أتى سيف البحر «1» .
فهم المسلمون المستضعفون بمكة من مقالة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي بصير أنه بحاجة إلى أن يدعمه إخوانه من مسلمي مكة، فأخذوا يتسللون من مكة فرارا إلى أبي بصير عند سيف البحر، وكان من بين من لحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرو وآخرون، حتى اجتمعت معه عصبة كبيرة، تسببت في نكبة كبيرة لتجارة قريش إلى الشام، فقد تعرضوا لقوافل قريش التجارية، يقتلون رجالها وحراسها ويستولون على أموالها وعيرها، فاضطرت قريش إلى التنازل عن البند الخاص بإعادة المسلمين الفارّين من قريش إلى ذويهم، وكتبت تستنجد بالنبي صلّى الله عليه وسلّم «تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم إليهم» وهم بناحية العيص، فاستجابوا وقدموا عليه صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة «2» . وبعد هذا الحدث وبعد أن تنازلت قريش عن شرط إعادة المسلمين من قريش إلى ذويهم جاء إسلام خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وهذا عزز معسكر المسلمين وقدراته، وخذّل قريشا وأحرجهم.
ولقد اقتصر الرسول صلّى الله عليه وسلّم في البداية على رد المسلمين الفارّين من الرجال بموجب بنود الصلح، أما النساء فلم يردّهن، ويرجع السبب في ذلك إما لعدم دخولهن في بنود العهد أصلا «3» ، أو لأن القرآن قد نسخ ما ورد بحقهن في العقد في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ «4» .
استمرت هدنة الحديبية نحو السبعة عشر أو الثمانية عشر شهرا، قبل أن تنقض قريش الهدنة حيث أعانت حلفاءها بني بكر ضد خزاعة حلفاء المسلمين على ماء الوتير قرب مكة، مما كان سببا في إبطال المعاهدة ومهد لفتح مكة.
رسائل النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الملوك والأمراء:
لقد كان صلح الحديبية فتحا كبيرا للإسلام، ذلك أنه أتاح الفرصة لتوسيع نطاق الدعوة إلى الله- عز وجل- داخل جزيرة العرب وخارجها، فقد وردت رواية صحيحة «5» ، تضمنت نص كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي بعثه
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 5/ 332 حديث 2731، 2732) .
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري 5/ 332، حديث 2732) ، البيهقي- السنن 9/ 227، وقد وردت روايات متعددة حول عددهم فقد ساقه البيهقي من رواية الزهري مرسلا، ويذكر أنهم كانوا ثلاثمائة رجل في حين وردت روايات أخرى تجعلهم بين 60- 70 رجلا، وفي دلائل النبوة أن أبا بصير توفي قبل أن يقدموا المدينة، وأن أبا جندل قدم بالرجال بعد أن دفنه (2/ 343- 4) .
(3) وقد ورد في نصوص البخاري: «وعلى أنه لا يأتيك منا رجل» انظر (فتح الباري الاحاديث 2711، 2712) ، وقد ورد أيضا نصّا آخر: «وعلى أنه لا يأتيك منا أحد» (فتح الباري 6/ 240) .
(4) القرآن الكريم- سورة الممتحنة، الآية/ 10.
(5) حديث أبي سفيان الطويل في صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم والذي ورد في الصحيحين: البخاري- الصحيح (فتح الباري 1/ 32- الأحاديث 2940- 2941) ، مسلم- الصحيح 3/ 1393- 1397، حديث 1773) .(1/343)
مع دحية الكلبي إلى هرقل- عظيم الروم «1» وذلك في مدّة هدنة الحديبية، وهو كما يلي:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتّبع الهدى: أمّا بعد، فإنّى أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الأريسيّين قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «2» . «3» .
ولقد تسلم هرقل رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم ودقق في الأمر كما في الحديث الطويل المشهور بين أبي سفيان وهرقل المروي في الصحيحين حين سأله عن جميع أحوال النبي، وقال بعد ذلك لأبي سفيان: «إن كان ما تقول حقّا فسيملك موضع قدميّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه» «4» .
وأرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم بكتاب إلى كسرى ملك الإمبراطورية الفارسية، مع عبد الله بن حذافة السهمي، «أمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين «5» ، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فدعا عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يمزّقوا كلّ ممزّق» «6» .
__________
(1) دفعه دحية الكلبي إلى عظيم بصري فدفعه إلى هرقل.
(2) القرآن الكريم- سورة آل عمران، الآية/ 64.
(3) استشكل عدد من الحفاظ المتأخرين ورود هذه الآية في الخطاب الذي ثبت أنه أرسل آخر العام السادس الهجري خلال هدنة الحديبية- وذلك لأنهم قالوا إنها إنما نزلت في السنة التاسعة بمناسبة قدوم وفد نجران، في حين وردت روايات أخرى تشير إلى أنها نزلت في يهود المدينة، ولعل في إيراد الشيخين لها في هذا الموضع ما يشير إلى ترجيهما لنزولها قبل تاريخ الرسالة، وقد وردت تفصيلات عن تتمة الخبر في موارد الظمآن لابن حبان (حديث 1628) بإسناد صحيح، وفي كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص/ 255) بإسناد صحيح، وانظر مسلم (شرح النووي 12/ 107، كتاب الجهاد/ 5، كتب النبي صلّى الله عليه وسلّم) .
(4) مسلم- الصحيح 3/ 1393- 7، (حديث 1773) .
(5) وهو ملك البحرين المنذر بن ساوى كما في شرح المواهب اللدنية للزرقاني (3/ 341) ، ولم يرد في صحيح البخاري اسم عظيم البحرين (فتح 8/ 128) .
(6) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 26/ ح/ 4424) وقد ثبت أن الملك كسرى أبرويز بن هرمز هو الذي تسلم رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومزقها، قد مات في مارس 628 م بمؤامرة دبرها له ولده شيرويه، وذلك يطابق ما أوردته النصوص من أن موته كان بعد ذلك ببضعة أشهر. الرواية مطولة في الطبري- تاريخ 2/ 655- 657، وانظر ابن سعد- الطبقات 1/ 260، وقد حصل اختلاف كبير بين المصادر بشأن تاريخ الرسالة إلّا أن المعوّل عليه هو ما ذكره ابن القيم: أن إرسالها قد جرى في محرم سنة 7 هـ (زاد المعاد 1/ 30) ، وأما في تاريخ خليفة ابن خياط ص/ 79، والواقدي (السيرة لابن هشام 4/ 279) ، والطبري- تاريخ 2/ 288) ، فقد جعلوها سنة 6 هـ، ولم يحدد البخاري تاريخا للرسالة. وإنما مر بذكرها بعد حديثه عن غزوة تبوك دون مراعاة لعنصر الزمن مما يشير إلى أنه أراد الإشعار بها، وذلك ما ذهب إليه ابن حجر (فتح 1/ 39، 8/ 129) .(1/344)
أما نص الرسالة فقد ورد في التاريخ للطبري «1» والأموال لأبي عبيدة القاسم بن سلام «2» ، كما أورده ابن طولون في إعلامه «3» ونص الكتاب كما أورده الطبري كالتالي: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتّبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله، إلى النّاس كافة، لينذر من كان حيّا، أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس» «4» .
أما كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى النجاشي ملك الحبشة فقد ثبت أنه أرسله مع عمرو بن أمية الضمري، وأورد الإمام مسلم خبر إرسال الكتاب، وأوضح أن النجاشي المقصود ليس النجاشي الذي أسلم «5» ، وأورد أبو داود في سننه قطعة من كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى النجاشي «6» . ونقل الزيلعي وابن طولون وغيرهما نص كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى النجاشي برواية الواقدى «7» ، وقد جاء فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله، إلى النّجاشيّ ملك الحبشة، أسلم أنت، فإنّي أحمد إليك الله الّذي لا إله إلّا هو الملك القدّوس السّلام المؤمن المهيمن، وأشهد أنّ عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطّيّبة الحصينة فحملت به، فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده، وإنّي أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة عن طاعته، وأن تتّبعني وتؤمن بالّذي جاءني فإنّي رسول الله، وإنّي أدعوك وجنودك إلى الله- عزّ وجلّ-، وقد بلّغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسّلام على من اتّبع الهدى» «8» .
__________
(1) الطبري- تاريخ الرسل والملوك 2/ 654- 5 وروايته بإسناد مرسل.
(2) أبو عبيد- الأموال 253 بإسناد مرسل.
(3) ابن طولون- إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين ص/ 61- 2.
(4) تاريخ 2/ 654- 655 واورد الطبري بعدها نص الرسالة برواية ابن إسحاق وقد جاء فيها بعد التشهد عبارة، «وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاء الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيّا ويحق القول على الكافرين فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك» (2/ 654- 5) .
(5) مسلم- الصحيح 3/ 1397 حديث 1774، وعن حامل الرسالة انظر أسد الغابة 4/ 193- 4، ابن سعد- الطبقات 2/ 258.
(6) أبو داود- السنن 4/ 490 كتاب الملاحم- النهي عن تهييج الحبشة (حديث 4309) ، ولم يثبت نص الكتاب فقد أورده ابن إسحاق دون إسناد (مسلم- الصحيح 3/ 1397) (حديث 1774) وذكرت المصادر عددا من النصوص الاخرى التي لا تثبت عند المحدثين إذ وردت دون أسانيد صحيحة.
(7) الزيلعي- نصب الراية لأحاديث الهداية 4/ 421، ابن طولون- إعلام السائلين ص 50- 1 ونقل عن ابن المديني نصوص جواب النجاشي إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، انظر ابن طولون- إعلام السائلين ص/ 50، الزيلعي- نصب الراية 4/ 421، الطبري- تاريخ 2/ 653، ابن سيد الناس- عيون الأثر 2/ 264- 265. ومع أن إسلام النجاشي وصلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم صلاة الغائب عليه عند وفاته سنة 9 هـ هي من الأمور الثابتة والصحيحة، فإن حال الكتاب الذي أرسله لم يثبت من طريق صحيح (حميد الله الحيدر آبادي- مجموعة الوثائق- الأرقام 23، 24) .
(8) الزيلعي- نصب الراية 4/ 421.(1/345)
أما كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المقوقس حاكم مصر «1» وكذلك رد المقوقس إليه «2» فلم تثبت من طرق صحيحة، ولا يعني ذلك نفي إرسال الكتاب إليه، كما أن ذلك لا يعني الطعن بصحة النصوص من الناحية التاريخية فربما تكون صحيحة من حيث الشكل والمضمون غير أنها لا يمكن أن يحتج بها في السياسة الشرعية وذلك يسري على معظم وثائق العهد النبوي الأخرى إذ لا مجال لتصحيحها من الناحية الحديثية ولم تعن الكتب الستة بتخريجها مع بعض الاستثناءات، رغم أن الكثير منها يمكن أن يكون صحيحا من الناحية التاريخية «3» ، فلقد أورد محمد بن سعد في طبقاته «4» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث إلى المقوقس، جريج بن مينا ملك الإسكندرية وعظيم القبط، كتابا مع حاطب بن أبي بلتعة اللخمي، وأنه قال خيرا وقارب الأمر، غير أنه لم يسلم وأهدى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم عدة هدايا كان بينها ماريّة القبطية، وأنه لما ورد جواب المقوقس إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ضنّ الخبيث بملكه، ولا بقاء لملكه» «5» .
وأورد الطبري رواية أسندها إلى ابن إسحاق جاء فيها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث شجاع بن وهب، أخا بني أسد ابن خزيمة، برسالة إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق «6» ، حين عودته والمسلمين من الحديبية، وقد تضمن نص الرسالة التي أسندها الطبري إلى محمد بن عمر الواقدي قوله: «سلام على من اتّبع الهدى، وآمن به، إنّي أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقي لك ملكك» . «7»
وقد أظهر الحارث الغساني رفض الإسلام، والامتعاض من محتويات الرسالة، وحشد قواته لغزو المدينة، غير أن هرقل تدخل في الأمر ودعاه إلى إيلياء «8» .
__________
(1) أوردت بعض المصادر التاريخية وكذلك كتب السيرة كتابين نسبوهما إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، غير أنهما لم يثبتا من طريق صحيحة.
(2) ذكرت بعض المصادر كتابين رد بهما المقوقس على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهما لم يثبتا أيضا من طريق صحيحة.
(3) أكرم العمري- السيرة النبوية الصحيحة 2/ 459.
(4) الطبقات الكبرى 1/ 260- 261.
(5) المصدر السابق 1/ 260- 61 برواية الواقدي، وابن هشام- السيرة 1/ 247، وانظر: ابن حجر- الإصابة 3001، 3/ 335، 4/ 405، ابن كثير- البداية 5/ 340. وقد أورد الزيلعي- نصب الراية 4/ 424 نصوص الرسائل المتبادلة بين الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمقوقس وكذلك ابن طولون- إعلام السائلين ص/ 77- 81. وقد عثر المستشرق الفرنسي (ymelehtraB) في منطقة أخميم في صعيد مصر عام 1850 م على رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المقوقس مكتوبة على جلد قديم، وقد نشرها في المجلة الآسيوية 1854 م وقد وثق بها كل من المستشرقين بلين، ونولدكه. ونشر الدكتور عون الشريف قاسم الرسالة في كتابه «دبلوماسية محمد» ص/ 80- 86، ومن الجدير بالذكر أن أقدم نص لرسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المقوقس قد أوردها ابن عبد الحكم في فتوح مصر ص/ 46 ونقلها القسطلاني في المواهب اللدنية 1/ 292- 293.
(6) وهو من أمراء الغساسنة وكانت إقامته على ما يظهر من النص في دمشق، الطبري- تاريخ 2/ 652.
(7) الطبري- تاريخ 2/ 652، والسند الأول من طريق ابن إسحاق، والثاني من طريق الواقدي وكلاهما ضعيف.
(8) ابن سعد- الطبقات 3/ 356، والراجح أن هذه الرسالة قد وصلت الحارث في الوقت نفسه الذي تسلم فيه هرقل رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم التي وجهها له مع دحية الكلبي، وبقية القصة أوردها ابن سيد الناس- عيون الاثر 2/ 270- 71، من رواية الواقدي أيضا وفيها نص الرسالة، وأورد ابن هشام- السيرة 4/ 339 خبر إرسال النبي صلّى الله عليه وسلّم لشجاع بن وهب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني بإسناد ضعيف.(1/346)
وكتب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى هوذة بن علي الحنفي «1» كتابا أرسله مع سليط بن عمرو العامري، مقدمه من الحديبية، وقد اشترط هوذة الحنفي على الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد قراءته رسالته إليه أن يجعل له بعض الأمر معه، فرفض النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقبل ذلك» .
وكتب النبي صلّى الله عليه وسلّم كتابا إلى المنذر بن ساوى العبدي، أمير البحرين، مع أبي العلاء الحضرمي «3» بعد انصرافه من الحديبية، ونقلت المصادر التاريخية أن المنذر قد استجاب لكتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم، وأسلم معه جميع العرب بالبحرين، فأما أهل البلاد من اليهود والنصارى والمجوس فإنهم صالحوا العلاء والمنذر على الجزية من كل حالم دينار «4» ، ونقل أبو عبيد القاسم بن سلام نص كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المنذر بن ساوى برواية عروة بن الزبير، وجاء فيه: «سلام أنت، فإنّي أحمد إليك الله الّذي لا إله إلا هو، أمّا بعد: فإنّ من صلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الّذي له ذمّة الله وذمّة الرّسول، فمن أحبّ ذلك من المجوس فإنّه آمن ومن أبى فإنّ الجزية عليه» «5» .
وفي ذي القعدة سنة ثمان من الهجرة بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن العاص بكتابه إلى جيفر وعبد ابني الجلندى الأزديين بعمان «6» . وقد جاء فيه: «من محمّد النّبيّ رسول الله لعباد الله الأسبذيّين ملوك عمان، وأسد عمان «7» ، ومن كان منهم بالبحرين إنّهم إن آمنوا وأقاموا الصّلاة، وآتوا الزّكاة وأطاعوا الله ورسوله وأعطوا حقّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ونسكوا نسك المؤمنين، فإنّهم آمنون وأنّ لهم ما أسلموا عليه، غير أنّ مال بيت النّار ثنيا لله ورسوله، وأنّ عشور التّمر صدقة، ونصف عشور الحبّ، وأنّ للمسلمين نصرهم ونصحهم، وأنّ لهم على المسلمين مثل ذلك، وأنّ لهم أرحاءهم يطحنون بها ما شاءوا» «8» .
__________
(1) وكان صاحب اليمامة، ومات بعد فتح مكة بقليل، الزيلعي- نصب الراية 4/ 425.
(2) ذكر ابن سعد الخبر في طبقاته (1/ 262) دون أن يذكر نصوص الرسائل المتبادلة، وانظر ابن سيد الناس- عيون الأثر 2/ 269- 270، الزيلعي- نصب الراية 4/ 425، ابن طولون- إعلام السائلين ص/ 105- 107.
(3) أوردها ابن سيد الناس- عيون الأثر 2/ 266- 267، أبو عبيد القاسم- الأموال ص/ 30 من رواية عروة بن الزبير مرسلا، وأرخه قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي في السنة الثامنة للهجرة، ابن طولون- إعلام السائلين ص/ 56- 57 كما أورد ابن سعد في الطبقات 1/ 263، طرفا منها، وانظر الزيلعي نصب الراية 14/ 420، القلقشندي- صبح الأعشى 6/ 368، ابن الأثير- الكامل في التاريخ 2/ 265.
(4) ابن الأثير- الكامل 2/ 146- 147، ولم يورد نص رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم إليه ولا جوابه وكذلك فعل ابن سيد الناس- عيون 2/ 266- 267، وهناك روايات أخرى تشير إلى رسالة الرسول صلّى الله عليه وسلّم الأولى إلى المنذر، ولكنها مؤرخة في رجب سنة 9 هـ منصرفه من تبوك انظر ابن طولون- إعلام السائلين ص/ 58 من رواية الواقدي، وذكر ذلك الزيلعي- تخريج أحاديث الهداية 4/ 419- 420.
(5) أبو عبيد- الأموال ص/ 28.
(6) ابن طولون- إعلام السائلين ص/ 58، الزيلعي- تخريج أحاديث الهداية 4/ 419- 420، القلقشندي- صح 6/ 376.
(7) أشد عمان: قبيلة، يقال لها أزد وأسد (بالزاي والسين) .
(8) أبو عبيد- الأموال ص/ 28- 29، وانظر النص في البلاذري- فتوح ص/ 1/ 96 من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما-، ونص فيه: «ولم تمجّسوا أولادكم، فلكم ما أسلمتم عليه، غير أن بيت النار
لله ورسوله، فإن أبيتم فعليكم الجزية» والمقصود هو أنّ خزائن بيوت النار التي ألغاها الإسلام تصبح فيئا.(1/347)
وأوردت المصادر بعد ذلك عددا كبيرا من المرويات عن رسائل أخرى لم تثبت من الناحية الحديثية منها كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ إلى كل من أهل دما «1» ، ورعية السّحيمي «2» ، ومسيلمة الكذاب «3» ، وعظيم بصري «4» ، وبكر بن وائل «5» ، وبني عمرو بن حمير «6» ، وجبلة بن الأيهم «7» ، وذي الكلاع بن ناكور، وذي عمرو «8» ، ومعد يكرب بن أبرهة «9» ، وأسقف بني الحارث، وأساقفة نجران «10» ، وصاحب أيلة «11» ، وابن ظبيان الأزدي الغامدي «12» ، وزعماء حمير «13» ، ونفاثة بن فروة الدئيلي ملك السماوة «14» . ومن الممكن أن تكون هذه الرسائل صحيحة من الناحية التاريخية، ولكنها تبقى دون الاحتجاج بها في موضوعات العقيدة والشريعة، وإلى جانب ذلك فإن هذه الرسائل في مجموعها تؤكد على عالمية الإسلام وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قام بالتبليغ على أوسع نطاق.
غزوة ذي قرد:
وقعت هذه الغزوة قبل غزوة خيبر بثلاث ليال «15» ، فقد أغار عبد الرحمن بن عيينة بن حصن الفزاري على لقاح «16» لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانت ترعى بذي قرد، فأخذها بعد أن قتل راعيها، وحين علم سلمة بن الأكوع بما حدث فإنه أنذر إخوانه المسلمين وبادر بعد ذلك فلحق بعبد الرحمن الفزاري ورجاله، وأخذ يرميهم بنبله حتى استنقذ اللقاح من أيديهم وتهاربوا عنه حين وصله النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون، وقد أردف النبي صلّى الله عليه وسلّم سلمة بن الأكوع
__________
(1) ابن طولون- إعلام السائلين ص/ 97- 98، ابن الأثير- الكامل 2/ 225، وعن موضع دما وهي من قرى البحرين، انظر: معجم البلدان 2/ 461.
(2) ابن حجر- الإصابة 1/ 516، ابن طولون- إعلام السائلين ص/ 99- 101، وانظر أحمد- المسند 5/ 585.
(3) ابن سعد- الطبقات 1/ 273.
(4) الواقدي- المغازي 2/ 755- 756.
(5) ابن حبان- موارد الظمآن، رقم (1626) . بسنده إلى أنس بن مالك، ابن طولون- إعلام ص/ 132، الزيلعي- نصب الراية 4/ 419.
(6) ابن سعد- الطبقات 1/ 265 من رواية الواقدي.
(7) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(8) المرجع السابق 1/ 265- 266.
(9) المرجع السابق 1/ 266.
(10) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(11) المرجع السابق 1/ 277- 278.
(12) المرجع السابق 1/ 280.
(13) المرجع السابق 1/ 282 من حديث الزهري.
(14) المرجع السابق 1/ 284.
(15) حدد تاريخها الإمام البخاري عند ترجمته لهذه الغزوة وقد رجح ابن حجر في الفتح 7/ 460 (حديث 460) ، وابن كثير في البداية والنهاية 4/ 173 ذلك.
(16) جمع لقحه وهي النياق ذات اللبن.(1/348)
خلفه على راحلته تكريما له حتى دخلوا المدينة. «1»
سرية أبان بن سعيد بن العاص:
لم تحدد المصادر الجهة التي وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه السرية إليها في نجد، كما لم يرد ما يوضح عدد المشاركين فيها، أو نتائجها، وقد عادت السرية على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بخيبر بعد أن تم فتحها «2» .
غزوة خيبر:
كان إجلاء بني النضير عن المدينة ونزول زعمائهم في خيبر حاسما في بلورة موقف معاد ليهود خيبر تجاه المسلمين، وهو أمر لم يكن ظاهرا قبل ذلك «3» ، وحين نزل سلّام بن أبي الحقيق وابن أخيه كنانة بن الربيع، وحيي بن أخطب خيبر فقد دان لهم أهلها بالولاء والطاعة «4» ، وكان لذلك أثره في تصدي يهود خيبر للصراع ضد الإسلام والمسلمين، حيث جرهم قادتهم الجدد إلى التصدي للإسلام بغية الانتقام وبدافع حقدهم الدفين على المسلمين، ورغبتهم العارمة في استعادة ديارهم ومواقعهم ومصالحهم في المدينة ولذلك فقد أجلوا منها. وهكذا فقد قام يهود خيبر وزعماؤهم الجدد بدور بارز في تجميع الأحزاب وحشدهم ضد المسلمين، بل إنهم أنفقوا أموالهم، واستغلوا علاقاتهم مع يهود بني قريظة من أجل نصرة الأحزاب. وطعن المسلمين في ظهورهم «5» ، وهكذا أصبحت خيبر مصدر خطر كبير على المسلمين ودولتهم النامية.
تفرغ المسلمون بعد صلح الحديبية لتصفية خطر يهود خيبر الذي أصبح يهدد أمن المسلمين، ولقد تضمنت سورة الفتح التي نزلت بعد الحديبية وعدا إلهيّا بفتح خيبر وحيازة أموالها غنيمة، قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً* وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً* وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً* وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً «6» .
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 4/ 173، حديث 4194) ، مسلم- الصحيح 3/ 1432- 1441، (حديث 1806) ، ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 173.
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 498- 9، حديث 4238) .
(3) ينقل ابن هشام في السيرة (3/ 272) ما يفيد بأن حادثة إجلاء بني النضير عن المدينة لم يكن كافيا لكسر شوكتهم فقد غادروا المدينة ومعهم النساء والأولاد والأموال بل وحتى القيان، وأنهم خرجوا
في تظاهرة اعتداد بالنفس غريبة، فقد «كانت العازفات خلفهم يضر بن بالدفوف ويزمرن بالمزامير وهم يغادرون بخيلاء وفخر واعتداد بالنفس لم يحصل مثله في حي من الناس في زمانهم» .
(4) المرجع السابق 3/ 273.
(5) ابن هشام- السيرة 3/ 253- 255، وكان ذلك سببا في العقوبة الرادعة التي أنزلت ببني قريظة بعد فشل غزوة الأحزاب، وكذلك في إرسال سرية عبد الله بن عتيك لقتل سلام بن أبي الحقيق (البخاري- الصحيح، فتح الباري- كتاب المغازي 7/ 1340) .
(6) القرآن الكريم- سورة الفتح، الآيات/ 18- 21. وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن الإشارة في قوله تعالى: وعجّل لكم هذه تعني فتح خيبر، انظر ابن كثير- التفسير 7/ 322 وهو قول مجاهد، وانظر ما أورده ابن حجر- فتح الباري 7/ 464 برواية ابن إسحاق عن المسور، ومروان وقولهما: «يعني خيبر» .(1/349)
وقد كانت غزوة خيبر في المحرم من السنة السابعة للهجرة على أرجح الأقوال «1» رغم الخلاف بين مؤلفي كتب السيرة والمغازي حول ذلك «2» .
وقاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم جيش المسلمين وكان عدده ألفا وأربعمائة مقاتل فيهم مائتا فارس، ولم يغب عن المشاركة في غزوة خيبر أحد من أصحاب بيعة الرضوان في الحديبية سوى جابر بن عبد الله «3» وكانت الروح المعنوية للمسلمين عالية، وكانوا يلهجون بالتهليل والتكبير لله تعالى بأصوات مرتفعة، مما يشعر بمدى إيمانهم وتوكلهم على الله، وثقتهم بالنصر منه سبحانه، وقد طلب منهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يرفقوا بأنفسهم فقال:
«إنّكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم» »
، وقد سلك المسلمون طريق ثنية الوداع فزغابة، ونقمي، فالمستناخ، فعصر، فالصهباء، فالخرصة، وحين وصلوا منطقة خيبر سلكوا بين الشق والنطاة، ثم المنزلة، ثم الرجيع التي تقع شمال شرق خيبر حيث عسكروا فيها «5» ، ويبدو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قصد من ذلك أن يعزل خيبر عن المنطقة الشمالية، كما يعزلها عن حلفائها من غطفان.
نزل المسلمون بساحة يهود خيبر قبل بزوغ الفجر، وصلوا الصبح مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم باشروا الهجوم مع شروق الشمس «6» ، وقد فوجيء الفلاحون من يهود بالمسلمين حين كانوا في طريقهم إلى أشغالهم، فصاحوا: «محمد والخميس!» ، فقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «الله أكبر خربت خيبر، إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» «7» .
وقد تهارب اليهود إلى حصونهم وأغلقوها دونهم فحاصرهم المسلمون، وحاولت قبيلة غطفان نجدة حلفائها اليهود، ولكنهم لم يشتركوا في القتال خوفا من أن يهاجم المسلمون ديارهم «8» .
__________
(1) قال بذلك ابن إسحاق، انظر سيرة ابن هشام 2/ 130، الواقدي- مغازي رسول الله 2/ 634، ابن حجر- فتح الباري 7/ 464.
(2) يكمن مرد الخلاف في الأصل إلى الاختلاف في تحديد بداية السنة الهجرية الأولى فقد احتسب بعضهم الأشهر بين محرم وربيع الأول وهو شهر الهجرة مما نجم عن احتساب إضافة سنة واحدة كاملة الى تواريخ الحوادث بسبب أن السنة الهلالية الشرعية تبدأ من المحرم، ومنهم من امتنع عن ذلك واهملها معتبرا ربيع الأول بداية التقويم، وبذلك فإنه أسقط تسعة أشهر من تاريخ الحوادث، وفي هذه المناسبة ذهب كل من الزهري ومالك إلى أن خيبر وقعت في المحرم من السنة السادسة (ابن عساكر- تاريخ دمشق 1/ 33) في حين ذهب محمد بن سعد إلى أنها وقعت في جمادى الأولى سنة 7 هـ (الطبقات 2/ 106) في حين اعتبرها شيخه الواقدي في صفر أو ربيع الأول السنة السابعة (المغازي 2/ 634) .
(3) أبو داود- السنن، كتاب الخراج والفيء والأمارة 3/ 413، الحاكم- المستدرك، 2/ 131، وكان غياب جابر بعذر مشروع (ابن هشام- السيرة النبوية 3/ 467) .
(4) البخاري- الصحيح، كتاب المغازي- باب غزوة خيبر 7/ 470 (حديث 4205) .
(5) الواقدي- مغازي 2/ 639.
(6) الواقدي- مغازي 2/ 639، ابن هشام- سيرة 3/ 438.
(7) البخاري- الصحيح، كتاب الصلاة 1/ 478، (حديث 610) ، مسلم- الصحيح 3/ 1426- 1427، حديث 1365) .
(8) ذكر ابن إسحاق أنهم تجمعوا وساروا نحو خيبر وبعد أن قطعوا مرحلة، سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حسا فظنوا أن المسلمين قد خالفوا إليهم فرجعوا وخلوا بين الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبين خيبر (ابن هشام- السيرة 3/ 438) ، ويقرر الواقدي وصول غطفان إلى حصون خيبر وينفرد بالقول أنهم رفضوا عرضا من النبي صلّى الله عليه وسلّم بمنحهم تمر خيبر لذلك الموسم مقابل إنسحابهم، ولا يصح الاعتماد على هذه المعلومات لضعف الواقدي وعدم ورود ذلك من طرق أخرى (الواقدي- مغازي 3/ 650) .(1/350)
بدأ المسلمون حصارهم لحصون خيبر، وحمل أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- الراية خلال اليومين الأولين من حصار حصن ناعم، ولقي المسلمون مقاومة عنيفة وأصابتهم شدة وجهد، ولم يتمكنوا من فتح الحصن خلال تلك الفترة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي دافع اللّواء غدا إلى رجل يحبّه الله ورسوله، ويحبّ الله ورسوله، ولا يرجع حتّى يفتح له» «1» ، فطابت نفوس المسلمين، فلما صلّى فجر اليوم الثالث دعا علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- ودفع إليه اللواء فحمله فتم فتح الحصن على يديه «2» ، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أوصى عليّا بأن يبدأ بدعوة يهود إلى الإسلام وبأن يقاتلهم إذا رفضوا ذلك «حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك منعوا منك دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها وحسابهم على الله» «3» ، وقد استشهد في حصار حصن ناعم محمود بن مسلمة الأنصاري الذي ألقى عليه مرحب اليهودي رحى من أعلى الحصن، وقد بارزه عليّ بعد ذلك فقتله، وكان لذلك أثره السلبي في هبوط معنويات اليهود، فقد كان مرحب من أبطالهم المعدودين «4» . وواصل اليهود في حصن الناعم مقاومتهم الحصار الإسلامي الذي استمر لمدة عشرة أيام «5» .
توجه المسلمون بعد فتح حصن الناعم إلى حصار حصن الصعب بن معاذ في منطقة النطاة، وقد تحصن فيه خمسمائة مقاتل من اليهود ومعهم المؤن والطعام والمتاع، وقد أبلى المسلمون، وحامل رايتهم الحباب بن المنذر، بلاء حسنا وأحكموا الحصار، واستمرت مقاومة اليهود ثلاثة أيام قبل أن يفتح الله بالنصر للمسلمين، وقد غنموا منه الكثير من الطعام والمتاع «6» .
وكان حصن قلعة الزبير آخر حصون منطقة النطاة، وأكثرها حصانة، وقد تجمع فيه إضافة إلى من كان فيه أصلا، أولئك الذين فروا من حصني ناعم والصعب وبقية حصون اليهود القريبة، وحاصرهم المسلمون، وقطعوا عن الحصن مجرى الماء واضطروهم إلى الخروج من الحصن للقتال، وأصابوا منهم عشرة من مقاتليهم، قبل أن يتم فتح الحصن بعد ثلاثة أيام من الحصار «7» .
__________
(1) أحمد- المسند 5/ 353.
(2) أحمد- المسند 5/ 353، الحاكم- المستدرك 3/ 37، الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 150، وأصل الرواية ورد في صحيح مسلم 4/ 1872 (الاحاديث 2405- 2407) وليس فيه خبر حمل أبي بكر الراية، ووردت عدة روايات ضعيفة أخرى فيها أن عمر- رضي الله عنه- هو حامل الراية، وبأنه قد تعاقب مع أبي بكر- رضي الله عنه- عليها.
(3) مسلم- الصحيح، كتاب الفضائل 4/ 1872، وانظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/ 177.
(4) مسلم- الصحيح 3/ 1433 (حديث 1807) ، وانظر ابن هشام- السيرة 3/ 438، الواقدي- مغازي 2/ 645 وقد وردت عدة روايات تفيد أن عليا تترس بأحد أبواب الحصن بعد أن أسقط ترسه بعد مبارزته لأحد أبطال اليهود وكلها روايات ضعيفة وإهمالها وعدم إعتبارها لا ينفي عن علي- رضي الله عنه- قوته وشجاعته وجهاده وصلابته ويكفيه ما قاله الرسول صلّى الله عليه وسلّم عنه وما ورد في فضائله بالمرويات الصحيحة. انظر الساعاتي- الفتح الرباني 21/ 120، ابن هشام السيرة 3/ 446، ابن كثير- السيرة 3/ 359، ابن حجر الإصابة 2/ 509، البيهقي- دلائل 4/ 212، الشامي السيرة 5/ 201.
(5) الواقدي- المغازي 2/ 657، وانظر البيهقي- دلائل 4/ 212.
(6) الواقدي- المغازي 2/ 659- 663.
(7) الواقدي- المغازي 2/ 663- 670، الشامي- سبل 5/ 202- 206.(1/351)
انتقل المسلمون بعد ذلك من معسكرهم في الرجيع، وعسكروا في منطقة المنزلة بعد أن تخلصوا من أهل النطاة الذين كانوا أشد وأشرس اليهود، وقد ارتفعت معنويات المسلمين كثيرا بسبب انتصاراتهم المتكررة على عدوهم وحيازتهم طعامه ومتاعه، في الوقت الذي انحطت فيه معنويات يهود خيبر الآخرين، إضافة إلى ما أصابهم من رعب وقنوط وهم يشاهدون حصون منطقة النطاة وهي تتهاوى تحت ضربات المسلمين وحصارهم.
وتوجه المسلمون لفتح منطقة الشق التي تحتوي على عدد من حصون اليهود أهمها حصن أبيّ، وحصن النزار، وبعد مبارزات فردية هجم المسلمون على حصن أبّي فاقتحموه وحازوا ما فيه من طعام ومتاع، وتمكن بعض مقاتلة اليهود من الانتقال إلى حصن نزار، فدعموا مقاومته بوجه الهجوم الإسلامي، وقاتلوا بالنبال والحجارة، غير أنهم سرعان ما تهاوت مقاومتهم، وكتب الله النصر للمسلمين، وفتح الحصن، وفر من تمكن من مقاتلته إلى منطقة الكتيبة حيث تحصنوا في حصن القموص المنيع، كما التحق بعضهم بمن كان في حصني الوطيح والسلالم. وقد حاصرهم المسلمون أربعة عشر يوما، حتى طلبوا الصلح دون أن يحصل قتال «1» ، وكان القتال عند حصن نزار في منطقة الشق هو آخر قتال ليهود خيبر، فقد انهارت بعد ذلك مقاومتهم، فاقتصروا على التحصن في قلاعهم وآطامهم وحصونهم وكانوا دائما ينزلون على الصلح «2» والثابت أن يهود حصن القموص سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم الصلح ثم نكثوا العهد فحاز أموالهم «3» ، وتواترت الروايات الصحيحة على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد فتح خيبر عنوة فقد غلب على الأرض والنخل وألجأهم إلى حصونهم التي قاتلهم عليها أو صالحهم فنكثوا العهد «4» .
ولقد أيقن يهود حصني الوطيح والسلالم بعدم جدوى المقاومة بعد أن سقطت حصونهم الشمالية المنيعة:
النطاة والشق والقموص، ولذلك فإنهم سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يسيّرهم وأن يحقن دماءهم، وقد وافق النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك «5» . وبذلك فقد سقطت سائر منطقة خيبر أرضها وزروعها ومياهها وحصونها بيد المسلمين «6» .
__________
(1) الواقدي- المغازي 658- 671.
(2) انفرد الواقدي بتقديم صورة واضحة عن أحداث فتح منطقة خيبر ووادي القرى وفدك وما جاورها، ومع أنه ضعيف عند المحدثين والنقاد، فإنه إخباري غزير المعلومات، وما يقدمه في هذا المجال هو مما يتساهل فيه من الأخبار.
(3) وكان صلحهم على أن للمسلمين ما كان عندهم من ذهب وفضة وسلاح ودروع «الصفراء والبيضاء والحلقة» ، وأن لهم ما حملت ركابهم، على ألّا يكتموا ولا يغيبوا شيئا فإن فعلوه فلا ذمة لهم ولا عهد، فغيبوا مسكا لحيي بن أخطب، وحين سئلوا عنه أنكروا وجوده وادعوا أنه إنما أذهبته الحروب والنفقات، فوجد المسلمون المسك عندهم مما أسقط ذمتهم وعهدهم (ابو داود- السنن 3/ 408) .
(4) البخاري- الصحيح (فتح الباري 3/ 32 حديث 1365) ، مسلم الصحيح 3/ 1427 (حديث 1365) ، أبو داود- السنن 3/ 408- 410، كتاب الخراج (حديث 3009) بإسناد صحيح وقد جزم ابن القيم في زاد المعاد 3/ 352- 354 أنها فتحت عنوة، وبه قال ابن عبد البر- الدرر ص/ 214.
(5) ابن هشام- السيرة 3/ 449.
(6) لقد صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أبقى يهود خيبر فيها على أن يعملوا في زراعتها وينفقوا عليها من أموالهم ولهم نصف ثمارها على أن للمسلمين حق إخراجهم منها متى ما أرادوا ذلك، وكان هذا الاتفاق بمبادرة من يهود أنفسهم انظر: البخاري- الصحيح (باب معاملة النبي صلّى الله عليه وسلّم أهل خيبر) 7/ 496، مسلم- الصحيح- كتاب المساقاة 3/ 1186- 1187، أبو داود- السنن، كتاب البيوع 3/ 697.(1/352)
ولما فرغ المسلمون من فتح خيبر، بلغت يهود فدك أخبارهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فبعثوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يطلبون الصلح على أن يحقن دماءهم ويسيرهم، ويتنازلوا في المقابل عن أموالهم له، وقد وافق النبي صلّى الله عليه وسلّم على طلبهم «1» ، وبذلك كانت فدك خالصة للرسول صلّى الله عليه وسلّم. «2»
حاصر المسلمون بعد ذلك وادي القرى فاستسلمت، وغنم المسلمون منها أموالا كثيرة وتركوا الأرض والنخل بيد يهود وعاملوهم عليها مثل خيبر «3» ، وكذلك الحال مع تيماء التي صالحت وعومل أهلها في زراعة أرضهم على مثل معاملة خيبر ووادي القرى «4» .
استشهد من المسلمين خلال هذه المعارك عشرون رجلا «5» ، في حين بلغ عدد قتلى يهود في معارك خيبر ثلاثة وتسعين رجلا «6» ، وذلك من خذلان الله تعالى ليهود، حيث كانوا يقاتلون من خلف حصونهم وهم يدافعون عنها، في حين كان المسلمون في حالة هجوم وهم بدون حواجز أو سواتر سوى عصمة الله تعالى.
أحدث فتح خيبر وفدك ووادى القرى وتيماء دويّا هائلا في الجزيرة العربية بين مختلف القبائل، وقد أصيبت قريش بالغيظ والكآبة إذ لم تكن تتوقع ذلك، وهي تعلم مدى حصانة قلاع يهود خيبر، وكثرة مقاتلتهم، ووفرة سلاحهم ومتاعهم ومئونتهم «7» ، أما القبائل العربية الأخرى المناصرة لقريش فقد أدهشها خبر هزيمة يهود خيبر، وخذّلها انتصار المسلمين الساحق، ولذلك فإنها جنحت إلى مسالمة المسلمين وموادعتهم بعد أن أدركت عدم جدوى استمرارها في عدائهم، مما فتح الباب واسعا لنشر الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية، بعد أن تعززت مكانة المسلمين في أعين أعدائهم إلى جانب ما تحقق لهم من خير وتعزيز لوضعهم الاقتصادي.
وقد نزلت آية من الذكر الحكيم، أوضحت بأن غنائم خيبر هي خاصة بمن شهد الحديبية من المسلمين
__________
(1) أبو داود- السنن 3/ 414 كتاب الخراج (حديث 3016) ، المنذري- مختصر سنن أبي داود 4/ 239، أبو يوسف- الخراج ص/ 50.
(2) حيث أنها لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وهي الفيء الذي نصت عليه الآية/ 6 من سورة الحشر.
(3) خليفة بن خياط- التاريخ ص/ 85 وهي مجموعة قرى في واد كثير الزراعة إلى الشمال من خيبر بينها وبين تيماء، وانظر ابن القيم- زاد المعاد 1/ 405.
(4) ابن القيم- زاد المعاد 1/ 405.
(5) أورد ابن هشام في السيرة 20/ 804- 805 قائمة بأسماء الشهداء في خيبر، أما الواقدي فقد ذكر أنهم خمسة عشر شهيدا (المغازي 2/ 700) .
(6) الواقدي- المغازي 2/ 699، وقد سبيت نساؤهم، وكانت أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب- رضي الله عنها- أصلا ضمن سبي خيبر وقعت في سهم دحية الكلبي، فاشتراها النبي صلّى الله عليه وسلّم وأعتقها ثم تزوجها في طريق العودة إلى المدينة (البخاري- الصحيح) فتح الباري حديث 4211) ، وعنده أنه اصطفاها لنفسه، وانظر مسلم- الصحيح 2/ 1045- 1046 (حديث 1365) ، الحاكم- المستدرك 4/ 28.
(7) أحمد- المسند 3/ 138، الهيثمي- موارد الظمآن ص/ 143.(1/353)
لا يشاركهم فيها أحد، قال تعالى: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا «1» .
غزوة ذات الرقاع:
جزم الإمام البخاري بأنها حصلت بعد غزوة خيبر «2» وكانت وجهة الغزوة بلاد غطفان القريبة من خيبر شمال المدينة، ولم يقع في هذه الغزوة قتال بين المسلمين وغطفان، ولكن أخاف بعضهم بعضا، فصلى المسلمون صلاة الخوف بمنطقة نخل التي تبعد يومين عن المدينة «3» ، وقد حصلت في هذه الغزوة بعض الأحداث التي كانت لها دلالاتها الكبيرة، منها قصة الأعرابي الذي تسلل إلى معسكر المسلمين وهم في طريق عودتهم إلى المدينة، في وقت القيلولة وقد نزل النبي صلّى الله عليه وسلّم تحت شجرة علق عليها سيفه، فاخترطه الأعرابي والنبي نائم فاستيقظ، فقال له الأعرابي من يمنعك مني؟ فقال له الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «الله» «4» ، فسقط السيف من يده ولم يعاقبه النبي، ونزلت الآية:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ «5» .
السرايا بين غزوة خيبر وعمرة القضاء:
كان أول تلك السرايا، هي سرية عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- الذي بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم في ثلاثين راكبا إلى تربة القريبة من الطائف، وحينما علمت بطون هوازن الساكنة في تربة بذلك هربوا، فرجع عمر بأصحابه إلى المدينة، وكان ذلك في شعبان السنة السابعة من الهجرة. «6»
وفي الوقت نفسه كان أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- قد تولى أمر سرية بعثها النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بني فزارة
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الفتح، الآية/ 15، وانظر الطبري- تفسير 26/ 50، وقد قسم الرسول صلّى الله عليه وسلّم خيبر إلى قسمين قسم وزعه على الفاتحين وقسم جعله لما ينزل به من نوائب ووفود، وقسمت حصة المقاتلة على أساس أن للفارس سهمين وأن للراجل سهما واحدا (أبو داود- السنن 3/ 413، الحاكم- المستدرك 2/ 131) وقد ثبت أن مهاجرة الحبشة عادوا خلال هذا الوقت إلى المدينة، وتوجهوا إلى خيبر حين علموا بأمر غزوة النبي صلّى الله عليه وسلّم إليها، غير أنهم وصلوا إليها بعد الفتح وكان عددهم يتراوح بين 52- 53 بقيادة جعفر بن أبي طالب، فأعطاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم من الغنائم ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح سواهم (البخاري- الصحيح- كتاب فرض الخمس 6/ 237، مسلم- الصحيح كتاب فضائل الصحابة 4/ 1946) .
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري حديث 4128) وكذلك عند أبي معشر مما ذكره ابن حجر، وهو الراجح عند ابن حجر أيضا. وذهب ابن إسحاق أنها سنة 4 هـ بعد الخندق (ابن هشام- السيرة 3/ 282) ، وعند الواقدي وابن سعد أنها كانت في أول السنة الخامسة من الهجرة (مغازي 1/ 395، الطبقات 2/ 61) .
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 416- 421) .
(4) المرجع السابق (فتح الباري- الأحاديث: 4135- 4136) وفيه تصريح باسم الأعرابي.
(5) القرآن الكريم- سورة المائدة، الآية/ 11، وانظر ابن كثير- التفسير 3/ 58- 59، من رواية عبد الرزاق بسنده عن طريق معمر إلى جابر، والطبري- تفسير 10/ 106، ابن هشام- السيرة 3/ 287- 288 بإسناد متصل، وانظر ابن حجر الفتح 7/ 417.
(6) الواقدي- مغازي- رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 2/ 722، ابن سعد- الطبقات 2/ 117 معلقا.(1/354)
من أرض نجد، فشن عليهم الغارة فقتل منهم وسبى «1» .
وبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بشير بن سعد على رأس سرية من ثلاثين رجلا إلى بني مرّة بفدك، فاستاق أنعامهم بينما كانوا في بواديهم، وقد لحقوا بالسرية فقتلوا من لم يتجنبهم، وقاتل بشير بن سعد ببسالة حتى سقط فحسبوه ميتا ورجعوا بأنعامهم، فانحاز بشير بعد ذلك إلى فدك وأقام بها أياما حتى ضمدت جراحه ورجع إلى المدينة، ونقل خبر مصابهم علبة بن زيد الحارثي» .
وبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم غالب بن عبد الله في مائة وثلاثين راكبا بينهم أسامة بن زيد، إلى الحرقة من جهينة، فصبحوا القوم، وهزموهم قال أسامة: «ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم فلما غشيناه، قال: لا إله إلا الله، فكف عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «أقتلته بعد ما قال لا إله إلّا الله؟» قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذا، قال: «أقتلته بعد أن قال لا إله إلّا الله؟» فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم» «3» .
وبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بشير بن سعد على رأس سرية من ثلاثمائة رجل وعقد له اللواء في شوال سنة 7 هـ بعد أن بلغه أن عيينة بن حصن قد واعد جمعا من غطفان بالجناب قرب خيبر ليكونوا معا في الزحف على المدينة، وقد هاجمت السرية ديارهم وأصابت غنائم كثيرة من الأنعام، غير أنهم تهاربوا ولم يأسروا منهم إلّا رجلين قدم بهما بشير إلى المدينة فأسلما فأطلق النبي صلّى الله عليه وسلّم أسرهما «4» .
عمرة القضاء:
خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعه ألفان من المسلمين سوى النساء والصبيان، منهم الذين شهدوا الحديبية، في ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة «5» ، ميمّمين نحو مكة المكرمة لأداء العمرة، حسب شروط معاهدة الحديبية «6» ، حيث كانوا تعاقدوا على أن يدخل هو ومن معه من المسلمين مكة المكرمة لأداء العمرة وأن تترك لهم قريش مكة ثلاثة أيام وألا يدخلوا معهم سلاحا إلّا السيوف في الغمد «7» . وقد أشارت رواية عن موسى بن عقبة أن المسلمين
__________
(1) مسلم- الصحيح 3/ 1375- 1376 (حديث 1775) ، وانظر ابن سعد- الطبقات 2/ 117- 118.
(2) الواقدي- مغازي 2/ 723، ابن سعد الطبقات 2/ 118- 119.
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري حديث 6872) واللفظ للبخاري، مسلم- الصحيح 1/ 96- 97، الأحاديث 185- 159، أورده عن غير طريق أسامة في الصحيح 1/ 97 (حديث 160) ، ابن إسحاق (انظر ابن كثير البداية 4/ 248 بإسناد حسن، الواقدي- مغازي 2/ 724، ابن سعد 2/ 199.
(4) ابن سعد- الطبقات 2/ 120، الواقدي- مغازي 2/ 727- 729.
(5) ابن حزم- جوامع السيرة ص/ 219، ابن حجر- فتح 7/ 500، البيهقي- دلائل النبوة 4/ 313- 314.
(6) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 449) .
(7) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.(1/355)
صحبوا معهم أسلحتهم وذلك خشية من غدر قريش «1» ، وأنهم أبقوها خارج حدود الحرم في ياجج «2» ، وتركوا عليها مجموعة من المسلمين لحراستها «3» ، ودخلوا مكة بسلاح الراكب والسيوف في غمدها وفقا لشروط الصلح.
دخل الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون مكة في موكب مهيب وهم يلهجون بالتكبير والتلبية، وأورد الترمذي رواية حسنة غريبة جاء فيها أن عبد الله بن رواحة كان يمشي بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ينشد:
خلّوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله «4» .
طاف المسلمون مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بالبيت العتيق وأظهروا القوة والجلد في طوافهم وسعيهم كما أمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم «5» ، ردّا على إشاعة قريش عنهم بأنهم ضعفاء «قد وهنتهم حمّى يثرب» فقد أرملوا وسارعوا بالعدو في الأشواط الثلاثة الأولى من الطواف، كما هرولوا في السعي ليظهروا للمشركين مدى قوتهم وجلدهم. «6» وكانت قريش قد خرجت من مكة وتجمعت على جبل قعيقعان المواجه للركنين الأسود واليماني من البيت العتيق ينظرون إلى المسلمين في طوافهم وسعيهم ويتعجبون من قوتهم ويلومون بعضهم بعضا بشأن الزعم بأن حمى المدينة قد أوهنتهم «7» .
وبعد أن أدى النبي صلّى الله عليه وسلّم مناسك العمرة هو ومن معه، وجه جماعة من أصحابه إلى موضع سلاحهم في ياجج ليتيحوا الفرصة لإخوانهم الذين كانوا يحرسون السلاح لأداء نسكهم وقضاء عمرتهم، ففعلوا «8» ، ثم دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم الكعبة المشرفة ومكث فيها إلى الظهر، وأورد ابن سعد رواية غير صحيحة جاء فيها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بلالا فأذن على ظهر الكعبة «9» .
ولما انقضت الأيام الثلاثة على إقامة النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين في مكة، جاء المشركون من قريش إلى علي بن أبي طالب وقالوا له: «قل لصاحبك: اخرج عنا فقد مضى الأجل» ، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة في اليوم الرابع ونزل
__________
(1) نقله ابن حجر في فتح الباري 7/ 449- 500، وكذلك البيهقي- دلائل 4/ 314 بإسناد مرسل من حديث موسى بن عقبة عن الزهري، ابن سعد- الطبقات 2/ 121 معلقا.
(2) موضع يقع على ثمانية أميال من مكة، ياقوت- معجم 5/ 424.
(3) ابن سعد- الطبقات 2/ 122.
(4) فتح الباري 7/ 502 وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 508- 509) ، مسلم- الصحيح 2/ 923 (حديث 1266) .
(6) أحمد- المسند 4/ 239، رقم (3536) ، وانظر الهامش السابق.
(7) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 508- 509، حديث 4256، 4257) ، مسلم- الصحيح 2/ 923 (حديث 1266) ، أحمد- المسند 4/ 239.
(8) ابن سعد- الطبقات 2/ 122.
(9) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.(1/356)
بسرف فأقام بها إلى أن تتامّ الناس، ثم انصرف بهم إلى المدينة «1» ، وقد نزل في عمرة القضاء هذه قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً «2» .
وقد اتضحت في عمرة القضاء هذه جملة أحكام منها حكم من نوى العمرة وأهل بها وصد عن الوصول إلى البيت العتيق، ومنها ما يتعلق بأحكام الرضاعة كما في قصة عمارة بن حمزة بن عبد المطلب، ومنها تقديم الخالة في الحضانة على سائر الأقارب بعد الوالدين «3» .
السرايا والأحداث بين عمرة القضاء وغزوة فتح مكة:
بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد عودته من عمرة القضاء سرية من خمسين فارسا إلى بني سليم جعل عليها ابن أبي العرجاء السلمي، فلما فصلوا من المدينة، خرج عين لبني سليم كان معهم إلى قومه فحذرهم، فجمّعوا واستعدوا للقتال؛ وحين وصلت السرية، ودعوا إلى الإسلام رفضوا واستكبروا وأحدقوا بالسرية فقتلوا عامة من فيها وأصيب ابن أبي العرجاء وسقط بين القتلى ثم تحامل ومن عاد إليه من بقايا سريته حتى بلغوا المدينة في شهر صفر سنة 8 هـ «4» .
وفي الأول من شهر صفر من السنة الثامنة للهجرة خرج عمرو بن العاص عامدا إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليسلم، فلقيه خالد بن الوليد وهو في الطريق إلى المدينة، يريد ما يريد عمرو، فقدما سويا على الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبايعاه على الإسلام «5» .
وفي صفر من السنة الثامنة للهجرة، بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم سرية من بضعة عشر رجلا جعل عليهم غالب بن عبد الله، وجههم إلى بني الملوّح وهم بالكديد «6» ، وقد كمنت السرية بعد وصولها الموضع وفي السحر شنّوا الغارة
__________
(1) البخاري- الصحيح، فتح الباري 7/ 499 (حديث 4251) ، وكان ذلك في ذي الحجة انظر: ابن سعد- الطبقات 2/ 122، ابن هشام- السيرة 4/ 22- 23. في سرف تزوج صلّى الله عليه وسلّم بأم المؤمنين ميمونة بنت الحارث العامرية: البخاري- الصحيح (فتح الباري، حديث 4259) ، ابن القيم- زاد المعاد (3/ 372- 4) ، أبو داود- السنن 2/ 425، البيهقي- دلائل (4/ 332- 6) ، مسلم- الصحيح (2/ 1032 حديث 1411) .
(2) القرآن الكريم- سورة الفتح، الآية/ 27.
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 505- حديث 4251) ، أبو داود- السنن، 2/ 709- 710، كتاب الطلاق (حديث 2278) ، ابن القيم- زاد المعاد 3/ 375- 376.
(4) الواقدي- مغازي 2/ 741 بإسناده إلى الزهري، ابن سعد- الطبقات 2/ 123 معلقا، البيهقي- دلائل 4/ 341 من مراسيل موسى بن عقبة عن الزهري.
(5) أورد الإمام أحمد قصة إسلام عمرو بن العاص في الفتح الرباني 21/ 133- 136 من رواية ابن إسحاق بإسناد حسن، وكذلك فعل ابن هشام في السيرة (3/ 384- 86) برواية ابن إسحاق أيضا وبإسناد حسن كما فعل الإمام أحمد وأورده الواقدي في مغازيه (2/ 741/ 50) بتفاصيل أكثر، وفيه قصة إسلام خالد بن الوليد أيضا. وانظر في ذلك ابن سعد- الطبقات 4/ 252.
(6) موضع يقع بين عسفان والكديد.(1/357)
على الأعداء واستاقوا الأنعام وعادوا بها، وقد عصمهم الله من عدوهم الذي حاول اللحاق بهم «1» .
وفي صفر من السنة الثامنة للهجرة- أيضا، هيأ النبي صلّى الله عليه وسلّم سرية من مائتي رجل ليرسلهم إلى فدك للانتقام من قتلة أصحاب بشير بن سعد، وكانت تحت إمرة غالب بن عبد الله الليثي «2» ، وقد أصابوا منهم غنائم وقتلوا منهم قتلى «3» .
وفي ربيع الأول من العام الثامن للهجرة عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى كعب بن عمير بأن يقود سرية تتألف من خمسة عشر رجلا إلى ذات أطلاح من أرض الشام شمال وادي القرى. وقد أنذر القوم بالسريّة فجاءوهم على الخيول وأحدقوا بهم وقتلوهم إلّا رجلا واحدا من المسلمين أفلت منهم وعاد إلى المدينة، وأعلم النبي صلّى الله عليه وسلّم بما حدث «4» .
وفي ربيع الأول من العام الثامن للهجرة بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم سرية من أربعة وعشرين رجلا بإمرة شجاع بن وهب إلى جمع من هوازن «بالسيّ» من أرض بني عامر ناحية «ركبة» فأغاروا عليهم، فأصابوا نعما كثيرا وشاء وسبيا وعادوا بعد خمس عشرة ليلة، وجاء في أثرهم وفد القوم إلى المدينة وأعلنوا إسلامهم فرد المسلمون السبي «5» .
ولم تذكر المصادر تاريخا معينا لسريّة زيد بن حارثة التي بعثها النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى مدين «6» وقد أصابوا سبيا من أهل ميناء على ساحل البحر الأحمر، ولما عادت السرية وبيع السبي جرى التفريق بين الأمهات والأولاد «7» ، فلما علم النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك قال: «لا تبيعوهم إلّا جميعا» «8» .
__________
(1) أحمد- المسند (الفتح الرباني 21/ 128) بإسناد ابن إسحاق وقال الساعاتي: «سنده جيد» ، ورواه ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام 4/ 341- 43، وابن سعد- الطبقات 2/ 124، أبو داود- السنن 3/ 128- 129، حيث أورد قصة أسر الحارث بن مالك الذي اوثقوه وتركوه إلى أن أنجزوا أمر الرسول في الغارة ثم عادوا فاصطحبوه إلى المدينة (حديث 2678) ، وكذلك الواقدي- مغازي 2/ 750- 752.
(2) عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم بأمر السرية في بداية تشكيلها إلى الصحابي الزبير بن العوام- رضي الله عنه-، غير أنه عاد وعهد بإمرتها إلى غالب بن عبد الله بعد عودته من سرية الكديد (ابن سعد- الطبقات 2/ 126) .
(3) الواقدي- مغازي 2/ 723- 726، ابن سعد- الطبقات 2/ 126.
(4) الواقدي- مغازي 2/ 752- 753، ابن سعد- الطبقات 2/ 127- 128، ابن إسحاق مختصرا، ابن هشام 4/ 356- 357 معلّقا، وقد هم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث إليهم، سرية لمعاقبتهم والانتقام منهم غير أن معلومات بلغته تضمنت أنهم رحلوا عن ديارهم، فتركهم. (نفس المصادر المذكورة آنفا) .
(5) البخاري- الصحيح (الفتح حديث 3134) ، (حديث 4338) ، مسلم- الصحيح 3/ 1368 (حديث 1749) ، الواقدي 2/ 753- 754 ولم يذكر اشتراك عبد الله بن عمر فيها كما لم يذكر ما أصاب المشاركين في السرية من الغنيمة، وانظر ابن سعد 2/ 127 من رواية الواقدي، ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 267.
(6) حيث أن سرية مؤتة قد أرسلت في جمادى الأولى سنة ثمان الهجرية فمن المتوقع أن يكون تاريخ إرسال سرية زيد هذه في ربيع الآخر من ذلك العام حيث أن زيد بن حارثة استشهد في مؤته كما هو ثابت في المصادر.
(7) ابن حجر- فتح الباري (شرح الحديث 4338) ، الطبري- تاريخ 3/ 34، الواقدي- مغازي 2/ 777، ابن سعد- الطبقات 20/ 132.
(8) رواه ابن هشام في السيرة 4/ 375- 6، وعن أحاديث التفريق هذه انظر: ابن حجر- الاصابة 2/ 206، عبد الرزاق الصنعاني- المصنف 8/ 307، الألباني- صحيح سنن الترمذي 2/ 24- 25، أبو داود- السنن 3/ 144- 145 (حديث 2696) ، الدارمي- السنن ص/ 327، البيهقي- السنن 9/ 126.(1/358)
سرية مؤتة:
أعد النبي صلّى الله عليه وسلّم جيشا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل وبعثه إلى تخوم بلاد الشام في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة بعد عودته بمن اعتمر معه من المسلمين عمرة القضاء بخمسة أشهر «1» ، وقد انفرد الواقدي، بالقول بأن شرحبيل بن عمرو الغسّاني قد اعتدى على مبعوث النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ملك بصرى حين حمل له رسالته وهو الحارث بن عمير الأزدي وقتله صبرا رغم أن العرف الجاري هو أن الرسل لا تقتل «2» . مما أغضب النبي صلّى الله عليه وسلّم ودفعه إلى إرسال الجيش إلى مؤتة وقد اتخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه السرية إجراء احتياطيّا للمرة الأولى، حيث ولّى عددا من الأمراء بالترتيب، مما دلل على جواز تعليق الإمارة بشرط. فقد عين زيد بن حارثة أميرا على الجيش، فإن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن أبي رواحة «3» . والراجح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد توقع أن تحف بالسرية الأخطار بسبب بعد المسافة، وجهلهم بالمنطقة التي وجهوا إليها، وعدم حصول تجربة سابقة في الاحتكاك بقوات الإمبراطورية البيزنطية وحلفائها من القبائل العربية في بلاد الشام» .
ودّع المسلمون في المدينة إخوانهم المشاركين في الجيش، والأمراء الذين اختارهم النبي صلّى الله عليه وسلّم لهذه المهمة، وسألوا الله أن يوفقهم ويدفع عنهم ويردهم صالحين «5» ، وتحرك الجيش حتى وصل إلى معان من أرض الشام وأناخ فيها، وبلغ المسلمون أن هرقل قد نزل بأرض البلقاء في مائتي ألف مقاتل نصفهم من الروم ونصفهم من نصارى العرب من قبائل لخم وجذام وقضاعة «6» .
تشاور المسلمون وهم في معان طوال ليلتين، فاقترح بعضهم مكاتبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإعلامه بعدد جيش العدو وما توفر لديهم من معلومات عن قوته لكي يرسل إليهم مددا أو يأمرهم بأمره، ومال بعضهم إلى التريث وعدم الاندفاع في مناجزة العدو حتى يأتيهم من النبي صلّى الله عليه وسلّم ما ينير لهم سبيلهم، غير أن عبد الله بن أبي رواحة
__________
(1) ابن إسحاق بإسناد حسن الى عروة الذي أرسله، ابن هشام- السيرة 3/ 427، ابن سعد- الطبقات 2/ 128، ابن حجر- فتح الباري (7/ 510- كتاب المغازي- غزوة مؤتة) .
(2) الواقدي- المغازي 2/ 755- 6، ابن سعد- الطبقات 2/ 17، ابن حجر- الإصابة 1/ 589، فتح الباري- 7/ 511.
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 513 حديث 4261) .
(4) زاد الواقدي (المغازي 2/ 756 باسناد ضعيف، وابن سعد- الطبقات 2/ 128 معلقا، وفيه: «فإن أصيب عبد الله بن رواحة فليتريض المسلمون بينهم رجلا فيجعلوه عليهم» .
(5) ابن إسحاق بإسناد حسن إلى عروة: ابن هشام- السيرة 3/ 430 وورد في الرواية كيف بكى عبد الله بن رواحة في هذه المناسبة وهو يستذكر قول الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (سورة مريم الآية/ 71) ، ثم تمثله شعرا سأل الله فيه المغفرة والشهادة جاء فيه قوله:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربه ذات فرغ تقذف الزبدا
(6) ابن هشام- السيرة 3/ 432- 5، ابن حزم- جوامع السيرة ص/ 220- 22.(1/359)
انبرى يخاطب الجيش مشجعا على قتال العدو قائلا: «يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون:
الشهادة. وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ولا نقاتلهم إلّا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة» فقال الناس «قد والله صدق ابن أبي رواحة» وأحدثت عباراته الإيمانية الواثقة بقضاء الله وقدره أثرها في نفوس المسلمين «1» . أصدر زيد بن حارثة أمره لقواته بالتقدم نحو قوات العدو متخذا من قرية مؤتة مقرّا لقواته التي عبأها فجعل على ميمنته قطبة بن قتادة العذري، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري، والتقى الجيشان غير المتكافئين في عددهم وعدتهم، وكانت ملحمة بطولية خالدة سجل فيها المجاهدون وقادتهم الثلاثة بطولات وجرأة وثباتا نادرا غير أنها انتهت باستشهاد القادة واحدا تلو الآخر «2» ، واختار المسلمون- حسب توجيه النبي صلّى الله عليه وسلّم قائدا بديلا، هو خالد بن الوليد الذي كان يدرك خطورة الوضع، فأعاد تنظيم الجيش، وأوهم العدو بوصول الإمدادات مما مكنه من اهتبال الفرصة للقيام بانسحاب منظم لم يخسر فيه إلا عددا محدودا من قواته، وبذلك أنقذ الجيش الإسلامي من خطر الإبادة الكاملة أمام جموع العدو الهائلة «3» ، ويعتبر هذا الإنجاز فتحا كبيرا عند مقارنة خسارة المسلمين المحدودة بما يقابلها من خسائر الروم الذين أثخنت قواتهم بأعداد كبيرة من القتلى والجرحى. ولا شك في أن بسالة المقاتل المسلم وشجاعته النادرة وحرصه على الموت في سبيل الله، إلى جانب عبقرية خالد العسكرية ونظراته الثاقبة، وقدرته على المناورة، وذكائه، وفطنته قد مكنت المسلمين من التخلص من مأزقهم أمام الجيش البيزنطي.
وقد ظهرت معجزة للرسول صلّى الله عليه وسلّم في أمر هذه السرية فقد نعى للمسلمين في المدينة زيدا وجعفرا وابن أبي رواحة، قبل أن يصل إليه خبرهم، وحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما وقع للسرية وذرفت عيناه الدموع. ثم أخبرهم باستلام خالد للراية، وبشرهم بالفتح على يديه وأسماه سيف الله «4» ، وبعد ذلك قدم من أخبرهم بأخبار السرية، ولم يزد عما أخبرهم به النبي صلّى الله عليه وسلّم «5» ، وكان لشهداء مؤتة مكانة عظيمة عند الله لذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما يسرّني أو قال ما يسرّهم أنّهم عندنا» «6» .
__________
(1) ابن هشام- السيرة 3/ 435- 442.
(2) المرجع السابق 3/ 442- 447، ولم يسند ابن إسحاق من قصة الوقعة سوى خبر عقر جعفر بن أبي طالب لفرسه ونزوله للمعركة راجلا، وخبرين أولهما عن تردد عبد الله بن رواحة وثانيهما عن تصميمه وإقدامه وهي بأسانيد حسنة فيها ذكر لصحابي مجهول.
(3) المرجع السابق 3/ 447، ابن حزم- جوامع السيرة ص/ 222.
(4) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 512 حديث 6262، 6263) .
(5) جاء بأخبار الغزوة إلى المدينة يعلى بن أمية، كما في رواية موسى بن عقبة: انظر ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 275، ابن حجر- فتح 7/ 512 في شرح الحديث (6262) ، وأورد ابن حجر كذلك رواية أخرى تجعله (عامر الاشعري) وهي من رواية الطبراني. عنده.
(6) البخاري- الصحيح (فتح الباري- 6/ 135 حديث 3063) .(1/360)
سرية ذات السلاسل:
بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد عودة سرية مؤتة إلى المدينة في جمادى الآخرة سنة ثمان للهجرة «1» ، أن قضاعة التي اشتركت في القتال إلى جانب الروم في مؤتة بدأت تتجمع مرة أخرى، وتريد الاقتراب من المدينة لتهديدها، فجهز النبي صلّى الله عليه وسلّم سرية من ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار عهد بأمرها إلى عمرو بن العاص بهدف أن يقضي على خطر قضاعة في مهده. وأمره أن يستعين ببعض فروع قضاعة وخاصة من أخواله من بلي، إلى جانب عذرة وبلقين ومحاولة استئلافهم. وقد تقدمت السرية حتى وصلت ماء السلسل بأرض جذام، فبلغ عمرو بن العاص ضخامة الجموع التي جمعتها قضاعة لمواجهتهم فسارع بإرسال رافع بن مكيث الجهني إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يستمده، فأمده بمائتين من المهاجرين والأنصار بينهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب- رضي الله عنهما- جعل عليهم أبا عبيدة بن الجراح. وطلب إلى عمرو بن العاص وأبي عبيدة بن الجراح أن يتطاوعا «2» .
توغلت السرية في بلاد قضاعة التي بلغها الخبر فهربت جموعها وتفرقت «3» ، وقد مكنت حملة هذه السرية الناجحة المسلمين من استعادة هيبتهم في التخوم الشمالية للجزيرة بعد أن كانت قد تزعزعت في أعقاب سرية مؤتة «4» .
وفي أعقاب سرية ذات السلاسل، تحدثت المصادر التي تعنى بالسيرة والتاريخ عن سريتين أخريين قبل فتح مكة، أولهما سرية ابن حدرد إلى الغابة حيث كان رفاعة بن قيس قد جمّع الجموع فيها يريد أن يقاتل الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين، فدعا النبي صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن حدرد الأسلمي ورجلين من المسلمين ليخرجوا إليه، وقد أمكنهم الله منه فهرب قومه عنه، واستاقت السريّة الكثير من السبي والغنائم التي عادوا بها إلى
__________
(1) ابن سعد- الطبقات 2/ 132 بدون اسناد.
(2) أحمد- المسند: الفتح الرباني 21/ 140 بإسناد صحيح، وانظر البخاري- الصحيح (فتح الباري كتاب الفضائل، حديث 2384) بدون التفاصيل، الواقدي- مغازي 2/ 769- 771، وابن سعد- الطبقات 2/ 131) .
(3) ابن سعد- الطبقات 2/ 131.
(4) أورد أبو داود في السنن (كتاب الطهارة- باب: إذا خاف البرد تيمم رقم/ 344- 335) خبر احتلام عمرو بن العاص في ليلة باردة في طريق العودة من هذه السرية وتيممه وعدم اغتساله للجنابة، وشكوى المسلمين ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد عودتهم، وبيان عمرو دوافعه في ذلك وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أعجبه ذلك: وانظر البيهقي- دلائل 4/ 402، السنن 1/ 225- 6، ابن القيم- زاد المعاد 3/ 388، وقال عنه: «وسنده قوي» . وعلقه البخاري في الصحيح 1/ 385، ونقل الهيثمي في الموارد ص/ 202 أن الحافظ ابن حجر وابن حبان قد صححاه، وكذلك فعل الحاكم- المستدرك 1/ 177، وأحمد- المسند 4/ 203، وانظر ابن كثير- التفسير 2/ 235.(1/361)
المدينة «1» .
أما السرية الثانية، فهي سرية أبي قتادة إلى بطن أضم «2» وكانت في أول رمضان سنة ثمان من الهجرة «3» وذكر الواقدي أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما أراد غزو مكة بعث أبا قتادة في ثمانية نفر إلى بطن أضم ليظن الظانّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك الأخبار «4» . وقد شارك في السرية محلّم بن جثامة بن قيس، حتى إذا كانوا ببطن أضم مر بهم عامر بن الأخبط الأشجعي فحياهم بتحية الإسلام فأمسكوا عنه، ولكن محلّما سرعان ما حمل عليه فقتله لشيء كان بينهما وسلب بعيره ومتاعه «5» ، وفي ذلك نزل قول الله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً «6» .
__________
(1) ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 249- 50 برواية ابن إسحاق وإسناده ضعيف، ورواه ابن هشام- السيرة 4/ 367- 369 عن ابن إسحاق مرسلا، أحمد- المسند 6/ 11- 12 من غير طريق ابن إسحاق، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه رواه لم يسمّ وبقية رجاله ثقات» (6/ 207) ، والواقدي- مغازي 2/ 777، البيهقي- دلائل النبوة 4/ 303- 304، ونقل الطبري في تاريخه (3/ 34) أنها كانت في شعبان سنة ثمان للهجرة وأن أميرها كان أبو قتادة.
(2) ماء على طريق مكة- اليمامة عند السمينة، ياقوت- معجم 1/ 281، وحدد ابن سعد في (الطبقات 3/ 179) المسافة بينها وبين المدينة بثلاثة برد.
(3) الواقدي- مغازي 2/ 797 بإسناد متصل، ابن سعد- الطبقات 2/ 133.
(4) الواقدي- مغازي 2/ 796- 797.
(5) المرجع السابق 2/ 797 بإسناد متصل، وجعل أمير السرية أبا قتادة بن ربعي الأنصاري، وانظر الطبري- التفسير 9/ 72، ابن سعد- الطبقات 2/ 133.
(6) القرآن الكريم- سورة النساء، الاية/ 94، وانظر ابن هشام- السيرة، من رواية ابن إسحاق بإسناد حسن (4/ 363- 4) ، الواقدي- المغازي 2/ 797 بإسناد متصل، وابن سعد- الطبقات 3/ 133 معلقا، والطبري- تفسير 9/ 72. وذكر المحدثون أكثر من سبب في نزول هذه الآية، انظر البخاري- الصحيح (الفتح حديث 4591) ، أحمد- المسند 4/ 153 بإسناد صحيح، الترمذي- السنن، تحفة الأحوذي 8/ 386، بإسناد حسن، الحاكم- المستدرك 2/ 235 وصححه، وانظر كذلك «الألباني- صحيح الترمذي 3/ 40، حديث 2426» وصححه، وروى البزار بسنده إلى عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- أنها نزلت في المقداد بن الأسود. (ابن كثير- التفسير 2/ 338) .(1/362)
غزوة فتح مكة:
التزمت قريش بشروط صلح الحديبية حوالي السنة ونصف السنة، ثم وقعت في خطأ كبير حين أعانت حلفاءها بني بكر على خزاعة حلفاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين، حين وثبوا عليهم ليلا على ماء بأرض خزاعة يعرف بالوتير. وقد أعانت قريش بكرا بالخيل والسلاح والرجال «1» ؛ وقالوا: «ما يعلم بنا محمد، وهذا الليل وما يرانا أحد» ، فعلوا ذلك للضغن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «2» . وقد استنجدت خزاعة بالمسلمين، وقدم عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة يستنصر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأنشد في ذلك أبياتا من الشعر أمامه، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم. «نصرت يا عمرو بن سالم» ، ثم مرت بهم سحابة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ هذه السّحابة لتستهلّ بنصر بني كعب» «3» . وليس هناك من شك في أن انتصار قريش لحلفائها ودعمها لهم على حلفاء المسلمين، هو نقض صريح لبنود صلح الحديبية أدركت قريش أخطاره، وندمت على فعلها له، ولذلك فإنها بادرت إلى إرسال أبي سفيان إلى المدينة بهدف تجديد المعاهدة، وتشير بعض الروايات إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أرسل إلى قريش «4» يخيّرهم بين دفع دية قتلى خزاعة، أو البراءة من حلف بني بكر، أو القتال، فاختارت الحرب، ثم ندمت فبادرت إلى إرسال أبي سفيان كما أسلفنا، لكنه عاد خائبا «5» ، فقد فشل في الحصول على أي وعد بتجديد المعاهدة التي تضمنت بنود صلح الحديبية «6» .
أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بالتجهز والاستعداد للغزو غير أنه لم يسمّ وجهته، وحرص على ضمان السرية التامة
__________
(1) أوضح موسى بن عقبة أ: ن من بين أشراف قريش الذين أعانوا بكرا على خزاعة: صفوان بن أمية، وشيبة بن عثمان، وسهيل بن عمرو، وأن الإعانة كانت بالسلاح والرقيق. ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 313، من رواية موسى دون إسناد، وانظر ابن حجر- فتح الباري 8/ 6.
(2) ألجأت بكر خزاعة أثناء الحرب إلى منطقة الحرم وواصلت حربهم فيه كما ذكر ابن إسحاق (ابن هشام- السيرة 2/ 389) بدون إسناد، وبلغ عدد قتلى خزاعة عشرين قتيلا، الواقدي مغازي 2/ 784 بإسناد ضعيف.
(3) رواه ابن إسحاق بإسناد حسن لذاته وصرح بالتحديث، ورجاله رجال الصحيح، ما عدا ابن إسحاق انظر: ابن كثير- البداية 4/ 278- 309- 310، وله شاهدان ضعيفان أولهما في المعجم الصغير للطبراني 2/ 73، وثانيهما أورده أبو يعلى في مسنده 4/ 400، وقد روى البزار- كشف الأستار ص/ 342 القصيدة التي أنشدها عمرو بن سالم الخزاعي أمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم مستنجدا مطالبا بتنفيذ بنود الحلف. ورواه ابن أبي شيبة مرسلا، الصنعاني- المصنف 5/ 374 مختصرا بإسناد صحيح وفيه اختلاف يسير في ألفاظه مع إسقاطه للشعر، وانظر الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 162.
(4) ابن حجر- المطالب العالية 4/ 234، بإسناد صحيح، فتح الباري 8/ 6 (حديث 4280) ، ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 281، الواقدي- المغازي 2/ 786- 7 وعنده أن اسم مبعوث النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى قريش هو حمزة.
(5) ابن حجر- فتح الباري 8/ 6 عن مرسل عكرمة عن ابن أبي شيبة، وابن إسحق معلقا، ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 312.
(6) فقد ردّه أبو بكر وعمر وعلي وفاطمة، وأغلظ عليه عمر في الرد، وأبت ابنته أم المؤمنين أم حبيبة أن تسمح له بالجلوس على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالت له: «إنك رجل مشرك نجس» ، وحين كلم النبي صلّى الله عليه وسلّم فإنه لم يجبه بشيء. ابن كثير- البداية 4/ 313- 14، البيهقي- دلائل النبوة 5/ 9/ 11، السنن الكبرى 9/ 120، الصنعاني- المصنف 5/ 375. بإسناد صحيح، وهو جزء من رواية ابن إسحاق الطويلة في فتح مكة، ابن هشام- السيرة 2/ 389، بدون إسناد.(1/363)
في هذا المجال، وسأل ربه قائلا: «اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتّى نبغتها في بلادها» «1» .
بدأت الاستعدادات لحشد القوة الإسلامية القصوى المستطاعة، وكان لا بد من أن يعلم النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بأنه سائر إلى مكة، ثم استنفر القبائل التي تقطن قرب المدينة: سليما وأشجع ومزينة وأسلم وغفارا، فمنهم من التحق بالجيش الإسلامي في المدينة، ومنهم من التحق بالمسلمين في الطريق إلى مكة «2» ، وقد ارتفعت معنويات المسلمين كثيرا، وكان حسان بن ثابت يلقي شعره الذي يذكر فيه بمصاب خزاعة، ونقض المشركين للعهد، ويحرض المسلمين على القتال «3» ، وبلغ عدد جيش المسلمين عشرة آلاف مقاتل «4» ، وأوعب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المهاجرون والأنصار فلم يتخلف عنه منهم أحد» «5» ، وهذا يدل على مدى تعاظم قوات المسلمين خلال فترة السنة ونصف التي أعقبت صلح الحديبية «6» ، ورغم ذلك فقد التزم الجميع بالسرية التامة وحجبت الأخبار تماما عن قريش «7» مما يعكس مدى الضبط والربط والالتزام الدقيق بأوامر القيادة، والتقويم السليم للمصلحة الإسلامية العليا. وكان الاستثناء الوحيد في هذا المجال المحاولة الفاشلة التي أقدم عليها الصحابي البدري حاطب ابن أبي بلتعة حين أرسل مع امرأة كتابا إلى قريش يخبرهم فيه بأمر الغزوة»
. وهنا تظهر إحدى معجزات النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد أمر ثلاثة من الصحابة «9» بأن يقتفوا أثر المرأة وقال لهم: «انطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخ، فإنّ بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها» «10» ، وقد نفذ الصحابة أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فأمسكوا بالمرأة في الموضع المحدد وطالبوها بالكتاب فأنكرت أمره في باديء الأمر، ولكنهم هددوها بالقيام بتفتيشها، فسلمته لهم، وحينما رجعوا بالكتاب والمرأة أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم في طلب حاطب وسأله عن أمر الكتاب فلم ينكر وقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا رسول
__________
(1) ابن كثير- البداية 4/ 283 بإسناد صحيح عن طريق محمد بن جعفر عن عروة عن عائشة- رضي الله عنها-، وأورده ابن هشام- السيرة 2/ 389 بإسناد حسن من حديث الزهري عن عروة عن المسور.
(2) ابن سعد- الطبقات 2/ 397 بدون إسناد، وابن إسحاق (ابن هشام- السيرة 2/ 399) بإسناد حسن لذاته، الواقدي- مغازي 2/ 801.
(3) ابن كثير- البداية 4/ 283، ابن هشام- السيرة 2/ 389.
(4) ابن سعد- الطبقات 2/ 397 بدون إسناد، ومن رواية البخاري- الصحيح (الفتح حديث 4276) ، الواقدي- المغازي 2/ 801.
(5) ابن إسحاق، أورده ابن هشام- السيرة 2/ 399 بإسناد حسن لذاته.
(6) انظر تعليق ابن هشام على تقويم الزهري لأهمية صلح الحديبية ابن هشام- السيرة 3/ 322، والعمري- السيرة النبوية الصحيحة 2/ 474.
(7) ابن حجر- المطالب العالية 4/ 244.
(8) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 4274) ، مسلم- الصحيح 4/ 1941- 2 (حديث 2494) ، الواقدي- المغازي 2/ 798- 9.
(9) وهم: علي والزبير والمقداد- رضي الله عنهم-.
(10) البخاري- الصحيح 4/ 72، 579- 599، مسلم- الصحيح 2/ 170.(1/364)
الله، لا تعجل عليّ، إني كنت: امرأ ملصقا في قريش حليفا، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام» فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أما إنّه قد صدقكم» . فقال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: «يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق» ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّه قد شهد بدرا، وما يدريك لعلّ الله اطّلع على من شهد بدرا وقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «1» ، فأنزل الله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ «2» . فدمعت عينا عمر وقال: «الله ورسوله أعلم» «3» .
بدأت قوات الفتح مسيرتها المظفرة من المدينة في العاشر من رمضان سنة ثمان من الهجرة «4» ، بعد أن استخلف النبي صلّى الله عليه وسلّم على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين الغفاري «5» ، وكانوا صياما فواصلوا الصوم حتى بلغوا كديدا فأفطر النبي صلّى الله عليه وسلّم وأفطر الجيش «6» ، وقد وصل المسلمون إلى مرّ الظهران وعسكروا هناك دون أن تصل قريشا أية أخبار عن تحركهم مما يدل على نجاح المسلمين في تعمية الأخبار «7» وفي الطريق إلى مكة، قدم بعض زعماء قريش إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأعلنوا إسلامهم، منهم ابن عم أبيه وأخوه من الرضاعة أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب «8» ،
__________
(1) البخاري- الصحيح 4/ 72 (حديث 4274) ، مسلم- الصحيح 2/ 170، 4/ 1921- 1922 (حديث 2494) ، ابن هشام- السيرة 2/ 399، الواقدي- مغازي 2/ 798- 799، ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 333 من حديث البيهقي.
(2) القرآن الكريم- سورة الممتحنة، الآية/ 1، وانظر البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 4274) ، مسلم- الصحيح 4/ 1941- 1942 (حديث 2494) .
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري، حديث 3983) .
(4) مسلم- شرح النووي 3/ 176 (حديث 113- 114) .
(5) ابن هشام- السيرة 2/ 399، ابن حجر- المطالب العالية 4/ 248، الحاكم- المستدرك 3/ 44، وانفرد ابن سعد- الطبقات 2/ 135 بأنه عبد الله بن أم كلثوم، معلقا.
(6) البخاري- الصحيح 5/ 185، فتح الباري 4/ 180- 181 (حديث 4275) ، مسلم- الصحيح 2/ 784 (حديث 1113) وفي رواية ثانية عند مسلم: أن الإفطار كان بكراع الغميم (الصحيح حديث 1114) والموضعان متقاربان.
(7) صحيح مسلم- شرح النووي 3/ 176 وقد وردت روايات صحيحة بخروج بعض زعماء قريش يتحسسون الأخبار وإلى أنهم رأوا نيران المسلمين وتعجبوا من كثرة الجيش وأن أحدهم قد ظن أنهم خزاعة، ابن حجر- المطالب 4/ 244- 248.
(8) كان أبو سفيان بن الحارث من أشد وألد خصوم الإسلام فقد استمر في مقاومته للرسول والإسلام طوال عشرين سنة وشارك في أغلب الحروب مع قوات المشركين وكان يهجو المسلمين. ولكنه أسلم وحسن إسلامه وجاهد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانت له مواقف بطولية وصمود مشهود مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في يوم حنين، الحاكم- المستدرك 3/ 43- 45، ابن هشام- السيرة 2/ 400، الطبري- تاريخ 3/ 50، البيهقي- دلائل النبوة 5/ 27- 8، الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 164- 167، ونقل مسلم في صحيحه 2/ 395- قصيدته التي قالها في إسلامه.(1/365)
وكان قد لقيه بالأبواء فأسلم على يديه، وأسلم عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة «1» ، وكان قبل ذلك شديد العداوة للمسلمين أيضا، وكان إسلامه حين التقى النبي صلّى الله عليه وسلّم بين السقيا والعرج. ولقى الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الجحفة عمه العباس ابن عبد المطلب مهاجرا بعياله يريد المدينة «2» ، وكان العباس قد أسلم قبيل غزوة خيبر «3» .
خرج ثلاثة من زعماء قريش من مكة ليتحسسوا الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين وهم أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن جزام، وبديل بن ورقاء، ولم تكن الأخبار قد وصلت مسامع قريش عن خروج المسلمين وتقدمهم ووصولهم إلى مرّ الظهران، ولكنهم كانوا يتوقعون أمرا بسبب فشل سفارة أبي سفيان إلى المدينة ومسعاه عند الرسول صلّى الله عليه وسلّم في تجديد معاهدة الصلح، وكان الزعماء القرشيون الثلاثة قد أبصروا جيشا كثيفا يعسكر في المنطقة ولا حظوا كثرة نيران معسكره، وكان أبو سفيان ورفيقاه يتناقشون في أمر هذا الجيش، فقد ظن بديل بن ورقاء أنها جموع خزاعة، وعارضه أبو سفيان في ذلك، فمر بهم العباس بن عبد المطلب وأخبرهم بأنه جيش المسلمين، وحين سألوه عن رأيه طلب من أبي سفيان أن يمضي معه وبجواره إلى معسكر المسلمين، رغبة من العباس فيما يبدو في أن يصون مكة ويمنع الدماء والقتال، فوافقه أبو سفيان، ولما دخل أبو سفيان معسكر المسلمين أراد عمر قتله واستأذن الرسول صلّى الله عليه وسلّم في ذلك فصرفه عنه، وأدخل العباس أبا سفيان على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فدعاه إلى الإسلام، وأمضى معه في ذلك شطرا من الليل، فتلطف في الكلام غير أنه تردد في إعلان إسلامه، ولكنه بعد أن أمضى ما بقي من ليلته تلك مع العباس عاد في صباح اليوم التالي فحضر مجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم وأسلم «4» .
أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يطلع أبا سفيان على قوة المسلمين وعددهم وعدتهم وتنظيمهم، فأمر عمه العباس أن يقف مع أبي سفيان عند مضيق الجبل بمر الظهران، ومر جيش المسلمين أمامه وأدرك بأنهم أصبحوا قوة غالبة
__________
(1) وهو أخو أم المؤمنين أم سلمة- رضي الله عنه- لأبيها وقد حسن إسلامه وجاهد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم واشترك في حصار الطائف واستشهد خلال ذلك، انظر ابن عبد البر- الاستيعاب 2/ 263.
(2) ابن هشام- السيرة 2/ 400 وهو من مراسيل الزهري.
(3) أحمد- المسند، الفتح 21/ 122، الصنعاني، المصنف 5/ 466، وأخرجه النسائي، ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 217. وقد وردت روايات ضعيفة تبين إسلامه قبل غزوة بدر الكبرى، ابن سعد- الطبقات 4/ 10- 11، بل إن إحدى الروايات جعلت إسلامه قبل الهجرة إلى المدينة، ابن سعد- الطبقات 2/ 31 بإسناد منقطع وفيه الواقدي، ومع التأكيد على ما قدمه الصحابي الجليل العباس بن عبد المطلب عم النبي صلّى الله عليه وسلّم من خدمات جليلة للإسلام قبل إسلامه وبعد ذلك حيث كان عينا للرسول صلّى الله عليه وسلّم على قريش وملاذا للمستضعفين من المسلمين في مكة قبل أن يسلم، فإن أسره في معركة بدر مع المشركين ومطالبة النبي صلّى الله عليه وسلّم إياه بأن يفتدي نفسه من الأسر تقطع بعدم دخوله الإسلام حتى ذلك الوقت. ويترجح أنه كتم إسلامه في الفترة التي أعقبت غزوة خيبر لمقتضيات مصلحة المسلمين.
(4) ابن حجر- المطالب العالية 4/ 244، قال ابن حجر وهو حديث صحيح، وقد أسلم بديل الخزاعي وحكيم بن حزام حال وصولهما النبي صلّى الله عليه وسلّم- الواقدي- مغازي 2/ 815، ابن سعد- الطبقات 2/ 135.(1/366)
لا تستطيع قريش مواجهتهم، حتى إذا مرت به كتيبة المهاجرين والأنصار وفيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال أبو سفيان للعباس: «والله لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما» ، فقال له العباس: «ويحك يا أبا سفيان، إنها النبوّة» ، قال:
«فنعم إذا» «1» . وطلب العباس من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل لأبي سفيان شيئا يفخر به- وهو يعرف أنه يحب الفخر- فوافق على ذلك وقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» «2» .
وحين مرت كتيبة الأنصار بأبي سفيان عند المضيق بمر الظهران، قال سعد بن عبادة حامل رايتهم: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة» «3» فتأثر أبو سفيان من ذلك واشتكى إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم من مقالة سعد، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «كذب «4» سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة» «5» ، وأخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم راية الأنصار من سعد بن عبادة ودفعها إلى ابنه قيس، ولكن سعدا كلم النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك ملتمسا أن يصرف ابنه عن الموضع الذي هو فيه، مخافة أن يقع في خطأ، فأخذها منه «6» .
ويقدم محمد بن عمر الواقدي تفصيلات دقيقة عن تشكيلات الجيش الإسلامي وأعداد المهاجرين والأنصار وكل من القبائل المشاركة، وأسماء المبعوثين الذين أرسلهم النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى القبائل لاستنفارها، وتوزيع الرايات والألوية على أمراء الكتائب «7» .
عاد أبو سفيان إلى مكة بعد أن رأى مبلغ قوة المسلمين وكثرتهم واستعدادهم وعدتهم وبسالتهم، وحين دخل مكة صرخ في قومه محذرا أنه لا قبل لهم بما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم من قوات ونهاهم عن المقاومة، ووجههم إلى
__________
(1) ابن حجر- المطالب العالية 4/ 244، الطحاوي- شرح معاني الآثار 3/ 322.
(2) حديث صحيح من رواية إسحاق بن راهويه أورده ابن حجر في المطالب العالية (حديث 4362) وقال هذا حديث صحيح، ورواه ابن إسحاق في السيرة بإسناد حسن (ابن هشام 4/ 62- 67 وسياقهما واسع بالمقارنة مع ما أورده الإمام البخاري في الصحيح (فتح الباري حديث 4280) ، وقال ابن حجر في ترجمته لحكيم بن حزام: «وثبت في السيرة وفي الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن» (الإصابة/ 3491) . وأورد الحافظ ابن كثير حديث ابن إسحاق الذي فيه «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» وقال: زاد عروة «ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن» ، البداية والنهاية 5/ 323.
(3) البخاري- الصحيح 5/ 186 (حديث 4280) .
(4) كانت تستعمل بمعنى أخطأ.
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري حديث 4280) .
(6) ابن حجر- مختصر زوائد البزار، ص/ 248 وصححه، وانظر فتح الباري- شرح حديث (4280) وقال ابن حجر فيه أن إسناده على شرط البخاري، وقد دفع النبي صلّى الله عليه وسلّم الراية إلى الزبير بن العوام- رضي الله عنه- وأن الزبير دخل مكة بلوائين: ابن حجر- المطالب العالية 4/ 241، الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 169، والثابت في الصحيح أن راية الرسول صلّى الله عليه وسلّم كانت مع الزبير بن العوام (البخاري- الصحيح- فتح الباري، حديث 2480) ، وجزم موسى بن عقبة في المغازي عن طريق الزهري أنه قد دفعها إلى الزبير، ابن حجر- فتح الباري (شرح الحديث 2480) وانظر ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 323- 328.
(7) الواقدي- مغازي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (2/ 799- 801، وهو متروك عند المحدثين فيما يختص بالمسائل المتصلة بالسياسة الشرعية، ولكن هذه المعلومات تاريخية عامة ولا ضرر من قبولها، إذا أسندت بطرق أخرى.(1/367)
ما يحقق أمنهم مما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1» .
قرر النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في مر الظهران الزحف على مكة فعبأ الجيش وقسمه إلى مجنبتين وقلب من الفرسان، وجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، والزبير بن العوام على المجنبة اليسرى، وأبا عبيدة عامر بن الجراح على الرجالة «2» ، وكانت رايته سوداء ولواؤه أبيض «3» .
لم يرتدع المشركون المعاندون ورءوس الكفر من قريش عن غيهم حتى بعد أن أحدقت بهم قوات المسلمين، فقد عولوا على تجميع قوات من قبائل شتى من حلفائهم لكي يدفعوهم لحرب المسلمين بقصد منعهم من دخول مكة، وكانوا مهيّئين للالتحاق بتلك القوات إذا حققت ما يؤملون، أما في حالة الفشل فإنهم يعطون ما طلب أبو سفيان منهم من الصلح. وقاد جموع أحلاف قريش التي تجمعت في الخندمة «4» صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو «5» .
أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم قواته بدخول مكة لفتحها وقتال المقاومين، فتقدم المسلمون حتى وصلوا إلى الصفا ما يعرض لهم أحد يقاومهم إلّا قتلوه «6» .
دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم مكة من أعلاها من جهة كداء «7» ، في حين دخل خالد بن الوليد بقواته من أسفلها «8» ، وكانت مقاومة المشركين يسيرة، وكانت أعنف المواجهات قد حصلت عند جبل الخندمة حين التحمت قوات خالد بالمشركين فاستشهد اثنان من فرسان المسلمين على أصح الروايات «9» ، في حين قتل من المشركين اثنا عشر رجلا «10» ، وكان هذا القتال الذي جرى في مكة بسبب عدم احترام المقاومين للأمان الذي أعلنه النبي صلّى الله عليه وسلّم لأهل مكة، وقد توجع أبو سفيان بسبب كثرة القتلى وخاطب النبي صلّى الله عليه وسلّم قائلا: «يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد
__________
(1) حديث «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن..» من رواية إسحاق بن راهويه، وهو صحيح وقد مر ذكره آنفا.
(2) مسلم- الصحيح 3/ 1406 (حديث 1780) ، ابن هشام- السيرة 2/ 407.
(3) ابن ماجه- السنن 2/ 941 بإسناد حسن، الألباني- صحيح سنن ابن ماجه 2/ 123 رقم (2274، 2818) ، وانظر كذلك النسائي- السنن 5/ 300.
(4) أحد جبال مكة.
(5) ابن هشام- السيرة 2/ 407.
(6) مسلم- الصحيح 3/ 1405 (حديث 1780) .
(7) البخاري- الصحيح 5/ 189 (حديث 4290- 4291) .
(8) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 10) .
(9) البخاري- الصحيح (فتح الباري حديث 4280) ، وفي رواية ابن إسحاق ثلاثة (ابن هشام- السيرة 2/ 407) ، والعمدة على ما أورده البخاري فقد نص على اثنين من الشهداء بين المسلمين.
(10) ابن هشام- السيرة 2/ 407، الحاكم المستدرك 3/ 241، ونقل البيهقي في السنن الكبرى (9/ 120) من مراسيل موسى بن عقبة أنهم قريب من عشرين رجلا بالإضافة إلى ثلاثة أو أربعة من هذيل وذكر الواقدي أنهم أربعة وعشرون من قريش وأربعة من هذيل (المغازي 2/ 827- 829) ، ابن سعد- الطبقات 2/ 126، وجعلهم الطبراني سبعين رجلا وهو ما نقل عنه الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (4/ 331) .(1/368)
اليوم» .»
ولقد أهدر النبي صلّى الله عليه وسلّم دماء أربعة رجال وامرأتين بسبب ما كانوا قد ألحقوه من أذى شديد وتنكيل بالمسلمين فكان في إهدار دمائهم عبرة للطغاة والمستهترين، ولكل من تسول له نفسه الظلم والطغيان «2» . وأباح النبي صلّى الله عليه وسلّم لخزاعة أن تثأر من بني بكر في اليوم الأول من فتح مكة حتى العصر وذلك لما كان منهم بالوتير «3» ، وعند ما دخل العصر أمر بكف السلاح عن بني بكر، وبيّن حرمة مكة «4» .
أعلن النبي صلّى الله عليه وسلّم العفو العام عن عامة أهل مكة حيث اجتمعوا إليه قرب الكعبة المشرفة ينتظرون حكمه فيهم فقال لهم: «ماذا تظنّون أنّي فاعل بكم؟» ،: فقالوا «خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم» فقال لهم: «لا تثريب عليكم يغفر الله لكم» ، وفي: رواية «اذهبوا فأنتم الطّلقاء» «5» . وقد نزل قول الله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ «6» .
لم يدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم مكة دخول الفاتحين، بل إنه دخل خاشعا لله تعالى وهو يقرأ سورة الفتح ويرجّع في قراءتها وهو على راحلته «7» ، وقد دخل المسجد الحرام وطاف بالكعبة المشرفة فاستلم الركن بمحجنه كراهة أن يزاحم الطائفين ولكي يعلّم أبناء الأمة آداب الطواف، وأعلن صلّى الله عليه وسلّم حرمة مكة وبأنها لا تغزى بعد الفتح «8» ، ورفع من مكانة قريش وأمر بألّا يقتل قرشي صبرا بعد الفتح وإلى يوم القيامة «9» . وقد أمر صلّى الله عليه وسلّم بتحطيم الأصنام والأوثان، وشارك صلّى الله عليه وسلّم بنفسه في ذلك وهو يقرأ قول الله تعالى: قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ «10» . وقوله تعالى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً «11» .
__________
(1) مسلم- الصحيح 2/ 95- 96.
(2) البخاري- الصحيح 5/ 188، مسلم- الصحيح 1/ 570، ابن هشام- السيرة 2/ 410، البيهقي- السنن 9/ 120، ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 299، كما نقله السيوطي عن النسائي وزهر الربا 7/ 105) .
(3) أحمد- الفتح الرباني 21/ 159، المسند 4/ 32.
(4) أحمد- الفتح الرباني 21/ 159، المسند 4/ 2، 3 وقد قتلت خزاعة في اليوم الثاني من أيام الفتح رجلا في مزدلفة تطلبه بثأر، فظهر على النبي صلّى الله عليه وسلّم الغضب الشديد ودفع دية القتيل البكري، وبين أن من قتل بعد ذلك قتيلا فأهل القتيل بالخيار بين القصاص والدية. وانظر حديث شريح في حرمة مكة، رواه البخاري في الصحيح (الفتح حديث 4295) ، مسلم 2/ 987- 988 (حديث 1354) .
(5) القاسم بن سلام- الأموال/ 143، ابن سعد 2/ 141- 142.
(6) القرآن الكريم- سورة النحل، الآية/ 126.
(7) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 4280) .
(8) الترمذي- السنن 3/ 83، وقال عنه: إنه حسن صحيح، أحمد- المسند 4/ 412.
(9) مسلم- الصحيح 2/ 97 (حديث 1782) ، أحمد- المسند 3/ 412، بإسناد صحيح.
(10) القرآن الكريم- سورة سبأ، الآية/ 49.
(11) القرآن الكريم- سورة الإسراء، الآية/ 81 وقد ورد في رواية البخاري الآية (49) من سورة سبأ ولم ترد الثانية (حديث 4287) وفي مسلم- الصحيح 3/ 2408 (حديث 1781) وردت الأولى والثانية، وفي روايتين أخريين له أورد الآية من سورة الإسراء.(1/369)
وقد تم تحطيم الأصنام جميعا، وكان عددها ثلاثمائة وستين صنما «1» . وكانت قد علقت في جدران الكعبة الداخلية صورا لإبراهيم وإسماعيل وإسحق وهم يستقسمون بالأزلام فقال صلّى الله عليه وسلّم: «قاتلهم الله ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام» «2» . ووردت رواية أخرى تذكر وجود صورة مريم معلقة داخل الكعبة «3» فغطيت جميع الصور بالزعفران وتم إزالتها من جوف الكعبة قبل أن يدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها «4» ، ووجد فيها حمامة من عيدان فكسّرها ورمى بها خارج الكعبة «5» ، وعند ما طهرت الكعبة دخلها النبي صلّى الله عليه وسلّم وصلى بها «6» . وحين خرج صلّى الله عليه وسلّم من الكعبة دعا عثمان ابن طلحة فأعطاه مفتاح الكعبة فأبقى الحجابة في أيدي بني شيبة كما كانت في الجاهلية «7» ، ثم استلم الحجر الأسود وطاف بالبيت من غير إحرام مهللا مكبرا شاكرا ذاكرا حامدا «8» .
أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بلالا الحبشي أن يؤذن، فصعد إلى ظهر الكعبة وأذن عليها «9» ، وبعد تطهير البيت العتيق من الأصنام عاد البيت كما أراه الله تعالى مركزا للتوحيد الخالص، وكان ذلك أكبر ضربة للوثنية في جزيرة العرب حيث كانت الكعبة من أعظم مراكزها، وإتماما لهذا الهدف الأساسي، فإنه ما أن تم فتح مكة وجرى تطهير الكعبة، حتى بادر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى إرسال بعض أصحابه لهدم ما تبقى من مراكز الوثنية، فقد وجّه خالد بن الوليد إلى نخلة من ديار ثقيف لهدم «العزّى» التي كانت قبائل مضر وقريش وكنانة تعبدها وتعظمها، فهدمها، وكان ذلك في الخامس والعشرين من شهر رمضان «10» ، وأرسل سعد بن زيد الأشهلي في عشرين فارسا إلى «مناة»
__________
(1) البخاري- الصحيح 5/ 188، حديث 4287، مسلم- الصحيح 3/ 1408 (حديث 1781) .
(2) البخاري- الصحيح 5/ 188، احمد- المسند 1/ 365، وأورد البخاري رواية أخرى جاء فيها قوله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا إبراهيم مصور فما له يستقسم» (حديث 3351) .
(3) البخاري- الصحيح (حديث 3351) .
(4) المرجع السابق 5/ 188.
(5) الذهبي- المغازي ص/ 552 من رواية لابن إسحاق بإسناد حسن.
(6) البخاري- الصحيح 5/ 222 (حديث 4400) وقد أورد الإمام البخاري في هذه الرواية الصحيحة تفاصيل دقيقة عن المكان الذي صلّى فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم في جوف الكعبة، كما أورد تفصيلات عن بناء الكعبة والأعمدة الداخلية.
(7) الصنعاني- المصنف 5/ 83- 85 الأحاديث 9073، 9074، 9076، وانظر ابن حجر- فتح الباري- شرح حديث (4289) .
(8) البخاري- الصحيح 3/ 21 (حديث 4286) ، مسلم- الصحيح 2/ 990 (حديث 1358) وفيه أنه كان يلبس المغفر منذ دخل مكة، ثم نزعه عن رأسه ولبس عمامة سوداء.
(9) الذهبي- المغازي ص/ 555 بإسناد حسن، البيهقي- دلائل النبوة 5/ 78 بإسناد صحيح، ابن سعد- الطبقات 3/ 234- 235، الواقدي- مغازي 2/ 846 ونقل الواقدي تعليقات بعض وجهاء قريش على صعود بلال على ظهر الكعبة وهي تعكس الامتعاض والتمييز العنصري المخالف للإسلام بطبيعة الحال. ولم يكونوا قد أسلموا بعد.
(10) ابن هشام- السيرة 4/ 112 برواية ابن إسحاق، وفيه أن سدنتها وحجابها كانوا من بني شيبان وبني سليم حلفاء بني هاشم، وانظر الواقدي- المغازي 2/ 873، ابن سعد- الطبقات 2/ 145.(1/370)
بالمشلل من ناحية قديد، وكانت من الأصنام التي تعظمها قبائل العرب وخصوصا الأوس والخزرج قبل الإسلام فهدمها وذلك لست بقين من رمضان «1» . كما أرسل عمرو بن العاص إلى «سواع» صنم هذيل فهدمه، وأرسل الطفيل بن عمرو الدوسي لإحراق (ذي الكفّين) صنم عمرو بن حممة فأنجز الطفيل مهمته «2» . مما أزال أكبر مراكز الوثنية التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «3» .
اجتمع الناس لمبايعة النبي صلّى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة لله ورسوله «4» ، فلما فرغ من بيعة الرجال، بايع النساء وأورد الطبري في تاريخه تفصيلات بيعة النساء، وهي لم ترد عن طريق صحيحه، وقد تضمنت «ألّا يشركن بالله تعالى ولا يسرقن ولا يزنين ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصين الرسول في معروف» «5» .
ولقد خشي بعض الأنصار أن يكون الأمان الذي منحه الرسول صلّى الله عليه وسلّم لقريش وتسامحه معهم دليلا على رغبته في قريته ورغبته في المقام بين أبناء عشيرته، فأخبره الوحي بما قالوا فخاطبهم قائلا: «إنّي عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم والممات مماتكم» ، فاعتذروا إليه فقبل اعتذارهم «6» .
خطب النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد فتح مكة عدة خطب وردت بمرويات صحيحة ومتواترة، أولها كانت خطبته يوم الفتح على باب الكعبة بيّن فيها دية الخطأ شبه العمد في القتل، وألغى مآثر الجاهلية وثاراتها مستثنيا منها سقاية الحاج وسدانة البيت العتيق «7» .
وفي الخطبة الثانية أبطل أحلاف الجاهلية وبأنه «لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف الجاهلية فإن الإسلام لا يزيده إلا شدة، والمؤمنون يد على من سواهم يجير عليهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، يرد سراياهم على قعيدهم» ، كما بين صلّى الله عليه وسلّم فيها أنه: «لا يقتل مؤمن بكافر، دية الكافر نصف دية المسلم» ، وأنه «لا جلب ولا
__________
(1) ابن سعد- الطبقات 2/ 146، هشام ابن محمد الكلبي- الأصنام ص/ 15.
(2) ابن سعد- الطبقات 2/ 146 معلقا، ابن هشام- السيرة 1/ 385 بدون إسناد.
(3) القرآن الكريم- سورة النجم، الآية/ 19- 20.
(4) بايع النبي صلّى الله عليه وسلّم المسلمين بعد الفتح على الإسلام والإيمان والجهاد، انظر: البخاري- الصحيح 5/ 72، 193، مسلم- الصحيح 2/ 140.
(5) الطبري- تاريخ 3/ 61- 62 بلاغا، وذكر الطبري تفصيلات عن مناقشة هند بنت عتبة ومداخلاتها في أثناء البيعة وبأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر عمر بأن يأخذ له البيعة عليهن، وقد ثبت في الصحيح أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يبايع النساء بالكلام بالآية ولا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً ... سورة الممتحنة (الآية/ 12، وأنه ما مست يده الكريمة امرأة أجنبية عنه (البخاري- الصحيح- فتح الباري حديث 2588) ، مسلم- الصحيح (حديث 1866) .
(6) مسلم- الصحيح 3/ 1406 حديث 1780، وأورد الإمام البخاري أن أسامة بن زيد- رضي الله عنه- سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم إن كان سينزل في بيته، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟» ، ولذلك فقد أقام صلّى الله عليه وسلّم في قبة ضربت له في الحجون (البخاري- الصحيح 5/ 187) ، (مسلم- الصحيح 1/ 567) .
(7) أحمد- المسند 3/ 410 بإسناد حسن لذاته، أبو داود- السنن (2/ 492) بإسناد صحيح.(1/371)
جنب ولا تؤخذ صدقاتهم إلّا في دورهم» «1» .
أما في الخطبة الثالثة فقد أعلن صلّى الله عليه وسلّم تحريم مكة وتحريم صيدها وخلالها ولقطتها والقتال فيها، وقال إن الله قد أحلها له ساعة من نهار وهو وقت الفتح، وبين أنه لا هجرة بعد الفتح ولكن يبقى الجهاد والنية «2» .
وأوضح صلّى الله عليه وسلّم في خطبته الرابعة: أن وليّ المقتول بالخيار بين قبول الدية أو القصاص «3» .
وفي فتح مكة نزل قول الله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً «4» .
ولقد كان من أبرز نتائج فتح مكة مبادرة قبائل العرب إلى قبول الإسلام بعد أن تيقنوا من نتيجة الصراع بين المسلمين وقريش، وقد أورد الإمام البخاري رواية من حديث عمرو بن سلمة جاء فيها: أن العرب كانت «تلوّم بإسلامها الفتح، يقولون: انظروا فإن ظهر عليهم فهو صادق وهو نبي، فلما جاءتنا وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم»
» ، ويرى ابن إسحاق أن العرب كانت «تربّص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أن قريشا كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت الحرام، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وقادة العرب لا ينكرون ذلك، وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخلافه، فلما افتتحت مكة ودانت له قريش، ودوخها الإسلام، وعرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا عداوته، فدخلوا في دين الله، كما قال عز وجل أفواجا يضربون إليه من كل وجه» «6» .
ومن نتائج فتح مكة المكرمة تحول مركز ثقل معسكر الشرك إلى الطائف حيث سارعت كل من قبيلتي هوازن وثقيف إلى التصدي للإسلام وقيادة معسكر الشرك المعادي له.
وإضافة إلى ما تحقق في فتح مكة من اتساع رقعة ديار الإسلام، وتسارع وتيرة دخول العرب في الإسلام، وإنهاء مقاومة قريش وحلفائها، وتحولهم إلى قوة إيجابية دافعة لنشر العقيدة الإسلامية والتصدي لخصومها ودفع الخطر عنها، فقد اتضحت بعض الأحكام الشرعية المهمة من جراء فتح مكة وخلال أحداث غزوتها، من ذلك جواز الصيام والإفطار في نهار رمضان للمسافر في غير معصية «7» .
__________
(1) أخرج مسلم أوله في الصحيح 4/ 1961 (حديث 2530) ، وأخرجه الإمام أحمد كاملا في الفتح الرباني (21/ 160- 1) ، كما صححه الإمام الترمذي، وقال الساعاتي: «حديث صحيح» .
(2) ولهذا فقد بايع النبي صلّى الله عليه وسلّم المسلمين بعد الفتح في مكة المكرمة وغيرها على الإسلام والإيمان والجهاد.
(3) البخاري- الصحيح 1/ 38 (حديث 6880) ، مسلم 3/ 1487- 1488 (حديث 1864) .
(4) القرآن الكريم- سورة النصر، وانظر البخاري- الصحيح 5/ 189 (حديث 4294) . وأصل تلوّم تتلوّم ومعناها: تنتظر. انظر فتح الباري (7/ 617) .
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري، حديث 4302) ، ابن سعد- الطبقات 2/ 70.
(6) ابن هشام- سيرة 2/ 560.
(7) مسلم- الصحيح 1/ 451.(1/372)
كما اتضحت بعض الأحكام المتعلقة بإمامة الصلاة «1» وتحديد مدة قصر الصلاة للمسافر «2» ، وتأكيد صلاة سنة الضحى وعدد ركعاتها «3» ، وكان في إقرار الرسول صلّى الله عليه وسلّم لجوار أم هاني «4» إقرارا لأمان النساء «5» ، وقد أبيحت المتعة يوم الفتح ثم حرمت بعد ذلك تحريما أبديا إلى يوم القيامة «6» ، كما توضحت الأحكام الخاصة بنكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله «7» ، وكذلك حكم «الولد للفراش» «8» ، ومنها حق الزوجة في الإنفاق على نفسها وعيالها من مال زوجها بالمعروف دون علمه إذا امتنع عن النفقة «9» ، ومنها تحريم بيع الخمر والميتة والأصنام والأوثان «10» ، ومن ذلك تحريم الشفاعة في حد من حدود الله «11» ، ومنها منع صبغ الشيب بالسواد وبيان حكم خضابه بالحناء «12» ، والنهي عن قتل المرأة مادامت لا تقاتل «13» ، وعدم جواز الوصية بأكثر من ثلث المال «14» ، ومنها جواز دخول مكة بغير إحرام «15» .
__________
(1) البخاري- الصحيح 5/ 191.
(2) المرجع السابق 5/ 190.
(3) المرجع السابق 5/ 189، مسلم- الصحيح 1/ 289.
(4) البخاري- الصحيح 4/ 122.
(5) أبو داود- عون المعبود 7/ 44.
(6) مسلم- الصحيح بشرح النووي 3/ 553، وانظر الصحيح 1/ 586، 587.
(7) مالك- الموطأ (شرح الزرقاني 3/ 156، 157) .
(8) البخاري- الصحيح 8/ 191.
(9) مسلم- الصحيح 2/ 60.
(10) البخاري- الصحيح 3/ 110، مسلم- الصحيح 1/ 690، 689.
(11) البخاري- الصحيح 5/ 192، مسلم- الصحيح 2/ 47.
(12) مسلم- الصحيح 2/ 244.
(13) البخاري- الصحيح، فتح (حديث 3014- 3015) ، مسلم- الصحيح (حديث 1744) ، أحمد- المسند 2/ 115.
(14) البخاري- الصحيح، الفتح الأحاديث 2743، 2744) ، الترمذي- السنن 3/ 291.
(15) البخاري- الصحيح، فتح الباري (حديث 4286) ، مسلم- الصحيح (حديث 1358) .(1/373)
سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة:
وخلال إقامته في مكة المكرمة بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد على رأس سرية كبيرة من المهاجرين والأنصار وغيرهم من بني سليم بلغ عددهم ثلاثمائة وخمسين رجلا فيهم عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر إلى بني جذيمة «1» ، وذلك في شوال سنة ثمان من الهجرة، داعيا لهم إلى الإسلام «2» ، فلما وصلت السرية وعرض خالد عليهم الإسلام لم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فقتل منهم وأسر، ثم دفع بعد ذلك إلى كل رجل من السرية أسيرا، ثم أمرهم ذات يوم بقتل أسراهم فأبى ذلك جماعة من الصحابة منهم عبد الله بن عمر حيث قال: «والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره» ، وجرت ملاحاة بين عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد بسبب ذلك حتى كاد أن يقع بينهما شر «3» فلما قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبروه بما جرى وما فعل خالد، رفع النبي صلّى الله عليه وسلّم يديه إلى السماء وقال: «اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد» ، كررها مرتين «4» كما أنكر صلّى الله عليه وسلّم على خالد ما فعله من شتم عبد الرحمن بن عوف وقال: «لا تسبّوا أحدا من أصحابي، فإنّ أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» «5» .
وبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- إلى بني جذيمة لإصلاح ما أحدثه خالد في تأوله الأمر واجتهاده الخاطيء فيها «6» ، فودى لهم قتلاهم وزادهم فيها تطييبا لنفوسهم وبراءة من دمائهم «7» .
__________
(1) وكانوا يقيمون في يلملم، قال ابن سعد إنهم بأسفل مكة على ليلة منها ناحية يلملم (الطبقات 2/ 147) ، وذكر أن «يلملم» جبل من الطائف على ليلتين أو ثلاث، وقيل هو واد، ويمكن الجمع بينهما فيكون جبل يشرف على واد، انظر ياقوت- معجم البلدان 8/ 514. وبلادهم تبعد ثمانين كيلا إلى الجنوب من مكة.
(2) البخاري- الصحيح 5/ 131، ابن كثير- التفسير 4/ 306.
(3) البخاري- الصحيح 5/ 131، وعن تفصيلات حول الملاحاة وأسبابها، انظر مسلم- الصحيح 4/ 1967- 1968 (حديث رقم 2541) .
(4) البخاري- الصحيح 5/ 131 (حديث 4339) ، أحمد- الفتح الرباني 21/ 166- 167 بإسناد ولفظ البخاري وأوردت المصادر المختصة بالسيرة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لبعض رجال السرية الذين اشتركوا في قتل أحد فتيان بني جذيمة بعد أن سمع قصته مع قاتليه والفتاة التي كان يحبها فماتت كمدا عليه قال: «أما كان فيكم رجل رحيم» ، أوردها النسائي بإسناده إلى ابن عباس وكذلك من حديث ابن عيينه (البيهقي- دلائل النبوة 5/ 116- 118) ، وكلاهما بإسناد صحيح كما ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح في شرحه الحديث (4339) ، وابن حبّان في صحيحه (موارد الظمآن ص/ 159- 160، الأحاديث 6696- 6697) وانظر مجمع الزوائد 6/ 210.
(5) مسلم- الصحيح 4/ 1967- 8 (حديث 2541) .
(6) لا شك في أنه كان اجتهادا من خالد بن الوليد- رضي الله عنه- أخطأ فيه، ولذلك لم يعاقبه النبي صلّى الله عليه وسلّم، انظر في ذلك كلام الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث (3439) في فتح الباري 8/ 57.
(7) ابن إسحاق (ابن هشام- السيرة 2/ 430) بإسناد منقطع، فهو من مراسيل محمد الباقر الذي ولد بعد عام 40 هـ (ابن حجر- التهذيب 90/ 351) ، وفي سنده حكيم بن حكيم وفيه كلام- وانظر ابن سعد- الطبقات 2/ 147- 8 معلّقا مختصرا.(1/374)
غزوة حنين:
تحركت قوات هوازن وثقيف في أعقاب فتح مكة يريدون قتال المسلمين، فنزلوا حنينا، وقد أرادوها موقعة حاسمة فحشدوا كل ما لديهم من القوات «1» والأموال والنساء والأبناء حتى يستقتلوا فلا يفكر أحد منهم في الفرار ويترك أهله وماله. واستنفروا معهم غطفان وغيرها «2» . وكان يقود الجموع مالك بن عوف النصري- الذي اجتمع إليه بنو نصر قومه، وبنو جشم، وبنو سعد بن بكر، وقليل من بني هلال، وعدد من بني عوف بن عامر، وعمرو بن عامر، وتخلف من هوازن كعب وكلاب، أما ثقيف فقد التحقت بهم كلها مع أحلافها بالإضافة إلى بني مالك «3» وقد بلغ تعداد قوات المشركين هذه عشرين ألف مقاتل «4» ، وقد رتب مالك بن عوف قواته في صفوف حسنة، جعل الخيالة في المقدمة ثم الرجالة، وخلفهم حشد النساء والأولاد والأنعام والأثقال «5» .
بلغت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبار التحشدات التي جمعتها قوى الشرك لمواجهة الإسلام، وأراد جمع المعلومات الدقيقة عنهم، ولذلك فإنه بادر بإرسال عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي للتعرف على أمرهم، فارتحل إليهم ومكث فيهم يوما أو يومين قبل أن يعود بأخبارهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم «6» ، وبعد جمع المعلومات العسكرية المطلوبة عن المشركين بدأ النبي صلّى الله عليه وسلّم بالاستعدادات المطلوبة لمواجهتهم فاستعار مائة درع من صفوان بن أمية «7» ، واستدان أربعين ألف درهم من حويطب بن عبد العزى»
، وقبل عون نوفل بن الحارث بن عبد المطلب له بثلاثة آلاف رمح «9» .
كان جيش الفتح في مكة مستعدا إذ لم يلق مقاومة تذكر في فتح مكة، كما أن إقامته في مكة بعد الفتح مدة خمسة عشر يوما قد منحته الكثير من الراحة واستعادة النشاط، إضافة إلى ما تحقق له من ارتفاع في الروح المعنوية بما منحه الله من نصر، ولذلك فإنه كان مهيأ لمواجهة عدوان المشركين، وقد تحرك جيش المسلمين بناء على أمر قائده النبي صلّى الله عليه وسلّم في اليوم الخامس من شوال سنة 8 هـ ميمما نحو تجمعات المشركين في حنين «10» ، وقد ثبت في الصحيحين مشاركة أبناء مكة في غزوة حنين في صفوف المسلمين «11» ، فقد شارك ألفا مقاتل من أهل مكة، فبلغ عدد قوات
__________
(1) البخاري- الصحيح 5/ 130- 131، مسلم- الصحيح 2/ 735.
(2) مصادر الهامش السابق، وانظر الطبري- تاريخ 3/ 70.
(3) ابن إسحاق- المغازي ص/ 571، الحاكم- المستدرك 3/ 48، ابن هشام- السيرة 54/ 414.
(4) الواقدي- المغازي 3/ 893.
(5) مسلم- الصحيح 2/ 736 (حديث 1059) .
(6) الذهبي- المغازي ص/ 571- 72، الحاكم- المستدرك 3/ 48.
(7) الحاكم- المستدرك 3/ 48- 49، البيهقي- السنن 6/ 89- 90.
(8) ابن عبد البر- الاستيعاب 1/ 385.
(9) المرجع السابق 3/ 537.
(10) ابن هشام- السيرة 2/ 437، البيهقي- السنن 3/ 151، النسائي- السنن 3/ 100، ابن حجر- فتح الباري 2/ 562.
(11) خليفة بن خياط- تاريخ ص/ 88، ابن سعد- الطبقات 2/ 154- 55، الحاكم- المستدرك 2/ 121، وانظر ابن هشام- السيرة 2/ 440.(1/375)
الجيش الإسلامي اثنى عشر ألف مقاتل، وهو أكبر جيش للمسلمين يخرج للقتال في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى هذه الغزوة «1» ، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم حريصا على تأمين قواته لذلك فقد اهتم بحراسة الجيش ومراقبة تحركات العدو «2» .
ولقد كان لوجود «الطلقاء» من أبناء مكة الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام آثاره السلبية فقد رأى بعضهم أثناء تقدم الجيش الإسلامي نحو حنين شجرة تعرف بذات أنواط يعلق عليها المشركون أسلحتهم فطالبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم مثلها، فانتهرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم قائلا: «سبحان الله، كما قال قوم موسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ «3» ، والّذي نفسي بيده لتركبنّ سنن من قبلكم» «4» .
ومن تلك الآثار السلبية، ما أصاب بعض المسلمين من غرور وإعجاب بكثرتهم، فقال أحدهم: «لن نغلب من قلة» ، وقد أصاب هذا الشعور آخرين منهم مما استحقوا معاقبة الله لهم فأذاقهم مرارة الهزيمة في المواجهة الأولى في حنين، وعاقبهم وبيّن لهم أن النصر هو من عند الله، وبأن شعورهم بالزهو لكثرتهم كان سببا في ذلك الدرس القاسي، ولقد انتبه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ذلك الانحراف، فأكد لهم أن النصر من عند الله، وأنه يفتقر لربه ويدعوه وحده فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ بك أحول، وبك أجول، وبك أقاتل» ، كما قص على أصحابه قصة النبي الذي أعجب بكثر أمته فابتلاهم الله بالموت، فكان إدبارهم في المواجهة الأولى والأهوال التي واجهوها قد أرجعتهم إلى التصور الصحيح وإفراد التوكل على الله سبحانه «5» .
ولعل من المناسب أن نشير إلى تصرفات بعض الأعراب والطلقاء الذين لم تكن تهمهم نتائج الصراع ومدلولاته بقدر ما كان يعنيهم الحصول على الغنائم «6» ، وكذلك بعض زعماء قريش الذين كانوا يقفون في مؤخرة جيش المسلمين يراقبون تطور المعركة وينتظرون معرفة المنتصر فيها «7» .
كانت قوات المشركين قد سبقت المسلمين إلى وادي حنين، فاختاروا مواقعهم، ووزعوا قواتهم، وأحكموا خطتهم التي اعتمدت على الاستفادة من طبوغرافية الموقع وثناياه وأشجاره وانحدار طريق المسلمين إليهم، وعلى المفاجأة ومباغتة المقاتلة المسلمين بالنبال بهدف إبادتهم، وكانت معنوياتهم عالية بسبب كثرتهم وشجاعتهم
__________
(1) الواقدي- المغازي 3/ 890، الهيثمي- كشف الأستار 2/ 346- 347، ابن إسحاق: ابن هشام- السيرة 4/ 124، البيهقي- دلائل 5/ 123.
(2) أبو داود- السنن 1/ 210، 2/ 9، وانظر ابن حجر- الإصابة 1/ 86.
(3) القرآن الكريم- سورة الأعراف، الآية/ 138.
(4) الترمذي- السنن 3/ 321- 322، النسائي- السنن الكبرى (تحفة الاشراف (11/ 112، حديث 15516) ، أحمد المسند 5/ 218، ابن كثير- التفسير 2/ 243.
(5) ذكر القرآن الكريم ذلك صراحة: انظر سورة التوبة، الآية/ 25، وما بعدها، وانظر الدارمي- السنن 5/ 135، أحمد- المسند 4/ 333.
(6) البخاري- الصحيح 4/ 25، مسلم- الصحيح 3/ 1401.
(7) ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 368 من رواية موسى بن عقبة عن الزهري مرسلا.(1/376)
وخبراتهم القتالية «1» .
وعلى الجانب الإسلامي، عبأ النبي صلّى الله عليه وسلّم جيشه بالسّحر وعقد الألوية والرايات ورتب الجند على هيئة صفوف منتظمة، واستقبل بجيشه وادي حنين «2» ، وانحدروا مع بزوغ الفجر تتقدمهم على المجنبات الخيالة بقيادة خالد بن الوليد «3» ، وكان المقاتلة من بني سليم في طليعة القوات الإسلامية منذ خروجها من مكة «4» .
اندفع المسلمون نحو جموع هوازن، فانكشفوا، فانكب المسلمون على ما تركوه من الغنائم، وبينما هم منشغلون بذلك، نفذت هوازن الخطوة الثانية من خطتها إذ سرعان ما عادت قواتها لتستقبل المسلمين، في الوقت الذي ظهرت قواتها الكامنة فأمطرتهم بوابل عنيف من السهام من الجانبين «ما يكاد يسقط لهم سهم، فرشقوهم رشقا ما كانوا يخطئون» «5» ، وفوجيء المسلمون وتساقط شهداؤهم «6» وضاقت عليهم الأرض بما رحبت فولوا مدبرين لا يلوون على شيء، حيث انكشفت خيالة المسلمين في البداية ثم اتبعهم المشاة، ثم بقية الجيش، واستمر القتال في هذه الجولة من الفجر إلى الليل ثم استمرت طوال ذلك الليل، وتقدم المصادر الموثقة معلومات مفصلة عن الصعوبات التي واجهها المسلمون من الحر الشديد، والأرض الرملية، وارتفاع الغبار في وجوههم مما حد من قدرتهم على الرؤية «7» .
وكان ذلك درسا قاسيا عاقب الله تعالى به أولئك الذين أصابهم العجب والزهو ووصفهم القرآن الكريم بقوله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ «8» .
أما النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد ثبت وصمدت معه فئة قليلة من الصحابة، وكان يركب بغلته «9» ، وينظر إلى إدبار المسلمين ويدعوهم إلى الثبات، وهو يدفع بغلته نحو العدو وهو يردد: «أنا النّبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطّلب» ، ومعه العباس بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يمسكان بعنان بغلته لئلا تسرع به بين جموع العدو، وقد تراجع قليل من المسلمين يسيرا في الوقت الذي ابتعد معظمهم مدبرين ولم يصمد معه سوى عشرة أو اثني عشر من الصحابة فيهم العباس وأبو سفيان بن الحارث وأبو بكر الصديق وعمر بن
الخطاب وعلي بن أبي
__________
(1) ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 330، الواقدي- المغازي 3/ 893، وانظر ابن هشام السيرة- 2/ 442، أحمد- المسند 3/ 376.
(2) الواقدي- المغازي 3/ 895- 7.
(3) البخاري- الصحيح 5/ 130- 131، مسلم- الصحيح 2/ 735.
(4) الواقدي- المغازي 3/ 896- 897.
(5) البخاري- الصحيح 4/ 35 (حديث 4317) ، مسلم- الصحيح 3/ 1400- 1401 (حديث 1776) .
(6) البخاري- الصحيح (الفتح حديث 4315) ، مسلم- الصحيح 3/ 1398 (حديث 1775) .
(7) أحمد- المسند 5/ 286، الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 182.
(8) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية/ 25.
(9) مسلم- الصحيح 3/ 1398- 1400، القسطلاني- المواهب اللدنية 1/ 163، الواقدي- المغازي 3/ 895- 6.(1/377)
طالب- رضي الله عنهم) «1» .
وطلب الرسول صلّى الله عليه وسلّم من عمه العباس وكان جهوري الصوت أن ينادي الناس بالثبات وخص منهم أصحاب بيعة الرضوان فأسرعوا إليه عجلين، ثم نادى الأنصار ثم بني الحارث بن الخزرج فتلاحقوا نحوه حتى أصبحوا بين ثمانين ومائة مقاتل، عادوا إلى قتال هوازن وحلفائها، وكانت جولة جديدة أخلصوا فيها النية وحسن التوجه إلى الله وأظهروا فيها من الشجاعة وصدق العزيمة والثبات ما مكنهم من الصمود بوجه المشركين «2» ، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو ربه ويسأله النصر، وهو يقول: «أنا النّبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطّلب اللهمّ نزّل نصرك» «3» .
وحين غشيه الأعداء ترجل عن بغلته وقاتل، وكان الصحابة إذا اشتد البأس والتحم القتال يتقون به لشجاعته وثباته «4» . وعند ما رأى من فر من المسلمين موقفه وثباته وسمعوا صوت العباس يناديهم عادوا إلى المعركة والتحقوا بقوات الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهم ينادون: لبّيك لبّيك! حتى إن بعضهم لم ينتظر حتى يتمكن من أن يلوي عنان بعيره ليعود به، فهو يتركه ويأخذ درعه وسيفه ورمحه ويعود راكضا حتى ينتهي إلى موقع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيجالد المشركين «5» . واشتد القتال وتكاتفت قوى الإيمان والخير فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هذا حين حمي الوطيس» «6» .
وأخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم قبضة من تراب وحصيات من الأرض فرمى بهما وجوه الكفار وهو يقول: «شاهت الوجوه» «7» ؛ فما كان منهم أحد إلّا ملئت عينه ترابا من تلك القبضة فولوا مدبرين، والرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «انهزموا وربّ محمّد» كررها مرتين «8» .
وهكذا لم تصمد قوات المشركين طويلا في الجولة الثانية حين صدق المسلمون ما عاهدوا الله عليه، وأجرى الله تعالى على يد نبيه المعجزة الواضحة، وإلى ذلك يشير القرآن الكريم من قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ* ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
__________
(1) مسلم- الصحيح 3/ 1398- 1400، الحاكم- المستدرك 3/ 255، أبو يعلى- المسند 3/ 338 (رقم 303) ، ابن هشام- السيرة 2/ 442.
(2) مسلم- الصحيح 3/ 1398- 1400، ابن هشام- السيرة 2/ 444- 5، الصنعاني- المصنّف 5/ 380- 81، ابن سعد- الطبقات 4/ 18.
(3) مسلم- الصحيح 3 (1401) .
(4) البخاري- الصحيح 4/ 35- 53، مسلم- الصحيح 3/ 1400- 1401 (حديث 1776) ، النووي- شرح صحيح مسلم 4/ 401- 402.
(5) مسلم- الصحيح 3/ 1398- 1400، ابن هشام- السيرة 2/ 444- 445.
(6) مسلم- الصحيح 3/ 1398- 1400.
(7) المرجع السابق 3/ 1401- 1402.
(8) المرجع السابق 3/ 1402.(1/378)
عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» .
انهارت قوى الشرك، وفرت من ميدان المعركة بشكل غير منظم مخلفة وراءها أعدادا كثيرة من القتلى وكمية كبيرة من الغنائم، كما خلفت شراذم من قواتها تمكن المسلمون من القضاء عليهم بسهولة، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بتعقب المشركين المهزومين وقتلهم حتى يمنع إمكانية تجمعهم ثانية واحتمال عودتهم إلى القتال فكانت خسائر المشركين في القتلى خلال هزيمتهم أعظم من خسارتهم خلال المعركة. وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قتل النساء والأجراء وكل من لا يحمل السلاح، كما نهى عن قتل الأولاد والذرارى حين بلغه أن بعضهم قد قتل خلال المعركة، وقال له أحد المسلمين: «إنما هم أولاد المشركين» ، فأجاب النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أو هل خياركم إلّا أولاد المشركين؟، والّذي نفس محمّد بيده ما من نسمة تولد إلّا على الفطرة حتّى يعرب عنها لسانها» «2» .
وكان سبي حنين كثيرا، فقد بلغ ستة آلاف من النساء والأبناء «3» ، أما الغنائم فقد بلغت أربعة آلاف أوقية فضة «4» ، أما الإبل فكانت أربعة وعشرين ألفا»
، أما الأغنام فكانت أكثر من أربعين ألف شاة «6» ، وقد حبس الرسول صلّى الله عليه وسلّم هذا السبي والغنائم بالجعرانة ليتصرف فيها بعد الفراغ من أمر الطائف «7» .
لم تكن خسائر المسلمين كبيرة خلافا للتوقعات من خلال المعلومات العامة عن إصابات المسلمين في الجولة الأولى وفرار الكثير منهم، بل إنها كانت طفيفة جدا إذا ما أدخلنا قوة المشركين واستعداداتهم وخططهم في الاعتبار وذلك من فضل الله وحفظه ورحمته بالمسلمين، فقد استشهد منهم أربعة شهداء «8» ، وجرح عدد منهم، أشارت المصادر من بينهم إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله بن أبي أوفى وخالد بن الوليد «9» ، ومما يؤكد صحة هذه الأرقام بالإضافة إلى ورودها في مرويات صحيحة، قيام المسلمين بعد الجولة الثانية بمطاردة المشركين إلى مسافات بعيدة، كما أنهم توجهوا إلى حصار الطائف بعد انتهاء معركة حنين مباشرة.
تفرق من نجا من مقاتلة المشركين في الجبال والوديان بعد هزيمتهم في معركة حنين، ولجأت مجموعة كبيرة
__________
(1) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآيات/ 26- 27.
(2) أحمد- المسند 3/ 435.
(3) الصنعاني- المصنف 5/ 381، ابن سعد- الطبقات 2/ 155 من رواية الزهري عن ابن المسيب مرسلا، الطبري- تاريخ 3/ 82، الذهبي- المغازي ص/ 606.
(4) ابن سعد- الطبقات 2/ 152.
(5) المرجع السابق 2/ 152 وكان معهم خيل وأبقار وحمير وبغال غير أن المصادر لم تذكر عددها.
(6) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(7) أخرجه البزار كما في كشف الأستار للهيثمي 2/ 353، قال الحافظ ابن حجر: «إسناده حسن» ، انظر، الإصابة 1/ 145.
(8) هم: أبو عامر الأسلمي، وأيمن بن عبيد، ويزيد بن زمعة بن الأسود، وسراقة بن الحارث، انظر: البخاري- الصحيح 5/ 126، الحميدي- المسند 2/ 398، الهيثمي- كشف الأستار 2/ 346، وحسن إسناده الحافظ ابن حجر، فتح الباري 8/ 42.
(9) البخاري- الصحيح 5/ 126 (حديث 4314) ، الهيثمي- كشف الأستار 2/ 346، البزار- مختصر الزوائد ص/ 49- 50 (رقم 816) ، الحميدي- المسند 2/ 398 بإسناد صحيح.(1/379)
منهم إلى أوطاس «1» ، وعسكرت مجموعة أخرى منهم في نخلة «2» ، أما غالبية من انهزم من ثقيف فقد تبعوا قائدهم مالك بن عوف النصري إلى حصونهم بالطائف، وقد لا حق مقاتلة المسلمين الفارين حسب توجيهات النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث بعث أبا عامر عبيد بن سليم بن حضار الأسلمي على رأس قوة من المسلمين إلى أوطاس فقاتلهم وقتل دريد ابن الصمة «3» ، وقد أصيب أبو عامر الأسلمي بسهم وهو يقاتلهم فاستخلف أبا موسى الأشعري في القيادة وطلب منه أن يبلغ سلامه للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأن يطلب منه الاستغفار له «4» ، قبل أن يستشهد، وأكمل المسلمون بقيادة الأشعري المهمة وهزموا الأعداء بعد أن قتل في أوطاس من المشركين من بني مالك ثلاثمائة قتيل بينهم دريد بن الصمة «5» ، كما قتل خلق كثير من بني نصر بن معاوية من قبيلة رئاب. «6» وهكذا فإنه ليس بالإمكان إعطاء رقم دقيق لعدد قتلى المشركين الإجمالي في معركة حنين فقد كان عدد قتلى بني مالك من ثقيف في الجولة الثانية من حنين قد بلغ اثنين وسبعين قتيلا وقتل من الأحلاف قتيلان، وقتل بأوطاس كما أسلفنا ثلاثمائة من بني مالك، وتشير المصادر إلى أنه قتل خلق كثير من فروع هوازن الأخرى وخاصة من بني نصر بن معاوية وغيرهم ممن قتلوا أثناء فرارهم إلى نخلة من حنين.
وتشير مرويات مرسلة إلى أن الشيماء أخت الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الرضاعة، ومرضعته حليمة السعدية قد التقتا الرسول صلّى الله عليه وسلّم فأكرمهما. «7»
غزوة الطائف:
تجمعت قوات المسلمين في أعقاب النصر المظفر الذي كتبه الله لهم في معركة حنين، وتوجهوا بقيادة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الطائف بهدف القضاء على قوات ثقيف التي فرت من حنين، وكانت فلول ثقيف بقيادة مالك بن عوف قد لجأت إلى حصونها المنيعة في الطائف وجمعت ما يكفيها من المؤن الغذائية لعام كامل، وأغلقت أبوابها واتخذت كافة الإجراءات والاستعدادات التي تمكنها من مواجهة حصار طويل وواصلت ترميم الحصون وتدعيمها إلى حين وصول طلائع المسلمين المتجهة نحوهم «8» .
__________
(1) واد بين حنين والطائف، معجم البلدان 1/ 281.
(2) موضع بين حنين وسبواحة (تعليق حمد الجاسر على كتاب المناسك للحربي) .
(3) البخاري- الصحيح 5/ 128، وفيه أن الذي قتله هو الزبير بن العوام، الهيثمي- كشف الأستار 2/ 346، وحسّنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري 8/ 42.
(4) البخاري- الصحيح 4/ 28، 5/ 128، 8/ 69، مسلم الصحيح 4/ 1943، وفيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد دعا له، (حديث 2498) .
(5) ابن إسحاق- سيرة ابن هشام 2/ 453- 54، الواقدي- المغازي 3/ 916، ابن سعد- الطبقات 2/ 152.
(6) ابن هشام- السيرة 2/ 454، وجعلهم الواقدي في المغازي 3/ 916 «بني رباب» ، عوضا عن «رئاب» ، ولم يرد الخبر في مرويات حديثية صحيحة.
(7) ابن إسحاق- سيرة ابن هشام 2/ 458، البيهقي- دلائل النبوة 3/ 56، الطبري- جامع البيان 10/، 101 وعن لقاء حليمة السعدية، انظر البخاري- الأدب المفرد ص/ 440، أبو داود- السنن 2/ 630، الحاكم- المستدرك 3/ 618، 4/ 164، ابن كثير- البداية 4/ 364.
(8) ابن هشام- السيرة 4/ 170- 171، ابن سعد- الطبقات 2/ 158.(1/380)
وصل الجيش الإسلامي إلى الطائف في حدود نهاية الأسبوع الثالث من شهر شوال، فباشروا إحكام الحصار حول حصون العدو مدة أسبوعين، وكان نزولهم أول الأمر قريبا من حصون العدو وعلى مرمى سهامهم مما أدى إلى سقوط عدد من الشهداء وجرح عدد آخر منهم، ثم تحول المسلمون وعسكروا في الموضع الذي بنى فيه المسجد «1» ، وكان القتال تراشقا بالسهام في أول الأمر، ثم استخدم المسلمون «الدبابة» بهدف الوصول إلى الأسوار وثقبها آمنين من السهام، ولكن ثقيفا فطنت للأمر فألقت عليهم قطع حديد محمّاة أحرقت الدبابة وحين خرج المقاتلون المسلمون منها، ضربوهم بالسهام فقتلوا بعضهم.. واستخدم المسلمون المنجنيق لرمي التحصينات بالحجارة بهدف هدمها وإيقاع إصابات في قوات العدو في الوقت نفسه، غير أن قلة هذه الآلات وعدم وجود خبراء في استعمالها وإجادة التهديف بها جعل أثرها محدودا. «2» ولذلك فقد وجد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن أفضل وسيلة للضغط على ثقيف هي في تهديد مواردها الاقتصادية الحيوية المتمثلة في بساتينها، فأمر صلّى الله عليه وسلّم بتحريق بساتين الأعناب والنخيل في ضواحي الطائف، مما كان له أثره الكبير في كسر معنوياتهم، فناشدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يدعها لله وللرحم، فاستجاب لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن تحقق الهدف المنشود «3» .
ونادى منادي النبي صلّى الله عليه وسلّم عبيد الطائف قائلا: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر» ، فنزل إليهم ثلاثة وعشرون عبدا، منهم أبو بكرة نفيع بن الحارث الثقفي، فأسلموا، فأعتقهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يعدهم إلى ثقيف بعد إسلامهم «4» . غير أن كل ذلك لم يؤثر كثيرا في عناد ثقيف التي صمدت بوجه الحصار، ورغم ما واجهته من وابل السهام التي أمطرها بها المسلمون لينالوا بها درجة من الجنة وعدهم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد تمكنت ثقيف من إيقاع إصابات شديدة بالمسلمين فقد كثرت الجراحات بينهم واستشهد منهم اثنا عشر شهيدا، وكل ذلك مقابل ثلاثة قتلى في صفوف ثقيف التي كانت ممتنعة بالحصون والأسوار العالية «5» .
أورد الإمام البخاري رواية صحيحة تدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يستهدف من غزو الطائف وحصارها تحقيق فتحها، وإنما أراد أن يكسر شوكة ثقيف، ويجعل للمسلمين اليد العليا عليهم في وصولهم إليها ومحاصرتها في عقر دارها حيث عرفها أن بلادها- الطائف- هي في قبضة المسلمين وأنهم سيدخلونها متى شاءوا ذلك، «6» ويظهر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يرغب في أن يشق على المسلمين ويكثر من تقديم الشهداء منهم لفتح بلدة صغيرة حصينة تحيط بها ديار الإسلام من كل صوب، إذ لم يكن لثقيف رغم عنادها وصمودها إلا الإسلام أو الاستسلام،
__________
(1) مسلم- الصحيح 2/ 736، أحمد- المسند 3/ 157، وانظر رأي الحافظ ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 356، ابن هشام- السيرة 2/ 478.
(2) ابن هشام- السيرة 2/ 478- 483 برواية ابن إسحاق.
(3) البيهقي- السنن الكبرى 9/ 84، الشافعي- كتاب الأم 7/ 323.
(4) البخاري- الصحيح 5/ 129، أحمد- المسند 1/ 236، ابن حجر- فتح الباري 8/ 46، الصنعاني- المصنّف 5/ 301، ابن سعد- الطبقات 2/ 158- 159، وانظر ابن هشام- السيرة 2/ 485.
(5) البخاري- الصحيح 8/ 20، ابن هشام- السيرة 2/ 486- 487، الواقدي- المغازي 3/ 929- 30.
(6) البخاري- الصحيح 5/ 128، 9/ 113.(1/381)
وإضافة إلى ذلك فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدرك أن ثقيفا إذا تحولت إلى الإسلام فإنها ستكون مادة له وقوة ومنعة فهم أهل شجاعة وفطنة وذكاء وكان يطمع في إسلامهم ويدعو لهم بالهداية.
اقترح النبي صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه فك الحصار، فلما رأى حرصهم على القتال سمح لهم بذلك حتى اقتنعوا بعدم جدوى ذلك، فلما أعاد عليهم فكرة فك الحصار ثانية أظهروا الرضا بقراره الحكيم ونفذوه وعادوا مرة أخرى إلى الجعرانة حيث خلفوا غنائم حنين قبل أن يتوجهوا إلى الطائف «1» ، وكان النبي قد أخر قسمتها، كما أنه لم يتعجل في قسمتها بعد عودته مع الجيش سوى شيء قليل من الفضة قسمه عند وصوله «2» ، ثم انتظر بضع عشر ليلة مؤملا قدوم هوازن وإسلامها ولكنه، حين أبطأت عليه، بادر إلى تقسيم الغنائم «3» ، حيث قسمها صلّى الله عليه وسلّم بصورة خفيت حكمتها على بعض الصحابة آنذاك، حيث حظي بهذه الغنائم الطلقاء والأعراب تأليفا لقلوبهم لقرب عهدهم بالإسلام، فأعطى مائة من الإبل لأحد زعماء غطفان، ومثلها لأحد زعماء تميم ولستة آخرين من زعماء قريش. وقسم أيضا لاثنين وخمسين رجلا ذكرتهم المصادر من المؤلفة قلوبهم «4» ، وقد استمالت هذه القسمة قلوب الزعماء وأتباعهم فاظهروا الرضا بها وزادهم ذلك رغبة في الإسلام، ثم حسن إسلامهم فأبلوا في الإسلام بلاء حسنا وبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله «5» . وذلك ما عناه أنس بن مالك- رضي الله عنه- بقوله: «إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلّا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها» «6» .
ولقد أوضح النبي صلّى الله عليه وسلّم الحكمة من وراء تقسيمه الغنائم على تلك الصورة التي كان لها أثر سلبيّ على مشاعر بعض المسلمين الذين لم تشملهم القسمة فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«والله إنّي لأعطي الرّجل وأدع الرّجل، والّذي أدع أحبّ إليّ من الّذي أعطي، ولكن أعطي أقواما لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير» .
وقال: «إنّي لأعطي رجالا حدثاء عهد بكفر أتألّفهم» وحين بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الأنصار قد وجدوا في أنفسهم بسبب قسمة الغنائم هذه، وأن بعضهم قال: «يعطي قريشا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم» ، وقالوا:
«إذا كانت الشدة فنحن ندعى، وتعطى الغنائم غيرنا» «7» ، وقد وردت روايات صحيحة تضمنت كيف أوضح لهم
__________
(1) البخاري- الصحيح 5/ 128- 9/ 113.
(2) الحاكم- المستدرك 2/ 121.
(3) البخاري- الصحيح- فتح 8/ 32.
(4) ابن هشام- السيرة 2/ 494- 496، الزرقاني- شرح المواهب اللدنية 3/ 37، ابن حجر- فتح الباري 8/ 48.
(5) ابن عبد البر- الاستيعاب 1/ 103، وانظر: ابن سعد- الطبقات 7/ 37، ابن حجر- الإصابة 1/ 58، ابن حزم- جوامع السيرة ص/ 248.
(6) مسلم- الصحيح 4/ 1806، وانظر البخاري- الصحيح 2/ 104، 4/ 73، 8/ 79، ابن حجر- فتح الباري 3/ 336.
(7) نقل ابن هشام أنه لما أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أعطى في قريش وقبائل العرب، ولم يعط الأنصار شيئا، قال حسان بن ثابت يعاتبه في ذلك في قصيدة أوردها (السيرة 3/ 497) ورد فيها قوله:
وأت الرسول وقل يا خير مؤتمن ... قدام قوم هم آووا وهم نصروا
علام تدعى سليما وهي نازحة ... للمؤمنين إذا ما عدّل البشر
سماهم الله أنصارا بنصرهم ... دين الهدي وعوان الحرب تستعر
وهي قصيدة تقع في ثلاثة عشر بيتا.(1/382)
النبي صلّى الله عليه وسلّم الحكمة من التوزيع، وأنه إنما وكلهم إلى إيمانهم «1» ، وأورد ابن إسحاق رواية نص فيها على التحديث عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد عن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جمع الأنصار ثم أتاهم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:
«يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم، وجدة عليّ في أنفسكم، ألم آتكم ضلّالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله وأعداء فألّف الله بين قلوبكم! قالوا: بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل..» ثم قال صلّى الله عليه وسلّم:
«أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدّنيا تألّفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب النّاس بالشّاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فو الّذي نفس محمّد بيده، لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار ولو سلك النّاس شعبا وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار، اللهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» «2» ، قال فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا رضينا برسول الله قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفرقوا «3» ، وهكذا فلم يكن يهمهم المال، ولذلك فإنهم ما إن عرفوا سبب منع الأعطيات عنهم ووضحت لهم الحكمة في توزيعه صلّى الله عليه وسلّم للغنائم حتى أعلنوا رضاهم، وأسعدهم كثيرا اعتماد النبي صلّى الله عليه وسلّم على إخلاصهم لعقيدتهم، وأنه وكلهم إلى إيمانهم فكانوا عند حسن الظن بهم.
وتحدثت المصادر عن نماذج من جفاء وغلظة الأعراب وتصرفاتهم الصلفة وغير المنضبطة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم أثناء توزيعه الغنائم، كما تحدثت عن قوة تحمله صلّى الله عليه وسلّم وصبره الكبير على جفاء الأعراب وطمعهم في الأموال وحرصهم على المكاسب، وإدراكه لأحوالهم وما جبلوا عليه من قساوة وفظاظة وأنانية، وقد طمأنهم على مصالحهم وعاملهم على قدر عقولهم وكان بهم رحيما ولهم مربيا ومصلحا «4» .
وبعد قسمة الغنائم قدم وفد من هوازن يعلن إسلامهم ويلتمس من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رد أموالهم وذراريهم عليهم، فخيرهم بين الأموال والسبي فاختاروا السبي، فجمع النبي صلّى الله عليه وسلّم المسلمين وخطب فيهم، وقال إنه يريد أن يرد السبي لهوازن «فمن أحبّ منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحبّ أن يكون على حظّه حتّى نعطيه إيّاه من أوّل ما يفيء الله علينا فليفعل» ، ورغم أن المسلمين نادوا: «طيبنا يا رسول الله لهم» ، فإنه صلّى الله عليه وسلّم قال لهم:
«إنّا لا ندري من أذن منكم فيه ممّن لم يأذن، فارجعوا حتّى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم» ، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأخبروه أنهم طيبوا وأذنوا» «5» .
ولقد كان إسلام هوازن نصرا آخر كتبه الله للمسلمين سرّ به النبي صلّى الله عليه وسلّم فسألهم عن زعيمهم مالك بن
__________
(1) البخاري- الصحيح 4/ 74، 145، 5/ 26، 28، 130، 7/ 133، 8/ 130، 9/ 106 (الأحاديث 4331، 4332، 4433، 4334، 4337، مسلم- الصحيح 2/ 733- 736 (حديث 1059) .
(2) ابن هشام- السيرة 3/ 498- 499.
(3) المرجع السابق 3/ 500.
(4) القرآن الكريم- الآيات/ 97- 98.
(5) البخاري- الصحيح 3/ 87، 156.(1/383)
عوف ووعدهم برد أهله وأمواله عليه وبإكرامه بمائة من الإبل إن قدم عليه مسلما، فأسلم وحسن إسلامه وقاتل المشركين في الطائف وضيق عليهم، وقد أسلم بعد ذلك بعض زعماء ثقيف أمثال عروة بن مسعود الثقفي الذي لحق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في طريق المدينة فأسلم على يديه وعاد إلى الطائف يدعو إلى الإسلام، ويؤذن من على سطح منزله فرماه بعض المشركين فأصابه، ودفن بناء على وصيته مع شهداء المسلمين أثناء حصار الطائف «1» .
أما غالبية قبيلة ثقيف فقد تأخر إسلامهم إلى ما بعد عودة النبي صلّى الله عليه وسلّم من غزوة تبوك وسنعرض لذلك في حينه إن شاء الله.
