ـ[نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -]ـ
المؤلف: عدد من المختصين بإشراف الشيخ/ صالح بن عبد الله بن حميد إمام وخطيب الحرم المكي
الناشر: دار الوسيلة للنشر والتوزيع، جدة
الطبعة: الرابعة
عدد الأجزاء: 12 (11 ومجلد للفهارس)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع](/)
[موسوعة نظرة النعيم] في مكارم أخلاق الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم
الإشراف العام
- صالح بن عبد الله بن حميد ... إمام وخطيب الحرم المكي
- عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن ملّوح ... مؤسس ومدير دار الوسيلة للنشر والتوزيع
لجنة الإعداد: بإشراف الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد
أ. محمد أحمد سيد أحمد
أ. محمد إسماعيل السيد أحمد
أ. صلاح محمد عرفات
أ. ناصر مهلل محمد حامد
لجنة المراجعة والضبط: بإشراف أ. د. على خليل مصطفى أبو العينين ... أستاذ ورئيس قسم أصول التربية الإسلامية بجامعة الزقازيق، وفرع جامعة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة.
أ. د. عبد الفتاح عبد العليم البركاوي
أ. د. عبد الموجود متولي بهنسي
د. عزت عبد الحميد إبراهيم
د. أحمد علي محمود ربيع
د. إبراهيم صلاح السيد الهدهد
د. يس إبراهيم عفيفي
لجنة اللغة والتدقيق والفهرسة: بإشراف أ. د. عبد الفتاح عبد العليم البركاوي ... أستاذ أصول اللغة العربية بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، وأستاذ الدراسات العليا بجامعة أم القرى بمكة المكرمة
أ. د. عبد الصبور السيد أحمد الغندور
أ. د. عبد الفتاح عيسى البربري
أ. د. محمد أحمد حسب الله
أ. د. زكريا عبد المجيد النوتي
أ. د. محمد كاظم حسن الظواهري
أ. د. سيد أحمد طهطاوي
أ. د. سعيد محمد صوابي
أ. د. محمد إبراهيم عبد الرحمن
د. أحمد كامل صالح
د. فراج جودة فراج
د. عاصم بدري حسين
أ. سبيع حمزة حاكمي
أ. أحمد شعبان الباسل
أ. محمود عبد القادر الأرناؤوط
أ. عبد الحميد عبد العليم البركاوي
أ. فؤاد محمد نور أبو الخير
إعداد السيرة النبوية:
أ. د. حسام الدين قوام الدين حسن السامرائي أستاذ الدراسات العليا بجامعة أم القرى سابقا
إعداد المقدمة التربوية:
أ. د. علي خليل أبو العينين أستاذ ورئيس قسم أصول التربية الإسلامية
الإدارة والمتابعة:
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن ملّوح فؤاد محمد نور أبو الخير
برامج الحاسب الآلي:
م. ناظم يحيى عبد الرازق
م. نبيل أكرم نوح
الجمع والتنضيد بإشراف: توني نجيب زيدان أحمد
طارق علي بيومي
هاني محمد أحمد فرج
كمال حمزة أحمد
يوسف عبد الباقي محمود
مصطفى سعد محمد
محمد رضا محمد محمود
كمال مصطفي أبو زيد
عبد الإله محمود عساف(المقدمة/3)
[من شارك في إعداد هذه الموسوعة]
بعون الله تعالى وتوفيقه شارك في إعداد هذه الموسوعة
1- الشيخ أ. د. صالح بن عبد الله بن حميد خطيب وإمام الحرم المكي، وعضو مجلس الشورى، وعميد كلية الشريعة بجامعة أم القرى سابقا.
2- عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن ملّوح مؤسس ومدير عام مؤسسة بن ملّوح التجارية وفروعها دار الوسيلة للنشر والتوزيع ومؤسسة الصيانة الوقائية الشاملة- جدة.
3- أ. فؤاد محمد نور أبو الخير نائب مدير عام دار الوسيلة للنشر والتوزيع، ونائب مدير عام مدارس الثغر النموذجية سابقا، ومدير القسم المتوسط والثانوي بمدارس دار الفكر سابقا.
4- أ. د. علي خليل مصطفى أبو العينين أستاذ ورئيس قسم أصول التربية الإسلامية بجامعة الزقازيق فرع بنها، وفرع جامعة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة سابقا.
5- أ. د. عبد الفتاح عبد العليم البركاوي أستاذ أصول اللغة بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر بالقاهرة، وأستاذ الدراسات العليا بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.
6- أ. د. حسام الدين قوام الدين السامرائي أستاذ الدراسات العليا بجامعة أم القرى سابقا.
7- أ. د. محمد أحمد حسب الله أستاذ التاريخ بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر بالقاهرة، وأستاذ الدراسات العليا بكلية الشريعة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.
8- أ. د. محمد كاظم حسن الظواهري أستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالمنوفية، وكلية المعلمات بالطائف.
9- أ. د. عبد الموجود متولي بهنسي أستاذ البلاغة بكلية اللغة العربية بالمنوفية.
10- أ. د. عبد الصبور السيد الغندور أستاذ مشارك بكلية التربية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة- فرع الطائف.
11- أ. د. عبد الفتاح عيسى البربري أستاذ مشارك بكلية التربية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة- فرع الطائف.
12- أ. د. زكريا عبد المجيد النوتي أستاذ الأدب المساعد بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر بالقاهرة، وكلية التربية بالطائف.
13- أ. د. سعيد محمد صوابي أستاذ علوم الحديث المشارك بجامعة الأزهر بالقاهرة، وجامعة أم القرى بمكة المكرمة- فرع الطائف.
14- أ. د. محمد إبراهيم عبد الرحمن أستاذ التربية الإسلامية المشارك بكلية التربية بجامعة عين شمس بالقاهرة، وكلية المعلمين بالطائف.
15- أ. د. السيد أحمد طهطاوي أستاذ أصول التربية المشارك بجامعة أسيوط، وجامعة أم القرى بمكة المكرمة.
16- د. إبراهيم صلاح السيد الهدهد أستاذ البلاغة والنقد المساعد بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر بالقاهرة.
17- د. أحمد علي محمود ربيع أستاذ أصول اللغة المساعد بجامعة الأزهر، وجامعة كوالا لامبور بماليزيا.
18- د. أحمد كامل محمد صالح أستاذ التاريخ المساعد بكلية دار العلوم بالقاهرة، وكلية التربية بجامعة أم القرى- فرع الطائف.
19- د. عزت عبد الحميد إبراهيم أستاذ أصول اللغة المساعد بكلية اللغة العربية بالمنوفية، وكلية المعلمين بعرعر بالمملكة العربية السعودية.
20- د. عاصم بدري حسين أستاذ الأدب والنقد المساعد بكلية المعلمات بالطائف.
21- د. فراج جودة فراج أستاذ الأدب المساعد بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وكلية التربية بالطائف.
22- د. يس إبراهيم عفيفي دكتوراة في اللغويات من جامعة الأزهر.
23- أ. سمير محمد عبد التواب وكيل وزارة الإعلام بالقاهرة سابقا.
24- أ. صلاح محمد عرفات المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة.
25- أ. محمد أحمد سيد أحمد المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة.
26- أ. محمد إسماعيل السيد أحمد المحاضر بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.
27- أ. ناصر مهلل محمد حامد خريج معهد الدعاة برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.
28- أ. محمود عبد القادر الأرناؤوط محقق تراث، الجمهورية العربية السورية.
29- أ. سبيع حمزة حاكمي محقق تراث، الجمهورية العربية السورية.
30- أ. أحمد شعبان الباسل المحاضر بكلية التربية- فرع جامعة أم القرى- الطائف.
31- أ. عبد الحميد عبد العليم البركاوي تخصص القراءات (دبلوم في الشريعة الإسلامية من كلية الحقوق بالقاهرة) .(المقدمة/4)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً(المقدمة/)
[محتويات المقدمة]
الموضوع رقم الصفحة
المجلد الأول- الفهرس العام لمحتويات المقدمة والموسوعة أ- ي ط*
- مقدمة الطبعة الثالثة ك- ك ب
- تقديم الناشر (للطبعة الأولى) ك ج- ل هـ
- تقريظ بقلم معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي ل ول ح وزير الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
- تقريظ فضيلة الدكتور الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين ل ط- م ح عضو هيئة الإفتاء- الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء
- تقديم فضيلة الدكتور الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد م ط- ن ز إمام وخطيب المسجد الحرام وعميد كلية الشريعة بجامعة أم القرى سابقا (المنهج العلمي للموسوعة)
- تقديم اللجنة اللغوية ن ح- س ب إعداد: أ. د. عبد الفتاح عبد العليم البركاوي أستاذ أصول اللغة بجامعة الأزهر وأستاذ الدراسات العليا بجامعة أم القرى
- الحياة والنفس الإنسانية س ج- ف ح إعداد: عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن ملّوح مؤسس ومدير دار الوسيلة للنشر والتوزيع
- الحياة الإيمانية في ضوء علاقة الابتلاء والنفس الإنسانية 1- 50 إعداد: عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن ملّوح
- الأخلاق والقيم التربوية في الإسلام 51- 183
إعداد: أ. د. علي خليل مصطفي أبو العينين أستاذ أصول التربية الإسلامية، وعميد كلية التربية ببنها
- تمهيد 51
- الفصل الأول: مفهوم الأخلاق ... أصالتها في الفكر الإسلامي ... وظائفها 59
__________
* اعتمدنا في ترقيم الصفحات من (أ) إلى (ف ح) على النظام العربي القديم الذي يستخدم حروف (أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت) أرقاما حسابية، حيث أ- 1، ب- 2، ج- 3، د- 4، هـ- 5، و 6، ز- 7، ح- 8، ط- 9، ي- 10، ي أ- 11 ... إلى ي ط- 19، ك- 20 ... إلى ك ط- 29، ل- 30 ... وهكذا. وتعرف هذه الطريقة بطريقة حساب الجمّل. انظر هذه الطريقة في مقدمة لسان العرب وفي القاموس المحيط مادة (ب ج د) .(المقدمة/5)
- الأخلاق اصطلاحا 61
- مفهوم الأخلاق عند ابن تيمية 62
- ابن القيم ومفهوم الأخلاق 63
- تعريفات الأخلاق عند المحدثين 63
- الأخلاق الإسلامية 66
- أصالة الفكر الأخلاقي عند المسلمين 67
- القيم الإسلامية 75
- ماهية القيم 77
- خصائص القيم الإسلامية 81
- تصنيف القيم الإسلامية 83
- بين الأخلاق والقيم 84
- وظائف القيم الخلقية 85
- الفصل الثاني: الأخلاق الإسلامية ... طبيعتها ... مصادرها ... أركانها 89
- طبيعة الأخلاق الإسلامية 89
- الأخلاق الإسلامية ومبدأ التكليف 92
- أركان الفعل الخلقي في الإسلام: 100
- الإلزام الخلقي ومصدره 100
- المسئولية الخلقية 106
- شروط المسئولية الخلقية في الإسلام 109
- الجزاء 112
- الفصل الثالث: المنهج الإسلامي في تنمية القيم الخلقية 121
- هل تكتسب الأخلاق؟ 121
- منهج الإسلام في تنمية القيم الخلقية 127(المقدمة/6)
- كيفية تكوين القيم الخلقية 132
- الفصل الرابع: وسائل تنمية الأخلاق الإسلامية 137
- مفهوم الوسيلة التربوية 137
- شروط الوسيلة 138
- وسائل تنمية القيم الإسلامية 139
القصة في الحديث الشريف 156
- الفصل الخامس: وسائط تنمية الأخلاق 163
- الأسرة 163
- جماعة الأقران 169
- المسجد 171
- المدرسة 175
- وسائل الإعلام 179
السيرة النبوية العطرة 184- 414
- الأخلاق ودراسة السيرة 184
- مصادر دراسة السيرة النبوية 185
- بيئة الدعوة 188
- نسبه وصفته صلّى الله عليه وسلّم 193
- أسماؤه صلّى الله عليه وسلّم 194
- مولده صلّى الله عليه وسلّم 195
- زواجه صلّى الله عليه وسلّم بخديجة بنت خويلد 198
- الحكم الأمين 200
- الصادق الأمين 201(المقدمة/7)
- ارهاصات البعثة 201
- نزول الوحي والبعثة النبوية 205
- الدعوة الإسلامية ومنطلقاتها الفكرية 208
- مرحلة الدعوة السرية 213
- بدء الجهر بالدعوة 215
- لغة القرآن 218
- الدعوة في مكة 220
- أذى المشركين للرسول صلّى الله عليه وسلّم 227
- لجوء قريش إلى المفاوضات 229
- اتباع قريش أسلوب الترغيب للرسول صلّى الله عليه وسلّم 231
- اتباع قريش أسلوب الترهيب للرسول صلّى الله عليه وسلّم 231
- الهجرة الأولى إلى الحبشة 236
- محاولة قريش استرداد المهاجرين المسلمين 239
- المقاطعة ودخول المسلمين شعب أبي طالب 243
- وفاة أبي طالب وخديجة رضي الله عنها 244
- رحلة الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى الطائف 245
- الإسراء والمعراج 246
- عرض الرسول صلّى الله عليه وسلّم نفسه على القبائل 251
- بيعة العقبة الأولى 253
- بيعة العقبة الثانية 253
- الهجرة إلى يثرب 255
- بناء المسجد النبوي 263
- تنظيم الأمة بعد الهجرة 266
- إعلان دستور المدينة (وثيقة التحالف بين المهاجرين والأنصار) 270
- الجهاد وانتشار الإسلام 272(المقدمة/8)
- تأسيس الدولة الإسلامية 275
- طلائع حركة الجهاد 282
- تحويل القبلة إلى الكعبة 285
- غزوة بدر الكبرى 286
- النشاط العسكري الإسلامي بين بدر وأحد 295
- غزوة بني قينقاع 296
- غزوة السويق 297
- غزوة أحد 300
- سرية بئر معونة 315
- غزوة بني النضير 316
- غزوة المريسيع (بني المصطلق) 320
- غزوة الخندق (الأحزاب) 323
- غزوة بني قريظة 328
- غزوة الحديبية 334
- رسائل النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الملوك والأمراء 343
- غزوة خيبر 349
- عمرة القضاء 355
- سرية مؤتة 359
- سرية ذات السلاسل 361
- غزوة فتح مكة 363
- غزوة حنين 375
- غزوة الطائف 380
- غزوة تبوك (جيش العسرة) 386
- توحيد الجزيرة العربية تحت حكم الرسول صلّى الله عليه وسلّم 395
- عام الوفود 396(المقدمة/9)
- حج أبي بكر بالناس 398
- حجة الوداع 400
- بعث أسامة بن زيد إلى أرض فلسطين 402
- وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم 402
- ما خلّفه النبي صلّى الله عليه وسلّم 407
شمائل الرسول صلّى الله عليه وسلّم 415- 519
- الصفات الخلقيّة لسيد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم: 415
- وصف جامع 416
- صفة لون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 424
- صفة وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعضائه 426
- صفة رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصفة لحيته صلّى الله عليه وسلّم 429
- صفة شعر رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 430
- صفة شيب النبي الله صلّى الله عليه وسلّم وخضابه 432
- خاتم النبوة 435
- الكمالات والخصائص التي انفرد بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: 439
أولا: الكمالات: 439
الوجه الأول: كمال الخلق 439
الوجه الثاني: كمال الخلق 440
الوجه الثالث: فضائل الأقوال 442
الوجه الرابع: فضائل الأعمال 444
ثانيا: الخصائص: 447
القسم الأول: الخصائص التي انفرد بها صلّى الله عليه وسلّم عن بقية الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين: 449
النوع الأول: ما اختص به صلّى الله عليه وسلّم من الخصائص لذاته في الدنيا 450(المقدمة/10)
النوع الثاني: ما اختص به صلّى الله عليه وسلّم لذاته في الآخرة 469
- النوع الثالث: ما اختص به صلّى الله عليه وسلّم في أمته في الدنيا 480
النوع الرابع: ما اختص به صلّى الله عليه وسلّم في أمته في الآخرة 494
القسم الثاني: الخصائص التي انفرد بها صلّى الله عليه وسلّم عن أمته: 503
النوع الأول: ما حرم عليه صلّى الله عليه وسلّم دون غيره 503
النوع الثاني: ما أبيح له صلّى الله عليه وسلّم دون غيره 507
النوع الثالث: ما وجب عليه صلّى الله عليه وسلّم دون غيره 511
النوع الرابع: ما اختص به صلّى الله عليه وسلّم عن أمته من الفضائل والكرامات 511
معجزات ودلائل نبوة خاتم الأنبياء والمرسلين صلّى الله عليه وسلّم 520- 554
- المعجزة على ضربين 520
- المعجزة الكبرى 521
- الإسراء والمعراج 526
- انشقاق القمر 528
- تكثيره الماء ونبعه من بين أصابعه الشريفة صلّى الله عليه وسلّم 528
- تكثيره الطعام والشراب صلّى الله عليه وسلّم 530
- دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم فيما يتعلق ببعض الحيوانات 533
- معجزاته صلّى الله عليه وسلّم في أنواع الجمادات 534
- عصمته من الناس صلّى الله عليه وسلّم 537
- إجابة دعائه صلّى الله عليه وسلّم 539
- إخباره صلّى الله عليه وسلّم عن المغيبات 542
- ظهور الإسلام وعلوه 546
- ملك أمة محمد وممالكها 547
- إفحام أهل الكتاب 552(المقدمة/11)
الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 555- 610
- صيغ الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 555
- مواطن الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 558
- فضائل الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 567
- الفوائد والثمرات الحاصلة بالصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم 571
- بيان معنى الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم 577
- صلاة الله على عبده 578
- معنى اسم النبي صلّى الله عليه وسلّم واشتقاقه 580
- معنى الآل واشتقاقه وأحكامه 586
- فصل في آل النبي صلّى الله عليه وسلّم 588
- أزواجه صلّى الله عليه وسلّم 589
- فصل في ذكر إبراهيم خليل الرحمن صلّى الله عليه وسلّم 595
- مسألة مشهورة (أفضلية محمد صلّى الله عليه وسلّم وإبراهيم عليه السلام) 598
- معنى قوله: «اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد» 600
- فصل في اختتام هذه الصلاة بهذين الاسمين من أسماء الرب سبحانه وتعالى: الحميد والمجيد 606
- الصلاة على غير النبي صلّى الله عليه وسلّم 608
- الصلاة على آل النبي صلّى الله عليه وسلّم 608
- مسألة في هل يصلّى على آله صلّى الله عليه وسلّم منفردين عنه 609(المقدمة/12)
[محتويات الموسوعة]
م اسم الصفة رقم الصفحة
الصفات المستحبة:
المجلد الثاني حرف الألف 1 الابتهال 1
2 الاتباع 10
3 الاجتماع (الاتحاد) 42
4 الاحتساب 54
5 الإحسان 67
6 الإخاء 92
7 الإخبات 118
8 الإخلاص 124
9 الأدب 141
10 الإرشاد 171
11 الاستئذان 181
12 الاستخارة 196
13 الاستعاذة 201
14 الاستعانة 227
15 الاستغاثة 241
16 الاستغفار 252
17 الإستقامة 303
18 الإسلام 320
م اسم الصفة رقم الصفحة
19 الأسوة الحسنة 349
20 الإصلاح 364
21 الاعتبار 379
22 الاعتذار 388
23 الإعتراف بالفضل 397
24 الاعتصام 410
25 الإغاثة 417
26 إفشاء السلام 431
27 إقامة الشهادة 467
28 أكل الطيبات 485
29 الألفة 494
المجلد الثالث تابع حرف الألف 30 الأمانة 507
31 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 525
32 الإنابة 540
33 الإنذار 547
34 الإنصاف 576
35 الإنفاق 598
36 الإيثار 629
37 الإيمان 641
حرف الباء
38 البر 750(المقدمة/13)
م اسم الصفة رقم الصفحة
39 بر الوالدين 767
40 البشارة 780
41 البشاشة 812
42 البصيرة والفراسة 823
43 البكاء 833
حرف التاء 44 التأمل 843
45 التأني 864
46 التبتل 872
47 التبليغ والتبيين 876
48 التبين (التثبت) 901
49 التدبر 909
50 التذكر 916
51 تذكر الموت 931
52 التذكير 968
53 التسبيح 980
54 التعارف 1004
55 التعاون على البر والتقوى 1008
56 تعظيم الحرمات 1028
57 التفاؤل 1045
م اسم الصفة رقم الصفحة
المجلد الرابع تابع حرف التاء 58 تفريج الكربات 1050
59 التفكر 1065
60 التقوى 1079
61 التكبير 1121
62 تكريم الإنسان 1135
63 تلاوة القرآن 1176
64 التناصر 1230
65 التهليل 1245
66 التواضع 1255
67 التوبة 1269
68 التوحيد 1296
69 التودد 1343
70 التوسط 1352
71 التوسل 1367
72 التوكل 1377
73 التيسير 1399
74 التيمن 1420
حرف الثاء 75 الثبات 1437
76 الثناء 1450
حرف الجيم 77 جهاد الأعداء 1481
78 الجود 1506(المقدمة/14)
م اسم الصفة رقم الصفحة
حرف الحاء 79 الحجاب 1514
80 الحج والعمرة 1529
81 الحذر 1553
المجلد الخامس تابع حرف الحاء 82 حسن الخلق 1569
83 حسن السمت 1587
84 حسن الظن 1596
85 حسن العشرة 1609
86 حسن المعاملة 1623
87 حفظ الأيمان 1639
88 حفظ الفرج 1654
89 حق الجار 1665
90 الحكمة 1677
91 الحكم بما أنزل الله 1706
92 الحلم 1735
93 الحمد 1753
94 الحنان 1782
95 الحوقلة 1789
م اسم الصفة رقم الصفحة
96 الحياء 1795
97 الحيطة 1815
حرف الخاء 98 الخشوع 1824
99 الخشية 1838
100 خفض الصوت 1857
101 الخوف 1866
حرف الدال 102 الدعاء 1901
103 الدعوة إلى الله 1945
حرف الذال 104 الذكر 1961
حرف الراء 105 الرأفة 2014
106 الرجاء 2022
107 الرجولة 2041
المجلد السادس تابع حرف الراء 108 الرحمة 2061
109 الرضا 2103
110 الرغبة والترغيب 2125
111 الرفق 2157
112 الرهبة والترهيب 2169(المقدمة/15)
م اسم الصفة رقم الصفحة
حرف الزاي 113 الزكاة 2196
114 الزهد 2217
حرف السين 115 الستر 2235
116 السخاء 2252
117 السرور 2260
118 السكينة 2267
119 السّلم 2272
120 السماحة 2287
121 السماع 2301
حرف الشين 122 الشجاعة 2322
123 الشرف 2344
124 الشفاعة 2365
125 الشفقة 2385
126 الشكر 2393
127 الشهامة 2420
128 الشورى 2426
حرف الصاد 129 الصبر والمصابرة 2441
130 الصدق 2473
131 الصدقة 2517
م اسم الصفة رقم الصفحة
132 الصفح 2530
133 الصلاة 2536
134 الصلاح 2585
المجلد السابع تابع حرف الصاد 135 صلة الرحم 2614
136 الصمت وحفظ اللسان 2633
137 الصوم 2645
حرف الضاد 138 الضراعة والتضرع 2663
حرف الطاء 139 الطاعة 2672
140 طلاقة الوجه 2699
141 الطمأنينة 2702
142 الطموح 2713
143 الطهارة 2719
حرف العين 144 العبادة 2741
145 العدل والمساواة 2790
146 العزة 2819
147 العزم والعزيمة 2849
148 العطف 2865
149 العفة 2872(المقدمة/16)
م اسم الصفة رقم الصفحة
150 العفو والغفران 2889
151 العلم 2911
152 علو الهمة 2983
153 العمل 3010
154 عيادة المريض 3052
حرف الغين 155 غض البصر 3070
156 الغيرة 3077
حرف الفاء 157 الفرار إلى الله 3086
158 الفرح 3093
159 الفضل 3107
المجلد الثامن تابع حرف الفاء 160 الفطنة 3126
161 الفقه 3137
حرف القاف 162 القسط 3153
163 القصاص 3161
164 القناعة 3167
165 القنوت 3176
166 القوة والشدة 3188
167 قوة الإرادة 3196
م اسم الصفة رقم الصفحة
حرف الكاف 168 كتمان السر 3203
169 الكرم 3214
170 كظم الغيظ 3236
171 كفالة اليتيم 3245
172 الكلم الطيب 3265
حرف اللام 173 اللين 3295
حرف الميم 174 مجاهدة النفس 3303
175 محاسبة النفس 3317
176 المحبة 3325
177 المداراة 3357
178 المراقبة 3367
179 المروءة 3373
180 المسارعة في الخيرات 3387
181 المسئولية 3400
182 المعاتبة والمصارحة 3418
183 معرفة الله- عز وجل- 3433
184 المواساة 3458
حرف النون 185 النبل 3470
186 النزاهة 3475(المقدمة/17)
م اسم الصفة رقم الصفحة
187 النشاط 3485
188 النصيحة والتواصي 3489
189 النظام 3508
190 النظر والتبصر 3515
حرف الهاء 191 الهجرة 3544
192 الهدى 3567
حرف الواو 193 الورع 3616
194 الوعظ 3627
195 الوفاء 3638
196 الوقار 3669
197 الوقاية 3675
198 الولاء والبراء 3685
حرف الياء 199 اليقظة 3712
200 اليقين 3717
الصفات المذمومة:
المجلد التاسع حرف الألف 1 الابتداع 3731
2 اتباع الهوى 3751
م اسم الصفة رقم الصفحة
3 الأثرة 3771
4 الإجرام 3780
5 الإحباط 3796
6 الاحتكار 3808
7 الأذى 3811
8 الإرهاب 3828
9 الإساءة 3837
10 الاستهزاء 3872
11 الإسراف 3884
12 الإصرار على الذنب والعناد 3896
13 إطلاق البصر 3905
14 الإعراض 3912
15 الاعوجاج 3927
16 الافتراء 3935
17 إفشاء السر 3946
18 الإفك 3958
19 أكل الحرام 3969
20 الإلحاد 3980
21 الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف 3987
22 الإمعة 3995
23 الأمن من المكر 3999
24 الانتقام 4006(المقدمة/18)
م اسم الصفة رقم الصفحة
25 إنتهاك الحرمات 4016
26 الإهمال 4025
حرف الباء 27 البخل 4029
28 البذاءة 4047
29 البذاذة 4060
30 البطر 4068
31 البغض 4073
32 البغي 4084
33 البلادة (عدم الفقه) 4097
34 البهتان 4107
حرف التاء 35 التبذير 4113
36 التبرج 4120
37 التجسس 4129
38 التحقير والاشمئزاز 4133
39 التخاذل 4139
40 التخلف عن الجهاد 4145
41 ترك الصلاة 4159
42 التسول 4168
43 التشامل 4174
44 التطفيف 4183
45 التطير 4190
46 التعاون على الإثم والعدوان 4200
م اسم الصفة رقم الصفحة
47 التعسير 4208
48 التفرق 4217
49 التفريط والإفراط 4229
50 التكاثر 4237
51 التكلف 4250
52 التناجش 4257
53 التنازع 4265
54 التنصل من المسئولية والتهرب منها 4280
55 التنفير 4296
56 التهاون 4301
57 التولي 4307
حرف الجيم 58 الجبن 4320
59 الجحود 4326
60 الجدال والمراء 4338
61 الجزع 4350
62 الجفاء 4358
63 الجهل 4366(المقدمة/19)
م اسم الصفة رقم الصفحة
المجلد العاشر
حرف الحاء 64 الحرب والمحاربة 4390
65 الحزن 4407
66 الحسد 4417
67 الحقد 4430
68 الحكم بغير ما أنزل الله 4441
69 الحمق 4449
حرف الخاء 70 الخبث 4459
71 الخداع 4470
72 الخنوثة والتخنث 4477
73 الخيانة 4482
حرف الدال 74 الدياثة 4498
حرف الذال 75 الذل 4502
حرف الراء 76 الربا 4516
77 الردة 4532
78 الرشوة 4542
79 الرياء 4551
حرف الزاي 80 الزنا 4568
81 الزندقة 4584
حرف السين 82 السحر 4589
83 السخرية 4602
م اسم الصفة رقم الصفحة
84 السخط 4615
85 السرقة 4625
86 السفاهة 4634
87 سوء الخلق 4642
88 سوء الظن 4652
89 سوء المعاملة 4673
حرف الشين 90 الشح 4685
91 شرب الخمر 4695
92 الشرك 4709
93 الشك 4751
94 الشماتة 4769
95 شهادة الزور 4774
حرف الصاد 96 صغر الهمة 4781(المقدمة/20)
م اسم الصفة رقم الصفحة
حرف الضاد 97 الضعف 4787
98 الضلال 4795
حرف الطاء 99 الطغيان 4834
100 الطمع 4846
101 طول الأمل 4857
102 الطيش 4868
حرف الظاء 103 الظلم 4871
حرف العين 104 العبوس 4927
105 العتو 4932
106 العجلة 4941
107 العدوان 4955
108 العصيان 4972
109 عقوق الوالدين 5011
110 العنف والإكراه 5018
المجلد الحادي عشر حرف الغين 111 الغدر 5025
112 الغرور 5047
113 الغش 5069
114 الغضب 5076
115 الغفلة 5098
116 الغل 5109
117 الغلو 5114
118 الغلول 5128
119 الغي والإغواء 5142
120 الغيبة 5162
م اسم الصفة رقم الصفحة
حرف الفاء 121 الفتنة 5178
122 الفجور 5219
123 الفحش 5231
124 الفساد 5236
125 الفسوق 5261
126 الفضح 5270
حرف القاف 127 القتل 5284
128 القدوة السيئة 5300
129 القذف 5311
130 القسوة 5323
131 قطيعة الرحم 5329
132 القلق 5338(المقدمة/21)
م اسم الصفة رقم الصفحة
133 القنوط 5344
حرف الكاف 134 الكبر والعجب 5352
135 الكذب 5381
136 الكرب 5431
137 الكسل 5438
138 الكفر 5443
139 الكنز 5510
حرف اللام 140 اللغو 5521
141 اللهو واللعب 5527
142 اللؤم 5540
حرف الميم 143 المجاهرة بالمعصية 5547
144 المكر والكيد 5556
145 المن 5563
146 موالاة الكفار 5570
147 الميسر 5583
حرف النون 148 النجاسة 5589
149 النجوى 5598
150 النفاق 5604
م اسم الصفة رقم الصفحة 151 نقض العهد 5631
152 النقمة 5645
153 نكران الجميل 5653
154 النميمة 5665
حرف الهاء 155 الهجاء 5672
156 الهجر 5681
157 هجر القرآن 5691
حرف الواو 158 الوسوسة 5701
159 الوهم 5710
160 الوهن 5714
حرف الياء 161 اليأس 5724(المقدمة/22)
مسلسل الفهرس رقم الصفحة
المجلد الثاني عشر 1 مقدمة الفهارس 1
2 فهرس المحتويات 6
3 فهرس الشواهد القرآنية 17
4 فهرس الأحاديث النبوية 120
5 فهرس الآثار وأقوال العلماء والمفسرين 256
6 فهرس الأعلام 371
7 فهرس المصطلحات 444
8 فهرس الفروق اللغوية 457
9 فهرس الوجوه والنظائر 459
10 فهرس الأحكام الشرعية وآداب السلوك 461
11 فهرس الحكم والأمثال 464
12 فهرس الأشعار والأرجاز 466
13 فهرس الأمم والقبائل والجماعات 491
14 فهرس الأماكن والبلدان 500
15 فهرس الإحالات 511
16 فهرس المصادر والمراجع 517(المقدمة/23)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدمة الطبعة الثالثة
الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وأكرمنا بالقرآن، والصلاة والسلام على خير الأنام، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ... وبعد:
فبفضل من الله تعالى وتوفيقه حظيت الطبعتين الأولى والثانية- ولله الحمد- بقبول حسن، وكان لهما صدى طيب في الأوساط الاجتماعية والدينية والإعلامية والثقافية عموما، والأوساط الدعوية بوجه خاص.
وبفضل من الله تعالى وتوفيقه نفدت جميع النسخ المطبوعة من الطبعتين الأولى والثانية (عشرون ألف نسخة تشكّل في مجملها مائتين وأربعون ألف مجلد) ، ولا تزال الطلبات تتوالى على دار الوسيلة لإمداد القرآء الكرام بهذه الموسوعة المباركة، التي جاء اسمها مطابقا لمسماها، ولفظها موافقا لمعناها، وأمام هذه الرغبة الكريمة التي تعبر عن الثقة بجودة المعلومات وغزارتها، وسرعة استخراجها، كما تعبر عن التقدير العظيم لفوائدها، لم يكن بد من إصدار هذه الطبعة الثالثة.
إننا إذ نشكر كل من تفضل بإبداء رأيه، وخالص نصحه، وإعلان ثقته، نود أن يطلع معنا القارىء الكريم على بعض ما جاء في تقرير الهيئات المختصة، وقادة الفكر والمسئولين عن المؤسسات الدينية والثقافية في المملكة العربية السعودية وخارجها، ومن ذلك:
* «إن هذا الجهد الجبار لإخراج هذه الموسوعة إلى النور، وما استغرقه من وقت لإعدادها لخير دليل على الجهد الكبير الذي بذل لإنجازها، ولكن شرف موضوعها ونبل هدفها، ودقة ما احتوته من معلومات، وجمال إخراجها وطباعتها تجعل هذه الجهود مكللة إن شاء الله بالثواب والجزاء من الله تعالى والقبول من القراء والمطلعين» .
الأمانة العامة لمجلس التعليم العالي في المملكة العربية السعودية
* «موسوعة نضرة النعيم كتاب أكثر من قيّم ... وأكبر من أن يقيّم ... حيث تضافرت عدة عوامل ناجحة، جعلت منها موسوعة قيم أخلاقية لا يستغني عنها باحث وطالب علم» .
وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت
* «هذه الموسوعة مؤلف جليل في موضوعة، متفرد فيه، شامل لكل ما ينبغي للمسلم أن يتصف به من الصفات المحمودة، موضح لما يتعين الحذر منها مما يضادها، بأسلوب قويم النهج، سهل الفهم، ميسر الإدراك لكل قارىء» .
* «حددت هذه الموسوعة في تعريفاتها الشاملة ما يقرب لكل باحث ولكل مستفيد مما فيها مطلبه بسهولة ويسر، بحيث يجد النصوص وأقوال العلماء والإرشاد إلى ما قد يستزيد بعلمه في ذلك من المؤلفات الأخرى» .
علّامة الجزيرة ومؤرخها الشيخ/ حمد الجاسر في مقالتيه عن موسوعة نضرة النعيم في جريدة الرياض «1»
__________
(1) نشرت المقالة الأولى في جريدة الرياض العدد (11058) بتاريخ 13 جمادى الأخرة 1419 هـ، ونشرت المقالة الثانية العدد (11062) بتاريخ 17 جمادى الأخرة 1419 هـ.(المقدمة/)
* «هذه الموسوعة تعد إضافة قيّمة للمكتبة العربية والإسلامية» .
الدكتور/ عصام سالم، رئيس جامعة الإسكندرية- بجمهورية مصر العربية-
* «أقدّر لكم هذا الجهد الكبير في تسجيل أخلاقه الشريفة من المصادر الموثوقة، ولا شك أنكم بهذا العمل المبرور قد ملأتم فراغا كبيرا في المكتبة الإسلامية، ولبيتم حاجة طالما أحس بها الباحثون والدعاة المسلمون «1» » .
الأمين العام للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة- بجمهورية مصر العربية- إننا إذ نقدم خالص الشكر وعظيم التقدير لهؤلاء جميعا، ولغيرهم ممن لم يتسن التنويه بآرائهم القيمة- وهم كثر- ولكل من ساند هذا العمل باقتنائه، ولكل فاعل للخير أو فاعلة له من أهل الفضل الذين حصلوا على هذه الموسوعة لأنفسهم وأهليهم، أو قاموا بتوزيعها على غيرهم، نهدي إليهم جميعا بشرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي تضمنها دعاؤه الشريف لكل من أسهم في تبليغ رسالته إلى الأمة الإسلامية والناس جميعا حيث يقول صلّى الله عليه وسلّم في حديثه الشريف داعيا لهم:
نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها، وحفظها وبلغها.. «2» .
يقول ابن القيم- رحمه الله تعالى- عن هذا الحديث: «ولو لم يكن في فضل العلم إلا هذا وحده لكفى به شرفا، لأن من قام بتبليغ حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبثه في الأمة دخل تحت هذه الدعوة النبوية المتضمنة لجمال الظاهر والباطن، فإن النضرة هي البهجة والحسن الذي يكساه الوجه من آثار الإيمان وابتهاج الباطن به، وفرح القلب وسروره، حيث تظهر هذه البهجة، وذلك السرور، وتلك الفرحة نضارة على الوجه، ولهذا جمع الله سبحانه بين السرور والنضرة، في قوله تعالى: فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً «3» . فالنضرة في وجوههم، والسرور في قلوبهم، من حيث إن النعيم وطيب القلب (كلاهما) يظهر نضارة في الوجه، كما قال تعالى:
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ* تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ «4» .
والمقصود أن هذه النضرة في وجه من سمع سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هي أثر تلك الحلاوة، وهذه البهجة، وذلك السرور الذي في قلبه وباطنه «5» .
إن نضرة النعيم التي هي من حظ كل أولئك الذين سمعوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبلغوا غنه، وتأسّوا بأخلاقه الحميدة ليست هي الفائدة الوحيدة المرجوة، إذ يوجد إلى جانبها فائدة أخرى، ألا وهي تحقيق محابه صلّى الله عليه وسلّم وتنفيذ ما أمرنا به إذ قال: «بلغوا عني ولو آية» وقال: «ليبلغ الشاهد الغائب» «6» ... ، يقول ابن القيم رحمه الله: «أمرنا صلّى الله عليه وسلّم بالتبليغ عنه لما في التبليغ من حصول الهدى، وله صلّى الله عليه وسلّم أجر من بلغ عنه، وأجر من قبل ذلك البلاغ، وكلما كثر
__________
(1) انظر أيضا تقريظ معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، وفضيلة الشيخ عبد الله الجبرين في الصفحات ل وم ح.
(2) الترمذي (2627) ، وانظر صفة التبليغ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الموسوعة.
(3) الإنسان/ 11.
(4) المطففين/ 22- 24.
(5) مفتاح دار السعادة لابن القيم، ص 275.
(6) انظر هذين الحديثين في صفة التبليغ وقد خرّجناهما هناك.(المقدمة/)
التبليغ عنه تضاعف له الثواب، فله من الأجر بعدد كل مبلغ، وكل مهتد بذلك البلاغ سوى ما له من أجر عمله المختص به، فكل من هدي واهتدى بتبليغه فله الأجر عليه لأنه هو الداعي إليه، ولو لم يكن في تبليغ العلم عنه إلا حصول ما يحبه صلّى الله عليه وسلّم لكفى به فضلا.
ومعلوم أنه لا شيء أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إيصاله الهدى إلى جميع الأمة، فالمبلغ عنه مسارع في حصول محبته، فهو أقرب الناس منه وأحبهم إليه، وهو نائبه وخليفته في أمته، وكفى بهذا فضلا وشرفا للعلم وأهله» «1» .
وختاما نود الإشارة إلى أن هذه الطبعة الجديدة هي طبعة منقحة تضمنت إضافات مهمة، وصححت فيها أخطاء (خارجة عن إرادتنا) وردت في الطبعة الثانية.
ولا يسعني في ختام هذا التقديم إلا أن أتقدم بالشكر وافرا وجزيلا لكل من اطلع على هذه الموسوعة، وخاصة أولئك الذين أهدوا إلينا ملاحظاتهم القيّمة وثناءهم العطر، وإذا كان من شكر المولى عز وجل شكر من أجرى الله النعمة على يديه مصداقا لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» «2» . فإننا نشكر كل من أسهم في إعداد هذه الموسوعة ومراجعتها وتدقيقها، إذ لولا جهودهم المخلصة ما كان لها أن تخرج للناس على هذا النحو الدقيق، وفي مقدمة هؤلاء: فضيلة الشيخ الدكتور/ صالح بن حميد إمام وخطيب الحرم المكي الشريف، لهؤلاء جميعا ولكل أفراد دار الوسيلة خالص الشكر وصادق العرفان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن ملّوح جدة- المملكة العربية السعودية- ربيع الآخر 1425 هـ
__________
(1) مفتاح دار السعادة، ص 279.
(2) أبو داود (4811) ، والترمذي (1954) ، وقال: حسن صحيح، انظر صفة الشكر ج 6، ص 2393.(المقدمة/)
[تقديم الناشر]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هذه الموسوعة: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم
الأهداف والطموحات، بقلم: عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن ملّوح مؤسس ومدير عام دار الوسيلة للنشر والتوزيع
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا، الحمد لله رب العالمين الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام والإيمان والإحسان، الحمد لله الذي منّ علينا بهذا الفضل العظيم وشرّفنا بالقيام بإعداد هذه الموسوعة التي بين أيدينا والتي استغرقنا في إعدادها تسع سنوات وجمعنا محتوياتها من أكثر من ألف ومائة مصدر، ويسّر لنا الصحة والوقت والمال والإخوة الصالحين لإعانتنا على إتمام هذا العمل «1» ، الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العلى فهو أحق من ذكر وأحق من شكر وأحق من عبد وأحق من حمد وأجود من سئل وأكرم من قصد وأوسع من أعطى ... وبعد:
فهذه الموسوعة التي نتشرف بتقديمها للعالم الإسلامي، وللعالم أجمع هي موسوعة أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي بعثه الله رحمة للعالمين، قال تعالى:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «2» .
ولما كان خلقه صلّى الله عليه وسلّم القرآن- كما أخبرت بذلك أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- «3» ، فإنها تصبح بذلك موسوعة الأخلاق الإسلامية كما جاء بها القرآن الكريم، وكما تجسدت عمليا من خلال تطبيق متكامل في شخص الرسول صلّى الله عليه وسلّم وسنته المطهرة. فوصفه الله عز وجل بقوله:
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «4» .
والخلق هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الأدب حتى يصير كالخلقة فيه فسمي خلقا ولهذا قال عبد الله بن مسعود: «إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته» «5» .
__________
(1) مر العمل في الموسوعة خلال هذه السنوات التسع بثلاث مراحل هي:
أ- مرحلة الإعداد، وقد تولى الإشراف عليها فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام وعميد كلية الشريعة بجامعة أم القرى سابقا.
ب- مرحلة المراجعة والضبط، بإشراف أ. د علي خليل مصطفى أبو العينين وكيل كلية التربية للدراسات العليا بجامعة الزقازيق فرع بنها.
ج- مرحلة التدقيق والفهرسة، بإشراف أ. د عبد الفتاح عبد العليم البركاوي أستاذ اللغويات بجامعتي الأزهر وأم القرى.
(2) الأنبياء/ 107.
(3) جاء ذلك في الحديث الذي رواه مسلم (حديث رقم 746) حيث قالت أم المؤمنين: «إن خلق نبي الله كان القرآن» .
(4) القلم/ 4.
(5) انظر صفة الأدب (2/ 141) من هذه الموسوعة.(المقدمة/24)
لقد شاء المولى أن أسمي هذه الموسوعة بهذا الاسم «نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم» لما يحدث التحلي بأخلاق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، عامة والدعوة إلى الله تعالى بصفة خاصة، من نضرة في الوجه يتجلى نورها على الإنسان فينشرح صدره وتطيب نفسه ويناله نصيب من دعائه صلّى الله عليه وسلّم: «نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها» «1» ، وقد أمرنا بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الآخر فقال: «بلغوا عني ولو آية» «2» .
إن نضرة الوجه في الدنيا ليست وحدها هي غاية المسلم أو الداعية، وإنما الغاية الأعظم هي التمتع بهذه «النضرة» في نعيم الآخرة أيضا، يقول الله تعالى:
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ* تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ «3» .
من تأمّل هذه الآيات الكريمة يتضح الارتباط بين «البر» وبين «نضرة النعيم» من حيث إن الأبرار هم الذين تعرف النضرة في وجوههم في جنة النعيم، والبر قد عرّفه الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس» «4» . هي إذن موسوعة «البر» وموسوعة «حسن الخلق» في آن واحد.
إن هذا الخلق الحسن، أو الخلق العظيم الذي كانت حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم تجسيدا له لابد وأن يتحلّى به كل مسلم يريد أن يحيا حياته متأسيا بالرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، استجابة لقوله تعالى:
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً «5» .
وبذلك تكون هذه الموسوعة هي أيضا موسوعة الحياة التي يبتغى بها وجه الله والدار الآخرة.
إن الواجب على كل مسلم يتأسى برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويتحلى بهذه الأخلاق الحميدة، أن يتخلى عن الأخلاق السيئة فينتهي عما نهى الله عنه وعما حث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على؟ تركه من ذميم الأخلاق وسيء الخصال، ومن هنا كان حرصنا على أن تتضمن هذه الموسوعة الأمرين معا: ما أمر به ونهي عنه في الكتاب والسنة، لقوله عز وجل:
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «6» . وما كان الأمر كذلك إلا لأن القلب أو النفس يتنازعهما دائما وازع الخير (من الله تعالى) بما أودعه من فطرة وأمده من حفظ الملائكة، ووازع الشر (من الشيطان والهوى والنفس الأمارة بالسوء) ، ولكي يتحلى الإنسان بالفضيلة فلا بد أن يتخلى عن الرذيلة، ولكل جزاؤه المحدد في قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «7» .
__________
(1) سنن الترمذي، حديث رقم 2628، وانظر صفة الدعوة إلى الله ج 5، ص 1957.
(2) البخاري- الفتح، حديث رقم 3461، وانظر ج 5، ص 1955 من هذه الموسوعة.
(3) المطففين/ 22- 24.
(4) رواه مسلم، حديث رقم (2553) ، وانظر صفة البر من هذه الموسوعة.
(5) الأحزاب/ 21.
(6) الحشر/ 7.
(7) الزلزلة/ 7- 8.(المقدمة/25)
الحاجة لهذه الموسوعة:
إنه لما كان البر وحسن الخلق متلازمين مصداقا لقول الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلّم «البرّ حسن الخلق» فإن محاسن الأخلاق ومكارمها ينبغي أن تكون من الوضوح بمكان، ولكن أين نجد ذلك من بين ما لا يحصى من صفحات أمهات كتب الفضائل والآداب والأحكام ونحوها؟ وأين نقف على التحديد الدقيق لمعنى هذه الصفة أو تلك؟
في القرآن الكريم، نعم، في كتب الحديث الشريف، نعم، في كتب السيرة النبوية، نعم، في معاجم اللغة وكتب آثار السلف الصالح رحمهم الله، نعم، ولكن أنّى للمسلم أن يقف على ذلك كله في وقت معقول وبوسيلة مناسبة؟ إن كتب السلف الصالح رحمهم الله على كثرتها وتنوعها لا تفي وحدها بالغرض المطلوب لتناثر الصفات بها من ناحية، واختلاف أسلوبها من ناحية ثانية، أما كتب المحدثين فإنها- في الغالب- قد اقتصرت على صفات معيّنة يغلب عليها طابع الانتقاء، وهنا كان التفكير في أن نوجد في المكتبة الإسلامية، ما تفتقر إليه من وجود مرجع موحد شامل، لما هو مشتت في مئات الكتب، أي إيجاد عمل موسوعي يضم شتات صفات التربية الإسلامية وقيمها لما أمر به وما نهي عنه في الكتاب والسنة في مصدر موثق صحيح، يعيد عرضها على نحو منظم ومتكامل، وبأسلوب قريب سهل التناول يناسب عامة الناس في هذا العصر بحيث يسهل على الآباء أن يفهموها ويفهموها أبناءهم، وعلى المدرسين أن يعلموها تلاميذهم، وعلى الخطباء والدعاة أن يوضحوها لمن يتلقى عنهم ويستمع إليهم، وعلى رجال الصحافة والإذاعة وغيرهما من وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية أن ينشروها بين الناس، ويوفروا بذلك قدرا هائلا من المعلومات الصحيحة والمركزة مما يساعد على رفع مستوى جودة المعلومات لديهم، ويعطي مرونة كبيرة في اختيار المادة العلمية وطريقة عرضها.
إن المسلم والداعية المتأسي برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لابد أن يدعو نفسه أولا إلى التمسك بالخلق الحميد ويربيها على ذلك في أفعاله وأقواله، وكل ذلك اقتداء بالحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وحبا له، فإذا أحبه وجد حلاوة الإيمان، بل اكتمل بذلك إيمانه لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار» «1» .
وقوله صلّى الله عليه وسلّم عن أنس- رضي الله عنه- قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» «2» .
ومن اكتمل إيمانه، حسن خلقه مصداقا لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» «3» . ومن باب المحبة لله عز وجل الإيمان به والمحبة لرسوله صلّى الله عليه وسلّم والتصديق بما جاء به، تؤخذ محبة الخلق والتأدب معهم ومعاملتهم بالإحسان وحسن الخلق، ولنا أن نتأمل قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» «4» .
__________
(1) البخاري- الفتح 1 (21) ، ومسلم (43) .
(2) البخاري- الفتح 1 (15) ، ومسلم (45) .
(3) انظر هذا الحديث بتمامه في صفة حسن الخلق (5/ 1575) ، وقد خرّجناه هناك.
(4) البخاري- الفتح (1/ 13) .(المقدمة/26)
وبهذا يكون الداعية من الذين اتبعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بذلك يحمل برهان حب الله له قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ «1» ، وإذا أحب الله العبد حبب فيه الناس، ووضع له القبول في الأرض مصداق ذلك ما جاء في الحديث الشريف: «إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض» «2» .
فإذا ربّى الإنسان نفسه على حب الرسول صلّى الله عليه وسلّم واتباعه، توجه إلى أهله وأبنائه وعشيرته الأقربين فدعاهم لما يحييهم ويضمن لهم الفوز في الدنيا والآخرة، ثم توجه بالدعوة بعد ذلك لكل من يستطيع دعوتهم. وهذا هو عين الخير وحسن الخلق وكمال الإيمان، وثمرة ذلك كله هو القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جنة النعيم لقوله صلّى الله عليه وسلّم:
«إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا» «3» .
ولكي تؤتي هذه الدعوة ثمارها المرجوة فإن على الدعاة أن يتأسوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في:- أ- أن تكون الدعوة على بصيرة وعلم، يقول الله تعالى:
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي «4» .
قيل في تفسير البصيرة هي اليقين والحق «5» . وهذه البصيرة إنما تتحقق بالتفقه في الدين، الذي هو دليل إرادة الخير للداعية، حيث يقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» «6» .
ب- أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، مصداقا لقوله تعالى:
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ «7» .
حيث حثه ربه على أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمين إلى يوم القيامة «8» ، ويقول الله تعالى لنبيه الكريم صلّى الله عليه وسلّم: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ «9» .
هي إذن موسوعة للدعوة، ومنهاج للدعاة تزودهم بالبصيرة وتمدهم بالحكمة من أفعال الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأقواله وتوجيهاته، وهي في الوقت نفسه موسوعة لتربية النفوس، وتربية الأجيال على الإيمان الصادق والإسلام الصحيح، والإحسان المرجو، وبعبارة أوجز هي موسوعة «التربية الدينية» الصحيحة لأنها تعتمد على ما جاء به القرآن الكريم ودعت إليه السّنّة النبوية المطهرة. لذا كان من الوضوح بمكان تفسير قوله تعالى لنبيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم:
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
__________
(1) آل عمران/ 31.
(2) البخاري- الفتح 13 (7485) ، ومسلم (2637) .
(3) رواه الترمذي (2018) وقال: حديث حسن، وانظر صفات المحبة وحسن الخلق والأدب.
(4) يوسف/ 108.
(5) تفسير القرطبي، (9/ 274) .
(6) البخاري- الفتح، حديث رقم 71.
(7) النحل/ 125.
(8) انظر تفسير القرطبي (10/ 200) .
(9) آل عمران/ 159.(المقدمة/27)
معناه: وإنك لعلى دين عظيم من الأديان، وليس هناك دين أحب إلى الله تعالى ولا أرضى عنده منه لقوله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «1» .
هي إذن موسوعة الدعاة إلى الله- عز وجل- هؤلاء الذين وصفهم الله- عز وجل- وهو مالك خزائن الحسن والإحسان، بأنهم أحسن الناس قولا، يقول سبحانه:
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ «2» .
ولكم أيها الأخوة والأخوات الوقوف على هذه الآية والتأمل والتدبر في معناها وقتا طويلا لتعرفوا كم نحن مقصرون في أداء واجب حمل الأمانة التي حمّلنا إياها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في إبلاغ الدعوة أداء لحق الوراثة في هذا التبليغ «3» .
فأين نحن من الاقتداء بحياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحياة صحابته الكرام الذين اقتدوا به في الدعوة إلى الله وهم الذين تفرقوا بين مشارق الأرض ومغاربها وتوفوا في أبعد الأمصار في سبيل رفع كلمة الله؟
نحن أحفاد الصحابة- رضي الله عنهم- فأين نحن إذا من رفع راية هذا الشرف العظيم؟
أهداف الموسوعة وتحديات المستقبل:
يقول بعض علماء السلف الصالح: «إنه إذا كان شرف المطلوب بشرف نتائجه، وعظم خطره بكثرة منافعه، وبحسب منافعه تجب العناية به، وعلى قدر العناية به يكون اجتناء ثمرته، ولما كان أعظم الأمور خطرا وقدرا، وأعمها نفعا ورفدا، ما استقام به أمر الدين والدنيا وانتظم به صلاح الآخرة والأولى» .
لما كان الأمر كذلك وجب أن نضع نصب أعيننا التحديات الآتية:- أولا: إن موضوع الحفاظ على القيم الأخلاقية والمثل العليا في المجتمعات الإنسانية عامة، والإسلامية بصفة خاصة هو موضوع الساعة، ذلك أن هذه القيم باتت مهددة نتيجة للانحلال الفكري والثقافي المتواصل نتيجة الصراع بين المثل العليا والتطور الإنساني الذي انصرف إلى تنمية مقدرات ومهارات الإنسان العلمية والتقنية ليلحق لاهثا بسير ركب التقدم التقني وذلك على حساب إهمال دور القيم المتعلقة بأمور الدين والعقيدة وحياة الفرد والأسرة والمجتمع، وهذا هو الطغيان وإيثار حب الحياة الدنيا الذي ذمه الله تعالى بقوله: فَأَمَّا مَنْ طَغى * وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى «4» .
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ «5» .
وهو الضلال الذي وصفه عز وجل بقوله:
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً «6» .
__________
(1) آل عمران/ 85.
(2) فصلت/ 33.
(3) انظر كلمات معالي الدكتور عبد الله التركي وزير الشئون الإسلامية، وفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، وختام كلمة فضيلة الدكتور الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد في أهمية الدعوة إلى الله.
(4) النازعات/ 37- 39.
(5) الأنعام/ 44.
(6) الكهف/ 104.(المقدمة/28)
وسبب الضلال عن طريق الحق هو أن ابتغاء الحياة الدنيا أصبح هو الهدف المسيطر دون إيجاد التوازن المنشود بين الدنيا والآخرة، يقول الله تعالى: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ «1» . لذا حدث الانحلال الذي أخذت تنهار أمام هجماته الشرسة صروح القيم ومكارم الأخلاق الإنسانية التي عرفتها الشعوب منذ الأزل، وأخذت الحضارة الإنسانية تهتز من قواعدها، وأصبحت القيم العليا تحني رأسها خجلا من واقع مرير تحكمت فيه الشبهات والأهواء النفسية والشهوات الجسدية من ناحية، والأهداف المادية والنفعية من جهة أخرى.
وإذا نظرنا إلى عالم اليوم وجدنا الشبهات تغلبه وتعمه، فأغلب المجتمعات يعمها الشرك والكفر والإلحاد، فمنهم من يعبد ما صنعت يداه من تماثيل وأصنام، ومنهم من يعبد الحيوان والشجر، ومنهم من يعبد الشمس والقمر والكواكب، ومنهم من يعبد النار، ومنهم ملحد خاو لا يعبد شيئا، هذا من ناحية الشبهات، أما من ناحية الشهوات فحدث ولا حرج عن انتشار تعاطي الخمور والمخدرات وانتشار دور الميسر والدعارة تحت رعاية الجريمة المنظمة وغير المنظمة، إضافة إلى انتشار المعاملات الربوية التي تئن تحت وطأتها شعوب كثيرة وتنهار أمام جبروتها مؤسسات ودول في مناطق عديدة من العالم، وهذا الوضع المخزي أدى بطبيعة الحال إلى الانحلال الفكري والخلقي وتفكك الترابط الأسري وكثرة حالات الطلاق والإجهاض والأطفال غير الشرعيين إضافة إلى تفشي جرائم العنف والأمراض المعدية والأمراض النفسية الخطرة في كثير من المجتمعات. قال تعالى:
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ «2» .
من هنا فإنه لا مجال لمقاومة هذا الانهيار إلا بالرجوع إلى أسس الفضيلة المتمثلة في مكارم أخلاق الرسول صلّى الله عليه وسلّم باعتباره الرحمة المهداة والنعمة المسداة للبشرية جمعاء، يقول الله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ «3» .
إن الرجوع إلى الصراط المستقيم يقتضي أن نتخذ من أخلاقه العظيمة أساسا للتربية الإسلامية، حتى نستطيع التصدي لمخاطر هذا الانحلال الفكري والثقافي، يقول الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ «4» ، ويقول سبحانه: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «5» . فالعالم الإنساني لا نور له ولا رحمة فيه إذا هو تجرد عن الأخلاق وإن أزمات الحضارات ما اندثر منها وما بقي إنما يعود إلى انحلال الأخلاق «6» .
ثانيا: أن نضع في اعتبارنا أن هناك ثورة هائلة في عالم الاتصالات، وسرعة مذهلة في إيقاع الحياة العصرية هذه الثورة، وتلك السرعة، جعلتا الكون كله قرية صغيرة يلهث فيها الأفراد وراء المعلومات السهلة الميسرة، وعلى ضوء هذه المستجدات سنحت فرصة حقيقية وطيبة سخرها الله تعالى وقادها لنا من أجل تقديم قيم أخلاق التربية
__________
(1) القصص/ 77.
(2) الروم/ 41.
(3) الشورى: 52- 53.
(4) الأحزاب/ 21.
(5) الأنبياء/ 107.
(6) شخصية الرسول صلّى الله عليه وسلّم في ضوء المقاييس الإنسانية، د. عبد الحليم عويس، ص 31.(المقدمة/29)
الإسلامية على نحو سهل وميسر، في شكل منظومة مترابطة الحلقات، متكاملة الأهداف، تشكل مدخلا حقيقيّا لمواجهة هذا التحدي الحضاري والتغلب عليه بالوسائل المناسبة في عصر سرعة المعلومات، وهذا ما حاولناه بالفعل في هذه الموسوعة بأن أوجدنا الذخيرة العلمية للقاعدة المعلوماتية اللازمة لخوض هذا التحدي.
ثالثا: أن نعلم أن الدعوة إلى الله- عز وجل- بأسلوب عصري يتمشى مع مقتضيات العصر ومتطلباته من حيث السرعة والإمكانات، ليست بالأمر السهل أو اليسير إذ يتطلب ذلك أن يتبنى ذوو الهمم العالية وأولو العزم ما تجسده هذه الموسوعة من معان سامية، ويقوموا بدعمها بقوة، توازي- إن لم تفق- قوة الخطر الداهم الذي يحيط بالعالم الإسلامي والعالم أجمع من كل حدب وصوب، وهذا هو ما نرجوه ونتوقعه بإذن الله.
رابعا: إن خطر الحضارة المادية على القيم الإنسانية الرفيعة وفتنة شبهاتها وشهواتها أصبح يهدد كل طفل وفتاة، بل كل رجل وامرأة من خلال تسر بها عبر وسائل الإعلام المختلفة مثل قنوات الأقمار الصناعية والصحف والمجلات التي تغرس انحرافات، لا تتم مقاومتها إلا بتربية إسلامية أصيلة تقوم على التأسي بصاحب الخلق العظيم محمد صلّى الله عليه وسلّم، ولا يتسنى ذلك على نحو كامل وشامل إلا بعون الله- عز وجل- وتوكلنا عليه أولا، ثم من خلال طباعة هذه الموسوعة وتوزيعها ونقل معارفها بشتى الوسائل الإعلامية والتعليمية المختلفة ثانيا، بأن تكون هذه العلوم والمعارف في متناول كل مربّ في البيوت والمدارس والجامعات، وبيد كل داعية وخطيب وموجه، وفي مكتبة كل مدرسة ومسجد ومنزل، وبذلك يتحصن الجميع بمكارم أخلاق الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم ضد هذه الغزوة الشرسة ويصمدون أمام تلك الفتن الزائفة.
اقتراحات وتوصيات:
وأمام هذه التحديات التي أشرنا إليها والتي لابد أن نضعها نصب أعيننا، ولكي ننجح في التصدي لمخاطر الانحلال الثقافي والفكري من ناحية، ونقوم بواجب الدعوة إلى الله تعالى من ناحية أخرى، فإننا نوصي بما يلي:- أولا: نأمل إن شاء الله أن تدخل قيم أخلاق التربية الإسلامية ضمن مناهج التعليم التخصصي في كليات الدعوة والشريعة وأصول الدين ومعاهد إعداد الدعاة ونحوها من الكليات والمعاهد التي تهتم بأمر الدعوة الإسلامية، وإنشاء تخصص جديد باسم «مكارم الأخلاق النبوية» ضمن الإطار العام لتخصص «أصول التربية الإسلامية» الموجود بالفعل في بعض كليات التربية، بحيث تكون هذه الموسوعة حجر الزاوية في هذا التخصص، ولذلك مزايا عديدة أهمها:
أ- إتاحة الفرصة أمام المعلمين لاختيار موضوعات التربية الإسلامية التي يقومون بتدريسها بحيث تكون متكاملة ومترابطة.
ب- إتاحة الفرصة أمام الخطباء لكي تكون خطبهم متناسقة ومتتابعة على نحو منظم يستغرق شهورا وربما سنوات، على نحو متدرج يكفل الانتقال السلس من صفة لأخرى، مما يجعل خطب يوم الجمعة تتصف بالموضوعية(المقدمة/30)
والإقناع لوجود علاقة وربط بين خطبة هذا الأسبوع مع الأسبوع الذي سبقه والذي سيليه. وبذلك يمكن إحياء رسالة المسجد، ورفع مستوى أداء الخطب التي ستأتي مركزة ومترابطة ومعتمدة على المعلومات الموثقة الصحيحة.
ثانيا: نأمل إن شاء الله تعالى أن تدخل موضوعات الموسوعة ضمن برامج الجامعات والكليات ذات التخصصات المختلفة ومراعاة أهمية تدريس هذه القيم فيها لأن هؤلاء المتعلمين في مختلف التخصصات سيكونون غدا إن شاء الله مدرسين ومسئولين عن نقل هذه المعارف القيمة للجيل الذي سيليهم وبالتالي لابد لهم من أن يحصلوا على هذه العلوم ويحرصوا عليها.
وحبذا لو خصصت المدارس الثانوية دورات في مادة اختيارية تحمل مسمى «الأخلاق الإسلامية» يلتحق بها الطلاب الراغبون في زيادة ثروتهم في مجال الأخلاق، ويتسلحون بها في مواجهة التيارات الهدّامة التي تهب عليهم من كل جانب.
ثالثا: كما نأمل أن تدخل موضوعات الموسوعة ضمن النشاط الثقافي في المدارس وذلك بإجراء مسابقات حول موضوعاتها من ناحية، وتخصيص أسابيع للثقافة الإسلامية يختص كل منها بإحدى مكارم أخلاق الرسول صلّى الله عليه وسلّم كأن يخصص أسبوع للصدق وآخر للأمانة، وثالث للاستقامة، ورابع لمكافحة الغش ... وهكذا.
رابعا: نأمل بعون الله تعالى أن تفتح معاهد تدريب تعقد فيها دورات يلتحق بها من أراد من عامة الناس دون قيد أو شرط، أي بغض النظر عن المؤهل العلمي، أسوة بالدورات التدريبية الأخرى التي تنهض بها معاهد الإدارة، أو معاهد تدريس الحاسب الآلي، وذلك انطلاقا من أن ما يتعلق بمكارم أخلاق الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو في حقيقة الأمر دورة في علوم ومعارف الحياة الإنسانية بأرقى معانيها، ومما يدعم هذا المطلب ويقويه أنه لا توجد حتى الآن قنوات لتغذية المطالب المتزايدة. في ظل الصحوة الإسلامية الحالية. بالمعلومات الصحيحة عن الإسلام، اللهم إلا في الكليات أو المعاهد المتخصصة التي لا يمكن الالتحاق بها إلا وفقا لشروط لا تتيسر سوى لأعداد محدودة من الراغبين في التزود بمثل هذه المعلومات.
إن إعطاء هذه المعلومات الصحيحة عن القيم الإسلامية وأخلاق المسلمين كما جاءت في القرآن الكريم والسنة المطهرة لعامة الناس وفقا لمنهج علمي متكامل أصبح مطلبا ملحّا في عالم اليوم، ولا بد أن تنهض به معاهد تنتشر في كل أرجاء العالم ويلتحق بها كل الراغبين.
وينبغي أن نشدد القول على أن نقطة الضعف المهمة جدّا والتي يجب الانتباه إليها هي أنه في غياب تنظيم عملية تلقي المعلومات في ظل الصحوة الإسلامية العالمية الكبيرة سيظل الباب مفتوحا على مصراعيه لتقديم معلومات مغلوطة ومشوشة بدون منهج علمي محدد أو مرشد يعتمد عليه أو معين يوثق فيه.
إن أساس النجاح في أي عمل هو التخطيط والتنظيم وحسن السيطرة والتوجيه والإدارة، فإذا ما توافرت هذه الأمور في إنشاء تلك المعاهد وأعد لها الإعداد الجيد باستخدام هذه الموسوعة قاعدة لمنهج المعلومات فإن ثمرتها ستعم أرجاء المعمورة كلها بإذن الله تعالى.(المقدمة/31)
خامسا: على المستوى العالمي- وكما هو معروف- فإن دعوة الإسلام رسالة عالمية للناس كافة، ومن ثم ينبغي أن يكون خلقه العظيم صلّى الله عليه وسلّم أسوة للبشر جميعا يقول الله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ «1» . ولكن كيف للناس في شتى بقاع المعمورة أن يعرفوا هذه القيم النبيلة والأخلاق الرفيعة على الوجه المطلوب؟
لا يتم ذلك إلا بعون الله- عز وجل- وتيسيره بترجمة الموسوعة إلى ما يلي:-
(1) إلى لغات العالم الإسلامي في كل القارات، في آسيا مثل الأوردو والبنغالية والهندية والملاوية والفارسية والصينية، وإفريقيا مثل الهوسا واليوربا والفلاتا والسواحلية. وأوربا مثل الألبانية والبوسنية. وقد انتهينا والحمد لله من الترجمة إلى لغة الأوردو.
(2) الترجمة إلى اللغات العالمية مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية والأسبانية والروسية. ونحن في سبيل المباشرة بالترجمة للغة الإنجليزية وغيرها إن شاء الله.
(3) الحرص على برمجة هذه المعلومات بمختلف اللغات على الحاسب الآلي وإصدارها في أقراص الليزر ضمن برامج الوسائط المتعددة التي تشمل النص والصوت والصورة. وفي هذا تسهيل لعرضها على شبكة المعلومات (الإنترنت) العالمية.
سادسا: ويتعلق بالتحرك على المستوى العالمي أيضا عقد ندوات عالمية تتخذ من الأخلاق الإسلامية موضوعها الأساسي ويتصل بها عقد مسابقات دولية على غرار مؤتمرات ومسابقات تحفيظ القرآن، وحبذا لو كان ذلك في مدينة الرسول الكريم المدينة المنورة صلّى الله عليه وسلّم.
الثمرات المرجوة:
إن لتنفيذ هذه الخطوات وتحقيق تلك الطموحات السالفة الذكر ثمارا عديدة نجملها فيما يلي:
1- رفع الوعي العام بأهمية موضوع مكارم الأخلاق لدى شعوب العالم كافة والشعوب الإسلامية بوجه خاص، ويترتب على ذلك تحسين مستوى التعليم ووضع مبادىء التربية الإسلامية في المكان اللائق بين مختلف النظم التربوية في العالم، وسوف تكون الصفات الكريمة التي تضمنتها الموسوعة مجالا خصبا لإعداد المقالات والنشرات في الصحف اليومية والمجلات والبرامج الثقافية في الإذاعة والتليفزيون، ونحو ذلك وهي بذلك تسد ثغرة في المكتبة الإسلامية بما تتيحه من وجود مصدر موحد ومرجع شامل يوفر للمرء كل ما يحتاجه ويتمنى معرفته ابتداء من السيرة النبوية وانتهاء بتفاصيل مكارم الأخلاق النبوية.
__________
(1) سبأ/ 28.(المقدمة/32)
2- إن تنفيذ التوصيات سالفة الذكر سينجح بإذن الله في سد هذا الفراغ الكبير في الساحة الثقافية والحضارية، إضافة إلى أنه سيغلق الباب أمام تيارات الانحراف والفساد الوافدة على العالم الإسلامي من الخارج، وفي الوقت نفسه يتصدى للإرهاب الفكري للحركات الضالة التي تتستر باسم الإسلام، ويقف سدّا منيعا أمام حركات الغلو والتطرف التي تسعى إلى طرح نفسها بديلا يملأ الفراغ في الساحة الفكرية والثقافية.