وقد استنبطت من غزوة حنين والطائف جملة أحكام منها ما يتعلق بأحكام المسبيات المتزوجات»
، والنهي عن قتل من لا يشترك في القتال من جبهة المشركين من النساء والأطفال والشيوخ والأجراء «3» ، وإقامة الحد في دار الحرب «4» ، وجواز إعطاء الغنائم للمؤلفة قلوبهم. وجواز قطع وتحريق أشجار وبساتين الكفار إذا كان في ذلك إضعاف لهم، كما شرعت العمرة من الجعرانة «5» .
تنظيم استيفاء الصدقات والجزية:
شرع الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد عودته إلى المدينة في أواخر ذي القعدة في تنظيم الإدارة والجباية، وكان صلّى الله عليه وسلّم قد استخلف عتاب بن أسيد على مكة حين انتهى من أداء العمرة، وخلف معه معاذ بن جبل يفقّه الناس ويعلمهم القرآن، وكان رزق عتاب ثلاثين درهما في الشهر «6» .
وفي مطلع المحرم من العام التاسع وجّه الرسول صلّى الله عليه وسلّم عماله على المناطق المختلفة.
فبعث: بريدة بن الحصيب إلى أسلم وغفار وعباد بن بشر الأشهلي إلى سليم ومزينة، ورافع بن مكيث إلى جهينة، وعمرو بن العاص إلى فزارة، والضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب، وبسر بن سفيان الكعبي إلى بني كعب، وابن اللّتبيّة الأزدى إلى بني ذبيان، ورجلا من بني سعد بن هذيم إلى بني هذيم «7» ، والمهاجر بن أبي أمية إلى صنعاء، وزياد بن لبيد إلى حضرموت، وعدي بن حاتم الطائي إلى طيء وأسد، ومالك بن نويرة إلى بني حنظلة، والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم إلى بني سعد «8» ، والعلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وعلي بن أبي طالب إلى نجران ليجمع صدقتهم، ويقدم عليه بجزيتهم «9» .
__________
(1) ابن هشام- السيرة 2/ 537- 8، ابن كثير- البداية والنهاية 5/ 29.
(2) أحمد- المسند 3/ 488.
(3) أحمد- المسند 3/ 488، الحاكم- المستدرك 2/ 123، البيهقي- السنن 9/ 130.
(4) أبو داود- السنن 12/ 196- 197، أحمد- المسند 4/ 350، الدارقطني- السنن 3/ 157- 158.
(5) مسلم- الصحيح 4/ 1806.
(6) ابن حجر- الإصابة 2/ 451، البخاري- التاريخ الكبير 7/ 54، خليفة بن خياط- التاريخ ص/ 88.
(7) الواقدي- المغازي 3/ 973، ابن سعد- الطبقات 2/ 160.
(8) ابن هشام- السيرة 4/ 328.
(9) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.(1/384)
السرايا والأحداث حتى غزوة تبوك:
كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد بعث الطفيل بن عمرو من مقرّه في حنين وقبل أن يسير إلى الطائف، وأمره بأن يهدم «ذي الكفّين» صنم عمرو بن حممة الدوسي، ثم يستمد قومه ويوافيه مع المدد إلى الطائف، وقد نفذ الطفيل بن عمرو أوامر النبي صلّى الله عليه وسلّم فهدم «ذي الكفين» وحرقه وقاد أربعمائة من قومه ومعهم دبابة ومنجنيق مددا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوصلوا إليه بعد مقدمه الطائف بأربعة أيام «1» .
إسلام كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني الشاعر:
كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد أهدر دم كعب بن زهير في أعقاب هجوه لأخيه بجير بقصيدة عرّض فيها بالرسول صلّى الله عليه وسلّم وبأبي بكر (رضي الله عنه) «2» ، فكتب إليه أخوه محذرا وأغراه بالقدوم وقد سمع كعب نصيحة أخيه بجير التي ضمنها قصيدته التي جاء فيها قوله:
إلى الله لا العزى ولا اللات وحده ... فتنجو إذا كان النجاء وتسلم
فأسلم وقدم على النبي صلّى الله عليه وسلّم فأمنه، فأنشده قصيدته المشهورة «بانت سعاد» التي ألقاها في المسجد على مسامع النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وهي قصيدة طويلة نقل منها ابن هشام أكثر من خمسين بيتا فيها اعتذار وإقرار بالخطأ ومديح ودفاع عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ودينه ورد فيها قوله:
نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذي أعطاك ... نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم ... أذنب ولو كثرت فيّ الأقاويل
وقد سر النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك، وحين بلغ قوله:
إن الرسول لنور يستضاء به ... مهنّد من سيوف الله مسلول
في عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا
أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم بكمه إلى الناس ليأتوا ويسمعوا منه، ورمى على كعب بردة كانت عليه «3» ، ولا شك في أن إسلام شاعر فذ موهوب من الشعراء المخضرمين المرموقين، وتصديه لمدح النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه والإسلام كان له أثره الكبير في المجتمع القبلي في الدعوة للإسلام، والدعاية له، والرد على مناوئيه وخصومه.
__________
(1) ابن هشام- السيرة 2/ 385 بدون إسناد.
(2) ابن هشام- السيرة 4/ 201، الذهبي- المغازي ص/ 618- 21، البيهقي- دلائل النبوة 5/ 207.
(3) ابن هشام- المصدر السابق، وانظر 3/ 503.(1/385)
سرية عبد الله بن حذافة السهمي:
وردت روايات صحيحة «1» تفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استعمل رجلا من أصحابه، يرجح أن يكون عبد الله بن حذافة السهمي «2» ، على سرية وأمرهم أن يطيعوه، فأغضبوه في شيء، فأمرهم فأوقدوا نارا، ثم ذكرهم بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم بالسمع والطاعة له، وأمرهم أن يدخلوا النار التي أوقدوها، فامتنعوا وقالوا: «إنما فررنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من النار» وحين علم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالأمر قال «لو دخلوها ما خرجوا منها، إنّما الطّاعة في المعروف» . وقد روى الشيخان أن الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «3» قد نزلت فيه عندما أرسله النبي صلّى الله عليه وسلّم في السرية «4» .
غزوة تبوك: «جيش العسرة» : «5»
أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين بجهاد أهل الكتاب، كما أمرهم بجهاد المشركين، وخلافا لما حصل مع المشركين الذين لا يقبل منهم إلا الدخول في الإسلام أو أن يأذنوا بقتال، فإن أهل الكتاب لهم حق الاحتفاظ بدينهم إذا ما اعترفوا بالسيادة لدولة الإسلام وأدّوا الجزية عن يد وهم صاغرون. قال تعالى:
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ «6» .
ولذلك فليس هناك ما يدعو إلى البحث عن الأسباب المباشرة لهذه الغزوة، كما حاول بعض المؤرخين المسلمين حين ذكروا أن هرقل قد جمع الجموع «7» ، أو كما ذكر آخرون أنه قد قصد منها أخذ الثأر لقتلى المسلمين في مؤتة عامة وجعفر بن أبي طالب خاصة «8» ، أو ادعاء العض أنها ناجمة عن مشورة يهود «9» .
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري حديث 7145) ، مسلم- الصحيح 3/ 1469، كتاب الإمارة، (الحديث 1840) .
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري حديث 4584) ، مسلم- الصحيح 3/ 1465، (الحديث 1834) ، أحمد- المسند 3/ 67، وانظر صحيح سنن ابن ماجه للألباني 2/ 142 (حديث 2863) والحاكم- المستدرك 3/ 630- 1.
(3) القرآن الكريم- سورة النساء، الآية/ 59.
(4) خالف ذلك الحافظ ابن كثير (التفسير 2/ 303) والطبري (التفسير 8/ 498- 9) وقالا إنها إنما نزلت في خالد بن الوليد، وقالا إن الآية في جميع أولي الأمر من الأمراء والعلماء، وذكر الواقدي في المغازي (3/ 983) وتابعه ابن سعد في الطبقات (2/ 163) أنها نزلت في علقمة بن محرز حين بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم في سرية لرد الأحباش عن جدة.
(5) وردت «العسرة» تسمية للغزوة في القرآن الكريم سورة التوبة، الآية (29) ، وعنون البخاري لها «باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة» ، وأورد مسلم في صحيحه أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو الذي سماها تبوك (الصحيح- كتاب الفضائل 7/ 60- 61) .
(6) القرآن الكريم- سورة التوبة (29) .
(7) ابن سعد- الطبقات 2/ 165.
(8) اليعقوبي- التاريخ 2/ 67.
(9) ابن كثير- التفسير 5/ 210- 211. وانظر ابن عساكر- تاريخ دمشق 1/ 167- 168، والخبر في ذلك مرسل وضعيف.(1/386)
وهكذا فقد كانت غزوة تبوك استجابة إيمانية لفريضة الجهاد حيث كان الروم أقرب الناس إلى ديار الإسلام ولذلك فإنهم أولى الناس بالدعوة. «1» وقد قال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ «2» ، وهكذا، فبعد القضاء على الوثنية في جزيرة العرب، وإجلاء يهود من المدينة وغيرها، كان على المسلمين أن يقاتلوا أهل الكتاب من النصارى الذين كانوا يقطنون على المشارف الشمالية الغربية من جزيرة العرب، حيث كانت المنطقة التي توجه إليها الرسول في هذه الغزوة من ديار قضاعة وهي خاضعة لسلطان الإمبراطورية البيزنطية (الروم) .
ولقد دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم الصحابة إلى الإنفاق على هذه الغزوة نظرا لكثرة المشاركين فيها، وبعد المسافة التي كان على الجيش أن يقطعها، ووعد المنفقين بعظيم الأجر من الله سبحانه وتعالى، فسارع أغلب الصحابة إلى المشاركة في توفير الأموال المطلوبة كل حسب مقدرته، وكان عثمان بن عفان أكثر المنفقين على جيش العسرة استجابة لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «من جهّز جيش العسرة فله الجنّة» ، وتواترت الأخبار الصحيحة بأن عثمان بن عفان قد تحمل نفقات جيش العسرة، فلقد سارع بتقديم ألف دينار في بداية الاستعدادات صبها في حجر النبي صلّى الله عليه وسلّم «3» كما قدم أموالا أخرى تتمثل في الجمال والعدد التي يحتاج إليها في نقل الجيش والحرب «4» . وساهم عبد الرحمن بن عوف في تحمل قسط من نفقات الجيش حين قدم نصف أمواله حينذاك وبلغت مساهمته في حدود ألفي درهم «5» . كما قدم عمر بن الخطاب مائة أوقية «6» ، ولا شك في أن عددا آخر من الصحابة قد ساهموا في تغطية بقية النفقات كل على قدر طاقته، والدليل على ذلك أن فقراء المسلمين قدموا ما قدروا عليه من النفقة، رغم بساطته وقلته، على استحياء منهم فقد جاء أحدهم بصاع من تمر، وجاء آخر بنصف صاع منه، مما عرضهم لسخرية ولمز المنافقين، فأنزل الله تعالى قوله الكريم: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «7» .
ولا شك في أن المنافقين كانوا يتهمون أغنياء المسلمين بالرياء، في نفس الوقت الذي يسخرون فيه من صدقة الفقراء، وكان علبة بن زيد، وهو من البكائين، واحدا من سبعة رجال من المسلمين الذين أرادوا المشاركة في الغزوة وطلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجد لهم ما يحملهم عليه، فلم يجد فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألّا يجدوا
__________
(1) يقول الحافظ ابن حجر «فعزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قتال الروم، لأنهم أقرب الناس إليه وأولى الناس بالدعوة لقربهم إلى الإسلام وأهله» (البداية والنهاية 2/ 5) .
(2) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية/ 123، وانظر الطبري- التفسير 11/ 71.
(3) البخاري- الصحيح 4/ 11 (كتاب الوصايا) ، فتح الباري 5/ 306، أحمد- المسند 5/ 53.
(4) الترمذي- السنن 13/ 153- 154، الحاكم- المستدرك 3/ 102.
(5) الطبري- التفسير 10/ 191- 196.
(6) ابن عساكر- تاريخ دمشق 1/ 408- 409، وانظر الترمذي- السنن 9/ 277.
(7) القرآن الكريم- سورة التوبة، آية (79) ، وانظر: البخاري- الصحيح (فتح الباري، حديث 4668) .(1/387)
ما ينفقون وقد أنزل الله سبحانه وتعالى فيهم وفي أمثالهم قوله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ «1» .
أعلن النبي صلّى الله عليه وسلّم النفير العام فأمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم، وقد انفرد الواقدي بذكر خبر إرسال النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى القبائل يستنفرها بالخروج مع الجيش الإسلامي من المدينة إلى تبوك وقد أشار القرآن الكريم إلى إعلان النفير فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ «2» .
وكان النفير المعلن أمرا واجبا على الجميع تنفيذه والالتزام به؛ فقد طالبهم القرآن الكريم أن ينفروا شبابا وشيوخا أغنياء وفقراء وأن يكون جهادهم جميعا بالأموال والأنفس، فقال تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ «3» .
وقد أورد ابن هشام مروية لابن إسحاق جمع فيها معلومات أخذها من عدة مصادر، جاء فيها: «أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم وذلك في زمان من عسرة الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه، وذلك ما أشارت إليه الآية الكريمة: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ «4» ، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلما يخرج في غزوة إلا كنّى عنها ويخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له، إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه بيّنها للناس، لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته، فأمر الناس بالجهاز، وأخبرهم أنه يريد الروم» «5» .
ولقد نجم النفاق في المدينة واستعلن بشأن هذه الغزوة، «وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر، زهادة في الجهاد، وشكّا في الحق، وإرجافا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم»
، فأنزل الله تعالى فيهم: وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ* فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «7» .
__________
(1) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآيات/ 91- 92.
(2) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية/ 38.
(3) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية/ 41.
(4) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية/ 42، الطبري- تفسير 14/ 272 بإسناد حسن الى قتادة ولكنه مرسل.
(5) «وقد ذكر لنا الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم من علمائنا» ، ابن هشام- السيرة 3/ 516.
(6) ابن هشام- السيرة 3/ 517.
(7) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية 81- 82.(1/388)
وحين عرض النبي صلّى الله عليه وسلّم على الجد بن قيس أحد بني سلمة المشاركة في جهاد الروم، اعتذر عن ذلك تحت ستار الخوف من الفتنة بسبب شدة ولعه بالنساء وقال: «وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر» ، فأعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: قد أذنت لك» ، وفيه نزلت الآية: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ. «1»
وكما اعتذر الجد بن قيس كذبا ونفاقا، فقد بادر عدد من المنافقين إلى تقديم أعذار كاذبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم لكي يأذن لهم بالتخلف عن الغزوة، ولذلك نزلت الآية. عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ. «2»
لم يقتصر النفاق على من نافق من أهل المدينة بل إنه امتد إلى البادية حولها، قال تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ «3» .
وحيث إن المنافقين من الأعراب، وهم أقسى قلوبا وأكثر جفوة وأقل علما بالأحكام والسنن، فإنهم أشد كفرا ونفاقا من منافقي أهل المدينة، كما وصفهم القرآن الكريم. الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ. «4»
لقد كانت غزوة تبوك منذ بداية الإعداد لها مناسبة للتمييز بين المؤمنين والمنافقين، وضحت فيها الحواجز بين الطرفين ولم يعد هناك أي مجال للتستّر على المنافقين أو مجاملتهم بل أصبحت مجابهتهم أمرا ملحا بعد أن عملوا كل ما في وسعهم لمجابهة الرسول والدعوة، وتثبيط المسلمين عن الاستجابة للنفير الذي أعلنه الله تعالى والرسول صلّى الله عليه وسلّم والذي نزل به القرآن الكريم، بل أصبح الكشف عن نفاق المنافقين، وإيقافهم عند حدهم واجبا شرعيا. فحين بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم أن أعدادا من المنافقين كانوا يجتمعون في بيت سويلهم اليهودي يثبطون الناس عن الغزوة، أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم إليهم من أحرق عليهم بيت سويلم «5» ، وحين ابتنى المنافقون مسجدا لهم ليجتمعوا فيه مكايدة للمسلمين وتفريقا لاجتماعهم ووحدتهم وطلبوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي فيه، نهاه الله تعالى عن ذلك وسماه (مسجدا ضرارا) فقال جل شأنه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ
__________
(1) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية/ 49.
(2) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية/ 43.
(3) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية/ 101.
(4) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية/ 97، الطبري- تفسير 11/ 3.
(5) ابن هشام- السيرة 4/ 217- 218 بإسناد منقطع.(1/389)
اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ «1» .
وجاء المعذرون من الأعراب فاعتذروا إليه، فلم يعذرهم الله تعالى «2» .
وهكذا فقد تخلف عن هذه الغزوة كثير من الأعراب والمنافقين، وعدد قليل من الصحابة من أهل الأعذار، وثلاثة من الصحابة تخلفوا دون أن يكون لهم عذر «3» .
سارع المؤمنون إلى الالتحاق بهذه الغزوة التي كشف النبي صلّى الله عليه وسلّم عن وجهتها كما أسلفنا لكي يستعدوا لذلك، ولم يهابوا المشاق التي تنتظرهم بسبب بعد المسافة والحر الشديد وقلة المئونة، كما لم تفتنهم طيبات الحياة الدنيا ورغد العيش والأمن الذي يوفره لهم البقاء في المدينة.
ولما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجيشه من المدينة ضرب معسكره بالجرف عند ثنية الوداع لكي يتلاحق أفراد الجيش به «4» ، واستعمل على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري «5» ، وخلف على أهله علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث أمره بالإقامة فيهم. وقد أرجف به المنافقون وقالوا «ما خلفه إلا استثقالا له وتخففا منه» ، وأخذ عليّ سلاحه وخرج من المدينة حتى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو نازل بالجرف، فأخبره بما قاله المنافقون عنه «6» ، وقال: يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان؟، وقد كذّب النبي صلّى الله عليه وسلّم مقولة المنافقين وقال لعلي: «ولكنّي خلّفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا إنّه لا نبيّ بعدي» «7» ، فرجع علي إلى المدينة. وأورد ابن إسحاق خبرا مرسلا «8» ذكر فيه أن عبد الله بن أبي بن سلول ضرب معسكرا خاصا به أفرده عن معسكر النبي صلّى الله عليه وسلّم وجعله «على حدة، عسكره أسفل منه نحو ذباب» «9» ، وكان فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين، فلما سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تخلف عنه عبد الله بن أبي،
__________
(1) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآيات 107- 108، الطبري- التفسير 14/ 468- 475.
(2) من مرويات ابن إسحاق بدون إسناد، ابن هشام- السيرة 3/ 518.
(3) وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، وسوف يرد تفصيل أمرهم بعد اكتمال الحديث عن الغزوة وعودة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة.
(4) البخاري- الصحيح (الفتح حديث 4416) ، مسلم- الصحيح 1870- 1871 (حديث 2404) .
(5) ابن هشام- السيرة 3/ 519، كما أورد خبرا نقله عن الدراوردي أنه استعمل على المدينة مخرجه إلى تبوك سباع بن عرفطة.
(6) وردت مرسلة في ابن هشام- السيرة 3/ 519- 520.
(7) وردت الحادثة، في البخاري- الصحيح 5/ 7، وفي مواضع أخرى منه، كما أوردها مسلم في صحيحه 7/ 120- 121 مع بعض التعديل لبعض المفردات، فقد جاء فيه: «أما ترضى» بدلا من «أفلا» ، وأسقط اسم علي من وسط الحديث، وانظر أحمد- فضائل الصحابة.
(8) ابن هشام- السيرة 3/ 519. والحديث أورده الإمام أحمد في كتابه «فضائل الصحابة» بطرق صحيحة عديدة أثناء تعرضه لفضائل الصحابي علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) (فضائل 2/ 594 رقم 1010) .
(9) جبل قرب المدينة.(1/390)
فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب» «1» .
أما عن عدد جيش المسلمين في غزوة تبوك فالراجح أنه كان أكثر من ثلاثين ألف مقاتل «2» ، وكان معهم عشرة آلاف فرس «3» ، وقد سلك الجيش طريق الشام «4» وفي الطريق إلى تبوك لحق بالجيش أبو خيثمة مالك بن قيس وكان من الأنصار بعد أن كان تخلف بالمدينة «5» ، كما لحق به أبوذر رضي الله عنه وهو لم يتخلف وإنما أبطأ به بعيره، مما دعاه إلى أن يأخذ متاعه فيحمله على ظهره، ويتبع أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ماشيا «6» .
وأورد الواقدي وغيره من أهل السير والمغازي مرويات عن جملة معجزات حصلت خلال غزوة تبوك ولكنها كلها ضعيفة «7» وأورد ابن إسحاق خبرا مرسلا عن تخذيل المنافقين للمسلمين أثناء الغزوة والجيش في طريقه إلى تبوك.
وأورد الطبري في تفسيره «8» آثارا متعددة في سبب نزول قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ* لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ «9» .
ومن ذلك أثر صحيح عن عبد الله بن عمر جاء فيه أن رجلا من المنافقين ذكر القراء بسوء فرد عليه رجل
__________
(1) على الرغم من ضعف الرواية وتفرد ابن إسحاق بإيرادها دون سند، فإن تصرفات عبد الله بن أبي زعيم المنافقين هذه قد تكون السبب في منع النبي صلّى الله عليه وسلّم من الصلاة عليه عند موته بعد رجوع النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين من تبوك.
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 113- مسلم- الصحيح 8/ 112 (حديث 2769) ، ابن حجر فتح الباري 8/ 118، وما ورد لا يتعارض مع ما أورده ابن إسحاق والواقدي.
(3) الواقدي- المغازي 3/ 996 برواية زيد بن ثابت، ابن سعد- الطبقات 2/ 166.
(4) تفصيلات قصته أوردها الطبراني (فتح الباري 8/ 119) كما أوردها ابن هشام برواية ابن إسحاق دون إسناد في سيرته 3/ 520- 521 كما أوردها الحافظ ابن كثير في البداية 5/ 7- 8 وقد أخرج قسما منها الإمام مسلم في صحيحه 8/ 107، والإمام أحمد في المسند 6/ 387- 388، كما أورده الواقدي- المغازي 3/ 998- 999 وجعله عبد الله بن خيثمة السالمي خلافا لما ورد برواية الزهري وابن إسحاق.
(5) الحاكم- المستدرك 3/ 50- 51، والذهبي- ميزان 1/ 306، ابن كثير- البداية 5/ 10- 11، وأورد ابن هشام في السيرة حيث ساق خبر إبطاء بعيره والتحاقه مع خبر وفاته بالربذة، ثم خبر وصول ركب عبد الله بن مسعود مع رهط من أهل العراق، وترحمه عليه وذكره لحديث النبي صلّى الله عليه وسلّم عن مسيره من تبوك (السيرة 3/ 524) .
(6) من ذلك ما ورد في مغازي الواقدي 3/ 1008- 1015 عن الأفعى التي اعترضت طريق المسلمين، ومعجزة الماء الذي نبع من بين أصابع النبي صلّى الله عليه وسلّم (المغازي 3/ 1040- 42) ، ومعجزة تكثير الطعام في تبوك (المغازي- 3/ 1017- 1018) ، ومعجزة نزول المطر بدعائه صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك (السيوطي- الخصائص الكبرى 2/ 106) ، ومعجزة لقاء النبي صلّى الله عليه وسلّم مع إلياس- عليه السلام- (الخصائص 2/ 109) ، ومع أن معجزات كثيرة قد وقعت للرسول صلّى الله عليه وسلّم وردت بطرق صحيحة ولا شك في حصولها ولا يمكن التشكيك فيها ولا مجال مطلقا لإنكار أي منها، فإن ما أشرنا إليه آنفا وقع مثلها في غير هذا الموضع وبأسانيد صحيحة. لكنها هنا ضعيفة الأسانيد.
(7) ابن هشام- السيرة 3/ 524.
(8) الطبري- التفسير 14/ 333 (رقم 16912) بإسناد صحيح.
(9) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآيات/ 65- 66.(1/391)
وكذبه وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك، فنزل القرآن في ذلك. قال ابن عمر: فأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تنكبه الحجارة وهو يقول يا رسول الله إنما كنّا نخوض ونلعب «1» .
وصل المسلمون إلى تبوك، وأوردت المصادر نص خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم في المسلمين عند ذلك «2» ، ولم يقع قتال مع الروم ولا مع القبائل العربية المتنصرة التي كانت تحت سيادتهم، ومكث النبي صلّى الله عليه وسلّم بجيشه عشرين ليلة في تبوك قبل أن يعود به إلى المدينة «3» .
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أعطى اللواء الأعظم لأبي بكر الصديق- رضي الله عنه-، والراية العظمى للزبير بن العوام، وجعل أسيد بن حضير على راية الأوس، والحباب بن المنذر على راية الخزرج، كما أمر بطون الأنصار أن يتخذوا الألوية والرايات وكذلك الحال مع القبائل العربية الأخرى «4» .
ومن تبوك أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم سرية من أربعمائة وعشرين مقاتلا شارك فيها عدد من الصحابة عهد بها إلى خالد ابن الوليد، وجهها إلى دومة الجندل، وتم أسر ملكها أكيدر بن عبد الملك الكندي وهو في البادية يتصيد، وصالحه النبي صلّى الله عليه وسلّم على الجزية «5» . وكانت غنائم هذه السرية ثمانمائة من السبي وألف بعير وأربعمائة درع ومثلها من الرماح «6» ، وقد وردت عدد من المرويات الصحيحة عن هدية أكيدر إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأنها شملت عددا من الحلل «7» .
__________
(1) الطبري- التفسير 14/ 333، واصح ما روى في تفسير الآية (66) ، من التوبة هو أن الذي عفى عنه هو مخشي بن حمير الأشجعي الذي أنكر بعض ما سمع وعن ذلك انظر: الطبري- التفسير 14/ 336- 7، ابن كثير- التفسير 4/ 112 السيوطي- الدار المنثور 3/ 254. وأورد ابن هشام في السيرة 3/ 524- 25 رواية ابن إسحاق في أمر هؤلاء المنافقين، وقال: إنهم إنما كانوا يشيرون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في الطريق إلى تبوك، وذكر أن أحدهم قال لبعضهم: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا! والله لكأنا بكم مقرنين بالحبال إرجافا وترهيبا للمؤمنين، فقال مخشي بن حمير: «والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأنّا نتفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه» ، وذكر تمام الخبر. والتّفلّت هو التخلص من الشيء فجأة من غير تمكث (النهاية 3/ 467) .
(2) لم تثبت هذه الخطبة من طريق صحيح رغم أن فقراتها مأخوذة من أحاديث أخرى بعضها صحيح وبعضها حسن، وقد أخرج الإمام أحمد في المسند 3/ 37 نص خطبة أخرى قصيرة في إسنادها مجهول، وكذلك فعل القاسم بن سلام في الأموال (ص/ 255- 256) ، كما أخرج الحافظ ابن كثير نص خطبة طويلة (البداية والنهاية 5/ 13- 14) في إسنادها أحد المتروكين. وقد رجح الدكتور العمري أن يكون بعض الرواة قد لفق هذه الخطبة من بعض الأحاديث الصحيحة المعروفة.
(3) موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان ص/ 145 بإسناد صحيح.
(4) الواقدي- مغازي رسول الله، 2/ 992، ابن سعد- الطبقات، 3/ 169، ابن عساكر- تاريخ دمشق 1/ 416.
(5) ابن كثير- البداية 5/ 17، من مراسيل عروة وفي سنده ابن لهيعة وهو ضعيف، ابن حجر- الإصابة (412- 415، السيوطي- الخصائص الكبرى 2/ 112- 113 وكلاهما عن طريق ابن إسحاق ضعيف مدلس، ابن هشام- السيرة 3/ 526 بإسناد حسن حيث صرح ابن إسحاق بالسماع والرواية عن عاصم عن قتادة عن أنس بن مالك.
(6) ابن كثير- البداية 5/ 17، من مراسيل عروة بن الزبير.
(7) البخاري- الصحيح (فتح الباري، الحديث 3802) ، مسلم- الصحيح 4/ 1916- 1817 (الأحاديث 2468- 2469) . وقد أوردها ابن حجر في الفتح عند شرح حديث البخاري المذكور آنفا، والذهبي في المغازي ص/ 646، وانظر كذلك البخاري- الصحيح (فتح الباري، الأحاديث 2612، 2614، 2619) .(1/392)
وفي تبوك وصلت النبي صلّى الله عليه وسلّم هدية من ملك أيلة في أرض فلسطين وهي بغلة بيضاء، وكساء من البرد، وقد صالح على دفع الجزية للمسلمين» .
وأورد الإمام أحمد «2» مرويات تشير إلى حصول مراسلة بين النبي صلّى الله عليه وسلّم- وهو في تبوك- وبين هرقل ملك الروم، وأن الأخير أرسل رسولا من قبيلة تنوخ العربية ليتعرف له على بعض علامات النبوة عند النبي صلّى الله عليه وسلّم «3» .
في طريق العودة إلى المدينة:
مر المسلمون في طريق عودتهم من تبوك بالحجر وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى المسلمين عن دخول مساكن ثمود خشية أن يصيبهم ما أصابهم، «إلّا أن تكونوا باكين» ، وأنه قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي «4» ، كما وردت رواية حسنة، ورد فيها أنه نهى الجيش عن شرب ماء الحجر أو الوضوء منه أو أن يعلفوا إبلهم بما عجنوه بماء بئر الحجر «5» . وحين اشتكى المسلمون ما أصاب إبلهم من التعب والجهد دعا الله سبحانه وتعالى قائلا: «اللهمّ احمل عليها في سبيلك إنّك تحمل على القويّ والضّعيف، وعلى الرطب واليابس، في البرّ والبحر» .
وإن الله تعالى- جل شأنه- استجاب لدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم فنشطت الإبل حتى وصلت بهم المدينة دون أن يشتكي أحد منها «6» .
وحاول جماعة من المنافقين المشاركين في الجيش وهم ملثمون حتى لا يعرفوا أن ينفروا دابة النبي صلّى الله عليه وسلّم لتطرحه من رأس عقبة في الطريق مع عتمة الليل، فعلم بمؤامرتهم وفطن لهم وأمر بإبعادهم بعد أن عصمه الله
__________
(1) البخاري- الصحيح 6/ 77 (كتاب الجزية- الحديث 3161) ، مسلم- الصحيح 7/ 61 (كتاب الفضائل) ، وذكر ابن إسحاق أن أهل جرباء وأذرح قد أعطوا الجزية أيضا، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب لهم كتابا فهو عندهم (ابن هشام- السيرة 3/ 525) معلقا، ونقل ابن هشام في سيرته كذلك نص كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ل «يوحنا بن رؤية» صاحب أيلة: (3/ 525) .
(2) أحمد- المسند 1/ 203، 3/ 442، 4/ 74، 5/ 292، بإسناد فيه سعيد بن أبي راشد وهو مقبول وقد تفرد به. وقال ابن كثير عن ذلك: هذا حديث غريب، وإسناده لا بأس به، تفرد به الإمام أحمد. (البداية والنهاية 5/ 19) .
(3) كان دحية الكلبي قد حمل رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل في أول السنة السابعة من الهجرة، فإذا صح هذا الخبر، فإن إرسال دحية الكلبي يكون للمرة الثانية، وقد أورد الإمام أحمد تفصيلات عن وصول الرجل التنوخي إلى تبوك وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم عرض عليه الإسلام فامتنع بحجة أنه مكلف برسالة هرقل، ونقل التنوخي عن النبي ذكره لكتبه التي أرسلها إلى الملوك وكيف رد النبي صلّى الله عليه وسلّم على سؤال هرقل عن رسالته قال: «تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، فأين النار؟، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سبحان الله أين اللّيل إذا جاء النّهار؟» ، كما ذكر الرجل التنوخي اعتذار النبي صلّى الله عليه وسلّم له بأنهم في سفر وإلّا لمنحه جائزة، وأن عثمان ابن عفان قدم الجائزة نيابة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي «حلة صفورية» . ويذكر التنوخي بعد ذلك بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أنزله ضيفا على أحد أصحابه من الأنصار، فلما قام من المجلس ناداه الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فلما وصل التنوخي إليه حل النبي صلّى الله عليه وسلّم حبوته عن ظهره وقال: «ههنا إمض كما أمرت له» ، قال التنوخي: فجلت في ظهره فإذا أنا بخاتم النبوة في موضع غضون الكتف مثل الحجمة الضخمة» أحمد- (المسند 3/ 442) .
(4) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 125) ، أحمد- المسند 4/ 231.
(5) ابن كثير- البداية والنهاية 5/ 11.
(6) أحمد- المسند 6/ 20، موارد الظمآن في زوائد ابن حبّان ص/ 418، بإسناد حسن.(1/393)
تعالى من أذاهم «1» .
ولما اقترب الجيش الإسلامي من المدينة خرج الصبيان إلى ثنية الوداع لاستقباله «2» ، ومعهم النساء والولائد وهم يرددون «3» :
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
كان أول ما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم عند دخوله المدينة أن صلّى في مسجده الشريف ركعتين، ثم جلس للناس فجاءه المنافقون المتخلفون عن الغزوة فاعتذروا بشتى الأعذار فقبل منهم علانيتهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى «4» .
وقد أصبح الموقف جديّا من المنافقين بعد الرجوع من غزوة تبوك، فقد امتنع النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة في مسجد الضرار الذي كانوا بنوه قبل الغزوة، وأمر بتحريقه «5» ، كما امتنع عن الصلاة على أمواتهم فقد منعه الله من ذلك فنزل قوله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ «6» .
وقد نهى الله تعالى عن قبول أعذار المنافقين، فقال في محكم التنزيل: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «7» .
وقد أمر الله تعالى بعدم تصديقهم وبالإعراض عنهم ووصفهم بأنهم رجس فقال تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ* يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ «8» .
المتخلفون عن غزوة تبوك:
كان عدد المتخلفين كبيرا، ولما كان عدد أفراد الجيش كبيرا فقد ظن المتخلفون أن أحدا لا يفطن إلى غيابهم
__________
(1) أحمد- المسند 5/ 390- 91، البيهقي- السنن 9/ 32- 3.
(2) البخاري- الصحيح 6/ 8 (كتاب المغازي) .
(3) أورد ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري عند شرح الحديثين (4426- 4427) .
(4) البخاري- الصحيح (فتح الباري- الحديث 4418) ، مسلم 4/ 2123- حديث (2769) .
(5) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآيات/ 107- 108، وانظر الطبري- التفسير 11/ 23- 24. وأورد ابن إسحاق خبرا عن إرسال النبي صلّى الله عليه وسلّم لاثنين من الصحابة، هما مالك بن الدخشم ومعن بن عدي إلى مسجد الضرار لهدمه وتحريقه وأنهما نفذا أوامره صلّى الله عليه وسلّم، كما قدم قائمة بالاثنى عشر منافقا الذين قاموا بتأسيسه (ابن هشام- السيرة 3/ 530 والرواية مرسلة الإسناد.
(6) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية/ 84، البخاري- الصحيح (فتح الباري 3/ 214، 8/ 333) .
(7) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية/ 94.
(8) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآيات/ 95- 96.(1/394)
وكان الصحابة الأنصار الثلاثة: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي أبرز وأشهر المتخلفين وهم من المشهود لهم بالبلاء في الإسلام وبحسن إيمانهم «1» .
وإلى جانب هؤلاء، فقد تخلف بضعة وثمانون رجلا آخرين «2» ، ذكر الواقدي أنهم من منافقي الأنصار كما ذكر أن المعذّرين من الأعراب كانوا اثنين وثمانين آخرين، وهم من بني غفار وغيرهم، أما عبد الله بن أبي بن سلول ومن أطاعه من قومه فكانوا يشكلون مجموعة كبيرة أخرى وهم غير من مر ذكرهم «3» .
ولقد أقر الصحابة الثلاثة الذين تخلفوا بأنهم لا عذر لهم في تخلفهم عن الغزوة، ونهى النبي صلّى الله عليه وسلّم المسلمين عن الكلام معهم، وأمروا باعتزال نسائهم «4» ، فاجتنبهم الناس خمسين ليلة، وضاقت بهم الأرض بما رحبت «5» واستمرت المقاطعة حتى نزل القرآن يعلن قبول توبتهم في قوله تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «6» .
حققت غزوة تبوك، رغم خلوها من المعارك، أهدافها في ترصين وترسيخ حكم الإسلام الذي امتد من خلالها ومن جراء ما ارتبط بها من اتفاقات ونتائج ليشمل الأطراف الشمالية من شبه جزيرة العرب وليضع المسلمين على أعتاب الفتوحات، ومهدت بذلك للفتوحات في كل من العراق وبلاد الشام على حد سواء، ومع أن جيش أسامة ابن زيد لم يقدر له أن يتحرك نحو الحدود الشمالية إلّا في أيام خلافة أبي بكر الصديق- رضي الله عنه-، فإن قيام الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالأمر بتجهيزه وتحديد وجهته قبيل وفاته كان مؤشرا واضحا لوجهة نشر الدعوة وحركة الفتوحات الإسلامية.
توحيد الجزيرة العربية تحت حكم الرسول صلّى الله عليه وسلّم:
تأثر موقف القبائل العربية من الرسول والدعوة الإسلامية بمؤثرات متداخلة، كان من أبرزها موقف قريش وأحلافها، ولعل بعضها كان يحسب لبني الأصفر- الروم- حسابا، وخاصة تلك القبائل التي سكنت في أطراف
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري، حديث 4418) ، مسلم- الصحيح 4/ 2120- 8 (حديث 2769) ، ابن حجر الإصابة 4/ 396، 604.
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 114) ، الطبري- التفسير 11/ 58 وهو من مراسيل الزهري.
(3) البخاري- الصحيح (فتح 8/ 114) .
(4) أصدر النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر اعتزالهم للنساء بعد مرور أربعين يوما من عودته إلى المدينة ومقاطعة المسلمين لهم، وقد نفذوا أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، واستأذنته زوجة هلال بن أمية في خدمته ذلك أنه شيخ كبير ضائع لا خادم له، فأذن لها واشترط عليها أن لا يقربها. ابن هشام- السيرة 3/ 535.
(5) حاول ملك الغساسنة النصراني أن يستغل الحالة التي كان عليها كعب بن مالك فكتب له رسالة مع أحد الأنباط دعاه فيها إلى الالتحاق به لمواساته، وقد أدرك كعب أن ذلك ابتلاء وامتحان من الله تعالى فقال: «قد بلغ بي ما وقعت منه أن طمع فيّ رجل من أهل الشرك» فأحرق الرسالة. ابن هشام- السيرة 3/ 535.
(6) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية/ 118، وانظر في ذلك البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 113/ 116) .(1/395)
الجزيرة الشمالية قريبا من تخوم الروم، فلما كان فتح مكة وما تبع ذلك من إسلام قريش وكسر شوكة هوازن في موقعة حنين، وإذلال ثقيف ومحاصرتها سقط الحاجز الأساسي الأول فبادر كل قوم بإسلامهم، ثم كانت غزوة تبوك وامتداد سلطان المسلمين إلى خطوط التماس مع الروم وعقد المحالفات مع أيلة وأذرح وغيرهما، وتسوية الأمور مع دومة الجندل بالصلح، ثم مصالحة نصارى نجران في الأطراف الجنوبية على أن يدفعوا الجزية، فلم يعد أمام القبائل العربية إلّا المبادرة الشاملة إلى اعتناق الإسلام والالتحاق بركب النبوة بالسمع والطاعة، ونظرا لكثرة وفود القبائل العربية التي قدمت إلى المدينة من أنحاء الجزيرة العربية بعد عودة النبي صلّى الله عليه وسلّم من غزوة تبوك لتعلن إسلامها هي ومن وراءها، فقد سمّي العام التاسع للهجرة في المصادر الإسلامية بعام الوفود، ويعد كتاب الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد من أهم المصادر وأشملها في تقديم المعلومات المبوبة عن أخبار هذه الوفود كما أشار الحافظ ابن حجر «1» .
عام الوفود:
أشارت المصادر الحديثية والتاريخية إلى قدوم بعض الوفود إلى المدينة في تاريخ مبكر عن السنة التاسعة، ولعل ذلك ما أدى إلى الاختلاف في تحديد عدد الوفود بين ما يزيد على ستين وفدا عند البعض، وليرتفع فيبلغ أكثر من مائة وفد عند آخرين،؟ ولعل البعض قد اقتصر على ذكر المشهور منهم «2» ، فقد أورد محمد بن إسحاق أنه «لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة المكرمة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه» «3» .
كان أول الوفود قدوما إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد رجوعه من تبوك هو وفد قبيلة ثقيف. وقد سبق أن أشرنا إلى إسلام عروة بن مسعود الثقفي على يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبيل وصوله المدينة، عند عودته من مكة بعد الفتح، وذكرنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمره أن يرجع إلى قومه بالإسلام، وقد فعل ذلك فأظهر لهم دينه، ودعاهم إلى الإسلام، غير
__________
(1) عند تدقيق النسخة المطبوعة الأولى (طبعة لايدن) من كتاب الطبقات وكذلك الطبعات الأخرى في القاهرة وبيروت والتي كانت عيالا على الطبعة الأولى، يتبين أن النقص لا يقتصر على إغفال محمد بن سعد لذكر وفد هوازن كما صرح بذلك الحافظ ابن كثير، وإنما يدفع إلى التصور أن الإغفال شامل لأغلب الوفود، وكان ذلك مثيرا للتساؤل، ودافعا إلى البحث والتقصي، ولم يكن يخطر ببال أحد أن جميع الطبعات التي حفل بها الكتاب ناقصة مبتسرة، ويعتورها نقص كبير، خاصة وقد مضى على طبع أولها ما يزيد على قرن كامل، واطلع عليها أجيال من العلماء، وأصبح موضوع الشك في حصول النقص فيها أمرا بعيد الاحتمال، ولكن ذلك قد تحقق، وإذا بنا نجد نقصا كبيرا في المطبوع شمل الطبقة الرابعة وهي طبقة «من أسلم عند فتح مكة وما بعد ذلك» من الصحابة، والطبقة الخامسة وهي تختص بصغار الصحابة «الذين توفي النبي صلّى الله عليه وسلّم عنهم وهم صغار السن» ،. ويتزايد النقص لنكتشف أن ما هو مطبوع من الطبقة الثالثة يعتوره الكثير من النقص أيضا، فقد سقط منه في موضعين، ما يعادل القسم المطبوع منه، والمعلومات التي سقطت غاية في الأهمية، إلى جانب نقص وسقط مخل حاصل في مواضع كثيرة من المطبوع، وذلك لا يشمل قطعا النقص الواقع في طبقة النساء وطبقات التابعين. وقد استخرت الله سبحانه وتعالى في تدقيق كامل الكتاب وتخريج نصوصه وترجمة ما فيه من أعلام متونا وأسانيد وإخراجه في طبعة موحدة، فاطمأن قلبي وانشرح صدري إلى ذلك خدمة للعلم وتيسيرا للعلماء وطلاب الحديث النبوي الشريف، ومن الله العون وعليه سبحانه التكلان.
(2) ابن هشام- السيرة 3/ 599.
(3) ابن كثير- البداية والنهاية 5/ 46- 47.(1/396)
أنهم اجتمعوا عليه فرموه بسهامهم وهو يؤذن في أعلى داره فقتلوه، ثم ائتمر زعماء ثقيف فيما بينهم فوجدوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من قبائل العرب وقد بايعت وأسلمت» فأجمعوا على أن يرسلوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وفدا، ففعلوا وقد حاول الوفد بعد وصوله المدينة تأجيل هدم اللات «الطاغية» بعض الوقت غير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رفض ذلك، وأصر على أن يبعث المغيرة ابن شعبة وأبا سفيان بن حرب لهدمها، كما أنه أمّر عليهم عثمان بن أبي العاص وكان أحرصهم على تعلم القرآن والتفقه في الدين «1» .
وبالإضافة إلى أخبار وفد ثقيف الذي كان برئاسة عبد ياليل بن عمرو بن عمير، أورد ابن إسحاق معلومات مبوّبة عن ستة عشر وفدا تضمنت تفصيلات عن رؤساء وفود ورجالها وأخبار قدومهم وإقامتهم، وحوارهم، والأشعار التي قيلت، وما انتهى إليه أمرهم، والآيات التي نزلت في أمرهم إن كان ذلك قد حصل.
وقد استقصى ابن سعد في جمع المعلومات عن الوفود، كما فصل كثيرا وقدم ترجمات وافية عن رجال الوفود، ومن كانت له صحبة منهم، وما ورد عن طريقهم من آثار. ولا تخلوا أسانيد ابن سعد أحيانا من المطاعن، كما أن فيها أسانيد من الثقاة أيضا، ولا شك في أن الأخبار التي أوردها المؤرخون ليست ثابتة بالنقل الصحيح المعتمد وفق أساليب المحدثين، رغم أن عددا كبيرا من المرويات عن تلك الوفود ثابتة وصحيحة، فمثلا: أشارت سورة الحجرات إلى ما صدر عن بعض رجال وفد تميم من أعمال تتسم بعدم العقلانية «2» ، كما أورد الإمام البخاري معلومات عن وفد قبيلة تميم وقدومه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم «3» ، وتعززت أخبار هذا الوفد بمعلومات إضافية وردت في مصادر تاريخية إلى جانب ما ورد عنها في كتب السير والمغازي «4» .
وإضافة إلى معلوماته عن وفد تميم يقدم الإمام البخاري معلومات عن وفود أخرى مثل: عبد القيس «5» ، وبني حنيفة «6» ، ووفد نجران «7» ، ووفد الأشعريين «8» ، وأهل اليمن «9» ، ووفد دوس 1»
، ووفد بني عامر «11» .
__________
(1) ابن هشام- السيرة 3/ 599.
(2) حكت آيات من سورة الحجرات بعض ما صدر من أفراد وفد تميم من تصرفات تتسم بالبداوة وجفاء الطبع وقلّة الذوق، كالمناداة على النبي صلّى الله عليه وسلّم من وراء الحجرات وبصوت مرتفع بدلا من أن يستأذنوا ويسلموا عليه صلّى الله عليه وسلّم. انظر في ذلك الطبري- التفسير 26/ 122.
(3) الطبري- الصحيح (فتح الباري 8/ 83- 102) .
(4) ابن كثير- البداية 5/ 40- 98 مثلا.
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري حديث 4368- 9) ، مسلم- الصحيح 1/ 46- 5 (الأحاديث 17- 18) .
(6) البخاري، المصدر السابق (حديث 4373) .
(7) المرجع السابق (حديث 4380، 4381) ، مسلم- الصحيح 4/ 1822، (حديث 2420) .
(8) البخاري- الصحيح (فتح الباري، حديث 3136) .
(9) المرجع السابق (الفتح حديث 2714، 2715) مسلم- الصحيح 1/ 75 (حديث 56) .
(10) البخاري- الصحيح (فتح، حديث 4392) ، مسلم- الصحيح 4/ 1957، (حديث 2524) ، أحمد- المسند 13/ 39 (حديث 7313) .
(11) البخاري- الصحيح (فتح الباري، حديث 4091) ، أحمد- المسند 4/ 25.(1/397)
وقد أورد الإمام مسلم أخبارا عن أغلب الوفود المذكورة آنفا «1» ، كما أوردت بقية الكتب الستة معلومات أوسع شملت عددا كبيرا من الوفود «2» .. وذلك كله يقطع بقدوم الوفود في العام التاسع إلى المدينة لإعلان إسلام قبائلهم وانضمامهم إلى دولة الإسلام وخضوعهم لها، حتى توحدت جزيرة العرب عامة تحت حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتبقى مسألة الحاجة الماسة إلى نقد تاريخي لمتون الأخبار المفصلة التي وصلتنا عن الوفود، كما تحتاج القصائد المطولة التي ملئت بها الكتب التاريخية وكتب السيرة والمغازي إلى النقد الأدبي الدقيق، والتأكد من صحة نسبتها.
إن من الثابت تاريخيا سيادة الإسلام على كافة أنحاء الجزيرة العربية في العام التاسع، حيث تمت الوحدة السياسية لجميع أصقاعها تحت رايته، فلقد تمكن النبي صلّى الله عليه وسلّم من تحقيق الوحدة السياسية للجزيرة في أقل من عشر سنوات رغم جميع العراقيل والنزعات القبلية والجاهلية والمشكلات المتنوعة، وقوة الروح الفردية والأنانية الشخصية.
وما حققه الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يكن رسوما لوحدة صورية شكلية، بل مثّل امتزاجا فريدا لسلوك الإنسان وروحه وعقله مما هيأ الأساس المتين لامتداد وتطور الدولة الإسلامية التي استمرت في عطائها خلال القرون التالية.
الأحداث والبعوث والسرايا حتى وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم:
حج أبي بكر بالناس:
ذكرنا آنفا عمرة النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد الفراغ من حصار الطائف حيث أهلّ بالعمرة من الجعرانة، ثم عاد بالجيش إلى المدينة، وقد حج المسلمون والمشركون معا عام الفتح، ثم أمّر أبا بكر (رضي الله عنه) على الحج في العام التاسع الهجري، فخرج في ذي الحجة إلى مكة ومعه عدد كبير من الصحابة «3» ، وساقوا معهم الهدي «4» .
نزلت سورة براءة بعد ارتحال ركب الحج من المدينة، فبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- ليعلنها على الناس في يوم النحر بمنى «5» ، وقد التقى أمير الحج وعلي في الطريق، وبعد أن اطمأن الصدّيق إلى
__________
(1) ورد فيها معلومات واسعة عن الوفود مثل عبد القيس، بني حنيفة، وفد نجران، وفد الأشعريين، وفد الحميريين، وفد بني عامر، وفد بني سعد بن بكر، وفد دوس، وفود فروة بن مسيك المرادي، وفد كندة، رسول ملوك حمير، قدوم جرير بن عبد الله البجلي، وفد حضرموت، وفد بني المنتفق، وفد صداء، وفد عبد الرحمن بن أبي عقيل مع قومه، وفد بكر، وفادة طارق عبد الله وقومه ... مثلا.
(2) وفد عبد القيس، مسلم- الصحيح 1/ 46- 50 (حديث 17- 18) ، وفد نجران (الصحيح 4/ 1822 (حديث 2420) ، قصة الطفيل بن عمر ووفد دوس، مسلم- الصحيح 4/ 1957 (حديث 2524) .
(3) ابن سعد- الطبقات الكبرى 2/ 168 بإسناد صحيح وبلغ عدد الصحابة الذين رافقوا أبا بكر الصديق- رضي الله عنه- في هذه الحجة ثلاثمائة صحابي (ابن حجر- فتح الباري 8/ 82) برواية الواقدي، ضعيف.
(4) انفرد الواقدي بذكر ذلك وقال إنهم ساقوا معهم عشرين بدنة. ابن حجر- فتح الباري 8/ 82.
(5) أورد ابن إسحاق حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يؤدّي عنّي إلّا رجل من أهل بيتي» وإسناده حسن، ولكنه مرسل من محمد بن علي الباقر (ابن هشام- السيرة 4/ 203) ، وانظر كذلك: الطبري- التفسير 10/ 65، وله شاهد يتقوى به انظر أحمد- الفتح الرباني 21/ 212 عن أنس، ابن كثير- البداية والنهاية 5/ 37- 38، واستعرض البغوي أقوال العلماء في سبب إرسال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي بن أبي طالب في هذه المهمة وقال: إن العرب قد تعارفوا فيما بينهم على ألا يتولى عقد العهود ونقضها إلا سيدهم أأو رجل من رهطه، ولذلك فإنه صلّى الله عليه وسلّم بعث عليّا دفعا للعلة ومنعا لهم من إنكار إلغاء العهد بسبب تبليغه إياهم خلاف ما جرت عليه عاداتهم وتقاليدهم. (التفسير 3/ 49 (بهامش تفسير الخازن) ، ونقله عنه الساعاتي في الفتح الرباني (21/ 212) .(1/398)
طبيعة مهمته مضيا سويّا إلى مكة «1» ، وقد ذكر علي بن أبي طالب أنه مكلف بتبليغ المسلمين صدر سورة براءة، وأنه بعث في أربع:
«لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج بعد العام مشرك» «2» .
وكان قد عهد إلى رهط من الصحابة بمساعدة علي بن أبي طالب في إنجاز مهمته، منهم أبو هريرة والطفيل ابن عمرو الدوسي «3» .
إن نزول صدر سورة براءة يمثل مفاصلة نهائية مع الوثنية وأتباعها، حيث منعت حجهم وأعلنت الحرب عليهم، قال تعالى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ* وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «4» .
وقد أمهل المعاهدين لأجل معلوم منهم إلى انتهاء مدتهم، فقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ «5» .
كما أمهل من لا عهد له من المشركين إلى انسلاخ الأشهر الحرم، حيث يصبحون بعدها في حالة حرب مع المسلمين، قال تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «6» .
وكان من نتائج ذلك أن بدأت حملة توعية واسعة النطاق في المناطق النائية التي تحتاج إلى ذلك، فقد ثبت في الصحيحين إرسال النبي صلّى الله عليه وسلّم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن كلا منهما إلى جهة «7» ، وأوصاهما بقوله
__________
(1) ابن هشام- السيرة 4/ 203 برواية ابن إسحاق بإسناد حسن لكنه مرسل.
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري حديث 4363) ، مسلم الصحيح 2/ 982 (حديث 1347) واقتصرا على ذكر منع حج المشركين، ومنع العري في طواف البيت العتيق، أما الإمام أحمد فقد أورده كاملا بإسناد صحيح (الفتح الرباني 21/ 211) ، الترمذي- السنن 4/ 116، ابن كثير- البداية 5/ 38، الطبري- التفسير (14/ 95- 102) .
(3) الترمذي- السنن 4/ 116، الطبري- التفسير 10/ 63- 64.
(4) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآيات 1- 3.
(5) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية/ 4.
(6) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية/ 5.
(7) البخاري- الصحيح (فتح الباري، الأحاديث 4341- 4345) ، مسلم- الصحيح 3/ 1587 (حديث 1733) .(1/399)
«يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا وتطاوعا» «1» ، وبعث صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد إلى اليمن أيضا ثم استبدله بعلي بن أبي طالب، وكان من مهامه أن يستوفي الأخماس، وقد نجح علي في مهمته، وقد أسلمت همدان على يديه «2» .
وبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم سرية من مائة وخمسين راكبا عليهم جرير بن عبد الله البجلي فكسروا الصنم ذا الخلصة في الكعبة اليمانية وقتلوا من كان عنده، فدعا لهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم «3» .
حجة الوداع:
أعلن النبي صلّى الله عليه وسلّم عزمه على أداء فريضة الحج- وهي الحجة الوحيدة التي أداها بعد هجرته إلى المدينة «4» - فقدم المدينة عدد كبير من المسلمين وفدوا من مختلف أنحاء جزيرة العرب للحج معه، والاقتداء بهديه، وقد خرج من المدينة في الخامس والعشرين من ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة «5» . وقد جاءت حجته صلّى الله عليه وسلّم حافلة بالأحكام والمناسك والوصايا، أفرد لها العلماء كتبا خاصة بها «6» ، واستنبطوا منها الكثير من أحكام المناسك مما تزخر به كتب الفقه والحديث وشروحه «7» ، وقد تعلم المسلمون مناسك الحج من الرسول صلّى الله عليه وسلّم مباشرة بناء على توجيهه الكريم حين قال لهم: «خذوا عنّي مناسككم» .
ولما وقف صلّى الله عليه وسلّم في عرفات نزلت عليه الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «8» .
وكان مما قاله صلّى الله عليه وسلّم في خطبة حجة الوداع التي ألقاها على الحجاج في عرفات: «إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وإنّكم
ستلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلّغت فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، وإنّ كلّ ربا موضوع، وأوّل ربا أضع، ربا عبّاس بن عبد المطّلب فإنّه موضوع كلّه. وإنّ كلّ دم في الجاهليّة موضوع، وإنّ أوّل دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب.
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 4347) ، وذكر ابن كثير أنه قد «أخرجه بقية الجماعة من طرق متعددة» . البداية والنهاية 5/ 113.
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري حديث 4349) ، مسلم الصحيح 2/ 888 (حديث 1218) ، أحمد- المسند 3/ 86، أبو داود- السنن 14/ 11- 12 (حديث 3582) .
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري- الأحاديث 4355- 57) ، مسلم- الصحيح 4/ 1926 (حديث 2476) ، واليمانية نسبة إلى موقعها، وقد تعرف أحيانا بالشامية باعتبار أن بابها يواجه بلاد الشام، أو الشمال.
(4) مسلم- الصحيح 2/ 1887 (الحديث 1218) .
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 104) . ابن هشام- السيرة 4/ 272 برواية ابن إسحاق، بإسناد حسن، ابن كثير- البداية والنهاية 5/ 125 بإسناد جيد.
(6) انظر مثلا ابن كثير- البداية 5/ 223- 233.
(7) ابن القيم- زاد المعاد 2/ 101- 324، وانظر مسلم- الصحيح بشرح النووي 8/ 170.
(8) القرآن الكريم- سورة المائدة، الآية/ 3، وانظر البخاري- الصحيح (فتح الباري، حديث 4407) ، ابن كثير- البداية والنهاية 5/ 123.(1/400)
أيّها النّاس: اتّقوا الله في النّساء فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، وإن لكم عليهنّ ألّا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضربا غير مبرّح، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف، وإنّي قد تركت فيكم ما لن تضلّوا بعد إن اعتصمتم به، كتاب الله. وأنتم تسألون عنّي فما أنتم قائلون؟» ، قالوا نشهد أنّك قد بلّغت رسالات ربّك، وأدّيت، ونصحت لأمّتك، وقضيت الّذي عليك، فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«اللهمّ اشهد» «1» .
وقد ألقى الرسول صلّى الله عليه وسلّم خطبا أخرى في مزدلفة ومنى، فأكد في عرفات أن عرفة كلها موقف، وقال حين وقف في قزح صبيحة المزدلفة: «هذا الموقف وكلّ المزدلفة موقف» «2» . ثم لما نحر بالمنحر في منى، قال: «هذا المنحر وكلّ منى منحر» . وقال في إحدى خطبه في منى: «لا ترجعوا من بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض» «3» .
وهكذا قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحج، وقد أرى المسلمين مناسكهم، وأعلمهم ما فرض الله عليهم في حجهم، من الموقف ورمي الجمار، وطواف بالبيت، وما أحل لهم من حجهم، وما حرم عليهم، فكانت حجة البلاغ، وحجة الوداع، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يحج بعدها «4» .
وقد وافى علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- عند عودته من اليمن، رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحج، فحج معه «5» ، وقد اشتكى بعض الجند عليّا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه اشتد في معاملتهم، وأنه استرجع منهم حللا كان نائبه على اليمن قد وزعها عليهم، فأوضح لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في غدير خم قرب الجحفة مكانة عليّ وفضله لينتهوا عن الشكوى «6» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» «7» .
__________
(1) مسلم- الصحيح بشرح النووي 8/ 170، وهو أهم المرويات الصحيحة التي وردت فيها أحكام حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم ووصاياه فيها وهو حديث جابر- رضي الله عنه- الذي رواه مسلم وتفرد به، ولم يرد في صحيح البخاري، ورواه أبو داود، ونقل النووي قول القاضي عياض: «وتكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءا كبيرا وخرّج فيه من الفقه مائة ونيفا وخمسين نوعا، ولو تقصى لزيد على هذا القدر قريبا منه ... » ، وانظر تخريجه في كتاب «حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم» للألباني ص/ 38- 41، ووردت بعض الخطبة في صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 108، ورواه أئمة الحديث في كتبهم مقطعا في أبواب متفرقة متعددة من طرق صحيحة، وانظر أحمد- الفتح الرباني 21/ 280- 1، البيهقي- دلائل 5/ 449، الحاكم- المستدرك 1/ 93، البزار- كشف الأستار (رقم 1524) .
(2) ابن هشام- السيرة 4/ 605- 606.
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 107 حديث 4403) ، مسلم- الصحيح 1/ 82 (حديث 65- 66) ، احمد- الفتح الرباني 12/ 210- 212، ابن القيم- زاد المعاد 2/ 101- 311.
(4) ابن هشام- السيرة 4/ 606 برواية ابن إسحاق.
(5) المرجع السابق 4/ 602- 603، وأورد ابن كثير- البداية 5/ 209 رواية قوية جيدة الإسناد.
(6) ابن كثير- البداية 5/ 212.
(7) أحمد- فضائل الصحابة 2/ 594 (رقم 1010) بإسناد صحيح، المسند 4/ 164، وأخرجه النسائي في السنن الكبرى، كما في تحفة الأشراف (3/ 13) من طريق يحيى بن آدم، والنسائي- الخصائص (ص/ 20) وابن ماجه 1/ 44، وانظر المسند أيضا 5/ 419، (بإسناد صحيح الحاكم المستدرك 3/ 110، والترمذي 5/ 63، وأحمد 5/ 347 عن ابن عباس. وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة عن بريدة، وجابر، وأبي هريرة (المطالب العالية 4/ 59- 60) ، وعقد الهيثمي في مجمعه (9/ 103) بابا في ذلك ذكر فيه طرقا كثيرة جدّا غير ما أسلفنا.(1/401)
بعث أسامة بن زيد إلى أرض فلسطين:
عاد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة بعد أن أدى حجة الوداع مع من صحبه من المسلمين ومن شهده معه من أهل الموقف، فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة من السنة العاشرة، والمحرم وصفر من السنة الحادية عشرة، وضرب على الناس بعثا إلى الشام، وأمّر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة مولاه «1» ، وأمره أن يوطيء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين فتجهز الناس «2» ، وأوعب مع أسامة بن زيد المهاجرين والأنصار وفيهم أبو بكر وعمر «3» ، وكان أسامة بن زيد شابّا في الثامنة عشرة من عمره، فتكلم البعض في تأميره وهو مولى وصغير السّن، فلم يقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم اعتراض أحد على إمارة أسامة بن زيد وأوصى به خيرا» .
ولم يقدر لهذا البعث أن يخرج في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد عقد النبي صلّى الله عليه وسلّم اللواء لأسامة الذي خرج به إلى الجرف وعسكر فيه بانتظار استكمال التجهيز والتحاق الجند وتكاملهم «5» ، غير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرض بعد ذلك بيومين واستغرق مرضه عشرة أيام ثم توفي صلّى الله عليه وسلّم مما أخر خروج الجيش إلى ما بعد بيعة الصديق- رضي الله عنه- «6» .
وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم:
قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «7» . اشتكى النبي صلّى الله عليه وسلّم من سم أصابه منذ العام السابع الهجري، فقد تناول بعد فتح خيبر قطعة لحم من شاة مسمومة مشوية قدمتها له زوجة سلام بن مشكم اليهودية «8» ، ورغم أنه صلّى الله عليه وسلّم كان قد لفظ اللقمة ولم يبتلعها، فإن نوعية وكثافة السم الذي احتوته قد أثر عليه «9» ، أما مرضه الأخير فكان قد ألم به أول ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة وبعد شهرين ونصف من عودته إلى المدينة من حجة الوداع، حين شعر صلّى الله عليه وسلّم بالمرض وهو في بيت أم المؤمنين ميمونة «10» ، وطلب من زوجاته أن يمرّض في بيت أم المؤمنين عائشة «11» ، واستغرق مرضه عشرة أيام «12» .
وكانت عائشة- رضي الله عنها- تقرأ بالمعوذتين والأدعية المأثورة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتمسحه بيده رجاء البركة «13» .
__________
(1) أحمد- الفتح الرباني 21/ 220- 223، الواقدي- مغازي 3/ 1117- 1118، ابن سعد- الطبقات 2/ 248.
(2) ابن هشام- السيرة 4/ 606 برواية ابن إسحاق مرسلا.
(3) أحمد- الفتح 21/ 220- 221.
(4) المرجع السابق 21/ 221- 223، وانظر ابن حجر- فتح الباري 8/ 152.
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 152 حديث 4469) .
(6) المرجع السابق 8/ 152 (حديث 4469) وقد انفرد الواقدي بذكر عدد هذا الجيش (المغازي 3/ 1120- 1123) .
(7) القرآن الكريم- سورة الزمر، الآية/ 30.
(8) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 138) .
(9) المرجع السابق 8/ 138.
(10) ابن حجر- فتح الباري 8/ 129.
(11) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 141 حديث 4442، 4450) ، أحمد- الفتح الرباني 21/ 226 بإسناد صحيح.
(12) ابن حجر- فتح الباري 8/ 129.
(13) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 138 حديث 4429، 4451) ، مسلم- الصحيح 4/ 1721- 1724، (الأحاديث 1291- 2192) .(1/402)
وفي اليوم الخامس من مرضه صلّى الله عليه وسلّم اشتدت عليه الحمى فطلب أن يصبّوا عليه الماء، حتى يخرج للناس فيعهد إليهم، وبعد أن استحم أحس بخفة، فعصب رأسه ودخل المسجد فصعد المنبر وخطب فنهى عن اتخاذ قبره وثنا يعبد «1» ، ولعن اليهود والنصارى لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد «2» ، وعرض نفسه للقصاص، وأوصى بالأنصار خيرا، وفي نهاية خطبته قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ عبدا خيّره الله بين الدّنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله» . «3»
وقد اشتد بكاء أبي بكر (رضي الله عنه) فعجب الناس من ذلك، فكان المخير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان أبو بكر أعلمهم بذلك، وأثنى النبي على أبي بكر صحبته، وما أنفق في سبيل الله ونصرة الإسلام فقال: «لو كنت متّخذا خليلا عند ربّي لاتّخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوّة الإسلام ومودّته» ، وأمر صلّى الله عليه وسلّم بألا يبقى في المسجد باب إلّا سدّ، إلا باب أبي بكر. «4»
وقبل وفاته صلّى الله عليه وسلّم بأربعة أيام أوصى بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، كما أمر صلّى الله عليه وسلّم بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم «5» ، وحين اشتد وجعه ذلك اليوم قال للصحابة الذين كانوا معه: «هلمّوا اكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده» فاختلفوا وقال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : «قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال صلّى الله عليه وسلّم: «قوموا عنّي» . «6»
وفي اليوم التالي أثر عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أحسنوا الظّنّ بالله عزّ وجلّ» . «7»
وقد أثقله بعد ذلك المرض، ومنعه من الخروج للصلاة بالناس، فقال: «مروا أبا بكر أن يصلّي بالنّاس» ، وقد راجعته عائشة- رضي الله عنها- فقالت: «إن أبا بكر رجل رقيق ضعيف الصوت كثير البكاء إذا قرأ القرآن» فأصرّ صلّى الله عليه وسلّم على ذلك، فمضى أبو بكر يصلي بهم «8» ، وحين شعر النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك بتحسن، وخرج لصلاة الظهر وهو يتوكأ على رجلين رآه أبو بكر فأراد أن يتأخر، فأومأ إليه ألّا يتأخر، فأجلسه بجانبه، فجعل أبو بكر- رضي الله
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري، الأحاديث 425، 436، 437) مسلم 10/ 4756 (حديث 529، 532) ، مالك- الموطأ ص/ 360.
(2) مالك- الموطأ ص/ 365، البيهقي- دلائل النبوة (7/ 169- 180) .
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري، الأحاديث 4431- 4432) ، مسلم 3/ 1257- 59، (الحديث 1637) .
(4) البخاري- الصحيح (فتح الباري الحديث 4432) مسلم- الصحيح (الحديث 1637) .
(5) الذهبي- السيرة ص/ 557، ابن ماجه- صحيح ابن ماجه للألباني 1/ 271، كتاب الجنائز (حديث 1625) وقال: صحيح، وصححه الهيثمي- مجمع الزوائد 4/ 237.
(6) هناك قرائن تشير إلى أن أمره صلّى الله عليه وسلّم بإحضار أدوات الكتابة لم تكن على الوجوب وإنما فيه تخيير، فلما قال عمر مقولته لم يكرر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك، ولو كان الأمر لازما لأوصاهم به، وانظر البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 132) .
(7) الذهبي- السيرة ص/ 557 وقال إنه حديث صحيح من العوالي.
(8) أحمد- الفتح الرباني 21/ 226- 227 من طريق ابن إسحاق ورجاله ثقات، أبو داود- السنن، 5/ 47- 48، ابن كثير- البداية 5/ 232- 233.(1/403)
عنه- صلي وهو قائم بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس يصلون بصلاة أبي بكر «1» .
أعتق النبي صلّى الله عليه وسلّم في اليوم السابق لوفاته غلمانه، وتصدق بما كان معه من دنانير، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا نورث وما تركنا صدقة» «2» .
أطل الرسول صلّى الله عليه وسلّم فجر يوم وفاته على المسلمين وهم يستوون لصلاة الصبح حيث كشف ستر حجرته ونظر إليهم وتبسم، وهمّ المسلمون أن يفتنوا في صلاتهم فرحا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتأخر أبو بكر عن موضع الإمام ملتحقا بالصف الأول، غير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أشار إليهم بيده الكريمة: أن أتمّوا صلاتكم، ثم دخل حجرة عائشة، وأرخى الستر. «3»
ودخلت عليه فاطمة الزهراء- رضي الله عنها- عند الضحى فقالت: «واكرب أباه» . فقال لها صلّى الله عليه وسلّم:
«ليس على أبيك كرب بعد اليوم» «4» .
ثم دعاها فسارّها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارّها بشيء فضحكت، فأخبرت بعد وفاته أنه أخبرها بموته فبكت ثم أخبرها بأنها أول أهله لحاقا به فضحكت «5» ، والحديث من دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم لأن ما أخبرها به قد كان.
وكان آخر ما تكلم به صلّى الله عليه وسلّم قوله وهو يستند إلى صدر أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها-: «مع الّذين أنعمت عليهم من النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين، اللهمّ اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرّفيق الأعلى، اللهمّ في الرّفيق الأعلى» كررها ثلاثا «6» . ثم مالت يده، ولحق بالرفيق الأعلى «7» .
وكانت وفاته صلّى الله عليه وسلّم حين اشتد الضحى من يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول عام إحدى عشرة للهجرة «8» وقد نادت فاطمة الزهراء: «يا أبتاه، أجاب ربا دعاه، يا أبتاه إلى جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه: إلى جبريل ننعاه» «9» .
ولم يصدق عمر بن الخطاب نبأ وفاته صلّى الله عليه وسلّم وتهدد من يقول ذلك «10» . أما أبو بكر فقد جاء من بيته بالسنح، ودخل على النبي صلّى الله عليه وسلّم وكشف عن وجهه وقبله وبكى. ثم خرج إلى الناس وهم بين مصدق ومنكر، فقال: «أما
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 141، أحمد- المسند (الفتح الرباني 21/ 231) ، ابن كثير- البداية 5/ 229- 230، وانظر كذلك مسلم- الصحيح 1/ 313- 4 (حديث 418) .
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري، الأحاديث 6726- 6728، 6730) ، وانظر ابن سعد- الطبقات 2/ 237- 8، 316- 317، من عدة طرق يتقوى بعضها ببعض ولها شاهد من حديث البخاري أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يترك عند موته عبدا ولا أمة.
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري حديث 4448) .
(4) المرجع السابق (فتح الباري 8/ 149 حديث 4462) .
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري 1/ 208 الاحاديث 4433- 4) ، مسلم- الصحيح 4/ 1904 (حديث 2450) .
(6) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 136 حديث 4449) ، ابن هشام- السيرة 3/ 329 بإسناد صحيح.
(7) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 142 حديث 4463) ، مسلم- الصحيح 4/ 1894 (حديث 2444) .
(8) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 150 حديث 4466) ، وانظر ابن حجر- الفتح 8/ 129.
(9) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 149) حديث 4462.
(10) أحمد- الفتح الرباني 21/ 241- 242، ابن سعد- الطبقات 2/ 266، الصنعاني- المصنف 5/ 433- 434.(1/404)
بعد. من كان يعبد محمدّا فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت، ثم تلا قول الله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ «1» .
هدأ الناس واطمأنت نفوسهم إلى قضاء الله تعالى وكأنهم لم يكونوا قد سمعوا الآية من قبل «2» .
وفي يوم الثلاثاء، التالي ليوم وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم تم غسله وهو في ثيابه، شارك في غسله عمه العباس وولداه الفضل وقثم إلى جانب ابن عمه وصهره علي بن أبي طالب، كما شارك في ذلك شقران مولى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأسامة بن زيد وأوس ابن خولي «3» ، وتم تكفينه في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة «4» .
صلى المسلمون على النبي صلّى الله عليه وسلّم أرسالا أرسالا، لا يؤمهم أحد»
، وحفروا له قبرا في حجرة عائشة (رضي الله عنها) ، ودفنوه ليلة الأربعاء «6» .
قال حسان بن ثابت عددا من المراثي في الرسول صلّى الله عليه وسلّم، منها قوله «7» :
بطيبة رسم للرسول ومعهد ... منير وقد تعفو الرسوم وتهمد
ولا تمتحي الآيات من دار حرمة ... بها منبر الهادي الذي كان يصعد
وواضح آثار وباقي معالم ... وربع له فيه يصلّى ومسجد
بها حجرات كان ينزل وسطها ... من الله نور يستضاء ويوقد
ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت ... عيون ومثلاها من الجفن تسعد
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت ... بلاد ثوى فيها الرشيد المسدّد
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 145 الأحاديث 4452- 4454) ، والآية/ 144 من سورة آل عمران.
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 145) .
(3) ابن هشام- السيرة 4/ 662- 663.
(4) البخاري- الصحيح (فتح الباري حديث 1264) ، مسلم- الصحيح 2/ 649- 650 (حديث 941) .
(5) أحمد- الفتح الرباني 21/ 253- 4 وقال الهيثمي وقد رواه في مجمع الزوائد: «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح» ، ابن سعد- الطبقات 2/ 288- 292 من عدة طرق وقال ابن كثير عن صلاة المسلمين فرادى بأنه «أمر مجمع عليه لا خلاف فيه» (البداية 5/ 299) .
(6) ابن إسحاق بإسناد حسن، سيرة ابن هشام 4/ 664.
(7) ابن هشام- السيرة (برواية ابن إسحاق) 4/ 666- 9.(1/405)
وهل عدلت يوما رزيّة هالك ... رزيّة يوم مات فيه محمد
وما فقد الماضون مثل محمد ... ولا مثله حتى القيامة يفقد
أعف وأوفى ذمّة بعد ذمة ... وأقرب منه نائلا لا ينكّد
وأكرم صيتا في البيوت إذا انتمى ... وأكرم جدا أبطحيّا يسوّد
وقال في قصيدة أخرى: «1»
تالله ما حملت أنثى ولا مضعت ... مثل الرسول نبيّ الأمة الهادي
ولا برا الله خلقا من بريته ... أوفى بذمة جاد أو بميعاد
من الذي كان فينا يستضاء به ... مبارك الأمر ذو عدل وإرشاد
يا أفضل الناس إني كنت في نهر ... أصبحت منه كمثل المفرد الصادي
__________
(1) ابن هشام- السيرة 4/ 671.(1/406)
ما خلّف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
أ- زوجاته أمهات المؤمنين:
تزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم في شبابه خديجة بنت خويلد- رضي الله عنها- كما سبق أن ذكرنا في ثنايا سيرته العطرة، ولم يتزوج عليها حتى توفيت بعد أن مكثت عنده أربعا وعشرين سنة وأشهرا، وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا ذكرها أثنى فأحسن الثناء عليها والاستغفار لها «1» .
وقد تزوج صلّى الله عليه وسلّم في مكة قبل الهجرة سودة بنت زمعة- رضي الله عنها- على أثر وفاة أم المؤمنين خديجة- رضي الله عنها-، وكانت سودة ثيبا كبيرة السن، توفي عنها زوجها السكران بن عمر بعد عودتهما من هجرتهما إلى الحبشة «2» ، فخطبها الرسول صلّى الله عليه وسلّم من أبيها، وملكها «3» . وإلى جانب حاجته صلّى الله عليه وسلّم إلى الزوجة فإن زواجه من سودة- رضي الله عنها- كان تطييبا لخاطرها بفقدها زوجها المسلم المهاجر، ولغرض تهيئة من يرفق بأولاده الصغار من خديجة- رضي الله عنها- «4» . وقد هاجرت أم المؤمنين سودة بنت زمعة إلى المدينة في أعقاب هجرته عليه السلام. وقد بنى لها النبي صلّى الله عليه وسلّم بيتها الملاصق لمسجده صلّى الله عليه وسلّم وهو أحد البيتين اللذين بنيا مع بناء المسجد بعد الهجرة «5» .
أما أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق- رضي الله عنهما- فقد أورد الشيخان وابن حبان عنها قالت: تزوجني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا بنت ست سنين «6» . ويفهم من رواية أوردها الطبراني بإسناد حسن عنها- رضي الله عنها- بأنها هاجرت مع بقية الأسرة، وأنهم سلكوا في مسالك صعبة «7» . وقد تزوجها صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وهي البكر الوحيدة بين نسائه «8» .
وفي المدينة تزوج صلّى الله عليه وسلّم أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب- رضي الله عنهما- «9» ، وكانت تحت
__________
(1) محمد بن الحسن بن زبالة- أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ص/ 35- 50، ابن سعد- الطبقات 8/ 141- 150، البيهقي- دلائل النبوة 7/ 288، أبو عبيدة- تسمية أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ص/ 77، ابن حبيب- المحبّر ص/ 98، الشامي- سبل الهدى 11/ 155- 163.
(2) ابن سعد- الطبقات 8/ 53، ابن هشام- السيرة 2/ 9، ابن عبد البر- الاستيعاب 2/ 125.
(3) ابن سعد- الطبقات 8/ 52- 53، ابن كثير- البداية والنهاية 3/ 149، الشامي- سبل الهدى 11/ 198- 200.
(4) أحمد- المسند 6/ 211، ابن حجر- فتح الباري 7/ 225، وانظر العمري- السنة الصحيحة 2/ 650.
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 265) ، مسلم- الصحيح 2/ 1085 (الأحاديث: 1463- 1464) ، 4/ 2316، أبو داود- السنن 2/ 601- 602، الترمذي- السنن 5/ 249.
(6) وأورد مسلم والنسائي عنها «وأنا ابنة سبع وبنى بي وأنا ابنة تسع» ،. انظر: البخاري- الصحيح 8/ 75- 76، مسلم- الصحيح 4/ 1890 (حديث 2438) .
(7) الهيثمي- مجمع الزوائد 9/ 228، الشامي- سبل 11/ 165.
(8) البخاري- الصحيح (حديث 5077) ، الشامي- سبل الهدى 11/ 164- 182.
(9) ابن زبالة- أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ص/ 57- 59، الشامي- سبل الهدى 11/ 184- 186، البخاري- الصحيح (فتح الباري، حديث 5122) ، ابن حجر- الإصابة 1/ 456.(1/407)
خنيس بن حذافة السهمي الذي هاجر معها إلى المدينة وتوفي من جراحات أصابته في بدر «1» . وقد تزوجها النبي صلّى الله عليه وسلّم في السنة الثانية من الهجرة «2» .
وتزوج صلّى الله عليه وسلّم أم المؤمنين زينب بنت خزيمة الهلالية «3» ، وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث، ولما خطبها النبي صلّى الله عليه وسلّم جعلت أمرها إليه فتزوجها وأشهد وأصدقها اثنى عشر أوقية وكساء «4» . وهي أم المساكين سميت بذلك لكثرة إطعامها المساكين «5» ، وتوفيت ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم حي، وقد مكثت عنده ثمانية أشهر ودفنت بالبقيع «6» .
أما أم المؤمنين أم سلمة بنت أبي أميّة- رضي الله عنها-، فقد هاجرت مع زوجها الأول أبي سلمة بن عبد الأسد- رضي الله عنه- إلى الحبشة الهجرتين فكانا أول من هاجر إلى الحبشة وكانت أول مهاجرة من المسلمات «7» ، فلما شرعت الهجرة إلى يثرب كانت أم سلمة «أول ظعينة دخلت المدينة مهاجرة» «8» ، وقد شهد أبو سلمة بدرا وأحدا ورمي بسهم في عضده، برأ منه، ثم انقض عليه فمات في جمادى الآخرة سنة 4 هـ «9» ، وبعد أن اعتدّت- رضي الله عنها- تزوجها النبي صلّى الله عليه وسلّم في أواخر شوال من السنة الرابعة «10» . وقد كانت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم حين خرج إلى مكة وتصالح مع قريش في الحديبية وكان لرأيها أثره في متابعة المسلمين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ما ترددوا في النحر والحلق «11» .
- أما أم المؤمنين جويرية بنت الحارث- رضي الله عنها- فكانت قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم عند مسافع بن صفوان، وقد قتل كافرا يوم المريسيع في غزوة بني المصطلق «12» ، ووقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها على تسع أواق، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تستعينه على كتابتها فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه وقد أصابني من البلاء ما لا يخفى عليك فأعنّي على كتابتي قال صلّى الله عليه وسلّم: «أو خير من ذلك، أؤدّي عنك كتابتك وأتزوّجك» ، فقالت نعم «13» ، ففعل، فبلغ الناس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد تزوجها، فقالوا: أصهار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) ابن حجر- الإصابة 1/ 456، ابن عبد البر- الاستيعاب 1/ 438.
(2) ابن سعد- الطبقات 8/ 81- 82، أحمد- الفتح 22/ 130.
(3) ابن زبالة- أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ص/ 60، ابن حبيب- المحبّر ص/ 105- 9.
(4) الشامي- سبل الهدى 11/ 205.
(5) ابن هشام- السيرة 4/ 391، ابن سعد- الطبقات 8/ 115.
(6) ابن سعد- الطبقات 8/ 115- 116.
(7) ابن زبالة- أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ص/ 62.
(8) مسلم- الصحيح 2/ 632- 350، حديث 918- 919، الألباني- صحيح الترمذي 1/ 288، ابن سعد- الطبقات 8/ 89، الشامي- سبل الهدى 11/ 187.
(9) الشامي- سبل الهدى 11/ 187، وانظر ابن زبالة- أزواج ص/ 62- 3، مسلم- الصحيح 2/ 631.
(10) الشامي- سبل الهدى 11/ 188، وانظر ابن سعد- الطبقات./ 87.
(11) الشامي- سبل الهدى 11/ 191.
(12) البخاري- الصحيح (فتح الباري، حديث (254) ، مسلم- الصحيح 3/ 1356، حديث 1730.
(13) ابن هشام- السيرة 3/ 408- 409.(1/408)
يسترقون! فأعتقوا ما بأيديهم من بني المصطلق، فكان ذلك من خيرها على قومها «1» .
- وتزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم ابنة عمته زينب بنت جحش في السنة الرابعة من الهجرة «2» ، وكانت قبله تحت زيد «مولاه زوجها له النبي صلّى الله عليه وسلّم «3» ، ولما أخفق الزواج حاول النبي صلّى الله عليه وسلّم إصلاح ذات بينهما دون جدوى، ثم نزل أمر الله تعالى له يأمره بالزواج منها لحكمة ارادها الله تعالى في إبطال عادة التبني الجاهلية، وما يترتب عليها من علاقات، وقد أنزل الله في ذلك قوله تعالى وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً «4» .. ولذلك فإنها كانت تفخر على بقية نسائه بأنها بنت عمته وبأن الله تعالى قد زوجها له من فوق سبع سماواته «5» . وبسببها نزلت آية الحجاب «6» . في قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً» .
ووردت عن أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- رواية صحيحة قالت فيها: «كانت زينب بنت جحش «8» هي التي تساميني من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنزلة عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وما رأيت امرأة قط خيرا من زينب في الدين، وأتقى لله، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة» «9» .
أما أم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان- رضي الله عنها- فقد كانت عند عبيد الله بن جحش وولدت له حبيبة، وقد هاجرت مع زوجها إلى الحبشة في الهجرة الثانية، غير أنه ما لبث أن ارتد وتنصر ومات على النصرانية وبقيت أم حبيبة. رضي الله عنها- على دين الإسلام، فأتم الله تعالى لها الإسلام والهجرة وتزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ بعث عليه السلام إلى النجاشي فزوجه إياها وأصدقها النجاشي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة «10» . وقيل لأبي سفيان يومئذ وهو مشرك يحارب النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن محمدا قد نكح ابنتك، قال ذاك
__________
(1) ابن هشام- السيرة 3/ 409.
(2) القرآن الكريم- سورة الأحزاب، الآية/ 37، البخاري- الصحيح (فتح الباري، حديث 4787) .
(3) البخاري- الصحيح (الحديث 7420) .
(4) القرآن الكريم- سورة الأحزاب، الآية/ 37.
(5) ابن زبالة- أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ص/ 69، البخاري- الصحيح، حديث (7420) .
(6) البخاري- الصحيح، حديث (4791) .
(7) القرآن الكريم- سورة الأحزاب، الآية/ 53.
(8) انظر ترجمتها وأخبارها في «جامع الأصول» (12/ 251) بتحقيق محمود الأرناؤوط، طبع دار ابن الأثير ببيروت..
(9) مسلم- الصحيح، الحديث (2424) .
(10) أحمد- الفتح الرباني 22/ 133، ابن هشام- السيرة 4/ 389، ابن سعد- الطبقات 8/ 96- 99، وانظر: ابن زبالة- أزواج ص/ 71- 3.(1/409)
الفحل لا يقرع أنفه» «1» .
ومما يؤثر عنها أنها رغبت بفراش النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أراد أبو سفيان أن يجلس عليه عندها فطوته دونه وحتى سألها أبوها عن ذلك قالت:
«بل هو فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنت امرؤ نجس مشرك» «2» .
وقد نزل بسبب زواج النبي صلّى الله عليه وسلّم منها قوله تعالى:
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «3» .
وتزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث، وكانت قبله تحت أبي رهم بن عبد العزى القرشي، وقد خطبها النبي صلّى الله عليه وسلّم في عمرة القضاء بمكة فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب، فأنكحها له العباس وهو محرم سنة ثمان، فلما رجع من مكة بنى بها بسرف على بضعة أميال من مكة، وروى الطبراني برجال ثقات عن الزهري رحمه الله أن ميمونة بنت الحارث هي التي وهبت نفسها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ونزل فيها قوله تعالى:.. وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ... «4» .
أما أم المؤمنين صفية بنت حيي (رضي الله عنها) فقد كانت عند كنانة بن أبي الحقيق الذي قتل يوم خيبر وقد اصطفى النبي صلّى الله عليه وسلّم صفية من النفل وتزوجها بأن جعل عتقها صداقها «5» . وروى البزار بسند جيد عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يولم على أحد من نسائه إلا صفية «6» .
ووردت جملة مرويات تفيد أنه صلّى الله عليه وسلّم كانت له أربع ولائد: مارية القبطية، وريحانة القرظية، وثالثة وهبتها له أم المؤمنين زينب بنت جحش بعد أن رضي عنها إثر مخاصمتها أم المؤمنين صفية، ورابعة أصابها في السبي وكانت جميلة نفيسة «7» . وعقد الشامي في سيرته بابا خاصّا أفرده «في ذكر من عقد عليها ولم يدخل بها صلّى الله عليه وسلّم» «8» عدد فيها
__________
(1) الحاكم- المستدرك 4/ 20، الهيثمي- مجمع الزوائد 9/ 252، أي: أنه كفء كريم لا يرد.
(2) أورد ذلك ابن الجوزي في صفة الصفوة عن طريق الزهري، وانظر: الشامي- سبل الهدى 11/ 195- 196.
(3) القرآن الكريم- سورة الممتحنة، الآية/ 7.
(4) القرآن الكريم- سورة الأحزاب، الآية/ 50، وعن زواج النبي صلّى الله عليه وسلّم منها انظر: ابن زبالة- أزواج ص/ 75- 6، ابن عبد البر- الاستيعاب 4/ 407.
(5) مسلم- الصحيح، 2/ 1046، أحمد- المسند 6/ 834، برواية أبي يعلى عن طريق أنس.
(6) أورد ابن سعد في طبقاته (8/ 100) رواية مرسلة ذكر فيها أن عائشة وحفصة (رضي الله عنهما) كانتا تنالان من صفية وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم علمها أن ترد عليهن بأن أباها هارون صلّى الله عليه وسلّم وعمها موسى صلّى الله عليه وسلّم وزوجها محمد صلّى الله عليه وسلّم. ونقل الشامي في سبل الهدى (11/ 216) خبرا عن غضب النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(7) كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد خاصم زينب بنت جحش وقاطعها قرابة ثلاثة أشهر بسبب أنها عرّفتها «باليهودية» في حضرته صلّى الله عليه وسلّم، وقد ورد ذلك في رواية البزار والضياء المقدسي في صحيحه عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-، والبزار بسند جيد عن أنس بن مالك- رضي الله عنه-، (الهيثمي- مجمع الزوائد 4/ 334) ، ومنها ما أورده ابن أبي خيثمة عن أبي عبيدة معمر بن المثنى (ابن سعد- الطبقات 4/ 334) ، الشامي- سبل الهدى 11/ 219- 220.
(8) الشامي- سبل الهدى 11/ 220- 233.(1/410)
أسماء ست وعشرين من النساء اللاتي ذكرت المرويات المتنوعة، وبعضها صحيح، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد عقد عليهن النكاح ثم فارقهن مبينا أسباب ذلك، ذكر البخاري منهن ابنة الجون التي تعوذت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أدخلت عليه «1» ، وروى الإمام أحمد وابن أبي خيثمة، خبر الغفارية التي تزوجها النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما أدخلت إليه وجد في كشحها بياضا ففارقها ولم يأخذ مما آتاها شيئا «2» . وروى البخاري عن أبي أسيد خبر زواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من أميمة بنت شراحيل ومفارقة النبي صلّى الله عليه وسلّم لها بسبب ذلك «3» .
ولقد اجتمعت أمهات المؤمنين عند النبي صلّى الله عليه وسلّم في حياته بالمدينة فكان لكل واحدة منهن حجرة صغيرة يدخل إليها من فناء صغير يفضي إلى المسجد من جهته الشرقية ولا شك في أن هذا العدد من الزوجات كان من خصائص النبي صلّى الله عليه وسلّم.
أولاده صلّى الله عليه وسلّم:
أولهم القاسم، ثم زينب، ثم رقية، وأم كلثوم، وفاطمة، ثم عبد الله.
وهؤلاء كلهم من خديجة، ولم يولد له من زوجة غيرها، ثم ولد له إبراهيم بالمدينة من سريته مارية سنة ثمان من الهجرة ومات قبل الفطام، وكل أولاده توفي قبله إلا فاطمة فإنها تأخرت بعده بستة أشهر.
أعمامه وعماته صلّى الله عليه وسلّم:
منهم سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، والعباس، وأبو طالب، وأبو لهب، والزبير، وعبد الكعبة، والمقوّم، وضرار، وقثم، والمغيرة، والعيداق، وزاد بعضهم العوام ولم يسلم منهم غير حمزة والعباس.
وأما عماته فصفية أم الزبير بن العوام، وعاتكة، وبرّة، وأروى، وأميمة، وأم حكيم البيضاء. أسلم منهن صفية، واختلف في إسلام عاتكة وصحح بعضهم إسلام أروى.
كتابه صلّى الله عليه وسلّم:
أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وعامر بن فهيرة، وعمرو بن العاص، وأبيّ بن كعب، وعبد الله بن الأرقم، وثابت بن قيس بن شماس، وحنظلة بن الربيع الأسدي، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن رواحة، وخالد بن الوليد، وخالد بن سعد بن العاص، وقيل إنه أول من كتب له صلّى الله عليه وسلّم- ومعاوية بن أبي سفيان، وزيد بن ثابت، وكان ألزمهم لهذا الشأن وأخصهم به.
كتبه صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل الإسلام في الشرائع:
فمنها كتابه في الصدقات الذي كان عند أبي بكر- وكتبه أبو بكر لأنس بن مالك لما وجهه إلى البحرين- ومنها كتابه إلى أهل اليمن وهو الكتاب الذي رواه أبو بكر بن عمرو بن حزم، ورواه الحاكم في صحيحه والنسائي وغيرهما وهو كتاب عظيم فيه أنواع من الفقه، ومنها كتابه إلى بني زهير، وكتاب كان عند عمر بن الخطاب في نصب الزكاة وغيرها.
__________
(1) البخاري- الصحيح، حديث (5255) .
(2) الشامي- سبل الهدى 11/ 223.
(3) المرجع السابق 11/ 224.(1/411)
كتبه صلّى الله عليه وسلّم ورسله إلى الملوك:
لما رجع صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية كتب إلى ملوك الأرض وأرسل إليهم رسله فكتب إلى ملك الروم. فقيل له: إنهم لا يقرءون كتابا إلّا إذا كان مختوما، فاتخذ خاتما من فضة ونقش عليه ثلاثة أسطر: «محمد» سطر، و «رسول» سطر، و «الله» سطر. وختم به الكتب إلى الملوك. وبعث بها ستة نفر في يوم واحد في المحرم من سنة سبع. فأولهم عمرو بن أمية الضمري بعثه إلى النجاشي- واسمه أصحمة وتفسيره بالعربية عطية- وقد روى أنه عظم كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم أسلم وشهد شهادة الحق وكان من أعلم الناس بالإنجيل. وأنه صلى عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم مات بالمدينة وهو بالحبشة، هكذا قال جماعة منهم الواقدي وابن سعد، وليس كما قال هؤلاء فإن أصحمة النجاشي الذي صلى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس هو الذي كتب إليه وهذا الثاني لا يعرف إسلامه بخلاف الأول فإنه مات مسلما، وقد روى مسلم في صحيحه من حديث قتادة عن أنس قال: كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال محمد بن حزم: إن هذا النجاشي الذي بعث إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن أمية الضمري لم يسلم، والأول هو اختيار ابن سعد وغيره. والظاهر قول ابن حزم.
وبعث دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك الروم- واسمه هرقل وهمّ بالإسلام وكاد ولم يفعل. وقد روى ابن حبان في صحيحه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من ينطلق بصحيفتي إلى قيصر وله الجنة؟» فقال رجل من القوم: وإن لم يقبل؟ قال: «وإن لم، يقبل» فوافق قيصر وهو يأتي بيت المقدس فرمى بالكتاب على البساط وتنحى فنادى قيصر من صاحب الكتاب فهو آمن! قال أنا. قال: فإذا قدمت فأتني، فلما قدم أتاه فأمر قيصر بأبواب قصره فغلقت، ثم أمر مناديا ينادي: ألا إن قيصر قد اتبع محمدا وترك النصرانية فأقبل جنده وقد تسلحوا فقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قد ترى أني خائف على مملكتي! ثم أمر مناديه فنادى: ألا إن قيصر قد رضي عنكم وكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إني مسلم وبعث إليه بدنانير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «كذب عدو الله ليس بمسلم وهو على النصرانية» وقسم الدنانير.
وبعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى- واسمه أبرويز بن هرمز بن أنوشروان- فمزق كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم! فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم مزق ملكه» فمزق ملكه وملك قومه.
وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس- واسمه جريج بن مينا ملك الإسكندرية عظيم القبط- فقال خيرا وقارب الأمر ولم يسلم وأهدى للنبي صلّى الله عليه وسلّم مارية وأختيها سيرين وقيسرى، فتسرى مارية، ووهب سيرين لحسان بن ثابت، وأهدى له جارية أخرى وألف مثقال ذهبا وعشرين ثوبا من قباطي مصر وبغلة شهباء هي دلدل وحمارا أشهب- وهو عفير- وغلاما خصيّا يقال له مابور- وقيل هو ابن عم مارية- وفرسا- وهو اللزاز- وقدحا من زجاج وعسلا.(1/412)
وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك البلقاء، وبعث سليط بن عمرو إلى هوذة ابن علي الحنفي باليمامة فأكرمه، وقيل بعثه ابن هوذة إلى ثمامة بن أثال الحنفي فلم يسلم هوذة وأسلم ثمامة بعد ذلك.
فهؤلاء الستة قيل هم الذين بعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يوم واحد، وبعث عمرو بن العاص في ذي القعدة سنة ثمان إلى جيفر وعبد ابني الجلندي الأزديين بعمان فأسلما وصدقا وخليا بين عمرو وبين الصدقة والحكم فيما بينهم، فلم يزل فيما بينهم حتى بلغته وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين قبل منصرفه من الجعرانة، وقيل قبل الفتح فأسلم وصدق.
وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث بن عبد كلال الحميري باليمن، فقال: سأنظر في أمري.
وبعث أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن عند انصرافه من تبوك، وقيل سنة عشر من ربيع الأول داعيين إلى الإسلام فأسلم عامة أهلها طوعا من غير قتال ثم بعث بعد ذلك عليّ بن أبي طالب إليهم وعند عودته وافى النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة في حجة الوداع.
وبعث جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الكلاع الحميري وذي عمرو يدعوهما إلى الإسلام فأسلما وتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجرير عندهم، وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى مسيلمة الكذاب بكتاب وكتب إليه بكتاب آخر مع السائب بن العوام أخي الزبير فلم يسلم، وبعث إلى فروة بن عمرو الجذامي يدعوه إلى الإسلام، وقيل لم يبعث إليه، وكان فروة عاملا لقيصر بمعان فأسلم وكتب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بإسلامه.
وبعث إليه هدية مع مسعود بن سعد- وهي بغلة شهباء يقال لها فضة- وفرس يقال له الضرب، وحمار يقال له يعفور. وبعث أثوابا وقباء سندس مخوص بالذهب فقبل هديته ووهب لمسعود بن سعد اثنتي عشرة أوقية ونشا. وبعث عياش بن أبي ربيعة المخزومي بكتاب إلى الحارث ومسروح ونعيم بن عبد كلال من حمير.
مؤذّنوه صلّى الله عليه وسلّم:
كانوا أربعة اثنان بالمدينة، بلال بن رباح، وهو أول من أذن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعمرو بن أم مكتوم القرشي العامري الأعمى وبقباء سعد القرط، مولى عمار بن ياسر، وبمكة أبو محذورة واسمه أوس بن مغيرة الجمحي.
وكان أبو محذورة يرجّع الأذان ويثني الإقامة وبلال لا يرجع ويفرد الإقامة.
أمراؤه صلّى الله عليه وسلّم:
منهم باذان بن ساسان أمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أهل اليمن كلّها بعد كسرى وأول من أسلم من ملوك العجم، ثم أمّر بعد موت باذان ابنه شهر بن باذان على صنعاء وأعمالها، ثم قتل شهر فأمر خالد بن سعيد بن العاص.
وولى المهاجر بن أبي أمية المخزومي كندة والصدف فتوفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يسر إليها فبعثه أبو بكر لقتال ناس من المرتدين.(1/413)
وولى زياد بن أمية الأنصاري حضر موت. وولى أبا موسى الأشعري زبيد وعدن وزمع والساحل، وولى معاذ ابن جبل الجند، وولى أبا سفيان صخر بن حرب نجران، وولى ابنه يزيد تيما، وولى عتاب بن أسيد مكة وإقامة الموسم بالحج بالمسلمين سنة ثمان، وله دون العشرين سنة، وولى علي بن أبي طالب الأخماس باليمن والقضاء بها.
وولى عمرو بن العاص عمان وأعمالها، وولى الصدقات جماعة كثيرة لأنه كان لكل قبيلة وآل رجل يقبض صدقاتها، وولى أبا بكر إقامة الحج سنة تسع وبعث في أثره عليّا يقرأ على الناس سورة براءة.
حرسه صلّى الله عليه وسلّم:
فمنهم سعد بن معاذ حرسه يوم بدر حين نام في العريش، ومحمد بن مسلمة حرسه يوم أحد، والزبير بن العوام حرسه يوم الخندق.
ومنهم عباد بن بشر وهو الذي كان على حرسه.
وحرسه جماعة آخرون غير هؤلاء، فلما نزل قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ استغنى عن الحرس.
شعراؤه صلّى الله عليه وسلّم:
كان من شعرائه الذين يذبون عن الإسلام كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت- وكان أشدهم على الكفار حسانا- وكان كعب يعيرهم بالكفر والشرك، وكان خطيبه ثابت بن قيس بن شماس.
سلاحه وأثاثه صلّى الله عليه وسلّم:
كان له تسعة أسياف منها ذو الفقار- وكان لا يكاد يفارقه، وكانت قائمته وقبيعته وحلقته وذؤابته وبكراته ونعله من فضة، وسبعة أدرع، وست قسيّ، وترس يقال له الفتق، وترس يقال له الزلوق، وخمسة أرماح، وحربة يقال لها النبعة، وأخرى كبيرة تدعى البيضاء، وأخرى صغيرة شبه العكاز يمشي بها بين يديه في الأعياد وتركز أمامه فيتخذها سترة يصلي إليها، وكان يمشي بها أحيانا.
وكان له مغفر من حديد يقال له الموشح ومغفر آخر يقال له المسبوغ، وكان له ثلاث جبات يلبسها في الحرب، قيل فيها جبة سندس أخضر، وكان له راية سوداء. وفي سنن أبي داود عن رجل من الصحابة قال: رأيت راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صفراء.
وكان له ألوية بيضاء، وربما جعل فيها الأسود، وكان له فسطاط يسمى الكن، ومحجن يمشي به ويركب به ويعلقه بين يديه على بعيره.
وكان له قدح مضبب بسلسلة فضة، وقدح من قوارير، ومدهن، وربعة فيها المرآة والمشط والمقراضان والسواك، وسرير قوائمه من ساج، وفراش من أدم حشوه ليف.
وكان له مائة شاة وكان لا يريد أن تزيد كلما ولد له الراعي بهمة ذبح مكانها شاة وغنم يوم بدر جملا مهريّا لأبي جهل في أنفه برة من فضة فأهداه يوم الحديبية ليغيظ بن المشركين.(1/414)
شمائل الرسول صلّى الله عليه وسلّم
الصفات الخلقيّة لسيد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم
ممّا لا شكّ فيه أنّ الأنبياء والرّسل عليهم الصّلاة والسّلام يمثّلون الكمال الإنسانيّ في أرقى صوره فهم في غاية الكمال في خلقهم وخلقهم، أطهر البشر قلوبا، وأزكاهم أخلاقا، وأجودهم قريحة، اختارهم الله واصطفاهم لنفسه واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ «1» .
فلم يكن بدعا من الأنبياء أن يكون كلّ ما عليه نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم من الخلق والتّكوين مسترعيا للأنظار؛ فكما هو قمّة الكمال والجمال في خلقه، كذلك هو قمّة الجمال والكمال في خلقه، ولا شكّ أنّ ذلك التناسق والجمال الجسميّ له أثره الكبير في الدّعوة والاستجابة لها «2» ، فكم من رجل دخل في الإسلام بمجرّد رؤيته رسول الهدى صلّى الله عليه وسلّم ومشاهدة نور وجهه الشّريف؟. فهذا عبد الله بن سلام حبر يهود وأعلمهم بالتّوراة يقول: «لمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة انجفل «3» النّاس إليه، وقيل قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- ثلاث مرّات- فجئت في النّاس لأنظر إليه فلمّا تأمّلت وجهه واستثبتّه «4» عرفت أنّ وجهه ليس بوجه كذّاب..» «5» ، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
فرسولنا صلّى الله عليه وسلّم كان أحسن النّاس وأجمل النّاس، لم يصفه واصف قطّ إلّا شبّهه بالقمر ليلة البدر، ولقد كان يقول قائلهم: لربّما نظرنا إلى القمر ليلة البدر فنقول: هو أحسن في أعيننا من القمر، أحسن النّاس وجها، وأنورهم لونا، يتلألأ تلألؤ الكوكب، ولقد وصفه أبو بكر الصّدّيق- رضي الله عنه- فقال:
أمين مصطفى للخير يدعو ... كضوء البدر زايله «6» الظّلام
وكان عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- كثيرا ما ينشد قول زهير بن أبي سلمى حين يقول لهرم بن سنان:
__________
(1) سورة الأنعام: آية (124) .
(2) خاتم النبيين- للشيخ محمد أبو زهرة (11/ 319، 320) باختصار وتصرف.
(3) انجفل: أسرع.
(4) استثبته: استثبت الشيء. إذا تحققته وتبينته. قاله ابن الأثير في جامع الأصول (9/ 551) .
(5) رواه الترمذي برقم (2485) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه برقم (1334) والدارمي برقم (1468) ، والحاكم (3/ 13) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(6) زايله: أي بارحه وفارقه. والمزايلة المفارقة. انظر لسان العرب (11/ 317) .(1/415)
لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المضيء لليلة البدر «1»
فيقول عمر- رضي الله عنه- ومن سمع ذلك: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كذلك ولم يكن كذلك غيره. وكذلك قالت عمّته عاتكة بنت عبد المطّلب، بعد ما سار من مكّة مهاجرا فجزعت عليه بنو هاشم فانبعثت تقول:
عينيّ جودا بالدّموع السّواجم «2» ... على المرتضى كالبدر من آل هاشم
على المرتضى للبرّ والعدل والتّقى ... وللدّين والدّنيا بهيم «3» المعالم
على الصّادق الميمون ذي الحلم والنّهى ... وذي الفضل والدّاعي لخير التّراحم
فشبّهته بالبدر ونعتته بهذا النّعت وإنّها لعلى دين قومها.
فهذه نماذج- وهي قلّ من كثر- لما وصفه به الواصفون، ممّا يدلّ على جماله وبهائه وملاحته صلّى الله عليه وسلّم.
صفة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
وردت أحاديث جامعة شاملة تضمّنت صفات خلقيّة عديدة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما وردت أحاديث أخرى تقتصر على صفة معيّنة أو أكثر ولكنّها لا تصل إلى درجة الشّمول والجمع.
وصف جامع:
وردت بعض الأحاديث والآثار الّتي تتضمّن وصفا شاملا للرّسول صلّى الله عليه وسلّم نذكر منها مايلي:
1- حديث أمّ معبد: عن حبيش بن خالد «4» رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أخرج من مكّة مهاجرا إلى المدينة، هو وأبو بكر ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة، ودليلهما اللّيثي: عبد الله بن أريقط- رضي الله عنهم- مرّوا على خيمتي أمّ معبد الخزاعيّة- وكانت برزة «5» جلدة تحتبي بفناء القبّة، ثمّ تسقي وتطعم فسألوها لحما، وتمرا،
__________
(1) ديوان زهير بن أبي سلمى (ص 95) .
(2) السواجم: انسجم الدمع: أي انصب وسال. انظر لسان العرب (12/ 280- 281) .
(3) بهيم المعالم: أي ليس فيه شيء من الأمراض والعاهات مثل العمى والعور والعرج وغير ذلك من صنوف العاهات. انظر لسان العرب (12/ 59) .
(4) هو أخو أم معبد واسمها عاتكة بنت خالد.
(5) برزة: قال ابن الأثير: يقال امرأة برزة إذا كانت كهلة لا تحتجب احتجاب الشواب وهي مع ذلك عفيقة عاقلة تجلس للناس وتحدثهم من البروز وهو الظهور والخروج. النهاية (1/ 117) .(1/416)
ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وكان القوم مرملين «1» مسنتين «2» . فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى شاة في كسر الخيمة «3» ، فقال: «ما هذه الشّاة يا أمّ معبد؟» ، قالت: شاة خلّفها الجهد عن الغنم. قال: «أبها من لبن؟» ، قالت: هي والله أجهد من ذلك. قال: «أتأذنين لي أن أحلبها؟» . قالت: بأبي وأمّي! إن رأيت بها حلبا فاحلبها.
فدعا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمسح بيده ضرعها، وسمّى الله تعالى، ودعا لها في شاتها، فتفاجّت «4» عليه ودرّت واجترّت. ودعا بإناء يربض «5» الرّهط، فحلب فيه ثجّا «6» حتّى علاه البهاء»
، ثمّ سقاها حتّى رويت، وسقى أصحابه حتّى رووا، ثمّ شرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخرهم، ثمّ أراضوا «8» عللا بعد نهل «9» ، ثمّ حلب فيه ثانيا بعد بدء حتّى ملأ الإناء، ثمّ غادره عندها، ثمّ بايعها، وارتحلوا عنها.
فقلّما لبثت حتّى جاءها زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن «10» هزلا ضحا «11» مخّهنّ قليل.
فلمّا رأى أبو معبد اللّبن عجب وقال: من أين لك هذا اللّبن يا أمّ معبد، والشّاء عازب حيال «12» ، ولا حلوب في البيت؟. فقالت: لا والله إلّا أنّه مرّ بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي يا أمّ معبد.
__________
(1) مرملين: أي نفذ زادهم. النهاية (2/ 265) .
(2) مسنتين: أي مجدبين، أصابتهم السّنة وهي القحط والجدب. النهاية (2/ 407) .
(3) كسر الخيمة: أي جانبها وتفتح الكاف وتكسر. النهاية (4/ 172) .
(4) فتفاجت عليه: أي فتحت ما بين رجليها للحلب، والتفاج المبالغة في تفريج ما بين الرجلين. النهاية (3/ 412) .
(5) يربض الرهط: أي يرويهم، يثقلهم حتى يناموا ويمتدوا على الأرض. والرهط: ما بين الثلاثة إلى العشرة. البداية والنهاية (2/ 184، 283) .
(6) ثجا: أي لبنا سائلا كثيرا. النهاية (1/ 207) .
(7) حتى علاه البهاء: قال ابن قتيبة: يريد علا الإناء بهاء اللبن وهو وبيص رغوته يريد أنه ملأها. دلائل النبوة (1/ 282) .
(8) ثم أراضوا: قال ابن قتيبة: يريد أنهم شربوا حتى رووا فنقعوا بالري. دلائل النبوة (1/ 282) .
(9) عللا بعد نهل: المعنى ارتووا من الشرب مرة بعد مرة، فالنهل الشرب الأول، والعلل الشرب الثاني. منال الطالب ص 180.
(10) يتساوكن هزلا: يقال تساوكت الإبل إذا اضطربت أعناقها من الهزال. أراد أنها تتمايل من ضعفها. النهاية (2/ 425) . ويروى تشاركن هزلا أي عمهن الهزال، منال الطالب (181) .
(11) ضحا. قال ابن الأثير: وقوع هذه الكلمة بين صفات الغنم بعيد، وكان يغلب على الظن أنها تصحيف ومن الرواة من أسقطها من الحديث، ثم وجدت الحافظ أبا أحمد العسال قد روى «يتتاركن هزلا مخاخهن قليل» ولا أظن الصحيح إلا كما رواه، والمخاخ جمع مخ فيكون قد تصحف «مخا» ب «ضحا» ويدل عليه أنه في أكثر النسخ مكتوب بالألف، وقد وصف المخاخ وهو جمع ب «قليل» وهو مفرد لأنه أراد أنها شيء قليل، ومما يبطل «ضحا» أنهم كانوا عندها في القائلة لا في وقت الضحى. انظر منال الطالب ص 182.
(12) عازب حيال: أي بعيدة المرعى لا تأوى إلى المنزل في الليل. و (الحيال) : جمع حائل وهي التي لم تحمل. النهاية (3/ 227) .(1/417)
قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة «1» ، أبلج «2» الوجه، حسن الخلق، لم تعبه نحلة «3» ، ولم تزر به، صعلة «4» ، وسيم «5» قسيم «6» ، في عينه دعج «7» ، وفي أشفاره غطف «8» ، وفي صوته صهل «9» ، وفي عنقه سطع «10» ، وفي لحيته كثاثة «11» أزجّ «12» أقرن «13» إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلّم سما وعلاه البهاء، أجمل النّاس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب. حلو المنطق، فصل، لا نزر ولا هزر «14» ، كأنّ منطقه خرزات نظم ينحدرن. ربعة لا يأس «15» من طول، ولا تقتحمه «16» عين من قصر، غصن بين
__________
(1) ظاهر الوضاءة: ظاهر الحسن والجمال والنظافة. لسان العرب (1/ 195) .
(2) أبلج الوجه: الأبلج: الأبيض الحسن الواسع الوجه. والمعنى: مشرق الوجه مضيئه. والبلج أيضا تباعد ما بين الحاجبين أي عدم التقائهما. ولم ترد أم معبد بلج الحاجب لأنها وصفته بالقرن والقرن هو التقاء الحاجبين. وقد صرح في غير حديث أم معبد بالبلج وهو عدم التقاء الحاجبين. والجمع بين وصفه بالبلج والقرن: هو أنه صلّى الله عليه وسلّم من شدة إضاءة وجهه لا يظهر الالتقاء الذي بين حاجبيه لخفته. النهاية (1/ 151، 4/ 54) ، لسان العرب (2/ 215) .
(3) لم تعبه نحلة: أي دقة وهزال. النهاية (5/ 29) .
(4) صعلة: هي صغر الرأس، وهي أيضا الدقة والنحول في البدن. البداية والنهاية (3/ 32) . ويروى صقلة وهي ضمور الخصر وقلة لحمه.
(5) وسيم: الوسيم: الثابت الحسن. وفلان وسيم أي: حسن الوجه وسيما. انظر لسان العرب (12/ 637) .
(6) قسيم: القسامة: الجمال والحسن، ورجل مقسم الوجه: أي جميل كله. انظر لسان العرب (12/ 482) .
(7) في عينه دعج: الدعج والدعجة: السواد في العين وغيرها. والمراد أن سواد عينيه كان شديد السواد وقيل: الدعج: شدة سواد العين في شدة بياضها. النهاية (2/ 119) . لسان العرب (2/ 271) .
(8) وفي أشفاره غطف: الأشفار جمع شفر بالضم، وقد يفتح وهو العين الذي ينبت عليه الشعر. والغطف: هو أن يطول شعر الأجفان ثم ينعطف. النهاية (2/ 484، 3/ 373)) .
(9) صهل: الصهل: حدة الصوت مع بَحَحٍ. النهاية (3/ 337) ، ولسان العرب (11/ 387) ، ويروى صحل وهو صوت فيه بحة وغلظ.
(10) في عنقه سطع: أي ارتفاع وطول. النهاية (2/ 365) .
(11) وفي لحيته كثاثة: قال ابن منظور: في صفته صلّى الله عليه وسلّم أنه كان كث اللحية. أراد كثرة أصولها وشعرها، وأنها ليست بدقيقة، ولا طويلة، وفيها كثافة. لسان العرب (2/ 179) ، النهاية (4/ 152) .
(12) أزج: الزجج: تقوس في الحاجب مع طول في طرفه وامتداد. قاله ابن الأثير في النهاية (2/ 296) . وقال ابن منظور: الزجج: رقة محط الحاجبين ودقتهما وطولهما وسبوغهما واستقواسهما. وقيل: الزجج: دقة في الحاجبين وطول. انظر لسان العرب (2/ 287) .
(13) أقرن: القرن: بالتحريك: اقتران الحاجبين بحيث يلتقي طرفاهما. النهاية (4/ 54) .
(14) لا نزر ولا هزر: النزر: القليل. أي ليس بقليل فيدل على عي، ولا كثير فاسد. (النهاية (5/ 40) ، وفي رواية ولا هذر، والهذر الكلام الكثير غير المفيد.
(15) لا يأس من طول: أي ليس بالطويل الذي يؤيس مباريه عن مطاولته. (دلائل النبوة 1/ 284) نقلا عن ابن قتيبة، والنهاية (5/ 291) .
(16) ولا تقتحمه عين من قصر: أي لا تتجاوزه إلى غيره احتقارا له. وكل شيء ازدريته فقد اقتحمته. النهاية (4/ 19) .(1/418)
غصنين فهو أنضر الثّلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفّون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود «1» محشود «2» ، لا عابس «3» ولا مفنّد «4» صلّى الله عليه وسلّم.
فقال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الّذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكّة، ولقد هممت أن أصحبه.
ولأفعلنّ إن وجدت إلى ذلك سبيلا «5» .
2- حديث هند بن أبي هالة التّميميّ في صفة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: قال الحسن بن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنهما-:
سألت خالي هند بن أبي هالة التّميميّ عن حلية النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكان وصّافا له، وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا لعلّي أتعلّق به فقال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخما مفخّما، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع «6» ، وأقصر من المشذّب «7» عظيم الهامة «8» ، رجل الشّعر «9» ، إن انفرقت عقيصته فرق وإلّا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا وفّره «10» ، أزهر
__________
(1) محفود: المحفود الذي يخدمه أصحابه ويعظمونه ويسرعون في طاعته. النهاية (1/ 406) .
(2) محشود: أي أن أصحابه يخدمونه ويجتمعون إليه. النهاية (1/ 388) .
(3) لا عابس: العابس: الكريه الملقى الجهم المحيا. النهاية (3/ 171) .
(4) ولا مفند: المفند هو الذي لا فائدة في كلامه لكبر أصابه. النهاية (3/ 475) .
(5) حديث أم معبد رواه ابن إسحاق في السيرة. انظر سيرة ابن هشام (2/ 129) . وابن سعد في الطبقات (1/ 230) . والحاكم في المستدرك (3/ 9- 11) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ورواه أبو نعيم في دلائل النبوة (283- 287) . والبيهقي في دلائل النبوة (1/ 276- 280) . ورواه كذلك الطبراني وابن عساكر في تاريخ دمشق. انظر تهذيب تاريخ دمشق (1/ 326) . وابن عبد البر في كتابه الاستيعاب. انظر هامش الإصابة (4/ 495) . قال الحافظ ابن كثير: وقصتها (أم معبد) مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضا. انظر النهاية (3/ 188) . وقال الحافظ ابن حجر: أم معبد: الخزاعية التي نزل عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم لما هاجر، مشهورة بكنيتها واسمها عاتكة بنت خالد. انظر الإصابة (4/ 497) . قال محققا كتاب زاد المعاد عبد القادر وشعيب الأرناؤوط: حديث حسن. انظر حاشية زاد المعاد (3/ 57) .
(6) المربوع: المعتدل القامة، وسطا بين الطويل والقصير.
(7) المشذب: الطويل البائن الطول، مع نقص في لحمه، والمراد أنه ليس بنحيف طويل، بل طوله وعرضه متناسبان على أتم صفة.
(8) الهامة: الرأس، وعظم الرأس دليل على وفور العقل.
(9) الشعر الرجل: الذي ليس شديد الجعودة، ولا شديد السبوطة بل بينهما.
(10) العقيصة: الشعر المجموع كهيئة المضفور، من العقص: العطف واللى وقيل: هي الخصلة من الشعر اذا عقصت. والانفراق: الفصل بين الشيئين، أي كان لا يفرق شعره إلا أن ينفرق هو لنفسه، ووفّره: إذا أعفاه عن الفرق، يعني أن شعره إذا فرقه تجاوز شحمة أذنيه، وإذا ترك فرقه لم يجاوزها.(1/419)
اللّون»
واسع الجبينين «2» أزجّ الحواجب «3» سوابغ في غير قرن «4» بينهما عرق يدرّه الغضب «5» أقنى العرنين، له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمّله أشمّ «6» كثّ اللّحية «7» سهل الخدّين «8» ضليع الفم «9» ، أشنب «10» ، مفلّج الأسنان «11» دقيق المسربة «12» كأنّ عنقه جيد دمية «13» في صفاء الفضّة، معتدل الخلق «14» ، بادنا متماسكا «15» ، سواء البطن والصّدر، عريض الصّدر «16» ، بعيد ما بين المنكبين «17» ضخم الكراديس «18» ، أنور المتجرّد «19» موصول ما بين اللّبّة والسّرّة- بشعر يجري كالخطّ «20» ، عاري الثّديين والبطن ممّا سوى ذلك «21» أشعر الذّراعين والمنكبين وأعالي الصّدر، طويل
__________
(1) اللون الأزهر: الأبيض المضيء المستنير.
(2) الجبينان: ما عن جانبي الجبهة من مقدم الرأس.
(3) الزجج: دقة الحاجبين وسبوغهما إلى محاذاة آخر العين مع تقوس خلقة، وقد تفعله النساء تكلفا، وقد نهى عنه.
(4) القرن: أن يلتقي طرفاهما مما يلي أعلى الأنف، وهو غير محمود عند العرب، والمراد أن حاجبيه قد سبغا وامتدا حتى كادا يلتقيان ولم يلتقيا. والسوابغ جمع سابغ: وهو التام الطويل.
(5) يدره الغضب: يحركه ويظهره، كان إذا غضب امتلأ ذلك العرق دما.
(6) العرنين: الأنف، والقنا: طول الأنف ودقة أرنبته مع ارتفاع في وسط قصبته، والشمم: ارتفاع رأس الأنف وإشراف الأرنبة قليلا، واستواء أعلى القصبة، والمراد أنه كان يحسب لحسن قناه قبل التأمل أشم، فليس قناه بفاحش مفرط، بل يميل يسيرا إلى الشمم.
(7) الشعر الكث: الكثيف المتراكب من غير طول ولارقة.
(8) سهل الخدين: أي ليس في خديه نتوّ وارتفاع، وقيل أراد أن خديه أسيلان، قليلا اللحم، رقيقا الجلد.
(9) الضليع الفم: العظيم الواسع.
(10) الشنب: رقة الأسنان ودقتها، وتحدد أطرافها.
(11) الفلج: تباعد ما بين الثنايا والرباعيات.
(12) المسربة بضم الراء: ما دق من شعر الصدر، سائلا إلى السرة.
(13) الجيد: العنق، وإنما ذكرهما لئلا يتكرر لفظ واحد، والدمية: الصورة المصورة في جدار أو غيره.
(14) اعتدال الخلق: تناسب الأعضاء والأطراف، وألا تكون متباينة مختلفة في الدقة والغلظ، والصغر والكبر، والطول والقصر.
(15) البادن: الضخم التام اللحم، والمتماسك: الذي لحمه ليس بمسترخ ولا متهدل.
(16) سواء البطن والصدر: أي متساويهما، يعني أن بطنه غير خارج فهو مساو لصدره، وصدره عريض فهو مساو لبطنه.
(17) المنكبان: أعلى الكتفين، وبعد ما بينهما يدل على سعة الصدر والظهر.
(18) الكراديس: جمع كردوس وهو رأس كل عظم كبير، وملتقى كل عظمين ضخمين، كالمنكبين والمرفقين، والوركين والركبتين، ويريد به ضخامة الأعضاء وغلظها.
(19) المتجرد والمجرد: ما كشف عنه الثوب من البدن، يعني أنه كان مشرق الجسد نير اللون.
(20) الأشعر: الذي عليه الشعر من البدن، واللّبة: الوهدة التي في أعلى الصدر، وفي أسفل الحلق بين الترقوتين.
(21) عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك: أي أن ثدييه وبطنه ليس عليها شعر سوى المسربة.(1/420)
الزّندين «1» ، رحب الرّاحة «2» ، سبط القصب، شثن الكفّين والقدمين «3» ، سائل الأطراف، خمصان الأخمصين «4» مسيح القدمين ينبو عنهما الماء «5» إذا زال زال قلعا «6» يخطو تكفّؤا، ويمشي هونا، ذريع المشية «7» إذا مشى كأنّما ينحطّ من صبب «8» ، وإذا التفت التفت جميعا «9» خافض الطّرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السّماء، جلّ نظره الملاحظة «10» يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسّلام «11» قلت: صف لي منطقه.
قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليست له راحة، طويل السّكت لا يتكلّم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، ويتكلّم بجوامع الكلم، فصلا لا فضول ولا تقصير1»
، دمثا ليس
__________
(1) الزندان: العظمان اللذان يليان الكف من الذراع، رأس أحدهما يلي الإبهام، ورأس الآخر يلي الخنصر.
(2) الراحة: الكف، ورحبها: سعتها وهو دليل الجود، كما أن ضيقها وصغرها دليل البخل.
(3) الشثن: الغليظ الأطراف والأصابع وكونها سائلة، أي ليست بمنعقدة ولا متجعدة، فهي مع غلظها سهلة سبطة، والقصب: جمع القصبة وهي كل عظم أجوف فيه مخ، والسبط: الممتد في استواء، ليس فيه تعقد ولا نتوء، ويوصف به الشعر والأعضاء والجلد.
(4) الأخمص من القدم الموضع الذي لا يصل إلى الأرض منها عند الوطء، والخمصان المبالغ منه، أي أن ذلك الموضع من رجله شديد التجافي عن الأرض.
(5) مسيح القدمين: أي أن ظاهرهما ممسوح غير منعقد، فإذا صب عليهما الماء مر سريعا لملاستهما فينبو عنهما الماء ولا يقف.
(6) قلعا، ويروى قلعا، ويروى قلعا: والتقلع من الأرض قريب بعضه من بعض، أراد أنه كان يستعمل التثبت ولا يبين منه في هذه الحال استعجال ومبادرة شديدة، وقد جاءت صفته في حديث آخر «إذا مشى تقلع» أراد به قوة مشيه، وأنه كان يرفع رجليه من الأرض رفعا قويّا، لا كمن يمشي اختيالا ويقارب خطوه فإن ذلك من مشي النساء ويوصفن به.
(7) التكفؤ: تمايل الماشي إلى قدام، والأصل في التكفؤ إذا كان مهموزا أن يكون بضم الفاء وإذا كان معتلا (أي بتسهيل الهمزة) فيكون بكسرها. أفاده ابن الأثير في منال الطالب، والهون: المشي في رفق ولين غير مختال ولا معجب، والذريع: السريع أي أنه كان واسع الخطو فيسرع مشيه.
(8) الصبب: الموضع المنحدر من الأرض، وذلك دليل على سرعة مشيه لأن المنحدر لا يكاد يثبت في مشيه.
(9) وإذا التفت التفت جميعا: أي لم يكن يلوي عنقه ورأسه إذا أراد أن يلتفت إلى ورائه، فعل الطائش العجل، إنما يدير بدنه كله وينظر، وقيل أراد أنه كان لا يسارق النظر.
(10) الطرف: العين، خفض الطرف: ضد رفعه، وهو الغض منه والإطراق، جل الشيء: معظمه وأكثره، الملاحظة: أن ينظر الرجل بلحظ عينه وهو شقها الذي يلي الصدغ والأذن، ولا يحدق إلى الشيء تحديقا، و «نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء» ، تفسير لخفض الطرف والملاحظة.
(11) يسوق أصحابه: أي يقدمهم أمامه، ويمشي وراءهم.
(12) تواصل أحزانه، ودوام فكره، وعدم راحته: لاهتمامه بأمر الدين والقيام بما بعث به وكلف تبليغه وخوفه من أمور الآخرة. والسكت: السكوت، والأشداق: جمع شدق وهو جانب الفم وإنما يتكلم الرجل بأشداقه لرحبها وسعتها، والعرب تمتدح بذلك. وجوامع الكلم: هي القليلة الألفاظ الكثيرة المعاني، والقول الفصل: هو البين الظاهر المحكم الذي لا يعاب قائله، والفضول من الكلام: ما زاد عن الحاجة وفضل.(1/421)
بالجافي ولا المهين «1» ، يعظّم النّعمة وإن دقّت ولا يذمّ منها شيئا، غير أنّه لم يكن يذمّ ذواقا ولا يمدحه «2» ، ولا تغضبه الدّنيا ولا ما كان منها، فإذا تعوطي الحقّ لم يعرفه أحد، ولم يقم لغضبه شيء حتّى ينتصر له «3» ، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار، أشار بكفّه كلّها، وإذا تعجّب قلبها، وإذا تحدّث اتّصل بها فيضرب بباطن راحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى «4» ، فإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غضّ طرفه «5» ، جلّ ضحكه التّبسّم ويفترّ عن مثل حبّ الغمام «6» .
قال الحسن: فكتمتها الحسن زمانا، ثمّ حدّثته فوجدته قد سبقني إليه فسأله عمّا سألته ووجدته قد سأل أباه- يعني عليّا كرّم الله وجهه- عن مدخله ومخرجه وشكله «7» فلم يدع منها شيئا، فقال: كان دخوله لنفسه مأذونا له في ذلك، فكان إذا أوى إلى منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءا لله عزّ وجلّ، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه، ثمّ جزّأ جزءه بينه وبين النّاس، فيردّ ذلك على العامّة بالخاصّة، ولا يدّخر عنهم شيئا «8» .
وذكر دخول أصحابه عليه فقال: يدخلون روّادا ولا يفترقون إلّا عن ذواق، ويخرجون أدلّة «9» ، وذكر مجلسه فقال: مجلس حلم وحياء، وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تثنى فلتاته «10» ، إذا
__________
(1) الدمث: السهل اللين الخلق، والجافي: المعرض المتباعد عن الناس، والمهين: بضم الميم من الإهانة وهي الإذلال والاطراح، أي لا يهين أحدا من أصحابه أو من الناس، وبفتح الميم من المهانة وهي الحقارة والصغر.
(2) يعظم النعمة: لا يستصغر شيئا أوتيه وإن كان صغيرا، دق الشيء: إذا صغر مقداره، والذواق: اسم ما يذاق باللسان أي لا يصف الطعام بطيب ولا بشاعة.
(3) «إذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد» أي إذا نيل من الحق أو أهمل أو تعرض للقدح فيه تنكر عليهم وخالف عادته معهم حتى لا يكاد يعرفه أحد منهم، ولا يثبت لغضبه شيء حتى ينتصر للحق، والتعاطي: الأخذ والتناول.
(4) وإذا تحدث اتصل بها: أي أنه كان يشير بكفه إلى حديثه، وجمله فيضرب بباطن راحته.. إلخ تفسير لها.
(5) أشاح: بالغ في الإعراض وجدّ فيه، أي: إذا غضب لم يكن ينتقم ويؤاخذ، بل يقنع بالإعراض عمن أغضبه، وغض الطرف عند الفرح: دليل على نفي البطر والأشر.
(6) التبسم: أقل الضحك وأدناه، يفتر: أي يكشف عند التبسم عن أسنانه، من غير قهقهة، والغمام: السحاب، وحبه: البرد.
(7) الشكل هنا: السيرة والطريقة.
(8) أوى: رجع، التجزئة: القسمة، والجزء المختص بالله تعالى: هو اشتغاله بعبادته ومناجاته في ليله ونهاره، والجزء المختص بأهله: هو الوقت الذي يصحبهم ويعاشرهم فيه، الجزء المختص بنفسه، هو الذي لا يتعبد فيه ولا يعاشر أهله فقسمه بقسمين بينه وبين الناس «فيرد ذلك على العامة بالخاصة» أراد أن العامة كانت لا تصل إليه في هذا الوقت فكانت الخاصة تخبر العامة بما سمعت منه، فكأنه أوصل الفوائد إلى العامة بالخاصة، وقيل إن الباء في «الخاصة» بمعنى من أي يجعل وقت العامة بعد وقت الخاصة وبدلا منهم.
(9) الرواد جمع رائد: وهو الذي يتقدم القوم يكشف لهم حال الماء والمرعى قبل وصولهم، ويخرجون أدلة جمع دليل: أي يدلون الناس بما قد علموه منه وعرفوه، يريد أنهم يخرجون من عنده فقهاء، ويروى أدلة جمع دليل: يريد يخرجون من عنده متواضعين متعظين بما سمعوا، «ولا يفترقون إلا عند ذواق» ضرب الذواق مثلا لما ينالون عنده من الخير، أي لا يتفرقون إلا عن علم يتعلمونه، يقوم لهم مقام الطعام والشراب، لأنه يحفظ الأرواح كما يحفظان الأجسام.
(10) لا تؤبن: لا تقذف ولا ترمي بعيب، والحرم جمع حرمة وهي المرأة وما يلزم الإنسان حفظه وصونه. لا تثنى فلتاته: أي لا يتحدّث عن مجلسه بهفوة أو زلة إن حدثت فيه من بعض القوم، الفلتات جمع فلتة: وهي هنا الزلة والسقطة، وقيل معناه: أنه لم تكن فيه فلتات فتثنى أي تذاع.(1/422)
تكلّم أطرق جلساؤه كأنّما على رءوسهم الطّير، فإذا سكت تكلّموا، كان دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ ولا سخّاب في الأسواق، ولا فحّاش ولا غيّاب ولا مدّاح ولا يقبل الثّناء إلّا من مكافيء «1» .
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان كأنّ الشّمس تجري في جبهته «2» . وما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنّما الأرض تطوى «3» له، إنّا لنجهد أنفسنا «4» وإنّه لغير مكترث «5» » «6» .
4- وعن جابر بن سمرة- رضي الله عنهما- قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ليلة إضحيان «7» وعليه حلّة حمراء فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو عندي أحسن من القمر «8» .
5- وعن أبي عبيدة بن محمّد بن عمّار بن ياسر، قال: قلت للرّبيّع بنت معوّذ: صفي لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالت
__________
(1) الإطراق: خفض الرأس وإدامة النظر إلى الأرض بين يديه كأنما على رءوسهم الطير: أراد وصفهم بالسكون والثبات في المجلس لأن الطير لا تسقط إلا على ساكن، والبشر: طلاقة الوجه وبشاشته، والفظ: السيء الخلق، والسخاب: من السخب وهو الضجة واضطراب الأصوات، والفحاش والعياب: مبالغة من الفحش في القول وعيب الناس والوقيعة فيهم. لا يقبل الثناء إلا من مكافيء: أراد أنه كان إذا ابتديء بثناء ومدح كره ذلك، وإذا اصطنع معروفا فأثنى عليه مثن وشكر له قبل ثناءه، وقيل: المعنى أنه لا يقبل الثناء عليه ممن لا يعرف حقيقة إسلامه، ولا يكون من المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وقيل: إنه لا يقبل الثناء إلا من مقارب غير مجاوز حد مثله، ولا مقصر عما رفعه الله إليه، والمكافأة: المجازاة على الشيء، والتكافؤ: التساوي. (الحديث وشرحه في منال الطالب لابن الأثير تحقيق د. محمود الطناحي: ص 197- ص 217- مطبعة المدني بالقاهرة نشر مكتبة الخانجي بالقاهرة 1979) .
(2) وفي رواية البيهقي في دلائل النبوة: «كأن الشمس تجري في وجهه» . قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قال الطيبي: شبه جريان الشمس في فلكها بجريان الحسن في وجهه صلّى الله عليه وسلّم، وفيه عكس التشبيه للمبالغة، قال: ويحتمل أن يكون من باب تناهى التشبيه جعل وجهه مقرا ومكانا للشمس. انظر فتح الباري (6/ 662) .
(3) تطوى له الأرض: أي تقطع مسافتها بسهولة ويسر وسرعة. انظر البداية والنهاية لابن الأثير (3/ 146) بتصرف.
(4) إنا لنجهد أنفسنا: أي نحمل عليها في السير، يقال جهد الرجل في الشيء: أي جد فيه وبالغ. انظر البداية والنهاية لابن الأثير (1/ 319) .
(5) وإنه لغير مكترث: أي غير مبال.
(6) رواه الترمذي برقم (3648) ، والإمام أحمد في المسند (2/ 350، 380) وقال أحمد شاكر إسناده صحيح. انظر ترتيب المسند (16/ 248) برقم (8588) ، ورواه البيهقي في دلائل النبوة (1/ 290) .
(7) إضحيان: قال ابن الأثير: يقال: ليلة إضحيان، وإضحيانة، أي مضيئة مقمرة، النهاية 3/ 78.
(8) رواه الترمذي برقم (2811) وقال: حديث حسن غريب، ورواه الدارمي (1/ 33) . ورواه الحاكم في المستدرك (4/ 186) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. رواه البيهقي في دلائل النبوة (1/ 196) بهذا اللفظ وفي آخره: « ... فلهو كان في عيني أحسن من القمر» ، وفي لفظ آخر عن جابر بن سمرة « ... فجعلت أماثل بينه وبين القمر» . وأيضا صححه الألباني. انظر مختصر شمائل الترمذي له: ص (27) .(1/423)
يا بنيّ لو رأيته رأيت الشّمس طالعة «1» .
صفة لون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أزهر اللّون وهو الأبيض المستنير النّاصع البياض وهو أحسن الألوان، فلم يكن بالأبيض الأمهق الشّديد البياض «2» ، ولم يكن بالآدم الشّديد السّمرة وكان بياضه صلّى الله عليه وسلّم مشربا بحمرة. حتّى كان الصّحابة رضي الله عنهم كثيرا ما يتمثّلون بنعت عمّه أبي طالب إيّاه في لونه حيث يقول:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال «3» اليتامى عصمة للأرامل
ويقول كلّ من سمع ذلك: هكذا كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وهذه طائفة مختارة من وصف الواصفين ونعت النّاعتين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممّن حضره وعاصره تؤكّد وتؤيّد ما ذكر:
- عن ربيعة بن أبي عبد الرّحمن: قال: سمعت أنس بن مالك- رضي الله عنه- يصف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
«كان ربعة «4» من القوم، ليس بالطّويل ولا بالقصير، أزهر «5» اللّون، ليس بأبيض أمهق ولا آدم «6» . ليس بجعد «7» قطط «8» ولا سبط «9» رجل «10» .
- عن الجريريّ عن أبي الطّفيل- رضي الله عنه- قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما على وجه الأرض رجل رآه
__________
(1) رواه الدارمي (1/ 33) واللفظ له، والبيهقي في دلائل النبوة (1/ 200) بلفظ « ... قالت: يا بني لو رأيته لقلت الشمس طالعة» . قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 280) : رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله وثقوا.
(2) الأمهق هو اللون الذي لا يخالطه شيء من الحمرة وليس بنيّر، وذلك كلون الجص (انظر منال الطالب ص 223) .
(3) ثمال اليتامى: أي الملجأ والغياث والمطعم في الشدة. انظر لسان العرب (11/ 94) .
(4) ربعة: بفتح الراء وسكون الباء أي كان متوسطا بين الطول والقصر.
(5) أزهر اللون: هو الأبيض المستنير وهو أحسن الألوان، والزهرة: البياض النير.
(6) ولا آدم: الأدمة في الناس السمرة الشديدة.
(7) ليس بجعد: الجعد بفتح وسكون: الشعر فيه التواء وانقباض.
(8) القطط: بفتحتين على الأشهر ويجوز كسر ثانيه: الشديد الجعودة.
(9) ولا سبط رجل: السبط بفتح فكسر: الشعر المسترسل الذي ليس فيه تعقد ولا نتوء أصلا، ورجل: بفتح فكسر ومنهم من يسكن الجيم: أي متسرح. (فالحاصل أن شعره صلّى الله عليه وسلّم لم يكن شديد الجعودة ولا شديد السبوطة بل بينهما) .
(10) رواه البخاري. انظر الفتح 6 (3547) ، ورواه مسلم برقم (2347) .(1/424)
غيري. قال: فقلت له: فكيف رأيته؟ قال: كان أبيض مليحا مقصّدا «1» » «2» .
- عن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبيض مشربا بياضه بحمرة» «3» .
- عن أبي هريرة- رضي الله عنه-: قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبيض، كأنّما صيغ من فضّة» » .
- عن محرّش الكعبيّ- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج من الجعرانة ليلا فاعتمر ثمّ رجع فأصبح بها كبائت فنظرت إلى ظهره كأنّه سبيكة فضّة «5» » «6» .
- عن عائشة- رضي الله عنها-: أنّها تمثّلت بهذا البيت وأبو بكر- رضي الله عنه- يقضي: «7»
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل «8» .
فقال أبو بكر- رضي الله عنه-: ذاك والله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «9» .
- عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ربعة ليس بالطّويل ولا بالقصير حسن
__________
(1) مقصدا: هو الذي ليس بجسيم ولا نحيف ولا طويل ولا قصير. وقال شمر: هو نحو الرّبعة. والقصد بمعناه. و (ملح) الشيء، من باب ظرف أي حسن فهو مليح.
(2) رواه مسلم برقم (2340/ 99) .
(3) رواه الترمذي مطولا برقم (3638) ، ورواه الإمام أحمد في المسند (1/ 96، 116، 117، 134) ، وابن سعد في الطبقات (1/ 410- 412) ، والحاكم في المستدرك (2/ 606) مطولا وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه الألفاظ ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي في دلائل النبوة (11/ 206) ، وأبو داود الطيالسي بلفظ: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مشربا وجهه حمرة» . وصحح الحديث كذلك الألباني. انظر صحيح الجامع الصغير برقم (4497) .
(4) تفرد به الترمذي في الشمائل المحمدية (ص 27) ، وحسنه الألباني. انظر صحيح الجامع برقم (4495) .
(5) سبيكة فضة: سبك الذهب والفضة بمعنى ذوبه وأفرغه في قالب، والسبيكة: القطعة المذوبة منه. انظر لسان العرب (10/ 438) والمراد تشبيهه صلّى الله عليه وسلّم- كما في رواية النسائي- أو تشبيه ظهره الشريف بالقطعة من الفضة في البياض والصفاء.
(6) أبو داود مختصرا برقم (1996) . ورواه النسائي (5/ 199، 200) بلفظ «أن النبي خرج من الجعرانة ليلا كأنه سبيكة فضة فاعتمر ثم أصبح بها كبائت» ، ورواه الإمام أحمد (3/ 426) ، (4/ 69) ، (5/ 380) واللفظ له. ورواه البيهقي في دلائل النبوة (1/ 207) . وصححه الألباني- انظر صحيح سنن أبي داود برقم (1758) .
(7) يقضي. أي في حالة الاحتضار.
(8) والبيت قاله أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة يمدح فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. انظر السيرة النبوية لابن هشام (1/ 291- 299) .
(9) رواه الإمام أحمد في مسنده (1/ 7) ، قال الحافظ الهيثمي: رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات. انظر مجمع الزوائد (8/ 272) .(1/425)
الجسم أسمر اللّون «1» ، وكان شعره ليس بجعد ولا سبط إذا مشى يتكفّأ «2» » «3» .
- وقال ابن أبي خيثمة- رحمه الله- في صفته صلّى الله عليه وسلّم: «كان أزهر اللّون. والأزهر: الأبيض النّاصع البياض الّذي لا تشوبه حمرة ولا صفرة ولا شيء من الألوان ... » ، وقد نعته بعض من نعته بأنّه كان مشرب حمرة، وقد صدق من نعته بذلك ولكن إنّما كان المشرب منه حمرة ما ضحا للشّمس والرّياح، فقد كان بياضه من ذلك قد أشرب حمرة، وما تحت الثّياب فهو الأبيض الأزهر لا يشكّ فيه أحد ممّن وصفه بأنّه أبيض أزهر، فعنى ما تحت الثّياب فقد أصاب، ومن نعت ما ضحا للشّمس والرياح بأنّه أزهر مشرب حمرة فقد أصاب. ولونه الّذي لا يشكّ فيه: الأبيض الأزهر وإنّما الحمرة من قبل الشّمس والرّياح «4» .
صفة وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعضائه:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن النّاس وجها فكان وجهه كالقمر والشّمس مستديرا. وكان- صلوات الله وسلامه عليه- عظيم العينين. أهدب الأشفار، مشرب العينين حمرة، أشكل أسود الحدقة، أدعج، أكحل العينين، دقيق الحاجبين، سابغهما، أزجّ، أقرن، أبلج واسع الجبين، أغرّ، أجلى كأنّه يتلألأ، وكان العرق في وجهه كاللّؤلؤ، وكان أسيل «5» الخدّين سهلهما، أقنى «6» الأنف، ضليع الفم، حسن الثّغر، برّاق الثّنايا، إذا ضحك كاد يتلألأ.
وفيما يلي باقة عطرة من وصف الواصفين لرسول الهدى صلّى الله عليه وسلّم ممّن حضره وشاهده تدلّل على ما ذكرناه.
- عن البراء بن عازب- رضي الله عنهما- قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن النّاس وجها وأحسنه خلقا «7»
__________
(1) أسمر اللون: قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في شرحه لحديث أنس المتفق عليه: « ... كان أزهر اللون ليس بأبيض أمهق ولا آدم» قال: المراد أنه صلّى الله عليه وسلّم ليس بالأبيض الشديد البياض ولا بالآدم الشديد الأدمة، وإنما يخالط بياضه حمرة، والعرب قد تطلق على من كان كذلك أسمر. ولهذا جاء في حديث أنس: « ... أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان أسمر..» إلى أن قال- رحمه الله-: وتبين من مجموع الروايات أن المراد بالسمرة: الحمرة التي تخالط البياض وأن المراد بالبياض المثبت: ما يخالطه الحمرة، والمنفي: ما لا يخالطه وهو الذي تكره العرب لونه وتسميه أمهق. انظر فتح الباري (6/ 658) .
(2) إذا مشى يتكفأ: أي يتمايل إلى قدام، وقيل أن يرفع القدم من الأرض ثم يضعها ولا يمسح قدمه على الأرض كمشي المتبختر، كأنما ينحط من صبب أي يرفع رجله من قوة وجلادة والأشبه أن يتكفأ بمعنى صب الشيء دفعة. انظر تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري (5/ 443) .
(3) رواه الترمذي برقم (1754) ، وقال: حديث صحيح، وأصل الحديث في البخاري ومسلم. رواه البخاري. انظر الفتح 10 (5906) ، ومسلم برقم (2338) .
(4) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (1/ 299) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق. انظر تهذيب تاريخ دمشق (1/ 333) وغيرهم.
(5) أسيل الخد أي قليل اللحم من غير نتوء (منال الطالب 223) .
(6) أقنى. قال في النهاية: القنا في الأنف: طوله ورقة أرنبته مع حدب في وسطه. (النهاية 4/ 116) .
(7) وأحسنه خلقا: قال القاضي: ضبطناه خلقا، بفتح الخاء وإسكان اللام هنا، لأن مراده صفات جسمه. قال: أما في حديث أنس فرويناه بالضم لأنه إنما أخبر عن حسن معاشرته. وأما قوله: وأحسنه، فقال أبو حاتم وغيره: هكذا تقول العرب: وأحسنه يريدون وأحسنهم ولكن لا يتكلمون به. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 92) .(1/426)
ليس بالطّويل الذّاهب ولا بالقصير» «1» .
- وعن أبي إسحاق قال: سئل البراء: «أكان وجه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مثل السّيف «2» ؟. قال: لا، بل مثل القمر» «3» .
- وسأل رجل جابر بن سمرة- رضي الله عنهما-: «أكان وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل السّيف؟ قال: لا، بل كان مثل الشّمس والقمر وكان مستديرا» «4» .
- وعن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... عظيم العينين أهدب الأشفار مشربا بحمرة» «5» .- وعن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- في نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: « ... كان أسود الحدقة «6» أهدب الأشفار «7» » «8» .
- وفي حديث يزيد الفارسيّ في رؤيته المناميّة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والّتي قصّها على ابن عبّاس- رضي الله عنهما- وأقرّه عليها، جاء في الوصف: « ... رأيت رجلا ... حسن المضحك أكحل «9» العينين، جميل، دوائر الوجه ... » «10» .
- وعن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- في صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبيض اللّون
__________
(1) رواه البخاري. انظر الفتح 6 (3549) . ورواه مسلم برقم (2337/ 93) .
(2) قوله مثل السيف؟ قال: لا بل مثل القمر: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: كأن السائل أراد أنه مثل السيف في الطول، فرد عليه البراء فقال: «بل مثل القمر» أي في التدوير. ويحتمل أن يكون أراد مثل السيف في اللمعان والصقال فقال: بل فوق ذلك، وعدل إلى القمر لجمعه الصفتين من التدوير واللمعان. وقد أخرج مسلم من حديث جابر بن سمرة «أن رجلا قال له: أكان وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل السيف؟ قال: لا بل مثل الشمس والقمر مستديرا» . وإنما قال «مستديرا» للتنبيه على أنه جمع بين الصفتين، لأن قوله «مثل السيف» يحتمل أن يريد به الطول واللمعان فرده المسئول ردا بليغا. ولما جرى التعارف في أن التشبيه بالشمس إنما يراد به غالبا الإشراق، والتشبيه بالقمر إنما يراد به الملاحة دون غيرهما، أتى بقوله «وكان مستديرا» إشارة إلى أنه أراد التشبيه بالصفتين معا: الحسن والاستدارة. انظر فتح الباري 6 (662) .
(3) رواه البخاري. انظر الفتح 6 (3552) .
(4) رواه مسلم برقم (2344/ 109) .
(5) رواه الإمام أحمد في مسنده مطولا (1/ 89، 101) . وقال عنه الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح. انظر ترتيب المسند (2/ 80، 81) برقم (684) .
(6) الحدقة: هي السواد المستدير وسط العين. وقيل: هي في الظاهر سواد العين، وفي الباطن خرزتها. انظر لسان العرب (10/ 39) .
(7) أهدب الأشفار: أي طويل الأشفار وهو الذي شعر أجفانه كثير مستطيل. وأشفار العين: هي منابت الشعر المحيط بالعين. انظر جامع الأصول (11/ 226) ، ولسان العرب (4/ 418، 419) .
(8) رواه البيهقي في دلائل النبوة (1/ 212، 213) ، وصححه الألباني. انظر صحيح الجامع الصغير برقم (4497) .
(9) أكحل العينين: الكحل بفتحتين سواد يكون في مغارز الأجفان خلقة. قاله ابن الأثير. انظر جامع الأصول (11/ 233) ، ولسان العرب (11/ 584) .
(10) رواه الإمام أحمد في مسنده (1/ 361، 362) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 417) . وقال الحافظ ابن حجر عن الحديث: أخرجه أحمد وسنده حسن. انظر فتح الباري (6/ 658) . وقال الحافظ الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال ثقات. انظر مجمع الزوائد (8/ 272) .(1/427)
مشربا حمرة، أدعج العين «1» .. سهل الخدّ» «2» .
- عن أبي هريرة- رضي الله عنه- في وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «كان مفاضّ «3» الجبين أهدب الأشفار» «4» .
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- في وصفه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أحسن الصّفة وأجملها كان ربعة إلى الطّول أقرب أسيل «5» الخدّين ... إذا ضحك كاد يتلألأ في الجدر لم أر قبله ولا بعده مثله» «6» .
- عن سماك بن حرب؛ قال: سمعت جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ضليع الفم أشكل العين.
منهوس العقبين. قال: قلت لسماك: ما ضليع الفم «7» ؟ قال: عظيم الفم. قال: قلت: ما أشكل العين «8» ؟ قال:
طويل شقّ العين، قال: قلت: ما منهوس العقب «9» ؟ قال: قليل لحم العقب» 1» .
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه-: في صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسن الثّغر «11» » «12» .
__________
(1) أدعج العين: الشديد سواد العينين. قال الأصمعي: الدعجة هي: السواد. انظر لسان العرب (2/ 271) .
(2) رواه ابن سعد في الطبقات (1/ 410) ، والبيهقي في الدلائل من طرق (1/ 212، 213) ، (1/ 269، 273) . وإسناده حسن، لكثرة طرقه وشواهده.
(3) مفاض الجبين: أي واسع الجبين.
(4) رواه البيهقي في دلائل النبوة (1/ 214) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق. انظر تهذيب تاريخ دمشق (1/ 336) وهذا قطعة منه. قال الحافظ ابن كثير: هذا إسناد حسن ولم يخرجوه. انظر الشمائل لابن كثير (26) ، (31) . وقال الحافظ ابن حجر: أخرجه يعقوب بن سفيان والبزار بإسناد قوي. انظر فتح الباري (6/ 658) .
(5) أسيل الخدين: أسيل الخد هو الخد المستوي الذي لا يفوت بعض لحمه بعضا. وقيل سائل الخدين غير مرتفع الوجنتين انظر جمع الوسائل. شرح شمائل الترمذي (1/ 45) . وقال ابن الأثير: الإسالة في الخد هي الاستطالة وأن لا يكون مرتفعا. انظر جامع الأصول (11/ 226) .
(6) رواه البيهقي في الدلائل (1/ 275) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق. انظر تهذيب تاريخ دمشق (1/ 319) . ورواه الذهلي في الذهليات واللفظ له كما في شمائل ابن كثير (ص 35) . قال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن- انظر فتح الباري (6/ 657) . وقد ذكر هناك الزهريات بدلا من الذهليات. والجدر: جمع جدار وهو الحائط، أي يشرق نوره عليها إشراقا كالشمس.
(7) ما ضليع الفم: عظيم الفم قال النووي: كذلك قاله الأكثرون وهو الأظهر. قالوا: والعرب تمدح بذلك وتذم بصغر الفم. وهو معنى قول ثعلب في ضليع الفم: واسع الفم. وقال شمر: عظيم الأسنان.
(8) ما أشكل العين: طويل شق العين قال النووي: قال القاضي: هذا وهم من سماك باتفاق العلماء. وغلط ظاهر، وصوابه ما اتفق عليه العلماء ونقله أبو عبيد وجميع أصحاب الغريب: أن الشكلة حمرة في بياض العينين وهو محمود، والشهلة حمرة في سواد العينين، انظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/ 93.