والموسوعة إذ تقدم البديل الأمثل المتمثل في مكارم أخلاق سيد الخلق محمد صلّى الله عليه وسلّم وما يدعو إليه الدين الحنيف من المحبة والألفة والتسامح والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، تيسر بإذن الله السبيل لمن أراد أن يدعو إلى نبذ العنف ومحاربة الجهل والظلم وخاصة جهل الإنسان لدينه ولنفسه، وظلمه لها أو للآخرين.
3- إن تواجد هذه البرامج بقوة على الساحة الدولية سيساعد كثيرا في تحسين مستوى الدعوة إلى الإسلام وتحسين صورة الإسلام التي يشوهها المغرضون، حيث إنه يمكن عرض قيم مكارم أخلاق الدين الإسلامي بديلا للانهيار الخلقي الذي تعاني منه الكثير من الشعوب ويمكن طرح هذا الأمر ليس في المحافل الدينية فحسب بل على منابر المؤتمرات المتخصصة في مجالات التعليم والطب النفسي والتربية والدراسات الاجتماعية ولقاءات حوار الحضارات بين الأمم.
4- إن سرعة نقل المعلومات وإمكانية التقاطها بيسر وسهولة داخل المنازل عبر شبكة المعلومات (الإنترنت) العالمية ستصبح وسيلة فعّالة لوضع برامج العلوم الإسلامية وخاصة ما يتعلق منها بالأخلاق النبوية الكريمة على قدم المساواة مع بقية العلوم الأخرى، وبذلك تتاح فرصة أكبر لكل تواق إلى المعرفة باحث عن الحقيقة كي يصل إلى غايته بيسر وسهولة وبحمد الله وعونه تم تسجيل عنوان لهذه الموسوعة على شبكة الإنترنت بمسمى «محمد رسول الله» صلّى الله عليه وسلّم، وهذا العنوان المدون في ظهر صفحة مسمى الموسوعة في أول المجلد هو خطوة أولى لتقديم معلومات الموسوعة عالميّا إن شاء الله.
روح الأمل والمستقبل:
أما الثمرة العظمى التي نرجوا قطافها من هذه الموسوعة فهي غرس روح الأمل في مستقبل مشرق يعم العالم الإسلامي، بل العالم كله، إن نحن سرنا على الصراط المستقيم الذي دعانا إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتأسينا بأخلاقه، وإذا كان الله- عز وجل- أخذ ميثاق النبيين بأن يؤمنوا بهذا الرسول وأشهدهم وشهد معهم وينصروه فالأولى بنا الاقتداء بهم، يقول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ* فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ «1» .
__________
(1) آل عمران/ 81- 83.(المقدمة/33)
نصر الله وعد الحق:
لقد وعدنا الله بالنصر المبين إذا نحن نصرناه، باتباع دينه والاهتداء بسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم في تبليغ دعوة الله إلى الخلق وإقامة شريعته، مصداقا لقوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ «1» .
لقد وعد المولى- عز وجل- البشرية كلها بالفلاح والفوز إن هم نصروا رسوله صلّى الله عليه وسلّم واتبعوا النور الذي أنزل معه، يقول الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «2» ، وبذلك يتحقق خروج العالم مرة أخرى من الظلمات إلى النور، من ظلمات الباطل والجهل والانحلال إلى نور الحق والعلم والتمسك بقيم الخلق العظيم.
وطريقنا إلى هذا النصر الموعود كما أوجزه فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين يتمثل في تقوى الله وفي الصدق في كل شيء، والتمسك بالخلق الحميد، ونصرة الله تعالى، يقول فضيلته في إحدى خطبه الجامعة: اصدقوا الله تعالى في عقائدكم وفي نياتكم في أقوالكم وفي أفعالكم، عاملوا الله تعالى كما أمركم أن تعاملوه به، اعبدوه مخلصين له الدين، التزموا شريعته غير مغالين ولا مفرطين، انصروا الله تعالى بالانتصار على أنفسكم الأمارة بالسوء، والتغلب على أهوائكم التي تهوي بكم إلى النار، انصروا الله تعالى بالغيرة لدينه وحمايته والذود عنه، فإن الله يقول: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ «3» .
فيا أمة القرآن، يا أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، يا أمة التوحيد والإيمان، إن هذه الآيات الكريمة وهذه الوعود المؤكدة الصادقة كلام ربكم العليم القدير، القوي العزيز، ولقد صدق الله وعده، وأنجز نصره، وهزم الأحزاب وحده، لقد كان ذلك حينما كانت الأمة الإسلامية قائمة بالشرط المشروط عليها للنصر تؤمن بالله ورسوله وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئا، تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالنصر من عند الله- عز وجل- لأنها تؤمن بأن لله وحده عاقبة الأمور، لا ترهب الأعداء ولا تخاف من قواهم المادية، وإنما تقابل عددهم بشجاعة عددهم بما هو أقوى وأعتى، وأفكارهم وتصرفاتهم الماكرة بما هو أدهى وأنكى، ممتثلين بذلك أمر الله- عز وجل-:
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ «4» . معتمدين في ذلك على الله- عز وجل-: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ «5» .
مؤمنين بقول من بيده ملكوت السماوات والأرض وهو يجير ولا يجار عليه إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ
__________
(1) الحج/ 40.
(2) الأعراف/ 157.
(3) النور/ 55.
(4) الأنفال/ 60.
(5) آل عمران/ 159.(المقدمة/34)
يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ «1» ، «2» .
شكر وتقدير:
نتقدم بخالص الشكر والتقدير لصاحب الفضيلة الدكتور الشيخ/ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين عضو هيئة الإفتاء- الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، الذي تفضل بقراءة هذه الموسوعة وهي في صورتها الأولية وقدم لها في كلمة وافية عن الإسلام ومكارم الأخلاق والدعوة قال فيها: «ولا شك أنه جهد كبير وعمل واسع، يستدعي بذل الوسع، والحرص على الاستقصاء، ولذلك استغرق الجمع والبذل والكتابة فيها وقتا طويلا رغم توافر الجهود، وكثرة الباحثين، حتى أنتجوا هذا العمل المشكور الذي يرجى نفعه إن شاء الله للمبتدئ والمحتذي، والراعي والرعية، والفرد والمجتمع، فلقد أراحو طالب المشكور الذي يرجى نفعه إن شاء الله للمبتدئ والمحتذي، والراعي والرعية، والفرد والمجتمع، فلقد أراحو طالب الاستفادة من كثرة العناء في البحث والتنقيب في أمهات كتب الأحكام، وكتب الفضائل وكتب الآداب، وكتب الأوامر والنواهي والزواجر ونحوها، وأحالوا القارأ إلى الأماكن التي توسع مؤلفوها في تلك المسائل بإيراد النقول والآثار والعلل والأحكام والمنافع والمضار، فنوصي طالب العلم بالحرص على اقتناء مثل هذه الموسوعة الطيبة المباركة، ومراجعتها عند الحاجة والاستفادة منها، وشغل أوقات الفراغ بمطالعة ما تيسر من الأبواب والمسائل، فهي مرجع أساسي للدعاة والمصلحين، والخطباء والوعاظ، والمفتين والقضاة واللغويين وغيرهم، فلفضيلته منا ومن بقية العاملين بالموسوعة خالص الشكر والتقدير والامتنان على ما قدمه من اهتمام ورعاية حفظه الله ورعاه.
كما أننا نتقدم بالشكر وافرا وجزيلا لمعالي الدكتور الشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي وزير الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، لما تفضل به معاليه من اطلاع على الموسوعة وإشادته بأهمية الدعوة إلى الإسلام ومكارم الأخلاق في تقريظه لهذه الموسوعة التي قال فيها: «إن هذه الموسوعة عمل علمي مبارك، وجهد موفق في سبيل الفضيلة تأصيلا وتطبيقا» . وقال معاليه: «والناظر في هذه الموسوعة، يدرك لأول وهلة، أنها من أوليات ما تحتاج إليه الدعوة إلى الله، فهي تيسر خلق الإسلام وهديه أمام المسلم، وتظهر جانبا هامّا مما ورد في القرآن الكريم من العلوم والمعارف، وهو جانب الأخلاق، الذي جعله الرسول صلوات الله عليه وسلامه من أوليات رسالته وأهداف بعثته» . فجزاه الله عنا خير الجزاء، وجعل ذلك الاهتمام بالموسوعة في ميزان حسناته، ووفقه دائما إلى ما فيه صالح الإسلام والمسلمين.
كما نتقدم بخالص الشكر والامنتان للأساتذة الأفاضل رؤساء اللجان وأعضائها جميعا ومن شارك في إعداد هذه الموسوعة بدون استثناء على ما بذلوه من إخلاص وجهد ووقت في سبيل إنجاز هذا العمل، وخاصة فضيلة الدكتور الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام وعميد كلية الشريعة بجامعة أم
__________
(1) آل عمران/ 160.
(2) الضياء اللامع، محمد صالح بن عثيمين، ص 367- 368.(المقدمة/35)
القرى سابقا، إذ تبنى فضيلته هذه الموسوعة وأشرف عليها منذ كانت فكرة حتى صارت عملا علميّا متكامل الأركان وثيق البنيان، وندعو الله العلي القدير له بمزيد من الصحة والتوفيق والنجاح في خدمة الإسلام والمسلمين.
كما نشكر الأستاذين الفاضلين أ. د. علي خليل مصطفى أبو العينين رئيس لجنة المراجعة والضبط، وأ. د.
عبد الفتاح عبد العليم البركاوي رئيس اللجنة اللغوية على ما بذلاه من جهد مشكور في إعداد هذه الموسوعة وإخراجها على النحو اللائق، كما نشكر الأخ الكريم أ. د. حسام الدين قوام الدين حسن السامرائي على جهوده في إعداد السيرة النبوية، ونتقدم بالشكر أيضا إلى الأخ الفاضل الأستاذ فؤاد محمد نور أبو الخير الذي تابع هذا العمل منذ اللحظات الأولى، كما نشكر أعضاء فريق الحاسب الآلي على ما بذلوه من جهد جبّار لا يعرف الكلل أو الملل في تنضيد وتصحيح الموسوعة، إنهم حقا الجنود المجهولون الذين قضوا الساعات الطوال خلف أجهزة الحاسوب في سبيل إخراج هذه الموسوعة على هذه الصورة المشرقة، ونخص منهم بالذكر الأساتذة: توني نجيب زيدان أحمد، وطارق علي بيومي، وهاني محمد عبد ربه.
أما على المستوى الشخصي فإني أقدم خالص شكري وعظيم تقديري لكافة الإخوة والأصدقاء الذين أمدوني بالتشجيع طيلة هذه السنوات التسع، وأخص في هذا المقام زوجتي وأبنائي الأعزاء الذين صبروا وعانوا كثيرا بسبب غيابي عن المنزل وبقائي أسيرا- لساعات طوال- في مكتبي مع بقية أعضاء فرق العمل بين الورق وأمهات الكتب، فلهم مني أطيب تقدير وخالص الامتنان، وأتوجه إلى العلي القدير بأن يحفظهم ويرعاهم هم وعامة إخواني وأخواتي من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وأن يجعلهم جميعا من المقتدين برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن أصحاب نضرة النعيم في الدنيا والآخرة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ...
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن ملّوح جدة- المملكة العربية السعودية في العشرين من شعبان سنة 1418 هـ.
الموافق 21 من ديسمبر سنة 1997 م(المقدمة/36)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تقريظ لمعالي الدكتور: عبد الله بن عبد المحسن التركي
وزير الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد المملكة العربية السعودية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه، والتابعين، والعاملين بهديه وسنته، إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فإنه منذ ظهرت رسالة الإسلام، وفي حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم، تأسست قواعد الدعوة إلى الله تعالى، وظهرت أصولها، وتنوعت أساليبها، على هدي الوحي الإلهي، في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
إن دعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، كما أرادها الله، هي ختام الوحي الإلهي، الذي بلّغه خاتم الأنبياء إلى البشر، وهي الدعوة التي تخاطب الناس جميعا الأفراد والأمم والشعوب، إلى آخر الدهر.
يقول جلّ شأنه: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً «1» .
وقد جاءت في القرآن الكريم قواعد الدعوة، وتحددت مناهجها، في مخاطبة العقول والقلوب والنفوس.
يقول تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «2» .
وكان الرسول صلوات الله عليه وسلامه في حياته الشريفة، وبالتكريم الإلهي له، قدوة للمسلمين جميعا، وأسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر.
لقد وصفه الله تعالى في جميع أقواله وأفعاله وأحواله بأنه على خلق عظيم، يقول تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «3» . وهو الرحمة المهداة إلى البشر وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «4» .
__________
(1) سورة الأعراف: آية 158.
(2) سورة النحل: آية 125.
(3) سورة القلم: آية 4.
(4) سورة الأنبياء: آية 107.(المقدمة/37)
فالدعوة إلى الله رحمة للخلق في أهدافها وغاياتها. وهي تحتاج إلى الرحمة في ترغيب الناس فيها، وتقريبهم منها، ولذلك كانت الرحمة التي أودعها الله في قلب نبيه ورسوله للناس جميعا، أعظم عون للرسول في جمع الناس على الهدى، والاعتصام بحبل الله المتين.
ففي القرآن الكريم: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ «1» .
وعلى هذا الهدي الإلهي، في الكتاب والسنة، سار أئمة الدعاة في كل عصر من عصور الإسلام.
وكان انتشار الإسلام في أقطار الأرض كلّها نتيجة جهدهم وثمرة اتباعهم للهدي الإلهي في تبليغ الدعوة، ومخاطبة العقول، وتزكية النفوس.
وكان من أئمة الدعاة إلى الله في مختلف الأزمنة والأمكنة، القراء والفقهاء والعلماء، والصالحون من الناس.
وكان لكل منهم أثر كبير في هداية الخلق، ببيان كلمة الله، وإظهار حكمه وشرعه، وبضرب الأمثلة في حسن الأدب مع الله، والاتباع لما دعا إليه الدين من مكارم الأخلاق في التعامل مع الناس.
وهذا الجانب الأخير كان له أعظم الأثر في انتشار الإسلام بين الأمم، فإن المسلم حين يظهر بين الناس بأخلاق الإسلام وهديه، يكون قوله وفعله الذي يتأسى فيه بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، من أعظم الوسائل في الدعوة إلى الله، ومن ثم يكون الاقتناع والاتباع.
إن إكمال مكارم الأخلاق يعد من أعظم المهمات، وأهم الغايات في رسالة الإسلام.
يقول عليه الصلاة والسلام: «إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» «2» .
* وأخلاق الرسول صلّى الله عليه وسلّم هي الأخلاق التي بينها ربنا جل وعز، ودعانا إلى اتباعها في القرآن الكريم، وقد أدركت ذلك، وشهدته رؤية عين، أقرب الناس إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، في أقواله وأفعاله وأحواله، أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- فلم تجد وصفا يبين عظمة أخلاق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، إلا بنسبة هذه الأخلاق إلى الوحي الإلهي، في كماله وجلاله. فقالت: «كان خلقه القرآن» «3» .
* ولذلك، فإن الخير كل الخير في أن تكون أخلاق الرسول صلّى الله عليه وسلّم في عظمتها وشمولها، معروفة للمسلمين جميعا، ليكون الاتباع، ولتظهر الأسوة الحسنة، في حياته الشريفة، التي أرادها الله لنا مثلا في حياة الإنسان، وتعامله مع الناس على هدى الإسلام.
__________
(1) سورة آل عمران: آية 159.
(2) رواه مالك في «الموطأ» (2/ 904) بلاغا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال ابن عبد البرّ: هو متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة رضي الله عنه وغيره، وانظر «كشف الخفاء» للعجلوني (1/ 244. 245) رقم (678) .
(3) قطعة من حديث رواه أحمد في «المسند» (6/ 91 و163) والبيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 499) وهو حديث صحيح. والحديث في صحيح مسلم في الوتر، وفي فضائل النبي صلّى الله عليه وسلّم.(المقدمة/38)
وهذا الجانب من جوانب الدعوة، له أهميته البالغة في هذا العصر بالذات، وفي كثير من البلاد الإسلامية.
* إن الموسوعة التي بين أيدينا، «نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم» تتناول جانبا هامّا من جوانب الدعوة إلى الله تعالى، وإرشاد الخلق إلى ما فيه سعادة الدارين، وهي موسوعة تربوية تتعهد النفوس بالإصلاح والتزكية على الأساس الخلقي القويم، من الخلق النبوي الكريم، وتضع أمام المسلمين على اختلاف الشرائح العمرية والثقافية نموذجا حيّا للخلق الإسلامي، من الهدي القرآني، ومن السنة النبوية، قولا وفعلا وحالا.
وقد اجتهد واضعو هذه الموسوعة، في جمع فضائل الرسول صلّى الله عليه وسلّم، كما وردت في المنقول الصحيح في عشرات الكتب والمراجع، لا سيما كتب السيرة والسنة النبوية، كما ورد فيها ما نهى عنه الله ورسوله، من مذموم الأقوال والأفعال والأحوال.
* وقد سلك واضعو الموسوعة، في تبويبها وترتيبها بحسب موضوعاتها، طريقة تحقق الفائدة واليسر معا.
فرتبوا الصفات والسجايا والفضائل، ترتيبا هجائيّا، ولا شك أن ذلك اقتضى منهم جهدا علميّا كبيرا، يظهر في سلامة هذا الترتيب ودقته، الذي تظهر فيه القيم الإسلامية الكبرى، وما يندرج تحتها من أفعال الرسول وصفاته وسجاياه صلّى الله عليه وسلّم، مما يعد تعليما وإرشادا للمسلمين، وأسوة حسنة لهم في كل ما يأتونه، وما يتجنبونه من أقوال وأفعال وأحوال.
كما تقدم هذه الموسوعة زادا علميّا لكثير من المسلمين، وتيسر البحث والمعرفة في هذا المجال على المتخصصين في الدراسات الإسلامية.
وتنفع الأئمة في المساجد والوعاظ، في حلقات الوعظ والإرشاد، بما اشتملت عليه من معرفة الفروق الدقيقة بين صفات وأفعال تستحب من المسلم، ربما تبدو متماثلة مع ما بينها من فروق دقيقة أوضحتها الموسوعة، كالفرق بين(المقدمة/39)
الاستعاذة والاستعانة والاستغاثة، والفرق بين الابتهال والدعاء، والفرق بين التفكر والتدبر والتذكر، وبين الحنان والعطف، وغير ذلك مما عرضت له الموسوعة، ببيان معناه لغة أو اصطلاحا، وبيان ما يتفرع منه إلى أنواع كالأدب، وجمعت الموسوعة، هذه الصفات والسجايا من الأصلين العظيمين، القرآن الكريم وسنة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأضافت إليهما ما ورد من آثار بشأنها، فردت كل صفة وسجية وفضيلة إلى أصلها القرآني، أو مثلها الأعلى في التطبيق النبوي.
* والناظر في هذه الموسوعة، يدرك لأول وهلة، أنها من أوليات ما تحتاج إليه الدعوة إلى الله، فهي تيسر خلق الإسلام وهديه أمام المسلم، وتظهر جانبا هامّا مما ورد في القرآن الكريم من العلوم والمعارف، وهو جانب الأخلاق، الذي جعله الرسول صلوات الله عليه وسلامه من أوليات رسالته وأهداف بعثته.
وبهذا يظهر تميز الأمة الإسلامية ببنائها الأخلاقي. هذا البناء الذي يعتبر جانبا جوهريّا وهامّا من الدين، ومنهجا إسلاميّا كاملا في السلوك.
* إن هذه الموسوعة، عمل علمي مبارك، وجهد موفق في سبيل الفضيلة، تأصيلا وتطبيقا، فجزى الله القائمين عليها خيرا، ونفع بعملهم هذا المسلمين.
وإنه لمن دواعي سروري واغتباطي، أن أكتب كلمة عن هذه الموسوعة، بناء على طلب الأخ عبد الرحمن محمد بن ملوح، المدير العام لدار الوسيلة للنشر والتوزيع، شاكرا له ولجميع العاملين فيها، والمشرفين عل إعداد الموسوعة، وفي مقدمتهم معالى الأخ الفاضل الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد، إمام الحرم المكي وخطيبه، جهدهم الكبير.
أسأل الله أن يجزل مثوبتهم، ويكتب عملهم في سجل حسناتهم.(المقدمة/40)
إنه عمل يستحق الشكر والتقدير والثناء على كل من تعاون فيه.
أسأل الله أن ينفع بهذه الموسوعة أبناء المسلمين، وأن يجعل القدوة والأسوة الحسنة في حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم قريبة منهم، ومثلا أعلى لهم، يظهر ذلك في تعاملهم مع بعضهم، ومع الناس كافة، وهي الغاية التي يسعى إليها الدعاة إلى الله تعالى في كل زمان ومكان. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. عبد الله بن عبد المحسن التركي وزير الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية(المقدمة/41)
تقريظ فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين
عضو هيئة الإفتاء- الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا وأرسل الرسل إلى الخلق مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، أحمده سبحانه وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في إلهيته وأفعاله وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي هدى الله به الأمة من الضلال وأرشدهم به من الغواية وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته ومن سار على نهجه واتبع هداه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد ... فإن ربنا جل وعلا لما أوجد هذا الكون بما فيه من عجائب المخلوقات كان من بين من خلقه نوع الإنسان الذي ميزه بالعقل والإدراك وفضله على كثير من خلقه كما قال تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا «1» وكان من آثار هذا التكريم والتفضيل أن خصهم بالتكليف فأمرهم بعبادته وطاعته ونهاهم عن معصيته ومخالفته، وأرسل إليهم الرسل وأنزل الكتب لبيان شرائعه التي كلف بها عباده وشرح لهم دينه الذي فرض عليهم اعتناقه، وختم أولئك الرسل بنبينا محمد بن عبد الله الهاشمي النبي الأمي صلّى الله عليه وسلّم وجعل شريعته خاتمة الشرائع، وكان من لوازم ختم النبوة به أن عمم رسالته إلى الأحمر والأسود والعربي والعجمي والجن والإنس والقاصي والداني ومن آثار ذلك أن جعل دينه صالحا ومناسبا في كل زمان ومكان، وقد ضمن الله تعالى لهذه الشريعة الظهور، ولأهلها التمكين والنصر والغلبة بجميع أنواعها قال الله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً «2» ولقد صدق الله وعده- وهو لا يخلف الميعاد- فأظهر المؤمنين الصادقين في صدر هذه الأمة ونصرهم على أعدائهم، ومكن لهم في البلاد حتى انتشر هذا الدين وظهر وغلب على سائر الأديان، ونصر الله أهله وقواهم به قال تعالى وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «3» وقال تعالى إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
«4» فجند الله هم أهل شريعته ودينه. ولهم الغلبة بالسيف والسنان، وبالحجة واللسان، وذلك أن ربهم معهم يؤيدهم ويقويهم إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ «5» ثم إنه تعالى تضمن لأهل هذه الشريعة الحياة السعيدة الطيبة والراحة والطمأنينة وسرور القلب ونعيمه في هذه الحياة الدنيا قبل الآخرة، فقال تعالى مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ «6» والواقع أكبر دليل
__________
(1) سورة الإسراء: آية 70.
(2) سورة النور: آية 55.
(3) سورة المنافقون: آية 8.
(4) سورة الصافات: آية 173.
(5) سورة آل عمران: آية 160.
(6) سورة النحل: آية 97.(المقدمة/42)
وشاهد على تحقق ذلك، فإن أهل الإسلام كلما سلمت عقائدهم وصلحت أعمالهم وأحوالهم وابتعدوا عن الكفر والشرك والمعاصي وتبرءوا من الكفار وأعمالهم وأخلصوا دينهم لله تعالى فإنهم يحيون في هذه الدنيا في أعظم الراحة والسرور ويغتبطون بدينهم ويقتنعون بما رزقهم الله، وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ويرضون ويسلمون لقضائه وقدره، ذلك أن هذه الشريعة الإسلامية فيها الهدى والرشاد ودين الحق الذي تضمنته رسالة هذا النبي الكريم قال الله تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ* «1» والهدى هو البيان والدلالة والإرشاد بمعنى أن من اتبعه كان مهتديا سائرا على النهج القويم والصراط المستقيم الذي لا يزيغ من سلكه على حد قوله تعالى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى «2» وذلك يدل بوضوح أنه مشتمل على كل ما تمس إليه حاجة البشر مما يتعلق بعباداتهم وقرباتهم وبمعاملاتهم وشئون حياتهم، وذلك من وصف هذه الرسالة بالهدى ودين الحق فإن الحق ضد الباطل، وهذا وصف مطابق للواقع لأن كل ما جاء به هذا الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام حق وصدق بعيد كل البعد عن اللهو والباطل والفساد بل مشتمل على كل قول يدحض أي باطل ويدمغه كما في قول الله تعالى بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ «3» فلا بد أن هذا الدين الحق قد اشتمل على كل خير ودل الأمة على ما هو الأصلح لهم في معاشهم ومعادهم وأوضح لهم المنهاج القويم الذي يؤدي بمن سلكه إلى النجاة في الدنيا والآخرة.
وقد وصف الله كتابه المنزل على هذا النبي الكريم بأنه هدى وشفاء قال الله تعالى وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «4» وهذه الأوصاف الشريفة الرفيعة تقتضي أنه مشتمل على كل خير وأن الشريعة التي اشتمل على بيانها واضحة المنهاج كاملة في أهدافها ومقاصدها وحاجاتها، كما تقتضي من كل المخاطبين اعتناقه وتقبل كل تعاليمه والسير على نهجه وشدة التمسك به رغم ما قد يحصل من عوائق أو ضيق حال أو أذى أو تعذيب في سبيل هذه الشريعة الغراء وذلك ما عمل به الرعيل الأول وصدر هذه الأمة حتى ظفروا بالمطلوب وحصلوا على خيري الدنيا والآخرة.
__________
(1) سورة الصف: آية 9.
(2) سورة طه: آية 123.
(3) سورة الأنبياء: آية 18.
(4) سورة الإسراء: آية 82.(المقدمة/43)
لقد بين الله تعالى في هذا القرآن أصول الدين وأشار إلى مسائله وقال في حقه وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ «1» فعموم قوله تعالى تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ يصدق على أصول الأحكام وأسس العقائد وقواعد الدين وهذا هو السر في وصف الدين بالكمال قال الله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «2» وهذه الآية نزلت في حجة الوداع في آخر حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد تضمنت أن هذا الدين قد كمله الله وأتمه وأكمل الشرائع والأدلة وسائر الأحكام فقد بين الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم ما يلزم العباد من الطاعات والقربات التي هي حقوق الله عليهم فبين لهم أولا أنه ربهم ومالكهم، ولفت أنظارهم إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من الآيات وعجائب المخلوقات التي فطر الله جميع الخلق على الاعتراف بأنها صنعه وإبداعه كقوله عز وجل أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً «3» . وقوله أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها «4» الآيات ... إلخ وقوله: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ «5» ونحو ذلك، ثم بين لهم حيث أقروا بأن ما في الكون كله لله، فهو الخالق المنفرد بإيجاد المخلوقات أنه وحده
__________
(1) سورة النحل: آية 89.
(2) سورة المائدة: آية 3.
(3) سورة المرسلات: آية 25.
(4) سورة النازعات: آية 27.
(5) ق: آية 6.(المقدمة/44)
المستحق لأن يفرد بالعبادة، فلا يجعل له شريك في الدعاء أو الرجاء أو التوكل أو الخضوع والركوع والسجود أو غيرها من أنواع العبادة، بل على الخلق أن يخصوه بكل أنواع التذلل والإخبات، وأن ينيبوا إليه ويعظموه حق التعظيم، لأنه ربهم وهم ملكه وعبيده وهو المنعم عليهم المتفضل عليهم بجزيل الإنعام، فمتى صدوا عنه وأعرضوا عن عبادته فقد كفروا بربهم وبدلوا نعمة الله كفرا وصرفوا لغيره خالص حقه، لذلك دعا الله العباد إلى عبادته وحده لا شريك له، وكرر الأمر بذلك وأبدى وأعاد في ذلك وضرب لهم الأمثلة، وبكّت أولئك المشركين وبين حال ما عبدوه من دون الله وأنها مخلوقة مثلهم ولا تملك لأنفسها شيئا فضلا عن عابديها كما وصف نفسه عز وجل بصفات الكمال ونعوت الجلال التي تتضمن إحاطته بالمخلوقات، وعلمه بالأول والآخر وسمعه وبصره المحيط بالقاصي والداني، وكل وصف يقتضي عظمته وكبرياءه وقر به من العباد، ووصف نفسه بالأولية والبقاء والدوام والفضل والإنعام ونحو ذلك مما يستلزم خضوع العباد له، وإنابتهم إليه وإخلاص الدين له، ولما كانت العبادة مجملة لا دخل للعقل في معرفة مفرداتها وأمثلتها تضمن شرع الله ورسالة رسوله بيانها وإيضاح أنواعها فبين لهم العبادات البدنية كالصلاة والصوم والحج والجهاد والاعتكاف في المساجد ونحوها وشرح لهم جميع متعلقاتها وأركانها وشروطها وصفاتها التي تكون بها مجزئة تبرأ بها الذمة وتسلم من العهدة، كما بين لهم النوافل منها، ورغبهم في الإكثار من القربات التي يترتب عليها جزيل الثواب، وهكذا حثهم على العبادات القولية؛ فأمرهم بذكره ودعائه تضرعا وخفية، وبتلاوة كتابه، وبالدعوة إلى دينه، كما أمر بأداء العبادات المالية، فأخبرهم بما يجب عليهم في أموالهم من زكاة ونذر وصدقة ونفقة، وبما لهم من الثواب إذا تبرعوا له بشيء من أموالهم فأنفقوه في سبيله، وهكذا أوضح لهم سائر القربات التي هي حقه على العباد، وبها يتحقق وصفهم بالعبودية له وحده. ولم يقتصر على هذا القدر من البيان بل تطرق إلى أمورهم المالية الأخرى، وأوضح لهم وجوه المكاسب ومداخل الأموال، وما يحل منها وما لا يحل وحرم عليهم الكثير من المعاملات التي تحتوى على ضرر بالغير، من مكر ورشوة وربا وغش وسرقة ونهب وغصب إلخ ... وأباح لهم سائر المكاسب التي لا شبهة في حلها وهكذا تطرق إلى بقية الأحكام المالية فأوضح ما يحل منها وما لا يحل ولم يقف البيان الشرعي عند هذا الحد، بل بين الله في رسالة رسوله صلّى الله عليه وسلّم أحكام العقود التي لها صلة بالغير من المسلمين أو غيرهم كعقد الذمة والأمان والصلح والمعاهدات. وعقد النكاح وملك اليمين وما يتصل بذلك للحاجة الضرورية في هذه الحياة إلى أمثال ذلك، وهكذا أيضا شرع الحدود والعقوبات البدنية والمالية لما لها من الآثار الملموسة في استتباب الأمن واستقرار الحياة، فلما كان من طبع الإنسان- إلا من عصم الله- الميل إلى الشهوات والملذات ولو محرمة أو إلى الأشر والبطر أو إلى الظلم والاعتداء أو إلى السلب والنهب والسرقة والاختلاس ونحو ذلك فلو ترك هؤلاء وميولهم لاختل الأمن وعدمت الطمأنينة في الحياة وانتشرت الفوضى، وأصبح الضعيف نهبة للقوي، وسيطر الظلمة الطغاة على البلاد والعباد، وأعلنوا كفرهم وبغيهم وفجورهم، بدون خوف أو مبالاة، فكان من حكمة الرب جل وعلا أن شرع من الزواجر والعقوبات ما يقمع أهل الشرور والمعاصي، فمن ارتد عن دينه وكفر بعد إسلامه لم يقر على ذلك بل حده القتل بكل حال إن لم يتب عن ردته، ومن تعاطى السحر أو الشعوذة أو عمل الكهانة ونحو ذلك شرع قتله قبل أن يستشري فساده في البلاد مما ينافي حكمة الرب تعالى، ومن بغى على إمام المسلمين وخرج عن طاعته وفارق جماعة المسلمين لزم قتاله بعد الدعوة(المقدمة/45)
والمراجعة وبيان أنه إن مات كذلك مات ميتة جاهلية، كما أمر عز وجل بالصلح بين الطائفتين المقتتلتين وقتال الباغية منهما حتى تفيء إلى أمر الله، وأخبر أنهم مع هذا التقاتل لم يخرجوا عن الأخوة الإيمانية، وهكذا كتب القصاص كما في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى «1» كما كتبه على أهل التوراة في النفس فما دونها، قال تعالى وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ «2» وبين الحكمة والمصلحة في شرعية ذلك كما في قوله تعالى وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ «3» فأخبر أن في شرعية القصاص حفظ النفوس حيث إن القاتل متى تذكر أنه سيقتل أحجم وارتدع عن القتل فتقل هذه الجريمة ويحصل الأمن على الحياة، وهذا هو السر أيضا في شرعية الجزاء الرادع للمحاربين لله ورسوله الذين يسعون في الأرض فسادا وهم الذين يقطعون الطريق ويعترضون سابلة المسلمين في الأسفار لأخذ الأموال أو هتك الأعراض ونيل الشهوات المحظورة شرعا قال الله تعالى إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ «4» وكل ذلك للحفاظ على أرواح الأبرياء والإبقاء على نفوسهم ليهنئوا بالعيش وتقر أعينهم في هذه الحياة ويبعد عنهم كل ما يكدر صفو عيشهم وأمنهم واستقرارهم، فمن ثم يتفرغون للعلم والعمل والتفقه فيما يلزمهم لربهم من الحقوق والعبادات وليقوموا بالواجبات فيما بينهم. وهكذا أيضا تضمنت الشريعة الإسلامية الزجر الشديد عن جرائم الذنوب وكبائر الفواحش كالزنا وشرب الخمر وقذف الأبرياء المحصنين وسرقة الأموال ونحو ذلك فإن جريمة الزنا فاحشة كبرى وفعلة شنعاء تستبشعها النفوس الأبية، وتنفر منها الطباع السليمة الرفيعة، لما فيها من انتهاك الحرمات، وإفساد الفرش واختلاط الأنساب وتفكك الأسر ويسبب ميل الزوجة عن زوجها إلى الأخدان الخائنين في السر، والتقصير في حق الزوج وفي إصلاح بيتها وتربية أطفالها ورعايتها لمن استرعاها الله من أهل بيتها ونحو ذلك من الفساد، ومثل ذلك وأعظم يقع في حق الزوج متى وقع في تعاطي هذه الفاحشة النكراء، فلا جرم أن كانت عقوبة الزنا في هذه الشريعة أعظم من غيرها حيث شرع رجم الزاني أو الزانية مع الإحصان بالحجارة حتى الموت ليتم الزجر والقمع لتلك النفوس المريضة بالشهوة البهيمية، وخص المحصن بالرجم حيث إنه قد كفر النعمة وعدل عن الحلال وتعاطى الحرام برغم ما فيه من إفساد فرش الناس وتعريض زوجته للعهر والميل إلى فعل هذه الفاحشة مع غيره ونحو ذلك من المفاسد بخلاف غير المحصن فإن عقوبته الجلد والتغريب وهي دون الرجم بالحجارة لخفة ذنبه بالنسبة للمحصن لقوة الغلمة والشهوة التي قد تغلبه فيضعف إيمانه وتصديقه بالوعيد عن قمعها فتعرض نفسه الأمارة بالسوء فيقع في هذه الجريمة، وهكذا أيضا عاقب الذين يرمون المحصنات عقوبة شديدة في الدنيا والآخرة فقال عز وجل وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً
__________
(1) سورة البقرة: آية 178.
(2) سورة المائدة: آية 45.
(3) سورة البقرة: آية 179.
(4) سورة المائدة: آية 33.(المقدمة/46)
وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ «1» وهذه عقوبات عاجلة وقال تعالى عن عقوبتهم الآجلة إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «2» الآيات، ذلك أن مقترفي هذا الفعل والذنب الكبير يقدحون في الأنساب وينتهكون الأعراض البريئة، وينشرون لأولئك الأبرياء سمعة سيئة تقشعر منها الجلود، وتنكس منها الرءوس حياء وخجلا مع بعدهم عن تلك الجرائم المزعومة ونزاهتهم عن اقترافها فكانت عقوبة من قذفهم بها الجلد ورد الشهادة، والحكم عليهم بالفسق الذي هو الخروج عن العدالة والطاعة مع استحقاقهم للعن وهو الطرد، والإبعاد عن رحمة الله، وللعذاب العظيم في الدار الآخرة، ونحو ذلك مما يكون زاجرا لهم عن الكذب والافتراء على المؤمنين والاستهتار والهتك للأعراض فيأمن الناس ويطمئنون في حياتهم وتتم بينهم المودة والإخاء وتزول العداوة والشحناء، مما يكون سببا للتقاطع والتدابر والتهاجر الذي جاء الشرع بالنهي عنه وتحريمه، لما يترتب عليه من المفاسد العظيمة من اختلال الأمن، ووقوع الفتن، وتسلط الأعداء ونحو ذلك، وكما شرع تعالى عقوبة وحدّا مانعا لمن تعاطى شرب المسكرات بعد أن أوضح تحريم الخمر وما فيها من المفاسد فقرنها بالأنصاب وهي الأصنام وأخبر بأنها رجس أي نجس وقذر حسّي أو معنوي وأنها من عمل الشيطان فهو الذي يزينها ويدعو إلى الوقوع فيها ويوقع بسببها بين المسلمين العداوة والبغضاء ويصدهم بتعاطيها عن ذكر الله وعن الصلاة رغم ما فيها من إزالة العقل الذي هو ميزة الإنسان وفضيلته، فبزواله يكون دون البهائم والسفهاء، ويتصرف تصرف المجانين والمعتوهين، فيهلك الحرث والنسل ويضر بالأنفس والأموال والأهل والأولاد، وما إلى ذلك من المفاسد الكبرى التي تنتج عن تعاطي المسكرات والمخدرات، ولا يقتصر ضررها على الجاني وحده؛ بل يلحق بالمجتمع أجمع إلا ما شاء الله، فلا جرم أن جرّمه، جاء في السّنة جلد شارب الخمر بما يزجره كأربعين جلدة أو ثمانين إن لم ينزجر بالأربعين، بل ثبت في السنة الأمر بقتله إذا أدمن ذلك ولم ينزجر بتكرار الجلد؛ ففي هذه العقوبات والوعيد الشديد عليها ما يكفي في الكفّ عنها وما يحفظ للعقول سلامتها ويبقي بذلك على سلامة التفكير؛ ويكفل للأمة أمنها ورخاءها وسلامتها من الأضرار والشرور الوخيمة والإبقاء على عقول البشر لتصرف تفكيرها فيما يعود عليها وعلى غيرها بكامل الخير والمصلحة وذلك أكبر مثال على كمال هذه الشريعة وتضمنها لمصالح العباد، وهكذا أيضا شرع عقوبة السارق بقوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «3» ذلك أن السارق يهتك الأستار والحروز ويكسر الأقفال ويتسلق الحيطان، ويصعب التحصن والتحرز من شره وضرره، فكانت عقوبته قطع يده، تلك اليد الآثمة المتعدية الظالمة حيث إن جنايته تتوقف على العمل باليد غالبا فكان بقاء هذا العضو المعتدي مما ينشر الوباء ويخل بالأمن والاطمئنان على الأموال المحترمة التي لها وقع في النفوس فأخذها عدوانا وظلما مما يوقع الخوف والقلق في القلوب؛ فشرع إزالة هذا العضو الذي ينشر الوباء والمرض العضال بين الناس، وكما اشتمل الشرع على هذه العقوبات والزواجر التي يحصل بتطبيقها كمال الأمن ورخاء العيش، فقد شرع عقوبات أخرى غير مقدرة بعدد أو نوع تسمى تعزيرا وتأديبا يعاقب بها من اقترف ذنبا أو ارتكب كبيرة لا حد فيها، مما يتعلق بالأديان أو الأبدان أو الأموال، وتتفاوت تلك العقوبات بتفاوت الجرائم والمجرمين، وكل هذه العقوبات- مقدرة أو غير مقدرة- تتضح فيها حكمة
__________
(1) سورة النور: آية 4.
(2) سورة النور: آية 23.
(3) سورة المائدة: آية 38.(المقدمة/47)
الشرع الشريف ويتضح لكل ذي قلب سليم أنه دين سماوي جاء بتحصيل المصالح وتكميلها وإلغاء المفاسد وتقليلها. كما أنه أيضا تعرض لشرح الآداب والأخلاق الرفيعة وحثّ على الاتصاف بالسمات الشريفة التى فطرت القلوب على استحسانها وحب من تخلق بها والنفور من أضدادها ومقت أهلها وبغضهم والبعد عنهم، فإن الله تعالى فطر الخلق على استحسان السمات الطيبة التي وجدت أو بعضها قبل الإسلام كأغلب خصال الفطرة التي ذكرها النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة وانتقاص الماء ... إلخ» «1» وفي الباب أحاديث كثيرة بهذا المعنى وهذه الخصال يستسيغها العقل السليم ويشهد بملاءمتها له لذلك يحافظ العقلاء على تطبيقها، وإنما يخالفها من انتكست فطرته فاستقبح الحسن واستلذ القبيح فلا عبرة بهذا الضرب من الناس ولو كثروا أو زعموا المعرفة والإدراك، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، وبالجملة فإن احتواء الشريعة الإسلامية على هذه الخصال يفيد كمالها وانتظامها لكل ما يستحسن عقلا وشرعا ولكل ما تتوقف عليه الحياة الطيبة في هذه الدار، كما أن الشريعة لم تتوقف على تبيين العبادات والقربات كما قد يظن ذلك الكثير من الناس؛ بل تعرضت لإيضاح الأمور العادية وأوضحت الصفة الكاملة لاستعمالها، ففي باب الأكل تعرض الشرع لبيان الهيئة المحمودة في ذلك؛ فنهي عن الاتكاء حال الأكل كفعل من يريد الامتلاء من الطعام، وشرع الأكل باليمين تفاؤلا باليمن والبركة، وبالغ في النهي عن الأكل بالشمال تشبها بالشيطان وأعوانه، كما جاء بالأكل بثلاثة أصابع إلا لضرورة. فإن الأكل باليد كلها قد يوجب ترادف الطعام على مجراه فربما أفسده وسبب الموت فجأة، وذلك من باب رعاية نعم الله وإحسان جوارها، وهكذا شرع أن يأكل كل فرد مما يليه ونهى عن الأكل من وسط الصحفة، وعلل ذلك بأن البركة تنزل وسط الطعام، كما أمر بالاجتماع على الطعام وذكر اسم الله عليه وحمده بعد الشبع، ونحو ذلك مما فيه تذكير بعظيم منة الله في تيسيره لأسباب ذلك، ومما يسبب مع الصدق حلول البركة فيه حالا ومآلا، وهكذا جاء بآداب الشّرب المتضمنة لجمّ فوائده والمستحسنة عقلا وشرعا، فنهى عن التنفس في الشراب والنفخ في الطعام كراهة أن يصحبه شيء من الريق فيقذره على غيره، وأمر بالتنفس ثلاثا خارج الإناء، وبمص الشرب دون العب بقوة، وعلل ذلك بأنه أهنأ وأبرأ وتعرض للأواني التي لا يباح استعمالها في الأكل والشرب كآنية الذهب والفضة وتوعد متعاطيها أشد الوعيد لما فيها من الفخر والخيلاء والإسراف وكسر قلوب الفقراء، وهكذا شرع للأمة آداب التخلي «2» وإن كانت مما يحتشم من ذكره، ومن الأشياء التي تلزم الإنسان بحكم العادة ولكن لها آداب وأحكام تدخل بها في عموم الشريعة الإسلامية، وكذا آداب اللبس والخلع فجاء باستحباب لبس البياض من الثياب وأباح غيرها إلا ما استثنى، وأحب لباس القمص ولبس غيره من الأزر والأردية والسراويلات ونحوها، ونهى عن الخيلاء والإسبال في الثياب وبالغ في الوعيد على أهل الخيلاء والترفع على الناس، وأحب أن يرى الله آثار نعمته على عبده في اللباس ونحوه، ونهى عن المشي في نعل واحدة، وحث على التيامن في لباس الثوب والنعل ونحو ذلك وحرم أنواعا من اللباس كالحرير لما فيها من الإسراف والتبذير، وتعجل الطيبات في الدنيا،
__________
(1) أخرجه مسلم ربك (261) في الطهارة: باب خصال الفطرة عن عائشة رضي الله عنها.
(2) أي الآداب المتعلقة بقضاء الحاجة من التبول ونحوه.(المقدمة/48)
وكذلك تدخل الشرع في آداب النوم والجلوس والمشي والسفر وفصل أحكام ذلك وأدخل الجميع في جملة الشريعة الإسلامية. هذا وإن مما يدل على كمال هذه الشريعة اشتمالها على الحث والترغيب في الأخلاق الشريفة والآداب الرفيعة وتنفيره عن أضدادها. فقد رغب في الصدق مع الله ومع عباده فهو السمة العالية التي يحبها كل عاقل من مسلم وكافر ويثق الجمهور بأهل الصدق ويحسنون معاملتهم ومعاشرتهم، كما جاء بالزجر عن الكذب وجعله من سمات أهل النفاق الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. وهكذا أمر بالصبر على أداء العبادات وإن ثقلت على بعض النفوس، وأفاد أن الأجر على قدر النّصب، ونهى عن إعطاء النفس ما تميل إليه بمجرد طبعها من الإخلاد إلى الراحة والكسل، وحثّ على قمع النفوس عن تعاطى المحرمات شرعا وبيّن أن صبر النفس عن ميلها إليها فيه ثواب كبير لمن جاهد نفسه وصبر عن تناول ما حرم ربه عليه، كما أن ربنا تعالى جعلنا في هذه الدار عرضة للأخطار والمصائب ابتلاء منه واختبارا ليظهر من يرضى ويسلم ويصبر على أقدار الله، ممن يجزع وتضعف نفسه عن تحمل الصبر والاحتساب، فوعد الصابرين بالأجر الكبير والثواب العظيم بخلاف من جزع ودعا بالويل والثبور فإنه مع فوات أجر المصيبة لا يفيده جزعه ولا يرد فائتا.
وهكذا جاء الإسلام أيضا بإباحة متع الدنيا مع الاقتصاد في ذلك، مما يدل على كماله وتدخله في شئون الناس ومعاملاتهم لبيان الهيئة الرفيعة من أنواع اكتساب المال وإنفاقه، فحثّ على الحرف والصناعات واكتساب المال من وجوهه المباحة للتعفف عن سؤال الناس، وإظهار الفاقة أمامهم مما يضعف النفس ويسقط الهيبة. كما حثّ على القناعة بما رزق الله العبد من ضيق أو سعة، وأخبر بأن الغنى غنى النفس وأن ما أخذ بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذ بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، وأوضح أن اليد العليا خير من اليد السفلى، ونحو ذلك من الشيم الرفيعة التي تبعث في النفوس الرضا عن الله في ما وهبه للعبد من سعة أو ضيق ويكون بما في يد الله أوثق منه بما في يده فلا يستكثر ما قدمه لأخيه وأعطاه لفقير، أو محتاج أو وهبه لابن سبيل، أو في سبيل الله حيث أيقن بأن ربه يحب منه ذلك وأنه يخلفه له بخير منه عاجلا أو آجلا، فهان عليه ما بذله لله من صدقة وصلة رحم وقرى ضيف ووقف على جهة بر ونحو ذلك من صفات أهل الكرم والسخاء، والجود بما في اليد ثقة بالله وطواعية له بل إنه قد يواسي بما في يده أو يؤثر على نفسه كما وصف الله تعالى حال الأنصار وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ، ولكنه جاء مع ذلك بالحث على الاقتصاد وشدد في ذم المسرفين وأهل التبذير وإفساد المال وإنفاقه في الباطل أو فيما لا فائدة فيه وأخبر بأن المبذرين إخوان الشياطين، والمراد البذل في الحرام أو ما هو ضار قادح في الدين أو التعدي في الإنفاق في الشهوات والملذات فوق الحاجة مما يتضمن الإتلاف للأموال في غير طريقها. وهكذا جاء الشرع الشريف مرغّبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات؛ فحثّ على اختيار الرفقاء الصالحين، ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر، كما أن القصد الأعلى من هذا الاختلاط نصحهم عموما، وهدايتهم إلى سبل السلام، ودلالتهم على كل ما يعود عليهم بمصلحة في دينهم ودنياهم، وإعانتهم على البر والتقوى، وأمرهم بكل معروف ونهيهم عن المنكرات شرعا وعرفا، وهكذا جاءت الشريعة بالشفقة على الخلق ورحمتهم وأنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله وإذا(المقدمة/49)
اشتكى رأسه اشتكى كله وشبهوا بالبنيان يشد بعضه بعضا، وكان من آثار ذلك قضاء حوائجهم وتفريج كرباتهم، وكل ما فيه جلب الراحة والطمأنينة لهم، مع الحرص على إزالة الوهن، والتقاطع الذي يحصل بينهم لتصفو القلوب وتحصل لهم راحة النفس في هذه الحياة، وحث على بر من له زيادة حق لقرابة أو جوار فأمر ببر الوالدين وصلة الأرحام وحسن الجوار وصدق المؤاخاة والشفقة على الأولاد وما يتبع هذا البر والإحسان من نفقة ومواساة وإيثار وطاعة وخدمة بقدر المستطاع، كما حذر أشد التحذير من الإساءة إلى الوالدين وعصيانهما، وقطيعة الرحم، بل أخبر بأن من وصل الرحم وصله الله ومن قطعها قطعه الله، كما أمر الإنسان بالصبر على ما يناله من جفوة أقاربه وإساءتهم، وأخبر بأن حق الأبوين لا يسقط ببقائهما على الكفر، فأمر بصحبتهما بالمعروف، ولكنه نهى عن التنزل على رغبتهما في الرجوع إلى الشرك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وجعل العقوق في المرتبة التي تلي الشرك بالله وألحق به من يتسبب في جلب الشتم والمسبة لأبويه، وأخبر بأن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم، وحذر من التهاجر بين المسلمين لأجل الحظوظ الدنيوية، لما ينتج عنه من تفرق الكلمة واختلال الأمن وفقدان الثقة بين المسلمين.
ولما كان هناك غالبا أفراد في المجتمع يستحقون زيادة عطف وإحسان لأسباب خاصة. فقد جاءت الشريعة الإسلامية بالحث على برهم ورحمتهم والشفقة عليهم، وحثّهم أنفسهم على الرضا والاستسلام بما قدره الله لهم، وما أصابهم من نقص وعاهة كما ورد في الحديث «إن أهل الجنة كل ضعيف متضعف» «1» وأن عامة من دخل الجنة هم المساكين وقال «2» صلّى الله عليه وسلّم: «ربّ أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره» «3» وحث على كفالة اليتيم ورعايته والرفق به وعلى مراعاة المساكين والمستضعفين والتفطن لأحوالهم والصدقة عليهم وتخفيف ما يجدونه من ضيق وشدة وهمّ وحزن وجعل الجزاء من جنس العمل في ذلك. ففي الحديث «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة» «4» ، ونهى الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم عن طرد المستضعفين من مجلسه وأمره بالصبر معهم في قوله وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ «5» ، ولما رأى بعض الصحابة- رضوان الله عليهم- أن له فضلا على من دونه قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم» «6» ، وكل هذه الخصال من شعائر الإسلام.
ومما يدل على كمال الإسلام واشتماله على كل مصلحة وخير ونفع للأفراد والجماعات، أن الشرع الشريف حث على الشيم والأخلاق النبيلة التي تعترف العقول بمعرفتها وتشهد بحسنها وحسن آثارها وما لها من الأثر الفعال في النفوس مما يوافق مقصد الشريعة، وكما أمر بالتواضع ولين الجانب سيما مع الضعفاء والخاملين والمساكين، ونهى عن ضد ذلك من التكبر والتجبر واحتقار المسلمين وازدرائهم، ومن الإعجاب بالنفس والترفع على الخلق، وفسر الكبر
__________
(1) رواه البخاري برقم (8/ 4921) في تفسير سورة ن والقلم، ومسلم رقم (2853) في صفة الجنة-: باب النار يدخلها الجبارون عن حارثة بن وهب رضي الله عنه.
(2) كما رواه مسلم في صفة الجنة باب النار يدخلها الجبارون عن أبي سعيد ورواه البخاري ومسلم في الرقاق عن أسامة بن زيد.
(3) رواه مسلم في البر والصلة- باب فضل الضعفاء عن أبي هريرة.
(4) رواه البخاري في المظالم باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه ومسلم في البر والصلة والترمذي في الحدود عن ابن عمر.
(5) سورة الكهف: آية 28.
(6) رواه البخاري في الجهاد- باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب عن مصعب بن سعد قال: رأى سعد أن له فضلا ... إلخ.(المقدمة/50)
بأنه بطر الحق وغمط الناس، فإن الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، كما في قوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «1» ، وكما في الحديث «إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد» «2» بل أخبر بأن التواضع لعباد الله سبب للرفعة وعلو الرتبة عند الله وعند الناس وقال «حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه» «3» . فهذه إشارة إلى كمال الشريعة وإلى ما اشتملت عليه من الخصال الحميدة والأخلاق والآداب الرفيعة التي تسمو بمن تخلّق بها إلى أرفع المنازل وما حذرت منه هذه الشريعة من الأخلاق الدنيئة الذميمة، التي تدنس الأعراض وتوقع في العار والشنار، ولقد أكثر العلماء قديما وحديثا من الكتابة حول خصال الإيمان والدين التي تجب أو تستحب، وسموها آدابا شرعية وخصالا دينية، وأدخلوا في ذلك العادات القديمة التي أقرها الإسلام أو أثنى على فعلها كالجود والكرم والصدق والوفاء والبر والصلة والسلام والتحية والتراحم والتعاطف والتزاور ونحوها، وقد توسع في ذلك ابن عقيل الحنبلى في كتابه المسمى بالفنون، حيث جمع فيه ما أدركه من فنون العلم بجميع أنواعه ولكنه لم يوجد كاملا، وقد ألف الكثير من الأئمة في الأخلاق والآداب، وشعب الإيمان، وهكذا كتبوا في الخصال المذمومة وكبائر الذنوب وأنواع المعاصي والمحرمات، وكل من ألف في ذلك فإنما كتب ما يناسبه ولكل مجتهد نصيب. ولا شك أن شريعة الإسلام قد تضمنت كل ما تمس إليه الحاجة البشرية، وأن جميع الخصال التي تهدف إليها يعرف عند التأمل ملاءمتها ومناسبتها، ولذلك يحتاج إلى الاستقصاء في جمع أنواع العبادة، وما ورد الأمر به من القربات، وما نهى عنه مما يخالف أهداف تلك الخصال، وذكر أدلتها من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، مع ذكر معانيها ونتائجها مما يفيد المسلم وطالب الحق علما وسعة اطلاع.
هذا وقد اطلعت على مقدمة هذه الموسوعة الكبيرة التي احتوت على ما أمكن جمعه من أنواع القربات وأسماء العبادات، وأسماء ما يضادها وما ينهى عنه، وأعجبت كثيرا حيث استوعبت ما أمكن إيراده من خصال الخير والأخلاق والقربات، وكل ما ورد له ذكر في الشريعة من تلك الأسماء التي استعملها الرسول صلّى الله عليه وسلّم بوحي من ربه، وبين المراد بها وفائدتها وأثرها، وحيث رتبت على الحروف ترتيبا محكما لا خلل فيه ولا خطأ، وبدأ بالتعريف لكل خصلة بذكر معناها اللغوي والشرعي، وبيان ما يدخل فيها شرعا وما تتضمنه، ثم بذكر الآيات التي وردت فيها لفظا أو معنى، وكذا ذكر الأحاديث المرفوعة مع تخريجها بدقة واستيفاء، مع ذكر مواضع تلك الأدلة ومراجعها، وهكذا ذكر الآثار الواردة في مدح تلك الخصلة وفائدة العمل بها أو تركها ومضرة المخالفة فيها وما إلى ذلك مما يجده القارئ في هذه الموسوعة، ولا شك أنه جهد كبير وعمل واسع، يستدعي بذل الوسع، والحرص على الاستقصاء، ولذلك استغرق الجمع والبذل والكتابة فيها وقتا طويلا رغم توافر الجهود، وكثرة الباحثين، حتى أنتجوا هذا العمل المشكور الذي يرجى نفعه إن شاء الله للمبتدئ والمحتذي، والراعي والرعية، والفرد والمجتمع، حيث يجد الطالب فيها بغيته، ويعثر على مطلبه بأيسر الوسائل وفي أسرع وقت، فيستفيد في نفسه ويتزود من العلم النافع ما يكون زادا له في دار الدنيا ويوم
__________
(1) سورة الحجرات: آية 13.
(2) رواه مسلم في الجنة باب الصفات التي يعرف بها أهل الجنة وأهل النار عن عياض بن حمار المجاشعي.
(3) رواه أبو داود في الأدب باب في كراهة الرفعة في الأمور عن أنس.(المقدمة/51)
المعاد، فإن بحث عن العبادات والقربات وجد طلبته، فيجد في باب العقيدة الإيمان والإخلاص والاعتصام والإسلام والإحسان والتوكل والخوف ونحوها، ويجد أنواع التوحيد كالدعاء والرجاء والاستعانة والإنابة، والتوبة والاستغفار وما أشبهها، ويجد من الأعمال الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وما يلحق بها، وهكذا ما يتعلق بحقوق العباد كالبر والصلة والصدق والسخاء وأشباه ذلك، وهكذا إن أحبّ معرفة المحرمات والمنكرات كالشرك والقتل والزنا والسرقة والكذب والربا والإلحاد والبغي والكبر وما يلحق بها، فجزى الله من فكر في جمع هذه الموسوعة أحسن الجزاء، فلقد أراحوا طالب الاستفادة من كثرة العناء في البحث والتنقيب في أمهات كتب الأحكام، وكتب الفضائل وكتب الآداب، وكتب الأوامر والنواهي والزواجر ونحوها، وأحالوا القارأ إلى الأماكن التي توسع مؤلفوها في تلك المسائل بإيراد النقول والآثار والعلل والأحكام والمنافع والمضار، فنوصي طالب العلم بالحرص على اقتناء مثل هذه الموسوعة الطيبة المباركة، ومراجعتها عند الحاجة والاستفادة منها، وشغل أوقات الفراغ بمطالعة ما تيسر من الأبواب والمسائل، فهي مرجع أساسي للدعاة والمصلحين، والخطباء والوعاظ، والمفتين والقضاة واللغويين وغيرهم، ولا شك أن الفائدة كبيرة حيث يتزود هؤلاء من الآيات القرآنية التي تتعلق بذلك الموضع ولو بالمعنى، وكذا الأحاديث النبوية والآثار والنقول والفوائد فالمطالع لتلك المسائل لا بد أن يكون لديه حصيلة وافرة يظهر أثرها في أعماله وأقواله، ويتعدى ذلك إلى ولده وجليسه، ويزداد دائما علما وفهما، ومع ذلك فلا بد من حسن المقصد، وإصلاح النية في القراءة والاستفادة والإرشاد والتعليم، فبذلك تكون الجهود مفيدة والأعمال مقبولة، هذا وإني أشكر الأخ عبد الرحمن بن محمد بن ملوح الذي أتاح الفرصة لكتابة هذه الصفحات في مقدمة هذه الموسوعة مع اعترافي بالقصور والضعف في الإنتاج، ولكن ذلك من باب المساهمة في فعل الخير، وأعرف باطلاعي على هذه الموسوعة ما وصل إليه الأخ عبد الرحمن ومن ساعده في إبراز هذا الجهد، وما هو متمتع به من الفكر والإدراك، والغوص على درر المعاني وإبراز المعلومات، ومعالجة الأمور التي تمس إليها الحاجة، ويحصل منها النفع العام للصغير والكبير والذكر والأنثى، في زمن كثرت فيه العوائق وانشغل الأبوان بشئون الحياة، وأكب الجهال والعوام على الملهيات والخرافات واستصعبوا نيل المعلومات، وإخراج المسائل، وتحصيل الفوائد، ولعل في شغلهم بهذه العلوم النافعة ما يكون منبها لهم إلى الرجوع قليلا حتى يعرفوا ويتصورا ما بذله الأولون من جهود جبارة في رصد العلوم وتدوينها، وتقريبها وتهذيبها وأنهم حازوا قصب السبق، فيقبلوا على العلم والاستفادة، ويتبعوا العلم بالعمل الصالح، فهو الثمرة والنتيجة المطلوبة، والله الموفق والمعين، ونسأله سبحانه أن ينفعنا بما علمنا، ويعلمنا ما ينفعنا، ويرزقنا جميعا الفهم عنه والإخلاص له في الأقوال والأعمال، ونسأله أن يمكن لنا ديننا الذي ارتضاه لنا ويصلح أحوال المسلمين، ويولي عليهم خيارهم، ويعز الإسلام والمسلمين، ويذل الكفر وأهله إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
10/ 11/ 1416
هـ.
كتبه عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين(المقدمة/52)
تقديم فضيلة الشيخ الدكتور/ صالح بن عبد الله بن حميد
إمام وخطيب المسجد الحرام وعميد كلية الشريعة بجامعة أم القرى سابقا المنهج العلمي للموسوعة الحمد لله الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، أرسله على حين فترة من الرسل وحاجة من البشر، بعثه بالدلائل الواضحة والحجج القاطعة والبراهين الساطعة. أيقظ به العقول من سباتها وصرف به النفوس عن أهوائها فكان صلّى الله عليه وسلّم بإذن ربه مصدر خير ومبعث نور وشمس هداية، بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ودعا إلى الحق، فصلوات الله وسلامه وبركاته عليه حيّا وميتا أفضل صلاة وأطيب سلام وأزكى بركة. نشر الله محبته ورفع في أعلى عليين درجته وصلى ورضي على آله وأصحابه وورثة هديه من العلماء العاملين والدعاة المصلحين الذين فقهوا دين الله وأدركوا مراميه وفهموا مقاصده واستنوا بهديه وعملوا بأحكامه ودعوا إليه بالحكمة والموعظة الحسنة وبذلوا أنفسهم ونفيسهم فهدى الله بهم العباد وفتح على أيديهم البلاد.
أما بعد فإن أولى ما اختاره الإنسان لنفسه بعد إيمانه بربه أن يكون مرتاضا بمكارم الأخلاق ومحاسنها متجافيا عن سيئها متنزها عن سفسافها آخذا في جميع الأحوال بالفضائل، عادلا في كل أفعاله عن طرق الرذائل، يجعل مقصده اكتساب كل شيمة سليمة من المعايب، ويصرف همته إلى اقتناء كل خيم «1» كريم خالص من الشوائب، يبذل جهده في تجنب كل خصلة رديئة ويستفرغ وسعه في اطراح كل خلة ذميمة، فيحوز الكمال بتهذيب خلائقه، ويكتسي حلل الجمال بدماثة شمائله.
وإن المبتديء في تطلب هذه المرتبة والراغب في بلوغ هذه المنزلة ربما خفيت عليه الخلال المستحسنة التي يعنيه تحريها وقد تلتبس عليه الصفات المستقبحة التي غرضه توقيها.
ويزداد الغموض ويغلظ اللبس في هذه العصور المتأخرة التي تعيش الأمم في أغلبها حياة مادية مظلمة يتنكرون فيها للدين ويسخرون من القيم، ابتلوا فيه بما ينهك الروح ويرهق الأعصاب، إيغال في التقدم المادي مظلم وحضارة عند العقلاء حمقاء، انفلت فيها زمام العقل والخلق، وطغت في جنباتها ظلمات الإلحاد وانطفأ في
__________
(1) خيم: خلق ووصف.(المقدمة/53)
أرجائها نور الإيمان وانحسرت القيم الخلقية فلم يعد لها في موازين الناس حساب.
من المؤسف حقّا أن تكون هذه هي الصورة في أغلب مجتمعات اليوم وشعوبه إلا ما رحم ربنا.
ولكن الإسلام دين الله الحق- قرآنا وسنة- قد جعل لمهمة تهذيب الأخلاق وتزكية النفوس واكتساب الفضائل مكانة كبرى ورتبة عليا ومقاما ساميا.
ولا بد في هذه المقدمة من وقفات مع الإسلام ونبي الإسلام، نوضح فيها هذا المقصد من خلال النظرة القرآنية ومقاصد البعثة المحمدية.
إن من حق قرآننا علينا أن نتدبر معانيه وأن نفهم مقاصده. ففيه ما يدل على هذه الأخلاق وتهذيبها ويرشد إلى الآداب الإسلامية واكتسابها، فهي أمور محكمة وآداب لكل خير جامعة.
ذلك أن القرآن هو كتاب الله الخالد ومعجزة رسوله الباقية ونعمته السابغة وحجته الدامغة وهو ينبوع الحكمة وآية الرسالة ونور الأبصار والبصائر وبحر لا يدرك غوره ولا تنفد درره ولا تفنى عجائبه ولا تقلع عن الغيث المدرار سحائبه ولا تنقضي آياته. أنزله ربنا لنقرأه تدبرا ونتأمله تبصرا ونسعد به تذكرا ونحمله على أحسن وجوهه ومعانيه ونجتهد في إقامة أوامره ونواهيه وكلما ازدادت البصائر فيه تأملا زادها هداية وتبصرا. أنزله ربنا وصرّفه وعدا ووعيدا وأمرا ونهيا وترغيبا وترهيبا وتشريفا وسياسة وحكمة وعلما ورحمة وعدلا واشتمل على أصول العقائد وقواعد الأحكام ودعائم الأخلاق.
وهذه إشارة لنموذج قرآني من حشد الوصايا الأخلاقية حثّا على المحمود وتنفيرا من المذموم انتظمت في سورة واحدة وسياق متتابع، يقول سبحانه: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً* وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً* رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً* وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً* إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً* وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً* وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً* إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً* وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً* وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا* وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً* وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا* وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا* وَلا تَقْفُ ما(المقدمة/54)
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا* وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا* كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً* ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً «1» .
إن المتأمل في هذه الآيات القرآنية يدرك غاية القرآن وتركيزه الشديد على بناء الشخصية الإسلامية على أساس من القيم الأخلاقية الرفيعة تركيزا يبتديء من تصحيح العقائد وتطهير النفوس من درن الشرك والجاهلية والتحلي بالعلم الصحيح وتنظيم العلائق الاجتماعية والهداية إلى السداد من القول والعمل.
وهكذا يتجلى القرآن العظيم إرشادا لمحجة وتبصرة لعبرة وتذكرة لمعرفة وإرشادا من غي وبصيرة من عمى وحثّا على تقى وحياة للقلب وغذاء للروح ودواء وشفاء وعصمة ونجاة.
نعم إن إدامة النظر وإطالة التدبر في هذا القرآن العظيم تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغايتهما وثمراتهما ومآل أهلهما وتثبت قواعد الإيمان في قلبه وتشيد بنيانه وتوطد أركانه. هذا عن القرآن.
أما نبي الإسلام محمد صلّى الله عليه وسلّم فمن المعلوم كل العلم أن أي حياة فاضلة لابد لها من رائد كما أن الأحياء الأتقياء لا غنى لهم عن أسوة وقائد. ومن غير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رائد للحياة وقائد للأحياء؟ إنه الموجه إلى الخير الهادي إلى البر الداعي إلى أكرم طريق، هو الرائد الأمين والمبلغ المبين والبشير النذير والسراج المنير، جاء بالدين الحق والإسلام الخاتم والشريعة الخالدة لتنظيم أمر الحياة والأحياء انتظاما كاملا ولضبط العلائق فيما بينهم أفرادا وجماعات وحكاما ومحكومين.
إن الدين الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم عقيدة استعلاء من أخص خصائصها أنها تبعث في روح المؤمن إحساس العزة من غير كبر وعلو الهمة من غير بطر وروح الثقة في غير اغترار وشعورا بالأمان والاطمئنان من غير تواكل.
دين يشعر أتباعه بالمسئولية الملقاة على عواتقهم وتبعة الأمانة في الاستقامة على الحق والدعوة إليه في المشارق والمغارب.
لقد جاء محمد صلّى الله عليه وسلّم بدين الإسلام من عند ربه الذي رضيه وأكمله وأتم به نعمته الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «2» .
وبكماله وتمامه بلغه صلّى الله عليه وسلّم إلى الأحمر والأسود وعلمه أصحابه لتلاميذهم من التابعين في أرجاء الأرض وأقطارها قرنا فقرنا فتلقاه العربي والأعجمي والقريب والبعيد فعرفوا فيه نظام الحياة المتكامل الجامع بين العدل
__________
(1) الإسراء: 23- 39.
(2) المائدة: 3.(المقدمة/55)
والرحمة والحق والقوة وعلى دعائمه قامت أعظم قواعد الأخلاق ومباديء السلوك وفي مثل هذا يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» «1» .
إن الناظر والدارس لهذا الدين يرى ذلك الفيض الغامر وذلك التراث الثر من التربية والتعليم والإصلاح والتقويم في توجيه واسع وشامل في القول والعمل والفرد والجماعة حتى تحقق وصف الله في نبيه صلّى الله عليه وسلّم وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ.
ولقد طال الأمر على المسلمين واشتد مكر أعدائهم فصار كثير منهم إلى حال من المسخ والتشويه والضعف والهوان في رقعة من الأرض ذات اتساع جغرافي وتكاثر سكاني لكنهم يجهلون كثيرا من حقائق الإسلام عقيدة وشريعة وأدبا وخلقا، يعيشون في أمشاج من الأساطير والخيالات وضعوها لأنفسهم بجهالاتهم وبعدهم عن المصدر الحق، وقد يكون منها ما وضعه أعداؤهم من أجل المباعدة بينهم وبين الصحيح من الدين. فاستمرءوا الذل والضعف واستوبئوا «2» العزة والقوة ونزلوا عن كرامتهم وشموخهم الإسلامي ليقتاتوا بقوت متعفن من بقايا موائد الحضارة المادية. وهذا ما حاق بهم في أوطانهم فاستعبدتهم أمم لا تذكر معهم في حساب العد والإحصاء.