(9) ما منهوس العقب: قال النووي: هكذا ضبطه الجمهور: منهوس. وقال صاحب التحرير وابن الأثير: روي بالمهملة والمعجمة. وهما متقاربان ومعناه قليل لحم العقب، كما قال. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 93) .
(10) رواه مسلم برقم (2339) .
(11) الثغر: قال ابن منظور: الثغر الفم. وقيل: هو اسم الأسنان كلها ما دامت في منابتها قبل أن تسقط. وقيل: هي الأسنان كلها كن في منابتها أو لم يكن. وقيل: هو مقدم الأسنان. انظر لسان العرب (4/ 103) .
(12) رواه البيهقي في الدلائل (1/ 217) وكذلك البزار، وهذا قطعة منه. قال الحافظ ابن كثير: إسناده حسن انظر الشمائل لابن كثير (ص 26) . وقال الحافظ ابن حجر: أخرجه يعقوب بن سفيان والبزار بإسناد قوي. انظر فتح الباري (6/ 658) . وقال الحافظ الهيثمي: رواه البزار ورجاله وثقوا. انظر مجمع الزوائد (8/ 280) .(1/428)
صفة رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصفة لحيته صلّى الله عليه وسلّم:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عظيم الرّأس، ذا لحية عظيمة حسنة كثيرة الشّعر سوداء، كادت تملأ نحره إذا تكلّم في نفسه عرف ذلك من خلفه باضطرابها لعظمتها.
وهذه أحاديث في وصف ذلك ممّن شاهده ورآه تؤكّد ما ذكرناه.
- عن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- في صفة رسول الله قال: «لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالطّويل، ولا بالقصير، ضخم الرّأس» «1» .
- وعن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- في وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبيض مشربا حمرة ضخم الهامة «2» » «3» .
- وعن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- في وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عظيم اللّحية» «4» .
- وعن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثّ «5» اللّحية» «6» .
- وعن جابر بن سمرة- رضي الله عنهما- قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثير شعر اللّحية» «7» .
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- في وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسود اللّحية» «8» .
__________
(1) رواه الترمذي واللفظ له برقم (3637) وقال: هذا حديث حسن صحيح. ورواه الإمام أحمد في مسنده بلفظ «عظيم الرأس» (1/ 117) . والحاكم في المستدرك (2/ 606) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(2) الهامة: قال ابن منظور في اللسان: قال الجوهري: الهامة الرأس والجمع هام. وقيل الهامة ما بين حرفي الرأس. انظر لسان العرب (12/ 624) .
(3) ورواه الإمام أحمد في مسنده (1/ 116) . ورواه البيهقي في دلائل النبوة (1/ 217) . وحسنه الألباني. انظر صحيح الجامع الصغير برقم (4496) .
(4) رواه الإمام أحمد في مسنده (1/ 116) . والبيهقي في دلائل النبوة (1/ 216) . وهذا قطعة منه. وحسنه الألباني. انظر صحيح الجامع الصغير برقم (4696) .
(5) كث اللحية: قال ابن منظور: وفي صفته صلّى الله عليه وسلّم: أنه كان كث اللحية: أراد كثرة أصولها وشعرها، وأنها ليست بدقيقة، ولا طويلة وفيها كثافة. انظر لسان العرب (2/ 179) ، النهاية (4/ 152) .
(6) رواه الإمام أحمد في مسنده (1/ 89، 101) . وهذا قطعة منه. وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح. انظر ترتيب المسند (2/ 81) رقم (684) ورواه النسائي من رواية البراء ابن عازب (8/ 183) .
(7) رواه مسلم برقم (2344/ 109) . وهذه قطعة منه.
(8) رواه البيهقي في دلائل النبوة (1/ 217) وكذلك البزار، وهذا قطعة منه. قال الحافظ ابن كثير: إسناده حسن انظر الشمائل لابن كثير (ص 26) . وقال الحافظ ابن حجر: أخرجه يعقوب بن سفيان والبزار بإسناد قوي. انظر فتح الباري (6/ 658) . وقال الحافظ الهيثمي: رواه البزار ورجاله ثقاة. انظر مجمع الزوائد (8/ 280) .(1/429)
- وفي حديث يزيد الفارسيّ في رؤيته المناميّة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتّي قصّها على ابن عبّاس- رضي الله عنهما- وأقرّه عليها، جاء فيه: « ... رأيت رجلا حسن المضحك جميل دوائر الوجه قد ملأت لحيته من هذه إلى هذه حتّى كادت تملأ نحره» «1» .
- وعن أبي معمر قال: قلت لخبّاب بن الأرتّ: أكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في الظّهر والعصر؛ قال: نعم. قال:
قلت: بأيّ شيء كنتم تعلمون قراءته؟ قال: باضطراب لحيته» «2» .
صفة شعر رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل الشّعر حسنه، فلم يكن شعره شديد الجعودة ولا شديد السّبوطة بل بينهما. شديد السّواد، يبلغ إلى أنصاف أذنيه وتارة شحمة أذنيه وتارة بين أذنيه وعاتقه وتارة يضرب منكبيه، وكان أوّل أمره قد سدل ناصيته بين عينيه ثمّ فرقه بعد ذلك فجعله فرقتين، وكان ربّما جعله غدائر أربعا يخرج الأذن اليمنى من بين غديرتين يكتنفانها، ويخرج الأذن اليسرى من بين غديرتين يكتنفانها، وتخرج الأذنان ببياضهما من بين تلك الغدائر كأنّها توقّد الكواكب الدّرّيّة من سواد شعره.
وبهذا الّذي ذكرناه جاءت أوصاف الصّحب الكرام لشعر سيّد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم، فدونك إيّاها:
- عن أنس بن مالك- رضي الله عنه-: قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل الشّعر ليس بالسّبط ولا بالجعد القطط» «3» .
- عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شديد سواد الشّعر» «4» .
- وعن أبي الطّفيل- رضي الله عنه- قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكّة فما أنسى بياض وجهه مع شدّة سواد شعره» «5» .
- وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه-: قال: «كان شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أنصاف أذنيه» «6» .
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) رواه البخاري. انظر الفتح 2 (761) .
(3) رواه البخاري. انظر الفتح 6 (3547) . ورواه مسلم برقم (2347) .
(4) رواه البيهقي في دلائل النبوة بسياق طويل (1/ 275) . وهذا موضع الشاهد. وابن عساكر في تاريخ دمشق. انظر تهذيب تاريخ دمشق (1/ 319) . ورواه الذهلي في الذهليات. قال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن. انظر فتح الباري (6/ 657) . وحسنه أيضا الألباني. انظر صحيح الجامع الصغير برقم (4509) .
(5) قال الحافظ الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح. انظر مجمع الزوائد (8/ 280) . والحديث أصله في مسلم برقم (2340) .
(6) رواه مسلم برقم (2338) .(1/430)
- عن البراء بن عازب- رضي الله عنهما- قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا مربوعا له شعر يبلغ شحمة «1» أذنيه، عليه حلّة حمراء ما رأيت شيئا قطّ أحسن منه صلّى الله عليه وسلّم» «2» ، وفي لفظ للبخاريّ: «له شعر يبلغ شحمة أذنيه إلى منكبيه» .
- عن البراء بن عازب- رضي الله عنهما- قال: «ما رأيت من ذي لمّة «3» أحسن في حلّة حمراء من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شعره يضرب منكبيه» «4» .
- عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: «كان شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شعرا رجلا، ليس بالجعد ولا السّبط، بين أذنيه وعاتقه «5» » «6» .
- عن ابن العبّاس- رضي الله عنهما- قال: «كان أهل الكتاب يسدلون «7» أشعارهم، وكان المشركون يفرقون «8»
__________
(1) شحمة أذنيه: قال النووي: شحمة الأذن هو اللين منها في أسفلها وهو معلق القرط منها. انظر شرح مسلم للنووي (15/ 91) .
(2) رواه البخاري. انظر الفتح 6 (3551) . ورواه مسلم برقم (2337) .
(3) اللمة: قال ابن الأثير: الشعر الذي ألم بالمنكبين، أي: قاربهما. انظر جامع الأصول (11/ 233) .
(4) رواه البخاري. انظر الفتح 10 (5901) ولفظه «أن جمّته لتضرب قريبا من منكبيه» . ورواه مسلم برقم (2337/ 92) .
(5) عاتقه: قال النووي رحمه الله: العاتق ما بين المنكب والعنق. انظر شرح النووي علي صحيح مسلم ج 15 ص 91.
(6) رواه البخاري. انظر الفتح 10 (5905) . ورواه مسلم برقم (2338) . تنبيه: جاءت الروايات تفيد أن شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إلى أنصاف أذنيه وأحيانا يبلغ شحمة أذنيه وأحيانا بين أذنيه وعاتقه وأحيانا يضرب منكبيه ولا منافاة بين هذه الأحوال. وقد جمع العلماء رحمهم الله بين هذه الروايات بعدة أوجه: 1- قال القاضي عياض: والجمع بين هذه الروايات أن ما يلي الأذن هو الذي يبلغ شحمة أذنيه وهو الذي بين أذنيه وعاتقه وما خلفه هو الذي يضرب منكبيه. 2- قال القاضي عياض: إن ذلك لاختلاف الأوقات فإذا غفل عن تقصيرها- أي الجمة- بلغت المنكب وإذا قصرها كانت إلى أنصاف الأذنين فكان يقصر ويطول بحسب ذلك. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 91) . وقد قال بهذا الجمع غير واحد من العلماء، منهم ابن كثير. انظر الشمائل (ص 37) وابن بطال وابن حجر. انظر فتح الباري (10/ 370) .
(7) يسدلون: قال النووي: قال أهل اللغة: يقال سدل يسدل. قال القاضي: سدل الشعر إرساله. قال: والمراد به هنا، عند العلماء، إرساله على الجبين واتخاذه كالقصة. يقال: سدل شعره وثوبه إذا أرسله ولم يضم جوانبه. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 90) .
(8) يفرقون: قال ابن الأثير: مفرق الرأس وسطه، وفرق الشعر «جعله فرقتين» انظر جامع الأصول (11/ 236) . فائدة: قال النووي رحمه الله: الظاهر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجع إلى فرق الشعر بوحي لقوله (إنه كان يوافق أهل الكتاب فيما لم يؤمر به) وعلى هذا فيكون السدل منسوخا ولا يجوز فعله ولا اتخاذ الناصية والجمة. ويحتمل أن رجوعه صلّى الله عليه وسلّم إلى الفرق باجتهاد منه في مخالفة أهل الكتاب لا بوحي. وعلى هذا يكون الفرق مستحبا. ولهذا اختلف السلف فيه. ففرق منهم جماعة، واتخذ اللمة آخرون. وقد جاء في الحديث «أنه كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم لمة فإن انفرقت فرقها وإلا تركها» . قال مالك: فرق الرجل أحب إلي. قال النووي: والحاصل أن الصحيح المختار جواز السدل والفرق وأن الفرق أفضل والله أعلم. انتهى كلام النووي (بتصرف) وقد عزا أكثره للقاضي عياض. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 90) . وفتح الباري (10/ 375) .(1/431)
رءوسهم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبّ موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به، فسدل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناصيته «1» ثمّ فرق بعد» «2» .
- عن أمّ هانيء- رضي الله عنها- قالت: «قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكّة «3» وله أربع غدائر «4» » «5» . وفي رواية لها، قالت: «رأيت في رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضفائر أربعا» «6» .
ذكر شيب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وخضابه:
كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رأسه ولحيته قليل من الشّيب، وكان أكثر شيب رأسه في فودى رأسه والفودان حرفا الفرق- وأكثر شيب لحيته في عنفقته «7» فوق الذّقن، وكان شيبه كأنّه خيوط الفضّة يتلألأ بين ظهري سواد الشّعر الّذي معه. وإذا مسّ ذلك الشّيب الصّفرة- وكثيرا ما يفعل ذلك- صار كأنّه خيوط الذّهب يتلألأ بين ظهري سواد الشّعر الّذي معه صلوات الله وسلامه عليه.
وبنحو ما قلناه وردت الأحاديث والأخبار، وهذه نماذج منها:
- عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: «توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء، قال ربيعة: فرأيت شعرا من شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هو أحمر فسألت فقيل: من الطّيب» » .
- عن محمّد بن سيرين؛ قال: سألت أنس بن مالك: أخضب «9» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: إنّه لم ير من الشّيب إلّا قليلا. «10» .
__________
(1) ناصيته: قال ابن الأثير: الناصية هي شعر مقدم الرأس. انظر جامع الأصول (11/ 237) .
(2) رواه البخاري. انظر الفتح 6 (3558) . ورواه مسلم واللفظ له برقم (2336) .
(3) وذلك في فتح مكة. وأم هانئ أسلمت يوم الفتح.
(4) غدائر: جمع غديرة، والضفائر: جمع ضفيرة. وكل من الضفيرة والغديرة بمعنى الذؤابة: وهي الخصلة من الشعر إذا كانت مرسلة. فإن كانت ملوية فعقيصة. انظر جامع الأصول (11/ 236) ، ولسان العرب (4/ 490) ، (5/ 10) ، (7/ 56) .
(5) رواه الترمذي برقم (1781) ، وقال: حديث حسن. وأبو داود برقم (4191) . وابن ماجه برقم (3631) . والإمام أحمد (6/ 341) . وابن سعد في الطبقات (1/ 429) وقال عنه الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات. انظر فتح الباري (6/ 662) .
(6) هذه الرواية عند الإمام أحمد (6/ 425) ، وابن سعد في الطبقات (1/ 429) .
(7) العنفقة: الشعر الذي في الشفة السفلى، وقيل: الشعر الذي بينها وبين الذقن. وأصل العنفقة: خفة الشيء وقلته. أفاده ابن الأثير في النهاية (3/ 309) .
(8) رواه البخاري. انظر الفتح 6 (3547) . ورواه مسلم برقم (2347) عدا قول ربيعة.
(9) أخضب: الخضاب ما يخضب به من حناء وكتم ونحوه. وخضب الشيء يخضبه خضبا: غير لونه بحمرة أو صفرة أو غيرهما. انظر لسان العرب (1/ 357) .
(10) رواه البخاري. انظر الفتح 10 (5894) . ورواه مسلم- واللفظ له- برقم (2341/ 102) .(1/432)
- عن ثابت قال: سئل أنس بن مالك عن خضاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال: «لو شئت أن أعدّ شمطات «1» كنّ في رأسه فعلت. وقال: لم يختضب؛ وقد اختضب أبو بكر بالحنّاء والكتم «2» . واختضب عمر بالحنّاء بحتا «3» » «4» .
- عن قتادة قال: «سألت أنسا: هل خضب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: لا، إنّما كان شيء في صدغيه «5» » «6» ، «7» .
- عن أنس بن مالك- رضي الله عنه-: «أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يختضب، إنّما كان البياض في عنفقته «8» وفي الصّدغين وفي الرّأس نبذ «9» » «10» .
- عن جابر بن سمرة- رضي الله عنهما- قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد شمط «11» مقدّم رأسه ولحيته، وكان إذا ادّهن ومشط لم يتبيّن وإذا شعث «12» رأسه تبيّن» «13» .
- عن إياد بن أبي رمثة- رضي الله عنهما- قال: «انطلقت مع أبي نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلمّا رأيته قال لي: هل تدري من هذا؟ قلت: لا. قال: إنّ هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاقشعررت حين قال ذلك، وكنت أظنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
__________
(1) شمطات: قال ابن الأثير: الشمط هو الشيب يخالطه السواد. انظر جامع الأصول (11/ 239) ، وقال النووي اتفق العلماء على أن المراد بالشمط هنا ابتداء الشيب. انظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/ 95.
(2) الكتم: نبات يصبغ به الشعر يكثر بياضه أو حمرته إلى الدهمة.
(3) بحتا: أي خالصا لم يخلط بغيره.
(4) رواه مسلم برقم (2341/ 103) .
(5) صدغيه: الصدغ بضم المهملة وإسكان الدال بعدها معجمة: ما بين الأذن والعين ويقال ذلك أيضا لما انحدر من الرأس إلى مركب اللحيين. انظر لسان العرب (8/ 439) . والنهاية (3/ 17) . وفتح الباري (6/ 661) .
(6) رواه البخاري. انظر الفتح 6 (3550) .
(7) قال الحافظ ابن حجر: وجه الجمع بين هذا الحديث والحديث السابق الذي يفيد أن الشعر الأبيض كان في عنفقته، هو حديث أنس عند مسلم « ... إنما كان البياض في عنفقته وفي الصدغين وفي الرأس نبذ» . انظر فتح الباري (6/ 661) بتصرف يسير.
(8) قال ابن حجر رحمه الله: وعرف من مجموع الأحاديث أن الذي شاب من عنفقته أكثر مما شاب من غيرها. انظر فتح الباري (6/ 661) .
(9) نبذ: قال النووي رحمه الله: ضبطوه بوجهين أحدهما ضم النون وفتح الباء، والثاني فتح النون وإسكان الباء. وبه جزم القاضي ومعناه شعرات متفرقة. انظر شرح مسلم للنووي (15/ 96) .
(10) رواه مسلم برقم (2341/ 104) .
(11) قد شمط: قال النووي: اتفق العلماء على أن المراد بالشمط هنا: ابتداء الشيب. يقال منه شمط وأشمط. انظر شرح مسلم للنووي (15/ 95) .. وقال ابن الأثير: الشمط هو الشيب يخالطه السواد. انظر
جامع الأصول (11/ 240) .
(12) إذا شعث: قال ابن الأثير: الشعث: بعد العهد بالغسل وتسريح الشعر. انظر جامع الأصول (11/ 240) .
(13) رواه مسلم برقم (2344/ 109) . والإمام أحمد في مسنده (5/ 104) واللفظ له.(1/433)
شيئا لا يشبه النّاس، فإذا هو بشر ذو وفرة «1» بها ردع «2» من حنّاء، وعليه بردان أخضران» «3» .
- عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يلبس النّعال السّبتيّة «4» ويصفّر لحيته بالورس «5» والزّعفران «6» ، وكان ابن عمر يفعل ذلك» «7» .
- عن عبد الله بن عقيل، قال: قدم أنس بن مالك المدينة وعمر بن عبد العزيز وال عليها، فبعث إليه عمر، وقال للرسول: سله هل خضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنّي رأيت شعرا من شعره قد لوّن «8» قال أنس: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان قد متّع بالسّواد، ولو عددت ما أقبل عليّ من شيبه في رأسه ولحيته ما كنت أزيدهنّ على إحدى عشرة شيبة، وإنّما هذا الّذي لوّن من الطّيب الّذي كان يطيّب به شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، هو الّذي غيّر لونه» «9» .
فائدة:
يلحظ ممّا تقدّم من الأحاديث أنّ منها ما يدلّ على أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد خضب، مثل حديث أبي رمثة وحديث ابن عمر- رضي الله عنهم- ومنها ما ينفي ذلك مثل حديث أنس بن مالك- رضي الله عنه-.
ومن الأحاديث أيضا ما حدّد عدد شيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل حديث أنس الآنف الذّكر فإنّه حدّد الشّيب بإحدى عشرة شيبة، بينما وردت أحاديث أخر دلّت على أنّ الشّيب أزيد من هذا العدد، مثل حديث ابن عمر.
وقد جمع العلماء رحمهم الله بين هذه الأحاديث ورجّحوا ما يأتي:
أ- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد خضب.
قال ابن كثير- رحمه الله-: ونفي أنس للخضاب معارض بما تقدّم عن غيره من إثباته، والقاعدة المقرّرة أنّ
__________
(1) ذو وفرة: الوفرة: شعر الرأس إذا كان إلى شحمة الأذن.
(2) ردع: الردع: أثر الصبغ على الجسم وغيره. أفاد ذلك ابن الأثير. انظر جامع الأصول (4/ 740) .
(3) رواه أبو داود برقم (4206) مختصرا. ورواه النسائي (8/ 140) . والإمام أحمد (2/ 226، 227) . ورواه البيهقي في دلائل النبوة (1/ 237) واللفظ له. وصححه الألباني. انظر صحيح سنن أبي داود برقم (3543) .
(4) السبتية: قال ابن الأثير: السبتية: جلود بقر مدبوغة بالقرظ، سميت سبتية لأن شعرها قد سبت عنها وحلق، وقيل لأنها انسبتت بالدباغ أي لانت. انظر جامع الأصول (4/ 736، 737) .
(5) الورس: بفتح فسكون: نبت أصفر باليمن يصبغ به.
(6) الزعفران: نبات زهره أحمر إلى الصفرة وهو من الطيب.
(7) رواه أبو داود برقم (4210) ، والنسائي (8/ 140) . قال محقق كتاب جامع الأصول: إسناده حسن. انظر جامع الأصول (4/ 736) .
(8) ربما كانت هذه رؤيا منامية من خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه-.
(9) رواه الحاكم في المستدرك (2/ 607) وقال: هذا حديث حسن صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. ورواه أيضا البيهقي في دلائل النبوة واللفظ له برقم (1/ 239) .(1/434)
الإثبات مقدّم على النّفي، لأنّ المثبت معه زيادة علم ليست مع النّافي «1» .
ب- أنّ إثبات غير أنس من الصّحابة لأزيد ممّا ذكر من الشّيب مقدّم لا سيّما ما جاء عن ابن عمر الّذي يظنّ أنّه تلقّى ذلك عن أخته أمّ المؤمنين حفصة؛ ذلك أنّ اطّلاعها أتمّ من اطّلاع أنس، لأنّها ربّما فلّت رأسه الكريم عليه الصّلاة والسّلام «2» .
صفات أخرى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
جاءت أحاديث وآثار تصف وتنعت أعضاء جسميّة أخرى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم- غير الّتي مرّ ذكرها- كخاتم نبوّته، ومنكبه، وذراعيه، وكفّيه، وساقيه، وقدميه.
وهذه مجموعة من تلك الأحاديث تصف ما ذكرنا من هذه الأعضاء.
خاتم النبوة:
عن عاصم عن عبد الله بن سرجس- رضي الله عنه-: قال: «رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأكلت معه خبزا ولحما، أو قال: ثريدا. قال: فقلت: استغفر لك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: نعم. ولك. ثمّ تلا هذه الآية: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ (محمد/ 19) . قال: ثمّ درت خلفه فنظرت إلى خاتم النّبوّة بين كتفيه. عند ناغض كتفه «3» اليسرى جمعا «4» عليه خيلان «5» كأمثال الثّاليل «6» » «7» .
- عن جابر بن سمرة- رضي الله عنهما- قال: « ... كان وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل الشّمس والقمر مستديرا، ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة»
الحمامة يشبه جسده» «9» .
__________
(1) انظر الشمائل لابن كثير (ص 42) .
(2) أفاد ذلك ابن كثير. انظر الشمائل (ص 42) .
(3) ناغض كتفه: قال الجمهور: الناغض أعلى الكتف. وقيل: العظم الرقيق الذي على طرفه. وقيل: ما يظهر منه عند التحرك. سمي ناغضا لتحركه.
(4) جمعا: معناه أنه كجمع الكف وهو صورته بعد تجمع الأصابع وتضامها.
(5) خيلان: جمع خال. وهو الشامة في الجسد.
(6) الثآليل: جمع ثؤلول وهي حبيبات تعلو الجسد. قال القاضي عياض: وهذه الروايات متقاربة متفقة على أنها شاخص في جسده قدر بيضة الحمامة. وهو نحو بيضة الحجلة وزر الحجلة. وأما رواية جمع الكف فظاهرها المخالفة، فتؤول على وفق الروايات الكثيرة. ويكون معناه على هيئة جمع الكف لكنه أصغر منه في قدر بيضة الحمامة. أورد جميع ذلك النووي في شرحه على صحيح مسلم (15/ 98، 99) .
(7) رواه مسلم برقم (2346) .
(8) بيضة الحمامة: هي بيضتها المعروفة.
(9) رواه مسلم برقم (2344/ 109) .(1/435)
المنكبان:
- عن البراء بن عازب- رضي الله عنهما- قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعيد ما بين المنكبين» «1» .
الذّراعان:
- عن أبي هريرة- رضي الله عنه- في نعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان شبح «2» الذّراعين» «3» .
الكفّان:
- عن أنس- رضي الله عنه- قال: «كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضخم اليدين. حسن الوجه لم أر بعده ولا قبله مثله وكان بسط «4» الكفّين» «5» .
- عن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: «كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شثن «6» الكفّين ... والكراديس «7» طويل المسربة «8» » «9» .
- عن أنس- رضي الله عنه-: قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أزهر اللّون «10» كأنّ عرقه اللّؤلؤ «11» ، إذا
__________
(1) رواه البخاري. انظر الفتح 6 (3551) ، ومسلم برقم (2337) .
(2) شبح الذراعين: قال ابن الأثير رحمه الله: أي طويلهما وقيل: عريضهما. انظر النهاية (2/ 439) . والشبح بسكون الباء. انظر لسان العرب (2/ 9494) .
(3) رواه الإمام أحمد- وهذا قطعة منه- في مسنده (2/ 328، 448) . وابن سعد في الطبقات (1/ 414) . والبيهقي في دلائل النبوة (1/ 244) . وحسنه الألباني. انظر صحيح الجامع الصغير برقم (4692) .
(4) بسط الكفين: البسطة الزيادة والسعة. قاله ابن منظور. انظر لسان العرب (7/ 260) .
(5) رواه البخاري. انظر الفتح 10 (5907) .
(6) شثن الكفين: بفتح المعجمة وسكون المثلثة وبكسرها بعدها نون: أي غليظ الأصابع والراحة. قاله ابن حجر. وقال ابن الأثير (شثن الكف) : غليظ الكف. وقال أيضا: هو الذي في أنامله غلظ بلا قصر. ويحمد ذلك في الرجال لأنه أشد لقبضتهم وأصبر لهم على المراس. ويذم في النساء. انظر فتح الباري (10/ 371) . والنهاية (2/ 44) . ولسان العرب (13/ 232) . جامع الأصول (11/ 227) .
(7) الكراديس: قال ابن الأثير: كل عظمين التقيا في مفصل فهو كردوس والجمع الكراديس نحو الركبتين والمنكبين والوركين. انظر جامع الأصول (11/ 228) .
(8) طويل المسربة: بفتح الميم وسكون السين وضم الراء: قال ابن الأثير: الشعر النابت على وسط الصدر نازلا إلى آخر البطن. انظر جامع الأصول (11/ 227) . تحفة الأحوذي (10/ 117) .
(9) رواه الترمذي برقم (3637) وقال: هذا حديث حسن صحيح. ورواه الإمام أحمد في مسنده (1/ 96، 166، 117، 134) . وصحح إسناده أحمد شاكر في ترتيبه على المسند (2/ 106، 107) ، رقم (746) . ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 411) . والحاكم في المستدرك (2/ 606) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(10) أزهر اللون: هو الأبيض المستنير. وهو أحسن الألوان.
(11) كأن عرقه اللؤلؤ: أي في الصفاء والبياض.(1/436)
مشى تكفّأ «1» ، ولا مسست ديباجة ولا حريرة ألين «2» من كفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا شممت مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «3» .
الساقان:
- عن سراقة بن مالك- رضي الله عنه- قال: «أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلمّا دنوت منه وهو على ناقته جعلت أنظر إلى ساقه كأنّها جمّارة «4» » «5» .
- عن أبي جحيفة- رضي الله عنه- قال: «دفعت إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو بالأبطح في قبّة كان بالهاجرة، فخرج بلال فنادى بالصّلاة، ثمّ دخل فأخرج فضل وضوء «6» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوقع النّاس عليه يأخذون منه، ثمّ دخل فأخرج العنزة «7» ، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كأنّي أنظر إلى وبيص «8» ساقيه، فركز العنزة ثمّ صلّى الظّهر ركعتين، والعصر ركعتين، يمرّ بين يديه الحمار والمرأة» «9» .
- عن جابر بن سمرة- رضي الله عنهما- قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لا يضحك إلّا تبسّما وكان في ساقيه
__________
(1) إذا مشى تكفأ. قال النووي رحمه الله: هو بالهمز. وقد يترك همزه. وزعم كثيرون أن أكثر ما يروى بلا همز. وليس كما قالوا. قال شمر: أي مال يمينا وشمالا، كما تكفأ السفينة. قال الأزهري: هذا خطأ لأن هذا صفة المختال. وإنما معناه أن يميل إلى سمته وقصد مشيه. كما قال في الرواية الأخرى: كأنما ينحط في صبب. قال القاضي: لا بعد فيما قاله شمر إذا كان خلقة وجبلة والمذموم منه ما كان مستعملا مقصودا- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 86) ، ولسان العرب (1/ 141، 142) .
(2) وصف أنس وغيره كفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشثن وهو الغلظ، بينما هنا جاء وصف كفيه بالليونة والجمع بينهما. أنّ المراد باللين في الجلد والغلظ في العظام فيجتمع له نعومة البدن وقوته. جمع هذا غير واحد من العلماء. انظر تحفة الأحوذي (10/ 116) .
(3) رواه البخاري. انظر الفتح 6 (3561) . ومسلم برقم (2330/ 82) واللفظ له.
(4) جمارة: الجمارة قلب النخلة وشحمتها. انظر النهاية لابن الأثير (1/ 294) . وقول الصحابي: «كأنها جمارة» يعني من شدة بياضها كأنها جمارة طلع النخل.
(5) رواه ابن إسحاق في السيرة. انظر السيرة لابن هشام (2/ 135) . وهو مقتطف من حديث الهجرة الطويل وأصله في البخاري 7 (3906) عند ما ساخت يدا فرس سراقة في الأرض، وكتب له صلّى الله عليه وسلّم كتابا ووعده عدة. فجاء هذه المرة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقابله وذلك بالجعرانة بعد غزوة حنين. قال سراقة فقلت: يا رسول الله هذا كتابك. فقال: يوم وفاء وبر ادن فأسلمت ... » . ورواه البيهقي في دلائل النبوة (1/ 207) . وقد تابع ابن إسحاق في روايته عن الزهري موسى بن عقبة.
(6) الوضوء بفتح الواو هو الماء الذي استعمل في الوضوء.
(7) العنزة. قال في النهاية: العنزة: مثل نصف الرمح أو أكبر شيئا، وفيها سنان مثل سنان الرمح (3/ 308) .
(8) وبيص ساقيه: قال ابن الأثير رحمه الله: الوبيص: البريق وقد وبص الشيء يبص وبيصا. انظر النهاية (5/ 146) .
(9) رواه البخاري. انظر الفتح 6 (3566) . ورواه مسلم برقم (503) .(1/437)
حموشة «1» » «2» .
القدمان:
- عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: «كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضخم القدمين ... » «3» .
- وعنه- رضي الله عنه- قال: «كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شثن القدمين ... » «4» .
- عن جابر بن سمرة- رضي الله عنهما- قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهوس «5» العقبين» «6» .
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه-: في صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: « ... كان يطأ بقدميه جميعا ليس له أخمص «7» » «8» .
__________
(1) حموشة: دقة، قال ابن الأثير: رجل أحمش الساقين: دقيقهما. انظر جامع الأصول (11/ 233) . ولسان العرب (6/ 288) . قال ابن كثير: أي لم يكونا ضخمين. انظر الشمائل لابن كثير (ص 43) .
(2) رواه الترمذي برقم (3645) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب ورواه كذلك في الشمائل. انظر الشمائل (ص 189) . ورواه الإمام أحمد في مسنده (5/ 97، 105) وأيضا صححه الألباني. انظر صحيح الجامع الصغير برقم (4737) .
(3) رواه البخاري. انظر الفتح 10 (5907) وهذا محل الشاهد فقط.
(4) رواه البخاري. انظر الفتح 10 (5910) وهذا محل الشاهد فقط.
(5) منهوس العقبين: أي قليل لحم العقبين. والعقب هو مؤخر القدم. قال ابن كثير رحمه الله تعقيبا على أنه صلّى الله عليه وسلّم قليل لحم العقب: وهذا أنسب وأحسن في حق الرجال. انظر الشمائل لابن كثير (ص 44) .
(6) رواه مسلم برقم (2339) .
(7) الأخمص: ما دخل من باطن القدم فلم يصب الأرض. انظر لسان العرب (7/ 30) .
(8) رواه البيهقي في الدلائل (1/ 275) وهذا موضع الشاهد. وابن عساكر في تاريخ دمشق. انظر تهذيب تاريخ دمشق (1/ 319) . قال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن. انظر فتح الباري (6/ 657) .(1/438)
الكمالات والخصائص الّتي انفرد بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
أولا: الكمالات:
ذكر الماورديّ- رحمه الله- في ذكر خصائص الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وفضائله وشرف أخلاقه وشمائله المؤيّدة لنبوّته والمبرهنة على عموم رسالته:
فالكمال المعتبر في البشر يكون من أربعة أوجه: كمال الخلق وكمال الخلق وفضائل الأقوال وفضائل الأعمال.
الوجه الأول: كمال الخلق:
كمال خلقه؟ بعد اعتدال صورته يكون بأربعة أوصاف:
الوصف الأول:
السّكينة الباعثة على الهيبة والتّعظيم الدّاعية إلى التّقديم والتّسليم.
وكان أعظم مهيب في النّفوس حتّى ارتاعت رسل كسرى من هيبته حين أتوه مع اعتيادهم لصولة الأكاسرة ومكاثرة الملوك الجبابرة.
فكان صلّى الله عليه وسلّم في نفوسهم أهيب وفي أعينهم أعظم، وإن لم يتعاظم بأبّهة ولم يتطاول بسطوة، بل كان بالتّواضع موصوفا وبالوطأة- أي السّهولة- معروفا.
الوصف الثاني:
في الطّلاقة الموجبة للإخلاص والمحبّة الباعثة على المصافاة والمودّة.
وقد كان صلوات الله عليه محبوبا استحكمت محبّة طلاقته في النّفوس حتّى لم يقله «1» مصاحب ولم يتباعد منه مقارب وكان أحبّ إلى أصحابه من الآباء والأبناء وشرب الماء البارد على الظّمأ.
الوصف الثالث:
حسن القبول الجالب لممايلة القلوب حتّى تسرع إلى طاعته وتذعن بموافقته، وقد كان قبول منظره صلّى الله عليه وسلّم مستوليا على القلوب ولذلك استحكمت مصاحبته في النّفوس حتّى لم ينفر منه معاند ولا استوحش منه مباعد، إلّا من ساقه الحسد إلى شقوته وقاده الحرمان إلى مخالفته.
__________
(1) لم يقله: أي لم يبغضه أو يجافه.(1/439)
الوصف الرابع:
ميل النّفوس إلى متابعته وانقيادها لموافقته وثباته على شدائده ومصابرته، فما شذّ عنه معها من أخلص ولا ندّ عنه فيها إلّا من حرم الخير كلّه.
وهذه الأربعة من دواعي السّعادة وقوانين الرّسالة قد تكاملت فيه فكمل لما يوازيها واستحقّ ما يقتضيها.
الوجه الثاني: كمال الخلق:
أمّا كمال أخلاقه صلّى الله عليه وسلّم فيكون بستّ خصال:
الخصلة الأولى:
رجاحة عقله وصدق فراسته، وقد دلّ على وفور ذلك فيه صحّة رأيه وصواب تدبيره وحسن تألّفه النّاس وأنّه ما استغفل في مكيدة ولا استعجز في شديدة بل كان يلحظ الإعجاز في المباديء فيكشف عيوبها ويحلّ خطوبها وهذا لا ينتظم إلّا بأصدق حدس وأوضح رؤية.
الخصلة الثانية:
ثباته في الشّدائد وهو مطلوب، وصبره على البأساء والضّرّاء، وهو مكروب ومحروب «1» ونفسه في اختلاف الأحوال ساكنة لا يخور في شديدة ولا يستكين لعظيمة وقد لقي بمكّة من قريش ما يشيب النّواصي ويهدّ الصّياصي وهو مع الضّعف يصابر صبر المستعلي ويثبت ثبات المستولي» .
الخصلة الثالثة:
زهده في الدّنيا وإعراضه عنها وقناعته منها فلم يمل إلى غضارتها ولم يله لحلاوتها وقد ملك من أقصى الحجاز إلى عذار العراق ومن أقصى اليمن إلى شحر عمان.
وهو أزهد النّاس فيما يقتنى ويدّخر وأعرضهم عمّا يستفاد ويحتكر، لم يخلّف عينا ولا دينا ولا حفر نهرا ولا شيّد قصرا ولم يورّث ولده وأهله متاعا ولا مالا ليصرفهم عن الرّغبة في الدّنيا كما صرف نفسه عنها فيكونوا على مثل حاله في الزّهد فيها.
وحقيق بمن كان في الدّنيا بهذه الزّهادة أن لا يتّهم بطلبها أو يكذب على الله تعالى في ادّعاء الآخرة ويقنع في العاجل وقد سلب الآجل بالميسور النّزر ويرض بالعيش الكدر.
__________
(1) الضمير «هو» يعود للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمحروب من فقد ماله، وصار به الإسلام من فقد دينه، والمقصود هو الأول.
(2) المستولي أي الممسك بمقاليد الأمور المسيطر عليها.(1/440)
الخصلة الرابعة:
تواضعه للنّاس وهم أتباع، وخفض جناحه لهم وهو مطاع، يمشي في الأسواق ويجلس على التّراب ويمتزج بأصحابه وجلسائه فلا يتميّز عنهم إلّا بإطراقه وحيائه، فصار بالتّواضع متميّزا، وبالتّذلّل متعزّزا.
ولقد دخل عليه بعض الأعراب فارتاع من هيبته فقال خفّض عليك فإنّما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكّة وهذا من شرف أخلاقه وكريم شيمه فهي غريزة فطر عليها وجبلّة طبع بها لم تندر فتعدّ، ولم تحصر فتحدّ.
الخصلة الخامسة:
حلمه ووقاره عن طيش يهزّه أو خرق يستفزّه فقد كان أحلم في النّفار من كلّ حليم وأسلم في الخصام من كلّ سليم.
وقد مني بجفوة الأعراب فلم يوجد منه نادرة ولم يحفظ عليه بادرة، ولا حليم غيره إلّا ذو عثرة ولا وقور سواه إلّا ذو هفوة، فإنّ الله تعالى عصمه من نزع الهوى وطيش القدرة «1» ليكون بأمّته رءوفا وعلى الخلق عطوفا لقد تناولته قريش بكلّ كبيرة وقصدته بكلّ جريرة وهو صبور عليهم ومعرض عنهم.
وما تفرّد بذلك سفهاؤهم عن حلمائهم ولا أراذلهم دون عظمائهم، بل تمالأ عليه الجلّة والدّون، فكلّما كانوا عليه ألحّ، كان عنهم أعرض وأصفح، حتّى قدر فعفا، وأمكنه الله منهم فغفر.
وقال لهم حين ظفر بهم عام الفتح وقد اجتمعوا إليه: ما ظنّكم بي قالوا ابن عمّ كريم، فإن تعف فذاك الظّنّ بك وإن تنتقم فقد أسأنا، فقال: بل أقول كما قال يوسف لإخوته لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
وقال: اللهمّ قد أذقت أوّل قريش نكالا فأذق آخرهم نوالا وأتته هند بنت عتبة، وقد بقرت بطن عمّه حمزة، ولاكت كبده فصفح عنها وبايعها.
فإن قيل: فقد ضرب رقاب بني قريظة صبرا في يوم واحد وهم نحو سبعمائة، فأين موضع العفو والصّفح قيل: إنّما فعل ذلك في حقوق الله تعالى.
وقد كانت بنو قريظة رضوا بتحكيم سعد بن معاذ عليهم فحكم أنّ من جرت عليه الموسى «2» قتل ومن لم تجر عليه استرقّ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا حكم الله من فوق سبعة أرقعة «3» ، فلم يجز أن يعفو عن حقّ وجب لله تعالى عليهم وإنّما يختصّ عفوه بحقّ نفسه.
__________
(1) النفار أو المنافرة.
(2) جرت عليه الموسى: أي بلغ مبلغ الرجال.
(3) يعني من فوق سبع سموات. انظر النهاية (2/ 251) .(1/441)
الخصلة السادسة:
حفظه للعهد ووفاؤه بالوعد فإنّه ما نقض لمحافظ عهدا، ولا أخلف لمراقب وعدا، يرى الغدر من كبائر الذّنوب، والإخلاف من مساوىء الشّيم فيلتزم فيهما الأغلظ ويرتكب فيهما الأصعب حفظا لعهده ووفاء بوعده حتّى يبتدىء معاهدوه بنقضه فيجعل الله تعالى له مخرجا كفعل اليهود من بني قريظة وبني النّضير وكفعل قريش بصلح الحديبية إذ جعل الله تعالى له في نكثهم الخيرة.
فهذه ستّ خصال تكاملت في خلقه، فضّله الله تعالى على جميع خلقه.
الوجه الثالث: فضائل الأقوال:
في فضائل أقواله صلّى الله عليه وسلّم خصال عديدة، منها:
الخصلة الأولى:
ما أوتي من الحكمة البالغة، وأعطي من العلوم الجمّة الباهرة، وهو أمّي من أمّة أمّيّة لم يقرأ كتابا ولا درس علما ولا صحب عالما ولا معلّما فأتى بما بهر العقول وأذهل الفطن من إتقان ما أبان وإحكام ما أظهر ولم يتعثّر فيه بزلل في قول أو عمل.
وقد شرع من تقدّم من حكماء الفلاسفة سننا حملوا النّاس على التّديّن بها حين علموا أنّه لا صلاح للعالم إلّا بدين ينقادون له ويعملون به فما راق لها أثر ولا فاق لها خبر.
الخصلة الثانية:
حفظه لما أطلعه الله تعالى عليه من قصص الأنبياء مع الأمم وأخبار العالم في الزّمن الأقدم حتّى لم يعزب عنه منها صغير ولا كبير ولا شذّ عنه منها قليل ولا كثير.
وهو لا يضبطها بكتاب يدرسه ولا يحفظها بعين تحرسه، وما ذاك إلّا من ذهن صحيح وصدر فسيح وقلب شريح، وهذه الثّلاثة آلة ما استودع من الرّسالة وحمّل من أعباء النّبوّة فجدير أن يكون بها مبعوثا وعلى القيام بها محثوثا.
الخصلة الثالثة:
إحكامه لما شرع بأظهر دليل وبيانه بأوضح تعليل حتّى لم يخرج منه ما يوجبه معقول «1» ولا دخل فيه ما تدفعه العقول.
ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصارا، لأنّه نبّه بالقليل على الكثير فكفّ عن الإطالة وكشف عن الجهالة وما تيسّر ذلك إلّا وهو عليه معان وإليه مقاد.
__________
(1) معقول هنا بمعنى العقل.(1/442)
الخصلة الرابعة:
ما أمر به من محاسن الأخلاق ودعا إليه من مستحسن الآداب وحثّ عليه من صلة الأرحام وندب إليه من التّعطّف على الضّعفاء والأيتام.
ثمّ ما نهى عنه من التّباغض والتّحاسد وكفّ عنه من التّقاطع والتّباعد لتكون الفضائل فيهم أكثر ومحاسن الأخلاق بينهم أنشر، ومستحسن الآداب عليهم أظهر وتكون إلى الخير أسرع ومن الشّرّ أمنع.
فيتحقّق فيهم قول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فلزموا أمره واتّقوا زواجره فتكامل بهم صلاح دينهم ودنياهم حتّى عزّ بهم الإسلام بعد ضعفه وذلّ بهم الشّرك بعد عزّه فصاروا أئمّة أبرارا وقادة أخيارا.
الخصلة الخامسة:
وضوح جوابه إذا سئل وظهور حجاجه إذا جادل لا يحصره عيّ، ولا يقطعه عجز ولا يعارضه خصم في جدال إلّا كان جوابه أوضح وحجاجه أرجح.
الخصلة السادسة:
أنّه محفوظ اللّسان من تحريف في قول واسترسال في خبر يكون إلى الكذب منسوبا وللصّدق مجانبا، فإنّه لم يزل مشهورا بالصّدق في خبره كان فاشيا وكثيرا حتّى صار بالصّدق مرقوما، وبالأمانة موسوما.
وكانت قريش بأسرها تتيقّن صدقه قبل الإسلام فجهروا بتكذيبه في استدعائهم إليه فمنهم من كذّبه حسدا ومنهم من كذّبه عنادا ومنهم من كذّبه استبعاد أن يكون نبيّا أو رسولا.
ولو حفظوا عليه كذبة نادرة في غير الرّسالة لجعلوها دليلا على تكذيبه في الرّسالة، ومن لزم الصّدق في صغره كان له في الكبر ألزم ومن عصم منه في حقّ نفسه كان في حقوق الله تعالى أعصم وحسبك بهذا دفعا لجاحد وردّا لمعاند.
الخصلة السّابعة:
تحرير كلامه في التّوخّي به إبّان حاجته والاقتصار منه على قدر كفايته فلا يسترسل فيه هذرا ولا يحجم عنه حصرا وهو فيما عدا حالتي الحاجة والكفاية أجمل النّاس صمتا وأحسنهم سمتا.
ولذلك حفظ كلامه حتّى لم يختلّ وظهر رونقه حتّى لم يعتلّ واستعذبته الأفواه حتّى بقي محفوظا في القلوب مدوّنا في الكتب فلن يسلم الاكثار من الزّلل ولا الهذر من الملل.
الخصلة الثّامنة:
أنّه أفصح النّاس لسانا وأوضحهم بيانا وأوجزهم كلاما وأجزلهم ألفاظا وأصحّهم معاني، لا يظهر فيه(1/443)
هجنة التّكلّف ولا يتخلّله فيهقة التّعسّف.
وقد دوّن كثير من جوامع كلمه ومن كلامه الّذي لا يشاكل في فصاحته وبلاغته ومع ذلك فلا يأتي عليه إحصاء ولا يبلغه استقصاء.
ولو مزج كلامه بغيره لتميّز بأسلوبه ولظهر فيه آثار التّنافر فلم يلتبس حقّه من باطله ولبان صدقه من كذبه هذا ولم يكن متعاطيا للبلاغة ولا مخالطا لأهلها من خطباء أو شعراء أو فصحاء وإنّما هو من غرائز طبعه وبداية جبلّته وما ذاك إلّا لغاية تراد وحادثة تشاد.
الوجه الرابع: فضائل الأعمال:
وأمّا في فضائل أفعاله صلّى الله عليه وسلّم فمختبر بثمان خصال:
الخصلة الأولى:
حسن سيرته، وصحّة سياسته في دين نقل به الأمّة عن مألوف، وصرفهم به عن معروف إلى غير معروف، فأذعنت به النّفوس طوعا، وانقادت خوفا وطمعا.
وحسبك بما استقرّت قواعده على الأبد حتّى انتقل عن سلف إلى خلف يزاد فيهم حلاوته، ويشتدّ فيهم جدّته، ويرونه نظاما لإعصار تنقلب صروفها، ويختلف مألوفها أن يكون لمن قام به برهانا ولمن ارتاب به بيانا.
الخصلة الثّانية:
أن جمع بين رغبة من استمال ورهبة من استطاع حتّى اجتمع الفريقان على نصرته، وقاموا بحقوق دعوته رغبا في عاجل وآجل، ورهبا من زائل ونازل، لاختلاف الشّيم والطّباع في الانقياد الّذي لا ينتظم بأحدهما، ولا يستديم إلّا بهما، فلذلك صار الدّين بهما مستقرّا، والصّلاح بهما مستمرّا.
الخصلة الثّالثة:
أنّه عدل فيما شرعه من الدّين عن الغلوّ والتّقصير إلى التّوسّط، وخير الأمور أوساطها، وليس لما جاوز العدل حظّ من رشد، ولا نصيب من سداد.
الخصلة الرّابعة:
أنّه لم يمل بأصحابه إلى الدّنيا ولا إلى رفضها، وأمدّهم فيها بالاعتدال، وقال: «خيركم من لم يترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه» . وهذا صحيح؛ لأنّ الانقطاع إلى أحدهما اختلال، والجمع بينهما اعتدال.
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «نعم المطيّة الدّنيا فارتحلوها تبلّغكم الآخرة» ، وإنّما كان كذلك لأنّ منها يتزوّد لآخرته. ويستكثر فيهما من طاعته وأنّه لا يخلو تاركها من أن يكون محروما
مضاعا أو مرحوما مراعى وهو في الأوّل كلّ وفي الثّاني مستذلّ.(1/444)
الخصلة الخامسة:
تصدّيه لمعالم الدّين ونوازل الأحكام حتّى أوضح للأمّة ما كلّفوه من العبادات، وبيّن لهم ما يحلّ وما يحرم من مباحات ومحظورات، وفصّل لهم ما يجوز ويمتنع من عقود ومناكح ومعاملات.
حتّى احتاج أهل الكتاب في كثير من معاملاتهم ومواريثهم لشرعه ولم يحتج شرعه إلى شرع غيره ثمّ مهّد لشرعه أصولا تدلّ على الحوادث المغفلة ويستنبط لها الأحكام المعلّلة فأغنى عن نصّ بعد ارتفاعه وعن التباس بعد إغفاله ثمّ أمر الشّاهد أن يبلّغ الغائب ليعلم بإنذاره ويحتجّ بإظهاره فقال صلّى الله عليه وسلّم: «بلّغوا عنّي ولا تكذبوا عليّ فربّ مبلّغ أوعى من سامع وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» .
فأحكم ما شرع من نصّ أو تنبيه وعمّ بما أمر من حاضر وبعيد حتّى صار لما تحمّله من الشّرع مؤدّيا ولما تقلّده من حقوق الأمّة موفّيا لئلّا يكون في حقوق الله زلل وذلك في برهة من زمانه لم يستوف تطاول الاستيعاب حتّى أوجز وأنجز وما ذلك إلّا بديع معجز.
الخصلة السّادسة:
انتصابه لجهاد الأعداء وقد أحاطوا بجهاته وأحدقوا بجنباته وهو في قطب مهجور، وعدد محقور فزاد به من قلّ وعزّ به من ذلّ وصار بإثخانه في الأعداء محذورا وبالرّعب منه منصورا فجمع بين التّصدّي لشرع الدّين حتّى ظهر وانتشر وبين الانتصاب لجهاد العدوّ حتّى قهر وانتصر والجمع بينهما معوز إلّا لمن أمدّه الله بمعونته وأيّده بلطفه والمعوز معجز.
الخصلة السّابعة:
ما خصّ به من الشّجاعة في حروبه والنّجدة في مصابرة عدوّه فإنّه لم يشهد حربا في فزع إلّا صابر حتّى انجلت عن ظفر أو دفاع وهو في موقفه لم يزل عنه هربا ولا حاز فيه رغبا.
بل ثبت بقلب آمن وجأش ساكن قد ولّى عنه أصحابه يوم حنين حتّى بقي بإزاء جمع كثير وجمّ غفير في تسعة من أهل بيته وأصحابه على بغلة مسبوقة إن طلبت غير مستعدّة لهرب ولا طلب وهو ينادي أصحابه ويظهر نفسه ويقول إليّ عباد الله «أنا النّبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطّلب» فعادوا أشذاذا وأرسالا وهوازن تراه وتحجم عنه فما هاب حرب من كاثره ولا انكفأ عن مصاولة من صابره.
وقد عضّده الله تعالى بأنجاد وأنجاد فانحازوا وصبر حتّى أمدّه الله بنصره وما لهذه الشّجاعة من عديل ولقد طرق المدينة فزغ فانطلق النّاس فتلقّوه نحو الصّوت فوجدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد سبقهم إليه فتلقّوه عائدا على فرس عري لأبي طلحة الأنصاريّ وعليه السّيف فجعل يقول: أيّها النّاس لم تراعوا لم تراعوا ثمّ قال لأبي طلحة إنّا وجدنا بحرا وكان الفرس يبطىء فما سبقه فرس بعد ذلك.(1/445)
وما ذاك إلّا عن ثقة من أنّ الله تعالى سينصره وأنّ دينه سيظهره تحقيقا لقوله تعالى:
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ* (التوبة/ 33) وتصديقا لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمّتي ما زوي لي منها» وكفى بهذا قياما بحقّه وشاهدا على صدقه.
الخصلة الثّامنة:
ما منح من السّخاء والجود حتّى جاد بكلّ موجود وآثر بكلّ مطلوب ومحبوب ومات ودرعه مرهونة عند يهوديّ على آصع من شعير لطعام أهله.
وقد ملك جزيرة العرب وكان فيها ملوك وأقيال لهم خزائن وأموال يقتنونها ذخرا ويتباهون بها فخرا ويستمتعون بها أشرا وبطرا وقد حاز ملك جميعهم فما اقتنى دينارا ولا درهما، لا يأكل إلّا الخشن ولا يلبس إلّا الخشن.
ويعطي الجزل الخطير، ويصل الجمّ الغفير، ويتجرّع مرارة الإقلال، ويصبر على سغب الاختلال، وكان يقول: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن ترك دينا أو ضياعا فعليّ ومن ترك مالا فلورثته فهل مثل هذا الكرم والجود كرم وجود؟ أم هل لمثل هذا الإعراض والزّهادة إعراض وزهد؟ هيهات.
هل يدرك شأو من هذه شذور من فضائله ويسير من محاسنه التي لا يحصى لها عدد ولا يدرك لها أمد، ولم تكمل في غيره فيساويه. ولا كذّب بها ضدّ يناويه ولقد جهد كلّ منافق ومعاند وكلّ زنديق وملحد أن يزري عليه في قول أو فعل أو يظفر بهفوة في جدّ أو هزل فلم يجد إليه سبيلا وقد جهد جهده وجمع كيده.
فأيّ فضل أعظم من فضل شاهده الحسدة والأعداء فلم يجدوا فيه مغمزا لثالب أو قادح ولا مطعنا لجارح أو فاضح فهو كما قال الشّاعر:
شهد الأنام بفضله حتّى العدا ... والفضل ما شهدت به الأعداء
وبالجملة فآية أخلاقه صلوات الله عليه آية كبرى وعلم من أعلام نبوّته العظمى، وقد أجملها بعضهم بقوله وآية أخرى لا يعرفها إلّا الخاصّة، ومتى ذكرت الخاصّة فالعامّة في ذلك مثل الخاصّة.
وهي الأخلاق والأفعال الّتي لم تجتمع لبشر قطّ قبله ولا تجتمع لبشر بعده، وذلك أنّا لم نر ولم نسمع لأحد قطّ كصبره ولا كحلمه ولا كوفائه ولا كزهده ولا كجوده ولا كنجدته ولا كصدق لهجته ولا ككرم عشرته ولا كتواضعه ولا كحفظه ولا كصمته إذا صمت ولا كقوله إذا قال ولا كعجيب منشئه ولا كعفوه ولا كدوام طريقته وقلّة امتنانه.
ولم تجد شجاعا قطّ إلّا وقد جال جولة وفرّ فرّة وانحاز مرّة ولا يستطيع منافق ولا زنديق ولا دهريّ أن يحدّث أنّه صلّى الله عليه وسلّم جال جولة قطّ ولا فرّ فرّة قطّ ولا حام عن غزوة ولا هاب حربا من مكاثرة.
وذلك من أعجب ما آتاه الله نبيّا قطّ مع سائر ما جاء به من الآيات ومن ضروب البرهانات إذ أعداؤه جمّ(1/446)
غفير وجمعهم كثير فخصمهم حين جادلوه وصابرهم حين عاندوه وكابد من الشّدائد ما لم يثبت عليها إلّا كلّ معصوم ولم يسلم منها إلّا منصور إلى أن علت كلمته وظهرت دعوته.
وكلّ هذه آيات تنذر بالحقّ وتلائم الصّدق، لأنّ الله لا يهدي كيد الخائنين ولا يصلح عمل المفسدين، انتهى كلامه.
ثانيا: الخصائص:
توطئة:
وردت الآيات القرآنيّة والأحاديث النّبويّة تصرّح بعلوّ منزلة نبيّنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم وأنّه أعلى النّاس قدرا، وأعظمهم محلّا وأكملهم محاسن وفضلا وأنّ الله تبارك وتعالى قد أكرمه بخصائص لم يعطها غيره من الأنبياء والمرسلين- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- والبشر.
الخصائص لغة:
قال صاحب القاموس: (خصّه) بالشيء، خصّا وخصوصا وخصوصيّة: فضّله «1» .
وقال في لسان العرب: خصّه بالشّيء يخصّه خصّا.. واختصّه: أفرده به دون غيره ويقال: اختصّ فلان بالأمر وتخصّص له إذا انفرد «2» .
واصطلاحا:
هي ما اختصّ الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وفضّله به على سائر الأنبياء والرّسل عليهم الصّلاة والسّلام وكذلك سائر البشر.
موارد الخصائص:
أولى العلماء رحمهم الله موضوع الخصائص النّبوية عناية كبرى قديما وحديثا فتناولوه بحثا وتأليفا فذكروا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خصائص كثيرة انفرد بها عن إخوانه الأنبياء والمرسلين كما ذكروا له خصائص أخرى انفرد بها عن أمّته.
فمن العلماء رحمهم الله من صنّف تصانيف خاصّة بهذا الموضوع كصنيع الإمام العزّ بن عبد السّلام في كتاب «بداية السّول في تفضيل الرّسول» . والإمام ابن الملقّن في كتابه «خصائص أفضل المخلوقين» . والإمام جلال الدّين السّيوطيّ في كتابه «الخصائص الكبرى» ... وغير ذلك.
ومن العلماء رحمهم الله من أدرج موضوع الخصائص ضمن موضوعات أخرى كصنيع الإمام أبي نعيم
__________
(1) القاموس (2/ 300) .
(2) لسان العرب (7/ 24) .(1/447)
الأصبهانيّ في كتابه «دلائل النّبوّة» . والإمام البيهقيّ في كتابه «دلائل النّبوّة» . والإمام القاضي عياض في كتابه «الشّفا بتعريف حقوق المصطفى» . والإمام النّوويّ في كتابه «تهذيب الأسماء واللّغات» ، والإمام ابن الجوزيّ في كتابه «الوفا بأحوال المصطفى» . والإمام ابن كثير في كتابيه «البداية والنّهاية» و «الفصول في سيرة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم» ... وغير ذلك.
بالإضافة إلى ما ورد مفرّقا على أبواب مختلفة بمناسبات شتّى في مدوّنات الحديث والتّفسير والسّير وغيرها من دواوين الإسلام.
فوائد معرفة الخصائص:
فمن ذلك الوقوف على ما انفرد به نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم عن غيره من الأنبياء والمرسلين عليهم الصّلاة والسّلام وما أكرمه الله به من المنح والهبات تشريفا له وتعظيما وتكريما ممّا يدلّ على جليل منزلته عند ربّه.
فمعرفة ذلك تجعل المسلم يزداد إيمانا مع إيمانه ومحبّة وتبجيلا لنبيّه وشوقا له ويقينا به. وتدعو غير المسلم لدراسة أحوال هذا النّبيّ الكريم صلّى الله عليه وسلّم ومن ثمّ الإيمان والتّصديق به وبما جاء به إن كان من المنصفين.
ويضمّ إلى ذلك فوائد ذكر ما اختصّ به عن أمّته من الأحكام. فمنها: تمييز تلك الخصائص ومعرفتها وثمرة ذلك بيان تفرّده واختصاصه بها وأنّ غيره ليس له أن يتأسّى به فيها. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله عند ذكره لفوائد حديث «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الوصال» قالوا: «إنّك تواصل ... » قال فيه ثبوت خصائصه صلّى الله عليه وسلّم وأنّ عموم قوله تعالى لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «1» مخصوص «2» .
بم تثبت الخصائص؟
نصّ جمع من أهل العلم أنّ الخصائص لا تثبت إلّا بدليل صحيح «3» . وتمشّيا مع هذه القاعدة فقد تركنا كثيرا ممّا ذكره بعض أهل العلم وتساهلوا في إيراده على أنّه ممّا اختصّ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الأنبياء والمرسلين- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- أو اختصّ به عن أمّته ولم يقم على ذلك دليل صحيح، واكتفينا بانتقاء طائفة عطرة من هذه الخصائص ممّا ساندها الدّليل الشّرعيّ الصّحيح.
__________
(1) سورة الأحزاب: آية (21) .
(2) فتح الباري (4/ 242) .
(3) المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (1/ 386) نقلا عن العراقي.(1/448)
أقسام الخصائص:
يتبيّن ممّا سبق أنّ الخصائص من حيث الأصل تنقسم إلى قسمين:
القسم الأوّل:
خصائص اختصّ بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دون غيره من الأنبياء والمرسلين عليهم الصّلاة والسّلام.
القسم الثّاني:
ما اختصّ به صلّى الله عليه وسلّم من الخصائص والأحكام دون أمّته. وقد يشاركه في بعضها الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام.
القسم الأوّل الخصائص التي انفرد بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بقية الأنبياء والمرسلين- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-
اختصّ الله تبارك وتعالى عبده ورسوله محمّدا صلّى الله عليه وسلّم دون غيره من الأنبياء عليهم السّلام بخصائص كثيرة تشريفا له وتكريما ممّا يدلّ على جليل رتبته وشرف منزلته عند ربّه.
ففي الدّنيا آتاه القرآن العظيم المعجزة المحفوظة الخالدة، ونصره بالرّعب، وأرسله إلى الخلق كافّة وختم به النّبيّين ... إلى غير ذلك من الخصائص ممّا سيأتي مفصّلا بإذن الله.
وفي الآخرة أكرمه بالشّفاعة العظمى والوسيلة والفضيلة والحوض وسيادة ولد آدم إلى غير ذلك ممّا سيأتي.
وأكرمه بخصائص في أمّته لم تعطها غيرها من الأمم. ففي الدّنيا أحلّ لها الغنائم وجعل لها الأرض طهورا ومسجدا وجعلها خير الأمم، إلى غير ذلك ممّا سيأتي. وفي الآخرة بأن جعلها شاهدة للأنبياء على أممهم، وجعلها أوّل الأمم دخولا الجنّة إلى غير ذلك ممّا سيأتي.
وقد قسّم العلماء- رحمهم الله- الخصائص الّتي انفرد بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بقيّة الأنبياء والمرسلين عليهم الصّلاة والسّلام إلى عدّة أنواع:
النّوع الأوّل: ما اختصّ به في ذاته في الدّنيا.
النّوع الثّاني: ما اختصّ به في ذاته في الآخرة.
النّوع الثّالث: ما اختصّ به في أمّته في الدّنيا.
النّوع الرّابع: ما اختصّ به في أمّته في الآخرة «1» .
__________
(1) انظر الخصائص الكبرى للسيوطي (2/ 314) .(1/449)
النوع الأول: ما اختص به من الخصائص لذاته في الدنيا:
اختصّ الله تبارك وتعالى نبيّه محمّدا صلّى الله عليه وسلّم دون غيره من الأنبياء والمرسلين عليهم الصّلاة والسّلام بخصائص في الدّنيا لذاته منها ما يلي:
1- عهد وميثاق:
أخذ الله- عزّ وجلّ- العهد والميثاق «1» على جميع الأنبياء والمرسلين من لدن آدم إلى عيسى عليهما السّلام لما آتى الله أحدهم من كتاب وحكمة وبلغ أيّ مبلغ ثمّ بعث محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم ليؤمننّ به ولينصرنّه ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنّبوّة من اتّباعه ونصرته، كما أمرهم أن يأخذوا هذا الميثاق على أممهم لئن بعث محمّد صلّى الله عليه وسلّم وهم أحياء ليؤمننّ به ولينصرّنّه «2» .
قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ «3» .
قال عليّ بن أبي طالب وابن عبّاس- رضي الله عنهم-: «ما بعث الله نبيّا من الأنبياء إلّا أخذ عليه ميثاق لئن بعث الله محمّدا وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنّه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمّته لئن بعث محمّد وهم أحياء ليؤمننّ به ولينصرنّه» . وقال هذا القول غير واحد من أئمّة التّفسير «4» .
وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما-: «أنّ عمر بن الخطّاب أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فغضب فقال: «أمتهوّكون «5» فيها يا ابن الخطّاب؟ والّذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحقّ فتكذّبوا به أو بباطل فتصدّقوا به، والّذي نفسي بيده لو أنّ موسى صلّى الله عليه وسلّم كان حيّا ما وسعه إلّا أن يتّبعني» «6» .
قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله-: «فالرّسول محمّد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدّين، هو الإمام الأعظم الّذي لو وجد في أيّ عصر لكان هو الواجب الطّاعة المقدّم على الأنبياء كلّهم، ولهذا
__________
(1) انظر: الوفا في أحوال المصطفى لابن الجوزي (2/ 6) . وشمائل الرسول لابن كثير (545) ، والخصائص الكبرى للسيوطي (1/ 16) .
(2) تفسير ابن كثير (1/ 386) بتصرف.
(3) سورة آل عمران: الآية (81) .
(4) انظر تفسير ابن جرير الطبري (2/ 236) ، وتفسير ابن كثير (1/ 386) ، وتفسير البغوي (1/ 322) .
(5) أمتهوكون: التهوك كالتهور، وهو الوقوع في الأمر بغير روية. والمتهوك: الذي يقع في كل أمر، وقيل: هو التحير. انظر النهاية في غريب الحديث لابن الاثير (5/ 282) .
(6) رواه الإمام أحمد في مسنده (3/ 387) ، والدارمي برقم (441) ، وحسنه الألباني- انظر مشكاة المصابيح (1/ 63) .(1/450)
كان إمامهم ليلة الإسراء لمّا اجتمعوا ببيت المقدس ... » «1» .
2- رسالة عامة «2» :
كان الأنبياء والرّسل السّابقون- عليهم الصّلاة والسّلام- يرسلون إلى أقوامهم خاصّة كما قال الله تعالى:
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ* «3» . وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً* «4» . وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً* «5» . وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ* «6» ، وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً* «7» . وأمّا نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، فرسالته عامّة لجميع النّاس عربهم وعجمهم وإنسهم وجنّهم، وهذا من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم.
قال العزّ بن عبد السّلام- رحمه الله-: «ومن خصائصه: أنّ الله تعالى أرسل كلّ نبيّ إلى قومه خاصّة، وأرسل نبيّنا محمّدا صلّى الله عليه وسلّم إلى الجنّ والإنس، ولكلّ نبيّ من الأنبياء ثواب تبليغه إلى أمّته. ولنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم ثواب التّبليغ إلى كلّ من أرسل إليه، تارة لمباشرة البلاغ، وتارة بالنّسبة إليه، ولذلك تمنّن عليه بقوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً «8» . ووجه التّمنّن: أنّه لو بعث في كلّ قرية نذيرا لما حصل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا أجر إنذاره لأهل قريته «9» .
وقد جاءت الآيات القرآنيّة والأحاديث النّبويّة تشير إلى هذه الخصوصيّة:
- قال الله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً «10» .
- وقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «11» .
- وقال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً «12» .
- وقال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً «13» .
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير (1/ 386) .
(2) انظر الفصول (ص 285، 286) ، وخصائص أفضل المخلوقين (ص 400) ، والخصائص الكبرى (2/ 319، 320) .
(3) سورة الأعراف: الآية (59) .
(4) سورة الأعراف: الآية (65) .
(5) سورة الأعراف: الآية (73) .
(6) سورة الأعراف: الآية (80) .
(7) سورة الأعراف: الآية (85) .
(8) سورة الفرقان: الآية (51) .
(9) بداية السول في تفضيل الرسول (ص 46، 47) .
(10) سورة سبأ: آية (28) .
(11) سورة الأنبياء: الآية (107) .
(12) سورة الأعراف: الآية (158) .
(13) سورة الفرقان: الآية (1) .(1/451)
- وقال تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ «1» .
وعن جابر- رضي الله عنه-: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلي: نصرت بالرّعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيّما رجل من أمّتي أدركته الصّلاة فليصلّ، وأحلّت لي المغانم ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشّفاعة، وكان النّبيّ يبعث إلى قومه خاصّة وبعثت إلى النّاس عامّة «2» .
وفي رواية: « ... كان كلّ نبيّ يبعث إلى قومه خاصّة وبعثت إلى كلّ أحمر وأسود»
» «4» .
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «والّذي نفس محمّد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمّة يهوديّ ولا نصرانيّ ثمّ يموت ولم يؤمن بالّذي أرسلت به إلّا كان من أصحاب النّار» «5» .
- وعن ابن عبّاس- رضي الله عنهما-؛ قال «إنّ الله فضّل محمّدا صلّى الله عليه وسلّم على الأنبياء وعلى أهل السّماء» .
فقالوا: يا ابن عبّاس بن فضّله على أهل السّماء؟ قال: إنّ الله قال لأهل السّماء: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ «6» الآية. وقال الله لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «7» . قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: قال الله- عزّ وجلّ-: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ «8» الآية. وقال الله عزّ وجلّ لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ «9» .
فأرسله إلى الجنّ والإنس» «10» .
3- نبوة خاتمة: «11»
من رحمة الله تعالى بعباده إرسال محمّد صلّى الله عليه وسلّم إليهم، ومن تشريفه له ختم الأنبياء والمرسلين به وإكمال الدّين الحنيف له. وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في السّنّة المتواترة عنه أنّه لا نبيّ بعده ليعلم العباد أنّ
__________
(1) سورة الأحقاف: الآية (29) .
(2) رواه البخاري، واللفظ له- انظر الفتح (1/ 553) ، ومسلم برقم (521) .
(3) أحمر وأسود: أراد بذلك جميع العالم. فالأسود وهم الحبوش والزنوج وغيرهم. والأحمر هو الأبيض، والعرب تسمي الأبيض أحمر. أفاده ابن الاثير- انظر جامع الأصول (8/ 529، 530) .
(4) رواه مسلم برقم (521) .
(5) رواه مسلم برقم (153) .
(6) سورة الأنبياء: الآية (29) .
(7) سورة الفتح: الآية (1، 2) .
(8) سورة إبراهيم: الآية (4) .
(9) سورة سبأ: الآية (28) .
(10) رواه الدارمي (1/ 29، 30) برقم (47) ، ورواه أيضا ابن أبي حاتم- انظر تفسير ابن كثير (3/ 547) . قال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير الحكم بن أبان وهو ثقة. ورواه أبو يعلي باختصار شديد- انظر مجمع الزوائد (8/ 255) .
(11) انظر الخصائص للسيوطي (2/ 318) .(1/452)
كلّ من ادّعى هذا المقام بعده فهو كذّاب أفّاك دجّال. قال الله تعالى ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ «1» النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً «2» .
وممّا يدلّ على هذه الخصوصيّة من السّنّة ما يأتي:
- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلّا موضع لبنة «3» من زاوية فجعل النّاس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلّا وضعت هذه اللّبنة؟ فأنا اللّبنة وأنا خاتم النّبيّين» «4» .
وزاد مسلم في حديثه؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فأنا موضع اللّبنة جئت فختمت الأنبياء «5» .
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه- في قصّة العرض على الله تبارك وتعالى يوم القيامة، وفزع النّاس إلى الأنبياء عليهم السّلام- قال صلّى الله عليه وسلّم: «أنا سيّد ولد آدم ... فيقول عيسى ... اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فيأتون محمّدا صلّى الله عليه وسلّم فيقولون: يا محمّد! أنت رسول الله وخاتم الأنبياء ... » «6» .
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: فضّلت على الأنبياء بستّ: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرّعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافّة، وختم بي النّبيّون» . «7»
- وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الرّسالة والنّبوّة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبيّ. قال فشقّ ذلك على النّاس، قال: ولكن المبشّرات. قالوا: يا رسول الله وما المبشّرات؟ قال:
«رؤيا الرّجل المسلم وهي جزء من أجزاء النّبوّة» «8» .
- وعن محمّد بن جبير بن مطعم عن أبيه- رضي الله عنهما-؛ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ لي أسماء: أنا محمّد،
__________
(1) خاتم وخاتم: لغتان بفتح التاء وكسرها مثل طابع، وقد قرىء بهما. والمعنى على فتح التاء: أنهم ختموا به، فهو كالخاتم والطابع لهم، والمعنى على كسر التاء، أنه ختمهم أي جاء آخرهم. انظر تفسير القرطبي (14/ 196) بتصرف.
(2) سورة الأحزاب: الآية (40) .
(3) اللبنة: بفتح اللام وكسر الباء بعدها نون، وبكسر اللام وسكون الباء أيضا هي: القطعة من الطين تعجن وتجبل وتعد للبناء، ويقال لها ما لم تحرق لبنة، فإذا أحرقت فهي آجرة.
(4) رواه البخاري- الفتح 6 (3535) ، ومسلم برقم (2286) .
(5) رواه مسلم برقم (2287) .
(6) رواه البخاري- الفتح 8 (4712) ، ومسلم برقم (194) .
(7) رواه مسلم برقم (523) .
(8) رواه الترمذي برقم (2272) وقال: حسن صحيح، والإمام أحمد في مسنده (3/ 267) ، والحاكم في المستدرك (4/ 391) وقال: صحيح الإسناد علي شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وأيضا صححه الألباني- انظر صحيح الجامع برقم (1627) ، والحديث أصله في الصحيحين.(1/453)
وأنا أحمد، وأنا الماحي الّذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الّذي يحشر النّاس على قدميّ، وأنا العاقب الّذي ليس بعده أحد» «1» .
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه-: قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلّما هلك نبيّ خلفه نبيّ، وأنّه لا نبيّ بعدي، وسيكون بعدي خلفاء فيكثرون» قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال «أوفوا ببيعة الأوّل فالأوّل، ثمّ أعطوهم حقّهم، واسألوا الله الّذي لكم، فإنّ الله سائلهم عمّا استرعاهم» «2» .
4- رحمة مهداة: «3»
أرسل الله- تبارك وتعالى- رسوله محمّدا صلّى الله عليه وسلّم رحمة للخلائق عامّة مؤمنهم وكافرهم وإنسهم وجنّهم، وجعله رءوفا رحيما بالمؤمنين خاصّة فمن قبل الرّحمة وشكر هذه النّعمة «4» سعد في الدنيا والآخرة، ومن ردّها وجحدها خسر الدّنيا والآخرة.
ويؤيّد هذه الخصوصيّة قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «5» .
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه-: قال: قيل: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ادع الله على المشركين. قال: «إنّي لم أبعث لعّانا وإنّما بعثت رحمة» «6» .
- وعنه- رضي الله عنه-: قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أيّها النّاس إنّما أنا رحمة مهداة» «7» .
- وعن أبي موسى الأشعريّ- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسمّي لنا نفسه أسماء، فقال: «أنا محمّد، وأحمد، والمقفّى «8» والحاشر، ونبيّ التّوبة، ونبيّ الرّحمة» «9» .
- وعن سلمان- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم « ... أيّما رجل من أمّتي سببته سبّة أو لعنته لعنة
__________
(1) رواه البخاري- الفتح (6/ 3532) إلى قوله «وأنا العاقب» . ومسلم برقم (125/ 2354) . واللفظ له.
(2) رواه البخاري- الفتح 6 (3455) ، ورواه مسلم برقم (1842) .
(3) انظر بداية السول في تفضيل الرسول (ص 65، 66) ، والخصائص الكبرى (2/ 322) .
(4) قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ سورة إبراهيم: آية (28، 29) . قال عمر وابن عباس- رضي الله عنهم، في قوله تعالى: الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً قالا: النعمة: محمد، والذين بدلوا نعمة الله كفرا: كفار قريش. انظر تفسير ابن جرير (13/ 145- 147) . وتفسير البغوي (3/ 35) . والشمائل لابن كثير (559) .
(5) سورة الأنبياء: الآية (107) .
(6) رواه مسلم برقم (2599) .
(7) رواه الحاكم في المستدرك (1/ 35) واللفظ له وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي. وقال الحافظ الهيثمي: رواه البزار والطبراني في الصغير والأوسط ورجال البزار رجال الصحيح. قلت: ولفظ الحديث عندهم هكذا: عن أبي هريرة.. «إنما بعثت رحمة مهداة» . انظر مجمع الزوائد (8/ 257) .
(8) المقفى: قال ابن الأثير: هو المولي الذاهب. يعني أنه آخر الأنبياء المتبع لهم. فإذا قفى فلا نبي بعده- انظر النهاية (4/ 94) .
(9) رواه مسلم برقم (2355) .(1/454)
في غضبي فإنّما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون وإنّما بعثني رحمة للعالمين فأجعلها عليهم صلاة يوم القيامة» «1» .
- قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ: «كان محمّد صلّى الله عليه وسلّم رحمة لجميع النّاس فمن تبعه كان له رحمة في الدّنيا والآخرة، ومن لم يتبعه عوفي ممّا كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف والمسخ والقذف» «2» .
- وقال بعض العلماء في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ: لجميع الخلق للمؤمن رحمة بالهداية ورحمة للمنافق بالأمان من القتل ورحمة للكافر بتأخير العذاب «3» .
- وأمّا كونه صلّى الله عليه وسلّم رحمة لأهل الإيمان خاصّة، فقد قال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «4» .
وقال تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «5» .
5- أمنة لأصحابه: «6»
أكرم الله- تبارك وتعالى- نبيّه محمّدا صلّى الله عليه وسلّم فجعل وجوده بين أصحابه أمنة لهم من العذاب، بخلاف ما حصل لبعض الأمم السّابقة حيث عذّبوا في حياة أنبيائهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم أمنة لأصحابه كذلك من الفتن والحروب وارتداد من ارتدّ من الأعراب واختلاف القلوب ونحو ذلك ممّا أنذر به صريحا ووقع بعد وفاته.
قال العزّ بن عبد السّلام- رحمه الله-: « ... ومن خصائصه صلّى الله عليه وسلّم أنّ الله تعالى أرسله (رحمة للعالمين) فأمهل عصاة أمّته ولم يعاجلهم إبقاء عليهم بخلاف من تقدّمه من الأنبياء فإنّهم لمّا كذّبوا عوجل مكذّبهم» » .
وقد جاء النّصّ على هذه الخصوصيّة من القرآن الكريم والسّنّة المطهّرة وآثار السّلف الصّالح، فمن ذلك ما روى البخاريّ ومسلم «8» من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال: قال أبو جهل: اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم «9» . فنزلت وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ
__________
(1) رواه أبو داود برقم (4659) واللفظ له، والامام أحمد (5/ 437) . والحديث أصله في مسلم برقم (2601) .
(2) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما. انظر تفسير ابن جرير (17/ 83) ، وتفسير القرطبي (11/ 350) ، وتفسير ابن كثير (3/ 211، 212) .
(3) انظر الشفا للقاضي عياض (1/ 57) .
(4) سورة التوبة: الآية (128) .
(5) سورة التوبة: الآية (61) .
(6) انظر الخصائص الكبرى (2/ 322) .
(7) غاية السول (ص 65، 66) .
(8) البخاري- الفتح 8 (4648) واللفظ له، ومسلم برقم (2796) .
(9) سورة الأنفال: الآية (32) .(1/455)
وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ* وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «1» .
وعن أبي موسى- رضي الله عنه-: قال: صلّينا المغرب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ قلنا؛ لو جلسنا حتّى نصلّي معه العشاء. قال: فجلسنا فخرج علينا فقال: «ما زلتم ههنا؟» قلنا: يا رسول الله! صلّينا معك المغرب، ثمّ قلنا نجلس حتّى نصلّي معك العشاء. قال: «أحسنتم أو أصبتم» . قال فرفع رأسه إلى السّماء وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السّماء فقال: «النّجوم أمنة للسّماء «2» فإذا ذهبت النّجوم أتى السّماء ما توعد. وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمّتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمّتي «3» ما يوعدون «4» .
- وقال صلّى الله عليه وسلّم- كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- في صلاة الكسوف: « ... ربّ ألم تعدني أن لا تعذّبهم وأنا فيهم؟ ألم تعدني أن لا تعذّبهم وهم يستغفرون؟» «5» . وفي رواية « ... لم تعدني هذا وأنا فيهم، لم تعدني هذا ونحن نستغفرك» «6» .
- وقال ابن عبّاس- رضي الله عنهما- «إنّ الله جعل في هذه الأمّة أمانين لا يزالون معصومين مجارين من قوارع العذاب ماداما بين أظهرهم فأمان قبضه الله إليه وأمان بقي فيكم قوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ «7» .
6- القسم بحياته: «8»
أقسم الله تبارك وتعالى بأشياء كثيرة من مخلوقاته «9» الدّالّة على كماله وعظمته ليؤكّد المعنى في نفوس
__________
(1) سورة الأنفال: الآية (33، 34) .
(2) أمنة للسماء: قال العلماء: الأمنة والأمن والأمان بمعنى، ومعنى الحديث: أن النجوم مادامت باقية فالسماء باقية، فإذا انكدرت النجوم وتناثرت يوم القيامة وهنت السماء فانفطرت وانشقت وذهبت.
(3) فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون: معناه من ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن فيه وغير ذلك. وهذه كلها من معجزاته صلّى الله عليه وسلّم. شرح الجمل السابقة النووي في شرحه على صحيح مسلم (16/ 83) .
(4) رواه مسلم برقم (2531) .
(5) رواه أبو داود برقم (1194) واللفظ له. والنسائي بمعناه (3/ 138، 149) ، وصححه الألباني- انظر صحيح سنن أبي داود برقم (1055) .
(6) رواه النسائي (3/ 183) ، ورواه الإمام أحمد في مسنده بمعناه (2/ 159) ، وصحح إسناده أحمد شاكر في ترتيبه على المسند برقم (6483) ورقم (6763) .
(7) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير بمعناه- انظر تفسير ابن جرير (9/ 154) ، وتفسير ابن كثير (2/ 317) .
(8) انظر الخصائص للسيوطي (2/ 322) .
(9) للخالق سبحانه أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته، أما المخلوق فلا يجوز له القسم والحلف إلا بالله تعالى وأسمائه وصفاته والأدلة على ذلك كثيرة منها: قوله صلّى الله عليه وسلّم «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» . رواه البخاري- الفتح 11 (6646) . ومسلم برقم (3/ 1646) . قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: قال العلماء: السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده- انظر الفتح (11/ 540) .(1/456)
المخاطبين، فأقسم تعالى بالشّمس والقمر والفجر والسّماء وغير ذلك. بينما نجده سبحانه وتعالى لم يقسم بأحد من البشر إلّا بالرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم حيث يقول جلّ شأنه لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ «1» .
قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما-: «ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمّد صلّى الله عليه وسلّم وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ. يقول: وحياتك وعمرك وبقائك في الدّنيا «2» .
وقال العزّ بن عبد السّلام- رحمه الله-: «ومن خصائصه أنّ الله تعالى أقسم بحياته صلّى الله عليه وسلّم. فقال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ.
والإقسام بحياة المقسم بحياته يدلّ على شرف حياته وعزّتها عند المقسم بها، وأنّ حياته صلّى الله عليه وسلّم لجديرة أن يقسم بها لما فيها من البركة العامّة والخاصّة، ولم يثبت هذا لغيره صلّى الله عليه وسلّم «3» .
7- نداؤه بوصف النبوة والرسالة: «4»
خاطب الله- عزّ وجلّ- رسوله صلّى الله عليه وسلّم في القرآن الكريم بالنّبوّة والرّسالة ولم يناده باسمه زيادة في التّشريف والتّكريم أمّا سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصّلاة والسّلام فخوطبوا بأسمائهم.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ «5» .
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «6» .
وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «7» .
إلى غير ذلك من الآيات.
بينما قال تعالى لأنبيائه:
- يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ* «8» .
- يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ «9» .
__________
(1) سورة الحجر: الآية (72) .
(2) رواه ابن جرير (14/ 30) . وانظر تفسير ابن كثير (2/ 575) .
(3) بداية السول: (ص 37) .
(4) انظر الوفا بأحوال المصطفى ص (362، 363) والخصائص الكبرى (2/ 324) ، بداية السول ص (37، 38) .
(5) سورة المائدة: الآية (41) .
(6) سورة المائدة: الآية (67) .
(7) سورة الأنفال: الآية (64) .
(8) سورة البقرة: الآية (35) .
(9) سورة هود: الآية (48) .(1/457)
- يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ «1» .
- يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا «2» .
- يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ ... «3» في آيات كثيرة ...
قال العزّ بن عبد السّلام- رحمه الله-: «ولا يخفى على أحد أنّ السّيّد إذا دعى أحد عبيده بأفضل ما وجد فيهم من الأوصاف العليّة والأخلاق السّنيّة، ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام لا يشعر بوصف من الأوصاف ولا بخلق من الأخلاق، أنّ منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعزّ عليه وأقرب إليه ممّن دعاه باسمه العلم.
وهذا معلوم بالعرف أنّ من دعي بأفضل أوصافه وأخلاقه كان ذلك مبالغة في تعظيمه واحترامه» «4» .
قال ابن الجوزيّ- رحمه الله- «5» «ولمّا ذكر اسمه للتّعريف قرنه بذكر الرّسالة، فقال تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ «6» . مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ «7» . وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ «8» .
ولمّا ذكره مع الخليل، ذكر الخليل باسمه وذكره باللّقب، فقال تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ «9» .
8- نهي المؤمنين عن مناداته باسمه: «10»
أدّب الله- عزّ وجلّ- عباده المؤمنين في مخاطبة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم والكلام معه تشريفا وتعظيما وتقديرا له، فأمرهم أن لا يخاطبوه باسمه بل يخاطبوه: يا رسول الله، يا نبيّ الله، وإذا كان الله تبارك وتعالى خاطبه في كتابه العزيز بالنّبوّة والرّسالة ولم يناده باسمه زيادة في التّشريف والتّكريم كما مرّ ذكره. فمن باب أولى وأحرى أهل الإيمان. واختصّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك بخلاف سائر الأنبياء والمرسلين فإنّ أممهم كانت تخاطبهم بأسمائهم.
قال الله- جلّ ذكره-: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «11» .
__________
(1) سورة الأعراف: الآية (144) .
(2) سورة الصافات: الآية (104- 105) .
(3) سورة المائدة: الآية (110) .
(4) بداية السول (ص 38) .
(5) انظر الوفا في أحوال المصطفى ص (363) .
(6) سورة آل عمران: الآية (144) .
(7) سورة الفتح: الآية (29) .
(8) سورة محمد: الآية (2) .
(9) سورة آل عمران: الآية (68) .
(10) انظر الوفا (2/ 7، 8) ، والخصائص (2/ 324) .
(11) سورة النور: الآية (63) .(1/458)
قال ابن عبّاس ومجاهد وسعيد بن جبير: «كانوا يقولون: يا محمّد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك إعظاما لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وأمرهم أن يقولوا: يا نبيّ الله، يا رسول الله» » .
وقال قتادة- في تفسير الآية السّابقة-: أمر الله تعالى أن يهاب نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وأن يبجّل وأن يعظّم وأن يسوّد «2» .
بخلاف ما خاطبت به الأمم السّابقة أنبياءها، فقال تعالى- حكاية عنهم-:
- قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ ... «3» .
- قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ «4» .
- إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ ... «5» .
9- كلم جامع: «6»
فضّل الله- عزّ وجلّ- نبيّه صلّى الله عليه وسلّم على غيره من الأنبياء عليهم السّلام بأن أعطاه جوامع الكلم، فكان صلّى الله عليه وسلّم يتكلّم بالقول الموجز القليل اللّفظ الكثير المعاني «7» أعطاه مفاتيح الكلام وهو ما يسّره له من البلاغة والفصاحة، والوصول إلى غوامض المعاني وبدائع الحكم ومحاسن العبارات والألفاظ الّتي أغلقت على غيره وتعذّرت عليه «8» .
قال العزّ بن عبد السّلام- رحمه الله-: «ومن خصائصه أنّه بعث بجوامع الكلم، واختصر له الحديث اختصارا، وفاق العرب في فصاحته وبلاغته» «9» .
وممّا جاء في السّنّة دالّا على هذه الخاصّيّة:
- عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «فضّلت على الأنبياء بستّ: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرّعب، وأحلّت لي المغانم وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافّة، وختم
__________
(1) انظر تفسير ابن جرير (18/ 134) ، وتفسير ابن كثير (3/ 318) .
(2) اخرجه ابن جرير وغيره. انظر تفسير ابن جرير (18/ 134) ، وتفسير ابن كثير (3/ 318) .
(3) سورة الأعراف: الآية (134) .
(4) سورة الأعراف: الآية (138) .
(5) سورة المائدة: الآية (112) .
(6) انظر الوفا (2/ 14) ، والشمائل لابن كثير (605) ، والخصائص (2/ 331، 333) .
(7) قاله الحافظ ابن حجر- انظر فتح الباري (13/ 261) ، ومن قبله قاله الزهري رحمه الله- انظر الفتح (12/ 418) ، وابن الأثير- انظر جامع الأصول (8/ 531) .
(8) قاله ابن منظور في لسان العرب (2/ 537) .
(9) غاية السول في تفضيل الرسول (ص 47) .(1/459)
بي النّبيّون» «1» .
- وعن أبي موسى- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أعطيت فواتح الكلم «2» وجوامعه وخواتمه «3» » «4» .
قال الحافظ ابن رجب الحنبليّ- رحمه الله-: فجوامع الكلم الّتي خصّ بها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نوعان:
أحدهما: ما هو في القرآن كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ «5» .
قال الحسن البصريّ- رحمه الله-: «لم تترك هذه الآية خيرا إلّا أمرت به ولا شرّا إلّا نهت عنه» .
الثّاني: ما هو في كلامه صلّى الله عليه وسلّم وهو منتشر موجود في السّنن المأثورة عنه «6» .. أ. هـ.
ومن ذلك قوله «7» : «إنّما الأعمال بالنّيّات وإنّما لكلّ امريء ما نوى» .
قال الشّافعيّ- رحمه الله-: هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين بابا من الفقه» «8» .
قال القاضي عياض- رحمه الله-: «وأمّا كلامه المعتاد، وفصاحته المعلومة، وجوامع كلمه وحكمه المأثورة فقد ألّف النّاس فيها الدّواوين، وجمعت في ألفاظها ومعانيها الكتب ومنها ما لا يوازى فصاحة، ولا يباري بلاغة.
وذكر- رحمه الله- أمثلة كثيرة من أقوال الصّادق المصدوق صلّى الله عليه وسلّم.
فمن ذلك قوله: «اتّق الله حيثما كنت وأتبع السّيّئة الحسنة تمحها وخالق النّاس بخلق حسن» «9» .
وقوله: «الدّين النّصيحة» قلنا لمن يا رسول الله؟ قال «لله عزّ وجلّ ولكتابه ولرسوله ولأئمّة المسلمين
__________
(1) رواه مسلم برقم (523) .
(2) فواتح الكلم: قال ابن منظور: « ... وفي الحديث: أوتيت مفاتيح الكلم، وفي رواية: مفاتح، هما جمع مفتاح ومفتح، وهما في الأصل مما يتوصل به إلى استخراج المغلقات التي يتعذر الوصول إليها ... ومن كان في يده مفاتيح شيء مخزون سهل عليه الوصول إليه، لسان العرب (2/ 537) .
(3) خواتمه: حسن الوقف ورعاية الفواصل.
(4) رواه الإمام أحمد في مسنده (1/ 408، 437) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأبو يعلي في مسنده (4/ 1737) عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه-، وصحح الحديث الألباني بشواهده- انظر صحيح الجامع الصغير برقم (1069) وسلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (1483) .
(5) سورة النحل: الآية (90) .
(6) انظر كتاب «جامع العلوم والحكم» لابن رجب الحنبلي (ص 3) .
(7) رواه البخاري- الفتح 1 (1) . ومسلم بلفظ «إنما الأعمال بالنية..» برقم (1907) .
(8) جامع العلوم والحكم (ص 5) .
(9) رواه الترمذي برقم (1987) وقال: حديث حسن صحيح، ورواه الإمام أحمد (5/ 153، 158، 228، 236) ، والدارمي برقم (2794) ، الحاكم في المستدرك (1/ 54) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(1/460)
وعامّتهم» «1» .
وقوله: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» «2» ... إلى غير ذلك ممّا روته الكافّة عن الكافّة من مقاماته ومحاضراته وخطبه وأدعيته ومخاطباته وعهوده ممّا لا خلاف أنّه نزل من ذلك مرتبة لا يقاس بها غيره وحاز فيها سبقا لا يقدر قدره «3» .
10- نصر بالرعب: «4»
اختصّ نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، بأنّ الله عزّ وجلّ نصره بالرّعب، وهو الفزع والخوف، فكان سبحانه يلقيه في قلوب أعداء رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فإذا كان بينه وبينهم مسيرة شهر «5» أو شهرين هابوه وفزعوا منه، فلا يقدمون على لقائه «6» .
قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: وهذه الخصوصيّة حاصلة له على الإطلاق حتّى لو كان وحده بغير عسكر، وهل هي حاصلة لأمّته من بعده؟ فيه احتمال «7» .
وممّا ورد في السّنّة مؤيّدا لهذا المعنى:
عن جابر- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلي: نصرت بالرّعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا. فأيّما رجل من أمّتي أدركته الصّلاة فليصلّ، وأحلّت لي المغانم ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشّفاعة، وكان النّبيّ يبعث إلى قومه خاصّة وبعثت إلى النّاس عامّة» «8» .
- وعن أبي أمامة- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فضّلت بأربع: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيّما رجل من أمّتي أتى الصّلاة فلم يجد ما يصلّي عليه وجد الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى النّاس كافة، ونصرت بالرّعب من مسيرة شهرين يسير بين يديّ، وأحلّت لي الغنائم» «9» .
__________
(1) رواه مسلم برقم (55) .
(2) رواه الترمذي برقم (2518) وقال: هذا حديث حسن صحيح. والإمام أحمد (1/ 200) ، والنسائي (8/ 327، 328) ، وابن حبان (512) ، والحاكم (2/ 13) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(3) الشفا للقاضي عياض (1/ 173- 176) بتصرف.
(4) انظر الفصول لابن كثير (ص 281، 282) ، وخصائص أفضل المخلوقين لابن الملقن (ص 399) ، والخصائص الكبرى للسيوطي (2/ 331) .
(5) ورد التقييد بمسيرة شهر في الصحيحين وبمسيرة شهرين في غيرهما ولا تعارض بينهما لأن الإخبار بالقليل لا ينافي الكثير- انظر السراج المنير شرح الجامع الصغير (3/ 23، 24) .
(6) قاله ابن الأثير الجزري- انظر جامع الأصول (8/ 531) بتصرف يسيير.
(7) انظر فتح الباري (1/ 521) .
(8) رواه البخاري- الفتح 1 (335) واللفظ له، ومسلم برقم (521) .
(9) رواه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 212) ، وصححه الألباني- انظر صحيح الجامع الصغير برقم (4096) .(1/461)
- وعن السّائب بن يزيد رضي الله عنه؛ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «فضّلت على الأنبياء بخمس: بعثت إلى النّاس كافّة، وادّخرت شفاعتي لأمّتي، ونصرت بالرّعب شهرا أمامي، وشهرا خلفي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي» «1» .
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «فضّلت على الأنبياء بستّ «2» . أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرّعب، وأحلّت لي المغانم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافّة، وختم بي النّبيّون» «3» .
- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام غزوة تبوك قام من اللّيل يصلّي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتّى إذا صلّى انصرف إليهم فقال لهم «لقد أعطيت اللّيلة خمسا ما أعطيهنّ أحد قبلي. أمّا أنا فأرسلت إلى النّاس كلّهم عامّة وكان من قبلي إنّما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدوّ بالرّعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملىء منه رعبا، وأحلّت لي الغنائم آكلها وكان من قبلي يعظّمون أكلها كانوا يحرّقونها، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصّلاة تمسّحت وصلّيت وكان من قبلي يعظّمون ذلك إنّما كانوا يصلّون في كنائسهم وبيعهم، والخامسة هي ما هي قيل لي سل فإنّ كلّ نبيّ قد سأل فأخّرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلّا الله» «4» .
11- مفاتيح خزائن الأرض بيده: «5»
أكرم الله عبده ورسوله محمّدا صلّى الله عليه وسلّم واختصّه على غيره من الأنبياء بأن أعطاه مفاتيح خزائن الأرض وهي ما سهّل الله تعالى له ولأمّته من بعده من افتتاح البلاد المتعذّرات والحصول على كنوزها وذخائرها ومغانمها واستخراج الممتنعات من الأرض كمعادن الذّهب والفضّة وغيرها»
ويحتمل أعمّ من ذلك. والله أعلم «7» .
وممّا يؤيّد هذه الخصوصيّة:
- عن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرّعب، فبينا أنا
__________
(1) رواه الطبراني في معجمه الكبير برقم (6674) ، وصححه الألباني بشواهده- انظر صحيح الجامع الصغير برقم (4097) .
(2) قال الطيبي رحمه الله: لا منافاة بين قوله صلّى الله عليه وسلّم في الروايات (ست) ، و (خمس) ، و (أربع) : لأن ذكر الأعداد لا يدل على الحصر، وقد يكون أعلم في وقت بأربع ثم بأكثر- انظر عمدة القاري (4/ 8) ، وفيض القدير (4/ 439) .
(3) رواه مسلم برقم (523) .
(4) رواه الإمام أحمد في مسنده (3/ 222) ، قال الحافظ الهيثمي: رواه أحمد ورجاله ثقات- انظر مجمع الزوائد (10/ 367) .
(5) انظر الخصائص للسيوطي (2/ 331) .
(6) بنحوه قال الخطابي- انظر فتح الباري (2/ 442) ، وابن الأثير- انظر جامع الأصول (8/ 532) .
(7) نقله الحافظ ابن حجر عن بعض العلماء- انظر الفتح (12/ 442) .(1/462)
نائم أوتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي» . قال أبو هريرة: وقد ذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنتم تنتثلونها «1» » «2» .
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بينما أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض فوضع في يدي سواران من ذهب فكبرا عليّ وأهمّاني، فأوحي إليّ أن أنفخهما فنفختهما فطارا، فأوّلتهما الكذّابين اللّذين أنا بينهما: صاحب صنعاء وصاحب اليمامة «3» » «4» .
- عن عقبة- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج يوما فصلّى على أهل أحد صلاته على الميّت، ثمّ انصرف على المنبر فقال «إنّي فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإنّي والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإنّي أعطيت مفاتيح خزائن الأرض- أو مفاتيح الأرض- وإنّي والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها» «5» .
12- ذنوب مغفورة: «6»
اختصّ الله تعالى عبده ورسوله محمّدا صلّى الله عليه وسلّم تشريفا له وتكريما بأن غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر وأخبره بهذه المغفرة وهو حيّ صحيح يمشي على الأرض.
قال العزّ بن عبد السّلام: «من خصائصه أنّه أخبره الله بالمغفرة ولم ينقل أنّه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك، بل الظّاهر أنّه لم يخبرهم بدليل قولهم في الموقف: نفسي نفسي «7» .
وقال ابن كثير في قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «8» :
هذا من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم الّتي لا يشاركه فيها غيره، وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... » «9» .
وبهذا المعنى وردت الآيات والأحاديث:
فقال الله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ
__________
(1) وأنتم تنتثلونها: بوزن تفتعلونها- من النثل بالنون والمثلاثة- تقول: نثلت البئر إذا استخرجت ترابها. ونثل كنانته نثلا: استخرج ما فيها من النبل. والمقصود بها في الحديث (وأنتم تنتثلونها) : يعني الأموال وما فتح عليهم من زهرة الدنيا- انظر فتح الباري (6/ 149، 150) ، ولسان العرب (11/ 645) .
(2) رواه البخاري- الفتح 6 (2977) ، ومسلم برقم (6/ 523) .
(3) صاحب صنعاء: الأسود العنسي، وصاحب اليمامة: مسيلمة الكذاب.
(4) رواه البخاري- الفتح 12 (7037) ، ومسلم برقم (22/ 2274) .
(5) رواه البخاري- الفتح 11 (6590) ، ومسلم برقم (2296) .
(6) انظر الخصائص الكبرى للسيوطي (2/ 336) .
(7) انظر بدآية السول (ص 35) .
(8) سورة الفتح: آية (1- 2) .
(9) انظر تفسير ابن كثير (4/ 198) .(1/463)
وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً «1» .
وقال تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ* الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ* وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ «2» .
وفي حديث أنس- رضي الله عنه-؛ في الشّفاعة، وفيه: «فيأتون عيسى، فيقول: لست هناكم «3» ولكن ائتوا محمّدا عبدا غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ... » «4» .
وفي حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ في الشّفاعة أيضا، وفيه: « ... فيأتون عيسى فيقول ... اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فيأتون محمّدا صلّى الله عليه وسلّم فيقولون: يا محمّد، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ... » «5» .
- وعن عائشة- رضي الله عنها-؛ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقوم من اللّيل حتّى تتفطّر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: «أفلا أحبّ أن أكون عبدا شكورا» .
فلمّا كثر لحمه صلّى جالسا، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثمّ ركع» «6» .
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ قال: «فضّلت على الأنبياء بستّ لم يعطهنّ أحد كان قبلي: غفر لي ما تقدّم من ذنبي وما تأخّر، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت أمّتي خير الأمم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأعطيت الكوثر، ونصرت بالرّعب، والّذي نفسي بيده إنّ صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه» «7» .
- وعن حذيفة- رضي الله عنه-؛ قال: غاب عنّا رسول الله فلم يخرج حتّى ظننّا أنّه لن يخرج فلمّا خرج سجد سجدة حتّى ظننّا أنّ نفسه قد قبضت فيها، فلمّا رفع رأسه قال: «إنّ ربّي تبارك وتعالى استشارني في أمّتي ماذا أفعل بهم فقلت ما شئت أي ربّ هم خلقك وعبادك فاستشارني الثّانية فقلت له كذلك فقال لا نخزيك في أمّتك يا محمّد وبشّرني أنّ أوّل من يدخل الجنّة من أمّتي سبعون ألفا مع كلّ ألف سبعون ألفا ليس عليهم حساب ثمّ أرسل إليّ فقال: ادع تجب وسل تعطه. فقلت لرسوله: أو معطيّ ربّي سؤلي؟ فقال ما أرسلني إليك إلّا ليعطيك.
__________
(1) سورة الفتح: آية (1- 2) .
(2) سورة الشرح: آية (1- 4) .
(3) لست هناكم: أي لست أهلا لذلك- قاله النووي في شرحه على صحيح مسلم (3/ 55) .
(4) رواه البخاري- الفتح 13 (7410) ، ومسلم برقم (193) .
(5) رواه البخاري- الفتح 8 (4712) ، ومسلم برقم (194) .
(6) رواه البخاري- الفتح 8 (4837) ، ومسلم برقم (2820) .
(7) رواه البزار. قال الحافظ الهيثمي: إسناده جيد- انظر مجمع الزوائد (8/ 269) ، وجوّد إسناده كذلك الحافظ السيوطي في الخصائص الكبري (2/ 336) .(1/464)
ولقد أعطاني ربّي عزّ وجلّ ولا فخر وغفر لي ما تقدّم من ذنبي وما تأخّر وأنا أمشي حيّا صحيحا وأعطاني أن لا تجوع أمّتي ولا تغلب وأعطاني الكوثر فهو نهر في الجنّة يسيل في حوضي وأعطاني العزّ والنّصر والرّعب يسعى بين يدي أمّتي شهرا وأعطاني أنّي أوّل الأنبياء أدخل الجنّة وطيّب لي ولأمّتي الغنيمة وأحلّ لنا كثيرا ممّا شدّد على من قبلنا ولم يجعل علينا من حرج» «1» .
13- كتاب خالد محفوظ: «2»
أعطى الله- تبارك وتعالى- كلّ نبيّ من الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام من الآيات والمعجزات الدّالّة على صدقه وصحّة ما جاء به عن ربّه ما فيه كفاية وحجّة لقومه الّذين بعث إليهم، وهذه المعجزات كانت وقتيّة انقرض زمانها في حياتهم ولم يبق منها إلّا الخبر عنها.
وأمّا نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم فكانت معجزته العظمى الّتي اختصّ بها دون غيره هي القرآن العظيم. الحجّة المستمرّة الدّائمة القائمة في زمانه وبعده إلى يوم القيامة. كتاب خالد لا ينضب معينه ولا تنقضي عجائبه ولا تنتهي فوائده محفوظ بحفظ الله من التّغيير والتّبديل والتّحريف.
قال العزّ بن عبد السّلام- رحمه الله-: «ومن خصائصه أنّ معجزة كلّ نبيّ تصرّمت وانقرضت ومعجزة سيّد الأوّلين والآخرين وهي القرآن العظيم باقية إلى يوم الدّين» «3» .
وقال: ... ومنها حفظ كتابه، فلو اجتمع الأوّلون والآخرون على أن يزيدوا فيه كلمة أو ينقصوا منه لعجزوا عن ذلك، ولا يخفى ما وقع من التّبديل في التّوراة والإنجيل» «4» .
ومن أدلّة هذه الخصوصيّة:
قول الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «5» .
وقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ* لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ «6» .
وقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «7» .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده (5/ 393) . قال الحافظ الهيثمي: رواه أحمد وإسناده حسن- انظر مجمع الزوائد (10/ 68، 69) .
(2) انظر الفصول: (ص 287) ، وخصائص أفضل المخلوقين (ص 398) ، والخصائص الكبرى (2/ 315- 318) .
(3) غاية السول في تفضيل الرسول (ص 39) .
(4) نفس المرجع السابق (ص 70) .
(5) سورة الحجر: آية رقم (9) .
(6) سورة فصلت: آية (41، 42) .
(7) سورة الإسراء: آية (88) .(1/465)
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه؛ قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما من الأنبياء نبيّ إلّا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الّذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» «1» .
ووجه الدّلالة في الحديث يبيّنه الحافظ ابن حجر بقوله: رتّب صلّى الله عليه وسلّم هذا الكلام (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) على ما تقدّم من معجزة القرآن المستمرّة لكثرة فائدته وعموم نفعه، لاشتماله على الدّعوة والحجّة والإخبار بما سيكون، فعمّ نفعه من حضر ومن غاب ومن وجد ومن سيوجد، فحسن ترتيب الرّجوى المذكورة على ذلك وهذه الرّجوى قد تحقّقت، فإنّه أكثر الأنبياء تبعا» «2» .
- وعن الحسن البصريّ رحمه الله في قوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ قال «حفظه الله تعالى من الشّيطان فلا يزيد فيه باطلا ولا ينقص منه حقّا» «3» .
- وعن يحيى بن أكثم قال: دخل يهوديّ على المأمون فتكلّم فأحسن الكلام، فدعاه المأمون إلى الإسلام، فأبى، فلمّا كان بعد سنة جاءنا مسلما، فتكلّم على الفقه فأحسن الكلام، فقال له المأمون: ما كان سبب إسلامك؟
قال: انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن هذه الأديان فعمدت إلى التّوراة. فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها الكنيسة، فاشتريت منّي، وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة فاشتريت منّي. وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها الورّاقين فتصفّحوها، فلمّا أن وجدوا فيها الزّيادة والنّقصان رموا بها فلم يشتروها، فعلمت أنّ هذا الكتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي.
قال يحيى بن أكثم: فحججت تلك السّنة فلقيت سفيان بن عيينة، فذكرت له الحديث، فقال لي: مصداق هذا في كتاب الله تعالى. قلت: في أيّ موضع؟ قال: في قوله تعالى في التّوراة والإنجيل بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ «4» فجعل حفظه إليهم فضاع وقال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «5» فحفظه الله تعالى علينا فلم يضع «6» .
14- إسراء ومعراج:
وممّا اختصّ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن غيره من الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام معجزة الإسراء «7» والمعراج.
__________
(1) رواه البخاري- الفتح (8/ 4981) ، ومسلم برقم (152) .
(2) فتح الباري (8/ 623) بتصرف يسير.
(3) قال السيوطي في الخصائص: أخرجه البيهقي. انظر الخصائص (2/ 316) قلت: ورواه ابن جرير عن السدي بمعناه- انظر تفسير ابن جرير (24/ 79) .
(4) سورة المائدة: آية (44) .
(5) سورة الحجر: آية (9) .
(6) قال السيوطي: أخرجه البيهقي- انظر الخصائص الكبرى (2/ 316) .
(7) انظر الشفا للقاضي عياض (1/ 343) ، والفصول لابن كثير (ص 287) ، والخصائص الكبرى للسيوطي (1/ 252) .(1/466)
فقد أسري به صلّى الله عليه وسلّم ببدنه وروحه يقظة من المسجد الحرام بمكّة المكرّمة إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس بإيلياء في جنح اللّيل، ثمّ عرج به إلى سدرة المنتهى ثمّ إلى حيث شاء الله عزّ وجلّ ورجع مكّة من ليلته.
وأكرم صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية العظيمة بكرامات كثيرة، منها: تكليمه ربّه عزّ وجلّ، وفرض الصّلوات عليه، وما رأى من آيات ربّه الكبرى، وإمامته للأنبياء في بيت المقدس. فدلّ ذلك على أنّه هو الإمام الأعظم والرّئيس المقدّم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين» .
وقد ثبت الإسراء بالقرآن، كما ثبت المعراج بالمتواتر من الحديث، وإليه أشار القرآن. قال الله تعالى سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «2» .
وقال تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى * ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى * ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى * أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى * ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى * لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «3» .
- وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّ مالك بن صعصعة حدّثه: أنّ نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم حدّثهم عن ليلة أسري به قال: «بينما أنا في الحطيم- وربّما قال في الحجر- مضطجعا، إذ أتاني آت- قال وسمعته يقول: فشقّ ما بين هذه إلى هذه. فقلت للجارود وهو إلى جنبي: ما يعني به؟ قال: من ثغرة نحره إلى شعرته- وسمعته يقول من قصّه إلى شعرته فاستخرج قلبي، ثمّ أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا، فغسل قلبي، ثمّ حشي، ثمّ أعيد، ثمّ أتيت بدابّة دون البغل وفوق الحمار أبيض، فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم- يضع خطوه عند أقصى طرفه- فحملت عليه فانطلق بي جبريل حتّى أتى السّماء الدّنيا فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمّد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء. ففتح. فلمّا خلصت فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم، فسلّم عليه. فسلّمت عليه، فردّ السّلام ثمّ قال: مرحبا بالابن الصّالح والنّبيّ الصّالح. ثمّ صعد بي حتّى أتى السّماء الثّانية فاستفتح، قيل: من هذا؟
قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمّد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء. ففتح. فلمّا خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة. قال: هذا يحيى وعيسى فسلّم عليهما فسلّمت، فردّا، ثمّ قالا: مرحبا بالأخ الصّالح والنّبيّ الصّالح، ثمّ صعد بي إلى السّماء الثّالثة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال:
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 3) بتصرف.
(2) سورة الإسراء: آية (1) .
(3) سورة النجم: آية (3- 18) .(1/467)
جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمّد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء.
ففتح، فلمّا خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلّم عليه، فسلّمت عليه، فردّ ثمّ قال: مرحبا بالأخ الصّالح والنّبيّ الصّالح. ثمّ صعد بي إلى السّماء الرّابعة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال:
محمّد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء. ففتح، فلمّا خلصت فإذا إدريس، قال:
هذا إدريس فسلّم عليه، فسلّمت عليه، فردّ ثمّ قال: مرحبا بالأخ الصّالح والنّبيّ الصّالح. ثمّ صعد بي حتّى أتى السّماء الخامسة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمّد صلّى الله عليه وسلّم قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء. ففتح، فلمّا خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلّم عليه، فسلّمت عليه، فردّ ثمّ قال: مرحبا بالأخ الصّالح والنّبيّ الصّالح. ثمّ صعد بي حتّى أتى السّماء السّادسة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمّد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم قيل:
مرحبا به فنعم المجيء جاء. ففتح، فلمّا خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلّم عليه، فسلّمت عليه، فردّ ثمّ قال: مرحبا بالأخ الصّالح والنّبيّ الصّالح. فلمّا تجاوزت بكى. قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأنّ غلاما بعث بعدي يدخل الجنّة من أمّته أكثر ممّن يدخلها من أمّتي. ثمّ صعد بي إلى السّماء السّابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟
قال: محمّد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء. ففتح، فلمّا خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك فسلّم عليه، فسلّمت عليه، فردّ السّلام، ثمّ قال:
مرحبا بالابن الصّالح والنّبيّ الصّالح. ثمّ رفعت لي سدرة المنتهى. فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران. فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أمّا الباطنان فنهران في الجنّة. وأمّا الظّاهران فالنّيل والفرات. ثمّ رفع لي البيت المعمور، ثمّ أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللّبن، فقال: هي الفطرة الّتي أنت عليها وأمّتك. ثمّ فرضت عليّ الصّلاة خمسين صلاة كلّ يوم، فرجعت فمررت على موسى، فقال: بم أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كلّ يوم. قال: إنّ أمّتك لا تستطيع خمسين صلاة كلّ يوم. وإنّي والله قد جرّبت النّاس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشدّ المعالجة، فارجع إلى ربّك فاسأله التّخفيف لأمّتك، فرجعت، فوضع عنّي عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله. فرجعت فوضع عنّي عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله. فرجعت فوضع عنّي عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله. فرجعت فأمرت بعشر صلوات كلّ يوم. فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كلّ يوم. فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كلّ يوم. قال: إنّ أمّتك لا تستطيع خمس صلوات كلّ يوم. وإنّي قد جرّبت النّاس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشدّ المعالجة، فارجع إلى ربّك فاسأله التّخفيف لأمّتك. قال: سألت ربّي حتّى استحييت، ولكن أرضى(1/468)
وأسلّم. قال: فلمّا جاوزت نادى مناد. أمضيت فريضتي، وخفّفت عن عبادي» «1» .
ودليل إمامته بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام:
- عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقد رأيتني في الحجر. وقريش تسألني عن مسراي. فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها. فكربت كربة ما كربت مثله. قال فرفعه الله لي أنظر إليه.
ما يسألوني عن شيء إلّا أنبأتهم به. وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء. فإذا موسى قائم يصلّي. فإذا رجل ضرب جعد كأنّه من رجال شنوءة. وإذا عيسى ابن مريم عليه السّلام قائم يصلّي. أقرب النّاس به شبها عروة بن مسعود الثّقفيّ. وإذا إبراهيم عليه السّلام قائم يصلّي. أشبه النّاس به صاحبكم- يعني نفسه- فحانت الصّلاة فأممتهم. فلمّا فرغت من الصّلاة قال قائل: يا محمّد! هذا مالك صاحب النّار فسلّم عليه. فالتفتّ إليه فبدأني بالسّلام» «2» .
النوع الثاني: ما اختصّ به صلّى الله عليه وسلّم لذاته في الآخرة:
اختصّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخصائص لذاته في الآخرة لم يعطها غيره من الأنبياء عليهم السّلام. ممّا يدلّ على منزلته وعظيم قدره عند ربّه تبارك وتعالى. ومن ذلك الوسيلة، والفضيلة، والحوض والكوثر، واللّواء....
وغير ذلك ممّا سيأتي.
1- وسيلة وفضيلة: «3»
الوسيلة أعلى درجة في الجنّة لا ينالها إلّا عبد واحد من عباد الله. وهو رسولنا صلّى الله عليه وسلّم.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «الوسيلة» علم على أعلى منزلة في الجنّة وهي منزلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وداره في الجنّة، وهي أقرب أمكنة الجنّة إلى العرش» «4» .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «الفضيلة» أي المرتبة الزّائدة على سائر الخلائق، ويحتمل أن تكون منزلة أخرى أو تفسيرا للوسيلة «5» .
فمنزلة الوسيلة والفضيلة خاصّة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يشاركه فيهما غيره.
وممّا يؤيّد هذه الخصوصيّة:
- عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما-؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: من قال حين يسمع النّداء: اللهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامّة والصّلاة القائمة آت محمّدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الّذي وعدته. حلّت
__________
(1) رواه البخاري- الفتح 7 (3887) ، ورواه مسلم برقم (164) .
(2) رواه مسلم برقم (172) .
(3) انظر بداية السول (52) ، والخصائص (2/ 390) .
(4) انظر تفسير ابن كثير (2/ 55) .
(5) انظر فتح الباري (2/ 113) .(1/469)
له شفاعتي يوم القيامة» «1» .
- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما-؛ أنّه سمع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول. ثمّ صلّوا عليّ، فإنّه من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرا، ثمّ سلوا الله لي الوسيلة، فإنّها منزلة في الجنّة لا تنبغي إلّا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو. فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشّفاعة» «2» .
- وعن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الوسيلة درجة عند الله، ليس فوقها درجة، فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة» «3» .
- وعن ابن عبّاس- رضي الله عنهما-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سلوا الله لي الوسيلة، فإنّه لا يسألها لي عبد في الدّنيا، إلّا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» «4» .
- وعن عبادة بن الصّامت- رضي الله عنه-؛ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله رفعني يوم القيامة في أعلى غرفة من جنّات النّعيم ليس فوقي إلّا حملة العرش» «5» .
2- مقام محمود:
لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم القيامة، تشريفات وتكريمات لا يشركه ولا يساويه فيها أحد الأنبياء فمن دونهم.
ومن ذلك المقام المحمود، الّذي يقومه صلّى الله عليه وسلّم فيحمده الخالق عزّ وجلّ والخلائق من بعده. قال تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «6» .
وقد تعدّدت أقوال المفسّرين في معنى «المقام المحمود» «7» .
__________
(1) رواه البخاري- الفتح 2 (614) .
(2) رواه مسلم برقم (384) .
(3) رواه الإمام أحمد في مسنده (3/ 83) ، وصحح الحديث الألباني- انظر صحيح الجامع الصغير برقم (7028) .
(4) رواه الطبراني في الأوسط، وابن أبي شيبة. قال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه الوليد بن عبد الملك الحراني وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مستقيم الحديث إذا روى عن الثقات، قلت: وهذا من روايته عن موسى بن أعين وهو ثقه. مجمع الزوائد (1/ 333) ، وصحح الحديث أيضا الألباني- انظر صحيح الجامع برقم (3531) .
(5) قال السيوطي في الخصائص (2/ 390) : أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرد على الجهمية.
(6) سورة الإسراء آية (79) .
(7) فمن ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم:* أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع. قاله قتادة.* إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة. أورده الماوردي والقرطبي في تفسيرهما.* أنه يكون يوم القيامة بين الجبار جل جلاله وجبريل عليه السلام. قال ابن حجر: أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد ابن أبي هلال أحد صغار التابعين- انظر الفتح (11/ 435) .* ثناؤه على ربه- عز وجل-. انظر في ذلك كله تفسير ابن جرير (15/ 97- 100) ، وتفسير ابن كثير (3/ 58- 59) ، وفتح الباري (11/ 434- 435) . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله بعد ذكر أقوال المفسرين «ويمكن رد الأقوال كلها إلى الشفاعة العامة، فإن إعطاءه لواء الحمد وثناءه على ربه وكلامه بين يديه، وقيامه أقرب من جبريل، كل ذلك صفات للمقام المحمود الذي يشفع فيه ليقضى بين الخلق- انظر فتح الباري (11/ 435) .(1/470)
قال ابن جرير الطّبريّ- رحمه الله-: قال أكثر أهل العلم ذلك هو المقام الّذي يقومه صلّى الله عليه وسلّم يوم القيامة للشّفاعة للنّاس ليريحهم ربّهم من عظيم ما هم فيه من شدّة ذلك اليوم» «1» .
وقال ابن بطّال- رحمه الله-: « ... والجمهور على أنّ المراد بالمقام المحمود الشّفاعة وبالغ الواحدي فنقل فيه الإجماع» «2» .
وقال ابن حجر- رحمه الله- بعد أن ذكر طرفا من أقوال أئمّة التّفسير: «والرّاجح أنّ المراد بالمقام المحمود الشّفاعة» «3» .
- وعن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنهما-: رفعه، في قوله عزّ وجلّ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «4» قال: «يجمع النّاس في صعيد واحد يسمعهم الدّاعي وينفذهم البصر حفاة عراة كما خلقوا سكوتا لا تتكلّم نفس إلّا بإذنه، قال: فينادى: محمّد فأقول لبيّك وسعديك والخير في يديك، والشّرّ ليس إليك، المهديّ من هديت، وعبدك بين يديك، ولك وإليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلّا إليك، تباركت وتعاليت، سبحان ربّ البيت» فذلك المقام المحمود الّذي قال الله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «5» .
- وقال ابن عبّاس- رضي الله عنهما-: «المقام المحمود: مقام الشّفاعة» «6» .
وقد جاء ذكر المقام المحمود في بعض الأحاديث والآثار صريحا بالاسم، وفي بعضها الآخر تلميحا وذلك عند ذكر الشّفاعة العظمى أو غيرها من معاني المقام المحمود الّتي مرّت، وسيأتي اكثرها مفصّلا في مباحث بإذن الله، فممّا جاء صريحا:
- عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما-؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قال حين يسمع النّداء: اللهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامّة والصّلاة القائمة آت محمّدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الّذي وعدته، حلّت له شفاعتي يوم القيامة» «7» .
- وعن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الشّمس تدنو يوم القيامة حتّى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم ثمّ بموسى ثمّ بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، فيشفع ليقضى بين
__________
(1) انظر تفسير ابن جرير (15/ 97) .
(2) نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (11/ 434) .
(3) انظر فتح الباري (11/ 435) .
(4) سورة الإسراء: آية (79) .
(5) رواه الحاكم في المستدرك (2/ 363) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. ورواه ابن جرير في تفسيره (15/ 98) . قال الحافظ ابن حجر: رواه النسائي بإسناد صحيح من حديث حذيفة. انظر الفتح (8/ 251) . وقال الحافظ ابن حجر في موضع آخر « ... ففي النسائي ومصنف عبد الرزاق ومعجم الطبراني من حديث حذيفة رفعه قال: « ... فذكره» إلى أن قال: قال ابن منده في كتاب الإيمان: هذا حديث مجمع على صحة إسناده وثقة رواته- انظر الفتح (11/ 445) .
(6) رواه ابن جرير الطبري- انظر التفسير (15/ 97) . وأورده ابن كثير في تفسيره (3/ 58) وهو قول مجاهد والحسن البصري وغيرهم.
(7) رواه البخاري- الفتح 8 (4719) .(1/471)
الخلق، فيمشي حتّى يأخذ بحلقة الباب فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلّهم» «1» .
- وعن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-؛ قال: «إنّ النّاس يصيرون يوم القيامة جثا «2» . كلّ أمّة تتبع نبيّها يقولون: يا فلان اشفع حتّى تنتهي الشّفاعة إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود» «3» .
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- في قوله تعالى-: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً: سئل عنها، قال: هي الشّفاعة» «4» .
- وعن كعب بن مالك- رضي الله عنه-؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يبعث النّاس يوم القيامة فأكون أنا وأمّتي على تلّ ويكسوني ربّي حلّة خضراء ثمّ يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول فذلك المقام المحمود» «5» .
3- شفاعة عظمى وشفاعات: «6»
يجمع الله- عزّ وجلّ- الأوّلين والآخرين يوم القيامة في صعيد واحد، وتدنو منهم الشّمس وقد تضاعف حرّها وتبدّلت عمّا كانت عليه من خفّة أمرها ويعرق النّاس حتّى يذهب عرقهم في الأرض سبعين باعا ويلجمهم ويبلغ آذانهم «7» في يوم مقداره خمسين ألف سنة، قياما على أقدامهم شاخصة أبصارهم منفطرة قلوبهم لا يكلّمون ولا ينظر في أمورهم. فإذا بلغ الكرب والجهد منهم ما لا طاقة لهم به كلّم بعضهم بعضا في طلب من يكرم على مولاه ليشفع في حقّهم، فلم يتعلّقوا بنبيّ إلّا دفعهم، قال: نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري حتّى ينتهوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينطلق. فيشفع حتّى يقضي الله تبارك وتعالى بين الخلق. وستأتي وقائع ذلك المشهد العظيم مفصّلة في الأحاديث، وبالله التّوفيق.
__________
(1) رواه البخاري- الفتح 3 (1475) .
(2) جثا: أي جماعات جمع جثوة كخطوة وخطا. وتروى هذه اللفظة جثى بتشديد الياء: جمع جاث وهو الذي يجلس على ركبتيه- انظر النهاية لابن الأثير (1/ 239) ، ولسان العرب (14/ 131- 132) ، وفتح الباري (8/ 252) .
(3) رواه البخاري- الفتح 8 (4718) .
(4) رواه الترمذي برقم (3137) وقال: هذا حديث حسن، ورواه الإمام أحمد في مسنده (2/ 444، 478) ، وابن جرير في تفسيره (15/ 98) .
(5) رواه الإمام أحمد في مسنده (3/ 456) وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 51) : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وقال الهيثمي في موضع آخر (10/ 377) : رواه الطبراني في الكبير والأوسط وأحد إسنادي الكبير رجاله رجال الصحيح. ورواه كذلك الحاكم في المستدرك (2/ 363) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(6) الشفاعة: كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره.. وشفع إليه: في معنى طلب إليه. والشافع: الطالب لغيره يتشفع به إلى المطلوب. يقال: تشفعت بفلان إلى فلان فشفعني فيه واسم الطالب شفيع- انظر لسان العرب (8/ 184) . وقال ابن حجر: الاستشفاع طلب الشفاعة وهي انضمام الأدنى إلى الأعلى ليستعين به على ما يرومه- انظر الفتح (11/ 441) . والشفاعة ملك لله عز وجل ولا تسأل إلا منه ولا تكون إلا من بعد إذنه تبارك وتعالى سواء في ذلك شفاعة نبينا صلّى الله عليه وسلّم وشفاعة من دونه، وذلك الإذن يتعلق بالشافع والمشفوع فيه، وبوقت الشفاعة، فليس يشفع إلا من أذن الله له في الشفاعة. وليس له أن يشفع إلا بعد أن يأذن الله له، وليس له أن يشفع إلا فيمن أذن الله تعالى له أن يشفع فيه.
(7) كما صح بذلك الخبر- انظر البخاري- الفتح (11/ 6532) ، ومسلم برقم (2863) .(1/472)
وبعد هذه الشّفاعة يكون له ولغيره شفاعات أخرى سنبيّنها- إن شاء الله تعالى- فهذه هي الشّفاعة العظمى وهي الشّفاعة الأولى لنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، وهي المقام المحمود. قال الحافظ ابن حجر: والمقام المحمود هو الشّفاعة العظمى. الّتي اختصّ بها، وهي إراحة أهل الموقف من أهوال القضاء بينهم، والفراغ من حسابهم «1» .
وقد جاءت الأحاديث النّبويّة مثبتة لهذه الشّفاعة العظمى؛ فمن ذلك:
- عن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ قال: أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلحم. فرفع إليه الذّراع- وكانت تعجبه- فنهش منها نهشة ثمّ قال: أنا سيّد النّاس يوم القيامة، وهل تدرون ممّ ذلك؟ يجمع النّاس- الأوّلين والآخرين- في صعيد واحد- يسمعهم الدّاعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشّمس فيبلغ النّاس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون. فيقول النّاس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربّكم؟ فيقول بعض النّاس لبعض: عليكم بآدم فيأتون آدم عليه السّلام فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّه نهاني عن الشّجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح إنّك أنت أوّل الرّسل إلى أهل الأرض، وقد سمّاك الله عبدا شكورا، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إنّ ربّي عزّ وجلّ قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله. وإنّه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبيّ الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله. وإنّي قد كنت كذبت ثلاث كذبات، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، فضّلك الله برسالته وبكلامه على النّاس. اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله. وإنّي قد قتلت نفسا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلّمت النّاس في المهد صبيّا، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى صلّى الله عليه وسلّم: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله. ولم يذكر ذنبا- نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فيأتون محمّدا صلّى الله عليه وسلّم فيقولون: يا محمّد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى
__________
(1) انظر فتح الباري (3/ 398) .(1/473)
إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق، فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربّي عزّ وجلّ، ثمّ يفتح الله عليّ من محامده وحسن الثّناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي. ثمّ يقال: يا محمّد، ارفع رأسك سل تعطه، واشفع تشفّع. فأرفع رأسي فأقول:
أمّتي «1» يا ربّ، أمّتي يا ربّ، فيقال: يا محمّد، أدخل من أمّتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنّة، وهم شركاء النّاس فيما سوى ذلك من الأبواب. ثمّ قال: والّذي نفسي بيده إنّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنّة كما بين مكّة وحمير، أو كما بين مكّة وبصرى «2» .
- عن أنس- رضي الله عنه-؛ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: يحبس المؤمنون يوم القيامة حتّى يهمّوا»
بذلك فيقولون لو استشفعنا إلى ربّنا فيريحنا من مكاننا، فيأتون آدم فيقولون أنت آدم أبو النّاس، خلقك الله بيده وأسكنك جنّته، وأسجد لك ملائكته، وعلّمك أسماء كلّ شيء، لتشفع لنا عند ربّك حتّى يريحنا من مكاننا هذا، قال: فيقول لست هناكم، قال: ويذكر خطيئته الّتي أصاب أكله من الشّجرة وقد نهي عنها، ولكن ائتوا نوحا أوّل نبيّ بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض، فيأتون نوحا، فيقول لست هناكم، ويذكر خطيئته الّتي أصاب وسؤاله ربّه بغير علم، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرّحمن. قال: فيأتون إبراهيم، فيقول: إنّي لست هناكم، ويذكر ثلاث كذبات كذبهنّ ولكن ائتوا موسى عبدا آتاه الله التّوراة وكلّمه وقرّبه نجيّا، قال فيأتون موسى فيقول إنّي لست هناكم، ويذكر خطيئته الّتي أصاب قتله النّفس، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وروح الله وكلمته، قال: فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمّدا صلّى الله عليه وسلّم عبدا غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر.
فيأتوني فأستأذن على ربّي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقول ارفع محمّد وقل يسمع واشفع تشفّع، وسل تعط، قال: فأرفع رأسي فأثني على ربّي بثناء وتحميد يعلّمنيه، فيحدّ لي حدّا فأخرج فأدخلهم الجنّة. قال قتادة: وسمعته أيضا يقول: فأخرج فأخرجهم من النّار، وأدخلهم الجنّة، ثمّ أعود فأستأذن على ربّي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثمّ يقول: ارفع يا محمّد وقل يسمع واشفع تشفّع وسل تعطه، قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربّي بثناء وتحميد يعلّمنيه. قال: ثمّ أشفع فيحدّ لي حدّا فأخرج فأدخلهم الجنّة. ثمّ أعود الثّالثة فأستأذن على ربّي في داره فيؤذن لي
__________
(1) الشفاعة في أمته وغيرها من الشفاعات تأتي بعد الشفاعة العظمى الأولى وهي إراحة الخلائق من هول الموقف والفصل بين العباد وبعد وضع الصراط والمرور عليه وحساب الناس، فيشفع في تعجيل من لا حساب عليه من أمته إلى الجنة، ثم يشفع فيمن وجب عليه العذاب ودخل منهم النار، ثم فيمن قال لا إله إلا الله- انظر الشفا (1/ 431) ، وشرح النووي على صحيح مسلم (3/ 57، 58) ، والفتح (11/
446) .
(2) رواه البخاري- الفتح 8 (4712) ، ومسلم برقم (194) .
(3) يهموا: هذا لفظ البخاري- ولفظ مسلم (فيهتمون) وفي رواية (فيلهمون) . قال النووي رحمه الله: معنى اللفظتين متقارب فمعنى الأولى أنهم يعتنون بسؤال الشفاعة وزوال الكرب الذي هم فيه، ومعني الثانية أن الله تعالى يلهمهم سؤال ذلك. والإلهام أن يلقي الله تعالى في النفس أمرا يحمل على فعل الشيء أو تركه- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 53) .(1/474)
عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثمّ يقول: ارفع محمّد وقل يسمع واشفع تشفّع، وسل تعطه، قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربّي بثناء وتحميد يعلّمنيه، قال: ثمّ أشفع فيحدّ لي حدّا فأخرج فأدخلهم الجنّة. قال قتادة: وقد سمعته يقول: فأخرج فأخرجهم من النّار وأدخلهم الجنّة حتّى ما يبقى في النّار إلّا من حبسه القرآن، أي وجب عليه الخلود. ثمّ تلا الآية عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «1» . قال: وهذا المقام الّذي وعده نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم «2» .
- وعن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الشّمس تدنو يوم القيامة حتّى يبلغ العرق نصف الأذن فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم ثمّ بموسى «3» ثمّ بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم فيشفع ليقضى بين الخلق فيمشي حتّى يأخذ بحلقة الباب فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلّهم «4» .
هذا، ولرسول الله صلّى الله عليه وسلّم شفاعات أخرى غير الشّفاعة العظمى، منها ما اختصّ بها وحده، ومنها ما شاركه فيها غيره ممّن أذن الله تعالى له من الملائكة المقرّبين والأنبياء والمرسلين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين وغيرهم.
فنسرد شفاعته «5» صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ نقتصر في ذكر الأدلّة على ما اختصّ به منها دون غيره:
1- الشّفاعة في استفتاح باب الجنّة.
2- الشّفاعة في تقديم من لا حساب عليهم في دخول الجنّة.
3- الشّفاعة فيمن استحقّ النّار من الموحّدين أن لا يدخلها.
4- الشّفاعة في إخراج عصاة الموحّدين من النّار.
5- الشّفاعة في رفع درجات ناس في الجنّة.
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: والراجح أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة. لكن الشفاعة التي وردت في الأحاديث المذكورة في المقام المحمود نوعان: الأول العامة في فصل القضاء، والثاني الشفاعة في إخراج المذنبين من النار. ثم ذكر أقوالا أخرى في تفسير المقام المحمود ... إلى أن قال: ويمكن رد الأقوال كلها إلى الشفاعة العامة. فإن إعطاءه لواء الحمد وثناءه على ربه ... كل ذلك صفات للمقام المحمود الذي يشفع فيه ليقضى بين الخلق. وأما شفاعته في إخراج المذنبين من النار فمن توابع ذلك- انظر فتح الباري (11/ 435) .
(2) رواه البخاري- الفتح 13 (7440) ، ومسلم برقم (193) .
(3) قوله (بآدم ثم بموسى) : قال الحافظ ابن حجر: هذا فيه اختصار وسيأتي في الرقاق- أي في كتاب الرقاق- في حديث الشفاعة الطويل ذكر من يقصدونه بين آدم وموسى وبين موسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم- انظر فتح الباري (3/ 397) وقد مر ذلك قريبا.
(4) رواه البخاري- الفتح 3 (1475) .
(5) انظر في ذلك فتح الباري (11/ 436) ، والخصائص الكبرى للسيوطي (2/ 378) .(1/475)
6- الشّفاعة في تخفيف العذاب عن عمّه أبي طالب.
فالّذي اختصّ به صلّى الله عليه وسلّم من هذه الشّفاعات دون غيره هو:
1- شفاعته في استفتاح باب الجنة:
ينتقل النّاس في عرصات القيامة من كرب إلى كرب فأهوال قبل فصل القضاء فشفاعة عظمى ثمّ يحاسب النّاس، وعند ذلك ينصب الميزان، وتطاير الصّحف ويكون التّمييز بين المؤمنين والمنافقين ثمّ يؤذن في نصب الصّراط والمرور عليه ويوقف بعض من نجا عند القنطرة للمقاصصة بينهم، فإذا انتهى ذلك كلّه يقوم المؤمنون وتقرّب لهم الجنّة فيطلبون من يكرم على مولاه ليشفع لهم في استفتاح باب الجنّة، فيأتون آدم فإبراهيم فموسى فعيسى عليهم السّلام وكلّ منهم يعتذر عن هذا المقام العظيم، فيأتون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيشفع لهم إلى الله تبارك وتعالى، على ما ورد تفصيله في الأحاديث.
- فعن أبي هريرة وحذيفة- رضي الله عنهما-؛ قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يجمع الله تبارك وتعالى النّاس.
فيقوم المؤمنون حتّى تزلف «1» لهم الجنّة، فيأتون آدم، فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنّة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنّة إلّا خطيئة أبيكم آدم! لست بصاحب ذلك. اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله. قال: فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك. إنّما كنت خليلا من وراء وراء «2» ، اعمدوا إلى موسى صلّى الله عليه وسلّم الّذي كلّمه الله تكليما، فيأتون موسى صلّى الله عليه وسلّم فيقول: لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه. فيقول عيسى صلّى الله عليه وسلّم: لست بصاحب ذلك، فيأتون محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، فيقوم فيؤذن له. وترسل الأمانة والرّحم «3» فتقومان جنبتي الصّراط «4» يمينا وشمالا. فيمرّ أوّلكم كالبرق؟ قال: قلت بأبي أنت وأمّي! أيّ شيء كمرّ البرق؟ قال: «ألم تروا إلى البرق كيف يمرّ ويرجع في طرفة عين؟
ثمّ كمرّ الرّيح، ثمّ كمرّ الطّير وشدّ الرجال «5» . تجري بهم أعمالهم «6» . ونبيّكم قائم على الصّراط يقول: ربّ سلّم سلّم. حتّى تعجز أعمال العباد حتّى يجيء الرّجل فلا يستطيع السّير إلّا زحفا. قال وفي حافّتي الصّراط «7» كلاليب
__________
(1) تزلف: أي تقرب- كما قال الله تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ* أي قريب.
(2) من وراء وراء: قال النووي: قال صاحب التحرير: هذه كلمة تذكر على سبيل التواضع أي لست بتلك الدرجة الرفيعة- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 71) .
(3) وترسل الأمانة والرحم: إرسال الأمانة والرحم لعظم أمرهما وكبير موقعهما، فتصوران مشخصتين على الصفة التي يريدها الله تعالى.
(4) جنبتي الصراط: معناهما جانباه. ناحيتاه اليمنى واليسرى.
(5) وشد الرجال: الشد هو العدو البالغ والجري.
(6) تجري بهم أعمالهم: هو تفسير لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فيمر أولكم كالبرق ثم كمر الريح» إلى آخره.
(7) حافتي الصراط: هما جانباه.(1/476)
معلّقة مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج ومكدوس «1» في النّار» . والّذي نفس أبي هريرة بيده! إنّ قعر جهنّم لسبعون خريفا» «2» .
- وعن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما يزال الرّجل يسأل النّاس حتّى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم، وقال: إنّ الشّمس تدنو يوم القيامة حتّى يبلغ العرق نصف الأذن فبينا هم كذلك، استغاثوا بآدم ثمّ بموسى، ثمّ بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، فيشفع ليقضى بين الخلق فيمشي حتّى يأخذ بحلقة الباب فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلّهم» «3» .
ففي هذا الحديث الجمع بين ذكر الشّفاعتين الأولى في فصل القضاء والثّانية في استفتاح باب الجنّة وسمّي ذلك كلّه «المقام المحمود» «4» .
- وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «آتي باب الجنّة يوم القيامة، فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمّد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك» «5» .
2- شفاعته في تقديم من لا حساب عليهم في دخول الجنة:
وممّا اختصّ به رسولنا صلّى الله عليه وسلّم من الشّفاعات أنّه يشفع في تعجيل دخول الجنّة لمن لا حساب عليهم من أمّته.
وهذا من عظيم قدره صلّى الله عليه وسلّم ورفعة منزلته عند ربّه تبارك وتعالى.
وقد جاءت الأحاديث النّبويّة تنصّ على هذه الشّفاعة:
- ففي حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- الطّويل في الشّفاعة: « ... يا محمّد ارفع رأسك سل تعطه، واشفع تشفّع، فأرفع رأسي فأقول: أمّتي يا ربّ، أمّتي يا ربّ، فيقول: يا محمّد، أدخل من أمّتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنّة، وهم شركاء النّاس فيما سوى ذلك من الأبواب» «6» .
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «سألت ربّي عزّ وجلّ فوعدني أن يدخل من أمّتي سبعين ألفا على صورة القمر ليلة البدر، فاستزدت فزادني مع كلّ ألف سبعين ألفا، فقلت أي ربّ، إن لم
__________
(1) ومكدوس: قال في النهاية: أي مدفوع. وتكدّس الإنسان إذا دفع من ورائه فسقط. انظر النهاية (4/ 155) .
(2) رواه مسلم برقم (195) .
(3) رواه البخاري- الفتح 3 (1474) .
(4) انظر كتاب معارج القبول للشيخ حافظ حكمي (2/ 314) .
(5) رواه مسلم برقم (197) .
(6) رواه البخاري- الفتح 8 (4712) ، ومسلم برقم (194) .(1/477)
يكن هؤلاء مهاجري أمّتي. قال: إذن أكملهم لك من الأعراب» «1» .
- وعن أبي أمامة- رضي الله عنه-؛ قال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله عزّ وجلّ وعدني أن يدخل من أمّتي الجنّة سبعين ألفا بغير حساب. فقال يزيد بن الأخنس السّلميّ: والله ما أولئك إلّا كالذّباب الأصهب في الذبّان. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كان ربّي عزّ وجلّ قد وعدني سبعين ألفا مع كلّ ألف سبعون ألفا وزادني ثلاث حثيات ... » «2» .
3- شفاعته في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب:
كان أبو طالب يحوط ابن أخيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وينصره ويقوم في صفّه ويبالغ في إكرامه والذّبّ عنه، ويحبّه حبّا شديدا طبعيّا لا شرعيّا، فلمّا حضرته الوفاة وحان أجله دعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الإيمان والدّخول في الإسلام، فسبق القدر فيه فاستمرّ على ما كان عليه من الكفر ولله الحكمة البالغة. ونظرا لما قام به من أعمال جليلة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جوزي على ذلك بتخفيف العذاب خصوصيّة له من عموم الكفّار الّذين لا تنفعهم شفاعة الشّافعين.
وذلك إكراما وتطييبا لقلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
- قال الحافظ ابن حجر ما معناه: الشّفاعة لأبي طالب معدودة في خصائص النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «3» .
وقد وردت الأحاديث تنصّ على هذه الشّفاعة:
- فعن العبّاس بن عبد المطّلب- رضي الله عنه-؛ أنّه قال: يا رسول الله، هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنّه كان يحوطك «4» ويغضب لك؟ قال: «نعم، هو في ضحضاح «5» من نار، ولولا أنا لكان في الدّرك «6» الأسفل من النّار» «7» .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده (2/ 359) ، قال الحافظ ابن حجر: وسنده جيد- انظر فتح الباري (11/ 418) ، وقال الحافظ الهيثمي: رواه الإمام أحمد ورجاله رجال الصحيح- انظر مجمع الزوائد (10/ 404) .
(2) رواه الترمذي مختصرا برقم (2437) وقال: هذا حديث حسن غريب، ورواه ابن ماجة مختصرا برقم (4286) . ورواه الإمام أحمد في مسنده. وهذا قطعة منه (5/ 250) . قال الحافظ ابن كثير: إسناده حسن- انظر تفسير ابن كثير (1/ 402) . وقال الحافظ الهيثمي عن الحديث: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وعند الترمذي وابن ماجه بعضه- انظر مجمع الزوائد (10/ 362، 363) .
(3) انظر فتح الباري (11/ 439) .
(4) يحوطك: قال أهل اللغة: يقال حاطه يحوطه حوطا وحياطة، إذا صانه وحفظه وذب عنه وتوفر على مصالحه- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 84) .
(5) ضحضاح: ما رق من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين، واستعير في النار- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 84) .
(6) الدرك: بفتح الراء وإسكانها لغتان فصيحتان. والدرك الأسفل: قعر جهنم وأقصى أسفلها. ولجهنم أدراك فكل طبقة من أطباقها تسمى دركا- انظر شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 85) وعزا ذلك المعنى إلى جماهير المفسرين وأهل اللغة والمعاني والغريب.
(7) رواه مسلم برقم (209) .(1/478)
- وعنه- رضي الله عنه-؛ قال: قلت: يا رسول الله، إنّ أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذلك؟
قال: «نعم، وجدته في غمرات «1» من النّار فأخرجته إلى ضحضاح «2» » .
- وعن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه-؛ أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذكر عنده عمّه أبو طالب فقال: لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة. فيجعل في ضحضاح من النّار يبلغ كعبيه يغلي منه أمّ دماغه» «3» .
- وعن ابن عبّاس- رضي الله عنهما-؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أهون أهل النّار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه» «4» .
4- دعوة مستجابة:
أعطى الله- تبارك وتعالى- كلّ نبيّ من الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام دعوة أعلمهم أنّها تستجاب لهم ويبلغ فيها مرغوبهم، وإلّا فكم لكلّ نبيّ منهم من دعوة مستجابة ولنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم منها ما لا يعدّ، لكنّ حالهم عند الدّعاء بها بين الرّجاء والخوف، وضمنت لهم إجابة دعوة فيما شاؤوا يدعون بها على يقين من الإجابة. فنالها كلّ نبيّ من الأنبياء في الدّنيا. وأمّا نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم فادّخرها شفاعة لأمّته يوم الفاقة وخاتمة المحن وعظيم السّؤال والرّغبة، فجزاه الله أحسن ما جزى نبيّا عن أمّته.
وما فعله صلّى الله عليه وسلّم فهو من كمال شفقته على أمّته ورأفته بهم واعتنائه بالنّظر في مصالحهم «5» .
لأنّه جعل الدّعوة فيما ينبغي وجعلها للمذنبين من أمّته لكونهم أحوج إليها من الطّائعين «6» فهذه الدّعوة المدّخرة لنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم لا يشاركه فيها غيره من الأنبياء عليهم السّلام. والّذي يبدو أنّ هذه الدّعوة المستجابة هي الشّفاعة المعطاة لنبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم على ما سبق تفصيله في المبحث الماضي. غير أنّنا نورد بعض الأحاديث الّتي تسند هذا المعنى.
- فعن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لكلّ نبيّ دعوة مستجابة. فتعجّل كلّ نبيّ دعوته. وإنّي اختبأت دعوتي شفاعة لأمّتي يوم القيامة، فهي نائلة، إن شاء الله، من مات من أمّتي لا يشرك بالله شيئا» » .
__________
(1) غمرات: فتح الغين والميم واحدتها غمرة بإسكان الميم وهي المعظم من الشيء. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 84) .
(2) رواه مسلم برقم (210/ 358) .
(3) رواه البخاري- الفتح 11 (6564) واللفظ له، ورواه مسلم برقم (210) .
(4) رواه مسلم برقم (212) .
(5) قاله النووي- انظر شرحه على صحيح مسلم (3/ 75) . ونقله عنه أيضا ابن حجر في فتح الباري (11/ 100) .
(6) قاله ابن الجوزي- انظر فتح الباري (11/ 100) .
(7) رواه البخاري- انظر الفتح 11 (6304) ، ومسلم برقم (199) واللفظ له.(1/479)
- وعن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما-؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عام غزوة تبوك، قام من اللّيل يصلّي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتّى إذا صلّى انصرف إليهم فقال لهم: «لقد أعطيت اللّيلة خمسا ما أعطيهنّ أحد قبلي ... » وفيه: «قيل لي سل فإنّ كلّ نبيّ قد سأل فأخّرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلّا الله» «1» .
النوع الثالث: ما اختص به صلّى الله عليه وسلّم في أمته في الدنيا:
فضّل الله- عزّ وجلّ- هذه الأمّة على سائر الأمم واختصّها بكرامات كثيرة في الدّنيا ليست لغيرها وذلك إكراما وتشريفا لنبيّها صلّى الله عليه وسلّم سيّد الأوّلين والآخرين. وإنّما نالت هذه الأمّة ما نالته من تكريم وتشريف باتّباعها لرسولها محمّد صلّى الله عليه وسلّم والسّير على سنّته والعمل بشريعته.
ومن هذه الخصائص، أنّها خير الأمم، وأحلّت لها الغنائم، وجعلت لها الأرض مسجدا وطهورا، وصفوفها في الصّلاة كصفوف الملائكة. إلى غير ذلك ممّا سيأتي معنا بإذن الله.
خير الأمم: «2»
شرّف- الله تعالى- هذه الأمّة ورفع ذكرها واصطفاها على غيرها فجعلها خير الأمم وأكرمها عليه، فقال عزّ من قائل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ «3» . وإنّما حازت هذه الأمّة قصب السّبق إلى الخيرات بنبيّها محمّد صلوات الله وسلامه عليه، فإنّه أشرف خلق الله، وأكرم الرّسل على الله، بعثه الله بشرع كامل عظيم لم يعطه نبيّ قبله ولا رسول من الرّسل، فالعمل على منهاجه وسبيله يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه. وقد وردت الآيات والأحاديث والآثار تؤيّد هذا المعنى:
- قال الله تعالى: هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «4» .
- وقال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «5» .
- عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه؛ أنّه سمع النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. قال: «إنّكم تتمّون سبعين أمّة أنتم خيرها وأكرمها على الله» «6» .
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) انظر الخصائص للسيوطي (2/ 361) .
(3) سورة آل عمران: آية رقم (110) .
(4) سورة الحج: آية رقم (78) .
(5) سورة البقرة: آية رقم (143) .
(6) رواه الترمذي برقم (3001) وقال: حديث حسن. ورواه الإمام أحمد في مسنده (5/ ص 3) . وابن ماجه برقم (4288) ، والحاكم في المستدرك (4/ 84) وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. قال الحافظ ابن كثير: وهو حديث مشهور. انظر تفسير ابن كثير (1/ 399) .(1/480)
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه-: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «فضّلت على الأنبياء بستّ لم يعطهنّ أحد كان قبلي ... وفيه «وجعلت أمّتي خير الأمم ... » «1» .
- عن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء، فقلنا: يا رسول الله ما هو؟ قال: نصرت بالرّعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسمّيت أحمد، وجعل التّراب لي طهورا، وجعلت أمّتي خير الأمم» «2» .
- وعن أبي الدّرداء- رضي الله عنه- قال: سمعت أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم، يقول: «إنّ الله عزّ وجلّ يقول: يا عيسى إنّي باعث من بعدك أمّة إن أصابهم ما يحبّون حمدوا الله وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم. قال: يا ربّ، كيف هذا لهم ولا حلم ولا علم، قال: أعطيهم من حلمي وعلمي» «3» .
ومن الآثار:
- قال قتادة في قوله تعالى: أَخَذَ الْأَلْواحَ «4» قال «5» : «ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة خير أمّة أخرجت للنّاس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر اجعلهم أمّتي. قال: تلك أمّة أحمد. قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة هم الآخرون أي الآخرون في الخلق سابقون في دخول الجنّة ربّ اجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد. قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة أنا جيلهم في صدورهم يقرءونها وكان من قبلهم يقرءون كتابهم نظرا حتّى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعرفوه وإنّ الله أعطاهم من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا من الأمم، قال: ربّ اجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد. قال ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة يؤمنون بالكتاب الأوّل وبالكتاب الآخر ويقاتلون الضّلالة حتّى يقاتلون الأعور الكذّاب، فاجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد، قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة صدقاتهم يأكلونها في
__________
(1) قال الحافظ الهيثمي: رواه البزار وإسناده جيد، انظر مجمع الزوائد (8/ 269) ، وجوّد إسناده كذلك الحافظ السيوطي في الخصائص الكبرى (2/ 336) .
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده (1/ 98) ، وقال الحافظ ابن كثير: تفرد به أحمد من هذا الوجه وإسناده حسن. انظر تفسير ابن كثير (1/ 400) ، وقال الحافظ ابن حجر: اسناده حسن. انظر فتح الباري (1/ 522) ، وحسن الحديث كذلك الحافظ الهيثمي. انظر مجمع الزوائد (1/ 261) .
(3) رواه الإمام أحمد في مسنده (6/ 450) . وقال الحافظ الهيثمي: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال أحمد رجال الصحيح غير الحسن بن سوار وأبي حلبس يزيد بن ميسرة وهما ثقتان. انظر مجمع الزوائد (10/ 68، 67) . وحسّن إسناده كذلك شعيب وعبد القادر الأرنؤوط. انظر تعليقهما على كتاب زاد المعاد (1/ 46) .
(4) الآية الكريمة من سورة الأعراف رقم (154) وتكملتها: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ.
(5) أي موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.(1/481)
بطونهم يؤجرون عليها وكان من قبلهم إذا تصدّق بصدقة فقبلت منه بعث الله نارا فأكلتها وإن ردّت عليه تركت فتأكلها السّباع والطّير وإنّ الله أخذ صدقاتهم من غنيّهم لفقيرهم، قال: ربّ فاجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد.
قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة إذا همّ أحدهم بحسنة ثمّ لم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة، ربّ اجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد، قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة هم المشفوعون والمشفوع لهم فاجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد. قال قتادة فذكر لنا أنّ نبيّ الله موسى نبذ الألواح وقال: اللهمّ اجعلني من أمّة أحمد» «1» .
- وعن الرّبيع بن خثيم- رحمه الله-؛ قال: «لم تكن أمّة أكثر استجابة في الإسلام من هذه الأمّة فمن ثمّ قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «2» » «3» .
حل الغنائم:
كانت الأمم فيمن قبلنا على ضربين «4» فمنهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم تكن لهم غنائم، ومنهم من أذن له فيه فكانوا يغزون ويجاهدون ويأخذون أموال أعدائهم وأسلابهم، لكن لا يتصرّفون فيها بل يجمعونها، وعلامة قبول غزوهم ذلك أن تنزل النّار من السّماء فتأكلها، وعلامة عدم قبوله أن لا تنزل، ومن أسباب عدم القبول أن يقع فيهم الغلول، وقد منّ الله تعالى على هذه الأمّة ورحمها وجبر عجزها وضعفها لشرف نبيّها عنده، فأحلّ لهم الغنائم وستر عليهم الغلول، فطوى عنهم فضيحة أمر عدم القبول، فلله الحمد على نعمه تترى وآلائه لا تحصى.
- قال الله تعالى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ* فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «5» .
قال جمهور المفسّرين: إنّ المراد في قوله تعالى لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ: يعني في أمّ الكتاب الأوّل، إنّ الغنائم حلال لهذه الأمّة «6» .
وهذه جملة من الأحاديث النّبويّة تنصّ على هذه الخصوصيّة:
- عن جابر- رضي الله عنه-؛ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلي؛ نصرت بالرّعب
__________
(1) الأثر أخرجه ابن جرير في التفسير (9/ 45) ، وأورده ابن كثير في تفسيره (2/ 259) .
(2) السورة آل عمران: آية (110) .
(3) لأثر رواه ابن جرير في التفسير (4/ 30) ، قال السيوطي في الخصائص: أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب. انظر الخصائص (2/ 362) .
(4) هذا التقسيم قاله الإمام الخطابي. انظر فتح الباري (1/ 522) .
(5) سورة الأنفال: آية رقم (68، 69) .
(6) انظر تفسير ابن جرير (10/ 32، 33) ، وتفسير ابن كثير (2/ 339) .(1/482)
مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيّما رجل من أمّتي أدركته الصّلاة فليصلّ، وأحلّت لي المغانم، ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشّفاعة، وكان النّبيّ يبعث إلى قومه خاصّة، وبعثت إلى النّاس عامّة» «1» .
- عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «غزا نبيّ من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع «2» امرأة، وهو يريد أن يبني بها، ولمّا يبن. ولا آخر قد بنى بنيانا، ولمّا يرفع سقفها. ولا آخر قد اشترى غنما أو خلفات «3» ، وهو منتظر ولادها «4» : قال: فغزا. فأدنى للقرية حين صلاة العصر أو قريبا من ذلك، فقال للشّمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهمّ احبسها عليّ شيئا «5» ، فحبست عليه حتّى فتح الله عليه. قال: فجمعوا ما غنموا. فأقبلت النّار «6» لتأكله. فأبت أن تطعمه. فقال: فيكم غلول. فليبايعني من كلّ قبيلة رجل. فبايعوه. فلصقت يد رجل بيده. فقال: فيكم الغلول. فلتبايعني قبيلتك. فبايعته. قال: فلصقت بيد رجلين أو ثلاثة. فقال: فيكم الغلول. أنتم غللتم. قال: فأخرجوا له مثل رأس بقرة «7» من ذهب. قال: فوضعوه في المال وهو بالصّعيد «8» . فأقبلت النّار فأكلته. فلم تحلّ الغنائم لأحد من قبلنا. ذلك بأنّ الله تبارك وتعالى رأى ضعفنا وعجزنا «9» ، فطيّبها «10» لنا» «11» .
- عن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لم تحلّ الغنائم لأحد سود «12» الرّءوس من قبلكم، كانت تنزل نار من السّماء فتأكلها، قال سليمان الأعمش «13» : فمن يقول هذا إلّا أبو هريرة الآن، فلمّا كان يوم بدر وقعوا في الغنائم قبل أن تحلّ لهم، فأنزل الله تعالى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «14» .1» .
- عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما-؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- عام غزوة تبوك- قام من اللّيل يصلّي
__________
(1) رواه البخاري واللفظ له. انظر فتح الباري 1 (335) ورواه مسلم برقم (521) .
(2) بضع بضم الباء: هو فرج المرأة. أي ملك فرجها بالنكاح.
(3) خلفات: جمع خلفة ككلمة وكلمات. وهي الحامل من الإبل.
(4) ولادها: أي نتاجها. وقال النووي: وفي هذا الحديث أن الأمور المهمة ينبغي أن لا تفوض إلا إلى أولي الحزم وفراغ البال لها. ولا تفوض إلى متعلق القلب بغيرها. لأن ذلك يضعف عزمه، ويفوت كمال بذله وسعيه.
(5) اللهم احبسها: قال القاضي: اختلف في حبس الشمس المذكور هنا. فقيل: ردت على أدراجها. وقيل: وقفت ولم ترد. وقيل أبطيء بحركتها.
(6) فأقبلت النار: أي من جانب السماء لتأكله، كما هو السنة في الأمم الماضية، لغنائمهم وقرابينهم المتقبلة.
(7) فأخرجو له مثل رأس بقرة: أي كقدره أو كصورته من ذهب كانوا غلوه أو أخفوه.
(8) بالصعيد: يعني وجه الأرض.
(9) قوله « ... رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا» : كما في رواية البخاري قال الحافظ ابن حجر: « ... وفيه اختصاص هذه الأمة بحل الغنيمة. وكان ابتداء ذلك من غزوة بدر ... » . انظر فتح الباري (6/ 258) .
(10) فطيبها: أي جعلها لنا حلالا بحتا، ورفع عنا محقها بالنار تكرمة لنا.
(11) رواه البخاري. انظر الفتح (6/ 3124) ، ورواه مسلم برقم (1747) . واللفظ له.
(12) سود الرءوس: المراد بهم بنو آدم لأن رءوسهم سود.
(13) سليمان الأعمش: أحد رواة الحديث وهو أحد الأئمة الحفاظ.
(14) سورة الأنفال: آية رقم (68) .
(15) رواه الترمذي برقم (3085) وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه الإمام أحمد في مسنده (2/ 252) وصححه كذلك الألباني. انظر صحيح الجامع برقم (5072) .(1/483)
فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتّى إذا صلّى، انصرف إليهم فقال لهم: «لقد أعطيت اللّيلة خمسا ما أعطيهنّ أحد قبلي ... » وفيه «وأحلّت لي الغنائم آكلها وكان من قبلي يعظمون أكلها كانوا يحرقونها» «1» .
الأرض مسجدا وطهورا:
اختصّ الله تبارك وتعالى هذه الأمّة من بين سائر الأمم فجعل لها الأرض مسجدا وطهورا فأيّما رجل منها أدركته الصّلاة فلم يجد ماء ولا مسجدا فعنده طهوره ومسجده يتيمّم ويصلّي بخلاف الأمم قبلنا فإنّ الصّلاة أبيحت لهم في أماكن مخصوصة كالبيع والصّوامع.
وقد وردت الأحاديث تبيّن هذا المعنى:
- عن جابر- رضي الله عنه-؛ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلي؛ نصرت بالرّعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيّما رجل من أمّتي أدركته الصّلاة فليصلّ، وأحلّت لي المغانم، ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشّفاعة، وكان النّبيّ يبعث إلى قومه خاصّة، وبعثت إلى النّاس عامّة» «2» .
- عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- عام غزوة تبوك- قام من اللّيل يصلّي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتّى إذا صلّى، انصرف إليهم فقال لهم: «لقد أعطيت اللّيلة خمسا ما أعطيهنّ أحد قبلي ... » وفيه «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصّلاة تمسّحت وصلّيت وكان من قبلي يعظّمون ذلك إنّما كانوا يصلّون في كنائسهم وبيعهم» «3» .
- عن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء، فقلنا: يا رسول الله ما هو؟ قال: نصرت بالرّعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسمّيت أحمد، وجعل التّراب لي طهورا، وجعلت أمّتي خير الأمم» «4» .
آصار «5» وأغلال «6» موضوعة:
من رحمة الله تعالى وكرمه بهذه الأمّة المحمّديّة أن وضع عنها الآصار والأغلال الّتي كانت على الأمم قبلها،
__________
(1) تقدم كاملا مع تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) مر الحديث كاملا مخرجا.
(4) تقدم تخريجه.
(5) الآصار: الإصر: العهد الثقيل. انظر لسان العرب (4/ 22، 23) .
(6) الأغلال: الغل: جامعة توضع في العنق أو اليد، يقال: في رقبته غل حديد، والمراد به هنا الأثقال. انظر لسان العرب (11/ 504) ، وتفسير القرطبي (7/ 300) .(1/484)
فأحلّ لها كثيرا ممّا حرّم على غيرها، ولم يجعل عليها من عنت وشدّة كما قال تعالى: هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1» . وقال تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ «2» ، وقال تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «3» . فشريعته صلّى الله عليه وسلّم أكمل الشّرائع وأسهلها وأيسرها، قال صلوات الله وسلامه عليه: « ... إنّي أرسلت بحنيفيّة سمحة» «4» . وقال لمعاذ وأبي موسى- رضي الله عنهما- حين بعثهما إلى اليمن: «يسّرا ولا تعسّرا وبشّرا ولا تنفّرا ... » «5» . وهذه بعض الأحاديث المختارة الّتي تشير إلى اختصاص أمّة الإسلام بوضع الآصار والأغلال عنها:
- فعن حذيفة- رضي الله عنه- قال: غاب عنّا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يخرج حتّى ظننّا أنّه لن يخرج فلمّا خرج سجد سجدة حتّى ظننّا أنّ نفسه قد قبضت فيها، فلمّا رفع رأسه قال: «إنّ ربّي تبارك وتعالى استشارني في أمّتي ماذا أفعل بهم فقلت ما شئت أي ربّ هم خلقك وعبادك فاستشارني الثّانية فقلت له كذلك فقال لا نخزيك في أمّتك يا محمّد، وبشّرني أنّ أوّل من يدخل الجنّة من أمّتي سبعون ألفا مع كلّ ألف سبعون ألفا ليس عليهم حساب ثمّ أرسل إليّ فقال: ادع تجب وسل تعطه. فقلت لرسوله: أو معطيّ ربّي سؤلي؟ فقال ما أرسلني إليك إلّا ليعطيك.
ولقد أعطاني ربّي عزّ وجلّ ولا فخر ... وفيه «وأحلّ لنا كثيرا ممّا شدّد على من قبلنا ولم يجعل علينا من حرج» «6» .
- وعن أبي موسى الأشعريّ- رضي الله عنه- قال: كنت مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأراد أن يبول فقام إلى دمث «7» حائط هناك وقال: «إنّ بني إسرائيل كان إذا أصاب أحدهم البول قرضه بالمقراض فإذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد بوله» «8» .
- وعن أنس- رضي الله عنه- أنّ اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم، لم يؤاكلوها ولم يجامعوهنّ في البيوت «9» .
__________
(1) سورة الحج: آية رقم (78) .
(2) سورة المائدة: آية رقم (6) .
(3) سورة البقرة: آية رقم (185) .
(4) رواه الإمام أحمد في مسنده (6/ 116، 233) بلفظ «.. يومئذ لتعلم اليهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفة سمحة» قال الألباني: سنده جيد. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (1829) .
(5) رواه البخاري في مواضع. انظر الفتح 6 (3038) ، ورواه مسلم برقم (1733) .
(6) الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده (5/ 393) . قال الحافظ الهيثمي: رواه أحمد وإسناده حسن. انظر مجمع الزوائد (10/ 68، 69) .
(7) الدمث: هو الأرض السهلة الرخوة، والرمل الذي ليس بمتلبد. يقال: دمث المكان دمثا إذا لان وسهل. انظر النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (2/ 132) .
(8) رواه الإمام أحمد في مسنده بمعناه (5/ 402) ، ورواه الحاكم واللفظ له. وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي (3/ 466) .
(9) ولم يجامعوهن في البيوت: أي لم يخالطوهن ولم يساكنوهن في بيت واحد.(1/485)
فسأل أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فأنزل الله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ «1» . «2» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «اصنعوا كلّ شيء إلّا النّكاح» فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرّجل أن يدع من أمرنا شيئا إلّا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعبّاد بن بشر فقالا: يا رسول الله إنّ اليهود تقول كذا وكذا.
فلا نجامعهنّ؟ فتغيّر وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى ظننّا أن قد وجد عليهما «3» . فخرجا فاستقبلهما هديّة من لبن إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فأرسل في آثارهما. فسقاهما. فعرفا أن لم يجد عليهما» «4» .
- وعن عائشة- رضي الله عنها-؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ على أصحاب الدّركلة «5» . فقال: «خذوا يا بني أرفدة «6» حتّى تعلم اليهود والنّصارى أنّ في ديننا فسحة» «7» .
وأمّا الآثار:
- عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: كان في بني إسرائيل القصاص في القتلى ولم يكن فيهم الدّية فقال الله تعالى لهذه الأمّة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى.. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ «8» فالعفو أن يقبل الدّية في العمد ذلك تخفيف من ربّكم ورحمة ممّا كتب على من كان قبلكم «9» .
- وفي حديث الفتون الطّويل عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما-؛ في قوله تعالى: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً «10» فيه
__________
(1) المحيض: المحيض الأول المراد به الدم. والثاني قد اختلف فيه: قيل: إنه الحيض ونفس الدم. وقال بعض العلماء: هو الفرج. وقال الآخرون: هو زمن الحيض.
(2) سورة البقرة: آية رقم (222) .
(3) قد وجد عليهما: أي غضب عليهما. ولم يجد عليهما: أي لم يغضب عليهما.
(4) رواه مسلم برقم (302) .
(5) الدركلة: قال ابن الأثير رحمه الله: يروى بكسر الدال وفتح الراء وسكون الكاف، ويروى بكسر الدال وسكون الراء وكسر الكاف وفتحها، ويروى بالقاف عوض الكاف وهي ضرب من لعب الصبيان، وقال ابن دريد: أحسبها حبشية. انظر النهاية لابن الأثير (2/ 114) .
(6) بني أرفدة: قال ابن الأثير رحمه الله: هو لقب لهم وقيل هو اسم أبيهم الأقدم يعرفون به، وفاؤه مكسورة وقد تفتح. انظر النهاية لابن الأثير (2/ 242) .
(7) رواه الإمام أحمد في مسنده (6/ 116، 233) بلفظ «.. يومئذ لتعلم اليهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفة سمحة» قال الألباني: سنده جيد. كما سبق. وقال الألباني عن هذا اللفظ: أخرجه أبو عبيد في غريب الحديث (102/ 2) ، والحارث بن أبي أسامة في مسنده (212- زوائد) ، والديلمي (2/ 110) ، والحميدي (259) . ثم قال الألباني: فالحديث بمجموع هذه الطرق صحيح بلا ريب. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (1829) ، وصحيح الجامع الصغير برقم (3214) .
(8) سورة البقرة: آية رقم (178) .
(9) الأثر رواه البخاري. انظر الفتح 12 (6881) . ورواه ابن جرير واللفظ له- انظر تفسير ابن جرير (2/ 65) .
(10) سورة طه: آية رقم (40) .(1/486)
أنّ موسى عليه السّلام قال: يا ربّ سألتك التّوبة لقومي فقلت إنّ رحمتي كتبتها لقوم غير قومي هلّا أخّرتني حتّى تخرجني في أمّة ذلك الرّجل المرحومة فقال له: إنّ توبتهم أن يقتل كلّ رجل منهم من لقي من والد وولد بالسّيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن وتاب أولئك الّذين كان خفي على موسى وهارون واطّلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا وغفر الله للقاتل والمقتول ثمّ سار بهم موسى عليه السّلام متوجّها نحو الأرض المقدّسة «1» .
ويوضّح الشّاهد من هذا الأثر أثر ابن مسعود الآتي:
- عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-: قال: كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح قد كتب كفّارة ذلك الذّنب على بابه وإذا أصاب البول شيئا منه قرضه بالمقراض فقال رجل: لقد آتى الله بني إسرائيل خيرا فقال عبد الله ما آتاكم الله خير ممّا آتاهم جعل الله الماء لكم طهورا وقال: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ «2» وقال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
«3» مَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً «4» .
- وقال القاضي أبو بكر بن العربيّ المالكي «5» - رحمه الله-: كان من قبلنا من الأمم صومهم الإمساك عن الكلام مع الطّعام والشّراب، فكانوا في حرج، فأرخص الله لهذه الأمّة بحذف نصف زمانها، وهو اللّيل، وحذف نصف صومها، وهو الإمساك عن الكلام ورخّص لها فيه «6» .
يوم الجمعة:»
اختصّت الأمّة المحمّديّة بخصائص كثيرة في الدّنيا لم تعطها غيرها من الأمم. ومن ذلك يوم الجمعة سيّد الأيام خير يوم طلعت فيه الشّمس، فيه خلق آدم عليه السّلام، وفيه أدخل الجنّة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير عن حديث الفتون الطويل: رواه النسائي في السنن الكبرى، وأخرجه ابن جرير، وابن حاتم في تفسيريهما ... وهو موقوف من كلام ابن عباس وليس فيه مرفوع إلا قليل منه. انظر تفسير ابن كثير (3/ 160، 161) .
(2) سورة آل عمران: آية رقم (135) .
(3) سورة النساء: آية رقم (110) .
(4) الأثر أخرجه ابن جرير في تفسيره (5/ 175) وأورده ابن كثير في تفسيره (1/ 565، 566) .
(5) انظر كتابه عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي (3/ 229) .
(6) أورد الحافظ ابن كثير في تفسيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله تعالى- حكاية عن مريم عليها السلام-: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً قال صمتا، قال ابن كثير: وكذا قال ابن عباس- رضي الله عنهما- والضحاك، وفي رواية عن أنس- رضي الله عنه-: صوما وصمتا. وكذا قال قتادة وغيرهما. والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام. نص على ذلك السدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد. انظر تفسير ابن كثير (3/ 124) ، وكذلك تفسير ابن جرير (16/ 56) . وتفسير القرطبي (11/ 98) .
(7) انظر الخصائص للسيوطي (2/ 353) .(1/487)
السّاعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيرا إلّا أعطاه ما سأل، وفيه صلاة الجمعة الّتي أمر الله بالسّعي إليها في كتابه العزيز، فقال عزّ من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ «1» .
فهذا اليوم المبارك اختلفت فيه الأمم من قبلنا فهدانا الله له وأضلّ النّاس عنه فهو لنا. ولليهود السّبت.
وللنّصارى يوم الأحد. كما نطقت بذلك الأحاديث النّبويّة الكثيرة ومنها:
- عن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «نحن الآخرون السّابقون يوم القيامة، بيد أنّهم «2» أوتوا الكتاب من قبلنا، ثمّ هذا يومهم الّذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله، فالنّاس لنا فيه تبع:
اليهود غدا، والنّصارى بعد غد» «3» .
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير يوم طلعت فيه الشّمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم السّاعة، وما من دابّة إلّا وهي مسيخة «4» يوم الجمعة من حين تصبح حتّى تطلع الشّمس شفقا من السّاعة، إلّا الجنّ والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلّي يسأل الله حاجة إلّا أعطاه إيّاها» قال كعب: ذلك في كلّ سنة يوم؟ فقلت: بل في كلّ جمعة، قال: فقرأ كعب التّوراة، فقال: صدق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال أبو هريرة: ثمّ لقيت عبد الله بن سلام فحدّثته بمجلسي مع كعب فقال عبد الله بن سلام: قد علمت أيّة ساعة هي؟ قال أبو هريرة: فقلت له:
فأخبرني بها فقال عبد الله بن سلام: هي آخر ساعة من يوم الجمعة، فقلت: كيف هي آخر ساعة من يوم الجمعة، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلّي» وتلك السّاعة لا يصلّى فيها؟ فقال عبد الله بن سلام: ألم يقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من جلس مجلسا ينتظر الصّلاة فهو في صلاة حتّى يصلّي» ؟ قال:
فقلت: بلى، قال: هو ذاك» «5» .
__________
(1) سورة الجمعة: آية رقم (9) .
(2) بيد أن: قال النووي: قال أبو عبيد: لفظة بيد تكون بمعنى غير وبمعنى على وبمعني من أجل. وقال النووي: وكله صحيح هنا. انظر شرح مسلم للنووي (6/ 143) .
(3) رواه البخاري. انظر فتح الباري 2 (876) ورواه مسلم برقم (855) .
(4) مسيخة: ويروى مصيخة بالصاد، وهما لغتان، أي منتظرة لقيام الساعة. قال الخطابي: وقوله مسيخة معناه مصغية مستمعة. يقال: أصاخ وأساخ بمعنى واحد. انظر عون المعبود (3/ 368) ، وقال ابن الأثير: المصيخ: المصغي ليستمع. انظر جامع الأصول (9/ 272) .
(5) رواه أبو داود- واللفظ له- برقم (1046) ، والترمذي برقم (491) وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه النسائي (3/ 114، 115) ، ورواه الإمام مالك في الموطأ (1/ 108- 110) ، وصحح الحديث أيضا الألباني. انظر صحيح الجامع الصغير برقم (3329) .(1/488)
- وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتاني جبريل عليه السّلام وفي يده مرآة بيضاء فيها نكتة سوداء. فقلت: ما هذه يا جبريل؟ قال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربّك لتكون لك عيدا ولقومك من بعدك تكون أنت الأوّل وتكون اليهود والنّصارى من بعدك. قال: ما لنا فيها. قال: لكم فيها خير، لكم فيها ساعة من دعا ربّه فيها بخير هو له قسم إلّا أعطاه إيّاه وليس له بقسم إلّا ودخر له ما هو أعظم منه أو تعوّذ فيها من شرّ هو مكتوب إلّا أعاذه من أعظم منه. قلت: ما هذه النكتة السّوداء فيه؟ قال: هذه السّاعة تقوم يوم الجمعة وهو سيّد الأيّام عندنا ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد. قال: قلت: لم تدعونه يوم المزيد؟ قال: إنّ ربّك عزّ وجلّ اتّخذ في الجنّة واديا أفيح من المسك أبيض، فإذا كان يوم الجمعة نزل تبارك وتعالى من علّيّين على كرسيّه حتّى حفّ الكرسيّ بمنابر من نور وجاء النّبيّون حتّى يجلسوا عليها ثمّ حفّ المنابر بكراسيّ من ذهب ثمّ جاء الصّدّيقون والشّهداء حتّى يجلسوا عليها ثمّ يجيء أهل الجنّة حتّى يجلسوا على الكثيب فيتجلّى لهم الله تبارك وتعالى حتّى ينظروا إلى وجهه وهو يقول أنا الّذي صدقتكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي هذا محلّ كرامتي فسلوني، فيسألوه الرّضا، فيقول الله عزّ وجلّ: رضائي أحلّكم داري وأنّ لكم كرامتي فسلوني، فيسألوه حتّى تنتهي رغبتهم، فيفتح لهم عند الله ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر إلى مقدار منصرف النّاس يوم الجمعة ثمّ يصعد الله تبارك وتعالى على كرسيّه فيصعد معه الشّهداء والصّدّيقون، أحسبه قال: ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم درّة بيضاء لا قصم فيها ولا فصم أو ياقوتة حمراء أو زبرجدة خضراء منها غرفا وأبوابها مطردة فيها أنهارها متدلّية فيها ثمارها فيها أزواجها وخدمها فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا فيه كرامة وليزدادوا فيه نظرا إلى وجهه تبارك وتعالى ولذلك دعي يوم المزيد» «1» .
التّجاوز عن الخطإ والنّسيان وحديث النّفس:
أنعم الله تبارك وتعالى على أمّة الإسلام بنعم كثيرة لا تعدّ ولا تحصى، وفي ذلك تكريم لنبيّها محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ومن هذه النّعم أنّه تجاوز لها عمّا صدر منها على سبيل الخطإ والنّسيان، وتجاوز لها عمّا حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلّم.
والأدلّة على ذلك كثيرة.
- عن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله تجاوز لأمّتي ما حدّثت به نفسها ما لم يتكلّموا أو يعملوا به» «2» .
__________
(1) قال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات، ورواه أبو يعلى ورجال أبو يعلى رجال الصحيح. انظر مجمع الزوائد (2/ 164) ، (10/ 421، 422) .
(2) رواه البخاري، انظر فتح الباري 11 (6664) ورواه مسلم برقم (127) .(1/489)
- عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: لمّا نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «1» .
قال فاشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ثمّ بركوا على الرّكب. فقالوا: أي رسول الله! كلّفنا من الأعمال ما نطيق. الصّلاة والصّيام والجهاد والصّدقة. وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير» قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير. فلمّا اقترأها القوم ذلّت بها ألسنتهم.
فأنزل الله في إثرها آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ «2» . فلمّا فعلوا ذلك نسخها الله تعالى. فأنزل الله- عزّ وجلّ-: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا (قال: نعم) رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا (قال: نعم) رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ (قال: نعم) وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (قال: نعم) » «3» . «4» .
- وعن أبي ذرّ الغفاريّ- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله تعالى تجاوز لي «5» عن أمّتي الخطأ، والنّسيان، وما استكرهوا عليه» «6» .
- وعن ابن عبّاس- رضي الله عنهما-؛ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيما يروي عن ربّه تبارك وتعالى؛ قال: «إنّ الله كتب الحسنات والسّيّئات. ثمّ بيّن ذلك. فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن همّ بها فعملها كتبها الله عزّ وجلّ عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. وإن همّ بسيّئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها، كتبها الله سيّئة واحدة» «7» .
__________
(1) سورة البقرة: آية (284) .
(2) سورة البقرة: آية (285) .
(3) سورة البقرة: آية (286) .
(4) رواه مسلم برقم (125) .
(5) قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث إشارة إلى عظيم قدر الأمة المحمدية لأجل نبيها صلّى الله عليه وسلّم، لقوله: «تجاوز لي» و، فيه إشعار باختصاصها بذلك، بل صرح بعضهم بأنه كان حكم الناسي كالعامد في الإثم وأن ذلك من الإصر الذي كان على من قبلنا. انظر فتح الباري (11/ 560) .
(6) رواه ابن ماجه، برقم (2043) ، ورواه الحاكم (2/ 198) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، ورواه الدارقطني (797) ، والبيهقي (7/ 356) . وصحح الحديث أيضا الألباني. انظر صحيح الجامع برقم (1727) .
(7) رواه البخاري. انظر فتح الباري 11 (6491) ورواه مسلم، واللفظ له، برقم (131) .(1/490)
محفوظة من الهلاك والاستئصال:
الأمّة المحمّديّة، أمّة مصونة مرحومة، حفظها الله وأجارها، فلا تهلك بالسّنين ولا بجوع ولا غرق، ولا يسلّط عليها عدوّا من غيرها، فيستبيح بيضتها ويستأصلها، ولو اجتمع عليها من بأقطارها وهذا من خصائصها الّتي انفردت بها على غيرها.
وقد أفصح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك في غير ما حديث:
- فعن ثوبان- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله زوى «1» لي الأرض. فرأيت مشارقها ومغاربها. وإنّ أمّتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض «2» . وإنّي سألت ربّي لأمّتي أن لا يهلكها بسنة عامّة. وأن لا يسلّط عليهم عدوّا من سوى أنفسهم. فيستبيح بيضتهم «3» . وإنّ ربّي قال: يا محمّد إنّي إذا قضيت قضاء فإنّه لا يردّ. وإنّي أعطيتك لأمّتك أن لا أهلكهم بسنة عامّة «4» . وأن لا أسلّط عليهم عدوّا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم. ولو اجتمع عليهم من بأقطارها- أو قال من بين أقطارها- حتّى يكون بعضهم يهلك بعضا. ويسبي بعضهم بعضا» «5» .
- وعن عامر بن سعد عن أبيه- رضي الله عنهما-؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقبل ذات يوم من العالية. حتّى إذا مرّ بمسجد بني معاوية، دخل فركع ركعتين. وصلّينا معه. ودعا ربّه طويلا. ثمّ انصرف إلينا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «سألت ربّي ثلاثا. فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة. سألت ربّي أن لا يهلك أمّتي بالسّنة فأعطانيها. وسألته أن لا يهلك أمّتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» «6» .
- وعن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك- رحمه الله-؛ قال: «جاءنا عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- في بني معاوية- وهي قرية من قرى الأنصار- فقال: هل تدرون أين صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مسجدكم هذا؟
فقلت: نعم- وأشرت إلى ناحية منه- فقال لي: هل تدرون ما الثّلاث الّتي دعا بهنّ فيه؟ قلت: نعم، قال:
فأخبرني بهنّ، فقلت: دعا بأن لا يظهر عليهم عدوّا من غيرهم، ولا يهلكهم بالسّنين، فأعطيهما، ودعا بأن لا
__________
(1) زوى: معناه جمع.
(2) الكنزين الأحمر والأبيض: المراد بالكنزين الذهب والفضة. والمراد كنزا كسرا وقيصر، ملكي العراق والشام.
(3) فيستبيح بيضتهم: أي جماعتهم وأصلهم. والبيضة، أيضا: العز والملك.
(4) أن لا أهلكهم بسنة عامة: أي لا أهلكهم بقحط يعمهم. بل إن وقع قحط فيكون في ناحية يسيرة، بالنسبة إلى باقي بلاد الإسلام.
(5) رواه مسلم برقم (2889) .
(6) رواه مسلم برقم (2890) .(1/491)
يجعل بأسهم بينهم، فمنعها، قال: صدقت، قال ابن عمر: فلن يزال الهرج «1» إلى يوم القيامة» «2» .
- وعن عوف بن مالك- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لن يجمع الله تعالى على هذه الأمّة سيفين سيفا منها وسيفا من عدوّها» «3» .
لا تجتمع على ضلالة وطائفة منها على الحقّ:
أكرم الله تبارك وتعالى الأمّة المحمّديّة في الدّنيا بكرامات كثيرة منها: ضمان العصمة لهم من الخطإ عند اجتماعهم تشريفا لهم وتعظيما لنبيّهم صلّى الله عليه وسلّم، ومنها وجود طائفة منهم على الحقّ والهدى في كلّ زمان ظاهرين لا يضرّهم من خالفهم ولا من خذلهم حتّى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
قال الشّيخ عزّ الدّين بن عبد السّلام رحمه الله في سياق كلامه على خصائص النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ومثلها عصمة أمّته بأنّها لا تجتمع على ضلالة في فرع ولا في أصل» «4» .
وبهذه الخصائص جاءت النّصوص النّبويّة المطهّرة:
- فعن كعب بن عاصم الأشعريّ- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله تعالى قد أجار أمّتي أن تجتمع على ضلالة» «5» .
- وعن ابن عمر- رضي الله عنهما-؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله لا يجمع أمّتي أو قال أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار» «6» .
__________
(1) الهرج: قال ابن الأثير: جاء في الحديث أنه القتل وهو الإختلاط والاختلاف وذلك سبب القتل. انظر جامع الأصول (9/ 199) .
(2) رواه الإمام مالك في الموطأ (1/ 216) . وقال عبد القادر الأرناؤوط: إسناده صحيح. انظر تعليقه على جامع الأصول (9/ 199) .
(3) رواه أبو داود برقم (4301) . ورواه الإمام أحمد في مسنده (6/ 26) . وصححه الألباني. انظر صحيح الجامع الصغير برقم (5097) .
(4) انظر بداية السول (ص 70) .
(5) رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة برقم (79) من حديث كعب بن عاصم الأشعري ورواية أخرى من حديث أنس بن مالك رضي الله عنهم. وذكر له الألباني طرقا ثم قال: فالحديث بمجموع هذه الطرق حسن. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (1331) ، وأيضا صحيح الجامع الصغير برقم (1782) .
(6) رواه الترمذي- واللفظ له- برقم (2167) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. قال الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة: ... وبالجملة فهو حديث مشهور المتن ذو أسانيد كثيرة وشواهد متعددة في المرفوع وغيره.. ثم ساق له بعض الشواهد. انظر المقاصد الحسنة (ص 460) . وأيضا رواية الترمذي هذه صححها الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (1844) عدا الزيادة الأخيرة في الحديث وهي «ومن شذ شذ في النار» قال: ... فحذفتها لانعدام الشاهد المجبر لضعفها بخلاف ما قبلها. ورواه الطبراني أيضا من حديث ابن عمر بلفظ «لن تجتمع أمتي على ضلالة فعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة» قال الحافظ الهيثمي عن رواية الطبراني: رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما ثقات رجال الصحيح خلا مرزوق مولى آل طلحة وهو ثقة. انظر مجمع الزوائد (5/ 218) .(1/492)
- وعن ثوبان- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزال طائفة «1» من أمّتي ظاهرين على الحقّ.
لا يضرّهم من خذلهم «2» حتّى يأتي أمر الله «3» وهم كذلك» «4» .
ومن الآثار:
عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-؛ قال: إنّ الله عزّ وجلّ نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمّد صلّى الله عليه وسلّم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالاته ثمّ نظر في قلوب العباد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيّه صلّى الله عليه وسلّم يقاتلون عن دينه فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون سيّئا فهو عند الله سيّء «5» .
شهداء الله في الأرض:»
فضّل الله تبارك وتعالى هذه الأمّة ورفع ذكرها وزكّاها بأن أضافها إليه إضافة تشريف وتكريم، فقبل منها قولها وشهادتها، وذلك لعظم مكانتها ومنزلتها عنده.
وممّا يدلّ على هذه الخصوصيّة:
ما جاء عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: مرّ بجنازة فأثني عليها خيرا. فقال نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم: «وجبت وجبت وجبت» ومرّ بجنازة فأثني عليها شرّا. فقال نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم: «وجبت وجبت وجبت» قال عمر: فدى لك أبي وأمّي! مرّ بجنازة فأثني عليها خيرا فقلت: وجبت وجبت وجبت. ومرّ بجنازة فأثني عليها شرّا فقلت: وجبت وجبت وجبت؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنّة. ومن أثنيتم عليه شرّا وجبت له النّار.
أنتم شهداء الله في الأرض. أنتم شهداء الله في الأرض. أنتم شهداء الله في الأرض» «7» .
__________
(1) طائفة: قال النووي رحمه الله: وأما هذه الطائفة فقال البخاري: هم أهل العلم. وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم! قال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذاهب أهل الحديث. قال الإمام النووي: يحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين. فمنهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير. ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (13/ 66، 67) .
(2) من خذلهم: يعني من خالفهم.
(3) حتى يأتي أمر الله: المراد به هو الريح التي تأتي فتأخذ روح كل مؤمن ومؤمنة.
(4) الحديث رواه البخاري. انظر فتح الباري 6 (3641) ، ورواه مسلم- واللفظ له- برقم (1920) .
(5) رواه الإمام أحمد في مسنده (1/ 379) قال الحافظ الهيثمي رحمه الله: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله موثقون. انظر مجمع الزوائد (1/ 178) .
(6) بداية السول في تفضيل الرسول صلّى الله عليه وسلّم (ص 69) .
(7) رواه البخاري. انظر الفتح 3 (1367) ، ورواه مسلم واللفظ له- برقم (949) .(1/493)
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ قال: مرّوا بجنازة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأثنوا عليها خيرا، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«وجبت» . ثمّ مرّوا بجنازة أخرى، فأثنوا عليها شرّا. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «وجبت» قالوا يا رسول الله: قولك الأولى والأخرى وجبت! فقال صلّى الله عليه وسلّم: «الملائكة شهداء الله في السّماء وأنتم شهداء الله في الأرض» «1» .
ومن الآثار:
- عن كعب- رضي الله عنه-؛ قال: أعطيت هذه الأمّة ثلاث خصال لم يعطها إلّا الأنبياء. كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقال له: بلّغ ولا حرج، وأنت شهيد على قومك وادع أجبك، وقال لهذه الأمّة وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «2» ، وقال لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «3» وقال ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «4» . «5» .
صفوف كصفوف الملائكة:
خصّ الله- عزّ وجلّ- هذه الأمّة إكراما لها على سائر الأمم بأن جعل صفوفها في الصّلاة كصفوف الملائكة.
وممّا يؤيّد هذه الخاصيّة من السّنّة المطهّرة- ما جاء عن حذيفة- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«فضّلنا على النّاس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة. وجعلت لنا الأرض كلّها مسجدا. وجعلت تربتها لنا طهورا، إذا لم نجد الماء، وذكر خصلة أخرى» «6» .
- وعن جابر بن سمرة- رضي الله عنهما-؛ قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «مالي أراكم رافعي أيديكم كأنّها أذناب خيل شمس «7» ؟ اسكنوا في الصّلاة» قال: ثمّ خرج علينا فرآنا حلقا «8» . فقال: «مالي أراكم عزين «9» ؟. قال: ثمّ خرح علينا فقال: «ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربّها؟» فقلنا: يا رسول الله! وكيف تصفّ الملائكة عند ربّها؟ قال: «يتمّون الصّفوف الأول. ويتراصّون في الصّفّ» «10» .
- وعن أبي الدّرداء- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «فضّلت بأربع: جعلت أنا وأمّتي في
__________
(1) رواه النسائي (4/ 50) وأصله في الصحيحين. وأيضا صححه الألباني- انظر صحيح الجامع برقم (6604) .
(2) سورة الحج: آية رقم (78) .
(3) سورة البقرة: آية رقم (143) .
(4) سورة غافر: آية رقم (60) .
(5) أورد الحافظ السيوطي في كتابه الخصائص الكبرى، قال: أخرجه الفريابي عن كعب. انظر الخصائص (2/ 357) .
(6) رواه مسلم برقم (522) .
(7) شمس: جمع شموس. مثل رسول ورسل. وهي التي لا تستقر بل تضرب وتتحرك بأذنابها وأرجلها.
(8) حلقا: جمع الحلقة، بسكون اللام، على غير قياس. وقال النووي: بكسر الحاء، وفتحها، لغتان. جمع حلقة بإسكان اللام.
(9) عزين: أي جماعات في تفرقة. جمع عزة. وأصلها عزوة. فحذفت الواو وجمعت جمع السلامة على غير قياس.
(10) رواه مسلم برقم (430) .(1/494)
الصّلاة كما تصفّ الملائكة، وجعل الصّعيد لي وضوءا، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلّت لي الغنائم» «1» .
النّوع الرّابع: ما اختصّ به صلّى الله عليه وسلّم في أمّته في الآخرة:
اختصّ الله تبارك وتعالى الأمّة المحمّديّة في الآخرة بخصائص كثيرة لم تعطها غيرها من الأمم وفي ذلك تشريف وتكريم لنبيّها ومعلّمها ومربّيها صلّى الله عليه وسلّم، سيّد الأوّلين والآخرين، الّذي أمضى عمره الشّريف وضحّى بكلّ ما لديه في سبيل هدايتها ونصحها والأخذ بيدها إلى ما فيه عزّها ومجدها في الدّنيا والآخرة، حتّى أصبحت بفضل الله خير أمّة أخرجت للنّاس.
وإنّ ممّا اختصّت به الأمّة المحمّديّة في الآخرة، أنّها شاهدة للأنبياء على أممهم، وهي أكثر أهل الجنّة، وأوّل من يجتاز الصّراط ويدخل الجنّة، وهي الآخرة زمانا، السّابقة منزلة.. إلى غير ذلك ممّا سنذكره من الخصائص، بإذن الله، وبالله التّوفيق.
الغرّ المحجّلون:
تأتي الأمّة المحمّدية يوم القيامة غرّا محجّلة من آثار الوضوء، وبهذه الصّفة يعرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّته من غيرهم حالما يكون منتظرهم على حوضه. قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: ثبت أنّ الغرّة والتّحجيل خاصّ بالأمّة المحمّديّة «2» .
وقد وردت الأحاديث النّبويّة تشهد لهذا المعنى:
- عن نعيم بن عبد الله المجمّر: قال: رأيت أبا هريرة يتوضّأ. فغسل وجهه فأسبغ الوضوء. ثمّ غسل يده اليمنى حتّى أشرع في العضد «3» . ثمّ يده اليسرى حتّى أشرع في العضد. ثمّ مسح رأسه. ثمّ غسل رجله اليمنى حتّى أشرع في السّاق. ثمّ غسل رجله اليسرى حتّى أشرع في السّاق. ثمّ قال: هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتوضّأ.
وقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنتم الغرّ «4» المحجّلون يوم القيامة. من إسباغ الوضوء. فمن استطاع منكم فليطل غرّته وتحجيله» «5» .
__________
(1) الحديث رواه الطبراني في الكبير، وصحح الحديث الألباني. انظر صحيح الجامع الصغير برقم (4095) .
(2) فتح الباري (11/ 458) .
(3) أشرع في العضد وأشرع في الساق: معناه أدخل الغسل فيهما.
(4) أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من آثار الوضوء: قال أهل اللغة: الغرة: بياض في جبهة الفرس. والتحجيل: بياض في يديها ورجليها. قال العلماء: سمي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة، غرة وتحجيلا، تشبيها بغرة الفرس.
(5) رواه البخاري. انظر الفتح 1 (136) ، ورواه مسلم برقم (246) .(1/495)
- عن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ حوضي أبعد من أيلة من عدن «1» لهو أشدّ بياضا من الثّلج. وأحلى من العسل باللّبن «2» . ولآنيته «3» أكثر من عدد النّجوم. وإنّي لأصدّ النّاس عنه كما يصدّ الرّجل إبل النّاس عن حوضه» قالوا: يا رسول الله! أتعرفنا يومئذ؟ قال: «نعم. لكم سيما «4» ليست لأحد من الأمم تردون عليّ غرّا محجّلين من أثر الوضوء» «5» .
- عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى المقبرة فقال: «السّلام عليكم دار قوم مؤمنين. وإنّا إن شاء الله، بكم لاحقون. وددت أنّا قد رأينا إخواننا» قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: «أنتم أصحابي.
وإخواننا الّذين لم يأتوا بعد» فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمّتك يا رسول الله؟ فقال: «أرأيت لو أنّ رجلا له خيل غرّ محجّلة. بين ظهري خيل دهم بهم «6» ... ألا يعرف خيله» قالوا: بلى. يا رسول الله! قال: «فإنّهم يأتون غرّا محجّلين من الوضوء. وأنا فرطهم على الحوض. ألا ليذادنّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضّالّ أناديهم:
ألا هلمّ «7» ! فيقال: إنّهم قد بدّلوا بعدك. فأقول سحقا «8» سحقا» «9» .
شهداء على الأمم:
الأمّة المحمّديّة خير الأمم وأفضلها، خصّها الله بأكمل الشّرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، فهي وسط بين أهل الأديان فلم تغل كغلوّ النّصارى ولم تقصّر كتقصير اليهود، ولهذا جعلها الله شاهدة على الأمم يوم القيامة. فما من نبيّ ولا رسول تنكر أمّته قد بلّغ إلّا وتشهد له الأمّة المحمّدية بالبلاغ فيقبل قولها وشهادتها لما لها من الفضل والمنزلة قال الله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «10» .
__________
(1) إن حوضي أبعد من أيلة من عدن: أي بعد ما بين طرفي حوضي أزيد من بعد أيلة من عدن. وهما بلدان ساحليان في بحر القلزم (البحر الأحمر) . أحدهما، وهو أيلة، في شمال بلاد العرب والآخر، وهو عدن، في جنوبها. هو آخر بلاد اليمن مما يلي بحر الهند، يصرف بالتذكير ولا يصرف بالتأنيث.
(2) وأحلى من العسل باللبن: أي المخلوط به.
(3) ولآنيته: اللام في لهو. للابتداء. والآنية جمع إناء قال في المصباح: الإناء والآنية كالوعاء والأوعية وزنا ومعنى. والأواني جمع الجمع.
(4) لكم سيما: السيما العلامة. مقصورة وممدودة، لغتان. ويقال: السيمياء بياء بعد الميم.
(5) رواه مسلم برقم (247) .
(6) دهم بهم: أي سود لم يخالط لونها لون آخر.
(7) ألا هلم: معناه: تعالوا.
(8) سحقا سحقا: معناه: بعدا بعدا. والمكان السحيق البعيد.
(9) رواه مسلم برقم (249) .
(10) سورة البقرة: آية رقم (143) .(1/496)
قال الشّيخ عزّ الدّين بن عبد السّلام، في معرض حديثه عن خصائص النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ومنها أنّ الله تعالى نزّل أمّته منزل العدول من الحكّام، فإنّ الله تعالى إذا حكم بين العباد فجحدت الأمم بتبليغ الرّسالة أحضر أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم فيشهدون على النّاس بأنّ رسلهم أبلغتهم، وهذه الخصّيصة لم تثبت لأحد من الأنبياء «1» .
وقد صرّحت بهذا المعنى الأحاديث النّبويّة:
- عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبّيك وسعديك يا ربّ، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم. فيقال لأمّته: هل بلّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول:
من يشهد لك؟ فيقول: محمّد وأمّته. فيشهدون أنّه قد بلّغ، ويكون الرّسول عليكم شهيدا فذلك قوله جلّ ذكره وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً «2» لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «3» .
- وعن أبي سعيد- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يجيء النّبيّ ومعه الرّجلان. ويجيء النّبيّ ومعه الثّلاثة. وأكثر من ذلك وأقلّ. فيقال له: هل بلّغت قومك؟ فيقول: نعم. فيدعى قومه، فيقال: هل بلّغكم؟
فيقولون: لا، فيقال: من شهد لك؟ فيقول: محمّد وأمّته. فتدعى أمّة محمّد فيقال: هل بلّغ هذا؟ فيقولون: نعم.
فيقول: وما علمكم بذلك؟ فيقولون: أخبرنا نبيّنا بذلك أنّ الرّسل قد بلّغوا، فصدّقناه. قال: فذلكم قوله تعالى:
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «4» . «5» .
ومن الآثار:
- عن كعب الأحبار- رحمه الله-؛ قال: أعطيت هذه الأمّة ثلاث خصال لم يعطها إلّا الأنبياء. كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقال له: بلّغ ولا حرج، وأنت شهيد على قومك وادع أجبك، وقال لهذه الأمّة: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»
وقال: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «7» وقال ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «8» . «9» .
__________
(1) انظر بداية السول (ص 69) .
(2) الوسط: العدل.
(3) رواه البخاري. انظر الفتح 8 (4487) .
(4) سورة البقرة: آية رقم (143) .
(5) رواه الإمام أحمد في مسنده (3/ 58) ، وابن ماجه واللفظ له برقم (4284) ، وصحح الحديث الألباني. انظر صحيح الجامع الصغير برقم (7889) .
(6) سورة الحج: آية رقم (78) .
(7) سورة البقرة: آية رقم (143) .
(8) سورة غافر: آية رقم (60) .
(9) أورده الحافظ السيوطي في كتابه الخصائص الكبرى وقال: أخرجه الفريابي عن كعب. انظر الخصائص (2/ 357) .(1/497)
أوّل من يجتاز الصّراط ويدخل الجنّة:
الصّراط جسر ممدود على متن جهنّم أحدّ من السّيف وأدقّ من الشّعر، فمن استقام في هذه الدّنيا على الصّراط المستقيم خفّ على صراط الآخرة، ونجا، ومن عدل عن الاستقامة في الدّنيا وأثقل ظهره بالأوزار وعصى تعثّر على الصّراط وتردّى.
وإنّ ممّا أكرم الله تعالى به هذه الأمّة ونبيّها صلّى الله عليه وسلّم، أن جعلهم أوّل من يجتاز ويعبر الصّراط، وأوّل من يدخل الجنّة دار السّلام.
وبين يديك أحاديث نبويّة تدلّ على ما ذكرناه:
- عن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ أنّ ناسا قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله! هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل تضارّون في رؤية القمر ليلة البدر» قالوا: لا. يا رسول الله! قال: «هل تضارّون في الشّمس ليس دونها سحاب؟» قالوا: لا يا رسول الله! قال: «فإنّكم ترونه كذلك. يجمع الله النّاس يوم القيامة. فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه. فيتبع من كان يعبد الشّمس الشّمس. ويتبع من كان يعبد القمر القمر. ويتبع من كان يعبد الطّواغيت الطّواغيت. وتبقى هذه الأمّة فيها منافقوها. فيأتيهم الله تبارك وتعالى، في صورة غير صورته الّتي يعرفون. فيقول: أنا ربّكم. فيقولون: نعوذ بالله منك. هذا مكاننا حتّى يأتينا ربّنا. فإذا جاء ربّنا عرفناه. فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورته الّتي يعرفون. فيقول: أنا ربّكم.
فيقولون: أنت ربّنا. فيتّبعونه. ويضرب الصّراط بين ظهري جهنّم «1» . فأكون أنا وأمّتي أوّل من يجيز» «2» ...
الحديث «3» .
- عن أبي أسماء الرّحبيّ: أنّ ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حدّثه قال: كنت قائما عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فجاء حبر «4» من أحبار اليهود فقال: السّلام عليك يا محمّد! فدفعته دفعة كاد يصرع منها. فقال: لم تدفعني؟ فقلت:
ألا تقول يا رسول الله! فقال اليهوديّ: إنّما ندعوه باسمه الّذي سمّاه به أهله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ اسمي محمّد الّذي سمّاني به أهلي» فقال اليهوديّ جئت أسألك. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أينفعك شيء إن حدّثتك؟» قال: أسمع بأذنيّ. فنكت «5» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعود معه. فقال: «سل» فقال اليهوديّ: أين يكون النّاس يوم تبدّل
__________
(1) ويضرب الصراط بين ظهري جهنم: معناه يمد الصراط عليها.
(2) فأكون أنا وأمتي أول من يجيز: معناه يكون أول من يمضي عليه ويقطعه.
(3) رواه البخاري. انظر الفتح 11 (6573) ، ورواه مسلم، واللفظ له برقم (182) .
(4) حبر: قال في المصباح: الحبر بالكسر، العالم. والجمع أحبار. مثل حمل وأحمال. والحبر، بالفتح، لغة فيه. وجمعه حبور، مثل فلس وفلوس.
(5) فنكت: معناه يخط العود في الأرض ويؤثر به فيها. وهذا ما يفعله المفكر.(1/498)
الأرض غير الأرض والسّماوات؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هم في الظّلمة دون الجسر «1» » قال: «فمن أوّل النّاس إجازة «2» ؟ قال: «فقراء المهاجرين» قال اليهوديّ: فما تحفتهم «3» حين يدخلون الجنّة؟ قال: «زيادة كبد النّون» «4» . قال فما غذاؤهم «5» على إثرها؟ قال: «ينحر لهم ثور الجنّة الّذي كان يأكل من أطرافها» . قال:
فما شرابهم عليه؟ قال: «من عين فيها تسمّى سلسبيلا «6» » . قال: صدقت. قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلّا نبيّ أو رجل أو رجلان. قال: «ينفعك إن حدّثتك؟» قال: أسمع بأذنيّ. قال:
جئت أسألك عن الولد؟ قال: «ماء الرّجل أبيض وماء المرأة أصفر. فإذا اجتمعا، فعلا منيّ الرّجل منيّ المرأة، أذكرا «7» بإذن الله. وإذا علا منيّ المرأة منيّ الرّجل، آنثا «8» بإذن الله» قال اليهوديّ: لقد صدقت. وإنّك لنبيّ. ثمّ انصرف فذهب. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد سألني هذا عن الّذي سألني عنه. وما لي علم بشيء منه. حتّى أتاني الله به» «9» .
- عن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة ونحن أوّل من يدخل الجنّة بيد أنّهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم. فاختلفوا فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحقّ. فهذا يومهم الّذي اختلفوا فيه. هدانا الله له (قال يوم الجمعة) فاليوم لنا. وغدا لليهود. وبعد غد للنّصارى» «10» .
عمل قليل وأجر كثير:
أنعم الله- تبارك وتعالى- على هذه الأمّة بنعم كثيرة وخصّها بخصائص جسيمة ومن ذلك أنّها أقلّ عملا ممّن سبقها من الأمم وأكثر أجرا وثوابا. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
__________
(1) الجسر: بفتح الجيم وكسرها، لغتان مشهورتان، والمراد به هنا الصراط.
(2) إجازة: الإجازة هنا بمعنى الجواز والعبور.
(3) تحفتهم: بإسكان الحاء وفتحها، لغتان، وهي ما يهدى إلى الرجل ويخص به ويلاطف.
(4) النون: النون هو الحوت، وجمعه نينان.
(5) غذاؤهم: روي على وجهين، غذاؤهم وغداؤهم. قال القاضي عياض: هذا الثاني هو الصحيح وهو رواية الأكثرين.
(6) سلسبيلا: قال جماعة من أهل اللغة والمفسرين: السلسبيل اسم للعين، وقال مجاهد وغيره: هي شديدة الجري وقيل هي السلسلة اللينة.
(7) أذكرا: أي كان الولد ذكرا.
(8) آنثا: أي كان الولد أنثى، وقد روي أنثا.
(9) رواه مسلم برقم (315) .
(10) رواه البخاري. انظر الفتح 2 (876) بدون لفظة «ونحن أول من يدخل الجنة» ، ورواه مسلم واللفظ له، ومعه الزيادة، برقم (855/ 20) .(1/499)
قال الشّيخ الإمام عزّ الدّين بن عبد السّلام «1» في معرض حديثه عن خصائص النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ومنها أنّ أمّته أقلّ عملا ممّن قبلهم وأكثر أجرا كما جاء في الحديث الصّحيح «2» .
وإليك ما جاء من كلام الصّادق المصدوق ممّا يبرهن على هذه الخصوصيّة:
- عن ابن عمر- رضي الله عنهما-؛ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «إنّما أجلكم- في أجل من خلا من الأمم- ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشّمس. وإنّما مثلكم ومثل اليهود والنّصارى كرجل استعمل عمّالا فقال: من يعمل لي إلى نصف النّهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود إلى نصف النّهار على قيراط قيراط، ثمّ قال: من يعمل لي من نصف النّهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ فعملت النّصارى من نصف النّهار إلى صلاة العصر قيراط قيراط. ثمّ قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشّمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الّذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشّمس على قيراطين قيراطين، ألا لكم الأجر مرّتين. فغضبت اليهود والنّصارى فقالوا: نحن أكثر عملا وأقلّ عطاء، قال الله: هل ظلمتكم من حقّكم شيئا؟ قالوا: لا. قال: فإنّه فضلي، أعطيه من شئت» «3» ، ويعلّق على هذا الحديث الحافظ ابن كثير رحمه الله فيقول: «والمراد من هذا التّشبيه بالعمّال تفاوت أجورهم وأنّ ذلك ليس منوطا بكثرة العمل وقلّته بل بأمور أخر معتبرة عند الله تعالى وكم من عمل قليل أجدى ما لا يجديه العمل الكثير، هذه ليلة القدر العمل فيها أفضل من عبادة ألف شهر سواها وهؤلاء أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم أنفقوا في أوقات لو أنفق غيرهم من الذّهب مثل أحد ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه من تمر، وهذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره وقبضه وهو ابن ثلاث وستّين على المشهور وقد برز في هذه المدّة الّتي هي ثلاث وعشرون سنة في العلوم النّافعة والأعمال الصّالحة على سائر الأنبياء قبله حتّى على نوح الّذي لبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ويعمل بطاعة الله ليلا ونهارا، صباحا ومساء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء أجمعين. فهذه الأمّة إنّما شرفت وتضاعف ثوابها ببركة سيادة نبيّها وشرفه وعظمته كما قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ «4» . «5» .
__________
(1) انظر بداية السول (ص 60) .
(2) مثل ما أوردنا من حديث ابن عمر وأبي موسى الأشعري- رضي الله عنهم.
(3) رواه البخاري. انظر الفتح 6 (3459) .
(4) سورة الحديد (الآية: 28- 29) .
(5) انظر البداية والنهاية لابن كثير (2/ 135) .(1/500)
- عن أبي موسى- رضي الله عنه-؛ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل المسلمين واليهود والنّصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له عملا يوما إلى اللّيل على أجر معلوم، فعملوا له نصف النّهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك الّذي شرطت لنا وما عملنا باطل. فقال لهم: لا تفعلوا، أكملوا بقيّة عملكم وخذوا أجركم كاملا، فأبوا وتركوا، واستأجر آخرين بعدهم فقال: أكملوا بقيّة يومكم هذا ولكم الّذي شرطت لهم من الأجر. فعملوا حتّى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: لك ما عملنا باطل، ولك الأجر الّذي جعلت لنا فيه. فقال لهم: أكملوا بقيّة عملكم فإنّ ما بقي من النّهار شيء يسير، فأبوا، فاستأجر قوما أن يعملوا له بقيّة يومهم، فعملوا بقيّة يومهم حتّى غابت الشّمس، واستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم «1» ومثل ما قبلوا من هذا النّور» «2» .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله ضمن شرحه لهذا الحديث « ... وفي هذا الحديث تفضيل هذه الأمّة وتوفير أجرها مع قلّة عملها» «3» .
أكثر أهل الجنّة:
وممّا اختصّت به هذه الأمّة من الفضائل: أنّها أكثر أهل الجنّة. وهذا تكريم عظيم للأمّة المحمّديّة ونبيّها صلّى الله عليه وسلّم.
وقد صحّ عن نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم ما يؤيّد هذا المعنى:
- فعن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنّة؟» قال: فكبّرنا. ثمّ قال: «أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنّة؟» قال: فكبّرنا. ثمّ قال: «إنّي لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنّة. وسأخبركم عن ذلك. ما المسلمون في الكفّار إلّا كشعرة بيضاء في ثور أسود. أو كشعرة سوداء في ثور أبيض» «4» .
- وعن بريدة- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أهل الجنّة عشرون ومائة صفّ ثمانون منها من هذه الأمّة وأربعون من سائر الأمم» «5» .
__________
(1) ورد في رواية الإسماعيلي: «فذلك مثل المسلمين الذين قبلوا هدى الله وما جاء به رسوله ومثل اليهود والنصارى تركوا ما أمرهم الله» . أوردها الحافظ ابن حجر في فتح الباري (4/ 525) .
(2) رواه البخاري. انظر الفتح 4 (2271) .
(3) انظر فتح الباري (4/ 525) .
(4) رواه البخاري. انظر الفتح 11 (6528) . ورواه مسلم، واللفظ له، برقم (221) .
(5) رواه الترمذي برقم (2546) وقال: حديث حسن. ونقل عنه الحافظ في الفتح (11/ 395) تصحيح الحديث، فلعل ذلك من اختلاف النسخ. ورواه الإمام أحمد في مسنده (5/ 347، 355، 361) . ورواه ابن ماجه برقم (4289) . ورواه الحاكم في المستدرك (1/ 82) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وصحح الحديث كذلك الألباني. انظر صحيح الجامع الصغير برقم (2523) .(1/501)
الآخرون السّابقون:
من نعم الله تبارك وتعالى على هذه الأمّة أن جعلها الآخرة زمانا، الأولى منزلة وفضلا، فهي وإن تأخّر وجودها في الدّنيا عن الأمم الماضية، فهي سابقة لهم في الآخرة، بأنّها أوّل من يحشر وأوّل من يحاسب وأوّل من يقضى بينها وأوّل من يدخل الجنّة.
وبهذا المعنى صرّحت الأحاديث النّبويّة:
- فعن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «نحن الآخرون السّابقون يوم القيامة، بيد أنّهم «1» أوتوا الكتاب من قبلنا، ثمّ هذا يومهم الّذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله، فالنّاس لنا فيه تبع:
اليهود غدا، والنّصارى بعد غد» «2» .
- وعن أبي هريرة وحذيفة- رضي الله عنهما-؛ قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أضلّ الله عن الجمعة من كان قبلنا. فكان لليهود يوم السّبت. وكان للنّصارى يوم الأحد. فجاء الله بنا. فهدانا ليوم الجمعة. فجعل الجمعة والسّبت والأحد. وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة. نحن الآخرون من أهل الدّنيا، والأوّلون يوم القيامة. المقضيّ لهم قبل الخلائق» وفي رواية: «المقضيّ بينهم» «3» .
- عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما-؛ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: «نحن آخر الأمم، وأوّل من يحاسب. يقال: أين الأمّة الأمّية ونبيّها؟ فنحن الآخرون الأوّلون» » .
__________
(1) بيد أن: قال أبو عبيد: لفظة بيد تكون بمعنى غير وبمعنى على وبمعنى من أجل.
(2) رواه البخاري. انظر الفتح 2 (876) ، ورواه مسلم برقم (855) .
(3) رواه مسلم برقم (856) .
(4) رواه ابن ماجه برقم (4290) . قال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح، رجاله ثقات. وأيضا صححه الألباني. انظر صحيح الجامع الصغير برقم (6625) .(1/502)
القسم الثاني الخصائص التي انفرد بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أمته
اختصّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكثير من الخصائص والأحكام دون أمّته تكريما له وتبجيلا، وقد شاركه في بعضها الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام.
فمن ذلك: أنّه حرم عليه تعلّم الشّعر، وأكل الصّدقة. وأبيح له الوصال في الصّيام، والجمع بين أكثر من أربع نسوة. واختصّ بأنّ أزواجه أمّهات المؤمنين وأنّ رؤيته في المنام حقّ ... إلى غير ذلك.
وقد رتّب العلماء الكلام في هذه الخصائص على أربعة أنواع: «1»
الأول: ما حرم عليه دون غيره. وذلك تكرمة له صلّى الله عليه وسلّم وحمل له على مكارم الأخلاق.
الثّاني: ما أبيح له دون غيره.
الثّالث: ما وجب عليه دون غيره. والحكمة في اختصاصه بها زيادة الزّلفى ورفع الدّرجات.
الرّابع: ما اختصّ به من الفضائل والكرامات دون غيره.
وها نحن نورد- بإذن الله- خلاصة ما ذكره العلماء- رحمهم الله- في هذا الباب. وذلك بانتقاء طائفة مختارة من خصائصه الّتي انفرد بها عن أمّته والّتي ساندها الدّليل الصّحيح.
النّوع الأوّل ما حرم عليه دون غيره
1- الصّدقة:
حرم على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أكل الصّدقة لقوله عليه صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الصّدقة لا تحلّ لمحمّد ولا لآل محمّد، إنّما هي أوساخ «2» النّاس» «3» . وعن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يأكل الهديّة ولا يأكل الصّدقة» «4» .
وهذه الأحاديث عامّة لا فرق فيها بين صدقة الفرض والتّطوّع. فكلا النّوعين حرم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) انظر الوفا بأحوال المصطفى لابن الجوزي (ص 378) ، وخصائص أفضل المخلوقين لابن الملقن (ص 96) ، الخصائص الكبرى للسيوطي (2/ 396) .
(2) أوساخ الناس: بمعنى أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم، كما قال تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) فهي كغسالة الأوساخ. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (7/ 179) .
(3) رواه مسلم برقم (168/ 1072) .
(4) رواه مسلم برقم (1077) .(1/503)
قال الحافظ ابن حجر: «نقل الإجماع على ذلك غير واحد من العلماء منهم الإمام الخطّابيّ» «1» .
قال النّوويّ- رحمه الله-: وأمّا صدقة التّطوّع فللشّافعيّ فيها ثلاثة أقوال أصحّها أنّها تحرم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «2» .
وقد نصّ جمع من العلماء على أنّ تحريم الصّدقة من خصائص النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «3» .
والحكمة في تحريم الصّدقة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، صيانة وتنزيه منصبه الشّريف عن أوساخ أموال النّاس.
وأمّا دخول الآل في ذلك فإنّهم دخلوا تبعا لانتسابهم إليه وتشريفهم بذلك.
2- إمساك من كرهت نكاحه:
ومن خصائصه صلّى الله عليه وسلّم؛ أنّه كان يحرم عليه إمساك من اختارت فراقه ورغبت عنه من النّساء، بخلاف غيره من أمّته ممّن يخيّر امرأته فإنّها لو اختارت فراقه لما وجب عليه فراقها.
وبرهان هذه الخصوصيّة ما جاء في صحيح البخاريّ عن عائشة- رضي الله عنها-: أنّ ابنة الجون لمّا أدخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك فقال لها: لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك «4» .
قال ابن الملقّن- رحمه الله- في خصائصه بعد إيراده هذا الحديث: «وفهم ممّا ذكرناه أنّه حرم عليه نكاح كلّ امرأة كرهت صحبته. وجدير أن يكون الأمر كذلك لما فيه من الإيذاء: «5» .
3- نزع لامة «6» الحرب:
وممّا حرم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكذلك إخوانه الأنبياء عليهم السّلام- دون غيره من الأمّة- أنّه إذا لبس لامة الحرب وعزم على الجهاد في سبيل الله أن ينزعها ويقلعها حتّى يلقى العدوّ ويقاتل.
ودليل ذلك ما روى جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما-؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوم أحد: «رأيت كأنّي في درع حصينة ورأيت بقرا منحّرة فأوّلت أنّ الدّرع الحصينة المدينة وأنّ البقر هو والله خير. قال فقال لأصحابه: لو أنّا
__________
(1) انظر فتح الباري (3/ 415) .
(2) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (7/ 176) .
(3) انظر الفصول لابن كثير (315) . وغاية السول لابن الملقن (187) . وفتح الباري (3/ 415) . والخصائص الكبرى للسيوطي (2/ 404) وغير ذلك.
(4) رواه البخاري- انظر الفتح 9 (5254) .
(5) انظر خصائص أفضل المخلوقين لابن الملقن (ص 222) .
(6) لامة: قال الجوهري في الصحاح: اللأم جمع لامة وهي الدرع. وتجمع أيضا على لؤم مثل نفر على غير قياس كأنه جمع لؤمة. واستلأم الرجل أي لبس اللامة. أ. هـ ولامة الحرب: أداتها. ويقال للسيف لامة وللرمح لامة وإنما سمي لامة لأنها تلائم الجسم وتلازمه. انظر لسان العرب (12 (532) .(1/504)
أقمنا بالمدينة فإن دخلوا علينا فيها قاتلناهم فقالوا يا رسول الله، والله ما دخل علينا فيها في الجاهليّة فكيف يدخل علينا فيها في الإسلام. فقال شأنكم إذا قال فلبس لأمته قال فقالت الأنصار رددنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأيه فجاءوا فقالوا يا نبيّ الله، شأنك إذا فقال إنّه ليس لنبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتّى يقاتل «1» .
قال الحافظ ابن كثير: قال عامّة أصحابنا: إنّ ذلك كان واجبا عليه، وأنّه يحرم عليه أن ينزعها حتّى يقاتل «2» .
4- خائنة الأعين:
خائنة الأعين هي الإيماء إلى مباح من قتل أو ضرب على خلاف ما يظهر ويشعر به الحال، ولا يحرم ذلك على غيره إلّا في محظور. قاله الرّافعيّ رحمه الله «3» .
وقال الخطّابيّ- رحمه الله-: «هو أن يضمر في قلبه غير ما يظهره للنّاس فإذا كفّ لسانه وأومأ بعينه إلى ذلك فقد خان وقد كان ظهور تلك الخيانة من قبيل عينه فسمّيت خائنة الأعين «4» .
فلم يكن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يوميء بطرفه خلاف ما يظهر كلامه.
ومستند هذا قصّة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، حيث كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أهدر دمه يوم فتح مكّة في جملة من أهدر من الدّماء فاختبأ عند عثمان بن عفّان أخيه من الرّضاعة، فلمّا دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّاس إلى البيعة جاء به عثمان حتّى أوقفه على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله، بايع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه، ثلاثا، كلّ ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثمّ أقبل على أصحابه فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد، يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك؟ ألا أومأت إلينا بعينك قال: «إنّه لا ينبغي لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين» «5» .
5- تعلّم الكتابة:
قال الله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ «6» .
__________
(1) رواه الإمام أحمد (3/ 351) . وابن سعد في" الطبقات الكبرى" (2/ 45) . والدارمي برقم (2165) . قال الحافظ ابن حجر: سنده صحيح انظر الفتح (13/ 353) . ورواه البخاري معلقا انظر الفتح (13/ 351) . وأصل القصة في البخاري- انظر الفتح 12 (7035) . ومسلم برقم (2272) .
(2) انظر الفصول (ص 338) .
(3) انظر الخصائص الكبرى للسيوطي (2/ 415) .
(4) انظر حاشية السندي على سنن النسائي (7/ 106) .
(5) رواه أبو داود برقم (4359) . والنسائي (7/ 105، 106) . والحاكم (3/ 45) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. ورواه البيهقي في السنن الكبرى (7/ 40) . قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير: إسناده صالح. انظر التلخيص (3/ 130) .
(6) سورة العنكبوت: آية (48) .(1/505)
فقد لبث صلوات الله وسلامه عليه عمرا من قبل أن ينزّل عليه القرآن المجيد لا يقرأ كتابا ولا يحسن الكتابة بل كلّ أحد من قومه وغيرهم يعرف أنّه رجل أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب. وهذه صفته في الكتب المتقدّمة. كما قال تعالى:
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ «1» .
فهكذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دائما إلى يوم الدّين لا يحسن الكتابة ولا يعانيها ولا أهلها بقصد التّعلّم ولا يخطّ سطرا ولا حرفا بيده بل كان له كتّابّ يكتبون بين يده الوحي والرّسائل إلى الأقاليم. وهذا من أعلام نبوّته لئلّا يرتاب بعض الجهلة فيقول إنّما تعلّم هذا القرآن من كتب قبله مأثورة عن الأنبياء.
6- تعلّم الشّعر:
قال الله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ «2» .
فلم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عالما بالشّعر وأصنافه وأعاريضه وقوافيه ولم يكن موصوفا بذلك بالاتّفاق وجعل الله سبحانه ذلك علما من أعلام نبوّته صلّى الله عليه وسلّم لئلّا تدخل الشّبهة على من أرسل إليهم فيظنّوا أنّه قوي على القرآن بما في طبعه من القوّة في الشّعر.
والأدلّة على عدم معرفته بالشّعر وعدم ميله إليه كثيرة منها: أنّ قريشا لمّا تشاورت فيما يقولون للعرب في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قدموا عليهم الموسم. فقال بعضهم: نقول إنّه شاعر. فقال أهل الفطنة منهم: والله لتكذّبنّكم العرب، فإنّهم يعرفون أصناف الشّعر فو الله ما يشبه شيئا منها وما قوله بشعر.
وأمّا ما وقع على لسانه صلوات الله وسلامه عليه من الشّعر القليل، كقوله يوم حنين وهو راكب بغلته يقدّم بها نحور العدوّ.
أنا النّبيّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطّلب «3»
وكقوله لمّا أصابه حجر وهو يمشي فعثر فدميت إصبعه الشّريفة:
هل أنت إلّا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت «4»
فكلّ هذا وأمثاله إنّما وقع منه اتّفاقا من غير قصد لوزن الشّعر بل جرى على اللّسان من غير قصد إليه.
__________
(1) سورة الأعراف: آية (157) .
(2) سورة يس: آية (69) .
(3) رواه البخاري- انظر الفتح 7 (4316) . ومسلم برقم (1776) .
(4) رواه البخاري- انظر الفتح 10 (6146) . ومسلم برقم (1796) .(1/506)
النّوع الثّاني ما أبيح له دون غيره
1- الوصال في الصّوم:
بعث الله- تبارك وتعالى- رسوله محمّدا صلّى الله عليه وسلّم وسكب في قلبه من العلم والحلم وفي خلقه من الإيناس والبرّ وفي طبعه من السّهولة والرّفق وفي يده من السّخاوة والنّدى ما جعله أزكى عباد الله رحمة وأوسعهم عاطفة وأرحبهم صدرا.
قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «1» .
وقال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «2» .
فجاءت شريعته مبنيّة على التّيسير والسّهولة والتّخفيف والرّحمة ورفع الحرج والآصار والأغلال ما يلائم اختلاف الأجيال وحاجات العصور وشتّى البقاع.
فمن ذلك نهيه صلّى الله عليه وسلّم أمّته عن مواصلة صوم يومين فصاعدا من غير أكل أو شرب بينهما لما في ذلك من المشقّة وحصول المفسدة المترتّبة على الوصال وهي الملل من العبادة والتّعرّض للتّقصير في بعض وظائف الدّين.
بينما كان ذلك مباحا له صلّى الله عليه وسلّم خصوصيّة له دون أمّته.
- فعن أنس- رضي الله عنه-؛ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تواصلوا» . قالوا: إنّك تواصل. قال: «لست كأحد منكم إنّي أطعم وأسقى» «3» .
- وعن عائشة- رضي الله عنها-؛ قالت: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الوصال رحمة لهم. فقالوا: إنّك تواصل.
قال: «إنّي لست كهيئتكم، إنّي يطعمني ربّي «4» ويسقين» «5» .
قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: واستدلّ بمجموع هذه الأحاديث على أنّ الوصال من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم. وعلى أنّ غيره ممنوع منه إلّا ما وقع فيه التّرخيص من الإذن فيه إلى السّحر» «6» .
__________
(1) سورة الأنبياء: آية (107) .
(2) سورة التوبة: آية (128) .
(3) رواه البخاري- انظر الفتح 4 (1961) . ومسلم برقم (1102) بمعناه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4) يطعمني ربي ويسقين: قال النووي رحمه الله: معناه يجعل الله تعالى فيّ قوة الطاعم الشارب، وقيل هو على ظاهره وأنه يطعم من طعام الجنة كرامة له، والصحيح الأول لأنه لو أكل حقيقة لم يكن مواصلا. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (7/ 212، 213) .
(5) رواه البخاري- انظر الفتح 4 (1964) . ومسلم (1105) .
(6) انظر فتح الباري (4/ 240) .(1/507)
وقال النّوويّ: قال الخطّابيّ وغيره من أصحابنا: الوصال من الخصائص الّتي أبيحت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحرّمت على الأمّة» «1» .
2- الزّواج من غير وليّ ولا شهود:
عني الإسلام عناية كبيرة بالأسرة، فالأسرة هي أساس كيان المجتمع الإسلامي من مجموعها يتكوّن المجتمع ويترتّب على ذلك أنّ الأسرة إذا صلحت صلح المجتمع وإذا فسدت فسد المجتمع وحيث إنّ الزّواج هو السّبيل المشروع لتكوين الأسرة وبقاء الجنس البشريّ، فقد رغّب فيه الإسلام وحثّ عليه وشرع له أحكاما معيّنة تشريفا وتكريما لهذه العلاقة علاقة الزّواج.
ومن هذه الأحكام، موافقة وليّ المرأة على زواجها وهو شرط لصحّة النّكاح. قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لا نكاح إلّا بوليّ» «2» فعقد النّكاح لا يهمّ المرأة وحدها بل يهمّ وليّها وعائلتها، والضّرر الّذي يلحقها بسبب سوء اختيارها ينسحب إلى عائلتها وعلى رأسهم وليّها كالأب والأخ. ولهذا فلا بدّ أن يكون للوليّ رأي مسموع في زواجها، وكما يشترط في صحّة النّكاح موافقة وليّ المرأة، كذلك يشترط حضور الشّهود عند عقد النّكاح لكي يعرف العقد ويشيع وتحفظ حقوق المرأة، ويؤمن الجحود. ولهذا قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لا نكاح إلّا بوليّ وشاهدي عدل» «3» .
وقد انفرد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أمّته في هذين الحكمين؛ فأباح الله تعالى له الزّواج بغير وليّ ولا شهود تشريفا وتكريما لعدم الحاجة إلى ذلك في حقّه صلّى الله عليه وسلّم.
قال العلماء: «إنّما اعتبر الوليّ في نكاح الأمة للمحافظة على الكفاءة، وهو صلّى الله عليه وسلّم فوق الأكفاء، وإنّما اعتبر الشّهود لأمن الجحود وهو صلّى الله عليه وسلّم لا يجحد.
وبرهان هذا الحكم في حقّه ما جاء في حديث زينب بنت جحش- رضي الله عنها- أنّها كانت تفخر على أزواج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتقول: «زوّجكنّ أهليكنّ وزوّجني الله تعالى من فوق سبع سماوات» «4» .
__________
(1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (7/ 212) .
(2) رواه أبو داود برقم (2085) . والترمذي برقم (1101) . وابن ماجه برقم (1881) . والإمام أحمد في المسند (4/ 413، 418) . الحاكم (2/ 169) . والبيهقي. (7/ 107) . وصححه الألباني انظر صحيح الجامع الصغير، رقم (7431) . وعبد القادر الأرناؤوط. انظر تعليقه على جامع الأصول (11/ 457) .
(3) رواه البيهقي في السنن الكبرى (7/ 125) . والطبراني في الكبير (18/ 142) برقم (299) . والدارقطني في سننه (3/ 225) . وصححه الألباني انظر إرواء الغليل (6/ 258- 260) ، وصحيح الجامع الصغير، رقم (7433، 7434) .
(4) رواه البخاري- انظر الفتح 13 (7420) .(1/508)
قال الإمام النّوويّ في شرحه على حديث مسلم: قال أنس بن مالك- رضي الله عنه-: ما أولم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على امرأة من نسائه أكثر أو أفضل ممّا أولم على زينب» .
قال رحمه الله: «يحتمل أنّ سبب ذلك الشّكر لنعمة الله في أنّ الله تعالى زوّجه إيّاها بالوحي لا بوليّ وشهود بخلاف غيرها. ومذهبنا الصّحيح المشهور عند أصحابنا صحّة نكاحه صلّى الله عليه وسلّم بلا وليّ ولا شهود لعدم الحاجة إلى ذلك في حقّه صلّى الله عليه وسلّم» «1» .
3- الجمع بين أكثر من أربع نسوة:
شرع الله تبارك وتعالى لعباده النّكاح لما فيه من الفوائد العظيمة والحكم الجسيمة، فمن ذلك: الإبقاء على النّوع الإنسانيّ، والتّحصّن من الشّيطان، وكسر التّوقان ودفع غوائل الشّهوة، وغضّ البصر وحفظ الفرج، وترويح النّفس وإيناسها بما أباحه الله لتقوى وتنشط على العبادة، ومجاهدة النّفس ورياضتها بالرّعاية والولاية والقيام بحقوق الأهل، والاجتهاد في كسب الحلال، والعناية بتربية الأولاد إلى غير ذلك من الفوائد والحكم والأسرار.
وقد جاءت الأدلّة الشّرعيّة مبيحة الجمع بين أربع نسوة ومحرّمة الزّيادة على ذلك لآحاد المؤمنين.
قال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» .
قال ابن عبّاس وجمهور العلماء: إنّ المقام مقام امتنان وإباحة فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره» «3» .
ولمّا أسلم غيلان بن سلمة الثّقفيّ أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اختر منهنّ أربعا» «4» .
وقال الشّافعيّ رحمه الله: «دلّت سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المبيّنة عن الله أنّه لا يجوز لأحد غير رسول الله أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة» .
قال الحافظ ابن كثير: وهذا الّذي قاله الشّافعي مجمع عليه بين العلماء» «5» . فهذا الحكم من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم الّتي انفرد بها دون غيره من الأمّة، ولا خلاف بين العلماء أنّه توفّي صلّى الله عليه وسلّم عن تسع نسوة؛ سودة بنت زمعة القرشيّة،
__________
(1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 229، 230) .
(2) سورة النساء: آية (2، 3) .
(3) انظر تفسير ابن كثير (1/ 460) .
(4) رواه أبو داود برقم (2241) . والترمذي برقم (1128) . وابن ماجه برقم (1953) الإمام أحمد في مسنده مطولا (2/ 14) . قال الحافظ ابن كثير: إسناد أحمد ثقات على شرط الشيخين. انظر تفسير ابن كثير (1/ 461) . وقال الحافظ الهيثمي: رواه أحمد والبزار وأبو يعلى ورجال أحمد رجال الصحيح.. انظر مجمع الزوائد (4/ 223) .
(5) انظر تفسير ابن كثير (1/ 460) .(1/509)
وعائشة بنت أبي بكر القرشيّة، وأمّ سلمة هند بنت أبي أميّة القرشيّة، وحفصة بنت عمر القرشيّة، وزينب بنت جحش الأسديّة، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة، وأمّ حبيبة رملة بنت أبي سفيان القرشيّة، وصفيّة بنت حييّ النّضيريّة، وميمونة بنت الحارث الهلاليّة.
فائدة: والحكمة في استكثاره صلّى الله عليه وسلّم من النّساء:
قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: والّذي تحصّل من كلام أهل العلم في الحكمة في استكثاره من النّساء عدّة أوجه: أحدها: أن يكثر من يشاهد أحواله الباطنة فينتفي عنه ما يظنّ به المشركون من أنّه ساحر أو غير ذلك.
ثانيها: لتتشرّف به قبائل العرب بمصاهرته فيهم. ثالثها: للزّيادة في تآلفهم بذلك. رابعها: للزّيادة في التّكليف حيث كلّف أن لا يشغله ما حبّب إليه منهنّ عن المبالغة في التّبليغ. خامسها: لتكثر عشيرته من جهة نسائه فتزداد أعوانه على من يحاربه. سادسها: نقل الأحكام الشّرعيّة الّتي لا يطّلع عليها الرّجال، لأنّ أكثر ما يقع مع الزّوجة ممّا شأنه أن يختفي مثله. سابعها: الاطّلاع على محاسن أخلاقه الباطنة، فقد تزوّج أمّ حبيبة وأبوها إذ ذاك يعاديه، وصفيّة بعد قتل أبيها وعمّها وزوجها، فلو لم يكن أكمل الخلق في خلقه لنفرن منه، بل الّذي وقع أنّه كان أحبّ إليهنّ من جميع أهلهنّ. ثامنها: تحصينهنّ والقيام بحقوقهنّ» «1» .
4- بدء القتال بالبلد الأمين:
شرّف الله عزّ وجلّ أمّ القرى البلد الحرام وفضّلها واختارها وخصّها بخصائص ومزايا ليست لغيرها من بقاع الدّنيا فمن ذلك أنّ بها بيته العتيق أوّل بيت وضع للنّاس لعبادتهم ونسكهم يطوفون به ويصلّون إليه ويعتكفون عنده ومن دخله كان آمنا. وجعله مثابة للنّاس يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار ولا يقضون منه وطرا بل كلّما ازدادوا له زيارة ازدادوا له اشتياقا.
لا يرجع الطّرف عنها حين ينظرها ... حتّى يعود إليها الطّرف مشتاقا
فلله كم أنفق في حبّها من الأموال والأرواح ورضي المحبّ بمفارقة الأهل والأحباب والأوطان. جعل عرصاتها مناسك لعباده فرض عليهم قصدها وجعل ذلك من فروض الإسلام. وأخبر أنّها أمّ القرى فالقرى كلّها تبع لها وفرع عليها فليس لها في القرى عديل «2» . إنّها بلد حرام حرّمها الله يوم خلق السّماوات والأرض فالقتال فيها لا يحلّ ولا يجوز إلى غير ذلك من خصائصها.
__________
(1) انظر فتح الباري (9/ 17) بتصرف يسير.
(2) زاد المعاد (1/ 46- 51) باختصار وتصرف.(1/510)
وقد أباح الله تبارك وتعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم مكّة المكرّمة عام الفتح ساعة من نهار فدخلها بغير إحرام وقتل من أهلها يومئذ نحو عشرين فكان ذلك من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم. وقد دلّت على ذلك الأحاديث الصّحيحة، منها ما ذكره صلّى الله عليه وسلّم في خطبته صبيحة ذلك اليوم حيث قال:
إنّ مكّة حرّمها الله ولم يحرّمها النّاس. فلا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد «1» بها شجرة. فإن أحد ترخّص بقتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها فقولوا له: إنّ الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم. وإنّما أذن لي فيها ساعة من نهار. وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلّغ الشّاهد الغائب «2» .
النّوع الثّالث ما وجب عليه دون غيره
والحكمة في اختصاصه بها زيادة الزّلفى ورفع الدّرجات. وهذا القسم مثّل له العلماء رحمهم الله بأمثلة عديدة منها اختصاصه بوجوب صلاة الضّحى وقيام اللّيل والسّواك والأضحية ووجوب مشاورة أصحابه..»
ولكنّ أمثلة هذا النّوع أو ا* كثرها لم يحصل عليها اتّفاق بين العلماء لتعدّد الأدلّة المثبتة والنّافية.
ولهذا لم نتعرّض لمسائل هذا النّوع بحثا ودراسة بل أشرنا إلى بعض أمثلته ممّا ذكره العلماء كصلاة الضّحى وقيام اللّيل.. إلخ. ومن أراد الزّيادة فليرجع إلى مظانّ ذلك «3» .
النّوع الرّابع ما اختصّ به عن أمّته من الفضائل والكرامات
1- عصمة في الأقوال والأفعال:
كان صلّى الله عليه وسلّم معصوما في أقواله وأفعاله لا يجوز عليه الخطأ فيما يتعلّق بأداء الرّسالة ولا يقرّ عليه بل ينزل الوحي بتصحيحه.
قال تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «4» .
__________
(1) لا يعضد: قال أهل اللغة: العضد القطع.
(2) رواه البخاري- انظر الفتح 4 (1832) . ومسلم (1354) .
(3) انظر الفصول لابن كثير (ص 307- 311) ، خصائص أفضل المخلوقين لابن الملقن (ص 102- 158) رسالة ما جستير، والخصائص الكبرى للسيوطي (2/ 396- 404) .
(4) سورة النجم: الآيات (1- 4) .(1/511)
وهذا ممّا يشترك فيه هو والأنبياء عليهم السّلام. بخلاف سائر أمّته فإنّه يجوز ذلك كلّه على كلّ منهم منفردا. أمّا إذا اجتمعوا كلّهم على قول واحد فلا يرد عليهم الخطأ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله تعالى قد أجار أمّتي أن تجتمع على ضلالة «1» .
2- من استهان به أو سبّه كفر:
تضافرت الأدلّة من الكتاب والسّنة وإجماع الأمّة موضّحة ومجلّية ما يجب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الحقوق وما يتعيّن له من برّ وتوقير وإكرام وتعظيم ومن أجل هذا حرّم الله تبارك وتعالى أذاه في كتابه وأجمعت الأمّة على قتل منتقصه وسابّه. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً «2» .
وقال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «3» .
فكلّ من استهان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو سبّه أو عابه أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرّض به أو شبّهه بشيء على طريق السّبّ له أو الإزراء عليه أو التّصغير لشأنه أو الغضّ منه والعيب له فإنّه يقتل كفرا.
والأدلّة على ذلك كثيرة منها:
- ما روى أبو داود والنّسائيّ: عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما-؛ أنّ أعمى كانت له أمّ ولد، تشتم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر. قال: فلمّا كانت ذات ليلة جعلت تقع في النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتشتمه، فأخذ المغول «4» فوضعه في بطنها، واتّكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطّخت ما هناك بالدّم، فلمّا أصبح ذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجمع النّاس فقال: «أنشد الله رجلا فعل ما فعل، لي عليه حقّ، إلّا قام فقام الأعمى يتخطّى النّاس، وهو يتزلزل حتّى قعد بين يدي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللّؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلمّا كانت البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتّكأت عليها حتّى قتلتها، فقال النّبيّ
__________
(1) رواه ابن أبي عاصم في كتاب" السنة"، (2/ 1) ، رقم (79) من حديث كعب بن عاصم الأشعري ورواية أخرى من حديث أنس بن مالك رضي الله عنهم. وذكر له الشيخ الألباني طرقا ثم قال: فالحديث بمجموع هذه الطرق حسن. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (1331) . وأيضا صحيح الجامع الصغير برقم (1782) .
(2) سورة الأحزاب آية (57) .
(3) سورة التوبة آية (61) .
(4) قال في «عون المعبود» : المغول سيف قصير يشتمل به الرجل تحت ثيابه. وقيل: حديدة دقيقة لها حد ماض، وقيل: سوط في جوفه سيف دقيق يشده الفاتك على وسطه ليغتال به الناس. انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود (12/ 15) .(1/512)
صلّى الله عليه وسلّم: ألا اشهدوا: أنّ دمها هدر» «1» .
وروى أبو داود والنّسائيّ؛ عن أبي برزة- رضي الله عنه-؛ قال: «كنت عند أبي بكر فتغيّظ على رجل، فاشتدّ عليه، فقلت: تأذن لي يا خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أضرب عنقه؟ قال: فأذهبت كلمتي غضبه، فقام فدخل فأرسل إليّ فقال: ما الّذي قلت آنفا؟ قلت: ائذن لي أضرب عنقه. قال: أكنت فاعلا لو أمرتك؟ قلت: نعم قال: لا والله ما كانت لبشر بعد محمّد صلّى الله عليه وسلّم» «2» .
وأمّا الإجماع:
فقد قال أبو بكر بن المنذر- رحمه الله-: «أجمع عوامّ أهل العلم على أنّ من سبّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقتل» «3» .
وقال محمّد بن سحنون- رحمه الله-: «أجمع العلماء أنّ شاتم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المتنقّص له كافر والوعيد جار عليه بعذاب الله له وحكمه عند الأمّة القتل» «4» . وقد ذكر ذلك ونقل الإجماع عليه غير واحد من أهل العلم.
3- الكذب عليه ليس كالكذب على غيره:
الكذب رذيلة محضة وخصلة ذميمة وهو من قبائح الذّنوب وفواحش العيوب وأقبح الصّفات، يقلب الموازين، ويمسخ الحقائق ويشوّه وجه الجمال في كلّ شيء يداخله وينبيء عن تغلغل الفساد في نفس صاحبه، ويجرّ به إلى الفجور والنّفاق.
قال صلّى الله عليه وسلّم: « ... وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور وإنّ الفجور يهدي إلى النّار» «5» .
وقال: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها: «إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» «6» .
ومن أشدّ أنواع الكذب وأشنعه الكذب على الله تعالى أو الكذب على رسوله صلّى الله عليه وسلّم لأنّه افتراء في الدّين، وتلاعب بشرائع الله لعباده، وتجرّؤ عظيم على النّار. ولهذا أجمع العلماء على تغليظ الكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنّه من الكبائر وأنّ من كذب عليه متعمّدا مستجيزا لذلك فهو كافر.
__________
(1) سنن أبي داود برقم (4361) . وسنن النسائي (7/ 107، 108) . وصححه الألباني انظر صحيح سنن أبي داود برقم (3666) .
(2) سنن أبي داود برقم (4363) . والنسائي (7/ 109) . وقال ابن تيميه رحمه الله: رواه أبو داود في سننه بإسناد صحيح. انظر" الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص 92) .
(3) " الشفا" للقاضي عياض (2/ 474) .
(4) " الشفا" للقاضي عياض (2/ 476) .
(5) رواه البخاري- انظر الفتح 10 (6094) . ومسلم برقم (2607) .
(6) رواه البخاري- انظر الفتح 1 (34) . ومسلم برقم (58) .(1/513)
قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ كذبا عليّ ليس ككذب على أحد فمن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار» «1» .
وقال: «بلّغوا عنّي ولو آية وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار» «2» .
وهذا المعنى: وهو توعّد من كذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالنّار. ورد من طرق متواترة صرّح بذلك غير واحد. ومن بشاعة هذه الجريمة وشناعتها أنّ بعض العلماء منهم الإمام أحمد ويحيى بن معين وأبو بكر الحميديّ، أفتوا بأنّ من كذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توبته مردودة ومن ثمّ لا تقبل روايته، إلّا أنّ جماهير العلماء على خلاف قولهم.
بينما نجد أنّ من كذب على غير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإن كان ذلك إثما وفسقا إلّا أنّ توبته صحيحة بالإجماع.
4- رؤية خاصّة:
- عن عائشة- رضي الله عنها-؛ قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما: «يا عائش هذا جبريل يقرئك السّلام.
فقلت: وعليه السّلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى» «3» .
- وعن أبي ذرّ- رضي الله عنه-؛ قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون.
إنّ السّماء أطّت «4» وحقّ لها أن تئطّ. ما فيها موضع أربع أصابع إلّا وملك واضع جبهته ساجدا لله. والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا. وما تلذّذتم بالنّساء على الفرش. ولخرجتم إلى الصّعدات «5» تجأرون «6» إلى الله» «7» .
__________
(1) رواه البخاري- انظر الفتح 6 (3461) .
(2) رواه البخاري- انظر الفتح 3 (1291) . ومسلم برقم (4) .
(3) رواه البخاري- انظر الفتح 7 (3768) . مسلم برقم (91/ 2447) .
(4) أطت: في النهاية: الأطيط صوت الأقتاب وأطيط الإبل أصواتها وحنينها. أي إن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطت. وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة، وإن لم يكن ثم أطيط. وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله تعالى. انظر النهاية (1/ 54) .
(5) الصعدات: في النهاية: هي الطرق. وهي جمع صعد. وصعد جمع صعيد. كطريق وطرق وطرقات. وقيل: هي جمع صعدة، كظلمة، وهي فناء باب الدار وممر الناس بين يديه. انظر النهاية (3/ 29) ، وجامع الأصول (4/ 13) .
(6) تجأرون: أي ترفعون أصواتكم وتستغيثون.
(7) الترمذي برقم (2312) وقال: حديث حسن غريب. وابن ماجه برقم (4190) . ورواه الإمام أحمد (5/ 173) . والحاكم في المستدرك (2/ 510) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأيضا حسنه الألباني- انظر صحيح الجامع الصغير برقم (2445) .(1/514)
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ قال: صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما. ثمّ انصرف فقال: يا فلان ألا تحسن صلاتك؟ ألا ينظر المصلّي إذا صلّى كيف يصلّي؟ فإنّما يصلّي لنفسه. إنّي والله لأبصر من ورائي «1» كما أبصر من بين يديّ» «2» .
- وعنه- رضي الله عنه-؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «هل ترون قبلتي ههنا؟ فو الله ما يخفى عليّ ركوعكم ولا سجودكم. إنّي لأراكم وراء ظهري» «3» .
5- أجر تطوّعه قاعدا كتطوّعه قائما:
شرعت صلاة النّافلة لحكم عظيمة وأسرار منها زيادة الحسنات ورفعة الدّرجات، فعن ربيعة بن كعب الأسلميّ خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال: «كنت أبيت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فآتيه بوضوئه وحاجته فقال: «سلني» .
قلت: أسألك مرافقتك في الجنّة، فقال: «أو غير ذلك؟» قلت: هو ذاك. قال: «فأعنّي على نفسك بكثرة السّجود» «4» .
ومنها جبر وإكمال الفريضة إن نقصت.
- فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ أوّل ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت، فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت، فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيئا، قال الرّبّ- عزّ وجلّ-: انظروا هل لعبدي من تطوّع فيكمّل بها ما انتقص من الفريضة ثمّ تكون سائر أعماله على هذا» «5» .
هذا ولصلاة النّافلة آداب وأحكام منها:
__________
(1) لأبصر من ورائي: قال النووي- رحمه الله-: قال العلماء: معناه أن الله تعالى خلق له صلى عليه وسلم إدراكا في قفاه يبصر به من ورائه. وقد انخرقت العادة له صلى عليه وسلم بأكثر من هذا. وليس يمنع من هذا عقل ولا شرع بل ورد الشرع بظاهره فوجب القول به. قال القاضي: قال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وجمهور العلماء على أن هذه الرؤية رؤية بالعين الحقيقية. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (4/ 149- 150) .
(2) رواه مسلم برقم (423) .
(3) رواه البخاري- انظر الفتح 2 (741) . ومسلم برقم (424) .
(4) رواه مسلم برقم (489) .
(5) رواه أبو داود برقم (864) ، والترمذي برقم (413) وقال: حديث حسن. والنسائي (1/ 232) . وابن ماجه برقم (1425) . والحاكم في المستدرك (1/ 262) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وله شاهد بإسناد صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. قال الشوكاني: وأخرجه النسائي من طريق إسنادها جيد، ورجالها رجال الصحيح كما قال العراقي وصححها ابن القطان- انظر نيل الأوطار (1/ 345) . ونقل ابن علان عن الحافظ ابن حجر تصحيحه للحديث. انظر دليل الفالحين (3/ 581) .(1/515)
جواز القعود فيها مع القدرة على القيام بخلاف الفريضة فمن صلّاها كذلك فصلاته صحيحة وله نصف ثواب القائم لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «صلاة القاعد على النّصف من صلاة القائم» » .
وهذا الحكم عامّ لجميع الأمّة واختصّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك عن أمّته بأن جعلت نافلته قاعدا مع القدرة على القيام كنافلته قائما تشريفا له وتكريما.
- ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما-؛ قال: حدّثت أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«صلاة الرّجل قاعدا نصف الصّلاة» . قال فأتيته فوجدته يصلّي جالسا، فوضعت يدي على رأسه. فقال: «مالك يا عبد الله بن عمرو «قلت: حدّثت يا رسول الله أنّك قلت: صلاة الرّجل قاعدا على نصف الصّلاة وأنت تصلّي قاعدا قال: «أجل ولكنّي لست كأحد منكم» «2» .
قال النّوويّ وغيره من العلماء: ... نافلته صلّى الله عليه وسلّم قاعدا مع القدرة ثوابها كثوابه قائما وهو من الخصائص» «3» .
6- لا يورّث:
الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام سفراء الله إلى عباده وحملة وحيه مهمّتهم إبلاغ رسالات الله إلى عباده والدّعوة إلى الله وإصلاح النّفوس وتزكيتها وتصحيح الفكر المنحرف والعقائد الزّائفة وإقامة الحجّة وسياسة الأمّة فلم تكن وظيفتهم اختزان الأموال ولا توريث التّراث.
وإنّما ورّثوا علما وشرعا وبلاغا للنّاس فذلك ميراثهم وهو خير ميراث.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ العلماء ورثة الأنبياء وإنّ الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما، وإنّما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظّ وافر» «4» .
وهذا من خصائصه صلوات الله وسلامه عليه- وكذلك الأنبياء عليهم السّلام- دون أمّته أنّه لا يورث وأنّ ما تركه صدقة.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا نورث ما تركنا صدقة» «5» .
__________
(1) رواه أبو داود برقم (951) . الترمذي برقم (371) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي (3/ 223، 224) . وابن ماجه برقم (1230) . وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح. ورواه البخاري بمعناه- انظر الفتح 2 (1116) .
(2) رواه مسلم برقم (735) .
(3) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (6/ 15) .
(4) رواه أبو داود برقم (3641) . والترمذي برقم (2682) . وابن ماجه برقم (223) . والإمام أحمد في المسند (5/ 196) وصححه الألباني. انظر صحيح الجامع الصغير برقم (6173) .
(5) رواه البخاري- انظر الفتح 12 (6730) . ومسلم برقم (1758) .(1/516)
وقال: إنّا معاشر الأنبياء لا نورث» «1» .
وقال: «لا يقتسم ورثتي دينارا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة» «2» .
قال ابن كثير- رحمه الله-: «وقد أجمع على ذلك أهل الحلّ والعقد ولا التفات إلى خرافات الشّيعة والرّافضة فإنّ جهلهم قد سارت به الرّكبان» «3» .
قال العلماء- رحمهم الله-: «والحكمة في أنّ الأنبياء صلوات الله عليهم لا يورثون أنّه لا يؤمن أن يكون في الورثة من يتمنّى موته فيهلك بذلك، ولئلّا يظنّ بهم الرّغبة في الدّنيا وجمعها لوارثهم فيهلك الظّانّ وينفر النّاس عنهم، وأنّ الأنبياء في حكم الآباء لأممهم فيكون ميراثهم للجميع» .
7- أزواجه أمّهات المؤمنين:
شرّف الله- تبارك وتعالى- أزواج نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وخصّهنّ بخصائص ليست لغيرهنّ من النّساء إكراما وإجلالا لعبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
ومن ذلك أن جعلهنّ أمّهات المؤمنين؛ فقال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ «4» .
ومعنى هذه الأمومة: الاحترام والتّوقير والإكرام والإعظام والإجلال والطّاعة وتحريم العقوق، ولكن لا تجوز الخلوة بهنّ، ولا ينتشر التّحريم إلى بناتهنّ وأخواتهنّ بالإجماع. كما حرم نكاحهنّ على الرّجال. قال تعالى:
وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً «5» .
وعلى هذا انعقد إجماع العلماء قاطبة أنّ من توفّي عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أزواجه أنّه يحرم على غيره تزوّجها من بعده لأنّهنّ أزواجه في الدّنيا والآخرة وأمّهات المؤمنين.
وذلك من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم الّتي انفرد بها عن أمّته.
8- رؤيته في المنام حقّ:
اختصّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأنّ من رآه في المنام كان كمن رآه في اليقظة ومنع الشّيطان أن يتصوّر في خلقته لئلّا يكذب على لسانه في النّوم، كما منع أن يتصوّر في صورته في اليقظة إكراما له.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند (2/ 463) ، وأصله في البخاري- انظر الفتح 12 (6730) . ومسلم برقم (1758) .
(2) رواه البخاري- انظر الفتح 12 (6729) . ومسلم برقم (1760) .
(3) انظر كتاب" الفصول" لابن كثير (ص 325) .
(4) سورة الأحزاب آية (6) .
(5) سورة الأحزاب آية (53) .(1/517)
- فعن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من رآني في المنام فقد رآني فإنّ الشّيطان لا يتمثّل بي» «1» .
قال القرطبيّ- رحمه الله- بعد أن سرد أقوالا كثيرة في معنى الحديث: والصّحيح في تأويل هذا الحديث. أنّ رؤيته صلّى الله عليه وسلّم في كلّ حالة ليست باطلة ولا أضغاثا بل هي حقّ في نفسها. وهذا قول القاضي أبي بكر بن الطّيّب وغيره» «2» . أ. هـ.
وبيّن العلماء رحمهم الله أنّ هذه الرّؤيا مشروطة بأن يراه الرّائي على صورته الّتي كان عليها في الحياة الدّنيا والّتي جاءت مفصّلة في الأحاديث.
فائدة: قال الحافظ ابن كثير: واتّفقوا على أنّ من نقل عنه حديثا في المنام أنّه لا يعمل به لعدم الضّبط في رواية الرّائي فإنّ المنام محلّ تضعف فيه الرّوح وضبطها» «3» .
9- عبارات جافية في ظاهرها رحمة في غايتها:
لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاحشا ولا متفحّشا ولا لعّانا ولا منتقما لنفسه إلّا أن تنتهك حرمات الله فينتقم لله تعالى، وإنّما كان صلّى الله عليه وسلّم عفوّا حليما عظيم الشّفقة على أمّته والاعتناء بمصالحهم والاحتياط لهم والرّغبة في كلّ ما ينفعهم كما مرّ مفصّلا، فعند ما قدم الطّفيل الدّوسيّ وأصحابه فقالوا: يا رسول الله، إنّ دوسا قد كفرت وأبت فادع الله عليها. فقال: «اللهمّ اهد دوسا وائت بهم» «4» وأمثال هذا كثير.
وما وقع منه صلّى الله عليه وسلّم في النّادر والقليل من دعاء وألفاظ ظاهرها السّبّ فمحمول- كما قال النّوويّ رحمه الله- على أنّ ظاهرها وحقيقتها غير مرادة وليس هي عن قصد بل هي ممّا جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلانيّة كقوله: تربت يمينك» «5» و «عقرى حلقى» «6» وقوله لامرأة «لا كبر سنّك» وقوله في معاوية: «لا أشبع الله بطنه «7» » أو محمول على أنّ من أطلق في حقّه هذه العبارات مستوجب مستحقّ له في الظّاهر بأمارة شرعيّة.
__________
(1) رواه البخاري- انظر الفتح 12 (6994) . ومسلم برقم (2266) .
(2) انظر فتح الباري (12/ 401) .
(3) انظر الفصول في سيرة الرسول لابن كثير (ص 298- 299) .
(4) رواه البخاري- انظر فتح الباري 7 (4392) . ومسلم برقم (2524) واللفظ له.
(5) تربت يمينك: ترب الرجل إذا افتقر أي لصق بالتراب، وأترب إذا استغني.. انظر النهاية (1/ 184) .
(6) عقرى حلقي: قال الزمخشري: هما صفتان للمرأة المشئومة أي أنها تعقر قومها وتحلقهم: أي تستأصلهم من شؤمها عليهم. انظر النهاية (3/ 272، 273) .
(7) رواه مسلم برقم (2604) .(1/518)
ويكون في باطن الأمر ليس أهلا لذلك، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مأمور بالحكم بالظّاهر والله يتولّى السّرائر «1» . فخاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعظيم رحمته وشفقته أن يصادف شيء من هذه العبارات إجابة فسأل ربّه سبحانه وتعالى ورغب إليه في أن يجعل ذلك رحمة وكفّارة وقربة وطهورا وأجرا. وهذا في حقّ من لم يكن لذلك أهلا وكان مسلما وإلّا فقد دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الكفّار والمنافقين ولم يكن ذلك لهم رحمة. فتحوّل الدّعاء ونحوه لمن ليس له بأهل إلى كفّارة ورحمة وقربة من جملة خصائصه صلّى الله عليه وسلّم الّتي اختصّ بها عن أمّته.
- فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: «اللهمّ إنّي أتّخذ عندك عهدا لن تخلفنيه فإنّما أنا بشر فأيّ المؤمنين آذيته، شتمته، لعنته، جلدته، فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقرّبه بها إليك يوم القيامة» «2» .
__________
(1) انظر شرح النووي علي صحيح مسلم (16/ 152) .
(2) رواه البخاري- مختصرا- انظر الفتح 11 (6361) . ومسلم برقم (2601) واللفظ له.(1/519)
معجزات ودلائل نبوّة خاتم الأنبياء والمرسلين صلّى الله عليه وسلّم
تمهيد:
أجرى الله- تبارك وتعالى- على يدي أنبيائه ورسله من المعجزات الباهرات والدّلائل القاطعات والحجج الواضحات ما يدلّ على صدق دعواهم أنّهم رسل الله، وكي تقوم الحجّة البالغة على النّاس فلا يبقى لأحد عذر في عدم تصديقهم وطاعتهم. فقال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ «1» .
والفرق بين المعجزة وغيرها من الدّلالة والعلامة أنّ المعجزة يشترط فيها التّحدّي وأن يكون المتحدّى به ممّا يعجز عنه البشر في العادة المستمرّة. أمّا الدّلائل والعلامات فتقع دالّة على صدق الأنبياء والرّسل من غير سبق تحدّ وسمّيت المعجزة كذلك لعجز الخلق عن معارضتها والإتيان بمثلها.
والمعجزة على ضربين:
- ضرب هو من نوع قدرة البشر، فعجزوا عنه فتعجيزهم عنه فعل لله دلّ على صدق نبيّه كتحدّي اليهود أن يتمنّوا الموت.
- وضرب خارج عن قدرتهم، فلم يقدروا على الإتيان بمثله كانشقاق القمر، ممّا لا يمكن أن يفعله أحد إلّا الله تعالى فيكون ذلك على يد النّبيّ من فعل الله تعالى وتحدّي من يكذّبه أن يأتي بمثله تعجيزا له «2» .
ومعجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الّتي ظهرت على يديه تشمل كلا النّوعين. فهو صلّى الله عليه وسلّم أكثر الرّسل معجزة وأبهرهم آية وأظهرهم برهانا فله من المعجزات ما لا يحدّ ولا يعدّ، وقد ألّفت في معجزاته صلّى الله عليه وسلّم المؤلّفات الكثيرة وتناولها العلماء بالشّرح والبيان. ممّن اعتنى بجمعها من الأئمّة أبو نعيم الأصبهانيّ والبيهقيّ.
ومعجزاته صلّى الله عليه وسلّم، منها ما نقل إلينا نقلا متواترا من طرق كثيرة تفيد القطع عند الأمّة.
ومنها ما لم يبلغ مبلغ الضّرورة والقطع وهو على نوعين:
- نوع مشتهر منتشر، رواه العدد وشاع الخبر به عند أهل العلم بالآثار، ونقلته السّير والأخبار، كنبع الماء من بين أصابعه الشّريفة صلّى الله عليه وسلّم، وتكثيره الطّعام.
- ونوع منه اختصّ به الواحد والاثنان ورواه العدد اليسير ولم يشتهر اشتهار غيره لكنّه إذا جمع إلى مثله اتّفقا في المعنى واجتمعا على الإتيان بالمعجز «3» .
__________
(1) سورة الحديد: من الآية رقم (25) .
(2) انظر الشفا للقاضي عياض (1/ 491، 492) بتصرف.
(3) المرجع السابق (1/ 495) .(1/520)
وبعد هذا التّمهيد الموجز، نورد بإذن الله تعالى، جملة من معجزات ودلائل نبوّة سيّد الأوّلين والآخرين صلّى الله عليه وسلّم ممّا ساندها الدّليل الصّحيح.
المعجزة الكبرى:
أعطى الله عزّ وجلّ كلّ نبيّ من الأنبياء عليهم السّلام معجزة خاصّة به لم يعطها بعينها غيره تحدّى بها قومه، وكانت معجزة كلّ نبيّ تقع مناسبة لحال قومه وأهل زمانه.
فلمّا كان الغالب على زمان موسى عليه السّلام السّحر وتعظيم السّحرة، بعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار، وحيّرت كلّ سحّار، فلمّا استيقنوا أنّها من عند العزيز الجبّار انقادوا للإسلام
وصاروا من عباد الله الأبرار.
وأمّا عيسى عليه السّلام فبعث في زمن الأطبّاء وأصحاب علم الطّبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلّا أن يكون مؤيّدا من الّذي شرع الشّريعة، فمن أين للطّبيب قدرة على إحياء الجماد، وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التّناد، أو على مداواة الأكمه والأبرص.
وكذلك نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاريد الشّعراء، فأتاهم بكتاب من عند الله عزّ وجلّ، فاتّهمه أكثرهم أنّه اختلقه وافتراه من عنده فتحدّاهم ودعاهم أن يعارضوه ويأتوا بمثله وليستعينوا بمن شاءوا فعجزوا عن ذلك كما قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «1» .
وكما قال الله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ* فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ «2» .
ثمّ تقاصر معهم إلى عشر سور منه، فقال في سورة هود. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «3» .
ثمّ تنازل إلى سورة فقال في سورة يونس: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «4» .
وكذلك في سورة البقرة وهي مدنيّة أعاد التّحدّي بسورة منه، وأخبر تعالى أنّهم لا يستطيعون ذلك أبدا لا في الحال ولا في المآل. فقال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ
__________
(1) سورة الإسراء: آية رقم (88) .
(2) سورة الطور: آية رقم (33، 34) .
(3) سورة هود: آية رقم (13) .
(4) سورة يونس: آية رقم (38) .(1/521)
دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ «1» .
وهكذا وقع، فإنّه من لدن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلى زماننا هذا لم يستطع أحد أن يأتي بنظيره ولا نظير سورة منه، وهذا لا سبيل إليه أبدا، فإنّه كلام ربّ العالمين الّذي لا يشبهه شيء من خلقه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فأنّى يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق؟
وقد انطوى كتاب الله العزيز على وجوه كثيرة من وجوه الإعجاز:
ذلك أنّ القرآن الكريم معجز في بنائه التّعبيريّ وتنسيقه الفنّيّ باستقامته على خصائص واحدة في مستوى واحد لا يختلف ولا يتفاوت ولا تتخلّف خصائصه.
معجز في بنائه الفكريّ وتناسق أجزائه وتكاملها، فلا فلتة فيه ولا مصادفة، كلّ توجيهاته وتشريعاته، تلتقي وتتناسب وتتكامل وتحيط بالحياة البشريّة وتستوعبها وتلبّيها وتدفعها دون أن تتعارض جزئيّة واحدة من ذلك المنهاج الشّامل الضّخم مع جزئيّة أخرى، ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانيّة أو تقتصر عن تلبيتها، وكلّها مشدودة إلى محور وإلى عروة واحدة في اتّساق لا يمكن أن تفطن إليه خبرة الإنسان المحدودة.
معجز في يسر مداخله إلى القلوب والنّفوس ولمس مفاتيحها وفتح مغاليقها واستجاشه مواضع التّأثّر والاستجابة فيها «2» .
وقد سرد هبة الدّين الحسينيّ الشّهرستانيّ المزايا الإجماليّة للقرآن وهي:
1- فصاحة ألفاظه الجامعة لكلّ شرائعها.
2- بلاغته بالمعنى المشهور أي موافقة الكلام لمقتضى الحال ومناسبات المقام أو بلاغته الذّوقيّة المعنويّة.
3- عروبة العبارات الممثّلة لسذاجة البداوة مع اشتمالها على بسائط الحضارة.
4- توافر المحاسن الطّبيعيّة فوق المحاسن البديعيّة.
5- إيجاز بالغ مع الإعجاز بدون أن يخلّ بالمقصود.
6- إطناب غير مملّ في مكرّراته.
7- سموّ المعاني وعلوّ المرمى في قصد الكمال الأسمى.
8- طلاوة أساليبه الفطريّة، ومقاطعه المبهجة، وأوزانه المتنوّعة.
__________
(1) سورة البقرة: آية رقم (23، 24) .
(2) قال در منغم في كتابه «حياة محمد» إن جمال القرآن الأدبي الفائق وقوته النورانية لا يزالان إلى اليوم لغزا لم يحل وهما يضعان من يتلوه- ولو كان أقل الناس تقوى- في حالة خاصة من الحماسة (عن كتاب محمد رسول الله لبشري زخاري ميخائيل ص 34) .(1/522)
9- فواصله الحسنى وأسماعه الفطريّة.
10- أنباؤه الغيبيّة، وإخباره عن كوامن الزّمان، وخفايا الأمور.
11- أسرار علميّة لم تهتد العقول إليها بعد عصر القرآن إلّا بمعونة الأدوات الدّقيقة، والآلات الرّقيقة المستحدثة.
12- غوامض أحوال المجتمع، وآداب أخلاقيّة تهذّب الأفراد وتصلح شؤون العائلات.
13- قوانين حكيمة في فقه تشريعيّ، فوق ما في التّوراة والإنجيل، وكتب الشّرائع الأخرى.
14- سلامته عن التّعارض، والتّناقض، والاختلاف.
15- خلوصه من تنافر الحروف، وتنافي المقاصد.
16- ظهوره على لسان أمّيّ لم يعرف الدّراسة، ولا ألف محاضرة العلماء، ولا جاب الممالك سائحا مستكملا.
17- طراوته «1» في كلّ زمان، كونه طريّا كلّما تلي وأينما تلي.
18- اشتماله على السّهل الممتنع الّذي يعدّ ملاك الإعجاز، والتّفوّق النّهائيّ.
19- قوّة عبارته لتحمّل الوجوه، وتشابه المعاني.
20- قصصه الحلوة، وكشوفه التّاريخيّة من حوادث القرون الخالية.
21- أمثاله الحسنى الّتي تجعل المعقول محسوسا، وتجعل الغائب عن الذّهن حاضرا لديه.
22- معارفه الإلهيّة كأحسن كتاب في علم اللّاهوت، وكشف أسرار عالم الملكوت، وأوسع سفر من مراحل المبدإ والمعاد.
23- خطاباته البديعيّة، وطرق إقناعه الفذّة.
24- تعاليمه العسكريّة، ومناهجه في سبيل الصّلح، وفنون الحرب.
25- سلامته من الخرافات والأباطيل، الّتي من شأنها إجهاز العلم عليها كلّما تكاملت أصوله وفروعه.
26- قوّة الحجّة، وتفوّق المنطق.
27- اشتماله على الرّموز في فواتح السّور، ودهشة الفكر حولها وحول غيرها.
28- جذاباته الرّوحيّة الخلّابة للألباب، السّاحرة للعقول، الفتّانة للنّفوس.
__________
(1) قال ديزيريه بلا نشيه في كتابه «دراسات في تاريخ الأديان» في وصف القرآن: «كفى هذا القرآن مجدا وجلالا أن الأربعة عشر قرنا التي مرت عليه لم تستطع أن تجفف أسلوبه بل لا يزال غضّا كأن عهده بالحياة أمس (راجع كتاب محمد رسول الله هكذا بشرت الأناجيل. لبشري زخاري ميخائيل ص 35) .(1/523)
ولعلّ الأصوب أن يضاف إلى ذلك تضمّنه الأسس لشريعة إنسانيّة صالحة لكلّ زمان ومكان «1» .
هذا وإنّ وجوه إعجاز القرآن كثيرة، وقد ألّفت فيها كتب كثيرة ويمكن أن يضاف إلى ما ذكره الشّهرستانيّ ما يلي:
1- ترك المعارضة مع توفّر الدّواعي وشدّة الحاجة، ممّا يؤكّد عجز البشر عن الإتيان بمثله.
2- اتّساق القرآن في أغراضه ومعانيه على طول المدّة الّتي استغرقها في تجمّعه، فخواتيمه بعد ربع قرن جاءت مطابقة متساوقة لفواتحه يصدّق بعضها بعضا، ويكمّله كأنّه نفس واحد.
3- سهولة حفظه كما قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ* «2» . فهو ميسّر على جميع الألسنة ومحفوظ في الصّدور.
4- حسن التّخلّص من قصّة إلى أخرى والخروج من باب إلى غيره.
5- إطنابه في خطاب اليهود، وإيجازه في خطاب العرب، للتّفاوت بينهما فهما وبلاغة.
6- ما أنبأ به من أخبار القرون السّالفة، ممّا كان لا يعلم منه القصّة الواحدة إلّا الفذّ من أحبار أهل الكتاب.
7- وجود كلمات في جمل لا يسدّ مسدّها غيرها مثل قوله تعالى: وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي «3» فليس بمقدور أحد أن يأتي بكلمة تسدّ مسدّها.
8- نزاهته في التّعبير كقوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ»
وقوله: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ «5» وقوله: وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ «6» وقوله: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ* «7» .
9- خلوص ألفاظ الهجاء فيه من الفحش، كقوله تعالى: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ «8» .
__________
(1) عن كتاب (نظرات في القرآن) لمحمد الغزالي. قلت ومثال واحد على ذلك قوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ولم يقل فصوموه، كما لم يحدد مواقيت الصلاة لاختلاف المواقع في الكرة الأرضية، وهذا ما يجعله موافقا لكل زمان ومكان.
(2) سورة القمر، آية (17) .
(3) سورة طه، آية (18) .
(4) سورة البقرة، آية (187) .
(5) سورة البقرة، آية (223) .
(6) سورة النساء، آية (21) .
(7) سورة النساء، آية (43) .
(8) سورة النور، آية (50) .(1/524)
10- التّدرّج في الأحكام.
11- ما تضمّنه من الأخبار عن الضّمائر، كقوله تعالى: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ «1» وقوله تعالى: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا «2» وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ «3» وقوله: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ «4» .
12- جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة، وهما كالمتضادّين لا يجتمعان في كلام البشر غالبا.
13- اقتران معانيه المتغايرة في السّور المختلفة، فيخرج في السّورة من وعد إلى وعيد، ومن ترغيب إلى ترهيب، ومن ماض إلى مستقبل، ومن قصص إلى مثل، ومن حكمة إلى جدل، فلا يتنافر، وهي في غيره من الكلام متنافرة.
14- لا يخرج عن أسلوبه ولا يزول عن اعتداله باختلاف آياته في الطّول والقصر.
15- آي وردت بتعجيز قوم في قضايا وإعلامهم أنّهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا، فالإخبار بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن معجزة للقرآن.
16- قارئه لا يملّه، وسامعه لا يمجّه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبّة، وغيره من الكلام يعادى إذا أعيد، ويملّ على التّرديد.
17- كونه آية باقية لا يعدم ما بقيت الدّنيا لتكفّل الله بحفظه «5» .
قال الحافظ ابن كثير «6» :
إنّ الخلق عاجزون عن معارضة هذا القرآن، بل عن عشر سور مثله، بل عن سورة منه، وإنّهم لا يستطيعون ذلك أبدا كما قال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا «7» أي فإن لم تفعلوا في الماضي، ولن تستطيعوا ذلك في المستقبل، وهذا تحدّثان، وهو أنّه لا يمكن معارضتهم له في الحال ولا في المال. ومثل هذا التّحدّي إنّما
__________
(1) سورة المجادلة، آية (8) .
(2) سورة آل عمران، آية (154) .
(3) سورة النساء، آية (46) .
(4) سورة الأنفال، آية (7) .
(5) لقد جمع المؤلف حفظه الله كتابا ضخما في علوم القرآن وفنونه، أعانه الله على إتمامه.
(6) البداية والنهاية (6/ 65 و66) .
(7) سورة البقرة، آية (24) .(1/525)
يصدر عن واثق بأنّ ما جاء به لا يمكن للبشر معارضته، ولا الإتيان بمثله، ولو كان من متقوّل من عند نفسه لخاف أن يعارض، فيفتضح ويعود عليه نقيض ما قصد من متابعة النّاس له.
ومعلوم لكلّ ذي لبّ أنّ محمّدا صلّى الله عليه وسلّم من أعقل خلق الله، بل أعقلهم وأكملهم على الإطلاق في الأمر نفسه، فما كان ليقدم على هذا الأمر إلّا وهو عالم بأنّه لا يمكن معارضته وهكذا وقع، فإنّه من لدن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلى زماننا هذا لم يستطع أحد أن يأتي بنظيره ولا نظير سورة منه، وهذا لا سبيل إليه أبدا، فإنّه كلام ربّ العالمين الّذي لا يشبهه شيء من خلقه، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فأنّى يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق؟.
قال الحافظ ابن حجر: وقد جمع بعضهم إعجاز القرآن في أربعة أشياء:
أحدها: حسن تأليفه والتئام كلمه مع الإيجاز والبلاغة.
ثانيها: صورة سياقه وأسلوبه المخالف لأساليب كلام أهل البلاغة من العرب نظما ونثرا حتّى حارت فيه عقولهم ولم يهتدوا إلى الإتيان بشيء مثله مع توفّر دواعيهم على تحصيل ذلك وتقريعه لهم على العجز عنه.
ثالثها: ما اشتمل عليه من الإخبار عمّا مضى من أحوال الأمم السّالفة والشّرائع الدّاثرة ممّا كان لا يعلم منه بعضه إلّا النّادر من أهل الكتاب.
رابعها: الإخبار عمّا سيأتي من الكوائن الّتي وقع بعضها في العصر النّبويّ وبعضها بعده. ومن غير هذه الأربعة آيات وردت بتعجيز قوم في قضايا أنّهم لا يفعلونها فعجزوا عنها مع توفّر دواعيهم على تكذيبه، كتمنّي اليهود الموت، ومنها الرّوعة الّتي تحصل لسامعه، ومنها أنّ قارئه لا يملّ من ترداده وسامعه لا يمجّه ولا يزداد بكثرة التّكرار إلّا طراوة ولذاذة.
ومنها أنّه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدّنيا، ومنها جمعه لعلوم ومعارف لا تنقضي عجائبها ولا تنتهي فوائدها. أ. هـ ملخّصا من كلام عياض وغيره «1» .
الإسراء والمعراج:
عن أنس بن مالك- رضي الله عنه-، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أتيت بالبراق (وهو دابّة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه) قال: فركبته حتّى أتيت بيت المقدس- قال: فربطته بالحلقة الّتي يربط بها الأنبياء. قال ثمّ دخلت المسجد فصلّيت فيه ركعتين ثمّ خرجت، فجاءني جبريل عليه السّلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللّبن. فقال جبريل صلّى الله عليه وسلّم: اخترت الفطرة، ثمّ عرج بنا إلى السّماء، فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل ومن معك؟ قال محمّد قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه
__________
(1) انظر فتح الباري (8/ 623، 624) .(1/526)
ففتح لنا، فإذا أنا بآدم. فرحّب بي ودعا لي بخير. ثمّ عرج بنا إلى السّماء الثّانية- فاستفتح جبريل- عليه السّلام- فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل ومن معك؟ قال محمّد قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريّاء صلوات الله عليهما فرحّبا ودعوا لي بخير. ثمّ عرج بنا إلى السّماء الثّالثة، فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل ومن معك؟ قال محمّد قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف صلّى الله عليه وسلّم إذا هو قد أعطي شطر الحسن. فرحّب ودعا لي بخير. ثمّ عرج بنا إلى السّماء الرّابعة، فاستفتح جبريل- عليه السّلام- قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل ومن معك؟ قال محمّد قيل:
وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا، فإذا أنا بإدريس، فرحّب ودعا لي بخير. قال الله- عزّ وجلّ-:
وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا «1» . ثمّ عرج بنا إلى السّماء الخامسة، فاستفتح جبريل قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل ومن معك؟ قال محمّد قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا، فإذا أنا بهارون صلّى الله عليه وسلّم. فرحّب ودعا لي بخير.- ثمّ عرج بنا إلى السّماء السّادسة، فاستفتح جبريل عليه السّلام قيل من هذا؟ قال: جبريل، قيل ومن معك؟ قال محمّد قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا، فإذا أنا بموسى صلّى الله عليه وسلّم. فرحّب ودعا لي بخير- ثمّ عرج بنا إلى السّماء السّابعة، فاستفتح جبريل فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل ومن معك؟ قال محمّد صلّى الله عليه وسلّم قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم صلّى الله عليه وسلّم، مسندا ظهره إلى البيت المعمور- وإذا هو يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه- ثمّ ذهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة- وإذا ثمرها كالقلال قال: فلمّا غشيها من أمر الله ما غشي تغيّرت- فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها- فأوحى الله إليّ ما أوحى- ففرض عليّ خمسين صلاة في كلّ يوم وليلة- فنزلت إلى موسى صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ما فرض ربّك على أمّتك؟ قلت: خمسين صلاة: قال: ارجع إلى ربّك فاسأله التّخفيف فإنّ أمّتك لا يطيقون ذلك، فإنّي قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم- قال: فرجعت إلى ربّي فقلت: يا ربّ خفّف على أمّتي. فحطّ عنّي
خمسا، فرجعت إلى موسى فقلت: حطّ عنّي خمسا. قال. إنّ أمّتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربّك فاسأله التّخفيف- قال: فلم أزل أرجع بين ربّي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السّلام حتّى قال: يا محمّد، إنّهنّ خمس صلوات كلّ يوم وليلة- لكلّ صلاة عشر. فذلك خمسون صلاة- ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا، ومن همّ بسيّئة فلم يعملها لم تكتب شيئا، فإن عملها كتبت سيّئة واحدة- قال: فنزلت حتّى انتهيت إلى موسى صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته- فقال: ارجع إلى ربّك فاسأله التّخفيف: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: قد رجعت إلى ربّي حتّى استحييت منه «2» .
__________
(1) سورة مريم: آية (57) .
(2) رواه مسلم (162) في الإيمان: باب الإسراء.(1/527)
انشقاق القمر:
روى البخاريّ ومسلم وغيرهما عن أنس بن مالك- رضي الله عنه-؛ أنّ أهل مكّة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقّتين، حتّى رأوا حراء بينهما» «1» .
فكان هذا الانشقاق- كما قال الخطّابيّ- آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنّه ظهر في ملكوت السّماء خارجا من جملة طباع ما في هذا العالم المركّب من الطّبائع، فليس ممّا يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر «2» .
وقد ذكر الله سبحانه هذه المعجزة في كتابه العزيز، فقال عزّ من قائل: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ* وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ* وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ* وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ* حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ «3» .
ونقل الحافظ ابن كثير الإجماع على أنّ انشقاق القمر قد وقع في زمان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأنّه كان إحدى المعجزات الباهرات. وإنّ الأحاديث الّتي وردت بذلك متواترة من طرق متعدّدة تفيد القطع.
ومع عظم هذه المعجزة، فإنّ أهل مكّة المعاندين لم يصدّقوا ولم يذعنوا، بل استمرّوا على كفرهم وإعراضهم، وقالوا سحرنا محمّد، فقال بعضهم: لئن كان سحرنا ما يستطيع أن يسحر النّاس كلّهم، فسألوا من قدم عليهم من المسافرين فأخبروهم بنظير ما شاهدوه فعلموا صحّة ذلك وتيقّنوه.
تكثيره الماء ونبعه من بين أصابعه الشّريفة صلّى الله عليه وسلّم:
قال القرطبيّ رحمه الله: قصّة نبع الماء من بين أصابعه صلّى الله عليه وسلّم، تكرّرت منه في عدّة مواطن في مشاهد عظيمة، ووردت من طرق كثيرة، يفيد مجموعها العلم القطعيّ المستفاد من التّواتر المعنويّ ولم يسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، حيث نبع الماء من بين عظمه وعصبه ولحمه ودمه» «4» .
ومن هذه المواطن الّتي حدث بها تكثير الماء ونبعه من بين أصابع نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم:
- ما رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما-، قال: «عطش النّاس يوم الحديبية والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين يديه ركوة «5» ، فتوضّأ فجهش «6» النّاس نحوه فقال: «ما لكم؟» قالوا: ليس عندنا ماء نتوضّأ، ولا
__________
(1) رواه البخاري. انظر الفتح 7 (3868) . ورواه مسلم برقم (2802) .
(2) انظر فتح الباري (7/ 224) .
(3) سورة القمر: آية رقم (1- 5) .
(4) انظر فتح الباري (6/ 676، 677) .
(5) ركوة: قال ابن الأثير: الركوة إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء والجمع ركاء. انظر النهاية (2/ 261) .
(6) فجهش: قال ابن الأثير: الجهش أن يفزع الإنسان إلى الإنسان، وهو مع ذلك يريد أن يبكي كالصبي يفزع إلى أمه. انظر جامع الأصول (11/ 347) .(1/528)
نشرب إلّا ما بين يديك فوضع يده في الرّكوة، فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون. فشربنا وتوضّأنا. قلت:
كم كنتم؟ قال: لو كنّا مائة ألف لكفانا. كنّا خمس عشرة مائة «1» .
- ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك- رضي الله عنه-؛ أنّه قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحانت صلاة العصر، فالتمس الوضوء فلم يجدوه، فأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوضوء فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده في ذلك الإناء فأمر النّاس أن يتوضّئوا منه، فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه، فتوضّأ النّاس حتّى توضّأوا من عند آخرهم» «2» .
- ومن ذلك ما روى مسلم عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما-؛ في حديث طويل. قال الحافظ ابن حجر: وهذه القصّة أبلغ من جميع ما تقدّم لاشتمالها على قلّة الماء وعلى كثرة من استقى منه «3» .
وإليك أخي القارىء الشّاهد من هذه القصّة الطّويلة:
قال جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما-؛ فأتينا المعسكر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا جابر! ناد بوضوء» فقلت: ألا وضوء؟ ألا وضوء؟ ألا وضوء؟ قال قلت: يا رسول الله! ما وجدت في الرّكب قطرة. وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الماء، في أشجاب له «4» ، على حمارة «5» من جريد. قال فقال لي: «انطلق إلى فلان ابن فلان الأنصاريّ، فانظر هل في أشجابه من شيء؟» قال: فانطلقت إليه فنظرت فيها فلم أجد فيها إلّا قطرة «6» في عزلاء «7» ، لو أنّي أفرغه لشربه يابسه «8» . فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله! إنّي لم أجد فيها إلّا قطرة في عزلاء شجب منها، لو أنّي أفرغه لشربه يابسه، قال: اذهب فأتني به» فأتيته به، فأخذه بيده فجعل يتكلّم بشيء لا أدري ما هو. ويغمزه بيديه «9» . ثمّ أعطانيه فقال: «يا جابر! ناد بجفنة» فقلت: يا جفنة الرّكب «10» ! فأتيت بها تحمل. فوضعتها بين يديه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده في الجفنة هكذا. فبسطها وفرّق بين أصابعه. ثمّ وضعها في
__________
(1) رواه البخاري. انظر الفتح 6 (3576) . ورواه مسلم مختصرا برقم (1856) .
(2) رواه البخاري. انظر الفتح 6 (3573) . ورواه مسلم برقم (2279) .
(3) انظر الفتح (6/ 678) .
(4) في أشجاب له: الأشجاب جمع شجب وهو السقاء الذي أخلق وبلى وصار شنا. يقال: شاجب أي يابس. وهو من الشجب الذي هو الهلاك.
(5) حمارة: هي أعواد تعلق عليها أسقية الماء.
(6) إلا قطرة: أي يسيرا.
(7) عزلاء: هي فم القربة.
(8) لشربه يابسه: معناه أنه قليل جدا، فلقلته، مع شدة يبس باقي الشجب، وهو السقاء لو أفرغته لاشتفه اليابس منه ولم ينزل منه شيء.
(9) ويغمزه بيديه: أي يعصره.
(10) يا جفنة الركب: أي يا صاحب جفنة الركب. فحذف المضاف للعلم بأنه المراد، وأن الجفنة لا تنادى. ومعناه يا صاحب جفنة الركب التي تشبعهم أحضرها. أي من كان عنده جفنة بهذه الصفة، فليحضرها. انظر فيما سبق شرح النووي على صحيح مسلم (18/ 145، 146) .(1/529)
قعر الجفنة. وقال: «خذ يا جابر! فصبّ عليّ. وقل باسم الله» فصببت عليه وقلت: باسم الله. فرأيت الماء يفور من بين أصابع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ فارت الجفنة ودارت حتّى امتلأت. فقال: «يا جابر ناد من كان له حاجة بماء» قال:
فأتى النّاس فاستقوا حتّى رووا. قال: فقلت: هل بقي أحد له حاجة؟ فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده من الجفنة وهي ملأى» «1» .
قال المزنيّ- رحمه الله-: نبع الماء من بين أصابعه صلّى الله عليه وسلّم أبلغ في المعجزة من نبع الماء من الحجر حيث ضربه موسى عليه السّلام بالعصا فتفجّرت منه المياه لأنّ خروج الماء من الحجارة معهود، بخلاف خروج الماء من بين اللّحم والدّم. انتهى» .
تكثيره الطّعام والشّراب صلّى الله عليه وسلّم:
فأمّا الطّعام:
فقد وقع ذلك منه صلّى الله عليه وسلّم مرّات عديدة، فمن ذلك ما رواه البخاريّ ومسلم عن قصّة ضيافة أبي طلحة الأنصاريّ- رضي الله عنه-، كما حدّث بها أنس بن مالك- رضي الله عنه-؛ فإنّه قال: قال أبو طلحة لأمّ سليم: قد سمعت صوت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضعيفا. أعرف فيه الجوع. فهل عندك شيء؟ فقالت: نعم. فأخرجت أقراصا من شعير: ثمّ أخذت خمارا لها. فلفّت الخبز ببعضه، ثمّ دسّته تحت ثوبي. وردّتني «3» ببعضه. ثمّ أرسلتني إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: فذهبت به فوجدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالسا في المسجد. ومعه النّاس فقمت عليهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أرسلك أبو طلحة؟» قال فقلت: نعم. فقال: «ألطعام؟» فقلت: نعم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمن معه: «قوموا» قال:
فانطلق وانطلقت بين أيديهم. حتّى جئت أبا طلحة، فأخبرته. فقال أبو طلحة: يا أمّ سليم قد جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالنّاس. وليس عندنا ما نطعمهم. فقالت: الله ورسوله أعلم. قال: فانطلق أبو طلحة حتّى لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معه حتّى دخلا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هلمّي ما عندك يا أمّ سليم» «فأتت بذلك الخبز. فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ففتّ. وعصرت عليه أمّ سليم عكّة «4» لها فأدمته «5» . ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما شاء الله أن يقول.
ثمّ قال: «ائذن لعشرة «6» » فأذن لهم فأكلوا حتّى شبعوا ثمّ خرجوا. ثمّ قال: «ائذن لعشرة» فأذن لهم فأكلوا حتّى
__________
(1) رواه مسلم برقم (3013) .
(2) نقله عنه ابن عبد البر. انظر فتح الباري (6/ 677) .
(3) وردتني: أي جعلت بعضه رداء على رأسي.
(4) عكة: بضم العين وتشديد الكاف هي وعاء صغير من جلد للسمن خاصة.
(5) فأدمته: هو بالمد والقصر، لغتان، آدمته وأدمته. أي جعلت فيه إداما.
(6) ائذن لعشرة: إنما أذن لعشرة عشرة ليكون أرفق بهم. فإن القصعة التي فت فيها تلك الأقراص لا يتحلق عليها أكثر من عشرة إلا بضرر يلحقهم، لبعدها عنهم. انظر فيما سبق شرح النووي على صحيح مسلم (13/ 219- 220) .(1/530)
شبعوا ثمّ خرجوا. ثمّ قال: «ائذن لعشرة» حتّى أكل القوم كلّهم وشبعوا. والقوم سبعون رجلا أو ثمانون» «1» .
- قصّة جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- في غزوة الخندق:
ومن تكثيره الطّعام صلّى الله عليه وسلّم أيضا، ما وقع مع جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- في الخندق حيث يقول جابر:
«لمّا حفر الخندق رأيت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمصا «2» . فانكفأت «3» إلى امرأتي. فقلت لها: هل عندك شيء؟ فإنّي رأيت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمصا شديدا. فأخرجت لي جرابا «4» فيه صاع من شعير. ولنا بهيمة «5» داجن «6» قال: فذبحتها وطحنت. ففرغت إلى فراغي. فقطّعتها في برمتها. ثمّ ولّيت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: لا تفضحني برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن معه. قال: فجئته فساررته. فقلت: يا رسول الله! إنّا قد ذبحنا بهيمة لنا. وطحنت صاعا من شعير كان عندنا.
فتعال أنت في نفر معك. فصاح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «يا أهل الخندق! إنّ جابرا قد صنع لكم سورا «7» فحيهلا «8» بكم «وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنزلنّ برمتكم ولا تخبزنّ عجينتكم، حتّى أجيء» فجئت وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقدم النّاس. حتّى جئت امرأتي. فقالت: بك. وبك «9» . فقلت: قد فعلت الّذي قلت لي «10» . فأخرجت له عجينتنا فبصق فيها وبارك. ثمّ عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك. ثمّ قال: «ادعي خابزة فلتخبز معك، واقدحي من برمتكم «11» ولا تنزلوها» وهم ألف. فأقسم بالله! لأكلوا حتّى تركوه وانحرفوا «12» . وإنّ برمتنا لتغطّ «13» كما هي.
وإنّ عجينتنا- أو كما قال الضّحّاك- لتخبز كما هو «14» » «15» .
__________
(1) رواه البخاري. انظر الفتح 6 (3578) . ورواه مسلم- واللفظ له- برقم (2040) .
(2) خمصا: الخمص خلاء البطن من الطعام.
(3) فانكفأت: أي انقلبت ورجعت.
(4) جرابا: هو وعاء من جلد معروف. بكسر الجيم وفتحها. والكسر أشهر.
(5) بهيمة: تصغير بهمة. وهي الصغيرة من أولاد الضأن. قال الجوهري: وتطلق على الذكر والأنثى كالشاة والسخلة الصغيرة من أولاد المعز.
(6) داجن: الداجن ما ألف البيوت.
(7) سورا: بضم السين وإسكان الواو، غير مهموز، هو الطعام الذي يدعى إليه. وقيل الطعام مطلقا. وهي لفظة فارسية.
(8) فحيهلا: بتنوين هلا، وقيل: بلا تنوين، على وزن علا. ومعنى حيهل، عليك بكذا، أو ادع بكذا، هكذا قاله أبو عبيد وغيره. وقيل: معناه اعجل به. وقال الهروي: معناه هات وعجل به.
(9) بك وبك: أي ذمته ودعت عليه. وقيل: معناه بك تلحق الفضيحة وبك يتعلق الذم وقيل: معناه جرى هذا برأيك وسوء نظرك وتسيبك.
(10) قد فعلت الذي قلت لي: معناه أني أخبرت النبي صلّى الله عليه وسلّم بما عندنا، فهو أعلم بالمصلحة.
(11) واقدحي من برمتكم: أي اغرفي. والمقدح المغرفة- يقال: قد قدحت المرق أقدحه، غرفته.
(12) تركوه وانحرفوا: أي شبعوا وانصرفوا.
(13) لتغط: أي تغلي ويسمع غليانها.
(14) كما هو: يعود إلى العجين. انظر فيما سبق شرح النووي على صحيح مسلم (13/ 215- 217) .
(15) رواه البخاري. انظر الفتح 7 (4102) . ورواه مسلم- واللفظ له- برقم (2039) .(1/531)
وأمّا الشّراب:
فنأخذ على ذلك مثالا واحدا وهو اللّبن:
فمن أدلّة تكثيره صلّى الله عليه وسلّم اللّبن ما أخرجه البخاريّ وغيره عن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ أنّه كان يقول: الله الّذي لا إله إلّا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع.
ولقد قعدت يوما على طريقهم الّذي يخرجون منه، فمرّ أبو بكر فسألته عن آية في كتاب الله، ما سألته إلّا ليشبعني.
فمرّ ولم يفعل. ثمّ مرّ بي عمر فسألته عن آية في كتاب الله، ما سألته إلّا ليشبعني. فمرّ فلم يفعل، ثمّ مرّ بي أبو القاسم صلّى الله عليه وسلّم فتبسّم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثمّ قال: «يا أبا هرّ» قلت: لبّيك رسول الله، قال:
«الحق» ومضى. فتبعته فدخل فاستأذن فأذن له، فدخل فوجد لبنا في قدح فقال: «من أين هذا اللّبن؟» قالوا:
أهداه لك فلان- أو فلانة- قال: «يا أبا هرّ» قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: «الحق إلى أهل الصّفّة فادعهم لي» قال: وأهل الصّفّة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هديّة أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللّبن في أهل الصّفّة كنت أحقّ أن أصيب من هذا اللّبن شربة أتقوّى بها، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم بدّ فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت. قال: «يا أبا هرّ» قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: «خذ فأعطهم» ، فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرّجل فيشرب حتّى يروى، ثمّ يردّ عليّ القدح فأعطيه الرّجل فيشرب حتّى يروى، ثمّ يردّ القدح، فأعطيه الرّجل فيشرب حتّى يروى، ثمّ يردّ عليّ القدح، فأعطيه الرّجل فيشرب حتّى يروى، ثمّ يردّ عليّ القدح حتّى انتهيت إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقد روي القوم كلّهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسّم فقال: «يا أبا هرّ» ، قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: «بقيت أنا وأنت» قلت: صدقت يا رسول الله، قال: «اقعد فاشرب» . فقعدت فشربت، فقال: «اشرب» ، فشربت، فما زال يقول: «اشرب» ، حتّى قلت: لا والّذي بعثك بالحقّ، ما أجد له مسلكا. قال: «فأرني» ، فأعطيته القدح، فحمد الله وسمّى وشرب الفضلة «1» .
__________
(1) انظر البخاري- لفتح 11 (6452) .(1/532)
دلائل نبوّته صلّى الله عليه وسلّم فيما يتعلّق ببعض الحيوانات:
قصّة البعير وسجوده وشكواه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
- عن أنس بن مالك- رضي الله عنه-؛ قال: «كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يسنون عليه وأنّه استصعب عليهم فمنعهم ظهره وأنّ الأنصار جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنّه كان لنا جمل نسني «1» عليه وأنّه استصعب علينا ومنعنا ظهره، وقد عطش الزّرع والنّخل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «قوموا» ، فقاموا فدخل الحائط والجمل في ناحيته، فمشى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نحوه، فقالت الأنصار: يا رسول الله إنّه قد صار مثل الكلب الكلب وإنّا نخاف عليك صولته، فقال: «ليس عليّ منه بأس» ، فلمّا نظر الجمل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقبل نحوه حتّى خرّ ساجدا بين يديه، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بناصيته أذلّ ما كانت قطّ، حتّى أدخله في العمل، فقال له أصحابه: يا رسول الله هذه البهيمة لا تعقل تسجد لك، ونحن أحقّ أن نسجد لك، فقال: «لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقّه عليها، والّذي نفس محمّد بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تتفجّر بالقيح والصّديد ثمّ استقبلته فلحسته ما أدّت حقّه» «2» .
- وعن عبد الله بن جعفر- رضي الله عنهما-؛ قال: «أردفني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم خلفه فأسرّ إليّ حديثا لا أخبر به أحدا أبدا وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحبّ ما استتر به في حاجته هدف أو حائش «3» نخل فدخل يوما حائطا من حيطان الأنصار فإذا جمل قد أتاه فجرجر «4» وذرفت عيناه. قال بهز وعفّان: فلمّا رأى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حنّ وذرفت عيناه فمسح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سراته «5» وذفراه «6» سكن فقال: «من صاحب الجمل» ، فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله، فقال: «أما تتّقي الله في هذه البهيمة الّتي ملّككها الله، إنّه شكا إليّ أنّك تجيعه وتدئبه «7» .
__________
(1) نسني عليه: نستقي عليه- انظر النهاية (2/ 415) .
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده (3/ 158، 159) . قال ابن كثير: وهذا إسناد جيد وقد روى النسائي بعضه. انظر البداية والنهاية (6/ 142) .
(3) الحائش: جماعة النخل، لا مفرد له.
(4) جرجر: ردد صوته في حنجرته.
(5) السراة: الظهر وقيل السنام.
(6) الذفرى: العظم الشاخص خلف الأذن. وذفرى البعير أصل أذنه وقيل الذفرى الموضع الذي يعرق من البعير خلف الأذن. انظر النهاية (2/ 161) ، ولسان العرب (4/ 307) .
(7) رواه أبو داود برقم (2549) . ورواه الإمام أحمد في المسند (1/ 204، 205) . والحاكم في المستدرك (2/ 99، 100) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. والحديث أصله في مسلم بالإسناد نفسه دون قصة الجمل برقم (342) .(1/533)
إخبار الذّئب بنبوّته صلّى الله عليه وسلّم:
- عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه-؛ قال: عدا الذّئب على شاة فأخذها فطلبه الرّاعي فانتزعها منه، فأقعى الذّئب على ذنبه فقال: ألا تتّقي الله؟ تنزع منّي رزقا ساقه الله إليّ؟ فقال: يا عجبي ذئب يقعي على ذنبه يكلّمني كلام الإنس! فقال الذّئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمّد صلّى الله عليه وسلّم بيثرب يخبر النّاس بأنباء ما قد سبق.
قال: فأقبل الرّاعي يسوق غنمه حتّى دخل المدينة فزواها إلى زاوية من زواياها، ثمّ أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنودي: الصّلاة جامعة.
ثمّ خرج فقال للرّاعي: «أخبرهم» . فأخبرهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صدق، والّذي نفس محمّد بيده لا تقوم السّاعة حتّى يكلّم السّباع الإنس، ويكلّم الرّجل عذبة سوطه، وشراك نعله، ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده. «1»
- وفي رواية من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عند ما كلّم الذّئب راعي الغنم فقال الرّجل: تالله إن رأيت كاليوم ذئبا يتكلّم. فقال الذّئب: أعجب من هذا رجل في النّخلات بين الحرّتين «2» يخبركم بما مضى وما هو كائن بعدكم. وكان الرّجل يهوديّا، فجاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأسلم وخبّره فصدّقه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «3» .
معجزاته صلّى الله عليه وسلّم في أنواع الجمادات:
حنين الجذع شوقا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشفقا من فراقه:
وقد ورد ذلك- كما قال الحافظ ابن كثير- من حديث جماعة من الصّحابة بطرق متعدّدة تفيد القطع عند أئمّة الشّأن وفرسان هذا الميدان «4» .
ومن ذلك ما رواه البخاريّ عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما-: «أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار- أو رجل-: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبرا؟ قال: «إن شئتم» .
فجعلوا له منبرا. فلمّا كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النّخلة صياح الصّبيّ، ثمّ نزل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فضمّه إليه،
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 88) ، وابن سعد في الطبقات (1/ 173) والحاكم في المستدرك (4/ 467، 468) وقال: هذا حديث حسن صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. والبيهقي في دلائل النبوة وصححه (6/ 41، 42) وقال ابن كثير: إسناده على شرط الصحيح. انظر البداية والنهاية (6/ 150) .
(2) أي المدينة المنورة.
(3) رواه الإمام أحمد في مسنده (2/ 306) ، قال ابن كثير: تفرد به أحمد وهو على شرط السنن ولم يخرجوه. انظر البداية والنهاية (6/ 151) . وقال الهيثمي: رجاله ثقات. انظر مجمع الزوائد (8/ 292) . وقال السيوطي: سنده صحيح. انظر الخصائص (2/ 103) .
(4) انظر البداية والنهاية (6/ 131) .(1/534)
يئنّ أنين الصّبيّ الّذي يسكن. قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذّكر عندها» » .
وفي رواية أخرى عن جابر- رضي الله عنه-؛ قال: «كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل، فكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلمّا صنع له المنبر فكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار «2» ، حتّى جاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فوضع يده عليها، فسكنت» «3» .
وفي رواية من حديث ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال صلّى الله عليه وسلّم: « ... ولو لم أحتضنه لحنّ إلى يوم القيامة» «4» .
وكان الحسن البصريّ رحمه الله، إذا حدّث بحديث حنين الجذع يقول: يا معشر المسلمين الخشبة تحنّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شوقا إلى لقائه فأنتم أحقّ أن تشتاقوا إليه» «5» .
ونقل ابن أبي حاتم في «مناقب الشّافعيّ عن أبيه عن عمرو بن سواد عن الشّافعيّ قال: ما أعطى الله نبيّا ما أعطى محمّدا، فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى، قال: أعطى محمّدا حنين الجذع حتّى سمع صوته، فهذا أكبر من ذلك «6» .
انقياد الشّجر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
ومن معجزاته وأعلام نبوّته صلّى الله عليه وسلّم انقياد الشّجر بين يديه في مرّات عدّة:
- فعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما-؛ قال: سرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى نزلنا واديا أفيح «7» . فذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقضي حاجته. فاتّبعته بإداوة من ماء. فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم ير شيئا يستتر به. فإذا شجرتان بشاطيء الوادي «8» . فانطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها. فقال: «انقادي عليّ بإذن الله» فانقادت معه كالبعير المخشوش «9» ، الّذي يصانع قائده. حتّى أتى الشّجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها.
__________
(1) رواه البخاري. انظر الفتح 6 (3584) .
(2) العشار: جمع عشراء، وهي الناقة التي أتى عليها عشرة أشهر من حملها. انظر جامع الأصول (11/ 333) .
(3) رواه البخاري. انظر الفتح 6 (3585) .
(4) رواه الإمام أحمد في مسنده (1/ 249) . وابن ماجة برقم (1415) ، قال الحافظ ابن كثير: وهذا الإسناد على شرط مسلم. انظر البداية والنهاية (6/ 135) ، وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات. انظر سنن ابن ماجه (1/ 455) .
(5) انظر فتح الباري (6/ 697) .
(6) أورده ابن حجر في الفتح (6/ 698) .
(7) واديا أفيح: أي واسعا.
(8) بشاطيء الوادي: أي جانبه.
(9) كالبعير المخشوش: هو الذي يجعل في أنفه خشاش، وهو عود يجعل في أنف البعير إذا كان صعبا، ويشد فيه حبل ليذل وينقاد. وقد يتمانع لصعوبته، فإذا اشتد عليه وآلمه انقاد شيئا. ولهذا قال: الذي يصانع قائده.(1/535)
فقال: «انقادي عليّ بإذن الله» فانقادت معه كذلك. حتّى إذا كان بالمنصف «1» ممّا بينهما، لأم «2» بينهما (يعني جمعهما) فقال: «التئما عليّ بإذن الله» فالتأمتا. قال جابر: فخرجت أحضر «3» مخافة أن يحسّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقربي فيبتعد، فجلست أحدّث نفسي. فحانت منّي لفتة «4» ، فإذا أنا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقبلا. وإذا الشّجرتان قد افترقتا.
فقامت كلّ واحدة منهما على ساق. فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقف وقفة. فقال برأسه هكذا؟ وأشار أبو إسماعيل برأسه يمينا وشمالا ثمّ أقبل. فلمّا انتهى إليّ قال: «يا جابر هل رأيت مقامي؟» قلت: نعم يا رسول الله. قال:
«فانطلق إلى الشّجرتين فاقطع من كلّ واحدة منهما غصنا. فأقبل بهما. حتّى إذا قمت مقامي فأرسل غصنا عن يمينك وغصنا عن يسارك» قال جابر: فقمت فأخذت حجرا فكسرته وحسرته «5» . فانذلق «6» لي. فأتيت الشّجرتين فقطعت من كلّ واحدة منهما غصنا. ثمّ أقبلت أجرّهما حتّى قمت مقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أرسلت غصنا عن يميني وغصنا عن يساري. ثمّ لحقته فقلت: قد فعلت، يا رسول الله! فعمّ ذاك؟ قال: «إنّي مررت بقبرين يعذّبان.