وعند النظر والمقارنة بين الواقع والمثال، الواقع المر والمثال النموذجي الأسوة ولأن المصدر باق محفوظ بحفظ الله. فقد توجهت همة بعض الأفاضل والغيورين للقيام بعمل لعله أن يكون من اللبنات الصالحة التي يقوم عليها إعادة بناء الأمة على المنهج الحق. إنه عمل موسوعي في منهج الأخلاق نظرا وتطبيقا. عمل يرجى أن تنعكس نتائجه على ذوي الشأن من المربين والمتعلمين.
عمل حرص على أن يتخذ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأسوة والقدوة، فالمسلمون منذ أن أظلهم الله بظل الإسلام قد شغفوا بجمع كل ما يتصل بنبيهم محمد صلّى الله عليه وسلّم ومكارم أخلاقه وشمائله ثم مضوا يتدارسون هذا الذي جمعوه يفيضون فيه ويستلهمون منه.
وإن متغيرات الحياة وطرائق التفكير المستجدة وتكاثر قنوات المعلومات والمعارف جعلت من العزيز والشاق أن يستفيد طالب الاستفادة من خضم هذا الفيض الغامر. ليخرج بدراسة جامعة منظمة تتسق مع متغيرات العصر وتنظيماته العلمية.
إنها دراسة موسوعية قصد بها توثيق الاتصال بحياة الحبيب المصطفى محمد صلّى الله عليه وسلّم في سيرته والارتباط بمكارم أخلاقه وتجمع له الشتات المتوزع في شتى المصادر والمراجع.
إنها دراسة شاملة تعني ببيان محمود الأخلاق ومذمومها وتشحذ الهمم نحو سمو أخلاقي يحقق أهدافا
__________
(1) أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه ووافقه الذهبي.
(2) استوبؤوا العزة والقوة: أي عدوهما من الوباء.(المقدمة/56)
سامية لعل فيها طريقا للنجاة ومسلكا للخير والسعادة والعزة والقوة.
عمل علمي يرجى أن يسترشد به من كانت له همة سنية تسمو به إلى مباراة أهل الفضل ونفس أبية تنبو به عن مساواة أهل الدناءة والنقص.
وإليك- رعاك الله- بعض التفاصيل عن إعداد هذا العمل وطريقة الاستفادة منه ومراحل تنفيذ هذه الموسوعة:
الموسوعة مصطلح معاصر تعني في مدلولها جمع المعارف في فن معين أو فنون متعددة طبقا لخطة إخراج خاصة تنتج حصيلة ضخمة من المعلومات بين يدي القاريء متخصصا أو غير متخصص على حد سواء.
وثمت خطتان غالبتان لتحرير الموسوعات:
إحداهما: تبني أسلوب تجميع المعلومات حسب وحدة الموضوع بحيث تقدم عرضا شاملا له.
ثانيهما: اعتماد الحروف الأبجدية ومن ثمّ تتوزع المعلومات في خانات وجداول ترتبط بنوع الحرف من غير رعاية لوحدة الموضوع الشاملة.
وقد جرت هذه الموسوعة على الطريق الثاني تمشيا مع طبيعة غرض هذه الموسوعة وتحقيقا لغاية الواضعين.
وهي في ذات الوقت أسهل لتناول القاريء لمواد الموسوعة.
وفكرة الموسوعة وليدة نظر الأخ عبد الرحمن بن محمد بن ملوح، الذي عرضها عليّ فتبلورت الفكرة لدينا، وأخذت مسارها العلمي دراسة وبحثا ومنهاجا وتم وضع المنهج الذي سوف يوصف لك لاحقا.
ولقد مرت الموسوعة في فترة إعدادها بمراحل من الطروحات وألوان من الصعوبات جلبت معها اختلافات في وجهات النظر بين الباحثين في بعض مواقع الدراسة وأساليب البحث ومعالم المنهج ولكنها مع الزمن والخبرة انصهرت لتتبلور في المنهج الذي تراه بين يديك. وما كان ذلك إلا بتوفيق الله أولا ثم الإخلاص وحسن القصد مع اجتماع الإرادة على تقديم عمل نافع للناس وخادم للعلم بإذن الله.
لا سيما إذا علمت- حفظك الله- أن مادتها قد تم استعراضها وقراءتها قراءة متأنية وأعيدت صياغتها أكثر من مرة أمام المشرف والباحثين مجتمعين في جلسات منتظمة. ولا يدّعي معدوها أنها بلغت الكمال، فالكمال لله وحده ولكنها لقيت من العناية والدقة والمتابعة ما يؤكد احترام القاريء والباحث، وإن عملا واسعا مثل هذا لا يسلم من نقد ونظر بل من اختلاف الأنظار فيه ولكن المرجو ممن يجد خطأ أو يستحسن فكرة أن يبعث بها مشكورا مثابا لعله يمكن تلافي النقص ومقاربة التسديد في طبعات قادمة، ورحم الله من أهدى إلينا عيوبنا.(المقدمة/57)
الغاية والهدف:
الغاية المقصودة والهدف المتوخى من هذا العمل يتمثل في جملة من العناصر أهمها:
1- الدلالة على معالي الأمور والإرشاد إلى كريم الأخلاق والتوجيه إلى صواب التقدير وحسن التدبير في بناء الإنسان وعمارة الأرض والقيام بمهمة الاستخلاف.
2- الاستيعاب قدر الإمكان وحسب الطاقة لأصول الأخلاق ومبادئ المكارم بقصد التذكير والتأسى والمراجعة.
3- إبراز لون من ألوان السيرة المحمدية وإظهار الجانب التطبيقي من خلال المأثور من أقوال النبي صلّى الله عليه وسلّم وأفعاله وتقريراته وجبلته.
4- تقريب النصوص والمصادر للمهتمين من العلماء والدعاة والمربين لطريق المنهج الموسوعي حسب ما تقتضيه متطلبات العصر ومتغيراته.
5- دعوة العقل الإنساني بعامة إلى ميادين الفكر الفسيحة في ظل الحقيقة الإسلامية الشاهدة من خلال قيمها الأخلاقية وفضائلها.
أصول البناء في هذه الموسوعة علما ومنهجا:
استغرق العمل في هذه الموسوعة تسع سنين متواصلة وضمت بين صفحاتها وأعمدتها من الصفات ثلاثمائة وإحدى وستين صفة في محمود الأخلاق ومذمومها.
ولقد كانت خطة العمل في هذه الموسوعة طموحة ودقيقة وهي ثمرة مجهودات متضافرة وعمل دءوب تقبله الله بقبول حسن بمنه. واشتملت الخطة وأصول البناء على الخطوات التالية:
أولا: مقدمة عامة في الأخلاق: تعريفها- أنواعها- أهميتها في الحياة الإنسانية.
ثانيا: العناية بإبراز علاقات الإنسان بربه وبنفسه وبغيره.
ثالثا: إبراز الجوانب الأخلاقية في حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقد استدعى ذلك الحديث باختصار عن:
أ- نبذة مختصرة في السيرة النبوية.
ب- إفراد مبحث خاص في فضل الصلاة والسلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
رابعا: إيراد الصفات المحمودة من الأخلاق وضدها من الصفات المذمومة ومحاولة الاستيعاب قدر الطاقة لأصول الألفاظ والمعاني حسبما اقتضتها طبيعة البحث وتوافرت فيه المعلومات، وهذا العنصر هو المقصود الأعظم من هذه الموسوعة.
وقد سلك في كتابة الصفات وصياغتها الخطوات التالية:
1- روعي في الصفات المحمودة والمذمومة ترتبيها على حروف المعجم.(المقدمة/58)
2- استوعبت الموسوعة في كل صفة من صفاتها: التعريف اللغوي والاصطلاحي والنص القرآني، والحديث النبوي، والآثار سواء ما ورد من ذلك باللفظ أو بالمعنى، وما ورد من أقوال المفسرين ومأثور الحكم شعرا ونثرا مما يتعلق بالصفة وملخص لفوائد الصفات المحمودة ومضار المذمومة منها.
وعلى سبيل المثال لا الحصر صفة «التقوى» مثلا سوف ترى في مادتها: تعريفا لغويّا حيث تم الرجوع إلى كتب اللغة المعتمدة في هذا الشأن مثل الصحاح للجوهري، وتاج العروس للزبيدي، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس، والنهاية لابن الأثير، ولسان العرب لابن منظور والمصباح المنير للفيومي، فضلا عن كتب المعاصرين، وأما التعريف الاصطلاحي فيرجع فيه إلى كتب التعريفات مثل تعريفات الجرجاني والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي، إضافة إلى ما في كتب الشروح والأحكام والسلوك، ثم بعد التعريف اللغوي والاصطلاحي أورد الباحثون نقولا تبرز حقيقة التقوى وثمراتها في الدنيا والآخرة ثم بعقب ذلك كله:
- الآيات القرآنية الواردة بلفظ التقوى.
- الأحاديث النبوية الواردة في التقوى لفظا.
- الأحاديث النبوية الواردة في التقوى معنى.
- المثل التطبيقي من حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في التقوى.
- الآثار من أقوال الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان والتي تحث على التقوى وتبشر بموعود الله للمتقين.
- فوائد التقوى.
هذا بالنسبة للصفات المحمودة، أما الصفات المذمومة فتصنف وفق التصنيف الأول باستثناء المثل التطبيقي من حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
3- روعي الاختصار والتركيز في التعريف اللغوي واشتقاقات الكلمة واستعمالاتها.
4- روعي عند التعريف لكل صفة ذكر مرادفات هذه الصفة في الهامش وما اشتملت عليه من مباحث- مثال ذلك:
من الصفات المذمومة «صفة سوء المعاملة» ستجد في هامشها (المعاملة، سوء المعاشرة، سوء معاملة البهائم) » .
5- ذكر في بعض الصفات بعد التعريف اللغوي نقول مهمة تزيد من تعريفها وتوضح المراد منها وتبيّن أقسامها وصلتها بغيرها من المواد.
6- وضع عناوين جانبية لبعض النقول.
7- نظرا لأن العمل موسوعي ومقصوده تقريب المادة للقارىء والباحث، فقد حرص معدّو الموسوعة على إيراد النقول كاملة بنصها من مصادرها ولم يتصرفوا فيها إلا بقدر ما يحفظ الانسجام وترابط المعنى.(المقدمة/59)
8- استوعب معدو الموسوعة جميع الآيات القرآنية التي وردت بلفظ الصفة موضوع البحث ثم اكتفوا بإثبات الآيات التي تغطي جوانب الصفة وتتناسب مع حجمها.
9- عزو الأحاديث إلى مصادرها من دواوين السنّة المشهورة فما كان منها في الصحيحين أو أحدهما فأمره ظاهر ويكتفي به عن العزو إلى غيرهما ما لم يكن اللفظ المستشهد به عند غيرهما وما كان في غير الصحيحين أو أحدهما فقد اعتمد معدو الموسوعة تصحيحات ذوي الشأن والاختصاص من أهل الصنعة الحديثية، علما بأنه إذا نقل عن بعض أئمة أهل الصنعة الحديثية مثل الحافظ الهيثمي أو الحافظ المنذري قولهم في حديث رجاله ثقات أو رجاله رجال الصحيح فإن ذلك لا يعني بالضرورة الجزم بصحة الحديث.
10- صنفت الآيات القرآنية وفقا للمعنى العام الذي تندرج فيه وذلك بالاعتماد على كتب الوجوه والنظائر من ناحية، وكتب التفسير من ناحية أخرى، وقد روعي في كل مجموعة على حدة تسلسل الآيات كما وردت في المصحف الشريف.
11- رتبت الأحاديث وفقا للمنهج العلمي الذي يراعي الأحاديث الواردة باللفظ أولا ثم الأحاديث الواردة بالمعنى ثانيا، وأخيرا الأحاديث الواردة في المثل التطبيقي.
12- قد يرى القاريء أن بعض ما أورد من الأحاديث باللفظ في دلالته على المطلوب بعد، غير أننا أوردناه حرصا على الاستيفاء واحتراما لمشاركة القاريء في الفهم.
13- يذكر الحديث الطويل بتمامه عند أول وروده ثم يكتفي بإيراد الشاهد في المواطن الأخرى مع الإحالة إلى الموضوع الأول.
14- الصفة إذا تكاثرت فيها النصوص وتشعبت فيها المعاني مما لا يقبل علميّا ولا منهجيّا- استيعاب كل ما ورد فيها فإن الموسوعة اكتفت بإيراد حديث في كل فرع أو شعبة (كالطهارة) مثلا، فإن من موضوعاتها وتفريعاتها «الاستنجاء- الوضوء- الحيض» مما استوعبته كتب الأحكام.
15- يلاحظ في الاستدلال في النصوص اللفظية على الصفة أن تكون دالة على المراد مدحا أو ذمّا.
16- أوردنا في كل صفة النصوص التي تفيد الترغيب والترهيب والثواب والعقاب والتي تظهر الفضائل وتنهى عن الرذائل.
17- بعد ذكر الأحاديث التي وردت باللفظ والمعنى في الصفات المحمودة فقط عقبنا ذلك ببعض الأمثلة التطبيقية من حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- إن وجدت-.
18- بيّنا في الهوامش ما ورد في الحديث أو الأثر من الغريب.
19- نقل جميع معلومات الموسوعة بأمانة ودقة حسب الطاقة، ولم يتم التصرف إلا في أضيق الحدود.
20- روعي ترتيب الآثار حسب وفيات من نسبت إليهم.(المقدمة/60)
الخاتمة
وفي الختام وبعد أن استوى هذا العمل على سوقه، لعلك سوف تجد نفسك قارئنا الكريم أمام صورة مشرقة تعكس أصالة ذلك التراث العظيم وتوضح في جلاء أن الشريعة الإسلامية حفلت بقيم خلقية عالية كان لها شأن بعيد وأثر حميد في تربية النفوس وإصلاحها وتقويم الأخلاق وتهذيبها.
لذا كان لزاما على حملة شريعة الإسلام أن يدرسوا الحياة العالمية وأن يعدوا أنفسهم لهذه الدراسة الواسعة العميقة ليتعرفوا على مشكلاتها وأسبابها، وما جد فيها، وعليهم أن يقوموا بالتوجيه الصالح الرشيد بعرض مبادىء الإسلام عرضا جذابا، وحمل رسالة الحق والخير وتأديتها إلى الناس كافة أداءا رغيبا صالحا، يدفع دعوة الإسلام إلى الآفاق الرحبة ويبين سماحتها وسمو مقاصدها، وهذا واجب كل مؤمن بعامة، وواجب العلماء بخاصة، فإذا نهض للقيام بهذا الواجب طائفة فقهت الإسلام وشرائعه. ودارسو الإسلام مطالبون أشد المطالبة بالقيام بعمل جاد قوي حتى تتاح الفرصة من جديد أمام العقل الإسلامي الحائر لفهم الإسلام فهما صحيحا، يعم مشارق الأرض ومغاربها بروح سمح «حنيفي» يقدر الواقع، ويقف معه وجها لوجه يعالجه ولا يتهرب منه.
وكان من أعظم واجبات المسلمين في هذا العصر أن تتضافر جهودهم على إعانة القائمين به حتى تتاح الفرصة لبلوغ أفكارهم غاياتها من قلوب الناس وعقولهم، تحقيقا لإبلاغ الدعوة وأداء لحق الوراثة في هذا التبليغ.
ومرة أخرى فإن معدّي الموسوعة وهم يقدمون هذا العمل الحافل بالنقول لإخوانهم القراء ليدركون الصعوبات التي تكتنف مثل هذه الأعمال العلمية الكبيرة ويؤمنون كل الإيمان بأن العصمة لله وحده ويرجون ويؤملون أن يغتفر لهم القراء ما قد يقعون فيه من قصور أو هفوات غير مقصودة ويرحبون كل الترحيب بإبداء الملاحظات والتصويبات، ومهما يكن من شيء فهم يؤملون أنك ستجد هذه الموسوعة الأخلاقية مرتبطة الحلقات متماسكة الأطراف، ولعلها تغنيك في مراجعة هذا التراث العظيم، كما يؤملون أن تكون هذه الموسوعة من العوامل الفعّالة في تذكير المسلمين بما كان لهم من عظمة ومجد فتبعثهم على التمسك بهذا الدين العظيم «دين الإسلام» نصّا وروحا وحتى تتوحد كلمة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.
سدد الله الخطا وبارك في الجهود وهدى إلى الصواب من القول والعلم والعمل وكفى بربك هاديا ونصيرا.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه صالح بن عبد الله بن حميد(المقدمة/61)
ثراء في الإيمان ... وثروة في لغة القرآن
مقدمة اللجنة اللغوية بقلم: أ. دكتور عبد الفتاح عبد العليم البركاوي
- أستاذ أصول اللغة بجامعة الأزهر وأستاذ الدراسات العليا بجامعة أم القرى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ... وبعد
فإن أصدق تعبير عن هذه الموسوعة هو ما جاء في العنوان الذي اخترناه لهذا التقديم: ثراء، وثروة، فهي تتضمن ثراء إيمانيّا بما تتضمنه من الآيات والأحاديث والآثار والأحكام الشرعية وآداب السلوك، وهي أيضا ثروة في لغة القرآن بما تتضمنه من شرح للمفردات اللغوية الواردة في عناوين الصفات، أو للكلمات الغريبة الواردة في متون الأحاديث، ذلك فضلا عن توضيح المعاني الاصطلاحية لألفاظ الصفات، والكشف عن الفروق الدقيقة بينها.
لقد جاءت مقدمات الصفات متضمنة بحوثا لغوية موجزة تتعلق بأصول هذه الألفاظ وكيفية اشتقاقها، كما تضمنت وجوه استعمال اللفظ في القرآن الكريم اعتمادا على كتب الوجوه والنظائر من ناحية، وعلى كتب التفسير من ناحية أخرى، وهنا كان للجنة جهد بارز يتجلى في تصنيف الآيات القرآنية وفقا لما جاء في المصدرين معا (كتب التفسير، وكتب الوجوه والنظائر) «1» ، وفيما يتعلق بالتعريفات الاصطلاحية لم تكن المهمة سهلة كما قد يتصور للوهلة الأولى، ذلك أن كثيرا منها لم تتضمنه كتب الاصطلاحات المعروفة، وهنا كان الاعتماد على أقوال المفسرين وشراح الحديث واللغويين في استنباط المعنى الاصطلاحي الذي يبرز في هذه الموسوعة للمرة الأولى، هذا بالإضافة إلى التفرقة الدقيقة بين معاني المصطلحات التي قد يظن أنها مترادفة «2» أو متطابقة وهي- في الحقيقة- ليست كذلك مثل التدبر والتفكر والتأمل ونحوها، وبذلك أضافت الموسوعة إلى ما كتبه علماء الفروق «3» إضافات لا يمكن الاستغناء عنها لمن يريد الوقوف على حقائق معاني الأخلاق الإسلامية من ناحية، وعلى دقة اللغة العربية في التعبير من ناحية ثانية، وإذا كانت الأشياء إنما تتميز بأضدادها ويتضح معناها أكثر إذا اقترنت بنظائرها، فقد حرصنا في نهاية كل مقدمة لغوية على أن نشير إلى الصفات المتقاربة التي تدخل مع الصفة المتحدث عنها في نفس الإطار الدلالي وتشكل معها حقلا لغويا واحدا «4» مما يساعد على الفهم الصحيح لكل صفة على حدة، كما أشرنا أيضا إلى الصفات التي تضاد هذه الصفة
__________
(1) كتب الوجوه والنظائر كتب متخصصة في الكشف عن وجوه استعمال اللفظ القرآني في معان عديدة، وأقدم ما وصل إلينا منها كتاب الأشباه والنظائر لمقاتل بن سليمان (150 هـ) . وقد يحدث ذلك في لفظ دون آخر، وقد تتبعنا ما ورد من ذلك في المصادر الأصلية.
(2) يراد بالترادف أن يطلق لفظان أو أكثر للدلالة على معنى واحد مثل: البر والقمح والحنطة، أو مثل السنة والعام والحول والحجّة.
(3) وذلك مثل أبي هلال العسكري في كتابه «الفروق اللغوية» .
(4) تعد نظرية الحقل اللغوي في الدراسات الدلالية من أحدث ما توصل إليه علم اللغة العام، انظر في هذه النظرية وكيفية تطبيقها على اللغة العربية، كتابنا: مدخل إلى علم اللغة الحديث ص 155 (ط. أولى) .(المقدمة/62)
صراحة أو ضمنا، مثال ذلك أن نذكر مع صفة الابتهال صفات: الدعاء- الضراعة- الاستغاثة- الاستخارة- الاستعانة- الاستعاذة على أنها صفات متقاربة، ثم نذكر في ضد ذلك:
الإعراض- الغفلة- اليأس- القنوط على أنها صفات مضادة «1» ، وقد رأينا إتماما للفائدة أن تتضمن الفهارس الفنية فهرسا خاصا لهذه الحقول الدلالية التي تدخل الصفات في أطرها، وأطلقنا عليه فهرس «الإحالايث» نظرا لأنه يساعد قارىء الصفة بإحالته إلى المواطن المشابهة أو المضادة.
إن الجهد اللغوي في هذه الموسوعة قد تضمن أيضا تفسير كثير من آي الذكر الحكيم، كما تناول تفسير الألفاظ والعبارات الغريبة التي وردت في الحديث الشريف، وقد رجعنا في ذلك إلى المتداول من كتب شرح الحديث مثل فتح الباري، وشرح الإمام النووي لصحيح مسلم، وكتب غريب الحديث وخاصة الأمهات منها، ونعنى بذلك غريب الحديث لأبي عبيد (م 224 هـ) ، وغريب الحديث لابن قتيبة (م 276 هـ) ، وغريب الحديث للخطابي (م 388 هـ) ، وأخيرا كنا نرجع إلى الكتب الجامعة في الغريب مثل الفائق في غريب الحديث للزمخشري والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير «2» .
فصاحة الرسول صلّى الله عليه وسلّم:
لقد كان حديثه صلّى الله عليه وسلّم كما يقول الجاحظ: هو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة الكلام، ولم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعا، ولا أقصد لفظا، ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح معنى، ولا أبين في فحوى من كلامه صلّى الله عليه وسلّم «3» .
وقد جاء في صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما ترويه أم معبد- أنه كان إذا «تكلم سما وعلاه البهاء.. حلو المنطق، فصل، لا نذر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن..» «4» ، وقد لفتت فصاحته صلّى الله عليه وسلّم أنظار من كانوا مضرب الأمثال في الفصاحة والبيان حتى قال قائلهم وقد سمع المصطفى صلّى الله عليه وسلّم يجري حوارا مع بعض الصحابة: يا رسول الله ما أفصحك! ما رأينا الذي هو أعرب منك «5» ، وقد فسّر العلماء ذلك بأنه صلّى الله عليه وسلّم «لم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة، وشيد بالتأييد ويسر بالتوفيق» «6» .
__________
(1) انظر على سبيل المثال ص 2 من المجلد الثاني.
(2) المراد بالغريب هنا تلك الألفاظ الغامضة البعيدة من الفهم لقلة استعمالها.
(3) البيان والتبين 2/ 17.
(4) انظر حديث أم معبد كاملا في قسم الشمائل ص (416) .
(5) انظر هذا الحوار الذي نقله السيوطي عن البيهقي في المزهر 1/ 35، ومعنى أعرب منك: أي أفصح منك من الإعراب، بمعنى الإبانة والفصاحة.
(6) البيان والتبيين 2/ 17.(المقدمة/63)
وإذا كان الأمر كذلك فإن لسائل أن يسأل: لماذا كثر الغريب في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟
لقد كان «غريب الحديث» بمعنى: الألفاظ أو العبارات الغامضة الواردة في متون الأحاديث من أسبق علوم الحديث ظهورا، وكان السابق إلى التأليف فيه هو الإمام: أبو عبيدة معمر بن المثنى (م 216 هـ) ، ثم توالى التأليف فيه إلى يوم الناس هذا، وهنا قد يتبادر سؤال إلى الذهن خلاصته: كيف يكثر الغريب في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ مع أن الغرابة عيب يخل بالفصاحة ومع ذلك فقد ثبت أن الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم هو أفصح العرب قاطبة.
إن مناقشة تفصيلية لهذه القضية لا يتسع لها هذا المجال «1» وإنما نكتفي بالإشارة إلى أن الغرابة أمر نسبي يختلف باختلاف الزمان والمكان، كما يختلف باختلاف المتحدّث إليهم، فما يكون غريبا عند قوم قد لا يكون غريبا عند آخرين، وما يكون غريبا في عصر قد يكون هو- لا غيره- أفصح الفصيح في عصر آخر، وإذا طبقنا هذه المعايير على الحديث النبوي الشريف- وقد طبقناها فعلا- على ما أورده أبو عبيد في كتابه «غريب الحديث» لكانت النتيجة «أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يستعمل إلا الواضح المألوف في بيئته، وإلا ما كان مفهوما لمن يتوجّه إليهم بالخطاب، وأن هذا لا ينفي بالطبع أن بعض الألفاظ الحديثية قد قل استعمالها فيما بعد نتيجة لتطور اللغة، كما اتضح أن بعض هذه الألفاظ كانت غامضة المعنى عند غير من يخاطب بها «2» ، وأن ذلك كان هو السبب في إطلاق وصف الغرابة عليها» «3» .
لقد تكفل الإمام الخطابي- رحمه الله تعالى- ببيان السبب الذي من أجله كثر غريب حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: لقد بعث صلّى الله عليه وسلّم مبلغا ومعلما، فهو لا يزال في كل مقام يقومه وموطن يشهده يأمر بمعروف وينهى عن منكر، ويشرع في حادثة، ويفتي في نازلة، والأسماع إليه مصغية، والقلوب لما يرد عليها من قوله واعية، وقد تختلف عنها عباراته، ويتكرر فيها بيانه، ليكون أوقع للسامعين، وأقرب إلى فهم من كان منهم أقل فقها وأقرب بالإسلام عهدا، وأولو الحفظ والإتقان من فقهاء الصحابة يرعونها (كلها) سمعا، ويستوفونها حفظا، ويؤدونها على اختلاف جهاتها، فيجتمع لذلك في القضية الواحدة عدة ألفاظ، تحتها معنى واحد، وذلك كقوله: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر» «4» ، وفي رواية أخرى: «وللعاهر الإثلب» «5» . قال الخطابي: وقد مر بمسامعي ولم يثبت عندي: «وللعاهر الكثكث» .
__________
(1) لقد أفردنا هذه المسألة بالتأليف في كتابنا: الغرابة في الحديث النبوي، دراسة لغوية تحليلية في ضوء ما أورده أبو عبيد في «غريب الحديث» ط. أولى القاهرة 1407 هـ.
(2) مثال ذلك أن يخاطب أحد المغاربة بعض أهله بلهجته المحلية، ويكون أحد السعوديين بجانبه، وفي هذه الحالة يكون كلام المغربي مفهوما لبني جلدته، وغريبا بالنسبة للسعودي، وإذا انتقلنا من الشاهد إلى الغائب اتضح أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يخاطب أبناء القبائل بلهجتهم، وحوله من الصحابة الكرام من لا يفهم هذه اللهجة، وهنا يكون كلامه صلّى الله عليه وسلّم مفهوما للمخاطبين غريبا بالنسبة للصحابي الذي لا يعرف تفاصيل هذه اللهجة.
(3) الغرابة في الحديث النبوي للدكتور عبد الفتاح البركاوي ص 209 (بتصرف) .
(4) أخرجه البخاري 4/ 4، ومسلم 2/ 1080.
(5) رواه أحمد 2/ 179، 207 من حديث ابن عمر.(المقدمة/64)
وقد يتكلم صلّى الله عليه وسلّم في بعض النوازل وبحضرته أخلاط من الناس، قبائلهم شتى، ولغاتهم مختلفة، ومراتبهم في الحفظ والإتقان غير متساوية، وليس كلهم يتيسّر لضبط اللفظ وحصره، أو يتعمد لحفظه ووعيه، وإنما يستدرك المراد بالفحوى، ويتعلق منه بالمعنى، ثم يؤديه بلغته، ويعبر عنه بلسان قبيلته، فيجتمع في الحديث الواحد اذا انشعبت طرقه عدة ألفاظ مختلفة موجبها شيء واحد، وهذا كما يروى: «أن رجلا كان يهدي إلى رسول الله كل عام راوية خمر، فأهداها عام حرمت، فقال: إنها حرمت، فاستأذنه في بيعها، فقال له: إن الذي حرم شربها حرم بيعها، قال: فما أصنع بها؟ قال: سنّها في البطحاء، قال: فسنّها» ، وجاء في رواية اخرى: «فهتّها» ، وفي رواية أخرى:
«فبعّها» «1» . والمعنى واحد» «2» . ويعني هذا أن اختلاف الرواة قد يكون هو المسئول عن غرابة كثير من الألفاظ.
وقال الخطابي أيضا: وبلغني أن أبا عبيد القاسم بن سلام مكث في تصنيف كتابه (غريب الحديث) أربعين سنة يسأل العلماء عما أودعه من تفسير الحديث، والناس إذ ذاك متوافرون، والروضة أنف، والحوض ملآن، ثم قد غادر الكثير منه لمن بعده، ثم سعى له أبو محمد (ابن قتيبة) سعي الجواد إذا استولى على الأمد «3» ، فأسأر «4» القدر الذي جمعناه في كتابنا هذا، وقد بقي من وراء ذلك أحاديث ذات عدد لم أتيسر لتفسيرها، تركتها ليفتحها الله على من يشاء من عباده، ولكل وقت قوم، ولكل نشء علم. قال الله تعالى وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (الحجر/ 21) «5» .
ولله در الخطابي فقد كان الناس فعلا إذ ذاك (أي في الصدر الأول) يفقهون حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم خلف من بعدهم خلف يحتاجون إلى الكتب الطوال التي تشرح غريب حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن هنا كان حرصنا على أن تتضمن الموسوعة بيانا لهذه الألفاظ وشرحا لها مما يغني القارىء عن الرجوع إلى كتب الغريب وشروح الحديث.
لقد كانت طموحات الشيخ عبد الرحمن بن ملوح أوسع من الرجوع إلى كتب الغريب وشروح الحديث.
لقد كانت طموحات الشيخ عبد الرحمن بن ملوح أوسع من أن تقف عند ما أنجزته اللجنتان الأولى والثانية، فكان يشير علينا بين الحين والآخر لإضافة هذه الصفة أو تلك، وكان يتضح عقب إنجاز هذه الصفات مدى الفائدة العظيمة والخير العميم من إضافتها، وكان من ذلك صفات: الإغاثة- الإنذار- الإنصاف- التبليغ- تكريم الإنسان- التوحيد- عيادة المريض- الفضل- كفالة اليتيم- اللين- معرفة الله عزّ وجلّ- الكلم الطيب- المسارعة في الخيرات- النظر والتبصر ... ونحو ذلك من الصفات المأمور بها.
__________
(1) الفائق 3/ 254، 255 وجاء فيه: الثلاثة- يعني السّنّ، والهتّ، والبعّ- في معنى الصب، إلا أن السن في سهولة، والهت في تتابع، والبع في سعة وكثرة، وروى بالثاء، أي قذفها، من ثع يثع، إذا قاء.
(2) غريب الحديث للخطابي 1/ 15.
(3) يشير إلى قول النابغة: «سبق الجواد إذا استولى على الأمد» ، وأبو محمد هو ابن قتيبة. وجاء في اللسان (أمد) : أمد الخيل في الرهان: مدافعها في السباق ومنتهى غاياتها التي تسبق إليه.
(4) أسأر: أي أبقي شيئا قليلا.
(5) غريب الحديث الخطابي 1/ 15- 16.(المقدمة/65)
ومن الصفات المنهي عنها: الإحباط- إفشاء السر- الانتقام- التكاثر- التنازع- التناجش- التنصل من المسئولية- التهاون- التبذير- الحقد- الرشوة- الرياء- السخرية- الطغيان- العتو- الغرور- الغش- الغي والإغواء- الفتنة- المجاهرة بالمعصية.
وبالإضافة إلى ذلك فقد كان يشير إلى إضافات مهمة في صفات عديدة يصعب إحصاؤها نذكر منها:
المساواة، وقد أضيفت إلى صفة العدل، والإحصان (بالزواج) ، وقد أضيفت إلى صفة حفظ الفرج لأن الزواج من وسائل ذلك، والعجب، الذي أضيف إلى الكبر، والمصابرة، التي أضيفت إلى الصبر، والشدة التي أضيفت إلى القوة.
وفيما يتعلق بالفهارس فقد بذلت اللجنة جهدا ندعو الله أن يكون موفقا ومباركا فيه، وسنتحدّث عنه وعن كيفية استخدام هذه الفهارس في مقدمة المجلد الثاني عشر بإذن الله تعالى.
لقد اجتهدنا ما وسعنا الجهد في إبراز تلك الصفات في صورة أقرب ما تكون إلى الكمال البشري، أما الكمال المطلق فهو لله تعالى، نسأله- عزّ وجلّ- أن يجعل عملنا هذا خالصا لوجهه الكريم وأن ينفع به إنه سبحانه نعم المولى ونعم النصير.
ولا يسعني في ختام هذه الكلمة إلّا أن أتقدم بالشكر وافرا وجزيلا لأخي وصديقي الشيخ عبد الرحمن بن محمد ابن ملوح على تلك الجهود المباركة التي بذلها في نشر هذه الموسوعة (ولم تكن تلك الجهود مادّيّة فحسب وإنما كانت أيضا جهودا معنوية وعلمية، حثيثة ورائعة، وأن نتوجه إلى المولى عز وجل بأن يجزيه على ذلك خير الجزاء وأن يجعله من أصحاب الحياة الطيبة في الدنيا ومن أهل «نضرة النعيم» في الآخرة إنه سبحانه أكرم المسئولين وأجزل المعطين «1» .
سبحانك ربنا لا علم لنا إلّا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بقلم: أ. دكتور عبد الفتاح عبد العليم البركاوي أستاذ أصول اللغة بجامعة الأزهر وأستاذ الدراسات العليا بجامعة أم القرى مكة المكرمة في العشرين من ربيع الأول 1418 هـ.
__________
(1) لما كان الجزاء من جنس العمل، فإننا ندعو الله- عز وجل- للشيخ والذين ساهموا معه بأن يكونوا من أصحاب نضرة النعيم.(المقدمة/66)
الحياة والنفس الإنسانية بقلم: عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن ملّوح
مؤسس ومدير عام دار الوسيلة للنشر والتوزيع
تمهيد:
الحمد لله الذي خلق فسوى وقدّر فهدى، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.. وبعد:
فقد اشتملت هذه الموسوعة على مكارم أخلاق الرسول صلّى الله عليه وسلّم التي تشكل فيما بينها (منظومة أخلاق متكاملة) تصلح بها أمور الإنسان في الدنيا والآخرة، ولما كان الأخذ بمعالي الأخلاق ومكارمها يستلزم- ضرورة- التخلي عن مذمومها من حيث كونهما ضدان لا يجتمعان، كان لا بد من الحرص على إبراز هذه الأخلاق المذمومة التي نهى عنها الشارع الحكيم، وبذلك تتوفر لقارىء هذه الموسوعة قاعدة علمية شاملة تضم الأمرين جميعا: المأمور به والمنهي عنه في القرآن والسنة، وهنا يتحقق شرط الإلزام الخلقي الأساسي، ألا وهو المعرفة النافية للجهالة «1» .
وبهذه المعرفة تتحدد المعايير الضرورية التي تضبط حركة السلوك الإنساني في هذه الحياة، بيد أن هذه المعرفة وحدها غير كافية، إذ ينبغي على المؤمن أن يربط القول بالعمل، والمعرفة بالسلوك، بحيث لا يكون القول مجرد كلام لا جدوى منه، وتكون المعرفة مجرد إطار نظري لا فائدة منها، ذلك أن اقتران القول بالعمل والمعرفة بالممارسة قاعدة إسلامية أقرها القرآن الكريم في قول الله سبحانه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ «2» .
وقد كانت حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم تجسيدا عمليا لكل ما كان يدعو الناس إليه من مكارم الأخلاق وحميد الصفات فكان صلّى الله عليه وسلّم مثالا يحتذى في عدله ورحمته وبره، وكانت بعثته صلّى الله عليه وسلّم في جوهرها لإتمام هذا الجانب التطبيقي المتمثل في تتميم مكارم الأخلاق، قولا وفعلا، دعوة وممارسة، يقول عليه الصلاة والسلام: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» «3» . و «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» . وربط عليه الصلاة والسلام بين كمال الإيمان وحسن الخلق، فقال: «إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» «4» . ونبه عليه الصلاة والسلام على أهمية سلوك الخير وفعله فقال:
«ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن» «5» .
تكليف الإنسان وابتلاؤه:
لقد كرم الله الإنسان، فخلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وفضله على كثير ممن خلق، وأعطاه نعمة العقل، وزوده بنور الفطرة، وجعل خلقته قابلة للتكليف، إن فعل الخير أثيب، وإن فعل الشر
__________
(1) انظر شروط الإلزام الخلقي وخاصة ما يتعلق بالمعرفة في «النظرية الخلقية عند ابن تيمية» ص 136 وانظر أيضا ص 100 وما بعدها من هذه الموسوعة.
(2) الصف/ 2- 3.
(3) انظر صفة حسن الخلق، حديث رقم (8) .
(4) انظر صفة حسن الخلق، حديث رقم (3) .
(5) انظر صفة حسن الخلق، حديث رقم (15) .(المقدمة/67)
عوقب، وهذا هو مقتضى حمل الأمانة التي قبلها الإنسان وأبت السماوات والأرض أن يحملنها، يقول الله تعالى:
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا «1» .
لقد جعل الله للإنسان هذه الحياة الدنيا دارا أولى يحيا فيها ويعمرها، ليستعين بذلك على عبادة ربه طاعة ومحبة وإخلاصا، ثم ابتلاه بالتكاليف (بالأوامر والنواهي) ليمحصه رحمة منه وفضلا، يقول ابن القيم- رحمه الله تعالى-: «ابتلاء الخلق بالأوامر والنواهي، رحمة لهم وحمية، لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به، ومن رحمته: أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا بها ويرغبوا عن النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إليها بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم «2» » .
قد يظن بعض الناس أن ابتلاء الإنسان بالسراء هو إكرام له لا اختبار طاعة «3» ، ويرى الابتلاء بالضراء هو انتقام هوان أو إهانة، وقد نعى القرآن الكريم على هذا الصنف من الناس ذلك الاعتقاد الباطل ونفاه نفيا حاسما، يقول الله تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ «4» . وقد صحح القرآن الكريم هذا الفهم السيء في الآيات التي تتلو ذلك مباشرة، وأعاد توجيه الأفهام إلى الممارسات الخاطئة الناتجة عن هذا الفهم السيء لحكمة الابتلاء، وهذه الممارسة الخاطئة هي عدم إكرام اليتيم وعدم الحض على إطعام المسكين والاستئثار بالمال ولمه وجمعه دون الإنفاق كما أمر الله، فقال تعالى: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ* وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ* وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا* وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا «5» .
والأمثال في هذا المجال كثيرة في القرآن مثل ما جاء في سور الشمس والبلد والضحى. والحقيقة هي أن الله- عز وجل- يبتلي العباد تارة بالمضار ليشكروا وتارة بالمضار ليصبروا فتصير المنحة والمحنة جميعا ابتلاء، فالمنحة تقتضي الشكر والمحنة تقتضي الصبر، يقول الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ «6» . إن هذا الإنسان المكرم لم يخلق عبثا ولن يترك سدى، يقول الله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ «7» ، ويقول عز من قائل: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً «8» ، ومن ثم فهو محاسب على ما قدمت يداه، إن خيرا فخير وإن شرّا فشر فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «9» ، وقد أخبرنا المصطفى صلّى الله عليه وسلّم عن حدود هذه المسئولية ومجالاتها عند ما قال: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» «10» .
__________
(1) الأحزاب/ 72.
(2) إغاثة اللهفان (2/ 172) وما بعدها (بتصرف) .
(3) فلسفة التربية الإسلامية، ص 172 (بتصرف) .
(4) الفجر/ 15- 16.
(5) الفجر/ 17- 20.
(6) الأنبياء/ 35.
(7) المؤمنون/ 115.
(8) القيامة/ 36.
(9) الزلزلة/ 7- 8.
(10) ذكره المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 396) ، وقال: رواه الترمذي، وهو حسن صحيح.(المقدمة/68)
العلاقة بين الإنسان والحياة:
إذا كانت علاقة الإنسان بخالقه هي العبادة مصداقا لقوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1» ، وعلاقة الإنسان بالكون علاقة تسخير كما في قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ «2» ، فإن علاقة الإنسان بالحياة هي علاقة ابتلاء وتمحيص، مصداقا لقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ «3» . وقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة: أن الله- عز وجل- خلق الموت للبعث والجزاء وخلق الحياة للابتلاء «4» . أما موضوع هذا الابتلاء فهو حسن العمل الذي لخصه الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، في تفسيره للآية بأنه: الورع عن محارم الله والإسراع في طاعته «5» . وتدخل فيه مكارم الأخلاق بأوسع معانيها [انظر الكشاف التوضيحي من (1- 4) و (4 أ) و (4 ب) ] .
بين الابتلاء وحسن الخلق:
إن هذا الابتلاء الذي يعني الاختبار والتمحيص هو المحك الأساسي الذي يجسد الصراع الأزلي بين قوى الخير والشر في النفس الإنسانية، فالنفس المطمئنة ألهمت التقوى والطاعة، والنفس الأمارة بالسوء ألهمت الشر والفجور، ذلك أن النفس المطمئنة تأمر بالخير وتحض عليه، والنفس الأمارة بالسوء تأمر بالشر وتحض عليه، يساعدها في ذلك شيطان مريد يستغل ضعف الإنسان ويزين له فتن الشبهات والشهوات، وبين الاثنين توجد النفس اللوامة التي تشكل صمام الوقاية وتقوم بعملية الموازنة والتصحيح، إذ تلوم على فعل المعاصي من ناحية، وعلى عدم الاستكثار من فعل الخيرات من ناحية ثانية. [انظر الكشاف التوضيحي من (10) إلى (13 أ) ، وكذلك انظر خريطة الابتلاء والنفس الإنسانية بعد صفحة (ع ب) ] .
الأخلاق الكريمة والعبادة:
إن الأخلاق الفاضلة من نحو أعمال القلب والعقل والجوارح واللسان مثل صدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والرفق والرأفة، والدعاء، والذكر، وتلاوة القرآن، وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك، كلها داخلة في مفهوم العبادة، وذلك أن العبادة
__________
(1) الذاريات/ 56.
(2) إبراهيم/ 32- 33.
(3) الملك/ 2.
(4) تفسير القرطبي (18/ 207) .
(5) السابق، الصفحة نفسها (بتصرف) .(المقدمة/69)
هي الغاية المحبوبة لله والمرضية له «1» ، كما قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «2» . وبها أرسل الله جميع الرسل، كما قال نوح لقومه: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ* «3» ، والدين كله داخل في العبادة التي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له «4» ، ومن هنا تكون فضائل الأخلاق ومكارمها داخلة في إطار الدين وركنا أساسيا من أركانه.
إن هذه الأخلاق الإيمانية- كما أطلق عليها ابن تيمية- هي وجه من الوجوه التي يتفاضل فيها الناس فيما يتعلق بزيادة الإيمان ونقصه، يقول- رحمه الله تعالى-: من المعلوم بالذوق الذي يجده كل مؤمن أن الناس يتفاضلون في حب الله ورسوله وخشية الله، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والإخلاص له، وفي سلامة القلوب من الرياء، والكبر والعجب، والرحمة للخلق والنصح لهم، ونحو ذلك من الأخلاق الإيمانية «5» ، ومصداق هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» «6» . [انظر الكشاف التوضيحي (4 أ) ] .
الإيمان ومكارم الأخلاق:
يقول ابن تيمية- رحمه الله تعالى- ما خلاصته: «إذا كان الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، وأنه لابد فيه من شيئين: الأول تصديق بالقلب وإقراره ومعرفته وهذا هو التوحيد، والآخر عمل القلب وهو التوكل على الله وحده ونحو ذلك من حب الله ورسوله، وحب ما يحب الله ورسوله، وإخلاص العمل لله وحده، كانت أعمال القلب من الحب والإخلاص والخشية والتوكل ونحوها داخلة في الإيمان بهذا المعنى، وكانت الأخلاق الكريمة داخلة فيه أيضا، وأما البدن فلا يمكن أن يتخلى عن مراد القلب لأنه إذا كان في القلب معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» «7» .
إن الإيمان بذلك هو مناط تكوين القيم الخلقية والاجتماعية ونحوها، وهو أيضا مصدر الإلزام الخلقي، لأنه هو المسيطر على كل غرائز الإنسان وشهواته، والمتحكم في أحاسيسه ودوافعه [انظر الكشاف التوضيحي (5- 9) ] .
العبادة ونور الفطرة:
لقد كان من مظاهر تكريم الإنسان أن زوده الله تعالى بنور الفطرة التي يستطيع بها أن يعرف ربه، ويستدل بها على صراطه المستقيم وذلك من التدبر في آلائه ونعمه، يقول الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ
__________
(1) الفتاوى (10/ 149- 150) بتصرف يسير.
(2) الذاريات/ 56.
(3) المؤمنون/ 23.
(4) الفتاوى (10/ 152) . وانظر صفة «العبادة» .
(5) انظر الأخلاق الإيمانية في مواطنها من هذه الموسوعة.
(6) بتصرف واختصار عن الفتاوى 7 (564) ، وانظر الحديث رقم 35 في هذه الصفة.
(7) البخاري- الفتح (1/ 52) ، ومسلم (2426) واللفظ له، وانظر الحديث بتمامه في صفة الصلاح حديث رقم 13. ()(المقدمة/70)
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ «1» ، والفطرة: هي الخلق والهيئة التي في نفس الطفل، وهي معدّة ومهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى، ويستدل بها على ربه، ويعرف شرائعه، ويؤمن به، فكأنه تعالى قال: أقم وجهك للدين الحنيف، وهو الذي على الاستعداد له فطر البشر، ولكن تعرضهم العوارض «2» ، وقيل: المعنى هو أن الله سبحانه خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات فما دامت باقية على ذلك القبول وتلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام وهو الدين الحق «3» .
ويقول ابن تيمية- رحمه الله تعالى-: لقد فطر الله عباده على محبته وعبادته، فإذا تركت هذه الفطرة بلا فساد، كان القلب عارفا بالله محبا له عابدا له وحده «4» .
إن فساد الفطرة أمر محتمل ووارد سواء أكان من البيئة المحيطة بالإنسان كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» «5» . أو من إغواء الشيطان ووسوسته، وفي هذه الحالة اقتضت رحمة الله تعالى بالإنسان أن يرسل إليه الرسل مبشرين ومنذرين ويحدث صراع عنيف بين الشيطان وما يدعو إليه من ناحية وبين الرسل وما يدعون إليه من التزام الصراط المستقيم من ناحية أخرى، بين الفجور والتقوى [انظر الكشاف التوضيحي (4 د) و (4 ج) ] . وسنوضح هذا فيما يلي:
إغواء الشيطان:
بعد أن خلق الله آدم أمر الملائكة بالسجود له، ولكن إبليس أبى واستكبر وخالف أمر ربه، ولم يسجد لآدم حسدا وكبرا، وبعد أن حلّت عليه اللعنة وطرد من رحمة الله توعد آدم وذريته بأن يضلهم ويفتنهم ويقعد لهم على صراط الله المستقيم، يقول الله تعالى: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ «6» ، وقد أقسم بعزة الله تعالى أن يغوي جميع بني آدم إلا المخلصين، يقول الله تعالى: قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «7» .
لقد حدد الشيطان الرجيم هدفه وهو إغواء بني آدم وصدهم عن صراط الله المستقيم وصرفهم إلى طرق أخرى يضيع فيها سعيهم وتضل أعمالهم ويكون مصيرهم نار جهنم وبئس المصير.
إرسال الرسل:
وقد كان من تمام رحمة الله تعالى أن بعث رسله مبشرين ومنذرين [انظر الكشاف التوضيحي (3) ] معهم الكتاب والميزان ليعتدل أمر الناس ويستبينوا طريق الله تعالى من طريق الشيطان، يقول سبحانه: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ «8» ، وكانت دعوتهم جميعا إلى «صراط الله المستقيم» ،
__________
(1) الروم/ 30.
(2) تفسير القرطبي (14/ 29) .
(3) السابق، الصفحة نفسها.
(4) الفتاوى (10/ 175) بتصرف.
(5) البخاري- الفتح (3/ 1385) .
(6) الأعراف/ 16- 17.
(7) ص/ 82- 83.
(8) الحديد/ 25.(المقدمة/71)
يقول الله تعالى على لسان هود عليه السلام: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ «1» ، ثم جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم بالرسالة الخاتمة، ودعا إلى ما دعت إليه الرسل من التزام هذا الصراط، ووصفه ربه بقوله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ «2» .
إذن فإن الثبات على الصراط المستقيم هو محور الصراع بين الخير والشر، بين ما تدعو إليه الرسل وما يسعى إليه الشيطان الرجيم، فما هذا الصراط؟
الصراط المستقيم:
كما سبق أن ذكرنا فإن هذا «الصراط المستقيم» هو دعوة الرسل جميعا، وهو الهدف الذي يسعى إبليس اللعين أن يقعد لبني آدم عليه فيصدهم عنه، وذكرنا أيضا أن الله- عز وجل- على صراط مستقيم، ومعنى كون الله تعالى على صراط مستقيم أنه سبحانه على طريق مستقيم في قضائه وقدره وأمره ونهيه، يهدي من يشاء إليه بفضله ورحمته، ويصرف عنه من يشاء بعدله وحكمته «3» .
لقد صور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التزام الصراط المستقيم والخروج عنه، أي ذلك الصراع بين طاعة الرحمن وطاعة الشيطان فيما يرويه ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: خط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطا ثم قال: «هذا سبيل الله» ، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: «هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» ، ثم قرأ: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ «4» . فالسبيل المستقيم أو الصراط المستقيم هو ما تدعو له الرسل. وتهدي الناس إليه، أما السبل الأخرى التي ينحرف إليها البعض فليست إلا سبلا شيطانية نشأت بعد أن قعد لهم إبليس على هذا «صراط الله المستقيم» .
أما دعوته صلّى الله عليه وسلّم إلى هذا الصراط المستقيم في قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فهي- كما يقول ابن القيم- رحمه الله تعالى: كل علم أو عمل أو حقيقة، أو حال أو مقام خرج من مشكاة نبوته، فهو من الصراط المستقيم وما لم يكن كذلك فهو من صراط أهل الغضب والضلال. فما ثمّ خروج عن هذه الطرق الثلاث: طريق الرسول صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به، وطريق أهل الغضب (المغضوب عليهم) ، وهي طريق من عرف الحق وعانده. وطريق أهل الضلال: وهي طريق من أضله الله عنه. ولهذا قال عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله- رضي الله عنهم- «الصراط المستقيم: هو الإسلام» وقال عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب- رضي الله عنهما- «هو القرآن» وفيه حديث مرفوع في الترمذي وغيره، وقال سهل بن عبد الله «طريق السنة والجماعة» وقال بكر بن عبد الله المزني «طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» . ولا ريب أن ما كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه علما وعملا وهو معرفة الحق وتقديمه، وإيثاره على غيره، فهو الصراط المستقيم «5» .
__________
(1) هود/ 6.
(2) الشورى/ 52- 53.
(3) إغاثة اللهفان ص 220.
(4) الأنعام/ 153.
(5) مدارج السالكين (1/ 8) .(المقدمة/72)
الابتلاء والصراط المستقيم «1» :
إن الابتلاء والفتنة يمحصان العبد ويردانه إلى هذا الصراط المستقيم إذا استطاع الشيطان في لحظة من لحظات الضعف الإنساني أن يخرج الإنسان عن هذا الصراط المستقيم ويسلك به سبلا أخرى، وقد كان من رحمة الله سبحانه ألا يدع الإنسان فريسة لهذا الشيطان وإنما زوده بوسائل الحماية والوقاية منه، ثم هيأ له وسائل الإفلات إن وقع في الفخ وخرج عن الصراط المستقيم، فمن ذلك:
1- الرجوع إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة: مصداق ذلك قول الله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «2» .
2- واعظ الله- عز وجل- في قلوب عباده المؤمنين: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى ضرب مثلا: صراطا مستقيما. وعلى كنفتي الصراط سوران، لهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداع يدعو على رأس الصراط، وداع يدعو فوق الصراط، فالصراط المستقيم: الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله. فلا يقع أحد في حدّ من حدود الله حتى يكشف الستر، والداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي فوق الصراط:
واعظ الله في قلب كل مسلم» «3» . فهذا الواعظ في قلوب المؤمنين هو الإلهام الإلهي بواسطة الملائكة أو نور الفطرة.
3- مدد الملائكة: ثم يؤيد الله عباده المخلصين بجند من الملائكة يثبتونهم ويأمرونهم بالخير ويحضونهم عليه يعدون العبد بكرامة الله تعالى ويصبرونه على البلاء، ويبشرونه بثواب الله وعظيم فضله، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ «4» .
4- الدعاء والاعتصام بالله: تشتد حاجة العبد أن يسأل ربه أن يهديه إلى هذا الصراط المستقيم، وكان سؤال هذه الهداية أوجب دعاء على كل عبد، وقد أوجبه الله عليه كل يوم وليلة بقوله تعالى في الفاتحة: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ «5» . ويردد المسلم ذلك بعدد ركعات صلاة كل يوم حتى يأتيه اليقين لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة «6» . قال تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «7» .
__________
(1) انظر الحياة الإيمانية في ضوء علاقة الابتلاء والنفس الإنسانية في هذه الموسوعة.
(2) المائدة/ 15- 16.
(3) انظر هذا في صفة الاستقامة، حديث رقم (6) وقد خرّجناه هناك.
(4) فصلت/ 30- 31.
(5) الفاتحة/ 6- 7.
(6) مدارج السالكين (1/ 63) بتصرف.
(7) آل عمران/ 101.(المقدمة/75)
5- الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم: إن العبد إذا لجأ إلى الله تعالى واستعاذ به من شر هذا الشيطان فإنه سرعان ما يخنس (ويهرب) «1» ، ويتركه وشأنه، ومن ثم تتاح له فرصة الرجوع إلى الصراط المستقيم.
__________
(1) انظر صفة الاستعاذة.(المقدمة/76)
النفس الإنسانية
قبل أن نتحدث عن العلاقة بين النفس الإنسانية والابتلاء فإنه يجمل بنا نشير- بإيجاز- إلى المعنى اللغوي والاصطلاحي للفظ «نفس» أما لفظ «إنسانية» فهو مصدر صناعي من كلمة «إنسان» وقد تحدثنا في صفة «تكريم الإنسان» عن هذا اللفظ لغة واصطلاحا «1» ، فأغنى عن ذكره هنا.
النفس لغة:
لفظ «النفس» في اللغة يطلق ويراد به معان عديدة: منها النفس بمعنى الروح، والنفس بمعنى جملة الشيء وحقيقته، والنفس ما يكون به التمييز، والنفس: العين كما في قولهم أصابت فلانا نفس، وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن لكل إنسان نفسين: إحداهما نفس العقل التي يكون بها التمييز، والأخرى نفس الروح الذي تكون بها الحياة، وقال بعض اللغويين: النفس والروح واحد، وقال آخرون: بل هما متغايران إذ النفس هي مناط العقل، والروح مناط الحياة، وسميت النفس نفسا لتولّد النّفس منها واتصاله بها، كما سموا الروح روحا لأن الروح موجود بها «2» .
النفس اصطلاحا:
النفس في اصطلاح علماء الأخلاق هي كما يقول الجرجاني: الجوهر البخاري اللطيف الحامل لقوة الحياة، والحس والحركة الإرادية «3» .
ويقول المناوي: هي جوهر مشرق للبدن ينقطع ضوءه عند الموت من ظاهر البدن وباطنه، وأما وقت النوم فينقطع ضوءه عن ظاهر البدن دون باطنه، فالموت انقطاع كلي، والنوم انقطاع خاص، وعلى ذلك فيكون تعلقها بالإنسان على ثلاثة أضرب: إن غلب ضوء النفس على جميع أجزاء البدن ظاهره وباطنه فهو (حال) اليقظة، وإن انقطع عن ظاهره فقط فهو النوم «4» ، وإن انقطع بالكلية فالموت «5» .
أما النفس الإنسانية فهي تلك النفس الناطقة التي تحوز جميع خصائص النفوس الأخرى وتزيد عليها قوة العقل والإرادة «6» .
__________
(1) انظر صفة تكريم الإنسان، ج 4، ص 1136.
(2) انظر في ذلك: الصحاح للجوهري 3/ 984، ولسان العرب 6/ 232 (ط. بيروت) .
(3) التعريفات للجرجاني 262.
(4) يذكرنا هذا بحديث المصطفى صلّى الله عليه وسلّم الذي رواه حذيفة- رضي الله عنه- وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أوى إلى فراشه قال: «باسمك أموت وأحيا» ، وإذا قام قال: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» انظر في تخريج هذا الحديث صفة «الحمد» حديث رقم 53.
(5) التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص 328.
(6) قسم العلماء النفس تقسيمات عديدة باعتبارات مختلفة، ومن أهم هذه التقسيمات جعلها ثلاثة أنفس هي:- 1- النفس النامية (في النبات) ولها خصائص الاغتذاء والنمو والتوليد. 2- النفس الحاسة (في الحيوان) ولها نفس الخصائص السابقة وتزيد عليها الحس. 3- النفس الناطقة (في الإنسان) ولها خصائص النوعين السابقين وتزيد عليهما العقل والإرادة (والبيان) ، انظر في ذلك: الإنسان وصحته النفسية لمصطفى فهمي ص 8.(المقدمة/)
قوى النفس الناطقة:
ذكر الإيجيّ في كتابه «الأخلاق» أن للنفس الناطقة ثلاث قوى، هي:
1- قوة النطق (العاقلة) .
2- قوة الشهوة (البهيمية) .
3- قوة الغضب (السبعية) .
واعتدال هذه القوى فضائل، أما أطرافها فهي الرذائل، فاعتدال قوة النطق هو الحكمة وإفراطها الجريرة وتفريطها الغباوة (البلادة) ، أما قوة الشهوة فاعتدالها العفة، وإفراطها الفجور، وتفريطها الجحود، وأما قوة الغضب فاعتدالها الشجاعة، وإفراطها التهور، وتفريطها الجبن «1» ، هذا فيما يتعلق بالناحية الكمية.
أما من حيث الكيف فإن هذه الفضائل الثلاث أي الحكمة والعفة والشجاعة تتحول. إذا أسيء استخدامها إلى رذائل، وذلك كمن يتعلم الحكمة لمجاراة العلماء ولمماراة السفهاء، أو كمن يمارس الشجاعة للصيت أو الغنيمة «2» ، ومناط ذلك كله هو النية التي تصحب الفعل، لأن هذه الثلاث إنما تكون فضائل إذا لم يشبها غرض وصدرت بلا روية «3» .
أقسام النفس الإنسانية:
تنقسم النفس الإنسانية- وفقا لأحوالها المختلفة- إلى ثلاثة أقسام، كما ذكرت في القرآن الكريم:
1- النفس الأمّارة، وهي التي تميل إلى الطبيعة البدنية وتأمر باللذات والشهوات الحسية واتباع الهوى، وهي مأوى الشرور ومنبع الأخلاق الذميمة. وهذه النفس هي التي توسوس لصاحبها وتحدثه بالآثام، قال تعالى: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ «4» ، وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ «5» ، وهي بذلك- كما قال ابن تيمية- أحد ثلاثة يستعاذ منها وهي:
النفس (الأمارة) ، وشياطين الجن، وشياطين الإنسان، وروي عن ابن جريج في تفسير قوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ «6» ، قال: هما وسواسان، فوسواس من الجنة وهو الخنّاس، ووسواس من نفس الإنسان «7» .
2- النفس اللّوّامة، وهي تلك التي تنورت بنور القلب عن سنة الغفلة، وكلما صدرت عنها سيئة بحكم جبلتها أخذت في اللوم والتعنيف، وحالت دون التمادي في العصيان، والتي تلومه كذلك على عدم الاستكثار في الخير، قال تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ* وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ «8» .
3- النفس المطمئنة، وهي التي تمّ تنويرها بنور القلب حتى انخلعت عن صفاتها الذميمة وتخلقت بالأخلاق الحميدة، وهي تلك النفس التي تعتبر الحوادث الحياتية- خيرها وشرها- ابتلاء ومحنة، وهي تلك النموذج
__________
(1) الأخلاق لعضد الدين الإيجي، ص 29- 31.
(2) السابق، ص 32- 33.
(3) السابق، ص 34.
(4) يوسف/ 53.
(5) ق/ 16.
(6) الناس/ 6.
(7) هناك تفسيرات أخرى للآية، وقد رجّح العلّامة ابن تيمية هذا التفسير، انظر الفتاوى 17/ 512 وما بعدها.
(8) القيامة/ 1- 2.(المقدمة/)
الذي يسعى إليه الإنسان المسلم، وهي التعبير الصادق عن تلك الحالة التي لا يعرف فيها الفرد أمراض الشبهة والشك والشهوة والبغي وهي النموذج الأكمل للصحة النفسية التي تؤدي إلى الحياة الطيبة في الدنيا «1» وإلى الفوز والنعيم المقيم في الآخرة، قال تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي «2» .
صفات النفس الإنسانية:
إذا كان بعض العلماء قد تحدثوا عن أقسام للنفس الإنسانية، فإن ابن القيم في كتابه النادر «الروح» قد تحدث عن صفات لهذه النفس، وقد ناقش هذه المسألة باستفاضة عندما قال:
لقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاث أنفس، نفس مطمئنة، ونفس لوامة، ونفس أمارة، وأن منهم من تغلب عليه هذه ومنهم من تغلب عليه الأخرى، ويحتجون على ذلك بقوله تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ وبقوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ وبقوله تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ والتحقيق أنها نفس واحدة ولكن لها صفات فتسمّى باعتبار كل صفة باسم فتسمّى مطمئنة باعتبار طمأنينتها إلى ربها بعبوديته ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه والرضا به والسكون إليه. فإن من سمة محبته وخوفه ورجائه قطع النظر عن محبة غيره وخوفه ورجائه، فيستغنى بمحبته عن حب ما سواه وبذكره عن ذكر ما سواه وبالشوق إليه وإلى لقائه عن الشوق إلى ما سواه، فالطمأنينة إلى الله سبحانه حقيقة ترد منه سبحانه على قلب عبده تجمعه عليه، وترد قلبه الشارد إليه حتى كأنه جالس بين يديه يسمع به ويبصر به ويتحرّك به ويبطش به، فتسري تلك الطمأنينة في نفسه وقلبه ومفاصله وقواه الظاهرة والباطنة تجذب روحه إلى الله، ويلين جلده وقلبه ومفاصله إلى خدمته والتقرّب إليه، ولا يمكن حصول الطمأنينة الحقيقية إلّا بالله وبذكره وهو كلامه الذي أنزله على رسوله كما قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ فإن طمأنينة القلب سكونه واستقراره بزوال القلق والانزعاج والاضطراب عنه، وهذا لا يتأتّى بشيء سوى الله تعالى وذكره البتة، وأما ما عداه فالطمأنينة إليه غرور والثقة به عجز قضى الله سبحانه وتعالى قضاء لا مرد له أن من اطمأن إلى شيء سواه أتاه القلق والانزعاج والاضطراب من جهته كائنا من كان، بل لو اطمأن العبد إلى علمه وحاله وعمله سلب ذلك كله، وقد جعل سبحانه أغراض نفوس المطمئنين إلى سواه محبطة بسهام البلاء ليعلم عباده وأولياؤه أن المتعلق بغيره مقطوع والمطمئن إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع «3» . ثم تحدث- رحمه الله تعالى- عن هذه الصفات المختلفة للنفس وهي:
__________
(1) بتصرف واختصار عن: التعريفات للجرجاني ص 204، والتوقيف للمناوي ص 328، والصحة النفسية في ضوء علم النفس والإسلام لمحمد عودة وكمال مرسي ص 18.
(2) الفجر/ 27- 30.
(3) الروح لابن القيم، دار القلم، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1403 هـ- 1983 م، ص 198- 210 (بتصرف يسير) .(المقدمة/)
أولا: النفس المطمئنة (حقيقة الطمأنينة وعلامتها) :
حقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنة هي أن تطمئن في باب معرفة أسماء الله وصفاته ونعوت كماله إلى خبره الذي أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله فتتلقاه بالقبول، والتسليم، والإذعان، والدعاء، وانشراح الصدر له، وفرح القلب به، فإنه معرّف من معرفات الرب سبحانه إلى عبده على لسان رسوله، فلا يزال القلب في أعظم القلق والاضطراب في هذا الباب حتى يخالط الإيمان بأسماء الرب تعالى وصفاته وتوحيده وعلوه على عرشه، وتكلمه بالوحي بشاشة قلبه، فينزل ذلك عليه نزول الماء الزلال على القلب الملتهب بالعطش، فيطمئن إليه، ويسكن إليه، ويفرح به ويلين له قلبه ومفاصله حتى كأنه شاهد الأمر كما أخبرت به الرسل، بل يصير ذلك لقلبه بمنزلة رؤية الشمس في الظهيرة لعينه، فلو خالفه في ذلك من بين شرق الأرض وغربها لم يلتفت إلى خلافهم، وقال إذا استوحش من الغربة قد كان الصّديق الأكبر «1» مطمئنا بالإيمان وحده وجميع أهل الأرض يخالفه وما نقص ذلك من طمأنينته شيئا فهذا أول درجات الطمأنينة، ثم لا يزال يقوى كلما سمع بآية متضمنة لصفة من صفات ربه، وهذا أمر لا نهاية له فهذه الطمأنينة أصل أصول الإيمان التي قام عليه بناؤه، ثم يطمئن إلى خبره عما بعد الموت من أمور البرزخ وما بعدها من أحوال القيامة حتى كأنه يشاهد ذلك كله عيانا، وهذا حقيقة اليقين الذي وصف به سبحانه وتعالى أهل الإيمان حيث قال وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ فلا يحصل الإيمان بالآخرة حتى يطمئن القلب إلى ما أخبر الله سبحانه به عنها طمأنينته إلى الأمور التي لا يشك فيها ولا يرتاب، فهذا هو المؤمن حقا باليوم الآخر كما في حديث حارثة:
أصبحت مؤمنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟» قال: عزفت نفسي عن الدنيا وأهلها وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا وإلى أهل الجنة يتزاورون فيها وأهل النار يعذبون فيها، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «عبد نوّر الله قلبه» .
والطمأنينة إلى أسماء الرب تعالى وصفاته نوعان: طمأنينة إلى الإيمان بها وإثباتها واعتقادها، وطمأنينة إلى ما تقتضيه وتوجبه من آثار العبودية، مثاله الطمأنينة إلى القدر وإثباته، والإيمان به يقتضي الطمأنينة إلى مواضع الأقدار التي لم يؤمر العبد بدفعها ولا قدرة له على دفعها فيسلم لها ويرضى بها ولا يسخط ولا يشكو ولا يضطرب إيمانه فلا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما أتاه لأن المصيبة فيه مقدرة قبل أن تصل إليه وقبل أن يخلق كما قال تعالى ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وقال تعالى ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ قال غير واحد من السلف: هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، فهذه طمأنينة إلى أحكام الصفات وموجباتها وآثارها في العالم وهي قدر زائد على الطمأنينة بمجرد العلم بها واعتقادها، وكذلك سائر الصفات وآثارها ومتعلقاتها كالسمع والبصر والعلم والرضا والغضب والمحبة، فهذه طمأنينة الإيمان «2» .
__________
(1) المراد به سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
(2) انظر صفة الطمأنينة بالموسوعة.(المقدمة/)
وأما طمأنينة الإحسان فهي الطمأنينة إلى أمره امتثالا وإخلاصا ونصحا فلا يقدم على أمره إرادة ولا هوى ولا تقليدا فلا يساكن شبهة تعارض خبره ولا شهوة تعارض أمره بل إذا مرت به أنزلها منزلة الوساوس التي لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يجدها، فهذا كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم صريح الإيمان، وعلامة هذه الطمأنينة أن يطمئن من قلق المعصية وانزعاجها إلى سكون التوبة وحلاوتها وفرحتها ويسهل عليه ذلك أن يعلم أن اللذة والحلاوة والفرحة في الظفر بالتوبة، وهذا أمر لا يعرفه إلّا من ذاق الأمرين وباشر قلبه آثارهما فللتوبة طمأنينة تقابل ما في المعصية من الانزعاج والقلق ولو فتش العاصي عن قلبه لوجد حشوه المخاوف والانزعاج والقلق والاضطراب وإنما يواري عنه شهود ذلك سكر الغفلة والشهوة فإن لكل شهوة سكرا يزيد على سكر الخمر، وكذلك الغضب له سكر أعظم من سكر الشراب، ولهذا ترى العاشق والغضبان يفعل ما لا يفعله شارب الخمر، وكذلك يطمئن من قلق الغفلة والإعراض إلى سكون الإقبال على الله وحلاوة ذكره وتعلّق الروح بحبه ومعرفته فلا طمأنينة للروح بدون هذا أبدا «1» .