فأحببت، بشفاعتي، أن يرفّه عنهما «7» ، ما دام الغصنان رطبين» «8» . «9» .
- وعن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-؛ قال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر، فأقبل أعرابيّ، فلمّا دنا منه قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أين تريد؟» قال: إلى أهلي، قال: «هل لك في خير؟» قال: وما هو؟ قال: «تشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّدا عبده ورسوله» ، قال: ومن يشهد على ما تقول؟ قال: «هذه السّلمة «10» ، فدعاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهي بشاطيء الوادي. فأقبلت تخدّ «11» الأرض خدّا حتّى قامت بين يديه، فأشهدها ثلاثا فشهدت ثلاثا أنّه كما قال، ثمّ رجعت إلى منبتها، ورجع الأعرابيّ إلى قومه، وقال: إن اتّبعوني آتك بهم، وإلّا رجعت فكنت معك» «12» .
__________
(1) بالمنصف: هو نصف المسافة.
(2) لأم: روي بهمزة مقصورة: لأم وممدودة: لاءم. وكلاهما صحيح. أي جمع بينهما.
(3) فخرجت أحضر: أي أعدو وأسعى سعيا شديدا.
(4) فحانت مني لفتة: اللفتة النظرة إلى جنب.
(5) وحسرته: أي أحددته ونحيت عنه ما يمنع حدته بحيث صار مما يمكن قطع الأغصان به.
(6) فانذلق: أي صار حادا.
(7) أن يرفه عنهما: أي يخفف.
(8) رواه مسلم برقم (3012) .
(9) انظر فيما سبق شرح النووي على صحيح مسلم (18/ 143- 145) .
(10) السلمة: شجرة من أشجار البادية.
(11) تخد: تشق.
(12) رواه الدرامي في المقدمة برقم (16) ، قال الحافظ ابن كثير: إسناده جيد. انظر البداية والنهاية (6/ 131) .(1/536)
تسليم الحجر عليه صلّى الله عليه وسلّم:
- روى مسلم في صحيحه، عن جابر بن سمرة- رضي الله عنهما-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي لأعرف حجرا بمكّة كان يسلّم عليّ قبل أن أبعث. إنّي لأعرفه الآن» «1» .
قال الإمام النّوويّ معلّقا على هذا الحديث: فيه معجزة له صلّى الله عليه وسلّم وفي هذا إثبات التّمييز في بعض الجمادات وهو موافق لقوله تعالى في الحجارة: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «2» وقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «3» . «4» .
تسبيح الطّعام بحضرته صلّى الله عليه وسلّم:
أخرج البخاريّ في صحيحه عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-؛ قال: كنّا نعدّ الآيات بركة، وأنتم تعدّونها تخويفا، كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر فقلّ الماء، فقال: «اطلبوا فضلة من ماء» فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء ثمّ قال: «حيّ على الطّهور المبارك، والبركة من الله» فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولقد كنّا نسمع تسبيح الطّعام وهو يؤكل» «5» .
عصمته صلّى الله عليه وسلّم من النّاس:
لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أعدائه كثير الأذى وعظيم الشّدّة منذ أن جهر بدعوته، ولكنّ الله تبارك وتعالى حفظه ونصره وعصمه من النّاس.
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «6» وقد كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحرس قبل نزول هذه الآية من قبل بعض أصحابه فلمّا نزلت عليه قال: «يا أيّها النّاس انصرفوا عنّي فقد عصمني الله عزّ وجلّ» «7» .
ومن عصمة الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم حفظه له من أهل مكّة وصناديدها وحسّادها ومعانديها ومترفيها مع شدّة العداوة والبغضة ونصب المحاربة له ليلا ونهارا بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقدرته وحكمته فصانه في ابتداء دعوته بعمّه أبي طالب إذ كان رئيسا مطاعا في قريش وجعل الله في قلبه محبّة طبيعيّة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا شرعيّة، ولو
__________
(1) رواه مسلم برقم (2277) .
(2) سورة البقرة: آية رقم (74) .
(3) سورة الإسراء: آية رقم (44) .
(4) انظر شرح النووي على مسلم (15/ 36، 37) .
(5) انظر فتح الباري 6 (3579) .
(6) سورة المائدة: آية رقم (67) .
(7) رواه الترمذي برقم (3046) ، والحاكم في المستدرك: (2/ 313) وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال محقق «جامع الأصول» (2/ 119) : وحسّنه الحافظ ابن حجر في «الفتح» .(1/537)
كان أسلم لاجترأ عليه كفّارها وكبارها ولكن لمّا كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه فلمّا مات عمّه أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرا ثمّ قيّض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام وعلى أن يتحوّل إلى دارهم وهي المدينة فلمّا صار إليها منعوه من الأحمر والأسود وكلّما همّ أحد من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين بسوء كاده الله وردّ كيده عليه «1» .
والأمثلة على عصمة الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم وكفّ الأعداء عنه كثيرة نكتفي بذكر نماذج منها:
- فعن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ قال: «قال أبو جهل: هل يعفّر محمّد وجهه «2» بين أظهركم؟ قال فقيل:
نعم. فقال: واللّات والعزّى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته. أو لأعفّرنّ وجهه في التّراب. قال فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلّي. زعم ليطأ على رقبته. قال فما فجئهم «3» منه إلّا وهو ينكص على عقبيه «4» ويتّقي بيديه. قال فقيل له: مالك؟ فقال: إنّ بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» » .
- وعن أبي بكر الصّدّيق- رضي الله عنه- في قصّة الهجرة النّبويّة قال: «فارتحلنا بعد ما مالت الشّمس، واتّبعنا سراقة بن مالك، فقلت: أتينا يا رسول الله، فقال: لا تحزن، إنّ الله معنا. فدعا عليه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فارتطمت به فرسه إلى بطنها فقال: إنّي أراكما قد دعوتما عليّ، فادعوا لي، فالله لكما أن أردّ عنكما الطّلب. فدعا له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنجا، فجعل لا يلقى أحدا إلّا قال: كفيتكم ما هنا، فلا يلقى أحدا إلّا ردّه، قال: ووفّى لنا» «6» .
- وعن سلمة بن الأكوع- رضي الله عنه-؛ قال: غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حنينا ... فولّى صحابة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ... فلمّا غشوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «7» نزل عن البغلة، ثمّ قبض قبضة من تراب من الأرض، ثمّ استقبل به وجوههم، فقال: شاهت الوجوه «8» » فما خلق الله منهم إنسانا إلّا ملأ عينيه ترابا. بتلك القبضة. فولّوا مدبرين.
فهزمهم الله عزّ وجلّ. وقسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غنائمهم بين المسلمين» «9» .
__________
(1) تفسير ابن كثير (2/ 81، 82) .
(2) هل يعفر محمد وجهه: أي يسجد ويلصق وجهه بالعفر، وهو التراب.
(3) فجئهم: بكسر الجيم، ويقال أيضا فجأهم، بفتحها. لغتان. أي بغتهم.
(4) ينكص على عقبيه: أي رجع يمشي إلى ورائه. قال ابن فارس: النكوص الإحجام عن الشيء.
(5) رواه البخاري مختصرا- انظر: الفتح 8 (4958) ورواه مسلم واللفظ له برقم (2797) .
(6) رواه البخاري مطولا- انظر: الفتح 6 (3615) ومسلم برقم (2009) .
(7) فلما غشوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي أتوه من كل جانب.
(8) شاهت الوجوه: أي قبحت.
(9) رواه مسلم برقم (1777) .(1/538)
- وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما-؛ قال: غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزوة قبل «1» نجد. فأدركنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في واد كثير العضاه «2» . فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت شجرة. فعلّق سيفه بغصن من أغصانها. قال:
وتفرّق النّاس في الوادي يستظلّون بالشّجر. قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ رجلا أتاني وأنا نائم، فأخذ السّيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلّا والسّيف صلتا «3» في يده. فقال لي: من يمنعك منّي؟ قال: قلت:
الله. ثمّ قال في الثّانية من يمنعك منّي؟ قال قلت: الله. قال فشام السّيف «4» فها هو ذا جالس. ثمّ لم يعرض له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «5» .
إجابة دعائه صلوات الله وسلامه عليه:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما وصفه ربّه عزّ وجلّ: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «6» فكان ينظر إلى أصحابه نظرة الرّحمة والشّفقة فكلّما ألمّ بأصحابه مكروه من عاهة أو مرض أو تفكير في أمر يشغل بالهم أسرع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالدّعاء لهم للتّخفيف عنهم ولكي ينالوا بركة دعوته صلّى الله عليه وسلّم فيحصل لهم ما يريدون من دفع شرّ وجلب خير دنيويّ أو أخرويّ أو هما معا. أمّا بالنّسبة للكفّار والمشركين والمعاندين فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو عليهم حيث تشتدّ شوكتهم ويكثر أذاهم وتارة كان يدعو لهم حيث تؤمن غائلتهم ويرجى تآلفهم.
وإذا دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأناس أو دعا عليهم فإنّك تجد ما دعا به قد تحقّق قطعا.
وكثرة الحوادث في هذا الباب تجعل الإنسان على يقين كامل أنّ محمّدا رسول الله وأنّ الله تعالى يؤيّده ويسدّده ويستجيب دعاءه. وإجابة دعوة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لجماعة بما دعا لهم أو عليهم متواتر على الجملة معلوم بالضّرورة «7» .
ولرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الدّعوات المستجابات ما لا يحصى كثرة ممّا حفلت به مصنّفات الحديث ومدوّنات السّيرة.
وهذه نخبة مختارة من هذه الدّعوات على سبيل الإشارة:
__________
(1) قبل نجد: أي ناحية نجد. في غزوته الى غطفان. وهي غزوته ذي أمر، موضع من ديار غطفان.
(2) العضاه: هي كل شجرة ذات شوك.
(3) صلتا: بفتح الصاد وضمها. أي مسلولا.
(4) فشام السيف: معناه غمده ورده في غمده.
(5) رواه البخاري. انظر الفتح 6 (2910) ومسلم برقم (843) .
(6) سورة التوبة: آية (128) .
(7) انظر" الشفا" للقاضي عياض (1/ 625) .(1/539)
- سرعة الإجابة:
- فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه-: أنّ رجلا دخل المسجد يوم جمعة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائما ثمّ قال: يا رسول الله، هلكت الأموال «1» وانقطعت السّبل «2» . فادع الله يغيثنا. قال:
فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديه. ثمّ قال: «اللهمّ أغثنا «3» . اللهمّ أغثنا اللهمّ أغثنا» . قال أنس: ولا والله ما نرى في السّماء من سحاب ولا قزعة «4» . وما بيننا وبين سلع «5» من بيت ولا دار. قال فطلعت من ورائه سحابة مثل التّرس «6» فلمّا توسّطت السّماء انتشرت. ثمّ أمطرت. قال: فلا والله ما رأينا الشّمس سبتا. قال: ثمّ دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة. ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم يخطب. فاستقبله قائما. فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السّبل.
فادع الله يمسكها عنّا. قال: فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديه. ثمّ قال: «اللهمّ حولنا ولا علينا. اللهمّ على الآكام «7» ، والظّراب «8» ومنابت الشّجر» فانقلعت. وخرجنا نمشي في الشّمس» «9» .
وفي رواية قال أنس بن مالك- رضي الله عنه-؛ أصابت النّاس سنة على عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فبينا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يخطب في يوم جمعة إذ قام أعرابيّ فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السّماء قزعة فو الّذي نفسي بيده ما وضعها حتّى ثار السّحاب أمثال الجبال، ثمّ لم ينزل عن منبره حتّى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلّى الله عليه وسلّم. فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، وبعد الغد، والّذي يليه حتّى الجمعة الأخرى.
وقام ذلك الأعرابيّ أو قال غيره فقال: يا رسول الله، وغرق المال، فادع الله لنا. فرفع يديه فقال: اللهمّ حوالينا ولا علينا. فما يشير بيده إلى ناحية من السّحاب إلّا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجوبة «10» . وسال الوادي قناة شهرا، ولم يجيء أحد من ناحية إلّا حدّث بالجود «11» . «12» .
__________
(1) هلكت الأموال: المراد بالأموال هنا المواشي خصوصا الابل وهلاكها من قلة الأقوات بسبب عدم المطر والنبات.
(2) وانقطعت السبل: جمع سبيل وهي الطريق والمعني: انقطعت الطرق فلم تسلكها الإبل إما لخوف الهلاك أو الضعف بسبب قلة الكلأ أو عدمه.
(3) أغثنا: الإغاثة: الإعانة والمراد به: إعانتهم بإنزال المطر.
(4) قزعة: بالتحريك هي القطعة من الغيم والجمع قزع.
(5) سلع: جبل قرب المدينة.
(6) مثل الترس: الترس هو ما يتقي به السيف ووجه الشبه الاستدارة والكثافة لا القدر.
(7) الآكام: جمع أكمة وهي الرابية المرتفعة من الأرض.
(8) الظراب: جمع ظرب، وهي صغار الجبال والتلال.
(9) رواه البخاري- انظر الفتح: 2 (1013) . ومسلم واللفظ له برقم (897) .
(10) الجوبة: الموضع المنخفض من الأرض.
(11) بالجود: الجود بفتح الجيم هو المطر الغزيز.
(12) رواه البخاري- انظر الفتح 2 (933) .(1/540)
يمهل ولا يهمل:
«فعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-؛ قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور «1» بالأمس. فقال أبو جهل: أيّكم يقوم إلى سلا «2» جزور بني فلان فيأخذه، فيضعه في كتفي محمّد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم «3» فأخذه. فلمّا سجد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وضعه بين كتفيه.
قال: فاستضحكوا «4» . وجعل بعضهم يميل على بعض. وأنا قائم أنظر. لو كانت لي منعة «5» طرحته عن ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ساجد، ما يرفع رأسه. حتّى انطلق إنسان فأخبر فاطمة. فجاءت، وهي جويرية «6» ، فطرحته عنه. ثمّ أقبلت عليهم تشتمهم «7» . فلمّا قضى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم صلاته رفع صوته ثمّ دعا عليهم. وكان إذا دعا، دعا ثلاثا. وإذا سأل، سأل «8» ثلاثا. ثمّ قال: «اللهمّ عليك بقريش» ثلاث مرّات. فلمّا سمعوا صوته ذهب عنهم الضّحك. وخافوا دعوته. ثمّ قال: «اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة»
، وأميّة بن خلف، وعقبة بن أبي معيط (وذكر السّابع ولم أحفظه) فو الّذي بعث محمّدا صلّى الله عليه وسلّم بالحقّ لقد رأيت الّذين سمّى صرعى يوم بدر. ثمّ سحبوا إلى القليب، قليب بدر «10» . قال أبو إسحاق: الوليد بن عقبة غلط في هذا الحديث» «11» .
دعوة وهداية:
عن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ قال: كنت أدعو أمّي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أكره. فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا أبكي. قلت: يا رسول الله إنّي كنت أدعو أمّي إلى الإسلام فتأبى
__________
(1) جزور: أي ناقة.
(2) سلا: هو اللفافة التي يكون فيها الولد في بطن الناقة وسائر الحيوان. وهي من الآدمية المشيمة.
(3) فانبعث أشقى القوم: أي بعثته نفسه الخبيثة من دونهم فأسرع السير. وهو عقبة بن أبي معيط، كما صرح به في الرواية الثانية.
(4) فاستضحكوا: أي حملوا أنفسهم على الضحك والسخرية. ثمّ أخذهم الضحك جدا، فجعلوا يضحكون ويميل بعضهم على بعض من كثرة الضحك.
(5) لو كانت لي منعة: هي بفتح النون، وحكي إسكانها، وهو شاذ ضعيف. ومعناه لو كان لي قوة تمنع أذاهم، أو كان لي عشيرة بمكة تمنعني.
(6) جويرية: هو تصغير جارية، بمعنى شابة. يعني أنها إذ ذاك ليست بكبيرة.
(7) تشتمهم: الشتم وصف الرجل بما فيه إزراء ونقص.
(8) وإذا سأل: هو الدعاء. لكن عطفه لاختلاف اللفظ، توكيدا.
(9) والوليد بن عقبة: هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم: والوليد بن عقبة. واتفق العلماء على أنه غلط وصوابه والوليد بن عتبة. كما ذكره مسلم في رواية أبي بكر بن أبي شيبة، بعد هذا.
(10) ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر: القليب هي البئر التي لم تطو. وإنما وضعوا في القليب تحقيرا لهم، ولئلا يتأذى الناس برائحتهم. وليس هو دفنا، لأن الحربي لا يجب دفنه.
(11) رواه مسلم برقم (1794) .(1/541)
عليّ. فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره. فادع الله أن يهدي أمّ أبي هريرة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ اهد أمّ أبي هريرة» فخرجت مستبشرا بدعوة نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم. فلمّا جئت فصرت إلى الباب. فإذا هو مجاف «1» . فسمعت أمّي خشف «2» قدميّ. فقالت: مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة «3» الماء. قال فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها. ففتحت الباب. ثمّ قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله. قال فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال قلت: يا رسول الله أبشر قد استجاب الله دعوتك وهدى أمّ أبي هريرة. فحمد الله وأثنى عليه وقال خيرا. قال قلت: يا رسول الله ادع الله أن يحبّبني أنا وأمّي إلى عباده المؤمنين، ويحبّبهم إلينا. قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهمّ حبّب عبيدك هذا يعني أبا هريرة وأمّه إلى عبادك المؤمنين.
وحبّب إليهم المؤمنين فما خلق مؤمن يسمع بي، ولا يراني، إلّا أحبّني «4» .
إخباره عن المغيّبات:
من معجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودلائل نبوّته ما اطّلع عليه من الغيوب الماضية والمستقبلة وإخباره عنها، ومن المعلوم المقرّر أنّ علم الغيب مختصّ بالله تعالى وحده. وقد أضافه الله تعالى إلى نفسه الكريمة في غير ما آية من كتابه العزيز. قال تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ «5» . وقال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ «6» ومن المعلوم أيضا أنّ الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام لا يعلمون الغيب ولا اطّلاع لهم على شيء منه. قال الله تعالى مخبرا عن غير واحد من رسله الكرام عليهم الصّلاة والسّلام أنّهم قالوا لأقوامهم قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ «7» وفي صحيح مسلم عن عائشة- رضي الله عنها-؛ قالت:
«من زعم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية» «8» .
وكما جاءت الأدلّة تدلّ على أنّ الله تبارك وتعالى قد اختصّ بمعرفة علم الغيب وأنّه استأثر به دون خلقه، جاءت أدلّة أخرى تفيد أنّ الله تعالى استثنى من خلقه من ارتضاه من الرّسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوّتهم. قال تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَ
__________
(1) مجاف: أي مغلق.
(2) خشف: أي صوتهما في الأرض.
(3) خضخضة: خضخضة الماء صوت تحريكه.
(4) مسلم برقم (2491) .
(5) سورة النمل: آية (65) .
(6) سورة الأنعام: آية (59) .
(7) سورة الأنعام: آية (50) .
(8) مسلم برقم (177) .(1/542)
اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ «1» . وقال تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً «2» فتلخّص من ذلك أنّ ما وقع على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الإخبار بالمغيّبات فبوحي من الله تعالى وهو من إعلام الله عزّ وجلّ لرسوله صلّى الله عليه وسلّم للدّلالة على ثبوت نبوّته وصحّة رسالته.
وقد اشتهر وانتشر أمره صلّى الله عليه وسلّم بإطلاع الله له على المغيّبات:
- قال حذيفة بن اليمان- رضي الله عنهما-: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقاما فما ترك شيئا يكون من مقامه ذلك إلى قيام السّاعة إلّا حدّثه حفظه من حفظه ونسيه من نسيه» «3» .
وقال عمرو بن أخطب الأنصاريّ- رضي الله عنه-: «صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتّى حضرت الظّهر فنزل فصلّى ثمّ صعد المنبر فخطبنا حتّى حضرت العصر فنزل فصلّى ثمّ صعد المنبر فخطبنا حتّى غربت الشّمس فأخبرنا بما هو كائن إلى يوم القيامة فأعلمنا أحفظنا» «4» .
وقال عبد الله بن رواحة- رضي الله عنه:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشقّ معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أنّ ما قال واقع «5» .
وقال حسّان بن ثابت- رضي الله عنه-:
نبيّ يرى ما لا يرى النّاس حوله ... ويتلو كتاب الله في كلّ مشهد
فإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في صحوة اليوم أو غد «6» .
قال القاضي عياض: ... ما أطلع عليه من الغيوب وما يكون من جملة معجزاته المعلومة على القطع
__________
(1) سورة آل عمران: آية (179) .
(2) سورة الجن: آية (26، 27) .
(3) رواه البخاري- انظر الفتح 11 (6604) . ومسلم برقم (23/ 2891) .
(4) رواه مسلم، برقم (2892) .
(5) رواه البخاري- انظر الفتح 2 (1155) .
(6) وردت هذه الأبيات ضمن حديث أم معبد الطويل وقد تقدم تخريجه.(1/543)
الواصل إلينا خبرها على التّواتر لكثرة رواتها واتّفاق معانيها على الاطّلاع على الغيب» «1» ومعجزات هذا الباب لا يمكن استقصاؤها لكثرتها ووقوعها منه صلّى الله عليه وسلّم في أكثر حالاته عن سؤال وغير سؤال في مناسبات تقتضيها وأحوال تستدعيها وهي أكثر أنواع معجزاته عددا.
ولهذا السّبب فإنّ أحاديث هذا الموضوع كثيرة جدّا لا يمكن حصرها.
والمغيّبات الّتي تغيّبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أقسام ثلاثة:
1- قسم في الماضي:
كإخباره عن القرون السّالفة والأمم البائدة، والشّرائع الدّاثرة ممّا كان لا يعلم منه القصّة الواحدة إلّا الفذّ من أحبار أهل الكتاب الّذي قطع عمره في تعلّم ذلك وقد كان أهل الكتاب كثيرا ما يسألونه تعنّتا وتعجيزا عن أخبار تلك القرون السّالفة. فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذكرا كقصص الأنبياء مع قومهم وخبر موسى والخضر ويوسف وإخوته وأصحاب الكهف وذي القرنين. بالإضافة إلى ما جاءت به السّنّة المطهّرة من تفاصيل ودقائق عن أخبار تلك الأمم السّابقة والأنبياء السّابقين مع أقوامهم. وأشباه ذلك ممّا صدّقه فيه علمآؤهم ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها بل أذعنوا لذلك فمن موفّق آمن بما سبق له من خير ومن شقيّ معاند حاسد.
2- قسم في الحاضر:
وهو ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه من المغيّبات فوقع في أثناء حياته.
وهذه بعض نماذج للقسم الثّاني:
قتل أميّة بن خلف:
- فعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-؛ قال: انطلق سعد بن معاذ معتمرا، قال: فنزل على أميّة بن خلف أبي صفوان، وكان أميّة إذا انطلق إلى الشّام فمرّ بالمدينة نزل على سعد، فقال أميّة لسعد: ألا انتظر حتّى إذا انتصف النّهار وغفل النّاس انطلقت فطفت؟ فبينا سعد يطوف إذا أبو جهل، فقال: من هذا الّذي يطوف بالكعبة؟ فقال سعد: أنا سعد. فقال أبو جهل: تطوف بالكعبة آمنا وقد آويتم محمّدا وأصحابه؟ فقال: نعم.
فتلاحيا «2» بينهما. فقال أميّة لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم، فإنّه سيّد أهل الوادي. ثمّ قال سعد: والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعنّ متجرك بالشّام، قال فجعل أميّة يقول لسعد: لا ترفع صوتك وجعل يمسكه فغضب سعد فقال: دعنا عنك، فإنّي سمعت محمّدا صلّى الله عليه وسلّم يزعم أنّه قاتلك. قال: إيّاي؟ قال: نعم. قال: والله ما يكذب محمّد إذا حدّث. فرجع إلى امرأته فقال: أما تعلمين ما قال لي أخي اليثربي؟ قالت وما قال؟ قال: زعم أنّه
__________
(1) انظر الشفا للقاضي عياض (1/ 650) .
(2) تلاحيا: تلاوما وتنازعا. انظر النهاية (4/ 243) .(1/544)
سمع محمّدا يزعم أنّه قاتلي. قالت: فو الله ما يكذب محمّد. قال: فلمّا خرجوا إلى بدر وجاء الصّريخ قالت له امرأته: أما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربيّ؟ قال فأراد أن لا يخرج فقال له أبو جهل: إنّك من أشراف الوادي، فسر يوما أو يومين، فسار معهم يومين، فقتله الله» «1» .
مصارع الطّغاة:
- فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه-؛ قال: كنّا مع عمر بين مكّة والمدينة، فتراءينا الهلال. وكنت رجلا حديد البصر «2» . فرأيته. وليس أحد يزعم أنّه رآه غيري. قال فجعلت أقول لعمر: أما تراه؟ فجعل لا يراه. قال يقول عمر: سأراه وأنا مستلق على فراشي. ثمّ أنشأ يحدّثنا عن أهل بدر فقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس. يقول: هذا مصرع فلان غدا، إن شاء الله قال فقال عمر: فو الّذي بعثه بالحقّ ما أخطئوا الحدود الّتي حدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى انتهى إليهم فقال: «يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقّا؟ فإنّي وجدت ما وعدني الله حقّا» .
قال عمر: يا رسول الله كيف تكلّم أجسادا لا أرواح فيها؟ قال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم «3» . غير أنّهم لا يستطيعون أن يردّوا عليّ شيئا» «4» .
الأعمال بالخواتيم:
- عن سهل بن سعد السّاعديّ- رضي الله عنه-؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التقى هو والمشركون فاقتتلوا. فلمّا مال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عسكره. ومال الآخرون إلى عسكرهم. وفي أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل لا يدع لهم شاذّة «5» إلّا اتّبعها يضربها بسيفه. فقالوا: ما أجزأ منّا اليوم أحد كما أجزأ فلان «6» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما إنّه من أهل
__________
(1) رواه البخاري- انظر الفتح: 6 (3632) .
(2) حديد البصر: أي نافذه ومنه قوله تعالى: (فبصرك اليوم حديد) .
(3) ما أنتم بأسمع لما أقول منهم: قال المازري: قال بعض الناس: الميت يسمع، عملا بظاهر هذا الحديث. ثم أنكره المازري وادعى أن هذا خاص في هؤلاء. ورد عليه القاضي عياض وقال: يحتمل سماعهم على ما يحتمل عليه سماع الموتى في أحاديث عذاب القبر وفتنته التي لا مدفع لها. وذلك بإحيائهم أو إحياء جزء منهم يعقلون به ويسمعون في الوقت الذي يريد الله تعالى. قال النووي بعد ذكره للكلام السابق: هذا كلام القاضي، وهو الظاهر المختار الذي تقتضيه أحاديث السلام على القبور. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (17/ 206، 207) .
(4) رواه مسلم برقم (2873) .
(5) لا يدع لهم شاذة: الشاذ والشاذة: الخارج والخارجة عن الجماعة. قال القاضي عياض رحمه الله: أنث الكلمة على معنى النسمة. أو تشبيه الخارج بشاذة الغنم. ومعناه أنه لا يدع أحدا، على طريق المبالغة. قال ابن الأعرابي: يقال فلان لا يدع شاذة ولا فاذة، إذا كان شجاعا. لا يلقاه أحد إلا قتله.
(6) ما أجزأ منا اليوم أحد ما أجزأ فلان: معناه ما أغنى وكفى أحد غناءه وكفايته.(1/545)
النّار «فقال رجل من القوم: أنا صاحبه «1» أبدا. قال فخرج معه. كلّما وقف وقف معه. وإذا أسرع أسرع معه. قال فجرح الرّجل جرحا شديدا. فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه «2» . ثمّ تحامل على سيفه فقتل نفسه. فخرج الرّجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أشهد أنّك رسول الله. قال: «وما ذاك؟ قال: الرّجل الّذي ذكرت آنفا أنّه من أهل النّار. فأعظم النّاس ذلك. فقلت: أنا لكم به فخرجت في طلبه حتّى جرح جرحا شديدا. فاستعجل الموت. فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه. ثمّ تحامل عليه فقتل نفسه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عند ذلك: «إنّ الرّجل ليعمل عمل أهل الجنّة فيما يبدو للنّاس وهو من أهل النّار. وإنّ الرّجل ليعمل عمل أهل النّار فيما يبدو للنّاس وهو من أهل الجنّة» «3» .
3- قسم في المستقبل:
وهو ما أخبر به صلّى الله عليه وسلّم من المغيّبات زيادة على ما جاء في الكتاب العزيز فوقع بعد وفاته كما أخبر سواء بسواء.
والأحاديث في هذا القسم بحر لا يدرك قعره ولا ينزف «4» غمره «5» اعتنى بذكرها عدد كبير من الأئمّة الأعلام كالبيهقيّ في «دلائل النّبوّة» وابن كثير في «البداية والنّهاية» والسّيوطيّ في الخصائص الكبرى» .
ونقتصر على ذكر بعض النّماذج منها:
ظهور الإسلام وعلوّه:
- فعن خبّاب بن الأرتّ- رضي الله عنه-؛ قال: «شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو متوسّد بردة له في ظلّ الكعبة قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرّجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشقّ باثنتين، وما يصدّه ذلك عن دينه، ويمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصدّه ذلك عن دينه. والله ليتمّنّ هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلّا الله، والذّئب على غنمه، ولكنّكم تستعجلون» «6» .
وهكذا وقع فقد عمّ وظهر الدّين وغلب وعلا على سائر الأديان، في مشارق الأرض ومغاربها وعلت كلمته في عهد الصّحابة ومن بعدهم وذلّت لهم سائر البلاد ودان لهم جميع أهلها على اختلاف أصنافهم وألوانهم وصار النّاس إمّا مؤمن داخل في الدّين، وإمّا مهادن باذل الطّاعة والمال وإمّا محارب خائف وجل من سطوة الإسلام وأهله.
__________
(1) أنا صاحبه: كذا في الأصول. ومعناه أنا أصحبه في خفية، وألازمه لأنظر السبب الذي به يصير من أهل النار.
(2) ذبابه: ذباب السيف هو طرفه الأسفل. وأما طرفه الأعلى فمقبضه.
(3) رواه البخاري- انظر الفتح (6/ 105) ، حديث رقم (2898) ومسلم برقم (112) .
(4) لا ينزف: لا يفنى.
(5) غمره: بفتح الغين المعجمة وسكون الميم هو الماء الكثير جدا.
(6) رواه البخاري- انظر الفتح: 6 (3612) .(1/546)
ملك أمّة محمّد وممالكها:
- عن ثوبان- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الله زوى «1» لي الأرض. فرأيت مشارقها ومغاربها. وإنّ أمّتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها. وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض»
إنّي سألت ربّي لأمّتي أن لا يهلكها بسنة عامّة. وأن لا يسلّط عليهم عدوّا من سوى أنفسهم. فيستبيح بيضتهم «3» . وإنّ ربّي قال: يا محمّد إنّي إذا قضيت قضاء فإنّه لا يردّ. وإنّي أعطيتك لأمّتك أن لا أهلكهم بسنة عامّة «4» . وأن لا يسلّط عليهم عدوّا من سوى أنفسهم. يستبيح بيضتهم. ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتّى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا» «5» .
- وعن عديّ بن حاتم- رضي الله عنه-؛ قال: بينا أنا عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثمّ أتاه آخر فشكا إليه قطع السّبيل، فقال: يا عديّ، هل رأيت
الحيرة؟ قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها. قال: فإن طالت بك حياة لترينّ الظّعينة «6» ترتحل من الحيرة حتّى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلّا الله قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعّار «7» طيّء الّذين قد سعّروا البلاد «8» ؟ ولئن طالت بك حياة لتفتحنّ كنوز كسرى. قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز. ولئن طالت بك حياة لترينّ الرّجل يخرج ملء كفّه من ذهب أو فضّة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه. وليلقينّ الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له فليقولنّ: ألم أبعث إليك رسولا فيبلّغك؟ فيقول: بلى. فيقول: ألم أعطك مالا وأفضل عليك؟ فيقول: بلى. فينظر عن يمينه فلا يرى إلّا جهنّم، وينظر عن يساره فلا يرى إلّا جهنّم. قال عديّ سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد شقّة تمرة فبكلمة طيّبة. قال عديّ: فرأيت الظّعينة ترتحل من الحيرة حتّى تطوف بالكعبة لا تخاف إلّا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترونّ ما قال النّبيّ أبو القاسم صلّى الله عليه وسلّم: يخرج ملء كفّه» «9» .
- وعن سفيان بن أبي زهير- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يفتح الشّام فيخرج من المدينة
__________
(1) زوى: معناه جمع.
(2) الكنزين الأحمر والأبيض: المراد بالكنزين الذهب والفضة. والمراد بكنزي كسرى وقيصر، ملكي العراق والشام.
(3) فيستبيح بيضتهم: أي جماعتهم وأصلهم. والبيضة أيضا: العز والملك.
(4) أن لا أهلكهم بسنة عامة: أي لا أهلكهم بقحط يعمهم. بل إن وقع قحط فيكون في ناحية يسيرة، بالنسبة إلى باقي بلاد الإسلام.
(5) رواه مسلم برقم (2889) .
(6) الظعينة: المرأة ما دامت في الهودج، هذا هو الأصل، ثم سميت به المرأة ظعينة وإن لم تكن في هودج ولا مسافرة.
(7) الدعار: بالدال المهملة: قطاع الطريق، والذين يخيفون الناس في مقاصدهم، وأصل الدعر: الفساد.
(8) سعروا البلاد: ملؤوها شرا وفسادا، مأخوذ من استعار النار، وهو إيقادها والتهابها. انظر في ذلك جامع الأصول (11/ 315) .
(9) رواه البخاري- انظر الفتح 6 (3595) .(1/547)
قوم بأهليهم يبسّون «1» والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ثمّ يفتح اليمن فيخرج من المدينة قوم بأهليهم يبسّون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. ثمّ يفتح العراق فيخرج من المدينة قوم بأهليهم يبسّون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون «2» .
- عن أبي ذرّ- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّكم ستفتحون مصر. وهي أرض يسمّى فيها القيراط «3» . فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها. فإنّ لهم ذمّة «4» ورحما «5» أو قال: «ذمّة وصهرا «6» . فإذا رأيت رجلين يختصمان فيها في موضع لبنة، فاخرج منها» قال: فرأيت عبد الرّحمن بن شرحبيل بن حسنة وأخاه ربيعة، يختصمان في موضع لبنة، فخرجت منها» «7» .
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لا تقوم السّاعة حتّى ينزل الرّوم بالأعماق، أو بدابق «8» . فيخرج إليهم جيش من المدينة. من خيار أهل الأرض يومئذ. فإذا تصافّوا قالت الرّوم: خلّوا بيننا وبين الّذين سبوا «9» منّا نقاتلهم. فيقول المسلمون: لا. والله لا نخلّي بينكم وبين إخواننا. فيقاتلونهم. فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا «10» . ويقتل ثلثهم. أفضل الشّهداء عند الله. ويفتتح الثّلث. لا يفتنون أبدا: فيفتتحون قسطنطينيّة. فبينما هم يقتسمون الغنائم، قد علّقوا سيوفهم بالزّيتون، إذ صاح فيهم الشّيطان: إنّ المسيح قد خلّفكم في أهليكم. فيخرجون. وذلك باطل، فإذا جاءوا الشّأم خرج، فبينما هم يعدّون للقتال، يسوّون الصّفوف، إذ أقيمت الصّلاة. فينزل عيسى ابن مريم صلّى الله عليه وسلّم، فأمّهم. فإذا رآه عدوّ الله، ذاب كما يذوب الملح في الماء. فلو تركه
__________
(1) يبسون: قال أهل اللغة: يبسّون. ويقال أيضا: يبسون. فتكون اللفظة ثلاثية ورباعية فحصل في ضبطه ثلاثة أوجه. ومعناه يتحملون بأهليهم. وقيل معناه يدعون الناس إلى بلاد الخصب. وهو قول إبراهيم الحربي. وقال أبو عبيد: معناه يسوقون. والبس سوق الإبل. وقال ابن وهب: معناه يزينون لهم البلاد ويحببونها اليهم ويدعونهم إلى الرحيل إليها. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 158، 159) .
(2) رواه مسلم برقم (1388) .
(3) القيراط: قال العلماء: القيراط جزء من أجزاء الدينار والدرهم وغيرهما. وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به.
(4) ذمة: الذمة هي الحرمة والحق. وهي هنا بمعنى الذمام.
(5) ورحما: الرحم لكون هاجر، أم إسماعيل، منهم.
(6) وصهرا: الصهر لكون مارية، أم إبراهيم، منهم. انظر في ذلك شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 97) .
(7) رواه مسلم برقم (2543/ 227) .
(8) بالأعماق أو بدابق: موضعان بالشام، بقرب حلب.
(9) سبوا: قال النووي رحمه الله: روى سبوا على وجهين: فتح السين والباء وضمهما. قال القاضي في المشارق: الضم رواية الأكثرين. قال: وهو الصواب. قلت: كلاهما صواب لأنهم سبوا. أولا ثم سبوا الكفار. انظر شرح النووي على صحيح مسلم (18/ 21) .
(10) لا يتوب الله عليهم أبدا: أي لا يلهمهم التوبة.(1/548)
لانذاب حتّى يهلك. ولكن يقتله الله بيده. فيريهم دمه في حربته» «1» .
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والّذي نفس محمّد بيده لتنفقنّ كنوزهما في سبيل الله» «2» .
- عن جابر- رضي الله عنه-؛ قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: هل لكم من أنماط «3» ؟ قلت: وأنّى يكون لنا الأنماط؟ قال: أما إنّه ستكون لكم الأنماط. فأنا أقول لها يعني امرأته أخّري عنّا أنماطك، فتقول: ألم يقل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنّها ستكون لكم الأنماط، فأدعها» «4» .
- عن سفينة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الخلافة في أمّتي ثلاثون «5» سنة ثمّ ملكا بعد ذلك» «6» .
بشارات لبعض الأصحاب:
أ- أمّ حرام بنت ملحان:
- عن أنس بن مالك- رضي الله عنه-؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يدخل على أمّ حرام بنت ملحان «7» فتطعمه. وكانت أمّ حرام تحت عبادة بن الصّامت. فدخل عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما فأطعمته. ثمّ جلست تفلي رأسه. فنام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ استيقظ وهو يضحك. قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمّتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله. يركبون ثبج «8» هذا البحر. ملوكا على الأسرّة، أو مثل الملوك على الأسرّة «9» .
__________
(1) رواه مسلم برقم (2897) .
(2) رواه البخاري- انظر الفتح: 6 (3618) ومسلم برقم (2919) .
(3) أنماط: الأنماط جمع نمط وهو من البسط معروف. انظر جامع الأصول (11/ 319) . وقد قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ذلك عند ما تزوج» .
(4) رواه البخاري- انظر الفتح 6 (3631) . ومسلم برقم (2083) .
(5) وقد وقع ذلك كما أخبر الصادق المصدوق صلى وسلم. قال الحافظ ابن كثير: وهكذا وقع سواء، فإن أبا بكر رضي الله عنه كانت خلافته سنتين وأربعة أشهر إلا عشر ليال، وكانت خلافة عمر عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام، وخلافة عثمان اثنتا عشرة سنة إلا اثنى عشر يوما، وكانت خلافة علي بن أبي طالب خمس سنين إلا شهرين. وتكميل الثلاثين بخلافة الحسن بن علي نحوا من ستة أشهر، حتى نزل عنها لمعاوية عام أربعين من الهجرة- انظر البداية والنهاية (6/ 204، 205) .
(6) رواه أبو داود برقم (4646) . والترمذي برقم (2226) . والإمام أحمد في المسند (5/ 220- 221) ، والحاكم في المستدرك (3/ 71) وصححه ووافقه الذهبي وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/ 225) : أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره.
(7) أم حرام بنت ملحان: اتفق العلماء على أنها كانت محرما له صلّى الله عليه وسلّم. واختلفوا في كيفية ذلك. فقال ابن عبد البر وغيره: كانت إحدى خالاته من الرضاعة. وقال آخرون: بل كانت خالة لأبيه أو لجده. لأن عبد المطلب كانت أمه من بني النجار.
(8) ثبج: هو ظهره ووسطه.
(9) مثل الملوك على الأسرة: قيل: هو صفة لهم في الآخرة، إذا دخلوا الجنة. والأصح أنه صفة لهم في الدنيا أي يركبون مراكب الملوك لسعة حالهم واستقامة أمرهم وكثرة عددهم.(1/549)
(يشكّ أيّهما قال) . قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم. فدعا لها. ثمّ وضع رأسه فنام. ثمّ استيقظ وهو يضحك. قالت فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟. قال: «ناس من أمّتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله، كما قال في الأولى. قالت فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم. قال: أنت من الأوّلين» .
فركبت أمّ حرام بنت ملحان البحر في زمن معاوية «1» ، فصرعت عن دابّتها حين خرجت من البحر.
فهلكت» «2» .
ب- عكّاشة بن محصن:
- عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما-؛ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: «عرضت عليّ الأمم. فرأيت النّبيّ ومعه الرّهيط «3» والنّبيّ ومعه الرّجل والرّجلان. والنّبيّ ليس معه أحد. إذ رفع لي سواد عظيم. فظننت أنّهم أمّتي. فقيل لي: هذا موسى صلّى الله عليه وسلّم وقومه. ولكن انظر إلى الأفق. فنظرت. فإذا سواد عظيم. فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر. فإذا سواد عظيم. فقيل لي: هذه أمّتك. ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنّة بغير حساب ولا عذاب، ثمّ نهض فدخل منزله. فخاض «4» النّاس في أولئك الّذين يدخلون الجنّة بغير حساب ولا عذاب. فقال بعضهم: فلعلّهم الّذين صحبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال بعضهم: فلعلّهم الّذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله. وذكروا أشياء. فخرح عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما الّذي تخوضون فيه؟ «فأخبروه. فقال: «هم الّذين لا يرقون. ولا يسترقون. ولا يتطيّرون. وعلى ربّهم يتوكّلون» فقام عكّاشة بن محصن. فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: أنت منهم» ثمّ قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: سبقك بها عكّاشة» «5» .
ج- أمّ ورقة بنت نوفل:
وعن أمّ ورقة بنت نوفل أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لمّا غزا بدرا قالت: قلت له: يا رسول الله، ائذن لي في الغزو معك أمرّض مرضاكم، لعلّ الله أن يرزقني شهادة قال: «قرّي في بيتك، فإنّ الله تعالى يرزقك الشّهادة» قال: فكانت
__________
(1) في زمن معاوية: قال القاضي: قال أكثر أهل السير والأخبار. إن ذلك كان في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه. وفيها ركبت أم حرام وزوجها إلى قبرس فصرعت عن دابتها هناك. فتوفيت ودفنت هناك. وعلى هذا يكون قوله: في زمان معاوية معناه في زمان غزوة في البحر، لا في أيام خلافته. انظر في ذلك شرح النووي على صحيح مسلم (13/ 57- 59) .
(2) رواه البخاري انظر الفتح: 6 (2788، 2789) ومسلم برقم (1912) .
(3) الرهيط: تصغير رهط وهو الجماعة دون العشرة.
(4) فخاض الناس: أي تكلموا وتناظروا.
(5) رواه البخاري- انظر الفتح 10 (5752) . ومسلم برقم (220) .(1/550)
تسمّى الشّهيدة، قال: وكانت قد قرأت القرآن فاستأذنت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن تتّخذ في دارها مؤذّنا، فأذن لها، قال: وكانت قد دبّرت غلاما لها وجارية»
فقاما إليها باللّيل فغمّاها بقطيفة لها حتّى ماتت وذهبا، فأصبح عمر فقام في النّاس فقال: من كان عنده من هذين علم، أو من رآهما فليجيء بهما، فأمر بهما فصلبا فكانا أوّل مصلوب بالمدينة» «2» وفي رواية البيهقيّ في آخره؛ فقال عمر: صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: انطلقوا بنا نزور الشّهيدة» .
- أمارات السّاعة:
- عن عوف بن مالك- رضي الله عنه-؛ قال: «أتيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك وهو في قبّة من أدم فقال:
«اعدد ستّا بين يدي الساعة: موتي، ثمّ فتح بيت المقدس، ثمّ موتان «3» يأخذ فيكم كقعاص الغنم «4» ، ثمّ استفاضة المال حتّى يعطى الرّجل مائة دينار فيظلّ ساخطا، ثمّ فتنة لا يبقى بيت في العرب إلّا دخلته، ثمّ هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كلّ غاية اثنا عشر ألفا» «5» .
فهذه علامات أخبر عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تقع قبل قيام السّاعة:
- موته صلوات الله وسلامه عليه.
- وفتح بيت المقدس على يدي الخليفة الرّاشد عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- سنة خمس عشرة للهجرة.
- وباء الطّاعون وهو طاعون عمواس وقع بالشّام في عهد عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- سنة ثماني عشرة للهجرة ومات فيه جماعات من سادات الصّحابة- رضي الله عنهم أجمعين. منهم معاذ بن جبل، وأبو عبيدة بن الجرّاح، وشرحبيل بن حسنة، وغيرهم.
- استفاضة المال وهو كثرته وظهر ذلك في خلافة الخليفة الرّاشد عثمان بن عفّان- رضي الله عنه- عندما فتح المسلمون الفتوح العظيمة «6» .
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه-؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تقوم السّاعة حتّى تخرج نار من أرض
__________
(1) دبرت غلاما وجارية: أي علقت عتقهما على موتها، وهو أن يقول السيد لعبده: أنت حر بعد موتي. انظر عون المعبود (2/ 300) .
(2) رواه أبو داود برقم (591) . والإمام أحمد في مسنده (6/ 405) ، والبيهقي في" دلائل النبوة" (6/ 381) وحسنه الألباني انظر صحيح سنن أبي داود برقم (552) .
(3) موتان: بضم الميم وسكون الواو: قيل هو الموت. وقيل: الموت الكثير انظر فتح الباري (6/ 320) .
(4) قعاص الغنم: قال ابن الأثير: القعاص بالضم: داء يأخذ الغنم لا يلبثها أن تموت. انظر النهاية (4/ 88) . وقال الحافظ ابن حجر: هو داء يأخذ الدواب فيسيل من أنوفها شيء فتموت فجأة. انظر فتح الباري (6/ 321) .
(5) رواه البخاري- انظر الفتح 6 (3176) .
(6) انظر: فتح الباري (6/ 321) .(1/551)
الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى «1» » «2» .
وقد خرجت هذه النّار بالمدينة المنوّرة كما أخبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وكان ذلك سنة أربع وخمسين وستّمائة كما ذكر ذلك جمع من العلماء منهم النّوويّ في شرحه على مسلم «3» ، والسّيوطيّ في الخصائص الكبرى «4» .
قال النّوويّ رحمه الله: وقد خرجت في زماننا نار بالمدينة سنة أربع وخمسين وستّمائة وكانت نارا عظيمة جدّا من جنب المدينة الشّرقيّ وراء الحرّة تواتر العلم بها عند جميع الشّام وسائر البلدان وأخبرني من حضرها من أهل المدينة «5» .
وقال الحافظ ابن حجر: قال أبو شامة في ذيل الرّوضتين «وردت في أوائل شعبان سنة أربع وخمسين كتب من المدينة الشّريفة فيها شرح أمر عظيم حدث بها فيه تصديق لما في الصّحيحين، فذكر هذا الحديث، قال: فأخبرني بعض من أثق به ممّن شاهدها أنّه بلغه أنّه كتب بتيماء على ضوئها الكتب، فمن الكتب ... فذكر نحو ما تقدّم» «6» .
- إفحام أهل الكتاب:
كان أهل الكتاب كثيرا ما يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أشياء على سبيل الامتحان والتّعجيز وليس على سبيل الهداية والانصياع للحقّ فسألوه عن أشياء كثيرة فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يورد الجواب على وجهه ويأتي به على نصّه كما هو معروف لديهم ومقرّر في كتبهم.
وقد علموا أنّه صلوات الله وسلامه عليه أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب ولا اشتغل بمدارسة ولم يتلقّ العلم على أيديهم. ومع هذا لم يحك عن واحد من اليهود والنّصارى على شدّة عداوتهم له وحرصهم على تكذيبه وكثرة سؤالهم له وتعنّتهم في ذلك، أنّه أنكر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جوابه أو كذبه بل أكثرهم صرّح بصحّة نبوّته وصدق مقالته، والمكابر منهم اعترف بعناده وحسده لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وها هي بعض النّماذج الّتي سئل فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فأجاب بما طابق الحقّ المقرّر عند أهل الكتاب:
- فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: «بلغ عبد الله بن سلام مقدم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة. فأتاه فقال:
إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبيّ، قال ما أوّل أشراط «7» السّاعة؟ وما أوّل طعام يأكله أهل الجنّة؟ ومن
__________
(1) بصرى: بضم الموحدة وسكون المهملة مقصور: مدينة معروفة بالشام وهي مدينة حوران بينها وبين دمشق نحو ثلاث مراحل. انظر شرح النووي على مسلم (18/ 30) ، فتح الباري (13/ 86) .
(2) رواه البخاري- انظر الفتح 13 (7118) . ومسلم برقم (2902) .
(3) شرح النووي على صحيح مسلم (18/ 28) .
(4) الخصائص الكبرى للسيوطي (2/ 256) .
(5) شرح النووي على صحيح مسلم (18/ 28) .
(6) فتح الباري (13/ 85) .
(7) الأشراط: العلامات، وأشراط الساعة: العلامات التي تتقدمها. مثل خروج الدجال، وطلوع الشمس من المغرب.(1/552)
أيّ شيء ينزع «1» الولد إلي أبيه، ومن أيّ شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خبّرني بهنّ آنفا جبريل. قال فقال عبد الله: ذاك عدوّ اليهود من الملائكة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمّا أوّل أشراط السّاعة فنار تحشر النّاس من المشرق إلى المغرب. وأمّا أوّل طعام يأكله أهل الجنّة فزيادة كبد حوت وأمّا الشّبه في الولد فإنّ الرّجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشّبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشّبه لها.
قال: أشهد أنّك رسول الله. ثمّ قال: يا رسول الله، إنّ اليهود قوم بهت «2» ، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك. فجاءت اليهود، ودخل عبد الله البيت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيّ رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا أعلمنا وابن أعلمنا، وأخبرنا وابن أخبرنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك.
فخرج عبد الله إليهم فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّدا رسول الله. فقالوا: شرّنا وابن شرّنا. ووقعوا فيه» «3» .
- عن ثوبان- رضي الله عنه-؛ قال: كنت قائما عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فجاء حبر «4» من أحبار اليهود فقال:
السّلام عليك يا محمّد فدفعته دفعة كاد يصرع منها. فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول يا رسول الله فقال اليهوديّ؛ إنّما ندعوه باسمه الّذي سمّاه به أهله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ اسمي محمّد الّذي سمّاني به أهلي «فقال اليهوديّ: جئت أسألك. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أينفعك شيء إن حدّثتك؟» قال: أسمع بأذنيّ. فنكت «5» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعود معه فقال: سل» فقال اليهوديّ: أين يكون النّاس يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسّماوات؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هم في الظّلمة دون الجسر «6» » قال: فمن أوّل النّاس إجازة «7» ، قال: «فقراء المهاجرين» قال اليهوديّ: فما تحفتهم «8» حين يدخلون الجنّة؟ قال: زيادة كبد النّون» «9» قال: فما غذاؤهم «10» علي إثرها؟ قال:
__________
(1) ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه: إذا جاء يشبه أحدهما.
(2) قوم بهت: بهت فلان فلانا: اذا كذب عليه، فهو باهت، وقوم بهت. أفاد ذلك ابن الأثير رحمه الله في كتابه جامع الأصول (11/ 383) .
(3) رواه البخاري- انظر الفتح 6 (3329) .
(4) حبر: قال في المصباح: الحبر، بالكسر، العالم. والجمع أحبار. مثل حمل وأحمال. والحبر، بالفتح، لغة فيه. وجمعه حبور، مثل فلس وفلوس.
(5) فنكت: معناه يخط بالعود في الأرض ويؤثر به فيها. وهذا يفعله المفكر.
(6) الجسر: بفتح الجيم وكسرها، لغتان مشهورتان، والمراد به هنا الصراط.
(7) إجازة: الإجازة هنا بمعنى الجواز والعبور.
(8) تحفتهم: بإسكان الحاء وفتحها، لغتان. وهي ما يهدى إلى الرجل ويخص به ويلاطف.
(9) النون: النون هو الحوت. وجمعه نينان.
(10) غذاؤهم: روي على وجهين: غذاؤهم وغداؤهم. قال القاضي عياض: هذا الثاني هو الصحيح، وهو رواية الأكثرين.(1/553)
«ينحر لهم ثور الجنّة الّذي كان يأكل من أطرافها» قال: فما شرابهم عليه؟ قال: «من عين فيها تسمّى سلسبيلا «1» » قال: صدقت. قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض. إلّا نبيّ أو رجل أو رجلان. قال:
«ينفعك إن حدّثتك؟» قال: أسمع بأذنيّ قال جئت أسألك عن الولد؟ قال: ماء الرّجل أبيض وماء المرأة أصفر.
فإذا اجتمعا، فعلا منيّ الرّجل منيّ المرأة، أذكرا «2» بإذن الله. وإذا علا منيّ المرأة منيّ الرّجل، آنثا «3» بإذن الله قال اليهوديّ: لقد صدقت. وإنّك لنبيّ. ثمّ انصرف فذهب. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد سألني هذا عن الّذي سألني عنه. وما لي علم بشيء منه. حتّى آتاني الله به «4» . «5» .
- عن صفوان بن عسّال- رضي الله عنه- قال: قال يهوديّ لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النّبيّ. فقال صاحبه: لا تقل نبيّ، إنّه لو سمعك كان له أربعة أعين، فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألاه عن تسع آيات بيّنات. فقال لهم: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النّفس الّتي حرّم الله إلّا بالحقّ، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الرّبا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولّوا الفرار يوم الزّحف «6» ، وعليكم خاصّة اليهود أن لا تعتدوا في السّبت، قال: فقبّلوا يده ورجله. فقالا: نشهد أنّك نبيّ. قال فما يمنعكم أن تتّبعوني؟ قالوا:
إنّ داود دعا ربّه أن لا يزال في ذرّيّته نبيّ، وإنّا نخاف إن تبعناك أن تقتلنا اليهود» «7» .
__________
(1) سلسبيلا: قال جماعة من أهل اللغة والمفسرين: السلسبيل اسم للعين. وقال مجاهد وغيره: هي شديدة الجري وقيل هي السلسلة اللينة.
(2) أذكرا: أي كان الولد ذكرا.
(3) آنثا: أي كان الولد أنثى، وقد روي أنثا.
(4) انظر في ذلك شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 226، 227، 228) .
(5) رواه مسلم برقم (315) .
(6) الزحف: القتال والمراد به: الجهاد في سبيل الله.
(7) رواه الترمذي برقم (2733) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي (7/ 111) . ورواه الإمام أحمد في مسنده (4/ 240) ، والحاكم في المستدرك (1/ 9) وقال: هذا حديث صحيح لا نعرف له علة بوجه من الوجوه ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(1/554)
الصّلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
صيغ الصّلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
1- عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاريّ- رضي الله عنه- قال: أتانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن في مجلس سعد بن عبادة- رضي الله عنه- فقال له بشير بن سعد- رضي الله عنه- قد أمرنا الله أن نصلّي عليك، فكيف نصلّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهمّ صلّ على محمّد، وعلى آل محمّد، كما صلّيت على آل إبراهيم، وبارك على محمّد، وعلى آل محمّد، كما باركت على آل إبراهيم، والسّلام كما قد علمتم» «1» . وزاد ابن خزيمة فيه: «فكيف نصلّي عليك إذا نحن صلّينا في صلاتنا ... » الحديث.
2- عن أبي مسعود- رضي الله عنه- قال: أقبل رجل «2» حتّى جلس بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونحن عنده، فقال: يا رسول الله أمّا السّلام عليك فقد عرفناه، فكيف نصلّي عليك إذا نحن صلّينا في صلاتنا صلّى الله عليك؟ قال: فصمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى أحببنا أنّ الرّجل لم يسأله. ثمّ قال: «إذا أنتم صلّيتم عليّ فقولوا: اللهمّ صلّ على محمّد النّبيّ الأمّي، وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم ... » » .
3- عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هديّة؟ خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلنا: قد عرفنا كيف نسلّم عليك، فكيف نصلّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد، اللهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد» «4» .
4- عن أبي حميد السّاعديّ- رضي الله عنه- أنّهم قالوا: يا رسول الله! كيف نصلّي عليك؟ فقال رسول الله
__________
(1) أحمد (5/ 274) ، ومسلم (405) ، والنسائي (3/ 45، 46) ، والترمذي (3220) ، وقال حديث حسن صحيح. وأبو داود (980، 981) ، ومالك في «الموطأ» (1/ 165، 166) .
(2) هو بشير بن سعد.
(3) أحمد في «المسند» (4/ 119) . والحاكم في «المستدرك» (1/ 268) وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وهو عند ابن خزيمة في صحيحه.
(4) البخاري- الفتح (1/ 6357) ، ومسلم (406) واللفظ له، وفي لفظ آخر عند البخاري [الفتح (61/ 3370) ] من طريق عبد الله ابن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية؟ سمعتها من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: بلى، فاهدها لي، فقال: سألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلنا: يا رسول الله! كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ فإنّ الله قد علّمنا كيف نسلّم. قال: «قولوا: اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهمّ بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وقد جمع هذا الحديث بين إبراهيم وآله في الصلاة والبركة، وهو على خلاف ما جزم به المؤلف من أن أكثر الأحاديث الصحاح والحسان، مصرحة بذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم وبذكر آله، أما في حق المشبه به وهو إبراهيم وآله، فإنما جاءت بذكر آل إبراهيم فقط دون ذكر إبراهيم أو بذكره فقط دون ذكر آله، ولم يجىء حديث صحيح فيه لفظ إبراهيم وآل إبراهيم وهو سهو منه رحمه الله، وبتفصيل أكثر. انظر فتح الباري (11/ 158- 159) .(1/555)
صلّى الله عليه وسلّم: «قولوا: اللهمّ صلّ على محمّد وأزواجه وذرّيّته، كما صلّيت على آل إبراهيم، وبارك على محمّد وأزواجه وذرّيّته، كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد» «1» .
5- عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: قلنا: يا رسول الله هذا السّلام عليك قد عرفناه، فكيف الصّلاة عليك؟ قال: «قولوا: اللهمّ صلّ على محمّد عبدك ورسولك، كما صلّيت على إبراهيم، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد، كما باركت على آل إبراهيم» «2» .
6- عن طلحة بن عبيد الله- رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله كيف الصّلاة عليك؟ قال: «قل:
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد، كما باركت على آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد» .
وفي لفظ آخر عند النّسائيّ أنّ رجلا أتى نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: كيف نصلّي عليك يا نبيّ الله؟ قال: «قولوا:
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم، إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد، كما باركت على إبراهيم، إنّك حميد مجيد» «3» .
7- عن زيد بن خارجة- رضي الله عنه- «4» قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف الصّلاة عليك؟ فقال:
«صلّوا واجتهدوا، ثمّ قولوا: اللهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد، كما باركت على آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد» «5» .
8- عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: إذا صلّيتم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأحسنوا الصّلاة عليه، فإنّكم لا تدرون لعلّ ذلك يعرض عليه. قال: فقالوا له: فعلّمنا، قال: قولوا: اللهمّ اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيّد المرسلين وإمام المتّقين وخاتم النّبيّين محمّد عبدك ورسولك، إمام الخير وقائد الخير، ورسول الرّحمة، اللهمّ ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأوّلون والآخرون، اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، اللهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد» «6» .
__________
(1) البخاري- الفتح (11/ 6360) ، ومسلم (407) ، وأبو داود (979) ، والنسائي (3/ 49) ، وابن ماجه (905) .
(2) البخاري- الفتح (11/ 6358) ، والنسائي (3/ 49) ، وابن ماجه (903) .
(3) أحمد في «المسند» (1/ 126) ، والنسائي (3/ 48) وإسناده حسن.
(4) هو زيد بن خارجة بن أبي زهير الأنصاري الخزرجي شهد بدرا وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه، وانظر «الإصابة» لابن حجر (1/ 547) ، وراجع «جلاء الأفهام» لابن القيم (ص 13) .
(5) أحمد في «المسند» (1/ 199) ، والنسائي (3/ 49) ، وإسماعيل بن إسحاق القاضي في «فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم» (ص 69) ، وقال الأرنؤطيان: إسناده صحيح.
(6) ابن ماجه (ص 906) ، وقال في «الزوائد: رجاله ثقات. إلا أن المسعودي اختلط بآخر عمره.(1/556)
9- عن عبد الرّحمن بن بشير بن مسعود «1» ، قال: قيل: يا رسول الله! أمرتنا أن نسلّم عليك، وأن نصلّي عليك، فقد علمنا كيف نسلّم عليك، فكيف نصلّي عليك؟ قال: «تقولون: اللهمّ صلّ على آل محمّد، كما صلّيت على آل إبراهيم، اللهمّ بارك على آل محمّد، كما باركت على آل إبراهيم» «2» .
طلب الصلاة من الله:
في الصّيغ السّابقة لاحظنا أنّ الصّلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم تتحقّق من خلال طلبها من الله- عزّ وجلّ- أن يصلّي عليه، وهنا سؤال مهمّ هو: لماذا لا نصلّي عليه مباشرة وإنّما نطلب ذلك من الله عزّ وجلّ؟ وعن هذا السّؤال يجيب ابن القيّم فيقول:
أولا: إنّ الصّلاة من الله تعالى من أجلّ المراتب وأعلاها، ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم أفضل الخلق فلا بدّ أن تكون الصّلاة الحاصلة له أفضل من كلّ صلاة تحصل لمخلوق فلا يكون غيره مساويا له فيها «3» .
ثانيا: إنّ الله تعالى أخبر أنّه وملائكته يصلّون عليه، ثمّ أمر بالصّلاة عليه ولا ريب أنّ المطلوب من الله هو نظير الصّلاة المخبر بها لا ما دونها، وهو أكمل الصّلاة وأرجحها لا الصّلاة المرجوحة المفضولة «4» .
كما كان أجر فضل صلاة الله- عزّ وجلّ- أعلى رتبة من فضل صلاة الإنسان بنفسه، فقد كان هذا الفضل- الحاصل بصلاة الله- عزّ وجلّ- عائدا على الإنسان له فائدة وأجر أعظم.
__________
(1) عبد الرحمن بن بشير ذكره البخاري وابن أبي حاتم وابن حبّان في التابعين. وقال ابن القيم معدود في الصحابة، وراجع «جلاء الأفهام» (ص 65) .
(2) «فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم» لإسماعيل بن إسحاق القاضي (ص 71) ، وقال فضيلة الشيخ الألباني في تخريجه: إسناده مرسل صحيح، رجاله كلهم رجال مسلم.
(3) راجع (جلاء الأفهام) ص 154) .
(4) راجع (جلاء الأفهام) ص 153.(1/557)
مواطن الصّلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
(1) في آخر التّشهّد «1» :
عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاريّ- رضي الله عنه- قال: أتانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن في مجلس سعد بن عبادة- رضي الله عنه- فقال له بشير بن سعد- رضي الله عنه-: قد أمرنا الله أن نصلّي عليك، فكيف نصلّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهمّ صلّ على محمّد، وعلى آل محمّد، كما صلّيت على آل إبراهيم، وبارك على محمّد، وعلى آل محمّد، كما باركت على آل إبراهيم، والسّلام كما علمتم» «2» . وزاد ابن خزيمة فيه: «فكيف نصلّي عليك إذا نحن صلّينا في صلاتنا ... » الحديث.
عن فضالة بن عبيد- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، سمع رجلا يدعو في صلاته فلم يصلّ على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «عجل هذا» ثمّ دعاه فقال له أو لغيره: «إذا صلّى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثّناء عليه، ثمّ ليصلّ على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ ليدع بعد بما شاء» «3» .
عن ابن عمر- رضي الله عنهما- مرفوعا، قال: «لا تكون صلاة إلّا بقراءة وتشهّد وصلاة عليّ» «4» .
(2) في صلاة الجنازة بعد التّكبيرة الثّانية:
عن أبي أمامة «5» بن سهل أنّه أخبره رجل من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنّ السّنّة «6» في الصّلاة على الجنازة أن
__________
(1) ذكر المؤلف رحمه الله- خلافا طويلا في حكم الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم من حيث الوجوب أو الاستحباب فقال: الموضع الأول- وهو أهمها وآكدها-: في الصلاة في آخر التشهد، وقد أجمع المسلمون على مشروعيته، واختلفوا في وجوبه فيها، فقالت طائفة: ليس بواجب فيها، ونسبوا من أوجبه إلى الشذوذ، ومخالفة الإجماع، منهم الطحاوي، والقاضي عياض، والخطابي، فإنه قال: ليست بواجبة في الصلاة، وهو قول جماعة الفقهاء إلّا الشافعي، ولا يعلم له قدوة، وكذلك ابن المنذر ذكر أن الشافعي تفرد بذلك، واختار عدم الوجوب. راجع «جلاء الأفهام» ص 263- 293.
(2) أحمد (5/ 274) ، ومسلم (405) ، والنسائي (3/ 45، 46) ، والترمذي 3220) ، وقال حديث حسن صحيح، وأبو داود (980، 981) ، ومالك في «الموطأ» (1/ 165، 166) .
(3) رواه أبو داود برقم (1481) ، والترمذي برقم (3477) وقال: حديث حسن صحيح والنسائي (3/ 44) ، والإمام أحمد في المسند (6/ 18) ، والحاكم في المستدرك (1/ 230) ، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(4) قال الحافظ ابن حجر: أخرجه العمري في «عمل اليوم والليلة» بسند جيد. انظر الفتح (11/ 196) .
(5) أبو أمامة: صحابي صغير، كما قال ابن القيم. راجع «جلاء الأفهام» (ص 292) وقد رواه عن جماعة من الصحابة. فقال يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف وكان من صغار الأنصار وعلمائهم وأبناء الذين شهدوا بدرا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبره رجال من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة على الجنازة، أن يكبّر الإمام ثمّ يصلّي على النبي صلّى الله عليه وسلّم ... الحديث.
(6) من السنّة: قال ابن كثير: هذا من الصحابي في حكم المرفوع على الصحيح. انظر تفسير ابن كثير (3/ 521) .(1/558)
يكبّر الإمام، ثمّ يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التّكبيرة الأولى سرّا في نفسه، ثمّ يصلّي على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويخلص الدّعاء للجنازة في التّكبيرات لا يقرأ في شيء منهنّ، ثمّ يسلّم سرّا في نفسه «1» .
عن سعيد بن المسيّب- رحمه الله- قال: «إنّ السّنّة في صلاة الجنازة أن يقرأ بفاتحة الكتاب، ويصلّي على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ يخلص الدّعاء للميّت حتّى يفرغ، ولا يقرأ إلّا مرّة واحدة، ثمّ يسلّم في نفسه» «2» .
عن أبي سعيد المقبريّ أنّه سأل أبا هريرة- رضي الله عنه-: كيف نصلّي على الجنازة؟ فقال أبو هريرة- رضي الله عنه-: أنا لعمر الله أخبرك، أتبعها من أهلها، فإذا وضعت كبّرت وحمدت الله تعالى وصلّيت على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ أقول: اللهمّ إنّه عبدك وابن عبدك وابن أمتك كان يشهد أن لا إله إلّا أنت، وأنّ محمّدا عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهمّ إن كان محسنا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا، فتجاوز عن سيّئاته، اللهمّ لا تحرمنا أجره، ولا تفتنّا بعده» «3» .
(3) في الخطب: كخطبة الجمعة، والعيدين، وغيرهما:
عن عون بن أبي جحيفة قال: كان أبي من شرط «4» عليّ، وكان تحت المنبر، فحدّثني أنّه صعد المنبر- يعني عليّا- رضي الله عنه- فحمد الله، وأثنى عليه، وصلّى على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال: خير هذه الأمّة بعد نبيّها أبو بكر، والثّاني عمر، وقال: يجعل الله الخير حيث شاء» «5» .
عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنّه كان يقول بعد ما يفرغ من خطبة الصّلاة ويصلّي على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الرّاشدون، اللهمّ بارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وقلوبنا وذرّيّاتنا» .
(4) بعد الأذان:
روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول، ثمّ صلّوا عليّ فإنّه من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرا، ثمّ سلوا الله
__________
(1) رواه الشافعي في «الأم» (1/ 239، 240) . والحاكم في المستدرك (1/ 360) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي والبيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 39، 40) والنسائي مختصرا (4/ 75) .
(2) رواه إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتابه «فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم» (ص 79) . وقال مخرج الكتاب الألباني: إسناده صحيح، وكذا أخرجه الحاكم (1/ 360) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) أخرجه عبد الرزاق في «المصنّف» (6425) وإسماعيل القاضي في: فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم (93) ، وذكره الهيثمي في «المجمع» (3/ 33) ونسبه إلى أبي يعلى وقال: رجاله رجال الصحيح.
(4) الشرط جمع شرطة، وهو الجندي الذي يقوم بالحراسة.
(5) أحمد في المسند (1/ 106) وقال محققه الشيخ أحمد شاكر إسناده صحيح، وقال الأرنؤطيان في تحقيقهما لجلاء الأفهام: أخرجه عبد الله ابن الإمام أحمد في «زوائده» (1/ 106) وإسناده حسن.(1/559)
لي الوسيلة فإنّها منزلة في الجنّة لا تنبغي إلّا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشّفاعة» «1» .
(5) عند الدّعاء:
وله ثلاثة مراتب:
إحداها: أن يصلّي عليه قبل الدّعاء وبعد حمد الله تعالى.
المرتبة الثّانية: أن يصلّي عليه في أوّل الدّعاء وأوسطه وآخره.
والثّالثة: أن يصلّي عليه في أوّله وآخره، ويجعل حاجته متوسّطة بينهما.
فأمّا المرتبة الأولى، فالدّليل عليها حديث فضالة بن عبيد- رضي الله عنه- قال: سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا يدعو في صلاته فلم يصلّ على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «عجل هذا» ، ثمّ دعاه فقال له ولغيره: «إذا صلّى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثّناء عليه، ثمّ ليصلّ على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثمّ ليدع بعد بما شاء» وقد تقّدم «2» .
عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: كنت أصلّي والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر معه، فلمّا جلست بدأت بالثّناء على الله تعالى، ثمّ بالصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثمّ دعوت لنفسي، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «سل تعطه سل تعطه» «3» .
عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: «إذا أراد أحدكم أن يسأل الله تعالى فليبدأ بحمده والثّناء عليه بما هو أهله، ثمّ يصلّي على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ يسأل بعد، فإنّه أجدر أن ينجح أو يصيب» «4» .
وعن عليّ- رضي الله عنه- ما من دعاء إلّا بينه وبين الله حجاب حتّى يصلّي على محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فإذا صلّى على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، انخرق الحجاب، واستجيب الدّعاء، وإذا لم يصلّ على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لم يستجب الدّعاء» «5» .
قال المؤلّف: وهذه المواطن الّتي تقدّمت كلّها شرعت الصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيها أمام الدّعاء، فمفتاح
__________
(1) أخرجه مسلم (384) .
(2) تقدم تخريجه.
(3) أخرجه الترمذي (593) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال محقق جامع الأصول (4/ 156) إسناده حسن.
(4) رجاله ثقات لكنه منقطع. وانظر جلاء الأفهام بتحقيق الأرناؤوط (ص 307) .
(5) قال المنذري في «الترغيب والترهيب» (3/ 165) : وعن علي- رضي الله عنه- قال: كل دعاء محجوب حتى يصلّي على محمد صلّى الله عليه وسلّم، رواه الطبراني في «الأوسط موقوفا، ورواته ثقات، ورفعه بعضهم، والموقوف أصح، وذكره الهيثمي في «المجمع» (10/ 160) . وقال: رجاله ثقات، وأخرج الترمذي (486) عن عمر موقوفا «الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى يصلّي على النبي صلّى الله عليه وسلّم» وفي سنده أبو قرة الأسدي وهو مجهول. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ورد له شاهد مرفوع في جزء الحسن بن عرفة. انظر فتح الباري (11/ 169) .(1/560)
الدّعاء: الصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، كما أنّ مفتاح الصّلاة الطّهور. والصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، بمنزلة الفاتحة من الصّلاة، فصلّى الله عليه وعلى آله وسلّم تسليما.
قال أحمد بن أبي الحواريّ: سمعت أبا سليمان الدّارانيّ يقول: «من أراد أن يسأل الله حاجته، فليبدأ بالصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وليسأل حاجته، وليختم بالصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإنّ الصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مقبولة، والله أكرم أن يردّ ما بينهما.
(6) عند دخول المسجد والخروج منه:
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا دخل أحدكم المسجد، فليسلّم على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وليقل: اللهمّ افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج، فليسلّم على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وليقل: اللهمّ أجرني من الشّيطان الرّجيم» «1» .
وفي المسند والتّرمذيّ، وسنن ابن ماجه من حديث فاطمة بنت الحسين عن جدّتها فاطمة الكبرى قالت:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل المسجد قال: «اللهمّ صلّ على محمّد وسلّم، اللهمّ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج قال مثل ذلك، إلّا أنّه يقول: أبواب فضلك» ولفظ التّرمذيّ: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل المسجد صلّى على محمّد وسلّم «2» .
(7) على الصّفا والمروة:
عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يكبّر على الصّفا ثلاثا يقول: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير، ثمّ يصلّي على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ يدعو، ويطيل القيام والدّعاء، ثمّ يفعل على المروة مثل ذلك» وهذا من توابع الدّعاء أيضا «3» .
وعن وهب بن الأجدع قال: سمعت عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- يخطب النّاس بمكّة يقول: «إذا قدم الرّجل منكم حاجّا، فليطف بالبيت سبعا، وليصلّ عند المقام ركعتين، ثمّ يستلم الحجر الأسود، ثمّ يبدأ بالصّفا، فيقوم عليها، ويستقبل البيت فيكبّر سبع تكبيرات، بين كلّ تكبير حمد الله عزّ وجلّ وثناء عليه، وصلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومسألة لنفسه، وعلى المروة مثل ذلك» «4» .
__________
(1) صححه ابن خزيمة (452) وابن حبان (321) وقال الأرنؤطيان وهو كما قالا.
(2) رواه أبو داود (465) والترمذي (304) وابن ماجة (771) وابن السني (87) قال الحافظ ابن حجر: رجال إسناده ثقات إلّا أن فيه انقطاعا وقال الأرنؤطيان حديث صحيح بشواهده.
(3) فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم لإسماعيل بن إسحاق القاضي رقم (87) قال الألباني: سنده متصل صحيح.
(4) رواه إسماعيل بن إسحاق في كتاب فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم (ص 71) ، وقال الحافظ ابن كثير: إسناده جيد حسن قوي، وانظر تفسير ابن كثير (3/ 533) .(1/561)
(8) عند اجتماع القوم وقبل تفرّقهم:
عن جابر- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما اجتمع قوم ثمّ تفرّقوا عن غير ذكر الله وصلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، إلّا قاموا عن أنتن من جيفة» » .
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: «ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلّوا على نبيّهم إلّا كان عليهم ترة «2» فإن شاء عذّبهم وإن شاء غفر لهم» «3» .
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: «ما قعد قوم مقعدا لا يذكرون الله عزّ وجلّ ويصلّون على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، إلّا كان عليهم حسرة يوم القيامة وإن دخلوا الجنّة للثّواب» «4» .
(9) عند ورود ذكره صلوات الله وسلامه عليه:
عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «من ذكرت عنده فليصلّ عليّ فإنّه من صلّى عليّ مرّة صلّى الله عليه عشرا» «5» .
وعن كعب بن عجرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «احضروا المنبر» فحضرنا فلمّا ارتقى درجة قال: «آمين» . فلمّا ارتقى الثّانية قال: «آمين» . فلمّا ارتقى الدّرجة الثّالثة قال: «آمين» . فلمّا نزل قلنا يا رسول الله! لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنّا نسمع، قال: «إنّ جبريل عرض لي، فقال: بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له، قلت: آمين، فلمّا رقيت الثّانية قال: بعد من ذكرت عنده فلم يصلّ عليك، فقلت: آمين، فلمّا رقيت الثّالثة،
__________
(1) رواه أبو داود الطيالسي (1756) ، والبيهقي في شعب الإيمان، والضياء المقدسي في المختارة والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 411) بلفظ «ما جلس قوم مجلسا ثم تفرقوا عن غير صلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم إلّا تفرقوا على أنتن من ريح الجيفة» . قال ابن القيم رحمه الله: قال أبو عبد الله المقدسي (الضياء) : هذا عندي على شرط مسلم. راجع جلاء الأفهام (ص 78) وأيضا صحح الحديث الألباني، انظر صحيح الجامع الصغير برقم (5382) .
(2) (ترة) : نقص وتبعة وحسرة. انظر النهاية لابن الأثير (1/ 189) .
(3) رواه الإمام أحمد في المسند (2/ 446، 452، 481، 484، 495) ، والترمذي برقم (3380) وقال: حديث حسن صحيح، ورواه الحاكم في المستدرك (1/ 496) ، وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم (ص 51) ، وصحح الحديث أيضا الألباني، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (74) ، وعبد القادر الأرناؤوط، انظر تعليقه على كتاب «جامع الأصول» (4/ 472) .
(4) رواه الإمام أحمد في المسند (2/ 463) وابن حبان (2322) كما في موارد الظمآن. والحاكم (1/ 492) ، وإسماعيل القاضي في «فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم» (ص 52، 53) ، وقال الحافظ الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. انظر مجمع الزوائد (10/ 79) وأيضا صححه الألباني، انظر السلسلة الصحيحة برقم (76) ، وصحيح الجامع الصغير برقم (7500) .
(5) رواه النسائي في «عمل اليوم والليلة» (ص 60) ، وابن السني (383) ، والبخاري في الأدب المفرد (ص 463) ، قال النووي: إسناده جيد. انظر كتابه «الأذكار» (ص 145) ، وقال ابن القيم: إسناده صحيح، انظر كتابه «جلاء الأفهام» (ص 295) .(1/562)
قال: بعد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنّة. قلت: آمين» «1» .
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رغم «2» أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثمّ انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنّة» «3» .
عن الحسين بن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنهما- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «بخيل من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ» «4» .
(10) عند طرفي النّهار:
عن أبي الدّرداء- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلّى عليّ حين يصبح وحين يمسي عشرا، أدركته شفاعتي يوم القيامة» «5» .
(11) عند الوقوف على قبره صلّى الله عليه وسلّم:
عن عبد الله بن دينار قال: رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فيصلّي على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويدعو لأبي بكر وعمر- رضي الله عنهما- «6» .
(12) عند الخروج إلى السّوق، أو إلى دعوة أو نحوها:
قال ابن أبي حاتم: حدّثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطّان، حدّثنا محمّد بن بشر، حدّثنا مسعر، حدّثنا عامر بن شقيق، عن أبي وائل قال: «ما رأيت عبد الله جلس في مأدبة ولا جنازة ولا غير ذلك، فيقوم حتّى يحمد الله، ويثني عليه، ويصلّي على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويدعو بدعوات. وإن كان يخرج إلى السّوق، فيأتي أغفلها مكانا، فيجلس، فيحمد الله، ويصلّي على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويدعو بدعوات» «7» .
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 153، 154) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(2) (رغم) : قال الحافظ المنذري: بكسر الغين المعجمة أي: لصق بالرغام وهو التراب؛ وقال ابن الأعرابي: هو بفتح الغين، ومعناه: ذلّ. انظر الترغيب والترهيب (2/ 508) .
(3) رواه الترمذي برقم (3539) وقال: حديث حسن غريب، وإسماعيل بن إسحاق القاضي في «فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم» ، (ص 31) ، وحسّنه ابن حجر، وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع برقم (3504) .
(4) رواه الترمذي (3546) وقال حديث حسن صحيح، وأحمد في المسند (1/ 201) .
(5) قال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين وإسناد أحدهما جيّد ورجاله وثقوا. انظر مجمع الزوائد (10/ 120) . وأيضا حسّن الحديث الألباني، انظر صحيح الجامع الصغير برقم (6233) .
(6) ذكره مالك في الموطأ (1/ 166) ، وقال محققا جلاء الأفهام (ص 228) إسناده موقوف صحيح. وقال الألباني في تخريج فضل الصلاة على النبي: إسناده موقوف صحيح.
(7) ذكره السخاوي في القول البديع (ص 217) وقال: أخرجه ابن أبي حاتم وابن أبي شيبة.(1/563)
(13) في صلاة العيد:
عن علقمة أنّ ابن مسعود وأبا موسى وحذيفة: خرج عليهم الوليد بن عقبة قبل العيد يوما فقال لهم: «إنّ هذا العيد قد دنا فكيف التّكبير فيه؟» قال عبد الله: «تبدأ فتكبّر تكبيرة تفتتح بها الصّلاة وتحمد ربّك، وتصلّي على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ تدعو وتكبّر وتفعل مثل ذلك، ثمّ تكبّر وتفعل مثل ذلك، ثمّ تقرأ، ثمّ تكبّر وتركع، ثمّ تقوم وتقرأ وتحمد ربّك وتصلّي على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ تدعو وتكبّر، وتفعل مثل ذلك، ثمّ تكبّر وتفعل مثل ذلك، ثمّ تكبّر وتفعل مثل ذلك، ثمّ تركع» . فقال حذيفة وأبو موسى: «صدق أبو عبد الرّحمن» «1» .
(14) يوم الجمعة وليلتها:
عن أوس بن أوس- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من أفضل أيّامكم يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النّفخة، وفيه الصّعقة، فأكثروا عليّ من الصّلاة فيه، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ» قال:
قالوا يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت «2» ؟ يقولون بليت، فقال: «إنّ الله عزّ وجلّ حرّم على الأرض أجساد الأنبياء» «3» .
عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أكثروا الصّلاة عليّ يوم الجمعة وليلة الجمعة، فمن صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرا» «4» .
عن أبي مسعود الأنصاريّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أكثروا الصّلاة عليّ في يوم الجمعة، فإنّه ليس أحد يصلّي عليّ يوم الجمعة إلّا عرضت عليّ صلاته» «5» .
(15) عند ختم القرآن:
قال ابن القيّم- رحمه الله-: من مواطن الصّلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم، عقب ختم القرآن، وهذا لأنّ
__________
(1) رواه إسماعيل القاضي في كتاب فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم (ص 75، 76) وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/ 521) إسناده صحيح.
(2) أرمت: بفتح الراء أو كسرها: أي (بليت) .
(3) رواه: أبو داود برقم (1047) ، والنسائي (3/ 19) ، وابن ماجه برقم (1085، 1636) ، والإمام أحمد في المسند (4/ 8) ، والحاكم في المستدرك (4/ 560) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال النووي: رواه أبو داود بإسناد صحيح. انظر «رياض الصالحين» (ص 413) .
(4) رواه البيهقي في سننه (3/ 249) ، وحسّنه الألباني، انظر صحيح الجامع برقم (1220) ، وأورد له شواهد كثيرة، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (1407) .
(5) رواه الحاكم (2/ 421) وقال: صحيح الإسناد، والبيهقي في «شعب الإيمان» وصححه الألباني لشواهده، انظر صحيح الجامع الصغير برقم (1216) ، والسلسلة الصحيحة برقم (1527) .(1/564)
المحلّ محلّ دعاء، وقد نصّ الإمام أحمد- رحمه الله- على الدّعاء عقيب الختمة، وفي رواية أبي الحارث: «كان أنس- رضي الله عنه- إذا ختم القرآن جمع أهله وولده» ، وإذا كان هذا من أكبر مواطن الدّعاء وأحقّها بالإجابة فهو من أكبر مواطن الصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم» «1» .
(16) عند القراءة:
قال الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله-: إذا مرّ المصلّي بآية فيها ذكر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإن كان في نفل صلّى عليه صلّى الله عليه وسلّم «2» .
قال ابن سنان: سمعت عبّاس العنبريّ وعليّ ابن المدينيّ يقولان: ما تركنا الصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، في كلّ حديث سمعناه «3» .
قال عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- حدّثني بعض إخواني ممّن أثق بهم قال: رأيت رجلا من أهل الحديث في المنام، فقلت: ماذا فعل الله بك؟ قال: رحمني أو غفر لي، قلت: وبم ذلك؟ قال: إنّي كنت إذا أتيت على اسم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، كتبت «صلّى الله عليه وسلّم» «4» .
قال سفيان الثّوريّ: لو لم يكن لصاحب الحديث فائدة إلّا الصّلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لكفته فإنّه يصلّي عليه ما دام في ذلك الكتاب صلّى الله عليه وسلّم» «5» .
(17) عند الهمّ، والشّدائد، وطلب المغفرة:
عن أبيّ بن كعب- رضي الله عنه- قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذا ذهب ثلثا اللّيل قام فقال: «يا أيّها النّاس، اذكروا الله، جاءت الرّاجفة تتبعها الرّادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه» . قال أبيّ: قلت: يا رسول الله إنّي أكثر الصّلاة عليك، فكم أجعل لك في صلاتي؟ فقال: «ما شئت» . قال: قلت: الرّبع؟ قال: «ما شئت، فإن زدت فهو خير لك» . قلت: النّصف؟ قال: «ما شئت، فإن زدت فهو خير لك» . قال: قلت: فالثّلثين؟ قال: «ما شئت، فإن زدت فهو خير لك» . قلت: أجعل لك صلاتي كلّها؟ قال: «إذا تكفى همّك ويغفر لك ذنبك» «6» .
والمعنى أنّ من يجعل دعاءه صلاة على النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام يكفيه الله ما أهمّه من أمر دينه ودنياه.
__________
(1) انظر جلاء الأفهام (ص 330، 331) .
(2) انظر جلاء الأفهام لابن القيم (ص 355) .
(3) انظر جلاء الأفهام (ص 338) .
(4) انظر جلاء الأفهام (ص 337) .
(5) انظر جلاء الأفهام (ص 336) .
(6) رواه الترمذي (2457) وقال: حديث حسن صحيح. وأحمد في المسند (5/ 136) ، والحاكم في المستدرك (2/ 421) ، وصححه ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي: رواه أحمد وإسناده جيّد.(1/565)
(18) عند خطبة الرّجل المرأة في النّكاح:
عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ.. «1» الآية..
قال: يعني أنّ الله تعالى يثني على نبيّكم، ويغفر له، وأمر الملائكة بالاستغفار له يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ أثنوا عليه في صلاتكم، وفي مساجدكم، وفي كلّ موطن، وفي خطبة النّساء فلا تنسوه.
(19) الصّلاة في كلّ مكان:
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا. ولا تجعلوا قبري عيدا.
وصلّوا عليّ فإنّ صلاتكم معروضة تبلغني حيث كنتم» «2» .
(20) آخر القنوت:
عن عبد الله بن الحارث أنّ أبا حليمة معاذا «3» كان يصلّي على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، في القنوت. قال ابن القيّم- رحمه الله-: وهو مستحبّ في قنوت رمضان.
__________
(1) سورة الأحزاب: 56.
(2) أبو داود (2042) ، وأحمد في المسند (2/ 367) ، وحسّنه الحافظ في تخريج الأذكار. وانظر «جامع الأصول» (4/ 407) .
(3) هو معاذ بن الحارث الأنصاري القارىء: أقامه عمر بن الخطاب إماما يصلّي بالناس في شهر رمضان صلاة التراويح. وانظر جلاء الأفهام (ص 279) .(1/566)
فضائل الصّلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
(1) صلاة بصلوات:
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى عليّ واحدة صلّى الله عليه عشرا» «1» .
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ذكرت عنده فليصلّ عليّ، ومن صلّى عليّ مرّة صلّى الله عليه عشرا» «2» .
وعن عامر بن ربيعة- رضي الله عنه- قال: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من عبد يصلّي عليّ إلّا صلّت عليه الملائكة ما دام يصلّي عليّ، فليقلّ العبد من ذلك أو ليكثر» «3» .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- قال: «من صلّى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة صلّى الله عليه وملائكته سبعين صلاة فليقلّ من ذلك أو ليكثر» «4» .
(2) رفع للدّرجات وحطّ للسّيّئات:
فعن أبي طلحة الأنصاريّ- رضي الله عنه- قال: أصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما طيّب النّفس يرى في وجهه البشر. قالوا: يا رسول الله: أصبحت اليوم طيّب النّفس يرى في وجهك البشر. قال: «أجل، أتاني آت من عند ربّي عزّ وجلّ، فقال: من صلّى عليك من أمّتك صلاة، كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجات، وردّ عليه مثلها» «5» .
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلّى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه عشر صلوات وحطّ عنه عشر خطيئات ورفعت له عشر درجات» «6» .
(3) كفاية الهموم ومغفرة الذّنوب:
عن أبيّ بن كعب- رضي الله عنه- قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذا ذهب ثلثا اللّيل قام فقال: «يا أيّها
__________
(1) رواه مسلم برقم (408) .
(2) رواه النسائي في «عمل اليوم والليلة» (ص 60) ، وابن السني (283) ، والبخاري في الأدب المفرد (643) ، وقال النووي رحمه الله: إسناده جيّد. انظر كتاب «الأذكار» له (ص 145) . وقال ابن القيم رحمه الله: إسناده صحيح، انظر «جلاء الأفهام» (ص 295) .
(3) رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 445) ، وابن ماجه برقم (907) . وإسماعيل القاضي في «فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم» (ص 925) وحسّنه الألباني لشواهده، انظر صحيح الجامع برقم (5620) ، وكذا تعليقه على كتاب «فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم» (ص 25) .
(4) رواه الإمام أحمد في المسند (2/ 172) ، قال الحافظ الهيثمي: رواه أحمد وإسناده حسن، انظر مجمع الزوائد (10/ 160) ، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، انظر تخريجه على المسند برقم (6754) .
(5) رواه الإمام أحمد في المسند (4/ 29) ، وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع الصغير برقم (57) .
(6) رواه الإمام أحمد في مسنده (3/ 102) ، والنسائي (3/ 50) واللفظ له، وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع برقم (6235) .(1/567)
النّاس، اذكروا الله، جاءت الرّاجفة تتبعها الرّادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه» . قال أبيّ: قلت: يا رسول الله إنّي أكثر الصّلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي»
؟ فقال: «ما شئت» . قال: قلت: الرّبع؟ قال: «ما شئت، فإن زدت فهو خير لك» . قلت: النّصف؟ قال: «ما شئت، فإن زدت فهو خير لك» . قال: قلت: فالثّلثين؟
قال: «ما شئت، فإن زدت فهو خير لك» . قلت: أجعل لك صلاتي كلّها؟ قال: «إذا تكفى همّك ويغفر لك ذنبك» «2» .
(4) سبب لنيل شفاعته صلّى الله عليه وسلّم:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- أنّه سمع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول، ثمّ صلّوا عليّ فإنّه من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرا، ثمّ سلوا الله لي الوسيلة فإنّها منزلة في الجنّة، لا تنبغي إلّا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشّفاعة» «3» .
عن أبي الدّرداء- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلّى عليّ حين يصبح عشرا وحين يمسي عشرا، أدركته شفاعتي يوم القيامة» «4» .
عن رويفع بن ثابت رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلّى على محمّد وقال: اللهمّ أنزله المقعد المقرّب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتي» «5» .
(5) سبب لعرض اسم المصلّي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
فعن أبي بكر الصّدّيق- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أكثروا الصّلاة عليّ، فإنّ الله وكّل بي ملكا عند قبري، فإذا صلّى عليّ رجل من أمّتي، قال لي ذلك الملك، يا محمّد إنّ فلان بن فلان صلّى عليك السّاعة» «6» .
وعن عمّار بن ياسر- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ لله تعالى ملكا أعطاه سمع
__________
(1) صلاتي: قال المنذري: معناه أكثر الدعاء فكم أجعل لك من دعائي صلاة عليك، انظر الترغيب والترهيب (2/ 501) .
(2) رواه الترمذي برقم (2457) وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه الإمام أحمد في مسنده (5/ 136) ، ورواه الحاكم في المستدرك (2/ 421) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. ورواه إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتابه «فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم» (ص 29، 30) . قال الحافظ الهيثمي: رواه أحمد وإسناده جيّد، انظر مجمع الزوائد (10/ 160) .
(3) رواه مسلم برقم (384) .
(4) تقدّم تخريجه.
(5) رواه الإمام أحمد في المسند (4/ 108) ، وقال الحافظ الهيثمي: رواه البزار والطبراني في الأوسط والكبير وأسانيدهم حسنة، انظر مجمع الزوائد (10/ 163) .
(6) رواه الديلمي في مسند الفردوس (1/ 93) ، وحسّنه الألباني، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (1530) ، وصحيح الجامع الصغير برقم (1218) .(1/568)
العباد، فليس من أحد يصلّي عليّ إلّا أبلغنيها، وإنّي سألت ربّي أن لا يصلّي عليّ عبد صلاة إلّا صلّى عليه عشر أمثالها» «1» .
وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ لله تعالى ملائكة سيّاحين في الأرض يبلّغوني من أمّتي السّلام» «2» .
(6) طهرة من لغو المجلس:
عن جابر- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما اجتمع قوم ثمّ تفرّقوا عن غير ذكر الله وصلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، إلّا قاموا عن أنتن من جيفة» «3» .
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: «ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلّوا على نبيّهم إلّا كان عليهم ترة «4» فإن شاء عذّبهم وإن شاء غفر لهم» «5» .
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما قعد قوم مقعدا لا يذكرون الله عزّ وجلّ ويصلّون على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، إلّا كان عليهم حسرة يوم القيامة وإن دخلوا الجنّة للثّواب» «6» .
(7) سبب في إجابة الدّعاء:
عن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: «كلّ دعاء محجوب حتّى يصلّى على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم» «7» .
(8) انتفاء الوصف بالبخل والجفاء:
عن الحسين بن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنهما- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «البخيل من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ» «8» .
__________
(1) رواه الطبراني والبزار، وحسّنه الألباني، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (1530) ، وأيضا صحيح الجامع الصغير برقم (2172) .
(2) رواه الإمام أحمد في المسند (1/ 387، 441، 452) . والنسائي (3/ 43) ، والدارمي برقم (2777) ، والحاكم في المستدرك (2/ 421) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وإسماعيل بن إسحاق القاضي في «فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم» (ص 34) ، وأيضا صححه الألباني، انظر صحيح الجامع الصغير برقم (2170) .
(3) تقدّم تخريجه.
(4) ترة: نقص وتبعة وحسرة، انظر النهاية لابن الأثير (1/ 189) .
(5) تقدّم تخريجه.
(6) تقدّم تخريجه.
(7) ذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات وحسّنه الألباني، انظر صحيح الجامع (4299) .
(8) رواه الترمذي برقم (1456) وقال: حديث حسن صحيح غريب. والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (55، 56) ، ورواه الإمام أحمد في المسند (1/ 201) ، وابن حبان (2388) موارد، والحاكم في المستدرك (1/ 549) وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.(1/569)
وعن أبي ذرّ- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «إنّ أبخل النّاس من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ» «1» .
وعن الحسن البصري- رحمه الله- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بحسب امرىء من البخل أن أذكر عنده فلا يصلّي عليّ» «2» .
وعن قتادة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من الجفاء «3» أن أذكر عند رجل فلا يصلّي عليّ» «4» .
(9) دليل إلى الجنّة:
عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من نسي «5» الصّلاة عليّ خطىء طريق الجنّة» «6» .
وعن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر- رحمه الله- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ فقد خطىء طريق الجنّة» «7» .
__________
(1) رواه إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتابه «فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم» (ص 43) . وصححه الألباني بشواهده، انظر حاشيته على الكتاب المذكور (ص 43) .
(2) رواه إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتابه «فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم» (ص 43) . وقال مخرج الكتاب الألباني: إسناده مرسل صحيح.
(3) قال الحافظ السخاوي: قوله «من الجفاء» هو بفتح الجيم والمد وهو ترك البر والصلة ويطلق أيضا على غلظ الطبع، انظر كتاب «القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع» (ص 146) .
(4) قال ابن القيم رحمه الله: «لو تركنا وهذا المرسل وحده لم نحتج به، ولكن له أصول وشواهد قد تقدمت من تسمية تارك الصلاة عليه عند ذكره بخيلا وشحيحا، والدعاء عليه بالرغم. وهذا من موجبات جفائه، انظر كتابه «جلاء الأفهام» (ص 321) ، وقال السخاوي- بعد أن أورد الحديث-: أخرجه النميري هكذا من وجهين من طريق عبد الرزاق وهو في «جامعه» ورواته ثقات، انظر كتابه «القول البديع» (ص 146) .
(5) من نسى الصلاة عليّ: قال العلامة المناوي قال في الإتحاف: المراد بالنسيان هنا: الترك، نظير قوله تعالى في توبيخ الفاجر أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى أي: تركت آياتنا فجزاؤك أنك تترك من الرحمة وتوضع في العذاب، وليس المراد بالنسيان هنا: الذهول، لأن الناسي- أي: الذي ذهل من حفظه- غير مكلف أي ليس بمؤاخذ. انظر كتابه «فيض القدير» (6/ 129) بتصرف يسير.
(6) رواه ابن ماجه في سننه برقم (908) ، قال الحافظ ابن حجر عن هذا الحديث: أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس والبيهقي في «الشّعب» من حديث أبي هريرة. وابن أبي حاتم من حديث جابر. والطبراني من حديث حسن بن علي. وهذه الطرق يشد بعضها بعضا، انظر فتح الباري (11/ 172) . كما قوّى الحديث لشواهده أيضا ابن الملقن. انظر «فيض القدير» (6/ 232) .
(7) رواه إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتابه «فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم» (ص 46) من عدّة أوجه. قال الحافظ بن كثير: هذا مرسل جيّد يتقوى بالذي قبله. أ. هـ. يعني حديث ابن عباس عند ابن ماجه، انظر تفسير ابن كثير (3/ 520) .(1/570)
الفوائد والثّمرات الحاصلة بالصّلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم
قال المؤلّف- رحمه الله-: ومن الفوائد والثّمرات الحاصلة بالصّلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم:
الأولى: امتثال أمر الله سبحانه وتعالى.
الثّانية: موافقته سبحانه في الصّلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم، وإن اختلفت الصّلاتان.
الثّالثة: موافقة ملائكته فيها.
الرّابعة: حصول عشر صلوات من الله على المصلّي مرّة.
الخامسة: أنّه يرفع له عشر درجات.
السّادسة: أنّه يكتب له عشر حسنات.
السّابعة: أنّه يمحى عنه عشر سيّئات.
الثّامنة: أنّه يرجى إجابة دعائه إذا قدّمها أمامه، فهي تصاعد الدّعاء إلى عند ربّ العالمين.
التّاسعة: أنّها سبب لشفاعته صلّى الله عليه وسلّم إذا قرنها بسؤال الوسيلة له، أو أفردها.
العاشرة: أنّها سبب لغفران الذّنوب.
الحادية عشرة: أنّها سبب لكفاية الله العبد ما أهمّه.
الثّانية عشرة: أنّها سبب لقرب العبد منه صلّى الله عليه وسلّم يوم القيامة.
الثّالثة عشرة: أنّها تقوم مقام الصّدقة لذي العسرة.
الرّابعة عشرة: أنّها سبب لقضاء الحوائج.
الخامسة عشرة: أنّها سبب لصلاة الله على المصلّي وصلاة ملائكته عليه.
السّادسة عشرة: أنّها زكاة للمصلّي وطهارة له.
السّابعة عشرة: أنّها سبب لتبشير العبد بالجنّة قبل موته.
الثّامنة عشرة: أنّها سبب للنّجاة من أهوال يوم القيامة.
التّاسعة عشرة: أنّها سبب لردّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الصّلاة والسّلام على المصلّي والمسلّم عليه.
العشرون: أنّها سبب لتذكّر العبد ما نسيه كما تقدّم.
الحادية والعشرون: أنّها سبب لطيب المجلس، وأن لا يعود حسرة على أهله يوم القيامة.
الثّانية والعشرون: أنّها سبب لنفي الفقر كما تقدّم.
الثّالثة والعشرون: أنّها تنفي عن العبد اسم البخل إذا صلّى عليه عند ذكره صلّى الله عليه وسلّم.(1/571)
الرّابعة والعشرون: أنّها ترمي صاحبها على طريق الجنّة وتخطىء بتاركها عن طريقها.
الخامسة والعشرون: أنّها تنجي من نتن المجلس الّذي لا يذكر فيه الله ورسوله ويحمد ويثنى عليه فيه، ويصلّى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
السّادسة والعشرون: أنّها سبب لتمام الكلام الّذي ابتدىء بحمد الله والصّلاة على رسوله.
السّابعة والعشرون: أنّها سبب لوفور نور العبد على الصّراط.
الثّامنة والعشرون: أنّه يخرج بها العبد عن الجفاء.
التّاسعة والعشرون: أنّها سبب لإبقاء الله سبحانه الثّناء الحسن للمصلّي عليه بين أهل السّماء والأرض، لأنّ المصلّي طالب من الله أن يثني على رسوله ويكرّمه ويشرّفه، والجزاء من جنس العمل، فلا بدّ أن يحصل للمصلّي نوع من ذلك.
الثّلاثون: أنّها سبب للبركة في ذات المصلّي وعمله وعمره وأسباب مصالحه، لأنّ المصلّي داع ربّه أن يبارك عليه وعلى آله، وهذا الدّعاء مستجاب، والجزاء من جنسه.
الحادية والثّلاثون: أنّها سبب لنيل رحمة الله له، لأنّ الرحمة إمّا بمعنى الصّلاة كما قاله طائفة، وإمّا من لوازمها وموجباتها على القول الصّحيح، فلا بدّ للمصلّي عليه من رحمة تناله.
الثّانية والثّلاثون: أنّها سبب لدوام محبّته للرّسول صلّى الله عليه وسلّم وزيادتها وتضاعفها، وذلك عقد من عقود الإيمان الّذي لا يتمّ إلّا به، لأنّ العبد كلّما أكثر من ذكر المحبوب واستحضاره في قلبه واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبّه تضاعف حبّه له وتزايد شوقه إليه، واستولى على جميع قلبه، وإذا أعرض عن ذكره وإحضاره وإحضار محاسنه بقلبه، نقص حبّه من قلبه، ولا شيء أقرّ لعين المحبّ من رؤية محبوبه، ولا أقرّ لقلبه من ذكره وإحضار محاسنه، فإذا قوي هذا في قلبه، جرى لسانه بمدحه والثّناء عليه، وذكر محاسنه، وتكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحبّ ونقصانه في قلبه، والحسّ شاهد بذلك.
الثّالثة والثّلاثون: أنّ الصّلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم سبب لمحبّته للعبد، فإنّها إذا كانت سببا لزيادة محبّة المصلّى عليه له، فكذلك هي سبب لمحبّته هو للمصلّي عليه صلّى الله عليه وسلّم.
الرّابعة والثّلاثون: أنّها سبب لهداية العبد وحياة قلبه، فإنّه كلّما أكثر الصّلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم وذكره، استولت محبّته على قلبه، حتّى لا يبقى في قلبه معارضة لشيء من أوامره، ولا شكّ في شيء ممّا جاء به، بل يصير ما جاء به مكتوبا مسطورا في قلبه، لا زال يقرؤه على تعاقب أحواله، ويقتبس الهدى والفلاح وأنواع العلوم منه، وكلّما ازداد في ذلك بصيرة وقوّة معرفة، ازدادت صلاته عليه صلّى الله عليه وسلّم.
الخامسة والثّلاثون: أنّها سبب لعرض اسم المصلّي عليه صلّى الله عليه وسلّم وذكره عنده.(1/572)
السّادسة والثّلاثون: أنّها سبب لتثبيت القدم على الصّراط، والجواز عليه، لحديث عبد الرّحمن بن سمرة الّذي رواه عنه سعيد بن المسيّب في رؤيا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفيه: «ورأيت رجلا من أمّتي يزحف على الصّراط ويحبو أحيانا ويتعلّق أحيانا، فجاءته صلاته عليّ فأقامته على قدميه وأنقذته» «1» .
السّابعة والثّلاثون: أنّ الصّلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم أداء لأقلّ القليل من حقّه، مع أنّ الّذي يستحقّه لا يحصى علما ولا قدرة، ولا إرادة، ولكنّ الله سبحانه لكرمه رضي من عباده باليسير من شكره وأداء حقّه.
الثّامنة والثّلاثون: أنّها متضمّنة لذكر الله تعالى وشكره، ومعرفة إنعامه على عبيده بإرساله، فالمصلّي عليه صلّى الله عليه وسلّم قد تضمّنت صلاته عليه ذكر الله وذكر رسوله، وسؤاله أن يجزيه بصلاته عليه ما هو أهله كما عرّفتنا ربّنا وأسماءه وصفاته، وهدانا الله بها إلى طريق مرضاته، وعرّفنا جلّ جلاله ما لنا بعد الوصول إليه، والقدوم عليه، فهي متضمّنة لكلّ الإيمان، بل هي متضمّنة للإقرار بوجوب الرّبّ المدعوّ وعلمه وسمعه وقدرته وإرادته وحياته وكلامه، وإرسال رسوله، وتصديقه في أخباره كلّها، وكمال محبّته، ولا ريب أنّ هذه هي أصول الإيمان، فالصّلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم متضمّنة لعلم العبد ذلك، وتصديقه به، ومحبّته له، فكانت من أفضل الأعمال.
التّاسعة والثّلاثون: أنّ الصّلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم من العبد هي دعاء، ودعاء العبد وسؤاله من ربّه نوعان:
أحدهما: سؤاله حوائجه ومهمّاته وما ينوبه في اللّيل والنّهار، فهذا دعاء وسؤال، وإيثار لمحبوب العبد ومطلوبه.
والثّاني: سؤاله أن يثني على خليله وحبيبه، ويزيد في تشريفه وتكريمه وإيثاره ذكره، ورفعه، ولا ريب أنّ الله تعالى يحبّ ذلك ورسوله يحبّه، فالمصلّي عليه صلّى الله عليه وسلّم قد صرف سؤاله ورغبته وطلبه إلى محابّ الله ورسوله، وآثر ذلك على طلبه حوائجه ومحابّه هو، بل كان هذا المطلوب من أحبّ الأمور إليه وآثرها عنده، فقد آثر ما يحبّه الله ورسوله على ما يحبّه هو، فقد آثر الله ومحابّه على ما سواه، والجزاء من جنس العمل. فمن آثر الله على غيره، آثر الله على غيره.
__________
(1) رواه أبو موسى المديني وبنى عليه كتابه «الترغيب والترهيب» وقال: هذا حديث حسن جدّا، وانظر جلاء الأفهام (ص 368) .(1/573)
افتتاح صلاة المصلّي بقوله «اللهمّ» ومعنى ذلك*
لا خلاف أنّ لفظة «اللهمّ» معناها «يا الله» ولهذا لا تستعمل إلّا في الطّلب، فلا يقال: اللهمّ غفور رحيم، بل يقال: اللهمّ اغفر لي وارحمني.
واختلف النّحاة في الميم المشدّدة من آخر الاسم:
فقال: سيبويه: زيدت عوضا من حرف النّداء ولذلك لا يجوز عنده الجمع بينهما في اختيار الكلام، لا يقال: «يا اللهمّ» إلّا فيما ندر.
وقيل: الميم عوض عن جملة محذوفة، والتّقدير: «يا الله أمّنا بخير» أي: اقصدنا، ثمّ حذف الجارّ والمجرور وحذف المفعول، فبقي في التّقدير: يا الله أمّ» ثمّ حذفوا الهمزة لكثرة دوران هذا الاسم في الدّعاء على ألسنتهم، فبقي «يا اللهمّ» ، وهذا قول الفرّاء. وصاحب هذا القول يجوّز دخول «يا» عليه، ويحتجّ بقول الشّاعر:
وما عليك أن تقولي كلّما ... صلّيت أو سبّحت يا اللهمّا
اردد علينا شيخنا مسلّما «1» .
قال المؤلّف- رحمه الله-: وردّ البصريّون هذا بوجوه «2» .
وقيل: زيدت الميم للتّعظيم والتّفخيم، كزيادتها في «زرقم» «3» لشديد الزّرقة «وابنم» في الابن.
قال المؤلّف- رحمه الله-: «الميم» حرف شفهيّ يجمع النّاطق به شفتيه، فوضعته العرب علما على الجمع، فقالوا للواحد: «أنت» فإذا جاوزوه إلى الجمع قالوا «أنتم» ، وقالوا للواحد الغائب «هو» فإذا جاوزوه إلى الجمع قالوا:
«هم» وكذلك في المتّصل يقولون: ضربت، وضربتم، وإيّاك، وإيّاكم، وإيّاه، وإيّاهم، ونظائره نحو: به وبهم، ويقولون للشّيء الأزرق: أزرق، فإذا اشتدّت زرقته، واستحكمت، قالوا: زرقم، ويقولون للكبير الاست: ستهم.
وتأمّل الألفاظ الّتي فيها الميم كيف تجد الجمع معقودا بها مثل «لمّ الشّيء يلمّه» : إذا جمعه، ومنه «لمّ الله
__________
* قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (الأحزاب: 56) . في هذه الآية القرآنية المباركة، أمر الله تعالى بالصّلاة والسّلام على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقد بيّن صلوات الله وسلامه عليه كيفية الصلاة عليه بقوله: «قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد..» (الحديث: تقدم تخريجه) . فما معنى قول المصلّي «اللهم» في افتتاح صلاته على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد وضّح المؤلف- رحمه الله- معنى هذه اللفظة وشرحها شرحا وافيا فليتنبّه إليه فإنه مهم.
(1) الشيخ هنا: الأب والزوج.
(2) هذه الوجوه ذكرها المؤلف مفصّلة وهي (عشرة وجوه) ختمها بقوله: «فهذا كله لا يسوغ فيه التقدير الذي ذكروه» .
(3) وذكر ابن فارس في المقاييس: الزّرقم، أجمع أهل اللغة أن أصله من الزّرق، فإن الميم فيه زائدة- (المقاييس 3/ 52) .(1/574)
شعثه» أي جمع ما تفرّق من أموره، ومنه قولهم «دار لمومة» أي: تلمّ النّاس وتجمعهم، ومنه أَكْلًا لَمًّا «1» . جاء في تفسيرها يأكل نصيبه ونصيب صاحبه، وأصله من «اللّمّ» وهو الجمع، كما يقال: لفّه يلفّه، ومنه ألمّ بالشّيء: إذا قارب الاجتماع به والوصول إليه، ومنه «اللّمم» وهو مقاربة الاجتماع بالكبائر، ومنه الملمّة وهي النّازلة الّتي تصيب العبد، ومنه «اللّمّة» وهي الشّعر الّذي قد اجتمع، وتقلّص حتّى جاوز شحمة الأذن، ومنه: (تمّ الشّيء) وما تصرّف منها، ومنه بدر التّمّ إذا كمل واجتمع نوره، ومنه التّوأم للولدين المجتمعين في بطن، ومنه الأمّ، وأمّ الشّيء أصله الّذي تفرّع منه، فهو الجامع له، وبه سمّيت مكّة أمّ القرى، والفاتحة أمّ القرآن، واللّوح المحفوظ أمّ الكتاب، قال الجوهريّ: أمّ الشّيء أصله، ومكّة أمّ القرى، وأمّ مثواك: صاحبة منزلك، يعني الّتي تأوي إليها، وتجتمع معها، وأمّ الدّماغ: الجلدة الّتي تجمع الدّماغ، ويقال لها: أمّ الرأس، وقوله تعالى في الآيات المحكمات:
هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ «2» . والأمّة: الجماعة المتساوية في الخلقة والزّمان، قال تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ «3» ، وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لولا أنّ الكلاب أمّة من الأمم لأمرت بقتلها» «4» .
ومنه الإمام الّذي يجتمع المقتدون به على اتّباعه، ومنه: أمّ الشّيء يؤمّه: إذا اجتمع قصده، وهمّه إليه، ومنه:
رمّ الشّيء يرمّه: إذا أصلحه، وجمع متفرّقة، قيل: ومنه سمّي الرّمّان لاجتماع حبّه وتضامّه.
ومنه: ضمّ الشّيء يضمّه، إذا جمعه، ومنه همّ الإنسان وهمومه وهي إرادته وعزائمه الّتي تجتمع في قلبه.
ومنه قولهم للأسود: أحمّ وللفحمة السّوداء: (حممة) ، وحمّم رأسه: إذا اسودّ بعد حلقه، كلّ هذا لأنّ السّواد لون جامع للبصر لا يدعه يتفرّق، ولهذا يجعل علي عيني الضّعيف البصر لوجع أو غيره شيء أسود من شعر أو خرقة، ليجمع عليه بصره، فتقوى القوّة الباصرة، وهذا باب طويل فلنقتصر منه على هذا القدر.
وإذا علم هذا من شأن الميم، فهم ألحقوها في آخر هذا الاسم الّذي يسأل الله سبحانه به في كلّ حاجة وكلّ حال إيذانا بجميع أسمائه وصفاته. فالسّائل إذا قال: «اللهمّ إنّي أسألك» كأنّه قال: أدعو الله الّذي له الأسماء الحسنى والصّفات العلى بأسمائه وصفاته، فأتى بالميم المؤذنة بالجمع في آخر هذا الاسم إيذانا بسؤاله تعالى بأسمائه كلّها كما قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصّحيح: «ما أصاب عبدا قطّ همّ ولا حزن، فقال: اللهمّ إنّي عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكلّ اسم هو لك، سمّيت به نفسك، أو
__________
(1) سورة الفجر: 19.
(2) سورة آل عمران: 7.
(3) سورة الأنعام: 38.
(4) أخرجه الترمذي (1486) والنسائي (7/ 185) ، وابن ماجه (3205) والدرامي (2/ 90) ، وأبو داود (2845) من حديث عبد الله بن مغفل، وتمامه «فاقتلوا منها كل أسود بهيم ومن أهل أبيت يرتبطون كلبا إلّا نقص من عملهم كل يوم قيراط إلّا كلب صيد أو كلب حرث، أو كلب غنم» ورجاله ثقات، وقال الترمذي: حسن صحيح. وانظر «جامع الأصول» (10/ 238- 239) .(1/575)
أنزلته في كتابك، أو علّمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي، إلّا أذهب الله همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحا» ، قالوا: يا رسول الله أفلا نتعلّمهنّ؟ قال: «بلى ينبغي لمن سمعهنّ أن يتعلّمهنّ» «1» .
فالدّاعي مندوب إلى أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته كما في الاسم الأعظم «اللهمّ إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلّا أنت الحنّان المنّان بديع السّماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حيّ يا قيّوم» «2» .
وهذه الكلمات تتضمّن الأسماء الحسنى كما ذكر في غير هذا الموضع.
والدّعاء ثلاثة أقسام. أحدها: أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته، وهذا أحد التّأويلين في قوله تعالى:
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» .
والثّاني: أن تسأله بحاجتك وفقرك، وذلّك، فتقول: أنا العبد الفقير المسكين البائس الذّليل المستجير ونحو ذلك.
والثّالث: أن تسأل حاجتك ولا تذكر واحدا من الأمرين، فالأوّل أكمل من الثّاني، والثّاني أكمل من الثّالث، فإذا جمع الدّعاء الأمور الثّلاثة كان أكمل.
وهذه عامّة أدعية النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وفي الدّعاء الّذي علّمه صدّيق الأمّة- رضي الله عنه- ذكر الأقسام الثّلاثة، فإنّه قال في أوّله: «ظلمت نفسي ظلما كثيرا» ، وهذا حال السّائل ثمّ قال: «وإنّه لا يغفر الذّنوب إلّا أنت» ، وهذا حال المسؤول، ثمّ قال: «فاغفرلي» «4» فذكر حاجته، وختم الدّعاء باسمين من الأسماء الحسنى تناسب المطلوب وتقتضيه.
وهذا القول الّذي اخترناه جاء عن غير واحد من السّلف، قال الحسن البصريّ: «اللهمّ» مجمع الدّعاء، وقال أبو رجاء العطارديّ: إنّ الميم في قوله «اللهمّ» فيها تسعة وتسعون اسما من أسماء الله تعالى: وقال النّضر بن شميل: من قال «اللهمّ» فقد دعا الله بجميع أسمائه.
__________
(1) أخرجه أحمد (712) وابن حبان (2372) والحاكم (1/ 509) من حديث ابن مسعود، وقال الأرناؤوط سنده صحيح.
(2) أخرجه أبو داود (1495) والنسائي 3/ 25، وابن ماجه (3858) ، من حديث أنس ابن مالك، وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (2382) والحاكم (1/ 503، 504) ووافقه الذهبي.
(3) سورة الأعراف: 180.
(4) أخرجه البخاري (الفتح 2/ 834) ، ومسلم (2705) من حديث أبي بكر الصدّيق أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلّا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» .(1/576)
بيان معنى الصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
قال المؤلّف- رحمه الله-: أصل هذه اللّفظة في اللّغة يرجع إلى معنيين: أحدهما: الدّعاء والتّبريك.
والثّاني: العبادة، فمن الأوّل قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ «1» .
وقوله تعالى في حقّ المنافقين: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ «2» . وقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«إذا دعي أحدكم إلى الطّعام فليجب، فإن كان صائما فليصلّ» «3» فسّر بهما، قيل «فليدع لهم بالبركة» وقيل: «يصلّي عندهم» بدل أكله.
وقيل: «إنّ الصّلاة» في اللّغة معناها الدّعاء.
والدّعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، والعابد داع، كما أنّ السّائل داع، وبهما فسّر قوله تعالى:
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «4» . قيل: أطيعوني أثبكم، وقيل: سلوني أعطكم، وفسّر بهما قوله تعالى:
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ «5» .
والصّواب: أنّ الدّعاء يعمّ النّوعين: وهذا لفظ متواطيء لا اشتراك فيه، فمن استعماله في دعاء العبادة قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ «6» وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ «7» . وقوله تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ «8» .
والصّحيح من القولين لولا أنّكم تدعونه وتعبدونه، أي أيّ شيء يعبأ بكم لولا عبادتكم إيّاه، فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل، وقال تعالى، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً «9» وقال تعالى إخبارا عن أنبيائه ورسله: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ
__________
(1) سورة التوبة: 103.
(2) سورة التوبة: 84.
(3) أخرجه أحمد (2/ 507) ومسلم (1431) .
(4) سورة غافر: 60.
(5) سورة البقرة: 186.
(6) سورة سبأ: 22.
(7) سورة النحل: 20.
(8) سورة الفرقان: 77.
(9) سورة الأعراف: 55، 56.(1/577)
وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً «1» . وهذه الطّريقة أحسن من الطّريقة الأولى، ودعوى الاختلاف في مسمّى الدّعاء وبهذا تزول الإشكالات الواردة على اسم الصّلاة الشّرعيّة، هل هو منقول عن موضعه في اللّغة، فيكون حقيقة شرعية أو مجازا شرعيّا.
فعلى هذا تكون الصّلاة باقية على مسمّاها في اللّغة، وهو الدّعاء، والدّعاء: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، والمصلّي من حين تكبيره إلى سلامه بين دعاء العبادة ودعاء المسألة، فهو في صلاة حقيقيّة لا مجاز، ولا منقولة، لكن خصّ اسم الصّلاة بهذه العبادة المخصوصة كسائر الألفاظ الّتي يخصّها أهل اللّغة والعرف ببعض مسمّاها كالدّابة، والرّأس، ونحوهما، فهذا غايته تخصيص اللّفظ وقصره على بعض موضوعه، ولهذا لا يوجب نقلا ولا خروجا عن موضوعه الأصليّ، والله أعلم.
صلاة الله على عبده
هذه صلاة الآدميّ، وأمّا صلاة الله سبحانه على عبده فنوعان: عامّة، وخاصّة.
أمّا العامّة: فهي صلاته على عباده المؤمنين، قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ «2» ، ومن دعاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالصّلاة على آحاد المؤمنين كقوله: «اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى» «3» ، وفي حديث آخر أنّ امرأة قالت له:
صلّ عليّ وعلى زوجي. قال: «صلّى الله عليك وعلى زوجك» «4» .
النّوع الثّاني: صلاته الخاصّة على أنبيائه ورسله خصوصا على خاتمهم وخيرهم محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
فاختلف النّاس في معنى الصّلاة منه سبحانه على أقوال: أحدها أنّها رحمته.
قال إسماعيل: حدّثنا نصر بن عليّ، حدّثنا محمّد بن سواء، عن جويبر، عن الضّحّاك قال: صلاة الله رحمته، وصلاة الملائكة الدّعاء «5» ، وقال المبرّد: أصل الصّلاة الرّحمة، فهي من الله رحمة، ومن الملائكة رقّة، واستدعاء للرّحمة من الله، وهذا القول هو المعروف عند كثير من المتأخّرين.
والقول الثّاني «6» : أنّ صلاة الله مغفرته.
__________
(1) سورة الأنبياء: 90.
(2) سورة الأحزاب: 43.
(3) أخرجه البخاري (الفتح 13/ 7941) ، ومسلم (1078) من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وقوله: «اللهم صل على آل أبي أوفى» يريد أبا أوفى نفسه، لأن الآل يطلق على ذات الشيء واسم أبي أوفى علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي شهد هو وابنه عبد الله بيعة الرضوان تحت الشجرة، وعمّر عبد الله إلى أن كان آخر من مات من الصحابة بالكوفة، وذلك سنة سبع وثمانين.
(4) أخرجه الدارمي (1/ 24) ضمن حديث مطول عن جابر ابن عبد الله، وقال الأرناؤوط رجاله ثقات.
(5) فضل الصلاة على النبي رقم (96) وسنده ضعيف جدا، جويبر هو ابن سعيد الأزدي البلخي، قال في «التقريب» : ضعيف جدا. وانظر جلاء الأفهام ص (109) .
(6) ذكر ابن القيم أن هذا القول من جنس الذي قبله، وقد ضعفها من عدة وجوه. للمراجعة انظر: جلاء الأفهام ص 109.(1/578)
قال إسماعيل: حدّثنا محمّد بن أبي بكر، حدّثنا محمّد بن سواء، عن جويبر، عن الضّحّاك (هو الّذي يصلّي عليكم) قال: صلاة الله: مغفرته، وصلاة الملائكة الدّعاء «1» .
وقد ذكر البخاريّ في صحيحه عن أبي العالية قال: صلاة الله على رسوله: ثناؤه عليه عند الملائكة «2» .
وقال إسماعيل في كتابه، حدّثنا نصر بن عليّ، حدّثنا خالد بن يزيد، عن أبي جعفر، عن الرّبيع بن أنس عن أبي العالية إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «3» قال: صلاة الله عزّ وجلّ: ثناؤه عليه، وصلاة الملائكة عليه: الدّعاء.
فإذا كان معنى الصّلاة: هو الثّناء على الرّسول، والعناية به، وإظهار شرفه وفضله وحرمته، كما هو المعروف من هذه اللّفظة، لم يكن لفظ «الصّلاة» في الآية مشتركا محمولا على معنييه، بل يكون مستعملا في معنى واحد، وهذا هو الأصل.
وقيل الصّلاة المأمور بها في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «4» هي الطّلب من الله ما أخبر به عن صلاته وصلاة ملائكته، وهي ثناء عليه، وإظهار لفضله وشرفه وإرادته تكريمه وتقريبه، فهي تتضمّن الخبر والطّلب، وسمّي هذا السّؤال والدّعاء منّا نحن صلاة عليه لوجهين:
أحدهما: أنّه يتضمّن ثناء المصلّى عليه، والإشادة بذكر شرفه وفضله والإرادة والمحبّة لذلك من الله تعالى، فقد تضمّنت الخبر والطّلب.
والوجه الثّاني: أنّ ذلك سمّي منّا صلاة، لسؤالنا من الله أن يصلّي عليه. فصلاة الله عليه: ثناؤه وإرادته لرفع ذكره وتقريبه، وصلاتنا نحن عليه سؤالنا الله تعالى أن يفعل ذلك به.
وأمّا ما ذكر عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ قال:
يباركون عليه، فهذا لا ينافي تفسيرها بالثّناء، وإرادة التّكريم والتّعظيم، فإنّ التّبريك من الله يتضمّن ذلك، ولهذا قرن بين الصّلاة عليه والتّبريك عليه، وقالت الملائكة لإبراهيم: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ «5» ، وقال المسيح: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ «6» ، قال غير واحد من السّلف: معلّما للخير أينما كنت، وهذا جزء المسمّى، فالمبارك كثير الخير في نفسه الّذي يحصّله لغيره تعليما، وإقدارا ونصحا، وإرادة واجتهادا، ولهذا يكون العبد مباركا، لأنّ الله بارك فيه، وجعله كذلك، والله تعالى متبارك، لأنّ البركة كلّها منه، فعبده مبارك وهو المتبارك تَبارَكَ الَّذِي* «7»
__________
(1) فضل الصلاة على النبي رقم (97) وهو كسابقه ضعيف جدّا.
(2) البخاري 8/ 409 تعليقا بصيغة الجزم، ووصله إسماعيل القاضي كما ذكره المؤلف رقم (95) وسنده قابل للتحسين.
(3) سورة الأحزاب: 56.
(4) سورة الأحزاب: 56.
(5) سورة هود: 73.
(6) سورة مريم: 31.
(7) سورة الملك: 1.(1/579)
معنى اسم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم واشتقاقه
هذا الاسم هو أشهر أسمائه صلّى الله عليه وسلّم، وهو اسم منقول من الحمد، وهو يتضمّن الثّناء على المحمود، ومحبّته، وإجلاله، وتعظيمه. هذا هو حقيقة الحمد، وبني على زنة «مفعّل» مثل: معظّم، ومحبّب، ومسوّد، ومبجّل، ونظائرهما، لأنّ هذا البناء موضوع للتّكثير، فإن اشتقّ منه اسم فاعل، فمعناه من كثر صدور الفعل منه مرّة بعد مرّة، كمعلّم، ومفهّم، ومبيّن، ومخلّص، ومفرّج ونحوها، وإن اشتقّ منه اسم مفعول، فمعناه من [كثر] تكرار وقوع الفعل عليه مرّة بعد أخرى إمّا استحقاقا أو وقوعا. فمحمّد هو: كثر حمد الحامدين له مرّة بعد أخرى، أو الّذي يستحقّ أن يحمد مرّة بعد أخرى.
ويقال: حمّد، فهو محمّد، كما يقال: علّم فهو معلّم، وهذا علم وصفة اجتمع فيه الأمران في حقّه صلّى الله عليه وسلّم وإن كان علما محضا في حقّ كثير ممّن تسمّى به غيره.
وهذا شأن أسماء الرّبّ تعالى، وأسماء كتابه، وأسماء نبيّه، هي أعلام دالّة على معان هي بها أوصاف، فلا تضادّ فيها العلميّة الوصف، بخلاف غيرها من أسماء المخلوقين، فهو الله، الخالق الباريء، المصوّر، القهّار، فهذه أسماء دالّة على معان هي صفاته وكذلك القرآن، والكتاب المبين، وغير ذلك من أسمائه.
وكذلك أسماء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «محمّد، وأحمد، والماحي» وفي حديث جبير بن مطعم عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «إنّ لي أسماء، أنا محمّد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الّذي يمحوا الله بي الكفر» «1» .
فذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الأسماء مبيّنا ما خصّه الله به من الفضل، وأشار إلى معانيها، وإلّا فلو كانت أعلاما محضة لا معنى لها، لم تدلّ على مدح، ولهذا قال حسّان رضي الله عنه:
وشقّ له من اسمه ليجلّه ... فذو العرش محمود وهذا محمّد
وإذا ثبت هذا، فتسميته صلّى الله عليه وسلّم بهذا الاسم لما اشتمل عليه من مسمّاه وهو الحمد، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم محمود عند الله، ومحمود عند ملائكته، ومحمود عند إخوانه من المرسلين، ومحمود عند أهل الأرض كلّهم، وإن كفر به بعضهم، فإنّ ما فيه من صفات الكمال محمودة عند كلّ عاقل، وإن كابر عقله جحودا، أو عنادا، أو جهلا باتّصافه بها، ولو علم اتّصافه بها، لحمده فإنّه يحمد من اتّصف بصفات الكمال، ويجهل وجودها فيه، فهو في الحقيقة حامد له؛ وهو صلّى الله عليه وسلّم اختصّ من مسمّى «الحمد» بما لم يجتمع لغيره، فإنّ اسمه محمّد وأحمد، وأمّته الحمّادون يحمدون الله على السّرّاء والضّرّاء، وصلاة أمّته مفتتحة بالحمد، وخطبته مفتتحة بالحمد، وكتابه مفتتح بالحمد، هكذا عند الله في اللّوح
__________
(1) أخرجه البخاري (الفتح 8/ 4896) ومسلم (2354) .(1/580)
المحفوظ أنّ خلفاءه وأصحابه يكتبون المصحف مفتتحا بالحمد، وبيده صلّى الله عليه وسلّم لواء الحمد يوم القيامة، ولمّا يسجد بين يدي ربّه عزّ وجلّ للشّفاعة، ويؤذن له فيها يحمد ربّه بمحامد يفتحها عليه حينئذ، وهو صاحب المقام المحمود الّذي يغبطه به الأوّلون والآخرون، قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «1» .
ومن أحبّ الوقوف على معنى المقام المحمود، فليقف على ما ذكر سلف الأمّة من الصّحابة والتّابعين فيه في تفسير هذه السّورة كتفسير ابن أبي حاتم، وابن جرير، وعبد بن حميد، وغيرها من تفاسير السّلف.
وإذا قام في ذلك المقام، حمده حينئذ أهل الموقف كلّهم مسلمهم وكافرهم أوّلهم وآخرهم، وهو محمود صلّى الله عليه وسلّم بما ملأ الأرض من الهدى والإيمان والعلم النّافع، والعمل الصّالح، وفتح به القلوب، وكشف به الظّلمة عن أهل الأرض، واستنقذهم من أسر الشّيطان، ومن الشّرك بالله والكفر به والجهل به حتّى نال به أتباعه شرف الدّنيا والآخرة، فإنّ رسالته وافت أهل الأرض أحوج ما كانوا إليها، فإنّهم كانوا بين عبّاد أوثان، وعبّاد صلبان، وعبّاد نيران، وعبّاد الكواكب، ومغضوب عليهم قد باؤوا بغضب من الله، وحيران لا يعرف ربّا يعبده، ولا بماذا يعبده، والنّاس يأكل بعضهم بعضا، من استحسن شيئا دعا إليه، وقاتل من خالفه، وليس في الأرض موضع قدم مشرق بنور الرّسالة، وقد نظر الله سبحانه حينئذ إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلّا بقايا على آثار من دين صحيح، فأغاث الله بها البلاد والعباد، وكشف به تلك الظّلم، وأحيا به الخليقة بعد الموت، فهدى به من الضّلالة، وعلّم به من الجهالة، وكثّر به بعد القلّة، وأعزّ به بعد الذّلّة، وأغنى به بعد العيلة، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا، فعرف النّاس ربّهم ومعبودهم، غاية ما يمكن أن تناله قواهم من المعرفة، وأبدأ وأعاد، واختصر وأطنب في ذكر أسمائه وصفاته وأفعاله حتّى تجلّت معرفته سبحانه في قلوب عباده المؤمنين، وانجابت سحائب الشّكّ والرّيب عنها، كما ينجاب السّحاب عن القمر ليلة إبداره، ولم يدع لأمّته حاجة في هذا التّعريف لا إلى من قبله، ولا إلى من بعده، بل كفاهم وشفاهم وأغناهم عن كلّ من تكلّم في هذا الباب أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ «2» .
وعرّفهم الطّريق الموصّل لهم إلى ربّهم ورضوانه ودار كرامته، ولم يدع حسنا إلّا أمرهم به، ولا قبيحا إلّا نهى عنه، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «ما تركت من شيء يقرّبكم إلى الجنّة إلّا وقد أمرتكم به، ولا من شيء يقرّبكم من النّار إلّا وقد نهيتكم عنه» «3» . قال أبو ذرّ رضي الله عنه: (لقد توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما طائر يقلّب جناحيه في السّماء
__________
(1) سورة الإسراء: 79.
(2) سورة العنكبوت: 51.
(3) أورده الهيثمي في «المجمع» (8/ 263، 264) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ وهو ثقة.(1/581)
إلّا ذكّرنا منه علما) «1» .
وعرّفهم حالهم بعد القدوم على ربّهم أتمّ تعريف، فكشف الأمر وأوضحه، ولم يدع بابا من العلم النّافع المقرّب لهم إلى ربّه إلّا فتحه، ولا مشكلا إلّا بيّنه وشرحه، حتّى هدى الله به القلوب من ضلالها، وشفاها من أسقامها، وأغاثها من جهلها، فأيّ بشر أحقّ بأن يحمد منه صلّى الله عليه وسلّم، وجزاه عن أمّته أفضل الجزاء.
وممّا يحمد عليه صلّى الله عليه وسلّم ما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق، وكرائم الشّيم، فإنّ من نظر في أخلاقه وشيمه صلّى الله عليه وسلّم، علم أنّها خير أخلاق، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم كان أعلم الخلق، وأعظمهم أمانة، وأصدقهم حديثا، وأحلمهم وأجودهم وأسخاهم، وأشدّهم احتمالا، وأعظمهم عفوا ومغفرة، وكان لا يزيده شدّة الجهل عليه إلّا حلما، كما روى البخاري في «صحيحه» عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنّه قال في صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في التّوراة: «محمّد عبدي ورسولي سمّيته المتوكّل ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخّاب بالأسواق، ولا يجزي بالسّيّئة السّيّئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن أقبضه حتّى أقيم به الملّة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلّا الله، وأفتح به أعينا عميا، وآذانا صمّا وقلوبا غلفا» «2» .
وهو أرحم الخلق وأرأفهم بهم، وأعظم الخلق نفعا في دينهم ودنياهم، وأفصح خلق الله، وأحسنهم تعبيرا عن المعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة الدالّة على المراد، وأصبرهم في مواطن الصّبر، وأصدقهم في موطن اللّقاء، وأوفاهم بالعهد والذّمّة، وأعظمهم مكافأة على الجميل بأضعافه، وأشدّهم تواضعا، وأعظمهم إيثارا على نفسه، وأشدّ الخلق ذبّا عن أصحابه وحماية لهم، ودفاعا عنهم، وأقوم الخلق بما يأمر به، وأتركهم لما ينهى عنه، وأوصل الخلق لرحمه، فهو أحقّ بقول القائل:
برد على الأدنى ومرحمة ... وعلى الأعادي مازن جلد
قال علي رضي الله عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجود النّاس صدرا، وأصدقهم لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبّه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلّى الله عليه وسلّم «3» .
فقوله: كان أجود النّاس صدرا، أراد به: برّ الصّدر، وكثرة خيره، وأنّ الخير يتفجّر منه تفجيرا، وأنّه منطو على كلّ خلق جميل، وكلّ خير، كما قال بعض أهل العلم ليس في الدّنيا كلّها محلّ كان أكثر خيرا من صدر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد جمع الخير بحذافيره، وأودع في صدره صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله: أصدق النّاس لهجة، وهذا مما أقرّ به أعداؤه المحاربون له، ولم يجرّب عليه أحد من أعدائه كذبة واحدة قطّ، دع شهادة أوليائه كلّهم له به فقد حاربه أهل الأرض بأنواع المحاربات مشركوهم وأهل الكتاب منهم،
__________
(1) أخرجه أحمد في «المسند» (5/ 162) ، ورجاله ثقات.
(2) أخرجه البخاري (الفتح 8/ 4838) .
(3) أخرجه الترمذي في «الشمائل» رقم (6) وفي «السنن» (3642) وقال الارنؤوطيان، وفي سنده ضعف وانقطاع» .(1/582)
وليس أحد منهم يوما من الدّهر طعن فيه بكذبة واحدة صغيرة ولا كبيرة.
قال المسور بن مخرمة: قلت لأبي جهل- وكان خالي- يا خال هل كنتم تتّهمون محمّدا بالكذب قبل أن يقول مقالته؟ فقال: والله يا ابن أختي لقد كان محمّد وهو شابّ يدعى فينا الأمين، فلمّا خطّه الشّيب لم يكن ليكذب، قلت: يا خال فلم لا تتّبعونه؟ فقال: يا ابن أختي، تنازعنا نحن وبنو هاشم الشّرف؛ فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، فلمّا تجاثينا على الرّكب وكنّا كفرسي رهان، قالوا: منّا نبيّ، فمتى نأتيهم بهذا» أو كما قال.
وقال تعالى يسلّيه ويهوّن عليه قول أعدائه: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ* وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ «1» .
وقوله: ألينهم عريكة، يعني أنّه سهل قريب من النّاس، مجيب لدعوة من دعاه، قاض لحاجة من استقضاه، جابر لقلب من قصده لا يحرمه ولا يردّه خائبا، إذا أراد أصحابه منه أمرا، وافقهم عليه، وتابعهم فيه، وإن عزم على أمر لم يستبدّ بدونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم، وكان يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم.
وقوله: أكرمهم عشرة. يعني أنّه لم يكن يعاشر جليسا له إلّا أتمّ عشرة وأحسنها وأكرمها، فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ له في مقاله، ولا يطوي عنه بشره، ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة ونحوها، بل يحسن إلى عشيرة غاية الإحسان، ويحتمل غاية الاحتمال، فكانت عشرته لهم احتمال أذاهم، وجفوتهم جملة، لا يعاقب أحدا منهم ولا يلومه ولا يبادئه بما يكره، من خالطه يقول: أنا أحبّ النّاس إليه، لما يرى من لطفه به، وقربه منه، وإقباله عليه، واهتمامه بأمره، وتضحيته له، وبذل إحسانه إليه، واحتمال جفوته، فأيّ عشرة كانت أو تكون أكرم من هذه العشرة.
قال الحسين رضي الله عنه: سألت أبي عن سيرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في جلسائه فقال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخّاب، ولا فحّاش، ولا عيّاب، ولا مدّاح، يتغافل عمّا لا يشتهي، ولا يؤيس منه راجيه، ولا يخيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وترك ما لا يعنيه، كان لا يذمّ أحدا ولا يعيبه، ولا يطلب عورته، ولا يتكلّم إلّا فيما رجا ثوابه، وإذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنّما على رءوسهم الطّير، فإذا سكت، تكلّموا، لا يتنازعون عنده الحديث، ومن تكلّم عنده، أنصتوا له حتّى يفرغ، حديثهم عنده حديث أوّلهم، يضحك ممّا يضحكون منه، ويتعجّب ممّا يتعجّبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته حتّى إن كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول: إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يقبل الثّناء إلّا من
__________
(1) سورة الأنعام: 33، 34.(1/583)
مكافيء، ولا يقطع على أحد حديثه، حتّى يجوز، فيقطعه بنهي أو قيام» .
وقوله: «من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبّه» وصفه بصفتين خصّ الله بهما أهل الصّدق والإخلاص: وهما الإجلال والمحبّة، وكان قد ألقى عليه هيبة منه ومحبّة، فكان كلّ من يراه يهابه ويجلّه، ويملأ قلبه تعظيما وإجلالا، وإن كان عدوّا له، فإذا خالطه وعاشره، كان أحبّ إليه من كلّ مخلوق، فهو المجلّ المعظّم المحبوب المكرّم، وهذا كمال المحبّة أن تقرن بالتّعظيم والهيبة، فالمحبّة بلا تعظيم ولا هيبة ناقصة، والهيبة والتّعظيم من غير محبّة ناقصة كما تكون للغادر الظّالم نقصا أيضا، والكمال: أن تجتمع المحبّة والودّ، والتّعظيم والإجلال، وهذا لا يوجد إلّا إذا كان في المحبوب صفات الكمال الّتي يستحقّ أن يعظّم لأجلها، ويحبّ لأجلها.
ولمّا كان الله سبحانه وتعالى أحقّ بهذا من كلّ أحد، كان المستحقّ لأن يعظّم ويكبر ويهاب ويحبّ، ويودّ بكلّ جزء من أجزاء القلب، ولا يجعل له شريك في ذلك. وكلّ محبّة وتعظيم للبشر، فإنّما تجوز تبعا لمحبّة الله وتعظيمه، كمحبّة رسوله وتعظيمه، فإنّها من تمام مرسله وتعظيمه، فإنّ أمّته يحبّونه لحبّ الله له، ويعظّمونه ويجلّونه لإجلال الله له. فهي محبّة لله من موجبات محبّة الله وكذلك محبّة أهل العلم والإيمان، ومحبّة الصّحابة- رضي الله عنهم- وإجلالهم تابع لمحبّة الله ورسوله لهم.
والمقصود أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ألقى الله سبحانه وتعالى عليه منه المهابة والمحبّة، ولكلّ مؤمن مخلص حظّ من ذلك. قال الحسن البصريّ- رحمه الله-: إنّ المؤمن رزق حلاوة ومهابة، يعني يحبّ ويهاب ويجلّ بما ألبسه الله سبحانه من ثوب الإيمان المقتضي لذلك، ولهذا لم يكن بشر أحبّ إلى بشر ولا أهيب وأجلّ في صدره من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صدر الصّحابة رضي الله عنهم.
قال عمرو بن العاص قبل إسلامه: إنّه لم يكن شخص أبغض إليّ منه، فلمّا أسلم، لم يكن شخص أحبّ إليه منه. ولا أجلّ في عينه منه، قال: ولو سئلت أن أصفه لكم، لما أطقت، لم أكن أملأ عينيّ منه إجلالا له «2» .
وقال عروة بن مسعود لقريش: «يا قوم والله لقد وفدت على كسرى وقيصر والملوك فما رأيت ملكا يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد محمّدا صلّى الله عليه وسلّم ما يحدّون النّظر إليه تعظيما له، وما تنخّم نخامة إلّا وقعت في كفّ رجل منهم فيدلّك بها وجهه وصدره، وإذا توضّأ، كادوا يقتتلون على وضوئه» «3» .
فلمّا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مشتملا على ما يقتضي أن يحمد عليه مرّة بعد مرّة سمّي محمّدا، وهو اسم موافق
__________
(1) أخرجه الترمذي في «الشمائل» رقم (344) ، وذكره الألباني في مختصر الشمائل (ص 24) .
(2) قطعة من حديث مطول أخرجه مسلم (121) في الإيمان: باب كون الإسلام يهدم ما قبله من حديث عمرو ابن العاص رضي الله عنه.
(3) قطعة من حديث مطول أخرجه البخاري (الفتح 5/ 2731) .(1/584)
لمسمّاه، ولفظ مطابق لمعناه.
والفرق بين «محمّد» و «أحمد» من وجهين: أحدهما: أنّ «محمّدا» هو المحمود حمدا بعد حمد، فهو دالّ على كثرة حمد الحامدين له، وذلك يستلزم كثرة موجبات الحمد فيه، و «أحمد» أفعل تفضيل من الحمد يدلّ على أنّ الحمد الّذي يستحقّه أفضل ممّا يستحقّه غيره، في «محمّد» زيادة حمد في الكمّيّة و «أحمد» زيادة في الكيفيّة، فيحمد أكثر حمد وأفضل حمد حمده البشر.
الوجه الثّاني: أنّ «محمّدا» هو المحمود حمدا متكرّرا كما تقدّم و «أحمد» هو الّذي حمده لربّه أفضل من حمد الحامدين غيره، فدلّ أحد الاسمين وهو «محمّد» على كونه محمودا، ودلّ الثّاني وهو «أحمد» على كونه أحمد الحامدين لربّه.
والحاصل أنّه صلّى الله عليه وسلّم سمّي «محمّدا» و «أحمد» لأنّه يحمد أكثر ممّا يحمد غيره، وأفضل ممّا يحمد غيره فالاسمان واقعان على المفعول، وهذا هو المختار، وذلك أبلغ في مدحه وأتمّ معنى، ولو أريد به معنى الفاعل لسمّي الحمّاد، وهو كثير الحمد، كما سمّي «محمّدا» وهو المحمود كثيرا، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم كان أكثر الخلق حمدا لربّه، فلو كان اسمه باعتبار الفاعل، لكان الأولى أن يسمّى «حمّادا» كما أنّ اسم أمّته الحمّادون.
وأيضا فإنّ الاسمين إنّما اشتقّا من أخلاقه وخصائله المحمودة الّتي لأجلها استحقّ أن يسمّى «محمّدا» و «أحمد» فهو الّذي يحمده أهل الدنيا وأهل الآخرة، ويحمده أهل السّماء والأرض فلكثرة خصائله المحمودة الّتي تفوت عدّ العادّين، سمّي باسمين من أسماء الحمد يقتضيان التّفضيل والزّيادة في القدر والصّفة. والله أعلم.(1/585)
معنى الآل واشتقاقه وأحكامه
وفيه قولان: أحدهما: أنّ أصله أهل، ثمّ قلبت الهاء همزة، فقيل: أأل. ثمّ سهّلت على قياس أمثالها، فقيل:
آل، قالوا: ولهذا إذا صغّر رجع إلى أصله، فقيل: أهيل، قالوا: ولمّا كان فرعا عن فرع، خصّوه ببعض الأسماء المضاف إليها، فلم يضيفوه إلى أسماء الزّمان، ولا المكان، ولا غير الأعلام، فلا يقولون: آل رجل، وآل امرأة، ولا يضيفونه إلى مضمر، فلا يقال: آله وآلي، بل لا يضاف إلّا إلى معظّم، كما أنّ التّاء لمّا كانت في القسم بدلا عن الواو، وفرعا عليها، والواو فرعا عن فعل القسم، خصّوا التّاء بأشرف الأسماء وأعظمها، وهو اسم الله تعالى «1» .
وقيل: بل أصله أول، وذكره صاحب «الصّحاح» في مادة الهمزة والواو واللّام، قال: وآل الرّجل: أهله وعياله، وآله أيضا: أتباعه، وهو عند هؤلاء مشتقّ من آل يئول: إذا رجع، فآل الرّجل هم الّذين يرجعون إليه، ويضافون إليه، ويئولهم، أي: يسوسهم، فيكون مالهم إليه، ومنه الإيالة وهي السّياسة، فآل الرّجل: هم الّذين يسوسهم ويئولهم، ونفسه أحقّ بذلك من غيره، فهو أحقّ بالدّخول في آله، ولكن لا يقال: إنّه مختصّ بآله، بل هو داخل فيهم، وهذه المادّة موضوعة لأصل الشّيء وحقيقته، ولهذا سمّي حقيقة الشّيء تأويله، لأنّها حقيقته الّتي يرجع إليها. ومنه التّأويل بمعنى التّفسير، لأنّ تفسير الكلام، هو بيان معناه وحقيقته الّتي يراد منه.
قالوا: ومنه الأوّل، لأنّه أصل العدد ومبناه الّذي يتفرّع منه، ومنه الآل بمعنى الشّخص نفسه، قال أصحاب هذا القول: والتزمت العرب إضافته، فلا يستعمل مفردا إلّا في نادر الكلام.
والتزموا أيضا إضافته إلى الظّاهر، فلا يضاف إلى مضمر إلّا قليلا.
قالوا: ومن أحكامه أيضا أنّه لا يضاف إلّا إلى متبوع معظّم فلا يقال آل الحائك وآل الحجّام ولا آل رجل.
وأمّا معناه، فقالت طائفة: يقال: آل الرّجل له نفسه، وآل الرّجل لمن يتبعه، وآله لأهله وأقاربه، فمن الأوّل قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لمّا جاءه أبو أوفى بصدقته: «اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى» وقوله تعالى: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ «2» .
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على آل إبراهيم» فآل إبراهيم هو إبراهيم، لأنّ الصّلاة المطلوبة للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، هي الصّلاة على إبراهيم نفسه، وآله تبع له فيها.
ونازعهم في ذلك آخرون، وقالوا: لا يكون الآل إلّا الأتباع والأقارب، وما ذكرتموه من الأدلّة، فالمراد بها الأقارب، وقوله: «كما صلّيت على آل إبراهيم» آل إبراهيم هنا هم الأنبياء، والمطلوب من الله سبحانه أن يصلّي على
__________
(1) وقد ضعّف المؤلف رحمه الله هذا القول من عدة وجوه فلتراجع.
(2) سورة الصافات: 130.(1/586)
رسوله صلّى الله عليه وسلّم، كما صلّى على جميع الأنبياء من ذرّيّة إبراهيم، لا إبراهيم وحده، كما هو مصرّح به في بعض الألفاظ من قوله: على إبراهيم وعلى آل إبراهيم «1» .
وأمّا قوله تعالى: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ «2» . فهذه فيها قراءتان «3» ، إحداهما: إلياسين بوزن إسماعيل وفيه وجهان «4» .
قال المؤلّف: وعلى هذا ففصل النّزاع بين أصحاب القولين في الآل. أنّ «الآل» إن أفرد دخل فيه المضاف إليه، كقوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ «5» . ولا ريب في دخوله في آله هنا. وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ «6» ونظائره. وقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى» ولا ريب في دخول أبي أوفى نفسه في ذلك، وقوله: «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على آل إبراهيم» هذه أكثر روايات البخاريّ، وإبراهيم هنا داخل في آله، ولعلّ هذا مراد من قال: آل الرّجل نفسه.
وأمّا إن ذكر الرّجل، ثمّ ذكر آله، لم يدخل فيهم، ففرق بين اللّفظ المجرّد والمقرون. فإذا قلت: أعط لزيد وآل زيد، لم يكن زيد هنا داخلا في آله، وإذا قلت: أعطه لآل زيد، تناول زيدا وآله، وهذا له نظائر كثيرة.
__________
(1) راجع جلاء الأفهام، ص 156، 157.
(2) سورة الصافات؛ 130.
(3) ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي: إلياسين موصولة مكسورة الألف ساكنة اللام، فجعلوها كلمة واحدة، وقرأ نافع وابن عامر وعبد الوارث إل ياسين، فجعلوها كلمتين، انظر «زاد المسير» (7/ 38) بتحقيق الأرنؤوطيين.
(4) ذكر المؤلف- رحمه الله- القراءتين مع ذكر ما تحتملانه من وجوه فلتراجع.
(5) سورة غافر: 46.
(6) سورة الأعراف: 130.(1/587)
فصل في آل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
واختلف في آل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أربعة أقوال.
فقيل: هم الّذين حرّمت عليهم الصّدقة، وفيه ثلاثة أقوال للعلماء:
أحدها: أنّهم بنو هاشم، وبنو المطّلب، وهذا مذهب الشّافعيّ، وأحمد في رواية عنه.
والثّاني: أنّهم بنو هاشم خاصّة، وهذا مذهب أبي حنيفة والرّواية الثّانية عن أحمد، واختيار ابن القاسم صاحب مالك.
والثّالث: أنّهم بنو هاشم ومن فوقهم إلى غالب، فيدخل فيهم بنو المطّلب، وبنو أميّة، وبنو نوفل، ومن فوقهم إلى بني غالب، وهذا اختيار أشهب من أصحاب مالك، حكاه صاحب «الجواهر» عنه، وحكاه اللّخميّ في «التّبصرة» عن أصبغ، ولم يحكه عن أشهب.
وهذا القول الأوّل في الآل أعني أنّهم الّذين تحرم عليهم الصّدقة هو منصوص الشّافعيّ، وأحمد والأكثرين، وهو اختيار جمهور أصحاب أحمد والشّافعيّ.