النفس المطمئنة وفرح القلب:
الفرق بين فرح القلب وفرح النفس ظاهر فإن الفرح بالله ومعرفته ومحبته وكلامه من القلب قال تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فإذا كان أهل الكتاب يفرحون بالوحي فأولياء الله وأتباع رسوله أحق بالفرح به وقال تعالى: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وقال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ قال أبو سعيد الخدري:
فضل الله: هو القرآن، ورحمته: أن جعلكم من أهله «2» وقال هلال بن يساف: فضل الله ورحمته: الإسلام الذي هداكم إليه والقرآن الذي علّمكم وهو خير من الذهب والفضة الذين تجمعون، وقال ابن عباس والحسن وقتادة وجمهور المفسرين فضل الله الإسلام ورحمته القرآن، فهذا فرح القلب وهو من الإيمان ويثاب عليه العبد فإن فرحه به يدل على رضاه به بل بما هو فوق الرضا فالفرح بذلك على قدر محبته فإن الفرح إنما يكون بالظفر بالمحبوب وعلى قدر محبته يفرح بحصوله له فالفرح بالله وأسمائه وصفاته ورسوله وسنته وكلامه محض الإيمان وصفوته لبه وله عبودية عجيبة وأثر في القلب لا يعبّر عنه، فابتهاج القلب وسروره وفرحه بالله وأسمائه وصفاته وكلامه ورسوله ولقائه أفضل ما يعطاه بل هو جل عطاياه، والفرح في الآخرة بالله ولقائه بحسب الفرح به ومحبته في الدنيا، فالفرح بالوصول إلى المحبوب يكون على حسب قوة المحبة وضعفها، فهذا شأن فرح القلب، وله فرح آخر وهو فرحه بما منّ الله به عليه من معاملته والإخلاص له والتوكل عليه والثقة به وخوفه ورجائه به. وكلما تمكّن في ذلك قوي فرحه وابتهاجه، وله فرحة أخرى عظيمة الوقع عجيبة الشأن وهي الفرحة التي تحصل له بالتوبة فإن لها فرحة عجيبة لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة، فلو علم العاصي أن لذة التوبة وفرحتها يزيد على لذة المعصية وفرحتها أضعافا مضاعفة لبادر إليها أعظم من مبادرته إلى لذة المعصية.
__________
(1) الروح لابن القيم، ص 200.
(2) يشير- رحمه الله تعالى- بذلك إلى تفسير الفضل والرحمة في الآية الكريمة: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ....(المقدمة/)
وسر هذا الفرح إنما يعلمه من علم سر فرح الرب تعالى بتوبة عبده أشد فرح يقدّر، ولقد ضرب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثلا ليس في أنواع الفرح في الدنيا أعظم منه وهو فرح رجل قد خرج براحلته التي عليها طعامه وشرابه في سفر ففقدها في أرض دوّية مهلكة فاجتهد في طلبها فلم يجدها، فيئس منها وجلس ينتظر الموت حتى إذا طلع البدر رأى في ضوئه راحلته وقد تعلّق زمامها بشجرة فقال من شدة فرحه: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح فالله أفرح بتوبة عبده من هذا براحلته «1» .
فلا ينكر إذا أن يحصل للتائب نصيب وافر من الفرح بالتوبة ولكن هاهنا أمر يجب التنبيه عليه وهو أنه لا يصل إلى ذلك إلّا بعد ترحات ومضض ومحن لا تثبت لها الجبال، فإن صبر لها ظفر بلذة الفرح وإن ضعف عن حملها ولم يصبر لها لم يظفر بشيء، وآخر أمره فوات ما آثره من فرحة المعصية ولذتها فيفوته الأمران ويحصل على ضد اللذة من الألم المركب من وجود المؤذي وفوت المحبوب فالحكم لله العلي الكبير «2» .
كمال القلب ونعيمه وسروره (بالطمأنينة) :
وهاهنا سر لطيف يجب التنبيه عليه والتنبه له وهو أن الله سبحانه جعل لكل عضو من أعضاء الإنسان كمالا إن لم يحصل له فهو في قلق واضطراب وانزعاج بسبب فقد كماله الذي جعل له مثاله كمال العين بالإبصار، وكمال الأذن بالسمع، وكمال اللسان بالنطق، فإذا عدمت هذه الأعضاء القوى التي بها كمالها حصل الألم والنقص بحسب فوات ذلك، وجعل كمال القلب ونعيمه وسروره ولذته وابتهاجه في معرفته سبحانه وإرادته ومحبته والإنابة إليه والإقبال عليه والشوق إليه والأنس به، فإذا عدم القلب ذلك كان أشد عذابا واضطرابا من العين التي فقدت النور والبصر ومن اللسان الذي فقد قوة الكلام والذوق، ولا سبيل له إلى الطمأنينة بوجه من الوجوه ولو نال من الدنيا وأسبابها ومن العلوم ما نال إلا بأن يكون الله وحده هو محبوبه وإلاهه ومعبوده وغاية مطلوبه، وأقوال المفسرين في الطمأنينة ترجع إلى ذلك، قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: المطمئنة «3» :
المصدقة، وقال قتادة: هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله، وقال الحسن: المصدقة بما قال الله تعالى، وقال مجاهد: هي النفس التي أيقنت بأن الله ربها، المسلمة لأمره فيما هو فاعل بها، وروى منصور عنه قال: النفس التي أيقنت أن الله ربها، وقال ابن أبي نجيح عنه: النفس المطمئنة المخبتة إلى الله، وقال أيضا: هي التي أيقنت بلقاء الله فكلام السلف عن المطمئنة يدور على هذين الأصلين (طمأنينة العلم والإيمان) و (طمأنينة الإرادة والعمل) .
__________
(1) انظر صفتي التوبة والفرح في الموسوعة.
(2) الروح لابن القيم، ص 224- 225.
(3) يتحدث هنا عن معنى «المطمئنة» في صفة النفس في قوله تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (الفجر/ 27) .(المقدمة/)
سجود القلب:
قيل لبعض العارفين: أيسجد القلب؟ قال: نعم يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء، فهذا سجود القلب «1» .
فقلب لا تباشره هذه الكسرة فهو غير ساجد السجود المراد منه، وإذا سجد القلب لله- هذه السجدة العظمى- سجدت معه جميع الجوارح، وعنا الوجه حينئذ للحي القيوم، وخشع الصوت والجوارح كلها، وذل العبد وخضع واستكان، ووضع خده على عتبة العبودية، ناظرا بقلبه إلى ربه ووليه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم، فلا يرى إلّا متملقا لربه، خاضعا له، ذليلا مستعطفا له، يسأله عطفه ورحمته «2» ، «3» .
اليقظة أول مفاتيح الخير وهي (منشأ الطمأنينة) :
إذا اطمأنت النفس من الشك إلى اليقين، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الخيانة إلى التوبة، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الكذب إلى الصدق، ومن العجز إلى الكيس، ومن صولة العجب إلى ذلة الإخبات ومن التيه إلى التواضع، ومن الفتور إلى العمل فقد باشرت روح الطمأنينة «4» ، وأصل هذا كله ومنشؤه من اليقظة فهي أول مفاتيح الخير لأن الغافل عن الاستعداد للقاء ربه والتزود لمعاده بمنزلة النائم بل أسوأ حالا منه؟ فإن العاقل يعلم وعد الله ووعيده وما تقتضيه أوامر الرب تعالى ونواهيه وأحكامه من الحقوق، لكن يحجبه عن حقيقة الإدراك ويقعده عن الاستدراك سنة القلب «5» . وهي غفلته التي رقد فيها فطال رقوده، وركد وأخلد إلى نوازع الشهوات فاشتد إخلاده وركوده، وانغمس في غمار الشهوات، واستولت عليه العادات ومخالطة أهل البطالات، ورضي بالتشبه (بأهل إضاعة الأوقات) ، فهو في رقاده مع النائمين، وفي سكرته مع المخمورين، فمتى انكشف عن قلبه سنة هذه الغفلة بزجرة من زواجر الحق في قلبه استجاب فيها لواعظ الله في قلب عبده المؤمن، أو بهمّة عالية أثارها معول الفكر في المحل القابل فضرب بمعول فكره وكبر تكبيرة أضاءت له منها قصور الجنة فقال:
ألا يا نفس ويحك ساعديني ... بسعي منك في ظلم الليالي
لعلك في القيامة أن تفوزي ... بطيب العيش في تلك العلالي
__________
(1) وقد عرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» فمن كان في قلبه يقين بهذا الأمر وسجد سجدة خشوع لا يرفع رأسه أبدا من الورع والتقوى وكمال الخضوع لله عز وجل.
(2) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ابن قيم الجوزية، الجزء الأول، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1408 هـ- 1988 م، ص 462.
(3) وفي الحديث: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» ومن وصل إلى هذه الدرجات العلى من درجات الإيمان والإحسان واليقين لابد وأن يسجد قلبه سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء.
(4) انظر تفاصيل هذه الصفات وصفة اليقظة بالموسوعة.
(5) ذلك هو الذي (يعلم) ما هو الحلال وما هو الحرام ولكنه والعياذ بالله لا يمتثل لأن (قلبه غافل) فما هو السبيل لإيقاظ القلب؟!(المقدمة/)
اليقظة أول منازل النفس المطمئنة:
تثير اليقظة نورا يرى المؤمن في ضوئه ما خلق له، وما سيلقاه بين يديه من حين الموت إلى دخول دار القرار، ويرى سرعة انقضاء الدنيا وعدم وفائها لبنيها وقتلها لعشاقها وفعلها بهم أنواع المثلات فينهض في ذلك الضوء على ساق عزمه قائلا (يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله) فيستقبل بقية عمره التي لا قيمة لها مستدركا بها ما فات، محييا بها ما أمات، مستقبلا بها ما تقدم له من العثرات، منتهزا فرصة الإمكان التي إن فاتته فاته جميع الخيرات.
ثم يلحظ في نور تلك اليقظة وفور نعمة ربه عليه من حين استقر في الرحم إلى وقته وهو يتقلّب فيها ظاهرا وباطنا ليلا ونهارا ويقظة ومناما سرا وعلانية فلو اجتهد في إحصاء أنواعها لما قدر، ويكفي أن أدناها نعمة النفس ولله عليه في كل يوم أربعة وعشرون ألف نعمة فما ظنك بغيرها.
ثم يرى في ضوء ذلك النور أنه آيس من حصرها وإحصائها عاجز عن أداء حقها وأن المنعم بها إن طالبه بحقوقها استوعب جميع أعماله حق نعمة واحدة منها فيتيقن حينئذ أنه لا مطمع له في النجاة إلّا بعفو الله ورحمته وفضله.
ثم يرى في ضوء تلك اليقظة أنه لو عمل أعمال الثقلين من البر لاحتقرها بالنسبة إلى جنب عظمة الرب تعالى وما يستحقه بجلال وجهه وعظيم سلطانه، هذا لو كانت أعماله منه فكيف وهي مجرّد فضل الله ومنّته وإحسانه حيث يسّرها له وأعانه عليها وهيأه لها وشاءها منه، ولو لم يفعل ذلك لم يكن له سبيل إليها، فحينئذ لا يرى أعماله منه، وأن الله سبحانه لن يقبل عملا يراه صاحبه من نفسه حتى يرى عين توفيق الله له وفضله عليه وأنه من الله لا من نفسه، وأنه ليس له من نفسه إلّا الشر وأسبابه، وما به من نعمة فمن الله وحده، صدقة تصدق بها عليه وفضلا منه ساقه إليه من غير أن يستحقه بسبب ويسأله بوسيلة، فيرى ربه ووليه ومعبوده أهلا لكل خير ويرى نفسه أهلا لكل شر، وهذا أساس جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، وهو الذي يرفعها ويجعلها في ديوان أصحاب اليمين.
ثم يبرق له في نور اليقظة بارقة أخرى يرى في ضوئها عيوب نفسه وآفات عمله وما تقدم له من الجنايات والإساءات وهتك الحرمات والتقاعد عن كثير من الحقوق والواجبات، فإذا انضم ذلك إلى شهود نعم الله عليه وأياديه لديه رأى أن حق المنعم عليه في نعمه وأوامره لم يبق له حسنة واحدة يرفع بها رأسه فيطمئن قلبه وتنكسر نفسه وتخشع جوارحه ويسير إلى الله تعالى ناكس الرأس بين مشاهدة نعمه ومطالعة جناياته وعيوب نفسه وآفات عمله قائلا أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلّا أنت، فلا يرى لنفسه حسنة ولا يراها أهلا لخير فيوجب له أمرين عظيمين.
أحدهما استكثار ما منّ الله عليه.
والثاني استقلال ما قدمه من الطاعة كائنة ما كانت، ثم تبرق له بارقة أخرى يرى في ضوئها عزة وقته وخطره وشرفه وأنه رأس مال سعادته فيبخل به أن يضيعه فيما يقربه إلى ربه فإن في إضاعته الخسران والحسرة(المقدمة/)
والندامة وفي حفظه وعمارته الربح والسعادة فيشح بأنفاسه أن يضيعها فيما لا ينفعه يوم معاده.
ثم يلحظ في ضوء تلك البارقة ما تقتضيه يقظته من سنة غفلته من التوبة والمحاسبة والمراقبة والغيرة لربه أن يؤثر عليه غيره، وعلى حظه من رضاه وقربه وكرامته ببيعه بثمن بخس في دار سريعة الزوال وعلى نفسه أن يملك رقها لمعشوق أو فكر في منتهى حسنه ورأى آخره بعين بصيرة لأنف لها من محبته.
فهذا كله من آثار اليقظة وموجباتها وهي أول منازل النفس المطمئنة التي نشأ منها سفرها إلى الله والدار الآخرة.
ثانيا: النفس اللوامة:
وأما النفس اللوامة وهي التي أقسم بها سبحانه في قوله وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ فاختلف فيها فقالت طائفة: هي التي لا تثبت على حال واحدة، أخذوا اللفظة من التلوّم وهو التردد فهي كثيرة التقلب والتلون وهي من أعظم آيات الله فإنها مخلوق من مخلوقاته تتقلب وتتلون في الساعة الواحدة فضلا عن اليوم والشهر والعام والعمر ألوانا متلونة فتذكر وتغفل، وتقبل وتعرض، وتحب وتبغض، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتطيع وتعصى، وتتقي وتفجر، إلى أضعاف أضعاف ذلك من حالاتها وتلونها فهي تتلون كل وقت ألوانا كثيرة فهذا قول.
وقالت طائفة: اللفظة مأخوذة من اللّوم ثم اختلفوا فقالت فرقة هي نفس المؤمن وهذا من صفاتها المجردة، قال الحسن البصري: إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه دائما يقول ما أردت بهذا؟ لم فعلت هذا؟ كان غير هذا أولى أو نحو هذا الكلام.
وقال غيره: هي نفس المؤمن توقعه في الذنب ثم تلومه عليه فهذا اللوم من الإيمان بخلاف الشقي فإنه لا يلوم نفسه على ذنب بل يلومها وتلومه على فواته.
وقالت طائفة بل هذا اللوم للنوعين فإن كل أحد يلوم نفسه برا كان أو فاجرا فالسعيد يلومها على ارتكاب معصية الله وترك طاعته والشقي لا يلومها إلّا على فوات حظها وهواها.
وقالت فرقة أخرى هذا اللوم يوم القيامة فإن كل أحد يلوم نفسه إن كان مسيئا على إساءته وإن كان محسنا على تقصيره.
وهذه الأقوال كلها حق، ولا تنافى بينها، فإن النفس موصوفة بهذا كله وباعتباره سميت لوامة، ولكن اللوامة نوعان: لوامة ملومة، وهي النفس الجاهلة الظالمة التي يلومها الله وملائكته.
ولوامة غير ملومة، وهي التي لا تزال تلوم صاحبها على تقصيره في طاعة الله مع بذله جهده فهذه غير ملومة، وأشرف النفوس من لامت نفسها في طاعة الله واحتملت ملام اللائمين في مرضاته فلا تأخذها فيه لومة لائم فهذه قد تخلصت من لوم الله، وأما من رضيت بأعمالها ولم تلم نفسها، فهي التي يلومها الله عز وجل «1» .
__________
(1) باختصار وتصرف يسير عن «الروح لابن القيم» ص 203، 204.(المقدمة/)
ثالثا: النفس الأمارة:
وأما النفس الأمارة فهي المذمومة لأنها التي تأمر بكل سوء وهذا من طبيعتها إلّا ما وفقها الله وثبتها وأعانها، فما تخلص أحد من شر نفسه إلّا بتوفيق الله له كما قال تعالى حاكيا عن امرأة العزيز: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وقال تعالى وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وقال تعالى لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليه وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلمهم خطبة الحاجة «الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلله فلا هادي له» فالشر كامن في النفس وهو يوجب سيئات الأعمال فإن خلى الله بين العبد وبين نفسه هلك بين شرها وما تقتضيه من سيئات الأعمال، وإن وفقه وأعانه نجاه من ذلك كله.
قرين النفس المطمئنة:
وبعد أن تحدث- رحمه الله تعالى- عن صفات النفس الثلاث، تناول دور كل من الملك والشيطان في تأييد كل من النفس المطمئنة والنفس الأمارة فقال: امتحن الله سبحانه الإنسان بهاتين النفسين الأمارة واللوامة كما أكرمه بالمطمئنة، فهي إذا نفس واحدة تكون أمارة ثم لوامة ثم مطمئنة وهي غاية كمالها وصلاحها، وأيّد المطمئنة بجنود عديدة فجعل الملك قرينها وصاحبها الذي يليها ويسددها ويقذف فيها الحق ويرغبها فيه، ويريها حسن صورته، ويزجرها عن الباطل ويزهدها فيه، ويريها قبح صورته، وأمدها بما علمها من القرآن والأذكار وأعمال البر، وجعل وفود الخيرات ومداد التوفيق تنتابها وتصل إليها من كل ناحية، وكلما تلقتها بالقبول والشكر والحمد لله ورؤية أوليته في ذلك كله، ازداد مددها فتقوى على محاربة الأمارة، فمن جندها وهو سلطان عساكرها وملكها الإيمان واليقين، فالجيوش الإسلامية كلها تحت لوائه ناظرة إليه، إن ثبت ثبتت وإن انهزم ولّت على أدبارها، ثم أمراء هذا الجيش ومقدمو عساكره شعب الإيمان (الظاهرة) المتعلقة بالجوارح على اختلاف أنواعها كالصلاة والزكاة والصيام والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصيحة الخلق والإحسان إليهم بأنواع الإحسان، وشعبه الباطنة المتعلقة بالقلب كالإخلاص والتوكل والإنابة والتوبة والمراقبة والصبر والحلم والتواضع والمسكنة، وامتلاء القلب من محبة الله ورسوله، وتعظيم أوامر الله وحقوقه، والغيرة لله وفي الله، والشجاعة والعفة والصدق والشفقة والرحمة، وملاك ذلك كله الإخلاص والصدق، فلا يتعب الصادق المخلص لأنه قد أقيم على الصراط المستقيم فيسار به وهو راقد، أما من حرم الصدق والإخلاص فقد قطعت عليه الطريق، واستهوته الشياطين في الأرض حيران، فإن شاء فليعمل وإن شاء فليترك، فلا يزيده عمله من الله إلّا بعدا، وبالجملة فما كان لله وبالله فهو من جند النفس المطمئنة «1» .
قرين النفس الأمارة:
وأما النفس الأمارة فجعل الشيطان قرينها وصاحبها الذي يليها فهو يعدها ويمنيها ويقذف فيها الباطل ويأمرها بالسوء ويزيّنه لها ويطيل في الأمل ويريها الباطل في صورة تقبلها وتستحسنها ويمدها بأنواع الإمداد
__________
(1) باختصار وتصرف يسير عن كتاب «الروح لابن القيم» ص 204.(المقدمة/)
الباطل من الأماني الكاذبة والشهوات المهلكة، ويستعين عليها بهواها وإرادتها، فمنه يدخل عليها كل مكروه فما على النفوس بشيء هو أبلغ من هواها وإرادتها إليه وقد علم ذلك إخوانه من شياطين الإنس فلا يستعينون على الصورة الممنوعة منهم بشيء أبلغ من هواهم وإرادتهم، فإذا أعيتهم صورة طلبوا بجهدهم ما تحبه وتهواه ثم طلبوا بجدهم تحصيله، فاصطادوا تلك الصورة فإذا فتحت لهم النفس باب الهوى دخلوا منه فجاسوا خلال الديار فعاثوا وأفسدوا وفتكوا وسبوا، وفعلوا ما يفعله العدو ببلاد عدوه إذا تحكم فيها فهدموا معالم الإيمان والقرآن والذكر والصلاة وخربوا المساجد وعمروا البيع والكنائس والحانات والمواخير، وقصدوا إلى الملك فأسروه وسلبوه ملكه ونقلوه من عبادة الرحمن إلى عبادة البغايا والأوثان ومن عز الطاعة إلى ذلك المعصية، ومن السماع الرحماني إلى السماع الشيطاني ومن الاستعداد للقاء رب العالمين إلى الاستعداد للقاء إخوان الشياطين فبينا هو يراعي حقوق الله وما أمره به إذ صار يرعى الخنازير، وبينا هو منتصب لخدمة العزيز الرحيم إذ صار منتصبا لخدمة كل شيطان رجيم.
والمقصود أن الملك قرين النفس المطمئنة والشيطان قرين الأمارة، وقد روى أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله، ومن وجد الآخر فليتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم ثم قرأ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وقد رواه عمرو عن عطاء بن السائب وزاد فيه عمرو قال: سمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال إذا أحس أحدكم من لمة الملك شيئا فليحمد الله وليسأله من فضله، وإذا أحس من لمة الشيطان شيئا فليستغفر الله وليتعوّذ من الشيطان «1» .
مقتضيات النفس المطمئنة والنفس الأمارة:
النفس المطمئنة والملك وجنده من الإيمان يقتضيان من النفس المطمئنة التوحيد والإحسان والبر والتقوى والصبر والتوكل والتوبة والإنابة والإقبال على الله وقصر الأمل «2» والاستعداد للموت وما بعده، والشيطان وجنده يقتضيان من النفس الأمارة ضد ذلك، وقد سلط الله سبحانه الشيطان على كل ما ليس له ولم يرد به وجهه ولا هو طاعة له، وجعل ذلك إقطاعه فهو يستحث النفس الأمارة على هذا العمل والإقطاع ويتقاضى أن تأخذ الأعمال من النفس المطمئنة فتجعلها قوة لها فهي أحرص شيء على تخليص الأعمال كلها وأن تصير من حظوظها، فأصعب شيء على النفس المطمئنة تخليص الأعمال من الشيطان ومن الأمارة وتجعلها لله فلو وصل منها عمل واحد كما ينبغي لنجا به العبد ولكن أبت الأمارة والشيطان أن يدعا لها عملا واحدا يصل إلى الله كما قال بعض العارفين بالله وبنفسه: والله لو أعلم أن لي عملا واحدا وصل إلى الله لكنت أفرح بالموت من الغائب يقدم على أهله، وقال عبد الله بن عمر: لو أعلم أن الله تقبّل مني سجدة واحدة لم يكن غائب أحب إليّ من الموت (إنما يتقبّل الله من المتقين) «3» .
__________
(1) كتاب الروح لابن القيم، ص 205، 206 (باختصار وتصرف يسير) .
(2) انظر تفاصيل هذه الصفات بالموسوعة.
(3) كتاب الروح لابن القيم، ص 206.(المقدمة/)
صراع النفس الأمارة مع النفس المطمئنة:
وقد انتصبت الأمارة في مقابلة المطمئنة فكل ما جاءت به تلك من خير ضاهتها هذه وجاءت من الشر بما يقابله حتى تفسده عليها فإذا جاءت المطمئنة بالإيمان والتوحيد جاءت هذه بما يقدح في الإيمان من الشك والنفاق وما يقدح في التوحيد من الشرك ومحبة غير الله وخوفه ورجائه، ولا ترضى حتى تقدم محبة غيره وخوفه ورجائه على محبته سبحانه وخوفه ورجائه، فيكون ما له عندها هو المؤخر وما للخلق هو المقدم، وهذا حال أكثر هذا الخلق، وإذا جاءت تلك بتجريد المتابعة للرسول جاءت هذه بتحكيم آراء الرجال وأقوالهم على الوحي، وأتت من الشبه المضلة بما يمنعها من كمال المتابعة وتحكيم السنة وعدم الالتفات إلى آراء الرجال، فتقوم الحرب بين هاتين النفسين والمنصور من نصره الله، وإذا جاءت تلك بالإخلاص والصدق والتوكل والإنابة والمراقبة جاءت هذه بأضدادها وأخرجتها في عدة قوالب وتقسم بالله ما مرادها إلّا الإحسان والتوفيق، والله يعلم أنها كاذبة وما مرادها إلّا مجرّد حظّها واتّباع هواها والتفلت من سجن المتابعة والتحكيم المحض للسنة إلى قضاء إرادتها وشهوتها وحظوظها، ولعمرو الله ما تخلصت إلّا من فضاء المتابعة والتسليم إلّا إلى سجن الهوى والإرادة وضيقه وظلمته ووحشته فهي مسجونة في هذا العالم وفي البرزخ في أضيق منه، وفي يوم الميعاد في أضيق منهما.
خصائص وعجائب النفس الأمارة:
ومن أعجب أمرها أنها تسحر العقل والقلب فتأتي إلى أشرف الأشياء وأفضلها وأجلّها فتخرجه في صورة مذمومة، وأكثر الخلق صبيان العقول أطفال الأحلام لم يصلوا إلى حد الفطام الأول عن العوائد والمألوفات فضلا عن البلوغ الذي يميّز به العاقل البالغ بين الخير فيؤثره والشر فيتجنّبه، فتريه صورة تجريد التوحيد التي هي أبهى من صورة الشمس والقمر في صورة التنقيص المذموم، وتريه هضم العظماء منازلهم وحطهم منها إلى مرتبة العبودية المحضة والمسكنة والذل والفقر المحض الذي لا ملك لهم معه ولا إرادة ولا شفاعة إلّا من بعد إذن الله، تريهم النفس السحارة (الأمارة) هذا القدر غاية تنقيصهم وهضمهم ونزول أقدارهم وعدم تمييزهم عن المساكين الفقراء فتنفر نفوسهم من تجريد التوحيد أشد النفار ويقولون أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ وتريهم تجريد المتابعة للرسول وما جاء به، وتقديمه على آراء الرجال في صورة تنقيص العلماء والرغبة عن أقوالهم وما فهموه عن الله ورسوله، وأن هذا إساءة أدب عليهم وتقدّم بين أيديهم وهو مفض إلى إساءة الظن بهم وأنهم قد فاتهم الصواب، وكيف لنا قوة أن نرد عليهم ونفوز ونحظى بالصواب دونهم؟ فتنفر من ذلك أشد النفار وتجعل كلامهم هو الحكم الواجب الاتباع وكلام الرسول هو المتشابه الذي يعرض على أقوالهم، فما وافقها قبلناه وما خالفها رددناه أو أولناه وتقسم النفس السحارة بالله إن أردنا إلّا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم.
وتريه صورة الإخلاص في صورة ينفر منها وهي الخروج عن حكم العقل المعيشي والمداراة والمداهنة التي بها اندراج حال صاحبها ومشبه بين الناس فمتى أخلص أعماله ولم يعمل لأحد شيئا تجنبهم وتجنبوه وأبغضهم(المقدمة/)
وأبغضوه وعاداهم وعادوه وسار على جادة فينفر من ذلك أشد النفار وغايته أن يخلص في القدر اليسير من أعماله التي لا تتعلق بهم وسائر أعماله لغير الله.
وتريه صورة الصدق مع الله وجهاد من خرج عن دينه وأمره في قالب الانتصاب لعداوة الخلق وأذاهم وحربهم، وأنه يعرض نفسه لما لا يطيق من البلاء وأنه يصير غرضا لسهام الطاعنين، وأمثال ذلك من الشبه التي تقيمها النفس السحارة والخيالات التي تخيلها، وتريه حقيقة الجهاد في صورة تقتل فيها النفس وتنكح المرأة ويصير الأولاد يتامى ويقسم المال، وتريه حقيقة الزكاة والصدقة في صورة مفارقة المال ونقصه وخلو اليد منه واحتياجه إلى الناس ومساواته للفقير وعوده بمنزلته، وتريه حقيقة إثبات صفات الكمال لله في صورة التشبيه والتمثيل فينفر من التصديق بها وينفّر غيره، وتريه حقيقة التعطيل والإلحاد فيها صورة التنزيه والتعظيم.
وأعجب من ذلك أنها تضاهي ما يحبه الله ورسوله من الصفات والأخلاق والأفعال بما يبغضه منها، وتلبس على العبد أحد الأمرين بالآخر، ولا يخلص من هذا إلّا أرباب البصائر، فإن الأفعال تصدر عن الإرادات وتظهر على الأركان من النفسين الأمارة والمطمئنة فيتباين الفعلان في البطلان ويتشابهان في الظاهر، ولذلك أمثلة كثيرة منها المداراة والمداهنة فالأول من المطمئنة والثاني من الأمارة، وخشوع الإيمان وخشوع النفاق، وشرف النفس والتيه والحمية والجفاء، والتواضع والمهانة، والقوة في أمر الله والعلو في الأرض والحمية لله والغضب له، والحمية للنفس والغضب لها، والجود والسرف، والمهابة والكبر، والصيانة والتكبر، والشجاعة والجرأة، والحزم والجبن، والاقتصاد والشح، والاحتراز وسوء الظن، والفراسة والظن، والنصيحة والغيبة، والهدية والرشوة، والصبر والقسوة، والعفو والذل، وسلامة القلب والبله والغفلة، والثقة والغرة، والرجاء والتمني، والتحدث بنعم الله والفخر بها، وفرح القلب وفرح النفس، ورقة القلب والجزع، والموجدة والحقد، والمنافسة والحسد، وحب الرياسة وحب الإمامة والدعوة إلى الله، والحب لله والحب مع الله، والتوكل والعجز، والاحتياط والوسوسة، وإلهام الملك وإلهام الشيطان، والأناة والتسويف، والاقتصاد والتقصير، والاجتهاد والغلو، والنصيحة والتأنيب، والمبادرة والعجلة، والإخبار بالحال عند الحاجة والشكوى.
فالشيء الوحيد تكون صورته واحدة وهو منقسم إلى محمود ومذموم، كالفرح والحزن، والأسف والغضب، والغيرة والخيلاء، والطمع والتجمل، والخشوع، والحسد والغبطة، والجرأة والتحسر، والحرص والتنافس، وإظهار النعمة، والحلف، والمسكنة، والصمت والزهد، والورع والتخلي، والعزلة والأنفة، والحمية والغيبة، وفي الحديث أن من الغيرة ما يحبها الله ومنها ما يكرهه فالغيرة التي يحبها الله الغيرة في الريبة، والتي يكرهها الغيرة في غير ريبة «1» ، وأن من الخيلاء ما يحبه الله ومنها ما يكرهه، فالتي يحب الخيلاء في الحرب. وفي الصحيح أيضا لا حسد إلّا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطة على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها. وفي الصحيح أيضا أن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف «2» . وفيه أيضا من أعطى حظه من الرفق فقد أعطى حظه من
__________
(1) انظر صفة الغيرة.
(2) انظر صفتي: الحسد والرفق وقد خرّجنا هذه الأحاديث في مظانها في هذه الصفات.(المقدمة/)
الخير فالرفق شيء والتواني والكسل شيء فإن المتواني يتثاقل عن مصلحته بعد إمكانها فيتقاعد عنها، والرفيق يتلطف في تحصيلها بحسب الإمكان مع المطاوعة. وكذلك المداراة صفة مدح والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما أن المداري يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق أو يرده عن الباطل، والمداهن يتلطف به ليقره على باطله ويتركه على هواه فالمداراة لأهل الإيمان والمداهنة لأهل النفاق، وقد ضرب لذلك مثل مطابق وهو حال رجل به قرحة قد آلمته فجاءه الطبيب المداوي الرفيق فتعرف حالها ثم أخذ في تليينها حتى إذا نضجت أخذ في بطها (شقها) برفق وسهولة، حتى أخرج ما فيها، ثم وضع على مكانها من الدواء والمرهم ما يمنع فساد الجرح ويقطع مادته، ثم تابع عليها بالمراهم التي تنبت اللحم ثم يذر عليها بعد نبات اللحم ما ينشف رطوبتها ثم يشد عليها الرباط، ولم يزل يتابع ذلك حتى صلحت، والمداهن قال لصاحبها لا بأس عليك منها، وهذه لا شيء فاسترها عن العيوب بخرقة ثم اله عنها، فلا تزال مدتها تقوى وتستحكم حتى عظم فسادها، وهذا المثل أيضا مطابق كل المطابقة لحال النفس الأمارة مع المطمئنة فتأمله، فإذا كانت هذه حال قرحة بقدر الحمصة، فكيف بسقم هاج من نفس أمارة بالسوء، هي معدن الشهوات ومأوى كل فسق وقد قارنها شيطان في غاية المكر والخداع يعدها ويمنيها ويسحرها بجميع أنواع السحر حتى يخيل إليها النافع ضارا والضار نافعا والحسن قبيحا والقبيح جميلا، وهذا لعمرو الله من أعظم أنواع السحر ولهذا يقول سبحانه فَأَنَّى تُسْحَرُونَ والذي نسبوا إليه الرسل من كونهم مسحورين هو الذي أصابهم بعينه، وهم أهله لا رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كما أنهم نسبوهم إلى الضلال والفساد في الأرض والجنون والسفه وما استعاذت الأنبياء والرسل وأمراء الأمم بالاستعاذة من شر النفس الأمّارة وصاحبها وقرينها الشيطان إلّا لأنهما أصل كل شر وقاعدته ومنبعه وهما متساعدان عليه متعاونان «1» .
فضيلة الاستعاذة من شر النفس الأمارة وقرينها:
قال الله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ وقال وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وقال وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ وقال تعالى قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ... قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ... فهذا استعاذة من قرينها وصاحبها وبئس القرين والصاحب، فأمر الله سبحانه نبيه وأتباعه بالاستعاذة بربوبيته التامة الكاملة من هاتين الخلتين العظيم شأنهما في الشر والفساد، والقلب بين هذين العدوين، لا يزال شرهما يطرقه وينتابه، وأول ما يدب فيه السقم من النفس الأمّارة من الشهوة وما يتبعها من الحب والحرص والطلب والغضب وما يتبعه من الكبر والحسد والظلم والتسلط يعلم الطبيب الغاش الخائن بمرضه فيعوده ويصف له أنواع للسموم والمؤذيات ويخيل إليه بسحره أن شفاءه فيها، ويتفق ضعف القلب بالمرض وقوة النفس الأمارة والشيطان ويتتابع إمدادهما، ويزينان له أن هذا نقد حاضر ولذة عاجلة، والداعي إليه يدعو من كل ناحية، والهوى ينفذ، والشهوة تهون، والتأسي بالأكثر والتشبه بهم والرضا بأن يصيبه ما أصابهم، فكيف يستجيب مع هذه القواطع وأضعافها لداعي الإيمان ومنادي الجنة إلّا من أمده الله بإمداد التوفيق وأيده برحمته وتولى حفظه وحمايته وفتح بصيرة قلبه فرأى سرعة انقطاع الدنيا وزوالها وتقلبها بأهلها وفعلها بهم وأنها في الحياة الدائمة كغمس أصبع في البحر بالنسبة إليه.
__________
(1) الروح لابن القيم، ص 208، 209 (بتصرف واختصار يسير) .(المقدمة/)
اعرف نفسك:
النفس ومراحل الحياة الإنسانية:
لذا إذا تدبرنا معنى كلمة النفس في اللغة العربية لوجدناها مرتبطة بمراحل حياة الإنسان منذ تكوينه ومستقره قبل ولادته، وعند ولادته، وبمراحل حياته المختلفة، ثم بلحظة مماته وبعثه. وهذه السلسلة المترابطة من المعاني لا انفصام لها ولا تتوافر هذه الصلة أو هذا الاتصال في أي لغة أخرى، فالإنسان يخلق في رحم أمه (ومن عجائب خلقه) أنه يعيش تسعة أشهر في الرحم بدون أن «يتنفس» . ثم تنفسه أمه: أي تلده، فهي إذا في حالة النفاس، وتسمّى الوالدة نفساء. والمنفوس هو المولود، وفي الحديث: «ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا وقد كتبت شقيّة أو سعيدة» «1» .
وفي اللحظة التي تلده أمه بقدرة القادر سبحانه وتعالى يستمد المنفوس «النفس» ويصبح قادرا على التنفس، وقالوا: سميّت النفس نفسا لتولّد النفس منها واتصاله بها، وكما ترون فإن جميع معاني هذه الكلمات مشتقة من كلمة «نفس» .. أي النفس الإنسانية.
ولنتابع هذه التسلسل العجيب وهذه المعاني المترابطة، فما أن تولد هذه النفس وتتنفس حتى تصبح نفيسة، وكل شيء له خطر وقدر فهو نفيس، وإذا نفس الشيء ارتفع قدره وصار مرغوبا فيه، وقد رفع القرآن الكريم من شأن النفس وأهميتها فقال تعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً «2» .
وفي مجال الحياة فلكلمة النفس ومشتقاتها معاني عظيمة منها: النّفس: العظمة والكبر، والنّفس: العزة والهمة، والنفس: عين الشيء وكنهه وجوهره، ويعبر بها عن الإنسان جميعه «3» .
بعد ذلك يبدأ مشوار الحياة مع سنّة الحياة وهي التنافس بين البشر، يقال: تنافسا ذلك الأمر وتنافسا فيه أي تسابقا وتراغبا فيه على وجه المباراة والمنافسة، وفي القرآن الكريم: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ «4» ، وفي التنافس والمنافسة لابد من فائز ومهزوم، فيقال لواحد: أنت في نفس من أمرك أي في سعة، وقد قيل: اعمل وأنت في نفس من أمرك أي فسحة وسعة قبل الهرم والأمراض والآفات، والتقط أنفاسه: استراح.
ويقال: نفّس الله عنه كربته، أي فرّجها، كما يقال: اللهم نفّس عني، أي فرّج عني ووسّع عليّ، وفي الحديث: «من سرّه أن ينجّيه الله من كرب يوم القيامة فلينفّس عن معسر، أو يضع عنه» «5» .
أما المحروم الذي يرى الفائز فقد يكون في نفسه أثر ورغبة فيحسد ويقال له النّفوس: أي العيون الحسود لأموال الناس ليصيبها، ويقال أصابت فلان نفس، أي عين حاسدة، ويقال: نفس عليك فلان ينفس نفسا ونفاسة أي حسدك. والنفس: العين، والنافس: العائن، والمعيون: المنفوس. وفي الحديث «نهى عن الرقية إلّا في النملة والخمة والنّفس» «6» . أي الإصابة بالعين.
__________
(1) مسلم ج 4 (حديث رقم 2647) .
(2) المائدة/ 32.
(3) انظر معاني كلمة النفس في اللغة، صفحة (ع) .
(4) المطففين/ 29.
(5) مسلم ج 3 (حديث رقم 1563) .
(6) سنن أبي داود كتاب الطب، حديث 3888.(المقدمة/)
هذه هي الأمور التي تحدث في مشوار الحياة، وعند نهاية المطاف يقال: خرجت نفس فلان، أي روحه. قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «1» ، وقال سبحانه: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً «2» ، وقال تعالى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ «3» ، وعند البعث ولقاء رب العالمين تقول النفس المفرطة:
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «4» .
وتأملوا قول الله عز وجل في وصف النفس الإنسانية أثناء الحياة وبعد الموت: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ. وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ.
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ «5» .
علاقة النفس الإنسانية بالكون:
إذا أردنا أن نعلم مدى تكريم الله عز وجل لهذه النفس التي اشتقت منها كافة المعاني السالفة الذكر فما علينا إلا أن نسأل أنفسنا كيف يكون وضع هذه الحياة وهذا الكون لو أن الله عز وجل أراد- وهو على كل شيء قدير- أن يخلق هذا الإنسان ويجعله قادرا على العيش على تنفس الهواء فقط بدون الحاجة إلى الطعام أو الشراب، بل يتغذى على تنفس الهواء فقط مثلما كان يعيش في رحم أمه بدون أن يأكل أو يتنفس من رئتيه. ولو عاش الإنسان تحت ظروف هذا الافتراض ماذا سيكون حال الدنيا والكون المحيط به؟ لنتدبر سويا قول الله تعالى إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ «6» .
في ظل ظروف هذا العالم الافتراضي نجد أنه لا حاجة لنا إلى غذاء وبالتالي لا حاجة إلى مزارع ولا مصانع غذاء ولا متاجر ولا مطاعم ولا مطابخ ولا ... ولا ... ، ولا وجدت حاجة لصيد أسماك البحر أو حيوانات البر أو طيور السماء وانقلب مفهوم الحياة رأسا على عقب واختلت موازين العمل واستجلاب المصلحة وانعدمت الحاجة إلى مواسم الزرع والحصاد وهجرة الطيور والأسماك وبالتالي يختل مفهوم الحياة من هنا يتضح لنا بجلاء معنى قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ «7» وعلاقة ذلك كله بدعوة الله عز وجل على لسان جميع الرسل للتأمل والتدبر والتفكر في آياته التي تؤدي إلى معرفة قدرته وعظمته ومن ثم الإيمان به وإخلاص العبادة له، سبحانه وتعالى هو القائل: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ
«8» .
إن لنا في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة في التفكّر في آلاء الله وتدبّر نعمه التي لا تحصى إذا كنا حقّا من الذين يستعملون عقولهم في تأمّل الدلائل الكونية، فقد روي عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: لما نزلت هذه الآية على النبي صلّى الله عليه وسلّم قام يصلي، فأتاه بلال يؤذنه بالصلاة، فرآه يبكي، فقال يا رسول الله: أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال: «يا بلال، أفلا أكون عبدا شكورا؟ ولقد أنزل الله عليّ الليلة آية إِنَّ فِي خَلْقِ
__________
(1) الزمر/ 42.
(2) الفجر/ 27- 28.
(3) المدثر/ 38.
(4) الزمر/ 56.
(5) ق/ 16- 22.
(6) الأنعام/ 95- 98.
(7) القمر/ 49.
(8) فصلت/ 53.(المقدمة/)
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ» ، ثم قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها» «1» .(المقدمة/)
النفس الإنسانية ودورها في المجال الأخلاقي:
للنفس الإنسانية دور بارز فيما يتعلّق بالأخلاق لأنها إما أن تساعد صاحبها على أن يكون من الأخيار وهي النفس المطمئنة، وإما أن تلومه على السيئات فتدفعه إلى التوبة والاستغفار، كما تلومه على عدم الإكثار من الحسنات وهذه هي النفس اللوامة، وإما أن تأمره بالشر وارتكاب المعاصي وتلك هي النفس الأمارة بالسوء، ولهذه المواقف الثلاث تأثير بالغ على تحلي الإنسان بالأخلاق الفاضلة أو الوقوع في براثن الرذيلة والاتصاف بسوء الخلق، والتناسب بين هذه الحالات الثلاث تناسب عكسي، فكلما قويت النفس المطمئنة التي ألهمها الله التقوى ضعفت النفس الأمارة بالسوء التي ألهمت الفجور، وبينهما النفس اللوامة «2» ، وهي تلك التي تلوم على ما فات، وتندم عليه، فتلوم على الشر لم فعلته؟ وتلوم على الخير لم لا تستكثر منه؟ ومن ثم تكون اللوامة: التي تلوم صاحبها باستمرار وهي بذلك صفة مدح، فإذا كانت كل من النفس المطمئنة والنفس الأمّارة تقومان بعملية التوجيه، فإن النفس اللوامة تقوم بعملية المراجعة والتقويم انطلاقا من الفطرة التي تستحسن الخير وتحث عليه، وهنا ندرك لماذا كانت القسمة ثنائية في قوله تعالى: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها فجعل للنفس قسمين فقط هما: التقية بأمر ربها، والفاجرة بإذن صاحبها، أما إذا نظرنا إلى طبيعة الإنسان وما منحه الله من عقل يميّز به بين الطيب والخبيث، وبين الحسن والرديء في ضوء الشرع، فقد زود الإنسان بقوة ثالثة تتولى عملية التوازن وتقوم بدور التصحيح، ألا وهي النفس اللوامة. [انظر الكشاف التوضيحي (10- 13 أ) ، وانظر كذلك خريطة الابتلاء والنفس الإنسانية] .
الدور الأخلاقي للنفس المطمئنة:
أما النفس المطمئنة فإنها تأمر بالخير وتحض عليه، ويكون من نتيجة الالتزام بذلك تخلّق الإنسان بالأخلاق الطيبة في جميع علاقاته، وفي كل ما يصدر عن قلبه أو جوارحه أو لسانه، ففيما يتعلّق بعلاقته مع الله- عز وجل- نجد قلبه يعمر بالإيمان، والرضا، والتوحيد، والتقوى، والرجاء، والخوف، ونجد هذا القلب فيما يتعلق بالإنسان نفسه متصفا بالأمانة، والتأني، والتفاؤل، والحياء، والسكينة، والطمأنينة، أما فيما يتعلق بالغير فنجده ممتلئا بالسماحة والرحمة والرفق والمحبة ... ونحو ذلك. وإذا انتقلنا إلى مجال الأعمال الظاهرة أو أعمال الجوارح لوجدنا أعمال الإسلام من صلاة وصيام وحج، ووجدنا في النفس الاستقامة والطهارة وأكل الطيبات، وفيما يتعلّق بالغير نجد الإنسان متخلقا بالإحسان والإخاء والأدب والإنفاق والبر وحسن العشرة وحسن المعاملة وصلة الرحم وكفالة اليتيم والمروءة والمواساة ونحو ذلك.
__________
(1) روي هذا الحديث بطرق مختلفة، وأصله في البخاري ومسلم، وقد أورده المفسرون عند تفسير الآية 19 من سورة آل عمران، انظر تفسير القرطبي 4/ 310، وتفسير ابن كثير 1/ 417، وقد ذكرنا الحديث بتمامه في الموسوعة 4/ 1070 فلينظر تخريجه هناك.
(2) اختلف المفسرون اختلافا كبيرا في معنى النفس اللوامة، فقيل هي التي تلوم على الخير والشر، وروي عن مجاهد أنها التي تندم على ما فات (تفسير ابن كثير 4/ 477) ، وقال القرطبي: هي نفس المؤمن الذي لا تراه إلا يلوم نفسه، ويقول ما أردت كذا فلا تراه إلا يعاتب نفسه، وقد نقل القرطبي ذلك عن ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم، انظر تفسير القرطبي 19/ 93، وانظر ما نقلنا آنفا صفحة (ع ح) عن ابن القيم في تفسير معنى اللوامة وتقسيمه لها إلى: لوامة غير ملومة، ولوامة ملومة.(المقدمة/76)
ويخضع اللسان أيضا لتوجيه النفس المطمئنة فلا يصدر عنه فيما يتعلّق بالله- عز وجل- إلّا كل طيب كالابتهال والدعاء والاستخارة والاستغاثة والذكر وتلاوة القرآن، وفيما يتعلّق بالإنسان نفسه نجد صفات مثل كتمان السر وحفظ الأيمان ونحوهما، أما فيما يتعلّق بالغير فيتصف اللسان بالصدق والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والبشارة والدعوة إلى الله- عز وجل- ونحو ذلك. [انظر الكشاف التوضيحي (4 أ، 4 ج) و (4 ب، 4 د) وما فيه من صفات أعمال العقل والقلب والجوارح واللسان وعلاقاتها مع الله ومع النفس ومع الغير] .
الدور الأخلاقي للنفس الأمّارة:
للنفس الأمارة بالسوء أيضا تأثيرها العظيم في مجال الأخلاق، إذ تحض على الشر، وعلى مخالفة أمر الله تعالى، وتتعاون مع الشيطان في النهي عن فعل الخير ولذلك وصفها المولى- عز وجل- بالفجور لخروجها عن أمر الله وما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم فإذا سلك الإنسان مسلكا متبعا هواه ونفسه الأمارة بالسوء جاء هذا السلوك قبيحا ويتسم بالنيّة السيئة وإرادة الشر، هذا منبع كل ما يصدر عن الإنسان قبيحا وسيئا سواء أكان ذلك من عمل القلب أو اللسان أو الجوارح. ففي مجال القلب نجد الشرك والكفر والإلحاد والجحود والعصيان.. إلخ. أما مع النفس فإننا نجد اتباع الهوى والغرور والكبر والعجب ونحوها من أمراض القلب، وكذلك الأمراض الاجتماعية من نحو الجفاء والغلظة والبغض والحسد والمكر والنقمة ونحوها. [انظر الكشاف التوضيحي (4 ب) إطار 1] .
فإذا انتقلنا إلى الجوارح التي تأتمر بأمر هذه النفس الشريرة وجدنا ترك الصلاة والتهاون في أداء الجماعات والفسوق ونحوها، هذا مع الله- عز وجل-، أما مع الذات فإننا نجد التبذير والتبرج والتفريط والخنوثة والكسل وما أشبه ذلك، أما مع الغير فنجد الإجرام والإرهاب والأذى والإساءة والشح والطغيان ونحو ذلك مما تضمنته القائمة. انظر الكشاف التوضيحي (4 ب) إطار 2.
وفيما يتعلّق بأعمال اللسان الذي استجاب لهذه النفس الأمّارة بالسوء فإننا نجد اللغو والمجاهرة بذكر المعصية ونحو ذلك، وفيما يتعلّق بالنفس فإننا نجد التكاثر والفخر ونحوهما، أما البلاء الأعظم فهو ينجم عن اللسان في حق الآخرين من نحو الإفك والبهتان وشهادة الزور والسخرية والاستهزاء والشماتة وإفشاء السر ونحو ذلك مما تضمنته القائمة [انظر الكشاف التوضيحي (4 ب) إطار 3.
الدور الأخلاقي للنفس اللوامة:
إن اتباع هوى النفس الأمارة بالسوء يؤدي حتما إلى الفشل والتشاؤم، وأما اتباع النفس المطمئنة فإنه يؤدي إلى النجاح والتفاؤل، [انظر الكشاف التوضيحي (12) ] ، ولكن ماذا بعد؟ أليست هناك إمكانية للموازنة والتصحيح وإعادة الإنسان إلى طبيعته الخيّرة؟ الجواب: نعم. وهنا يأتي دور النفس اللوامة التي تشكل صماما للوقاية وميزانا للتقويم، وقد تنجح هذه النفس عن طريق المجاهدة والمحاسبة والمراقبة في تصحيح وضع الفجور، فيعود الإنسان إلى الخير بالذكر والاستعاذة والتوبة والاحتساب ونحو ذلك مما تضمنته القائمة 13 أ، فإذا ذكر الله- عز وجل- واستعان الإنسان بالله تعالى واستعاذ من الوسوسة خنس الشيطان وهرب، وهنا يجد المرء نفسه عائدا إلى الله وفارّا إليه من هوى النفس والشيطان فيفعل المأمورات ويجتنب المنهيات ويعود عضوا صالحا في المجتمع.(المقدمة/77)
فإذا كانت النفس اللوامة أو ما يمكن أن نسميه بمراقبة الضمير ضعيفة ولا تستطيع مقاومة إغواء الشيطان فإن الإنسان يستمر في غيّه ويرتد أسوأ مما كان، فنشاهد منه الغضب والإحباط والعجلة والنسيان ونحو ذلك.
هذا وللنفس اللوامة أيضا تأثيرها القوي على النفس المطمئنة لأنها تشكل خطّا ثانيا للدفاع عن اليقين الديني وتأمل دائما في المزيد من الخير، وهنا تكون النفس المطمئنة مدعومة بقوتين عظيمتين إحداهما: حفظ الملائكة والأخرى النفس اللوامة، أما القوة الأولى فتحفظ الإنسان من الغرور والمن بالطاعة ونحو ذلك من الموبقات، أما الثانية فإنها تدفع إلى؟ مزيد من الكمال وتحمي من التقصير ويكون من نتيجة ذلك اتجاه الطائع إلى الحمد والشكر والإحسان والإنفاق والبر ونحوها [انظر الكشاف التوضيحي (12 أ) ] .
ونظرا لأهمية العلاقة بين النفس الإنسانية وقضية الابتلاء، فقد قمنا بمحاولة متواضعة توضح مدى التناسب العكسي بين قوى النفس الثلاث، النفس المطمئنة والنفس اللوامة من ناحية والنفس الأمارة. مدعومة بغواية الشيطان ورفقاء السوء. من ناحية أخرى [انظر خريطة الابتلاء والنفس الإنسانية] .
وتجسد خريطة الابتلاء والنفس الإنسانية علاقة الابتلاء سواء أكان ابتلاء تكليف (طاعات/ معاصي) أو ابتلاء فتنة (سراء/ ضراء) بالنفس الإنسانية. ويكشف أيضا بين الصراع الدائم بين النفس المطمئنة والتي ألهمت التقوى، ومن ثم فهي تأمر بالخير وتحض عليه، والنفس الأمارة التي ألهمت الفجور، ومن ثم فهي تأمر بالشر وتغري به، وبينهما النفس اللوامة، وهي التي تقوم بدور المراقبة والمجاهدة والمحاسبة والتصحيح.
ويلاحظ في هذه الخريطة أن التناسب عكسي بين قوة النفس الأمارة من ناحية، وقوة النفس المطمئنة واللوامة من ناحية أخرى فكلما قويت إحداهما ضعفت الأخرى.
الابتلاء والقيم الخلقية:
إن الابتلاء هو قاعدة حركة الحياة في معطيات الإسلام عن الحياة وعن الإنسان، ومن أجلها سخر كل ما في الكون له، ووجدت الرسالات وأرسلت الرسل، ووجدت إرادة الإنسان الحرة الفاعلة، الملتزمة بإعمار الأرض وبناء الحضارة على أسس خلقية لإسعاد الناس جميعا.
إن عملية التربية الخلقية لها أصولها وقد بيّنا ذلك في الفصل الثاني من «الأخلاق والقيم التربوية في الإسلام» في هذه الموسوعة، سواء ارتدت في التفسير إلى بناء الفرد أو تأثير المجتمع، كما أن تنمية القيم الخلقية تعتمد على فطرة الإنسان وما زود به من استعدادات، ولا بد هنا من الإشارة إلى أن الإسلام يلفت نظرنا إلى أن النفس الإنسانية هي مناط التربية الخلقية، ويلفت نظرنا أيضا إلى أن هذه النفس تتسم بسمات متعددة مثل: الهوى، والشهوة، والحاجات، والدوافع، والشعور بالمشقة، والصبر، والضجر، والخوف والشجاعة، والشح والكرم، والحسد، والكبر والتواضع، والضيق، والتأثر البالغ بالأقوال والأفعال، والشعور بالحسرة والندم، والشك، والإدراك والوعي واليقين والفجور والتقوى، والعلم والجهل، والقدرة على إخفاء المشاعر، والاستعداد لاتخاذ القرار، والاستعداد لإدراك الموقف في كلية وشمولية واستيعاب وإعادة النظر في كل منها، والاستعداد للاستنتاج والتحليل والتفسير، وما إلى ذلك، مما يؤكد ضرورة التربية الخلقية لأن هذه النفس مرنة وتكتسب عمل الخير ليصبح سجية لها وكذلك عمل الشر ليصبح سجية وطبعا لها.
ونظرا لأهمية عملية التدريب بالاختبار والتجربة بابتلاء النفس وتمحيص علاقاتها فإننا سنخص ذلك بدراسة مستقلة فيما يلي من صفحات.(المقدمة/78)
المجلد الأول
الحياة الإيمانية في ضوء علاقة الابتلاء والنفس الإنسانية
إعداد: عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن ملّوح مؤسس ومدير عام دار الوسيلة للنشر والتوزيع إن الابتلاء وسيلة مهمة من وسائل التدريب العملي على ممارسة ما يعرف بالأخلاق العملية على أرض الواقع، ومن ثم فإنه يصقل الإنسان ويضبط انفعالاته، فهو محك يكشف عما في القلوب وهو وسيلة لاختبار رد فعل الإنسان وقدرته على التكيف مع المواقف المختلفة التي يمر بها في حياته، ومن المعروف أن هذه المواقف تختلف نوعا وكما، كما تختلف باختلاف الأشخاص والأعمار والأماكن وقوة الضغوط واستمراريتها، وهنا يكتسب- بالابتلاء- خبرة وتجربة ما كانت لتحدث لولا هذا الابتلاء، وليس من النادر أن يكسبه ذلك نوعا من الحكمة يتأسى بها طول حياته، كما أن فيه صقلا للطبع وتهذيبا للعاطفة وتنمية لحب الخير.
إن المرء يعيش جميع لحظات حياته في حالة ابتلاء، إما بالخير وإما بالشر، إما بالطاعة وإما بالمعصية، كان علينا أن نبحث هذا الموضوع بحثا تفصيليا يتضح من خلاله أنواعه ومظاهره، مجالاته وغاياته، وعلاقته بكل من الفتنة والاختبار، ونأمل من اتخاذ هذا المنهج أن ننجح في توضيح أهمية العلاقة بين مفهوم الحياة والابتلاء وترابطها وتداخلاتها مع المعايير الفردية والاجتماعية التي تضبط حركة السلوك الإنساني في هذه الحياة، نعني بذلك ما أوردناه في هذه الموسوعة من الأخلاق المحمودة التي أمرنا باتباعها، والأخلاق المذمومة التي أمرنا باجتنابها، وقد جاءت هذه الدراسة في مقدمة وخمسة فصول على النحو التالي:
الفصل الأول: مفهوم الحياة- الابتلاء.
الفصل الثاني: مجالات الابتلاء- أنواعه- مظاهره.
الفصل الثالث: حكمة الابتلاء.
الفصل الرابع: القيمة التربوية للابتلاء.
الفصل الخامس: تعامل المسلم مع مواقف الابتلاء.
إنه إذا كانت الآخرة دار حساب فإن الدنيا دار عمل وابتلاء، يقول سبحانه وتعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «1» ، فما هو الابتلاء والنفس الإنسانية؟ وما هي علاقتهما بالأخلاق بجانبيها المحمود والمذموم في هذه الحياة الدنيا ويوم الحساب؟ وما هذه الحياة الدنيا؟ وما المراد بالنفس؟ وما معنى الابتلاء وكيفيته؟ وهذا ما سوف نجيب عنه في الفصول التالية.
__________
(1) الملك/ 2.(1/1)
الفصل الأول مفهوم الحياة- الابتلاء
لما كان الابتلاء علاقة تربط بين النفس الإنسانية وبين الحياة، كان لزاما علينا أن نوضح المقصود بهذه المفاهيم الأساسية في اللغة والاصطلاح، وأن نكشف عنها من منظور إسلامي، ونبدأ أولا ب:-
الحياة الدنيا لغة:
الحياة: نقيض الموت، والحيّ: نقيض الميت، والحيوان اسم يقع على كل شيء حيّ «1» ، أما الدنيا فهي نقيض الآخرة، سميت بذلك لدنوها أي لأنها دنت وتأخرت الآخرة، وكذلك السماء الدنيا هي القربى إلينا، وقيل: الدنيا اسم لهذه الحياة (سميت بذلك) لبعد الآخرة عنها «2» ، وقال الفيروزابادي: الحياة باعتبار الدنيا والآخرة ضربان:
الحياة الدنيا والحياة الآخرة «3» .
الحياة الدنيا اصطلاحا:
الدنيا أو الحياة الدنيا هي ذلك الحيز المكاني والزماني منذ خلق الله الكون وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهي بالنسبة للآدمي أو جنس الإنسان تمتد منذ خلق الله آدم عليه السلام وإلى أن تقوم الساعة، أما بالنسبة للأفراد أو الأشخاص فهي لا تعدو تلك الفترة الزمنية التي تمتد من لحظة الميلاد إلى لحظة الوفاة. والمقصود بها هنا: الزمن الذي يحدث فيه الابتلاء «4» ، أما مكانه فهو الأرض التي نحيا عليها، وقد وصف الله عز وجل هذه الدنيا بصفات عديدة نوجزها فيما يلي:-
وصف الحياة الدنيا:
الحياة الدنيا كما وصفها المولى عزّ وجلّ في القرآن الكريم ذات أحوال متعددة أهمها:- 1- ذات عمر قصير ومتاع قليل: يقول الله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ «5» . ويقول سبحانه: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا «6» .
2- دار لهو ولعب وزينة وتفاخر: تأمّل قوله سبحانه: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ
__________
(1) لسان العرب 2/ 1075 (ط. دار المعارف) .
(2) السابق، (د ن و) 3/ 1435.
(3) بصائر ذوي التمييز (2/ 512) ، وقد ذكر الفيروزابادي أن «الحياة» في القرآن الكريم تستعمل على ستة أوجه، وذكر منها: القوة النامية والقوة الحساسة، والقوة العاقلة، وارتفاع الغم، والحياة الآخروية الأبدية، والحياة التي يوصف بها الباري تعالى. انظر هذه الاستعمالات في المرجع المذكور ص 512- 514.
(4) انظر: فلسفة التربية الإسلامية لماجد كيلاني 162.
(5) الروم/ 55، وأنظر الآية 24 من سورة يونس، والآية 45 من سورة الكهف.
(6) النساء/ 77، وانظر أيضا الآيات: 36، 126 من سورة البقرة، والآية 38 من سورة التوبة، والآية 24 من سورة لقمان.(1/2)
شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ «1» .
3- دار غرور: كما جاء في قوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ «2» .
4- دار ترف واستمتاع: يؤتيها الله عزّ وجلّ لمن يحب ولمن لا يحب، للمؤمن والكافر، يقول سبحانه:
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ «3» .
5- دار إغواء: الدنيا هي الميدان الذي يحاول فيه الشيطان (حسدا منه وكيدا) أن يغوي الإنسان بالشهوات الحسية والأهواء النفسية لمن لم يكن من عباد الله المخلصين، يقول الله تعالى: قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا* قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً* وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً «4» .
6- دار ضلال وطغيان لمن يفتن بها: يقول الله عزّ وجلّ في شأن أولئك المفتونين بالدنيا: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً «5» ، ويقول سبحانه في شأن الطغاة: فَأَمَّا مَنْ طَغى * وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى «6» .
7- دار خزي ولعنة للمعاندين: قال تعالى: فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «7» ، وقال سبحانه: وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ «8» .
8- دار لاكتساب الحسنات والمعيشة الطيبة لمن آمن وعمل صالحا: يقول الله تبارك وتعالى: قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ «9» . وقال عزّ من قائل: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ «10» .
9- دار ابتلاء: وقد أجمل القرآن الكريم هذه السمات المتنوعة للحياة الدنيا عندما أشار إلى أنها دار ابتلاء فقال عزّ من قائل: بارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ
«11» ، وقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «12» .
__________
(1) الحديد/ 20، وانظر أيضا الآيات: 32، 70 من سورة الأنعام، والآيات: هود/ 15، العنكبوت/ 64، محمد/ 36.
(2) فاطر/ 5، وانظر أيضا الآية 33 من سورة لقمان.
(3) المؤمنون/ 33، وانظر الآيات الأخرى الواردة في ذلك في: يونس/ 88، الكهف/ 46، القصص/ 79 الأحقاف/ 20.
(4) الإسراء/ 62- 64.
(5) الكهف/ 104.
(6) النازعات/ 37- 39، وانظر أيضا الآيات: البقرة/ 96، إبراهيم/ 3، الأعلى/ 16.
(7) الزمر/ 26.
(8) القصص/ 42، وانظر أيضا الآيات: البقرة/ 85، الرعد/ 34، فصلت/ 16.
(9) الزمر/ 10، وانظر في ذلك أيضا: البقرة/ 130، النحل/ 122.
(10) النحل/ 97، وانظر أيضا: الأعراف/ 32.
(11) الملك/ 1- 2.
(12) الكهف/ 7.(1/3)
الحياة الأخرى:
إذا كانت الحياة الدنيا دار ابتلاء وعمل، فإن الآخرة دار جزاء، وفيها تظهر نتيجة هذا الابتلاء ويلقى الإنسان جزاء ذلك العمل، يقول الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (الزلزلة/ 7، 8) ، وإذا كانت الدنيا دار فناء فإن الآخرة هي دار بقاء، وقد وصفها الله عز وجل بقوله: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (العنكبوت/ 64) ، يقول صاحب لسان العرب: والحياة اسم يقع على كل شيء حي، وسمّى الله عز وجل الآخرة حيوانا لأنها- كما يقول قتادة- هي الحياة الحقيقة، وقال الأزهري: المعنى أن من صار إلى الآخرة لم يمت ودام حيّا فيها لا يموت، فمن أدخل الجنة حيى فيها حياة طيبة، ومن أدخل النار فإنه لا يموت فيها ولا يحيى «1» . وقال القرطبي: إن المعنى هو أن الآخرة هي دار الحياة الباقية التي لا تزول ولا موت فيها «2» .
الحياة الآخرة كما وصفها القرآن:
وردت في القرآن الكريم صفات عديدة للحياة الآخرة منها:
1- هي الحياة الحقيقية، وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. (العنكبوت/ 64) .
2- هي دار القرار، إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (غافر/ 39) .
3- هي خير من الحياة الدنيا للمتقين. وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (الأنعام/ 32) ، قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى (النساء/ 77) .
4- هي دار العذاب والخسران للكافرين، أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (النمل/ 5) ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ* (المائدة/ 33) ، لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (النحل/ 109) .
5- دار تتفاوت فيها درجات الناس ومنازلهم. وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (الإسراء/ 21) .
6- دار مسئولية وجزاء. فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (الحجر/ 92، 93) ، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (الأعراف/ 180) ، أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (الفرقان/ 75) .
علاقة الإنسان بالحياة الآخرة:
وانطلاقا من هذه الصفة الأخيرة فإن علاقة الإنسان بالحياة الآخرة هي علاقة مسئولية عمّا قدمت يداه في الحياة الدنيا، وتعنى المسئولية هنا: أن كل إنسان سوف يسأل عن تفاصيل ما ابتلي فيه في الدنيا، وفي ضوء نجاحه أو فشله لتحمل هذه المسئولية يتقرر جزاؤه ومصيره «3» . فإما إلى جنة عرضها السماوات والأرض وإما إلى جهنم وساءت مصيرا.
__________
(1) لسان العرب 2/ 1077 (ط. دار المعارف) .
(2) تفسير القرطبي 13/ 362.
(3) فلسفة التربية الإسلامية بتصرف يسير، ص 195.(1/4)
إن مسئولية الإنسان عن أعماله في الدنيا قد يستطيع الإفلات منها بطريقة ما، ولكن المسئولية في الدار الآخرة لا يمكن بحال إلا أن تكون سيفا بتّارا على أعناق الظالمين والطغاة.
العلاقة بين المسئولية في الحياتين الدنيا والآخرة:
لا شك أن هناك علاقة وثيقة بين المسئولية في الدارين لأن المسئولية الاجتماعية في الدنيا هي نتيجة لازمة لعلاقة المسئولية في الآخرة وتتطابق معها. وهي الحلقة التي تربط بين مواقف الإنسان في الدنيا والآخرة وتجعلهما طورين متعاقبين من الابتلاء والجزاء.
والمسئولية الاجتماعية في الدنيا دوائر وميادين بعضها أكبر من بعض. وهي تبدأ بالفرد وتنتهي بالإنسانية كما يلي:- 1- مسئولية الفرد عن نفسه وعن ما منحه الله من قدرات عقلية وسمعية وبصرية وجسدية ونفسية ليستعملها فيما خلقت له طبقا لأوامر الله ونواهيه.
2- مسئولية الفرد عن أسرته وتشمل مسئولية الوالد عن الأبناء والبنات، ومسئولية الولد عن الوالدين، ومسئولية الزوجين كل عن الآخر.
3- مسئولية الأرحام بعضهم عن بعض.
4- مسئولية الفرد عن الأمة، ومسئولية الأمة عن الفرد فيما يزيد في تقدم الأمة ويحفظ مقدراتها وأمنها، وفيما يوفر للفرد العيش الكريم والأمن والاستقرار، ويتفرع عن هذه المسئولية فروع عديدة مثل مسئولية الحاكم عن الشعب، والقوي عن الضعيف، والغني عن الفقير.
5- مسئولية الجيل عن الأجيال اللاحقة في إعدادها لمتطلبات حياتها عقائديا واجتماعيا واقتصاديا وكل ما يساعدها على عبور مستقبلها بنجاح.
6- مسئولية الأمة عن الأمم.
7- مسئولية الإنسان عن المخلوقات باعتباره خليفة الله في الأرض، وأن المخلوقات كلها عيال الله وأحبها إلى الله أبرهم بعياله. وتتسع هذه المسئولية حتى تشمل الإنسان والحيوان والنبات والجماد «1» .
أما المسئولية في الآخرة فهي مسئولية فردية يتحمل فيها الإنسان بمفرده نتيجة عمله دون تأثير على الآخرين من حيث الثواب أو العقاب، يقول تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (النجم/ 39- 41) ، ومما لا شك فيه أن إضلال الآخرين أو هدايتهم يقع في إطار هذه المسئولية الفردية يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام مقررا ذلك: «من سنّ خيرا فاستن به كان له أجره، ومثل أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا، ومن سنّ شرّا، فاستن به كان عليه وزره، ومثل أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا» «2» .
__________
(1) فلسفة التربية الإسلامية بتصرف يسير، ص 201 وما بعدها.
(2) انظر في تخريج هذا الحديث الجزء الثاني من الموسوعة، ص 358.(1/5)
إن جوهر العلاقة بين النفس الإنسانية والحياة الدنيا هي علاقة ابتلاء وتمحيص وفتنة، وسنشير بإيجاز لمعنى كل من النفس والابتلاء والفتنة تمهيدا للحديث عن مظاهر هذا الابتلاء وأنواعه ونتائجه.
الابتلاء والفتنة:
لفظ «الابتلاء» مأخوذ من مادة (ب ل و) التي تدل على نوع من الاختبار من ذلك قولهم: بلي الإنسان وابتلاه الله أي اختبره، قال الشاعر:
بليت وفقدان الحبيب بليّة ... وكم من كريم يبتلى ثمّ يصبر
ويكون البلاء بالخير والشر، والله- عز وجل- يبلي العبد بلاء حسنا وبلاء سيئا، وذلك راجع إلى معنى الاختبار لأنه بذلك يختبر صبره وشكره، وبلوته تأتي أيضا بمعنى جزيته «1» ، وتأتي كذلك بمعنى استخبرته، يقال:
بلوته فأبلاني أي استخبرته فأخبرني، والاسم من الابتلاء: البلوى والبلية والبلاء والجمع من ذلك: بلايا «2» ، وفي الحديث: «اللهم لا تبلنا إلّا بالتي هي أحسن» ويقال: أبلاه الله بلاء حسنا إذا صنع به صنعا جميلا، وقال ابن قتيبة:
يقال: من الخير أبليته ومن الشر بلوته «3» ، وعقب على ذلك الرأي ابن منظور فقال: والمعروف (في اللغة) أن الابتلاء يكون بالخير وبالشر معا من غير فرق بين فعليهما ومن ذلك قوله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ «4» ، «5» ، وقال ابن بري: يأتي الابتلاء أيضا بمعنى الإنعام كما في قوله- عز من قائل-: وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ «6» . أي إنعام بيّن، وقال تعالى في قصة سليمان عندما سخّر له من يأتيه بعرش بلقيس في طرفة عين: قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ «7» ، وفي الحديث: «من أبلي فذكر فقد شكر» قال ابن الأثير: الإبلاء «هنا» هو الإنعام والإحسان «8» .
الابتلاء اصطلاحا:
قال الكفوي: الابتلاء: التكليف في الأمر الشّاقّ، ويكون في الخير والشر معا، ولكنهم (عادة ما) يقولون:
في الخير أبليته إبلاء وفي الشر: بلوته بلاء «9» .
وقال المناوي: البلاء كالبلية: الامتحان، وسمي الغم بلاء لأنه يبلي الجسد «10» .
وقال ماجد كيلاني: الابتلاء هو اختبار مدلول العبادة بمظاهرها الدينية والاجتماعية والكونية وهو المظهر العملي لعلاقة العبودية بين الله- عز وجل- والإنسان «11» .
__________
(1) مقاييس اللغة لابن فارس 1/ 292، والصحاح للجوهري 6/ 2285.
(2) لسان العرب لابن منظور 1/ 355 (ط. دار المعارف) .
(3) النهاية لابن الأثير (بتصرف) 1/ 155.
(4) الأنبياء/ 35.
(5) لسان العرب 1/ 355 (ط. دار المعارف) .
(6) الدخان/ 33.
(7) النمل/ 40.
(8) النهاية لابن الأثير 1/ 155.
(9) الكليات 1/ 29.
(10) التوقيف ص 82.
(11) ماجد كيلاني، فلسفة التربية الإسلامية ص 161 (بتصرف) .(1/6)
هذا ويرتبط مفهوم الابتلاء بمفهوم آخر يتعلق به تعلقا شديدا وقد يرادفه أحيانا، ألا وهو مفهوم الفتنة، وسنعرض لهذا بإيجاز- فيما يلي.
الفتنة لغة:
الفتنة مصدر قولهم: فتنه يفتنه فتنا وفتنة، وهي مأخوذة من (ف ت ن) التي تدل على الابتلاء والاختبار، وأصل الفتن إحراق الشيء بالنار لتظهر جودته من رداءته «1» .
الفتنة اصطلاحا:
تعني الفتنة ما يبين به حال الإنسان من الخير والشر «2» . وقال المناوي: الفتنة: البلية وهي معاملة تظهر الأمور الباطنة «3» . وقال ماجد كيلاني: الفتنة هي الامتحان أو الاختبار المذهب للعقل أو المال أو المضل عن الحق «4» .
أنواع الفتنة:
يقول ابن القيم: الفتنة نوعان: فتنة الشبهات. وهي أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات. وقد يجتمعان للعبد.
وقد ينفرد بإحداهما.
أما النوع الأول وهو فتنة الشبهات من ضعف البصيرة، وقلة العلم، ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد، وحصول الهوى.
وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع، على حسب مراتب بدعهم.
وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد، وتارة من نقل كاذب. وتارة من غرض فاسد وهوى متبع، فهي من عمى في البصيرة وفساد في الإرادة. ولا ينجى من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول، وتحكيمه في كل أمور الدين ظاهرة وباطنة.
أما النوع الثاني من الفتنة ففتنة الشهوات. وقد جمع سبحانه بين الفتنتين في قوله: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ «5» . أي تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخلاق هو النصيب المقدر ثم قال: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا «6» . فهذا الخوض بالباطل، وهو الشبهات. فأشار- سبحانه- في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان من الاستمتاع بالخلاق، والخوض بالباطل، لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلم به أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح. فالأول: هو البدع وما والاها، والثاني: فسق العمل. فالأول: فساد من جهة الشبهات والثاني: من
__________
(1) انظر صفة الفتنة.
(2) التعريفات للجرجاني ص 171.
(3) التوقيف على مهمات التعاريف ص 257.
(4) فلسفة التربية الإسلامية ص 184.
(5) التوبة/ 69.
(6) التوبة/ 69.(1/7)
جهة الشهوات ولهذا كان السلف يقولون «احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه» .
قال تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً «1» .
وكانوا يقولون «احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون» . وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع، والهوى على العقل.
فالأول: أصل فتنة الشبهة، والثاني: أصل فتنة الشهوة، ففتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين، فقال: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ «2» . فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
وبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة «3» .
الفرق بين الفتنة والابتلاء والاختبار:
الفرق بين الفتنة والاختبار: هو أن الفتنة أشد الاختبار وأبلغه، ويكون في الخير والشر ألا تسمع قوله تعالى: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ*
«4» . وقال تعالى: لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً* لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ «5» . فجعل النعمة فتنة لأنه قصد بها المبالغة في اختبار المنعم عليه بها كالذهب إذا أريد المبالغة في تعرف حاله أدخل النار، والله تعالى لا يختبر العبد لتغيير حاله في الخير والشر وإنما المراد بذلك شدة التكليف.
أما الفرق بين الاختبار والابتلاء: فهو أن الابتلاء عادة لا يكون إلا بتحميل المكاره والمشاق. والاختبار يكون بذلك وبفعل المحبوب ألا ترى أنه يقال اختبره بالإنعام عليه ولا تقول ابتلاه بذلك ولا هو مبتلى بالنعمة كما قد يقال إنه مختبر بها ويجوز أن يقال: إن الابتلاء يقتضي استخراج ما عند المبتلى من الطاعة والمعصية، والاختبار يقتضي وقوع الخبر بحاله في ذلك، والخبر العلم الذي يقع بكنه الشيء وحقيقته فالفرق بينهما بين. والفتنة تأتي أيضا بمعنى الابتلاء كما في قوله تعالى: الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ «6» .
__________
(1) الفرقان/ 20.
(2) السجدة/ 24.
(3) ابن القيم، إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (2/ 160- 161) .
(4) التغابن/ 15.
(5) الجن/ 16- 17.
(6) العنكبوت/ 1- 3.(1/8)
الفصل الثاني مجالات الابتلاء.. أنواعه.. مظاهره
ينقسم الابتلاء عدة انقسامات باعتبارات مختلفة، فإذا نظرنا إلى الابتلاء من حيث المادة التي يحصل بها من نحو الأموال والأنفس والثمرات وجدنا له مجالات عديدة، وإذا نظرنا إليه من حيث الأشخاص أو الجماعات أو الأمم وجدنا له أنواعا مختلفة، فإذا تجاوزنا ذلك إلى الشكل الذي يتشكل فيه من نحو السراء أو الضراء، من حيث الطاعة أو المعصية وجدنا له مظاهر متباينة،
وسوف نتناول هذه الأقسام المتنوعة فيما يلي:-
أولا: مجالات الابتلاء:
سبق أن ذكرنا أن الدنيا هي دار ابتلاء، إذ هي بمثابة القاعة (أو الساحة) التي يجري فيها الاختبار، وهي أيضا الزمن المقرر لهذا الاختبار، أما مجالات هذا الاختبار، ومواد ذلك الامتحان، فتتلخص فيما على هذه الأرض من ثروات ومنتجات وزينة وما يجري فوقها من عمران، يقول الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «1» .
وإضافة إلى ذلك فإن الابتلاء يكون أيضا في مجال الأنفس من نحو الصحة والسقم، والقوة والضعف، والسعادة والشقاوة، كما يكون في الأموال من نحو الفقر والغنى، والعوز والرفاهية، وقد أشار المولى- عز وجل- إلى المجالين جميعا فقال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «2» ، وقال عزّ من قائل: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ «3» .
ويلحق بالأموال ويتبعها كل ما يشابهما من الجاه والسلطان والممتلكات العقارية ونحو ذلك، أما الأنفس فيلحق بها ما يصيب الإنسان في أبنائه أو أقاربه أو أحبائه من نحو الصحة والمرض، والحياة والموت، والنجاح والفشل وما أشبه ذلك.
ثانيا: أنواع الابتلاء:
للابتلاء- بالنسبة لمن يقع عليه- أنواع عديدة أهمها:
1- الابتلاء التكليفي، ونعني به:
الابتلاء على مستوى الإنسان بوجه عام، ويمكن أن نطلق عليه ابتلاء التكليف وحمل الأمانة، إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا «4» ،
__________
(1) الكهف/ 7.
(2) آل عمران/ 186.
(3) البقرة/ 155.
(4) الأحزاب/ 72.(1/9)
وقد أشارت إلى هذا الابتلاء التكليفي أيضا الآيتان الكريمتان وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «1» . وقوله سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ «2» . أي أن الابتلاء والاختبار هو في (المقدرة على حسن العمل) وقد جاء في تفسير القرطبي أن معنى «أحسن عملا» أورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله، ولهذا لا يكون العمل مقبولا إلا مع الإخلاص وموافقة السّنّة، وقيل: معنى لِيَبْلُوَكُمْ أي ليعاملكم معاملة المختبر، أي ليبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره، وبالحياة ليبين شكره، وقيل: خلق الله الموت للبعث والجزاء، وخلق الحياة للابتلاء، وعلى ذلك فالابتلاء يتعلق بخلق الحياة لا بخلق الموت «3» .
2- الابتلاء الشخصي:
ويراد به: ما يصيب الإنسان في نفسه أو فيمن حوله من أفراد أسرته من السّرّاء والضّرّاء، وإلى هذا النوع من الابتلاء أشارت الآية الكريمة إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً* إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً «4» ، وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ «5» ، وقال سبحانه: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «6» .
3- الابتلاء الاجتماعي (ابتلاء الناس بعضهم ببعض) :
المقصود بهذا النوع من الابتلاء: أن يبتلي الله الناس بعضهم ببعض، وذلك إما برفع بعضهم فوق بعض درجات مصداقا لقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ «7» ، وإما بالتفاوت فيما بينهم في حظوظ الحياة الدنيا من الرفعة والضعة، أو الغنى والفقر وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ «8» ، وقال عزّ من قائل: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ «9» .
إن الابتلاء هنا يشمل الصنفين جميعا أي المفضّلون (الأغنياء) ، والمفضّل عليهم (الفقراء) ذلك أن الغنى- ما لم يعتصم بالإيمان- يريد زيادة غناه على حساب الفقير بلجوئه إلى الكنز، واستسلامه لغريزة الأنانية، وحب التكاثر والطمع، وينقاد للظلم والفساد أحيانا، وينسى حق الله في ماله فلا يعطف على فقير أو مسكين، ويقسو قلبه ولا يتصف بالرحمة أو الإنصاف في حالات أخرى، أما الفقير- ما لم يتمسك بأهداب التقوى ويصبر على البلوى- فإنه قد يحتال لفقره بالكذب والنفاق ويلجأ إلى زخرف القول ويسعى في الأرض فسادا ليهلك الحرث
__________
(1) هود/ 7.
(2) الملك/ 2.
(3) تفسير القرطبي (بتصرف يسير) 18/ 207.
(4) الإنسان/ 2- 3.
(5) البقرة/ 155.
(6) آل عمران/ 154.
(7) الأنعام/ 165.
(8) الشورى/ 27.
(9) النحل/ 71.(1/10)
والنسل، وقد سجّل القرآن الكريم الحالتين جميعا.
يقول سبحانه عن الحالة الأولى (في قصة داود عليه السلام) : إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ* قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ* فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ «1» . وهنا أيضا يظهر نوع من الابتلاء بالنسبة للحكام الذين يختبرون بتنفيذ شرع الله تعالى والدعوة إلى دينه وإقامة حدوده والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول الله تعالى: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ «2» . ويقول سبحانه: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ «3» ، وقال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «4» .
أما الحالة الثانية فيصورها القرآن أروع تصوير عندما حذّرنا من المنافقين الذين يظهرون المودة بالكلام المعسول والحديث المنمق إذا كانوا معك، فإذا تولوا عنك سعوا في الأرض فسادا وتخريبا، يقول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ* وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ «5» .
وقد أوضح القرآن الكريم أن الله عزّ وجلّ قادر على أن ينصر أولياءه على أعدائه من دون مجاهدة ولكن لم يفعل حتى يتحقق هذا الاختبار وذلك الابتلاء، فيظهر به عدوان الظالمين وطغيانهم، وصبر الصابرين وتحملهم لمشاق مجاهدتهم، قال تعالى: وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ «6» ، ولم يفلت من هذا الابتلاء حتى أنبياء الله- صلوات الله عليهم أجمعين- وقد سجّلت هذا الآية الكريمة وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ «7» .
وقد أجملت كل هذه الأنواع من الابتلاء وذلك الافتتان وكشفت عن حكمته المتمثلة في الصبر على كل أنواع الأذى التي تلحق بعض الناس، الآية الكريمة: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً «8» .
4- الابتلاء الجماعي أو الأممي:
ويتمثل ذلك فيما يصيب الأمة أو الجماعة بأسرها من رغد العيش أو ضيقه، من اعتدال المناخ أو قسوته،
__________
(1) ص/ 23- 25.
(2) المائدة/ 42.
(3) المائدة/ 48.
(4) الأنعام/ 165.
(5) البقرة/ 204- 205.
(6) محمد/ 4.
(7) الأنعام/ 112.
(8) الفرقان/ 20.(1/11)
ويشمل أيضا ما يصيب الأمم من نحو الزلازل والبراكين والفيضانات والأعاصير وما أشبه ذلك من الابتلاءات التي لا يقتصر أثرها على فرد دون آخر أو جماعة دون سواها، وقد أشار المولى عز وجل إلى سبب هذا النوع من الابتلاء بقوله: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ* كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ* ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «1» ، وقوله سبحانه: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ «2» .
ومن أسباب ظهور هذا الابتلاء الذي قد يتمثل في فساد المياه والهواء والزروع والثمار والمساكن، ما يقترفه الناس من المعاصي وما يرتكبونه من الآثام، يقول الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «3» . جاء في تفسير هذه الآية الكريمة أن المعنى: ظهرت المعاصي في البر والبحر فحبس الله عن الناس الغيث وأغلى سعرهم ليذيقهم عقاب بعض الذي عملوا «4» ، وقيل: المعنى أن الله يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات اختبارا منه لهم ومجازاة على صنيعهم لعلهم يرجعون عن المعاصي «5» .
وقد حذرنا المصطفى صلّى الله عليه وسلّم من موجبات هذا النوع من الابتلاء فيما يرويه عنه عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- حيث قال: كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأقبل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوجهه فقال: «يا معشر المهاجرين، خمس خصال أعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء فلولا البهائم لم يمطروا، ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله عز وجل في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم» «6» .
ثالثا: مظاهر الابتلاء:
1- الابتلاء بالضراء أو الشر:
وهو الذي يراد بالابتلاء أو الفتنة عند الإطلاق، وقد تخفى حكمة هذا النوع على الكثيرين، إذ قد يراد به اختبار الصدق في الإيمان، والصبر على الجهاد في سبيل الله «7» ، قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ «8» ، وقال سبحانه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ
__________
(1) الأنفال/ 51- 53.
(2) هود/ 117.
(3) الروم/ 41.
(4) تفسير القرطبي (14/ 41) .
(5) تفسير ابن كثير (3/ 445) .
(6) ابن ماجة (4019) ، وقال في الزوائد: هذا حديث صالح للعمل به، ورواه أيضا الحاكم في المستدرك (4/ 540) ، وقال صحيح، ووافقه الذهبي، وذكره الألباني في صحيح الجامع (2/ 1321) ، وانظر صفات: الفحش- الزنا- التطفيف.
(7) انظر صفات: الشكر، الحمد.
(8) محمد/ 31.(1/12)
فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ «1» ، وقد يراد به التمهيد والتدريب على التمكين في الأرض، نظرا لما يعقب هذا الابتلاء من الصبر في الشدائد «2» وتحمّل المشاق، واليقين بأن لله تعالى حكمة في كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر، قال تعالى: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ «3» ، وقد أخبر المصطفى صلّى الله عليه وسلّم أن جزاء الصابرين على الابتلاء بالضراء هو الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: «يقول المولى عز وجل: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة» يريد عينيه، وقال عليه الصلاة والسلام: «من ابتلى بشيء من البنات فصبر عليهن كنّ له حجابا من النار» «4» . وإلى هذا المظهر من مظاهر الابتلاء أشارت الآية الكريمة: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «5» .
2- الابتلاء بالمعاصي أو السيئات:
وهذا المظهر لا يقل عن سابقيه من حيث خطره وتأثيره في حياة الأمم أو الأفراد، وقد كان آدم أبو البشر هو أول من تعرض لهذا النوع من الابتلاء عند ما أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها. وقد سجل القرآن الكريم هذه الواقعة في قوله سبحانه: وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ* فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ «6» . وقد أشار ابن قيم الجوزية إلى ثمرة هذا الابتلاء عندما قال: لو لم تكن التوبة أحبّ إلى الله لما ابتلى بالذنب أكرم المخلوقات عليه (آدم عليه السلام) فالتوبة هي غاية كل كمال آدمي وقد كان كمال أبينا آدم عليه السلام بها «7» .
3- الابتلاء بالسراء أو الخير:
يبتلى الإنسان على المستوى الشخصي بالنعماء أو الخير فتنة وتمحيصا، وذلك بأن يعطيه الله المال والجاه أو العافية والمنصب والأولاد ونحو ذلك، وهذا المظهر من أهم مظاهر الابتلاء نظرا لما يعقبه من شكر للنعمة أو كفر بها، قال تعالى فيما يحكيه القرآن عن سيدنا سليمان قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ «8» ، وشكر النعمة يعقبه زيادتها، أما كفرانها فإنه يورث الطغيان والكبر
__________
(1) العنكبوت/ 2- 3.
(2) انظر صفات: الصبر، الرضا.
(3) السجدة/ 24.
(4) انظر في تخريج هذين الحديثين، الحديث 15، 31 في صفة الصبر.
(5) آل عمران/ 186.
(6) البقرة/ 35- 36.
(7) مفتاح دار السعادة 1/ 286، وانظر صفة التوبة في هذه الموسوعة، وقارن ب «حكمة الابتلاء بالمعاصي» .
(8) النمل/ 40.(1/13)
والعجب والخيلاء ونحو ذلك من أمراض القلوب، وقد حذّرنا المولى سبحانه من عاقبة النعماء، خاصة إذا تعلّق الأمر بالأموال والأولاد أو الأزواج، فقال عزّ من قائل: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
«1» ، وقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ «2» . وقد أجملت الإشارة إلى النوعين جميعا (الابتلاء بالشر والابتلاء بالخير) الآية الكريمة: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ «3» .
4- الابتلاء بالطاعات:
كما يبتلى الإنسان بالمعصية لتتاح له فرصة التوبة والاستغفار ونحو ذلك، فإنه يبتلى أيضا بالطاعات ليشكر ربه على ما هداه إليه، وإلى هذا أشارت الآيات الكريمة وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ «4» .
وقد أشارت إلى هذين النوعين من الابتلاء (الابتلاء بالمعصية أو السيئات، والابتلاء بالطاعة أو الحسنات) الآية الكريمة: وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «5» . وقد ضرب القرآن الكريم في قصة ابني آدم (قابيل وهابيل) أروع مثلين للابتلاء بالطاعة والمعصية، حيث كان أحدهما يمثل أقصى حالات الطاعة والتقوى، والآخر يمثل أقصى حالات المعصية المتمثلة في القتل، تأمل قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ* إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ* فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ «6» .
ابتلاء التكليف وابتلاء الفتنة:
وبالتمعن في هذه المظاهر الأربعة للابتلاء فإنه يمكن إرجاعها إلى مظهرين اثنين: الأول: ابتلاء التكليف ويشمل الابتلاء بالحسنات أو السيئات، بالطاعات أو المعاصي، يقول الله تعالى فيما يتعلق بهذا النوع الأول: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً* إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً «7» ، والآخر: ابتلاء الفتنة، ويشمل الابتلاء بالسراء أو الضراء، يقول الله تعالى في هذا النوع: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ «8» .
__________
(1) الأنفال/ 28.
(2) التغابن/ 14- 15.
(3) الأنبياء/ 35.
(4) الصافات/ 104- 106.
(5) الأعراف/ 168.
(6) المائدة/ 27- 30.
(7) الإنسان/ 2- 3.
(8) الأنبياء/ 35.(1/14)
الفصل الثالث حكمة الابتلاء
نتحدث في هذا الفصل والذي يليه عن أمرين يرتبطان ببعضهما ارتباطا وثيقا:
الأمر الأول: يتعلق بمحاولة البحث عن حكمة الله عز وجل في الابتلاءات المختلفة وذلك على قدر ما تشير إليه الآيات الكريمة، أو ترشد إليه الأحاديث الشريفة، أو توحي به قصص الابتلاء العديدة التي تضمنتها آي الذكر الحكيم أو أحاديث المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
أما الأمر الثاني: فهو محاولة جادة للإفادة من الابتلاء فيما يتعلق بالعملية التربوية وذلك على قدر ما تسعف به أصول علم التربية، كما أقرها المختصون في هذا النوع المهم من فروع الدراسة، وقد أطلقنا على هذا النوع الثاني:
القيمة التربوية للابتلاء، وإذا كانت حكمة الابتلاء تتعلق بالجانب النظري فإن القيمة التربوية ذات جانب عملي وتطبيقي، من حكم الابتلاء نستلهم عبر الماضي، ومن القيمة التربوية نعد العدة لبناء جيل صلب قوي ثابت على صراط الله المستقيم في المستقبل.
حكمة الله- عز وجل- في الابتلاء:
من أسماء الله- عز وجل- «الحكيم» ولهذا الاسم كما لغيره من الأسماء الحسنى آثار في الخلق تترتب عليه، ومن مقتضى ذلك أن تكون أفعاله- سبحانه وتعالى-، وما يجري به قضاؤه وقدره لا يخلو من الحكمة، علمها من علمها وجهلها من جهلها، وسنحاول هنا أن نتأمل بعض- وليس كل- أسرار الابتلاء بأنواعه المختلفة.
أولا: حكمة الابتلاء بالضراء أو الشر:
للابتلاء بالضراء أو الشر حكم عديدة نشير إلى أهمها فيما يلي:
أ- تقوية الإيمان بالقضاء والقدر:
يقول الشيخ محمد بن عثيمين: على الإنسان أن يؤمن بقضاء الله وقدره، قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ «1» ، ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ «2» .
وعلى المسلمين أن يؤمنوا بمشيئة الله في عموم ملكه فإنه ما من شيء في السماوات أو في الأرض إلا وهو ملك لله عز وجل: مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «3» ، وما من شيء في ملكه إلا وهو بمشيئته وإرادته فبيده الملك، وبيده مقاليد السماوات والأرض، ما من شيء يحدث من رخاء وشدة، وخوف
__________
(1) الحج/ 70.
(2) الحديد/ 22.
(3) المائدة/ 120.(1/15)
وأمن، وصحة ومرض، وقلة وكثرة، إلا بمشيئته سبحانه وتعالى. هو سبحانه خالق الإنسان ومدبره، فللإنسان عزيمة وإرادة، وله قدرة وعمل، والذي أودع فيه تلك العزيمة وخلق فيه القدرة هو الله عز وجل ولو شاء لسلبه الفكر فضاعت إرادته، ولو شاء لسلبه القدرة فما استطاع العمل.
إن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة لا يتم الإيمان إلا به، لكنه ليس حجة للإنسان على فعل معاصي الله أو التهاون بما أوجب الله، وجه ذلك أنّ الله أعطاك عقلا تتمكن به من الإرادة، وأعطاك قدرة تتمكن بها من العمل فلذلك إذا سلب عقل الإنسان لم يعاقب على معصية، ولا ترك واجب، وإذا سلب قدرته على الواجب لم يؤاخذ بتركه.
إن الاحتجاج بالقدر على المعاصي أو ترك الواجبات حجة داحضة باطلة أبطلها الله في كتابه ويبطلها العقل والواقع «1» .
أبطلها الله في كتابه فقال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ «2» .
ب- الابتلاء جسر يوصل إلى أكمل الغايات:
يقول ابن القيم- رحمه الله-: إذا تأملت حكمته سبحانه فيما ابتلى به عباده وصفوته وجدت أنه ساقهم به إلى أجلّ الغايات وأكمل النهايات التي لم يكونوا يعبرون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان، وكان ذلك الجسر لكماله كالجسر الذي لا سبيل إلى عبورهم إلى الجنة إلا عليه، وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين المنهج في حقهم والكرامة، فصورته صورة ابتلاء وامتحان وباطنه فيه الرحمة والنعمة، فكم لله من نعمة جسيمة ومنة عظيمة تجنى من قطوف الابتلاء والامتحان، فتأمل حال أبينا آدم عليه السلام وما آلت إليه محنته من الاصطفاء والاجتباء والتوبة والهداية ورفعة المنزلة، ولولا تلك المحنة التي جرت عليه وهي إخراجه من الجنة وتوابع ذلك لما وصل إلى ما وصل إليه «3» .
ج- الابتلاء وسيلة للتمكين في الأرض:
قيل للشافعي- رحمه الله- يا أبا عبد الله، أيهما أفضل للرجل أن يمكّن أو يبتلى؟ (أي بالضراء) ، فقال الشافعي: لا يمكّن حتى يبتلى، فإنّ الله تعالى ابتلى نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا- صلوات الله عليهم أجمعين- فلما صبروا (على الابتلاء) مكّنهم «4» .
د- تمحيص المؤمن وتخليصه من الشوائب المنافية للإيمان:
إن المصائب التي تصيب الناس في أنفسهم أو في أرزاقهم، أو غير ذلك مما يتصل بهم مما يسرهم الكمال فيه ويؤلمهم النقص منه، تكمن حكمتها في التمحيص الناتج عن هذا الابتلاء والامتحان، يقول الله تبارك وتعالى:
__________
(1) الضياء اللامع للشيخ محمد بن صالح عثيمين ص 349.
(2) النساء/ 165.
(3) مفتاح دار السعادة 1/ 299.
(4) الفوائد لابن القيم ص 283.(1/16)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ* أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ «1» .
فالبلايا والمحن محك يكشف عما في القلوب وتظهر به مكنونات الصدور، ينتفي بها الزيف والرياء، وتنكشف الحقيقة بكل جلاء.. تطهير لا يبقى معه زيف ولا دخل، وتصحيح لا يبقى فيه غبش ولا خلل، إن الشدائد والنوازل تستجيش مكنون القوى وكوامن الطاقات. وتتفتح بها في القلوب منافذ ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا حين تعرض للابتلاء، وعند الحوادث يتميز الغبش من الصفاء والهلع من الصبر، والثقة من القنوط «2» .
فالابتلاء قد يقتضي في بعض أشكاله أن يكون بالمصيبة وبما تكره النفوس «3» ، وتحمّل المؤمن مصائب الامتحان الإلهي بصبر وصدق مع الله ورضا بقضائه وقدره؛ هو من أفضل أعماله الصالحة، التي يكتب الله له بها أجرا عظيما وثوابا جزيلا. قال الله تعالى: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ «4» ، إن هذه الضراء ليست هي خاتمة المطاف، وسرعان ما تنقشع وتزول، يقول الله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً «5» . فهذه مصائب امتحان، وهي في سبيل الله، وتحملها والصبر عليها من صالحات الأعمال «6» .
هـ- الردع والتحذير من الغرور:
إنّ العقوبة العاجلة على ما اقترفه الإنسان أو الجماعة أو الأمة من معاص تقتضي حكمة المولى- عز وجل- أن تعجل عقوبتها حيث إن فيها ردعا وتحذيرا وعبرة، لهم ولغيرهم من الأفراد والجماعات، وقد أشارت إلى ذلك الآية الكريمة: كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ «7» . وقوله عز من قائل: وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ «8» ، وقال سبحانه: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ «9» .
__________
(1) آل عمران/ 140- 142.
(2) توجيهات وذكرى، للشيخ الدكتور صالح بن حميد، ص 240- 240 (بتصرف) .
(3) انظر صفات: الصبر والمصابرة، ومجاهدة النفس.
(4) التوبة/ 120- 121.
(5) الشرح/ 5- 6.
(6) الأخلاق الإسلامية للميداني 2/ 480- 481.
(7) الأعراف/ 163.
(8) الأعراف/ 165.
(9) الأنعام/ 11.(1/17)
و الرحمة بالعصاة والتخفيف عنهم يوم القيامة:
من حكمة الابتلاء بالعقوبة أن يعجل الله للمذنب عقوبته فتأتيه في الدنيا تخفيفا عنه يوم القيامة، يقول الله- عز وجل-: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «1» .
قال علي- رضي الله عنه-: هذه أرجى آية في كتاب الله عز وجل، وإذا كان يكفّر عني بالمصائب ويعفو عن كثير فما يبقى بعد كفارته وعفوه!! وقد روي عنه مرفوعا قوله- رضي الله عنه-: «ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها النبي صلّى الله عليه وسلّم: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ، يا علي، ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثنّى عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه «2» . وعن أنس- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة» «3» .
وقال ابن عون: إن محمد بن سيرين لما ركبه الدّين اغتم لذلك، فقال: إني لأعرف هذا الغم، هذا بذنب أصبته منذ أربعين سنة. وقال عكرمة: ما من نكبة أصابت عبدا فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفره له إلا بها، أو لينال درجة لم يكن يوصله إليها إلا بها «4» .
ز- إقامة حجة العدل على العباد:
يقول ابن القيم- رحمه الله-: «ومنها (أي من الحكم في الابتلاء بالضراء) إقامة حجة عدله عز وجل على عبده ليعلم هذا العبد أن لله عليه الحجة البالغة، فإذا أصابه من المكروه شيء فلا يقول: من أين هذا؟ ولا من أين أتيت؟ ولا بأي ذنب أصبت؟ وما نزل بلاء قط إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة «5» .
ثانيا: حكمة الابتلاء بالذنوب أو المعاصي:
قد يتساءل كثيرون عن حكمة وقوع المعاصي وما يترتب عليها من الابتلاءات، وربما خطر في بالهم السؤال الآتي: ألم يكن المولى- عز وجل- بقادر على أن يمنع هذه المعاصي فلا تقع أصلا؟ وعن هذا التساؤل أجاب ابن القيم باستفاضة، وفصّل أنواع الحكمة الإلهية التي اقتضت وقوع الذنوب أو المعاصي.
__________
(1) الشورى/ 30.
(2) تفسير القرطبي 16/ 31، وقد روى نحوه الترمذي عن بلال بن أبي بردة وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. انظر سنن الترمذي، حديث 3252.
(3) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، انظر سنن الترمذي، حديث رقم (2507) .
(4) تفسير القرطبي 16/ 31.
(5) مفتاح دار السعادة 1/ 287.(1/18)
ويمكن تقسيم هذه الحكم العظيمة والمنح الجليلة في ثلاثة أمور:
1- إصلاح علاقة العبد بربه عز وجل.
2- إصلاح علاقة العبد بنفسه.
3- إصلاح علاقة العبد بالآخرين.
الأول: إصلاح علاقة العبد بربه عز وجل:
يتجلى ذلك بوضوح فيما يلي:-
أ- التوبة وصولا إلى الكمال البشري:
قال بعض العارفين: لو لم تكن التوبة أحب إلى الله لما ابتلى بالذنب أكرم المخلوقات عليه (الإنسان) فالتوبة هي غاية كل كمال آدمي، ولقد كان كمال أبينا آدم عليه السلام بها، فكم بين حاله وقد قيل له: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى «1» . وبين حاله وقد أخبر عنه المولى بقوله: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى «2» .
فالحال الأولى حال أكل وشرب وتمتع، والحال الثانية حال اجتباء واصطفاء وهداية، ويا بعد ما بينهما، ولما كان كماله (آدم) بالتوبة كان كمال بنيه بها أيضا، ذلك أن كمال الآدمي في هذه الدار إنما يكون بالتوبة النصوح، وفي الآخرة بالنجاة من النار، وهذا الكمال الأخير مرتب على الكمال الأول، قال ابن القيم- رحمه الله تعالى-: التوبة هي حقيقة دين الإسلام، والدين كله داخل في مسمى التوبة، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله. فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين «3» . وإنما يحب الله من فعل ما أمر به. وترك ما نهي عنه. فإذا التوبة هي الرجوع عما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه ظاهرا وباطنا.
ب- الحمد والشكر والرضا:
ومن الحكمة أيضا ما توجبه التوبة من آثار عجيبة من المقامات التي لا تحصل بدونها فيوجب له ذلك من المحبة والرقة واللطف وشكر الله تعالى وحمده والرضا عنه عبوديات أخرى، ويكفيه أن الله- عز وجل- يفرح بتوبته أعظم فرح، وينعكس ذلك على الإنسان فيحس بفرح الظفر بالطاعة والتوبة النصوح، ويجد لذلك انشراحا دائما ونعيما ومقيما. (انظر صفات: الحمد، الشكر، الثناء، الرضا، المحبة) .
ج- الاستغفار:
إذا وقع الإنسان في الذنب شهد نفسه مثل إخوانه الخطائين وأن الجميع مشتركون في الحاجة إلى مغفرة الله- عز وجل- وعفوه ورحمته، وكما يحب المرء أن يستغفر له أخوه المسلم ينبغي له أيضا أن يستغفر لأخيه، فيصير هجيراه وديدنه «رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات وللمؤمنين والمؤمنات» . (انظر صفات: الاستغفار، التوبة، الإنابة) .
__________
(1) طه/ 118.
(2) طه/ 122.
(3) انظر صفة التوبة.(1/19)
د- الإحسان والبر والإفضال:
ومن حكم الابتلاء بالمعصية أن الله يحب أن يتفضل على عباده ويتم نعمته عليهم، ويريهم مواقع بره وكرمه وإحسانه، ومن أعظم أنواع الإحسان والبر، أن يحسن إلى من أساء، ويعفو عمن ظلم، ويغفر لمن أذنب ... وقد ندب المولى عباده إلى هذه الشيم الفاضلة والأفعال الحميدة، وهو أولى بها منهم وأحق، وله في تقدير أسبابها من الحكم ما يبهر العقل فسبحانه وبحمده. (انظر صفات: الإحسان، البر، بر الوالدين، الفضل) .
هـ- تحقيق معنى الأسماء الحسنى:
ومن الحكم في الابتلاء بالذنب؛ أنه سبحانه له الأسماء الحسنى، ولكل من أسمائه أثر من الآثار في الخلق والأمر، لا بد من ترتبه عليه، كترتب المرزوق والرزق على الرازق، وترتب المرحوم وأسباب الرحمة على الراحم، ولو لم يكن من عباده من يخطىء ويذنب ليتوب عليه ويغفر له ويعفو عنه، لم يظهر أثر أسمائه الغفور والعفو والحليم والتواب، وما جرى مجراها.. فأسماؤه الغفار والتواب تقتضي مغفورا له وكذلك من يتوب عليه، وأمورا يتوب عليه من أجلها (انظر صفات: الرحمة والعفو والاستغفار وخاصة فيما يتعلق من ذلك باتصافه عز وجل بهذه الصفات) .
وتعريف العبد بعزة الله في قضائه وقدره:
ومن الحكمة أيضا أنه سبحانه يعرف عباده عزه في قضائه وقدره ونفوذ مشيئته وجريان حكمته، وأنه لا محيص للعبد عما قضاه عليه ولا مفر له منه بل هو في قبضة مالكه وسيده. (انظر صفة الإيمان وخاصة ما يتعلق بالقدر وصفة التوكل واليقين) .
ز- بيان حاجة العبد إلى حفظ الله ومعونته:
ومن حكم الابتلاء بالمعاصي تعريف العبد حاجته إلى حفظ الله له ومعونته وصيانته، وإلا فهو هالك، وإن وكله الله إلى نفسه وكله إلى ضيعة وعجز وذنب وخطيئة وتفريط، وقد أجمع العلماء على أن التوفيق، ألّا يكل الله العبد إلى نفسه، وأن الخذلان كل الخذلان أن يخلي بينه وبين نفسه، وفي دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» وتمام هذا الحديث: عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت» «1» (انظر صفة التوكل) .
ح- الاستعانة والاستعاذة والدعاء:
يستجلب الله من العبد عند ما يبتليه بالذنب ما هو من أعظم أسباب السعادة له من الاستعاذة والاستعانة والدعاء والتضرع والابتهال والإنابة والمحبة والرجاء والخوف. (انظر هذه الصفات في مظانها من الموسوعة) .
__________
(1) أبو داود (5090) ، وقال الألباني: حسن. انظر صحيح الكلم الطيب ص 49.(1/20)
ط- تمام العبودية:
يستخرج الله بهذا النوع من الابتلاء من العبد تمام العبودية، بتكميل مقام الذل والانقياد، وأكمل الخلق عبودية أكملهم ذلّا لله وانقيادا وطاعة، والمراد بالذل هنا، ذل المحبة الذي يستخرج من قلب المحب أنواعا من التقرب والتودد والإيثار والرضا والحمد والشكر والصبر والندم، وتحمل العظائم لا يستخرجها الخوف وحده، ولا الرجاء وحده، وهناك ذل آخر هو ذلك المعصية، وبيان ذلك أن العبد متى شهد صلاحه واستقامته شمخ بأنفه وتعاظمت نفسه وظن أنه وأنه، فإذا ابتلى بالذنب تصاغرت إليه نفسه وذل لله وخضع.
ي- سعة حلم الله وكرمه وعفوه:
ومن الحكمة أيضا في ذلك تعريفه سبحانه عبده سعة حاله وكرمه في الستر عليه، وأنه لو شاء لعاجله بالذنب ولهتكه بين عباده فلم يطب له معهم عيش أبدا، ولولا حلمه وكرمه ما استقام أمر، ولفسدت السموات والأرض، ولا سبيل لعبد في النجاة إلا بعفوه ومغفرته وقبول توبته، فالله- عز وجل- هو الذي وفق العبد للتوبة وألهمه إياها، ومن هنا تكون توبة العبد محفوفة بتوبة قبلها عليه من الله إذنا وتوفيقا، وتوبة ثانية منه عليه قبولا ورضا ... (انظر صفات: الحلم، الكرم، العفو) .
ك- الإنابة والمحبة والفرار إلى الله- عز وجل:
رب ذنب قد أهاج لصاحبه من الخوف والإشفاق، والوجل والإنابة، والمحبة والإيثار، والفرار إلى الله، ما لا يهيجه له كثير من الطاعات، وكم من ذنب كان سببا لاستقامة العبد وفراره إلى الله وبعده عن رق الغي، وهو بمنزلة من خلّط فأحس بسوء مزاجه، وعنده أخلاط مزمنة قاتلة وهو لا يشعر بها، فشرب دواء أزال تلك الأخلاط العفنة التي لو دامت لترامت به إلى الفساد والعيب، إن من تبلغ رحمته ولطفه وبره بعبده هذا المبلغ، وما هو أعجب وألطف منه لحقيق بأن يكون الحب كله له والطاعات كلها له، وأن يذكر فلا ينسى، ويطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر. (انظر صفات: الإنابة، المحبة، الفرار إلى الله، الإيثار، الذكر، الشكر) .
ل- التواضع والخشية:
ومن ذلك أن العبد إذا شهد ذنوبه ومعاصيه وتفريطه في حق ربه رأى القليل من النعم كثيرا والكثير من عمله قليلا، فيورثه ذلك تواضعا وخشية وإنابة وطمأنينة ورضا، وأين حال هذا من حال من لا يرى لله عليه نعمة إلا ويرى أنه كان يستحق أكثر منها.
الثاني: إصلاح علاقة العبد بنفسه:
ويظهر هذا جليا في النقاط التالية:-
أ- تعريف العبد حقيقة نفسه:
ومن حكمة الابتلاء بالذنب أن العبد يعرف حقيقة نفسه، وأنها الظالمة، وأن ما صدر عنها من الشر صدر من أهله، إذا الجهل والظلم منبع الشر كله، وأن كل ما فيها من خير وعلم وهدى وإنابة وتقوى من الله- عز(1/21)
وجل- هو الذي زكاها، وإذا لم يشأ تزكية العبد تركه مع دواعي ظلمه وجهله، لأن الله- عز وجل- هو الذي يزكي من يشاء من النفوس فتزكو وتأتي بأنواع الخير والبر، وقد كان من
دعائه صلّى الله عليه وسلّم «اللهم آت نفسي تقواها وزكّها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها» «1» ، فإذا ابتلى الله العبد بالذنب عرف نفسه ونقصها فيجتهد من ثم في كمالها.
ب- خلع رداء الكبر والعظمة:
ومن الحكمة في الابتلاء بالمعاصي أن يخلع العبد صولة الطاعة من قلبه وينزع عنه رداء الكبر والعظمة الذي لبس له، ويلبس رداء الذل والانكسار، إذ لو دامت تلك الصولة والعزة في قلبه لخيف عليه ما هو من أعظم الآفات وأشدها فتكا، ألا وهو العجب. (انظر صفات: الكبر والعجب، العتو، الطغيان) .
ج- زوال الحصر والضيق:
ومن الحكمة في ذلك، أنّ العبد يقيم معاذير الخلائق وتتسع رحمته لهم، ويزول عنه ذلك الحصر والضيق، والانحراف، ويستريح العصاة من دعائه عليهم وقنوطه منهم وسؤال المولى- عز وجل- أن يخسف بهم الأرض ويرسل عليهم البلاء ولا ينظر إليهم بعين. (انظر صفات: الرحمة، القلق، الخوف) .
د- تحقق صفة الإنسانية في العبد:
لقد اقتضت الحكمة الإلهية تركيب الشهوة والغضب في الإنسان، وهاتان القوتان هما بمنزلة صفاته الذاتية وبهما وقعت المحنة والابتلاء، وهاتان القوتان لا يدعان العبد حتى ينزلانه منازل الأبرار أو يضعانه تحت أقدام الأشرار، وهكذا فإن كل واحد من القوتين يقتضي أثره من وقوع الذنب والمخالفات والمعاصي، ولو لم يكن الأمر كذلك لم يكن الإنسان إنسانا بل كان ملكا، ومن هنا قال المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: «كل بني آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون» «2» .
هـ- الندم والبكاء:
إذا ابتلي الإنسان بالذنب جعله نصب عينيه، ونسي طاعته وجعل همه كله بذنبه، ويكون هذا عين الرحمة في حقه، قال بعض السلف في هذا المعنى: «إن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الحسنة فيدخل بها النار» قالوا: وكيف ذلك؟ قال: «يعمل الخطيئة فلا تزال نصب عينه، كلما ذكرها بكى وندم وتاب واستغفر وتضرع وأناب إلى الله- عز وجل- وذل له وانكسر، وعمل لها أعمالا فتكون سبب الرحمة في حقه، ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه يمن بها ويراها ويعتد بها على ربه- عز وجل- وعلى الخلق، ويتكبر بها، ويتعجب من الناس كيف لا يعظمونه ويكرمونه ويجلونه عليها، فلا تزال هذه الأمور به حتى تقوى عليه آثارها فتدخله النار، وعلامة السعادة أن تكون حسنات العبد خلف ظهره وسيئاته نصب عينيه، وعلامة الشقاوة أن يجعل حسناته نصب عينيه وسيئاته خلف ظهره» . (انظر صفات: التوبة، الاستغفار، البكاء) .
__________
(1) مسلم (2722) ، وهذا جزء من حديث زيد بن أرقم، انظر الحديث رقم (3) في صفة الزكاة.
(2) انظر تخريج هذا الحديث في صفة التوبة، حديث رقم 20، ج 4، ص 1287.(1/22)
الثالث: إصلاح علاقة العبد بالآخرين:
ويبدو ذلك جليا في الآتي:-
أ- تعلم العبد المسامحة وحسن المعاملة والرضا عن الغير:
ومنها أن العبد إذا ابتلي بالمحنة أو بالذنب فإنه يدعو الله أن يقيل عثرته ويغفر زلته فيعامل بني جنسه في إساءتهم إليه وزلاتهم معه بما يحب أن يعامله الله به، لأن الجزاء من جنس العمل فمن عفا عفا الله عنه، ومن سامح أخاه في إساءته إليه سامحه الله، ومن عفا وتجاوز تجاوز الله عنه، ويلحق بذلك أن العبد إذا عرف هذا فأحسن إلى من أساء إليه ولم يقابل إساءته بإساءة تعرض بذلك لمثلها من رب العزة والجلال، وأن الله- عز وجل- يقابل إساءته بإحسان منه وفضل، إذ المولى- عز وجل- أوسع فضلا وأجزل عطاء. (انظر صفات: السماحة، الرضا، حسن المعاملة) .
ب- التواضع مع الخلق والعفو عن زلاتهم:
مشاهدة العبد ذنوبه وخطاياه توجب ألا يرى لنفسه على أحد فضلا ولا يقع في اعتقاده أنه خير من أحد، وأين هذا ممن لا يزال عاتبا على الخلق شاكيا ترك قيامهم بحقه ساخطا عليهم وهم عليه أسخط، ويستتبع هذا أن يمسك عن عيوب الناس والفكر فيها لأنه مشغول بعيب نفسه، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وويل لمن نسي عيبه وتفرغ لعيوب الناس. (انظر صفات: التواضع، الرضا، مجاهدة النفس) . وإذا شهد العبد نفسه سيئا مع ربه مع فرط إحسانه إليه، فإن هذا يقتضي منه أن يغفر للمسيئين إليه من حوله ويعفو عنهم ويسامحهم.
هذه الثمرات ونحوها متى اجتناها العبد من الذنب فهي علامة كون الابتلاء رحمة في حقه، ومن اجتنى منه أضدادها وأوجبت له خلاف ذلك، فهي علامة الشقاوة، وأنه من هوانه على الله وسقوطه من عينه خلى بينه وبين معاصيه ليقيم عليه حجة عدله، فيعاقبه باستحقاقه، وتتداعى السيئات في حقه فيتولد من الذنب ما شاء الله من المهالك والمتالف التي يهوي بها فى دركات الجحيم، والمعصية كل المعصية أن يتولد من الذنب ذنب ثم يتولد من الاثنين ثالث ثم تقوى الثلاثة فيتولد منها رابع وهلم جرا، ذلك أن الحسنات والسيئات آخذ بعضها برقاب بعض ويتلو بعضها بعضا، قال بعض السلف: «إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من عقاب السيئة السيئة بعدها» «1» ، «2» .
__________
(1) بتصرف واختصار عن ابن القيم، مفتاح دار السعادة، 1/ 286- 296.
(2) وقد علمنا المولى سبحانه وتعالى ألا نيأس من رحمة الله مهما كانت معاصينا، وأيا كان إسرافنا على أنفسنا فقال: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الزمر/ 53) ، وحذرنا من التمادي في المعصية وتأخير التوبة وقرن بين غفرانه لمن تاب وعقابه لمن أعرض فقال: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (الحجر/ 49- 50) .(1/23)
ثالثا: حكمة الابتلاء بالسراء أو الخير:
لا تخفى حكمة الله عز وجل في ابتلاء شخص ما بالسراء، حيث يعقب ذلك شكر العبد لربه وحمده والثناء عليه بما هو أهله، وفي هذه الحالة يفيض الله على عبده مزيدا من النعمة مصداقا لقوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «1» .
ومما لا شك فيه أن نتيجة هذا الشكر تعود على العبد نفسه، أما إذا كانت الأخرى وقابل العبد ما يناله من الخير أو السراء بالجحود والنكران، فإنه يؤدي إلى الطغيان والاستعلاء في الأرض وما يعقب ذلك من عتو وفساد، وقد ضرب القرآن الكريم أروع مثلين لذلك في قصتي سليمان، وقارون اللتين نشير إليهما بإيجاز- فيما يلي:-
قصة ابتلاء سليمان عليه السلام:
توضح قصة ابتلاء سليمان عليه السلام- كما حكاها القرآن الكريم- حكمة المولى عز وجل في ابتلاء عبده بالسراء، يقول الله تعالى: قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ* قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ «2» .
وكما توضح هذه الآيات الكريمة فإن الله عز وجل قد ابتلى سليمان بقوة السلطان والنفوذ في الأرض، ووفرة وسائل التنفيذ والإنجاز، وعرف سليمان أن ذلك لا يعدو أن يكون ابتلاء من الله عز وجل له، فشكر ربه «3» . على ما أعطاه. وإذا كان رسولنا صلّى الله عليه وسلّم قد أمر بالاقتداء بهؤلاء الأنبياء في قول الله سبحانه: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ «4» . فإن لنا فيهم- تبعا لذلك- الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة.
قصة ابتلاء قارون:
لقد كان قارون من قوم موسى عليه السلام، وقد امتحنه الله بوفرة الثروة فأصابه الغرور وزعم أن ما ابتلي به من خير هو ثمرة علمه وخبراته الاقتصادية، ثم راح يستغل ثروته ومنزلته لنشر الفساد ودعم الظلم والفتن وفي الترف والزينة، وكان عاقبة «5» أمره أن خسف الله به وبداره الأرض. انظر تفاصيل هذه القصة في سورة القصص آية 76- 83. (انظر صفات: الكنز- الغرور- الفتنة- الطغيان) .
__________
(1) إبراهيم/ 7.
(2) النمل/ 39- 40.
(3) انظر فلسفة التربية الإسلامية، ص 166.
(4) الأنعام/ 90.
(5) انظر فلسفة التربية الإسلامية، ص 167، وانظر هذه القصة كاملة في «قصص الأنبياء» ص 281- 292.(1/24)
رابعا: حكمة الابتلاء بالطاعات:
أما الابتلاء بالطاعات فحكمته استجلاب مزيد من الشكر وعرفان فضل الله تعالى فيما أنعم به وتفضل، وقد جاء في الحديث الشريف أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عنه المغيرة بن شعبة «إن كان النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يقوم أو لا يصلي حتى ترم قدماه، فيقال له- في ذلك- فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا» «1» . وكفى بالشكر حافظا للنعم الموجودة وجالبا للنعم المفقودة، كما يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى «2» . كما أن من حكمة هذا النوع من الابتلاء ألا يركن المرء إلى طاعته وألا يغتر بها فيكون كمن قال الله فيه وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ* وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «3» .
وتوضح قصة ابتلاء الخليل إبراهيم عليه السلام حكمة ابتلاء الله عز وجل أنبياءه وأولياءه بالطاعة خير توضيح، ونشير إلى هذه القصة- بإيجاز- فيما يلي:-
قصة ابتلاء إبراهيم عليه السلام:
لقد سجل القرآن الكريم في أكثر من موضع موقف إبراهيم عليه السلام من الابتلاءات العديدة التي تعرض لها «4» . وكان أبرز هذه الابتلاءات أمر الله- عز وجل- له بذبح ابنه إسماعيل، يقول الله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ «5» .
وقد عقب ابن القيم على الابتلاء في هذه القصة فقال: تأمل حال أبينا الثالث إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم إمام الحنفاء وشيخ الأنبياء وخليل رب العالمين من بني آدم، وانظر ما آلت إليه محنته وصبره، وبذله نفسه لله، وتأمل كيف آل به بذله لله نفسه، ونصرته دينه، إلى أن اتخذه الله خليلا لنفسه وأمر رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يتبع ملته. وأنبهك على خصلة واحدة مما أكرمه الله به في محنته بذبح ولده، فإن الله تبارك وتعالى لا يتكرم عليه أحد، وهو أكرم الأكرمين، فمن ترك لوجهه أمرا أو فعله لوجهه، بذل الله له أضعاف ما تركه من ذلك الأمر أضعافا مضاعفة، وجازاه بأضعاف ما فعله لأجله أضعافا مضاعفة «6» .
__________
(1) البخاري- الفتح 3 (6463) ، ومسلم (2816) ، وانظر أيضا صفة الشكر.
(2) انظر الأثر رقم (10) في صفة الشكر ج 6 ص 2416.
(3) الأعراف/ 175- 176.
(4) انظر قصة إبراهيم عليه السلام والمواضع التي ذكرت فيها في القرآن في قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجار، ص 70- 107.
(5) الصافات/ 103- 106.
(6) مفتاح دار السعادة (1/ 300) .(1/25)
الفصل الرابع القيمة التربوية للابتلاء
للابتلاء- بأنواعه المختلفة ومظاهره العديدة- دور عظيم في تربية النفوس، وتدريبها على تحمل المشاق، وتهيئتها لمواجهة أي ظرف طارىء أو محتمل، كما أن فيها تدريبا للقوى العقلية والذهنية وتوجيها لها كي تسير على المنهج السوي الذي يحقق الغاية المرجوة منها، كما أن في ذلك حماية لها من الزيغ والانحراف،
وسنشير فيما يلي إلى أهم الثمار التربوية لعملية الابتلاء.
1- الابتلاء تربية بالخبرة:
إن المبتلى بالذنوب أو بالضراء يصبح لديه من الخبرة ما يمكنه من معالجة ذلك مستقبلا معالجة صحيحة، يقول ابن القيم: المبتلى بالذنب يصبح كالطبيب المجرب الذي عرف المرض مباشرة، ومن ثم فهو يعرف كيف يعالجه علاجا صحيحا، وهذا معنى قولهم: أعرف الناس بالآفات «1» أكثرهم آفات. وهذه قيمة معرفية أولا، وهي ثانيا قيمة عملية تفيد في معالجة الحالات المماثلة، يقول ماجد الكيلاني: الابتلاء تربية بالخبرة هدفها فهم الخير وتذوق جماله، وفهم الشر والنفور من قبحه، ومن خلال هذا الفهم وهذا التذوق تتحقق غاية مهمة من غايات الابتلاء وهي إدراك عظمة النعم الإلهية على الإنسان، ثم يكون من وراء ذلك الابتلاء نوع من الترقي العقلي والاجتماعي، لأن الإنسان حين يمتحن بموقف معين ثم يتبع الأساليب الصحيحة لمعالجته تتكون لديه خبرة صحيحة بطبيعة المواقف الزمنية، والأشياء الكونية، ويعرف الأساليب الصحيحة لمعالجتها. وحين يخطىء هذه الأساليب الصحيحة فإنه يقف على خطورة الانحراف عن قوانين الأشياء ويعرف الآثار السيئة للأساليب الخاطئة. ويكون ثمرة ذلك كله ارتقاء النوع الإنساني «2» .
إن تربية الإنسان وتأديبه يقتضيان في بعض الأحيان إذاقته بعض ما يكره من المصائب أو الآلام، وعندئذ تكون مصلحة الإنسان نفسه هي التي اقتضت أن يصيبه من الله عز وجل بعض الابتلاءات التي تتربى بها نفسه وتتهذب عن طريقها أخلاقه «3» . وهنا تكون «تربية النفوس على تحمل ألوان الحياة المختلفة الخاضعة لسنن ثابتة عامة ضمن مقادير الله الكبرى، وهذه الحكمة التربوية ذات فلسفة عظيمة في سر الألوان المتضادة التي تتعرض لها الحياة، إن اللذة لا تعرف قيمتها إلا بالألم، وإن الجميل لا يعرف جماله ما لم تعرف صورة القبح، وإن الكمال لا يدرك كماله إلا بالنقص، وبضدها تتميز الأشياء «4» » .
__________
(1) مفتاح دار السعادة 1/ 295.
(2) فلسفة التربية الإسلامية ص 172 (بتصرف) .
(3) بتصرف عن: الأخلاق الإسلامية للميداني 2/ 479.
(4) السابق 2/ 481.(1/26)
2- التدرب على الحذر وأخذ الحيطة:
يقول ابن القيم: من فوائد الابتلاء تحرز المبتلى من مصائد العدو ومكامنه ومعرفة من أين يدخل عليه اللصوص وقطاع الطرق؟ وأين تقع مكامنهم؟، ومن أين يخرجون عليه؟ وفي أي وقت؟ وهو بهذه المعرفة قد استعد لهم وتأهب للقائهم وعرف كيف يدفع شرهم وكيدهم، ولو أنه مر عليهم على غرة وطمأنينة لم يأمن أن يظفروا به ويجتاحوه جملة «1» . (انظر صفات: الحذر- اليقظة- الفتنة- الغي والإغواء) .
3- اكتساب القوة والشجاعة في مواجهة الأعداء:
إن التخلص من داء الغفلة يؤدي إلى استجماع القوى، والتشجع لمحاربة العدو من شياطين الإنس والجن، فقد ينشغل الإنسان عن عدوه اللدود وهو الشيطان والنفس الأمارة بالسوء وبطانة الشر، فإذا أصابه منهم سهم استجمع قوته وحميته وطالب بثأره إن كان قلبه حرا كريما، كالرجل الشجاع إذا جرح فإنه لا يقوم له شيء بعدها حتى تراه هائجا مقداما، أما القلب الجبان المهين إذا جرح فهو كالرجل الضعيف، إذا جرح ولى هاربا فيفقد بذلك مروءته، ولا خير فيمن لا مروءة «2» له يطلب بها الثأر من عدوه، ولا عدو أعدى للإنسان من الشيطان، وقد جاء في الأثر: إن المؤمن لينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره في سفره «3» . (انظر صفات: القوة، قوة الارادة، العزم والعزيمة، الشجاعة، الصبر، علو الهمة) .
4- المعرفة المباشرة بأمراض النفس وكيفية علاجها:
كما أن للابتلاء أثره الفعال في مقاومة آفات الجسد والتغلب عليها، فإن له أيضا دوره الفعال في معرفة أمراض النفوس وكيفية معالجتها، وهذه هي حال المؤمن يكون فطنا حاذقا أعرف الناس بالشر وأبعدهم منه، فإذا تكلم في الشر وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالطته رأيته من أبر الناس، والمقصود أن من بلي بالآفات صار من أعرف الناس بطرقها، وأمكنه أن يسدها على نفسه وعلى الآخرين «4» .
إنه يوجد إلى جانب الاستعدادات الفطرية لدى الإنسان قوة واعية مدركة موجهة تناط بها التبعة، فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعداد الخير فيها، وتغليبه على استعداد الشر فقد أفلح ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب، قال تعالى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها «5» . إن النية الطيبة لابد أن تقترن بالتربية والصقل، وبالإعداد اللازم لتتوفر لدى الإنسان
__________
(1) الفوائد لابن القيم 21/ 295 (بتصرف) .
(2) انظر صفة المروءة، وعلو الهمة.
(3) الفوائد لابن القيم 1/ 295، ومعنى ينضي بعيره: أي يكده ويتعبه ويرغمه على ما يريد.
(4) الفوائد لابن القيم 1/ 295- 296.
(5) الشمس/ 7- 10.(1/27)
الإمكانات التي تؤهله لنقل ما ينويه إلى حيز التطبيق «1» وهنا تنبثق جملة حقائق ذات قيمة في التوجيه التربوي.
فهي أولا: ترتفع بقيمة الإنسان، حين تجعله أهلا لاحتمال تبعة اتجاهه، وتمنحه حرية الاختيار (في إطار المشيئة الإلهية التي شاءت له هذه الحرية فيما يختار) فالحرية والتبعة يضعان هذا الكائن في مكان كريم، ويقرران له في هذا الوجود منزلة عالية تليق بالخليقة التي نفخ الله فيها من روحه وسواها بيده، وفضلها على كثير من العالمين.
وهي ثانيا: تلقي على هذا الكائن تبعة مصيره، وتجعل أمره بين يديه (في إطار المشيئة الكبرى كما أسلفنا) فتثير في حسه كل مشاعر اليقظة والتحرج والتقوى. وهو يعلم أن قدر الله فيه يتحقق من خلال تصرفه هو بنفسه:
إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ «2» . وهي تبعة ثقيلة لا يغفل صاحبها ولا يغفو!
وهي ثالثا: تشعر هذا الإنسان بالحاجة الدائمة للرجوع إلى الموازين الإلهية الثابتة، ليظل على يقين أن هواه لم يخدعه، ولم يضلله، كي لا يقوده الهوى إلى المهلكة، ولا يحق عليه قدر الله فيمن يجعل إلهه هواه، وبذلك يظل قريبا من الله، يهتدي بهديه، ويستضيء بالنور الذي أمده به في متاهات الطريق! ومن ثم فلا نهاية لما يملك هذا الإنسان أن يصل إليه من تزكية النفوس وتطهيرها ويتطهر في هذا العباب الذي يتدفق حوله من ينابيع الوجود «3» .
5- تدريب القوى العقلية وتنشيطها للقيام بمهامها على الوجه الأكمل:
ويتمثل ذلك فيما يلي:-
أ- اليقظة:
إن صدمة الابتلاء- خاصة بالضراء- هي بمثابة صيحة النذير لقوم نيام تنبههم من سبات نوم الغفلة، وسكرة أحلام اليقظة، يقول الله تعالى واصفا أولئك الذين غرقوا في مجر الغفلة لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ «4» ، وهذه اليقظة «5» هي- كما يقول ابن القيم- أول منازل العبودية، وتعنى انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين، ولله ما أنفع هذه الروعة وما أعظم قدرها، وما أقوى إعانتها على السلوك، ومن اليقظة ينتقل الإنسان إلى منزلة العزم (وهو العقد الجازم على الشيء) ، وبحسب كمال انتباهه ويقظته تكون عزيمته، وبحسب قوة عزمه يكون استعداده «6» ، وبحسب استعداده يكون تذكره.
ب- التفكر والتأمل والاعتبار:
إذا ابتلى الإنسان واستيقظ بدأ مرحلة التفكر والتأمل وإعمال الخاطر في تجربة الابتلاء، ورددها قلبه معتبرا، يقول ابن القيم- رحمه الله-: «أصل الخير والشر من قبل التفكر، لأن الفكر مبدأ الإرادة والطلب وأنفع الفكر الفكر في مصالح المعاد (ما يتعلق بالآخرة) وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد، وفي طرق اجتنابها، فهذه أربعة أفكار هي أجل الأفكار، ويليها أربعة: فكر في مصالح الدنيا، وطرق تحصيلها، وفكر في مفاسد الدنيا،
__________
(1) أسعد السحمراني، الأخلاق والفلسفة القديمة، ص 26.
(2) الرعد/ 11.
(3) في ظلال القرآن (6/ 3918) .
(4) الحجر/ 72.
(5) انظر صفة اليقظة.
(6) مدارج السالكين 1/ 138- 139 (بتصرف) .(1/28)
وطرق الاحتراز منها.
إن أعظم الفكر فكر يوصل إلى معرفة الله عز وجل ويؤدي إلى ذكره وشكره، ولا يكون ذلك إلا بالتأمل في ملكوت السموات والأرض وعجائب صنع الله سبحانه، وقد كان صلّى الله عليه وسلّم مضرب المثل في هذا النوع من التفكر، مصداق ذلك ما روي عن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة فقالت لعبيد بن عمير: قد آن لك أن تزورنا، فقال: أقول يا أمه كما قال الأول: زر غبا تزدد حبا. قال فقالت: دعونا من رطانتكم هذه. قال ابن عمير:
أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: فسكتت ثم قالت: لما كانت ليلة من الليالي قال: «يا عائشة، ذريني أتعبد الليلة لربي» قلت والله إني لأحب قربك وأحب ما سرك. قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي. قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي. قال: يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟
قال: «أفلا أكون عبدا شكورا، لقد نزلت علي الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها «1» . إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ* رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ «2» .
ج- التذكر:
إن وقوع الابتلاء هو في الحقيقة نعمة من الله وفضل منه، لأنه يذكر الإنسان ويثبته على صراط ربه المستقيم وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ «3» . وعلى الإنسان أن يتذكر مصيره لو أنه ترك لهواه بدون تذكرة أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ «4» ، وقال سبحانه: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ «5» .
وعند الابتلاء يتذكر الإنسان حاله في الدنيا وحاله في الآخرة، وينظر أيهما أفضل أن يبتلى هنا أم هناك فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى «6» ، كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا* وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا* وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى «7» .
وعند ساعة الاضطرار والابتلاء يعرف العبد أنه لن يكشف السوء إلا الله أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ «8» . إن المرء إذا أفلح في الوصول بالتذكر
__________
(1) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (2/ 620) ص 387، وقال محققه: إسناده قوي على شرط مسلم. وانظر: تفسير ابن كثير (1/ 437) ، وهو عند البخاري- الفتح (8/ 4837) بلفظ مختصر.
(2) آل عمران/ 190- 192.
(3) الأنعام/ 126.
(4) الجاثية/ 23.
(5) الزمر/ 27.
(6) النازعات/ 34- 35.
(7) الفجر/ 21- 23.
(8) النمل/ 62.(1/29)
بعد النسيان إلى هذه المرحلة من التدرج والارتقاء شيئا فشيئا، فقد أوتي حكمة من عند الله، وعرف حكمة هذا الابتلاء يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ
«1» .
ويتأكد هذا المعنى للابتلاء بقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ «2» . فالتذكر يورث البصيرة، والمقصود به هنا- كما يقول ابن كثير- أنهم تذكروا عقاب الله وجزيل ثوابه، ووعده ووعيده، فتابوا وأنابوا واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من قريب «3» .
6- تمحيص القلب وتزكيته:
إذا كان العقل مناط التفكير والتدبر والتذكر ونحو ذلك، فإن القلب محل الإيمان والمحبة والخشوع والخشية ونحو ذلك مما يسمى أعمال القلوب «4» ، وهناك تأثير وتأثر بين الأعمال العقلية والأعمال القلبية، فالقلب يتلقى ذلك النور الناتج عن المعرفة العقلية الفطرية، أي تلك التي فطر الله الناس عليها من حب الله تعالى وعبادته وحده، فإذا تزكت الفطرة بلا فساد كان القلب عارفا بالله محبا له «5» ، وأعمال القلوب هذه هي آكد شعب الإيمان، وصلاح سائر الأعمال منوط بصلاح القلب، ذلك أن أعمال القلوب هي الأصل، وأعمال الجوارح تبع «6» ، يقول العز بن عبد السلام: مبدأ التكاليف كلها ومصدرها القلب، وصلاح الأجساد موقوف على صلاح القلوب، وفساد الأجساد موقوف على فساد القلوب «7» .
إن كل ما ذكره العلماء في صلاح القلوب أو فسادها مستمد من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» «8» .
إن للابتلاء دورا عظيما في تمحيص القلب أي تخليصه من الشوائب غير الإيمانية، فإذا تمحص القلب وخلص قويت فيه دواعي الخشية والخوف والرجاء ونحو ذلك من الأحوال المحمودة، وإذا قويت هذه ضعفت للتو واللحظة أحواله المذمومة من نحو الوسوسة والغيظ والكبر والنفاق ونحوها مما يعرف بأمراض القلوب، وهي أعظم من أمراض الجسم، وقد عقد ابن تيمية موازنة مهمة بين النوعين: مرض الأجساد ومرض القلوب فقال: كما أن الإنسان إذا صار لا يسمع بأذنه، ولا يبصر بعينه، ولا ينطق بلسانه، كان ذلك مرضا مؤلما له لما يفوته من المصالح ويحدثه من المضار، فكذلك إذا لم يسمع ولم يبصر ولم يعلم بقلبه الحق من الباطل ولم يميّز بين الخير
__________
(1) البقرة/ 269.
(2) الأعراف/ 201.
(3) تفسير ابن كثير (2/ 290) ، وانظر صفة التذكر.
(4) ذكر ابن تيمية ضمن أعمال القلب- وهي كثيرة- محبة الله ورسوله، والتوكل على الله وإخلاص الدين له والخوف منه، والرجاء له وما يتبع ذلك (الفتاوى 10/ 6) .
(5) السابق 10/ 135.
(6) معالم السلوك وتزكية النفوس، ص 67.
(7) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (1/ 167) .
(8) هذا جزء من حديث النعمان بن بشير، انظره كاملا في صفة الصلاح (6/ 2603) ، وقد خرّجناه هناك.(1/30)
والشر، والغي والرشاد، فإن ذلك من أعظم أمراض قلبه «1» . ويتضح من هذه الموازنة الدقيقة أن أساس مرض القلب هو الجهل وأساس صحته هو العلم، ويكون مرض القلب أيضا بالحب والبغض الخارجين عن الاعتدال، وتلك هي الأهواء التي قال الله فيها: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ «2» ، وقال سبحانه: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ «3» .
وما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب (والابتلاءات) هي بمنزلة ما يصيب الجسم من الآلام التي يصح بها وتزول أخلاطه الفاسدة «4» ، فكذلك الابتلاءات يصح بها القلب وتزول عنه شوائبه. يقول الله تعالى موضحا أثر الابتلاء الذي أصاب المسلمين يوم أحد: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «5» .
وسنعرض فيما يلي للأحوال القلبية التي تقوى بالابتلاء، وتلك الشوائب أو الأمراض التي يتمحص القلب بزوالها كلية أو إضعافها إلى حد كبير. ثم نشير- بإيجاز- إلى تزكية القلوب.
الأحوال القلبية التي تقوى بالابتلاء:
أ- الخشية:
والمراد بها خوف الله عز وجل خوفا يشوبه تعظيم ويقترن به إجلال «6» . وقد وعد الله الذين يخشونه بالفوز والأجر الكبير، فقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ «7» . وقال جل من قائل: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ «8» ، وقد كشف القرآن الكريم عن أثر هذه الخشية وثمرتها فقال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ «9» .
وقد بشر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من يتصف بالخشية، وقرن بينه وبين المجاهد فقال: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله» «10» .
ب- الخوف من الله تعالى:
أما الخوف فيعني: اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف «11» ، يقول ابن رجب: القدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثا للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات كان ذلك فضلا محمودا «12» ، ويقول الحافظ ابن حجر: الخوف من المقامات العلية، هو من لوازم الإيمان، قال تعالى: وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «13» .