والقول الثّاني: أنّ آل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هم ذرّيّته وأزواجه خاصّة، حكاه ابن عبد البرّ في «التّمهيد» قال في باب عبد الله ابن أبي بكر، في شرح حديث أبي حميد السّاعديّ: استدلّ قوم بهذا الحديث على أنّ «آل محمّد» هم أزواجه وذرّيّته خاصّة، لقوله في حديث مالك عن نعيم المجمّر وفي غير ما حديث: «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد» وفي هذا الحديث يعني حديث أبي حميد: «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى أزواجه وذرّيّته» قالوا: فهذا تفسير ذلك الحديث، ويبيّن أنّ آل محمّد هم أزواجه وذرّيّته، قالوا: فجائز أن يقول الرّجل لكلّ من كان من أزواج محمّد صلّى الله عليه وسلّم ومن ذرّيّته: صلّى الله عليك، إذا واجهه، وصلّى الله عليه إذا غاب عنه، ولا يجوز ذلك في غيرهم.
قالوا: والآل والأهل سواء، وآل الرّجل وأهله سواء، وهم الأزواج والذّرّيّة بدليل هذا الحديث.
والقول الثّالث: أنّ آله صلّى الله عليه وسلّم أتباعه إلى يوم القيامة، حكاه ابن عبد البرّ عن بعض أهل العلم. وأقدم من روي عنه هذا القول جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- ذكره البيهقيّ عنه، ورواه عنه سفيان الثّوريّ وغيره، واختاره بعض أصحاب الشّافعيّ، حكاه عنه أبو الطّيّب الطّبريّ في تعليقه، ورجّحه الشّيخ محيي الدّين النّواويّ في «شرح مسلم» واختاره الأزهريّ.
والقول الرّابع: أنّ آله صلّى الله عليه وسلّم هم الأتقياء من أمّته، حكاه القاضي حسين والرّاغب وجماعة «1» .
__________
(1) ثم ذكر المؤلف- رحمه الله- أدلة على هذه الأقوال مع بيان الصحيح منها والضعيف. فلتراجع.(1/588)
أزواجه صلّى الله عليه وسلّم*
خديجة بنت خويلد «1» - رضي الله عنها-:
هي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ بن كلاب، تزوّجها صلّى الله عليه وسلّم بمكّة، وهو ابن خمس وعشرين سنة، وبقيت معه إلى أن أكرمه الله برسالته، فآمنت به ونصرته، فكانت له وزير صدق، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، على الأصحّ، وقيل: بأربع، وقيل: بخمس، ولها خصائص- رضي الله عنها-:
منها: أنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يتزوّج عليها غيرها.
ومنها: أنّ أولاده صلّى الله عليه وسلّم كلّهم منها إلّا إبراهيم عليه السّلام، فإنّه من سرّيّته مارية.
ومنها: أنّها خير نساء الأمّة.
واختلف في تفضيلها على عائشة- رضي الله عنها- على ثلاثة أقوال، ثالثها: الوقف.
ومن خصائصها أنّ الله سبحانه بعث إليها السّلام مع جبريل عليه السّلام، فبلّغها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك.
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: «أتى جبريل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السّلام من ربّها ومنّي، وبشّرها ببيت في الجنّة من قصب «2» لا صخب فيه ولا نصب «3» » «4» .
ومن خصائصها- رضي الله عنها- أنّها لم تسؤه قطّ ولن تغاضبه ولم ينلها منه إيلاء ولا عتب قطّ ولا هجر، وكفى به منقبة وفضيلة.
ومن خواصّها أنّها أوّل امرأة آمنت بالله ورسوله من هذه الأمّة.
__________
* قال المؤلف- رحمه الله-: أما الأزواج فجمع زوج، وقد يقال: زوجة، والأول أفصح، وبها جاء القرآن، قال تعالى: يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ* (البقرة: 35) وقال تعالى في حق زكريا عليه السلام: وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ (الأنبياء: 90) ومن الثاني: قول ابن عباس- رضي الله عنهما- في عائشة- رضي الله عنها-: «إنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة» وقال الفرزدق:
وإن الذي يبغي ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشّرى يستبيلها
ثم ذكر المؤلف- رحمه الله-: أن هذا أليق المواضع بذكر أزواجه صلّى الله عليه وسلّم.
(1) ترجمتها ومصادرها في «جامع الأصول» (12/ 245- 246) بتحقيق محمود الأرناؤوط، طبع دار ابن الأثير ببيروت.
(2) القصب: اللؤلؤ المجوف، قال ابن التين: المراد به لؤلؤة مجوفة واسعة كالقصر المنيف وقال السهيلي: النكتة في قوله: «من قصب» ولم يقل «من لؤلؤ» أن في لفظ «القصب» مناسبة لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها. و «الصخب» الضجة والغلبة.
(3) النصب: التعب.
(4) أخرجه البخاري (الفتح 7/ 3820) ومسلم (2432) .(1/589)
سودة بنت زمعة «1» - رضي الله عنها-:
وهى سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبدودّ بن نضر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤيّ، كبرت عنده، وأراد طلاقها، فوهبت يومها لعائشة- رضي الله عنها- فأمسكها «2» .
وهذا من خواصّها أنّها آثرت بيومها حبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تقرّبا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحبّا له، وإيثارا لمقامها معه، فكان يقسم لنسائه، ولا يقسم لها وهي راضية بذلك، مؤثرة لرضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رضي الله عنها «3» .
عائشة بنت أبي بكر «4» - رضي الله عنهما-:
هي عائشة بنت أبي بكر بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤيّ القرشيّ التّيميّ «5» - رضي الله عنهما- تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهي بنت ستّ سنين قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاث، وبنى بها بالمدينة أوّل مقدمه في السّنة الأولى، وهي بنت تسع «6» ، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة، وتوفّيت بالمدينة، ودفنت بالبقيع، وأوصت أن يصلّي عليها أبو هريرة- رضي الله عنه- سنة ثمان وخمسين.
ومن خصائصها أنّها كانت أحبّ أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، كما ثبت عنه ذلك في البخاريّ، وقد سئل: أيّ النّاس أحبّ إليك؟ قال: «عائشة» قيل: فمن الرّجال؟ قال: «أبوها» «7» .
ومن خصائصها أيضا: أنّه لم يتزوّج امرأة بكرا غيرها.
ومن خصائصها: أنّه كان ينزل عليه الوحي وهو في لحافها دون غيرها.
ومن خصائصها: أنّ الله عزّ وجلّ لمّا أنزل عليه آية التّخيير بدأ بها، فخيّرها، فقال: «ولا عليك أن لا تعجلي حتّى تستأمري أبويك.
فقالت: «أفي هذا أستأمر أبويّ؟ فإنّي أريد الله ورسوله والدّار الآخرة» «8» . فاستنّ بها بقيّة أزواجه صلّى الله عليه وسلّم وقلن كما قالت.
ومن خصائصها: أنّ الله سبحانه برّأها ممّا رماها به أهل الإفك، وأنزل في عذرها وبراءتها وحيا يتلى في محاريب المسلمين وصلواتهم إلى يوم القيامة.
__________
(1) ترجمتها ومصادرها في «جامع الأصول» (12/ 247- 248) .
(2) أخرجه البخاري (الفتح 9/ 5212) ومسلم (1463) .
(3) البخاري (الفتح 9/ 5067) ومسلم (1465) .
(4) ترجمتها ومصادرها في «جامع الأصول» (12/ 248- 249) .
(5) انظر: الإصابة لابن حجر (1/ 333) .
(6) أخرجه البخاري (الفتح 9/ 5133) .
(7) أخرجه البخاري (الفتح 7/ 4358) ومسلم (2384) .
(8) البخاري (8/ 4785) ومسلم (1475) .(1/590)
ومن خصائصها- رضي الله عنها-: أنّ الأكابر من الصّحابة- رضي الله عنهم- كان إذا أشكل عليهم أمر من الدّين، استفتوها، فيجدون علمه عندها.
ومن خصائصها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفّي في بيتها، وفي يومها وبين سحرها ونحرها «1» ، ودفن في بيتها «2» .
ومن خصائصها: أنّ الملك أرى صورتها للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يتزوّجها في سرقة حرير، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إن يكن هذا من عند الله يمضه» «3» .
ومن خصائصها: أنّ النّاس كانوا يتحرّون بهداياهم يومها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تقرّبا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيتحفونه بما يحبّ في منزل أحبّ نسائه إليه صلّى الله عليه وسلّم ورضي الله عنهنّ أجمعين.
حفصة بنت عمر «4» - رضي الله عنهما-:
هي حفصة بنت عمر بن الخطّاب- رضي الله عنهما- تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت قبله عند خنيس بن حذافة، وكان من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وممّن شهد بدرا «5» . توفّيت سنة سبع، وقيل: ثمان وعشرين.
ومن خواصّها: ما ذكره الحافظ أبو محمّد المقدسيّ في مختصره في السّيرة: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم طلّقها، فأتاه جبريل، فقال: إنّ الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنّها صوّامة قوّامة، وإنّها زوجتك في الجنّة» «6» .
أمّ حبيبة «7» - رضي الله عنها-:
هي رملة بنت صخر بن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة، فتنصّر بالحبشة، وأتمّ الله لها الإسلام، وتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهي بأرض الحبشة، وأصدقها عنه النّجاشيّ أربعمائة دينار»
، وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن أميّة الضّمريّ إلى النّجاشيّ يخطبها، وولي نكاحها عثمان بن عفّان، وقيل: خالد بن سعيد بن العاص.
وهي الّتي أكرمت فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجلس عليه أبوها لمّا قدم المدينة، وقالت: «إنّك مشرك» ومنعته من الجلوس عليه «9» .
__________
(1) السحر: الرئة. أي أنه صلّى الله عليه وسلّم مات وهو مستند إلى صدرها وما يحاذي سحرها- رضي الله عنها-.
(2) أخرجه البخاري (الفتح 3/ 1389) ومسلم (2443) .
(3) أخرجه البخاري (الفتح 9/ 5125) ومسلم (2438) وأحمد (6/ 41 و128 و161) من حديث عائشة- رضي الله عنها-.
(4) ترجمتها ومصادرها في «جامع الأصول» (12/ 250- 251) .
(5) كان من السابقين الأولين إلى الإسلام. هاجر إلى الحبشة وعاد إلى المدينة، فشهد بدرا وأحدا وأصابه بأحد جراحات فمات منها- رضي الله عنه-.
(6) أخرجه أبو داود (2283) ، وابن ماجة (2016) من حديث عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طلق حفصة ثم راجعها، وأخرجه النسائي (6/ 213) من حديث ابن عمر وإسناده صحيح ولفظ المصنف ورد من حديث أنس عند الطبراني، ومن حديث عمار بن ياسر عند البزار والطبراني، ومن حديث قيس بن يزيد عند الطبراني يصح بمجموعها الحديث. انظر: مجمع الزوائد (9/ 244 و245) ، والإصابة (4/ 264) .
(7) ترجمتها ومصادرها في «جامع الأصول» (12/ 255- 256) .
(8) أخرجه أبو داود (2107 و2108) والنسائي (6/ 119) وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(9) أخرجه ابن سعد من طريق الواقدي فيما ذكره الحافظ في الإصابة في ترجمة أم حبيبة.(1/591)
أمّ سلمة «1» - رضي الله عنها-:
هي هند بنت أبي أميّة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب، وكانت قبله عند أبي سلمة بن عبد الأسد «2» . توفّيت سنة اثنتين وستّين ودفنت بالبقيع، وهي آخر أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موتا: وقيل: بل ميمونة.
ومن خصائصها: أنّ جبريل دخل على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهي عنده، فرأته في صورة دحية الكلبيّ، ففي «صحيح مسلم» عن أبي عثمان قال: «أنبئت أنّ جبريل أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وعنده أمّ سلمة، قال: فجعل يتحدّث ثمّ قام، فقال نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم لأمّ سلمة «من هذا؟» - أو كما قال- قالت: هذا دحية الكلبيّ، قالت: وأيم الله ما حسبته إلّا إيّاه، حتّى سمعت خطبة نبّيّ الله صلّى الله عليه وسلّم يخبر خبر جبريل أو كما قال. قال: سليمان التّيميّ: فقلت لأبي عثمان: ممّن سمعت هذا الحديث؟ قال: من أسامة بن زيد «3» .
زينب بنت جحش «4» - رضي الله عنها-:
هي زينب بنت جحش من بني خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وهي بنت عمّته أميمة بنت عبد المطّلب، وكانت قبل عند مولاه زيد بن حارثة، وطلّقها، فزوّجها الله تعالى إيّاه من فوق سبع سموات، وأنزل عليه: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها «5» . فقام فدخل عليها بلا استئذان «6» . وكانت تفخر بذلك على سائر أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتقول: «زوّجكنّ أهاليكنّ، وزوّجني الله من فوق سبع سماواته» «7» . وهذا من خصائصها، توفّيت بالمدينة سنة عشرين ودفنت بالبقيع- رضي الله عنها-.
زينب بنت خزيمة «8» - رضي الله عنها-:
هي زينب بنت خزيمة الهلاليّة، وكانت تحت عبد الله بن جحش «9» . تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة ثلاث من الهجرة، وكانت تسمّى أمّ المساكين لكثرة إطعامها المساكين، ولم تلبث عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسيرا شهرين أو ثلاثة، وتوفّيت- رضي الله عنها-.
__________
(1) ترجمتها ومصادرها في «جامع الأصول» (12/ 252) .
(2) اسمه عبد الله بن الأسد، كان قديم الإسلام، مع عثمان بن مظعون والأرقم بن أبي الأرقم، وهاجر إلى الحبشة مع أم سلمة، ثم عاد، وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرا، وجرح في أحد جرحا اندمل، ثم انتفض، فمات في جمادى الآخرة سنة ثلاث من الهجرة.
(3) أخرجه مسلم (2451) .
(4) ترجمتها ومصادرها في «جامع الأصول» (12/ 253) .
(5) سورة الأحزاب: 37.
(6) أخرجه مسلم (1428) ، والنسائي (6/ 79) من حديث أنس بن مالك.
(7) أخرجه البخاري (الفتح 13/ 7420) من حديث أنس بن مالك.
(8) ترجمتها ومصادرها في «جامع الأصول» (12/ 251- 252) .
(9) أمه أميمة بنت عبد المطلب، أسلم قبل دخول النبي صلّى الله عليه وسلّم دار الأرقم، وهاجر الهجرتين إلى أرض الحبشة هو وأخواه أحمد وعبيد الله وأختهم زينب وأم حبيبة وحمنة بنات جحش،
وهاجر إلى المدينة بأهله وأخيه أي أحمد. وهو أول أمير أمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على سريّة، شهد بدرا، وقتل يوم أحد ودفن مع خاله حمزة.(1/592)
جويرية بنت الحارث «1» - رضي الله عنها-:
وتزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق وكانت سبيت في غزوة بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابتها وتزوّجها سنة ستّ من الهجرة، وتوفّيت سنة ستّ وخمسين، وهي الّتي أعتق المسلمون بسببها مائة أهل بيت من الرّقيق، وقالوا: أصهار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان ذلك من بركتها على قومها- رضي الله عنها- «2» .
صفيّة بنت حيّي «3» - رضي الله عنها-:
وتزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صفيّة بنت حييّ من ولد هارون بن عمران أخي موسى، سنة سبع، فإنّها سبيت من خيبر، وكانت قبله تحت كنانة بن أبي الحقيق فقتله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، توفّيت سنة ستّ وثلاثين، وقيل: سنة خمسين.
ومن خصائصها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعتقها وجعل عتقها صداقها «4» . وقال أنس «أمهرها نفسها» وصار ذلك سنّة للأمّة إلى يوم القيامة أنّه يجوز للرّجل أن يجعل عتق جاريته صداقها وتصير زوجته.
ميمونة بنت الحارث «5» - رضي الله عنها-:
وتزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ميمونة بنت الحارث الهلاليّة تزوّجها بسرف وبنى بها بسرف، وماتت بسرف، وهو على سبعة أميال من مكّة وهي آخر من تزوّج من أمّهات المؤمنين، توفّيت سنة ثلاث وستّين، وهي خالة عبد الله بن عبّاس- رضي الله عنهما- فإنّ أمّه أمّ الفضل بنت الحارث، وهي خالة خالد بن الوليد أيضا، وهي الّتي اختلف في نكاح النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، هل نكحها حلالا أو محرما؟ فالصحيح أنّه تزوّجها حلالا كما قال أبو رافع «6» . السّفير في نكاحها.
قال المؤلّف- رحمه الله-: وقد غلط من قال: نكحها محرما، وتقديم حديث من قال: «تزوّجها حلالا» من عشرة أوجه مذكورة في غير هذا الموضع «7» .
فهؤلاء جملة من دخل بهنّ من النّساء وهنّ إحدى عشرة.
قال الحافظ أبو محمّد المقدسيّ وغيره: وعقد على سبع ولم يدخل بهنّ.
فالصّلاة على أزواجه تابعة لاحترامهنّ وتحريمهنّ على الأمّة، وأنّهنّ نساؤه صلّى الله عليه وسلّم في الدّنيا والآخرة، فمن فارقها في حياتها ولم يدخل بها لا يثبت لها أحكام زوجاته اللّاتي دخل بهنّ، ومات عنهنّ صلّى الله عليه وعلى أزواجه وذرّيّته وسلّم تسليما.
__________
(1) ترجمتها ومصادرها في «جامع الأصول» (12/ 256- 257) .
(2) أبو داود (3931) وأحمد (6/ 277) وإسناده صحيح.
(3) ترجمتها ومصادرها في «جامع الأصول» (12/ 259- 260) .
(4) أخرجه البخاري (الفتح 7/ 4200) ومسلم (1365) .
(5) ترجمتها ومصادرها في «جامع الأصول» (12/ 257- 258) .
(6) حديث أبي رافع أخرجه أحمد (6/ 393) والترمذي (841) وقال هذا حديث حسن.
(7) ذكر المؤلف سبعة منها في كتاب النكاح من «زاد المعاد» .(1/593)
بيان معنى الذّرّيّة
وأمّا الذّرّيّة فالكلام فيها في مسألتين:
المسألة الأولى: في لفظها، وفيها ثلاثة أقوال: أصحّها:
أنّها من ذرأ الله الخلق، أي نشرهم وأظهرهم إلّا أنّهم تركوا همزها استثقالا، فأصلها «ذرّيئة» بالهمز فعّيلة من الذّرء، وهذا اختيار صاحب «الصّحاح» وغيره «1» .
المسألة الثّانية: في هذه اللّفظة:
لا خلاف بين أهل اللّغة أنّ الذّرّيّة تقال على الأولاد الصّغار وعلى الكبار أيضا. قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي «2» . وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «3» . وقال تعالى:
وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «4» . وقال تعالى: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا* ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً «5» .
وهل تقال الذّرّيّة على الآباء؟ فيه قولان: أحدهما: أنّهم يسمّون ذرّيّة أيضا.
وأنكر ذلك جماعة من أهل اللّغة، وقالوا: لا يجوز هذا في اللّغة، والذّرّيّة كالنّسل والعقب، لا تكون إلّا للعمود الأسفل، ولهذا قال تعالى: وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ. فذكر جهات النّسب الثّلاث من فوق، ومن أسفل، ومن الأطراف.
قال المؤلّف- رحمه الله-: إذا ثبت هذا، فالذّرّيّة: الأولاد وأولادهم، وهل يدخل فيها أولاد البنات؟ فيه قولان هما روايتان عن أحمد، إحداهما: يدخلون وهو مذهب الشّافعيّ، والثّانية: لا يدخلون وهو مذهب أبي حنيفة. ثمّ ذكر أدلّة القولين.
__________
(1) قال المؤلف: وهذا القول أصح لأن الاشتقاق والمعنى يشهدان له.
(2) سورة البقرة: 124.
(3) سورة آل عمران: 33- 34.
(4) سورة الأنعام: 87.
(5) سورة الإسراء: 2، 3.(1/594)
فصل في ذكر إبراهيم خليل الرّحمن صلّى الله عليه وسلّم
هذا الاسم (إبراهيم) بالسّريانيّة معناه: «أب رحيم» والله سبحانه جعل إبراهيم الأب الثّالث للعالم، فإنّ أبانا الأوّل آدم، والأب الثّاني نوح، وأهل الأرض كلّهم من ذرّيّته، كما قال تعالى: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ «1» .
وبهذا يتبيّن كذب المفترين من العجم الذّين يزعمون أنّهم لا يعرفون نوحا ولا ولده، ولا ينسبون إليه، وينسبون ملوكهم من آدم إليهم، ولا يذكرون نوحا في أنسابهم، وقد أكذبهم الله عزّ وجلّ في ذلك.
فالأب الثّالث أبو الآباء، وعمود العالم، وإمام الحنفاء الّذي اتّخذه الله سبحانه وتعالى خليلا، وجعل النّبوّة والكتاب في ذرّيّته، ذلك خليل الرّحمن وشيخ الأنبياء كما سمّاه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بذلك، فإنّه لمّا دخل الكعبة، وجد المشركين قد صوّروا فيها صورته وصورة إسماعيل ابنه وهما يستقسمان بالأزلام، فقال: «قاتلهم الله، لقد علموا أنّ شيخنا لم يكن يستقسم بالأزلام» «2» . ولم يأمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يتّبع ملّة أحد من الأنبياء غيره فقال تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «3» . وأمر أمّته بذلك فقال تعالى: هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ «4» . و «ملّة» منصوب على إضمار فعل، أي: اتّبعوه والزموا ملّة أبيكم. ودلّ على المحذوف ما تقدّم من قوله: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ «5» .
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوصي أصحابه إذا أصبحوا وإذا أمسوا أن يقولوا: «أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص، ودين نبيّنا محمّد وملّة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين» «6» .
فتأمّل هذه الألفاظ كيف جعل الفطرة للإسلام، فإنّه فطرة الله الّتي فطر النّاس عليها، وكلمة الإخلاص:
هي شهادة أن لا إله إلّا الله تعالى والملّة لإبراهيم فإنّه صاحب الملّة: وهي التّوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له، ومحبّته فوق كلّ محبّة، والدّين للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو دينه الكامل وشرعه التّامّ الجامع لذلك كلّه، وسمّاه الله سبحانه «إماما» و «أمّة» و «قانتا» و «حنيفا» . قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ
__________
(1) سورة الصافات: 77.
(2) أخرجه البخاري (الفتح 8/ 4288) وأحمد (1/ 365) .
(3) سورة النحل: 123.
(4) سورة الحج: 78.
(5) سورة الحج: 78.
(6) أخرجه أحمد (3/ 406، 407) والدارمي (2/ 292) وابن السني (33) من حديث عبد الرحمن بن أبزي، وقال الأرنؤطيان: سنده صحيح.(1/595)
إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ «1» . فأخبر سبحانه أنّه جعله إماما للنّاس، وأنّ الظّالم من ذرّيّته لا ينال رتبة الإمامة. والظّالم: هو المشرك، وأخبر سبحانه أنّ عهده بالإمامة لا ينال من أشرك به. وقال تعالى:
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «2» .
فالأمّة: هو القدوة المعلّم للخير، والقانت: المطيع لله الملازم لطاعته، والحنيف: المقبل على الله، المعرض عمّا سواه.
والمقصود: أنّ إبراهيم عليه السّلام: هو أبونا الثّالث، وهو إمام الحنفاء، ويسمّيه أهل الكتاب عمود العالم، وجميع أهل الملل متّفقة على تعظيمه وتولّيه ومحبّته. وكان خير بنيه سيّد ولد آدم محمّد صلّى الله عليه وسلّم يجلّه ويعظّمه ويبجّله ويحترمه، ففي «الصّحيحين» عن أنس بن مالك- رضي الله تعالى عنه- قال: جاء رجل إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا خير البريّة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ذاك إبراهيم» «3» . وسمّاه شيخه، كما تقدّم.
وثبت في «صحيح البخاريّ» من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «إنّكم محشورون حفاة عراة غرلا، ثمّ قرأ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» .
وأوّل من يكسى يوم القيامة إبراهيم» «5» .
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشبه الخلق به، كما في «الصّحيحين» عنه قال: «رأيت إبراهيم فإذا أقرب النّاس شبها به صاحبكم» يعني نفسه صلّى الله عليه وسلّم، وفى لفظ آخر «وأمّا إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم» «6» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم يعوّذ أولاد ابنته حسنا وحسينا بتعويذ إبراهيم لإسماعيل وإسحاق، ففي «صحيح البخاريّ» عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: «كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعوّذ الحسن والحسين ويقول: «إنّ أباكما كان يعوّذ بهما إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التّامّة من كلّ شيطان وهامّة، ومن كلّ عين لامّة» «7» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم أوّل من قرى الضّيف، وأوّل من اختتن، وأوّل من رأى الشّيب، فقال: «ما هذا يا ربّ؟ قال:
وقار، قال: ربّ زدني وقارا» .
__________
(1) سورة البقرة: 124.
(2) سورة النحل: 120- 122.
(3) أخرجه مسلم (2369) وأبو داود (4672) والترمذي (349) .
(4) سورة الأنبياء: 104.
(5) أخرجه البخاري (الفتح 8/ 4740) ومسلم (2860) .
(6) أخرجه البخاري (الفتح 6/ 3437) من حديث أبي هريرة، ومسلم (167) .
(7) أخرجه البخاري (الفتح 6/ 3371) .(1/596)
وتأمّل ثناء الله سبحانه عليه في إكرام ضيفه من الملائكة حيث يقول سبحانه: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ* إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ* فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ* فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ «1» .
ففي هذا الثّناء على إبراهيم من وجوه متعدّدة ذكرها المؤلّف فلتراجع.
لقد جمعت هذه الآية آداب الضّيافة الّتي هي شرف الآداب، وما عداها من التّكلّفات الّتي هي تخلّف وتكلّف إنّما هي من أوضاع النّاس وعوائدهم وكفى بهذه الآداب شرفا وفخرا، فصلّى الله على نبيّنا وعلى إبراهيم وعلى آلهما وعلى سائر النّبيّين.
وقد شهد الله سبحانه بأنّه وفّى ما أمر به، فقال تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى * وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى «2» . قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما-: وفّى جميع شرائع الإسلام، ووفّى ما أمر به من تبليغ الرّسالة. وقال تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً «3» . فلمّا أتمّ ما أمر من الكلمات، جعله الله إماما للخلائق يأتمّون به.
وكان صلّى الله عليه وسلّم كما قيل: قلبه للرّحمن، وولده للقربان، وبدنه للنّيران، وماله للضّيفان.
وهو الّذي بنى بيت الله، وأذّن في النّاس بحجّه، فكلّ من حجّه واعتمره حصل لإبراهيم من مزيد ثواب الله وكرامته بعدد الحجّاج والمعتمرين. قال تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى «4» . فأمر نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وأمّته أن يتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى تحقيقا للاقتداء به، وإحياء آثاره صلّى الله على نبيّنا وعليه وسلّم.
ومناقب هذا الإمام الأعظم، والنّبيّ الأكرم أجلّ من أن يحيط بها كتاب، جعلنا الله ممّن ائتمّ به، ولا جعلنا ممّن عدل عن ملّته بمنّه وكرمه.
__________
(1) سورة الذاريات: 24- 27.
(2) سورة النجم: 36، 37.
(3) سورة البقرة: 124.
(4) سورة البقرة: 125.(1/597)
مسألة مشهورة
ذكر المؤلّف- رحمه الله- تفاصيل هذه المسألة: وهي أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أفضل من إبراهيم، فكيف طلب له من الصّلاة ما لإبراهيم؟ مع أنّ المشبّه به أصله أن يكون فوق المشبّه؟ فكيف الجمع بين هذين الأمرين المتنافيين؟
ثم ذكر- رحمه الله- ما قاله النّاس في هذا، مع بيان ما فيه من صحيح وفاسد.
ثمّ ختم ذلك بقوله: وقالت طائفة أخرى: آل إبراهيم فيهم الأنبياء الّذين ليس في آل محمّد مثلهم، فإذا طلب للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولآله من الصّلاة مثل ما لإبراهيم وآله- وفيهم الأنبياء- حصل لآل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من ذلك ما يليق بهم، فإنّهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزّيادة الّتي للأنبياء وفيهم إبراهيم لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، فيحصل له بذلك من المزيّة ما لم يحصل لغيره.
وتقرير ذلك: أن يجعل الصّلاة الحاصلة لإبراهيم ولآله وفيهم الأنبياء جملة مقسومة على محمّد صلّى الله عليه وسلّم وآله، ولا ريب أنّه لا يحصل لآل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مثل ما حصل لآل إبراهيم وفيهم الأنبياء، بل يحصل لهم ما يليق بهم، فيبقى قسم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم والزّيادة المتوفّرة الّتي لم يستحقّها آله مختصّة به صلّى الله عليه وسلّم، فيصير الحاصل له من مجموع ذلك أعظم وأفضل من الحاصل لإبراهيم، وهذا أحسن من كلّ ما تقدّمه.
وأحسن منه أن يقال: محمّد صلّى الله عليه وسلّم هو من آل إبراهيم، بل هو خير آل إبراهيم، كما روى عليّ بن أبي طلحة عن أبي طلحة عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ «1» . قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما-: محمّد من آل إبراهيم، وهذا نصّ فإنّه إذا دخل غيره من الأنبياء الّذين هم من ذرّيّة إبراهيم في آله، فدخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولى، فيكون قولنا: «كما صلّيت على آل إبراهيم» متناولا للصّلاة عليه، وعلى سائر النّبيّين من ذرّيّة إبراهيم.
ثمّ قد أمرنا الله أن نصلّي عليه وعلى آله خصوصا بقدر ما صلّينا عليه مع سائر آل إبراهيم عموما، وهو فيهم، ويحصل لآله من ذلك ما يليق بهم ويبقى الباقي كلّه له صلّى الله عليه وسلّم.
وتقرير هذا أنّه يكون قد صلّى عليه خصوصا، وطلب له من الصّلاة ما لآل إبراهيم وهو داخل معهم، ولا ريب أنّ الصّلاة الحاصلة لآل إبراهيم ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم معهم أكمل من الصّلاة الحاصلة له دونهم، فيطلب له من الصّلاة هذا الأمر العظيم الّذي هو أفضل ممّا لإبراهيم قطعا، وتظهر حينئذ فائدة التّشبيه وجريه على أصله، وأنّ المطلوب له من الصّلاة بهذا اللّفظ أعظم من المطلوب له بغيره، فإنّه إذا كان المطلوب بالدّعاء إنّما هو مثل المشبّه
__________
(1) سورة آل عمران: 33.(1/598)
به، وله أوفر نصيب منه، صار له من المشبّه المطلوب أكثر ممّا لإبراهيم وغيره، وانضاف إلى ذلك ممّا له من المشبّه به من الحصّة الّتي لم تحصل لغيره.
فظهر بهذا من فضله وشرفه على إبراهيم وعلى كلّ من آله وفيهم النّبيّون ما هو لائق به، وصارت هذه الصّلاة دالّة على هذا التّفضيل وتابعة له، وهي من موجباته ومقتضياته، فصلّى الله عليه وعلى آله وسلّم تسليما كثيرا، وجزاه عنّا أفضل ما جزى نبيّا عن أمّته، اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد.(1/599)
معنى قوله: «اللهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد»
قال المؤلّف- رحمه الله-: حقيقة البركة: الثّبوت واللّزوم والاستقرار، فمنه برك البعير: إذا استقرّ على الأرض ومنه المبرك لموضع البروك. قال صاحب «الصّحاح» : وكلّ شيء ثبت وأقام، فقد برك. والبرك: الإبل الكثيرة، والبركة بكسر الباء كالحوض، والجمع البرك، ذكره الجوهريّ. قال: ويقال: سمّيت بذلك لإقامة الماء فيها.
والبراكاء: الثّبات في الحرب والجدّ فيها، قال الشّاعر «1» :
ولا ينجي من الغمرات إلّا ... براكاء القتال أو الفرار
والبركة: النّماء والزّيادة، والتبريك: الدّعاء بذلك. ويقال: باركه الله وبارك فيه. وبارك عليه، وبارك له، وفي القرآن: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها «2» ... وفيه: وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ «3» . وفيه: بارَكْنا فِيها* «4» .
وفي الحديث: «وبارك لي فيما أعطيت» «5» ... وفي حديث سعد: «بارك الله لك في أهلك ومالك» «6» .
والمبارك: الّذي قد باركه الله سبحانه، كما قال المسيح عليه السّلام: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ «7» ..
وكتابه مبارك، كما قال تعالى: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ «8» .. وقال: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ «9» ، وهو أحقّ
__________
(1) هو بشر بن أبي خازم، وهو في ديوانه (ص 79) والغمرات: الشدائد، واحدها: الغمرة. والبركاء بفتح الباء وضمها: أن يبرك الرجل في القتال ويثبت ولا يبرح.
(2) سورة النمل: 8.
(3) سورة الصافات: 113.
(4) سورة الأعراف: 137.
(5) أخرجه أحمد (1/ 199، 200) ، وأبو داود (1425) ، والترمذي (464) ، وحسّنه، والنسائي (3/ 248) ، وابن ماجه (1178) ، والدارمي (1/ 373) من حديث الحسن بن علي- رضي الله عنهما- قال: «علمني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلمات أقولهن في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت ... » وصححه الحاكم (3/ 172) ، ووافقه الذهبي.
(6) أخرجه البخاري (الفتح 7/ 3937) ، وأحمد (3/ 190، 271) من حديث أنس بن مالك قال: قدم عبد الرحمن بن عوف، فآخى النبي صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين سعد بن الربيع، وكان كثير المال، فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالا سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان، فانظر أعجبها إليك، فأطلقها حتى إذا حلّت تزوجها، فقال عبد الرحمن: بارك الله في أهلك ومالك، فلم يرجع يومئذ حتى أفضل شيئا من سمن وأقط، فلم يلبث إلّا يسيرا حتى جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليه وضر من صفرة، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مهيم؟» قال: تزوجت امرأة من الأنصار، فقال: «ما سقت إليها؟» قال: وزن نواة من ذهب. فقال: «أولم ولو بشاة» .
(7) سورة مريم: 31.
(8) سورة الأنبياء: 50.
(9) سورة ص: 29.(1/600)
أن يسمّى مباركا من كلّ شيء، لكثرة خيره ومنافعه، ووجوه البركة فيه، والرّبّ سبحانه وتعالى يقال في حقّه «تبارك» ولا يقال: مبارك.
ثمّ قالت طائفة منهم الجوهريّ: إنّ «تبارك» بمعنى بارك، مثل قاتل وتقاتل، قال: إلّا أنّ فاعل يتعدّى وتفاعل لا يتعدّى، وهذا غلط عند المحقّقين، وإنّما «تبارك» تفاعل من البركة، وهذا الثّناء في حقّه تعالى، إنّما هو لوصف رجع إليه كتعالى، فإنّه تفاعل من العلوّ، ولهذا يقرن بين هذين اللّفظين فيقال: «تبارك وتعالى» ، وفي دعاء القنوت: «تباركت وتعاليت» وهو سبحانه أحقّ بذلك وأولى من كلّ أحد، فإنّ الخير كلّه بيديه، وكلّ الخير منه، صفاته كلّها صفات كمال، وأفعاله كلّها حكمة، ورحمة، ومصلحة، وخيرات لا شرور فيها، كما قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«والشّرّ ليس إليك» «1» . وإنّما يقع الشّرّ في مفعولاته ومخلوقاته، لا في فعله سبحانه، فإذا كان العبد وغيره مباركا لكثرة خيره ومنافعه واتّصال أسباب الخير فيه، وحصول ما ينتفع به النّاس منه، فالله تبارك وتعالى أحقّ أن يكون متباركا، وهذا ثناء يشعر بالعظمة، والرّفعة، والسّعة، كما يقال: تعاظم وتعالى ونحوه، فهو دليل على عظمته، وكثرة خيره، ودوامه، واجتماع صفات الكمال فيه، وأنّ كلّ نفع في العالم كان ويكون، فمن نفعه سبحانه وإحسانه.
ويدلّ هذا الفعل أيضا في حقّه على العظمة والجلال وعلوّ الشّأن، ولهذا إنّما يذكره غالبا مفتتحا به كلامه وعظمته وكبرياءه.. قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ «2» . وقال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً «3» .
فقد ذكر تباركه سبحانه في المواضع الّتي أثنى فيها على نفسه بالجلال والعظمة، والأفعال الدّالّة على ربوبيّته وإلهيّته وحكمته وسائر صفات كماله، من إنزال الفرقان، وخلق العالمين، وانفراده بالملك وكمال القدرة.
ولهذا قال أبو صالح عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما-: تبارك بمعنى تعالى.
وقال أبو عبّاس: تبارك: ارتفع، والمبارك: المرتفع.
وقال ابن الأنباريّ: تبارك بمعنى تقدّس، وقال الحسن: تبارك: تجيء البركة من قبله، وقال الضّحّاك:
تبارك: تعظّم، وقال الخليل بن أحمد: تمجّد، وقال الحسين بن الفضل: تبارك في ذاته، وبارك من شاء من خلقه.
وهذا أحسن الأقوال، فتباركه سبحانه وصف ذات له، وصفة فعل، كما قال الحسين بن الفضل.
وقال ابن عطيّة: معناه عظم، وكثرت بركاته، ولا يوصف بهذه اللّفظة إلّا الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) هو جزء من حديث طويل رواه مسلم (771) ، والنسائي (2/ 199، 130) .
(2) سورة الأعراف: 54.
(3) سورة الفرقان: 1.(1/601)
والمقصود الكلام على قوله: «وبارك على محمّد، وعلى آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم» فهذا الدّعاء يتضمّن إعطاءه من الخير ما أعطاه لآل إبراهيم، وإدامته وثبوته له، ومضاعفته له وزيادته، هذا حقيقة البركة، وقد قال تعالى في إبراهيم وآله: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ* وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ «1» . وقال تعالى فيه وفي أهل بيته: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ «2» .
وتأمّل كيف جاء في القرآن: وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ ولم يذكر إسماعيل. وجاء في التّوراة ذكر البركة على إسماعيل، ولم يذكر إسحاق كما تقدّمت حكايته، وعن إسماعيل «شمعتك، هانا باركتخ» (أي: ها أنا باركتك) فجاء في التّوراة ذكر البركة في إسماعيل إيذانا بما حصل لبنيه من الخير والبركة، لا سيّما خاتمة بركتهم وأعظمها وأجلّها برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنبّههم بذلك على ما يكون في بنيه من هذه البركة العظيمة الموافية على لسان المبارك صلّى الله عليه وسلّم، وذكر لنا في القرآن بركته على إسحاق منبّها لنا على ما حصل في أولاده من نبوّة موسى عليه السّلام وغيره، وما أوتوه من الكتاب والعلم مستدعيا من عباده الإيمان بذلك، والتّصديق به، وأن لا يهملوا معرفة حقوق هذا البيت المبارك وأهل النّبوّة منهم، ولا يقول القائل: هؤلاء أنبياء بني إسرائيل لا تعلّق لنا بهم، بل يجب علينا احترامهم، وتوقيرهم، والإيمان بهم، ومحبّتهم، وموالاتهم، والثّناء عليهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ولمّا كان هذا البيت المبارك المطهّر أشرف بيوت العالم على الإطلاق خصّهم الله سبحانه وتعالى منه بخصائص:
منها: أنّه جعل فيه النّبوّة والكتاب، فلم يأت بعد إبراهيم عليه السّلام نبيّ إلّا من أهل بيته.
ومنها: أنّه سبحانه جعلهم أئمّة يهدون بأمره إلى يوم القيامة، فكلّ من دخل الجنّة من أولياء الله بعدهم، فإنّما دخل من طريقهم وبدعوتهم.
ومنها: أنّه سبحانه اتّخذ منهم الخليلين: إبراهيم، ومحمّدا صلّى الله عليه وسلّم، وقال تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا «3» .
وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله اتّخذني خليلا كما اتّخذ إبراهيم خليلا» «4» . وهذا من خواصّ البيت.
ومنها: أنّه سبحانه جعل صاحب هذا البيت إماما للعالمين، كما قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً «5» .
ومنها: أنّه أجرى على يديه بناء بيته الّذي جعله قياما للنّاس وقبلة لهم وحجّا، فكان ظهور هذا البيت من
__________
(1) سورة الصافات: 112، 113.
(2) سورة هود: 73.
(3) سورة النساء: 125.
(4) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (9/ 5) وعزاه للطبراني وقال: وفيه يزيد الألهاني وهو ضعيف.
(5) سورة البقرة: 124.(1/602)
أهل هذا البيت الأكرمين.
ومنها: أنّه أمر عباده بأن يصلّوا على أهل البيت، كما صلّى على أهل بيتهم وسلفهم وهم إبراهيم وآله، وهذه خاصّة لهم.
ومنها: أنّه أخرج منهم الأمّتين المعظّمتين الّتي لم تخرج من أهل بيت غيرهم، وهم أمّة موسى وأمّة محمّد صلّى الله وسلّم عليهما، وأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم تمام سبعين أمّة خيرها وأكرمها على الله «1» .
ومنها: أنّ الله سبحانه أبقى عليهم لسان صدق وثناء حسنا في العالم، فلا يذكرون إلّا بالثّناء عليهم والصّلاة والسّلام عليهم، قال الله تعالى: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ* كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ «2» .
ومنها: جعل أهل هذا البيت فرقانا بين النّاس، فالسّعداء أتباعهم ومحبّوهم ومن تولّاهم، والأشقياء من أبغضهم وأعرض عنهم وعاداهم، فالجنّة لهم ولأتباعهم، والنّار لأعدائهم ومخالفيهم.
ومنها: أنّه سبحانه جعل ذكرهم مقرونا بذكره، فيقال: إبراهيم خليل الله ورسوله ونبيّه، ومحمّد رسول الله، وخليله ونبيّه، وموسى كليم الله ورسوله، قال تعالى لنبيّه يذكّره بنعمته عليه: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ «3» . قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في تفسيرها: إذا ذكرت ذكرت معي، فيقال: لا إله إلّا الله، محمّد رسول الله، في كلمة الإسلام، وفي الأذان، وفي الخطب، وفي التّشهّدات وغير ذلك.
ومنها: أنّه سبحانه جعل خلاص خلقه من شقاء الدّنيا والآخرة على أيدي أهل هذا البيت، فلهم على النّاس من النّعم ما لا يمكن إحصاؤها ولا جزاؤها، ولهم المنن الجسام في رقاب الأوّلين والآخرين من أهل السّعادة، والأيادي العظام عندهم الّتي يجازيهم عليها الله عزّ وجلّ.
ومنها: أنّ كلّ ضرّ ونفع وعمل صالح وطاعة لله تعالى حصلت في العالم، فلهم من الأجر مثل أجور عامليها، فسبحان من يختصّ بفضله من يشاء من عباده.
ومنها: أنّ الله سبحانه وتعالى سدّ جميع الطّرق بينه وبين العالمين، وأغلق دونهم الأبواب، فلم يفتح لأحد قطّ إلّا من طريقهم وبابهم.
ومنها: أنّه سبحانه خصّهم من العلم بما لم يخصّ به أهل بيت سواهم من العالمين، فلم يطرق العالم أهل بيت أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأحكامه وأفعاله وثوابه وعقابه وشرعه ومواقع رضاه وغضبه وملائكته ومخلوقاته
__________
(1) أخرجه أحمد (5/ 5) ، والترمذي (3004) عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في قوله تعالى: «كنتم خير أمة أخرجت للناس» قال: «إنكم تتمون سبعين، أنتم خيرها وأكرمها على الله» وسنده حسن.
(2) سورة الصافات: 108- 110.
(3) سورة الانشراح: 4.(1/603)
منهم، فسبحان من جمع لهم علم الأوّلين والآخرين.
ومنها: أنّه سبحانه خصّهم من توحيده ومحبّته وقربه والاختصاص به، بما لم يختصّ به أهل بيت سواهم.
ومنها: أنّه سبحانه مكّن لهم في الأرض واستخلفهم فيها، وأطاع أهل الأرض لهم ما لم يحصل لغيرهم.
ومنها: أنّه سبحانه أيّدهم ونصرهم وأظفرهم بأعدائه وأعدائهم بما لم يؤيّد غيرهم.
ومنها: أنّه سبحانه محابهم من آثار أهل الضّلال والشّرك، ومن الآثار الّتي يبغضها ويمقتها ما لم يمحه بسواهم.
ومنها: أنّه سبحانه غرس لهم من المحبّة والإجلال والتّعظيم في قلوب العالمين ما لم يغرسه لغيرهم.
ومنها: أنّه سبحانه جعل آثارهم في الأرض سببا لبقاء العالم وحفظه، فلا يزال العالم باقيا ما بقيت آثارهم، فإذا ذهبت آثارهم من الأرض، فذاك أوان خراب العالم. قال الله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ «1» . قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في تفسيرها: لو ترك النّاس كلّهم الحجّ، لوقعت السّماء على الأرض. وقال: «لو ترك النّاس كلّهم الحجّ لما نظروا. وأخبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ في آخر الزّمان يرفع الله بيته من الأرض وكلامه من المصاحف وصدور الرّجال «2» . فلا يبقى له في الأرض بيت يحجّ ولا كلام يتلى، فحينئذ يقرب خراب العالم، وهكذا النّاس اليوم إنّما قيامهم بقيام آثار نبيّهم وشرائعه بينهم، وقيام أمورهم، وحصول مصالحهم، واندفاع أنواع البلاء والشّرّ عنهم بحسب ظهورها بينهم وقيامها، وهلاكهم وعنتهم وحلول البلاء والشّرّ بهم عند تعطّلها والإعراض عنها، والتّحاكم إلى غيرها، واتّخاذ سواها.
ومن تأمّل تسليط الله سبحانه على من سلّطه على البلاد والعباد من الأعداء، علم أنّ ذلك بسبب تعطيلهم لدين نبيّهم وسننه وشرائعه، فسلّط الله عليهم من أهلكهم وانتقم منهم، حتّى إنّ البلاد الّتي لآثار الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وسننه وشرائعه فيها ظهور دفع عنها بحسب ظهور ذلك بينهم.
وهذه الخصائص وأضعاف أضعافها من آثار رحمة الله وبركاته على أهل هذا البيت، فلهذا أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نطلب له من الله تعالى أن يبارك عليه، وعلى آله، كما بارك على هذا البيت المعظّم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
__________
(1) سورة المائدة: 97.
(2) روى ابن ماجه (4049) عن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يدرس الإسلام، كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة، ولا نسك ولا صدقة، وليسري على كتاب الله عزّ وجلّ في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية ... » ، قال البوصيري في «الزوائد» إسناده صحيح، رجاله ثقات، وأخرجه الحاكم وصححه، والبيهقي في «شعب الإيمان» والضياء في «المختارة» .(1/604)
ومن بركات أهل هذا البيت، أنّه سبحانه أظهر على أيديهم من بركات الدّنيا والآخرة ما لم يظهره على يدي أهل بيت غيرهم.
ومن بركاتهم وخصائصهم أنّ الله سبحانه أعطاهم من خصائصهم ما لم يعط غيرهم، فمنهم من اتّخذه خليلا، ومنهم الذّبيح، ومنهم من كلّمه تكليما، وقرّبه نجيّا، ومنهم من آتاه شطر الحسن، وجعله من أكرم النّاس عليه، ومنهم من آتاه ملكا لم يؤته أحدا غيره، ومنهم من رفعه مكانا عليّا.
ولمّا ذكر سبحانه وتعالى هذا البيت وذرّيّته، أخبر أنّ كلّهم فضّله على العالمين.
ومن خصائصهم وبركاتهم على أهل الأرض أنّ الله سبحانه رفع العذاب العامّ عن أهل الأرض بهم وببعثهم، وكانت عادته سبحانه في أمم الأنبياء قبلهم أنّهم إذا كذّبوا أنبياءهم ورسلهم، أهلكهم بعذاب يعمّهم، كما فعل بقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، فلمّا أنزل الله سبحانه وتعالى التّوراة والإنجيل والقرآن، رفع بها العذاب العامّ عن أهل الأرض، وأمر بجهاد من كذّبهم وخالفهم، فكان ذلك نصرة لهم بأيديهم، وشفاء لصدورهم واتّخاذ الشّهداء منهم، وإهلاك عدوّهم بأيديهم، لتحصيل محابّه سبحانه على أيديهم، وحقّ لأهل بيت هذا بعض فضائلهم أن لا تزال الألسن رطبة بالصّلاة عليهم والسّلام والثّناء والتعظيم، والقلوب ممتلئة من تعظيمهم ومحبّتهم وإجلالهم، وأن يعرف المصلّي عليهم أنّه لو أنفق أنفاسه كلّها في الصّلاة عليهم ما وفّى القليل من حقّهم، فجزاهم الله عن بريّته أفضل الجزاء، وزادهم في الملأ الأعلى تعظيما وتشريفا وتكريما، وصلّى عليهم صلاة دائمة لا انقطاع لها، وسلّم تسليما.(1/605)
فصل في اختتام هذه الصّلاة بهذين الاسمين من أسماء الرّبّ سبحانه وتعالى وهما: «الحميد والمجيد»
الحميد: فعيل من الحمد، وهو بمعنى محمود، وأكثر ما يأتي فعيلا في أسمائه تعالى بمعنى فاعل، كسميع، وبصير، وعليم، وقدير، وعليّ، وحكيم، وحليم، وهو كثير، وكذلك فعول، كغفور، وشكور، وصبور.
فالحميد هو الّذي له من الصّفات وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محمودا وإن لم يحمده غيره، فهو حميد في نفسه، والمحمود من تعلّق به حمد الحامدين، وهكذا المجيد والممجّد، والكبير والمكبّر، والعظيم والمعظّم، والحمد والمجد إليهما يرجع الكمال كلّه، فإنّ الحمد يستلزم الثّناء والمحبّة للمحمود، فمن أحببته ولم تثن عليه، لم تكن حامدا له حتّى تكون مثنيا عليه محبّا له، وهذا الثّناء والحبّ تبع للأسباب المقتضية له، وهو ما عليه المحمود من صفات الكمال، ونعوت الجلال والإحسان إلى الغير، فإنّ هذه هي أسباب المحبّة، وكلّما كانت هذه الصّفات أجمع وأكمل، كان الحمد والحبّ أتمّ وأعظم، والله سبحانه له الكمال المطلق الّذي لا نقص فيه بوجه مّا، والإحسان كلّه له ومنه، فهو أحقّ بكلّ حمد، وبكلّ حبّ من كلّ جهة، فهو أهل أن يحبّ لذاته ولصفاته ولأفعاله ولأسمائه ولإحسانه، ولكلّ ما صدر منه سبحانه وتعالى.
وأمّا المجد، فهو مستلزم للعظمة والسّعة والجلال، والحمد يدلّ على صفات الإكرام، والله سبحانه وتعالى ذو الجلال والإكرام، وهذا معنى قول العبد «لا إله إلّا الله والله أكبر» فلا إله إلّا الله دالّ على ألوهيّته وتفرّده فيها، فألوهيّته تستلزم محبّته التّامّة «الله أكبر» دالّ على مجده وعظمته، وذلك يستلزم تمجيده وتعظيمه وتكبيره، ولهذا يقرن سبحانه بين هذين النّوعين في القرآن كثيرا، كقوله: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ «1» . وقوله تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً»
، فأمر بحمده وتكبيره. وقال تعالى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ «3» . وقال تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ «4» .
__________
(1) سورة هود: 73.
(2) سورة الإسراء: 111.
(3) سورة الرحمن: 78.
(4) سورة الرحمن: 27.(1/606)
وفي «المسند» و «صحيح أبي حاتم» وغيره من حديث أنس عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «ألظّوا بياذا الجلال والإكرام» «1» يعني الزموها وتعلّقوا بها، فالجلال والإكرام: هو الحمد والمجد، ونظير هذا قوله: فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ «2» . وقوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً «3» . وقوله تعالى: وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «4» . وقوله:
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ* ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ «5» . وهو كثير في القرآن. وفي الحديث الصّحيح حديث دعاء الكرب «لا إله إلّا الله العظيم الحليم، لا إله إلّا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلّا الله ربّ السّماوات وربّ الأرض وربّ العرش الكريم» «6» . فذكر هذين الاسمين «الحميد المجيد» عقيب كلّ الصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله مطابق لقوله تعالى: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ «7» .
ولمّا كانت الصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهي ثناء الله تعالى عليه وتكريمه، والتّنويه به، ورفع ذكره، وزيادة حبّه، وتقريبه، كما تقدّم، كانت مشتملة على الحمد والمجد، فكأنّ المصلّي طلب من الله تعالى أن يزيد في حمده ومجده، فإنّ الصّلاة عليه هي نوع حمد له وتمجيد، هذا حقيقتها، فذكر في هذا المطلوب الاسمين المناسبين له، وهما اسما الحميد والمجيد. فلمّا كان المطلوب للرّسول صلّى الله عليه وسلّم حمدا ومجدا بصلاة الله عليه، ختم هذا السّؤال باسمي «الحميد والمجيد» وأيضا فإنّه لمّا كان المطلوب للرّسول صلّى الله عليه وسلّم حمدا ومجدا، وكان ذلك حاصلا له، ختم ذلك بالإخبار عن ثبوت ذينك الوصفين للرّبّ بطريق الأولى، إذ كلّ كمال في العبد غير مستلزم للنّقص، فالرّبّ أحقّ به.
وأيضا فإنّه لمّا طلب للرّسول حمدا ومجدا بالصّلاة عليه، وذلك يستلزم الثّناء عليه، ختم هذا المطلوب بالثّناء على مرسله بالحمد والمجد، فيكون هذا الدّعاء متضمّنا لطلب الحمد والمجد للرّسول صلّى الله عليه وسلّم والإخبار عن ثبوته للرّبّ سبحانه وتعالى.
__________
(1) حديث صحيح بشواهد أخرجه الترمذي (3523) في الدعوات: باب (99) من حديث أنس، وأحمد في «المسند» (4/ 177) ، والحاكم (1/ 499) من حديث ربيعة بن عامر، وأخرجه الحاكم أيضا (1/ 499) من حديث أبي هريرة، وصححه ووافقه الذهبي.
(2) سورة النمل: 40.
(3) سورة النساء: 149.
(4) سورة الممتحنة: 7.
(5) سورة البروج: 14 و15.
(6) أخرجه البخاري (الفتح 11/ 6345) ومسلم (2730) .
(7) سورة هود: 73.(1/607)
الصّلاة على غير النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
أمّا سائر الأنبياء والمرسلين، فيصلّى عليهم ويسلّم، قال تعالى عن نوح- عليه السّلام-: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ* إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ «1» . وقال عن إبراهيم خليله: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ «2» . وقال في موسى وهارون: وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ «3» . وقال تعالى: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ «4» . فالّذي تركه سبحانه على رسله في الآخرين هو السّلام عليهم المذكور.
وقد قال جماعة من المفسّرين، منهم مجاهد وغيره: وتركنا عليهم في الآخرين: الثّناء الحسن، ولسان الصّدق للأنبياء كلّهم، وهذا قول قتادة أيضا ولا ينبغي أن يحكى هذا قولين للمفسّرين، كما يفعله من له عناية بحكاية الأقوال. بل هما قول واحد، فمن قال: إنّ المتروك هو السّلام عليهم في الآخرين نفسه، فلا ريب أنّ قوله: سَلامٌ عَلى نُوحٍ جملة في موضع نصب ب «تركنا» والمعنى: أنّ العالمين يسلّمون على نوح ومن بعده من الأنبياء، ومن فسّره بلسان الصّدق والثّناء الحسن، نظر إلى لازم السّلام وموجبه، وهو الثّناء عليهم وما جعل لهم من لسان الصّدق الّذي لأجله إذا ذكروا، سلّم عليهم.
وأمّا الصّلاة عليهم، فقد حكى غير واحد الإجماع على أنّ الصّلاة على جميع النّبيّين مشروعة منهم الشّيخ محيي الدّين النّوويّ- رحمه الله- وغيره، وقد حكي عن مالك رواية أنّه لا يصلّي على غير نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، ولكن قال أصحابه: هي مؤوّلة بمعنى أنّا لم نتعبّد بالصّلاة على غيره من الأنبياء، كما تعبّدنا الله بالصّلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم.
الصّلاة على آل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
وأمّا من سوى الأنبياء، فإنّ آل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلّي عليهم بغير خلاف بين الأمّة.
واختلف موجبو الصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في وجوبها على آله على قولين مشهورين لهم.
__________
(1) سورة الصافات: 78- 80.
(2) سورة الصافات: 108- 109.
(3) سورة الصافات: 119- 120.
(4) سورة الصافات: 130.(1/608)
مسألة
هل يصلّى على آله صلّى الله عليه وسلّم منفردين عنه؟ فهذه المسألة على نوعين:
أحدهما: أن يقال: «اللهمّ صلّ على آل محمّد» فهذا يجوز، ويكون صلّى الله عليه وسلّم داخلا في آله، فالإفراد عنه وقع في اللّفظ، لا في المعنى.
الثّاني: أن يفرد واحد منهم بالذّكر، فيقال: اللهمّ صلّ على عليّ، أو على حسن، أو حسين، أو فاطمة، ونحو ذلك، فاختلف في ذلك وفي الصّلاة على غير آله صلّى الله عليه وسلّم من
الصّحابة ومن بعدهم، فكره ذلك مالك، وقال: لم يكن ذلك من عمل من مضى، وهو مذهب أبي حنيفة أيضا، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثّوريّ، وبه قال طاوس.
وقال ابن عبّاس: لا ينبغي الصّلاة إلّا على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
قال إسماعيل بن إسحاق: حدّثنا عبد الله بن عبد الوهّاب قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن زياد، حدّثني عثمان بن حكيم بن عبّاد بن حنيف، عن عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قال: «لا تصلح الصّلاة على أحد إلّا على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالاستغفار» «1» .
وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز.
عن جعفر بن برقان قال: كتب عمر بن عبد العزيز: أمّا بعد، فإنّ ناسا من النّاس قد التمسوا الدّنيا بعمل الآخرة، وإنّ القصّاص قد أحدثوا في الصّلاة على خلفائهم وأمرائهم عدل صلاتهم على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإذا جاءك كتابي، فمرهم أن تكون صلاتهم على النّبيّين، ودعاؤهم للمسلمين عامّة» «2» .
وهذا مذهب أصحاب الشّافعيّ ولهم ثلاثة أوجه:
أحدها: أنّه منع تحريم.
والثّاني: وهو قول الأكثرين: أنّه منع كراهية تنزيه.
والثّالث: أنّه من باب ترك الأولى وليس بمكروه، حكاها النّوويّ في «الأذكار» قال: والصّحيح الّذي عليه الأكثرون أنّه مكروه كراهة تنزيه.
ثمّ اختلفوا في السّلام هل هو في معنى الصّلاة فيكره أن يقال: السّلام على فلان، أو قال: فلان عليه السّلام؟ فكرهه طائفة منهم أبو محمّد الجوينيّ، ومنع أن يقال: عن عليّ- عليه السّلام-، وفرّق آخرون بينه وبين
__________
(1) فضل الصلاة على النبي لإسماعيل بن إسحاق القاضي وقال محققه الشيخ ناصر الدين الألباني، إسناده صحيح ورجاله ثقات.
(2) فضل الصلاة على النبي (ص 69) وقال الألباني، إسناده مقطوع صحيح، وقال محققا جلاء الأفهام رجاله ثقات.(1/609)
الصّلاة فقالوا: السّلام يشرع في حقّ كلّ مؤمن حيّ وميّت، وحاضر وغائب، فإنّك تقول: بلّغ فلانا منّي السّلام، وهو تحيّة أهل الإسلام، بخلاف الصّلاة فإنّها من حقوق الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وآله، ولهذا يقول المصلّى:
«السّلام علينا وعلي عباد الله الصّالحين» ولا يقول: الصّلاة علينا وعلى عباد الله الصّالحين، فعلم الفرق «1» .
وفصل الخطاب في هذه المسألة: أنّ الصّلاة على غير النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إمّا أن يكون آله وأزواجه وذرّيّته أو غيرهم، فإن كان الأوّل فالصّلاة عليهم مشروعة مع الصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجائزة مفردة.
وأمّا الثّاني: فإن كان الملائكة وأهل الطّاعة عموما الّذين يدخل فيهم الأنبياء وغيرهم، جاز ذلك أيضا، فيقال: اللهمّ صلّ على ملائكتك المقرّبين وأهل طاعتك أجمعين، وإن كان شخصا معيّنا، أو طائفة معيّنة كره أن يتّخذ الصّلاة عليه شعارا لا يخلّ به. ولو قيل بتحريمه، لكان له وجه، لا سيّما إذا جعلها شعارا له، ومنع منها نظيره، أو من هو خير منه، وهذا كما تفعل الرّافضة بعليّ- رضي الله عنه- فإنّهم حيث ذكروه قالوا: عليه الصّلاة والسّلام، ولا يقولون ذلك فيمن هو خير منه، فهذا ممنوع لا سيّما إذا اتّخذ شعارا لا يخلّ به، فتركه حينئذ متعيّن، وأمّا إن صلّى أحيانا بحيث لا يجعل ذلك شعارا كما يصلّي على دافع الزّكاة، وكما قال ابن عمر للميّت: «صلّى الله عليه» . وكما صلّى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على المرأة وزوجها، وكما روي عن عليّ من صلاته على عمر فهذا لا بأس به. وبهذا التّفصيل تتّفق الأدلّة وينكشف وجه الصّواب. والله الموفّق.
__________
(1) ساق المؤلف- رحمه الله- عقب هذا الكلام أدلة القائلين بعدم جواز الصلاة على غير النبي صلّى الله عليه وسلّم وآله وأدلة من يقول بالجواز. ثم ختم ذلك بقوله: «وفصل الخطاب..» .(1/610)
المجلد الثانى
[حرف الألف]
الابتهال
الابتهال لغة:
من بهل الّتي تدلّ بحسب وضع اللّغة على ثلاثة معان: أحدها: التّخلية، والثّاني جنس من الدّعاء، والثّالث: قلّة في الماء، وقد أخذ الابتهال من البهل بمعناه الثّاني، يقول ابن فارس: وأمّا الآخر (أي المعنى الثّاني) فالابتهال: التّضرّع إلى الله، والمباهلة يرجع إلى هذا؛ فإنّ المتباهلين يدعو كلّ واحد منهما على صاحبه، والبهل: اللّعن، وفي حديث ابن الصّبغاء قال: الّذي بهله بريق، أي الّذي لعنه ودعا عليه رجل اسمه بريق. والبهل والابتهال في الدّعاء:
الاسترسال فيه والتّضرّع «1» . وبهله الله بهلا: لعنه.
وعليه بهلة الله وبهلته أي لعنته. وفي حديث أبي بكر: «من ولي من أمور النّاس شيئا فلم يعطهم كتاب الله فعليه بهلة الله» أي لعنة الله، وتضمّ باؤها وتفتح. وباهل القوم بعضهم بعضا، وتباهلوا وابتهلوا: تلاعنوا. والمباهلة: الملاعنة، باهلت فلانا أي لاعنته، وقد عقد الفقهاء لذلك بابا أسموه الملاعنة لقوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
1/ 11/ 9
الصَّادِقِينَ* وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (النور/ 6- 7) ومعنى المباهلة: يقال: أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظّالم منّا، وفي حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما: من شاء باهلته أنّ الحقّ معي. وابتهل في الدّعاء إذا اجتهد، ومبتهل أي مجتهد في الدّعاء، والابتهال:
التّضرّع، والابتهال: الاجتهاد في الدّعاء وإخلاصه لله عزّ وجلّ- وفي التّنزيل العزيز: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (آل عمران/ 61) «2» أي يخلص ويجتهد كلّ منّا في الدّعاء واللّعن على الكاذب منّا. وقال قوم: المبتهل: معناه في كلام العرب المسبّح الذّاكر لله، واحتجّوا بقول نابغة شيبان:
أقطع اللّيل آهة وانتحابا ... وابتهالا لله أيّ ابتهال
وقال قوم: المبتهل الدّاعي، وقيل في قوله تعالى ثُمَّ نَبْتَهِلْ ثمّ نلتعن.
ويقال: ماله؟ بهله الله. أي لعنه الله، وماله؟
__________
(1) المفردات في غريب القرآن (63) .
(2) انظر في السياق الذي وردت فيه هذه الآية: الأحاديث والآثار المذكورة في هذه الصفة.(2/1)
عليه بهلة الله. يريد اللّعن.
وفي حديث الدّعاء: والابتهال أن تمدّ يديك جميعا، وأصله التّضرّع والمبالغة في السّؤال «1» .
واصطلاحا:
الابتهال أن تمدّ يديك إلى الله بالدّعاء مخلصا متضرّعا «2» .
[للاستزادة: انظر صفات: الاستخارة، الاستعانة، الدعاء، الضراعة، الاستغاثة.
وفي ضد ذلك انظر صفات: الإصرار على الذنب، الإعراض، التفريط والإفراط، اليأس، والقنوط] .
الآيات الواردة في (الابتهال)
1- الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) «3»
__________
(1) لسان العرب (11/ 72) ، ومختار الصحاح (67) ، ومقاييس اللغة (1/ 310) . وانظر أيضا تفسير الطبري (3/ 211) . وقال لبيد وذكر قوما هلكوا: «نظر الدّهر إليهم فابتهل» . يعني دعا عليهم بالهلاك.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 167) .
(3) آل عمران: 60- 61 مدنية(2/2)
الأحاديث الواردة في (الابتهال)
1-* (عن أبي القموص زيد بن عديّ قال:
حدّثني أحد الوفد الّذين وفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عبد القيس قال: وأهدينا له فيما يهدى موطا أو قربة من تعضوض أو برنيّ «1» ، فقال: «ما هذا؟» ، فقلنا: هذه هديّة، قال: وأحسبه نظر إلى تمرة منها فأعادها مكانها، وقال: «أبلغوها آل محمّد» قال:
فسأله القوم عن أشياء، حتّى سألوه عن الشّراب.
فقال: «لا تشربوا في دبّاء «2» ولا حنتم «3» ولا نقير «4» ولا مزفّت «5» ، اشربوا في الحلال الموكى عليه» ، فقال له قائلنا: يا رسول الله! وما يدريك ما الدّبّاء والحنتم والنّقير والمزفّت؟ قال: «أنا لا أدري ما هيه. أيّ هجر «6» أعزّ؟» ، قلنا: المشقّر «7» قال: فوالله لقد دخلتها وأخذت إقليدها «8» قال: وكنت قد نسيت من حديثه شيئا فأذكرنيه عبيد الله بن أبي جروة، قال: وقفت على عين الزّارة، ثمّ قال: «اللهمّ اغفر لعبد القيس إذ أسلموا طائعين غير كارهين، غير خزايا ولا موتورين» . إذ بعض قومنا لا يسلمون حتّى يخزوا ويوتروا، وقال: وابتهل ووجهه ههنا من القبلة- يعني عن يمين القبلة- حتّى استقبل القبلة ثمّ يدعو لعبد القيس، ثمّ قال «إنّ خير خير أهل المشرق عبد القيس» ) * «9» .
الأحاديث الواردة في (الابتهال) معنى
2-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- أنّه قال: أوّل ما اتّخذ النّساء المنطق «10» من قبل أمّ إسماعيل، اتّخذت منطقا لتعفّي أثرها على سارة، ثمّ جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل- وهي ترضعه- حتّى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكّة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثمّ قفّى إبراهيم منطلقا، فتبعته أمّ إسماعيل فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الّذي ليس فيه إنس ولا شيء؟، فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت له:
آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا
__________
(1) التعضوض والبرني: نوعان من أنواع التمر.
(2) الدّبّاء: هو القرع والمراد اليابس منه.
(3) الحنتم: هي جرار حمر أو خضر كانت تحمل فيها الخمر إلى المدينة ثم اتسع فيها فقيل للخزف كله حنتم واحدتها حنتمة ونهى عن الانتباذ فيها لأنها تسرع الشدة فيها لأجل دهنها..
(4) النقير: أصل النخلة ينقر فيتخذ منه وعاء، وفي رواية «المقيّر» وهو ما طلي بالقار.
(5) المزفت: ما طلي بالزفت.
(6) هجر: اسم لجميع أرض البحرين.
(7) المشقّر: حصن قديم بالبحرين.
(8) الإقليد هنا يراد به المفتاح.
(9) أحمد (4/ 206) . وأصله عند البخاري ومسلم. وبعضه عند أبي داود رقم (3695) .
(10) المنطق: بكسر الميم وسكون النون وفتح الطاء هو ما يشدّ به الوسط.(2/3)
يضيّعنا»
. ثمّ رجعت. فانطلق إبراهيم حتّى إذا كان عند الثّنيّة حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت ثمّ دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ.. حتّى بلغ يَشْكُرُونَ.. الحديث) * «2» .
3-* (عن أنس- رضي الله عنه- قال:
«رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرفع يديه في الدّعاء، حتّى يرى بياض إبطيه» ) * «3» .
4-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- أنّ ضرار بن الأزور- رضي الله عنه- لمّا أسلم أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأنشأ يقول:
تركت القداح وعزف القيا ... ن والخمر تصلية وابتهالا
وكرّى «4» المحبّر «5» في غمرة ... وجهدي على المسلمين القتالا
وقالت جميلة: بدّرتنا ... وطرحت أهلك شتّى شمالا
فيا ربّ لا أغبنن صفقتي ... فقد بعت أهلي ومالي بدالا
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما غبنت صفقتك «6» يا ضرار» ) * «7» .
5-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «هذا الإخلاص» يشير بإصبعه الّتي تلي الإبهام، «وهذا الدّعاء» فرفع يديه حذو منكبيه، وهذا الابتهال فرفع يديه مدّا) * «8» .
6-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- أنّ وفد نجران من النّصارى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم السّيّد،- وهو الكبير-، والعاقب- وهو الّذي يكون بعده، وصاحب رأيهم- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهما: أسلما.
قالا: أسلمنا، قال: «ما أسلمتما. قالا: بلى. قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما يمنعكم من الإسلام ثلاث فيكما:
عبادتكما الصّليب، وأكلكما الخنزير، وزعمكما أنّ لله ولدا. ونزل إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ.. (الآية) . فلمّا قرأها عليهم قالوا: ما نعرف ما تقول: ونزل فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ يقول: من جادلك في أمر عيسى من بعد ما جاءك من العلم من القرآن فَقُلْ تَعالَوْا إلى قوله ثُمَّ نَبْتَهِلْ يقول: نجتهد في الدّعاء أنّ الّذي جاء به محمّد هو الحقّ، وأنّ الّذي يقولون هو الباطل، فقال لهم: «إنّ الله قد أمرنا إن لم تقبلوا هذا أن أباهلكم» فقالوا: يا أبا القاسم! بل نرجع فننظر في أمرنا، ثمّ نأتيك فخلا
__________
(1) إذن لا يضيعنا: وردت بالرفع في فتح الباري، وبالنصب كما في عمدة القاري. للإمام بدر الدين العيني.
(2) البخاري- الفتح 6 (3364) .
(3) مسلم (895) .
(4) كرّي: أي إجرائي الفرس واندفاعي به.
(5) المحبر: فرس لضرار بن الأزور.
(6) الصفقة: هي ما يبادل به الإنسان شيئا في بيع أو شراء، والمراد هنا مبادلة الإسلام بالكفر.
(7) الحاكم في المستدرك (3/ 238) واللفظ له، وصححه، ووافقه الذهبي، ورواه الطبراني في الكبير (8/ 43) ، وروى نحوه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائده على أحمد (4/ 76) وفيه (أي في رواية المسند) محمد بن سعيد الباهلي وهو متروك كما في مجمع الزوائد (8/ 171) ، وتعجيل المنفعة (240) ، وللحديث طريق أخرى يقوى بها ذكرها ابن حجر في الإصابة وعزاها إلى البغوي وابن شاهين..
(8) سنن أبي داود (2/ 79) (1490) .(2/4)
بعضهم ببعض، وتصادقوا فيها بينهم، قال السّيّد للعاقب: قد والله علمتم أنّ الرّجل نبيّ مرسل، ولئن لا عنتموه إنّه ليستأصلكم، وما لا عن قوم قطّ نبيّا فبقي كبيرهم، ولا نبت صغيرهم فإن أنتم لم تتّبعوه وأبيتم إلّا إلف دينكم فوادعوه وارجعوا إلى بلادكم، وقد كان رسول الله خرج ومعه عليّ، والحسن، والحسين، وفاطمة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن أنا دعوت فأمّنوا أنتم.
فأبوا أن يلاعنوه، وصالحوه على الجزية) * «1» .
المثل التطبيقي من حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم في (الابتهال)
7-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّ رجلا دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء «2» ، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائما، ثمّ قال: يا رسول الله هلكت الأموال «3» وانقطعت السّبل «4» فادع الله يغثنا «5» .
قال: فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديه، ثمّ قال: «اللهمّ أغثنا، اللهم أغثنا، اللهمّ أغثنا» . قال أنس: ولا والله ما نرى في السّماء من سحاب ولا قزعة «6» .
وما بيننا وبين سلع «7» من بيت ولا دار. قال:
فطلعت من ورائه سحابة مثل التّرس «8» ، فلمّا توسّطت السّماء انتشرت، ثمّ أمطرت. قال: فلا والله ما رأينا الشّمس سبتا «9» . قال: ثمّ دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم يخطب. فاستقبله قائما، فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال وانقطعت السّبل «10» ، فادع الله يمسكها عنّا. قال: فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديه، ثمّ قال
__________
(1) سيرة ابن هشام (2/ 215- 216) ، والدر المنثور (2/ 231، 233) ، وأصله عند البخاري 8 (4380) ، وأسباب النزول للواحدي (ص 90) .
(2) من باب كان نحو دار القضاء: أي في جهتها، وهي دار كانت لسيدنا عمر، وقال القاضي عياض: سميت دار القضاء لأنها بيعت في قضاء دين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي كتبه على نفسه، وأوصى ابنه عبد الله أن يباع فيه ماله؛ فإن عجز ماله استعان ببني عدي ثم بقريش، فباع ابنه داره هذه لمعاوية، وقضى دينه.
(3) هلكت الأموال: المراد بالأموال هنا، المواشي، خصوصا الإبل، وهلاكها من قلة الأقوات بسبب عدم المطر والنبات.
(4) وانقطعت السبل: أي الطرق فلم تسلكها الإبل، إما لخوف الهلاك، أو الضعف بسبب قلة الكلأ أو عدمه.
(5) فادع الله يغثنا، وقوله صلّى الله عليه وسلّم «اللهم أغثنا» هكذا هو في جميع النسخ أغثنا بالألف، ويغثنا، بضم الياء، من أغاث يغيث، رباعي، والمشهور في كتب اللغة أنه إنما يقال في المطر: غاث الله الناس والأرض، يغيثهم بفتح الياء. أي أنزل المطر، قال القاضي عياض: قال بعضهم: هذا المذكور في الحديث من الإغاثة، بمعنى المعونة، وليس من طلب الغيث. إنما يقال في طلب الغيث: اللهم غثنا، قال القاضي: ويحتمل أن يكون من طلب الغيث، أي هب لنا غيثا، وارزقنا غيثا، كما يقال: سقاه الله وأسقاه، أي جعل له سقيا، على لغة من فرق بينهما.
(6) ولا قزعة: هي القطعة من السحاب، وجمعها قزع، كقصبة وقصب، قال أبو عبيد: وأكثر ما يكون ذلك في الخريف.
(7) سلع: هو جبل بقرب المدينة، أي ليس بيننا وبينه من حائل يمنعنا من رؤية سبب المطر، فنحن مشاهدون له وللسماء، وقال الإمام النووي: ومراده بهذا الإخبار عن معجزة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعظيم كرامته على ربه سبحانه وتعالى، بإنزال المطر سبعة أيام متوالية متصلا بسؤاله، من غير تقديم سحاب ولا قزع ولا سبب آخر، لا ظاهر ولا باطن.
(8) مثل الترس: الترس هو ما يتقى به السيف، ووجه الشبه الاستدارة والكثافة لا القدر.
(9) سبتا: أي قطعة من الزمان، وأصل السبت القطع.
(10) هلكت الأموال وانقطعت السبل: هلاك الأموال وانقطاع السبل هذه المرة، من كثرة الأمطار، لتعذر الرعي والسلوك.(2/5)
«اللهمّ حولنا «1» ، ولا علينا، اللهمّ على الآكام «2» ، والظّراب «3» ، وبطون الأودية، ومنابت الشّجر» فانقلعت «4» ، وخرجنا نمشي في الشّمس، قال شريك: فسألت أنس بن مالك: أهو الرّجل الأوّل؟ قال: لا أدري) * «5» .
8-* (عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تلا قول الله عزّ وجلّ- في إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي (إبراهيم/ 36) ، وقال عيسى عليه السّلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (المائدة/ 118) ، فرفع يديه وقال: «اللهمّ! أمّتي أمّتي» وبكى، فقال الله عزّ وجلّ: «يا جبريل! اذهب إلى محمّد- وربّك أعلم- فسله ما يبكيك؟» فأتاه جبريل عليه الصّلاة والسّلام فسأله. فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما قال. وهو أعلم، فقال الله: «يا جبريل، اذهب إلى محمّد فقل: «إنّا سنرضيك في أمّتك ولا نسوءك» ) * «6» .
9-* (عن عائشة زوج النّبي صلّى الله عليه وسلّم قالت:
خسفت الشّمس في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى المسجد. فقام وكبّر وصفّ النّاس «7» وراءه، فاقترأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قراءة طويلة، ثمّ كبّر فركع ركوعا طويلا، ثمّ رفع رأسه فقال: «سمع الله لمن حمده، ربّنا! ولك الحمد» ثمّ قام فاقترأ قراءة طويلة، هي أدنى من القراءة الأولى، ثمّ كبّر فركع ركوعا طويلا، هو أدنى من الرّكوع الأوّل، ثمّ قال: «سمع الله لمن حمده، ربّنا! ولك الحمد» ، ثمّ سجد (ولم يذكر أبو الطّاهر: ثمّ سجد) ثمّ فعل في الّركعة الأخرى مثل ذلك. حتّى استكمل أربع ركعات، وأربع سجدات، وانجلت الشّمس، قبل أن ينصرف، ثمّ قام فخطب النّاس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثمّ قال!: «إنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصّلاة» ... الحديث) * «8» .
10-* (عن أبي موسى- رضي الله عنه- قال: «لمّا فرغ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من حنين بعث أبا عامر على
__________
(1) حولنا: وفي بعض النسخ حوالينا، وهما صحيحان.
(2) الآكام: قال في المصباح: الأكمة تل، والجمع أكم وأكمات، مثل قصبة وقصب وقصبات، وجمع الأكم إكام، مثل جبل وجبال، وجمع الإكام أكم، مثل كتاب وكتب، وجمع الأكم آكام، مثل عنق وأعناق. وقال النووي: قال أهل اللغة: الإكام، بكسر الهمزة، جمع أكمة، ويقال في جمعها: آكام، ويقال: أكم وأكم، وهي دون الجبل، وأعلى من الرابية، وقيل: دون الرابية.
(3) والظراب: واحدها ظرب، وهي الروابي الصغار.
(4) فانقلعت: ولفظ البخاري: فأقلعت، وهو لغة القرآن، أي أمسكت السحابة الماطرة عن المدينة الطاهرة، وفي نسخة النووي: فانقطعت. قال: هكذا هو في بعض النسخ المعتمدة، وفي أكثرها: فانقلعت، وهما بمعنى.
(5) البخاري- الفتح 2 (1013) ، مسلم (897) واللفظ له.
(6) مسلم (202) .
(7) وصفّ الناس: بالبناء للمجهول ورفع الناس أي صاروا صفّا ويجوز فيها البناء للمعلوم، والناس بالنصب مفعول به والفاعل محذوف والمراد به النبي صلّى الله عليه وسلّم قاله ابن حجر في الفتح.
(8) البخاري- الفتح 2 (1046) ، مسلم (901) واللفظ له.(2/6)
جيش إلى أوطاس «1» ، فلقي دريد بن الصّمّة، فقتل دريد، وهزم الله أصحابه، قال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر، فرمي أبو عامر في ركبته، رماه جشميّ «2» بسهم فأثبته في ركبته فانتهيت إليه. فقلت: يا عمّ! من رماك؟ فأشار إلى أبي موسى، فقال: ذاك قاتلي الّذي رماني، فقصدت له، فلحقته، فلمّا رآني ولّى، فاتّبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألا تثبت؟ فكفّ، فاختلفنا ضربتين بالسّيف فقتلته، ثمّ قلت لأبي عامر:
قتل الله صاحبك، قال: فانزع هذا السّهم، فنزعته فنزل منه الماء، قال: يا ابن أخي، أقريء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم السّلام، وقل له: استغفر لي. واستخلفني أبو عامر على النّاس، فمكث يسيرا ثمّ مات، فرجعت، فدخلت على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بيته على سرير مرمّل «3» ، وعليه فراش قد أثّر رمال السّرير بظهره وجنبيه، فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر. وقال: قل له: استغفر لي، فدعا بماء فتوضّأ، ثمّ رفع يديه فقال: «اللهمّ اغفر لعبيد أبي عامر» ، ورأيت بياض إبطيه. ثمّ قال:
«اللهمّ اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من النّاس» ، فقلت: ولي فاستغفر. فقال: «اللهمّ اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما» . قال أبو بردة: إحداهما لأبي عامر والأخرى لأبي موسى) * «4» .
11-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: حدّثني عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- قال:
لمّا كان يوم بدر «5» ، نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم القبلة، ثمّ مدّ يديه فجعل يهتف بربّه «6» : «اللهمّ! أنجز لي ما وعدتني، اللهمّ! آت ما وعدتني. اللهمّ! إن تهلك»
هذه العصابة «8» من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض» فما زال يهتف بربّه، مادّا يديه، مستقبل القبلة، حتّى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثمّ التزمه من ورائه، وقال: يا نبيّ الله! كذاك منا شدتك ربّك «9» ، فإنّه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عزّ وجلّ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ «10» بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ «11» (الأنفال/ 9) . فأمدّه الله بالملائكة) * «12» .
__________
(1) أوطاس: واد في دار هوازن، وهو موضع حرب حنين.
(2) جشمي: أي رجل من بني جشم.
(3) سرير مرمل: أي معمول بالرمال وهي حبال الحصر التي تضفر بها الأسرّة.
(4) البخاري- الفتح 7 (4323) واللفظ له، مسلم (2498) .
(5) لما كان يوم بدر: بدر موضع الغزوة العظمى المشهورة، وهو ماء معروف وقرية عامرة على نحو أربع مراحل من المدينة، بينها وبين مكة، قال ابن قتيبة: بدر بئر كانت لرجل يسمى بدرا، فسميت باسمه، وكانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة.
(6) فجعل يهتف بربه: معناه يصيح ويسغيث بالله بالدعاء.
(7) إن تهلك: ضبطوا تهلك بفتح التاء وضمها، فعلى الأول ترفع العصابة لأنها فاعل، وعلى الثاني تنصب وتكون مفعوله.
(8) العصابة: الجماعة.
(9) كذالك منا شدتك ربك: المناشدة السؤال، مأخوذة من النشيد وهو رفع الصوت، هكذا وقع لجماهير رواة مسلم، ولبعضهم: كفاك، وكلّ بمعنى واحد.
(10) ممدّكم: أي معينكم، من الإمداد.
(11) مردفين: متتابعين.
(12) البخاري- الفتح 7 (3953) مختصرا، مسلم (1763) واللفظ له.(2/7)
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في (الابتهال)
1-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال:
«المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك، أو نحوهما، والاستغفار: أن تشير بأصبع واحدة. والابتهال: أن تمدّ يديك جميعا» ) * «1» .
2-* (عن عبّاس بن عبد الله بن معبد بن عبّاس- بهذا الحديث- قال فيه: «والابتهال هكذا، ورفع يديه، وجعل ظهورهما ممّا يلي وجهه» ) * «2» .
3-* (قال الطّبريّ في تفسير قوله تعالى:
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ.. إلى قوله تعالى: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (آل عمران/ 61) . قال أبو جعفر الطّبريّ يعني بقوله جلّ ثناؤه: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أي فمن جادلك يا محمّد في المسيح عيسى ابن مريم، ويعني بقوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ الّذي بيّنته لك في عيسى أنّه عبد الله، وقوله سبحانه:
ثُمَّ نَبْتَهِلْ تقول ثمّ نلتعن، فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ منّا ومنكم في أنّه عيسى- عليه السّلام-) * «3» .
4-* (عن قتادة في قوله سبحانه ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ أي في عيسى عليه السّلام: أنّه عبد الله ورسوله، من كلمة الله وروحه) «4» .
5-* (قال ابن زيد: في قوله تعالى ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ قال: منّا ومنكم) * «5» .
6-* (عن قيس بن سعد قال: كان بين ابن عبّاس وبين آخر شيء فقرأ هذه الآية: تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فرفع يديه واستقبل الرّكن) * «6» .
7-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما-:
«أنّ ثمانية من أساقف العرب من أهل نجران قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهم العاقب، والسّيّد، فأنزل الله:
فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا إلى قوله: ثُمَّ نَبْتَهِلْ يريد ندع الله باللّعنة على الكاذب. فقالوا: أخّرنا ثلاثة أيّام، فذهبوا إلى بني قريظة، والنّضير، وبني قينقاع، فاستشاروهم. فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه، وهو النّبيّ الّذي نجده في التّوراة فصالحوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على ألف حلّة في صفر وألف في رجب، ودراهم) * «7» .
8-* (قال الإمام البغويّ في تفسير قوله
__________
(1) أبو داود (1489) ، وقال الألباني (1/ 1321) : صحيح. صحيح سنن أبي داود. وقال محقق جامع الأصول 4/ 148: وهو حديث حسن.
(2) المصدر السابق (1490) .
(3) تفسير الطبري (3/ 96) .
(4) المصدر السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(5) الدر المنثور (2/ 233) .
(6) المصدر السابق (2/ 232، 233) .
(7) المصدر السابق (2/ 232) .(2/8)
تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً ... :
أي تتضرّع إليّ وتخاف منّي.
وقال مجاهد وابن جريج: «أمر أن يذكروه في الصّدور بالتّضرّع إليه والدّعاء والاستكانة» ) * «1» .
9-* (قال ابن الأثير- رحمه الله: «الابتهال:
التّضرّع والمبالغة في المسألة» ) * «2» .
من فوائد (الابتهال)
(1) حبّ الله تعالى والإلحاح عليه بالسّؤال والالتجاء إليه في الكرب والضّيق وعند شدّة اليأس.
(2) تعلّق المسلم بربّه في قضاء حوائجه.
(3) فيه راحة للنّفس ونقاء للقلب.
(4) استجابة الله- عزّ وجلّ- دعاء المسلم وابتهاله ما لم يكن يدعو بجور أو ظلم.
(5) الدّعاء يكون في كلّ الأحوال، والابتهال غالبا ما يكون وقت الشّدّة.
(6) أنّ الابتهال إلى الله برفع اليدين في الدّعاء دليل على شدّة إخلاص الدّاعي ووثوقه من إجابة المولى عزّ وجلّ- له.
(7) الابتهال إلى الله تعقبه الإجابة السّريعة من الله- عزّ وجلّ- على وفق مراد الله- عزّ وجلّ-.
(8) أنّ الابتهال يكون للنّفس وللغير ويستحبّ أن يسبقه وضوء.
(9) أنّ الابتهال يفرّج الكرب ويزيح الغمّة.
(10) الابتهال مجلبة لنصر الله ووسيلة لدحر العدوّ.
(11) الابتهال يرفع الرّوح المعنويّة للمقاتلين خاصّة إذا كان القائد المبتهل قريبا من الله وواثقا من نصره.
__________
(1) تفسير البغوي (مج 2، ج 9، 226) .
(2) جامع الأصول (4/ 148) .(2/9)
الاتباع
الاتباع لغة:
مصدر اتّبع المأخوذ من مادّة (ت ب ع) ، وتدلّ هذه المادّة على التّلوّ والقفو، يقال: تبعت القوم تبعا، وتباعة بالفتح، إذا مشيت خلفهم أو مرّوا بك فمضيت معهم، وتبعت الشّيء: سرت في أثره، والتّابع: التّالي، والجمع تبّع وتبّاع وتبعة. والتّبع اسم للجمع.
وقال أبو عبيد: أتبعت القوم إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم.
وقال الفرّاء: أتبع أحسن من اتّبع؛ لأنّ الاتّباع أن يسير الرّجل وأنت تسير وراءه. فإذا قلت أتبعته فكأنّك قفوته..
واتّبع القرآن: ائتمّ به وعمل بما فيه، وفي حديث أبي موسى الأشعريّ- رضي الله عنه-: «إنّ هذا القرآن كائن لكم أجرا وكائن عليكم وزرا، فاتّبعوا القرآن ولا يتّبعنّكم القرآن، فإنّه من يتّبع القرآن يهبط به على رياض الجنّة، ومن يتّبعه القرآن يزخّ في قفاه حتّى يقذف به في نار جهنّم» يقول: اجعلوه أمامكم ثمّ اتلوه كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أي يتّبعونه حقّ اتّباعه، وأراد لا تدعوا تلاوته والعمل به فتكونوا قد جعلتموه وراءكم.
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
56/ 35/ 48
وتابع بين الأمور متابعة وتباعا: واتر، ووالى.
وتابع عمله وكلامه: أتقنه وأحكمه، ومنه حديث أبي واقد اللّيثيّ: تابعنا الأعمال فلم نجد شيئا أبلغ في طلب الآخرة من الزّهد في الدّنيا، أي أحكمناها وعرفناها. ويقال: تابع فلان كلامه، وهو تبيع للكلام إذا أحكمه، ويقال: هو يتابع الحديث إذا كان يسرده، وقيل: فلان متتابع العلم إذا كان علمه يشاكل بعضه بعضا لا تفاوت فيه «1» .
والاتّباع في الأصل: اقتفاء أثر الماشي، ثمّ استعمل في العمل بمثل عمل الغير، كما في قوله:
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ ثمّ استعمل في امتثال الأمر، والعمل بما يأمر به المتبوع فهو الائتمار «2» .
واصطلاحا:
قال الإمام أحمد- رحمه الله تعالى-: هو أن يتّبع الرّجل ما جاء عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعن أصحابه، ثمّ هو من بعد في التّابعين مخيّر.
وقال ابن عبد البرّ- رحمه الله تعالى-: الاتّباع ما ثبت عليه الحجّة، وهو اتّباع كلّ من أوجب عليك الدّليل اتّباع قوله. فالرّسول صلّى الله عليه وسلّم هو المثل الأعلى في اتّباع ما أمر به «3» .
قال الشّافعيّ- رحمه الله تعالى-: باب ما
__________
(1) لسان العرب لابن منظور (1/ 416، 419) ، وانظر الصحاح (3/ 1190) ، ومقاييس اللغة (1/ 362) .
(2) تفسير التحرير والتنوير (7/ 423) .
(3) أضواء البيان للشنقيطي (7/ 548) .(2/10)
أبان الله لخلقه من فرضه على رسوله اتّباع ما أوحي إليه وما شهد له به من اتّباع ما أمر به، وأنّه صلّى الله عليه وسلّم هاد لمن اتّبعه. ثمّ ساق الآيات الدّالّة على هذه المعاني ومنها قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً* وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (الأحزاب/ 1، 2) . وقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (الجاثية/ 18) ثمّ قال- رحمه الله تعالى-:
وما سنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما ليس لله فيه حكم فبحكم الله سنّة، وكذلك أخبرنا الله في قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* صِراطِ اللَّهِ. وقد سنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع كتاب الله، وسنّ فيما ليس فيه بعينه نصّ كتاب، وكلّ ما سنّ فقد ألزمنا الله اتّباعه، وجعل في اتّباعه طاعته، وفي العنود «1» عن اتّباعه معصيته الّتي لم يعذر بها خلقا، ولم يجعل له من اتّباع سنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مخرجا للآيات المذكورة. ولقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ألفينّ أحدكم متّكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري، ممّا أمرت به أو نهيت عنه، فيقول لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه» ، وسنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع كتاب الله وجهان: أحدهما نصّ كتاب، فاتّبعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما أنزله الله، والآخر جملة بيّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه عن الله معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرضها عامّا أو خاصّا، وكيف أراد أن يأتي به العباد. وكلاهما اتّبع فيه كتاب الله.
فلم أعلم من أهل العلم مخالفا في أنّ سنن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا منها على وجهين: أحدهما ما أنزل الله فيه نصّ كتاب فبيّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل ما نصّ الكتاب. والآخر ممّا أنزل الله فيه جملة كتاب، فبيّن عن الله معنى ما أراد. وهذان الوجهان اللّذان لم يختلفوا فيهما.
والوجه الثّالث (المختلف فيه) ما سنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما ليس فيه نصّ كتاب. فمنهم من قال:
جعل الله له بما افترض من طاعته وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن يسنّ فيما ليس فيه نصّ كتاب.
ومنهم من قال: لم يسنّ سنّة قطّ إلّا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سنّته لتبيين عدد الصّلاة وعملها على أصل جملة فرض الصّلاة، وكذلك ما سنّ من البيوع وغيرها من الشّرائع؛ لأنّ الله قال: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ* (النساء/ 29) وقال:
وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا (البقرة/ 275) ما أحلّ وحرّم فإنّما بيّن فيه عن الله كما بيّن الصّلاة.
ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله فأثبتت سنّته بفرض الله.
ومنهم من قال: ألقي في روعه «2» كلّ ما سنّ (وسنّته الحكمة) : الّذي ألقي في روعه عن الله، فكان ما ألقي في روعه سنّته.
وأيّ هذا كان، فقد بيّن الله أنّه فرض فيه طاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يجعل لأحد من خلقه عذرا بخلاف
__________
(1) العنود: العتو والطغيان أو الميل والانحراف.
(2) الرّوع: بضم الراء بعدها واو ساكنة القلب والعقل.(2/11)
أمر عرفه من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن قد جعل الله بالنّاس كلّهم الحاجة إليه في دينهم، وأقام عليهم حجّته بما دلّهم عليه من سنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاني ما أراد الله بفرائضه في كتابه، ليعلم من عرف منها ما وصفنا أنّ سنّته صلّى الله عليه وسلّم إذا كانت سنّة مبيّنة عن الله معنى ما أراد من مفروضه فيما فيه كتاب يتلونه، وفيما ليس فيه نصّ كتاب سنّة أخرى فهي كذلك لا يختلف حكم الله ثمّ حكم رسوله، بل هو لازم بكلّ حال «1» .
وقال الشّاطبيّ- رحمه الله تعالى-: الكتاب (أي القرآن) هو المتّبع على الحقيقة، ومراتب النّاس بحسب اتّباعهم له. إنّ الله تعالى وضع هذه الشّريعة حجّة على الخلق كبيرهم وصغيرهم، مطيعهم وعاصيهم، برّهم وفاجرهم. لم يختصّ بها أحدا دون أحد، وكذلك سائر الشّرائع إنمّا وضعت لتكون حجّة على جميع الأمم الّتي تنزّل فيهم تلك الشّرائع، حتّى إنّ المرسلين بها صلوات الله عليهم داخلون تحت أحكامها.
فأنت ترى أنّ نبيّنا محمّدا صلّى الله عليه وسلّم مخاطب بها في جميع أحواله وتقلّباته ممّا اختصّ به دون أمّته، أو كان عامّا له ولأمّته- فالشّريعة هي الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه وعلى جميع المكلّفين، وهي الطّريق الموصّل والهادي الأعظم. ألا ترى إلى قوله تعالى:
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا (الشورى/ 52) . فهو عليه الصّلاة والسّلام أوّل من هداه الله بالكتاب والإيمان، ثمّ من اتّبعه فيه، والكتاب هو الهادي، والوحي المنزّل عليه مرشد ومبيّن لذلك الهدى، والخلق مهتدون بالجميع. ولمّا استنار قلبه وجوارحه عليه الصّلاة والسّلام وباطنه وظاهره بنور الحقّ علما وعملا، صار هو الهادي الأوّل لهذه الأمّة والمرشد الأعظم، حيث خصّه الله تعالى دون الخلق بإنزال ذلك النّور عليه، واصطفاه من جملة من كان مثله في الخلقة البشريّة اصطفاء أوّليّا من جهة اختصاصه بالوحي الّذي استنار به قلبه وجوارحه فصار خلقه القرآن، حتّى قال الله فيه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وذلك لأنّه حكّم الوحي على نفسه حتّى صار في علمه وعمله على وفقه واقفا عند حكمه، فقد جاء بالأمر وهو به مؤتمر، وبالنّهي وهو منته وبالوعظ وهو متّعظ، وبالتّخويف وهو أوّل الخائفين، وبالتّرجية وهو سائق دابّة الرّاجين، وقد صارت الشّريعة المنزّلة عليه حجّة حاكمة عليه، ودلالة على الصّراط المستقيم الّذي سار عليه، فإذا كان الأمر كذلك، فسائر الخلق حريّون بأن تكون الشّريعة حجّة حاكمة عليهم، ومنارا يهتدون بها إلى الحقّ، وشرفهم إنّما يثبت بحسب ما اتّصفوا به من الدّخول تحت أحكامها، والأخذ بها قولا واعتقادا وعملا، فمن كان أشدّ محافظة على اتّباع الشّريعة فهو أولى بالشّرف والكرم، ومن كان دون ذلك لم يمكن أن يبلغ في الشّرف المبلغ الأعلى في اتّباعها، فالشّرف إذا إنّما هو بحسب المبالغة في تحكيم الشّريعة «2» .
__________
(1) الرسالة للشافعي (85- 105) بتصرف.
(2) الاعتصام (2/ 338- 340) باختصار.(2/12)
السنن التّركية حكمها حكم السنن الفعلية:
إذا فعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حكما أو ترك حكما فهو عبادة في حقّنا إلّا أن يقوم الدّليل على اختصاصه صلّى الله عليه وسلّم بذلك الحكم، وكذلك ترك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لحكم، إذ إنّ التّرك وسيلة لبيان الأحكام كالفعل، فكما أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يبيّن الأحكام بفعله المجرّد من القول، أو بالفعل الّذي يساعده القول، كذلك كان يبيّن الأحكام بالتّرك المجرّد من القول، أو بالتّرك الّذي يساعده القول «1» .
خلاصة الأمر في هذا، أنّ المسلم واجب عليه أن يتّبع منهج الله وشريعته، كما وردت في القرآن الكريم والسّنّة النّبويّة المطهّرة؛ لأنّ كمال الإنسان وترقّيه لا يكون إلّا عبر منهاج العبادة الّذي ورد في هذين المصدرين، والّذي يعني إسلام النّفس في كلّ ما تفعل وتذر لما يريده الله ويرضاه عبر الالتزام الكلّي بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه.
وإذا كان الاتّباع كما سبق هو اتّباع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء عنه وعن أصحابه، فما جاء عنه أمران: القرآن بوصفه وحيا من الله تعالى إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والسّنّة النّبويّة المطهّرة.
وكلّ ما جاء بالقرآن ملزم الاتّباع، حيث إنّه يحتوي على المنهج الكامل لحياة المجتمع الإسلاميّ، وبالتّالي فهو يشمل كلّ ما يحتاجه هذا المجتمع، وما يحتاجه الإنسان في حياته، من عقائد وأخلاق، وأحكام عمليّة تتّصل بالعبادات والمعاملات الّتي تنظّم علاقة الإنسان بأمثاله وبالمجتمع وبالأمم والعالم.
أمّا السّنّة النّبويّة فقد جاءت مكمّلة للقرآن، وأوجب الله على النّاس طاعة الرّسول في قبول ما شرعه لهم وامتثال ما يأمرهم به، وينهاهم عنه. إذن واجب للرّسول صلّى الله عليه وسلّم على الأمّة أمران؛ الأوّل: الطّاعة فيما أتى به. والثّاني: أن يبلّغوا عنه ما أخبرهم به.
والسّنّة أقوال وأفعال وتقريرات، وكلّ الأقوال والتّقريرات من الدّين، وحجّة على المسلم أن يتّبعها، والأفعال منها:
ما يتّصل ببيان الشّريعة وهذا واجب الاتّباع (كصلاته، وصومه، وحجّه ... ) .
ما يتّصل بخاصّته هو، حيث قام الدّليل على أنّها خاصّة بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم.
ما يتّصل بمقتضى الجبلّة البشريّة أو بمقتضى العادات الجارية، كالملبس، والمأكل والمشرب، ... إلخ، وهذا يخضع لمقتضى الطّبيعة الإنسانيّة.
ولكنّ هذا الاتّباع ليس تقليدا أعمى، وإنّما اتّباع بصير متفهّم واع بهدى الله وحكمته، وبالمقوّمات الكفيلة ببناء الإنسان بناء قويّا راسخا «2» .
الاتباع دليل محبة الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله عليه وسلّم:
للمحبّة طرفان هما: المحبّ والمحبوب، وفيما يتعلّق بمحبّة الله عزّ وجلّ فإنّ طرفيها هما: محبّة العبد
__________
(1) أفعال الرسول صلّى الله عليه وسلّم للدكتور محمد سليمان الأشقر (2/ 15) .
(2) المرجع السابق نفسه، الصفحة نفسها.(2/13)
لربّه ومحبّة الرّبّ لعبده، ودليل الأولى هي اتّباع المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. أمّا الثّانية فهي ثمرة ذلك الاتّباع ويؤكّد ذلك قول الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (آل عمران/ 31) ، ولذلك أطلق على هذه الآية الكريمة آية المحبّة، يقول أبو سليمان الدّارانيّ: لمّا ادّعت القلوب محبّة الله عزّ وجلّ أنزل الله هذه الآية محنة «1» (أي اختبارا وامتحانا لهذه القلوب) . ومعنى هذه الآية- كما يقول الطّبريّ- قل يا محمّد لوفد نصارى نجران إن كنتم تزعمون أنّكم تحبّون الله فحققوا قولكم الّذي تقولونه إن كنتم صادقين باتّباعكم إيّاي فإنّكم تعلمون أنّي رسول الله إليكم كما كان عيسى- عليه السّلام- رسولا إلى من أرسله الله إليهم «2» . وقد فسّر بعضهم المحبّة بالاتّباع والطّاعة من جانب العباد ومحبّة الله لعباده بإنعامه عليهم بالغفران فقال: محبّة العبد لله ورسوله طاعته لهما واتّباعه أمرهما ومحبّة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران «3» . وقال سهل بن عبد الله: علامة حبّ الله حبّ القرآن وعلامة حبّ القرآن حبّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وعلامة حبّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حبّ السّنّة، وعلامة ذلك كلّه حبّ الآخرة «4» ، وهذه الآية الكريمة حاكمة على كلّ من ادّعى محبّة الله وليس هو على الطّريقة المحمّديّة بأنّه كاذب في نفس الأمر حتّى يتّبع الشّرع المحمّديّ والدّين النّبويّ في جميع أقواله وأفعاله، والمراد ب يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ أنّه يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبّتكم إيّاه وهو محبّته إيّاكم وهذا أعظم من الأوّل إذ ليس الشّأن أن تحبّ إنّما الشّأن أن تحبّ «5» .
يقول ابن القيّم- رحمه الله تعالى- في قوله تعالى في الآية السّابقة: يحببكم الله إشارة إلى دليل المحبّة وثمرتها وفائدتها فدليلها وعلامتها اتّباع الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وفائدة الاتّباع وثمرته محبّة الله عزّ وجلّ فإذا لم تحصل المتابعة فليست المحبّة بحاصلة، وقال أيضا: وعلى ذلك فإنّه لا تنال محبّة الله عزّ وجلّ إلّا باتّباع الحبيب صلّى الله عليه وسلّم «6» ، والخلاصة أنّ الاتّباع علامة على صدق العبد في حبّه لله تعالى وأنّ ثمرة هذا الاتّباع هي محبّة الله عزّ وجلّ وغفرانه.
الاتباع في القرآن الكريم:
ورد الاتّباع في القرآن الكريم مأمورا به ومنهيّا عنه، فالمنهيّ عنه هو اتّباع الهوى والشّيطان والظّنّ والكفّار وما أشبه ذلك، أمّا المأمور به فقد ورد على صور عديدة منها اتّباع الرّسل، ومنها اتّباع الوحي والشّريعة والهدى وصالح المؤمنين، وسنصنّف آيات الاتّباع المأمور به وفقا لما أمر باتّباعه.
[انظر أيضا صفات: الأسوة الحسنة، الحكم بما أنزل الله، مجاهدة النفس، الاعتصام، الطاعة.
وفي ضد ذلك انظر: صفات: اتباع الهوى، الابتداع، الغلو، القدوة السيئة، الإعراض، الحكم بغير ما أنزل الله] .
__________
(1) مدارج السالكين (3/ 22) .
(2) باختصار عن تفسير الطبري (3/ 156) .
(3) تفسير القرطبي (4/ 40) .
(4) المرجع السابق نفسه، الصفحة نفسها.
(5) تفسير ابن كثير (1/ 358) .
(6) مدارج السالكين بتصرف (3/ 22- 39) .(2/14)
الآيات الواردة في «الاتباع»
أولا: اتباع المولى- عزّ وجلّ-:
1- قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) «1»
2- الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) «2»
3- ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) »
4- لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
(16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
(17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
(18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) «4»
ثانيا: اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم ورسل الله الكرام وأوليائه الصالحين
5- وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) «5»
6- إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) «6»
__________
(1) يونس: 35 مكية
(2) غافر: 7 مكية
(3) محمد: 3 مدنية
(4) القيامة: 16- 19 مكية
(5) البقرة: 143 مدنية
(6) آل عمران: 19- 20 مدنية(2/15)
7- قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) «1»
8-* فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) «2»
9- إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) «3»
10- قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) «4»
11- الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) «5»
12- يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) «6»
13- لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) «7»
14- قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37)
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) «8»
__________
(1) آل عمران: 31 مدنية
(2) آل عمران: 52- 53 مدنية
(3) آل عمران: 68 مدنية
(4) آل عمران: 95 مدنية
(5) الأعراف: 157- 158 مكية
(6) الأنفال: 64 مدنية
(7) التوبة: 117 مدنية
(8) يوسف: 37- 38 مكية(2/16)
15- قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) «1»
16- رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) «2»
17- ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) «3»
18- قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) «4»
19- وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) «5»
20- وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) «6»
21- وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) «7»
22- وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)
وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59)
وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) «8»
23- ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) «9»
__________
(1) يوسف: 108 مكية
(2) إبراهيم: 36 مكية
(3) النحل: 123 مكية
(4) الكهف: 66 مكية
(5) مريم: 41- 43 مكية
(6) طه: 90- 93 مكية
(7) يس: 20- 21 مكية
(8) الزخرف: 57- 61 مكية
(9) الحديد: 27 مدنية(2/17)
ثالثا: اتباع الهدى والرضوان وما أنزل الله من كتاب أو ارتضى من شريعة:
24- قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) «1»
25- وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) «2»
26- أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) «3»
27- الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) «4»
28- وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا (125) «5»
29- يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) «6»
30- قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) «7»
31- اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) «8»
32- وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) «9»
__________
(1) البقرة: 38 مدنية
(2) البقرة: 170 مدنية
(3) آل عمران: 162 مدنية
(4) آل عمران: 173- 174 مدنية
(5) النساء: 125 مدنية
(6) المائدة: 15- 16 مدنية
(7) الأنعام: 50 مكية
(8) الأنعام: 106 مكية
(9) الأنعام: 153 مكية(2/18)
33- وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) «1»
34- اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (3) «2»
35- وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) »
36- وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) «4»
37- وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) «5»
38- فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) «6»
39- قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) «7»
40- وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) «8»
41- يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1)
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2)
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) «9»
42- وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10)
إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) «10»
43- الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) «11»
__________
(1) الأنعام: 155 مكية
(2) الأعراف: 3 مكية
(3) الأعراف: 203 مكية
(4) يونس: 15 مكية
(5) يونس: 109 مكية
(6) طه: 47 مكية
(7) طه: 123 مكية
(8) لقمان: 21 مكية
(9) الأحزاب: 1- 3 مدنية
(10) يس: 10- 11 مكية
(11) الزمر: 18 مكية(2/19)
44- وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) «1»
45- وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) «2»
46- ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) «3»
47- قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) «4»
رابعا: اتباع المؤمنين:
48- وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) «5»
49- وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) «6»
الآيات الواردة في «الاتّباع لفظا» ولها معنى آخر:
50- قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) «7»
51- وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85)
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86)
قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89)
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90)
كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) «8»
__________
(1) الزمر: 55 مكية
(2) غافر: 38 مكية
(3) الجاثية: 18 مكية
(4) الأحقاف: 9 مكية
(5) التوبة: 100 مدنية
(6) لقمان: 15 مكية
(7) الكهف: 70 مكية
(8) الكهف: 83- 92 مكية(2/20)
52- يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (108) «1»
53-* وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53)
إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)
وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55)
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57)
وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58)
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) «2»
54- قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49)
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) «3»
55- فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)
فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) «4»
56- يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8)
أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) «5»
__________
(1) طه: 108 مكية
(2) الشعراء: 52- 60 مكية
(3) القصص: 49- 50 مكية
(4) الدخان: 22- 23 مكية
(5) النازعات: 6- 9 مكية(2/21)
الأحاديث الواردة في (الاتباع)
1-* (عن عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- أنّه أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه «1» النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فغضب فقال: «أمتهوّكون «2» فيها يابن الخطّاب؟ والّذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحقّ فتكذّبوا به أو بباطل فتصدّقوا به، والّذي نفسي بيده لو أنّ موسى صلّى الله عليه وسلّم كان حيّا ما وسعه إلّا أن يتبعني» ) * «3» .
2-* (عن أبي موسى الأشعريّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم، إنّي رأيت الجيش بعينيّ. وإنّي أنا النّذير العريان «4» ، فالنّجاء «5» ، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا «6» فانطلقوا على مهلتهم (وفي البخاريّ على مهلهم) وكذّبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم «7» . فذلك مثل من أطاعني واتّبع ما جئت به. ومثل من عصاني وكذّب ما جئت به من الحقّ» ) * «8» .
3-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: خطّ لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطّا، ثمّ قال:
«هذا سبيل الله» ثمّ خطّ خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثمّ قال: «هذه سبل» قال يزيد: متفرّقة على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثمّ قرأ: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» ) * «9» .
4-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» ) * «10» .
5-* (عن أبي رافع- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ألفينّ أحدكم متّكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت
__________
(1) قوله: فقرأه: أي قرىء عليه.
(2) متهوّكون: التهوّك هو التحيّر، وقيل: هو الوقوع في الشيء بقلة مبالاة.
(3) أحمد (3/ 387) ، السنة لابن أبي عاصم (27) ، وقال الألباني: حسن، المشكاة (1/ 63) . وعزاه للدارمي، وذكره في الإرواء وذكر له شواهد كثيرة (6/ 3834) .
(4) أنا النذير العريان: أصله أن الرجل إذا أراد إنذار قومه وإعلامهم بما يوجب المخافة نزع ثوبه وأشار به إليهم إذا كان بعيدا منهم ليخبرهم بما دهمهم، وأكثر ما يفعل هذا طليعة القوم ورقيبهم.
(5) النجاء: اطلبوا النجاة.
(6) فأدلجوا: ساروا من أول الليل.
(7) اجتاحهم: استأصلهم.
(8) البخاري- الفتح 11 (6482) ، ومسلم (2283) واللفظ له.
(9) أحمد (1/ 435) واللفظ له، الحاكم (2/ 318) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، السنة لابن أبي عاصم (13) ، وقال الألباني (مخرجه) : إسناده حسن، والحديث صحيح.
(10) مسلم (2674) .(2/22)
عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدناه في كتاب الله اتّبعناه» ) *» .
6-* (عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: جاءت ملائكة إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو نائم، فقال بعضهم: إنّه نائم وقال بعضهم: إنّ العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إنّ لصاحبكم هذا مثلا. قال: فاضربوا له مثلا. فقال بعضهم: إنّه نائم، وقال بعضهم: إنّ العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا، فمن أجاب الدّاعي دخل الدّار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الدّاعي لم يدخل الدّار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا:
أوّلوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنّه نائم، وقال بعضهم: إنّ العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: فالدّار الجنّة، والدّاعي محمّد صلّى الله عليه وسلّم. فمن أطاع محمّدا صلّى الله عليه وسلّم فقد أطاع الله، ومن عصى محمّدا صلّى الله عليه وسلّم فقد عصى الله، ومحمّد فرّق بين النّاس» ) * «2» .
7-* (عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما- قال: ذكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجال يجتهدون في العبادة اجتهادا شديدا. فقال صلّى الله عليه وسلّم «تلك ضراوة الإسلام وشرّته «3» ولكلّ ضراوة شرّة، ولكلّ شرّة فترة، فمن كانت فترته إلى اقتصاد وسنّة فلأمّ مّا هو «4» ، ومن كانت فترته إلى المعاصي فذلك الهالك» .
وفي رواية: عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لكلّ عمل شرّة، ولكلّ شرّة فترة، فمن كانت فترته إلى سنّتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته، إلى غير ذلك فقد هلك» ) * «5» .
8-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ أمّتي يدخلون الجنّة إلّا من أبى» قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟. قال: «من أطاعني دخل الجنّة، ومن عصاني فقد أبى» ) * «6» .
9- (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من الأنبياء نبيّ إلّا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الّذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» ) * «7» .
10-* (عن وبرة قال: أتى رجل ابن عمر رضي الله عنهما- فقال: أيصلح أن أطوف بالبيت وأنا محرم، قال: ما يمنعك من ذلك؟ قال: إنّ فلانا ينهانا عن ذلك حتّى يرجع النّاس من الموقف، ورأيته
__________
(1) أبو داود (4605) وقال الألباني (3/ 871/ 3849) : صحيح.
(2) البخاري- الفتح 13 (7281) .
(3) الشّرّة بكسر الشين وفتح الراء مشدّدتين، معناها النشاط والرغبة، والضراوة مصدر قولهم ضري الشيء لهج به أي أغرم به وعشقه، والفترة هي السكون بعد الشدة، والهدوء بعد الحدة.
(4) فلأم ما هو: دعاء لأمه يعني إنه راجع إلى أصل ثابت عظيم، وبمعنى فليؤم ويقصد؛ لأنه على الطريق المستقيم.
(5) أحمد (2/ 165) ولفظ الرواية الأولى له وصححه شاكر (6540) ، ابن أبي عاصم في السنة (1/ 28) ولفظ الرواية الثانية له. وقال مخرجه: إسناده صحيح على شرط الشيخين وعزاه كذلك لابن حبان (2/ 349) عن أبى هريرة بلفظ قريب والطحاوي في مشكل الآثار.
(6) البخاري- الفتح 13 (7280) .
(7) البخاري- الفتح 8 (4981) واللفظ له، ومسلم (152) .(2/23)
كأنّه مالت به الدّنيا وأنت أعجب إلينا منه. قال ابن عمر: «حجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فطاف بالبيت وسعى بين الصّفا والمروة، وسنّة الله ورسوله أحقّ أن تتّبع من سنّة ابن فلان إن كنت صادقا» ) * «1» .
الأحاديث الواردة في (الاتباع) معنى
11-* (عن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر» ) * «2» .
12-* (عن مالك بن الحويرث- رضي الله عنه- قال: أتينا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ونحن شبية «3» متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظنّ أنّا اشتقنا أهلنا، وسألنا عمّن تركنا في أهلنا فأخبرناه وكان رقيقا رحيما، فقال:
«ارجعوا إلى أهليكم، فعلّموهم ومروهم، وصلّوا كما رأيتموني أصلّي، وإذا حضرت الصّلاة فليؤذّن لكم أحدكم، ثمّ ليؤمّكم أكبركم» ) * «4» .
13-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّ نفرا من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم سألوا أزواج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن عمله في السّرّ؟ فقال بعضهم: لا أتزوّج النّساء. وقال بعضهم لا آكل اللّحم. وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد الله وأثنى عليه فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، ولكنّي أصلّي وأنام، وأصوم وأفطر. وأتزوّج النّساء. فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» ) * «5» .
14-* (عن عروة بن الزّبير أنّ عبد الله بن الزّبير- رضي الله عنهما- حدّثه: أنّ رجلا من الأنصار خاصم الزّبير عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، في شراج الحرّة «6» الّتي يسقون بها النّخل، فقال الأنصاريّ:
سرّح الماء يمرّ. فأبى عليهم. فاختصموا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للزّبير: «اسق يا زبير. ثمّ أرسل الماء إلى جارك» فغضب الأنصاريّ. فقال:
يا رسول الله، أن كان ابن عمّتك «7» ، فتلوّن وجه نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ قال: «يا زبير، اسق ثمّ احبس الماء حتّى يرجع إلى الجدر «8» » فقال الزّبير: والله إنّي لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
__________
(1) مسلم (1297) .
(2) الترمذي (3662) واللفظ له وقال: هذا حديث حسن، ابن ماجة (97) ، أحمد (5/ 385- 402) ، السنة لابن أبي عاصم (531) حديث: 1148 وقال الألباني: صحيح، وهو في الصحيحة له (3/ 234) حديث (1233) .
(3) شبية: بفتح الشين، والباءين؛ جمع شاب مثل (بررة) وبار.
(4) البخاري- الفتح 10 (6008) واللفظ له ومسلم (674) .
(5) مسلم (1401) .
(6) شراج الحرة: هي مسايل الماء وواحدها شرجة والحرة هي الأرض الملسة التي بها حجارة سوداء.
(7) قول الأنصاري «أن كان ابن عمتك» يعني أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أقر فعل الزبير لأنه ابن عمته وليس الأمر كما ظن.
(8) الجدر بفتح الجيم وكسرها، وهي الجدار وجمعه جدر والمراد بالجدر أصل الحائط.(2/24)
حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» ) * «1» .
15-* (عن يزيد بن شيبان قال: أتانا ابن مربع الأنصاريّ، ونحن بعرفة في مكان يباعده عمرو عن الإمام، فقال: أما إنّي رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليكم، يقول لكم: «قفوا على مشاعركم. فإنّكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم» ) * «2» .
16-* (عن يزيد بن حيّان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلمّا جلسنا إليه، قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصلّيت خلفه: لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا حدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يا ابن أخي! والله لقد كبرت سنّي، وقدم عهدي، ونسيت بعض الّذي كنت أعي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما حدّثتكم فاقبلوا، ومالا فلا تكلّفونيه، ثمّ قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خمّا «3» بين مكّة والمدينة. فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكّر. ثمّ قال: «أمّا بعد، ألا أيّها النّاس، فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب. وأنا تارك فيكم ثقلين: أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنّور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به» ، فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه، ثمّ قال: «وأهل بيتي. أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي ... » ) * «4» .
17-* (عن المقدام بن معد يكرب- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إنّي أوتيت الكتاب ومثله معه، لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه، ألا لا يحلّ لكم لحم الحمار الأهليّ، ولا كلّ ذي ناب من السّبع، ولا لقطة معاهد إلّا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه. فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه» ) * «5» .
18-* (عن أبي الدّرداء- رضي الله عنه- قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن نذكر الفقر ونتخوّفه فقال: «الفقر تخافون؟ والّذي نفسي بيده لتصبّنّ عليكم الدّنيا صبّا حتّى لا يزيغ قلب أحدكم إزاغة إلّاهيه «6» . وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء «7» ليلها ونهارها سواء» . قال أبو الدّرداء: صدق والله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تركنا والله، على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء) * «8» .
__________
(1) البخاري- الفتح 8 (4585) ، ومسلم (2357) واللفظ له.
(2) أبو داود (1919) واللفظ له وذكره المنذري في مختصره وعزاه للسنن (2/ 397) ، الترمذي (883) وقال: حسن صحيح، ابن ماجة (3011) .
(3) خم: اسم لغيضة على بعد ثلاثة أميال من الجحفة.
(4) مسلم (2408) .
(5) أبو داود (4604) واللفظ له وقال الألباني في صحيح أبي داود (3/ 871) : صحيح برقم (3848) ، الترمذي (2664) وقال: هذا حديث حسن.
(6) لا يزيغ قلب أحدكم إزاغة إلّا هية: هي ضمير يرجع إلى الدنيا.
(7) البيضاء: أي المحجة البيضاء.
(8) ابن ماجة (5) واللفظ له وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (47) وقال الألباني: حديث حسن.(2/25)
19-* (عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يرمي على راحلته يوم النّحر ويقول: «لتأخذوا مناسككم، فإنّي لا أدري لعلّي لا أحجّ بعد حجّتي هذه» ) * «1» .
20-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دعوني ما تركتكم، فإنّما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» ) * «2» .
21-* (عن العرباض بن سارية- رضي الله عنه- قال: صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم، ثمّ أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأنّ هذه موعظة مودّع، فماذا تعهد إلينا؟، فقال:
«أوصيكم بتقوى الله والسّمع والطّاعة وإن عبدا حبشيّا، فإنّه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء المهديّين الرّاشدين تمسّكوا بها، وعضّوا عليها بالنّواجذ «3» ، وإيّاكم ومحدثات الأمور، فإنّ كلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة» ) * «4» .
22-* (قال عمر- رضي الله عنه-:
«اتّهموا الرّأي على الدّين، فلقد رأيتني أردّ أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برأيي اجتهادا، فو الله ما آلو عليه الحقّ» .
وذلك يوم أبي جندل حتّى قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«تراني أرضى وتأبى؟» ) * «5» .
23-* (عن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه-: «لو كان الدّين بالرّأي لكان أسفل الخفّ أولى بالمسح من أعلاه» . وزاد أبو داود (وقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمسح على ظاهر خفّيه» ) * «6» .
24-* (وعنه- رضي الله عنه- أنّه أتي بدابّة ليركبها فلمّا وضع رجله في الرّكاب، قال: «بسم الله، فلمّا استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثمّ قال:
سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ* وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ ثمّ قال: الحمد لله ثلاث مرّات، ثمّ قال: الله أكبر ثلاث مرّات، ثمّ قال: سبحانك إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي فإنّه لا يغفر الذّنوب إلّا أنت، ثمّ ضحك، فقيل: يا أمير المؤمنين، من أيّ شيء ضحكت؟ قال: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فعل كما فعلت ثمّ ضحك، فقلت: يا رسول الله؛ من أيّ شيء ضحكت؟ قال: «إنّ ربّك يعجب من عبده
__________
(1) مسلم (1297) .
(2) البخاري- الفتح 13 (7288) .
(3) عضوا عليها بالنواجذ: مثل في شدة الاستمساك بأمر الدين؛ لأن العض بالنواجذ عض بجميع الفم والأسنان، والنواجذ هي أواخر الأسنان وقيل: هي التي بعد الأنياب.
(4) أبو داود (4607) واللفظ له وقال الألباني في صحيح أبي داود (3/ 871) : صحيح، الترمذي (2676) وقال: حسن صحيح، ابن ماجة (42) ، أحمد (4/ 126، 127) ، الحاكم (1/ 96/ 97) ، الدارمي (1/ 95) حديث (95) ، وقال الألباني: صحيح- صحيح الجامع (2/ 346) .
(5) الفتح (13/ 289) وعزاه الحافظ للطبري والطبراني والبيهقي في المدخل.
(6) أبو داود (162) ، وقال الحافظ في الفتح: إسناده حسن (13/ 289) ، أحمد (1/ 95) .(2/26)
إذا قال: اغفر لي ذنوبي يعلم أنّه لا يغفر الذّنوب غيري» ) * «1» .
25-* (عن ابن أبي مليكة قال: «كاد الخيّران أن يهلكا: أبو بكر وعمر، لمّا قدم على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وفد بني تميم أشار أحدهما بالأقرع بن حابس التّميميّ الحنظليّ أخي بني مجاشع، وأشار الآخر بغيره، فقال أبو بكر لعمر: إنّما أردت خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك فارتفعت أصواتهما عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ- إلى قوله: عَظِيمٌ قال ابن أبي مليكة: قال ابن الزّبير: فكان عمر بعد، ولم يذكر ذلك عن أبيه- يعني أبا بكر- إذا حدّث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بحديث حدّثه كأخي السّرار «2» لم يسمعه حتّى يستفهمه» ) * «3» .
26-* (عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنّكم إليها. فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهنّ. قال: فأقبل عليه عبد الله فسبّه سبّا سيّئا. ما سمعته سبّه مثله قطّ. وقال: أخبرك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتقول والله لنمنعهنّ!» ) *» .
27-* (عن مطرّف قال: بعث إليّ عمران بن حصين في مرضه الّذي توفّي فيه. فقال: «إنّي كنت محدّثك بأحاديث. لعلّ الله أن ينفعك بها بعدي. فإن عشت فاكتم عنّي. وإن متّ فحدّث بها إن شئت: إنّه قد سلّم عليّ «5» . واعلم أنّ نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم قد جمع بين حجّ وعمرة، ثمّ لم ينزل فيها كتاب الله، ولم ينه عنها نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم، قال رجل فيها برأيه ما شاء «6» » ) * «7» .
28-* (عن المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه- قال: سئل عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- عن إملاص المرأة وهي الّتي يضرب بطنها فتلقي جنينا.
فقال: أيّكم سمع من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيه شيئا؟ فقلت: أنا.
فقال: ما هو؟ قلت: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: فيه غرّة. عبد أو أمة. فقال: لا تبرح حتّى تجيئني بالمخرج فيما قلت» ) * «8» .
29-* (عن ثمام بن شقيّ قال: كنّا مع فضالة ابن عبيد بأرض الرّوم. برودس «9» . فتوفّي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوّي. ثمّ قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمر بتسويتها» ) * «10» .
30-* (عن عبد الله بن مغفّل- رضي الله
__________
(1) أبو داود (2602) ، الترمذي (3146) وقال: هذا حديث حسن صحيح، أحمد (1/ 97) وقال مخرج الأذكار النووية: حديث صحيح، وعزاه لابن حبان والحاكم (356) .
(2) أخي السرار: يعني كالمناجي سرّا.
(3) البخاري- الفتح 8 (4845) .
(4) البخاري- الفتح 3 (1573) واللفظ له، مسلم (1259) .
(5) إنه قد سلم عليّ: يعني أن الملائكة تسلم عليه، وهذا هو الذي قال له: اكتم عني.
(6) قال رجل فيها برأيه ما شاء أي لا يتبع بل الواجب اتباع الكتاب والرسول صلّى الله عليه وسلّم.
(7) مسلم (1226) .
(8) البخاري- الفتح 13 (7317) واللفظ له، ومسلم (1689) مثله من حديث المسور بن مخرمة.
(9) رودس: جزيرة في بلاد الروم.
(10) مسلم (968) .(2/27)
عنهما-: «أنّه رأى رجلا يخذف «1» ، فقال له: لا تخذف، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الخذف- أو كان يكره الخذف- وقال: إنّه لا يصاد به صيد ولا ينكأ به عدوّ ولكنّها قد تكسر السّنّ، وتفقأ العين. ثمّ رآه بعد ذلك يخذف، فقال له: أحدّثك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه نهى عن الخذف أو كره الخذف وأنت تخذف، لا أكلّمك كذا وكذا» ) * «2» .
31-* (قال غضيف بن الحارث- رضي الله عنه- لعبد الملك بن مروان لمّا قال له: إنّا قد جمعنا النّاس على رفع الأيدي على المنبر يوم الجمعة، وعلى القصص بعد الصّبح والعصر، فقال: «أما إنّهما أمثل بدعكم عندي ولست بمجيبكم إلى شيء منهما لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ما أحدث قوم بدعة إلّا رفع من السّنّة مثلها فتمسّك بسنّة خير من إحداث بدعة» ) * «3» .
32-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: «لمّا توفّي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل النّاس وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله، فمن قال: لا إله إلّا الله عصم منّي ماله ونفسه إلّا بحقّه وحسابه على الله؟. فقال: والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصّلاة والزّكاة، فإنّ الزّكاة حقّ المال، والله لو منعوني عقالا «4» كانوا يؤدّونه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقاتلتهم على منعه. فقال عمر بن الخطّاب: فو الله ما هو إلّا أن رأيت الله- عزّ وجلّ- قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنّه الحقّ» ) * «5» .
33-* (عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: «إنّ فاطمة- رضي الله عنها- أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ممّا أفاء الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم تطلب صدقة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الّتي بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر. فقال أبو بكر: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لا نورث، ما تركنا فهو صدقة. إنّما يأكل آل محمّد من هذا المال- يعني مال الله- ليس لهم أن يزيدوا على المأكل. وإنّي والله لا أغيّر شيئا من صدقات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الّتي كانت عليها في عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولأعملنّ فيها بما عمل فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتشهّد عليّ، ثمّ قال:
إنّا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك، وذكر قرابتهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحقّهم، فتكلّم أبو بكر فقال: والّذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحبّ إليّ أن أصل من قرابتي» ) * «6» .
__________
(1) الخذف: هو رمي الإنسان بحصاة أو نواة، يجعلها بين إصبعيه السبابتين أو السبابة والإبهام.
(2) البخاري- الفتح 9 (5479) واللفظ له، ومسلم (1954) .
(3) أخرجه أحمد (4/ 105) ، وجوّد إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح (13/ 267) ، وذكره السيوطي في الجامع الصغير، ورمز له بالتحسين (فيض القدير 5/ 412- 413) .
(4) العقال- بكسر العين- هو الحبل الذي يشد به ذراعا البعير أو الناقة.
(5) البخاري- الفتح 3 (1399) ، ومسلم (20) واللفظ له.
(6) البخاري- الفتح 7 (3711- 3712) .(2/28)
المثل التطبيقي من حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم في (الاتباع)
34-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: اتّخذ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاتما من ذهب فاتّخذ النّاس خواتيم من ذهب فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي اتّخذت خاتما من ذهب» فنبذه، وقال: «إنّي لن ألبسه أبدا» فنبذ النّاس خواتيمهم) * «1» .
35-* (عن المسور بن مخرمة ومروان- رضي الله عنهما- يصدّق كلّ منهما حديث صاحبه قالا:
خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زمن الحديبية حتّى إذا كانوا ببعض الطّريق، قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ خالد بن الوليد بالغميم «2» في خيل لقريش طليعة «3» ، فخذوا ذات اليمين» . فو الله ما شعر بهم خالد حتّى إذا هم بقترة الجيش «4» ، فانطلق يركض نذيرا لقريش، وسار النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، حتّى إذا كان بالثّنيّة «5» الّتي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال النّاس: حل حل «6» .
فألحّت «7» ، فقالوا خلأت «8» القصواء، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل «9» » . ثمّ قال: «والّذي نفسي بيده لا يسألونني خطّة يعظّمون فيها حرمات الله إلّا أعطيتهم إيّاها» ، ثمّ زجرها فوثبت. قال:
فعدل عنهم حتّى نزل بأقصى الحديبية على ثمد «10» قليل الماء يتبرّضه «11» النّاس تبرّضا، فلم يلبّثه النّاس حتّى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العطش؛ فانتزع سهما من كنانته، ثمّ أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالرّيّ حتّى صدروا عنه. فبينما هم كذلك، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعيّ في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة «12» نصح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل تهامة، فقال: «إنّي تركت كعب بن لؤيّ وعامر بن لؤيّ نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل «13» ، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت» .
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّا لم نجىء لقتال أحد، ولكنّا جئنا معتمرين، وإنّ قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرّت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدّة ويخلّوا بيني وبين النّاس، فإن أظهر؛ فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه النّاس فعلوا، وإلّا فقد جمّوا «14» ، وإن هم أبوا؛ فوالّذي نفسي
__________
(1) البخاري- الفتح 13 (7298) .
(2) الغميم: هو مكان بين رابغ والجحفة، وقيل موضع بين مكة والمدينة.
(3) الطليعة: مقدمة الجيش.
(4) قترة الجيش: ما يثيره من الغبار أو هي الغبار الأسود.
(5) الثنية: طريق في الجبل تشرف على الحديبية.
(6) حل حل: كلمة تقال للناقة إذا تركت السير.
(7) ألحّت: أي تمادت على عدم القيام، وهو من الإلحاح.
(8) خلأت: الخلاء للناقة كالحران للخيل.
(9) حابس الفيل أي حبسها الله- عز وجل- كما حبس الفيل عن مكة.
(10) ثمد قليل الماء: أي حفيرة فيها ماء مثمود أي قليل.
(11) يتبرضه: هو الأخذ قليلا قليلا.
(12) عيبة نصح: العيبة هي ما توضع به الثياب لحفظها، أي أنهم موضع النصح له والأمانة لسره.
(13) العوذ المطافيل: العوذ هي الناقة ذات اللبن، والمطافيل الأمهات اللاتي معها أطفالها.
(14) جمّوا: أي استراحوا.(2/29)
بيده لأقاتلنّهم على أمري هذا حتّى تنفرد سالفتي «1» ، ولينفذنّ الله أمره» . فقال بديل: سأبلّغهم ما تقول.
قال: فانطلق حتّى أتى قريشا، قال: إنّا جئناكم من هذا الرّجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء. وقال ذوو الرّأي منهم: هات ما سمعته يقول. قال: سمعته يقول: كذا وكذا. فحدّثهم بما قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: أو لست بالولد؟ قالوا:
بلى. قال: فهل تتّهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أنّي استنفرت أهل عكاظ، فلمّا بلّحوا «2» عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى.
قال: فإنّ هذا قد عرض عليكم خطّة رشد اقبلوها ودعوني آته. قالوا ائته، فأتاه، فجعل يكلّم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نحوا من قوله لبديل. فقال عروة عند ذلك: أي محمّد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى، فإنّي والله لا أرى وجوها، وإنّي لأرى أشوابا «3» من النّاس خليقا أن يفرّوا ويدعوك. فقال له أبو بكر: امصص بظر اللّات «4» ، أنحن نفرّ عنه وندعه. فقال: من ذا؟
قالوا: أبو بكر. قال: أما والّذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلّم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فكلّما تكلّم كلمة أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومعه السّيف وعليه المغفر، فكلّما أهوى عروة بيده إلى لحية النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضرب يده بنعل السّيف، وقال له: أخّر يدك عن لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟. قال: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر «5» ، ألست أسعى في غدرتك؟. وكان المغيرة صحب قوما في الجاهليّة فقتلهم وأخذ أموالهم ثمّ جاء فأسلم.
فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «أمّا الإسلام فأقبل، وأمّا المال فلست منه في شيء» . ثمّ إنّ عروة جعل يرمق أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعينيه. قال: فو الله ما تنخّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نخامة إلّا وقعت في كفّ رجل منهم فدلّك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّا كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النّظر تعظيما له، فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنّجاشيّ، والله، إن رأيت مليكا قطّ يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم محمّدا. والله، إن يتنخّم نخامة إلّا وقعت في كفّ رجل منهم، فدلّك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ
__________
(1) سالفتي: السالفة هي صفحة العنق. والمعنى من قوله حتى تنفرد سالفتي كناية عن القتل أو القتال وحيدا.
(2) بلّحوا: التبلّح هو الامتناع عن الإجابة: وبلحوا بمعني امتنعوا عن أداء ما عليهم.
(3) الأشواب: الأخلاط من أنواع شتى.
(4) امصص بظر اللات: البظر قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة واللات: صنم لهم، وكانت عادة العرب الشتم بذلك لكن بلفظ الأم فأراد أبو بكر المبالغة في سب عروة بإقامة من كان يعبد مقام أمه.
(5) غدر: من غادر وهي مبالغة في وصفه بالغدر.(2/30)
كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النّظر تعظيما له، وإنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته. فلمّا أشرف على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا فلان، وهو من قوم يعظّمون البدن، فابعثوها له» . فبعثت له، واستقبله النّاس يلبّون. فلمّا رأى ذلك قال:
سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت. فلمّا رجع إلى أصحابه، قال: رأيت البدن قد قلّدت وأشعرت، فما أرى أن يصدّوا عن البيت. فقام رجل منهم، يقال له مكرز بن حفص، فقال: دعوني آته.
فقالوا: ائته. فلمّا أشرف عليهم قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هذا مكرز، وهو رجل فاجر» . فجعل يكلّم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
فبينما هو يكلّمه إذ جاء سهيل بن عمرو. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «قد سهل لكم من أمركم» . فجاء سهيل ابن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا. فدعا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الكاتب، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*. فقال سهيل: أمّا «الرّحمن» فوالله ما أدري ما هي؟ ولكن اكتب «باسمك اللهمّ» ، كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اكتب: باسمك اللهمّ» . ثمّ قال: «هذا ما قاضى عليه محمّد رسول الله» . فقال سهيل: والله لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب:
«محمّد بن عبد الله» ، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «والله إنّي لرسول الله وإن كذّبتموني، اكتب: محمّد بن عبد الله» ، وذلك لقوله: «لا يسألونني خطّة يعظّمون فيها حرمات الله إلّا أعطيتهم إيّاها» . فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«على أن تخلّوا بيننا وبين البيت فنطوف به» . فقال سهيل: والله لا تتحدّث العرب أنّا أخذنا ضغطة»
، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب. فقال سهيل:
وعلى أنّه لا يأتيك منّا رجل وإن كان على دينك إلّا رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان الله، كيف يردّ إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فبينما هم كذلك، إذ دخل أبو جندل ابن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده «2» ، وقد خرج من أسفل مكّة حتّى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمّد أوّل من أقاضيك عليه أن تردّه إليّ. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّا لم نقض الكتاب بعد» . قال: فو الله إذا لم أصالحك على شيء أبدا. قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «فأجزه لي» ، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: «بلى فافعل» قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز:
بل قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أردّ إلى المشركين وقد جئت مسلما؟. ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذّب عذابا شديدا في الله. قال:
فقال عمر بن الخطّاب: فأتيت نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت:
ألست نبيّ الله حقّا؟. قال: «بلى» قلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟. قال: «بلى» . قلت:
فلم نعطي الدّنيّة «3» في ديننا إذا؟. قال: «إنّي رسول
__________
(1) أخذنا ضغطة: أي قهرّا وعنوة.
(2) يوسف في قيوده: أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد.
(3) نعطي الدنية في ديننا: أي لماذا نرضى بالنقص؟.(2/31)
الله ولست أعصيه، وهو ناصري» . قلت: أو ليس كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به؟. قال: «بلى، فأخبرتك أنّا نأتيه العام؟.» قال: قلت: لا. قال:
«فإنّك آتيه ومطوّف به» . قال: فأتيت أبا بكر فقلت:
يا أبا بكر، أليس هذا نبيّ الله حقّا؟. قال: بلى. قلت:
ألسنا لى الحقّ وعدوّنا على الباطل. قال: بلى. قلت:
فلم نعطي الدّنيّة في ديننا إذا؟. قال: أيّها الرّجل، إنّه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وليس يعصي ربّه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه «1» فوالله إنّه على الحقّ. قلت: أليس كان يحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونطوف به «2» ؟. قال: بلى، أفأخبرك أنّك تأتيه العام؟. قلت: لا. قال: فإنّك آتيه ومطوّف به. قال الزّهريّ: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا. قال: فلمّا فرغ من قضيّة الكتاب قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «قوموا فانحروا ثمّ احلقوا» . قال:
فوالله ما قام منهم رجل، حتّى قال ذلك ثلاث مرّات، فلمّا لم يقم منهم أحد دخل على أمّ سلمة فذكر لها ما لقي من النّاس. فقالت أمّ سلمة: يا نبيّ الله؛ أتحبّ ذلك؟. اخرج، ثمّ لا تكلّم أحدا منهم كلمة حتّى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلّم أحدا منهم حتّى فعل ذلك: نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه. فلمّا رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتّى كاد بعضهم يقتل بعضا غمّا. ثمّ جاءه نسوة مؤمنات، فأنزل الله تعالى (الممتحنة/ 10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ حتّى بلغ بِعِصَمِ الْكَوافِرِ، فطلّق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشّرك، فتزوّج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أميّة، ثمّ رجع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الّذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرّجلين، فخرجا به حتّى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرّجلين:
والله إنّي لأرى سيفك هذا يا فلان جيّدا، فاستلّه الآخر. فقال: أجل والله إنّه لجيّد، لقد جرّبت به ثمّ جرّبت به ثمّ جرّبت. فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتّى برد «3» ، وفرّ الآخر حتّى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين رآه: «لقد رأى هذا ذعرا» ، فلمّا انتهى إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: قتل والله صاحبي، وإنّي لمقتول. فجاء أبو بصير فقال: يا نبيّ الله، قد والله أوفى الله ذمّتك قد رددتني إليهم، ثمّ أنجاني الله منهم. قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ويل أمّه «4» . مسعر «5» حرب لو كان له أحد» ، فلمّا سمع
__________
(1) غرزه: الغرز للإبل بمنزلة الركاب للفرس. والمراد بقوله «فاستمسك بغرزه» أي تمسك بأمره وترك مخالفته كالذي يمسك بركاب الفارس فلا يفارقه.
(2) ضبط العيني هذا الفعل بفتح الطاء والواو وتشديد هما (نطّوّف) على أن أصله (نتطوّف) .
(3) حتى برد: أي خمدت أنفاسه وحواسه.
(4) ويل أمه: كلمة ذم تقولها العرب في المدح ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم.
(5) مسعر حرب: أي مقدام للحرب مسعّر لنارها.(2/32)
ذلك عرف أنّه سيردّه إليهم، فخرج حتّى أتى سيف البحر «1» . قال: وينفلت منهم أبو جندل ابن سهيل فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلّا لحق بأبي بصير، حتّى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشّام إلّا اعترضوا لها. فقتلوهم وأخذوا أموالهم.
فأرسلت قريش إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تناشده الله والرّحم لما أرسل، فمن أتاه فهو آمن فأرسل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إليهم، فأنزل الله تعالى (الفتح/ 24) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ حتّى بلغ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ، وكانت حميّتهم أنّهم لم يقرّوا أنّه نبيّ الله، ولم يقرّوا ببسم الله الرّحمن الرّحيم، وحالوا بينهم وبين البيت) * «2» .
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في (الاتباع)
1-* (وقال عمر- رضي الله عنه- لشريح (القاضي) : «إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به، ولا يلفتنّك عنه الرّجال؛ فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنّة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فانظر ما اجتمع عليه النّاس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يتكلّم فيه أحد قبلك، فاختر أيّ الأمرين شئت، إن شئت أن تجتهد برأيك ثمّ تقدم فتقدّم، وإن شئت، إن تتأخّر فتأخّر، ولا أرى التّأخّر إلّا خيرا لك» ) * «3» .
2-* (وعن عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه-: أنّه جاء إلى الحجر الأسود فقبّله فقال: «إنّي أعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أنّي رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقبّلك ما قبّلتك» ) * «4» .
3-* (عن أبي وائل قال: جلست إلى شيبة في هذا المسجد، قال: جلس إليّ عمر في مجلسك هذا فقال: «هممت أن لا أدع فيها «5» صفراء ولا بيضاء «6» إلّا قسمتها بين المسلمين. قال: ما أنت بفاعل. قال: لم؟
قلت: لم يفعله صاحباك: قال هما المرآن يقتدى بهما» ) * «7» .
4-* (عن عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- أنّه قال: «فيم الرّملان «8» اليوم والكشف
__________
(1) سيف البحر (بكسر السين) : أي ساحل البحر.
(2) البخاري- الفتح 5 (2731، 2732) واللفظ له، ومسلم مقطعا (1783، 1784، 1785) .
(3) سنن النسائي (8/ 231) ، سنن الدارمي (1/ 71، 72) .
(4) البخاري- الفتح 3 (1597) واللفظ له، مسلم (1270) .
(5) أي في الكعبة.
(6) الصفراء والبيضاء: المراد بهما الذهب والفضة، والمرآن: المراد بهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر رضي الله عنه.
(7) البخاري- الفتح 13 (7275) .
(8) الرملان مصدر الرمل: وهو تقارب الخطى في المشي مع هز الكتفين.(2/33)
عن المناكب؟ وقد أطّأ «1» الله الإسلام ونفى الكفر وأهله، مع ذلك لا ندع شيئا كنّا نفعله على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» ) * «2» .
5-* (عن أبي الهيّاج الأسديّ قال: بعث عليّ ابن أبي طالب- رضي الله عنه- أبا الهيّاج الأسديّ وقال له: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟. أن لا تدع تمثالا إلّا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلّا سوّيته» ) * «3» .
6-* (وقال- رضي الله عنه-: «إيّاكم والاستنان بالرّجال؛ فإنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل الجنّة ثمّ ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النّار فيموت وهو من أهل النّار، وإنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل النّار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنّة فيموت وهو من أهل الجنّة، فإن كنتم لا بدّ فاعلين فبالأموات لا بالأحياء وأشار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه الكرام» ) * «4» .
7-* (عن أبيّ بن كعب- رضي الله عنه- قال: «عليكم بالسّبيل والسّنّة، فإنّه ليس من عبد على السّبيل والسّنّة ذكر الرّحمن ففاضت عيناه من خشية الله- عزّ وجلّ- فتمسّه النّار. وليس من عبد على سبيل وسنّة ذكر الرّحمن فاقشعرّ جلده من مخافة الله، إلّا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهي كذلك إذ أصابتها الرّيح فتحاتّ عنها ورقها، إلّا تحاتّت عنه ذنوبه كما تحاتّ عن تلك الشّجرة ورقها. وإنّ اقتصادا في سبيل وسنّة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنّة، فانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادا أو اقتصادا أن يكون ذلك على منهاج الأنبياء وسنّتهم» ) * «5» .
8-* (وقال أيضا يوصي رجلا: «اتّخذ كتاب الله إماما، وارض به قاضيا وحكما، فإنّه الّذي استخلف فيكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، شفيع مطاع، وشاهد لا يتّهم فيه ذكركم وذكر من قبلكم، وحكم ما بينكم وخبركم وخبر ما بعدكم» ) * «6» .
9-* (عن حذيفة- رضي الله عنه- قال: «يا معشر القرّاء! استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا، فإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا» ) * «7» .
10-* (عن أبي إدريس الخولانيّ: «أنّ يزيد ابن عميرة، وكان من أصحاب معاذ بن جبل، أخبره، قال كان لا يجلس مجلسا للذّكر حين يجلس إلّا قال:
الله حكم قسط. هلك المرتابون. فقال معاذ بن جبل يوما: إنّ من ورائكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتّى يأخذه المؤمن والمنافق، والرّجل والمرأة، والصّغير والكبير، والعبد والحرّ، فيوشك قائل أن
__________
(1) أطا: يعني وطأ الشيء وثبته وأحكمه.
(2) أبو داود (1887) واللفظ له، ابن ماجة (2952) .
(3) مسلم (969) .
(4) الاعتصام للشاطبي (2/ 358، 359) .
(5) حلية الأولياء (1/ 252، 253) ، أصول الاعتقاد (1/ 54) .
(6) الحلية- الموضع نفسه.
(7) البخاري- الفتح 13 (7282) .(2/34)
يقول: ما للنّاس لا يتّبعوني وقد قرأت القرآن؟. ما هم بمتّبعيّ حتّى أبتدع لهم غيره، فإيّاكم وما ابتدع، فإنّ ما ابتدع ضلالة، وأحذّركم زيغة الحكيم؛ فإنّ الشّيطان قد يقول كلمة الضّلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحقّ. قال: قلت لمعاذ: ما يدريني- رحمك الله- أنّ الحكيم قد يقول كلمة الضّلالة، وأنّ المنافق قد يقول كلمة الحقّ؟. قال: بلى اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات، الّتي يقال: ما هذه؟ ولا يثنينّك ذلك عنه؛ فإنّه لعلّه أن يراجع، وتلقّ الحقّ إذا سمعته، فإنّ على الحقّ نورا» ) * «1» .
11-* (قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في معنى قوله تعالى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً، اجعلنا أئمّة هدى ليهتدى بنا ولا تجعلنا أئمّة ضلالة» ) * «2» .
12-* (قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، «فأمّا الذين ابيضّت وجوههم فأهل السّنّة والجماعة وأولو العلم. وأمّا الّذين اسودّت وجوههم فأهل البدع والضّلالة» «3» .
13-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: «قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس بن حصن- وكان من النّفر الذين يدنيهم عمر، وكان القرّاء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبّانا- فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي! هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟. قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عبّاس: فاستأذن لعيينة. فلمّا دخل قال: يابن الخطّاب، والله ما تعطينا الجزل، وما تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتّى همّ بأن يقع به، فقال الحرّ:
يا أمير المؤمنين، إنّ الله تعالى قال لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ. وإنّ هذا من الجاهلين. فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقّافا عند كتاب الله» ) * «4» .
14-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما-:
«أنّه أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها، قال: ابعثها قياما مقيّدة سنّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم: أي متّبعا سنّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم» ) * «5» .
15- عن أميّة بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنّه قال لعبد الله بن عمر: إنّا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن، ولا نجد صلاة السّفر في القرآن، فقال له ابن عمر: «ابن أخي إنّ الله- عزّ وجلّ- بعث إلينا محمّدا صلّى الله عليه وسلّم ولا نعلم شيئا، فإنّما نفعل كما رأينا محمّدا صلّى الله عليه وسلّم يفعل» ) * «6» .
16-* (عن نافع قال «كان ابن عمر- رضي الله عنهما- إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التّلبية، ثمّ يبيت بذي طوى، ثمّ يصلّي الصّبح ويغتسل ويحدّث
__________
(1) أبو داود (4611) وقال الألباني (3/ 872) : صحيح الإسناد موقوف.
(2) البخاري- الفتح 13 (265) .
(3) أصول الاعتقاد (1/ 72) .
(4) البخاري- الفتح 13 (7286) .
(5) البخاري- الفتح 3 (1573) واللفظ له، مسلم (1259) .
(6) أحمد (2/ 95) .(2/35)
أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يفعل ذلك» ) * «1» .
17-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: «دخلت على حفصة فقالت: أعلمت أنّ أباك غير مستخلف؟ قال: قلت: ما كان ليفعل. قالت:
إنّه فاعل. قال: فحلفت أن أكلّمه في ذلك فسكتّ.
حتّى غدوت ولم أكلّمه. قال: فكنت كأنّما أحمل بيميني جبلا. حتّى رجعت فدخلت عليه، فسألني عن حال النّاس وأنا أخبره. قال: ثمّ قلت له: إنّي سمعت النّاس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لك.
زعموا أنّك غير مستخلف، وإنّه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثمّ جاءك وتركها رأيت أن قد ضيّع.
فرعاية النّاس أشدّ. قال: فوافقه قولي. فوضع رأسه ساعة ثمّ رفعه إليّ فقال: إنّ الله عزّ وجلّ يحفظ دينه، وإنّي لئن لا أستخلف فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يستخلف، وإن أستخلف فإنّ أبا بكر قد استخلف. قال: فوالله ما هو إلّا أن ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر فعلمت أنّه لم يكن ليعدل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحدا. وأنّه غير مستخلف» ) * «2» .
18-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنّه كان يفتي بالّذي أنزل الله- عزّ وجلّ- من الرّخصة بالتّمتّع وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه، فيقول ناس لابن عمر: كيف تخالف أباك وقد نهى عن ذلك؟ فيقول لهم عبد الله: ويلكم ألا تتّقون الله إن كان عمر نهى عن ذلك فيبتغي فيه الخير يلتمس به تمام العمرة، فلم تحرّمون ذلك وقد أحلّه الله وعمل به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟
أفرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحقّ أن تتّبعوا سنّته أم سنّة عمر؟.
إنّ عمر لم يقل لكم إنّ العمرة في أشهر الحجّ حرام، ولكنّه قال: إنّ أتمّ العمرة أن تفردوها من أشهر الحجّ» ) * «3» .
19-* (قال أبو موسى الأشعريّ- رضي الله عنه- في تفسير قوله تعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ:
من يتّبع القرآن يهبط به على رياض الجنّة) *» .
20-* (قال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-: «إنّه قد أتى علينا زمان ولسنا نقضي ولسنا هنالك، ثمّ إنّ الله- عزّ وجلّ- قدّر علينا أن بلغنا ما ترون، فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم، فليقض بما في كتاب الله، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله، فليقض بما قضى به نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيّه صلّى الله عليه وسلّم فليقض بما قضى به الصّالحون، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيّه صلّى الله عليه وسلّم ولا قضى به الصّالحون، فليجتهد رأيه ولا يقول: إنّي أخاف، وإنّي أخاف، فإنّ الحلال بيّن والحرام بيّن، وبين ذلك أمور مشتبهات، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ) * «5» .