__________
(1) الفتاوى 10/ 141.
(2) القصص/ 50.
(3) الروم/ 29.
(4) الفتاوى 10/ 147.
(5) آل عمران/ 154.
(6) انظر صفة الخشية.
(7) النور/ 52.
(8) الملك/ 12.
(9) الزمر/ 23.
(10) سنن الترمذي (1639) وقال: حديث حسن، وانظر أيضا الحديث رقم (11) في صفة الخشية.
(11) انظر صفة الخوف، وقد ذكرنا هناك تعريفات أخرى.
(12) التخويف من النار لابن رجب ص 21.
(13) آل عمران/ 175.(1/31)
وهذا الخوف المحمود يقترن بالرجاء كما في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً «1» ، وعن أنس- رضي الله عنه- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل على شاب وهو في الموت، فقال: «كيف تجدك؟» . قال والله يا رسول الله إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف» «2» . وقد وعد الله الخائفين بالجنة فقال: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى «3» .
ج- الخشوع:
والمراد به: قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل «4» ، قال ابن القيم: والحق أنه يلتئم من التعظيم والمحبة والذل والانكسار «5» . وهذا الخشوع يأتي عند ذكر الله تعالى، يقول المولى سبحانه: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ «6» ، ويقول جل من قائل: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ «7» . ومن هذه الآيات الكريمة نستنبط أمرين مهمين: الأول: أن الخشوع في الصلاة هو أول صفات المؤمنين، الثاني: أن ثمرته هو الفلاح، وأن أصحابه من الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ «8» .
د- الرجاء:
والمراد به النظر إلى سعة رحمة الله تعالى «9» والثقة بجوده وفضله وكرمه، يقول ابن حجر:
المقصود من الرجاء أن من وقع منه تقصير فليحسن ظنه بالله، ويرجو أن يمحو عنه ذنبه، وكذا من وقعت منه طاعة يرجو قبولها، وأما من انهمك على المعصية راجيا عدم المؤاخذة بغير ندم ولا إقلاع فهذا في غرور، وما أحسن قول القائل: من علامة السعادة أن تطيع، وتخاف ألا تقبل، ومن علامة الشقاء أن تعصى وترجو أن تنجو «10» . إن رجاء الله واليوم الآخر هو سمة المؤمنين المتأسين برسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً «11» .
هـ- التقوى:
المراد بالتقوى هنا تقوى القلب الواردة في قوله تعالى: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ «12» ، أضاف التقوى إلى القلوب لأن حقيقة التقوى في القلب «13» . ولهذا قال عليه الصلاة
__________
(1) الإسراء/ 57.
(2) الترمذي (983) واللفظ له، وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجة (4261) وقال النووي: إسناده حسن. وحسنه الألباني، صحيح ابن ماجة (3436) وهو في الصحيحة (1051) .
(3) النازعات/ 40- 41.
(4) انظر صفة الخشوع.
(5) مدارج السالكين (1/ 558) .
(6) الحديد/ 16.
(7) المؤمنون/ 1- 2.
(8) المؤمنون/ 11.
(9) انظر صفة الرجاء.
(10) انظر فتح الباري (11/ 301) .
(11) الأحزاب/ 21.
(12) الحج/ 32.
(13) تفسير القرطبي (12/ 56) .(1/32)
والسلام: «التقوى ههنا» وأشار إلى صدره «1» ، وتفسر التقوى أيضا بالطاعة والذكر والشكر، ذلك قوله سبحانه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ «2» . قال ابن مسعود في تفسيرها: أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر «3» .
والاستقامة:
الاستقامة هنا هي- كما يقول ابن رجب- استقامة القلب على التوحيد. وقد فسر أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- الاستقامة في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا «4» . بأنهم لم يلتفتوا إلى غيره، فمتى استقام القلب على معرفة الله تعالى، وعلى خشيته وإجلاله ومهابته ومحبته وإرادته، ورجائه ودعائه والتوكل عليه والإعراض عما سواه، استقامت
الجوارح كلها على طاعته، فإن القلب هو ملك الأعضاء، وهي جنوده، فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه، وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان، فإنه ترجمان القلب والمعبر عنه «5» . يقول ابن القيم: الاستقامة هي سلوك المنهج القويم، وهي كلمة جامعة آخذة بمجامع الدين، وهي القيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد، وتتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات، وهي تعني في ذلك كله: وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله «6» . فالأقوال تشمل الدعاء والذكر ونحو ذلك من أعمال اللسان، وأعمال الجوارح تشمل الحج والعمرة ونحو ذلك، أما النيات فإنها تشمل الإيمان والإخلاص ونحوها، ويجمع ذلك كله الصلاة فإنها صلة بين العبد وربه وهي عمود الإسلام لأنها تجمع بين الأقوال والأفعال والنيات «7» .
ويترتب على الاستقامة والتقوى القلبيين التزام العبد بطاعة الله تعالى في كل ما أمر به أو نهي عنه وبذلك يحسن إيمانه ويقوى إسلامه، ويتجلى إحسانه.
والخلاصة: أن هذه الصفات وما أشبهها من نحو الوجل، والإنابة، والضراعة، ينتج عنها من الثمار ما تصلح به جميع علاقات الإنسان، فعلاقة العبد بربه يصلحها: الخوف، والخشية، والخشوع.. ونحو ذلك. أما العلاقة بين العبد ونفسه فيصلحها: الطمأنينة، والسكينة، وانشراح الصدر.. ونحو ذلك. وفيما يتعلق بعلاقة الإنسان بالآخرين فإنها تصلح بالألفة، والرأفة، والرحمة.. ونحو ذلك، ومرد ذلك جميعه إلى صلاح القلب وما يتبعه من صلاح الجسد كما قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الذي أوردناه سابقا.
__________
(1) صحيح مسلم (2564) ، وانظر صفة التقوى.
(2) آل عمران/ 102.
(3) تفسير ابن كثير (1/ 369) .
(4) فصلت/ 30.
(5) جامع العلوم والحكم (193- 194) بتصرف.
(6) مدارج السالكين (2/ 103) وما بعدها (بتصرف) .
(7) انظر صفة الصلاة.(1/33)
فخلاصة القول أنه متى ما صلح العقل والقلب صلحت الجوارح وصلح اللسان وبذلك تصلح الأقوال والأفعال وثمرة ذلك كله صلاح الأحوال في الدارين الأولى والآخرة.
الأمراض القلبية التي يعالجها الابتلاء:
الابتلاء يمحص القلب ويخلصه من الآفات التي تعرض له من الشبهات والشهوات مثل:
- الغفلة.- الغل.- الغيظ والغضب.- الكبر.- النفاق.- اللهو واللعب.- الحسد.
- الحقد.- الوسوسة.- الشك والريبة.- القسوة وما يتبعها من الغلظة والفظاظة.- الغي.
- الابتداع والزيغ.
وقد عقدنا لهذه الخصال المذمومة ونحوها قسما خاصا بها في المجلدات (9- 11) ، وقد أغنانا ما ذكرناه هناك عن الإعادة هنا.
تزكية القلب:
أما زكاة القلب فإنها تحصل بأمور منها: الصدقة، فإنها لما كانت تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار صار القلب يزكو بها، وزكاته معنى زائد على طهارته من الذنب، وكذلك ترك الفواحش يزكو بها القلب، إذ هي بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، فإذا تاب الإنسان من الذنوب تخلصت قوة القلب وإرادته للأعمال الصالحة، واستراح القلب من تلك الحوادث الفاسدة التي كانت فيه، وهكذا فإن التزكية وإن كان أصلها النماء والبركة وزيادة الخير فإنما تحصل أيضا بإزالة الشر، فلهذا صار التزكي يجمع هذا وهذا «1» .
إن تزكية النفس أو القلب إنما تعود على صاحبها، فهو الذي يجني ثمرتها في الدنيا والآخرة مصداقا لقوله تعالى: وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ «2» .
__________
(1) الفتاوى، 96، 97 (باختصار) .
(2) فاطر/ 18.(1/34)
الفصل الخامس تعامل المسلم مع مواقف الابتلاء
ذكرنا أن المسلم، بل الإنسان عامة يعيش دائما في لحظة ما من لحظات الابتلاء، إذ هو فيما يتعلق بالابتلاء التكليفي إما في طاعة أو معصية، وفيما يتعلق بابتلاء الفتنة إما في رخاء ودعة يرفل في ثياب النعمة أو في ضيق وكرب وشقاء، تتكالب عليه صروف الدهر ويذوق البأساء أشكالا وألوانا، فماذا يصنع في كل هذه المواقف؟ على هذا السؤال سوف نجيب في الفقرات الآتية:
أولا: تعامل المسلم المبتلى بالضراء.
ثانيا: تعامل المسلم المبتلى بالسراء.
ثالثا: تعامل المسلم المبتلى بالمعاصي.
رابعا: تعامل المسلم المبتلى بالطاعات.
أولا: تعامل المسلم المبتلى بالضراء:
إذا ابتلي المسلم في بدنه أو أهله أو ماله، فإن عليه أن يسير وفق المنهج الإسلامي الصحيح لمواجهة مثل هذه الحالة وتتلخص خطوات هذا المنهج في النقاط الآتية:
1- اليقين والرضا:
- الخطوة الأولى: على المسلم أن يعتقد اعتقادا جازما بأن هناك حياة أخرى هي خير من هذه الحياة، قال تعالى: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى «1» ، وقال سبحانه: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ «2» ، ويعني اعتقاد هذا أن تلك المحنة مهما طالت فهي إلى زوال، لأن الدنيا نفسها زائلة، وهي لا تعدو أن تكون دار امتحان وابتلاء، يقول الله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ «3» . ومن هذا المنظور للحياة يتكون لدى الشخص المبتلى حوافز للرقي والسمو فوق المحنة، فيجاهد نفسه، ويقول عند المصيبة إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ «4» . وقد جعل الله هذه الجملة ذكر الذاكر بعد نزول المصائب، لأن المصائب لا تعدو أن تكون سلبا للنّعم التي سبق أن أنعم الله بها عليه، أو حرمانا من النعم التي أنعم الله بمثلها على عباده، والنعم لدى التحقيق هي ملك لله تعالى، والناس وسائر عباد الله الذين ينعم عليهم بالنعم هم أيضا ملك لله تعالى، ومصير العباد كلّهم أن يرجعوا إلى مالكهم، ومصير الأشياء كلّها أن تعود إلى مالكها سبحانه وتعالى، فهو الذي يقول في كتابه: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ «5» . وقال سبحانه: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ «6» .
__________
(1) الأعلى/ 17.
(2) النحل/ 30.
(3) العنكبوت/ 2- 3.
(4) البقرة/ 156.
(5) الذاريات/ 58.
(6) فاطر/ 3.(1/35)
فإذا ابتلى الله المؤمن فاستردّ منه نعمة كان قد وضعها بين يديه ليبتليه بها، فإن المؤمن يتذكّر بسرعة أنّ الله هو مالك كلّ شيء، يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ «1» ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ «2» . ويتذكّر أيضا أنه هو نفسه مملوك لله، وأنّ جميع الخلائق مملوكون له سبحانه وأنهم عباده، وأنهم جميعا راجعون إليه، فإذا رجع الملك إلى مالكه فعلام الحزن؟ وعلام الأسى؟ ولم الاعتراض؟ ولماذا التسخط؟
فحينما يتذكّر المؤمن قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ «3» ، وتذكر هذه الحقائق يعلن عبارة الإيمان التي تدلّ عليها فيقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.
هذه العقيدة الإيمانية رحمة من الله تملأ القلوب طمأنينة وتسليما، ورضى عن الله- عز وجل- فيما جرت به مقاديره «4» .
فما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن يتمثل دائما قول الله تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ «5» ، ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ «6» . ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ «7» . أي بمشيئته وإرادته عز وجل. قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، وفي الآية بيان بأن من ثواب الصبر هداية القلب، وصح في الحديث «لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له» والله عز وجل يقول: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «8» . وعليه أن يعلم يقينا أن الله وحده هو الذي يملك كشف الضر عنه مصداقا لقوله سبحانه: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ «9» . وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ «10» .
إن هذا الاعتقاد الجازم وذلك اليقين الإيماني يجعلان المبتلى يجدد صلته بخالقه ويجلب له سعادة واطمئنانا، ويلقي عليه من السكينة عند وقوع البلاء ما يجعل نفسه آمنة مطمئنة راضية بقضاء الله وقدره، وهنا يستطيع المسلم أن يتخلص من الاضطرابات الانفعالية التي تصيب المرء عادة عند وقوع البلاء، وأفضل علاج نفسي لهذه الحالة هو ذكر الله- عز وجل- أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «11» . وتلاوة القرآن، قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «12» ، «13» .
__________
(1) فاطر/ 15.
(2) الحديد/ 29.
(3) الروم/ 40.
(4) الأخلاق الإسلامية (2/ 475- 476) .
(5) التوبة/ 51.
(6) الحديد/ 22- 23.
(7) التغابن/ 11.
(8) البقرة/ 216.
(9) يونس/ 107.
(10) القصص/ 68.
(11) الرعد/ 28.
(12) الإسراء/ 82.
(13) بتصرف واختصار عن: روح الدين الإسلامي (ص 177) .(1/36)
إن الإيمان وما يتبعه من الاحتساب، والتوكل على الله، والرضا بقضاء الله وقدره والإيمان به، والذكر، وتلاوة القرآن «1» هو المسكن الأول أو الخطوة الأولى في علاج ما ينتاب المبتلى بالضراء وهي تنقذه من أن يقع فريسة لانشغال الفكر بالهموم المادية أو المعنوية ومن تشتت العقل بتأثير القلق على المستقبل، كما أنها تبعد عنه الوساوس التي تعصف بالإنسان وتجعله غير قادر على القيام بواجباته.
وقد أخبر الله عز وجل عن عموم قدرته وقهره لكل ما سواه، وذل كل شىء لعظمته، فقال: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «2» .
وبمعرفة أنه سبحانه على صراط مستقيم، في كل ما يقضيه ويقدره فلا يخاف العبد جوره ولا ظلمه، فإنه على صراط مستقيم. فهو سبحانه ماض في عبده حكمه، عدل فيه قضاؤه، له الملك وله الحمد، لا يخرج تصرفه في عباده عن العدل والفضل، إن أعطى وأكرم وهدى ووفق فبفضله ورحمته، وإن منع وأهين وأضلّ وخذل وأشقى فبعدله وحكمته، وهو على صراط مستقيم في هذا وهذا.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد: «ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرجا، قالوا: يا رسول الله ألا نتعلمهن؟ قال: بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن» «3» .
2- الصبر والاحتساب:
تتمثل الخطوة الثانية في الصبر على آثار الابتلاء- أو بالأحرى- الحالات الناجمة عنه من الملل والقلق والاضطراب والوساوس، في الصبر الجميل «4» والاحتساب تأسيا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الذي أمره ربه بالصبر على الأذى أسوة بأولي العزم من الرّسل، قال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «5» ، وقال عزّ من قائل:
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «6» ، فهذا الصبر يجعله في معية الله تعالى، مصداقا لقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ* «7» ، كما يجعله من أهل محبته، فهو سبحانه القائل: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ «8» ، وأن يتيقن أن مع العسر يسرا وأن مع الكرب فرجا وأن الله سبحانه هو الذي يكشف ضره، قال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا*
__________
(1) انظر صفات: الإيمان- اليقين- الذكر- تلاوة القرآن- الرضا- الاحتساب، من هذه الموسوعة.
(2) هود/ 56.
(3) الداء والدواء ص 349، وانظر الحديث في صفة التوسل ج 4، ص 1373، وقد خرّجناه هناك.
(4) الصبر الجميل: هو الصبر الذى لا شكوى معه، انظر صفات: الصبر، الاحتساب، الرضا، القناعة والسماحة في مواضعها من هذه الموسوعة.
(5) الأحقاف/ 35.
(6) الأنعام/ 90.
(7) البقرة/ 153.
(8) آل عمران/ 146.(1/37)
كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ* «1» ، وأنه ستشمله رحمة الله تعالى فهو سبحانه: ... الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ «2» ، ويقول سبحانه: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً «3» ، ويقول تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً «4» ، وأن من تمام رحمته سبحانه أن يكفر عنه بهذه البلايا ما سبق من سيئاته، فقد جاء في الحديث الشريف: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه» «5» ، وليعلم أن جزاء الصبر هو الفوز برضوان الله تعالى والفوز بالجنة، كما قال تعالى:
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ «6» .
3- محاسبة للنفس تعقبها التوبة والاستغفار:
- الخطوة الثالثة: على المسلم إذا ابتلي بالضراء أن يتأمل حياته الحالية والماضية وينظر أيضا في نواياه المستقبلية، وأن يعلم أن ما أصابه من حسنة فمن الله تعالى وما أصابه من سيئة فمن نفسه، كما قال تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ «7» ، فإن وجد ذنوبا- وما أكثرها- فليبادر إلى محاسبة نفسه، وأن يتلمس عيوبه، لأن جهله بها من أكبر ذنوبه، والفاجر لا يحاسب نفسه، أما المؤمن فذو نفس لوامة، تلوم على الشر، لم فعلته؟ وتلوم على الخير، لم لا تستكثر منه؟ «8» ، ويترتب على ذلك اللجوء الفوري إلى التوبة النصوح، والتطهر من الذنوب، والإكثار من الاستغفار، فالتوبة تجعل التائب من أهل محبة الله- عز وجل-: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ «9» . والاستغفار له أثره العظيم في جلب الرزق ودفع البلاء، يقول تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً «10» . كما أن الاستغفار من موجبات رحمته تعالى، سبحانه هو القائل: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ «11» . وهو أيضا من مبعدات عذابه، أليس هو القائل: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ «12» ، وهو أيضا من الوسائل الجالبة للخير العميم والمتاع الحسن خاصة عند اقترانه بالتوبة، يقول الله تبارك وتعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ «13» ، «14» ، ويقول عز من قائل: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ* وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
__________
(1) الأنعام/ 17.
(2) الشورى/ 28.
(3) الطلاق/ 7.
(4) الشرح/ 5- 6.
(5) انظر هذا الحديث في صفة الاحتساب، ج 2، ص 65، وقد خرّجناه هناك.
(6) المؤمنون/ 111.
(7) النساء/ 79.
(8) انظر في معنى اللوم، والنفس اللوامة تفسير ابن كثير 4/ 447- 448.
(9) البقرة/ 222.
(10) نوح/ 10- 12.
(11) النمل/ 46.
(12) الأنفال/ 33.
(13) هود/ 3.
(14) انظر صفات: الاستغفار والتوبة ومحاسبة النفس والفوائد التي ترجع إلى الإنسان من التحلي بهذه الصفات.(1/38)
خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ «1» .
4- الاستقامة والتقوى:
- الخطوة الرابعة: التزام الاستقامة والتقوى. أما الاستقامة فلأنها أقوى سبب للرقي الإيماني، وما انتشرت في قوم إلا صلح حالهم وزاد إقبالهم على الخير، والمستقيمون هم الذين وعدهم الله عز وجل بإذهاب الحزن وإبعاد الخوف عنهم في الدنيا والآخرة «2» ، يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ* نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ «3» . ويطمئنهم الله بقوله: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «4» .
أما التقوى فهي من مفاتيح السعادة لأنها تجعل المؤمن في معية الله تعالى وتجلب رحمته ورزقه، قال تعالى:
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ «5» ، كما أنها مفتاح للخروج من الأزمات ومجلبة للرزق، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «6» . وقبل ذلك وبعده، فالتوبة تجعل العبد من أهل محبة الله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ «7» .
ويترتب على الالتزام بالاستقامة ومداومة الطاعة الورع والابتعاد عن مواطن الشبهات ورفقاء السوء من الفجّار والمنافقين وأهل الفسق والضلال، يقول الله تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ «8» .
ويقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» «9» .
5- الدعاء والتضرع والتوكل على الله:
- الخطوة الخامسة: التوجه بالدعاء إلى الله- عز وجل- والتضرع إليه والاستغاثة به أن يكشف ما به من سوء، وأن يرزقه العافية، وذلك كما حدث من نبي الله أيوب- عليه السلام- ويستحب أن يتوسل إلى الله- عز وجل- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، قال تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها «10» ، كما يستحب أيضا أن يدعوه بصالح أعماله كما حدث من الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار فدعوا الله بصالح أعمالهم ففرج عنهم «11» .
وبعد الدعاء، تأتي الاستعانة بالله تعالى والتوكل عليه، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ
__________
(1) آل عمران/ 133- 136.
(2) روح الدين الإسلامي (ص 305) .
(3) فصلت/ 30- 32.
(4) الأحقاف/ 13.
(5) الأعراف/ 156.
(6) الطلاق/ 2- 3.
(7) آل عمران/ 76.
(8) الزخرف/ 67.
(9) رواه أبو داود والترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب، انظر الحديث رقم 2484.
(10) الأعراف/ 180.
(11) انظر تلك القصة في هذه الموسوعة، صفة التوسل، ومن الدلالات العظيمة لهذه القصة أن التوسل لا يكون إلا بصالح الأعمال، أما ما يفعله الجهال من التوسل بالأنبياء والأولياء والقبور ونحوها، فإن هذا لا يجدي نفعا، وإنما قد يوقع صاحبه في الشرك- أعاذنا الله من ذلك-، وانظر أيضا صفة التوكل.(1/39)
لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً «1» ، فالشدة يعقبها الفرج، وإن مع العسر يسرا، يقول الشاعر:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكنت أظنها لا تفرج
وبعد التوكل واعتقاد الفرج فلا بد من الأخذ بالأسباب التي تساعده في الخروج من أزمة الابتلاء، يقول ابن القيم: فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم معه التوكل، ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب وحدها، فالأسباب محل حكمة الله وأمره ونهيه والتوكل متعلق بربوبيته وقضائه وقدره. قال تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ «2» ، وقال عز وجل: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «3» ، وقد استغاث النبي صلّى الله عليه وسلّم والصحابة الكرام بربهم يوم بدر- ولنا في المصطفى صلّى الله عليه وسلّم الأسوة الحسنة- فاستجاب الله لهم «4» ، وسجل القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ... «5» ، وقال عزّ من قائل: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ «6» .
وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: حسبنا الله ونعم الوكيل. قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلّى الله عليه وسلّم حين قالوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا ونعم الوكيل «7» ، «8» ، وعن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» «9» . والتوكل يجعل صاحبه من أهل محبة الله تعالى الذي يقول: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ «10» .
6- التهيؤ النفسي لما بعد الابتلاء:
- الخطوة السادسة: إذا لم يجد المبتلى ذنبا في الحال- وهذا نادر- فليعلم أن هذا الابتلاء تمحيص له، وتدريب على تحمل المشاق التي تؤدي في النهاية إلى ابتلاء من نوع آخر هو الابتلاء بالسراء أو التمكين في الأرض وهذا معنى قول الشافعي- رحمه الله- إن أحدا لا يمكّن حتى يبتلى «11» ، وذلك هو حال أولي العزم من الرسل
__________
(1) الطلاق/ 2- 3.
(2) الزمر/ 62.
(3) غافر/ 60.
(4) انظر صفات: الدعاء- الاستعانة- الاستغاثة- التوكل- الضراعة والتضرع، من هذه الموسوعة.
(5) الأنفال/ 9.
(6) الأعراف/ 56.
(7) آل عمران/ 173.
(8) البخاري- الفتح (8/ 4563) .
(9) رواه الترمذي (2324) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(10) آل عمران/ 159.
(11) انظر عبارة الشافعي التي وردت في سياق الإجابة عن سؤال: أيهما أفضل للمرء، الابتلاء أو التمكين؟ وقارن ب «الفوائد لابن القيم (286) .(1/40)
ومن اتبعهم من صالحي المؤمنين، ومما يقرّب هذه المسألة إلى الأذهان أننا نجد تقوية الجسم إنما تكون بممارسة الرياضات التي تستلزم مجهودا شاقّا، فكذلك تنمية القوة النفسية تستلزم التدريب على تحمل المشاق والابتلاءات، وكذلك قطف ثمار الزرع لا يتم إلا بعد بذل مجهود الحرث والزرع والسقاية.
ولذا كان على الإنسان أن يفوض أمره إلى ربه، وألا يقنط وييأس من رحمة الله، قال تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ «1» ، والقنوط هو استبعاد الفرج واليأس منه، وهو يقابل الأمن من مكر الله، وكلا الأمرين ذنب عظيم، لما في القنوط من سوء الظن بالله، وسوء الظن مجلبة لغضب الله ولعنته، يقول الله تعالى: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً «2» ، وهو أيضا من أكبر الكبائر، فعن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال: إن رجلا قال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: «الشرك بالله، والإياس من روح الله، والقنوط من رحمة الله» «3» . وقد نهانا الله عز وجل عن القنوط مهما كان إسرافنا على أنفسنا، يقول سبحانه: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ* وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ* أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ* أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ «4» .
7- السكينة والطمأنينة:
- الخطوة السابعة: إذا تاب المسلم واستغفر ربه، وأقلع عن معصيته، ودعا الله بصالح أعماله، وتوكل على الله، وأخذ بالأسباب ولم ينكشف ما به، فعليه أن يعلم ويتيقن أن ذلك لحكمة اقتضاها المولى عز وجل لا يعرفها الآن، وكفاه في ذلك أن يعد في معية الله تعالى وأنه من أهل محبته «5» ، ومن أظهر الأدلة على ذلك قصة الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام بأمر من ربه- عز وجل- كي يقي والديه من الطغيان والكفر «6» ولا شك أن الابتلاء بفقد الولد أخف كثيرا من الابتلاء بالكفر والطغيان، قال ابن كثير في تفسير قوله تعالي: فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً «7» :
أي يحملهما حبه على متابعته في الكفر، وقال قتادة: لو بقي لكان فيه هلاكهما، فليرض المرء بقضاء الله فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب «8» . ومن ثم وجب عليه الرضا حتى ينجو بنفسه من سخط الله تعالى،
__________
(1) الحجر/ 56.
(2) الفتح/ 6.
(3) ذكره الهيثمي في المجمع، وقال: رواه البزار والطبراني ورجاله موثقون (1/ 104) .
(4) الزمر/ 53- 58.
(5) انظر الخطوة الثالثة.
(6) انظر هذه القصة القرآنية في سورة الكهف، الآيات (74، 75، 80، 81) .
(7) الكهف/ 80.
(8) انظر تفسير ابن كثير (3/ 104) .(1/41)
ويترتب على هذا الرضا أن يقذف الله في قلبه السكينة والطمأنينة «1» . وربما كان ما تكرهه نفسه هو عين الكرامة في حقه وهو وسيلته المستقبلية للحصول على أعلى الدرجات، يقول الله تعالى: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «2» . ومن هنا تتجلى حكم التوكل والاحتساب والاستخارة «3» .
في أمور العبد، فإن العبد قاصر عن إدراك ما ينفعه في دينه ودنياه ولذلك شرعت الاستخارة وتفويض الأمر إلى الله.
ثانيا: تعامل المسلم المبتلى بالسراء:
إذا ابتلى الله المسلم بالسراء وأنعم عليه بالصحة في بدنه، والسعة في رزقه، ومكّن له في الأرض، وأعطاه من الجاه أو العلم أو السلطان ما يسر به خاطره، فعليه أن يتصرف في هذا الموقف تبعا للخطوات الآتية:
1- الخطوة الأولى: اليقين الجازم بأن هذه الدنيا وما فيها عرض زائل،
وأن الرّجعى إلى الله- عز وجل- ومن ثم فلا ينبغي أن ينسيه هذا المال أو الجاه ذكر الله- عز وجل- وافتقاره إليه يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ «4» ، وعليه أن يعلم بأن هذا اليقين هو أساس الإيمان الصادق، وأنه منه (أي اليقين من الإيمان) بمنزلة الروح من الجسد، وقد ورد في الأثر عن ابن مسعود- رضي الله عنه- أن اليقين هو الإيمان كله «5» .
2- الخطوة الثانية: أن يحمد الله سبحانه ويشكره على ما أنعم به عليه،
قال تعالى وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «6» ، وهذا الشكر ترجع فائدته للإنسان نفسه يقول الله سبحانه: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ «7» ، «8» .
3- الخطوة الثالثة: أداء حق الله تعالى في هذا المال،
ويتمثل ذلك في إخراج الزكاة، والصدقة والبر وبر الوالدين والإنفاق والإحسان إلى الفقراء والمساكين وتفريج الكربات، يقول الله تعالى: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ «9» ، وفائدة هذا الإحسان إنما تعود للإنسان نفسه، مصداق ذلك قول الله تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «10» ، وقد قرن الله- عز وجل- الإسلام بالإحسان، وجعلهما أفضل ما يتحلى به المسلم فقال عز من قائل: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ «11» ، وقال أيضا: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى «12» ، «13» .
وقال عز وجل: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ «14» . وقد ورد في الحديث: «إن لله أقواما اختصهم بالنعم لمنافع عباده يقرها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم» «15» .
(أخرجه الطبراني وابن أبي الدنيا) ، وعن ابن عباس مرفوعا: «ما من عبد أنعم الله عليه نعمة وأسبغها عليه ثم
__________
(1) انظر صفات: الرضا والسكينة والطمأنينة.
(2) البقرة/ 216.
(3) انظر صفة التوكل والاحتساب والاستخارة والسخط.
(4) فاطر/ 15.
(5) انظر صفة اليقين، وخاصة الأثر رقم 2 (ج 8 ص 3728) .
(6) إبراهيم/ 7.
(7) النمل/ 40.
(8) انظر صفات: الحمد، الشكر، الذكر.
(9) القصص/ 77.
(10) الإسراء/ 7.
(11) النساء/ 125.
(12) لقمان/ 22.
(13) انظر صفات الزكاة والصدقة والإنفاق والبر وغيرها من صفات تنطوي تحت لواء الإحسان، وقد أوضحنا هناك أن الإحسان يشمل أمرين: العبادات والمعاملات، واللفظ على إطلاقه يحتمل الأمرين جميعا.
(14) النمل/ 89.
(15) ذكره المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 391) ، وقال: أخرجه الطبراني وابن أبي الدنيا، ولقد قيل بتحسين سنده.(1/42)
جعل حوائج الناس إليه فتبرم فقد عرض تلك النعم للزوال» «1» .
4- الخطوة الرابعة: أن يلتزم بالطاعة والعبادة وإخلاص الوجه لله تعالى،
وسائر الأعمال الصالحة لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ «2» ، وأن لا يأمن مكر الله لقوله تعالى:
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ «3» ، إن الأمن من مكر الله يدل على ضعف الإيمان فلا يبالي صاحبه بما ترك من الواجبات، وفعل من المحرمات، لعدم خوفه من الله بما فعل أو ترك، وهذا من أعظم الذنوب، وأجمعها للعيوب، ومعنى الآية أن الله تبارك وتعالى لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل، بين أن الذي حملهم على ذلك هو الأمن من مكر الله وعدم الخوف منه، وذلك أنهم أمنوا مكر الله لما استدرجهم بالسراء والنعم فاستبعدوا أن يكون ذلك مكرا، قال الحسن: من وسع عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له، وقال قتادة: بغت القوم أمر الله ما أخذ قوم قط إلا عند سلوتهم وغرّتهم فلا تغترّوا بالله «4» .
5- الخطوة الخامسة: الابتعاد عن تلك الذنوب التي تسمى بالذنوب الملكية
من نحو الجبروت والتكبّر والعظمة والقهر والاستعلاء في الأرض، وذلك كما حدث من فرعون وغيره من الجبابرة الذين طغوا في الأرض وعتوا عن أمر ربهم، ويتبع ذلك البعد عن الغرور وحب الثناء واستعباد الخلق وظلمهم واحتقار الفقراء والسخرية منهم ونحو ذلك «5» . وباختصار فإن عليه التخلي عن النظرة الفوقية واعتقاد أنه أعلى من الناس وأنهم دونه، وأن يتذكّر دائما أن فقير اليوم قد يصبح غني الغد وأن الأيام دولة بين الناس، مصداقا لقوله تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ «6» .
إن على الإنسان المبتلى بالسراء أن يتذكر قدرة الله عزّ وجلّ على تغيير الأحوال في لمح البصر، وأن يعي معنى قول الله تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ «7» ، فإذا لم يجد ذلك نفعا وأحس بطغيان المال فعليه أن يتذكر ضعفه وأنه يوما راجع إلى ربه، قال تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى * إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى «8» ، وعليه أن يعلم أن هذا الرزق إنما هو على حسب مشيئة الله تعالى وهو أعلم بأحوال عباده وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ «9» ، وعلى صاحب المال ألا يبالغ في الفرح به، لأن ذلك الفرح يؤدي به إلى البطر والترف كما أنه يؤذي الفقراء والمحرومين ويؤدي بالإنسان إلى الاستهتار بالنعمة وترك الحيطة لصروف الزمان «10» ، أما الفرح الحقيقي فينبغي أن
__________
(1) ذكره المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 391) ، وقال: رواه الطبراني بإسناد جيد.
(2) البينة/ 7.
(3) الأعراف/ 99.
(4) التوحيد وقرة عيون الموحدين، ص 374.
(5) انظر في أنواع الذنوب، ومنها الذنوب الملكية، صفة العصيان (من هذه الموسوعة) .
(6) آل عمران/ 140.
(7) يونس/ 24.
(8) العلق/ 6- 8.
(9) الشورى/ 27.
(10) بتصرف يسير عن: روح الدين الإسلامي (172) .(1/43)
يكون بفضل الله وبرحمته مصداقا لقوله تعالى قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ «1» ، وإذا تخلّى عن هذه الذنوب فليتحلّ بأضدادها من نحو الخشوع والخشية والخوف من الله تعالى والتواضع والرحمة «2» ونحو ذلك.
6- الخطوة السادسة: البعد عن التشبه بالشيطان بارتكاب الذنوب الشيطانية
«3» ، كما في الحسد، والبغي، والغل، والخداع، والمكر، والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، والافتتان بالمال أو الجاه أو السلطان «4» ، فهذه تؤدي إلى ذنوب الشح والبخل وحب التكاثر والجبن، ويتذكر قوله تعالى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ «5» ، وعليه أن يتحلى بعكس ذلك من صفات الحب والأمانة وسلامة الصدر والأمر بالمعروف ونحوها، كما يلزمه البعد عن سائر أنواع الذنوب الأخرى.
7- الخطوة السابعة: على المسلم أن يتذكر دائما أن التوسعة في الرزق أو البسطة في العلم أو الجسم ليست إلا اختبارا له من مولاه
وليست بحال دليلا على إكرام الله- عز وجل- له، فقد نفى القرآن الكريم أن تكون كثرة المال أو الولد دليلا على رضى المولى تعالى، وإنما العمل الصالح هو الوسيلة الحقيقية للحصول على هذا الرضوان والقرب من الله- عز وجل- يقول سبحانه: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى «6» ، وهى على العكس من ذلك فتنة واختبار ينجح فيه من ينجح ويفشل فيه من يفشل، يقول الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
«7» ، والحذر من الفتنة يقتضي الابتعاد عن الترف لأنه يضعف الإرادة الإنسانية ويجعلها شديدة الحرص على التقليد واستمرار ما هي فيه فلا تتطلع إلى آفاق جديدة لإصلاح المجتمعات التي تعيش بين ظهرانيها، كما أن الترف مدعاة للانزلاق في هاوية المنكرات وإلى الفخر والعجب والتكاثر ورفض الحق «8» ، قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ «9» .
لقد بلغ الصراع على المال أشدّه في هذا العصر، وصرف كثيرا من الناس عن ربهم وعن الأخذ بالقيم الأخلاقية النبيلة، وأدى إلى إثارة أغلب المشاكل التي يعانيها العالم اليوم وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض، ولهذا توجهت تعاليم القرآن إلى التخفيف من شرور المال وتحذير الناس من الانقياد الكلي له كي لا يفتنهم عن دينهم ويلهيهم عن ذكر الله «10» ، قال سبحانه في وصف المؤمنين: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ «11» . وعلى العكس من ذلك فقد أرشدهم
__________
(1) يونس/ 58.
(2) انظر هذه الصفات في مظانها في الموسوعة.
(3) انظر في هذه الذنوب الشيطانية: صفة العصيان (من هذه الموسوعة) ، وقارن بابن تيمية، كتاب الإيمان، ج 5 (من الفتاوى) ص 73.
(4) انظر هذه الصفات في مظانها في الموسوعة.
(5) التكاثر/ 1- 2.
(6) سبأ/ 37.
(7) الأنفال/ 28.
(8) سبأ/ 34.
(9) انظر روح الدين الإسلامي (168) .
(9) سبأ/ 34.
(10) انظر روح الدين الإسلامي (169) .
(11) النور/ 37.(1/44)
إلى كيفية التصرف الصحيح في تلك الأموال بقوله: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ «1» .
ثالثا: تعامل المسلم المبتلى بالمعاصي:
إذا ابتلي المسلم بارتكاب المعاصي أيّا كان نوعها «2» ، فإن عليه القيام بالخطوات الآتية:
1- الحياء من الله عز وجل والعفة عن محارمه:
على المبتلى بالمعصية أن يتيقّن بأن هذه الدنيا وما فيها من ملذات هي بالقطع إلى زوال. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ «3» .
وأن الإنسان لا ينفعه يوم القيامة سوى أن يأتي الله بقلب سليم، قال تعالى في وصف هذا اليوم: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ «4» ، ولا تتم سلامة القلب حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى نفس يناقض التجرد من شهوات الدنيا، وهذه الخمسة حجب عن الله تعالى لا بد للمسلم من التخلص منها بالاستعانة بالله- عز وجل- «5» .
2- استحضار العقوبة (الخوف- الخشية- الرهبة) :
على العاصي أن يضع نصب عينيه أنه لن يفلت من العقاب، وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ* أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ «6» ، ويقول سبحانه: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ* وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ
«7» ، وأن هذا العقاب قد يعاجله في الدنيا فتكون معيشته ضنكا وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى «8» ، ويرسل عليه أنواعا أخرى من الهموم والبلايا ما يجعله في نكد دائم وحزن مستمر، قال تعالى: كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ «9» . إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ «10» . وإذا أفلت العاصي من عقاب الدنيا فإن عذاب الآخرة أشق، قال تعالى: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ
«11» .
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى «12» . وقال عز من قائل: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ «13» . وهذه تشمل الدور الثلاثة الدنيا والبرزخ والآخرة «14» .
__________
(1) القصص/ 77.
(2) انظر أنواع المعاصي في صفة «العصيان» من هذه الموسوعة.
(3) فاطر/ 5.
(4) الشعراء/ 88- 89.
(5) الداء والدواء لابن القيم (219) .
(6) ص/ 27- 28.
(7) الجاثية/ 21- 22.
(8) طه/ 124.
(9) الأعراف/ 163.
(10) البروج/ 10.
(11) الرعد/ 34.
(12) النازعات/ 40- 41.
(13) الانفطار/ 14.
(14) الداء والدواء ص 218.(1/45)
ولكي يدفع عن نفسه هذه العقوبة فليعلم أن المؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبتها تندفع عنه بعشرة أسباب:
(1) أن يتوب فيتوب الله عليه، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» .
(2) أن يستغفر فيغفر له.
(3) أن يعمل حسنات تمحوها، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ «2» .
(4) أن يدعو له إخوانه المؤمنون، ويستغفرون له حيّا أو ميّتا.
(5) أن يهدوا له من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به.
(6) أن يشفع له نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم.
(7) أن يبتليه الله تعالى في الدنيا بمصائب تكفّر عنه.
(8) أن يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفّر بها عنه.
(9) أن يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفّر به عنه.
(10) أن يرحمه أرحم الراحمين «3» .
3- الإقلاع الفوري:
الإقلاع الفوري عن الذنوب والمعاصي، ورد المظالم إلى أهلها، والاعتذار عن الإساءات والإهانات التي يكون قد آذى بها غيره، وأول ذلك اجتناب الكبائر، قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً «4» . وقال سبحانه: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «5» . والابتعاد عن أماكن وأسباب وقوعها وعوامل إثارتها كالصحبة السيئة، ولا يكون ذلك إلا بالورع «6» والتقوى.
4- الاستغفار والتوبة:
بعد الإقلاع عن المعاصي ورد المظالم والإهانات، يأتي الاستغفار والتوبة «7» فهما الباب الذي لا يغلقه الله في وجه أحد ما لم يغرغر، فالله عز وجل يغفر الذنوب جميعا (عدا الشرك بالله) ، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ* «8» . وعليه أن يتحلّى بصفتي العفو والصفح لأن ذلك مجلبة لمغفرة الله تعالى مصداقا
__________
(1) المائدة/ 39.
(2) هود/ 114.
(3) الفتاوى لابن تيمية 10/ 45.
(4) النساء/ 31.
(5) الفرقان/ 70.
(6) الورع يعني اجتناب الشبهات خوفا من الوقوع في المحرمات، والتحرج عنها ولا يكون ذلك إلا بملازمة الأعمال الجميلة.
(7) انظر صفتي التوبة والاستغفار.
(8) النساء/ 48.(1/46)
لقوله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» ، وعليه أيضا بالذكر فإنه من موجبات الرحمة وغفران الذنوب، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ «2» .
5- الثقة برحمة الله تعالى وسعة عفوه:
لقد كتب الله على نفسه الرحمة بقوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ «3» ، وهو سبحانه يغفر الذنوب جميعا مصداق ذلك قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ «4» ، وقال سبحانه: يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ «5» . ويذكرنا ربنا بهذه الرحمة الواسعة في كل صلاة، بل في كل ركعة مرتين: الأولى في البسملة «6» ، والثانية في قوله سبحانه: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «7» .
6- جهاد الشيطان واتخاذه عدوّا:
على المسلم بعد إقلاعه عن الذنب وتوبته واستغفاره أن يحصن مواقعه حتى لا يخترقها عدوه اللدود وهو الشيطان، قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً «8» .، وقال عز من قائل: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا «9» ، وقال سبحانه: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ «10» ، وعليه أن يعلم بأن هذا العدو اللعين يتخذ من الحيل والأساليب ما يجعله يرتدي ثياب الصديق، فيبذل الكثير من الوعود الكاذبة والأماني الخادعة، ويدعو أصحابه ليكونوا من أصحاب السعير، ثم لا يغني عنهم فتيلا عند ما يقضي الحق بين العباد، يقول الله تعالى: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «11» .
يقول ابن القيم- رحمه الله- علّم الله سبحانه عباده كيفية هذه الحرب وذلك الجهاد فجمعها لهم في أربع كلمات فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «12» ، قال: والمرابطة هنا لزوم ثغر القلب وحراسته لئلا يدخل منه العدو، ولزوم ثغر العين والأذن واللسان والبطن واليد والرجل، وعلى المسلم ألّا يخلي هذه الثغور فيصادف الشيطان منها ثغرا خاليا فيدخل منه، وهؤلاء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خير الخلق بعد النبيين والمرسلين وأعظمهم حماية وحراسة من الشيطان قد أخلوا المكان الذي أمروا بلزومه يوم أحد «13»
__________
(1) النور/ 22.
(2) آل عمران/ 135.
(3) الأنعام/ 54.
(4) الزمر/ 53.
(5) يوسف/ 87.
(6) ويكون ذلك أيضا في جميع سور القرآن.
(7) الفاتحة/ 3.
(8) الإسراء/ 53.
(9) فاطر/ 6.
(10) يس/ 60- 61.
(11) إبراهيم/ 22.
(12) آل عمران/ 200.
(13) يشير ابن القيم بذلك إلى موقف الرماة في غزوة أحد (انظر في ذلك قسم السيرة ص 300) .(1/47)
فدخل منه العدو وكان ما كان، وجماع هذه الثلاثة (الصبر والمصابرة والرباط) «1» هو تقوى الله عز وجل إذ لا ينفع شيء منها بدون التقوى، ولا تقوم التقوى إلّا على ساق الصبر «2» .
ولا شك في أن الاستعاذة بالله عز وجل من هذا الشيطان هي من أقوى الأسلحة التي يحصن بها المسلم نفسه من هذا العدو لأن معناها الاعتصام بالله تعالى واللجوء إليه لدرء شر ذلك الشيطان الرجيم، قال تعالى:
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ* وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ «3» .
7- جهاد النفس وتزكيتها:
اعلم أن النفس مجبولة على اتباع الشهوات ولا تزال على ذلك إلا أن يبهرها نور الإيمان، يقول الله تعالى في سورة يوسف عليه السلام وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ «4» .
فلا يزال المؤمن طول عمره في مجاهدة نفسه الأمارة بالسوء باستنزال نور رحمة الله، فكلما هاجت داعية نفسه إلى شهوات جسدية أو أهواء نفسية محرمة لجأ إلى الله وتذكر جلال الله وعظمته وما أعد للمطيعين من ثواب وللعصاة من عذاب فانقدح من قلبه وعقله خاطر يدمغ خاطر الباطل فيصير كأن لم يكن شيئا مذكورا. أما تزكية النفس فيعني التطهر من الأدناس والسمو عن النقائص، وهي بذلك تأخذ عند الله حظها من الرضوان وعند الناس حظها من الكرامة وقد وعد الله عز وجل بالفلاح من زكّى نفسه فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها «5» ، وقال عز من قائل: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى «6» ، وقال جل من قائل: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ «7» ، وقال سبحانه: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً «8» ، يقول ابن تيمية- رحمه الله تعالى-: جعل المولى سبحانه غض البصر وحفظ الفرج هو أزكى للنفس وبيّن أن ترك الفواحش من زكاة النفوس، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش والظلم والكذب ونحوها «9» .
رابعا: تعامل المسلم المبتلى بالطاعات:
أصل الابتلاء بالطاعة هو تقلد الإنسان عهدة التكليف بالأمانة، يقول الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا «10» . وبقبول هذه العهدة وحملها يتعرض الإنسان للثواب إن أطاع، وللعقاب إن عصى، وهذه سنة الله عز وجل في خلقه وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا* «11» .
__________
(1) انظر صفة الصبر والمصابرة، وكذلك صفة جهاد العدو في مظانهما في هذه الموسوعة.
(2) الداء والدواء ص 179- 180 (باختصار وتصرف) ، وقد أفاض- رحمه الله في وصف المعركة بين الإنسان والشيطان وصوّر التقاء الجيشين وكشف عن كيفية تحصين ثغور العين والأذن واللسان.
(3) المؤمنون/ 97- 98، وانظر صفات: الاستعاذة والفتنة والغي والإغواء.
(4) يوسف/ 53.
(5) الشمس/ 9.
(6) الأعلى/ 14- 15.
(7) النور/ 30.
(8) النور/ 21.
(9) الفتاوى 10/ 199.
(10) الأحزاب/ 72.
(11) الأحزاب/ 62.(1/48)
قد يظن الطائع أنه بمنأى عن الاختبار أو الابتلاء الذي يتعرّض له غيره من العصاة، وهذا اعتقاد خاطىء لأن الإنسان كما أخبرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد يعمل بعمل أهل الجنة حتى يكون ما بينه وبينها إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها «1» ، وهنا أيضا نجد مجموعة من الخطوات لابد أن يتحلّى بها الطائعون من أهمها:
1- الخطوة الأولى: أن يعلم يقينا أن الطاعة هي من توفيق الله عز وجل وبمشيئته، ولو شاء سلبها منه، وعليه أن يردد دائما قول الله: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ «2» .
2- الخطوة الثانية: أن يتحلى بالخوف من الله عز وجل وأن يرجوه قبول طاعاته، فقد كان السلف رضوان الله عليهم- كما أخبر الحسن البصري- قد عملوا بالطاعات، واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إيمانا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنا «3» .
3- الخطوة الثالثة: ألّا يأمن الطائع مكر الله تعالى فينقلب بهذا الأمن من العصاة وهو لا يدري، وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يكثر من الدعاء: «يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك» «4» .
4- الخطوة الرابعة: ألّا يمن بطاعته على الله تعالى، قال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «5» .
5- الخطوة الخامسة: أن يحذر الوقوع في البدعة فيعبد الله بغير ما أمر أن يعبد به «6» . (انظر صفة الابتداع) .
6- الخطوة السادسة: أن ينأى عن التطرّف والتشدّد في أمر الدين فإنه لن يشاد الدين أحد إلّا غلبه «7» .
(انظر صفتي الغلو والتعسير) .
7- الخطوة السابعة: أن يعلم أن هناك عدوّا هو الشيطان يتربّص به الدوائر ويريد الإيقاع به، وأنه قد يدخل عليه من باب الطاعة فيجعله مغترّا بها، متكبرا على غيره من العصاة، جاعلا نفسه في مكانه فوقهم (انظر صفة الغي والإغواء) .
وبعد..
فهذه المحاولة المتواضعة للكشف عن علاقة الإنسان بهذه الحياة تقودنا إلى معرفة الطريق الصحيح للنجاح في الاختبارات التي نعايشها بصفة يومية ونتعرّض فيها لشتّى الابتلاءات، وقد تبيّن من خلال هذا الاستعراض أن التحلّي بخلق الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقد كان خلقه كما وصفته أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- القرآن، حيث كانت حياته الكريمة وسيرته العطرة تجسيدا حيّا لما جاء به، وقد أمرنا الله عز وجل باتباعه فيما يأمر أو ينهى عنه: وَما
__________
(1) انظر صفة الأمن من المكر وقد ذكرنا هذا الحديث وغيره هناك، فارجع إليه.
(2) الأعراف/ 43.
(3) انظر الأثر رقم (10) في صفة الطاعة.
(4) انظر صفة الأمن من المكر ج 9، ص 400 عمود 2.
(5) الحجرات/ 17.
(6) انظر صفة الابتداع.
(7) انظر صفة التعسير، وصفة الشدة.(1/49)
آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «1» . وإذا كنا نرجو الله واليوم والآخر فلنا فيه صلّى الله عليه وسلّم الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة، وقد تبيّن من خلال هذا العرض الموجز لدورة الحياة وعلاقة الإنسان بها أن هذه الدنيا ليست هي الغاية الحقيقية للمؤمن الحق، وإنما غايته العظمى في الدار الآخرة، قال الله تعالى: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ «2» ، وفي الآخرة حيث مستقر الرحمة تجد المؤمن ذا وجه مشرق وضّاء تعلوه الفرحة ويملؤه البشر وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ* ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ «3» . هذه الوجوه لا تخفى على أحد لأنها مجللة بنضرة النعيم الذي أعده الله للأبرار، قال تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ* تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ* يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ* خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ «4» .
ومن هنا فقد وفقنا الله عز وجل فأسمينا هذه الموسوعة (نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم) وفي هذا رجاء بشارة لمن يتبع الرسول الكريم ويتحلى بأخلاقه فهو الذي جاء ليزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة لنكون من أصحاب (نضرة النعيم) في الآخرة، أي أن المتمسك بالأخلاق والآداب التي جاءت في موسوعة (نضرة النعيم) في الدنيا سيكون إن شاء الله تعالى من أصحاب (نضرة النعيم) في الآخرة، ليس هذا فحسب وإنما سيكون قريبا من الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم ومن أحب الناس إليه، وقد جاء في الحديث الصحيح: «إنّ من أحبّكم إليّ وأقربكم منّي مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا» «5» .
وختاما فإنني أدعو الله عز وجل أن يبارك في هذه الموسوعة وأن يجعلها فاتحة خير لكل من يقرؤها وصلّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن ملّوح جدة- المملكة العربية السعودية في العشرين من شعبان سنة 1418 هـ الموافق 21 من ديسمبر سنة 1997 م
__________
(1) الحشر/ 7.
(2) النحل/ 30.
(3) عبس/ 38- 39.
(4) المطففين/ 22- 26.
(5) انظر صفة حسن الخلق، حديث رقم 9، وقد خرّجناه هناك.(1/50)
الأخلاق والقيم التربوية في الإسلام
تقديم للأستاذ الدكتور علي خليل أبو العينين أستاذ أصول التربية الإسلامية ووكيل كلية التربية- جامعة الزقازيق- فرع بنها
أ- تمهيد:
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد ...
فإن الله ميز الإنسان عن غيره من الكائنات التى تعيش معه بأنه كائن أخلاقى أي مدرك للقيم الخلقية، قادر على الإتيان بها وفعلها، قادر- بإذن الله- على بناء عالم داخلى له يسلك على مقتضاه بعلم واقتدار، ولعله لهذا السبب وضع فى مكانة سامية لم يصل ولا يصل إليها أى كائن آخر، فهذا الإدراك وهذا الفهم وهذا الوعي هو الذي أهّله لشغل تلك المكانة التي يتقلدها باقتدار، بل هو الحد الفاصل بينه وبين غيره.
وقد شاء الله تعالى أن تقوم حياة المجتمع الإنسانى على أساس معيارى، يعكس حياة معنوية يمثلها الأفراد، تتميز بالقوة والأصالة. تفسير ذلك أن المجتمع يتمثل ويتجسد من خلال نظام مكون من الأعضاء والوظائف، يميل إلى الاحتفاظ بذاته بعيدا عن العوامل الهادمة التى تهدده من الداخل أو من الخارج. ومن أجل ذلك يميل الأفراد فى اتصال مشاعرهم الفردية أن يكون هذا الاتصال تعبيرا عن روابط متقاربة تتيح الفرصة لاتصال جيد، وتؤكد مناخا جيدا لتواصل منتج، وبالتالى تتاح الفرصة لتلك المشاعر أن يؤثر بعضها فى البعض تأثيرا إيجابيا، ومن ثم تنبعث حياة نفسية من نوع آخر يختلف عن حياة الفرد بصورة خاصة.
والمجتمع الإنساني في عمومه «لا يتكون دون وجود هذا البناء المعياري، وهو بالإجمال أفكار تنطوي على صورة الحياة الاجتماعية، وتتضمن الملاحظات التي تتعلق بها، ويحمل البناء الخطوط الأساسية لتلك الحياة وتطورها» «1» . وهذا البناء المعياري هو قواعد للسلوك، هى بالأحرى مقاييس من خلالها يحكم على السلوك بأنه مقبول أو غير مقبول، وتشكل فى النهاية نوعا من التحديات الثقافية للسلوك المرغوب فيه، وتعطي الفرد كما تعطي المجتمع شكله وشخصيته وهويته، وهذا كله يضمه ويحتويه معنى القيم الخلقية.
وتعتبر الأخلاق صورة المجتمع، لأنها الضابط والمعيار والموقف الأساسي للسلوك الفردي والاجتماعي، أو القواعد الأساسية الممنوحة من الله للإنسان لتنظيم حياته، وهي تنتظم فيما يسمى بالبناء الخلقي أو النظام الخلقي
__________
(1) محمد نور: الإنسان ومجتمعه- القاهرة- 1984، ص 26، 27.(1/51)
الذي يعكس أهداف المجتمع، ومصادر تكوينه وطبيعة بنائه.
والمجتمع الإسلامى له أخلاقه التى تضبط وتحدد السلوك، بمعنى أن له بناءه المعيارى، الذي نبع فى الأساس من المصدرين الأساسيين: القرآن والسنة المطهرة، فالقرآن بما أتى به من مكارم الأخلاق التي تجسدت فى شخص الرسول الكريم وترجمت فى أقواله وأفعاله هى المصدر الأساسى المعتمد للقيم فى المجتمع الإسلامي.
إلا أن هذا المجتمع يعيش- فى الأزمنة المعاصرة- مشكلات متراكمة مستعصية، أبرزها تردده بين قطبين، فهو ينجذب نحو حياة معاصرة بما فيها من إنجازات مادية وفكرية لابد أن يتعايش معها ويفهمها ويعيها من ناحية، وتشده ذات متأصلة أصيلة لا يمكنه الفكاك منها من ناحية أخرى، وقد سحبت هذه الإشكالية- بالذات- ظلالها على كافة مكونات حياة الإنسان المسلم المعاصر، بما فى ذلك عماد حياته وهو القيم الخلقية، حتى غدت الشغل الشاغل للمفكرين المسلمين، وكما عبر عن ذلك أحد مفكريها بقوله: «ولعل أكبر قضية تواجهنا هى انقطاع صلتنا بمصادرنا الحضارية التى نستمد منها كل عاداتنا وتقاليدنا، ومسلكنا الخاص والعام، فعلاقتنا بتراثنا علاقة تقليد سالب يتوارثه الخلف عن السلف، ولذا جمدت شخصيتنا، وجمد النظر إلى تراثنا الذى هو بمثابة السياج لتحركنا الفردى والجماعي، لأننا نتدراسه ولا نتأمله ولا نجيل فيه النظر، ولا نجرى فيه من التحوير والتطوير بما يتلاءم وتغير الأحوال والظروف، فظلّ حبيس الكتب فى معظم الأحوال، وحبيس الذاكرة فى بعضها لقرون طويلة» «1» .
إن الغزوة الاستعمارية أبدلت المثقفين ثقافة بثقافة، ولهذا ظل تراثنا بعيدا عن الحياة الفاعلة، وانقطعت عقول المفكرين عن التعامل معه وإخصابه بالتأمل والاجتهاد والتلاقح بتيارات الفكر المعاصر، وبالتالى فقدت كل المؤسسات الاجتماعية المنبثقة عنه حيويتها وانفعالها، وفعاليتها، وجفت صلتها بالحياة، ومن ثم أهملت لتحل محلها مؤسسات وأفكار أخرى كان من نتيجتها ازدواجية فى الحياة وفى الفكر انعكست آثارها على حياة المجتمع والأفراد» «2» .
إن أبعاد هذه الإشكالية وآثارها واسعة عريضة، وفى مجال الأخلاق على وجه الخصوص، ولذا فإنه من الملح الآن وللمستقبل القريب والبعيد، وبعد معايشة التجارب، تلمس بناء تربويا يستند على أهداف قوية وصحيحة وسليمة، تستلهم قيم الأمة، القائمة على أصالة حقيقية تمتلك من مقومات الذات الأصيلة روحها فى غير انغلاق أو حرمان من إمكانيات العصر ومقوماته وثماره، ولا بد من إعادة القيم الخلقية الإسلامية إلى مكانها الصحيح، فى إطار التكامل بين الدين والدنيا، لتحقيق الوسطية التى هي حقيقة الإسلام، لأنه إذا انفصل الدين
__________
(1) عون الشريف قاسم: الإسلام والثورة الحضارية، بيروت، دار القلم، 1400 هـ/ 1980 م، ص 26 (بتصرف) .
(2) المرجع السابق: ص 27.(1/52)
عن الدنيا انشطرت الشخصية الفردية وتداعت علاقات المجتمع، وحدثت هزات وهزات فى المجتمع والفرد على السواء.
وإذا كان مفهوم الاستقلال الذاتى من المفاهيم القوية السائدة فى المجتمعات المعاصرة، إذ أصبح يؤكد فى كل مجالات النشاط الإنسانى وحركته «على الخصائص الذاتية المميزة لشخصية المجتمع» مما يعني «تأكيد الهوية الثقافية» فإن الملاحظ أن المجتمع الإسلامي المعاصر يعانى من قصور فى تأكيد ذاته وهويته الثقافية، إلى جانب معاناته من قصور فى الوسائل الحضارية والمادية، ولعل هذا يعود فى معظمه إلى معاناته الحقيقية من تخلخل البناء المعياري القيمى، واهتزاز نسق القيم الخلقية، وبالتالى اختلال واضطراب فى الأهداف التربوية، التى تتأرجح بين مثالية ومادية، مثالية طموحة، وواقعية أو مادية مخلخلة مضطربة، وبتعبير أصح هو انفصام بين التصور والواقع المعاش، بين الغايات والوسائل.
ومما زاد فى تفاقم الأمر تعرض العالم المعاصر لموجة من الاهتزازات الخلقية المتناقضة، وتتمثل فى مظاهر متضاربة ومتناقضة من الممارسات وأنماط السلوك الفردية والسياسية، والاجتماعية. التى تسلب الأفراد والجماعات السعادة والأمن والأمان والاستقرار، بل تضعف العلاقات فى ميادين الحياة المختلفة، ولقد أعطت التسهيلات المادية التكنولوجية الحديثة هذه الهزات والفجوات صفة العالمية، ولم يعد بمقدور مجتمع ما إغلاق منافذه أمامها أو النجاة منها» «1» .
إزاء كل ما سبق، وفى سعي المجتمع الإسلامي فى تعدده وتنوعه إلى تحقيق الذات، والبناء الذاتى المتميز القادر على العطاء والإبداع، وتأكيد الهوية والشخصية، فإنه يمكنه أن يؤكد ذلك من خلال أهم ما يميزه وهو القيم الإسلامية النابعة من المصادر الأصيلة، والعلاقات الإنسانية التى يحاول التمسك بها، وأهميتها لا تنكر للمجتمع وللتربية، إذ أن القيم والأخلاق أهم عناصر العملية الاجتماعية- التربوية-، ويلاحظ أن ظهور القيم- عند البعض- هو الحد الفاصل بين الذاتية والموضوعية، وبين الحقائق والأحكام، وبين ما هو كائن، وما يجب أن يكون، وبين الغايات والوسائل، وبين المعقول واللامعقول. ومع هذا فإن بعض علماء القرن الحالي (العشرين) لا يطمئنون إلى موضوع القيم، بل ظهرت محاولات لاجتثاث علم القيم من العلوم الموضوعية، بل من المفاهيم السلوكية لموضوع التعلم، ولاستبعاده من الأسس السلوكية والنفسية، ورغم هذا؛ فإنهم عند إصدار الأحكام يجعلون للقيم دورا أساسيا تؤديه، لأن عملية إصدار الأحكام تبنى على وزن الأفضليات، وعلى الموازنة بين المساوىء والمحاسن، وعلى اختيار النتائج المترتبة مستقبلا على الأحكام الحالية، فإذا لم تكن هناك قيم، أو إذا كانت
__________
(1) ماجد عرسان الكيلاني: اتجاهات معاصرة في التربية الأخلاقية، عمان، دار البشير 1991 م، ص 5 (بتصرف يسير) .(1/53)
هناك قيم مهملة، فإنه لا يمكن التمعن فى الاختيار بين مساق ومساق، وبغير القيم تصبح الحياة مستحيلة «1» .
إزاء هذا- أيضا- لا بد أن ندرك أهمية وجود منظومة الأخلاق والقيم المتميزة بالتعدد والمرونة فى ظل التقدم العلمي والتقني، والذى غدا يمس كل مكون من مكونات الحياة الإنسانية ولم يستطع أن يحل مشكلات الإنسان المعاصر، فبالرغم من مساهماته، إلا أننا نرى اضطرابات ومؤثرات اجتماعية واقتصادية وسياسية، هذا إلى جانب تفاقم مشكلات العمل والصراع بين الفقراء والأغنياء من الدول، وتفاقم المنازعات الإقليمية، إلى جانب مشكلات أخرى تعمل كلها على تقويض حضارة العالم كله.
وامتد أثر ذلك كله إلى المجتمع الإسلامي فى تربيته وتعليمه، وعلى بناء الشخصية المتميزة فى هذا المجتمع، فخصائص المجتمع وأمراضه الخلقية تفرض مراجعة الذات ونقدها وتحليلها من أجل تأكيد القيم التى تعتبر الأساس السليم لبناء تربوى متميز، لأن التقدم الأعمى الذى لا يقوم على أساس قيمى لا بد أن يؤدى إلى تعريض الشخصية للضياع.
ويتأكد ذلك فى خضم نتائج التيارات الفكرية المتصارعة، ووسط ذلك الزخم الهائل المتراكم عن التربية الإسلامية، وعلى كافة الأصعدة الفكرية فى موجات البحث عن الذات، وعن الوعي بها، وإذا كان ثمة أفكار طرحت فى سبيل تربية الإنسان وبناء شخصيته، فإننا قد نجد منها الكثير مما يسير فى طريق أحادى التفسير، يرى فى التكوين الجزئي سبيلا إلى تكوين الشخصية الإنسانية، فى حين أن المفروض أن ينظر إلى الأمر بطريقة متكاملة، بحيث تصاغ تلك الشخصية المتكاملة، بطريقة متكاملة، لا اهتمام فيها بجزء من الشخصية لحساب جانب آخر.
ولتوضيح أهمية هذه الفكرة لعله من المهم استشارة مفهوم التربية ذاته، والمؤثرات التى تساعدها، فالتربية هي تعني: «مجموعة المؤثرات المعينة التى تمتد إلى إحداث تغيرات لدى الأفراد حتى يكتسبوا سمات الشخصية التى نتفق على اعتبار أنها قد تزودت بالخصائص التربوية، فالأمر المسلم به أن الفرد لكي يتسنى الحكم عليه بأنه قد تمت تربيته، فإن ذلك يعني أنه قد تعلم أن يصبح شخصا سويّا» «2» .
ولذلك فإن هناك عددا من المؤشرات التي تصحب عملية التربية طبقا لهذا المفهوم وتتمثل فيما يلى:
1- مجموعة المعارف والمهارات والاتجاهات معبرا عنها فى أهداف سلوكية.
2- مجموعة القيم والمثل العليا التي تنبني عليها وتتضمنها العملية التربوية.
__________
(1) جيمس و. بوتكن، د. مهدى المنجدة، ومرسيا مالتزا: التعلم وتحديات المستقبل، إعداد وتقديم: عبد العزيز القوصي، القاهرة، المكتب المصري الحديث، 1981 م، ص 89.
(2) نبيه يس: أبعاد متطورة في الفكر التربوي، القاهرة، مكتبة الخانجي، د. ت، ص 18.(1/54)
3- مجموعة الطرق والأساليب المستعملة لإمداد المتعلم بالمجموعتين السابقتين «1» .
ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن الحياة الإسلامية ترتبط ارتباطا كليا بالقرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة فإن مصادر اشتقاق أى نظام ملائم وموافق للحياة الإسلامية إنما يكون من القرآن الكريم ومن السنة المطهرة، ومن ثم فإن اشتقاق النظام الخلقي فى الإسلام يكون هذان مرجعه، فالقرآن الكريم كتاب الإسلام الخالد المحفوظ بقدرة الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ وفيه شمول لكافة جوانب الحياة، محددة بصورة بليغة دقيقة.
ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ.
أما السّنّة، فهى ترجمة صادقة لحياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وليس هناك إنسان فى التاريخ البشري كله نقلت حياته بصورة تفصيلية مثلما نقلت حياة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، بل لقد اخترعت المناهج العلمية من أجل تنقيح وتحقيق وتمحيص السنة والسيرة، ولقد كان ذلك، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو القدوة للبشرية كلها، ولأننا مطالبون بأن نقتدي بسيرته صلّى الله عليه وسلّم قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (آل عمران/ 31) .
ومن ثم كان التوجه إليهما لاكتشاف النظام الخلقي ومكارم أخلاق الرسول صلّى الله عليه وسلّم استرشادا بها لصياغة تربية خلقية رشيدة، والهدف من وراء ذلك:
1- إبراز دور القيم الخلقية الإسلامية فى صياغة الحياة الإسلامية وأهدافها، وفى إصدار الأحكام وتحديد الأفضليات، والتمييز بين المزايا والمساوىء، واختيار النتائج المترتبة على الأحكام، فالبحث فى هذا المجال يعني تأكيد الاختيار، لأنه بغير تلك القيم الخلقية يصبح الاختيار فى مجال الأهداف والبرامج أمرا غير ممكن وغير واضح.
2- إبراز فعاليات منظومة الأخلاق الإسلامية فى ظل التقدم العلمي والتقني المعاصر، وما صحبه من اضطرابات ومؤثرات تمس كل مكونات الحياة الإنسانية، حتى غدت مشكلة الأخلاق هى المشكلة المتفاقمة فى المجتمع الإنسانى كله.
3- إبراز فعاليات دور منظومة الأخلاق الإسلامية فى مجال التربية بالذات، ترشيدا للجهد، وتأكيدا لدورها فى إعطاء شخصية المجتمع الإسلامي والفرد المسلم الملامح المتميزة عبر الأصالة.
4- الإسهام فى طرح أوسع لقضية الأخلاق الإسلامية، فالدراسات فى هذا المجال بالرغم من تعددها إلا أنها لم تزل قاصرة عن الإحاطة والشمول المطلوبين.
5- الإسهام فى صياغة أهداف الحياة الإسلامية، عن طريق إبراز القيم الخلقية الإسلامية، وهو أمر يحتمه
__________
(1) محمد الهادي عفيفي: الأصول الفلسفية للتربية، القاهرة، الأنجلو المصرية، 1972، ص 279.(1/55)
الواقع وتفرضه الضرورة فهو إسهام فى إعادة الوعي بالذات الإسلامية، فى مجال التربية، والدعوة، والتربية الأسرية، وما إلى ذلك.
وينطلق البحث فى مجال الأخلاق الإسلامية من عدة اعتبارات مهمة، تأتى كمنطلقات مبدئية يدور البحث فى إطارها، وهي:
1- أن الإسلام منهج حياة، وهو ليس مجرد قواعد تعرف بأنها الإسلام، وليس مجموعة من المبادىء الأساسية التى تنطوى عليها هذه القواعد، إنه منهج حياة، حدد حركة المجتمع الإسلامى، وأوجد قواعد السلوك الفردي والاجتماعي ومعاييره، وذلك لضمان توجه الحركة نحو تحقيق أهداف الإسلام فى الحياة، وغايته فى إسعاد الناس أفرادا وجماعات فى الدنيا والآخرة، ومن ثم أتت جميع نظمه وقواعده ومعاييره وتصوراته وأخلاقياته وافية بحاجات الناس من جميع نواحيها.
2- أن الإسلام لا يعي مجرد الصلة بين الإنسان وربه فقط، وإنما هو توجيه شامل لحياة البشر، بما جاء فى القرآن الكريم والسنة المطهرة، وما صح من اجتهاد فى ضوئهما، ومعنى هذا شمولية أنظمته، وعدم اقتصارها على تحديد صلة الإنسان بربه فى وصفها التقليدي، بل فى وصف مبتكر، إذ أن تلك التصرفات تصب فى النهاية فى هذه العلاقة، ومن ثم ضمنت حسن التوجه.
3- أن مجال القيم الخلقية الإسلامية كما أتى فى المصادر الأساسية واسع فسيح، يمتد ليشمل ما يمكن أن يواجه حياة الإنسان من تغيرات فى إطار الثوابت، مما يعنى استيعابه كل ما يستجد فى حياة الناس ما لم يتعارض مع أصل من الأصول التي أتت فى شكل قيم إلزامية، وأوامر تكليفية.
4- أن القيم الخلقية الإسلامية هي المعبر الحقيقي عن ثقافة المجتمع الإسلامي، وهى فى حقيقتها قيم داعية إلى التقدم والتفتح والإبداع والابتكار ولا تقف ضدها بل هي التقدم ذاته.
5- أن البحث الأخلاقي ينطلق من مقولات أساسية تتمثل فيما يلي:
أ- هذه الأخلاق ربانية المصدر ولأنها كذلك فهي تربي الإنسان على أفضل وجه وأحسنه يقول الله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (النساء/ 174) .
ب- أن التمسك بأهداب هذه التربية الأخلاقية كما جاءت في القرآن الكريم والسنة المطهرة يقدم حلولا جذرية للمشاكل التي يعاني منها العالم المعاصر، لأن ذلك الحل الإسلامي في المجال الأخلاقي يشمل المجتمع الإنساني كله وما ذاك إلا لأن قاعدته متكاملة وشاملة، أي أن تفاصيل التربية الإسلامية تشمل الإنسان في كل ظروفه وفي جميع حالاته، وتتصل بجميع أنواع علاقاته، سواء مع الله- عز وجل- أو مع النفس أو مع الآخرين،(1/56)
هذه التربية تعد الإنسان للحياة كما تعده للموت، وتربط بينه وبين محيطه المادي والمعنوي، وهذا الترابط ينتج عنه تكامل وتفاعل بين عناصر الوجود، وهو سر من أعظم أسرار الخليقة مكن التربية القرآنية من أن تتميز بالاستمرارية والعمومية لكل الناس في كل زمان ومكان.
ج- التربية الإسلامية تهتم بالفرد كما تهتم بالمجتمع وتوازن بين احتياجات الدنيا واحتياجات الآخرة وبين القوة والرحمة، يقول الله تعالى: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (القصص/ 77) .
6- أن تنمية هذه الأخلاقيات منوط بالعملية التربوية ووظيفتها فى الوجود الاجتماعي، وذلك لا يكون إلا بالنظر إلى حركتها ككل مترابط شامل، فى علاقاتها المتشابكة بكل مكونات المجتمع، وبكل مكونات الحياة الفردية، ويعنى هذا أن القيم الخلقية الإسلامية تلعب الدور الأكبر فى تحديد دور التربية ووظيفتها، لأنها تتخلل كل مكونات المجتمع الإسلامي.
7- ترتبط القيم والأخلاق الإسلامية بالجزاءات الدنيوية والأخروية ولذا كان الوعد والوعيد والترغيب والترهيب وكان لها هدف أسمى وراء الالتزام (بعد الاختبار) القائم على وعي كامل لما جاء به الشرع وأمر بالالتزام به وذلك الهدف هو إرضاء الله تعالى ويأتي الجزاء بعد ذلك والذي لا يحرم منه الملتزم العابد «1» .
ومن أجل بلوغ هذا الهدف التربوي لا بد أن يكون ما تصبو إليه ممكنا وهذا هو ما أثبته رسولنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم بالفعل وبرهان ذلك أن الخلق النبوي الكريم ظل قائما مئات السنين وكان سيظل أسوة حسنة لقوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (الأحزاب/ 21) .
إن السبيل إلى الوصول إلى هذا الهدف السامي موضح بجلاء في كتاب الله تعالى بقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (آل عمران/ 31) .
وبهذا الجهد نتوجه إلى العالم الإسلامي بكافة فئاته وطوائفه، ذلك المجتمع المتطلع إلى التقدم الحضاري والدور المتميز فى العطاء الحضاري، والهداية الإنسانية، وعلى وجه الخصوص تلك الفئات التي تتعامل بطريقة مباشرة فى مجال بناء الإنسان، أعز ما يملكه هذا المجتمع، ومنهم:
1- المعلمون والمربون، الذين يشكلون القدوة لأبنائنا فى المدارس عبر مساحات العالم الإسلامي، ولهم تأثير واسع وكبير فى بناء شخصيات هؤلاء الأبناء.
__________
(1) انظر في ذلك خصائص القيم الإسلامية ص 81 وما بعدها.(1/57)
2- الإعلاميون، والذين لهم دور بارز وخطير في التعليم والتربية، وفي مجال التأثير المباشر وغير المباشر عبر وسائل الاتصال الحديثة والمتنوعة، والتي جعلت من العالم كله قرية صغيرة.
3- الدعاة وتأثيرهم الخطير فى مجال الاتصال بالجماهير، والذين يعتبرهم الناس أهل علم الإسلام، والقدوة الاجتماعية، ويزداد هذا العمل أهمية بالنسبة لهم فيما يواجه المجتمع الإسلامي من تحديات.
4- أولياء الأمور: خاصة فى العصر الذي نعيشه الذى يتسم بسرعة التغيير وسرعة الاتصال، وما يشوب وسائل الاتصال والتربية من شوائب، تتطلب من أولياء الأمور وعيا راشدا، وهذا ما تحاول أن تفعله الموسوعة.
وسوف نلقي الضوء في الفصول التالية على ما يلي:
أولا: مفهوم الأخلاق.. أصالتها في الفكر الإسلامي.. وظائفها.
ثانيا: الأخلاق الإسلامية.. طبيعتها.. مصادرها.. أركانها.
ثالثا: المنهج الإسلامي في تنمية القيم الخلقية.
رابعا: وسائل تنمية الأخلاق الإسلامية.
خامسا: وسائط تنمية الأخلاق.(1/58)
الفصل الأول مفهوم الأخلاق.. أصالتها في الفكر الإسلامي.. وظائفها
ما الأخلاق؟
لكلمة «الأخلاق» وكلمة «خلقي» تأثير خاص، كان مدعاة للاختلاف حول تحديد هذا اللفظ، ومن ثمّ تعددت الآراء حول تحديد معنى الأخلاق لغة واصطلاحا على النحو الذي نوضحه فيما يلي:-
الأخلاق لغة:
الأخلاق في اللغة جمع خلق، والخلق اسم لسجية الإنسان وطبيعته التي خلق عليها، وهو مأخوذ من مادة (خ ل ق) التي تدل على تقدير الشيء. يقول ابن فارس: ومن هذا المعنى (أي تقدير الشيء) الخلق، وهو السّجية لأن صاحبه قد قدّر عليه، يقال: فلان خليق بكذا (أي قادر عليه وجدير به) ، وأخلق بكذا أي ما أخلقه، والمعنى هو ممن يقدّر فيه ذلك، والخلاق: النصيب لأنه قد قدّر لكل أحد نصيبه «1» .
وقال الراغب: الخلق والخلق (والخلق) في الأصل واحد لكن خصّ الخلق بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة «2» . قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم/ 4) ، الخلق العظيم هنا هو- كما يقول الطبري- الأدب العظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدبه الله به وهو الإسلام وشرائعه، وقد روى هذا المعنى عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في قوله: لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ المعنى: على دين عظيم وهو الإسلام. وعن مجاهد في قوله: خُلُقٍ عَظِيمٍ قال: الدين. وعن عائشة- رضي الله عنها- عند ما سئلت عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالت: «كان خلقه القرآن» . قال قتادة: تقول: كما هو في القرآن «3» .
وذكر القرطبي أن المراد بالخلق العظيم أدب القرآن، وقيل: هو رفقه بأمته وإكرامه إياهم، وقيل المراد: إنك على طبع كريم «4» ، وقال أيضا: حقيقة الخلق في اللغة هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الأدب لأنه يصير كالخلقة فيه، وأما ما طبع عليه الإنسان من الأدب فهو الخيم أي السّجية والطبع، وعلى ذلك يكون الخلق: الطبع المتكلف، والخيم الطبع الغريزي، وقد ذكر الأعشى ذلك في شعره فقال:
وإذا ذو الفضول ضنّ على المو ... لى وعادت لخيمها الأخلاق
أي رجعت الأخلاق إلى طبيعتها «5» . وقد رجح القرطبي تفسير عائشة- رضي الله عنها- للخلق العظيم
__________
(1) مقاييس اللغة لابن فارس 2/ 214.
(2) المفردات للراغب ص 158.
(3) انظر هذه الآثار (وغيرها مما لا يخرج عنها) في تفسير الطبري، مجلد 12، جزء 28، ص 13 (ط. الريان) .
(4) تفسير القرطبي 18/ 227.
(5) المرجع السابق نفسه، الصفحة نفسها.(1/59)
بأنه القرآن «1» ، وسمي خلقه عظيما لأنه لم تكن له صلّى الله عليه وسلّم همة سوى الله تعالى، وقيل: لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، وقيل: لأنه امتثل تأديب الله إيّاه «2» . وقال الماوردي في الخلق العظيم ثلاثة أوجه: أحدها: أدب القرآن، الثاني: دين الإسلام، الثالث: الطبع الكريم وهو الظاهر.
قال: وحقيقة الخلق ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب، سمي بذلك لأنه يصير كالخلقة فيه «3» .
والخلاق: ما اكتسبه الإنسان من الفضيلة بخلقه «4» . قال تعالى: ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (البقرة/ 102) ، الخلاق قيل: النصيب، وقيل: الدين، وقيل: القوام، وقيل: الخلاص، وقيل: القدر «5» ، والأول قول مجاهد.
قال القرطبي: وكذلك هو عند أهل اللغة إلّا أنه لا يكاد يستعمل إلّا للنصيب من الخير «6» . والخليقة: الطبيعة، وجمعها خلائق، قال لبيد:
واقنع بما قسم المليك فإنّما ... قسم الخلائق بيننا علّامها
والخلقة (بالكسر) الفطرة، يقال: خلق فلان لذلك، كأنه ممن يقدّر فيه ذلك وترى فيه مخائله. والخلق والخلق: السّجية، وفلان يتخلق بغير خلقه أي يتكلفه، قال الشاعر (سالم بن وابصة) :
يا أيّها المتحلّي غير شيمته ... إنّ التّخلّق يأتي دونه الخلق «7» .
وقال ابن منظور: الخلق هو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أن صورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما (أي للصورتين) أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلّقان بأوصاف الصورة الظاهرة، ولهذا تكررت الأحاديث في مدح حسن الخلق «8» ، أما قول الله تعالى: إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (الشعراء/ 137) . فالخلق قيل: هو شيمة الأولين، وقيل: عادة الأولين، أما قراءة خلق (بفتح الخاء وسكون اللام) ، فالمراد به الافتراء والكذب «9» ، أي أنه في معنى الاختلاق وقال صاحب «التحرير والتنوير» في تفسير هذه الآية: الخلق السجية المتمكنة في النفس باعثة على عمل يناسبها من خير أو شر، وتشمل طبائع الخير وطبائع الشر ولذلك لا
__________
(1) انظر حديث عائشة- رضي الله عنها- في صفة حسن الخلق (حديث رقم 5) .
(2) تفسير القرطبي 18/ 228.
(3) تفسير الماوردي (النكت والعيون) 6/ 61- 62.
(4) مفردات الراغب 158.
(5) تفسير البحر المحيط لأبي حيان 1/ 503.
(6) تفسير القرطبي 2/ 56.
(7) الصحاح 4/ 471.
(8) لسان العرب 10/ 86 (ط. بيروت) ، وانظر هذه الأحاديث في صفة حسن الخلق.
(9) لسان العرب 10/ 88 (ط. بيروت) .(1/60)
يعرف أحد النوعين من اللفظ إلّا بقيد يضم إليه، فيقال: خلق حسن، وفي ضده خلق قبيح، فإذا أطلق عن التقييد انصرف إلى الخلق الحسن «1» .
وقال الفيروزابادي: اعلم أن الدّين كله خلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين، وهو يقوم على أربعة أركان: الصبر والعفة والشجاعة والعدل، وذكر أن كل واحد من هذه الأربعة يؤدي إلى غيره من المكارم ويحمل عليه، فالصبر (مثلا) يحمل على الاحتمال وكظم الغيظ وإماطة الأذى والأناة والرفق وعدم الطيش والعجلة.. وقال أيضا: والتوسط منشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة «2» .
الأخلاق اصطلاحا:
لكي نوضح مفهوم الأخلاق الإسلامية، لابد من التعرّف أولا على المفهوم الاصطلاحي للفظي الخلق والأخلاق كما فهمه العلماء المسلمون، وسنحاول الكشف عن ذلك في الفقرات التالية:
يذهب الجاحظ (ت: 255 هـ) إلى «أن الخلق هو حال النفس، بها يفعل الإنسان أفعاله بلا روية ولا اختيار، والخلق قد يكون في بعض الناس غريزة وطبعا، وفي بعضهم لا يكون إلّا بالرياضة والاجتهاد، كالسخاء قد يوجد في كثير من الناس من غير رياضة ولا تعمل، وكالشجاعة والحلم والعفة والعدل وغير ذلك من الأخلاق المحمودة» «3» .
وكثير من الناس يوجد فيهم ذلك، فمنهم من يصير إليه بالرياضة ومنهم من يبقى على عادته، ويجري على سيرته.
ويعرّف ابن مسكويه (ت: 421 هـ) الأخلاق بأنها «4» «حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية، وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون طبيعيّا من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو غضب ويهيج من أقل سبب، وكالإنسان الذي يجبن من أيسر شيء، أو كالذي يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه، أو يرتاع من خبر يسمعه، وكالذي يضحك ضحكا مفرطا من أدنى شيء يعجبه، وكالذي يغتم ويحزن من أيسر شيء يناله. ومنها ما يكون مستفادا بالعادة والتدرّب، وربما كان مبدؤه بالروية والفكر، ثم يستمر أولا فأولا حتى يصير ملكة وخلقا» .
أما الماوردي (ت: 450 هـ) فقال: الأخلاق «غرائز كامنة، تظهر بالاختيار، وتقهر بالاضطرار» «5» .
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور 19/ 171- 172.
(2) بصائر ذوي التمييز 2/ 568.
(3) الجاحظ: تهذيب الأخلاق، دار الصحابة للتراث، ط 1، 1410 هـ- 1989 م، ص 12.
(4) ابن مسكويه: تهذيب الأخلاق لابن مسكويه في التربية، دار الكتب العربية، بيروت، ط 2، 1401 هـ- 1981 م، ص 4، 5.
(5) أبو الحسن البصري الماوردي: تسهيل النظر وتعجيل الظفر (تحقيق د. محيي هلال السرحان) ، بيروت، 1983 م، ص 5.(1/61)
وقال الجرجاني: «الخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سمّيت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقا سيئا، وإنما قلنا إنه هيئة راسخة لأن من يصدر منه بذل المال على الندور بحالة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه» «1» .
مفهوم الأخلاق عند ابن تيمية:
ومفهوم الأخلاق عند ابن تيمية مرتبط بمفهوم الإيمان، وما ينبثق عنه حيث إنه يقوم على عدة عناصر هي:
1- الإيمان بالله وحده خالقا، ورازقا بيده الملك (توحيد الربوبية) .
2- معرفة الله سبحانه وتعالى، معرفة تقوم على أنه وحده- سبحانه- المستحق للعبادة (توحيد الألوهية) .
3- حبّ الله سبحانه وتعالى حبّا يستولي على مشاعر الإنسان، بحيث لا يكون ثمة محبوب مراد سواه سبحانه.
4- وهذا الحب، يسلتزم أن يتجه الإنسان المسلم نحو هدف واحد هو تحقيق رضا الله سبحانه، والالتزام بتحقيق هذا الرضا في كل صغيرة وكبيرة من شئون الحياة.
5- وهذا الاتجاه يستلزم من الإنسان سموّا عن الأنانية وعن الأهواء، وعن المآرب الدّنيا، الأمر الذي يتيح له تحقيق الرؤية الموضوعية والمباشرة لحقائق الأشياء، أو الاقتراب منها، وهذه شروط جوهرية في الحكم الخلقي.
6- وعندما تتحقق الرؤية المباشرة والموضوعية للأشياء والحقائق، يكون السلوك والعمل خلقا من الدرجة الأولى.
7- وعندما يكون العمل خلقا من الدرجة الأولى، نكون ماضين في طريق تحقيق، أو بلوغ الكمال الإنساني «2» .
وهذا المنهج الذي سلكه ابن تيمية في تحديد مفهوم الأخلاق الإسلامية يعتبر جديدا، كما اتضح ذلك من دراسة «النظرية الخلقية عند ابن تيمية» ،.
إن ابن تيمية كان أوفى، وأكمل، وأكثر نضجا ممن سبقه من علماء المسلمين أو غيرهم في هذا المضمار، وذلك لأن التصور النظري للأخلاق لدى هؤلاء العلماء والفلاسفة جميعا، فيه من الثغرات وعليه من المآخذ ما يجعل من هذا التصور فكرة ناقصة، بل عاجزة عن تحقيق الكمال الإنساني، وفي التصور الإسلامي للأخلاق لدى ابن تيمية نرى الارتباط الوثيق بين مفهوم الأخلاق، ومفهوم الإيمان الذي حدّده الإسلام، وما ينبثق عنه من نظام في العبادة، يكمن في التصور الخلقي الصحيح، ففي الإيمان وطرائقه، وآفاقه تستطيع النفس الإنسانية أن تجد
__________
(1) التعريفات للجرجاني، ص 104.
(2) محمد عبد الله عفيفي، النظرية الخلقية عند ابن تيمية، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، ط 1، 1408 هـ- 1988 م، ص 58- 59.(1/62)
حاجتها المادية والروحية معا، وليس ثمة طريق يبلغ بالإنسان إلى كماله المنشود، وصلاحه المرجو، وبالتالي سعادته المأمولة، غير طريق الإيمان.
ابن القيم ومفهوم الأخلاق:
لم يضع ابن القيم تحديدا أو تعريفا حدّيّا للأخلاق وإنما عرّفها بالمثال، وقسمها إلى قسمين هما:
الأول: الأخلاق المذمومة.
الثاني: الأخلاق الفاضلة.
وأرجع كلا القسمين إلى أصوله فقال: أصل الأخلاق المذمومة كلها الكبر والمهانة والدناءة، وأصل الأخلاق المحمودة كلها الخشوع وعلو الهمة «1» ، ثم أشار- رحمه الله تعالى- إلى أن للأخلاق حدودا «2» متى جاوزتها صارت عدوانا، ومتى قصرت عنها كانت نقصا ومهانة.
وعلى سبيل المثال فللشجاعة حد إذا جاوزته صارت تهورا، ومتى نقصت عنه صارت جبنا وخورا.
وقد اقتفى ابن القيم أثر شيخه ابن تيمية في الربط بين الإيمان والأخلاق وأشار إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد جمع بين تقوى الله وحسن الخلق، وفسّر ذلك بقوله «لأنّ تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته» «3» .
تعريفات الأخلاق عند المحدثين:
تعرف الأخلاق عند المحدثين بأنها «تصور وتقييم ما ينبغي أن يكون عليه السلوك متمشية في ذلك مع مثل أعلى أو مبدأ أساسي تخضع له التصرفات الإنسانية ويكون مؤازرا للجانب الخيّر في الطبيعة البشرية» «4» .
ويرى عبد الودود مكروم أن الأخلاق هي «مجموعة القواعد السلوكية التي تحدد السلوك الإنساني وتنظمه، وينبغي أن يحتذيها الإنسان فكرا وسلوكا في مواجهة المشكلات الاجتماعية والمواقف الخلقية المختلفة، والتي تبرز المغزى الاجتماعي لسلوكه بما يتفق وطبيعة الآداب والقيم الإجتماعية السائدة» «5» .
ويذهب عبد الرحمن الميداني: إلى أن الخلق «صفة مستقرة في النفس فطرية أو مكتسبة ذات آثار في السلوك محمودة أو مذمومة» ، «فالخلق منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، والإسلام يدعو إلى محمود الأخلاق، وينهى
__________
(1) ابن قيم الجوزية، الفوائد، ص 197، ومعنى التعريف بالمثال أنه أشار إلى نوعي الأخلاق المحمودة والمذمومة، وكأنه قال: الأخلاق المحمودة ما كان مثل الخشوع، والأخلاق المذمومة ما كان مثل الكبر.
(2) المرجع السابق نفسه، ص 192- 193.
(3) المرجع السابق نفسه، ص 74- 75.
(4) حسن الشرقاوي: نحو الثقافة الإسلامية، ج 1، القاهرة، دار المعارف، 1979 م، ص 238.
(5) عبد الودود مكروم: «دراسة لبعض المشكلات التي تعوق الوظيفة الخلقية للمدرسة الثانوية» رسالة ما جستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة المنصورة، 1983 م، ص 22.(1/63)
عن مذمومها» .
ويفسر رؤيته وتعريفه بقوله: «وتستطيع أن تقيس مستوى الخلق النفسي عن طريق قياس آثاره في سلوك الإنسان: فالصفة الخلقية المستقرة في النفس إذا كانت حميدة كانت آثارها حميدة، وإذا كانت ذميمة كانت آثارها ذميمة، وعلى قدر قيمة الخلق في النفس تكون- بحسب العادة- آثاره في السلوك، إلّا أن توجد أسباب معوقة أو صوارف صادرة عن ظهور آثار الخلق في السلوك» .
ويفرّق بين الصفات الخلقية والغرائز، فيقول: «وليست كل الصفات المستقرة في النفس من قبيل الأخلاق، بل منها غرائز ودوافع لا صلة لها بالخلق، ولكن الذي يفصل الأخلاق ويميزها عن جنس هذه الصفات كون آثارها في السلوك قابلة للحمد أو للذم، فبذلك يتميّز الخلق عن الغريزة ذات المطالب المكافئة لحاجات الإنسان الفطرية» .
ويقول: «إن الغريزة المعتدلة ذات آثار في السلوك، إلّا أن هذه الآثار ليست مما يحمد الإنسان أو يذم في باب السلوك الأخلاقي، ولكن الشره الزائد عن حاجات الغريزة العضوية أمر مذموم، لأنه أثر لخلق في النفس مذموم، هو الطمع المفرط، وعكس ذلك أثر لخلق في النفس محمود هو القناعة. وهكذا سائر الغرائز والدوافع النفسية التي لا تدخل في باب الأخلاق، إنما يميزها عن الأخلاق كون آثارها في السلوك أمورا طبيعية ليست مما تحمد إرادة الإنسان عليه أو تذم» «1» .
نخلص مما سبق إلى عدة أمور:
1- أن مبحث الأخلاق من المباحث العلمية الهامة والعظيمة التي اهتم بها العلماء المسلمون على اختلاف تخصصاتهم العلمية وما يزال هذا البحث من أهم المباحث على المستوى الفكري الإسلامي وغير الإسلامي مع اختلاف في الفهم.
2- أن فهم الخلق بمقتضى اللغة، والتحديدات التي اصطلح عليها العلماء لا يخرج عن المعاني التالية:
- السجية أي الطبيعة المتمكنة في النفس سواء كانت حسنة أو قبيحة.
- العادة والطبيعة، والدين والمروءة.
- ملكة تصدر الأفعال بها عن النفس بسهولة من غير تفكير ولا روية وتكلف.
- صفة مستقرة في النفس ذات آثار في سلوك الفرد والمجتمع قد تكون محمودة أو مذمومة.
3- أن الأخلاق تعكس مجموعة من التصورات الأساسية التي يعتنقها الناس، ويصوغون حولها
__________
(1) عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني: الأخلاق الإسلامية وأسسها، الطبعة الأولى، دمشق، دار القلم، 1399 هـ- 1979 م، ج 1، ص 7- 8.(1/64)
منظومات أخلاقية، نابعة من نفس التصورات تشكل الممارسات الخلقية.
4- أن الأخلاق تعتمد على:
- النظرة الإنسانية بإمكانياتها، وهو ما يسمّى عند البعض بالنور الفطري.
- الوحي السماوي ومحدداته الخلقية، وهو هنا الإسلام (قرآنا وسنة) . وباجتماع الأمرين ينتج الخلق الإسلامي الرفيع، ذلك أن الناس محتاجون على وجه التحديد إلى قاعدة صالحة للتطبيق على نظرته. ولهداية ضمائرهم، ولا أحد يعرف جوهر النفس، وشريعة سعادتها وكمالها، مع الصلاحية الكاملة، والبصيرة النافذة، غير خالق وجودها ذاته: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (الملك/ 14) «1» .
5- أن الأخلاق الإسلامية التزام بما ورد في القرآن والسنة من إلزامات وتوجيهات إلهية تقتضي رفعة الإنسان والسمو به إلى آفاق علوية، وتحقيق إنسانية الإنسان بما هو على فطرته.
6- ويستلزم الالتزام الخلقي من الإنسان:
- معرفة فطرية بالمبادىء الخلقية الأساسية، والتصورات المنبثقة عنها.
- المعرفة العملية للأحكام الخلقية، والأدوار والمهارات اللازمة للحياة في المجتمع.
- الوعي الخلقي ليفكر الإنسان ويحكم بشكل خلقي ويتصرف طبقا لهذا الحكم.
- الخبرة الموجبة للالتزام بالأحكام الأخلاقية التي تسهل السلوك الخلقي وترغّب فيه.
وبهذه الأمور الأربعة يمكن أن يشكل خلق الإنسان تشكيلا جيدا.
7- أن الأخلاق لا يمكن أن تكون نتاج عقل، فالعقل يستطيع أن يختبر العلاقات بين الأشياء ويحددها، ولكنه لا يستطيع أن يصدر حكما قيميّا عند ما تكون القضية قضية استحسان أو استهجان أخلاقي، ذلك أن التحليل العقلي للأخلاق يختزلها، إلى طبيعة، وأنانية وتضخيم للذات، ويكتشف العقل في الطبيعة مبدأ السببية العامة الكلية والقدرة، وفي الإنسان الغرائز، التي تؤكد عبودية الإنسان وانعدام حريّته. إن محاولة إقامة الأخلاق على أساس عقلاني لا يستطيع أن يتحرك أبعد مما يسمّى بالأخلاق الاجتماعية أو قواعد السلوك اللازمة
للمحافظة على جماعة معيّنة، وهي في واقع الأمر نوع من النظام الاجتماعي «2» .
ويؤكد هذه الفكرة الشيخ محمد عبد الله دراز، بقوله: «فإذا ما قيل لنا إننا نحن الذين نشرع لأنفسنا، بوصفنا
__________
(1) محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن الكريم، ترجمة عبد الصبور شاهين، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1393 هـ- 1973 م، ص 33- 34.
(2) علي عزت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة محمد يوسف عدس، ط 1، الكويت، مجلة النور، مؤسسة بافاريا للنشر والإعلان والخدمات، 1414 هـ- 1994 م، ص 186.(1/65)
أعضاء في عالم عقلي، وجب علينا أن نتفق على ذلك الاستقلال الذي خص به العقل» .
ماذا تعني في الواقع هذه المقولة: «العقل يمنح نفسه قانونه» ؟ هل هو مبدع العقل والقانون، أو أنه يتلقاه معدّا، على أنه جزء من كيانه كما يفرضه على الإرادة.
ذلك لأنه إذا كان العقل مبدع القانون فإنه سوف يصبح السيد المطلق فيبقي عليه أو يبطله تبعا لمشيئته، فإذا لم يستطع ذلك فلأنه قانون سبق في وضعه وجود العقل، وأن صانع العقل قد طبعه فيه، كفكرة فطرية، لا يمكن الفكاك منها «1» .
أما علم الأخلاق فله تعريفات عديدة من أهمها:
1- علم الأخلاق هو جملة القواعد والأسس التي يعرف بواسطتها الإنسان معيار الخير في سلوك ما «أو مدى الفساد والشر المتمثل في سلوك آخر. والأخلاق كعلم معياري يكون وفق هذا المفهوم علما خاصّا بالإنسان دون باقي المخلوقات وهو يشكل منهاجه السلوكي القائم على مجموعة من المبادىء والقيم التي تحكم قناعات الفرد» «2» .
2- علم الأخلاق هو علم تحديد معايير وقواعد السلوك أو هي علم التعرف على الحقوق والواجبات» «3» .
أما وجهة نظر القدماء فيمثلها التعريف التالي: الأخلاق «علم يعرف به حال النفس من حيث ماهيتها وطبيعتها وعلة وجودها وفائدتها وما هي وظيفتها التي تؤديها وما الفائدة من وجودها، ويبحث عن سجاياها وأميالها وما ينقلها بسبب التعاليم عن الحالة الفطرية، وذكر أن هذا أول علم تأسس منذ بدء الخليقة» «4» .
الأخلاق الإسلامية:
إن الأخلاق الإسلامية هي السلوك من أجل الحياة الخيرة وطريقة للتعامل الإنساني، حيث يكون السلوك بمقتضاها له مضمون إنساني ويستهدف غايات خيرة.
وقد عرف بعض الباحثين الأخلاق في نظر الإسلام بأنها عبارة عن «مجموعة المبادىء والقواعد المنظمة للسلوك الإنساني التي يحددها الوحي لتنظيم حياة الإنسان وتحديد علاقته بغيره على نحو يحقق الغاية من وجوده في هذا العالم على أكمل وجه» «5» .
ويتضح من هذا التعريف أن الأخلاق في نظر الإسلام هي جمع شامل في منظور متكامل بين مصدرها
__________
(1) محمد عبد الله دراز، دستور الأخلاق في القرآن، ص 35.
(2) أسعد الحمراني، الأخلاق في الإسلام والفلسفة القديمة، ص 15.
(3) نقل أسعد الحمراني في المرجع السابق هذا التعريف عن معجم لاروس الصادر في باريس، 1931 م.
(4) تهذيب الأخلاق لابن مسكويه، ص (ز) .
(5) مقداد يالجين: التربية الأخلاقية الإسلامية، رسالة دكتوراه منشورة، ط 1، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1977، ص 75.(1/66)
وطبيعتها ومغزاها الاجتماعي وغايتها.
وللنظام الأخلاقي في الإسلام طابعان مميزان «1» :
الأول: طابع إلهي من حيث أنه مراد لله، إذ أنه يجب أن يتبع الإنسان في هذه الحياة رغبة الله في خلقه، ولذلك جاء الوحي بصورة هذا النظام.
الثاني: طابع إنساني من حيث إن هذا النظام عام في بعض نواحيه يتضمن المبادىء العامة، وللإنسان دوره في تحديد واجباته الخاصة والتعرف على طبيعة مظاهر السلوك الإنساني المعبرة عن القيم. لذا تعد الأخلاق روح الإسلام، حيث يقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم «البر حسن الخلق» «2» .
أصالة الفكر الأخلاقي عند المسلمين:
من الناس من يظن- وبعض الظن إثم- أنه لا يوجد فكر أخلاقي عند المسلمين، ومنهم من يجعل الفكر الفلسفي شاملا للفكر الأخلاقي في التراث الإسلامي، ومنهم من ينظر إلى الفكر الصوفي على أنه الفكر الأخلاقي المعتمد للمسلمين.
إن هذه الأطروحات المختلفة لا تلبث أن تتهاوى أمام حقيقة ناصعة البياض، وهي أن الفكر الأخلاقي قد وجدت أسبابه ودواعيه منذ تلك اللحظة التي أمر فيها الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم ب «مكارم الأخلاق» «3» ، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه قد تقرر عند العلماء أنه لا يوجد فكر ديني دون أن يكون هناك فكر أخلاقي انطلاقا من أن الفكر الديني هو الذي يحدد الإطار العام لأفكار معتنقيه، ويجيب عن التساؤلات الإنسانية الكبرى مثل خلق الإنسان والتدبر في نعم الله وآلائه، أما الفكر الخلقي فإنه يحدد أنماط السلوك التي يمارسها الإنسان في هذه الحياة، ومن المعروف أن الإسلام عقيدة وشريعة؛ فالعقيدة تتضمن الفكر والشريعة تتضمن أنماط السلوك تجاه المولى- عز وجل- كما في العبادات، أو تجاه النفس كما في العفة والطهر ونحوها، أو تجاه الآخرين كما في البر والصدقة والإيثار ونحو ذلك.
لقد وجد الفكر الأخلاقي عند المسلمين طريقة للتأثير على الفكر الأخلاقي على المستوى العالمي بوجه عام والفكر الغربي بوجه خاص، ولا يزال هذا الفكر مسيطرا على سلوك المسلمين في الحاضر، ويعمل على صياغة حياتهم في المستقبل، ولم يكن الأمر كذلك إلا لكون هذا الفكر الإسلامي فكرا كونيا يعالج قضايا الحياة الإنسانية من منظور يسمو على النواحي القومية والعرقية والإقليمية، وما ذلك إلّا «لأن الإسلام الذي ينبعث منه هذا الفكر هو دين كوني وشمولي من ناحية، ولأن ممارسة هذا التفكير في ظل الإسلام، وانطلاقا من القيم والثوابت
__________
(1) مقداد يالجين: التربية الأخلاقية الإسلامية، رسالة دكتوراه منشورة، ط 1، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1977، ص 75، 76.
(2) صحيح مسلم (16/ 110) .
(3) انظر صفة حسن الخلق، حديث رقم (8) .(1/67)
الإسلامية تجعل هذا الفكر بالفعل فكرا عالميا أو إنسانيا، يؤمن به من يؤمن على هذا الأساس، أو ينكره على هذا الأساس» «1» ، من ناحية أخرى.
تطور الفكر الأخلاقي وثراؤه عند المسلمين:
إن أهم ما يميز هذا الفكر ويؤكد أصالته هو هذا التنوع الهائل، وذلك الكم الضخم من المؤلفات التي أسهم بها العلماء المسلمون في المجال الأخلاقي، وقد كانت هذه الجهود المباركة- شأنها شأن أي جهد علمي خلّاق- قد بدأت صغيرة ثم كبرت، مختلطة بغيرها في البداية ثم استقلت.
لقد أرسى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة المفاهيم والقيم اللازمة لإقامة حياة سعيدة على الأرض، مع ضمان الجزاء الأوفى في الآخرة، وقد تفاعل الفكر الإنساني مع هذه المبادىء والقيم، سواء أكانت حضارية أو عقدية أو أخلاقية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، وحاول التعامل معها، فقد دفع القرآن الكريم إلى الناس والعالم أجمع نظرة جديدة في الكون والحياة والمجتمع، وكانت هذه الجدة متمثلة في الوسطية والحيوية والحركة والتكامل.
وتطور الفكر الإسلامي كوحدة متكاملة بعد استقرار المقومات الأساسية باكتمال نزول القرآن وانتقال الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى، ومن ثم ظهرت علوم كثيرة، في العقائد، والأحكام، واللغة، والأدب، والنحو والصرف، والاشتقاق والمعاني والبديع، والبيان، والحديث والتفسير، والأصول، والعلوم التجريبية. ولعل أبرز إنجاز في هذا المجال، والذي استطاع الفكر الإسلامي أن يبحث به كل هذه العلوم هو المنهج: منهج البحث، والذي استنبط من تعليمات القرآن، في دعوتها الإنسان للعلم واستخدام العقل: دعوتها الإنسان إلى تخليص النفس من أثر كل رأي وعقيدة سابقة، ثم البحث والملاحظة والنظر والموازنة والاستنباط، كل ذلك في إطار حرية العقل والفكر، فلم يترك القرآن وسيلة تهدف إلى تحرير الفكر إلا دعا إليها، ليقيم الإيمان والتدين على أساس راسخ من الفكر الدقيق واليقين المستوعب.
على هذه الأسس انطلق الفكر الإسلامي منتجا ومستوعبا ومواجها ومتحديا في كافة المجالات، وكانت حصيلة ضخمة خلّفها الفكر الإسلامي، وهي تبدو الآن ذخيرة حية، يمكنها أن تمد الحياة المعاصرة وحضارتنا بقوى روحية وعقلية كبيرة، ونحن نقف إزاءها موقف الإكبار والإعجاب.
وسوف نعرض في الفقر التالية لأهم الأعمال والمؤلفات الأخلاقية التي أسهم بها العلماء المسلمون في مجالي القيم والأخلاق الإسلامية، مما يؤدي إلى البرهنة على أن الفكر الإسلامي فكر أصيل، وأنه قد تطور تطورا طبيعيا، وأنه أسهم في مجال الفكر الخلقي على المستوى العالمي.
__________
(1) محمد الكتاني، جدل العقل والنقل في مناهج التفكير الإسلامي ص 13.(1/68)
الاهتمامات المبكرة:
ظهرت الاهتمامات المبكرة بالفكر الأخلاقي منذ عهد الصحابة- رضوان الله عليهم- والتابعين- رحمهم الله تعالى- في شكل وصايا ونصائح، أو في شكل تفسير الآيات المتعلقة بالأخلاق في القرآن الكريم.
وفي القرن الثاني الهجري بدأت الأعمال العلمية المنظمة في مجال العلوم الفقهية التي تضمنت إشارات واضحة إلى المجال الأخلاقي، وقد تمثلت هذه الجهود في أعمال المجتهدين الكبار من أمثال الإمام أبي حنيفة النعمان (ت 150 هـ) ، والإمام مالك بن أنس (ت 179) ، والإمام الشافعي (ت 204 هـ) ، والإمام أحمد بن حنبل (ت 241) ، وقد كان هؤلاء بذواتهم قدوة، وكان ما توصلوا إليه من أحكام شكلا من أشكال الحكم الخلقي الذي ينظم حياة الناس طبقا لاجتهادات شرعية على كافة مستويات الحياة من فردية وأسرية واجتماعية، وقد كانت اجتهادات هؤلاء الأئمة مصابيح أضاءت الطريق في المجتمع الإسلامي في إطار معياري أخلاقي سليم «1» .
وفي القرن الثالث الهجري ظهرت بواكير الأعمال العلمية التي خصصها مؤلفوها للحديث عن موضوعات أخلاقية، وهنا يبرز «الجاحظ» كرائد من رواد التأليف في هذا المجال، ومن مؤلفاته البارزة «تهذيب الأخلاق» .. ورسالة في كتمان السر وحفظ اللسان، ورسالة في النبل والتنبل وذم الكبر، ورسالة في المودة والخلطة وأخرى في الجد والهزل «2» ، هذا بالإضافة إلى ما تضمنته كتاباته الأخرى مثل «البيان والتبيين» و «البخلاء» و «الحيوان» إذ تضمنت العديد من الوصايا الخلقية التي برزت في شكل أدبي جذاب.
وفي نفس الفترة (تقريبا) ظهرت الموسوعات الأدبية والتاريخية التي ضمنها مؤلفوها أبوابا في الأخلاق، من ذلك ما كتبه ابن قتيبة (ت 276 هـ) عن الطبائع والأخلاق في موسوعة «عيون الأخبار» ، وقد تتابع تأليف هذه الموسوعات في القرون التالية «3» .
مدرسة النظر العقلي:
لقد بدأ بزوغ هذه المدرسة في الفكر الفلسفي عامة والأخلاقي خاصة منذ منتصف القرن الثالث الهجري، وقد كانت إسهامات هؤلاء ذات قيمة عالية في المجال الأخلاقي وكان دورهم واضحا في أمرين:
__________
(1) انظر في ذلك على سبيل المثال: ناجي الصاعدي، المضامين التربوية لفكر الإمام أبي حنيفة (رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 1408 هـ) ص 166 وما بعدها. وانظر أيضا: فاطمة محمد السيد علي، الفكر التربوي عند الإمام الشافعي (رسالة ماجستير، كلية التربية بالمنوفية 1401 هـ) ص 151- 161.
(2) انظر رسائل الجاحظ التي حققها ونشرها عبد السلام هارون، القاهرة، د. ت.
(3) انظر على سبيل المثال: العقد الفريد لابن عبدربه (ت: 328 هـ) ، ومحاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني (ت: 502 هـ) ، وربيع الأبرار للزمخشري (ت: 538 هـ) .(1/69)
الأول: أنهم استوعبوا الثقافة اليونانية وعدلوا فيها وأضافوا إليها كثيرا من الفكر الأخلاقي عند المسلمين.
الآخر: أنهم حفظوا هذه الثقافة من الضياع ثم أعطوها للعالم مرة أخرى بعد تجريدها من النزعات الوثنية اليونانية، ويذكر في هذا الإطار:
- يعقوب بن إسحاق الكندي (ت 260 هـ) ، وله في الأخلاق «القول في النفس» .
- أبو بكر الرازي (ت 313 هـ) وله في المجال الأخلاقي كتاب «الفقراء والمساكين» .
- الحكيم الترمذي (ت 320 هـ) وكان عالما بالحديث وأصول الفقه، ومن مؤلفاته في الأخلاق «كتاب الذوق» ويتضمن الفرق بين المداراة والمداهنة، والمحاجة والمجادلة والانتصار والانتقام، وله أيضا «الرياضة وأدب النفس» وكتاب المناهي، وغيرها.
- أبو نصر الفارابي (ت 339 هـ) (محمد بن أحمد) ويعرف بالمعلم الثاني، ومن مؤلفاته في الأخلاق «آراء أهل المدينة الفاضلة» ، «الآداب الملوكية» .
- ابن مسكويه (ت 421 هـ) ، ومن أشهر مؤلفاته في الأخلاق، كتاب «تهذيب الأخلاق» في التربية.
- ابن سينا (ت 428 هـ) ، قال عنه الإمام ابن تيمية: تكلم في أشياء من الإلهيات والنبوات والميعاد والشرائع لم يتكلم بها سلفه ولا وصلت إليها عقولهم، ولا بلغتها علومهم، وأنه استفادها من المسلمين «1» ، ومن مصنفاته في الأخلاق «رسالة في الحكمة» ، «كتاب الطير» في الفلسفة، «أسرار الصلاة» ، «الانصاف» في الحكمة «2» .
- ابن باجة الأندلسي (ت 533 هـ) المعروف بابن الصائغ، وقد شرح كتب أرسطو، وله كتب عديدة منها:
«اتصال العقل» ، «كتاب النفس» .
- ابن الطفيل (محمد بن عبد الملك) ، وهو صاحب قصة «حي بن يقظان» وله في المجال الأخلاقي رسالة «في النفس» .
- ابن رشد (ت 595 هـ) ومن كتبه في الأخلاق: «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال» ، وقد ترجمت كتبه إلى اللاتينية والعبرية والإسبانية «3» .
إن هؤلاء جميعا وإن تأثروا بالفلسفة اليونانية، إلّا أنهم لم يقتصروا عليها، وإنما أضافوا إليها ونقوها من شوائبها، ثم أخذها عنهم الأوروبيون منذ مستهل عصر نهضتهم.
__________
(1) انظر كلام ابن تيمية في كتاب «الأعلام» لخير الدين الزكلي، ج 2 ص 241.
(2) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(3) راجع في جهود هؤلاء ومصنفاتهم، كتاب «الأعلام» للزركلي، وقارن بالمراجع العديدة المذكورة فيه، وقد رتبت أسماؤهم في الأعلام ترتيبا أبجديّا.(1/70)
المدرسة الإسلامية الخالصة:
يقصد بالمدرسة الإسلامية الخالصة في المجال الأخلاقي ما أبدعته عقلية الفقهاء والمحدثين والزهاد في مجال التربية والسلوك اللذين يستمدان أصولهما من قواعد الشريعة الإسلامية ويستلهمان مبادئهما من الكتاب والسنة وغيرهما من المصادر الإسلامية الخالصة مثل الإجماع والقياس «1» ، وهذه المؤلفات وإن لم تغرق في المباحث النظرية المجردة إلا أنها أسهمت بنصيب وافر في مجال السلوكيات والأخلاق العملية، وسنعرض- بإيجاز- لأهم علماء هذه المدرسة وأبرز مؤلفاتهم في المجال الأخلاقي.
1- ابن المبارك (ت 181 هـ) وله كتاب الزهد، وهو كتاب مليء بالتوجيهات الخلقية، وأدلتها من القرآن والسنة وأقوال التابعين خاصة الزهاد منهم.
2- وكيع بن الجراح (ت 197 هـ) ، وله أيضا كتاب «الزهد» وقد رتبه على الأبواب، وضمنه أحاديث الزهد والرقائق والأدب والأخلاق.
3- الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) وله كتابا: «الزهد» و «الورع» وقد سلك فيه مسلك ابن المبارك.
4- هنّاد بن السّري (ت 243 هـ) وله أيضا كتاب الزهد وقد تلمذ على الإمام وكيع بن الجراح وتأثر به.
وقد تناولت هذه المصنفات في «الزهد» الحث على مكارم الأخلاق والزهد في الدنيا والتطلع إلى ثواب الله في الآخرة، ومادتها تتكون من القرآن الكريم والحديث الشريف وآثار السلف الصالح «2» .
5- أبو عبد الله المحاسبي (ت 243 هـ) ، وكانت جهوده في المجال الأخلاقي متنوعة، فكتب في الوصايا، وآداب النفس، ورسالة المسترشدين والرعاية لحقوق الله، والتوبة، وقد تضمنت هذه المؤلفات نقودا لاذعة للسلوكيات الشائنة في عصره، ودعوة للرجوع إلى الكتاب والسنة.
6- الإمام البخاري (ت 256 هـ) ، وهو صاحب الجامع الصحيح (صحيح البخاري) ، وله في الأخلاق «كتاب الأدب المفرد» ، تعرض فيه لجمع الأحاديث المتعلقة بالآداب والأخلاق، ويعد هذا الكتاب من أسبق ما ألفه علماء الحديث في المجال التربوي والأخلاق الإسلامية.
7- ابن أبي الدنيا (ت 281 هـ) ويعد من أبرز المؤلفين في الأخلاق والتربية الإسلامية، وقد تبحر أيضا في علوم الحديث، ومن أهم مصنفاته في التربية والأخلاق: «الإخلاص» ، «الأمر بالمعروف» ، «الحذر والشفقة» ، «ذكر الموت» ، «ذم الغضب» ، «الرضا عن الله والصبر على قضائه» ، «الغيبة والنميمة» ، «القناعة» ، «الصمت
__________
(1) انظر مصادر الإلزام الخلقي في الإسلام.
(2) حصر بعض الباحثين من هذه المؤلفات ما يربو على ستين مرجعا، وربما فاته كثير منها. انظر في ذلك: مقدمة كتاب الزهد للإمام وكيع بن الجراح بتحقيق عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي، المدينة المنورة 1404 هـ، وراجع: فؤاد سزكين، تاريخ التراث العربي، ج 4 في العقائد والتصوف.(1/71)
وآداب اللسان» وغيرها مما يتضمن محمود الأخلاق ومذمومها «1» ، وتمتاز هذه المصنفات بالوحدة الموضوعية، وجودة الترتيب، ونسبة الآثار والأقوال لأصحابها. مع الاعتناء الكامل بذكر الشواهد من القرآن الكريم والحديث الشريف.
8- الإمام النسائي (ت 303 هـ) ، ويعد كتابه «عمل اليوم والليلة» من أهم المساهمات التي قدمها علماء الحديث في الميدان الأخلاقي، إذ تضمن صفة الذكر في الصباح والمساء، ثم تناول جزئيات الحياة اليومية من صلاة وصيام وجهاد والوضوء ودخول المسجد، والبيع والشراء، وعيادة المرضى وغير ذلك مما يتناول تفصيل الحياة اليومية، الفردية والأسرية والاجتماعية، والكتاب في الواقع هو معجم للمثل والقيم الإسلامية.
9- أبو بكر الخرائطي (ت 327 هـ) وأبرز مؤلفاته كتابان: أحدهما «مكارم الأخلاق ومعاليها» والثاني «مساوىء الأخلاق ومذمومها وطرائق مكروهها» وكما يتضح من عنوان الكتابين أنهما يعنيان بسلوك المسلم إن إيجابا باتباع الأخلاق الحميدة المأمور بها، وإن سلبا باجتناب الأخلاق المذمومة المنهي عنها.
10- أبو بكر الآجري (ت 360 هـ) ، وله في المجال الأخلاقي مصنفات عديدة منها: «أخلاق حملة القرآن» ، و «أخلاق العلماء» ، و «أدب النفس» ، و «كتاب أهل البر والتقوى» ، و «كتاب التوبة» ، و «كتاب التهجد» ، وغيرها كثير، وقد أجمل في هذه الكتب الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها العلماء وحملة القرآن والمسلمين بوجه عام.
11- ابن السني (ت 364 هـ) وله كتاب «عمل اليوم والليلة» ويتضمن (مثل كتاب النسائي) قواعد السلوك الخلقي للمسلم في يومه وليلته، ومن ثم في حياته كلها.
12- أبو طالب المكي (ت 386 هـ) وفي كتابه «قوت القلوب» آداب أخلاقية عديدة كالأخوة والصداقة والمودة والمحبة، كما تناول الأخلاق الأسرية والتوافق العائلي وغيرها، وقد تأثر مكي بالمحاسبي تأثرا كبيرا، كما أثر في فكر الغزالي خاصة في «إحياء علوم الدين» «2» .
13- أبو عبد الله الحليمي (ت 403 هـ) وقد تناول الأخلاق من منظور شعب الإيمان في كتابه «المنهاج في شعب الإيمان» ضم سبعة وسبعين بابا، وقد اكتفى بذكر متون الأحاديث الواردة في كل شعبة، كما ذكر الآثار، وكان من دوافعه لتأليف هذا الكتاب ما رآه من اشتغال جمهور الناس عن العلوم بالتبقر (التوسع) في الأهل والمال، والتهافت في الحرام والحلال والتنافس في رتب الدنيا، والتغافل عن درج الآخرة» «3» .
__________
(1) انظر في مصنفات ابن أبي الدنيا مقدمة تحقيق كتابه: الصمت وآداب اللسان للأستاذ نجم عبد الرحمن خلف (بيروت: 1406 هـ) ، ص 19 وما بعدها.
(2) يرجع في تأثر مكي بن أبي طالب وتأثيره مقدمة كتاب العقل وفهم القرآن للمحاسبي التي كتبها حسين القوتلي ص 86- 91، ومقدمة قوت القلوب التي كتبها عبد المنعم الحفني ص 5- 22.
(3) ينظر في أهداف التأليف مقدمة الحليمي للمنهاج، ت. حلمي فوده، ص 3- 15.(1/72)
14- ابن حزم الأندلسي (ت 421 هـ) وكتابه «الأخلاق والسير في مداواة النفوس» يقدم نموذجا من التجربة العملية التي تؤكد إمكانية مقاومة الرذائل.
15- أبو زيد الدبوسي (ت 430 هـ) ، ويعد كتابه «الأمد الأقصى» من أهم الكتب في المجال الأخلاقي حيث تناول العلل النفسية والقلبية التي تحبط الأعمال، كالرياء والعجب ونحوهما «1» .
16- أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) وله كتابات مهمة في علم الأخلاق مثل أدب الدنيا والدين، ونصيحة الملوك، وتسهيل النظر وتعجيل الظفر، ويحفل كتابه «أدب الدنيا والدين» بالمباحث الأخلاقية كالحياء والصدق، وآداب الكلام والصبر والشورى، وكتمان السر، والمروءة، كما تضمنت مباحثه أيضا الأخلاق المذمومة من نحو الكذب والغيبة والنميمة، أما الكتب الأخرى فقد تضمنت العلاقة بين الأخلاق وسياسة الناس، وهذا مبحث فريد مميز في فكر الماوردي «2» .
17- البيهقي (ت 458 هـ) وله «شعب الإيمان» وقد تحرى فيه ذكر الأحاديث بأسانيدها وأشار إلى درجة صحتها، وقد عقب على أحاديث كل شعبة بانطباعاته العقدية وآرائه الفقهية، وبلغت مروياته من الأحاديث والآثار 11269 حديثا وأثرا، ويعد كتابه من الكتب الجامعة في مجال الأخلاق.
18- الراغب الإصفهاني (ت 502 هـ) ، وله مؤلفات عديدة في موضوع الأخلاق منها: «تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، و «الذريعة إلى مكارم الشريعة» وقد تضمن كتابه «محاضرات الأدباء» مباحث أخلاقية عديدة، وقد أولى الجانب النظري للأخلاق اهتماما كبيرا، وكان فكره إسلاميا خالصا.
19- أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ) ويعد من أشهر من تحدث عن الأخلاق في التراث العربي نظرا لشهرة كتابه الموسوعي «إحياء علوم الدين، وله في المجال الأخلاقي أيضا «ميزان العمل» ، ويجمع فكره الأخلاقي أطراف وخيوط مذاهب أخلاقية عديدة، وقد اختلف الناس في تقويم آرائه اختلافا كبيرا.
20- ابن الجوزي (ت 596 هـ) ، ومن مؤلفاته في هذا المجال «صفة الصفوة» وقد تضمن وصايا أخلاقية عديدة من خلال التراجم التي قدمها، وله أيضا «صيد الخاطر» .
21- الحافظ المنذري (ت 656 هـ) ، ويعد كتابه «الترغيب والترهيب» من أهم الكتب التي صنفت في الشريعة وفقا للمجالات الأخلاقية، إن حسنة بالترغيب فيها، وإن سيئة بالترهيب منها.
__________
(1) انظر مقدمة الأمد الأقصى، ت: محمد عبد القادر عطا (بيروت: 1405 هـ) .
(2) انظر في ذلك: تسهيل النظر وتعجيل الظفر للماوردي، ت. محيي هلال السرحان، بيروت، 1953، وأيضا أدب الدنيا والدين له، بتحقيق مصطفى السقا، بيروت، 1978 م، (ط. رابعة) ، وقارن بما كتبه علي خليل مصطفى في كتابه: «قراءة تربوية في فكر أبي الحسن الماوردي» ط. أولى، المدينة المنورة 1411 هـ.(1/73)
22- العز بن عبد السلام (ت 660 هـ) ، وله في الأخلاق كتابه القيم «شجرة المعارف والأصول» الذي يحتوي على عشرين بابا، يستهدف منها إصلاح القلوب لأنها منبع كل إحساس.
23- الإمام النووي (ت 676 هـ) ، وكتابه «رياض الصالحين» تضمن أبوابا في الأخلاق من خلال الآيات والأحاديث التي استشهد بها.
24- ابن تيمية (ت 728 هـ) ، وتتمثل أهم جهوده في ميدان التربية والأخلاق في «مجموع الفتاوى» وقد استخرج بعض الباحثين ما كتبه شيخ الإسلام عن الأخلاق «1» ، كما استطاع باحث آخر أن يستخلص أسس النظرية الأخلاقية عند ابن تيمية، فتحدث عن وهبية الأخلاق وكسبيتها، ومصدر الإلزام الخلقي، وغيرها من مباحث توضح الفكر الأخلاقي عنده «2» .
25- الذهبي (ت 748 هـ) ، ويعد كتابه عن «الكبائر» متعلقا بالجانب السلبي للأخلاق، حيث أوضح الأخلاق المذمومة التي تعد من كبائر الذنوب وذكر من الآيات والأحاديث ما يدل على غلظ العقوبة فيها.
26- ابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) وله إسهامات عديدة في مجال الأخلاق نذكر منها: الفوائد، ومدارج السالكين، وعدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، وإعلام الموقعين، والداء والدواء، وإغاثة اللهفان، وقد تناول في هذه الكتب أسس علم الأخلاق.
27- ابن مفلح (ت 763 هـ) ، وقد طرح فكره الخلقي من خلال كتابه المشهور «الآداب الشرعية والمنح المرعية) وفيه الكثير عن الفضائل الخلقية التي يجب أن يتحلى بها المسلم.
28- ابن حجر المكي الهيتمي (974 هـ) ويمثل كتابه «الزواجر عن اقتراف الكبائر» جهدا لا غنى عنه في توضيح كبائر الذنوب التي ينبغي أن يبتعد عنها كل مسلم.
29- السفاريني الحنبلي (ت 1188 هـ) ، وله في المجال الأخلاقي كتاب غذاء الألباب، وهو شرح لمنظومة الآداب «3» ، وقد تضمن الحديث عن حسن الخلق إجمالا، ومكارم الأخلاق تفصيلا، مثل: البر وحسن الظن، ونحو ذلك، وتناول أيضا مذموم الأخلاق مثل الغيبة وآفات اللسان، والفحش ونحو ذلك، وقد تناول الحكم الفقهي لمعظم ما تناوله من الفضائل أو الرذائل.
وفي العصر الحديث تتابعت جهود العلماء في الكشف عن الخصائص الأخلاقية والقيم التربوية في
__________
(1) انظر: كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية «مكارم الأخلاق» ، إعداد عبد الله بدران، وحمد عمر الحاجي، مكة المكرمة، 1414 هـ.
(2) انظر: «النظرية الخلقية عند ابن تيمية» ، الرياض، 1408 هـ، من تأليف محمد عبد الله عفيفي.
(3) منظومة الآداب، قصيدة تحتوي آداب السلوك، وفضائل الأخلاق نظمها العلامة شمس الدين محمد بن عبد القوي المرداوي (ت: 630 هـ) .(1/74)
الإسلام وعلى رأس هذه الجهود يأتي كتاب الشيخ محمد عبد الله دراز «دستور الأخلاق في القرآن الكريم» «1» ، والشيخ محمد الغزالي في كتابه «خلق المسلم» وكتابه «هذا ديننا» وغير ذلك من مؤلفاته الأخلاقية، وقد صدر بعض الباحثين أطروحته للدكتوراه التي أعدها عن «الأحكام القيمية الإسلامية» باستعراض المؤلفات الحديثة في مجالي الأخلاق والتربية الإسلامية، وقد وصلت إلى ثلاث عشرة دراسة، منها: منهج القرآن في تربية المجتمع لعبد الفتاح عاشور، الاتجاه الأخلاقي في الإسلام لمقداد يالجن، والتربية الأخلاقية الإسلامية له أيضا، فلسفة التربية الإسلامية في القرآن الكريم لعلي خليل أبو العينين، والتربية الخلقية في الإسلام لسلوى رمضان وغير ذلك «2» .
وخلاصة القول: أن هناك مؤلفات إسلامية عديدة ومتنوعة في المجال الأخلاقي، وبنظرة تحليلية إلى هذا الكم الهائل من مؤلفات يمكن استخلاص أهم ما تضمنته هذه المؤلفات في النقاط والموضوعات الآتية:
1- معنى الأخلاق وضرورتها وأهميتها في حياة الفرد والمجتمع وكل ما يتعلق بذلك من مباحث نظرية أو سلوكية.
2- إصلاح النفس وإصلاح الجسد وإصلاح الأسرة، بل إصلاح المجتمع بأسره.
3- الأخلاق في المجال السياسي وهي ما يترتب عليه إصلاح المجتمع البشري كله.
4- الأخلاق التي يجب أن تكون عليها العلاقة بين الإنسان وخالقه عز وجل.
5- الأخلاق النوعية كأخلاق العلماء وأهل القرآن.
6- الأخلاق السلبية التي ينبغي أن يتخلى عنها الأفراد والمجتمع والتي هي بمثابة الأمراض الفتاكة التي لابد من محاربتها والقضاء عليها والوقاية منها ومعرفة كيفية معالجتها.
القيم الإسلامية:
يكثر استخدام مصطلح «القيم والقيمة والأحكام القيمية» في المجال التربوي، وذلك إلى جانب المصطلح «أخلاق» ، وقد ذكرنا فيما سبق ما يتعلق بمفهوم الأخلاق، فما معنى القيم؟
القيم في اللغة:
لفظ القيم في اللغة جمع قيمة وأصلها الواو «3» ، لأنها من مادة (ق وم) ، التي تدل على انتصاب أو عزم، يقول ابن منظور والقيمة ثمن الشيء بالتقويم، و (سمي الثمن قيمة) لأنه يقوم مقام الشيء يقال: كم قامت ناقتك
__________
(1) أصل هذا الكتاب دراسة بالفرنسية لنيل درجة الدكتوراة، وقد ترجمه إلى العربية الدكتور عبد الصبور شاهين.
(2) انظر في تفصيل الدراسات الحديثة في المجال الأخلاقي والتربية «الأحكام القيمية الإسلامية» لعبد الودود مكروم ص 28- 43، (رسالة دكتوراة مخطوطة بكلية التربية بالمنصورة، مصر 1987 م) .
(3) المراد أن أصلها قومة فقلبت الواو ياء لسكونها وكسر ما قبلها.(1/75)
أي كم بلغت، وقد قامت الأمة مائة دينار أي: بلغ قيمتها مائة دينار «1» ، وفي الحديث: قالوا يا رسول الله لو قوّمت لنا، فقال: الله هو المقوّم أي لو سعّرت لنا، وهو من قيمة الشيء، والمراد حددت لنا قيمتها «2» .
وقد ورد لفظ «قيم» أيضا مرادا به جمع قامة، وذلك مثل تارات وتير، وذلك كما في قول الراجز:
واختلفت أمراسه وقيمه
كما ورد أيضا مصدرا لقام، مثل الصغر والكبر، ومعناه حينئذ الاستقامة، وذلك كما في قول كعب بن زهير:
فهم ضربوكم حين جرتم على الهدى ... بأسيافهم حتى استقمتم على القيم
وقال حسان:
وأشهد أنك عند الملي ... ك، أرسلت حقا بدين قيم
قال الزجاج: القيم مصدر بمعنى الاستقامة «3» .
ومن ذلك «القيم» في قوله عز وجل: دِيناً قِيَماً (الأنعام/ 161) قال القرطبي في تفسيره: قرأه الكوفيون وابن عامر «قيما» وهو مصدر كالشبع فوصف به «4» ، (كما يقال رجل عدل) ، وقرأ الباقون «قيما» ، ومعناه: دينا مستقيما لا عوج فيه «5» ، قال الراغب دِيناً قِيَماً: أي ثابتا مقوما لأمور معاشهم ومعادهم «6» ، أما قوله عز وجل: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (البينة/ 5) . فقد قال ابن كثير في تفسيرها: دين الملة القائمة العادلة أو الأمة المستقيمة المعتدلة «7» ، وقيل المراد دين الكتب القيّمة «8» ، أما وصف الكتب بأنها قيمة فمعناه كما قال الماوردي: كتب الله المستقيمة التي جاء القرآن بذكرها وثبت فيه صدقها، أو فروض الله (المكنونة) العادلة «9» .
ولعل أقرب الاستعمالات اللغوية إلى القيم بمعناها السائد الآن هو ما ذكره صاحب القاموس من قولهم:
__________
(1) لسان العرب 12/ 500.
(2) النهاية لابن الأثير 4/ 124.
(3) لسان العرب 12/ 502- 503 (باختصار وتصرف) .
(4) ويراد بذلك دينا ذا استقامة.
(5) تفسير القرطبي 7/ 152.
(6) المفردات للراغب ص 417.
(7) تفسير ابن كثير 4/ 574، وهو يشير بالمعنى الأول إلى أن قيمة صفة المحذوف هو الملة، وبالثاني إلى أن المحذوف هو الأمة.
(8) هذا وجه ثالث نقله القرطبي عن محمد الطالقان، وهو يشير بذلك إلى ما جاء في الآية الثالثة من السورة الكريمة فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ انظر: تفسير القرطبي 20/ 144.
(9) النكت والعيون 6/ 316.(1/76)
فلان ما له قيمة: إذا لم يدم على شيء» «1» . وقول صاحب أساس البلاغة: القيمة ثبات الشيء ودوامه «2» ، وهما يشيران بذلك إلى أن القيمة ترد بمعنى الأمر الثابت الذي يحافظ عليه الإنسان ويستمر في مراعاته.
ماهية القيم:
لقد تعددت الاتجاهات واختلفت المدارس العلمية في تحديد مفهوم القيمة ومن ثم فإن المعنى الاصطلاحي للقيمة يختلف باختلاف الاتجاهات والآراء وسنحاول فيما يلي إبراز أهم هذه المفاهيم حتى نصل بعد ذلك إلى تحديد واضح لمفهوم القيم الإسلامية.
أ- في المجال الاقتصادي تعرف القيمة بأنها «قيمة التبادل أي السعر المقرر للسلعة، ويميزون بين القيمة والسعر على أساس أن القيمة حقيقية أما السعر فاعتباري، وذلك راجع إلى التراضي بين المتبادلين للسلعة، ولهذا تكون القيمة أحيانا أكثر أو أقل من السعر «3» .
ب- وأما في المجال السياسي فتعني اكتشاف المسلمات القيمية الضمنية التي تشكل السلوك السياسي، والتي تعد عوامل تفسيرية «4» .
ج- واهتم بدراسة القيم علم النفس، وعلم الاجتماع كل من زاويته ورؤيته، واتضح أن هناك مفاهيم للقيمة تضم جوانب معنوية تتعلق بموضوعات معينة، تعرضت لها تعريفات ومفاهيم، تراوحت بين التحديد الضيق للقيم على أنها «مجرد اهتمامات أو رغبات غير ملزمة» إلى تحديدات واسعة «يراها معايير مرادفة للثقافة ككل» «5» .
ولعل التعريف التالي يوضح مفهوم القيمة لدى المختصين في علم النفس الاجتماعي وهو:
د- «القيمة معيار اجتماعي ذو صيغة انفعالية قوية وعامة، تتصل من قريب بالمستويات الخلقية التي تقدمها الجماعة ويمتصها الفرد من بيئته الاجتماعية الخارجية ويقيم منها موازين يبرر بها أفعاله، ويتخذها هاديا ومرشدا» «6» ، «7» .
هـ- أما مفهوم القيمة عند علماء أصول التربية فمن الممكن تصوره من خلال ما كتبه بعض الباحثين
__________
(1) القاموس المحيط ص 1487 (ط. بيروت) .
(2) أساس البلاغة للزمخشري، ص 528.
(3) عبد الرحمن بدوي، الأخلاق النظرية، ط 2، الكويت، 1975 م، ص 79.
(4) محمد أحمد بيومي، علم اجتماع القيم، الاسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1990 م.
(5) ضياء زهار، القيم في العملية التربوية، ص 10.
(6) فؤاد البهي السيد، علم النفس الاجتماعي، ص 94.
(7) هناك تعريفات أخرى للقيمة لا تخرج عما ذكر منها أن القيمة مرادف للاصطلاح نافع أو لائق (فوزية دياب، القيم والعادات الاجتماعية) ص 21 وهناك من يرى أن القيم تكمن في اللذة أو الألم الذي يشعر به الإنسان ومن ثم تكون القيمة كل ما أحدثت لذة أو ألما، انظر: المرجع السابق، ص 23) .(1/77)
التربويين قائلا:
القيمة هي «محطات ومقاييس نحكم بها على الأفكار والأشخاص والأشياء والأعمال والموضوعات والمواقف الفردية والجماعية من حيث حسنها وقيمتها والرغبة بها، أو من حيث سوءها وعدم قيمتها وكراهيتها، أو من منزلة معينة ما بين هذين الحدين» «1» .
ز- وهناك تعريفات أخرى للقيمة لا تنتمي إلى أي من الاتجاهات السابقة نذكر منها:
- القيم عبارة عن «مستوى أو مقياس أو معيار نحكم بمقتضاه ونقيس به ونحدد على أساسه المرغوب فيه والمرغوب عنه» «2» .
- القيم عبارة عن مفهوم أو تصور ظاهر أو ضمني يميز فردا أو يختص بجماعة، لما هو مرغوب فيه وجوبا مما يؤثر في انتقاء أساليب العمل ووسائله وغايته» «3» .
ويلاحظ في كل المفاهيم السابقة أن القيم تتمتع بالخصائص أو الموجهات الآتية:
1- أنها عناصر توجيه في الحياة تعكس توجّها معينا حيال نوع معين من الخبرة.
2- أنها تحمل صفة الانتقائية.
3- أن الاختيار الذي تفرضه القيمة على الفرد في مجال التعامل يعد أفضل اختيار له.
وإذا نظرنا إلى هذه التعريفات المختلفة من وجهة النظر الإسلامية فإنه يمكن القول: إنها جميعا لا تعدو أن تكون اجتهادات نابعة من تخصص أصحابها، ومن ثم فإنه يلاحظ عليها ما يلي:
1- أن هذه المفاهيم تعبر عن بيئاتها وثقافتها التى نشأت فيها، وهى مختلفة متعددة، ومع هذا فإن فيها ما قد يتوافق مع البيئة العربية الإسلامية وفيها ما لا يتوافق.
2- أقامت المفاهيم المختلفة- رغم تفاوتها واختلافها- من الفرد أو المجتمع مصادر للقيم، وجعلت الحكم على الأفعال يتأتى من قبل الإنسان فقط، يحكم عليها من خلال منفعتها الآنية أو ضررها الآنيّ، بغض النظر عن الخير أو الشر الكامن فيها، والإنسان لا يمكنه إدراك الحسن والقبح بعقله المحض، كما أنه لا يدركها إدراكا جامعا قبل الفعل أو بعده. ثم إن الإنسان بحكم نسبيته عرضة للتفاوت والاختلاف والتناقض، فقد يحكم على الفعل بالحسن تارة وبالقبح تارة، تبعا للظروف، أما الحكم الموضوعى الحقيقى فلا يستطيعه، لأن الذى يستطيع أن يزود الإنسان بهذا على وجه الحقيقة هو الدين السماوي، وهذا ما لم يرد فى تعريف أو مفهوم حتى لدى الباحثين العرب.
__________
(1) ماجد الكيلاني، فلسفة التربية الإسلامية، ص 299.
(2) محمد إبراهيم كاظم، التطور القيمي وتنمية المجتمعات الدينية، ص 111.
(3) جابر عبد الحميد وسليمان الخضري، دراسات نفسية في الشخصية العربية، ص 228.(1/78)
3- إن هذه المفاهيم ناتجة عن عقلية وضعية خاصة، ومن ثم لا تكاد تفي بفهم القيم الإسلامية نظرا لأن الرؤية الإسلامية تلتزم بالتصورات الإسلامية الأساسية، وهى منبثقة من دلالات النص القرآني الكريم، والنص النبوي الصحيح، ولأن وصف الفعل الإنساني والحكم عليه إنما يصدر عنهما بعد النظر فيهما لاستجلاء الأحكام التى تشتمل عليها هذه النصوص، فى إطار هدف محدد وهو استجلاء «المراد الإلهى فى تحديد أفعال الإنسان دون أن يكون له أي مدخل فى الإضافة الذاتية بما يؤثر على ذلك المراد بالزيادة أو النقصان أو التغيير» «1» .