21-* (عن عبد الرّحمن بن يزيد قال: رمى عبد الله بن مسعود جمرة العقبة، من بطن الوادي، بسبع
__________
(1) البخاري- الفتح 3 (1573) واللفظ له، مسلم (1259) .
(2) مسلم (1823) .
(3) أحمد (2/ 95) .
(4) تفسير ابن كثير (1/ 165) .
(5) النسائي (8/ 230) واللفظ له وقال عقبه: هذا الحديث جيد، سنن الدارمي (1/ 71) .(2/36)
حصيات يكبّر مع كلّ حصاة. قال: فقيل له: إنّ أناسا يرمونها من فوقها. فقال عبد الله بن مسعود: «هذا، والّذي لا إله غيره! مقام الّذي أنزلت عليه سورة البقرة» ) * «1» .
22-* (قال ابن مسعود- رضي الله عنه-:
«قد أصبحتم على الفطرة وإنّكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدى الأوّل» ) * «2» .
23-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: «من سرّه أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصّلوات حيث ينادى بهنّ. فإنّ الله شرع لنبيّكم صلّى الله عليه وسلّم سنن الهدى، وإنّهنّ من سنن الهدى، ولو أنّكم صلّيتم في بيوتكم كما يصلّي هذا المتخلّف في بيته لتركتم سنّة نبيّكم، ولو تركتم سنّة نبيّكم لضللتم. وما من رجل يتطهّر فيحسن الطّهور ثمّ يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلّا كتب الله له بكلّ خطوة يخطوها حسنة. ويرفعه بها درجة. ويحطّ عنه بها سيّئة. ولقد رأيتنا وما يتخلّف عنها إلّا منافق معلوم النّفاق. ولقد كان الرّجل يؤتى به يهادى بين الرّجلين حتّى يقام في الصّفّ» ) * «3» .
24-* (قال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- «من كان منكم مستنّا فليستنّ بمن قد مات، إنّ الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمّد كانوا أفضل هذه الأمّة: أبرّها قلوبا وأعمقها علما، وأقلّها تكلّفا. اختارهم الله لصحبة نبيّه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتّبعوهم على أثرهم وسيرتهم فإنّهم كانوا على الهدى المستقيم» ) * «4» .
25-* (عن جبير بن نفير؛ قال: خرجت مع شرحبيل بن السّمط إلى قرية، على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلا مع جماعة. فصلّى ركعتين.
فقلت له: فقال: رأيت عمر صلّى بذي الحليفة ركعتين، فقلت له، فقال: إنّما أفعل كما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعل» ) * «5» .
26-* (قال أنس بن مالك- رضي الله عنه- «أنّه سمع عمر- رضي الله عنه- يقول:
فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً الآية إلى قوله: وَأَبًّا.
قال: كلّ هذا قد عرفناه فما الأبّ؟. ثمّ رمى عصا كانت في يده ثمّ قال: «هذا لعمر الله التّكلّف» .
اتّبعوا ما بيّن لكم من هذا الكتاب) * «6» .
27-* (قال الحسن البصريّ- رحمه الله تعالى-: «السّنّة، والّذي لا إله إلّا هو بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإنّ أهل السّنّة كانوا أقلّ النّاس فيما مضى، وهم أقلّ النّاس فيما بقى:
الّذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنّتهم حتّى لقوا ربّهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا» ) * «7» .
28-* (قال الحسن البصريّ- رحمه الله
__________
(1) مسلم (1296) .
(2) الفتح (13/ 267) .
(3) مسلم (654) .
(4) إغاثة اللهفان (1/ 159) .
(5) مسلم (692) .
(6) الفتح (13/ 285) وعزاه الحافظ لمسند عبد بن حميد. وأصل الحديث في البخاري 13 (7293) .
(7) إغاثة اللهفان (1/ 70) .(2/37)
تعالى- في قوله تعالى-: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ. قال: «وكان علامة حبّه إيّاهم اتّباع سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» وفي موضع آخر: «فقد جعلت علامة حبّهم الله اتّباع رسوله» ) * «1»
29-* (قال محمّد بن سيرين: كانوا يرون أنّه على الطّريق ما كان على الأثر) * «2» .
30-* (قال مجاهد- رحمه الله تعالى-: «في قول الله تعالى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً يعني أئمّة نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا» ) * «3» .
31-* (قال عبّاد بن عبّاد الخوّاصّ الشّاميّ رحمه الله تعالى-: «اعقلوا، والعقل نعمة، فربّ ذي عقل قد شغل قلبه بالتّعمّق فيما هو عليه ضرر عن الانتفاع بما يحتاج إليه، حتّى صار عن ذلك ساهيا.
من فضل عقل المرء ترك النّظر فيما لا نظر فيه حتّى يكون فضل عقله وبالا عليه في ترك مناقشة من هو دونه في الأعمال الصّالحة، أو رجل شغل قلبه ببدعة قلّد فيها دينه رجالا دون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو اكتفى برأيه فيما لا يرى الهدى إلّا فيها، ولا يرى الضّلالة إلّا تركها بزعم أنّه أخذها من القرآن، وهو يدعو إلى فراق القرآن، أفما كان للقرآن حملة قبله وقبل أصحابه يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه؟ وكانوا منه على منار أوضح الطّريق، وكان القرآن إمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إماما لأصحابه، وكان أصحابه أئمّة لمن بعدهم، رجال معروفون منسوبون في البلدان متّفقون في الرّدّ على أصحاب الأهواء مع ما كان بينهم من الاختلاف، وتسكّع أصحاب الأهواء برأيهم في سبل مختلفة جائرة عن القصد مفارقة للصّراط المستقيم، فتوّهت بهم أدلّاؤهم في مهامه «4» مضلّة فأمعنوا فيها متعسّفين في هيأتهم كلّما أحدث لهم الشّيطان بدعة في ضلالتهم انتقلوا منها إلى غيرها، لأنّهم لم يطلبوا أثر السّالفين، ولم يقتدوا بالمهاجرين، وقد ذكر عن عمر أنّه قال لزياد: هل تدري ما يهدم الإسلام؟ زلّة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمّة مضلّون» ) * «5» .
32-* (قال ميمون بن مهران- رحمه الله تعالى-: «كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك الأمر سنّة قضى به، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى في ذلك بقضاء؟ فربّما اجتمع إليه النّفر كلّهم يذكر من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه قضاء فيقول أبو بكر: الحمد لله الّذي جعل فينا من يحفظ على نبيّنا، فإن أعياه أن يجد فيه سنّة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جمع
__________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 70) .
(2) سنن الدارمي (1/ 66) حديث 140.
(3) البخاري- الفتح (13/ 248) .
(4) المهامه: جمع مهمهة وهي المفازة، والمعنى في طرق بعيدة مضلة.
(5) سنن الدارمي (1/ 166) .(2/38)
رءوس النّاس وخيارهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به» ) * «1» .
33- قال الشّعبيّ- رحمه الله تعالى-:
«شهدت شريحا- وجاءه رجل من مراد- فقال:
يا أبا أميّة، ما دية الأصابع؟ قال: عشر عشر. قال: يا سبحان الله أسواء هاتان؟ جمع بين الخنصر والإبهام.
فقال شريح: يا سبحان الله! أسواء أذنك ويدك؟ فإنّ الأذن يواريها الشّعر والكمّة «2» ، فيها نصف الدّية، وفي اليد نصف الدّية. ويحك! إنّ السّنّة سبقت قياسكم، فاتّبع ولا تبتدع، فإنّك لن تضلّ ما أخذت بالأثر. ثمّ قال لي الشّعبيّ: يا هذليّ، لو أنّ أحنفكم قتل، وهذا الصّبيّ في مهده أكان ديتهما سواء؟. قلت: نعم. قال:
فأين القياس» ) * «3» .
34-* (قال عمر بن عبد العزيز- رحمه الله تعالى-: «سنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وولاة الأمور بعده سننا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوّة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النّظر فيما خالفها. من اقتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر فهو منصور، ومن خالفها واتّبع غير سبيل المؤمنين ولّاه الله ما تولّى وأصلاه جهنّم وساءت مصيرا» ) * «4» .
35-* (عن أبي الصّلت، قال: كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر، فكتب: «أمّا بعد؛ أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتّباع سنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنّته، وكفوا مئونته، فعليك بلزوم السّنّة فإنّها لك بإذن الله عصمة، ثمّ اعلم أنّه لم يبتدع النّاس بدعة، إلّا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها، أو عبرة فيها؛ فإنّ السّنّة إنّما سنّها من قد علم ما في خلافها من الخطأ، والزّلل، والحمق، والتّعمّق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم؛ فإنّهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفّوا، وهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه. ولئن قلتم:
إنّما حدث بعدهم. ما أحدثه إلّا من اتّبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم؛ فإنّهم هم السّابقون، فقد تكلّموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من محسر، وقد قصّر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوام فغلوا، وإنّهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم.
كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر فعلى الخبير بإذن الله وقعت، فاعلم ما أحدث النّاس من محدثة، ولا ابتدعوا من بدعة، هي أبين أثرا، ولا أثبت أمرا، من الإقرار بالقدر، لقد كان ذكره في الجاهليّة الجهلاء، يتكلّمون به في كلامهم، وفي شعرهم، يعزّون به أنفسهم على ما فاتهم، ثمّ لم يزده الإسلام بعد إلّا شدّة، ولقد ذكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون، فتكلّموا به في
__________
(1) سنن الدارمي (1/ 70) .
(2) الكمّة: القلنسوة.
(3) سنن الدارمي (1/ 77) .
(4) إغاثة اللهفان (1/ 159) .(2/39)
حياته وبعد وفاته، يقينا وتسليما لربّهم، وتضعيفا لأنفسهم، أن يكون شيء لم يحط به علمه، ولم يحصه كتابه، ولم يمض فيه قدره، وإنّه مع ذلك لفي محكم كتابه منه اقتبسوه، ومنه تعلّموه.
ولئن قلتم: لم أنزل الله آية كذا، ولم قال: كذا؟.
لقد قرءوا منه ما قرأتم، وعلموا من تأويله ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك كلّه بكتاب وقدر، وكتبت الشّقاوة، وما يقدّر يكن، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا ضرّا ولا نفعا، ثمّ رغبوا بعد ذلك ورهبوا» ) * «1»
36-* (قال الزّهريّ- رحمه الله تعالى-:
«كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسّنّة نجاة والعلم يقبض قبضا سريعا، فعيش العلم ثبات الدّين والدّنيا، وفي ذهاب العلم ذهاب ذلك كلّه» ) * «2» .
37-* (قال الأوزاعيّ- رحمه الله تعالى-:
«كان يقال: خمس كان عليها أصحاب محمّد والتّابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتّباع السّنّة، وعمارة المساجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله» ) * «3» .
38-* (وقال أيضا: «ندور مع السّنّة حيث دارت» ) * «4» .
39-* (قال أبو الزّناد- رحمه الله تعالى-:
«إنّ السّنن ووجوه الحقّ لتأتي كثيرا على خلاف الرّأي، فما يجد المسلمون بدّا من اتّباعها» ) * «5»
40-* (قال سفيان- رحمه الله تعالى-:
«اسلكوا سبيل الحقّ ولا تستوحشوا من قلّة أهله» ) * «6» .
41-* (قال أبو شامة- رحمه الله تعالى-:
«حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحقّ واتّباعه، وإن كان المتمسّك به قليلا والمخالف له كثيرا» ) * «7» .
42-* (قال أبو عثمان الحيريّ: «من أمّر السّنّة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة، قال تعالى:
وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا» ) * «8» .
43-* (قال أبو حفص: «من لم يزن أفعاله وأحواله في كلّ وقت بالكتاب والسّنّة ولم يتّهم خواطره، فلا يعدّ في ديوان الرّجال» ) * «9» .
44-* (قال أبو بكر التّرمذيّ: «لم يجد أحد تمام الهمّة بأوصافها إلّا أهل المحبّة، إنّما أخذوا ذلك باتّباع السّنّة ومجانبة البدعة، فإنّ محمّدا صلّى الله عليه وسلّم كان أعلى الخلق كلّهم همّة وأقربهم زلفى» ) * «10» .
45-* (قال ابن القيّم- رحمه الله تعالى-:
__________
(1) أبو داود (4612) . وقال الألباني (3/ 873) : صحيح مقطوع.
(2) الدارمي (1/ 58) برقم (96) .
(3) أصول الاعتقاد (1/ 64) .
(4) المرجع السابق نفسه.
(5) البخاري- الفتح (4/ 225) .
(6) الاعتصام (1/ 34) .
(7) إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 69)
(8) الاعتصام (1/ 96) .
(9) مدارج السالكين (2/ 464) .
(10) الاعتصام (1/ 92) .(2/40)
«كان عمر- رضي الله عنه- يهمّ بالأمر ويعزم عليه فإذا قيل له: لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انتهى» ) * «1» .
46-* (قال الشّاطبيّ- رحمه الله تعالى-:
«إنّ الصّحابة كانوا مقتدين بنبيّهم صلّى الله عليه وسلّم مهتدين بهديه، وقد جاء مدحهم في القرآن الكريم، وأثنى على متبوعهم محمّد صلّى الله عليه وسلّم وإنّما كان خلقه صلّى الله عليه وسلّم القرآن، فقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فالقرآن إنّما هو المتبوع على الحقيقة، وجاءت السّنّة مبيّنة له، فالمتّبع للسّنّة متّبع للقرآن. والصّحابة كانوا أولى النّاس بذلك، فكلّ من اقتدى بهم فهو من الفرقة النّاجية الدّاخلة للجنّة بفضل الله، وهو معنى قوله عليه الصّلاة والسّلام «ما أنا عليه وأصحابي» فالكتاب والسّنّة هو الطّريق المستقيم، وما سواهما من الإجماع وغيره فناشيء عنهما» ) * «2» .
47-* (وقال أيضا- رحمه الله تعالى-:
«كلّ صاحب مخالفة من شأنه أن يدعو غيره إليها، ويحضّ سؤّاله بل سواه عليها، إذ التّأسّي في الأفعال والمذاهب موضوع طلبه في الجبلّة، وبسببه تقع من المخالف المخالفة، وتحصل من الموافق الموافقة، ومنه تنشأ العداوة والبغضاء للمختلفين» ) * «3» .
48-* (قال بعض السّلف- رحمهم الله تعالى جميعا-: «لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتّى يتربّع في الهواء فلا تغترّوا به، حتّى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنّهي وحفظ الحدود» ) * «4» .
من فوائد (الاتباع)
(1) دليل المحبّة الكاملة ويجلب محبّة الله لعبده.
(2) الاتّباع مجلبة لرحمة الله تعالى ومغفرته ورضوانه.
(3) الاتّباع دليل الفلاح والهداية وقبول التّوبة.
(4) يجلب التّأييد والنّصر والتّمكين والعزّة والفلاح.
(5) يحصل للعبد به السّعادة وطيب العيش في الدّارين.
(6) الخروج من هوى النّفس وعبادة الذّات.
(7) ضمان السّلامة والأمن من الخطأ لعصمة المتبوع صلّى الله عليه وسلّم.
(8) السّلامة من الاعتراض والأمن من الانتقاد.
(9) صاحبه من أئمّة الهدى فيكثر أجره بمقدار ما يكثر تابعه.
(10) الاتّباع فيما تركه صلّى الله عليه وسلّم حكمه كحكم اتّباعه فيما فعله صلّى الله عليه وسلّم.
(11) الاتّباع لا يكون إلّا للصّالحين المتّقين الّذين يقرءون القرآن ويعملون به.
(12) لا يجوز اتّباع الكذّابين وطلّاب السّلطة الّذين يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم.
__________
(1) إغاثة اللهفان (1/ 136) .
(2) الاعتصام للشاطبي (2/ 252) .
(3) المرجع السابق (1/ 23) .
(4) إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 124) .(2/41)
الاجتماع
الاجتماع لغة:
جمع الشّيء: ألّف متفرّقه، وأصل المعنى الضّمّ، قال ابن فارس: الجيم والميم والعين، أصل واحد يدلّ على تضامّ الشّيء، يقال: جمعت الشّيء جمعا، وتجمّع القوم، اجتمعوا من هنا وهنا، واجتمع القوم: انضمّوا، وهو ضدّ تفرّقوا.
وجمع أمره وأجمعه وأجمع عليه: عزم عليه كأنّه جمع نفسه له، والأمر مجمع، ويقال أيضا: أجمع أمرك ولا تدعه منتشرا وأجمعت الشّيء: جعلته جميعا، (أي مجتمعا) ، ويقال: جمّع النّاس تجميعا: شهدوا الجمعة وقضوا الصّلاة فيها. وجمّع: شدّد للكثرة. يقال: فلاة مجمعة ومجمّعة: يجتمع النّاس فيها ولا يتفرّقون.
وأجمع القوم: اتّفقوا، وأجمع الرّأي والأمر: عزم عليه» .
قال الشّيخ أحمد شاكر في قوله تعالى:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا: أمرهم بالجماعة، ونهاهم عن التّفرّق، وقد وردت الأحاديث المتعدّدة بالنّهي عن التّفرّق، والأمر بالاجتماع والائتلاف، وقد وقع ذلك في هذه الأمّة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنّة
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
6/ 22/ 13
ومسلّمة من عذاب النّار، وهم الّذين على ما كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه «2» .
واصطلاحا:
لا يختلف معنى الاجتماع في الشّرع عن المعنى الّذي يفيده في أصل اللّغة. وهو أن يلتقي المسلمون وينضمّ بعضهم إلى بعض ولا يتفرّقوا، أمّا الأمر الّذي يجتمعون حوله فهو كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
وقال القرطبيّ في تفسير قوله تعالى:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا (آل عمران/ 103) : إنّ الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة لأنّ الفرقة هلكة والجماعة نجاة، روي عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- في الآية الكريمة أنّ حبل الله هو الجماعة «3» . قال القرطبيّ: ويجوز أن يكون المعنى: ولا تفرّقوا متابعين الهوى والأغراض المختلفة بدليل قوله تعالى بعد ذلك: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً. وليس في الآية دليل على تحريم الاختلاف في الفروع؛ لأنّ الاختلاف ما يتعذّر معه الائتلاف والجمع، وليست كذلك مسائل الاجتهاد؛
__________
(1) انظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس (9/ 47- 48) ، ومعجم متن اللغة لأحمد رضا (1/ 568- 570) . واللسان (ج م ع) .
(2) انظر عمدة التفسير لأحمد شاكر (3/ 16) . وراجع: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، المجلد الثاني، الجزء الرابع، (102- 103) .
(3) تفسير القرطبي (4/ 159) بتصرف.(2/42)
لأنّ الاختلاف فيها يسبّب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشّرع، وما زالت الصّحابة- رضوان الله عليهم- يختلفون في أحكام الحوادث وهم مع ذلك متآلفون «1» .
وقال ابن كثير- رحمه الله-: أمرهم الله- عزّ وجلّ- في الآية الكريمة بالجماعة ونهاهم عن الفرقة، وقد وردت الأحاديث المتعدّدة بالنّهي عن التّفرّق والأمر بالاجتماع والائتلاف، وقد ضمن الله لهم (أي للمسلمين) العصمة من الخطا عند اتّفاقهم (واجتماعهم) ، وخيف عليهم (الخطأ) عند الافتراق والاختلاف، فقد وقع ذلك في هذه الأمّة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنّة ومسلّمة من النّار، وهم الّذين على ما كان عليه محمّد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه «2» . وقال أبو حيّان: نهي المسلمون (في هذه الآية الكريمة) عن التّفرّق في الدّين والاختلاف فيه كما اختلف اليهود والنّصارى، وقيل: عن إحداث ما يوجب التّفرّق ويزول معه الاجتماع «3» .
أهمية الاجتماع وحث الإسلام عليه:
قال الشّافعيّ- رحمه الله-: وإذا كان للمسجد إمام راتب ففاتت رجلا أو رجالا فيه الصّلاة: صلّوا فرادى، ولا أحبّ أن يصلّوا فيه جماعة، فإن فعلوا أجزأتهم الجماعة فيه. وإنّما كرهت ذلك لهم لأنّه ليس ممّا فعل السّلف قبلنا، بل قد عابه بعضهم.
قال الشّافعيّ: وأحسب كراهية من كره ذلك منهم إنّما كان لتفرّق الكلمة، وأن يرغب الرّجل عن الصّلاة خلف إمام جماعة فيتخلّف هو ومن أراد عن المسجد في وقت الصّلاة، فإذا قضيت دخلوا فجمعوا، فيكون في هذا اختلاف وتفرّق كلمة «4» .
قال الشّيخ أحمد شاكر- رحمه الله- معلّقا على كلام الشّافعيّ: والّذي ذهب إليه الشّافعيّ من المعنى في هذا الباب صحيح جليل، ينبيء عن نظر ثاقب، وفهم دقيق، وعقل درّاك لروح الإسلام ومقاصده، وأوّل مقصد للإسلام، ثمّ أجلّه وأخطره-: توحيد كلمة المسلمين، وجمع قلوبهم على غاية واحدة، هي إعلاء كلمة الله، وتوحيد صفوفهم في العمل لهذه الغاية. والمعنى الرّوحيّ في هذا اجتماعهم على الصّلاة وتسوية صفوفهم فيها أوّلا، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«لتسوّنّ صفوفكم أو ليخالفنّ الله بين وجوهكم» ، وهذا شيء لا يدركه إلّا من أنار الله بصيرته للفقه في الدّين، والغوص على درره، والسّموّ إلى مداركه، كالشّافعيّ وأضرابه. وقد رأى المسلمون بأعينهم آثار تفرّق جماعاتهم في الصّلاة، واضطراب صفوفهم، ولمسوا ذلك بأيديهم، إلّا من بطلت حاسّته، وطمس على بصره. وإنّك لتدخل كثيرا من مساجد المسلمين فترى قوما يعتزلون الصّلاة مع الجماعة، طلبا للسّنّة كما زعموا! ثمّ يقيمون جماعات أخرى لأنفسهم،
__________
(1) تفسير القرطبي (4/ 159) .
(2) تفسير ابن كثير (1/ 397) .
(3) البحر المحيط (3/ 21) ، وقد ذكر آراء أخرى في تفسير هذه الآية، تنظر هناك.
(4) الأم (1/ 136- 137) .(2/43)
ويظنّون أنّهم يقيمون الصّلاة بأفضل ممّا يقيمها غيرهم، ولئن صدقوا فقد حملوا من الوزر ما أضاع أصل صلاتهم، فلا ينفعهم ما ظنّوه من الإنكار على غيرهم في ترك بعض السّنن أو المندوبات. وترى قوما آخرين يعتزلون مساجد المسلمين، ثمّ يتّخذون لأنفسهم مساجد أخرى، ضرارا وتفريقا للكلمة، وشقّا لعصا المسلمين. نسأل الله العصمة والتّوفيق، وأن يهدينا إلى جمع كلمتنا، إنّه سميع الدّعاء.
وهذا المعنى الّذي ذهب إليه الشّافعيّ لا يعارض حديث الباب «1» ، فإنّ الرّجل الّذي فاتته الجماعة لعذر، ثمّ تصدّق عليه أخوه من نفس الجماعة بالصّلاة معه- وقد سبقه بالصّلاة فيها- هذا الرّجل يشعر في داخلة نفسه كأنّه متّحد مع الجماعة قلبا وروحا، وكأنّه لم تفته الصّلاة. وأمّا النّاس الّذين يجمعون وحدهم بعد صلاة جماعة المسلمين فإنّما يشعرون أنّهم فريق آخر، خرجوا وحدهم، وصلّوا وحدهم.
وقد كان عن تساهل المسلمين في هذا، وظنّهم أنّ إعادة الجماعة في المساجد جائزة مطلقا-: أن فشت بدعة منكرة في الجوامع العامّة، مثل الجامع الأزهر والمسجد المنسوب للحسين- رضي الله عنه- وغيرهما بمصر، وبلاد أخرى، فجعلوا في المسجد الواحد إمامين راتبين أو أكثر، ففي الجامع الأزهر- مثلا- إمام للقبلة القديمة، وآخر للقبلة الجديدة، ونحو ذلك في مسجد الحسين- رضي الله عنه-؛ وقد رأينا فيه أنّ الشّافعيّة لهم إمام يصلّي بهم الفجر في الغلس، والحنفيّون لهم آخر يصلّي الفجر بإسفار، ورأينا كثيرا من الحنفيّة من علماء وطلّاب وغيرهم ينتظرون إمامهم ليصلّي بهم الفجر، ولا يصلّون مع إمام الشّافعيّن، والصّلاة قائمة، والجماعة حاضرة، ورأينا فيهما وفي غيرهما جماعات تقام متعدّدة في وقت واحد، وكلّهم آثمون، وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا، بل قد بلغنا أنّ هذا المنكر كان في الحرم المكّيّ، وأنّه كان يصلّي فيه أئمّة أربعة، يزعمونهم للمذاهب الأربعة، ولكنّا لم نر ذلك، إذ لم ندرك هذا العهد بمكّة، وإنّما حججنا في عهد الملك عبد العزيز بن عبد الرّحمن آل السّعود- يرحمه الله- وسمعنا أنّه أبطل هذه البدعة، وجمع النّاس في الحرم على إمام واحد راتب، ونرجو أن يوفّق الله علماء الإسلام لإبطال هذه البدعة من جميع المساجد في البلدان، بفضل الله وعونه، إنّه سميع الدّعاء «2» .
[للاستزادة انظر: صفات: الألفة، الإخاء، التناصر، الاعتصام، التعاون على البر والتقوى، التعارف، حسن العشرة، حسن المعاملة.
وفي ضد ذلك انظر صفات التفرق، التخاذل، التنازع، التعاون على الإثم والعدوان، الفتنة، سوء المعاملة، سوء الخلق] .
__________
(1) المراد الحديث الذي أورده الترمذي في فضل صلاة الجماعة.
(2) انظر: سنن الترمذي، بتحقيق الشيخ أحمد شاكر (1/ 431. 432) .(2/44)
الآيات الواردة في الحث على «الاجتماع»
1- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) «1»
الآيات الواردة في الحث على «الاجتماع» معنى
2-* لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) «2»
3-* وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) «3»
4- إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) «4»
5- يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) «5»
6-* مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) «6»
__________
(1) آل عمران: 102- 104 مدنية
(2) النساء: 114- 115 مدنية
(3) الأنفال: 61- 63 مدنية
(4) الأنبياء: 92- 93 مكية
(5) المؤمنون: 51- 52 مكية
(6) الروم: 31- 32 مكية(2/45)
الأحاديث الواردة في (الاجتماع)
1-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدّنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدّنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدّنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له به طريقا إلى الجنّة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله تعالى، ويتدارسونه بينهم، إلّا نزلت عليهم السّكينة، وغشيتهم الرّحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه» ) * «1» .
2-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: الإمام العادل، وشابّ نشأ في عبادة ربّه، ورجل قلبه معلّق في المساجد، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إنّي أخاف الله، ورجل تصدّق أخفى حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» ) * «2» .
3-* (عن وحشيّ بن حرب، أنّهم قالوا: يا رسول الله! إنّا نأكل ولا نشبع. قال: «فلعلّكم تأكلون متفرّقين؟» ، قالوا: نعم، قال: «فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه» ) * «3» .
4-* (عن أبي موسى- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «رأيت في المنام أنّي أهاجر من مكّة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي «4» إلى أنّها اليمامة، أو هجر. فإذا هي المدينة يثرب، ورأيت في رؤياي هذه أنّي هززت سيفا فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثمّ هززته أخرى، فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين. ورأيت فيها بقرا، والله خير، فإذا هم المؤمنون يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير، وثواب الصّدق الّذي آتانا الله بعد يوم بدر» ) * «5» .
5-* (عن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنهما- قال: كان النّاس يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخير، وكنت أسأله عن الشّرّ، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنّا كنّا في جاهليّة وشرّ فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شرّ؟، قال: «نعم» .
__________
(1) مسلم (2699) .
(2) البخاري- الفتح 2 (660) ، ومسلم (1031) .
(3) ابن ماجة (3286) واللفظ له، أبو داود (3764) ، وحسنه الألباني، صحيح سنن أبي داود (3199) ، وهو في الصحيحة (664) .
(4) الوهل: ما يذهب إليه وهم الإنسان.
(5) البخاري. الفتح 6 (3622) واللفظ له، ومسلم (2272) .(2/46)
فقلت: هل بعد ذلك الشّرّ من خير؟. قال: «نعم، وفيه دخن «1» » . قلت: وما دخنه؟. قال: «قوم يستنّون بغير سنّتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر» . فقلت: هل بعد ذلك الخير من شرّ؟.
قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنّم «2» ، من أجابهم إليها قذفوه فيها» . فقلت: يا رسول الله! صفهم لنا.
قال: «نعم، قوم من جلدتنا ويتكلّمون بألسنتنا» ، فقلت: يا رسول الله! فما ترى إن أدركني ذلك؟. قال:
«تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» ، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة، ولا إمام؟، قال: «فاعتزل تلك الفرق كلّها، ولو أن تعضّ على أصل شجرة حتّى يدركك الموت وأنت على ذلك» ) * «3» .
6-* (عن أبي الدّرداء- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من ثلاثة في قرية، ولا بدو لا تقام فيهم الصّلاة إلّا قد استحوذ عليهم الشّيطان، فعليك بالجماعة؛ فإنّما يأكل الذّئب القاصية من الغنم» ) * «4» .
7-* (عن عرفجة، قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من أتاكم، وأمركم جميع «5» على رجل واحد، يريد أن يشقّ عصاكم، أو يفرّق جماعتكم، فاقتلوه» ) * «6» .
8-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يد الله مع الجماعة» ) * «7» .
9-* (عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة- رضي الله عنهم- أنّهما سمعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول على أعواد منبره: «لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمنّ الله على قلوبهم، ثمّ ليكوننّ من الغافلين» ) * «8» .
10-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صلاة الرّجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته، وصلاته في سوقه، بضعا وعشرين درجة، وذلك أنّ أحدهم إذا توضّأ فأحسن الوضوء ثمّ أتى المسجد، لا ينهزه «9» إلّا الصّلاة، لا يريد إلّا الصّلاة، فلم يخط خطوة إلّا رفع له بها درجة، وحطّ عنه بها خطيئة حتّى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في الصّلاة ما كانت الصّلاة هي تحبسه «10» ، والملائكة يصلّون على أحدكم ما دام في مجلسه الّذي صلّى فيه، يقولون: اللهمّ ارحمه، اللهمّ اغفر له، اللهمّ تب عليه. ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث» ) * «11» .
__________
(1) دخن: المراد، أن لا تصفو القلوب بعضها لبعض ولا يزول خبثها.
(2) دعاة على أبواب جهنم: هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلالة، كالخوارج، والقرامطة وغيرهم.
(3) مسلم (1847) .
(4) أبو داود (547) ، والنسائي (2/ 106- 107) واللفظ لهما، والحاكم (1/ 246) ، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
(5) جميع: أي مجتمع.
(6) مسلم (1852) .
(7) الترمذي (2166) ، وقال: هذا حديث حسن غريب، وقال محقق جامع الأصول (6/ 564) : حسن بشواهده.
(8) البخاري- الفتح 1 (647) ، ومسلم (865) واللفظ له.
(9) لا ينهزه: أي لا ينهضه ويقيمه.
(10) المعنى: أنه يأخذ ثواب الصلاة ما دام في المسجد انتظارا لهذه الصلاة.
(11) الفتح 1 (445) ، ومسلم (649) واللفظ له.(2/47)
11-* (عن أبي موسى الأشعريّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ أعظم النّاس أجرا في الصّلاة أبعدهم إليها ممشى، فأبعدهم، والّذي ينتظر الصّلاة حتّى يصلّيها مع الإمام أعظم أجرا من الّذي يصلّيها ثمّ ينام» ، وفي رواية أبي كريب: «حتّى يصلّيها مع الإمام في جماعة» ) * «1» .
12-* (عن عبد الرّحمن بن أبي عمرة قال:
دخل عثمان بن عفّان- رضي الله عنه- المسجد بعد صلاة المغرب، فقعد وحده، فقعدت إليه، فقال: يا ابن أخي، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من صلّى العشاء في جماعة فكأنّما قام نصف اللّيل، ومن صلّى الصّبح في جماعة فكأنّما صلّى اللّيل كلّه» ) *» .
13-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنّ رسول الله قال: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة» ) * «3» .
الأحاديث الواردة في (الاجتماع) معنى
14-* (عن عبد الله بن زيد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا فتح حنينا قسم الغنائم، فأعطى المؤلّفة قلوبهم فبلغه أنّ الأنصار يحبّون أن يصيبوا ما أصاب النّاس، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلّالا فهداكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ ومتفرّقين فجمعكم الله بي؟» ، ويقولون: الله ورسوله أمنّ، فقال: «ألا تجيبوني» فقالوا: الله ورسوله أمنّ فقال: «أما إنّكم لو شئتم أن تقولوا كذا وكذا، وكان من الأمر كذا وكذا» - لأشياء عدّدها- زعم عمرو أنّه لا يحفظها- فقال: «ألا ترضون أن يذهب النّاس بالشّاء والإبل، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ الأنصار شعار، والنّاس دثار «4» ، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك النّاس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، إنّكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتّى تلقوني على الحوض» ) * «5» .
15-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا. فيرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله «6» جميعا ولا تفرّقوا. ويكره لكم: قيل وقال «7» ، وكثرة السّؤال «8» ، وإضاعة المال» ) * «9» .
16-* (عن جابر بن عبد الله- رضي الله
__________
(1) الفتح 1 (445) ، ومسلم (649) واللفظ له.
(2) البخاري- الفتح 1 (651) ، ومسلم (662) واللفظ له.
(3) البخاري- الفتح 2 (645) ، ومسلم (656) .
(4) الشعار: الثوب الذي يلي الجسد، والدثار فوقه، ومعنى الحديث: أن الأنصار هم البطانة والخاصة.
(5) مسلم (1061) .
(6) الاعتصام بحبل الله: التمسك بعهده واتباع كتابه والتأدب بآدابه.
(7) قيل وقال: هو الخوض في أخبار الناس.
(8) كثرة السؤال: المراد به التنطع في المسائل، والإكثار من السؤال، الذي لا تدعو إليه الحاجة.
(9) مسلم (1715) واللفظ له، وبعضه عند البخاري (5975) .(2/48)
عنهما- أنّه سئل عن حجّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكث تسع سنين لم يحجّ، ثمّ أذّن في النّاس بالحجّ في العاشرة ... الحديث وفيه «وقد تركت فيكم ما لن تضلّوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله ... الحديث» ) * «1» .
17-* (عن مالك بن أنس- رحمه الله تعالى- بلغه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم» ) * «2» .
18-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: خطبنا عمر بالجابية، فقال: يا أيّها النّاس، إنّي قمت فيكم كمقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا، فقال:
«أوصيكم بأصحابي، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ يفشو الكذب، حتّى يحلف الرّجل ولا يستحلف، ويشهد الشّاهد ولا يستشهد، ألا لا يخلونّ رجل بامرأة إلّا وكان ثالثهما الشّيطان، عليكم بالجماعة، وإيّاكم والفرقة، فإنّ الشّيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنّة فليلزم الجماعة، من سرّته حسنته، وساءته سيّئته فذلك المؤمن» ) * «3» .
19-* (عن جابر بن سمرة، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال:
«لن يبرح هذا الدّين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتّى تقوم السّاعة» ) * «4» .
20-* (عن أبي موسى- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» ) * «5» .
21-* (عن النّعمان بن بشير- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى» ) * «6» .
22-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «والّذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثمّ آمر بالصّلاة فيؤذّن لها، ثمّ آمر رجلا فيؤمّ النّاس، ثمّ أخالف إلى رجال فأحرّق عليهم بيوتهم، والّذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنّه يجد عرقا سمينا أو مرماتين «7» حسنتين لشهد العشاء» ) * «8» .
__________
(1) مسلم (1218) .
(2) مالك في الموطأ، (ص 899) واللفظ له، وقال محقق «جامع الأصول» : وهو حديث حسن (جامع الأصول ص 277) .
(3) الترمذي (2165) ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(4) مسلم (1922) .
(5) البخاري- الفتح 10 (6026) ، ومسلم (2585) واللفظ له.
(6) البخاري- الفتح 10 (6011) ، ومسلم (2586) واللفظ له.
(7) مرماتين: تثنية مرماة، وهي ما بين ظلفي الشّاة (من اللّحم) .
(8) البخاري- الفتح 1 (644) .(2/49)
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في (الاجتماع)
1-* (عن ابن مسعود- رضي الله عنه- أنّه كان يخطب ويقول: «يا أيّها النّاس، عليكم بالطّاعة والجماعة، فإنّهما حبل الله الّذي أمر به» ) * «1» .
2-* (عن عليّ- رضي الله عنه- قال:
«اقضوا كما كنتم تقضون، فإنّي أكره الاختلاف، حتّى يكون النّاس جماعة، أو أموت كما مات أصحابي» .
فكان ابن سيرين يرى أنّ عامّة ما يروى عن عليّ الكذب) * «2» .
3-* (عن ابن مسعود- رضي الله عنه- في قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً قال:
«حبل الله الجماعة» ) * «3» .
4-* (عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: «إنّ هذا الصّراط محتضر، تحضره الشّياطين، ينادون: يا عبد الله! هلمّ هذا هو الطّريق، ليصدّوا عن سبيل الله، فاعتصموا بحبل الله، فإنّ حبل الله القرآن» ) * «4» .
5-* (عن سماك بن الوليد الحنفيّ، أنّه لقي ابن عبّاس، فقال: «ما تقول في سلاطين علينا يظلموننا، يشتموننا ويعتدون علينا في صدقاتنا، ألا نمنعهم؟، قال: لا. أعطهم. الجماعة الجماعة، إنّما هلكت الأمم الخالية بتفرّقها، أما سمعت قول الله:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا» ) * «5» .
6-* (عن الرّبيع في قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً: يقتل بعضكم بعضا، ويأكل شديدكم ضعيفكم، حتّى جاء الله بالإسلام، فألّف به بينكم، وجمع جمعكم عليه، وجعلكم عليه إخوانا» ) * «6» .
7-* (عن أبي العالية في قوله تعالى وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ، قال: بالإخلاص لله وحده، وَلا تَفَرَّقُوا، يقول: لا تعادوا عليه- يقول على الإخلاص- وكونوا عليه إخوانا» ) * «7» .
8-* (عن ابن زيد في قوله تعالى وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ، قال: الإسلام) * «8» .
9-* (ومن أقوال الشّعراء:
تأبى الرّماح إذا اجتمعن تكسّرا ... وإذا افترقن تكسّرت أفرادا) *.
10-* (عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله (ابن مسعود) : «لقد رأيتنا وما يتخلّف عن الصّلاة إلّا
__________
(1) الدر المنثور للسيوطي (2/ 285) .
(2) البخاري- الفتح 7 (3707) .
(3) الدر المنثور للسيوطي (2/ 285) .
(4) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(5) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(6) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(7) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(8) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.(2/50)
منافق قد علم نفاقه، أو مريض (و) إن «1» كان المريض ليمشي بين رجلين حتّى يأتي الصّلاة، وقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علّمنا سنن الهدى الصّلاة في المسجد الّذي يؤذّن فيه» ) * «2» .
11-* (وقال ابن حجر- رحمه الله- في المحافظة على الجماعة (في الفجر والعشاء خاصّة) :
«انتظام الألفة بين المتجاورين في طرفي النّهار، وليختموا النّهار بالاجتماع على الطّاعة ويفتتحوه كذلك» ) * «3» .
12-* (نقل الطّيّبيّ عن بعضهم: «لعلّ الفائدة (من صلاة الجماعة) هي اجتماع المسلمين مصطفّين كصفوف الملائكة» ) * «4» .
13-* (عن سالم قال: سمعت أمّ الدّرداء تقول: «دخل عليّ أبو الدّرداء وهو مغضب، فقلت: ما أغضبك؟ فقال: والله، ما أعرف من أمّة محمّد إلّا أنّهم يصلّون جميعا «5» » . قال ابن حجر: يصلّون جميعا: أي مجتمعين. قلت: كان هذا في آخر عهد عثمان فما بالنا بحالهم اليوم» ) * «6» .
من فوائد (الاجتماع)
1- يعمل على تحقيق وعي الأمّة بفهم ذاتها فهما صحيحا، ممّا يساعد على توحيد أنماط التّفكير والسّلوك، وأساليب البحث والنّظر على أساس إسلاميّ صحيح.
2- يساعد المجتمع الإسلاميّ على مواجهة التّحدّيات.
3- يساعد على تحقيق الاتّصال الجماعيّ بالنّماذج الإسلاميّة المثاليّة.
4- يساعد المجتمع الإسلاميّ على التّحرّر من التّبعيّة الفكريّة والحضاريّة، والّتي تتولّد عن عدم فهم الذّات فهما صحيحا واعيا.
5- يساعد على صياغة ضمير المسلم صياغة صحيحة من أجل الإبداع الحضاريّ ويثير طاقاته الإبداعيّة، ويقدّم النّموذج الإسلاميّ السّليم للإنسان الحضاريّ.
6- يساعد على إبراز ما للإسلام من آثار عظيمة على المسلم؛ إذ يورثه القوّة والعزّة والمنعة.
7- تحقيق المفاهيم الإسلاميّة الحقيقيّة للأمّة، بعقيدتها وأخلاقها، ممّا يتبلور في النّهاية في شكل حضارة إسلاميّة حقيقيّة معبّرة عن
__________
(1) إن هنا بمعنى: قد.
(2) مسلم (654) ، وقد ترجم الإمام مسلم لهذا الحديث بقوله: باب صلاة الجماعة من سنن الهدى. مما يعني أن المراد بالصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه هي صلاة الجماعة.
(3) فتح الباري (2/ 151) .
(4) المرجع السابق (1/ 156) .
(5) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(6) المرجع السابق (1/ 162) .(2/51)
المجتمع الإسلاميّ.
8- تحقيق الألفة والعدالة والمحبّة وكلّ العوامل المؤدّية إلى التّرابط في المجتمع الإسلاميّ.
9- المحافظة على التّراث الثّقافيّ واللّغة العربيّة (لغة القرآن) واستمرارها.
10- القضاء على العصبيّة القبليّة، وعدّ القاعدة الدّينيّة الاجتماعيّة أساسا يتّسع لجميع الأمم والشّعوب.
11- تتحقّق البركة في الاجتماع على الطّعام وغيره من أمور البرّ.
12- الاجتماع يحقّق مطلبا إسلاميّا أصيلا، حثّ عليه الإسلام في صلاة الجمعة، وصلاة الجماعة، وأداء الحجّ.
13- يؤدّي الاجتماع إلى تحقيق الألفة بين المسلمين وانتشار التّعارف فيما بينهم، وبذلك تتحقّق المودّة ويسود الإخاء ويعمّ التّعاون.
14- في الاجتماع تقوية لجانب المسلمين ورفع روحهم المعنويّة انطلاقا من الاعتقاد بأنّ يد الله مع الجماعة، ومن كانت يد الله معه كان واثقا من نصر الله- عزّ وجلّ-.
15- الاجتماع قوّة متجدّدة للفرد والأسرة والمجتمع، بل ولكلّ العالم الإسلاميّ.
16- الاجتماع يخيف الأعداء ويلقي الرّعب في قلوبهم ويجعلهم يخشون شوكة الإسلام والمسلمين، ومن ثمّ يكون في الاجتماع عزّة للمسلمين في كلّ مكان.
17- إنّ توحيد الصّفوف واجتماع الكلمة هما الدّعامة الوطيدة لبقاء الأمّة، ودوام دولتها، ونجاح رسالتها.
18- الاجتماع وسيلة من وسائل الأخلاق الفاضلة وذلك بانغماس الفرد في البيئات الصّالحة، ذلك لأنّ من طبيعة الإنسان أن يكتسب من البيئة الّتي ينغمس فيها، ويتعايش معها ومع ما لديها من أخلاق وعادات وسلوك.
19- بوجود الإنسان مع الجماعة تنشط روح المنافسة.
20- الاجتماع يذكي في الأفراد روح التّفوّق والرّغبة في إظهار ما لديهم من قدرات، وهذا الدّافع لا يتحرّك إلّا من خلال الجماعة.
21- في وجود الفرد داخل الجماعة وازع أساسيّ له كي يبتعد عن الرّذّائل خشية ما يصيبه من ضرر لو اطّلع الآخرون على هذه الصّفات القبيحة، ومن هنا يكون للاجتماع دوره الفعّال في مكافحة الجريمة والرّذيلة.
22- بالاجتماع وخاصّة مع الصّالحين والأسوياء ما يجعل المرء يشعر بأخلاق الجماعة ويحاول تقليدها واكتساب أخلاقها، ثمّ يتحمّس للدّفاع عنها.
23- في الاجتماع دواء ناجع لكثير من الأمراض النّفسيّة كالانطواء والقلق، إذ إنّ وجود المرء مع الآخرين يدفع عنه داء الانطواء ويذهب القلق،(2/52)
وخاصّة إذا علم أنّ إخوانه لن يتخلّوا عنه وقت الشّدّة فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه.
24- وأخيرا فإنّ مجالسة أهل الذّكر والاجتماع بهم وهم القوم لا يشقى جليسهم- غالبا ما يكون سببا لمغفرة الله- عزّ وجلّ- ورضوانه.
25- في الاجتماع طرد للشّيطان وإغاظة له لأنّه يهمّ بالواحد والاثنين فإذا كانوا ثلاثة (وهو أقلّ الجمع) لم يهمّ بهم الشّيطان «1» ، كما أخبر المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) انظر الحديث رقم (6) .(2/53)
الاحتساب
الاحتساب لغة:
الاحتساب مصدر احتسب وهو من مادّة (ح س ب) الّتي تدلّ في اللّغة على معان عديدة منها:
العدّ، والكفاية «1» ، ومن المعنى الأوّل (العدّ) قولهم: حسبت الشّيء أحسبه حسبا وحسبانا، قال تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (الرحمن/ 5) ، ومن الباب الحسب الّذي يعدّ من الإنسان، قال أهل اللّغة معناه أن يعدّ آباء أشرافا، ومن هذا الباب قولهم: احتسب فلان ابنه إذا مات كبيرا، وذلك أن يعدّه في الأشياء المذخورة له عند الله، والاسم:
الحسبة وهو الأجر أو احتساب الأجر، وفلان حسن الحسبة بالأمر إذا كان حسن التّدبير، وهذا أيضا من الباب لأنّه إذا كان حسن التّدبير للأمر كان عالما بعداد كلّ شيء وموضعه من الرّأي والصّواب، ويقال: أحتسب بكذا أجرا عند الله، وفي الحديث:
«من صام رمضان إيمانا واحتسابا» . أي طلبا لوجه الله تعالى وثوابه، فالاحتساب من الحسب كالاعتداد من العدّ، وإنّما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله احتسبه
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
28/ 25/ 7
لأنّ له حينئذ أن يعتدّ عمله فجعل في حال مباشرة الفعل كأنّه معتدّ به، والحسبة: الأجر وهي اسم من الاحتساب كالعدّة من الاعتداد، وجمع الحسبة حسب، وأمّا قوله عزّ وجلّ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ فجائز أن يكون معناه: من حيث لا يقدّره ولا يظنّه كائنا، من حسبت أحسب أي ظننت، وجائز أن يكون مأخوذا من حسبت أحسب، أي من حيث لم يحسبه لنفسه رزقا ولا عدّه في حسابه، قال الأزهريّ:
وإنّما سمّي الحساب في المعاملات حسابا لأنّه يعلم به ما فيه كفاية ليس فيه زيادة على المقدار، ومعنى قولهم:
احتسب فلان ابنا له: اعتدّ مصيبته به في جملة بلايا الله الّتي يثاب على الصّبر عليها» .
ومن المعنى الثّاني (أي الكفاية، قولهم: أحسبني الشّيء: كفاني، تقول أعطى فأحسب، أي أكثر حتّى قال: حسبي، وقال الفرّاء في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (الأنفال/ 64) يكفيك الله ويكفي من اتّبعك «3» . وقال القرطبيّ:
قيل: المعنى كافيك الله وكافي من اتّبعك «4» ، وفي
__________
(1) لهذه المادة معنى ثالث هو الدّلالة على جنس من الألوان، ومنه الحسبة: غبرة في كدرة يقال: جمل أحسب وناقة حسباء وهو دون الورقة، وشعره أحسب: فيه سواد وغبرة. انظر المقاييس (2/ 61) والجمهرة لابن دريد (1/ 221) ولسان العرب (1/ 316) .
(2) مقاييس اللغة (2/ 6) ، والنهاية لابن الأثير (1/ 382) ولسان العرب لابن منظور (1/ 314- 315) .
(3) لسان العرب (1/ 312) (ط. بيروت) .
(4) تفسير القرطبي (7/ 43) وقد روى الرأي الأول عن الحسن والآخر عن الشعبي وابن زيد واختاره الفراء كما ذكر ابن منظور.(2/54)
حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يحسبك أن تصوم من كلّ شهر ثلاثة أيّام» قال ابن الأثير: يكفيك ولو روي «بحسبك أن تصوم» أي كفايتك، أو كافيك، كقولهم: بحسبك قول السّوء (والباء زائدة) لكان وجها.
والإحساب الكفاية، وفي أسماء الله تعالى:
الحسيب وهو الكافي- فعيل بمعنى مفعل- من أحسبني الشّيء إذا كفاني، وقولهم: أحسبته (بالهمز) وحسّبته (بالتّشديد) أعطيته ما يرضيه حتّى يقول:
«حسبي» «1» . وقول الله تعالى: فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (آل عمران/ 173) قال القرطبيّ في تفسيره «2» : المعنى كافينا الله من الإحساب وهو الكفاية، قال الشّاعر:
فتملأ بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع وريّ
روي عن ابن عبّاس في هذه الآية قال: قالها إبراهيم الخليل- عليه السّلام- حين ألقي في النّار، وقالها محمّد صلّى الله عليه وسلّم حين قال النّاس (من المنافقين، وقيل ركب عبد القيس الّذين مرّوا بأبي سفيان فدسّهم إلى المسلمين ليثبّطوهم) : إِنَّ النَّاسَ (أي أبو سفيان ومن معه) قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ «3» ، وقال الطّبريّ في قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ المعنى فإن تولّى يا محمّد هؤلاء الّذين جئتهم بالحقّ فأدبروا عنك ولم يقبلوا ما أتيتهم به من النّصيحة في الله فقل: حسبي الله (يعني) يكفيني ربّي لا إله إلّا هو لا معبود سواه، عليه توكّلت وبه وثقت، وعلى عونه اتّكلت، وإليه وإلى نصره استندت لأنّه ناصري ومعيني على من خالفني وتولّى عنّي منكم ومن غيركم من النّاس وهو ربّ العرش العظيم.
الاحتساب اصطلاحا:
قال الكفويّ: الاحتساب: هو طلب الأجر من الله تعالى بالصّبر على البلاء مطمئنّة نفس المحتسب غير كارهة لما نزل بها من البلاء «4» .
وقال ابن الأثير: الاحتساب في الأعمال الصّالحة وعند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله بالتّسليم والصّبر، أو باستعمال أنواع البرّ والقيام بها على الوجه المرسوم فيها طلبا للثّواب المرجوّ منها «5» .
إنّه إذا كان الاحتساب بمعناه الّذي ذكره الكفويّ، أو بمعنييه اللّذين ذكرهما ابن الأثير يعني أن يعدّ الإنسان صبره في المكاره وعمله الطّاعة ضمن ما له عند الله- عزّ وجلّ-، فإنّ اكتفاء الإنسان بالله تعالى وثقته به واتّكاله في نصرته على عونه كما يفهم من كلام الطّبريّ «6» ، نوع من الاحتساب، كما أنّ رضا
__________
(1) النهاية لابن الأثير (1/ 381) وانظر اللسان (1/ 312) .
(2) تفسير القرطبي (4/ 279- 282) باختصار وتصرف.
(3) تفسير الطبري (7/ 56) باختصار.
(4) في الأصل «مطمئنة نفسه غير كارهة له» وقد تصرفنا في العبارة بما يوضحها. انظر: الكليات للكفوي (ص 57) ، ويلاحظ أنه قد اقتصر على معنى واحد فقط للاحتساب وهو طلب الأجر عند الصبر على البلاء.
(5) النهاية لابن الأثير (1/ 382) .
(6) انظر: تفسير الطبرى لقوله تعالى في آخر سورة التوبة: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ... وقد نقلنا خلاصته آنفا فارجع إليه.(2/55)
العبد بما قسم له مع الاكتفاء به، كما يؤخذ من تفسير القرطبيّ لقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ (التوبة/ 59) احتساب أيضا «1» . من ثمّ يكون الاحتساب ثلاثة أنواع هي:
1- احتساب الأجر من الله تعالى عند الصّبر على المكاره، وخاصّة فقد الأبناء إذا كانوا كبارا.
2- احتساب الأجر من الله تعالى عند عمل الطّاعات يبتغى به وجهه الكريم كما في صوم رمضان إيمانا واحتسابا، وكذا في سائر الطّاعات.
3- احتساب المولى- عزّ وجلّ- ناصرا ومعينا للعبد عند تعرّضه لأنواع الابتلاء من نحو منع عطاء أو خوف وقوع ضرر، ومعنى الاحتساب في هذا النّوع الثّالث الاكتفاء بالمولى- عزّ وجلّ- ناصرا ومعينا والرّضا بما قسمه للعبد إن قليلا وإن كثيرا.
[للاستزادة: انظر صفات: الإنابة- التوكل- الدعاء- الفرار إلى الله- الصبر والمصابرة- كظم الغيظ.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الجزع- الحزن القنوط- الوهن- العجلة] .
__________
(1) انظر تفسير القرطبي (8/ 167) .(2/56)
الآيات الواردة في «الاحتساب»
أولا: الاحتساب بمعنى الاكتفاء بالمولى- عز وجل- ناصرا ومعينا:
1- الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) «1»
2- وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) «2»
3- يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) «3»
4- وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) «4»
5- فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) «5»
6- وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) «6»
ثانيا: الاحتساب بالصبر على المكاره «الآيات الواردة بالمعنى» :
7- الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) «7»
8- وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) «8»
9- وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) «9»
ثالثا: الاحتساب عند الطاعات: «الآيات الواردة بالمعنى» :
10- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) «10»
__________
(1) آل عمران: 173 مدنية
(2) الأنفال: 62 مدنية
(3) الأنفال: 64 مدنية
(4) التوبة: 59 مدنية
(5) التوبة: 129 مدنية
(6) الزمر: 38 مكية
(7) البقرة: 156- 157 مدنية
(8) النساء: 104 مدنية
(9) الرعد: 22- 24 مدنية
(10) البقرة: 207 مدنية(2/57)
11- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) «1»
12- وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) «2»
13-* لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) «3»
14-* لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) «4»
15- وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) «5»
16- يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) «6» 17- وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا (56)
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) «7»
18- كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) «8»
19- كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) «9»
20- كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144)
__________
(1) البقرة: 218 مدنية
(2) البقرة: 265 مدنية
(3) البقرة: 272 مدنية
(4) النساء: 114 مدنية
(5) هود: 29 مكية
(6) هود: 51 مكية
(7) الإسراء: 55- 57 مكية
(8) الشعراء: 105- 109 مكية
(9) الشعراء: 123- 127 مكية(2/58)
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) «1»
21- كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) «2»
22- كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) «3»
23- إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) »
24- يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7)
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) «5»
25- وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) «6»
الآيات الواردة في «الاحتساب» ولها معنى آخر
26- وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) «7»
27- هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) «8»
28- فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) «9»
__________
(1) الشعراء: 141- 145 مكية
(2) الشعراء: 160- 164 مكية
(3) الشعراء: 176- 180 مكية
(4) فاطر: 29- 30 مكية
(5) الإنسان: 7- 9 مكية
(6) الليل: 17- 21 مكية
(7) الزمر: 47 مكية
(8) الحشر: 2 مدينة
(9) الطلاق: 2- 3 مدنية(2/59)
الأحاديث الواردة في (الاحتساب)
1) الأحاديث الواردة في احتساب الطاعات:
1-* (عن أبيّ- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله- عزّ وجلّ- فرض صيام رمضان، وسننت قيامه. فمن صامه وقامه احتسابا، خرج من الذّنوب كيوم ولدته أمّه» ) * «1»
2-* (عن أبي مسعود البدريّ- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ المسلم إذا أنفق على أهله نفقة، وهو يحتسبها «2» ، كانت له صدقة «3» » ) * «4» .
3-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من اتّبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا، وكان معه حتّى يصلّى عليها ويفرغ من دفنها فإنّه يرجع من الأجر بقيراطين، كلّ قيراط مثل أحد، ومن صلّى عليها ثمّ رجع قبل أن تدفن فإنّه يرجع بقيراط» ) * «5» .
4-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» ) * «6» .
(2) الأحاديث الواردة في احتساب المكاره:
5-* (عن أسامة- رضي الله عنه- قال:
أرسلت ابنة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إليه أنّ ابنا لي قبض فأتنا، فأرسل يقرىء السّلام ويقول: «إنّ لله ما أخذ وله ما أعطى وكلّ عنده بأجل مسمّى، فلتصبر ولتحتسب «7» ... الحديث) * «8» .
6-* (عن حميد قال: سمعت أنسا يقول:
أصيب حارثة يوم بدر- وهو غلام- فجاءت أمّه إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة منّي، فإن يك في الجنّة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى ترى «9» ما أصنع؟. فقال: «ويحك- أو هبلت «10» - أو جنّة واحدة هي؟ إنّها جنان كثيرة، وإنّه لفي جنّة الفردوس» ) * «11» .
7-* (عن أبي قتادة- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قام فيهم فذكر لهم «أنّ الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال» فقام رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله
__________
(1) أحمد في المسند (3/ 660) ، وقال محققه: إسناده صحيح.
(2) يحتسبها: أي يقصد بها طلب الثواب.
(3) صدقة: أي يثاب عليها كما يثاب على الصدقة.
(4) مسلم (1002) .
(5) البخاري- الفتح 1 (47) واللفظ له، ومسلم (945) .
(6) البخاري- الفتح 1 (38) ، ومسلم (760) واللفظ له.
(7) ولتحتسب: أي تنوي بصبرها طلب الثواب من ربها ليحسب لها ذلك من عملها الصالح.
(8) البخاري- الفتح 3 (1284) واللفظ له. ومسلم (923) .
(9) كذا في نص البخاري «ترى» لكن في شرح ابن حجر (11/ 430) «تر» بالجزم جوابا للشرط. وقال ابن حجر كذا للكشميهني جواب الشرط ولغيره (ترى) بالإشباع أو بحذف شيء تقديره سوف كما في الرواية الآتية في آخر هذا الباب وإلا سوف ترى والمعنى وإن لم يكن من الحسبة صنعت شيئا من صنيع أهل الحزن مشهورا يرد كل أحد ...
(10) هبلت: بفتح الهاء وكسر الباء استعارة لفقد العقل مما أصابها من الثكل بولدها كأنه قال: أفقدت عقلك بفقد ابنك حتى جعلت الجنان جنة واحدة؟
(11) البخاري- الفتح 11 (6550) .(2/60)
تكفّر عنّي خطاياي؟. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«نعم، إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر» . ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كيف قلت» ، قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفّر عنّي خطاياي؟. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، إلّا الدّين، فإنّ جبريل عليه السّلام قال لي ذلك» ) * «1» .
8-* (عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله لا يرضى لعبده المؤمن إذا ذهب بصفيّه «2» من أهل الأرض فصبر واحتسب، وقال ما أمر به بثواب دون الجنّة» ) * «3»
9-* (عن أبيّ بن كعب- رضي الله عنه- قال: كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة، فكان لا تخطئه الصّلاة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال:
فتوجّعنا له. فقلت له: يا فلان لو أنّك اشتريت حمارا يقيك من الرّمضاء، ويقيك من هوامّ الأرض. قال:
أما والله! ما أحبّ أنّ بيتي مطنّب «4» ببيت محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قال: فحملت به حملا «5» حتّى أتيت نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبرته. قال: فدعاه، فقال له مثل ذلك، وذكر له أنّه يرجو في أثره «6» الأجر، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ لك ما احتسبت» ) * «7» .
10-* (عن أبي أمامة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله سبحانه: ابن آدم! إن صبرت واحتسبت عند الصّدمة الأولى، لم أرض لك ثوابا دون الجنّة» ) * «8» .
11-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدّنيا ثمّ احتسبه إلّا الجنّة» ) * «9» .
12-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: لم يتكلّم في المهد إلّا ثلاثة: عيسى ابن مريم. وصاحب جريج. وكان جريج رجلا عابدا.
فاتّخذ صومعة. فكان فيها. فأتته أمّه وهو يصلّي فقالت: يا جريج! فقال: يا ربّ! أمّي وصلاتي. فأقبل على صلاته فانصرفت. فلمّا كان من الغد أتته وهو يصلّي. فقالت: يا جريج! فقال: يا ربّ أمّي وصلاتي.
فأقبل على صلاته. فلمّا كان من الغد أتته وهو يصلّي.
فقالت: يا جريج! فقال: أي ربّ! أمّي وصلاتي فأقبل على صلاته. فقالت: اللهمّ لا تمته حتّى ينظر إلى وجوه
__________
(1) مسلم (1885) .
(2) صفيه: خليله وصديقه.
(3) النسائي (4/ 23) ، وقال محقق جامع الأصول (6/ 434) : إسناده حسن.
(4) مطنّب ببيت محمد: أي مشدود بالأطناب أي ما أحب أن يكون بيتي إلى جانب بيته لأني أحتسب عند الله كثرة خطاي من بيتي إلى المسجد (النهاية 3/ 140) .
(5) فحملت به حملا: معناه إنه عظم علي وثقل واستعظمته لبشاعة لفظه وهمّني ذلك، وليس المراد الحمل على الظهر.
(6) في أثره: أي في ممشاه.
(7) مسلم (663) .
(8) ابن ماجه (1597) ، وفي الزوائد: إسناد حديث أبي أمامة صحيح ورجاله ثقات.
(9) البخاري- الفتح 11 (6424) .(2/61)
المومسات «1» فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته.
وكانت امرأة بغيّ يتمثّل بحسنها «2» . فقالت: إن شئتم لأفتننّه لكم. قال فتعرّضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها. فوقع عليها. فحملت. فلمّا ولدت قالت: هو من جريج.
فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه.
فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغيّ. فولدت منك. فقال: أين الصّبيّ؟ فجاءوا به. فقال: دعوني حتّى أصلّي. فصلّى. فلمّا انصرف أتى الصّبيّ فطعن في بطنه وقال: يا غلام! من أبوك؟ قال: فلان الرّاعي.
قال: فأقبلوا على جريج يقبّلونه ويتمسّحون به.
وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب. قال: لا.
أعيدوها من طين كما كانت. ففعلوا. وبينا صبيّ يرضع من أمّه. فمرّ رجل راكب على دابّة فارهة وشارة حسنة «3» . فقالت أمّه! اللهمّ! اجعل ابني مثل هذا.
فترك الثّدي وأقبل إليه فنظر إليه. فقال: اللهمّ! لا تجعلني مثله. ثمّ أقبل على ثديه فجعل يرتضع.
قال: فكأنّي أنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السّبّابة في فمه. فجعل يمصّها. قال:
ومرّوا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنيت. سرقت.
وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل فقالت أمّه:
اللهمّ! لا تجعل ابني مثلها. فترك الرّضاع ونظر إليها.
فقال: اللهمّ! اجعلني مثلها. فهناك تراجعا الحديث.
فقالت: حلقى «4» ! مرّ رجل حسن الهيئة فقلت:
اللهمّ! اجعل ابني مثله. فقلت: اللهمّ! لا تجعلني مثله، ومرّوا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون:
زنيت. سرقت فقلت: اللهمّ! لا تجعل ابني مثلها.
فقلت: اللهمّ! اجعلني مثلها «5» .
قال: إنّ ذاك الرّجل كان جبّارا. فقلت: اللهمّ! لا تجعلني مثله وإنّ هذه يقولون لها: زنيت ولم تزن.
وسرقت. ولم تسرق فقلت: اللهمّ! اجعلني مثلها» ) * «6» .
الأحاديث الواردة في (الاحتساب) معنى
13-* (عن أبي موسى الأشعريّ- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟. فيقولون:
نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟. فيقولون: نعم.
فيقول: ماذا قال عبدي؟. فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنّة وسمّوه بيت الحمد» ) *» .
14-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
جاءت امرأة إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بابن لها، فقالت: يا رسول الله! إنّه يشتكي وإنّي أخاف عليه، قد دفنت ثلاثة، قال:
__________
(1) المومسات: الزواني البغايا المتجاهرات بذلك.
(2) يتمثل بحسنها: أي يضرب به المثل لانفرادها به.
(3) فارهة: النشيطة الحادة القوية. شارة: الهيئة واللباس.
(4) حلقى: أي أصابه الله بوجع في حلقه.
(5) مثلها: أي سالما من المعاصي كما هي سالمة.
(6) البخاري- الفتح 6 (3436) ، ومسلم (2550) واللفظ له.
(7) الترمذي (1021) ، وحسن إسناده الألباني صحيح الترمذي (814) .(2/62)
«لقد احتظرت «1» بحظار شديد من النّار» ) * «2» .
15-* (عن أبي موسى الأشعريّ- رضي الله عنه- قال: دخلت أسماء بنت عميس، وهي ممّن قدم معنا، على حفصة زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النّجاشيّ فيمن هاجر إليه، فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟. قالت: أسماء بنت عميس. قال عمر: الحبشيّة هذه؟ البحريّة هذه؟. فقالت أسماء:
نعم. فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحقّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم منكم، فغضبت. وقالت كلمة:
كذبت يا عمر، كلّا والله كنتم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم. وكنّا في دار، أو في أرض البعداء البغضاء في الحبشة وذلك في الله وفي رسوله وأيم الله «3» لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتّى أذكر ما قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ونحن كنّا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأسأله.
ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك. قال:
فلمّا جاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالت: يا نبيّ الله إنّ عمر قال كذا وكذا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس بأحقّ بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السّفينة هجرتان» . قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السّفينة يأتوني أرسالا «4» يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدّنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم ممّا قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) * «5» .
16-* (عن صهيب- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عجبا لأمر المؤمن إنّ أمره كلّه خير، وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن؟ إن أصابته سرّاء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرا له» ) * «6» .
17-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: قالت النّساء للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: غلبنا عليك الرّجال، فاجعل لنا يوما من نفسك. فوعدهنّ يوما لقيهنّ فيه فوعظهنّ وأمرهنّ، فكان فيما قال لهنّ: «ما منكنّ امرأة تقدّم ثلاثة من ولدها إلّا كان لها حجابا من النّار» .
فقالت امرأة: واثنين؟. فقال: «واثنين» ) * «7» .
18-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلّا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النّار سبعين خريفا» ) * «8» .
19-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسّه النّار إلّا تحلّة القسم «9» » ) * «10» .
20-* (عن أمّ سلمة- رضي الله عنهما- قالت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من مسلم
__________
(1) احتظرت: أي امتنعت بمانع وثيق.
(2) مسلم (2636) .
(3) وأيم الله، من ألفاظ القسم وأصلها أيمن الله ثم حذفت النون، تخفيفا لكثرة الاستعمال وأصل الجملة وأيمن الله قسمي ثم حذف الخبر.
(4) أرسالا: أفواجا.
(5) البخاري- الفتح 7 (3136) ، ومسلم (2503) واللفظ له.
(6) مسلم (2999) .
(7) البخاري- الفتح 1 (101) واللفظ له، ومسلم (2633) .
(8) البخاري- الفتح 6 (2840) ، مسلم (1153) .
(9) إلا تحلة القسم: أي ما ينحل به القسم وهو اليمين. وتحلة القسم هي تحلة قوله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها (مريم: 71) ، والقسم قوله تعالى فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ (مريم: 68) .
(10) البخاري- الفتح 3 (1251) ، ومسلم (2632) واللفظ له.(2/63)
تصيبه مصيبة، فيقول ما أمره الله: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. اللهمّ اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلّا أخلف الله له خيرا منها» . قالت: فلمّا مات أبو سلمة، قلت: أيّ المسلمين خير من أبي سلمة، أوّل بيت هاجر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ إنّي قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... الحديث) * «1»
21-* (عن أبي سعيد الخدريّ وأبي هريرة رضي الله عنهما- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما يصيب المسلم من نصب «2» ولا وصب «3» ولا همّ، ولا حزن، ولا أذّى، ولا غمّ- حتّى الشّوكة يشاكها- إلّا كفّر الله بها من خطاياه» ) * «4» .
المثل التطبيقي من حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم في (الاحتساب)
22-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: دخلت على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يوعك «5» فوضعت يدي عليه، فوجدت حرّه بين يديّ، فوق اللّحاف. فقلت: يا رسول الله ما أشدّها عليك!. قال:
«إنّا كذلك، يضعّف لنا البلاء، ويضعّف لنا الأجر» .
قلت: يا رسول الله أيّ النّاس أشدّ بلاء؟. قال:
«الأنبياء» ، قلت: يا رسول الله! ثمّ من؟. قال: «ثمّ الصّالحون. إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر، حتّى ما يجد أحدهم إلّا العباءة يحوّيها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرّخاء» ) * «6» .
23-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: دخلنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أبي سيف القين «7» ، وكان ظئرا «8» لإبراهيم «9» ، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إبراهيم فقبّله وشمّه، ثمّ دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه «10» ، فجعلت عينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تذرفان، فقال له عبد الرّحمن بن عوف- رضي الله عنه-: وأنت يا رسول الله!. فقال: «يا ابن عوف إنّها رحمة» ثمّ أتبعها بأخرى «11» ، فقال رسول
__________
(1) مسلم (918) .
(2) النصب: التعب.
(3) الوصب: الوجع.
(4) البخاري. الفتح 10 (5641، 5642) واللفظ له، مسلم (2573) .
(5) يوعك: من الوعك- ساكن العين- وهو: أذى الحمى ووجعها في البدن، وقيل: هو الألم يجده الإنسان من شدة التعب.
(6) ابن ماجه (4024) ، وفي الزوائد: إسناده صحيح، وبعضه في الصحيحين الفتح 10 (5648) ، مسلم (2571) من حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه.
(7) القين: الحداد.
(8) الظئر: المرضعة ولد غيرها، وزوجها ظئر لذلك الرضيع.
(9) هو إبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
(10) يجود بنفسه: أي يخرجها ويدفعها كما يدفع الإنسان ما له، وقد ضبطت «النفس» بفتح الفاء في فتح الباري لكن عبارة ابن حجر توحي بأنه «يجود بنفسه» ساكن الفاء بدليل عود الضمير عليها في الشرح مؤنثا.
(11) أتبعها بأخرى أي أتبع الدمعة بدمعة أخرى، وقيل أتبع الجملة الأولى المجملة وهي قوله إنها رحمة بكلمة أخرى مفصلة وهي قوله: إن العين تدمع ... إلخ.(2/64)
الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلّا ما يرضى ربّنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» ) * «1» .
24-* (عن جندب بن سفيان- رضي الله عنه- قال: دميت «2» إصبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض تلك المشاهد فقال:
«
هل أنت إلّا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
» ) * «3» .
25-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: كأنّي أنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحكي نبيّا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدّم عن وجهه ويقول: «ربّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون» ) * «4» .
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في (الاحتساب)
1-* (قال عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه:
«أيّها النّاس، احتسبوا أعمالكم، فإنّ من احتسب عمله، كتب له أجر عمله وأجر حسبته» ) * «5» .
2-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: «ما من مسلم له ولدان مسلمان يصبح إليهما محتسبا إلّا فتح الله له بابين، يعني من الجنّة، وإن كان واحد فواحد» ) * «6» .
3-* (قال خبيب- رضي الله عنه- عند ما أراد قتله بنو الحارث بن عامر بن نوفل:
فلست أبالي حين أقتل مسلما ... على أيّ جنب كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع
» ) * «7» .
4-* (قال وكيع- رحمه الله- بعد حديث عديّ بن حاتم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما منكم من رجل إلّا سيكلّمه ربّه يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان ... الحديث» «8» ، قال: «من كان هاهنا من أهل خراسان، فليحتسب في إظهار هذا الحديث، لأنّ الجهميّة ينكرون ذلك» ) * «9» .
5-* (وقال الماورديّ في سياق تفسير هذه الآية يعني إذا أصابتهم مصيبة في نفس أو أهل أو مال قالوا: إنّا لله: أي نفوسنا وأهلونا وأموالنا لله، لا يظلمنا فيما يصنعه بنا وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ يعني بالبعث في ثواب المحسن ومعاقبة المسيء) «10» .
6-* (قال ابن كثير في قوله تعالى: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أي
__________
(1) البخاري- الفتح 3 (1303) واللفظ له، مسلم (2315) .
(2) دميت: أي جرحت وخرج منها الدم.
(3) البخاري- الفتح 10 (6146) ، مسلم (1796) واللفظ له. وهذان قسمان من رجز والتاء في آخرهما مكسورة على وفق الشعر.
(4) البخاري- الفتح 6 (3477) ، مسلم (1792) واللفظ له.
(5) لسان العرب (1/ 315) .
(6) الأدب المفرد للبخاري (ص 4) .
(7) البخاري- الفتح 7 (3989) .
(8) البخاري- الفتح 13 (7512) ، ومسلم (1016) .
(9) الترمذي (4/ 2415) .
(10) تفسير الماوردي (1/ 210) .(2/65)
تسلّوا بقولهم هذا عمّا أصابهم وعلموا أنّهم ملك لله يتصرّف في عبيده بما يشاء. وعلموا أنّه لا يضيع لديه مثقال ذرّة يوم القيامة فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنّهم عبيده وأنّهم إليه راجعون في الدّار الآخرة» ) *» .
7-* (وأخرج عبد بن حميد عن قتادة الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ قال: من استطاع أن يستوجب لله في مصيبته ثلاثا (الصّلاة والرّحمة والهدى) فليفعل ولا قوّة إلّا بالله. فإنّه من استوجب على الله حقّا بحقّ أحقّه الله له، ووجد الله وفيّا) «2» .
من فوائد (الاحتساب)
(1) طريق موصل إلى محبّة الله ورضوانه.
(2) دليل كمال الإيمان وحسن الإسلام.
(3) الفوز بالجنّة والنّجاة من النّار.
(4) حصول السّعادة في الدّارين.
(5) الاحتساب في الطّاعات يجعلها خالصة لوجه الله تعالى وليس لها جزاء إلّا الجنّة.
(6) الاحتساب في المكاره يضاعف أجر الصّبر عليها.
(7) الاحتساب يبعد صاحبه عن شبهة الرّياء ويزيد من ثقته بربّه.
(8) الاحتساب في المكاره يدفع الحزن ويجلب السّرور ويحوّل ما يظنّه الإنسان نقمة إلى نعمة.
(9) الاحتساب في الطّاعات يجعل صاحبه قرير العين مسرور الفؤاد بما يدّخره عند ربّه فيتضاعف رصيده الإيمانيّ وتقوى روحه المعنويّة.
(10) الاحتساب دليل الرّضا بقضاء الله وقدره، ودليل على حسن الظّنّ بالله تعالى.
__________
(1) تفسير ابن كثير (1/ 198) .
(2) الدر المنثور (1/ 377- 378) .(2/66)
الإحسان
الإحسان لغة:
ضدّ الإساءة، ورجل محسن ومحسان، الأخيرة عن سيبويه.
والمحاسن في الأعمال: ضدّ المساويء. وقوله تعالى وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ (الرعد/ 22) ، أي يدفعون بالكلام الحسن ما ورد عليهم من سيّء غيرهم.
وحسّنت الشّيء تحسينا: زيّنته، وأحسنت إليه وبه، وروى الأزهريّ عن أبي الهيثم أنّه قال في قوله تعالى في قصّة يوسف، على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ (يوسف/ 100) أي قد أحسن إليّ «1» .
الإحسان اصطلاحا:
يختلف معنى الإحسان اصطلاحا باختلاف السّياق الّذي يرد فيه، فإذا اقترن بالإيمان والإسلام كان المراد به: الإشارة إلى المراقبة وحسن الطّاعة، وقد فسّره النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بذلك عند ما سأله جبريل: ما الإحسان؟ فقال: «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك..»
أمّا إذا ورد «الإحسان» مطلقا فإنّ المراد به
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
66/ 29/ 6
فعل ما هو حسن، والحسن وصف مشتقّ من الحسن الّذي يراد به اصطلاحا- فيما يقول الجرجانيّ:
«ما يكون متعلّق المدح في العاجل والثّواب في الآجل» «2» ، وذهب التّهانويّ إلى أنّ لفظ الحسن يطلق ويراد به- اصطلاحا- واحد من أمور ثلاثة:
الأوّل: كون الشّيء ملائما للطّبع وضدّه القبح بمعنى كونه منافرا له.
الثّاني: كون الشّيء صفة كمال وضدّه القبح وهو كونه صفة نقصان وذلك مثل العلم والجهل.
الثّالث: كون الشّيء متعلّق المدح وضدّه القبح بمعنى كونه متعلّق الذّمّ.
وقال المناويّ: الإحسان إسلام ظاهر، يقيمه إيمان باطن، يكمّله إحسان شهوديّ. وقال الرّاغب:
الإحسان: فعل ما ينبغي فعله من المعروف، وهو ضربان: أحدهما: الإنعام على الغير، والثّاني الإحسان في فعله وذلك إذا علم علما محمودا، وعمل عملا حسنا، ومنه قول عليّ- رضي الله عنه-: النّاس أبناء ما يحسنون. أي منسوبون إلى ما يعلمون ويعملون.
وقال الكفويّ: الإحسان: هو فعل (الإنسان) ما ينفع غيره بحيث يصير الغير حسنا به، كإطعام
__________
(1) لسان العرب (باختصار وتصرف) ج 1 ص 877 وما بعدها (ط. دار المعارف) .
(2) التعريفات للجرجاني (91) .(2/67)
الجائع، أو يصير الفاعل به حسنا بنفسه، فعلى الأوّل:
الهمزة في أحسن للتّعدية وعلى الثّاني للصّيرورة «1» .
حقيقة الإحسان:
فسّر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الإحسان حين سأله جبريل، صلوات الله وسلامه عليه، فقال: «هو أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لّم تكن تراه فإنّه يراك» . أراد بالإحسان الإشارة إلى المراقبة وحسن الطّاعة؛ فإنّ من راقب الله أحسن عمله، وهو تفسير قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ (النحل/ 90) . ولذلك عظّم الله ثواب أهل الإحسان، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (البقرة/ 195) وقال عزّ وجلّ: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (الرحمن/ 60) أي ما جزاء من أحسن في الدّنيا إلّا أن يحسن إليه في الآخرة.
والفرق بين الإحسان والإنعام أنّ الإحسان يكون لنفس الإنسان ولغيره. تقول: أحسنت إلى نفسي، والإنعام لا يكون إلّا لغيره.
وقال الفيروز اباديّ: الإحسان يقال على وجهين: أحدهما الإنعام على الغير. تقول: أحسن إلى فلان، والثّاني إحسان في فعله. وذلك إذا علم علما حسنا، أو عمل عملا حسنا. والإحسان أعمّ من الإنعام، وقال: الإحسان من أفضل منازل العبوديّة؛ لأنّه لبّ الإيمان وروحه وكماله. وجميع المنازل منطوية فيها، قال تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (الرحمن/ 60) وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه» . والإحسان يكون في القصد بتنقيته من شوائب الحظوظ، وتقويته بعزم لا يصحبه فتور، وبتصفيته من الأكدار الدّالّة على كدر قصده. ويكون الإحسان في الأحوال بمراعاتها وصونها غيرة عليها أن تحوّل «2» .
الإحسان- إذن- وفي معنى عامّ: المعاملة بالحسنى ممّن لا يلزمه إلى من هو أهل لها. ذلك أنّ الحسن يعني: ما كان محبوبا عند المعامل به، وليس لازما لفاعله.
درجات الإحسان:
ويأتي الإحسان على درجات متعدّدة، وكلّها ينضوي تحت المفهوم الشّامل السّابق، وأعلاه: ما كان في جانب الله تعالى، ممّا فسّره النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقوله في الحديث المشهور «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» . ودونه التّقرّب إلى الله تعالى بالنّوافل.
وتأتي بعد ذلك مراتب أخرى للإحسان سواء في القصد والنّيّة، أو في الفعل، والإحسان في النّيّة يعدّ أمرا مهمّا، إذ لابدّ أن تنقّى تنقية سليمة وافرة، أمّا الإحسان في الفعل أي في المعاملة مع الخلق فيكون فيما زاد على الواجب شرعا، ويدخل فيه جميع الأقوال والأفعال ومع سائر أصناف الخلائق إلّا ما حرّم الإحسان إليه بحكم الشّرع.
ومن أدنى مراتب الإحسان، ما ورد في
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون (2/ 148) وما بعدها والتوقيف على مهمات التعاريف لمحمد عبد الرءوف المناوي (41) والمفردات للراغب (119) ، والكليات للكفوي (53) .
(2) لسان العرب لابن منظور (13/ 115- 117) ، وبصائر ذوي التمييز للفيروزابادي (2/ 465- 466) .(2/68)
الصّحيحين: «أنّ امرأة بغيّا رأت كلبا يلهث من العطش، يأكل الثّرى، فنزعت خفّها وأدلته في بئر، ونزعت فسقته فغفر الله لها» ، وفي الحديث الشّريف «إنّا لله كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة» رواه مسلم.
فإلى حقيقة الإحسان ترجع أصول وفروع وآداب المعاشرة كلّها في المعاملة والصّحبة، والعفو عن الحقوق الواجبة من الإحسان لقوله تعالى: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران/ 134) «1» .
ويقول ابن قيّم الجوزيّة ما خلاصته: الإحسان على ثلاث درجات:
الدّرجة الأولى: الإحسان في القصد بتهذيبه علما وإبرامه عزما وتصفيته حالا.
الدّرجة الثّانية: الإحسان في الأحوال وهو أن تراعيها غيرة، وتسترها تظرّفا، وتصحّحها تحقيقا، والمراد بمراعاتها: حفظها وصونها غيرة عليها أن تحوّل فإنّها تمرّ مرّ السّحاب، وتكون المراعاة أيضا بدوام الوفاء وتجنّب الجفاء ...
الدّرجة الثّالثة: الإحسان في الوقت وهو ألّا تزايل المشاهدة أبدا، ولا تخلط بهمّتك أحدا، والمعنى في ذلك أن تتعلّق همّتك بالحقّ وحده، ولا تعلق همّتك بأحد غيره ... «2»
القيمة التربوية للإحسان:
قال أحد المعاصرين: الإحسان من عناصر التّربية الواعية نأخذه من قوله تعالى: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (البقرة/ 195) ، والإحسان في صورته العليا صفة ربّ العالمين، لأنّ الإساءة تنتج عن الجهل والعجز والقصور وما إلى ذلك من أوصاف مستحيلة على الله تعالى. إنّه سبحانه تحدّث عن صنعه للكون الكبير، فقال: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (النمل/ 88) ، وطلب إلى النّاس أن يفتّشوا عن مأخذ في هذه الصّناعة يشينها، وهيهات ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (الملك/ 3- 4) سبحانه من خالق أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (السجدة/ 7) ، والله سبحانه عند ما نشر أبناء آدم فوق الثّرى، وناط بهم رسالة الحياة، كلّفهم- كي يكونوا ربّانيّين- أن يحسنوا العمل، وأن يبلغوا به درجة الكمال، وإذا غلبتهم طباعهم الضّعيفة فلم يصلوا إلى هذا الشّأن كرّروا المحاولات، ولم يستريحوا إلى نقص أو قصور، وعليهم أن يجاهدوا حتّى يبلغوا بأعمالهم درجة الكمال المستطاع، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء ... » «3» ، حتّى في معاملة الحيوان الأعجم، وقد مرّ المصطفى صلّى الله عليه وسلّم على رجل واضع رجله على صفحة شاة، وهو يحدّ شفرته، وهي تلحظ إليه ببصرها، فقال: «أفلا قبل هذا ...
أتريد أن تميتها موتتين؟ هلا أحددت شفرتك «4» قبل
__________
(1) التحرير والتنوير (14/ 255، 256)
(2) مدارج السالكين (2/ 480) وما بعدها.
(3) انظر الحديث رقم (4) .
(4) إحداد الشفرة يعني إمضاء آلة الذبح وهي السكين.(2/69)
أن تضجعها» «1» ، إنّ الإحسان يقتضي من المسلم ألّا يضيّع وقته هباء، وأن يصرف جهده إلى النّافع من الأمور، فعن الشّريد- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من قتل عصفورا عبثا عجّ إلى الله يوم القيامة «2» يقول: يا ربّ إنّ فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة» «3» .
ويقول ماجد الكيلانيّ: يتضافر كلّ من العدل والإحسان في تحقيق الشّعار الّذي ترفعه فلسفة التّربيّة الإسلاميّة وهو شعار بقاء النّوع البشريّ ورقّيّه، وإذا كانت ثمرة العدل هي بقاء النّوع البشريّ فإنّ الإحسان يثمر الرّقيّ لأنّه يعني التّفضّل والعطاء دون مقابل من الجزاء أو الشّكر، ويؤدّي إلى توثيق الرّوابط وتوفير التّعاون «4» .
الإحسان من أهم وسائل نهضة المسلمين:
إنّ الإحسان يقتضي من المسلم إتقان العمل المنوط به إتقان من يعلم علم اليقين أنّ الله- عزّ وجلّ- ناظر إليه مطّلع على عمله، وبهذا الإتقان تنهض الأمم وترقى المجتمعات «5» .
إحسان الله إلى عباده:
إذا تدبّر العبد، علم أنّ ما هو فيه من الحسنات من فضل الله؛ فشكر الله؛ تعالى فزاده من فضله عملا صالحا، ونعما يفيضها عليه. وإذا علم أنّ الشّرّ لا يحصل له إلّا من نفسه بذنوبه، استغفر وتاب؛ فزال عنه سبب الشّرّ؛ فيكون العبد دائما شاكرا مستغفرا، فلا يزال الخير يتضاعف له، والشّرّ يندفع عنه. كما كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول في خطبته: «الحمد لله» ، فيشكر الله. ثمّ يقول: «نستعينه ونستغفره» ، نستعينه على الطّاعة، ونستغفره من المعصية. ثمّ يقول: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا» ، فيستعيذ به من الشّرّ الّذي في النّفس، ومن عقوبة عمله؛ فليس الشّرّ إلّا من نفسه ومن عمل نفسه؛ فيستعيذ الله من شرّ النّفس أن يعمل بسبب سيّئاته الخطايا، ثمّ إذا عمل استعاذ بالله من سيّئات عمله، ومن عقوبات عمله فاستعانه على الطّاعة وأسبابها، واستعاذ به من المعصية وعقابها.
فعلم العبد بأنّ ما أصابه من حسنة فمن الله، وما أصابه من سيّئة فمن نفسه- يوجب له هذا وهذا.
فهو سبحانه فرّق بينهما هنا، بعد أن جمع بينهما في قوله قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
فبيّن أنّ الحسنات والسّيّئات، والنّعم والمصائب، والطّاعات والمعاصي، على قول من أدخلها في «من عند الله» ، ثمّ بيّن الفرق الّذي ينتفعون به، وهو أنّ هذا الخير من نعمة الله؛ فاشكروه يزدكم، وهذا الشّرّ من ذنوبكم؛ فاستغفروه يدفعه عنكم «6» .
__________
(1) المحاور الخمسة للقرآن الكريم، والحديث المذكور في الترغيب والترهيب (3/ 204) ، قال المنذري: الحديث صحيح على شرط البخاري، وقد رواه الطبراني في الكبير والأوسط، كما رواه الحاكم واللفظ له.
(2) عجّ: أي شكا بصوت عال مرتفع.
(3) الترغيب والترهيب 3/ 204.
(4) فلسفة التربية الإسلامية (باختصار وتصرف) ص 144.
(5) المحاور الخمسة للقرآن الكريم (192) .
(6) انظر: الحسنة والسيئة لابن تيمية (49- 50) بتصرف يسير.(2/70)
بين الحسنة والإحسان:
قال الفيروزاباديّ: الحسنة يعبّر بها عن كلّ ما يسرّ من نعمة تنال الإنسان في نفسه وبدنه وأحواله، قال تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (النساء/ 78) ، أي خصب وسعة وظفر، أمّا الإحسان فإنّه يقال على وجهين: أحدهما الإنعام على الغير، والثّاني: الإحسان في الفعل أو العمل، وعلى هذا قول الإمام عليّ- كرّم الله وجهه ورضي عنه-: «النّاس أبناء ما يحسنون» أي منسوبون إلى ما يعملونه من الأفعال الحسنة «1» . والعلاقة بين الأمرين واضحة لأنّ من يحسن إلى نفسه بإخلاص التّوحيد والعبادة، أو إلى غيره بالقول أو الفعل فإنّ ذلك يثمر له الحسنى وهي الجنّة، فالحسنة والإحسان كلاهما مأخوذان من الحسن الّذي من شأنه أن يسرّ من يتحلّى به في الدّنيا والآخرة.
فمن معاني الحسنة:
1- التّوحيد، وثمرته الجنّة، قال تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (الرحمن/ 60) . قال عكرمة: (المعنى) هل جزاء من قال لا إله إلّا الله إلّا الجنّة؟ وقال ابن زيد: هل جزاء من أحسن في الدّنيا إلّا أن يحسن إليه في الآخرة «2» .
2- ومن معانيها: النّصر والغنيمة، كما في قوله تعالى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ (آل عمران/ 120) ، وهذه ثمرة الإحسان المشار إليه في قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (البقرة/ 195) .
3- ومن معانيها: المطر والخصب، وهي ثمرة من ثمرات إحسان الله على عباده وتفضّله عليهم، وذلك ما أشار إليه المولى عزّ وجلّ وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ (القصص/ 77) .
4- ومن معانيها: العافية، كما في قوله تعالى:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ (الرعد/ 6) ، وهذه كسابقتها من ثمار إحسان الله تعالى على عباده برّهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم.
5- ومن معانيها: قول المعروف، وذلك كما في قوله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... فصلت/ 34) ، وهذه ثمرة الإحسان بمعنى الفضل والعفو عن المسيء مع المقدرة على عقوبته ولو بمثل ما فعل، وهذا هو الإحسان المشار إليه في قوله تعالى: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران/ 134) .
6- ومن معانيها: فعل الخيرات، كما في قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها (الأنعام/ 160) ، وهذه ثمرة الإحسان إلى النّفس بإعطائها ما وعد الله به المحسنين في قوله: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ (الإسراء/ 7) .
وقوله سبحانه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ
__________
(1) بصائر ذوي التمييز (2/ 465) .
(2) تفسير القرطبي (17/ 182) ، وانظر تفسير ابن عباس- رضي الله عنهما- لهذه الآية الكريمة فيما نقلناه عن ابن القيم في منزلة الإحسان.(2/71)
مُحْسِنِينَ المعنى- كما ورد عن ابن عبّاس: كانوا محسنين في أعمالهم «1» .
من هذا يتّضح الارتباط الكامل والعلاقة الجوهريّة بين الإحسان بمعانيه كافّة والحسنة في كلّ استخداماتها في القرآن الكريم «2» . فإذا كان الإحسان شجرة فالحسنة ثمرته، ولمّا كانت الشّجرة طيّبة كانت ثمرتها حلوة المذاق حسنة المنظر في الدّنيا والآخرة «3» .
منزلة الإحسان:
قال ابن القيّم- رحمه الله-: الإحسان من منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وهذه المنزلة هي لبّ الإيمان وروحه وكماله، وهي جامعة لما عداها من المنازل، فجميعها منطوية فيها، وممّا يشهد لهذه المنزلة قوله تعالى:
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (الرحمن/ 60) ، إذ الإحسان جامع لجميع أبواب الحقائق، وهو أن تعبد الله كأنّك تراه، والإحسان الأوّل في الآية الكريمة هو- كما قال ابن عبّاس والمفسرون- هو قول لا إله إلّا الله، والإحسان الثّاني هو الجنّة، والمعنى: هل جزاء من قال لا إله إلّا الله وعمل بما جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلّم إلّا الجنّة، وقد روي عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قرأ الآية الكريمة ثمّ قال: «هل تدرون ماذا قال ربّكم؟» . قالوا: الله ورسوله أعلم. قال:
«هل جزاء من أنعمت عليه بالتّوحيد إلّا الجنّة» وفي هذا الحديث إشارة إلى كمال الحضور مع الله عزّ وجلّ، ومراقبته، ومحبّته، ومعرفته، والإنابة إليه، والإخلاص له ولجميع مقامات الإيمان.
بين الإحسان والإنعام:
الإحسان أعمّ من الإنعام أو التفضّل على الغير لأنّه يشمل الإحسان إلى النّفس كما يشمل الإحسان في النّيّة والفعل.
بين الإحسان والعدل:
وفيما يتعلّق بالعدل فإنّ الإحسان فوقه لأنّه إذا كان العدل يعني أن يأخذ الإنسان ما له ويعطي ما عليه، فإنّ الإحسان يعني أن يأخذ الإنسان أقلّ ممّا له وأن يعطي أكثر ممّا عليه، فالإحسان بذلك زائد على العدل، وإذا كان تحرّي العدل من الواجبات فإنّ تحرّي الإحسان ندب وتطوّع، وكلاهما مأمور به في قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ (النحل/ 90) . ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى الفضل مع العدل، فالعدالة لابدّ منها لضبط الأمور وإنصاف بعضهم من بعض، وعند ما سأل عمر بن عبد العزيز محمّد بن كعب القرظيّ- رحمهما الله- قائلا: صف لي العدل، قال:
بخ، سألت عن أمر جسيم، كن لصغير النّاس أبا، ولكبيرهم ابنا، وللمثل أخا، وللنّساء كذلك! وعاقب النّاس على قدر ذنوبهم، ولا تضر بنّ في غضبك سوطا واحدا فتكون من العادين. ذاك وصف العدل. أمّا الفضل فله سيرة أخرى لعلّ أقربها ما جاء عن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال له: «ألا أدلّك على أكرم أخلاق الدّنيا والآخرة؟ أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وذاك هو الإحسان» «4» .
__________
(1) تفسير القرطبي (17/ 35) .
(2) اقتبسنا معاني الحسنة من نزهة الأعين النواظر (259- 260) .
(3) مدارج السالكين (2/ 479) بتصرف يسير.
(4) المحاور الخمسة (192) .(2/72)
شمولية الإحسان واتساع دائرته:
من تأمّل الآيات الكريمة والأحاديث الشّريفة الواردة في الإحسان يتّضح بجلاء أنّ الإحسان يشكّل مع العدل- جوهر العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وأنّ دائرة هذا الإحسان تتّسع لتشمل النّفس والأسرة والأقارب ثمّ المجتمع والإنسانيّة عامّة فالإحسان إلى النّفس وهي الدّائرة الأولى فى مجموعة الدّوائر الّتي يدور الإحسان في فلكها تتضمّن إخلاص العبادة وكمال الطّاعة، قال تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها (الإسراء/ 7) .
أمّا الدّائرة الثّانية فتشمل الوالدين، قال تعالى:
وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً (الإسراء/ 23) (وانظر أيضا الشّواهد 17، 20، 22) والأحاديث الشّريفة (1، 15) .
وفيما يتعلّق بالأقارب وهي الدّائرة الثّالثة- فإنّها تشمل قرابة النّسب وقرابة الجوار وقد ورد الحثّ عليها في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ (البقرة/ 83) ، (وانظر أيضا الشّاهد القرآنيّ 20) ، أمّا في الحديث الشّريف فقد ورد الحثّ على الإحسان إلى الجار في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وأحسن جوار من جاورك تكن مسلما» (الحديث 16) وانظر أيضا الحديث رقم (7) .
أمّا الدّائرة الرّابعة وهي أوسع من سابقاتها فإنّها تضمّ المجتمع الّذي يعيش فيه الإنسان والإحسان هنا ينصبّ أساسا على الجانب الضّعيف في المجتمع كاليتامى والمساكين وأبناء السّبيل ومن على شاكلتهم، يقول الله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً (النساء/ 36) .
أمّا الدّائراة الخامسة وهي الأوسع والأرحب في العلاقات الإنسانيّة فتشمل الإحسان إلى المخالفين في العقيدة بالصّفح عنهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (المائدة/ 13) «1» .
ويمكننا أن نضيف إلى ذلك دائرة أكثر شمولا من العلاقة السّابقة، ألا وهي دائرة الحياة بكلّ ما فيها من نبات أو حيوان أو جماد وإلى ذلك يشير قول الله تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (الأعراف/ 56) ، وانظر أيضا الحديث الشّريف: «إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء» الحديث رقم (4) .
ميادين الإحسان كما جاءت في القرآن الكريم:
أمّا الميادين الّتي تتطلّب الإحسان بمعناه العامّ فقد فصّلها القرآن الكريم والسّنّة المطّهرة تفصيلا
__________
(1) أشار ماجد الكيلاني إلى هذه الدوائر الخمس بإيجاز في «فلسفة التربية الإسلامية ص 141.(2/73)
يصعب حصره أو تحديده، ذلك أنّ الإحسان مطلوب في جميع الأحوال والأوقات، ومن أهمّ الميادين الّتي تتجلّى فيها علاقة الإحسان:
1- مواجهة الملمّات بالصّبر عليها، قال تعالى:
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (هود/ 115) .
2- أداء الدّية لوليّ القتيل، وذلك قوله تعالى:
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ (البقرة/ 178) .
3- معاملة المطلّقات أو من ينوى طلاقهنّ، قال تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ...
مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (البقرة/ 236) ، وقوله سبحانه: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ (البقرة/ 229) .
4- الحرب والجهاد، وذلك قول الله تعالى:
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (العنكبوت/ 69) . وقوله سبحانه وتعالى:
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (البقرة/ 195) .
يقول الشّيخ الغزاليّ: هنا يذكر القرآن الكريم معنى آخر للإحسان، فالأمم لا تخدم رسالتها بالبخل وكراهية الإنفاق في سبيل الله، والحروب قديما وحديثا تتطلّب مالا كثيرا ... والعرب والمسلمون مكلّفون بمعرفة هذه الحقيقة، ولن يسلم لهم دينهم وتبقى لهم بلادهم (حرّة أبيّة) إلّا إذا توسّعوا في الإنفاق الحربيّ، وأحسنوا تهيئة كلّ شيء لكسب المعركة، ويشهد لذلك ما جاء في آيات أخرى عن حقيقة الإحسان، ودائرته الرّحبة، فهي تتطلّب الصّمود والبسالة إلى الرّمق الأخير، يقول المولى عزّ وجلّ: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ* فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران/ 147- 148) «1» .
5- مجاهدة النّفس بكظم الغيظ ومحاربة الشّحّ وكبح شهوة الانتقام، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران/ 134) . وتتضمّن هذه الآية الكريمة الإحسان إلى المسيء بالعفو عنه، يقول الشّيخ الغزاليّ: كظم الغيظ مرتبة عالية، ولكنّ المرتبة الأعلى هي العفو عند المقدرة، وتلك درجة الإحسان «2» .
6- الحوار الفكريّ والتّواصل الثّقافيّ، وقد جاء ذلك في قوله تعالى: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ (الإسراء/ 53) .
7- التّحاور بين المسلمين وأهل الكتاب، قال تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (العنكبوت/ 46) .
8- الخصومة والخلافات، يقول الله تعالى:
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (فصلت/ 34) .
__________
(1) المحاور الخمسة (193) بتصرف.
(2) المرجع السابق ونفسه، والصفحة نفسها.(2/74)
9- معاملة اليتامى والضّعفاء، يقول سبحانه:
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
(الأنعام/ 152) .
10- العلاقات السّياسيّة والحربيّة، قال تعالى:
قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً* قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً* وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى (الكهف/ 86- 88) .
11- العلاقات الاجتماعيّة وخاصّة ما يتعلّق بتبادل التّحيّة وردّ السّلام، يقول تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها (النساء/ 86) .
12- العلاقات الاقتصاديّة، يقول المولى عزّ وجلّ في قصّة قارون: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ (القصص/ 77) ، ويقول الله سبحانه وتعالى:
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (البقرة/ 195) . لقد تمّ الرّبط في هذه الآية الكريمة بين الإنفاق وهو المظهر الاقتصاديّ للإحسان وبين التّهلكة (خراب المجتمع) ، وسبب ذلك كما يقول بعض الباحثين: إنّ المجتمعات الّتي تقوم على الاستغلال والاحتكار تفرز الطّبقيّة، وتبذر بذور الصّراع الاجتماعي في الدّاخل، وتؤدّى إلى الصّراعات العالميّة في الخارج، وينتج عن ذلك شقاء الفريقين جميعا، المستغلّون والمستغلّون، فالطّبقة الأولى تقع فريسة للغربة والعزلة من ناحية وفقدان المحبّة وشيوع النّفاق من ناحية أخرى، كما أنّه يتولّد لديها الشّعور بالخوف وعدم الأمان من ناحية ثالثة، أمّا طبقة المستضعفين فإنّها تقع فريسة لمجموعة من الأخطار أهمّها: كره الطّبقات العليا المحتكرة والحقد عليها من ناحية ثمّ الإحساس بالغبن والإحباط من ناحية ثانية، وأخيرا فإنّها تميل إلى الجريمة والاستعداد للعنف من ناحية ثالثة.
إنّ تمكّن هذه الآفات الاجتماعيّة فى كلتا الطّبقتين هو التّهلكة الّتى تشير إليها الآية الكريمة وتحذّر منها وتدعو إلى معالجتها بالإحسان والإنفاق «1» .
وهكذا نرى الإحسان يشمل الفرد والمجتمع والدّولة والحياة بأسرها وأنّه لن تقوم تربية راشدة إلّا إذا غرسنا معنى الإحسان في النّفوس على أنّه من محابّ الله تعالى، وقد تضمّن الإحسان كما رأينا النّوايا والمقاصد والعبادات كما تناول الأقوال والأفعال ليس هذا فحسب وإنّما شمل أيضا الإحسان إلى المخلوقات كافّة من حيوان وجماد ونبات.
[للاستزادة: انظر صفات: الإيمان- الإسلام العبادة- الإخلاص- الإنفاق- بر الوالدين- البر حسن العشرة، حسن المعاملة- التقوى- السخاء- السماحة- الصدقة- الزكاة- العدل- العفو- الكلم الطيب.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الإساءة- الأذى- سوء المعاملة- سوء الخلق- الشح- عقوق الوالدين- الكنز- التفريط والإفراط- الإعراض- اتباع الهوى- المن بالعطية- البخل- الغش] .
__________
(1) باختصار وتصرف عن: فلسفة التربية الإسلامية ص 143.(2/75)
الآيات الواردة في «الإحسان»
أولا: الإحسان من صفة الله- عز وجل-:
1- صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) «1»
2- أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) «2»
3- أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) «3»
4- وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) «4»
5- وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) «5»
6- الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) «6»
7- أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) »
8- اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) «8»
9- هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) «9»
__________
(1) البقرة: 138 مدنية
(2) النساء: 78- 79 مدنية
(3) المائدة: 50 مدنية
(4) الأعراف: 137 مكية
(5) يوسف: 100 مكية
(6) السجدة: 7 مكية
(7) الصافات: 125 مكية
(8) غافر: 64 مكية
(9) التغابن: 2- 3 مدنية(2/76)
ثانيا: الإحسان من صفة الأنبياء وصالحي المؤمنين:
10- لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) «1»
11- وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا (125) «2»
12- وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) «3»
13- وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) «4»
14- الم (1)
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) «5»
15-* وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) «6»
16- وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) «7»
ثالثا: أمر الله- عز وجل- بالإحسان:
17- وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) «8»
18- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) «9»
__________
(1) البقرة: 236 مدنية
(2) النساء: 125 مدنية
(3) يوسف: 36 مكية
(4) يوسف: 100 مكية
(5) لقمان: 1- 3 مكية
(6) لقمان: 22 مكية
(7) الصافات: 113 مكية
(8) البقرة: 83 مدنية
(9) البقرة: 178 مدنية(2/77)
19- الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) «1»
20-* وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً (36) «2»
21- وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) «3»
22-* قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
(152) «4»
23-* إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) «5»
24-* وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً (23) «6»
25- وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) «7»
26- وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) «8»
__________
(1) البقرة: 229 مدنية
(2) النساء: 36 مدنية
(3) النساء: 86 مدنية
(4) الأنعام: 151- 152 مكية
(5) النحل: 90 مكية
(6) الاسراء: 23 مكية
(7) الاسراء: 53 مكية
(8) القصص: 77 مكية(2/78)
27-* وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) «1»
رابعا: عاقبة الإحسان:
أ- معية الله للمحسنين (وكفى به شرفا) :
28- إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) «2»
29- وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) «3»
ب- حب الله للمحسنين (وكفى به جزاء) :
30- وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) «4»
31- الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) «5»
32- فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) «6»
33- فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) «7»
34- لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) «8»
ج- جزاء الإحسان في الدنيا والآخرة:
35- وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) «9»
36- بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) «10»
37- الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) «11»
__________
(1) العنكبوت: 46 مكية
(2) النحل: 128 مكية
(3) العنكبوت: 69 مكية
(4) البقرة: 195 مدنية
(5) آل عمران: 134 مدنية
(6) آل عمران: 148 مدنية
(7) المائدة: 13 مدنية
(8) المائدة: 93 مدنية
(9) البقرة: 58 مدنية
(10) البقرة: 112 مدنية
(11) آل عمران: 172 مدنية(2/79)
38- وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) «1»
39- فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) »
40- وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) «3»
41- وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) «4»
42- وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) «5»
43- لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) «6»
44- وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) «7»
45-* لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) «8»
46- وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) «9»
47- وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) «10»
48- وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) «11»
__________
(1) النساء: 128 مدنية
(2) المائدة: 85 مدنية
(3) الانعام: 84 مكية
(4) الأعراف: 56 مكية
(5) الأعراف: 161 مكية
(6) التوبة: 91 مدنية
(7) التوبة: 121 مدنية
(8) يونس: 26 مكية
(9) هود: 115 مكية
(10) يوسف: 22 مكية
(11) يوسف: 56 مكية(2/80)
49- قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) «1»
50-* وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) «2»
51- إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) «3»
52- إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) «4»
53- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) «5»
54- حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86)
قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) «6»
55- لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) «7»
56- يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (28)
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) «8»
57- قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) «9»
58- وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119)
سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) «10»
59- وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129)
سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) «11»
__________
(1) يوسف: 90 مكية
(2) النحل: 30 مكية
(3) الإسراء: 7 مكية
(4) الكهف: 7 مكية
(5) الكهف: 30 مكية
(6) الكهف: 86- 88 مكية
(7) الحج: 37 مدنية
(8) الأحزاب: 28- 29 مدنية
(9) الصافات: 105 مكية
(10) الصافات: 119- 121 مكية
(11) الصافات: 129- 131 مكية(2/81)
60- قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) «1»
61- لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34)
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) «2»
62- وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) «3»
63- وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) «4»
64- إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)
آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) «5»
65- هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (60) «6»
66- وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) «7»
__________
(1) الزمر: 10 مكية
(2) الزمر: 34- 35 مكية
(3) فصلت: 33- 34 مكية
(4) الأحقاف: 12 مكية
(5) الذاريات: 15- 16 مكية
(6) الرحمن: 60 مدنية
(7) المرسلات: 42- 44 مكية(2/82)
الأحاديث الواردة في (الإحسان)
1-* (عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: أقبل رجل إلى نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله.
قال: «فهل من والديك أحد حيّ؟» قال: نعم، بل كلاهما. قال: «أفتبتغي الأجر من الله؟» قال: نعم، قال: «فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما» ) * «1» .
2-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفّر الله عنه كلّ سيّئة كان زلفها «2» وكان بعد ذلك القصاص: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسّيّئة بمثلها، إلّا أن يتجاوز الله عنها» ) * «3» .
3-* (عن أبي موسى- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتّين:
رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه، وأدرك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فآمن به واتّبعه وصدّقه فله أجران، وعبد مملوك أدّى حقّ الله تعالى وحقّ سيّده، فله أجران، ورجل له أمة فغذاها فأحسن غذاءها، ثمّ أدّبها فأحسن أدبها، ثمّ أعتقها وتزوّجها فله أجران» ) * «4» .
4-* (عن شدّاد بن أوس- رضي الله عنه- قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال: «إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة»
. وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبح، وليحدّ أحدكم شفرته «6» فليرح ذبيحته» ) * «7» .
5-* (عن عائشة- رضي الله عنها- قالت:
جاءتني امرأة معها ابنتان تسألني، فلم تجد عندي غير تمرة واحدة، فأعطيتها، فقسمتها بين ابنتيها، ثمّ قامت فخرجت، فدخل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فحدّثته. فقال: «من يلي من هذه البنات شيئا فأحسن إليهنّ كنّ له سترا من النّار» ) * «8» .
6-* (عن سليمان بن عمرو بن الأحوص؛ قال: حدّثني أبي، أنّه شهد حجّة الوداع مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فحمد الله وأثنى عليه، وذكّر ووعظ. فذكر في الحديث قصّة فقال: «ألا واستوصوا بالنّساء خيرا، فإنّما هنّ عوان عندكم «9» ليس تملكون منهنّ شيئا غير ذلك، إلّا أن يأتين بفاحشة مبيّنة، فإن فعلن فاهجروهنّ في المضاجع، واضربوهنّ ضربا غير مبرّح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلا. ألا إنّ لكم على نسائكم حقّا، ولنسائكم عليكم حقّا. فأمّا حقّكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون. ألا وحقّهنّ عليكم أن تحسنوا إليهنّ في كسوتهنّ وطعامهنّ» ) * «10» .
__________
(1) البخاري- الفتح 10 (5972) ، ومسلم (2549) واللفظ له.
(2) زلفها: أي اقترفها وفعلها.
(3) البخاري- الفتح 1 (41) واللفظ له، ومسلم (129) .
(4) البخاري- الفتح 1 (97) ، ومسلم (154) واللفظ له.
(5) القتلة: الهيئة والحالة.
(6) وليحد: أحد السكين، بمعنى شحذها.
(7) مسلم (1955) .
(8) البخاري- الفتح 10 (5995) واللفظ له، ومسلم (2629)
(9) عوان عندكم: أي أسرى في أيديكم.
(10) الترمذي (1163) وقال: هذا حديث حسن صحيح والحديث أصله في مسلم من حديث جابر رضي الله عنه (1218) .(2/83)
7-* (عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رجل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف لي أن أعلم إذا أحسنت وإذا أسأت؟ قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذا سمعت جيرانك يقولون: أن قد أحسنت فقد أحسنت. وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت، فقد أسأت» ) * «1» .
8-* (عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال:
قال رجل: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهليّة، قال: «من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهليّة، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأوّل والآخر» ) * «2» .
9-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بارزا يوما للنّاس فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه وبرسله وتؤمن بالبعث» . قال: ما الإسلام؟ قال:
«الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصّلاة، وتؤدّي الزّكاة المفروضة، وتصوم رمضان» . قال: ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» ، قال: متى السّاعة؟ قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السّائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربّتها. وإذا تطاول رعاة الإبل البهم «3» في البنيان، في خمس «4» لا يعلمهنّ إلّا الله، ثمّ تلا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قول الله إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» الآية (لقمان/ 34) ، ثمّ أدبر، فقال: «ردّوه» فلم يروا شيئا. فقال: «هذا جبريل جاء يعلّم النّاس دينهم» ) * «5» .
10-* (عن عقبة بن عامر- رضي الله عنه- قال: كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي فروّحتها بعشيّ «6» . فأدركت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائما يحدّث النّاس، فأدركت من قوله: «ما من مسلم يتوضّأ فيحسن وضوءه. ثمّ يقوم فيصلّي ركعتين. مقبل عليهما بقلبه ووجهه. إلّا وجبت له الجنّة» قال: فقلت: ما أجود هذه! فإذا قائل بين يديّ يقول: الّتي قبلها أجود. فنظرت فإذا عمر. قال: إنّي قد رأيتك جئت آنفا «7» . قال: «ما منكم من أحد يتوضّأ فيبلغ (أو يسبغ) «8» الوضوء ثمّ يقول: أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا عبد الله ورسوله إلّا فتحت له أبواب الجنّة الثّمانية يدخل من أيّها شاء» ) * «9» .
11-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «لا يدخل أحد الجنّة إلّا أري مقعده من النّار لو أساء ليزداد شكرا، ولا يدخل النّار أحد إلّا أري مقعده من الجنّة لو أحسن ليكون
__________
(1) ابن ماجة (4223) ، وفي الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات.
(2) البخاري- الفتح 12 (6921) واللفظ له، مسلم (120) .
(3) رعاة الإبل البهم: يجوز ضم الميم على أنها صفة الرعاة ويجوز كسرها على أنها صفة للإبل، وهي الإبل السود وهي شر الألوان عندهم وإذا كان المراد الرعاة، فإن وصفهم بالبهم إما لأنهم مجهولو الأنساب وإما لأنهم لا يملكون شيئا ويرعون لغيرهم.
(4) في خمس: أي علم وقت الساعة داخل في جملة خمس وحذف متعلق الجار سائغ كما في قوله تعالى فِي تِسْعِ آياتٍ أي اذهب إلى فرعون بهذه الآية في جملة تسع آيات.
(5) البخاري- الفتح 1 (50) واللفظ له، ومسلم (9) .
(6) روّحتها بعشيّ: أي رجعت بها وقت العشيّ وهو ما بعد الزوال إلى المغرب، وقيل: العشي من زوال الشمس إلى الصباح.
(7) آنفا: أي قريبا.
(8) فيبلغ (أو يسبغ) : أي يتمه ويكمله فيوصله مواضعه على الوجه المسنون.
(9) مسلم (234) .(2/84)
عليه حسرة» ) * «1» .
12-* (عن جابر- رضي الله عنه- قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل موته بثلاثة أيّام يقول:
«لا يموتنّ أحدكم إلّا وهو يحسن الظّنّ «2» بالله عزّ وجلّ» ) * «3» .
13-* (عن أنس- رضي الله عنه- قال: لمّا قدم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة أتاه المهاجرون، فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا قوما أبذل من كثير ولا أحسن مواساة من قليل من قوم نزلنا بين أظهرهم «4» ، لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ «5» حتّى خفنا أن يذهبوا بالأجر كلّه. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا، ما دعوتم الله لهم، وأثنيتم عليهم» ) * «6» .
14-* (عن عثمان- رضي الله عنه- قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها. إلّا كانت كفّارة لما قبلها من الذّنوب. ما لم يؤت كبيرة. وذلك الدّهر كلّه» ) * «7» .
15-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
جاء رجل إلى الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله! من أحقّ النّاس بحسن صحابتي «8» ؟ قال «أمّك» . قال:
ثمّ من؟ قال: «أمّك» . قال: ثمّ من؟. قال: «أمّك» .
قال: ثمّ من؟ قال «أبوك» ) * «9» .
16-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا هريرة، كن ورعا، تكن أعبد النّاس، وكن قنعا تكن أشكر النّاس.
وأحبّ للنّاس ما تحبّ لنفسك تكن مؤمنا، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلما، وأقلّ الضّحك فإنّ كثرة الضّحك تميت القلب» ) * «10» .
الأحاديث الواردة في (الإحسان) معنى
17-* (عن سعد بن الأطول، أنّ أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالا. فأردت أن أنفقها على عياله. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ أخاك محتبس بدينه، فاقض عنه» . فقال: يا رسول الله، قد أدّيت عنه إلّا دينارين، ادّعتهما امرأة وليس لها بيّنة. قال:
«فأعطها، فإنّها محقّة» ) * «11» .
18-* (عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- «أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كتب كتابا بين
__________
(1) البخاري- الفتح 11 (6569) .
(2) يحسن الظّنّ: يظن أنه يرحمه ويعفو عنه.
(3) مسلم (2877) .
(4) يريدون الأنصار.
(5) المهنأ: يقال: هنأني الطعام يهنؤني: أي تهنأت به وكل أمر يأتيك من غير تعب فهو هنيء، وكذلك المهنأ.
(6) الترمذي (2487) واللفظ له وقال: هذا حديث صحيح حسن غريب من هذا الوجه، وأبو داود (4812) .
(7) مسلم (228) .
(8) الصحابة هنا: بمعنى الصحبة.
(9) البخاري- الفتح 10 (5971) واللفظ له، مسلم (2548) .
(10) الترمذي (2305) ، وابن ماجة (4217) واللفظ له، وفي الزوائد: إسناده حسن، وأحمد في المسند (2/ 310) .
(11) ابن ماجة (2433) وفي الزوائد: إسناده صحيح.(2/85)
المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم «1» ، وأن يفدوا عانيهم «2» بالمعروف، والإصلاح بين المسلمين» ) * «3» .
19-* (عن أبي الزّبير قال: سمعت جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- سئل عن ركوب الهدي فقال: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتّى تجد ظهرا «4» » ) * «5» .
20-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينما رجل، يمشي بطريق، وجد غصن شوك على الطّريق، فأخّره. فشكر الله له، فغفر له» وقال: «الشّهداء خمسة: المطعون «6» ، والمبطون»
، والغرق، وصاحب الهدم، والشّهيد في سبيل الله- عزّ وجلّ-» ) * «8» .
21-* (عن حذيفة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تلقّت الملائكة روح رجل ممّن كان قبلكم، فقالوا: أعملت من الخير شيئا؟ قال: لا.
قالوا: تذكّر. قال: كنت أداين النّاس فآمر فتياني أن ينظروا المعسر «9» ويتجوّزوا عن الموسر. قال: قال الله عزّ وجلّ-: «تجوّزوا عنه» ) * «10» .
22-* (عن عائشة- رضي الله عنها- قالت:
سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صوت خصوم بالباب، عالية أصواتهما، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء. وهو يقول: والله لا أفعل. فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهما، فقال: «أين المتألّي على الله «11» لا يفعل المعروف؟» قال: أنا يا رسول الله، فله أيّ ذلك أحبّ) * «12» .
23-* (عن أبي موسى الأشعريّ- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: «على كلّ مسلم صدقة» قيل: أرأيت إن لم يجد؟ قال: «يعتمل بيديه «13» فينفع نفسه ويتصدّق» قال: قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: «يعين ذا الحاجة الملهوف» قال: قيل له: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: «يأمر بالمعروف أو الخير» قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: «يمسك عن الشّرّ، فإنّها صدقة» ) * «14» .
24-* (عن حذيفة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ معروف صدقة» ) * «15» .
25-* (عن أبي ذرّ- رضي الله عنه- قال:
قال لي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحقرنّ من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق «16» » ) * «17» .
__________
(1) يعقلون معاقلهم: أي يكونون على ما كانوا عليه من أخذ الديات وإعطائها والمعاقل الديات جمع معقلة. (انظر النهاية 3/ 279) .
(2) العاني: الأسير.
(3) أحمد في المسند (2443) وقال محققه: إسناده صحيح وابن كثير في تاريخه (3/ 224) وقال: تفرد به الإمام أحمد
(4) ظهرا: أي مركبا.
(5) مسلم (1324) .
(6) المطعون: الذي يموت في الطاعون.
(7) المبطون: هو الذي به الاستسقاء وداء البطن، وقيل: هو الذي يموت بداء بطنه مطلقا.
(8) البخاري- الفتح 5 (2472) ، مسلم (1914) متفق عليه.
(9) إنظار المعسر: إمهاله، والتجوز عن الموسر التجاوز عنه والتسامح معه.
(10) البخاري- الفتح 4 (2077) ، ومسلم (1560) واللفظ له.
(11) المتألي على الله: أي الحالف المبالغ في اليمين وهو من الألية بمعنى اليمين.
(12) البخاري- الفتح 5 (2705) ، ومسلم (1557) واللفظ له.
(13) الاعتمال: افتعال من العمل وتدل هذه الصيغة على بذل الجهد والمشقة في العمل.
(14) مسلم (1008) .
(15) البخاري- الفتح 10 (6021) ، ومسلم (1005) متفق عليه.
(16) طلق: أي سهل منبسط.
(17) مسلم (2626) .(2/86)
26-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن استجار بالله فأجيروه، ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له، حتّى تعلموا أن قد كافأتموه» ) * «1» .
27-* (عن أسامة بن زيد- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرا، فقد أبلغ في الثّناء» ) * «2» .
المثل التطبيقي من حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم في (الإحسان)
28-* (عن المقداد- رضي الله عنه- قال:
أقبلت أنا وصاحبان لي وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد «3» . فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فليس أحد منهم يقبلنا «4» . فأتينا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فانطلق بنا إلى أهله فإذا ثلاثة أعنز، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «احتلبوا هذا اللّبن بيننا» قال: فكنّا نحتلب فيشرب كلّ إنسان منّا نصيبه. ونرفع للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نصيبه قال: فيجيء من اللّيل فيسلّم تسليما لا يوقظ نائما ويسمع اليقظان. قال: ثمّ يأتي المسجد فيصلّي، ثمّ يأتي شرابه فيشرب. فأتاني الشّيطان ذات ليلة. وقد شربت نصيبي. فقال: محمّد يأتي الأنصار فيتحفونه «5» ويصيب عندهم. ما به حاجة إلى هذه الجرعة. فأتيتها فشربتها. فلمّا أن وغلت «6» في بطني وعلمت أنّه ليس إليها سبيل. قال: ندّمني الشّيطان، فقال: ويحك، ما صنعت؟ أشربت شراب محمّد؟ فيجيء فلا يجده فيدعو عليك فتهلك. فتذهب دنياك وآخرتك. وعليّ شملة إذا وضعتها على قدميّ خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي. وجعل لا يجيئني النّوم، وأمّا صاحباي فناما، ولم يصنعا ما صنعت.
قال: فجاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسلّم كما كان يسلّم، ثمّ أتى المسجد فصلّى، ثمّ أتى شرابه فكشف عنه فلم ير فيه شيئا. فرفع رأسه إلى السّماء. فقلت: الآن يدعو عليّ فأهلك. فقال: «اللهمّ أطعم من أطعمني وأسق من أسقاني» . قال: فعمدت إلى الشّملة فشددتها عليّ وأخذت الشّفرة «7» ، فانطلقت إلى الأعنز أيّها أسمن فأذبحها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هي حافلة «8» وإذا هنّ حفّل كلّهنّ. فعمدت إلى إناء لآل محمّد صلّى الله عليه وسلّم ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه. قال: فحلبت فيه حتّى علته
__________
(1) أبو داود (4813) ، والنسائي (5/ 82) واللفظ له، وصححه الألباني، صحيح سنن النسائي (2407) وهو في الصحيحة (254) . وصححه أيضا محقق «جامع الأصول» (11/ 692) .
(2) الترمذي (2035) واللفظ له، وقال: هذا حديث حسن جيد، قال محقق جامع الأصول (2/ 558) : إسناده قوي.
(3) الجهد: الجوع والمشقة.
(4) (فليس أحد منهم يقبلنا) محمول على أن الذين عرضوا أنفسهم عليهم كانوا مقلّين ليس عندهم شيء يواسون به.
(5) يتحفونه: أي يعطونه التحفة وهي طرفة الفاكهة، وقد تستعمل في غير الفاكهة من الألطاف والعطايا.
(6) وغلت: أي دخلت وتمكنت منه.
(7) الشّفرة: هي السكين العريضة.
(8) حافلة: كثيرة اللبن.(2/87)
رغوة. فجئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أشربتم شرابكم اللّيلة؟ قال: قلت: يا رسول الله! اشرب.
فشرب، ثمّ ناولني. فقلت يا رسول الله اشرب فشرب ثمّ ناولني. فلمّا عرفت أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد روي وأصبت دعوته، ضحكت حتّى ألقيت إلى الأرض، قال: فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إحدى سوآتك «1» يا مقداد» فقلت:
يا رسول الله! كان من أمري كذا وكذا، وفعلت كذا.
فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما هذه إلّا رحمة من الله «2» . أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها» . قال:
فقلت: والّذي بعثك بالحقّ! ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك، من أصابها من النّاس» ) * «3» .
29-* (عن عثمان بن عفّان- رضي الله عنه- في خطبة له: إنّا والله قد صحبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السّفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير) «4» .
من الآثار وأقوال العلماء الواردة في (الإحسان)
1-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: «خمسا «5» ، لهنّ أحسن من الدّهم الموقفة «6» . لا تكلّم فيما لا يعنيك، فإنّه فضل ولا آمن عليك الوزر، ولا تتكلّم فيما يعنيك حتّى تجد له موضعا، فإنّه ربّ متكلّم في أمر يعنيه، قد وضعه في غير موضعه فعنّت، ولا تمار حليما ولا سفيها، فإنّ الحليم يقليك «7» وإنّ السّفيه يؤذيك، واذكر أخاك إذا تغيّب عنك ممّا تحبّ أن يذكرك به. وأعفه عمّا تحبّ أن يعفيك منه، واعمل عمل رجل يرى أنّه مجازى بالإحسان، مأخوذ بالإجرام» ) * «8» .
2-* (عن الحسن قال: «ليس الإيمان بالتّحلّي ولا بالتّمنّي، ولكن ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال، من قال حسنا، وعمل غير صالح، ردّه الله عليه» ) * «9» .
3-* (عن عبيد الله بن عديّ بن خيار: أنّه دخل على عثمان بن عفّان- رضي الله عنه- وهو محصور «10» فقال: «إنّك إمام عامّة، ونزل بك ما نرى، ويصلّي لنا إمام فتنة ونتحرّج. فقال: «الصّلاة أحسن ما يعمل النّاس، فإذا أحسن النّاس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم» ) * «11» .
4-* (عن عمرو بن ميمون- رضي الله عنه- قال: «رأيت عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- قبل أن يصاب بأيّام بالمدينة ووقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف. قال: كيف فعلتما؟ أتخافان
__________
(1) إحدى سوءاتك: أي إنك فعلت سوأة من الفعلات. فما هي؟
(2) ما هذه إلا رحمة من الله أي إحداث هذا اللبن في غير وقته.
(3) مسلم (2055) .
(4) أحمد في المسند (1/ 70) وقال الشيخ أحمد شاكر: (1/ 378 برقم 504) إسناده صحيح.
(5) قوله: خمسا، لعلها منصوبة على الإغراء.
(6) الدهم الموقفة: أي من الخيل الدهم التي أوقفت وأعدّت للركوب.
(7) يقليك: يبغضك.
(8) كتاب الصمت، لابن أبي الدنيا (264- 265) .
(9) انظر اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي (43) .
(10) محصور: محاط به وممنوع من الخروج.
(11) البخاري- الفتح 2 (695) .(2/88)
أن تكونا حمّلتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: حمّلناها أمرا هي له مطيقة، ما فيها كبير فضل. قال: انظرا أن تكونا حمّلتما الأرض ما لا تطيق. قالا: لا. فقال عمر: لئن سلّمني الله لأدعنّ أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا. قال: فما أتت عليه إلّا رابعة حتّى أصيب. قال: إنّي لقائم ما بيني وبينه إلّا عبد الله بن عبّاس غداة أصيب- وكان إذا مرّ بين الصّفين قال:
استووا، حتّى إذا لم ير فيهم خللا تقدّم فكبّر، وربّما قرأ سورة يوسف أو النّحل ذلك في الرّكعة الأولى حتّى يجتمع النّاس- فما هو إلّا أن كبّر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني- الكلب، حين طعنه «1» فطار العلج «2» بسكّين ذات طرفين، لا يمرّ على أحد يمينا ولا شمالا إلّا طعنه، حتّى طعن ثلاثة عشر رجلا. مات منهم سبعة. فلمّا رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا، فلمّا ظنّ العلج أنّه مأخوذ نحر نفسه. وتناول عمر يد عبد الرّحمن بن عوف فقدّمه، فمن يلي عمر فقد رأى الّذي أرى، وأمّا نواحي المسجد فإنّهم لا يدرون غير أنّهم فقدوا صوت عمر وهم يقولون: سبحان الله.
فصلّى بهم عبد الرّحمن بن عوف صلاة خفيفة، فلمّا انصرفوا قال: يا ابن عبّاس، انظر من قتلني، فجال ساعة، ثمّ جاء فقال: غلام المغيرة. قال: الصّنع؟ قال:
نعم. قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفا، الحمد لله الّذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدّعي الإسلام. قد كنت أنت وأبوك تحبّان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العبّاس أكثرهم رقيقا. فقال: إن شئت فعلت- أي إن شئت قتلنا. قال: كذبت، بعد ما تكلّموا بلسانكم وصلّوا قبلتكم، وحجّوا حجّكم؟ فاحتمل إلى بيته، فانطلقنا معه، وكأنّ النّاس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ. فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه ... الأثر. وفيه: وقال (عمر- رضي الله عنه-) :
أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأوّلين، أن يعرف لهم حقّهم. ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرا. الّذين تبوّءوا الدّار والإيمان من قبلهم، أن يقبل من محسنهم، وأن يعفى عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا، فإنّهم ردء الإسلام» .
وجباة المال وغيظ العدوّ، وأن لا يوخذ منهم إلّا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيرا، فإنّهم أصل العرب، ومادّة الإسلام، أن يؤخذ من حواشي «4» أموالهم، ويردّ على فقرائهم، وأوصيه بذمّة الله وذمّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلّفوا إلّا طاقتهم!) * «5» .
5-* (عن عليّ بن عمرو قال: «نزل عبيد الله ابن العبّاس بن عبد المطّلب منزلا منصرفه من الشّام نحو الحجاز، فطلب غلمانه طعاما، فلم يجدوا في ذلك المنزل ما يكفيهم؛ لأنّه كان مرّ به زياد بن أبي سفيان أو عبيد الله بن زياد في جمع عظيم، فأتوا على ما فيه، فقال عبيد الله لوكيله: اذهب في هذه البرّيّة «6» ، فلعلّك أن تجد راعيا، أو تجد أخبية «7» فيها لبن أو
__________
(1) طعنه: أي أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة.
(2) العلج: الرجل من كفار العجم وغيرهم.
(3) ردء الإسلام: أي عون الإسلام الذي يدفع عنه.
(4) حواشي أموالهم: أي التي ليست بخيار.
(5) البخاري- الفتح 7 (3700) .
(6) البرّيّة: الصحراء.
(7) أخبية: جمع خباء وهو البيت من الوبر أو الشعر أو الصوف يكون على عمودين أو ثلاثة.(2/89)
طعام، فمضى القيّم ومعه غلمان عبيد الله، فدفعوا إلى عجوز في خباء، فقالوا: هل عندك من طعام نبتاعه «1» منك؟ قالت: أمّا طعام أبيعه فلا، ولكن عندي ما إليه حاجة لي ولبنيّ، قالوا: وأين بنوك؟ قالت: في رعي لهم. وهذا أوان أوبتهم «2» ، قالوا: فما أعددت لك ولهم؟ قالت: خبزة وهي تحت ملّتها «3» أنتظر بها أن يجيئوا، قالوا: فما هو غير ذلك؟. قالت: لا.. قالوا:
فجودي لنا بنصفها، قالت: أمّا النّصف فلا أجود بها، ولكن إن أردتم الكلّ فشأنكم بها، قالوا: ولم تمنعين النّصف وتجودين بالكلّ؟ قالت: لأنّ إعطاء الشّطر نقيصة. وإعطاء الكلّ فضيلة، فأنا أمنع ما يضعني، وأمنح ما يرفعني، فأخذوا الملّة، ولم تسألهم من هم؟
ولا من أين جاءوها؟ فلمّا أتوا بها عبيد الله، وأخبروه بقصّة العجوز، عجب وقال: ارجعوا إليها فاحملوها إليّ السّاعة، فرجعوا فقالوا: انطلقي نحو صاحبنا فإنّه يريدك ... «4» ) * «5» .
6-* (قال الشّاعر:
أحسن إلى النّاس تستعبد قلوبهم ... فطا لما استعبد الإنسان إحسان
) * «6» .
من فوائد (الإحسان)
1- للإحسان ثمرة عظيمة تتجلّى في تماسك بنيان المجتمع وحمايته من الخراب والتّهلكة ووقايته من الآفات الاجتماعيّة النّاجمة عن الخلل الاقتصاديّ «7» .
2- الإحسان هو المقياس الّذي يقاس به نجاح الإنسان في علاقته بالحياة- وهي علاقة ابتلاء «8» .
3- المحسن يكون في معيّة الله عزّ وجلّ، ومن كان الله معه فإنّه لا يخاف بأسا ولا رهقا (انظر الشواهد القرآنية 28، 29) .
4- المحسن يكتسب بإحسانه محبّة الله عزّ وجلّ (انظر الشواهد 30- 34) .
5- وإذا أحبّ الله العبد جعله محبوبا من النّاس، وعلى ذلك فالمحسنون أحبّاء للنّاس يلتفّون حولهم ويدافعون عنهم إذا أحدق بهم الخطر.
6- للمحسنين أجر عظيم في الآخرة حيث يكونون في مأمن من الخوف والحزن (انظر الشاهد 36، 39، 63) .
7- من ثمرات الإحسان التّمكين فى الأرض (انظر الشاهد 48، 60) .
8- المحسن قريب من رحمة الله عزّ وجلّ (انظر
__________
(1) نبتاعه: أي نشتريه.
(2) أوان أويتهم: أي وقت رجوعهم.
(3) الملة: الرماد الحار والجمر.
(4) انظر الأثر كاملا في صفة (الكلم الطيب) ج 8 ص 3291 (أثر رقم 50) .
(5) انظر المنتقى من مكارم الأخلاق للخرائطي (137- 141) .
(6) ديوان «عنوان الحكم» للبستي.
(7) انظر في ذلك «العلاقات الاقتصادية» التي تشكل الميدان الثاني عشر من ميادين الإحسان ص 75.
(8) انظر تفصيلا أكثر عن علاقة الإنسان بالحياة وهي علاقة الابتلاء ج 1 ص 5 وما بعدها.(2/90)
الشاهد 41) .
9- للمحسن البشرى بخيري الدّنيا والآخرة (انظر الشاهد 55، 63) .
10- الإحسان هو وسيلة المجتمع للرّقيّ والتّقدّم، وإذا كان صنوه أي العدل وسيلة لحفظ النّوع البشريّ فإنّ الإحسان هو وسيلة تقدّمه ورقيّه لأنّه يؤدّى إلى توثيق الرّوابط وتوفير التّعاون «1» .
11- الإحسان وسيلة لحصول البركة في العمر والمال والأهل.
12- الإحسان وسيلة لاستشعار الخشية والخوف من الله تعالى، كما أنّه وسيلة لرجاء رحمته عزّ وجلّ.
13- الإحسان وسيلة لإزالة ما في النّفوس من الكدر وسوء الفهم وسوء الظّنّ ونحو ذلك.
14- الإحسان وسيلة لمساعدة الإنسان على ترك العجب بالنّفس لما في الإحسان من نيّة صادقة.
15- الإحسان طريق ييسّر لصاحبه طريق العلم ويفجّر فيه ينابيع الحكمة.
16- الدّفع بالحسنة- وهي إحدى صور الإحسان- يقضي على العداوات بين النّاس ويبدّلها صداقة حميمة ومودّة رحيمة وتنطفيء بذلك نار الفتن وتنتهي أسباب الصّراعات، أمّا الدّفع بالسّيّئة، أي مقابلة السّيّئة بمثلها فإنّه يؤدّي إلى تدهور العلاقات وإشعال نيران الفتن وتفاقم أسباب الصّراع ويهبط بالنّوع البشريّ إلى حضيض التّخلّف ويعرّض بقاءه لخطر الفناء «2» . (انظر الشاهد رقم 62) .
17- إذا اقترن إسلام الوجه لله بالإحسان فإنّ ذلك يثمر الاستمساك بالعروة الوثقى الّتي يرجى معها خير الدّنيا والآخرة، أي أنّ المحسن يحتاط لنفسه بأن يستمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه «3» . (الشاهد 15) .
18- لبعض أنواع الإحسان ثمار خاصّة تعود على المحسن بالخير العميم في الدّنيا والآخرة، فمن ذلك:
أ- إحسان المرء وضوءه وخشوعه وركوعه يكفّر السّيّئات الماضية، ويستمرّ التّكفير ما استمرّ الإحسان (انظر الحديث رقم 14) .
ب- إحسان المرء إلى جاره علامة صادقة على حسن إسلامه (انظر الحديث 2، 16) .
ج- إحسان المرء في تربية بناته والسّعي على رزقهنّ يجعل من هذه البنات سترا له من النّار (الحديث رقم 5) .
د- في الإحسان إلى النّساء في الكسوة والطّعام وما أشبه ذلك قيام بحقّهنّ يثمر التّرابط الأسريّ، ويحقّق الاستقرار العائليّ (انظر الحديث رقم 6) .
__________
(1) أشار الدكتور الكيلاني في «فلسفة التربية الإسلامية» إلى هذه الفائدة وعدها إحدى وسيلتين يتحقق من خلالها شعار التربية الإسلامية، أما الوسيلة الأخرى فهي العدل.
(2) انظر في هذه الفائدة المرجع السابق ص 144.
(3) انظر في تفسير العروة الوثقى، تفسير البحر المحيط 7/ 185(2/91)
الإخاء
الإخاء لغة:
الأخ من النّسب: معروف وهو من جمعك وإيّاه صلب أو بطن. وقد يكون الصّديق والصّاحب. وجمع الأخ إخوة وإخوان. قال أبو حاتم: قال أهل البصرة أجمعون: الإخوة في النّسب، والإخوان في الصّداقة. تقول: قال رجل من إخواني وأصدقائي فإذا كان أخاه في النّسب قالوا إخوتي.
قال: وهذا غلط، يقال للأصدقاء وغير الأصدقاء إخوة وإخوان. قال الله- عزّ وجلّ-: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (الحجرات/ 10) ولم يعن النّسب، وقال: أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ (النور/ 61) . وهذا في النّسب، وقال: فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ (الأحزاب/ 5) والأخت: أنثى الأخ، صيغة على غير بناء المذكّر والتّاء بدل من الواو وليست التّاء فيها بعلامة تأنيث. والجمع أخوات. وقال بعض النّحويّين: سمّي الأخ أخا لأنّ قصده قصد أخيه.
وأصله من وخى أي قصد فقلبت الواو همزة. وآخى الرّجل مؤاخاة وإخاء ووخاء. والعامّة تقول واخاه.
قال ابن سيدة: تقول: بيني وبينه أخوّة وإخاء. وتقول آخيته على مثال فاعلته، وتأخّيت أخا أي اتّخذت أخا.
وفي الحديث: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم آخى بين المهاجرين والأنصار أي ألّف بينهم بأخوّة الإسلام والإيمان.
والتّآخي: اتّخاذ الإخوان. وفي صفة أبي بكر: «لو
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
24/ 55/ 47
كنت متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوّة الإسلام» . ويقال: تأخّى الرّجل: اتّخذه أخا أو دعاه أخا.
وقال ابن الجوزيّ: الأخ: اسم يراد به المساوي والمعادل. والظّاهر في التّعارف: أنّه يقال في النّسب ثمّ يستعار في مواضع تدلّ عليها القرينة.
ويقال: تأخّيت الشّيء: أي تحرّيته «1» .
واصطلاحا:
قيل: هو مشاركة شخص لآخر في الولادة من الطّرفين أو من أحدهما أو من الرّضاع، ويستعار لكلّ مشارك لغيره في القبيلة أو في الدّين أو في صنعة أو في معاملة أو في مودّة أو في غير ذلك من المناسبات.
قال ابن حجر في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ يعني في التّوادّ وشمول الدّعوة «2» .
وقد آخى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين الأعلى والأدنى ليرتفق الأدنى بالأعلى ويستعين الأعلى بالأدنى.
وبهذا تظهر مؤاخاته صلّى الله عليه وسلّم لعليّ لأنّه هو الّذي كان يقوم به من عهد الصّبا من قبل البعثة واستمرّ. وكذا مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة لأنّ زيدا مولاهم «3» .
وقال الكفويّ: الأخ: كلّ من جمعك وإيّاه صلب أو بطن والإخوة تستعمل في النّسب والمشابهة والمشاركة في شيء. وقال المناويّ: الأخ هو النّاشىء مع أخيه من منشأ واحد على السّواء بوجه ما.
__________
(1) لسان العرب (14/ 2319) ، ونزهة الأعين النواظر (131) .
(2) فتح الباري (7/ 317) ، ومفردات الراغب (13) ، والكليات للكفوي (63) ، والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (41) .
(3) الفتح (7/ 318) .(2/92)
الإخاء في القرآن:
ذكر أهل التّفسير أنّ الأخ في القرآن ورد على خمسة أوجه:
أحدها: الأخ من الأب والأمّ أو من أحدهما: ومنه قوله تعالى في سورة النّساء فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ (آية/ 11) . وفي المائدة فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ (آية/ 30) .
والثّاني: من القبيلة: ومنه قوله تعالى وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً (الأعراف/ 65) ، وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً (الأعراف/ 73) ، وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً (هود/ 84) .
والثّالث: في الدّين والمتابعة: ومنه قوله تعالى في آل عمران فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً (آية/ 103) ، وفي الحجرات إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (آية/ 10) .
والرّابع: في المودّة والمحبّة: ومنه قوله تعالى في «الحجر» وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً (آية/ 47) .
والخامس: الصّاحب: ومنه قوله تعالى في (ص) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً (آية/ 23) «1» .
وأيّا كانت المعاني، فإنّ من طبيعة الإنسان أن يكون آلفا مألوفا، ذلك أنّه يستعين من خلال الألفة على أداء الرّسالة المنوطة به في الدّنيا لتحقيق أهداف الاستخلاف، والمؤاخاة من أهمّ أسباب حدوث الألفة بين النّاس، لأنّها كما يقول الماورديّ: «تكسب بصادق الميل إخلاصا، ومصافاة، وتحدث بخلوص المصافاة وفاء ومحاماة» «2» .
وإذا كان الدّين أكبر باعث على المؤاخاة والتّآخي، فإنّه بذلك يعزّز الألفة والتّجمّع على تعاليم الدّين من أجل صلاح الدّنيا والحياة والمجتمع، وتأتي المؤآخاة عن طريقين:
الأوّل: الاتّفاق بين المتآخيين بالطّبيعة والعادات والميول والاتّجاهات، ولذلك أسبابه ومنها:
1- التّجانس في حال يجتمعان فيها ويأتلفان، وإذا قوي التّجانس قوي الائتلاف، وإن ضعف كان ضعيفا، ولذا كان التّجانس أقوى أسباب المؤاخاة، والتّجانس يعني المشاكلة، يقال هذا يجانس هذا أي يشاكله، وقد روي عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الأرواح جنود مجنّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» «3» فهي بالتّجانس متعارفة، وبفقده لا تتعارف بل تتناكر.
2- وقوع الاتّفاق بينهما، ذلك أنّه بالتّجانس والتّشابه يحدث التّواصل بين المتّقين، ممّا يوجد بينهما توحّدا في الاتّجاهات والآراء والميول والعادات.
3- وعن التّواصل الجزئيّ أو الكامل تقع المؤانسة، وسببها انبساط في النّفوس وزوال الحواجز ممّا يجعل الأخ يأنس بأخيه.
4- وإذا سقطت الحواجز النّفسيّة وانبسطت النّفوس نتيجة لذلك، وخلصت النّيّة في المؤاخاة نتج عن ذلك مصافاة بين المتآخيين.
5- وبتولّد الثّقة المتبادلة بين الطّرفين أو الأطراف المتآخية تنتج مودّة بينهما، وهي أدنى حالات الكمال في أحوال الإخاء.
6- وإذا ما وجدت المودّة، واستحسن المتآخون
__________
(1) نزهة الأعين النواظر (132) .
(2) أدب الدنيا والدين (162) .
(3) انظر الحديث رقم 44 ص 108.(2/93)
ما يفعل كلّ واحد منهم تجاه الآخر تولّدت بينهم المحبّة اللّازمة للمؤاخاة التّامّة.
7- وإذا استحسن الأخ في أخيه فضائل نفسه، ومصارف تفكيره، وأحسن أخلاقه، تولّد عن ذلك نوع من الإخاء هو الإعظام والتّعظيم.
الثّاني: أخوّة بالقصد: وهذه المؤاخاة تتمّ عن قصد ونيّة، أي يقصد الإنسان إليها قصدا، والباعث إليها أمران:
1- الرّغبة: وهي أن يظهر الإنسان رغبة في مؤاخاة إنسان آخر لظهور فضائل لديه، وتلك تبعث على إخائه، وبمعنى آخر: ظهور صفات جميلة من إنسان في غير تكلّف، بحيث يستحسنها إنسان آخر فيقصد مؤاخاته. وينبغي أن تكون هذه الصّفات أصيلة في الإنسان لا مجرّد تكلّف، فإنّ التّكلّف يفسد الصّفة، بل ويفسد الإنسان المتكلّف أيضا، ولذا لا تصحّ مؤاخاته.
2- الرّهبة أو الحاجة، وتعني رهبة الإنسان وخوفه من وحشة الانفراد، وبالتّالي فهو في حاجة إلى اصطفاء إنسان يأنس بمؤاخاته.
وأيّا ما كان أمر دوافع الإخاء فإنّ من يريد أن يؤاخي إنسانا فعليه أن يتعرّف أحواله، ويتحرّى فيه صفات معيّنة تتمثّل فيما يلي:
1- أن يكون متمسّكا بتعاليم الدّين الحنيف، لأنّ تارك الدّين عدوّ نفسه، فلا ترجى منه منفعة غيره أو مودّته أو مواصلته.
2- أن يكون ذا عقل جيّد، يهدي به إلى مراشد الأمور، لأنّ فاقد العقل لا تثبت معه مودّة، ولا تدوم لصاحبه استقامة.
3- أن يكون محمود الأخلاق، مرضيّ الفعال، مؤثرا للخير، آمرا به، كارها للشّرّ ناهيا عنه، ذلك أنّ مؤاخاة الشّرّير تكسب العداء، وتفسد الأخلاق ولا خير فى مودّة تجلب عداوة، وتورث مذمّة وملامة، فإنّ المتبوع تابع صاحبه.
4- أن يكون لدى كلّ واحد منهما ميل إلى صاحبه، ورغبة في مؤاخاته، لأنّ ذلك آكد لحال المؤاخاة.
فإذا ما تمّت المؤاخاة ترتّب على ذلك حقوق وواجبات تجاه الإخوان، وذلك كالإغضاء عن الهفوات، والنّصح لهم والتّناصح، ووجوب زيارتهم، ومودّتهم، وغير ذلك من أمور من شأنها إشاعة الألفة والتّألف بين الإخوان، وذلك كلّه بهدف تحقيق التّماسك الاجتماعيّ المطلوب بما يعين على تحقيق أهداف رسالة الإسلام. وهذا ما تشير إليه الآيات والأحاديث الواردة في هذا المجال «1» .
[للاستزادة: انظر صفات: الاجتماع- الاعتصام- الاستعانة- الإغاثة- الألفة- الإيثار- الإخلاص- تفريج الكربات- التعاون على البر والتقوى- التعارف- التناصر- صلة الرحم- المواساة المعاتبة- حسن العشرة- حسن المعاملة- حسن الخلق- حسن الظن.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الإساءة- الإعراض- التخاذل- التعاون على الإثم والعدوان- البغض- التنازع- القسوة- قطيعة الرحم- الهجر- سوء الخلق- سوء المعاملة- سوء الظن- التفرق] .
__________
(1) لمزيد التفاصيل: راجع: أدب الدنيا والدين (162- 175) .(2/94)
الآيات الواردة في «الإخاء»
أخوة النّسب:
1- وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) «1»
2- وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)
وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) «2»
أخوة الدّين:
3- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) «3»
4- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) «4»
5-* يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) «5»
6- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) «6»
7- اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9)
لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
__________
(1) الانعام: 87 مكية
(2) مريم: 51- 53 مكية
(3) الحجرات: 12 مدنية
(4) البقرة: 178 مدنية
(5) البقرة: 219، 220 مدنية
(6) آل عمران: 102، 103 مدنية(2/95)
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) «1»
8- ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) «2»
9- إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) «3»
10- وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)
* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) »
أخوة القبيلة:
11- كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) «5»
12- كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) «6»
13- كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141)
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) «7»
14- كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160)
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) «8»
15- وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) «9»
__________
(1) التوبة: 9- 11 مدنية
(2) الأحزاب: 4- 5 مدنية
(3) الحجرات: 10 مدنية
(4) الحشر: 10- 11 مدنية
(5) الشعراء: 105- 106 مكية
(6) الشعراء: 123- 126 مكية
(7) الشعراء: 141- 144 مكية
(8) الشعراء: 160- 161 مكية
(9) النمل: 45 مكية(2/96)
16- وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) «1»
17-* وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) «2»
18- كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) «3»
أخوة المودة والمحبة:
19- إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46)
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) «4»
أخوة الصحبة:
20-* قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) «5»
21-* وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21)
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22)
إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) «6»
الآيات الواردة في «الإخاء» معنى
22-* وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً (36) «7»
23- إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ
__________
(1) العنكبوت: 36 مكية
(2) الأحقاف: 21 مكية
(3) ق: 12- 13 مكية
(4) الحجر: 45- 74 مكية
(5) الأحزاب: 18 مدنية
(6) ص: 21- 23 مكية
(7) النساء: 36 مدنية(2/97)
كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) «1»
24- يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39)
ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) «2»
__________
(1) التوبة: 40 مدنية
(2) يوسف: 39- 41 مكية(2/98)
الأحاديث الواردة في (الإخاء والمؤاخاة)
1-* (عن عبيد بن خالد السّلميّ- رضي الله عنه- قال: آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين رجلين.
فقتل أحدهما، ومات الآخر بعده بجمعة أو نحوها. فصلّينا عليه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما قلتم؟» فقلنا: دعونا له، وقلنا: اللهمّ اغفر له وألحقه بصاحبه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فأين صلاته بعد صلاته، وصومه بعد صومه وعمله بعد عمله؟» شكّ شعبة في صومه وعمله بعد عمله، «إنّ بينهما كما بين السّماء والأرض» ) * «1» .
2-* (عن أبي جحيفة- رضي الله عنه- قال: آخى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين سلمان وأبي الدّرداء، فزار سلمان أبا الدّرداء، فرأى أمّ الدّرداء متبذّلة «2» ، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدّرداء ليس له حاجة في الدّنيا. فجاء أبو الدّرداء فصنع له طعاما فقال له: كل. قال: فإنّي صائم. قال: ما أنا بآكل حتّى تأكل. قال: فأكل. فلمّا كان اللّيل ذهب أبو الدّرداء يقوم. قال: نم. فنام. ثمّ ذهب يقوم.
فقال: نم. فلمّا كان من آخر اللّيل قال سلمان: قم الآن، فصلّيا. فقال له سلمان: إنّ لربّك عليك حقّا، ولنفسك عليك حقّا. ولأهلك عليك حقّا، فأعط كلّ ذي حقّ حقّه. فأتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «صدق سلمان» ) * «3» .
3-* (عن جابر بن سليم قال: أتيت المدينة، فرأيت رجلا يصدر النّاس عن رأيه «4» ، لا يقول شيئا إلّا صدروا عنه، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فقلت: عليك السّلام يا رسول الله مرّتين، فقال: «لا تقل: عليك السّلام، فإنّ ذلك تحيّة الميّت، قل: السّلام عليك» ، قلت: أنت رسول الله؟ قال: «أنا رسول الله الّذي إن أصابك ضرّ فدعوته كشفه عنك، وإن أصابك عام سنة «5» فدعوته أنبتها لك، وإن كنت بأرض قفر، أو فلاة، فضلّت راحلتك، فدعوته ردّها عليك» ، قلت: اعهد إليّ، قال: «لا تسبّنّ أحدا» ، قال: فما سببت بعد ذلك حرّا ولا عبدا ولا شاة ولا بعيرا، قال: «ولا تحقرنّ شيئا من المعروف، وأن تكلّم أخاك وأنت منبسط إليه بوجهك. فإنّ ذلك من المعروف، وارفع إزارك إلى نصف السّاق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإيّاك وإسبال الإزار «6» فإنّها من المخيلة وإنّ الله لا يحبّ المخيلة «7» ، وإن امرؤ شتمك أو عيّرك بما يعلم فيك فلا تعيّره بما تعلم فيه، يكن وبال ذلك عليه» ) * «8» .
__________
(1) أبو داود (2524) واللفظ له وقال الألباني (2202) : صحيح، وأخرجه النسائي (4/ 74) ، وأحمد 3/ 500.
(2) متبذلة: من التبذل وهو ترك التزيّن والتهيّؤ بالهيئة الحسنة الجميلة على جهة التواضع.
(3) البخاري- الفتح 4 (1968) .
(4) يصدر الناس عن رأيه: أي يتبعون رأيه ويستمعون إليه.
(5) السنة: هنا معناها الجدب والقحط.
(6) إسبال الإزار: يقال: أسبل فلان ثيابه إذا طوّلها وأرسلها إلى الأرض.
(7) المخيلة: الكبر.
(8) أبو داود (4084) وقال الألباني (2/ 770) : صحيح، والترمذي (2722) ، وأحمد 5/ 63 جامع الأصول (11: 746) واللفظ له وقال محققه: صححه ابن حبان فى الموارد: إسناده صحيح.(2/99)
4-* (عن المقدام بن معد يكرب- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أحبّ أحدكم أخاه فليخبره أنّه يحبّه» ) * «1» .
5-* (عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أقيموا الصّفوف وحاذوا بين المناكب، وسدّوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم. (لم يقل أبو عيسى بأيدي إخوانكم) : ولا تذروا فرجات للشّيطان، ومن وصل صفّا وصله الله، ومن قطع صفّا قطعه الله» ) * «2» .
6-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «أنّ رجلا زار أخا له في قرية أخرى.
فأرصد «3» الله له على مدرجته «4» ملكا. فلمّا أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية.
قال: هل لك عليه من نعمة تربّها «5» ؟ قال: لا. غير أنّي أحببته في الله- عزّ وجلّ-. قال: فإنّي رسول الله إليك، بأنّ الله قد أحبّك كما أحببته فيه» ) * «6» .
7-* (عن أنس- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «آخى بين أبي عبيدة بن الجرّاح وبين أبي طلحة» ) * «7» .
8-* (عن عروة- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خطب عائشة إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر: إنّما أنا أخوك، فقال له: «أنت أخي في دين الله وكتابه، وهي لي حلال» ) * «8» .
9-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا أولى النّاس بعيسى ابن مريم. في الأولى والآخرة» . قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: «الأنبياء إخوة من علّات «9» . وأمّهاتهم شتّى ودينهم واحد، فليس بيننا نبيّ» ) *1» .
10-* (عن أنس- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» .
قالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال: «تأخذ فوق يديه «11» » ) * «12» .
11-* (عن أمّ سلمة- رضي الله عنهما- قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّكم تختصمون إليّ
__________
(1) أبو داود (5124) واللفظ له، والترمذي (2393) وقال محقق جامع الأصول (6/ 548) واللفظ له: إسناده صحيح، ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان (513) وقال: حديث حسن، قال الألباني في سلسلة الصحيحة (1/ 703) : صحيح.
(2) قال أبو داود: ومعنى «ولينوا بأيدي اخوانكم» إذا جاء رجل إلى الصف فذهب يدخل فيه فينبغي أن يلين له كل رجل منكبيه حتى يدخل في الصف. أبو داود (666) وقال الألباني: 1/ 131 ح 620: صحيح.
(3) فأرصد: أي أقعده يرقبه.
(4) على مدرجته: المدرجة هي الطريق. سميت بذلك لأن الناس يدرجون عليه. أي يمضون ويمشون.
(5) تربّها: أي تقوم بإصلاحها، وتنهض إليه بسبب ذلك.
(6) مسلم (2567) .
(7) مسلم (2528) ، وذكره البخاري تعليقا.
(8) البخاري- الفتح 9 (5081) .
(9) أبناء العلات: من كان أبوهم واحدا وأمهاتهم شتى والكلام هنا على التشبيه.
(10) البخاري- الفتح 6 (3443) ، مسلم (2365) واللفظ له.
(11) تأخذ فوق يديه: أي تمنعه من الظلم.
(12) البخاري- الفتح 5 (2444 واللفظ له، ومسلم (2888) .(2/100)
ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن «1» بحجّته من بعض فأقضي له على نحو ممّا أسمع منه فمن قطعت له من حقّ أخيه شيئا فلا يأخذه. فإنّما أقطع له به قطعة من النّار «2» » ) * «3» .
12-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيّما امرىء قال لأخيه:
يا كافر. فقد باء بها «4» أحدهما إن كان كما قال. وإلّا رجعت عليه» ) * «5» .
13-* (عن أبي ذرّ- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تبسّمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرّجل في أرض الضّلال لك صدقة، وبصرك للرّجل الرّديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشّوكة والعظم عن الطّريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة» ) * «6» .
14-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تفتح أبواب الجنّة يوم الاثنين، ويوم الخميس. فيغفر لكلّ عبد لا يشرك بالله شيئا.
إلّا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء. فيقال: أنظروا هذين حتّى يصطلحا. أنظروا هذين حتّى يصطلحا.
أنظروا هذين حتّى يصطلحا» ) * «7» .
15-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: كان أبو ذرّ يحدّث؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «فرج سقف بيتي وأنا بمكّة. فنزل جبريل صلّى الله عليه وسلّم ففرج صدري. ثمّ غسله من ماء زمزم ثمّ جاء بطست «8» من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا. فأفرغها في صدري، ثمّ أطبقه، ثمّ أخذ بيدي فعرج بي إلى السّماء، فلمّا جئنا السّماء الدّنيا قال جبريل- عليه السّلام- لخازن السّماء الدّنيا: افتح، قال: من هذا؟
قال: هذا جبريل، قال: هل معك أحد؟ قال: نعم.
معي محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قال: فأرسل إليه؟ قال: نعم.
ففتح. قال، فلمّا علونا السّماء الدّنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة «9» وعن يساره أسودة. قال: فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. قال فقال: مرحبا بالنّبيّ الصّالح والابن الصّالح. قال قلت: يا جبريل، من هذا؟ قال: هذا آدم صلّى الله عليه وسلّم. وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه «10» ، فأهل اليمين أهل الجنّة. والأسودة الّتي عن شماله أهل النّار. فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل
__________
(1) ألحن: أبلغ وأعلم بالحجة.
(2) فإنّما أقطع له به قطعة من النار: أي إن قضيت له بظاهر يخالف الباطن فهو حرام يؤول به إلى النار.
(3) البخاري- الفتح 5 (2680) ، مسلم (1713) واللفظ له.
(4) باء بها: التزمها ورجع بها.
(5) البخاري- الفتح 11 (6104) ، مسلم (60) واللفظ له.
(6) الترمذي (1956) واللفظ له وقال: هذا حديث حسن غريب، وقال محقق جامع الأصول (9/ 561) : وهو حديث حسن.
(7) مسلم (2565) .
(8) الطست: بفتح الطاء وكسرها إناء معروف للغسل.
(9) أسودة: جمع سواد. كقذال وأقذلة، وسنام وأسنمة وزمان وأزمنة. وتجمع الأسودة على أساود، قال أهل اللغة: السواد الشخص. وقيل: السواد الجماعات.
(10) نسم بنيه: نسم جمع نسمة وهي نفس الإنسان والمراد أرواح بني آدم.(2/101)
شماله بكى. قال: ثمّ عرج بي جبريل حتّى أتى السّماء الثّانية، فقال لخازنها: افتح. قال: فقال له خازنها مثل ما قال خازن السّماء الدّنيا، ففتح. فقال أنس بن مالك: فذكر أنّه وجد في السّماوات آدم وإدريس وعيسى وموسى وإبراهيم، صلوات الله عليهم أجمعين. ولم يثبت كيف منازلهم، غير أنّه ذكر أنّه قد وجد آدم- عليه السّلام- في السّماء الدّنيا. وإبراهيم في السّماء السّادسة، قال: فلمّا مرّ جبريل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإدريس صلوات الله عليه قال: مرحبا بالنّبيّ الصّالح والأخ الصّالح، قال: ثمّ مرّ فقلت: من هذا؟
فقال: هذا إدريس. قال: ثمّ مررت بموسى- عليه السّلام- فقال: مرحبا بالنّبيّ الصّالح والأخ الصّالح. قال قلت: من هذا؟. قال: هذا موسى. قال:
ثمّ مررت بعيسى، فقال: مرحبا بالنّبيّ الصّالح والأخ الصّالح. قلت: من هذا؟ قال: هذا عيسى ابن مريم، قال: ثمّ مررت بإبراهيم- عليه السّلام- فقال:
مرحبا بالنّبيّ الصّالح والابن الصّالح، قال:
قلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم ... الحديث» ) * «1» .
16-* (عن صفوان (وهو ابن عبد الله بن صفوان) وكانت تحته الدّرداء. قال: قدمت الشّام.
فأتيت أبا الدّرداء في منزله فلم أجده. ووجدت أمّ الدّرداء. فقالت: أتريد الحجّ العام؟ فقلت: نعم.
قالت: فادع الله لنا بخير. فإنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكّل، كلّما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكّل به: آمين ولك بمثل» ) * «2» .
17-* (عن أنس- رضي الله عنه- قال:
قدم عبد الرّحمن بن عوف فآخى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين سعد بن الرّبيع الأنصاريّ، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرّحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلّني على السّوق. فربح شيئا من أقط وسمن، فرآه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد أيّام وعليه وضر من صفرة «3» ، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مهيم يا عبد الرّحمن «4» ؟» قال: يا رسول الله، تزوّجت امرأة من الأنصار قال:
«فما سقت فيها؟» فقال: وزن نواة من ذهب، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أولم ولو بشاة» ) * «5» .
18-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: «كان أخوان على عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فكان أحدهما يأتي النّبيّ والآخر يحترف «6» فشكى المحترف أخاه إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: لعلّك ترزق به» ) * «7» .
19-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كان رجلان في
__________
(1) البخاري- الفتح 1 (349) ، مسلم (163) واللفظ له.
(2) مسلم (2733) .
(3) وضر من صفرة: الوضر: الأثر من الصفرة والحمرة والطيب.
(4) مهيم: كلمة يمانية معناها ما أمرك؟ وهي كلمة يستفهم بها والمعنى أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم رأى به لطخا من طيب له لون فقال له: «ما حالك؟ وما شأنك؟ فأخبره أنه تزوج وذلك من فعل العروس إذا دخل على زوجته.
(5) البخاري- الفتح 7 (3937) واللفظ له، ومسلم (1437) ، وهو من رواية عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه- أيضا عند البخاري- الفتح 4 (2048) .
(6) يحترف: أي يكتسب من ههنا وههنا.
(7) الترمذي (2345) وقال: هذا حديث حسن صحيح.(2/102)
بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على ذنب، فيقول: أقصر، فوجده يوما على ذنب، فقال له: أقصر، فقال: خلّني وربّي أبعثت عليّ رقيبا؟
فقال: والله، لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنّة، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند ربّ العالمين، فقال لهذا المجتهد: كنت بى عالما أو أكنت على ما في يديّ قادرا؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنّة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النّار» . وقال أبو هريرة:
والّذى نفسى بيده لتكلّم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته) * «1» .
20-* (عن عمرو وابن طاوس عن طاوس أنّه كان يخابر «2» قال عمرو: فقلت له: يا أبا عبد الرّحمن لو تركت هذه المخابرة فإنّهم يزعمون أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهى عن المخابرة. فقال: أي عمرو أخبرني أعلمهم بذلك (يعني ابن عبّاس) ، أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم ينه عنها. إنّما قال: «يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خرجا معلوما» ) * «3» .
21-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض. وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره. التّقوى هاهنا» ويشير إلى صدره ثلاث مرّات. «بحسب امريء من الشّرّ أن يحقر أخاه المسلم. كلّ المسلم على المسلم حرام.
دمه وماله وعرضه» ) * «4» .
22-* (عن أبي ذرّ- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: «لا تحقرنّ من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» ) * «5» .
23-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يبع «6» حاضر لباد، ولا تناجشوا ولا يزيدنّ على بيع أخيه، ولا يخطبنّ على خطبته. ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتستكفىء إناءها» ) * «7» .
24-* (عن أبي أيّوب الأنصاريّ- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحلّ لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الّذي يبدأ بالسّلام» ) * «8» .
__________
(1) أبو داود (4901) واللفظ له وقال الألباني (3/ 926) : صحيح، وأحمد (2/ 323، 363) وقال محقق جامع الأصول: إسناده حسن وطرف منه عند مسلم (2621) .
(2) المخابرة: المزارعة.
(3) مسلم (1550) .
(4) البخاري- الفتح 5 (2442) ، مسلم (2564) .
(5) مسلم (2626) ، وطلق- بفتح الطاء وسكون اللام- أي ضاحك مشرق.
(6) في فتح الباري «يبيع» بإثبات الياء قبل العين، وما أثبتناه من صحيح البخاري (2/ 970) (ط. البغا) وهو الوجه.
(7) البخاري- الفتح 5 (2723) واللفظ له، ومسلم (1515) .
(8) البخاري- الفتح 10 (6077) واللفظ له، مسلم (2560) .(2/103)
25-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يخطب الرّجل على خطبة أخيه. ولا يسوم على سوم أخيه «1» ولا تنكح المرأة على عمّتها ولا على خالتها. ولا تسأل المرأة طلاق أختها «2» لتكتفىء صحفتها، ولتنكح «3» فإنّما لها ما كتب الله لها» ) * «4» .
26-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما-:
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يمنع أحدكم أخاه مرفقه»
أن يضعه على جداره» ) * «6» .
27-* (عن أنس- رضي الله عنه-: كنت جالسا ورجل عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«لا يؤمن عبد حتّى يحبّ لأخيه المسلم ما يحبّ لنفسه» قال أنس: فخرجت أنا والرّجل إلى السّوق فإذا سلعة تباع فساومته فقال بثلاثين، فنظر الرّجل فقال: قد أخذت بأربعين، فقال صاحبها: ما يحملك على هذا وأنا أعطيكها بأقلّ من هذا، ثمّ نظر أيضا فقال: قد أخذتها بخمسين، فقال صاحبها: ما يحملك على هذا وأنا أعطيكها بأقلّ من هذا، قال: إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يؤمن عبد حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه وأنا أرى أنّه صالح بخمسين» ) * «7» .
28-* (عن المعرور، قال: لقيت أبا ذرّ بالرّبذة وعليه حلّة وعلى غلامه حلّة، فسألته عن ذلك فقال: إنّي ساببت رجلا فعيّرته بأمّه، فقال لي النّبيّ
__________
(1) ولا يسوم على سوم أخيه: ولا يسوم، بالواو. يخطب مرفوع. وكلاهما لفظه لفظ الخبر، والمراد به النهي. وهو أبلغ في النهي. لأن خبر الشارع لا يتصور وقوع خلافه، والنهي قد تقع مخالفته. فكأن المعنى عاملوا هذا النهي معاملة الخبر المتحتم. ومعنى قوله عليه السلام «ولا يسوم على سوم أخيه» هو أن يتساوم المتبايعان في السلعة، ويتقارب الانعقاد، فيجيء رجل آخر يريد أن يشترى تلك السلعة ويخرجها من يد المشتري الأول بزيادة على ما استقر الأمر عليه بين المتساومين ورضيا به قبل الانعقاد. فذلك ممنوع عند المقاربة لما فيه من الإفساد. ومباح في أول العرض والمساومة.
(2) ولا تسأل المرأة طلاق أختها: يجوز في تسأل الرفع والكسر الأول على الخبر الذي يراد به النهي، وهو المناسب لقوله صلّى الله عليه وسلّم قبله: «لا يخطب ولا يسوم. والثاني على النهي الحقيقي. ومعنى هذا الحديث نهي المرأة الأجنبية أن تسأل الزوج طلاق زوجته وأن ينكحها ويصير لها من نفقته ومعروفه ومعاشرته ونحوها ما كان للمطلقة. فعبر عن ذلك باكتفاء ما في الصحفة» ، مجازا. قال الكسائي: وأكفأت الإناء كببته. وكفأته وأكفأته أملته. والمراد بأختها غيرها. سواء كانت أختها من النسب، أو أختها في الإسلام، أو كافرة. والصحفة إناء كالقصعة. وقال الزمخشري: الصحفة قصعة مستطيلة. وقال ابن الأثير: هذا تمثيل لإمالة الضرة حق صاحبتها من زوجها إلى نفسها، إذا سألت طلاقها.
(3) ولتنكح: بإسكان اللام والجزم: أي لتنكح هذه المرأة من خطبها هي.
(4) مسلم (1408) ، وله شاهد عند البخاري من رواية ابن عمر في الفتح 9 (5142) .
(5) ومرفقه: ما ارتفق به وانتفع.
(6) أحمد وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على «المسند» (4/ 84) رقم (2307) : إسناده صحيح. وذكره الهيثمي في المجمع (4/ 160) وقال: رواه الطبراني في الكبير، وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(7) قال الهيثمي (1/ 95) واللفظ له: المرفوع منه في الصحيحين. البخاري (13) ومسلم (45) ، ورواه البزار ورجاله رجال الصحيح.(2/104)
صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا ذرّ، أعيّرته بأمّه؟ إنّك امرؤ فيك جاهليّة.
إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم. فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممّا يأكل، وليلبسه ممّا يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم فأعينوهم» ) * «1» .
29-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لمّا أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر، ترد أنهار الجنّة؛ تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظلّ العرش، فلمّا وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلّغ إخواننا عنّا، أنّا أحياء في الجنّة نرزق، لئلّا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عند الحرب؟ فقال الله سبحانه: أنا أبلّغهم عنكم، قال: فأنزل الله وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلى آخر الآية» ) * «2» .
30-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: لمّا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكّة خرج عليّ بابنة حمزة، فاختصم فيها عليّ وجعفر وزيد إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال عليّ: ابنة عمّي وأنا أخرجتها وقال جعفر: ابنة عمّي وخالتها عندي، وقال زيد: ابنة أخي، وكان زيد مؤاخيا لحمزة، آخى بينهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لزيد: «أنت مولاي ومولاها» . وقال لعليّ: «أنت أخي وصاحبي» ، وقال لجعفر: «أشبهت خلقي وخلقي، وهي إلى خالتها» ) * «3» .
31-* (حدّث عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- بالرّحبة قال: لمّا كان يوم الحديبية خرج إلينا ناسّ من المشركين فيهم سهيل بن عمرو، وأناس من رؤساء المشركين، فقالوا: يا رسول الله! خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقّائنا وليس لهم فقه في الدّين، وإنّما خرجوا فرارا من أموالنا وضياعنا فارددهم إلينا. قال: «فإن لم يكن لهم فقه في الدّين سنفقّههم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يا معشر قريش؛ لتنتهنّ أو ليبعثنّ الله عليكم من يضرب رقابكم بالسّيف على الدّين، قد امتحن الله قلبه على الإيمان» . قالوا: من هو يا رسول الله؟. فقال له أبو بكر: من هو يا رسول الله؟ وقال عمر: من هو يا رسول الله؟ قال: «هو خاصف النّعل» ، وكان أعطى عليّا نعله يخصفها. ثمّ التفت إلينا عليّ فقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كذب عليّ متعمّدا فليتبوأ مقعده من النّار» ) * «4» .
32-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: لمّا وجّه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله
__________
(1) البخاري- الفتح 1 (30) واللفظ له، ومسلم (1661) .
(2) أبو داود (2520) ، وقال الألباني (2199) : حسن.
(3) أحمد (1/ 230) واللفظ له وقال الشيخ أحمد شاكر (3/ 329) : إسناده صحيح، وهو في مجمع الزوائد (4/ 323) .
(4) الترمذي (3715) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.(2/105)
كيف بإخواننا الّذين ماتوا وهم يصلّون إلى بيت المقدس، فأنزل الله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ (الآية) » ) * «1» .
33-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو كنت متّخذا خليلا لا تّخذت أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي» ) * «2» .
34-* (عن جابر- رضي الله عنه- قال:
قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين مات النّجاشيّ: «مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلّوا على أخيكم أصحمة) * «3» .
35-* (عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة» ) * «4» .
36-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله» ، ويقول: «والّذي نفس محمّد بيده، ما توادّ اثنان ففرّق بينهما إلّا بذنب يحدثه أحدهما» ، وكان يقول: «للمرء المسلم على أخيه من المعروف ستّ: يشمّته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، وينصحه إذا غاب، ويشهده ويسلّم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويتبعه إذا مات» ونهى عن هجرة المسلم أخاه فوق ثلاث) * «5» .
37-* (عن أبي الدّرداء- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ردّ عن عرض أخيه ردّ الله عن وجهه النّار يوم القيامة» ) * «6» .
38-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدّنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدّنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدّنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له به طريقا إلى الجنّة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله تعالى، ويتدارسونه بينهم. إلّا نزلت عليهم السّكينة، وغشيتهم الرّحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه» ) * «7» .
__________
(1) الترمذي (2964) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2) البخاري- الفتح 7 (3656) ، مسلم (2383) متفق عليه.
(3) البخاري- الفتح 7 (3877) .
(4) البخاري- الفتح 5 (2442) واللفظ له، ومسلم (2580) .
(5) رواه أحمد وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على «المسند» (7/ 191) رقم (5357) : إسناده صحيح وهو في مجمع الزوائد (8/ 184) ما عدا آخره ... وقال: رواه أحمد.
(6) الترمذي (1931) واللفظ له وقال: هذا حديث حسن، ورواه أحمد في المسند (6/ 449) والطبراني عن أسماء بنت يزيد.
(7) مسلم (2699) ، واللفظ له أبو داود (4946) واللفظ له.(2/106)
39-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «المؤمن مرآة المؤمن.
والمؤمن أخو المؤمن: يكفّ عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه» ) * «1» .
40-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: نهى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أن يقيم الرّجل أخاه من مقعده ويجلس فيه» قلت لنافع: الجمعة؟ قال:
الجمعة وغيرها) * «2» .
41-* (عن أبي النّضر مولى «3» عمر بن عبيد الله أنّه بلغه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لشهداء أحد «هؤلاء أشهد عليهم» . فقال أبو بكر الصّدّيق: ألسنا يا رسول الله إخوانهم، أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بلى، ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي» . فبكى أبو بكر، ثمّ بكى، ثمّ قال: أئنّا لكائنون بعدك) * «4» .
42-* (عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة. ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشّعاب. فقلنا: استطير «5» أو اغتيل، قال: فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم. فلمّا أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال فقلنا:
يا رسول الله! فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم. فقال: «أتاني داعي الجنّ.
فذهبت معه. فقرأت عليهم القرآن» . قال فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزّاد.
فقال: «لكم كلّ عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم، أوفر ما يكون لحما. وكلّ بعرة علف لدوابّكم» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فلا تستنجوا بهما، فإنّهما طعام إخوانكم» ) * «6» .
43-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: «ولم يكذب إبراهيم عليه السّلام إلّا ثلاث كذبات: ثنتين منهنّ في ذات الله- عزّ وجلّ-: قوله إِنِّي سَقِيمٌ، وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا وقال: بينا هو ذات يوم وسارة، إذ أتى على جبّار من الجبابرة، فقيل له: إنّ ها هنا رجلا معه امرأة من أحسن النّاس، فأرسل إليه فسأله عنها، فقال: من هذه؟ قال: أختي. فأتى سارة، قال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإنّ هذا سألني عنك فأخبرته أنّك أختي، فلا تكذّبيني.
فأرسل إليها، فلمّا دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرّك، فدعت الله فأطلق. ثمّ تناولها الثّانية فأخذ مثلها أو أشدّ، فقال:
ادعي الله لي ولا أضرّك، فدعت فأطلق. فدعا بعض حجبته فقال: إنّكم لم تأتوني بإنسان، إنّما أتيتموني بشيطان، فأخدمها هاجر. فأتته وهو قائم يصلّى.
__________
(1) أبو داود (4918) وقال الألباني (4110) : حسن.
(2) البخاري- الفتح 2 (911) .
(3) أبو النضر: سالم بن أبي أمية ثقة ثبت (التقريب رقم 2169) .
(4) تنوير الحوالك (2/ 18) صحيح كذا قاله ابن عبد البر. انظر الشرح، ونحوه عند مسلم (249) من حديث أبي هريرة.
(5) استطير: طارت به الجن.
(6) مسلم (450) .(2/107)
فأومأ بيده: مهيم «1» ؟ قالت: ردّ الله كيد الكافر أو الفاجر، في نحره، وأخدم هاجر. قال أبو هريرة:
تلك أمّكم يا بني ماء السّماء) * «2» .
الأحاديث الواردة في (الإخاء) معنى
44-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الأرواح جنود مجنّدة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» ) * «3» .
45-* (عن أبي موسى الأشعريّ- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّما مثل الجليس الصّالح والجليس السّوء كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك إمّا أن يحذيك «4» ، وإمّا أن تبتاع منه، وإمّا أن تجد منه ريحا طيّبة، ونافخ الكير إمّا أن يحرق ثيابك، وإمّا أن تجد ريحا خبيثة» ) * «5»
46-* (عن أنس- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلّا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النّار» ) * «6» .
47-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: الإمام العادل، وشابّ نشأ بعبادة الله، ورجل قلبه معلّق في المساجد، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إنّي أخاف الله. ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» ) * «7» .
48-* (عن أبي سعيد- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تصاحب إلّا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلّا تقيّ» ) * «8» .
49-* (عن معاذ بن جبل- رضي الله عنه-، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله- عزّ وجلّ-: المتحابّون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النّبيّون والشّهداء» ) * «9» .
50-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه-
__________
(1) مهيم: أي ما الخبر؟
(2) البخاري- الفتح 6 (3358) واللفظ له، مسلم (2371) .
(3) مسلم (2638) .
(4) يحذيك: أي يعطيك.
(5) البخاري- الفتح 4 (2101) ، مسلم (2628) واللفظ له.
(6) البخاري- الفتح 1 (16) واللفظ له، مسلم 1 (43) .
(7) البخاري- الفتح 2 (660) ، مسلم (1031) واللفظ له.
(8) أبو داود رقم (4832) وقال الألباني (3/ 917) : حسن. والترمذي (2395) واللفظ لهما واسناده حسن، والحاكم في المستدرك (4/ 128) وقال: صحيح ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(9) الترمذي (2390) واللفظ له وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن الأثير في «جامع الأصول» وقال محققه (6/ 551) : صحيح، وأصله عند مسلم (3566) .(2/108)
قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» ) * «1» .
51-* (عن أبي موسى- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا. وشبّك بين أصابعه» ) * «2» .
المثل التطبيقي من حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم في (الإخاء)
52-* (عن عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- قال: استأذنت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في العمرة فأذن لي، وقال لي: «لا تنسنا يا أخيّ من دعائك» فقال: كلمة ما يسرّني أنّ لي بها الدّنيا. قال شعبة: ثمّ لقيت عاصما بعد بالمدينة فحدّثنيه وقال: أشركنا يا أخي في دعائك» ) * «3» .
53-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جلس على المنبر قال: «إنّ عبدا خيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدّنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده» ، فبكى أبو بكر، وقال: فديناك يا رسول الله بآبائنا وأمّهاتنا. فعجبنا له. وقال النّاس:
انظروا إلى هذا الشّيخ، يخبر رسول الله عن عبد خيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدّنيا ما شاء وبين ما عنده وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمّهاتنا. قال: فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو المخيّر، وكان أبو بكر هو أعلمنا به، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من أمنّ النّاس عليّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متّخذا خليلا من أمّتي لا تّخذت أبا بكر، إلّا خلّة الإسلام، لا يبقينّ في المسجد خوخة إلّا خوخة أبي بكر» ) *» .
54-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى المقبرة فقال: «السّلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إن شاء الله بكم لا حقون. وددت أنّا قد رأينا إخواننا» قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: «أنتم أصحابي. وإخواننا الذّين لم يأتوا بعد» . فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمّتك يا رسول الله؟ فقال: «أرأيت لو أنّ رجلا له خيل غرّ محجّلة «5» بين ظهري خيل دهم بهم «6» . ألا يعرف خيله؟» ، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «فإنّهم يأتون
__________
(1) أبو داود (4833) واللفظ له، الترمذي (2378) وإسناده حسن، وابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان (ص 119) وقال محققه: إسناده حسن وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 171) وقال: صحيح إن شاء الله.
(2) البخاري- الفتح 5 (2446) واللفظ له، مسلم (2585) .
(3) أبو داود رقم (1498) واللفظ له، والترمذي رقم (3562) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه (2894) ، ومسند اللأمام أحمد (1/ 29)
(4) البخاري- الفتح 7 (3904) واللفظ له، ومسلم (2382) .
(5) الغرّ: جمع أغر وهو الفرس الذي في جبهته بياض. أما المحجّل فهو الذي يرتفع البياض في قوائمه إلى موضع القيد ويجاوز الأرساغ ولا يجاوز الركبتين، (انظر النهاية 1/ 346) .
(6) الدهم: جمع أدهم من الدهمة وهي السواد، والبهم جمع البهيم وهو الذي لا يخالط لونه لون سواه.(2/109)
غرّا محجّلين من الوضوء، وأنا فرطهم «1» على الحوض، ألا ليذادنّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضّالّ، أناديهم: ألا هلمّ فيقال: إنّهم قد بدّلوا بعدك. فأقول:
«سحقا سحقا «2» » ) * «3» .
55-* (عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: كنت جالسا في داري فمرّ بي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأشار إليّ، فقمت إليه، فأخذ بيدي، فانطلقنا حتّى أتى بعض حجر نسائه، فدخل، ثمّ أذن لي، فدخلت الحجاب عليها، فقال: «هل من غداء؟» ، فقالوا: نعم، فأتي بثلاثة أقرصة «4» ، فوضعن على نبيّ «5» ، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرصا فوضعه بين يديه، وأخذ قرصا آخر فوضعه بين يديّ، ثمّ أخذ الثّالث فكسره باثنين، فجعل نصفه بين يديه ونصفه بين يديّ. ثمّ قال: «هل من أدم «6» ؟» . قالوا: لا. إلّا شيء من خلّ. قال: «هاتوه، فنعم الأدم هو» ) * «7» .
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في (الإخاء)
1-* (قال عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه-: «ثلاث يصفّين لك ودّ أخيك: أن تسلّم عليه إذا لقيته، وتوسّع له في المجلس، وتدعوه بأحبّ أسمائه إليه» ) * «8» .
2-* (وقال- رضي الله عنه-: «آخ الإخوان على قدر التّقوى، ولا تجعل حديثك بذلة إلّا عند من يشتهيه، ولا تضع حاجتك إلّا عند من يحبّ قضاءها، ولا تغبط الأحياء إلّا بما تغبط الأموات، وشاور في أمرك الّذين يخشون الله عزّ وجلّ» ) * «9» .
3-* (وقال- رضي الله عنه-: «إذا رزقك الله ودّ امرىء مسلم فتمسّك به» ) * «10» .
4-* (وقال- رضي الله عنه-: «يصفّى لك ودّ أخيك ثلاث: أن تبدأه بالسّلام، وأن تدعوه بأحبّ الأسماء إليه، وأن توسّع له في المجلس، وكفى بالمرء عيبا أن يجد على النّاس فيما يأتي «11» ، أو يبدو لهم منه ما يخفى عليه من نفسه، وأن يؤذيه في المجلس بما لا يعنيه» ) * «12» .
5-* (وقال- رضي الله عنه-: «عليك
__________
(1) الفرط- بفتحتين-: المتقدم السابق.
(2) سحقا سحقا: بعدا بعدا.
(3) مسلم (249) .
(4) أقرصة: جمع قرص وهو القطعة من الخبز.
(5) نبي: مائدة من خوص أو طبق من خوص. وقوله: دخلت الحجاب عليها: إلى الموضع الذي فيه المرأة وليس فيه أنه رأى بشرتها. وفي رواية «علي بتّي» والبت: كساء من وبر أو صوف، فلعله منديل وضع عليه الطعام.
(6) الأدم: مثل الإدام وهو ما يؤتدم به.
(7) مسلم (2052)
(8) آداب العشرة (16) .
(9) كتاب الإخوان لابن أبي الدنيا (126) .
(10) المنتقى من مكارم الأخلاق (159) .
(11) وجد عليه: بمعنى غضب منه أو حنق عليه، يقال وجد عليه (بفتح الجيم وكسرها) وجد وموجدة.
(12) كتاب الجامع لأبي زيد القيرواني (195) .(2/110)
بإخوان الصّدق فعش في أكنافهم فإنّهم زين في الرّخاء، وعدّة في البلاء» ) * «1» .
6-* (عن الحسن، قال: كان عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- يذكر الرّجل من إخوانه في بعض اللّيل، فيقول: «يا طولها من ليلة» . فإذا صلّى المكتوبة غدا إليه. فإذا التقيا عانقه» ) * «2» .
7-* (قال عليّ- رضي الله عنه-: «من لم يحمل أخاه على حسن النّيّة، لم يحمده على حسن الصّنعة» ) * «3» .
8-* (عن أبي حيّان التّيميّ- رحمه الله- قال: رئي على عليّ بن أبي طالب ثوب كأنّه كان يكثر لبسه، فقيل له فيه. فقال: «هذا كسانيه خليلي وصفيّي عمر ابن الخطّاب رضي الله عنهما، إنّ عمر ناصح «4» الله فنصحه الله» ) * «5» .
9-* (عن أبي صالح طهمان مولى العبّاس بن عبد المطّلب- رضي الله عنهما- قال: «أرسلني العبّاس إلى عثمان أدعوه، فأتيته في دار القضاء، فقلت: إنّ العبّاس يدعوك، فقال: نعم، أفرغ من شأني ثمّ آتيه. قال: فأتاه، فلمّا دخل عليه قال: أفلح الوجه أبا الفضل، قال: ووجهك. قال: إنّ رسولك أتاني وأنا في دار القضاء، ففرغت من شأني، ثمّ أتيتك، فما حاجتك؟ قال: لا والله إلّا أنّه بلغني أنّك أردت أن تقوم بعليّ وأصحابه فتشكوهم إلى النّاس، وعليّ ابن عمّك وأخوك في دينك، وصاحبك مع نبيّك، قال: أجل، فوالله لو أنّ عليّا شاء أن يكون أدنى النّاس لكان. ثمّ أرسلني إلى عليّ فأتيته، فقال: إنّ أبا الفضل يدعوك، فلمّا جاءه قال: إنّه بلغني أنّ عثمان أراد أن يقوم بك وأصحابك، وعثمان ابن عمّك وأخوك في دينك، وصاحبك مع نبيّك صلّى الله عليه وسلّم فقال عليّ:
والله لو أنّ عثمان أمرني أن أخرج من داري لفعلت» ) * «6» .
10-* (قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما- «أحبّ إخواني إليّ الّذي إذا أتيته قبلني وإذا رغبت عنه عذرني) * «7» .
11-* (قال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-: «اعتبروا النّاس بأخدانهم، فإنّ الرّجل يخادن من يعجبه نحوه» ) * «8» .
12-* (وكان عبد الله بن مسعود يقول: «كنّا إذا افتقدنا الأخ أتيناه، فإن كان مريضا كانت عيادة، وإن كان مشغولا كانت عونا، وإن كان غير ذلك
__________
(1) كتاب الإخوان (116) .
(2) ابن أبى الدنيا في كتاب الإخوان (149) ، والإمام أحمد في الزهد (123) .
(3) آداب العشرة (11) .
(4) ناصح الله أي اشتد وبالغ في نصيحة الله، ومعنى نصيحة الله: صحة الاعتقاد في وحدانيته وإخلاص النية في عبادته/ النهاية (5/ 63) .
(5) كتاب الاخوان 238) .
(6) المنتقى من مكارم الأخلاق (91) .
(7) كتاب الإخوان (134) .
(8) كتاب الإخوان (120) .(2/111)
كانت زيارة» ) * «1» .
13-* (عن شعبة- رضي الله عنه- قال:
خرج عبد الله بن مسعود على أصحابه فقال: «أنتم جلاء حزني» ) * «2» .
14-* (عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: «إذا أقسم أحدكم على أخيه فليبرّه، فإن لم يفعل فليكفّر الّذي أقسم عن يمينه» ) * «3» .
15-* (عن عكرمة- رضي الله عنه- قال:
«قال الله تعالى ليوسف: يا يوسف بعفوك عن إخوتك رفعت ذكرك في الذّاكرين» ) * «4» .
16-* (عن الوليد بن مسلم قال: قال يوسف بن يعقوب لإخوته الأسباط لمّا حضرته الوفاة:
«يا إخوتاه، إنّي لم أنتصف لنفسي من مظلمة ظلمتها في الدّنيا، وإنّي كنت أظهر الحسنة وأدفن السّيّئة، فذلك زادي من الدّنيا. يا إخوتي: إنّي شاركت آبائي في صالح أعمالهم، فأشركوني في قبورهم» ) * «5» .
17-* (قال لقمان لابنه: «أي بنيّ واصل أقرباءك وأكرم إخوانك، وليكن إخوانك من إذا فارقتهم وفارقوك لم تعب بهم» ) * «6» .
18-* (وقال أيضا: «يا بنيّ، من لا يملك لسانه يندم، ومن يكثر المراء يشتم، ومن يصاحب صاحب السّوء لا يسلم، ومن يصاحب الصّالح يغنم» ) * «7» .
19-* (وقال لابنه أيضا: «يا بنيّ، لا تعد بعد تقوى الله من أن تتّخذ صاحبا صالحا» ) * «8» .
20-* (عن مجاهد بن جبر- رحمه الله- قال: «إذا تواخى المتحابّان في الله- عزّ وجلّ- فمشى أحدهما إلى الآخر فأخذ بيده فضحك إليه تحاتّت «9» خطاياهما كما يتحاتّ ورق الشّجر. قلت: إنّ هذا ليسير. قال: لا تقل ذلك فإنّ الله- عزّ وجلّ- يقول لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ الآية» ) *1» .
21-* (قال سعيد بن المسيّب- رضي الله عنه- «كتب إليّ بعض إخواني من الصّحابة أن ضع أمر أخيك على الأحسن ما لم تغلب» ) * «11» .
22-* (عن الأوزاعيّ- رحمه الله- قال:
«سمعت بلال بن سعد بن تميم، يقول: أخ لك كلّما لقيك ذكّرك بحظّك من الله خير لك من أخ كلّما لقيك وضع في كفّك دينارا» ) * «12» .
23-* (قال ابن الحسن الورّاق، وقد سأل أبا عثمان عن الصّحبة، قال: «هي مع الله بالأدب، ومع الرّسول عليه السّلام بملازمة العلم واتّباع السّنّة،
__________
(1) آداب العشرة (43) .
(2) ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان (150) .
(3) المنتقى من مكارم الأخلاق (106) .
(4) المنتقى من مكارم الأخلاق (85) .
(5) المنتقى من مكارم الأخلاق (84) .
(6) كتاب الاخوان (128) .
(7) المنتقى من مكارم الأخلاق (202) .
(8) كتاب الإخوان (110) .
(9) تحاتّت خطاياهما: أي تساقطت.
(10) كتاب الإخوان (175) .
(11) آداب العشرة (16) .
(12) كتاب الإخوان (150) .(2/112)
ومع الأولياء بالاحترام والخدمة، ومع الإخوان بالبشر والانبساط وترك وجوه الإنكار عليهم، ما لم يكن خرق شريعة أو هتك حرمة. قال الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ الآية (الأعراف: 199) والصّحبة مع الجهّال بالنّظر إليهم بعين الرّحمة، ورؤية نعمة الله عليك إذ لم يجعلك مثلهم، والدّعاء لله أن يعافيك من بلاء الجهل» ) * «1» .
24-* (كتب الاحنف بن قيس مع رجل إلى صديق له: «أمّا بعد، فإذا قدم عليك أخ لك موافق، فليكن منك مكان سمعك وبصرك، فإنّ الأخ الموافق أفضل من الولد المخالف، ألا تسمع إلى قول الله- عزّ وجلّ- لنوح في شأن ابنه: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ يقول: ليس من أهل ملّتك. فانظر إلى هذا وأشباهه.
فاجعلهم كنوزك وذخائرك، وأصحابك في سفرك وحضرك، فإنّك إن تقرّبهم تقرّبوا منك، وإن تباعدهم يستغنوا بالله- عزّ وجلّ- والسّلام» ) * «2» .
25-* (عن محمّد بن كعب القرظيّ أنّه:
أوصى عمر بن عبد العزيز فقال له: «يا عمر بن عبد العزيز، أوصيك بأمّة محمّد خيرا، من كان منهم دونك فاجعله بمنزلة ابنك، ومن كان منهم فوقك فاجعله بمنزلة أبيك، ومن كان منهم سنّك فاجعله بمنزلة أخيك، فبرّ أباك، وصل أخاك، وعاهد ولدك فقال عمر: «جزاك الله يا محمّد بن كعب خيرا» ) * «3» .
26-* (عن مالك بن دينار أنّه قال لختنه «4» :
«يا مغيرة، انظر كلّ أخ لك وصاحب لك، وصديق لك لا تستفيد في دينك منه خيرا فانبذ عنك صحبته، فإنّما ذلك لك عدوّ. يا مغيرة! النّاس أشكال: الحمام مع الحمام. والغراب مع الغراب، والصّعو «5» مع الصّعو، وكلّ مع شكله» ) * «6» .
27-* (قال الحسن- رحمه الله-: «المؤمن مرآة أخيه إن رأى فيه ما لا يعجبه سدّده وقوّمه، وحاطه وحفظه في السّرّ والعلانية. إنّ لك من خليلك نصيبا وإنّ لك نصيبا من ذكر من أحببت. فثقوا بالأصحاب والإخوان والمجالس» ) * «7» .
28-* (كنت مع محمّد بن واسع بمرو. فأتاه عطاء بن أبي مسلم. ومعه ابنه عثمان، فقال لمحمّد: أيّ العمل في الدّنيا أفضل؟ قال: «صحبة الأصحاب، ومحادثة الإخوان إذا اصطحبوا على البرّ والتّقوى.
قال: فحينئذ يذهب الله- عزّ وجلّ- بالحلاوة بينهم، فوصلوا وتواصلوا. ولا خير في صحبة الأصحاب ومحادثة الإخوان إذا كانوا عبيد بطونهم لأنّهم إذا كانوا كذلك ثبّط بعضهم بعضا عن الآخرة» ) * «8» .
29-* (قال رجل لداوود الطّائيّ: أوصني،
__________
(1) آداب العشرة (20) .
(2) كتاب الإخوان (116) ، وآداب العشرة (37) .
(3) المنتقى من مكارم الأخلاق (157) .
(4) الختن: الصهر أو كل ما كان من قبل المرأة كأبيها وأخيها.
(5) والصعو: طائر أصغر من العصفور.
(6) المنتقى من مكارم الأخلاق (159) .
(7) كتاب الاخوان (131) .
(8) كتاب الإخوان (128) .(2/113)
قال: «اصحب أهل التّقوى، فإنّهم أيسر أهل الدّنيا عليك مئونة، وأكثرهم لك معونة» ) * «1» .
30-* (عن معاوية بن قرّة، قال: «نثرنا في المودّة والإخاء فلم نجد أثبت مودّة من ذي أصل» ) * «2» .
31-* (سئل بعض الحكماء: أيّ الكنوز خير؟ قال: «أمّا بعد تقوى الله فالأخ الصّالح» ) * «3» .
32-* (قال حمدون القصّار: «إذا زلّ أخ من إخوانك، فاطلب له تسعين عذرا، فإن لم يقبل ذلك فأنت المعيب» ) * «4» .
33-* (قال ابن المبارك: «من استخفّ بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخفّ بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخفّ بالإخوان ذهبت مروءته» ) * «5» .
34-* (كتب عالم إلى من هو مثله أن اكتب لي بشيء ينفعني في عمري. فكتب إليه: «بسم الله الرّحمن الرّحيم. استوحش من لا إخوان له، وفرّط المقصّر في طلبهم، وأشدّ تفريطا من ظفر بواحد منهم فضيّعه؛ ولوجد أنّ الكبريت الأحمر أيسر من وجدانه؛ والنّاس ثلاثة: معرفة، وأصدقاء، وإخوان؛ فالمعرفة بين النّاس كثيرة، والأصدقاء عزيزة. والأخ فلّما يوجد» ) * «6» .
35-* (قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه:
إنّه سأل أبا عبد الله- يعني أحمد بن حنبل- عن الحديث الّذي جاء «إذا بلغك شيء عن أخيك فاحمله على أحسنه حتّى لا تجد له محملا» ما يعني به؟ قال أبو عبد الله: يقول تعذره تقول لعلّه كذا لعلّه كذا» ) * «7» .
36-* (عن الحسن بن كثير، قال: «شكونا إلى محمّد بن علىّ الحاجة وجفاء إخواني. فقال: «بئس الأخ أخ يرعاك غنيّا ويقطعك فقيرا» . ثمّ أمر غلامه فأخرج كيسا فيه سبعمائة درهم، فقال: «استنفق هذه فإذا نفدت فأعلمني» ) * «8» .
37-* (قال أبو سليمان الدّارانيّ: «لو أنّ الدّنيا كلّها لي في لقمة، ثمّ جاءني أخ لأحببت أن أضعها في فيه» ) * «9» .
38-* (عن عمرو بن عبد الرّحمن، قال:
«جاءت يزيد بن عبد الملك بن مروان غلّة من غلّته، فجعل يصرّرها ويبعث بها إلى إخوانه، وقال: إنّي لأستحي من الله- عزّ وجلّ- أن أسأل الجنّة لأخ من إخواني وأبخل عليه بدينار أو درهم» «10» .
39-* (عن عمر بن عبد العزيز قال: «ما أعطيت أحدا ما لا إلّا وأنا أستقلّه، وإنّي أستحي من الله- عزّ وجلّ- إن سألت الله- عزّ وجلّ- لأخ من
__________
(1) كتاب الإخوان (124) .
(2) المرجع السابق (132) .
(3) المرجع السابق (133) .
(4) آداب العشرة (9) .
(5) المرجع السابق (18) .
(6) المرجع السابق (19) .
(7) الآداب الشرعية لابن مفلح (1/ 302) .
(8) كتاب الإخوان (215) .
(9) كتاب الإخوان (235) .
(10) المرجع السابق (223) .(2/114)
إخواني وأبخل عنه بالدّنيا وإذا كان يوم القيامة قيل لي:
لو كانت الدّنيا بيدك كنت أبخل» ) * «1» .
40-* (عن عبيد بن عمير أنّه: «إذا آخى أخا في الله أخذ بيده فاستقبل به القبلة ثمّ قال: اللهمّ اجعلنا شهداء بما جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلّم. واجعل محمّدا صلّى الله عليه وسلّم شهيدا بالإيمان، وقد سبقت لنا منك الحسنى، غير مغلول علينا، ولا قاسية قلوبنا، ولا قائلين ما ليس لنا بحقّ، ولا سائلين ما ليس لنا بعلم» ) * «2» .
41-* (عن أبي عبد الرحمن البصريّ، عن أبيه، أنّ رجلا من عبد القيس قال لابنه: «أي بنيّ لا تؤاخ أحدا حتّى تعرف موارد أموره ومصادرها، فإذا استطبت منه الخبر، ورضيت منه العشرة، فآخه على إقالة العثرة والمواساة عند العسرة» ) * «3» .
42-* (قال بعضهم: حدّثنا بعض أصحابنا، قال: «كانت الحكماء تقول: إنّ ممّا يجب للأخ على أخيه مودّته بقلبه، وتزيّنه بلسانه، ورفده بماله «4» ، وتقويمه بأدبه، وحسن الذّبّ والمدافعة عن عيبته» ) * «5» .
43-* (ومن أمثالهم: «ربّ أخ لم تلده أمّك» ) * «6» .
44-* (كان سفيان الثّوريّ يتمثّل:
ابل الرّجال إذا أردت إخاءهم ... وتوسّمنّ أمورهم وتفقّد
فإذا وجدت أخا الأمانة والتّقى ... فبه اليدين- قرير عين- فاشدد
ودع التّذلّل والتّخشّع تبتغي ... قرب امرىء إن تدن منه تبعّد
» ) * «7» .
45- قال بشّار بن برد:
إذا كنت في كلّ الأمور معاتبا ... صديقك لم تلق الّذي لا تعاتبه
فعش واحدا أو صل أخاك فإنّه ... مقارف ذنب مرّة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ... ظمئت وأيّ النّاس تصفو مشاربه
) * «8» .
46- وقال بعضهم:
ما ذاقت النّفس على شهوة ... الذّ من حبّ صديق أمين
من فاته ودّ أخ صالح ... فذلك المغبون حقّ اليقين)
* «9» .
47- وقال الشّاعر:
أخاك أخاك إنّ من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح)
* «10» .
__________
(1) المرجع السابق (214) .
(2) المرجع السابق (151) .
(3) المرجع السابق (133) .
(4) رفده بماله: الرفد بالكسر العطاء والصلة ورفده بالمال أعطاه إياه.
(5) كتاب الإخوان لابن أبي الدنيا (133) والعيبة: موضع سرّ الرّجل.
(6) الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلّام (175) .
(7) كتاب الإخوان لابن أبي الدنيا (115) .
(8) آداب العشرة (18) .
(9) آداب العشرة (21) .
(10) شرح ابن عقيل (3/ 301) .(2/115)
من فوائد (الإخاء)
من خلال ما سبق يتّضح لنا عدّة أمور؛ من أهمّها ما يأتى:
الأوّل: أنّ الأخوّة والمؤاخاة تأتي على مراتب:
1- أخوّة النّسب والقرابة، وقد راعاها الإسلام، وجعلها ركيزة أساسيّة لصلة الرّحم القائمة في الأساس على وحدة العقيدة الدّينيّة، ممّا يكون مدعاة إلى التّعاون الاجتماعيّ.
2- الأخوّة والمؤاخاة في الله سبحانه، حيث جعل الإسلام هذا النّوع من الأخوّة فوق كلّ أخوّة إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ. وقد جعل الإسلام هذا التّآخي من كمال الإيمان، حيث جعله رابطة قويّة بين المسلم وأخيه المسلم، ومن كمال الإيمان أن يحبّ المسلم لأخيه ما يحبّ لنفسه.
وقد جعل الإسلام التّآخي في الله مسئوليّة يتقلّدها كلّ مسلم ويحافظ عليها بأمر الله تعالى، وبقدر المحافظة على هذه الأخوّة تكون قوّة الإيمان.
3- الأخوّة في الإنسانيّة بحكم أنّ الإنسان مهما اختلفت عقيدته هو أخ للإنسان عليه أن يتوجّه إليه بالدّعوة لهدايته وتزكيته. وهذا من أهمّ خصائص المنهج القرآنيّ.
الثّاني: أنّ للأخوّة مكانة سامية في الإسلام، ولذا يحرص على أن يراعي الإنسان المسلم حقوق الأخوّة ومنها:
1- نهي الإسلام عن الإتيان بأسباب التّنازع والفرقة بين الإخوان، كالسّخرية والهمز واللّمز والتّنابز بالألقاب السّيّئة، وكلّ ما يؤذي كالتّجسّس والغيبة والنّميمة.
2- وللأخ على أخيه، أن يشمّته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، وينصحه، ويسلّم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا وجّه إليه دعوة ما، ويطعمه إذا جاع، ويسقيه إذا عطش، ويردّ عن عرضه إذا انتهك أمامه، ويردّ عليه ما ضاع منه إذا وجده، ويحوطه من ورائه، وينبع جنازته إذا مات.
3- وللأخ على أخيه أن يبدأه بالسّلام، ويدعوه بأحبّ أسمائه إليه، وأن يوسّع له في المجلس حبّا وكرامة، وأن يحمل كلّ تصرّفاته على حسن النّيّة.
الثّالث: أنّ الأخوّة بهذا المعنى تحقّق عدّة فوائد مهمّة للفرد والمجتمع الإسلاميّ والعالميّ، من هذه الفوائد:
1- تحقيق التّماسك والتّرابط في المجتمع الإسلاميّ، حيث تربط الأخوّة بين الأفراد وتشدّ من أواصر الصّلة والمحبّة والتّعاون على البرّ والتّقوى.
2- حماية المجتمع الإسلاميّ من أشكال الانحراف، ومن أمراض الضّعف الحضاريّ، بحيث يستمرّ هذا المجتمع في قوّته وعطائه.
3- حماية الفرد المسلم من نقاط ضعفه الّتي(2/116)
جبل عليها، وفي الوقت نفسه حماية المسلم الآخر من هذا الضّعف وألوانه.
4- تحقيق التّوازن الاجتماعيّ، بتحقيق معنى الأخوّة السّامي، فلا يستشعر الفرد المسلم ألم الفوارق بين المسلم وأخيه المسلم سواء كان ذلك الفارق في المال أو في الجاه أو في غير ذلك، ممّا يحقّق توازنا بين الفئات الاجتماعيّة.
5- توفير مهاد اجتماعيّ سليم للعلاقات الاجتماعيّة الإسلاميّة باعتبار أنّ شبكة العلاقات الاجتماعيّة هي العمل التّاريخيّ الأوّل الّذي يقوم به المجتمع، ومن أجل ذلك فإنّ الأخوّة هي الميثاق الّذي يربط بين الأفراد، كما ربط بين المهاجرين والأنصار.
6- توفير اشتراك أفراد المجتمع كلّهم في اتّجاه واحد، من أجل القيام بوظيفة معيّنة ذات غايات محدّدة هي الغايات الإسلاميّة. معنى هذا أنّ أغلى وأسلم أخوّة هي تلك الأخوّة الّتي يربط بينها رباط العقيدة الصّحيحة.
7- توفير الفرصة الكاملة للابتكار والأداء الممتاز في قلب المجتمع بالانسجام بين أفراده، إذ لا يمكن أن يكون هناك أداء حضاريّ ممتاز للمجتمع في مجتمع فاقد خاصيّة الانسجام، لأنّ أفراده يتفرّقون إلى ذرّات متنافرة، ويتحلّل في النّهاية عجزا تامّا عن أداء النّشاط المشترك، أي أنّه يفقد خاصّة المجتمعيّة الّتي أساسها الأخوّة. ولقد حقّق الإسلام نموذج المجتمع المنسجم، حيث كان كلّ فرد مرتبطا ارتباطا واقعيّا بكلّ الآخرين من أعضاء المجتمع بوساطة علاقة الأخوّة، ولذا بلغ ذروة الأداء الحضاريّ.
8- إنّ مهاد الأخوّة الإسلاميّة يتيح فرصة صحّيّة لتناول أمور ومشكلات المجتمع من أجل علاجها هي، وبالتّالي يمكن مواجهة هذه المشكلات وحلّها حلّا سليما.
9- تتيح الأخوّة فرصة طيّبة من أجل تحقيق التّكافل الاجتماعيّ، وتحقيق العدل في المجتمع الإسلاميّ لأنّها تبنى المجتمع على أساس من علاقات اجتماعيّة سليمة.
10- تتيح الأخوّة فرصة جيّدة من أجل تحقيق صالح المجتمع، حيث لا تتضخّم الذّوات الإنسانيّة على حساب هذا الصّالح، وفي أحداث التّاريخ الإسلاميّ البرهان على ذلك.(2/117)
الإخبات
الإخبات لغة:
الإخبات مصدر أخبت، وتدلّ مادّة (خ ب ت) في الأصل على المفازة لا نبات فيها أو على المطمئنّ من الأرض، وأخبت الرّجل: قصد الخبت أو نزله، نحو أسهل (نزل السّهل) وأنجد (دخل في نجد) ثمّ استعمل الإخبات استعمال اللّين والتّواضع، والخشوع لله والاطمئنان إليه، يقال: أخبت إلى ربّه أي اطمأنّ إليه «1» .
قال الفرّاء في قوله تعالى: وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ (هود/ 23) أي تخشّعوا لربّهم، قال: والعرب تجعل (إلى) في موضع اللّام. وفيه خبتة أي تواضع» .
قال الثّوريّ- رحمه الله تعالى- في قوله تعالى:
وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (الحج/ 34) قال: المطمئنّين الرّاضين بقضاء الله المستسلمين له. قال الله تعالى الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (الحج/ 35) «3» .
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
3/ 1/ 10
وبه فسّر ابن عبّاس- رضي الله عنهما- وقتادة لفظ «المخبتين» وقالا: هم المتواضعون.
وقال مجاهد: المخبت المطمئنّ إلى الله عزّ وجلّ. قال:
والخبت: المكان المطمئنّ من الأرض، وقال الأخفش:
الخائفون، وقال الكلبيّ: هم الرّقيقة قلوبهم.
وهذه الأقوال تدور على معنيين: التّواضع، والسّكون إلى الله- عزّ وجلّ-، ولذلك عدّي بإلى، تضمينا لمعنى الطّمأنينة، والإنابة والسّكون إلى الله «4» .
واصطلاحا:
هو الخضوع والتّذلّل لله- عزّ وجلّ- مع المحبّة والتّعظيم له «5» .
قال ابن القيّم- رحمه الله-:
والإخبات من أوّل مقامات الطّمأنينة.
كالسّكينة، واليقين، والثّقة بالله ونحوها. فالإخبات:
مقدّمتها ومبدؤها. وبه يكون ورود المأمن من الرّجوع والتّردّد.
إذ لمّا كان «الإخبات» أوّل مقام يتخلّص فيه
__________
(1) المقاييس (2/ 38) ، ومفردات الراغب (104) .
(2) النهاية لابن الأثير (2/ 4) ، الصحاح للجوهري. (1/ 247) ، ولسان العرب لابن منظور (2/ 27، 28) .
(3) انظر: تفسير ابن كثير (3/ 222) .
(4) مدارج السالكين لابن القيم (2/ 6) .
(5) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.(2/118)
السّالك من التّردّد الّذي هو نوع غفلة وإعراض.
كذلك السّالك إذا ورد مورد «الإخبات» تخلّص من التّردّد والرّجوع، ونزل أوّل منازل الطّمأنينة بسفره، وجدّ في السّير «1» .
وهو على ثلاث درجات: الدّرجة الأولى: أن تستغرق العصمة الشّهوة، وتستدرك الإرادة الغفلة، ويستهوي الطّلب السّلوة.. و «العصمة» هي الحماية والحفظ، و «الشّهوة» الميل إلى مطالب النّفس، و «الاستغراق للشّيء» الاحتواء عليه والإحاطة به.
يقول: تغلب عصمته شهوته وتقهرها وتستوفي جميع أجزائها. فإذا استوفت العصمة جميع أجزاء الشهوة: فذلك دليل على إخباته. ودخوله في مقام الطّمأنينة، ونزوله أوّل منازلها، وخلاصه في هذا المنزل من تردّد الخواطر بين الإقبال والإدبار، والرّجوع والعزم، إلى الاستقامة والعزم الجازم، والجدّ في السّير. وذلك علامة السّكينة. وتستدرك إرادته غفلته. و «الإرادة» عند القوم: هي اسم لأوّل منازل القاصدين إلى الله، و «المريد» هو الّذي خرج من وطن طبعه ونفسه، وأخذ في السّفر إلى الله، والدّار الآخرة. فإذا نزل في منزل «الإخبات» أحاطت إرادته بغفلته فاستدركها، واستدرك بها فارطها.
فالحاصل: أنّ عصمته وحمايته تقهر شهوته، وإرادته تقهر غفلته، ومحبّته تقهر سلوته.
الدّرجة الثّانية: أن لا يوحش قلبه عارض، ولا يقطع عليه الطّريق فتنة. و «العارض» هو المخالف كالشّيء الّذي يعترضك في طريقك فيجيء في عرضها. ومن أقوى هذه العوارض: عارض وحشة التّفرّد فلا يلتفت إليه كما قال بعض الصّادقين:
انفرادك في طريق طلبك دليل على صدق الطّلب، وقال آخر: لا تستوحش في طريقك من قلّة السّالكين، ولا تغترّ بكثرة الهالكين.
وأمّا «الفتنة» الّتي تقطع عليه الطّريق: فهي الواردات الّتي ترد على القلوب، تمنعها من مطالعة الحقّ وقصده. فإذا تمكّن من منزل «الإخبات» وصحّة الإرادة والطّلب لم يطمع فيه عارض الفتنة.
الدّرجة الثّالثة: أن يستوي عنده المدح والذّمّ وتدوم لائمته لنفسه.
فاعلم أنّه متى استقرّت قدم العبد في منزلة «الإخبات» وتمكّن فيها، ارتفعت همّته، وعلت نفسه عن خطفات المدح والذّمّ، فلا يفرح بمدح النّاس، ولا يحزن لذمّهم. هذا وصف من خرج عن حظّ نفسه، وتأهّل للفناء في عبوديّة ربّه، وصار قلبه مطّرحا لأشعّة أنوار الأسماء والصّفات. وباشر حلاوة الإيمان واليقين قلبه. والوقوف عند مدح النّاس وذمّهم:
علامة انقطاع القلب، وخلوّه من الله، وأنّه لم تباشره روح محبّته ومعرفته، ولم يذق حلاوة التّعلّق به والطّمأنينة إليه، ولا يذوق العبد حلاوة الإيمان،
__________
(1) مدارج السالكين لابن القيم (2/ 7) .(2/119)
وطعم الصّدق واليقين، حتّى تخرج الجاهليّة كلّها من قلبه.
فالنّفس جبل عظيم شاقّ في طريق السّير إلى الله- عزّ وجلّ- وكلّ سائر لا طريق له إلّا على ذلك الجبل. فلا بدّ أن ينتهي إليه، ولكن منهم من هو شاقّ عليه، ومنهم من هو سهل عليه، وإنّه ليسير على من يسّر الله عليه.
وفي ذلك الجبل أودية، وعقبات، وشوك، ولصوص يقتطعون الطّريق على السّائرين ولا سيّما أهل اللّيل المدلجون. فإذا لم يكن معهم عدد الإيمان، ومصابيح اليقين تتّقد بزيت الإخبات، تعلّقت بهم تلك الموانع. وتشبّثت بهم تلك القواطع. وحالت بينهم وبين السّير «1» .
فإنّ أكثر السّائرين فيه رجعوا على أعقابهم لمّا عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته. والشّيطان على قلّة ذلك الجبل يحذّر النّاس من صعوده وارتفاعه، ويخوّفهم منه فيتّفق مشقّة الصّعود وقعود ذلك الموقف على قلّته، وضعف عزيمة السّائر ونيّته. فيتولّد من ذلك: الانقطاع والرّجوع. والمعصوم من عصمه الله.
وكلّما رقي السّائر في ذلك الجبل اشتدّ به صياح القاطع، وتحذيره وتخويفه. فإذا قطعه وبلغ قلّته انقلبت تلك المخاوف كلّهنّ أمانا، وحينئذ يسهل السّير، وتزول عنه عوارض الطّريق، ومشقّة عقباتها ويرى طريقا واسعا آمنا يفضي به إلى المنازل والمناهل، وعليه الأعلام، وفيه الإقامات قد أعدّت لركب الرّحمن.
فبين العبد وبين السّعادة والفلاح قوّة عزيمة، وصبر ساعة، وشجاعة نفس، وثبات قلب، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. والله ذو الفضل العظيم «2» .
[للاستزادة: انظر صفات: التواضع- الخشوع- الخشية- الخوف- الرهبة- السكينة.-
الضراعة والتضرع- الطمأنينة- القنوت- اليقين.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الإعراض- الإصرار على الذنب- الجزع- الكبر والعجب- السخط- القلق- القنوط] .
__________
(1) مدارج السالكين لابن القيم (2/ 6) .
(2) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.(2/120)
الآيات الواردة في «الإخبات»
1- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) «1»
2- وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) «2»
3- وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) «3»
__________
(1) هود: 23 مكية
(2) الحج: 34 مكية
(3) الحج: 54 مكية(2/121)
الأحاديث الواردة في (الإخبات)
1-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال:
كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدعو يقول: «ربّ أعنّي ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ولا تمكر عليّ، واهدني ويسّر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليّ، ربّ اجعلني لك شكّارا، لك ذكّارا، لك رهّابا، لك مطواعا، لك مخبتا، إليك أوّاها منيبا، ربّ تقبّل توبتي، واغسل حوبتي «1» ، وأجب دعوتي، وثبّت حجّتي، وسدّد لساني، واهد قلبي، واسلل سخيمة صدري» ) * «2» .
من الآثار الواردة في (الإخبات)
1-* (روي عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في قوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ قال: «هم المتواضعون. وقال الأخفش: الخائفون. وقال إبراهيم النّخعيّ: هم المصلّون المخلصون» ) * «3» .
2-* (أخرج ابن جرير وأبو الشّيخ، عن مجاهد- رحمه الله- في قوله تعالى: وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ قال: «اطمأنّوا» ) * «4» .
3-* (روى الطّبريّ بسنده عن ابن عبّاس قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ قال: «الإخبات: الإنابة» ) * «5» .
4-* (روى الطّبريّ بسنده عن قتادة: قوله تعالى: وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ يقول: «وأنابوا إلى ربّهم» ) * «6» .
5-* (روي عن قتادة قوله: وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ: «الإخبات: التّخشّع والتّواضع» ) * «7» .
6-* (روي عن عبد الله بن صالح عن ابن عبّاس في قوله وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ يقول:
«خافوا» ) * 8.
7-* (وقال النّيسابوريّ: أَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ: «اطمأنّوا إليه وانقطعوا لعبادته» ) * 9.
8-* (وقال الطّبريّ: قوله وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ: «بشّر يا محمّد الخاضعين لله بالطّاعة المذعنين له بالعبوديّة المنيبين إليه بالتّوبة» ) * «10» .
9-* (روي عن قتادة في قوله: وَبَشِّرِ
__________
(1) الحوبة: الإثم. وسخيمة صدري: غشه وحقده وغله.
(2) الترمذي (3551) واللفظ له وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجة (3830) .
(3) مدارج السالكين لابن القيم (2/ 3) .
(4) جامع البيان (7/ 25) .
(5) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(6) المرجع السابق (12/ 16) .
7، 8، 9 المصدر السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(10) رغائب الفرقان (12/ 19) على هامش الطبري.(2/122)
الْمُخْبِتِينَ قال: «المتواضعين» ) * «1» .
10-* (عن عمرو بن أوس قال: المخبتون الّذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا» ) * «2» .
من فوائد (الإخبات)
(1) أوّل درجات الطّمأنينة والثّقة بالله وحسن الظّنّ به.
(2) للمخبت البشرى من الله بالجنّة.
(3) الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة.
(4) الإخبات من الأحوال القلبيّة الموجبة للالتفات عمّا سوى الله.
(5) الإخبات يورث صاحبه العزّة في الدّنيا والنّجاة في الآخرة.
(6) الإخبات يقي من الفتنة.
(7) بالإخبات ترتفع الهمّة وتعلو النّفس عن الرّغبة في المدح أو الخشية من الذّمّ.
(8) بالإخبات يباشر القلب حلاوة الإيمان واليقين.
__________
(1) جامع البيان (17/ 117) .
(2) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.(2/123)
الإخلاص
الإخلاص لغة:
مصدر أخلص يخلص وهو مأخوذ من مادّة (خ ل ص) الّتي تدلّ على تنقية الشّيء وتهذيبه «1» والخالص كالصّافي إلّا أنّ الخالص ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه والصّافي قد يقال لما لا شوب فيه، ويقال خلّصته فخلص قال ابن منظور: خلص الشّيء بالفتح، يخلص خلوصا وخلاصا إذا كان قد نشب ثمّ نجا وسلم، وأخلصه وخلّصه، وأخلص لله دينه: أمحضه، وأخلص الشّيء: اختاره، وقريء إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ* (ص/ 83) والمخلصين- قال ثعلب: يعني بالمخلصين الّذين أخلصوا العبادة لله تعالى. وبالمخلصين الّذين أخلصهم الله- عزّ وجلّ-، فالمخلصون المختارون، والمخلصون:
الموحّدون. ولذلك قيل لسورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ سورة الإخلاص. قال ابن الأثير: لأنّها خالصة في صفة الله تعالى وتقدّس. أو لأنّ اللّافظ بها قد أخلص التّوحيد لله عزّ وجلّ، وكلمة الإخلاص: كلمة التّوحيد. والإخلاص في الطّاعة: ترك الرّياء «2» .
واصطلاحا:
وقال الكفويّ: الإخلاص هو القصد بالعبادة إلى أن يعبد المعبود بها وحده، وقيل تصفية السّرّ والقول
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
23/ 34/ 8
والعمل «3» . وقال المناويّ الإخلاص: تخليص القلب من كلّ شوب يكدّر صفاءه، فكلّ ما يتصوّر أن يشوبه غيره فإذا صفا عن شوبه وخلص منه يسمّى خالصا.
وقيل: الإخلاص عمل يعين على الإخلاص. وقيل الخلاص عن رؤية الأشخاص، وقيل تصفية العمل من التّهمة والخلل «4» .
وقال الجرجانيّ: الإخلاص: ألّا تطلب لعملك شاهدا غير الله تعالى وقيل هو:
تخليص القلب عن شائبة الشّوب المكدّر لصفائه- الفطريّ- وتحقيقه أنّ كلّ شيء يتصوّر أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه وخلص عنه يسمّى خالصا، قال تعالى: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً (النحل/ 66) . فإنّما خلوص اللّبن أن لا يكون فيه شوب من الفرث والدّم، ومن كلّ ما يمكن أن يمتزج به «5» .
وحقيقة الإخلاص: التبرّي عن كلّ ما دون الله تعالى، أمّا الإخلاص في الدّين فيقول فيه الرّاغب:
إخلاص المسلمين أنّهم قد تبرّءوا ممّا يدّعي اليهود من التشبيه، والنّصارى من التّثليث، قال تعالى مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ* (الأعراف/ 29، غافر/ 14) وقال- عزّ وجلّ- وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ (النساء/ 146) .
__________
(1) مفردات الراغب (154) .
(2) لسان العرب (7/ 26) . ونشب: أي تعلّق به شيء.
(3) الكليات للكفوي (64) .
(4) التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (42) .
(5) التعريفات للجرجاني (13- 14) .(2/124)
وأجمعوا على أنّ الإخلاص في الطّاعة ترك الرّياء «1» .
وقال الفضيل بن عياض: ترك العمل لأجل النّاس رياء، والعمل لأجلهم شرك، والإخلاص:
الخلاص من هذين. وفي رواية عنه: والإخلاص: أن يعافيك الله منهما «2» .
حقيقة الإخلاص:
فحقيقة الإخلاص، باعتباره التزاما في مواقف الحياة، لا مجرّد تصوّر نظريّ، وهو «التّبرّي عن كلّ ما دون الله» يجعلنا ننظر إليه من زاويتين:
الأولى: من جهة تعلّقه بالعمل، أو من حيث كونه واقعا يتعلّق بحياة النّاس ومواقفها، أو من حيث كونه يتعلّق بسلوك الإنسان، من هذا القبيل نجد أن العمل الصّادر عن الإنسان- أيّا كان- إذا قصد به وجه الله، وظهرت الشّواهد على ذلك، فإنّه يعدّ عملا مخلصا، لأنّه خالص من الشّرك، والرّياء، والمراءاة، والشّهرة. لأنّ العمل الإنسانيّ قد يشوبه شيء ما من ذلك، فإذا صفا عن شوبه، وخلص منه سمّي خالصا، فالإخلاص ينافي الإشراك، والرّياء، والغشّ، والخداع، والاحتيال، والكذب، ولذا قد نجد بينه وبين الصّدق قرابة معنى، وكذلك يمتدّ إلى معنى الصّراحة، ويلتقي بمفهوم الوضوح، والأمانة والصّفاء.
وإذا كانت كلّ المعاني السّابقة من رياء وغشّ وخداع، واحتيال، وكذب، تمتدّ إلى الشّرك بمعنى ما، فإنّ من الشّرك ما هو خفيّ وما هو جليّ، وكذا الإخلاص، وكلاهما يرد على قلب المسلم ويكون ذلك في المقصود والنّيّة، ولذا يأتي الفعل على قدر النّيّة، إمّا مخلصا أو غير مخلص، فمن كان قصده من عمله الرّياء، فهو غير مخلص، ومن كان غرضه التّقرّب إلى الله تعالى فهو مخلص، إلّا أنّ العادة جرت بتخصيص الإخلاص على قصد التّقرّب إلى الله تعالى وتخليصه من جميع ما يشوبه.
وكلّ عمل باعثه التّقرّب إلى الله تعالى، وانضاف إليه خطرة بشريّة حتّى صار العمل موسوما بها، وأخفّ من جهتها من حيث الإتيان، فقد خرج العمل عن الإخلاص، وخرج عن أن يكون خالصا لوجه الله تعالى، وبالتّالي خرج من أن يكون محقّقا لإنسانيّة الإنسان، وكما يقول الإمام الغزاليّ: «كلّ حظّ من حظوظ الدّنيا تستريح إليه النّفس، ويميل إليه القلب، قلّ أم كثر، إذا تطرّق إلى العمل تكدّر به صفوه، وزال به إخلاصه، والإنسان مرتبط في حظوظه، منغمس في شهواته، قلّما ينفكّ فعل من أفعاله، وعبادة من عباداته عن حظوظ وأغراض عاجلة من هذه الأجناس.
فلذلك قيل: من سلم له من عمره لحظة خالصة لوجه الله نجا، وذلك لعزّة الإخلاص وعسر تنقية القلب عن هذه الشّوائب، بل الخالص هو الّذي لا باعث له إلّا طلب القرب من الله تعالى» «3» .
وقد ذكر ابن تيميّة أنّ إخلاص الدّين هو الّذي
__________
(1) التعريفات (13) ، والإحياء (4/ 400) وما بعدها.
(2) مدارج السالكين (3/ 95) والتعريفات (13) .
(3) إحياء علوم الدين (4/ 368) ، ومفردات الراغب (154) .(2/125)
لا يقبل الله تعالى سواه، وهو الذي بعث الله به الأوّلين والآخرين من الرّسل، وأنزل به جميع الكتب، واتّفق عليه أئمّة أهل الإيمان وهذا هو خلاصة الدّعوة النّبويّة، وهو قطب القرآن الّذي تدور عليه رحاه «1» .
بناء على ما سبق فإنّ الإخلاص هو تصفية السّرّ والقلب والعمل، والخالص هو الّذي لا باعث له إلّا طلب الحقّ، والإخلاص لا يكون إلّا بعد الدّخول في العمل، والإخلاص لله؛ هو أن لا يفعل المخلص فعلا إلّا لله تعالى.
الثّانية: من جهة معناه وشروطه كموقف يلتزم به الإنسان في حياته.
الإخلاص ينقسم بحسب ما يظهر من العبد، يمكن أن يشمل كلّ فعل الإنسان، ولذا يقال: إنّ الإخلاص أربعة أقسام: إخلاص في الأقوال، وإخلاص في الأفعال، وإخلاص في الأعمال أي العبادات، وإخلاص في الأحوال أي إلهامات القلب وواردات الغيب. والدّين شامل لكلّ هذا، وباعتبار أنّ الإخلاص التزام حيويّ أكثر ممّا هو تصوّر نظريّ، فإنّ موقف الإخلاص يستلزم عدّة أمور، وهي:
1- الاستمراريّة: حيث إنّ حياة الإنسان عبارة عن تواصل واستمرار، ومواقف الحياة مستمرّة ومتكاملة، ولذا لا ينبغي أن يتفكّك الإخلاص أو يتبعثر، لأنّه لا يتعلّق بالموقف المعاصر فقط، ولا بالماضي فقط، ولا بالمستقبل فقط، وإنّما هو موقف مستمرّ، ومن ثمّ كانت الاستمراريّة صفة أساسيّة في الإخلاص.
2- التّكامل: بمعنى انضواء الشّخص بجميع مكوّناته في أهداف وجوده المستمدّة من الإطار الإسلاميّ للحياة، حتّى يتمكّن من بلوغ أكمل درجة ممكنة من صياغة الذّات بطريقة متكاملة، وذلك عبر محبّة قويّة لله وللحقّ والحقيقة، وللآخرين المخلصين، هذا إلى جانب التّكامل بين النّيّة والفعل.
3- العلم: حيث إنّ الإخلاص يستلزم وعي الإنسان بوجوده في إطار التّعاليم الإسلاميّة، وهذا الوعي لا يمكن أن يتمّ بغير معرفة، لأنّه لا يمكن أن يتأتّى عن جهل، وجهل الإنسان لا يمكن أن يؤدّي إلى إخلاص حقيقيّ، ومن ثمّ كان العلم شرطا ضروريّا لتحقيق الإخلاص، هذا إلى جانب ضرورة العلم بما يحقّق الإخلاص.
4- التدرّج: باعتبار أنّ الإخلاص جهد بشريّ من أجل الوصول إلى كمال الإنسان بوصوله إلى حقيقة العبوديّة والتّحقّق بها، ولذا فإنّ الإنسان يتعثّر وينهض مرارا وتكرارا، بهدف بلوغ المرتبة العالية، إنّ التّجربة صعبة في مواقف حياة الإنسان، ولذا فهو يحتاج إلى التّدرّج، وهذا شرط لكمال الإخلاص.
5- الأمانة: باعتبارها رعاية لحقّ الله تعالى، وأداء للفرائض والواجبات، وهذا يتطلّب عدم الخيانة وحفظ الحقوق، وهي خير شاهد خارجيّ على الإخلاص، وخاصّة أنّ المنزلقات الّتي يمكن أن تطيح بالأمانة اللّازمة للإخلاص وفيرة، وهذه توفّر
__________
(1) التحفة العراقية في أعمال القلوب (58) .(2/126)
حظوظا للنّفس تفسد الإخلاص، ولذا كان لأبدّ من توافر الأمانة لتوافر الإخلاص والتمسّك به.
وخلاصة الأمر؛ أنّ الإخلاص تصفية للعمل والقول والعبادة ممّا يشوبها من رياء ومراءاة أو خداع أو كذب، ويأتي في مراتب عديدة، وهي: طرح العمل وعدم رؤيته، فضلا عن طرح طلب العوض عنه، والخجل من العمل مع بذل الوسع والغاية فيه، مع رؤية التّوفيق في العمل المخلص على أنّه جود من الله تعالى، ثمّ إخلاصه بالخلاص منه، أي جعله خالصا لوجه الله تعالى «1» .
الفرق بين الإخلاص والصدق:
قال الجرجانيّ: الفرق بين الإخلاص والصّدق: أنّ الصّدق أصل وهو الأوّل: والإخلاص فرع وهو تابع، وفرق آخر أنّ الإخلاص لا يكون إلّا بعد الدّخول في العمل، أمّا الصّدق فيكون بالنّيّة قبل الدّخول فيه «2» .
لفظ الإخلاص في القرآن الكريم:
ورد لفظ الإخلاص في القرآن الكريم على وجوه:
الأوّل: قال في حقّ الكفّار عند مشاهدتهم البلاء: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (يونس/ 22) .
الثّاني: في أمر المؤمنين: فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (غافر/ 65) .
الثّالث: في أنّ المؤمنين لم يؤمروا إلّا به: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (البينة/ 5) .
الرّابع: في حقّ الأنبياء: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (ص/ 46) .
الخامس: في المنافقين إذا تابوا: وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ (النساء/ 46) .
السّادس: أنّ الجنّة لم تصلح إلّا لأهله: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (الصافات/ 40) .
السّابع: لم ينج من شرك تلبيس إبليس إلّا أهله: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (ص/ 83) «3» .
وتتلخّص هذه الوجوه في أمرين:
الأوّل: الدّين لله سواء من المؤمنين عند الدّعاء أو العبادة، أو من الكفّار عند البلاء أو من المنافقين عند التّوجّه، ومن هذا النّوع الإخلاص المطلق لله- عزّ وجلّ-.
الآخر: إخلاص الله عباده الّذين اصطفاهم واختارهم سواء أكانوا من الأنبياء أو من غيرهم وسنحاول فيما يلي تصنيف ما ورد في القرآن الكريم متعلّقا بهذه الصّفة وفقا للسّياقات الّتي ورد بها.
[للاستزادة: انظر صفات: الإحسان- الأدب الأمانة- الاستقامة- الأسوة الحسنة- الصدق- المراقبة.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الرياء- الإساءة التهاون- الخداع- الخيانة- القدوة السيئة- النفاق الشرك] .
__________
(1) لمزيد من التفاصيل: راجع: إحياء علوم الدين (4/ 376- 369) . روضة التعريف بالحب الشريف (ج 2/ 472) . المنهاج في شعب الإيمان (3/ 114) . المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني (154) .
(2) التعريفات للجرجاني (31، 14) .
(3) بصائر ذوي التمييز (1/ 172) .(2/127)
الآيات الواردة في «الإخلاص»
إخلاص الدين لله:
1- قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) »
2- قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) «2»
3- إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2)
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) «3»
4- قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11)
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) «4»
5- قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14)
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) «5»
6- هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) «6»
7- هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) «7»
8- وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) «8»
9- إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ
__________
(1) البقرة: 139 مدنية
(2) الأعراف: 29 مكية
(3) الزمر: 2- 3 مكية
(4) الزمر: 11- 12 مكية
(5) الزمر: 14- 15 مكية
(6) غافر: 13- 14 مكية
(7) غافر: 65 مكية
(8) البينة: 4- 5 مدنية(2/128)
وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) «1»
10- هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) «2»
11- فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) «3»
12- أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) «4»
13- وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (67) 1 لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)
فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) «5»
إخلاص الله- عز وجل- من شاء من عباده:
أ- الأنبياء- صلوات الله عليهم-:
14- وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) «6»
15- وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) «7»
16- وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45)
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) «8»
ب- المؤمنون الناجون (من عذاب الدنيا أو من عذاب الآخرة أو من تلبيس إبليس) :
17- قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) «9»
18- إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)
فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) «10»
__________
(1) النساء: 145- 146 مدنية
(2) يونس: 22 مكية
(3) العنكبوت: 65- 66 مكية
(4) لقمان: 31- 32 مكية
(5) الصافات: 167- 170 مكية
(6) يوسف: 24 مكية
(7) مريم: 51 مكية
(8) ص: 45- 46 مكية
(9) الحجر: 36- 40 مكية
(10) الصافات: 38- 43 مكية(2/129)
19- إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69)
فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72)
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) «1»
20- وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124)
أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125)
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) «2»
21- أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156)
فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
(157)
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) «3»
22- قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)
قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)
قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)
إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) «4»
الآيات الواردة في «الإخلاص» معنى
23- قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)
اللَّهُ الصَّمَدُ (2)
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) «5»
__________
(1) الصافات: 69- 74 مكية
(2) الصافات: 123- 128 مكية
(3) الصافات: 156- 160 مكية
(4) ص: 79- 83 مكية
(5) الإخلاص: 1- 4 مكية(2/130)
الأحاديث الواردة في (الإخلاص)
1-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا صلّيتم على الميّت فأخلصوا له الدّعاء» ) * «1»
2-* (عن عطاء بن السّائب عن أبيه قال:
صلّى بنا عمّار بن ياسر صلاة فأوجز فيها، فقال له بعض القوم: لقد خفّفت أو أوجزت الصّلاة، فقال:
أمّا على ذلك فقد دعوت فيها بدعوات سمعتهنّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلمّا قام تبعه رجل من القوم، هو أبي غير أنّه كنّى عن نفسه، فسأله عن الدّعاء ثمّ جاء فأخبر به القوم: «اللهمّ بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفّني إذا علمت الوفاة خيرا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشّهادة، وأسألك كلمة الحقّ في الرّضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرّة عين لا تنقطع، وأسألك الرّضاء بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذّة النّظر إلى وجهك، والشّوق إلى لقائك، في غير ضرّاء مضرّة ولا فتنة مضلّة، اللهمّ زيّنّا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين» ) * «2» .
3-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما-:
أنّ رجلين اختصما إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسأل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدّعي البيّنة فلم يكن له بيّنة، فاستحلف المطلوب، فحلف بالله الّذي لا إله إلّا هو، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنّك قد فعلت، ولكن غفر لك بإخلاصك قول لا إله إلّا الله» ) * «3» .
4-* (عن أبي أمامة الباهليّ- رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذّكر، ما له؟. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا شيء له» . فأعاد ثلاث مرّات.
يقول له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا شيء له» . ثمّ قال: «إنّ الله لا يقبل من العمل إلّا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه» ) * «4» .
5-* (عن عثمان- رضي الله عنه- قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّي لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقّا من قلبه إلّا حرّم على النّار» . فقال له عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه-: أنا أحدّثك ما هي؟ هي كلمة الإخلاص الّتي أعزّ الله- تبارك وتعالى- بها محمّدا صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وهي كلمة
__________
(1) أبو داود: (3199) وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 617) برقم (2740) : حسن.
(2) النسائي (3/ 54) واللفظ له وفي المستدرك: (كلمة الحكم في الرضا والغضب) . (1/ 524) وقال عنه: صحيح الإسناد.
(3) احمد (1/ 253، 288) ، وقال أحمد شاكر في تحقيقه (4/ 75، 76) رقم الحديث (2280) : إسناده صحيح.
(4) النسائي (6/ 25) واللفظ له وقال الشيخ ناصر الألباني (52) من سلسلة الأحاديث الصحيحة: إسناده حسن كما قاله الحافظ العراقي في تخريج الإحياء، ونحوه عند أحمد (4/ 126) . من حديث شداد بن أوس. وذكر بطرق مختلفة عن ابن عباس وأبي هريرة، السنن الكبرى البيهقي (9/ 282) وما بعدها. وقال محقق جامع الأصول (3/ 584) : وسنده حسن.(2/131)
التّقوى الّتي ألاص «1» عليها نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم عمّه أبا طالب عند الموت: شهادة أنّ لا إله إلّا الله» ) * «2» .
6-* (عن زيد بن ثابت- رضي الله عنهما-، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نضّر الله امرأ سمع مقالتي فبلّغها، فربّ حامل فقه غير فقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» زاد فيه عليّ بن محمّد «ثلاث لا يغلّ «3» عليهنّ قلب امريء مسلم: إخلاص العمل لله، والنّصح لأئمّة المسلمين ولزوم جماعتهم» ) * «4» .
7-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
سمعت أبا بكر الصّدّيق- رضي الله عنه- على هذا المنبر يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذا اليوم من عام الأوّل، ثمّ استعبر أبو بكر وبكى، ثمّ قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لم تؤتوا شيئا بعد كلمة الإخلاص مثل العافية، فاسألوا الله العافية» ) * «5» .
8-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قيل يا رسول الله: من أسعد النّاس بشفاعتك يوم القيامة؟. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لّا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد النّاس بشفاعتي يوم القيامة، من قال لا إله إلّا الله خالصا من قلبه- أو نفسه-» ) *» .
9-* (عن عبد الله بن الزّبير- رضي الله عنهما- قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا انصرف من الصّلاة، يقول: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، لا إله إلّا الله، مخلصين له الدّين ولو كره الكافرون، أهل النّعمة والفضل والثّناء الحسن، لا إله إلّا الله مخلصين له الدّين ولو كره الكافرون» ) * «7» .
10-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما قال عبد لا إله إلّا الله قطّ مخلصا، إلّا فتحت له أبواب السّماء حتّى تفضي إلى العرش ما اجتنب الكبائر» ) * «8» .
__________
(1) ألاص الإنسان إذا حرّكه عن موضعه وأداره لينتزعه.
(2) أحمد (1/ 63) ، وقال الشيخ أحمد شاكر في تحقيق المسند (1/ 353) : إسناده صحيح. وهو في مجمع الزوائد (1/ 15) وقال: رجاله ثقات.
(3) لا يغلّ: لا يغلّ عليه قلب مؤمن أي لا يكون معها في قلبه غش وزغل ونفاق ولكن يكون معها الإخلاص في ذات الله- عز وجل- وهو في الإغلال بمعنى الخيانة ويروى يغلّ من الغلّ وهو الحقد.
(4) ابن ماجة (230) واللفظ له، قال محقق جامع الأصول (1/ 265، 266) : الحديث رواه البزار بإسناد حسن. وأخرجه الشافعي في مسنده (1/ 14) من حديث ابن مسعود وإسناده صحيح والدرامي (1/ 86، 87) . وأخرجه أحمد في المسند (5/ 183) وغيره من حديث زيد بن ثابت. وإسناده صحيح وورد فى مجمع الزوائد بطرق مختلفة ببعض الزيادات (1/ 137- 139) .
(5) مسند أبي يعلى (1/ 76، 77) ، النسائي عمل اليوم والليلة رقم 886، وقال الشيخ أحمد شاكر محقق المسند (1/ 158، 159) واللفظ له: إسناده صحيح.
(6) البخاري- الفتح 1 (99) . وله رواية أخرى في الرقاق مثلها إلا قوله: خالصا من قلبه- أو نفسه- جاءت من قبل نفسه- الفتح 11 (6570) .
(7) أبو داود (1506) ، وقال الألباني (1/ 281) رقم (1334) : صحيح. ونحوه عند مسلم.
(8) الترمذي (3590) وحسنه وكذلك محقق جامع الأصول (4/ 392) .(2/132)
الأحاديث الواردة في (الإخلاص) معنى
11-* (عن أبي كبشة الأنماريّ- رضي الله عنه- أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ثلاثة أقسم عليهنّ وأحدّثكم حديثا فاحفظوه» ، قال: «ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلّا زاده الله عزّا، ولا فتح عبد باب مسألة إلّا فتح الله عليه باب فقر- أو كلمة نحوها-» ، وأحدّثكم حديثا فاحفظوه. قال: «إنّما الدّنيا لأربعة نفر، عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتّقي فيه ربّه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا، فهو صادق النّيّة. يقول: لو أنّ لي مالا لعملت بعمل فلان فهو نيّته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما، فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتّقي فيه ربّه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقّا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أنّ لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو نيّته، فوزرهما سواء» ) * «1» .
12-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه «2» » ) * «3» .
13-* (عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله- عزّ وجلّ- يستخلص رجلا من أمّتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلّا «4» ، كلّ سجلّ مدّ البصر، ثمّ يقول: أتنكر من هذا شيئا؟.
أظلمتك كتبتي الحافظون؟. قال: لا. يا ربّ، فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرّجل «5» ، فيقول: لا. يا ربّ، فيقول: بلى، إنّ لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم اليوم عليك، فتخرج له بطاقة «6» فيها «أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّدا عبده ورسوله» ، فيقول: أحضروه. فيقول: يا ربّ ما هذه البطاقة مع هذه السّجلّات؟ فيقال: إنّك لا تظلم، قال: فتوضع السّجلّات في كفّة، قال: فطاشت السّجلّات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل شيء، بسم الله الرّحمن الرّحيم» ) * «7» .
__________
(1) الترمذي (2325) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2) تركته وشركه: معناه أنه غني عن المشاركة وغيرها. والمراد أن عمل المرائي باطل لا ثواب فيه.
(3) مسلم (2985) .
(4) السّجلّ: بكسر السين والجيم الكتاب الكبير.
(5) يبهت الرجل إذا دهش وتحيّر من الأمر يأتيه بغتة وقيل: انقطع وسكت متحيرا.
(6) قال ابن الأثير في النهاية: «البطاقة: رقعة صغيرة يثبت فيها مقدار ما يجعل فيه، إن كان عينا فوزنه أو عدده، وإن كان متاعا فثمنه. قيل: سميت بذلك لأنها تشدّ بطاقة من الثوب، فتكون الباء حينئذ زائدة وهي كلمة كثيرة الاستعمال بمصر» .
(7) أحمد 2/ 213 واللفظ له، الترمذي (2369) وحسنه، وقال الشيخ أحمد شاكر: (11/ 175) إسناده صحيح، وابن ماجة (2/ 4300) ، والحاكم في المستدرك (1/ 529) وصححه ووافقه الذهبي(2/133)
14-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» ) * «1» .
15-* (عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «انطلق ثلاثة نفر ممّن كان قبلكم حتّى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار. فقالوا: إنّه لا ينجيكم من هذه الصّخرة إلّا أن تدعوا لله بصالح أعمالكم. فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق «2» قبلهما أهلا ولا مالا. فنأى بي في طلب شيء قوما «3» فلم أرح «4» عليهما حتّى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يديّ- أنتظر استيقاظهما حتّى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما. اللهم؛ إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنّا ما نحن فيه من هذه الصّخرة. فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج. قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: قال الآخر: اللهم كانت لي بنت عمّ كانت أحبّ النّاس إليّ، فأردتها عن نفسها فامتنعت منّي، حتّى ألّمت بها سنة «5» من السّنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار، على أن تخلّي بيني وبين نفسها ففعلت، حتّى إذا قدرت عليها، قالت: لا أحلّ لك أن تفضّ الخاتم إلّا بحقّه، فتحرّجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها، وهي أحبّ النّاس إليّ، وتركت الذّهب الّذي أعطيتها، اللهم؛ إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنّا ما نحن فيه، فانفرجت الصّخرة غير أنّهم لا يستطيعون الخروج منها. وقال الثّالث: اللهمّ إنّي استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد، ترك الّذي له وذهب، فثمّرت أجره حتّى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله؛ أدّ إليّ أجري، فقلت له: كلّ ما ترى من أجرك من
الإبل والبقر والغنم والرّقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزىء بي، فقلت: إنّي لا أستهزىء بك. فأخذه كلّه فاستاقه فلم يترك منه شيئا. اللهمّ؛ فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنّا ما نحن فيه، فانفرجت الصّخرة فخرجوا يمشون» ) * «6» .
16-* (عن سعد بن أبي وقّاص- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعودني عام حجّة الوداع من وجع اشتدّ بي، فقلت: إنّي قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال، ولا يرثني إلّا ابنة، أفأتصدّق بثلثي مالي؟ قال: «لا» . فقلت: بالشّطر؟ «7» فقال:
«لا» . ثمّ قال: «الثّلث، والثّلث كبير- أو كثير- إنّك
__________
(1) مسلم (4/ 2564) .
(2) لا أغبق: لا أقدّم في الشرب قبلهما أهلا ولا مالا، والغبوق شرب العشي.
(3) قوما: هكذا في فتح الباري وفي صحيح البخاري «يوما» وهو الصواب، وعبارة مسلم نأى بي ذات يوم الشجر.
(4) أرح: بضم الهمزة وكسر الراء: أي أرجع.
(5) ألّمت بها سنة من السنين أي أصابها ما يصيب الناس في القحط والجدب، والسنة معناها هنا الجدب.
(6) البخاري- الفتح 4 (2272) واللفظ له، ومسلم (2743) .
(7) الشطر هو النصف.(2/134)
أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفّفون النّاس «1» . وإنّك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلّا أجرت بها حتّى ما تجعل في في «2» امرأتك» . فقلت: يا رسول الله أخلّف بعد أصحابي؟
قال: «إنّك لن تخلّف «3» ، فتعمل عملا صالحا إلّا ازددت به درجة ورفعة، ثمّ لعلّك أن تخلّف حتّى ينتفع بك أقوام ويضرّ بك آخرون، اللهمّ أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردّهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن مات بمكّة» ) * «4» .
17-* (عن عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّما الأعمال بالنّيّة، وإنّما لكلّ امريء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» ) * «5» .
18-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تضمّن الله لمن خرج في سبيله. لا يخرجه إلّا جهادا «6» في سبيلي، وإيمانا بي، وتصديقا برسلي- فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنّة، أو أرجعه إلى مسكنه الّذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة. والّذي نفس محمّد بيده ما من كلم يكلم «7» في سبيل الله إلّا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم وريحه ريح مسك، والّذي نفس محمّد بيده؛ لولا أن يشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة، ويشقّ عليهم أن يتخلّفوا عنّي.
والّذي نفس محمّد بيده؛ لوددت أنّي أغزو في سبيل الله فأقتل، ثمّ أغزو فأقتل، ثمّ أغزو فأقتل» ) * «8» .
19-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تكفّل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه إلّا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته بأن يدخله الجنّة أو يرجعه إلى مسكنه الّذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة» ) * «9» .
20-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صلاة الرّجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة، وذلك أنّ أحدهم إذا توضّأ فأحسن الوضوء ثمّ أتى المسجد لا ينهزه «10» إلّا الصّلاة لا يريد إلّا الصّلاة، فلم يخط خطوة إلّا رفع له بها درجة وحطّ عنه بها خطيئة حتّى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في الصّلاة ما كانت الصّلاة هي تحبسه، والملائكة
__________
(1) يتكففون الناس: أي يسألون الناس بمد أكفهم إليهم.
(2) في في امرأتك: أي في فم امرأتك.
(3) إنك لن تخلف: المراد بالتخلف طول العمر والبقاء في الحياة بعد أصحابه.
(4) البخاري- الفتح 3 (1295) واللفظ له، مسلم (1628) .
(5) البخاري- الفتح 1 (1) ، مسلم (1907) واللفظ له.
(6) إلا جهادا: هكذا هو في جميع النسخ بالنصب، وهو منصوب على أنه مفعول له، ومعناه: لا يخرجه إلا محض الإيمان والإخلاص.
(7) كلم يكلم في سبيل الله: أي يجرح جرحا في سبيل الله.
(8) مسلم (1876) واللفظ له وفى البخارى بلفظ متقارب فى 6 (2787، 2797، 2803) .
(9) البخاري- الفتح 6 (3123) واللفظ له، مسلم (1876) .
(10) ينهزه: بفتح الياء والهاء والزاي: أي يخرجه وينهضه.(2/135)
يصلّون على أحدكم مادام في مجلسه الّذي صلّى فيه، يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه، ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه» ) * «1» .
21-* (عن عتبان بن مالك الأنصاريّ- رضي الله عنه- قال: غدا عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
«لن يوافي عبد يوم القيامة يقول لا إله إلّا الله يبتغي بها وجه الله إلّا حرّم الله عليه النّار» ) * «2» .
22-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربّه- عزّ وجلّ- قال:
«إنّ الله كتب الحسنات والسّيّئات ثمّ بيّن ذلك، فمن همّ بحسنة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همّ بسيّئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة. فإن هو همّ بها فعملها كتبها الله له سيّئة واحدة» ) * «3» .
23-* (عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: كنّا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في غزاة فقال: «إنّ بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلّا كانوا معكم، حبسهم المرض» .
وفي رواية: «إلّا شركوكم في الأجر» ) * «4» .
24-* (عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة، وإذا استنفرتم فانفروا» ) * «5»
25-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من اتّبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا، وكان معه حتّى يصلّى عليها ويفرغ من دفنها، فإنّه يرجع من الأجر بقيراطين كلّ قيراط مثل أحد، ومن صلّى عليها ثمّ رجع قبل أن تدفن فإنّه يرجع بقيراط» ) *» .
26-* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من طلب الشّهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه» ) * «7» .
27-* (عن معاذ بن جبل- رضي الله عنه- أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من قاتل في سبيل الله فواق ناقة فقد وجبت له الجنّة، ومن سأل الله القتل من نفسه صادقا ثم مات أو قتل فإنّ له أجر شهيد» . زاد ابن المصفّي من هنا: «ومن جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنّها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها لون الزّعفران وريحها ريح المسك، ومن
__________
(1) البخاري- الفتح 2 (647) ، مسلم (649) واللفظ له باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة.
(2) البخاري- الفتح 11 (6423) .
(3) البخاري- الفتح 11 (6491) .
(4) البخاري- الفتح 6 (2839) بلفظ نحوه عن أنس، مسلم (1911) واللفظ له.
(5) البخاري- الفتح 6 (2783) واللفظ له، مسلم 3 (1353) في كتاب الإمارة باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير و (1864) عن عائشة وهو نفس لفظ ابن عباس.
(6) البخاري- الفتح 1 (47) واللفظ له، مسلم (945) .
(7) مسلم (1908) واللفظ له، وأبو داود (1520) ، والترمذي (1683) .(2/136)
خرج به خراج «1» في سبيل الله فإنّ عليه طابع الشّهداء» ) * «2» .
28-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» ) * «3» .
29-* (عن عائشة زوج النّبيّ- رضي الله عنهما- قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية:
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ «4» ، قالت عائشة: هم الّذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: «لا يا بنت الصّدّيق ولكنّهم الّذين يصومون ويصلّون ويتصدّقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الّذين يسارعون في الخيرات» ) * «5» .
30-* (عن سفيان بن عبد الله الثّقفيّ- رضي الله عنه- قال: «قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك؟ قال: «قل:
آمنت بالله فاستقم» ) * «6» .
31-* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدّنيا ثمّ احتسبه إلّا الجنّة» ) * «7» .
32-* (عن عائشة- رضي الله عنها- زوج النّبيّ؛ أنّها قالت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: هل أتى عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟. قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلّا وأنا بقرن الثّعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنّ الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ ثمّ قال:
يا محمّد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين «8» ، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» ) * «9» .
33-* (عن عروة بن الزّبير- رضي الله عنهما- قال: سألت ابن العاص فقلت: «أخبرني بأشدّ
__________
(1) الخراج هنا هو اسم لما يخرجه المسلم للجهاد من الغلّة ونحوها.
(2) أبو داود (2541) واللفظ له، وقال الألباني 2 (2216) : صحيح، الترمذي (1657) وقال محقق جامع الأصول (474/ 9) : قال الترمذي: هذا حديث صحيح وهو كما قال، والحاكم في المستدرك (2/ 77) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم (1876) ولم يخرجاه وله إسناد صحيح على شرط الشيخين مختصرا.
(3) البخاري- الفتح 4 (1901) واللفظ له، مسلم (759) .
(4) المؤمنون (60) .
(5) الترمذي (3175) واللفظ له بلفظ الجمع (الذين يصومون ويصلون ... ) وقال محقق جامع الأصول (2/ 245) : في سنده انقطاع لكن له شاهد يتقوى به من حديث أبي هريرة عند ابن جرير (9/ 225) وقد صححه الحاكم (2/ 394) ووافقه الذهبي.
(6) مسلم (38) واللفظ له، أحمد (3/ 414، 4/ 385) .
(7) البخاري- الفتح 11 (6424) .
(8) الأخشبان: جبلان بمكة.
(9) البخاري- الفتح 6 (3231) واللفظ له، مسلم (1795) .(2/137)
شيء صنعه المشركون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: بينما النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلّي في حجر الكعبة إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه على عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر- رضي الله عنه- حتّى أخذ بمنكبه ودفعه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال: «أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ» الآية) * «1» .
المثل التطبيقي من حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم في (الإخلاص)
34-* (عن عبد الله بن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا قام من اللّيل يتهجّد قال: «اللهم لك الحمد، أنت نور السّموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت قيّم السّموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت الحقّ ووعدك حقّ، وقولك حقّ، ولقاؤك حقّ والجنّة حقّ، والنّار حقّ، والسّاعة حقّ، والنّبيّون حقّ، ومحمّد حقّ، اللهمّ لك أسلمت وعليك توكّلت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدّمت وما أخّرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدّم وأنت المؤخّر لا إله إلّا أنت- أو- لا إله غيرك» ) * «2» .
لقد كانت حياة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم كلّها إخلاصا فقد جاء في القرآن الكريم على لسانه صلّى الله عليه وسلّم: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (الزمر/ 14) وقد تجلّى إخلاصه صلّى الله عليه وسلّم في العبادة والجهاد والنّصح للمسلمين، أمّا الصّحابة رضوان الله عليهم فقد كان الإخلاص رائدهم في كلّ ما يقومون به، ومن الأمثلة التّطبيقيّة في حياة الصّحابة ما جاء في حديث سعد بن أبي وقّاص- رضي الله عنه- قال: وأمّا عكرمة فركب البحر فأصابتهم عاصفة، فقال أصحاب السّفينة: «أخلصوا فإنّ آلهتكم لا تغني عنكم شيئا ههنا. فقال عكرمة:
والله لئن لم ينجّني من البحر إلّا الإخلاص لا ينجّيني في البرّ غيره. اللهم؛ إنّ لك عليّ عهدا إن أنت عافيتني ممّا أنا فيه أن آتي محمّدا صلّى الله عليه وسلّم حتّى أضع يدي في يده فلأجدنّه عفوّا كريما فجاء فأسلم» ) * «3» .
__________
(1) البخاري- الفتح 8 (4815) ، وانظر سيرة ابن كثير (1/ 470) ، ودلائل النبوة للبيهقي (2/ 274) .
(2) البخاري- الفتح 11 (6317) واللفظ له، ومسلم (769) .
(3) النسائي (7/ 105، 106) واللفظ له، صحيح النسائي، للألباني (3791) الصحيحة (1723) ، صحيح الجامع (2426) .(2/138)
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في (الإخلاص)
1- قال مكحول: «ما أخلص عبد قطّ أربعين يوما إلّا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه ولسانه» ) * «1» .
2-* (قال أبو سليمان الدّارانيّ: «إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرّياء» ) * «2» .
3-* (قال يوسف بن الحسين: «أعزّ شيء في الدّنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرّياء عن قلبي فكأنّه ينبت على لون آخر» ) * «3» .
4-* (قال الفضيل بن عياض في تفسير قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا هو أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا عليّ ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إنّ العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتّى يكون خالصا صوابا. الخالص أن يكون لله والصّواب أن يكون على السّنّة. ثم قرأ قوله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (الكهف/ 110) » ) * «4» .
5-* (قال شهر بن حوشب: «جاء رجل إلى عبادة بن الصّامت، فقال: أنبئني عمّا أسأل عنه، أرأيت رجلا يصلّي يبتغي وجه الله ويحبّ أن يحمد؟» .
فقال عبادة: «ليس له شيء، إنّ الله تعالى يقول: أنا خير شريك فمن كان له معي شريك فهو له كلّه لا حاجة لي فيه» ) * «5» .
6-* (قال الجنيد- رحمه الله-: «الإخلاص سرّ بين الله وبين العبد، لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوى فيميله» ) * «6» .
7-* (قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (الكهف/ 110) : وهذان ركنا العمل المتقبّل لا بدّ أن يكون خالصا لله صوابا على شريعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» ) * «7» .
8-* (قال ابن القيّم- رحمه الله تعالى-:
«العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملا ينقله ولا ينفعه» ) * «8» .
__________
(1) مدارج السالكين (2/ 96) .
(2) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(3) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(4) المرجع السابق (2/ 93) .
(5) تفسير ابن كثير (مج 3، ج 1، ص 114)
(6) مدارج السالكين (2/ 95)
(7) تفسير القرآن العظيم (مج 3/ ج 16، ص 114)
(8) الفوائد (67) .(2/139)
من صور الإخلاص ومظاهره
ممّا سبق يتّضح لنا أنّ للإخلاص صورا متعدّدة تتمثّل فيما يلي:
1- الإخلاص في التّوحيد.
2- الإخلاص في النّيّة والقصد.
3- الإخلاص في العبادات: الصّلاة، السّجود، الصّيام، قيام رمضان، قيام ليلة القدر، حبّ المساجد، الزّكاة، الصّدقة، الحجّ، الجهاد، التّوبة، والذّكر، والاستغفار، والدّعاء، وقراءة القرآن، وسائر القربات.
4- الإخلاص في الأقوال كلّها.
5- الإخلاص في الالتزام بمكارم الأخلاق، (كالصّدق، الصّبر، الزّهد، والتّواضع ... الخ) .
6- الإخلاص في التّوكّل على الله.
7- الإخلاص في كافّة الأعمال.
من فوائد (الإخلاص)
(1) الإخلاص هو الأساس في قبول الأعمال والأقوال.
(2) الإخلاص هو الأساس في قبول الدّعاء.
(3) الإخلاص يرفع منزلة الإنسان في الدّنيا والآخرة.
(4) يبعد عن الإنسان الوساوس والأوهام.
(5) يحرّر العبد من عبوديّة غير الله.
(6) يقوّي العلاقات الاجتماعيّة وينصر الله به الأمّة.
(7) يفرّج شدائد الإنسان في الدّنيا.
(8) يحقّق الطّمأنينة لقلب الإنسان ويجعله يشعر بالسّعادة.
(9) يقوّي إيمان الإنسان ويكرّه إليه الفسوق والعصيان.
(10) يقوّي عزيمة الإنسان وإرادته في مواجهه الشّدائد.
(11) حصول كمال الأمن والاهتداء في الدّنيا والآخرة.(2/140)
الأدب*
الأدب لغة:
اسم مأخوذ من مادّة (أدب) الّتي تدلّ على معنى تجميع النّاس إلى الطّعام والآدب هو الدّاعي لذلك، ومن هذا القياس أيضا الأدب لأنّه مجمع على استحسانه.
وقال ابن منظور: سمّي أدبا لأنّه يأدب النّاس إلى المحامد وينهاهم عن المقابح. وقال أيضا: وأصل الأدب الدّعاء ومنه قيل للصّنيع يدعى إليه النّاس:
مدعاة ومأدبة.
وقال أبو زيد الأنصاريّ: الأدب: يقع على كلّ رياضة محمودة يتخرّج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل، وقال الأزهريّ نحوه. فالأدب اسم لذلك، والجمع: آداب مثل سبب وأسباب، وأدّبته تأديبا:
مبالغة وتكثير، ومنه قيل: أدّبته تأديبا: إذا عاقبته على إساءته؛ لأنّه سبب يدعو إلى حقيقة الأدب، وأدب يأدب أدبا «من باب ضرب» : صنع صنيعا، ودعا النّاس إليه، فهو: آدب. على فاعل. قال الشّاعر، وهو طرفة:
الآيات/ الأحاديث/ الآثار
32/ 52/ 14
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر «1»
أي لا ترى الدّاعي يدعو بعضا دون بعض بل يعمّهم بدعوته في زمان القلّة، وذلك غاية الكرم، واسم الصّنيع: المأدبة بضمّ الدّال وفتحها.
وأمّا قول ابن مسعود- رضي الله عنه-: «إنّ هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلّموا من مأدبته» فقد قال فيه أبو عبيد: من قال مأدبة (بضمّ الدّال) فإنّه أراد التّشبيه بالصّنيع يصنعه الإنسان يدعو إليه النّاس وذكر بيت طرفة، قال ومن قال مأدبة (بفتح الدّال) فإنّه يذهب إلى الأدب «2» .
واصطلاحا:
قال المناويّ: الأدب رياضة النّفوس ومحاسن الأخلاق ويقع على كلّ رياضة محمودة يتخرّج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل.
وقيل: هو عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ.
وهو فيما يتعلّق بالسّلوك: حسن الأحوال في
__________
* صفة الأدب جامعة لجميع ما ورد في هذه الموسوعة من صفات محمودة لسيد المرسلين الصادق الأمين وصاحب الخلق العظيم محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي أوتي جوامع الكلم فعليك بمراجعة الصفات المراد الاستشهاد بها وفق الموضوع قيد البحث.
(1) ديوان طرفة، تحقيق الدكتور علي الجندي (79) .
(2) المصباح المنير (12) ، وانظر لسان العرب (1/ 206) ، ومقاييس اللغة (1/ 74) .(2/141)
القيام والقعود وحسن الأخلاق والصّفات الحميدة، والفرق بينه وبين التّعليم: أنّ الأدب يتعلّق بالمروءات والتّعليم بالشّرعيّات أي أنّ الأوّل عرفيّ، والثّاني شرعيّ، والأوّل دنيويّ، والثّاني دينيّ، وقال بعضهم:
الأدب مجالسة الخلق على بساط الصّدق ومطابقة الحقائق، وقيل الأدب عند أهل الشّرع: الورع. وعند أهل الحكمة: صيانة النّفس، وقال أهل التّحقيق:
الأدب الخروج من صدق الاختبار، والتّضرّع على بساط الافتقار «1» .
قال ابن القيّم- رحمه الله-: وحقيقة الأدب:
استعمال الخلق الجميل. ولهذا كان الأدب استخراجا لما في الطّبيعة من الكمال من القول إلى الفعل «2» .
وقيل هو الكلام الجميل الّذي يترك في نفس سامعه أو قارئه أثرا قويّا يحمله على استعادته والاستزادة منه والميل إلى محاكاته «3» ، وهو الأخذ بمكارم الأخلاق، وبعبارة أخرى: الوقوف مع المستحسنات. أي: استعمال ما يحمد قولا وفعلا. مثل:
تعظيم من فوقك والرّفق بمن دونك «4» .
وفي التّلويح: التّأديب قريب من النّدب، إلّا أنّ النّدب لثواب الآخرة والتّأديب لتهذيب الأخلاق وإصلاح العادات. والأدب أدبان: أدب شريعة وأدب سياسة. فأدب الشّريعة ما أدّى الفرض، وأدب السّياسة ما عمر الأرض. وكلاهما يرجع إلى العدل الّذي به سلامة السّلطان وعمارة البلدان «5» .
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ. قال ابن عبّاس وغيره: أدّبوهم وعلّموهم. وهذه اللّفظة مؤذنة بالاجتماع. فالأدب: اجتماع خصال الخير في العبد، ومنه المأدبة، وهي الطّعام الّذي يجتمع عليه النّاس.
وقال ابن القيّم- رحمه الله-: علم الأدب هو علم إصلاح اللّسان والخطاب وإصابة مواقعه، وتحسين ألفاظه عن الخطإ والخلل وهو شعبة من الأدب العامّ «6» .
وعلى هذا فالأدب: استعمال ما يحمد قولا وفعلا، وبتعبير آخر: الأخذ بمكارم الأخلاق، أو الوقوف مع المستحسنات.
فإذا تعلّق الأمر باللّغة كان الأدب معناه معرفة ما يحترز به من جميع أنواع الخطإ كما قال الجرجانيّ «7» .
__________
(1) التعريفات للجرجاني (15) ، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي (1/ 79، 80) ، والتوقيف على مهمات التعاريف ومن المعاني الاصطلاحية للفظ «أدب» استخدامه اسما لما يتعلق بدراسة الشعر والنثر الفني وما إليها وسيذكر ابن القيم تعريفا لهذا النوع في الصفحة فيما بعد.
(2) تهذيب مدارج السالكين (448) .
(3) تهذيب مدارج السالكين (545) .
(4) الكليات للكفوي (65) .
(5) فضل الله الصمد: (1/ 177- 178) .
(6) في الكليات للكفوي أن الأدب اسم علم يحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظا أو كتابة وأصول اللغة والصرف والاشتقاق والمعاني والبيان والعروض والقوافي. انظر: الكليات (68) .
(7) التعريفات (14) .(2/142)
الأدب والتأديب والتأدب:
يتفرّع عن الأدب بمعناه السّابق أمران أو صفتان يرجعان إليه ويستعملان بمعناه هما:
التّأدّب: بمعنى التّصرّف اللّائق الّذي يتّفق مع المروءة.
والتّأديب: وهو تعليم فضيلة من الفضائل ومعاقبة من يخالف ذلك على إساءته وسمّيت المعاقبة تأديبا؛ لأنّها تدعو إلى حقيقة الأدب بمعنى الرّياضات المحمودة الّتي يتخرّج بها الإنسان على فضيلة من الفضائل.
أنواع الأدب:
قال ابن القيّم: والأدب ثلاثة أنواع: أدب مع الله سبحانه وتعالى، وأدب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشرعه، وأدب مع خلقه.
أولا: الأدب مع الله- عزّ وجلّ-:
الأدب مع المولى تبارك وتعالى ثلاثة أنواع:
أحدها: صيانة معاملته أن يشوبها بنقيصة.
الثّاني: صيانة قلبه أن يلتفت إلى غيره.
الثّالث: صيانة إرادته أن تتعلّق بما يمقتك عليه.
فالأدب مع الله حسن الصّحبة معه، بإيقاع الحركات الظّاهرة والباطنة على مقتضى التّعظيم والإجلال والحياء.
وحقيقة الأدب استعمال الخلق الجميل. ولهذا كان الأدب: استخراج ما في الطّبيعة من الكمال من القوّة إلى الفعل.
فإنّ الله سبحانه هيّأ الإنسان لقبول الكمال بما أعطاه من الأهليّة والاستعداد، الّتي جعلها فيه كامنة كالنّار في الزّناد. فألهمه ومكّنه، وعرّفه وأرشده. وأرسل إليه رسله. وأنزل إليه كتبه لاستخراج تلك القوّة الّتي أهّله بها لكماله إلى الفعل. قال الله تعالى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (الشمس/ 7- 10) .
فعبّر عن خلق النّفس بالتّسوية والدّلالة على الاعتدال والتّمام. ثمّ أخبر عن قبولها للفجور والتّقوى. وأنّ ذلك نالها منه امتحانا واختبارا. ثمّ خصّ بالفلاح من زكّاها فنمّاها وعلّاها ورفعها بآدابه الّتي أدّب بها رسله وأنبياءه وأولياءه، وهي التّقوى، ثمّ حكم بالشّقاء على من دسّاها، فأخفاها وحقّرها، وصغّرها وقمعها بالفجور. والله سبحانه وتعالى أعلم.
أدب الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع الله- عزّ وجلّ-:
وجرت عادة القوم: أن يذكروا في هذا المقام قوله تعالى عن نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، حين أراه ما أراه ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (النجم/ 17) . وصدّر باب الأدب بهذه الآية.
وكأنّهم نظروا إلى قول من قال من أهل التّفسير:
إنّ هذا وصف لأدبه صلّى الله عليه وسلّم في ذلك المقام، إذ لم يلتفت جانبا، ولا تجاوز ما رآه، وهذا كمال الأدب، والإخلال به: أن يلتفت النّاظر عن يمينه وعن شماله، أو يتطلّع أمام المنظور. فالالتفات زيغ، والتّطلّع إلى ما أمام المنظور: طغيان ومجاوزة. فكمال إقبال النّاظر على المنظور: أن لا يصرف بصره عن يمنة ولا يسرة. ولا يتجاوزه.(2/143)
هذا معنى ما حصّلته عن شيخ الإسلام ابن تيميّة، قدّس الله روحه.
وفي هذه الآية أسرار عجيبة، وهي من غوامض الآداب اللّائقة بأكمل البشر صلّى الله عليه وسلّم: تواطأ هناك بصره وبصيرته، وتوافقا وتصادقا فيما شاهده بصره، فالبصيرة مواطئة له، وما شاهدته بصيرته فهو أيضا حقّ مشهود بالبصر، فتواطأ في حقّه مشهد البصر والبصيرة.
ولهذا قال سبحانه وتعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى * أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (النجم/ 11- 12) .
أي ما كذب الفؤاد ما رآه ببصره.
ولهذا قرأها أبو جعفر «ما كذّب الفؤاد» - بتشديد الذّال- أي لم يكذّب الفؤاد البصر، بل صدّقة وواطأه لصحّة الفؤاد والبصر، أو استقامة البصيرة والبصر.
وكون المرئي المشاهد بالبصر حقّا. وقرأ الجمهور «ما كذب الفؤاد» بالتّخفيف. وهو متعدّ. و «ما رأى» مفعوله: أي: ما كذب قلبه ما رأته عيناه. بل واطأه ووافقه. فلمواطأة قلبه لقالبه، وظاهره لباطنه، وبصره لبصيرته: لم يكذّب الفؤاد البصر. ولم يتجاوز البصر حدّه فيطغى ولم يمل عن المرئي فيزيغ، بل اعتدل البصر نحو المرئي. ما جاوزه ولا مال عنه، كما اعتدل القلب في الإقبال على الله، والإعراض عمّا سواه. فإنّه أقبل على الله بكلّيّته. وللقلب زيغ وطغيان، وكلاهما منتف عن قلبه وبصره. فلم يزغ التفاتا عن الله إلى غيره.
ولم يطغ بمجاوزته مقامه الّذي أقيم فيه.
وهذا غاية الكمال والأدب مع الله جلّ وعلا الّذي وصف رسوله صلّى الله عليه وسلّم بقوله عزّ وجلّ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
أدب الأنبياء والرسل مع الله- عزّ وجلّ-:
وتأمّل أحوال الرّسل صلوات الله وسلامه عليهم مع الله، وخطابهم وسؤالهم، كيف تجدها كلّها مشحونة بالأدب قائمة به؟
قال المسيح عليه السّلام: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ (المائدة/ 116) . ولم يقل: «لم أقله» . وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب. ثمّ أحال الأمر على علمه سبحانه بالحال وسرّه، فقال تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ثمّ برّأ نفسه عن علمه بغيب ربّه وما يختصّ به سبحانه، فقال وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ثمّ أثنى على ربّه، ووصفه بتفرّده بعلم الغيوب كلّها، فقال إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ثمّ نفى أن يكون قال لهم غير ما أمره ربّه به وهو محض التّوحيد- فقال: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ثمّ أخبر عن شهادته عليهم، مدّة مقامه فيهم. وأنّه لا اطّلاع له عليهم وأنّ الله- عزّ وجلّ- وحده هو المنفرد بعد الوفاة بالاطّلاع عليهم. فقال وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ثمّ وصفه بأنّ شهادته سبحانه فوق كلّ شهادة وأعم، فقال: وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ثمّ قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وهذا من أبلغ الأدب مع الله في مثل هذا المقام. أي: شأن السّيّد رحمة عبيده والإحسان إليهم. وهؤلاء عبيدك ليسوا عبيدا لغيرك. فإذا عذّبتهم مع كونهم عبيدك- فلولا أنّهم عبيد سوء من أبخس العبيد، وأعتاهم على سيّدهم، وأعصاهم له لم(2/144)
تعذّبهم؛ لأنّ قربة العبوديّة تستدعي إحسان السّيّد إلى عبده ورحمته. فلماذا يعذّب أرحم الرّاحمين، وأجود الأجودين، وأعظم المحسنين إحسانا عبيده؟ لولا فرط عتوّهم، وإبائهم، عن طاعته، وكمال استحقاقهم للعذاب.
وقد تقدّم قول إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي هم عبادك، وأنت أعلم بسرّهم وعلانيتهم، فإذا عذّبتهم: عذّبتهم على علم منك بما تعذّبهم عليه. فهم عبادك وأنت أعلم بما جنوه واكتسبوه. وهذا هو إقرار واعتراف وثناء عليه سبحانه بحكمته وعدله، وكمال علمه بحالهم، واستحقاقهم للعذاب.
ثمّ قرأ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (المائدة/ 118) . ولم يقل: «الغفور الرّحيم» وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى. فإنّه قال في وقت غضب الرّبّ عليهم، والأمر بهم إلى النّار، فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة، بل مقام براءة منهم. فلو قال «فإنّك أنت الغفور الرّحيم» لأشعر باستعطافه ربّه على أعدائه الّذي قد اشتدّ غضبه عليهم. فالمقام مقام موافقة للرّبّ في غضبه على من غضب الرّبّ عليهم. فعدل عن ذكر الصّفتين اللّتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته إلى ذكر العزّة والحكمة، المتضمّنتين لكمال القدرة وكمال العلم.
والمعنى: إن غفرت لهم فمغفرتك تكون من كمال القدرة والعلم، ليست عن عجز عن الانتقام منهم، ولا عن خفاء عليهم بمقدار جرائمهم. وهذا لأنّ العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه، ولجهله مقدار إساءته إليه. والكمال: هو مغفرة القادر العالم، وهو العزيز الحكيم. وكان ذكر هاتين الصّفتين في هذا المقام عين الأدب فى الخطاب.
وفي بعض الآثار «حملة العرش أربعة: اثنان يقولان: سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك. واثنان يقولان: سبحانك اللهمّ وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك» ولهذا يقترن كلّ من هاتين الصّفتين بالأخرى، كقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ وقوله فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً.
وكذلك قول إبراهيم الخليل صلّى الله عليه وسلّم: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (الشعراء/ 78- 80) . ولم يقل «وإذا أمرضني» حفظا للأدب مع الله.
وكذلك قول الخضر عليه السّلام في السّفينة فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها (الكهف/ 79) . ولم يقل «فأراد ربّك أن أعيبها» وقال في الغلامين فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما (الكهف/ 82) .
وكذلك قول مؤمني الجنّ وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ (الجن/ 10) . ولم يقولوا «أراده ربّهم» ثمّ قالوا أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً.
وألطف من هذا قول موسى عليه السّلام:
رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (القصص/ 24) . ولم يقل «أطعمني» .
وقول آدم عليه السّلام رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (الأعراف/ 23) . ولم يقل «ربّ قدّرت عليّ وقضيت عليّ» .(2/145)
وقول أيّوب عليه السّلام مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (الأنبياء/ 83) . ولم يقل «فعافني وأشفني» .
وقول يوسف لأبيه وإخوته هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ (يوسف/ 100) . ولم يقل «أخرجني من الجبّ» حفظا للأدب مع إخوته، وتفتّيا عليهم أن لا يخجلهم بما جرى فى الجبّ. وقال: وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ولم يقل «رفع عنكم جهد الجوع والحاجة» أدبا معهم. وأضاف ما جرى إلى السّبب، ولم يضفه إلى المباشر الّذي هو أقرب إليه منه، فقال مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي فأعطى الفتوّة والكرم والأدب حقّه. ولهذا لم يكن كمال هذا الخلق إلّا للرّسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
ومن هذا أمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الرّجل «أن يستر عورته، وإن كان خاليا لا يراه أحد. أدبا مع الله، على حسب القرب منه، وتعظيمه وإجلاله، وشدّة الحياء منه، ومعرفة وقاره.
وقال بعضهم: الزم الأدب ظاهرا وباطنا، فما أساء أحد الأدب في الظّاهر إلّا عوقب ظاهرا، وما أساء أحد الأدب باطنا إلّا عوقب باطنا.
وقال عبد الله بن المبارك- رحمه الله-: من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السّنن. ومن تهاون بالسّنن عوقب بحرمان الفرائض. ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة.
وقيل: الأدب في العمل علامة قبول العمل.
والمقصود أنّ الأدب مع الله تعالى: هو القيام بدينه، والتّأدّب بآدابه، ظاهرا وباطنا.
ولا يستقيم لأحد قطّ الأدب مع الله تعالى إلّا بثلاثة أشياء: معرفته بأسمائه وصفاته، ومعرفته بدينه وشرعه وما يحبّ وما يكره، ونفس مستعدّة قابلة ليّنة متهيّئة لقبول الحقّ علما وعملا وحالا» .
من الأدب مع الله التّأدّب مع القرآن وتلاوته وتدبّره أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ (محمد/ 22) لأنّ في ذلك العلم والمعرفة بما أمر به الله عزّ وجلّ ونهى عنه وتعظيم شعائره وعدم انتهاك محارمه. كذلك فإنّه أفضل السّبل وأقربها إلى الثّراء الرّوحيّ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (الأنفال/ 2) .
ومن الأدب مع الله التّوجّه إليه سبحانه بالدّعاء، قال تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (الفرقان/ 77) .
ودعا الرّسول صلّى الله عليه وسلّم إلى الاستعانة بالله عزّ وجلّ، واستعان به قائلا «اللهمّ أعنّي على شكرك وذكرك وحسن عبادتك» ، ومنه أيضا الثّناء عليه وتسبيحه وشكره على آلائه العظيمة وهو القائل عزّ وجلّ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها ومنه التّوسّل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا والاستعاذة والاستغفار والاستعانة به والتّضرّع إليه والتّوكّل عليه في جميع أمورنا.
__________
(1) مدارج السالكين (391- 402) بتصرف.(2/146)
الأدب مع الله- عز وجل- في العبادة:
قال ابن القيّم- رحمه الله تعالى- سمعت شيخ الإسلام ابن تيميّة- رحمه الله- يقول: من كمال أدب الصّلاة أن يقف العبد بين يدي ربّه مطرقا خافضا طرفه إلى الأرض، ولا يرفع بصره إلى فوق.
ومن الأدب مع الله في العبادة: السّكون في الصّلاة، وهو الدّوام الّذي قال الله تعالى فيه الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (المعارج/ 23) . سئل عقبة ابن عامر عن قوله تعالى الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أهم الّذين يصلّون دائما؟ قال: لا، ولكنّه إذا صلّى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا خلفه.
قلت- ابن القيّم- هما أمران: الدّوام عليها والمداومة عليها. فهذا الدّوام، والمداومة في قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ وفسّر الدّوام بسكون الأطراف والطّمأنينة.
وأدبه في استماع القراءة: أن يلقي السّمع وهو شهيد.
والمقصود: أنّ الأدب مع الله تبارك وتعالى: هو القيام بدينه والتّأدّب بآدابه ظاهرا وباطنا «1» .
ثانيا: الأدب مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم:
أمّا الأدب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيعني كمال التّسليم له، والانقياد لأمره، وتلقّي خبره بالقبول والتّصديق.
من مظاهر الأدب مع المصطفى صلّى الله عليه وسلّم:
من الأدب مع الرّسول الكريم أن لا يتقدّم بين يديه بأمر ولا نهي ولا إذن ولا تصرّف حتّى يأمر هو، وينهى ويأذن، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وهذا باق إلى يوم القيامة ولم ينسخ، فالتّقدّم بين يدي سنّته بعد وفاته كالتّقدّم بين يديه في حياته، ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم.
قال مجاهد- رحمه الله-: لا تفتاتوا «2» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال أبو عبيدة: تقول العرب: لا تقدّم بين يدي الإمام وبين يدي الأب، أي لا تعجلوا بالأمر والنّهي دونه. وقال غيره: لا تأمروا حتّى يأمر، ولا تنهوا حتّى ينهى.
ومن الأدب معه: أن لا ترفع الأصوات فوق صوته. فإنّه سبب لحبوط الأعمال فما الظّنّ برفع الآراء، ونتائج الأفكار على سنّته وما جاء به؟ أترى ذلك موجبا لقبول الأعمال. ورفع الصّوت فوق صوته موجب لحبوطها؟
ومن الأدب معه: أن لا يجعل دعاءه كدعاء غيره. قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً.
ومن الأدب معه: أنّهم إذا كانوا معه على أمر جامع- من خطبة، أو جهاد، أو رباط- لم يذهب أحد منهم مذهبا في حاجته حتّى يستأذنه. كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ.
ومن الأدب معه: أن لا يستشكل قوله. بل
__________
(1) تهذيب مدارج السالكين (450- 451) بتصرف.
(2) قال مجاهد: أي في تفسيير الآية الكريمة.(2/147)
تستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصّه بقياس. بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه. ولا يحرّف كلامه عن حقيقته لخيال يسمّيه أصحابه معقولا، نعم هو مجهول، وعن الصّواب معزول. ولا يوقف قبول ما جاء به صلّى الله عليه وسلّم على موافقة أحد. فكلّ هذا من قلّة الأدب معه صلّى الله عليه وسلّم وهو عين الجرأة «1» .
ورأس الأدب معه صلّى الله عليه وسلّم: كمال التّسليم له، والانقياد لأمره، وتلقّي خبره بالقبول والتّصديق، دون أن يحمّله معارض خيال باطل، يسمّيه معقولا أو يحمّله شبهة أو شكّا، أو يقدّم عليه آراء الرّجال، فيفرده بالتّحكيم والتّسليم، والانقياد والإذعان ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره، على عرضه على قول شيخه وإمامه، وذوي مذهبه وطائفته، ومن يعظّمه، فإن أذنوا له نفّذه وقبل خبره، وإلّا أعرض عن أمره وخبره وفوّضه إليهم، وربّما حرّفه عن مواضعه وسمّى تحريفه: تأويلا، وحملا،. فقال: نؤوّله ونحمله «2» . ولأن يلقى العبد ربّه بكلّ ذنب على الإطلاق عدا الشّرك بالله- خير له من أن يلقاه بهذه الحال.
يقول ابن القيّم: ولقد خاطبت يوما بعض أكابر هؤلاء، فقلت له: سألتك بالله، لو قدّر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيّ بين أظهرنا، وقد واجهنا بكلامه وبخطابه: أكان فرضا علينا أن نتّبعه من غير أن نعرضه على رأي غيره كلامه ومذهبه، أم لا نتّبعه حتّى نعرض ما سمعناه منه على آراء النّاس وعقولهم؟ فقال: بل كان الفرض المبادرة إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه.
فقلت: فما الّذي نسخ هذا الفرض عنّا؟ وبأيّ شيء نسخ؟ فوضع إصبعه على فيه. وبقي باهتا متحيّرا. وما نطق بكلمة.
وإذا كان من الأدب في حياته صلّى الله عليه وسلّم ألّا نرفع أصواتنا فوق صوت النّبيّ لقوله- عزّ وجلّ-:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ (الحجرات/ 2) فإنّ من الأدب معه ألّا نرفع الأصوات فوق صوته صلّى الله عليه وسلّم. فإنّه سبب لحبوط الأعمال فما الظّنّ برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنّته وما جاء به؟
هكذا يكون الأدب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا مخالفة أمره وإشراك غيره ورفع الأصوات، وإزعاج الأعضاء بالصّلاة عليه والتّسليم، وعزل كلامه عن اليقين، عن أن يستفاد منه معرفة الله، أو يتلقّى منه أحكامه. إنّ الجهّال يعتمدون في باب معرفة الله على العقول المنهوكة المتحيّرة المتناقضة. وفي الأحكام على تقليد الرّجال وآرائها. والقرآن والسّنّة إنّما نقرؤهما تبرّكا، لا أنّا نتلقّى منهما أصول الدّين ولا فروعه. ومن طلب ذلك ورامه عاديناه وسعينا في قطع دابره، واستئصال شأفته «3» . بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ* حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ* لا تَجْأَرُوا
__________
(1) مدارج السالكين (403- 406) بتصرف.
(2) المرجع السابق (2/ 403) بتصرف.
(3) يتحدث ابن القيم هنا عن طائفة ضلّت سبيل الحق وانتقصت من قيمة السّنّة المطهرة، وقد ظهر لهم أذناب في عصرنا الحاضر.(2/148)
الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ* قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ* مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ* أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ* أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ* أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ* وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ* أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ* وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (المؤمنون/ 63- 74) .
والنّاصح لنفسه العامل على نجاتها يتدبّر هذه الآيات حقّ تدبّرها ويتأمّلها حقّ تأمّلها وينزّلها على الواقع فيرى العجب ولا يظنّها اختصّت بقوم كانوا فبانوا «فالحديث لك واسمعي يا جارة» والله المستعان «1» .
ثالثا: الأدب مع الخلق:
وأمّا الأدب مع الخلق: فهو معاملتهم- على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم، فلكلّ مرتبة أدب.
والمراتب فيها أدب خاصّ. فمع الوالدين: أدب خاصّ للأب منهما أدب هو أخصّ به، ومع العالم: أدب آخر، ومع السّلطان: أدب يليق به وله ومع الأقران أدب يليق بهم. ومع الأجانب: أدب غير أدبه مع أصحابه وذوي أنسه. ومع الضّيف: أدب غير أدبه مع أهل بيته.
ولكلّ حال أدب: فللأكل آداب. وللشّراب آداب. وللرّكوب والدّخول والخروج والسّفر والإقامة والنّوم آداب. وللتّبوّل آداب. وللكلام آداب.
وللسّكون والاستماع آداب.
وأداب المرء: عنوان سعادته وفلاحه. وقلّة أدبه: عنوان شقاوته وبواره. فما استجلب خير الدّنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانها بمثل قلّة الأدب. فانظر إلى الأدب مع الوالدين: كيف نجّى صاحبه من حبس الغار حين أطبقت عليهم الصّخرة؟
والإخلال به مع الأمّ- تأويلا وإقبالا- على الصّلاة كيف امتحن صاحبه بهدم صومعته وضرب النّاس له، ورميه بالفاحشة.
وتأمّل أحوال كلّ شقيّ ومفتر ومدبر: كيف تجد قلّة الأدب هي الّتي ساقته إلى الحرمان؟ «2» .
إنّ حسن الخلق والأدب هو مقام الاقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم واتّباع سنّته بفضل من الله- عزّ وجلّ- القائل في كتابه: لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا (البقرة/ 32) وهو الّذي أمرنا بذلك في قوله جلّ وعلا: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (الأحزاب/ 21) .
إنّ هذا هو مقام من أراد التّخلّق بأخلاق الشّرع الحنيف وتأدّب بآداب الله الّتي أدّب بها عباده في كتابه الكريم، وما اتّصف به الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) مدارج السالكين 2 (404- 405) بتصرف.
(2) مدارج السالكين 2 (406- 408) بتصرف.(2/149)
حيث قال الله- عزّ وجلّ- لرسوله عليه الصّلاة والسّلام: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم/ 4) والرّسول صلّى الله عليه وسلّم هو القائل «إنّما بعثت لأتمّم صالح الأخلاق» «1» . ورواية أخرى «مكارم الأخلاق» .
ووصفت خلقه صلّى الله عليه وسلّم أمّ المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- بقولها: «فإنّ خلق نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم كان القرآن» وعن القرآن قال ابن مسعود- رضي الله عنه- «إنّ هذا القرآن مأدبة الله فتعلّموا من مأدبته» «2» .
هذا هو الحال في هذه الدّنيا وأمّا في الآخرة فلا يوجد جائزة لمن كان حسن الخلق إلّا الجنّة ونعيمها برفقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث يقول: «إنّ أحبّكم إليّ وأقربكم منّي مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا، الموطّئون أكنافا «3» ، الّذين يألفون ويؤلفون، وإنّ أبعدكم منّي مجلسا يوم القيامة الثّرثارون «4» المتشدّقون «5» المتفيهقون «6» » .
وقال عليه الصّلاة والسّلام: «ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق» .
وقال عليه الصّلاة والسّلام: «إنّ أحسن النّاس إسلاما أحسنهم خلقا» «7» .
وقال عليه الصّلاة والسّلام: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» «8» .
ولهذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو الله عزّ وجلّ «اللهمّ كما أحسنت خلقي أحسن خلقي» «9» .
إنّ العلاقة بين الأدب في التّعامل مع الخلق وحسن الخلق علاقة واضحة لا ريب فيها لأنّ حسن الخلق هو الجانب النّفسي الّذي تنتج عنه الآداب الحميدة وأنواع السّلوك المرضيّة، وحسن الخلق هو الّذي يشكّل قواعد السّلوك أو الأدب مع الخلق.
وقد كشف الصّادق المصدوق الّذي أوتي جوامع الكلم القناع عن القاعدة الأساسيّة الّتي أساسها حسن الخلق وتطبيقها سلوك الأدب مع الخلق عند ما قال: «لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» «10» .
فمن باب المحبّة لله عزّ وجلّ والإيمان به، والمحبّة لرسوله صلّى الله عليه وسلّم والتّصديق بما جاء به تؤخذ محبّة الخلق والأدب معهم ومعاملتهم بحسن الخلق ومن قام بذلك حصل على محبّة الله عزّ وجلّ لأنّه يصبح محسنا صابرا طاهرا نقيّا تقيّا، وهنا يحوز المعيّة مع مولاه وينال محبّته ورضاه، قال تعالى وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (العنكبوت/ 69) ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (البقرة/ 153) .
وآيات حبّ الله للمؤمنين عديدة منها:
وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (البقرة/ 195) ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (البقرة/
__________
(1) مسلم (2553) .
(2) انظر صفة تلاوة القرآن.
(3) الموطئون أكنافا:
(4) الثرثارون: الذين يكثرون الكلام.
(5) المتشدقون: المتوسعون في الكلام المستهزئون.
(6) المتفيهقون: المتكبرون.
(7) مسند أحمد (6/ 446) وأبو داود (4799) .
(8) أخرجه أحمد بإسناد جيد (5/ 89- 99) الترغيب والترهيب (3/ 49) .
(9) انظر هذه الأحاديث مخرجة في صفة حسن الخلق.
(10) البخاري- الفتح (1/ 13) .(2/150)
222) ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (آل عمران/ 76) ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (آل عمران/ 146) ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران/ 159) ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (المائدة/ 42) .
إنّ الإنسان إذا أحبّ لأخيه ما يحبّه لنفسه جاهد نفسه وطرح عنها مطامع النّفس الأمّارة بالسّوء وحبّها للكنز والتّكاثر وما يجلبه ذلك من مذموم الأخلاق من طمع وكبر وحسد وظلم وغيرها من الصّفات السّالبة لمكارم الأخلاق ومحمودها واستبدل عوضا عنها الحبّ في الله ورسوله والإيثار والكرم والجود والسّخاء بالمال والتّواضع وأثراها بالإنفاق والزّكاة، والصّدقة والجهاد، وغذّاها بالإحسان والرّحمة والشّفقة والرّأفة والعفو والرّفق والوفاء والتّناصر والمداراة والسّتر، وتوّجها بالعدل والقسط والأمانة والصّدق. ويك ألم نعلّم السّبيل إلى ذلك كلّه وهو مدوّن في كتاب الله عزّ وجلّ؟ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (آل عمران/ 131) .
أو لم نعلم حديث الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم «ما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه» . وقال عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- «أفضل الأعمال أداء ما افترض الله تعالى والورع عمّا حرّم الله تعالى وصدق النّيّة فيما عند الله تعالى» «1» .
أدب الحوار والمناظرة في الدعوة إلى الله:
الحوار في اللّغة مصدر حاوره إذا راجعه في الكلام وجاوبه «2» ، قال تعالى: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ (الكهف/ 37) : أي يراجعه في الكلام ويجاوبه «3» .
أمّا في الاصطلاح: فالمراد به كما قال المناويّ:
هو المراودة في الكلام «4» : أي الأخذ والعطاء فيه، وهذا قريب من معنى المناظرة الّتي يراد بها النّظر بالبصيرة من الجانبين المتحاورين في النّسبة بين الشّيئين إظهارا للصّواب «5» ، وكلاهما أي الحوار والمناظرة جدال بالّتي هي أحسن.
وإذا كان الإسلام قد رفض المراء وتوعّد الممارين «6» فإنّه أمر بالحوار سبيلا للوصول إلى الحقّ وتبيّن الرّأي السّديد؛ لأنّ ذلك كما يقول الإمام الغزاليّ: تعاون على طلب الحقّ- وهو من الدّين- شريطة أن يتحلّى المتحاورون بما يلي:
1- ألّا يشتغل به- وهو من فروض الكفايات- من لم يتفرّغ من فروض الأعيان.
2- ألّا يرى المناظر (أو المحاور) فرض كفاية آخر أهمّ منه في وقته ومكانه.
3- أن يكون المحاور أو المناظر يفتي برأيه لا بمذهب فلان أو فلان.
4- أن يكون الحوار أو المناظرة في مسألة واقعة أو قريبة الوقوع لأنّ الصّحابة- رضوان الله عليهم- ما تشاوروا إلّا فيما تجدّد من الوقائع أو ما يغلب وقوعه.
__________
(1) أدب الدنيا والدين للماوردي (226) .
(2) لسان العرب (4/ 218) (ط. بيروت) .
(3) انظر تفسير القرطبي (10/ 403) .
(4) التوقيف على مهمات التعاريف (148) .
(5) المرجع السابق (316) .
(6) انظر صفة الجدال والمراء (ج 9 ص 4338) من هذه الموسوعة.(2/151)
5- أن تكون المناظرة (الحوار) في الخلوة أحبّ إليه وأهمّ من المحافل وبين أظهر الأكابر والسّلاطين، لأنّ في حضور الجمع ما يحرّك دواعي الرّياء ويوجب الحرص على أن ينصر كلّ واحد نفسه محقّا كان أو مبطلا.
6- أن يكون الحوار في طلب الحقّ، وذلك كناشد ضالّة لا يفرّق بين أن تظهر الضّالّة على يديه أو على يد من يعاونه.
7- أن يرى محاوره معينا له لا خصما وأن يشكره إذا عرّفه الخطأ وأظهر له الحقّ.
8- ألّا يمنع مناظره أو محاوره من الانتقال من حجّة إلى حجّة ومن دليل إلى دليل، ومن تفحّص مشاورات الصّحابة- رضوان الله عليهم- ومفاوضات السّلف، وجدها من هذا الجنس إذ كانوا يذكرون كلّ ما يخطر لهم وينظرون فيه.
9- ألّا يناظر أو يحاور إلّا من يتوقّع الاستفادة منه ممّن هو مشتغل بالعلم «1» .
الأدب مع النفس:
قال الماورديّ رحمه الله: اعلم أنّ النّفس مجبولة على شيم مهملة وأخلاق مرسلة لا يستغني محمودها عن التّأديب، ولا يكتفى بالمرضيّ منها عن التّهذيب، لأنّ لمحمودها أضدادا مقابلة، يساعدها هوى مطاع، وشهوة غالبة، فإن أغفل تأديبها تفويضا إلى العقل أو توكّلا على أن تنقاد إلى الأحسن بالطّبع، أعدمه التّفويض درك المجتهدين، وأعقبه التّوكّل ندم الخائبين، فصار من الأدب عاطلا، لأنّ الأدب مكتسب بالتّجربة، أو مستحسن بالعادة ولكلّ قوم مواضعة، وكلّ ذلك لا ينال بتوقيف العقل، ولا بالانقياد للطّبع حتّى يكتسب بالتّجربة والمعاناة، ويستفاد بالدّربة والمعاطاة، ثمّ يكون العقل عليه قيّما، ولو كان العقل مغنيا عن الأدب لكان أنبياء الله عن الأدب مستغنين، وبعقولهم مكتفين «2» .
الأدب اللازم للإنسان:
الأدب اللّازم للإنسان عند نشأته وكبره أدبان:
أدب مواضعة واصطلاح، وأدب رياضة واستصلاح.
أدب المواضعة والاصطلاح:
فأمّا أدب المواضعة والاصطلاح، فيؤخذ تقليدا على ما استقرّ عليه اصطلاح العقلاء، واتّفق عليه استحسان الأدباء، وذلك مثل اصطلاحهم على مواضعات الخطاب، واتفاقهم على هيئات اللّباس، حتّى إنّ الإنسان إذا تجاوز ما اتّفقوا عليه صار مجاوزا للأدب، مستوجبا للذّمّ.
أدب الرياضة والاستصلاح:
أمّا أدب الرّياضة والاستصلاح: فهو ما كان محمولا على حال لا يجوز في العقل أن يكون بخلافها، ولا أن تختلف العقلاء في صلاحها وفسادها، وأوّل ذلك ألّا يسبق المرء إلى حسن الظّنّ بنفسه فيخفي عنه مذموم شيمه، ومساوي أخلاقه؛ لأنّ النّفس بالشّهوات آمرة، وعن الرّشد زاجرة، وإذا كانت النّفس
__________
(1) بتصرف واختصار من ((إحياء علوم الدين)) (1/ 44) وما بعدها.
(2) أدب الدنيا والدين للماوردي (226) .(2/152)
كذلك، فحسن الظّنّ بها ذريعة إلى تحكيمها، وتحكيمها داع إلى سلاطتها وفساد الأخلاق بها، فإذا صرف حسن الظّنّ عنها انحاز عن المعصية وفاز بالطّاعة.
من صور أدب الرياضة والاستصلاح:
1- مجانبة الكبر والإعجاب، وما ذلك إلّا لأنّهما يسلبان الفضائل، ويكسبان الرّذائل، وليس لمن استوليا عليه إصغاء لنصح، ولا قبول لتأديب، لأنّ الكبر يكون بالمنزلة، والعجب يكون بالفضيلة، فالمتكبّر يجلّ نفسه عن رتبة المتعلّمين، والمعجب يستكثر فضله عن استزادة المتأدّبين، وعلاوة على ذلك فإنّ الكبر يكسب المقت، ويلهي عن التّألّف ويوغر صدور الإخوان، وأمّا الإعجاب فيخفي المحاسن، ويظهر المساويء، ويصدّ عن الفضائل [انظر تفصيلا أكثر في صفة الكبر من الصّفات المذمومة] .
2- التّحلّي بحسن الخلق: ذلك أنّ الإنسان إذا حسنت أخلاقه كثر مصافوه وقلّ معادوه، فتسهّلت عليه الأمور الصّعاب ولانت له القلوب الغضاب، ومعنى حسن الخلق أن يكون المسلم: سهل العريكة، ليّن الجانب، طلق الوجه، قليل النّفور، طيّب الكلمة، [انظر تفصيلا أكثر في صفة حسن الخلق] .
3- التّحلّي ب «الحياء» : الخير والشّرّ معان كامنة تعرف بسمات دالّة. وسمة الخير: الدّعة والحياء، وسمة الشّرّ: القحة والبذاء، وكفى بالحياء خيرا أن يكون على الخير دليلا، وكفى بالقحة والبذاء شرّا أن يكونا إلى الشّرّ سبيلا، وليس لمن سلب الحياء صادّ عن قبيح، ولا زاجر عن محظور، فهو يقدم على ما يشاء، ويأتي ما يهوى. [انظر تفصيلا أكثر في صفة الحياء] .
4- التّحلّي ب «الحلم» : ذلك أنّ الحلم من أشرف الأخلاق، وأحقّها بذوي الألباب، لما فيه من سلامة العرض، وسلامة الجسد واجتلاب الحمد.
وللحلم أسباب تبعث عليه منها: الرّحمة والقدرة على الانتصار والتّرفّع عن السّباب [انظر تفصيل ذلك في صفة الحلم] .
5- التّحلّي بصفة الصّدق والتّخلّي عن الكذب: [انظر في ذلك: الصّدق (في الصّفات المحمودة) ، والكذب في الصّفات المذمومة] .
6- التّخلّي عن الحسد: ذلك أنّ الحسد خلق ذميم يضرّ بالبدن، وفيه إفساد للدّين ولو لم يكن من ذمّ الحسد إلّا أنّه خلق دنيء لكانت النّزاهة عنه كرما والسّلامة منه مغنما، فكيف وهو بالنّفس مضرّ، وعلى الهمّ مصرّ، حتّى ربّما أمضى بصاحبه إلى التّلف، من غير نكاية في عدوّ، ولا إضرار بمحسود.
[للاستزادة: انظر صفات: الإحسان- الإخلاص- الاستقامة- التواضع- حسن الخلق- حسن العشرة- حسن المعاملة- الحلم- الحياء- غض البصر- كظم الغيظ.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: اتباع الهوى- سوء الخلق- سوء المعاملة- العنف- الفجور- الفحش- الفضح- الكبر والعجب- الكذب- العتو] .(2/153)
الآيات الواردة في «الأدب» معنى
الأدب مع الله- عزّ وجلّ- والقرآن الكريم:
1-* يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) «1»
2- وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) «2»
3- أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) «3»
4- قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) «4»
5- قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) «5»
6- وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) «6»
7- وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) »
8- فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) «8»
__________
(1) البقرة: 189 مدنية
(2) البقرة: 224 مدنية
(3) النساء: 82 مدنية
(4) المائدة: 115- 118 مدنية
(5) الأعراف: 23 مكية
(6) الأعراف: 204 مكية
(7) الرعد: 22 مدنية
(8) النحل: 98 مكية(2/154)
9- وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) «1»
10- أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79)
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80)
فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81)
وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) «2»
11- ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) «3»
12- إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) «4»
13- الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)
وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) «5»
14- أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) «6»
15- الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7)
رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)
وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) «7»
16- وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) «8»
__________
(1) الإسراء: 53 مكية
(2) الكهف: 79- 82 مكية
(3) المؤمنون: 96 مكية
(4) النور: 51 مدنية
(5) الشعراء: 78- 80 مكية
(6) القصص: 54 مكية
(7) غافر: 7- 9 مكية
(8) فصلت: 33- 35 مكية(2/155)
17- يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3)
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) «1»
الأدب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
18- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) «2»
19- إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) «3»
20- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) «4»
21- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) «5»
22- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2)
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) «6»
__________
(1) المزمل: 1- 4 مكية
(2) البقرة: 104 مدنية
(3) النور: 62- 63 مدنية
(4) الاحزاب: 53 مدنية
(5) الأحزاب: 69 مدنية
(6) الحجرات: 1- 3 مدنية(2/156)
الأدب مع الإنسان:
23- وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) «1»
24-* يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) «2»
25- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) «3»
26- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) «4»
__________
(1) النساء: 86 مدنية
(2) الأعراف: 31 مكية
(3) النور: 27- 31 مدنية
(4) النور: 58- 60 مدنية(2/157)
27- وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) «1»
28- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) «2»
29- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) «3»
30- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) «4»
الأدب مع النفس:
31- لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) «5»
32- وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
__________
(1) الفرقان: 63 مكية
(2) الحجرات: 11- 12 مدنية
(3) المجادلة: 9 مدنية
(4) المجادلة: 11 مدنية
(5) النور: 61 مدنية(2/158)