والأمر إذا: ليس خاضعا للوضعية العقلية الذاتية المحضة، وإن كان لها اعتبارها الخاص فى فهم النص وتنزيله.
4- إن هذه المفاهيم تختلف عن الرؤية الإسلامية والنهج الإسلامي الذى يرى أن أعمال الإنسان ليست هدفا فى حد ذاتها، بل ترتبط بالله وتتجه نحو مرضاته، وإن لم يتحقق من هذا العمل أو ذاك نفع مباشر أو مصلحة عاجلة، أو لذة آنيّة. لأن الله تعالى هو وحده المتفرد بخلق الإنسان، ولهذا فهو متفرد بكمال العمل بما خلق فى طبيعته وقدراته ونوازعه وحاجاته، وبناء على ذلك فهو متفرد بوضع منهاج الحياة له على الوجه الذى يكون فيه خيره، وسعادته وترقيه فى كافة شئون حياته الفردية والاجتماعية، وبذلك يكون الأساس والمعيار الأوحد فيما يأتى الإنسان ويذر فكرا أو سلوكا هو ميزان البيان الإلهى، ائتمارا بما أمر الله، وانتهاء عما نهى عنه «2» .
5- إن هذه المفاهيم لا تعبر عن المقاصد الكلية للحياة، وإنما تعطى الإنسان ضابطا للحياة الدنيا وعلاقتها، ولذلك ارتبط بعضها بتحقيق السعادة للإنسان على وجه الأرض فى الحياة الدنيا فى حين أنه من المسلم به فى المنهج الإسلامي وجود حياة آخرة فيها ثواب وعقاب على ما يأتى الإنسان ويدع وما يختار.
وانطلاقا من هذا، وتجنبا للثغرات التي وجدت في التعريفات السابقة فإنه يمكن تعريف «القيم» من المنظور الإسلامي بأن نقول:
القيم الإسلامية: مجموعة من المعايير والأحكام النابعة من تصورات أساسية عن الكون والحياة والإنسان والإله، كما صورها الإسلام، وتتكون لدى الفرد والمجتمع من خلال التفاعل مع المواقف والخبرات الحياتية المختلفة، بحيث تمكنه من اختيار أهداف وتوجهات لحياته تتفق مع إمكانياته، وتتجسد من خلال الاهتمامات أو السلوك العملي بطريقة مباشرة وغير مباشرة «3» . وبحكم هذا التعريف تجىء عدة محددات أساسية على النحو الآتى:
1- أن حياة الإنسان تحكمها أهداف محددة، وهناك وسائل لبلوغها، ولا بد من الانتفاع بتلك الأهداف
__________
(1) عبد المجيد النجار، خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، ص 82.
(2) المرجع السابق، ص 31.
(3) علي خليل مصطفى، القيم الإسلامية والتربية ص 34.(1/79)
فى إطار ما تقدمه الجماعة وما ترتضيه، وينبع هذا من المنهج الأساسي الذى يشكل إطارا مرجعيا لها، وفى حالة المجتمع الإسلامي، فإن كل ذلك يرتد فى النهاية للقرآن الكريم والسنة المطهرة كمصدرين أساسيين لإطار الحياة فى هذا المجتمع.
2- تتبلور أهداف الحياة لدى الإنسان المسلم فى شكل معايير ينظر من خلالها لكافة مكونات حياته إما بالإيجاب أو بالسلب، بمعنى أنه تتكون لديه أحكام تفضيلية إزاء عناصر وجزئيات حياته، فيكون إيجابيا فى بعضها وسلبيا فى بعضها، بقدر ما تحقق له قيمة أو لا تحقق.
3- تشمل المعايير وتتصل بكافة مكونات المجتمع ومواقفه فى الحياة الدنيا وفى الآخرة باعتبارها مردودا للحياة الدنيا، ويمتصها الفرد من خلال عملية التطبيع الاجتماعي، والتفاعل الاجتماعي، وهى فى النهاية ترتد إلى ما يهدف إليه إطار الحياة العام فى المجتمع أى أهداف الإسلام ومقاصده فى المجتمع، كتوجهات القيم إلى المجتمع وأهدافه، والمسلم يهدف من وراء توجهاته القيمية رضوان الله تعالى الذى هو أبرز أهداف المجتمع الإسلامي.
4- تتكشف تلك القيم، من خلال اختيارات الإنسان وتوجهاته، وبقدر إمكانياته ووضوح القيم لديه، بحيث نجعله مطمئنا إلى اختياره، مقتنعا به، فيوجه كافة إمكانياته من أجلها. ذلك أن الفرد الذى يتبنى القيمة يحاول أن يسلك من خلالها فى حياته، فهي تقوم بعملية التوجيه، ويعني هذا أنه لا بد من وجود وعي تام بالقيمة، مع شعور بأهميتها، فالقيمة لا تكتسب أهميتها لدى الفرد إلا إذا توفرت فيها شروط ثلاثة:
- أن يكون لديه وعي يتبلور حول وجود شيء أو فكرة أو موقف أو شخص.
- أن يحدث هذا الوعي لديه اتجاها انفعاليّا مع الشىء أو الفكرة أو الموقف أو ضده، فينظر إليه على أنه خير، أو شر إلى حد ما، بمعنى أن لا يقف موقف اللامبالاة أو عدم الاهتمام.
- أن يصبح وعيه واتجاهه الانفعالي ركيزة أساسية للسلوك وليس مجرد اهتمام وقتى عابر يأبى أن يدوم.
ومعنى هذا أن لها صفة الاختيار عند الفرد والذي يتكون عن وعى واقتناع تام. لأنها تنطوي على «أحكام معيارية للتمييز بين الصواب والخطأ، والخير والشر» «1» .
5- تظهر هذه القيم من خلال المصادر الأصلية (القرآن والسنة) في شكل أوامر ونواه أو إلزامات تكليفية، في حين تظهر سلوكيا في صور التعبير الإيجابي أو السلبي.
ومن التصورات الأخرى لمفهوم «القيم الإسلامية» ما ذكره بعض الباحثين عندما قال: القيم الإسلامية:
حكم يصدره الإنسان على شيء ما مهتديا بمجموعة المبادئ والمعايير التي ارتضاها الشرع محددا المرغوب فيه
__________
(1) ضياء زاهر، القيم العملية التربوية، مرجع سابق، ص 25.(1/80)
والمرغوب عنه من السلوك «1» .
خصائص القيم الإسلامية:
في ضوء ما سبق يمكن القول: إن خصائص القيم الإسلامية تتميز بما يلي:
أ- أنها تصدر من مصادر الإسلام ذاته، أي أنها تستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ويعتبران الأساسين اللازمين للحديث والبحث عن القيم الإسلامية.
ب- أنها تستمد من الأحكام الشرعية، باعتبار أن الحياة الإسلامية كلها تقوم على هذه الأحكام، وتأتي القيم في صورة أمر بالفعل أو أمر بالترك والكف بكافة درجات أمر الفعل وأمر الترك، وهي بهذا تحدد توجيهات الإنسان في حياته حيال الأشياء والمواقف، تاركة له مساحة من الاختيار.
ج- أنها تقوم على أساس الشمول والتكامل بمعنى:
1- أنها تراعي عالم الإنسان وما فيه، والمجتمع الذي يعيش فيه، وأهداف حياة الإنسان طبقا للتصور الإسلامي، أي تحدد أهداف الحياة وغايتها وماوراءها، ومن ثم تكون قيمة أي إنجاز بشري في تقدير حسابه وجزائه، في الدار الآخرة مع عدم إهمال الدنيا «2» .
2- أنها جامعة لكافة مناشط الإنسان وتوجهاته، تستوعب حياته كلها من جميع جوانبها، ثم هي في هذا لا تقف عند حد الحياة الدنيا.
د- أنها تقوم على مبدأ التوحيد، باعتباره النواة التي تتجمع حولها اتجاهات المسلم وسلوكياته، حتى يصل لأهدافه، وبهذا تجعل لحياة الإنسان معنى ووظيفة.
هـ- أنها تتميز بالاستمرارية والعمومية لكل الناس في كل زمان ومكان، ويؤيد ذلك القرآن الكريم في قول الله سبحانه وتعالى تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً «3» .
ولا تتأتى تلك الاستمرارية إلا إذا كانت هذه القيم موضوعية، أي من عند الله تعالى، فالإنسان لا يمكنه من تلقاء نفسه ودون معونة إلهية أن ينشىء نظاما حياتيا صالحا له، ولا يمكنه أن يقيم منظومة قيمية تساعده على أداء دوره في الأرض، بسبب ما يطرأ عليه من ميل للهوى، وما جبل عليه من ضعف، ولذا فإن الوحي هو الذي يستطيع ذلك، وهذا ما حدث فعلا، فقد جاء الوحي بقيم خالدة تحفظ على الإنسان جهده وحياته، ولترتفع به إلى المستوى اللائق به كخليفة الله في الأرض.
__________
(1) حامد زهران، علم النفس الاجتماعي، ط 41، 1977، ص 132.
(2) محمد فتحي عثمان، القيم الحضارية في رسالة الإسلام، ط 1، الدار السعودية، 1402 هـ/ 1403 هـ، ص 42.
(3) سورة الفرقان، (1) - ويمكن الرجوع إلى سور: الأنبياء (7) ، والقلم (52) ، وسبأ (28) ، والفتح (28) .(1/81)
وتأتي تلك القيم في استمراريتها من موضوعيتها، فهي لا يطرأ عليها أي تغيير أو تبديل بسبب تغير الظروف والأزمان، وهي ليست من نتاج بشر، بل هي وحي من الله تعالى لنبيه، وعلى هذا تكون الاستمرارية سمة فاصلة بين قيم الله سبحانه وتعالى وقيم البشر.
وأنها جامعة للثبات والمرونة، فهناك قيم عليا ثابتة لا تقبل الاجتهاد أو التغيير أو التبديل، كالقيم العقدية، وقيم العبادات وقيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما القيم الأخرى فهي نسبية، بمعنى أن القيم التي تستند إلى نص قطعي الدلالة لا يجوز فيها التغيير أو التبديل، أما تلك التي تعتمد على ظني الدلالة، فإن مجال الاختيار فيها واسع، وهي مرنة مرونة كافية لمواجهة ما يتولد في حياة الناس من مواقف وحوادث، وما تصير إليه الأمور في المجتمعات، وهي مما يحتاج إلى نظر وتأمل واستنباط.
فالقيم والقواعد القطعية الواجبة لا يجوز فيها التبديل، أما ما يستحدث من مواقف وما يجوز فيه الاجتهاد ويستجد من قيم بحسب اقتضاء المصلحة زمانا ومكانا وحالا، فتلحقها الحركة والمرونة، وبهذه الميزة استطاعت القيم الإسلامية الحفاظ على المجتمع الإسلامي بالرغم من التغيرات التي أصابته والتي واجهته على مر الزمن.
ز- أنها وسطية، تلك الوسطية الانتقائية لا التلفيقية، فقد عمد الإسلام إلى القيم الجيدة عند العربي فأبقاها وضبطها، وأضاف إليها، وزود الإنسان بقيم ليعيش عالمه المادي والمعنوي في توازن دقيق، وزوده بقيم تهتم بالفرد كما تهتم بالجماعة، كما وازن بين الدنيا والآخرة، القوة والرحمة ... الخ وبهذا كانت معبرة تعبيرا صحيحا عن الفطرة البشرية والطبيعة الإنسانية، في واقعية كاملة.
إن وسطية القيم الإسلامية لم تلغ الطبيعة البشرية، بل عملت وتعمل على توجيهها باعتبارها مفاهيم ضابطة، تعمل على توجيه هذه الطبيعة، فهي لا تضاد الفطرة ولا تلغيها ولا تكبتها ولا تقف في سبيلها، بل تحاول توجهها بطريقة دافعة، ومن منطلق هذه الوسطية يلزم الإسلام الإنسان بالقيم المحققة لإنسانيته، والتي لا تغلو في طرف وتهمل طرفا آخر، فالإنسان مطالب- مثلا- بالتوسط في الإنفاق، والعاطفة، والاعتقاد، وتوفية مطالب الروح والجسد، والآيات التي تؤيد ذلك عديدة منها:
- وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً «1» .
- وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ «2» .
__________
(1) سورة الإسراء (29) .
(2) سورة القصص (77) .(1/82)
إن تلك الوسطية التي تتميز بها القيم الإسلامية، تعد عملية انتقائية، إلا أنها توفيق دقيق جدا بين الوحي وإمكانات الإنسان الأرضية، وهو ضروري لأنه يولد لدى الإنسان حيوية الاختيار والانتقاء للالتزام بها «1» ، مما يتيح في النهاية عملا يتسم بالصدق في المظهر والمخبر، بخلاف عملية التلفيق التي لا تحمل دلالة نفسية على تقوى أو صلاح «2» .
وهذه الوسطية تستلزم التفهم الكامل الواعي لموضوعات القيم، لأنها تستلزم الاختيار ولا اختيار بدون وعي، أي أنها تتعلم، فالإنسان لا يولد مزودا بها، ولكن لديه الاستعداد ومن ثم تنشأ وتتكون لديه من الخبرات والمواقف التي يعيشها الإنسان.
ح- أنها ترتبط بالجزاءات الدنيوية والأخروية، ولذا أوجد الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، ولكن هناك هدف آخر أسمى وراء الالتزام بعد الاختيار القائم على وعي كامل، لما جاء به الشرع وأمر بالالتزام به، ذلك الهدف هو إرضاء الله تعالى، ويأتي الجزاء بعد ذلك والذي لا يحرم منه الملتزم.
ط- أنها تقوم على أساس الضبط والتوجيه والتنمية والتربية، ولذا فإن أهداف التربية في أي مجتمع إنما تشتق من هذه القيم التي تهتم بجوانب الإنسان المختلفة وبصورة متكاملة، فسلطان القيم منبسط على كافة وجوه النشاط الإنساني كلها، لا يشذ عنها عمل تربوي ولا يتفاوت في حكمه نشاط بدني أو عقلي أو فني أو أدبي أو روحي «3» .
تصنيف القيم الإسلامية:
في ضوء ما سبق سنعرض تصنيفا للقيم الإسلامية على النحو التالي:
1- من حيث الإطلاق والنسبية: ويوجد هنا مستويان:
الأول: القيم المطلقة: وترتبط بالأصول، وهي قيم ثابتة ومطلقة ومستمرة لا تتغير بتغير الزمان والأحوال، ولا مجال للاجتهاد فيها إلا الفهم والوعي، ومن ثم يجب على المسلم أن يتقبلها ويسلم بها ويعمل بمقتضاها، وهذه ترتد إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة.
الثاني: القيم النسبية: وترتبط بما لم يرد فيه نص، أو تشريع صريح وهي تخضع للاجتهاد الذي لا يتعارض مع نص صريح، ومعنى نسبيتها أنها متغيرة بتغير المواقف عبر الزمان والمكان، وتحتاج إلى اجتهاد جمعي لإقرارها.
2- من حيث تحقيق المصلحة: وهي تتعلق بحفظ الكليات الخمس وهي:
__________
(1) محمد عبد الله دراز، دستور الأخلاق في القرآن، ص 126.
(2) جابر قميحة، المدخل إلى القيم الإسلامية، القاهرة، دار الكتاب المصري، د. ت، ص 78.
(3) محمد عبد الله دراز، دراسات إسلامية في العلاقات الاجتماعية والدولية، الكويت، دار القلم، 1400 هـ- 1980 م، ص 123، 124.(1/83)
- الدين: وموضوع القيم هنا صلة الإنسان بربه.
- النفس: وموضوع القيم هنا صلة الإنسان بنفسه، وحياة الإنسان.
- العقل: وموضوع القيم الجوانب الفكرية والعقلية في حياة الإنسان.
- النّسل: وموضوع القيم صلة الإنسان بغيره على وجه العموم.
- المال: وموضوع القيم صلة الإنسان بالأشياء والمكاسب.
وتأتي القيم هنا مرتبة ترتيبا هرميا طبقا لمحورين أساسيين:
- درجة النفع: وهنا ثلاث درجات، الضروريات، الحاجيات، والتحسينيات.
- درجة الحكم: من حيث الحلال والحرام والمباح والمكروه والمندوب.
3- من حيث تعلقها بأبعاد شخصية الإنسان وجوانبها: والتي تربى على القيم وتحتضنها:
- البعد الروحي: وتعبر عنه القيم التي تنظم علاقة الإنسان بربه، وتحدد صلته به.
- البعد الخلقي: وتعبر عنه القيم المتعلقة بالأخلاق والتي تتصل بالشعور والمسئولية.
- البعد العقلي: وتعبر عنه القيم المتعلقة بالعقل والمعرفة، وإدراك الحق، ووظيفة المعرفة.
- البعد الجمالي: وتعبر عنه القيم المتعلقة بالتذوق الجمالي والتعبير عنه، وإدراك الاتساق في الحياة.
- البعد الوجداني: وتعبر عنه القيم الوجدانية الانفعالية، وهي تلك التي تنظم الجوانب الانفعالية للإنسان وتضبطها، من غضب ورضا أو حب وكره، وغير ذلك.
- البعد المادي: وتعبر عنه القيم المتعلقة بالوجود المادي للإنسان.
- البعد الاجتماعي: وتعبر عنه القيم التي تتصل بالوجود الاجتماعي للإنسان من خلال مجتمعه والمجتمع العالمي.
وخلاصة القول أن صيغة التكامل بين هذه الأبعاد هي الأساس في تناول هذه القيم، فكل بعد متكامل مع الآخر، وتتكامل كافة أبعاد التصنيف الثلاثة بعضها مع بعض مكونة النسق القيمي الإسلامي الصحيح.
بين الأخلاق والقيم:
يبدو جليّا مدى التقارب بين مفهوم الأخلاق والقيم، ولعل مفهوم القيم أوسع دلالة من مفهوم الأخلاق، ولكن إذا كانت القيم تتعلق بجوانب شتى من الحياة، حتى إن البعض يقول: إن هناك قيما خلقية تختص بالشعور بالمسئولية والالتزام إلى جانب قيم أخرى، فإننا لا نكاد نلمح فارقا بين الاثنين باعتبار أن الأخلاق تتصل أيضا بكافة جوانب الحياة، فهى لا تنفصل عن حياة الإنسان فى كافة جنباتها.
ويمكن القول: إن الأخلاق تستند فى أصلها إلى قيم للسلوك الفردي أو الاجتماعي، والفعل الخلقي هو فى(1/84)
صميمه فعل قيمي.
ومع هذا فلا يجب أن نهمل ما توصل إليه علماء الأخلاق ونحن ندرس القيم، ولا نهمل ما توصل إليه علماء التربية الذين اهتموا بدراسة القيم لأنها توضح وتجلي مجالات من مجالات الأخلاق ودراستها، ولذلك فإن حديثنا سينصب في باقي هذه المقدمة حول القيم الخلقية والتي تعني تلك القيم التي تتصل بشعور الإنسان بالالتزام والمسؤولية والجزاء.
وظائف القيم الخلقية:
للقيم الخلقية وظائف عديدة، فهى تنعكس على سلوك الفرد قولا وعملا، كما ينعكس أثر الالتزام بها على الجماعة أيضا، بل ويمكن أن يمتد أثرها إلى العلاقات الدولية في حالتي السلم والحرب، وسنتناول ذلك- بإيجاز- فيما يلي:
أ- على المستوى الفردى:
1- أنها تهيء للأفراد اختيارات معينة عن طريق الأوامر والنواهي والإلزامات التكليفية، تحدد السلوك الصادر عنهم، وبمعنى آخر؛ تحدد أشكال السلوك، وبالتالي تلعب الدور الهام فى تشكيل الشخصية الفردية السعيدة فى الحياة الدنيا. وفى الحياة الآخرة عن طريق تحديد أهدافها فى إطار معياري صحيح.
2- أنها تعطي الفرد إمكانية تحقيق ما هو مطلوب منه فى إطار الرسالة الإسلامية، وتمنحه القدرة على التكيف والتوافق الإيجابيين، وتحقيق الرضا عن النفس بإرضاء الله تعالى عن طريق التجاوب مع الجماعة في مبادئها وعقائدها وأخلاقها الصحيحة.
3- أنها تحقق للفرد الإحساس بالأمان، إذ هو يستعين بها على مواجهة ضعفه وضعف نفسه، ومواجهة التحديات والعقبات التى تواجهه فى حياته.
4- أنها تعطي الفرد فرصة ودفعة نحو تحسين وعيه، ومعتقداته، وسلوكياته، لتتضح الرؤية أمامه، وبالتالى تساعده على فهم العالم حوله، وتوسع مدلولات الإطار الفكري لفهم حياته وعلاقاته.
5- أنها تعطي الفرد فرصة للتعبير عن الذات، مؤكدا ذاته فى إطار العبودية الصحيحة لله وعن فهم عميق لها ولإمكانياتها.
6- أنها تعمل على إصلاح الفرد نفسيا، وتوجهه نحو الخير والإحسان الواجب وكافة مكارم الأخلاق التي تضمن حياة نظيفة فى الدنيا، وجزاء أوفى فى الآخرة.
7- أنها تعمل على ضبط الفرد لشهواته، ومطامعه، فلا تتغلب على فكره ووجدانه، لأنها تربط سلوكه وتصرفاته بمعايير وأحكام أهمها إرضاء الله سبحانه وتعالى، وبالتالي يتصرف فى ضوئها وعلى هديها.(1/85)
8- أنها تبعد الإنسان عن النقص البشري الذي يجعل الحياة جحيما لا يطاق، وذلك من جراء صفات من أبرزها الجبن والخوف، والاستهتار واللامبالاة إلى غير ذلك من صفات يجب أن يتجنبها الإنسان.
9- تسمو بالإنسان وترفعه فوق الماديات المحسوسة حتى لا يرتبط بها ارتباطا كليا، فتغلب عليه حيوانيته، وإلى سماء الإنسانية الرفيعة بكل ما فيها من جمال وقيم ومبادىء سامية لا تتحقق إلا بالتمسك بالأخلاق الإسلامية ومنهج الإسلام فى الحياة.
إلا أنه يجب أن لا ندرك هذه الوظائف منفصلة بعضها عن بعض، بل هي متداخلة متكاملة بعضها مع بعض وبالتالي تحقق ذاتية الفرد، وتجعله يحس ويستشعر عظمة وقيمة حياته، إنها فى النهاية تحقيق لإنسانية الإنسان، ورضاه عن نفسه برضا الله تعالى عليه وتحقيق إرادته مع أوامره ونواهيه.
ب- على المستوى الاجتماعي:
للقيم الخلقية وظيفتها على المستوى الاجتماعى، حيث إنها تحقق للمجتمع وظائف عديدة، منها:
1- تحفظ على المجتمع تماسكه، فتحدد له أهداف حياته، ومثله العليا، ومبادئه الثابتة المستقرة التي تحفظ له هذا التماسك والثبات اللازمين لممارسة حياة اجتماعية سليمة ومتواصلة.
2- تساعد المجتمع على مواجهة التغيرات التي تحدث فيه، بتحديدها الاختيارات الصحيحة والسليمة التي تسهل على الناس حياتهم، وتحفظ على المجتمع استقراره وكيانه فى إطار موحد.
3- تربط أجزاء ثقافة المجتمع بعضها ببعض حتى تبدو متناسقة، كما أنها تعمل على إعطاء النظم الاجتماعية أساسا إيمانيا وعقليا يصبح عقيدة فى ذهن أعضاء المجتمع المنتمين والمتفاعلين بهذه الثقافة.
4- تقي المجتمع من الأنانية المفرطة، والنزعات، والأهواء والشهوات الطائشة التى تضر به وبأفراده ونظمه، فهي تحمل الأفراد على التفكير فى أعمالهم على أنها محاولات للوصول إلى أهداف هى غايات فى حد ذاتها، وليس على أنها مجرد أعمال لإشباع الرغبات والشهوات.
ولذلك فإن القيم والمثل العليا فى أي جماعة هي الهدف الذي يسعى جميع أعضائها للوصول إليه، والمثل الأعلى في المجتمع الإسلامي هو محمد صلّى الله عليه وسلّم، والمنهج الذي بلّغ به من قبل الله تعالى باعتباره المثل الأعلى.
5- أنها تزود المجتمع بالصيغة التي يتعامل بها مع العالم الطبيعي والبشر، وتحدد له أهداف ومبررات وجوده، حتى يسلك فى ضوئهما، ويستلهمها الأفراد فى سلوكياتهم.
6- أنها تزود المجتمع بالصبغة الملائمة التي تربط بين نظمه الداخلية من اقتصادية وسياسية وإدارية وبالتالي تحوطه بسياج حام من التفكك والانحلال.(1/86)
ج- على مستوى العلاقات الدولية:
إن وظيفة القيم الأخلاقية- كما حددها القرآن الكريم وكما جاءت بها السنة المطهرة- قد تتجاوز في أحيان كثيرة الفرد والمجتمع إلى إطار أرحب وأوسع، ألا وهو مجال العلاقات الدولية في وقتي السلم والحرب على السواء، ويتضح ذلك من تأمل ما يلي:
أولا: في حالة السلم:
1- الاهتمام بالسلام العام، يقول الله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (التوبة/ 128) .
2- مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، يقول الله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (العنكبوت/ 46) .
3- عدم إكراه أحد على الدخول في الدين، يقول الله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (البقرة 256) ، ويقول سبحانه: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (الغاشية 21/ 22) .
4- عدم إثارة الأحقاد أو الكراهية، يقول الله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ... يَعْمَلُونَ (الأنعام/ 108) .
5- ترك الاستبداد والإفساد في الأرض، يقول سبحانه وتعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (القصص/ 83) .
6- الحفاظ على أمن المحايدين، يقول الله تعالى: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (النساء/ 90) .
7- حسن الجوار وإقامة العلاقات الدولية على أساس من العدالة والبر يقول سبحانه: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ... إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* (الممتحنة/ 8) .
ثانيا: في حالة الحرب أو الخصومة:
يتجلى دور القيم الإسلامية في هذه الحالة في النقاط الآتية:
1- ترك المبادرة بالشر أو العدوان، يقول الله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ* ... أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ* (المائدة/ 2) .
2- النهي عن القتال في الأشهر الحرم أو الأماكن المحرمة، يقول الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً ... فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ (التوبة/ 36) ، ويقول سبحانه: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ(1/87)
حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ (البقرة/ 191) .
وهذه القواعد الأخلاقية المتعلقة بتحريم القتال في أزمنة معينة وأماكن معينة لا تزال تشكل أساسا متينا في العلاقات الدولية إذ يجب على الأطراف المتحاربة تجنب القتال في أوقات الهدنة المتفق عليها سلفا من الأطراف قياسا على حرمة القتال في الأشهر الحرم التي كانت بمثابة هدنة أقرها العرب قبل الإسلام في هذه الأشهر، ثم أقرهم الإسلام على ذلك،. كما أنه يجب تجنيب دور العبادة والتعليم وما أشبهها من ويلات الحروب وآثارها المدمرة.
3- عدم التعرض للمدنيين وقتال المقاتلة وحدهم، يقول الله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (البقرة/ 190) .
4- الوفاء بالمعاهدات المبرمة بين أطراف النزاع، يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (المائدة/ 1) .
5- الوفاء بجميع الالتزامات قبل الطرف الآخر حتى ولو كانت غير مواتية، يقول الله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ ... تَخْتَلِفُونَ* (النحل 91/ 92) .
6- مراعاة الأخوة الإنسانية باعتبارها رباطا مقدسا يسمو على الأجناس والأنواع يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ... إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (النساء/ 1) .
7- وأخيرا يدعو القرآن الكريم المحاربين من المسلمين إلى التحلى بالصبر كما يدعوهم إلى الوحدة والثبات وعدم الخوف من ملاقاة الأعداء مهما كثروا «1» يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (آل عمران/ 200) ، ويقول جل من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ (الأنفال/ 45- 46) .
__________
(1) بتصرف واختصار من دستور الأخلاق في القرآن الكريم 753- 760.(1/88)
الفصل الثاني الأخلاق الإسلامية طبيعتها ... مصادرها ... أركانها
بعد أن تعرفنا على مفهوم الأخلاق، ووظائفها، يمكننا أن نعرض لطبيعة الأخلاق الإسلامية وخصائصها، باعتبارها معبّرا قويّا عن الذاتية الثقافية للأمة الإسلامية بعالميتها وشمولها، بما يدفع أي شك أو تردد في وجود تلك الأخلاق وتفردها، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وأهميتها في توليد الحركة الحضارية الذاتية للمجتمع الإسلامي، وذلك بتحريك الوعي بتلك القيم في نفوس الأفراد.
أولا: طبيعة الأخلاق الإسلامية:
للأخلاق الإسلامية طبيعة متميزة متفردة سواء فيما يتعلق بالإطار النظري لها، أو بأركانها،
وفي سبيل توضيح ذلك؛ نسوق مقدمتين،
ثم نتناول أركان الفعل الخلقي في الإسلام.
المقدمة الأولى: الأخلاق الإسلامية والعقيدة الإسلامية:
لا تصدر الأخلاق الإسلامية عن مصلحة مؤقتة أو منفعة ذاتية، ولما كانت الأخلاق تعتمد على أصل الشعور بها عند الإنسان، بحيث يترجم عنها في صورة أفعال أو انفعال أو لفظ، فإن الإسلام يجعل الإنسان الأساس الذي تقوم عليه الأخلاق، وهذه الأخلاق تهدف إلى تحقيق كرامة الإنسان بمراعاة طبيعته، وقدراته، وما سخر له في السماوات والأرض، وبما أنزل عليه من كتب وما أرسل إليه من رسل، وبذا تتحقق كرامة الإنسان ويتهيأ بها للعمل الصالح المحكوم بسياج العقيدة الصحيحة «1» .
إن هدف الإسلام هو «تحرير البشرية من الرق في جميع أشكاله، وتحريك الإنسان من أجل السعي والدأب على الاحتفاظ بالخصائص الإنسانية، وعدم الانحراف في توجيهها أو في ممارستها» وإذا تحدث الإسلام عن الأخلاق كضابط لسلوك الإنسان، فإنه لا يهدف إلا إلى «أن يبقى الأفراد على مستوى إنساني لا يستذل واحد آخر، ولا يؤذي فرد فردا في بشريته، وبهذا يكون المجتمع مجتمعا إنسانيّا، كل فرد فيه يشعر بالطمأنينة وبالارتياح في صلته بغيره» «2» .
ومن أهدافه أيضا المحافظة على حرية الإنسان، التي لا يحدها إلا إطار الشرعية أو المصلحة العامة،
__________
(1) محمد فتحى عثمان: القيم الحضارية فى رسالة الإسلام، الطبعة الأولى، الدار السعودية، 1402/ 1403 هـ، ص 42.
(2) محمد البهي: الدين والحضارة الإنسانية، الجزائر، الشركة الجزائرية، (بدون تاريخ) ، ص 85 (بتصرف) .(1/89)
فرسالة الإسلام هى رسالة الله للإنسان، وهذا يجعلنا نقول إن إرساء الإسلام لهذه الأخلاق إنما كان لتحقيق مصلحة الإنسان في الدنيا والآخرة، فأخلاق الإسلام كشريعته وعقيدته جاءت ليحصل بها السعادة في الدنيا والآخرة، وتحقيق كافة كمالات الإنسان، ذلك لأن جميع ما في الإسلام «من عقائد وعبادات ومعاملات تتكفل بتحقيق كل مصالح العباد بقسميها الدنيوي والأخروي، فالمسلم المتمسك بأحكام الدين في معاملاته مع الناس من حيث إنها أوامر إلهية، بالائتمار بها، ينال جزاء ذلك في الدنيا بالوصول إلى منافعه، وفي الآخرة بلوغ مرضاة الله وجناته» «1» .
وإذا كانت الغاية من الشرائع السماوية، حصول السعادة في الدارين، فإن هذا يدلنا على أن الله سبحانه لم يترك عباده سدى، بل أنعم عليهم بعد نعمة الخلق بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتب المتضمنة لهداية العباد إلى الحق والخير والسعادة، وجميع الأحكام الكلية والجزئية إنما تهدف إلى تحقيق مصالحهم، وقد اتفقت كلمة العلماء على أن أحكام الله تعالى قائمة على رعاية المصالح، وإن اختلفت العبارات في ذلك «2» .
والمقاصد الكلية للشريعة تنحصر في المحافظة على كل من: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال «3» ، ولو اختل واحد من هذه الأمور الخمسة لاختلت لأجله الحياة، وقد شرع الله لحفظ هذه الضروريات أحكاما لوجودها، وأخرى للمحافظة عليها حتى لا تنعدم بعد الوجود، ووجوب المحافظة على هذه الأمور معلوم على سبيل القطع، وجاءت وسائل الحفاظ عليها في ثلاث مراحل حسب الأهمية، وتتمثل في الضروريات، والحاجيات والتحسينات.
فالضروريات: ما لا بد منه في حفظ الكليات الخمس، ويكون ذلك بإقامة أركانها، وتثبيت قواعدها وبدرء الفساد الواقع أو المتوقع عليها. وفي هذا الإطار شرع الشارع أوامر لتقويم الأركان والوجود، وأوامر أخرى لحفظها من الهدم والفساد، فهى أوامر ونواهي.
أما الحاجيات: فمعناها أنه قد تتحقق من دونها الأمور الخمسة، ولكن مع الضيق، فشرعت لحاجة الناس إلى رفع الضيق عن أنفسهم، كي لا يقعوا في حرج قد يفوت عليهم المطلوب، ومن هذا المجال الرّخص، وإباحة التمتع بالطيبات والتوسع في المعاملات، وغير ذلك.
والتحسينات: هى الأمور التي إذا تركت لا يؤدى تركها إلى ضيق، ولكن مراعاتها متفقة مع مبدأ الأخذ بما
__________
(1) محمد سعيد رمضان: ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، الطبعة الرابعة، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1402 هـ/ 1982 م، ص 85.
(2) يوسف حامد العالم: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، الطبعة الأولى، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1412 هـ/ 1991 م، ص 77.
(3) الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة ج 1، ط 4، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1402 هـ/ 1982 م، ص 85.(1/90)
يليق، وتجنب ما لا يليق، ومتمشية مع مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات، ومن هذا المجال أحكام النجاسات، والطهارات، وستر العورة وما أشبه ذلك، وآداب الأكل وآداب الشرب وغير ذلك مما يندرج تحت ما يسمى بالآداب الشرعية «1» .
والهدف من ذلك كله أن يعرف الإنسان الغاية من خلقه وهى معرفة الله عز وجل، ولزوم موقف العبودية له، حيث ينال بذلك الخلود في جناته وظل مرضاته وهذه هي رابطة الحياة الآخرة بالدنيا» «2» .
والأدلة على ذلك كثيرة وافرة من القرآن الكريم والسنة، ومن ذلك قوله تعالى:
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «3» .
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا «4» .
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ «5» .
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً «6» .
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ «7» .
ويسوق الراغب تعليلا جيدا حيث يقول: «ما أحد إلا وهو فازع إلى السعادة يطلبها بجهد، ولكن كثيرا ما يخطئ فيظن ما ليس بسعادة في ذاته أنه سعادة فيغتر بها، والنعم الدنيوية تكون نعما وسعادة متى تناولها الإنسان على ما يجب وكما يجب، ويجري بها على الوجه الذي لأجله خلق، وذلك أن الله جعل الدنيا عاريّة ليتناول منه قدر ما يتوصل به إلى النعم الدائمة والسعادة الحقيقية، وشرع لنا في كل منها حكما بين فيه كيف يجب أن يتناول ويتصرف عنها، لكن صار الناس في تناولها فريقين: فريق يتناولونه على الوجه الذي جعله الله لهم فانتفعوا به، فصار ذلك لهم نعمة وسعادة وهم الموصوفون بقوله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ «8» ، وقوله عز وجل: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ «9» ، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ
__________
(1) راجع: محمد سعيد رمضان، مرجع سابق، ص 119- 120 ويوسف حامد العالم، المقاصد العامة، مرجع سابق، ص 80- 82.
(2) محمد سعيد رمضان، مرجع سابق، ص 121.
(3) الذاريات: 56.
(4) القصص: 77.
(5) المؤمنون: 115.
(6) مريم: 93.
(7) الشورى: 20.
(8) الحج: 41.
(9) النحل: 30.(1/91)
فِي الدُّنْيا حَسَنَةً* «1» ، فهؤلاء حيوا بها حياة طيبة كما قال تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً «2» ، وفريق يتناولها لا على الوجه الذي جعلها الله لهم، فركنوا إليها فصار ذلك لهم نقمة وشقاوة فتعذبوا بها عاجلا وآجلا، وهم الموصوفون بقوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ «3» ، «4» .
فالأخلاق في الإسلام- إذا- تعتمد على أهداف العقيدة الإسلامية باعتبار أن العقيدة الإيمانية معيار توزن عليه الأعمال والأقوال وكافة التصرفات، لحفظ كرامة الإنسان وصيانته، وتحقيق سعادته في حياته الدنيا، والأخرى، وعلى هذا فمردود الالتزام الخلقي ليس دنيويا فحسب وإنما أخروي أيضا.
المقدمة الثانية: الأخلاق الإسلامية ومبدأ التكليف:
الإنسان كائن مكلف، ولهذا شواهده من القرآن الكريم والسنة المطهرة، وعلى هذا يمكن فهم الإنسان وفهم هدف حياته، فهو مبتلى بتبعة التكليف، ولذا فهو مسئول عن اختياراته وبناء حياته، قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ «5» .
يقول أبو حيان في تفسير هذه الآية الكريمة: بيّن الله أن ما كلفه الإنسان أمر عظيم فقال: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ تعظيما لأمر التكليف، والظاهر أن الأمانة هي كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي، وشأن دين ودنيا، والشرع كله أمانة، وهذا قول الجمهور، والظاهر عرض الأمانة على هذه المخلوقات العظام- وهي الأوامر والنواهي- فتثاب أن أحسنت، وتعاقب إن أساءت، فأبت وأشفقت، ... وحملها الإنسان على ضعفه ورخاوة قوته «6» .
والأمر كذلك، فإن الإنسان لا بد أن يكون قادرا على الفعل والترك، أي الاختيار لكي تصبح منه الطاعة بفعل المأمورية، إذ أنه يكون عاصيا بتركه، ويلزم أن يكون الإنسان عالما بالأفعال التي كلف بها، إتيانا أو تركا «7» .
ويقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ ... «قال علي بن أبى طلحة عن ابن عباس: الأمانة: الفرائض عرضها الله على السموات والأرض والجبال إن أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذبهم فكرهوا ذلك وأشفقوا منه من غير معصية، ولكن تعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها ثم عرضها على آدم
__________
(1) النحل: 41.
(2) النحل: 97.
(3) التوبة: 55.
(4) الراغب الأصفهاني: كتاب تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، بيروت، دار مكتبة الحياة للطباعة والنشر، 1983، ص 65، 66.
(5) الأحزاب: 72.
(6) البحر المحيط 7/ 243 (بتصرف يسير) ، وانظر صفة الأمانة ج 3 ص 510.
(7) راجع: عبد القاهر البغدادى، كتاب أصول الدين، ط 3، بيروت. دار الكتب العلمية، 1401 هـ/ 1981 م ص 210- 213.(1/92)
فقبلها بما فيها» «1» .
أيا كان الأمر فقد منح الإنسان ما يساعده على القيام بمهمة التكليف، ويمكن عرض ذلك بإيجاز فيما يلى:
1- الإنسان غاية حياته تحقيق وظائف الاستخلاف في الأرض: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «2» ، وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ «3» .
2- الإنسان وحده من بين سائر الكائنات هو المخصوص بالكرامة والتكريم وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا «4» .
والفعل المختص بالإنسان ثلاثة:
أ- عمارة الأرض المذكورة في قوله تعالى: وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها «5» وذلك تحصيل ما به تزجية المعاش وغيره.
ب- وعبوديته لله المذكورة في قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «6» وذلك هو طاعة الله- عز وجل- في عبادته، في أوامره ونواهيه.
ج- استخلافه المذكور في قوله تعالى: وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ «7» وغيره من الآيات، وذلك هو الطاعة للباري سبحانه على قدر طاقة البشر في السياسة بامتثال الأوامر واجتناب النواهي واستعمال مكارم الشريعة، ومكارم الشريعة هى الحكمة، والقيام بالعدالة بين الناس في الحكم، والإحسان، والفضل، والقصد منها أن يبلغ الإنسان إلى جنة المأوى، وجوار رب العزة تبارك وتعالى «8» .
3- على هذا الأساس وهب الإنسان استعدادات وقدرات ومواهب تؤهله للقيام بتلك الوظيفة سواء المادية والمعنوية، وهما جماع الذات الإنسانية، وبهما تتم حياة الإنسان، ويعود الاهتمام بالجانب المادي إلى أنه وعاء الشخصية الإنسانية، ومن هنا تأتي علاقة الإنسان المادية بالأشياء طبيعية، إذ أنها مفطورة في جبلته «9» . وهو بهذا قادر على المشى في الأرض، والسعي فيها، وتعميرها وتحسينها، ولو كان الإنسان روحا محضا ما وجدت لديه الدافعية الحافزة له على استخدام المادة والسير في مناكب الأرض، وممارسة معطياتها «10» .
__________
(1) الإمام أبو الفداء إسماعيل بن كثير: تفسير ابن كثير ط 1، مكتبة الرياض الحديثة، دار الفكر 1400 هـ/ 1980 م ج 3، ص 523.
(2) البقرة: 30.
(3) الأنعام: 165.
(4) الإسراء: 70.
(5) هود: 61.
(6) الذاريات: 56.
(7) الأعراف: 129.
(8) الراغب الأصفهانى، الذريعة إلى مكارم الشريعة، ط 1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1980 م، ص 32.
(9) اقرأ: سورة ص: 71.
(10) راجع: يوسف القرضاوى، الخصائص العامة للإسلام، ط 1، القاهرة، مكتبة وهبة، 1397 هـ/ 1977 م، ص 135.(1/93)
وتعطي تعليمات الإسلام الجانب المادي حقه، ولم تنكر مطلبا من مطالبه، بل وجهت إلى ضبطها وضبط إشباعها. ومن التوجيهات النبوية الخالدة، إنكاره صلّى الله عليه وسلّم على من سولت له نفسه حرمان جسده من حقه وحاجاته الأساسية، يروي البخاري- رحمه الله-: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم يسألون عن عبادة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما أخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منى» «1» .
إن الإسلام في توجيهاته لم يطغ الجانب المعنوي على الحاجات الحياتية ولكنه يعطي الجانب المعنوي مكانه وأثره حتى يؤدي غرضه، ومن هذه القوى المعنوية التي أولاها الإسلام عنايته العقل باعتباره القوة المدركة التي يستطيع الإنسان عن طريقها أن يعقل الأمور ويميز الخير من الشر، والنافع من الضار.
4- ومن منطلق رسالة الإنسان فإن لديه الإمكانية والاستعداد لفعل الخير والشر، ويكتسب جانب الخير وجانب الشر بالتطبيع لا بالطبع، وهذا ما أوضحته الآية الكريمة: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «2» . وقوله تعالى فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها «3» . وهو قادر على فعل الخير وفعل الشر والأمر راجع إلى تربية الاختيار، وقد يختار الإنسان أن يسلك سلوكا مضادا للقوانين الأخلاقية، ولكنه لا يستطيع أن يفلت من الإطار الخلقي بعيدا عن الخير والشر «4» .
وتعود تلك القدرة على الاختيار إلى التربية: تربية الاختيار، وهذا ما أشار إليه الحديث الشريف: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» «5» . والحديث يتضمن تصوير حالة الاستعدادات والقدرات القابلة للتشكيل والصياغة، ويبين أنه من خلال التربية والبيئة والتفاعل والتنشئة الاجتماعية يكون سلوك الإنسان، وتكون إرادته وقدرته على مواجهة الشر والتغلب عليه واختيار الخير، وعلى شكل هذه الإرادة وقوتها تكون حياة الإنسان.
__________
(1) صحيح البخاري: بعناية مصطفى البغا، ج 7، ص 20.
(2) البلد: 10.
(3) الشمس: 8.
(4) على عزت بيجوفتش، مرجع سابق، ص 84.
(5) ابن الديبع الشيباني، تيسير الوصول إلى أحاديث الرسول، ج 1، ص 23.(1/94)
والإسلام يقرر من خلال نصوصه أن هذه القضية ترتبط أصلا بالابتلاء، لأنها ترتبط بالإرادة الإنسانية والاختيار، وهذا يلقي على الإنسان مسئولية ضخمة، قال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً* إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً «1» . وهو سبحانه الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «2» .
فالابتلاء يجري على الإنسان في كل لحظة من لحظات حياته، فهو إما مبتلى بالسراء أو بالضراء، بالمعصية أو بالطاعة «3» .
5- إن تكليف الإنسان المشار إليه في الآية الكريمة: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (الأحزاب/ 72) . هو أيضا ابتلاء، وعلى هذا الأساس كان خلق الإنسان تمهيدا وتأهيلا من حيث كانت قابلة لفعل الخير وتقبله، وكذلك لفعل الشر وتقبله وتحمّل نتائجه، ولذلك زود الإنسان بالصفات الخلقية والعقلية اللازمة للقيام بمهامه في إطار الابتلاء، وكانت القيم الخلقية طبقا للمنهج الإسلامي هي الضابط الأساسي لحركة الإنسان المكلف برسالة الاستخلاف في الأرض، وكانت الابتلاءات الخاصة من منح ومحن لإظهار جودة الإنسان أو رداءته من خلال التزامه بالمنهج الإسلامي في التعامل مع مواقف الابتلاء المختلفة «4» .
لقد ثارت منذ القدم مسألة الجبر والاختيار، وتنوعت الآراء حولها، والذي يهمنا هنا هو توضيح الموقف الإسلامي الصحيح من خلال نصوص القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهناك عنصران أساسيان للإجابة هما:
أ- غيبية أفعالنا المستقبلة وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً (لقمان/ 34) .
ب- قدرة الإنسان على أن يحسن أو يفسد كيانه الداخلي قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (الشمس/ 9- 10) .
ويمكن أن تكتمل هذه الإجابة القرآنية من خلال تفهم أن جميع المثيرات مهما بلغت لا تستطيع أن تمارس إكراها على قراراتنا في مواجهة الابتلاءات، يقول الله تعالى على لسان الشيطان: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا
__________
(1) الإنسان: 2- 3.
(2) الملك: 2.
(3) انظر مظاهر الابتلاء.
(4) انظر تعامل المسلم مع مواقف الابتلاء.(1/95)
أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ (إبراهيم/ 22) . هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هناك إدانة شديدة للأعمال الناشئة عن الهوى أو التقليد الأعمى «1» ، يقول الله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (الأعراف/ 176) ، إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ* فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (الصافات/ 69- 70) .
ويرى ابن تيمية: أن الطبيعة الإنسانية تتميز بأنها طبيعة حية، والإرادة والحركة من لوازم الحياة، ولما كانت الإرادة والعمل من لوازم ذاتها، فإذا أهداها الله، علمها ما ينفعها وما يضرها. فأرادت ما ينفعها، وتركت ما يضرها، وهذه الإرادة الحرة المتحركة، النشطة، الفاعلة، المتفاعلة هى من أخص الخصائص الإنسانية، وتبعا لهذه الحركة الإرادية يكون له دور في سلوكه، ومختلف أنماط نشاطه، وميوله، ومن ثم تكون الهداية الإلهية ضرورية، والمعرفة الدينية حيوية، حتى لا تنحرف به ميوله، وإراداته عن طريق الخير «2» . ومعنى هذا: أن الإرادة الإنسانية لا بد أن يكون لها دورها في اختيار النمط السلوكى، الذي تتحمل مسئوليته، ومما يدعم هذه المسئولية، حريتها بالإضافة إلى الفطرة، والمعرفة الإلهية متمثلة في الكتب والرسل، ومن ثم تبرز مسئولية الإنسان عن فعل الشر «3» .
إذن الإنسان يعيش بين جبر واختيار، ويتمثل الجانب الجبرى في حياة الإنسان في الموروثات التي تكون نفسيته وشخصيته أو تشترك في تكوينها، «من ذكاء وطباع ومزاج وغرائز وعواطف، ومواهب، وقدرات، بالإضافة إلى الشكل العام للجسد وقوته» وكذلك «المكتسبات الناتجة عن تفاعل الموروثات ببيئة الفرد مثل العادات والتقاليد، والأنماط السلوكية والمكانة لكل مجتمع ولكل عصر وما إلى ذلك» ، وهو ضرورى «لقيام التجربة الوجودية» «4» .
ومن الجبر أيضا الرزق والعمر والولد والقوة والجاه وكل ما يمنح الله الإنسان من نعم، وكل ما يصيبه من نقم، وأما الجانب الاختيارى فله ركائزه، وهي محققة في القرآن الكريم والسنة المطهرة «5» ، وهذا الاختيار له مساحاته، وإذا أراد الإنسان ونوى وعزم على الفعل، يأتى الفعل من الإنسان، والتوفيق من الله، وفي كل أفعال الإنسان يظل في تلك الحركة الدائبة، وهذا الجانب الاختياري من حياة الإنسان يتكون من مجموع اختياراته حيال التجارب الائتلافية التي يجتازها في حياته كلها، ومن مجموع الجانبين وامتزاجهما نتج لنا شخصية الفرد واضحة
__________
(1) انظر دستور الأخلاق في القرآن الكريم ص 202 (بتصرف واختصار) .
(2) محمد عبد الله عفيفي: النظرية الخلقية عند ابن تيمية، مرجع سابق ص 253.
(3) المرجع السابق، ص 253، 254.
(4) فاروق الدسوقي: القضاء والقدر في الإسلام، مرجع سابق، ص 180.
(5) المرجع السابق، ص 215، 231.(1/96)
جلية محددة الاتجاه والمصير، فالإنسان ليس في نهاية حياته سوى عمله الذي اختاره ونفذه ومات عليه» «1» .
وبالإرادة القوية الصحيحة التي تتكون لدى الإنسان عن طريق العلم الصحيح والتربية السليمة المعتمدة على أن الإنسان مفكر ذكي ذو قدرات واستعدادات تساعده على الاختيار السليم يكون الاختيار السليم، ولعل هذا بعض مما يوحى به الحديث الشريف: «اعملوا فكلّ ميسّر» «2» .
6- والإنسان لا يعيش وحده بل في مجتمع، أي في علاقة، وهذا النوع من العلاقة لا يمكن أن يوجد إلا في وسط مجتمع له غايته الخاصة، وتأتى معطيات الإسلام مقررة أن الإنسان ليس فردا فردية مطلقة، ولا هو ذائب في الجماعة، بل هو يشكل جزءا من كل أكبر، وهذه الجماعة منسّقة لغايات أسمى، فالإسلام لا يضخم الفرد، ولا يضخم الجماعة، إذ هو يعطى الفرد ذاتيته المسئولة بحيث يصبح في النهاية فردا في مجموع، ويعطى المجتمع كيانا ووجودا في ضمير الأفراد، فهو يغذى في الفرد النزعة الفردية بحيث يشعر بذاتيته واستقلاله ويبين للإنسان دوره في المجموع، لأن الإنسان لا يمكن أن يعيش بمعزل عن المجتمع.
والدور الاجتماعى للفرد مطلوب، وفي الوقت نفسه يقرر الإسلام ضمانات معينة ليسير المجتمع على أساسها، وليوفر الجو المستقر الذي يستطيع الفرد فيه استغلال قدراته كقوة متميزة متفردة، مسئولا عن أعماله إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً* لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا* وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً «3» .
وفي إطار هذه المسئولية الاجتماعية التي ترتب على الإنسان واجبات عديدة نحو مجتمعه وأسرته، بل ذاته، فإن له أيضا حقوقا لابد أن ينالها مثل حقه في الحياة والتملك، كل ذلك أي تلك الحقوق وما يقابلها من الواجبات يتم من خلال التوجه إلى مرضاة الله تعالى، وبهذا فقط ينشرح صدر الإنسان وتطمئن نفسه، ويتجاوب مع أهله وأصدقائه مشاركا لهم في أفراحهم، ومعينا لهم في وقت الشدة، ويتلقى منهم ما يسر خاطره، وقد جعل الإسلام هذه المشاعر النبيلة وتلك المشاركة الوجدانية الحقة ضمن عناصر الإيمان، يقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» «4» .
ويعنى الإسلام كذلك بتقوية الروح الاجتماعية في الإنسان، ومحاربة القبلية والعائلية والانعزالية في نفسه لأنه مهما اتصف الفرد بأكمل الصفات وأتمها، فلن يتم كماله إلا إذا ملأت الروح الاجتماعية قلبه ووجهت عمله، وأيقظت ضميره، وكانت المسيطرة عليه في كل تصرفاته «5» .
__________
(1) فاروق الدسوقي: القضاء والقدر في الإسلام، مرجع سابق، ص 180.
(2) صحيح البخاري، مرجع سابق ج 3، ص 154.
(3) مريم: 93- 95.
(4) البخاري- الفتح (13) ، ومسلم (45) ، وانظر أيضا الأحاديث 63، 65، 67، 68، 71.
(5) مصطفى السباعي، هذا هو الإسلام، ط 1، بيروت، المكتب الإسلامي، 1979، ص 10، 11.(1/97)
وإلى هذا كله تشير الآيات الكريمة: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ «1» .
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً «2» .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا «3» .
تؤكد الآيات ومعها الأحاديث النبوية مسئولية الإنسان الفرد في بناء المجتمع المسلم، وتؤكد أن الفرد عضو في كيان أكبر، هو المجتمع الإسلامي الذي يقوم على الإيمان والعدل والمساواة والأخوة والتحرك الواعي تجاه أهداف الجماعة الإسلامية.
هذه المعطيات الأساسية تعتبر المبادىء التي تم بناء الفرد المسلم عليها، وهى المنطلقات الأساسية للتكليف السليم، وهي أساس التربية الخلقية السليمة باعتبار أن الأخلاق الإسلامية تحتل المكان البارز في حياة المسلمين ولأن قواعد الأخلاق الإسلامية تتميز عن غيرها لاقترانها دائما بأمر التكليف حيث نرى اقتران أمر التكليف في كثير من آيات القرآن الكريم بالأمر بالفضائل الخلقية، كالبر والتعاون والمودة والأمانة وأمثالها «4» .
وهذا ما نلاحظه في كثير من آيات القرآن الكريم والسنة المطهرة حيث يربط بين الاثنين في أمر واحد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «5» .
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ* وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ* وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ «6» .
هذا ما يتعلق بطبيعة الإنسان كمكلف إلا أن هناك شقا آخر في فهم التكليف يعد ضروريا ومهما، وهو (الأحكام التكليفية) وقد حدد الفقهاء هذه الأحكام في أنها: «ما اقتضى طلب الفعل من المكلف، أو كفه عن فعل،
__________
(1) الحجرات: 13.
(2) النساء: 1.
(3) الأنفال: 72.
(4) أبو الوفا مصطفى المراغي: السلوك الخلقي الاجتماعي في الإسلام، العدد 69، سلسلة دراسات في الإسلام، القاهرة، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ص 14.
(5) الحج: 77.
(6) لقمان: 17- 19.(1/98)
أو تخيره بين فعل والكف عنه» «1» . أو هو: «خطاب الله، المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخير أو الوضع» «2» .
وينقسم الحكم الشرعي التكليفي خمسة أقسام: الإيجاب، والندب، والتحريم، والكراهة، والإباحة، وهذه الأقسام تجعل الفعل الصادر من المكلف ذا قيمة أو غير ذي قيمة، وتفصيل ذلك فيما يلى:
* الإيجاب: هو «ما اقتضاه خطاب الله من المكلف اقتضاء جازما، لا يجوز تركه» كالأمر بالصلاة والزكاة والحج، والذي يتعلق بالإيجاب من فعل المكلف: الواجب وهو: «الفعل الذي يذم شرعا تاركه قصدا، أو هو الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه قصدا» «3» .
- والندب: هو «ما اقتضاه خطاب الله من المكلف اقتضاء غير جازم بأن يجوز تركه» وذلك كالأمر بصلاة الليل والضحى، وصدقة التطوع وإفشاء السلام وغير ذلك، ويتعلق بفعل المكلف ويسمى (مندوبا) وهو الفعل الذي يحمد فاعله ولا يذم تاركه، أو هو الذي يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وقد قسمه العلماء أقساما كثيرة «4» .
- والتحريم: هى «ما اقتضى خطاب الله تعالى من المكلف تركه اقتضاء جازما، بأن منع من فعله ولم يجوزه» كالنهي عن الزنا، وأكل مال اليتيم، والغيبة والنميمة.. ويتعلق بفعل المكلف، ويوصف (بالحرام) وهو الفعل الذي يذم شرعا فاعله قصدا، أو هو الذي يعاقب فاعله ويثاب تاركه «5» .
والكراهة هي: ما طلب الشارع الكف عنه طلبا غير ملزم بأن كان منهيا عنه واقترن لفظ النهي بما يدل على أنه لم يقصد به التحريم «6» .
- والإباحة: هى «ما كان الخطاب فيها غير مقتض شيئا من الفعل والترك، بل خيّر المكلف بينهما» ويتعلق بفعل المكلف ويوصف (بالمباح) وهو الفعل الذي لا يتعلق بفعله مدح ولا ذم، أو هو الفعل «الذي لا يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه «7» .
وهكذا يتضح أن أفعال المكلف تتعلق ببواعث ومثيرات ومعايير معينة، تشكل اتجاهه نحو الأشياء والأفكار والأفعال، والناس مما يجعل هذا الفعل أو هذا السلوك ذا قيمة أو غير ذي قيمة فإذا ما انطبعت نفس الإنسان على الفعل والترك كان ذلك خلقا له.
وخلاصة الأمر أن الإسلام أتى بتلك الأحكام كمعايير لسلوك المسلم، لينظم لهم حياتهم ويصنع بهم العمارة الكبرى في الحياة، ولم يتركهم هملا ولم يكلفهم من أمرهم عسرا، وإنما أخذهم بخطة رشيدة تجعلهم يقومون
__________
(1) عبد الوهاب خلاف: أصول الفقه، ط 8، مكتبة الدعوة الإسلامية (بدون تاريخ) ، ص 101.
(2) محمد حسن هيتو: الوجيز في أصول التشريع، ط 1، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1403 هـ/ 1983 م، ص 99.
(3) المرجع السابق، ص 43، 44.
(4) المرجع السابق ص 43. 44، وراجع: عبد الوهاب خلاف، مرجع سابق، ص 112.
(5) المرجع السابق ص 43، 44.
(6) أصول الفقه لمحمد أبو زهرة ص 42.
(7) الوجيز في أصول التشريع ص 43، 44.(1/99)
بأعباء الحياة ويعيشونها على نحو فاضل كريم، وكان هذا من باب تزكية الفرد والجماعة لتكون القيم الخلقية معايير ضابطة، ولتكون موصولة بالله تعالى. ومن خلال ذلك يتضح أن الإسلام أعطى للإنسان قيما حقيقية لضبط الحياة وتنظيمها فيتمكن الإنسان من أداء دوره ورسالته المكلف بها.
[ثانيا] أركان الفعل الخلقى في الإسلام:
على أساس مما سبق وعلى ضوئه يمكننا التعرض لبعض الجوانب المتصلة بالأخلاق في الإسلام، حيث إن الأخلاق الإسلامية تعنى إرساء القيم العالية الرفيعة المتصلة بكل نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والسلمية والحربية، والدينية.
أولا: الإلزام الخلقى ومصدره:
أي عمل يوجه إليه الإسلام لا بد أن يكون موصوفا بالصفة الخلقية، فالواجب، والخير وغيرهما يقومان على فكرة القيمة، التي تستمد من مثل أعلى، وفي الأخلاق الإسلامية فإن الوحى والعقل يعتبران المصدر الأساسي للإلزام الخلقي، جنبا إلى جنب، باعتبارهما مستويين للمصدر الخلقي، وعلى هذا فيمكن التعبير عن ذلك بالمصدر الفطري، والمصدر الموصى به.
وعلى هذا تكون مصادر الإلزام الخلقى كما يلى:
(أ) المصدر الأول: القرآن الكريم
وهو كتاب الله الذي نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم بألفاظه ومعانيه ليكون «حجة للرسول على أنه رسول الله، ودستورا للناس يهتدون بهداه، وقربة يتعبدون بتلاوته، وهو المدون بين دفتي المصحف، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس، المنقول إلينا بالتواتر كتابة ومشافهة جيلا عن جيل محفوظا من أي تغيير أو تبديل «1» .
وتشير المؤلفات في أصول الفقه وفي تفسير القرآن إلى احتواء القرآن على آيات تتصل بأحكام العقيدة، والأخلاق، والأعمال الصادرة عن المكلف، وهذه تسمى بالأحكام العملية، وتنتظم على فرعين: العبادات والمعاملات، ويمكن القول بأن القرآن باعتباره معبرا عن الإرادة الإلهية هو المصدر الأساسي للإلزام الخلقي، إذ أن آياته تنتظم على النحو التالى:
- آيات الاعتقاد وهى تتعلق بما يجب على المكلف أن يعتقده في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره حلوه ومره.
- آيات تتعلق بما يجب على المكلف أن يتحلى به من الفضائل ويتخلى عنه من الرذائل.
__________
(1) عبد الوهاب خلاف: أصول الفقه، مرجع سابق، ص 23.(1/100)
- آيات تتعلق بما يصدر عن المكلف من أعمال وأقوال وتصرفات وهي على نوعين: العبادات، ويقصد بها تنظيم علاقة الإنسان بربه، والمعاملات ويقصد بها تنظيم علاقات الناس بعضهم ببعض سواء كانت علاقات أفراد أو أمم أو جماعات، وهذه تضم أخلاقا تتصل بالأسرة، والقضاء ونظام الحكم، ومعاملات الدولة الإسلامية، ومعاملات غير المسلمين، كما تضم أخلاقا تتصل بالنواحى المادية والاقتصادية «1» .
وغاية الأمر، فإن القرآن يحتوى على النسق القيمى الإسلامي بأبعاده المتعددة، فهذا المصدر الأول للإلزام الخلقي. وهو جامع لكل ما يحتاج إليه البشر من موعظة حسنة لإصلاح أخلاقهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة، والحكم البالغة لإصلاح خبايا النفس وشفاء أمراضها الباطنة وهداية واضحة للصراط المستقيم الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة. وهذا مقتضى قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «2» .
والقرآن كتاب الله سبحانه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قال الله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ «3» . وقال: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «4» .
(ب) المصدر الثانى: السنة:
وهى «ما صدر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قول أو فعل أو تقرير» «5» . فهى بهذا سنة قولية، وسنة فعلية وسنة تقريرية «6» . وهى مكملة للكتاب وشارحة له، وقد أجمع المسلمون على مر العصور على أن «ما صدر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قول أو فعل أو تقرير، ونقل إلينا بسند صحيح يفيد القطع أو الظن الراجح بصدقه يكون حجة على المسلمين، ومصدرا تشريعيا يستنبط منه المجتهدون الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين. أي أن الأحكام الواردة في هذه السنن تكون مع الأحكام الواردة في القرآن قانونا واجب الاتباع» «7» .
ومع هذا فالسنة «أصل في الاستنباط قائم بذاته» «8» . وقد أمرنا الله- عز وجل- باتباع الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم في كثير من آيات القرآن، يقول الحق تبارك وتعالى:
__________
(1) عبد الوهاب خلاف، ص 32- 34.
(2) يونس: 57.
(3) الجاثية: 29.
(4) الأنعام: 38.
(5) عبد الوهاب خلاف: أصول الفقه ص 36.
(6) الإمام أبو الحسن على بن محمد بن حبيب البصري الماوردي: الحاوي الكبير، تحقيق محمد مطرحي، ج 1، بيروت، دار الفكر، 1414 هـ/ 1994 م ص 29 من المقدمة للمحقق.
(7) عبد الوهاب خلاف، مرجع سبق ص 37 (بتصرف) .
(8) محمد أبو زهرة: أصول الفقه، القاهرة، دار الفكر العربي، (بدون تاريخ) ، ص 84.(1/101)
- فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً «1» .
- مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «2» .
- وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ «3» .
- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ «4» .
وكما يقول محمد عبد الله دراز: «إن كل حديث صحيح لم يرد ما ينسخه، وكان موضوعه جزءا من رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، هذا الحديث له في نظر المسلمين نفس السلطة الأخلاقية التي للنص القرآني، ولو اشتمل الحديث علاوة على ذلك، تفصيلات وتحديدات أكثر مما اشتمل عليه النص القرآني، فإن هذا الحديث هو الذي يبين النص القرآنى، ويفسره، ويحدده، ويبين نماذج تطبيقه» «5» .
وقد أوجب الله تعالى لأمته أمرين:
أحدهما: البيان، والثانى: البلاغ.
قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ «6» .
وأوجب للرسول على أمته أمرين:
أحدهما: طاعته في قبول قوله، والثانى: أن يبلغوا عنه ما أخبرهم به «7» .
كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» «8» .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «بلغوا عني ولا تكذبوا فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» «9» .
يقول الماوردي: «ولما كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا يقدر أن يبلغ جميع الناس للعجز عنه اقتصر على إبلاغ من حضر
__________
(1) النساء: 65.
(2) النساء: 80.
(3) النور: 56.
(4) الأنفال: 24.
(5) محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق فى القرآن، مرجع سابق، ص 41.
(6) المائدة: 67، أبو الحسن على بن محمد بن حبيب الماوردي البصري، أدب القاضي، تحقيق محيي هلال السرحان، ج 1، بغداد، مطبعة الإرشاد، 1391 هـ/ 1971 م، ص 368.
(7) المرجع السابق، ص 369.
(8) حديث صحيح، انظر: صحيح الجامع الصغير وزياداته للألباني، ص 945 حديث رقم 5352، بلفظ «ليبلغ الشاهد الغائب» . «وليبلغ شاهدكم غائبكم» . ورواه كثيرون، انظر: مجمع الزوائد 1/ 139.
(9) حديث صحيح، أخرجه أبو داود فى كتاب العلم، باب (10) حديث رقم (3660) 3/ 322، والترمذي في كتاب العلم، (2656) 5/ 33، والدارمي (228) 1/ 86، وابن حبان (6256) 14/ 149.(1/102)
لينقله الحاضر إلى الغائب، ولما لم يبق فيهم إلى الأبد فكل من يأتي في عصر بعد عصر يأخذون بمن تقدمهم من عصر وينقلون إلى من بعدهم من عصر، لينقل عنه كل سلف إلى خلفه فيستديم على الأبد نقل سننه ويعلم جميع ما يأتي لشرائعه.
فصار نقل الأخبار عنه واجبا على أهل كل عصر وصار قبولها واجبا في كل عصر، فلذلك صارت الأخبار عنه أصلا من أصول الشرع» «1» .
ويذكر ابن حبان: «قال أبو حاتم- رحمه الله- قوله «بلغوا عني ولو آية» أمر قصد به الصحابة، ويدخل في جملة هذا الخطاب من كان بوصفهم إلى يوم القيامة في تبليغ من بعدهم عنه صلّى الله عليه وسلّم، وهو فرض على الكفاية، إذا قام البعض بتبليغه سقط عن الآخرين فرضه، وإنما يلزم فرضيته من كان عنده منه ما يعلم أنه ليس عند غيره، وأنه متى امتنع عن بثه، خان المسلمين، فحينئذ يلزم فرضه.
وفيه دليل على أن السنة يجوز أن يقال لها: الآي، إذ لو كان الخطاب على الآي نفسه دون السنن، لاستحال، لاشتمالهما معا على المعنى الواحد» «2» .
وكل هذا يؤكد المعنى الذي نريد وهو أن السنة الأصل الثانى أو المصدر الثاني من مصادر الإلزام الخلقي في الإسلام، لأن ما صدر عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم مما يتصل ببيان المنهج الإسلامي هو شرع متبع، وبالتالي يكون خلقا من أخلاق الإسلام، وما صدر عنه بمقتضى طبيعته البشرية فهو ملزم إذا قام على ذلك دليل يدل على أن المقصود من فعله الاقتداء، وكذا ما صدر عنه بمقتضى الخبرة البشرية أو بمقتضى العادات الجارية، أما ما صدر عنه ودل الدليل على أنه خاص به فلا يعتبر تشريعا لعموم المسلمين. وعليه: فإن ما يثبت بدليل يقصند به التشريع العام واقتداء المسلمين به فهو من قبيل الإلزام، لأنه قانون يجب اتباعه «3» .
ومهما يكن من أمر، فإن السنة زاخرة بالأخلاق، ولا غرو فهى حياة النبى صلّى الله عليه وسلّم، والمجتمع الإسلامي المعاصر له، ولأنها مصدر تشريعى لهذه الحياة كانت بالتوجيه ملازمة للقرآن، وبالتالي فإن اعتبارها مصدر الإلزام الخلقي أمر واجب.
(ج) المصدر الثالث: الإجماع:
وهو «اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على حكم شرعى في
__________
(1) الماوردي: أدب القاضي، مرجع سابق، ص 370.
(2) الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي: الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، تحقيق شعيب الأرنؤوط. الطبعة الأولى، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1412 هـ/ 1991 م، ج 14/ 149.
(3) عبد الوهاب خلاف: مرجع سابق ص 44، 43، ومحمد أبو زهرة، مرجع سابق ص 89، 90.(1/103)
واقعة» «1» .
ومعنى الاتفاق: الاشتراك إما في القول أو في الفعل أو الاعتقاد، والمقصود بأهل الحل والعقد المجتهدون في الأحكام» «2» . وإذا أجمعوا على فعل نحو أكلهم طعاما دل إجماعهم على إباحته، كما يدل أكله عليه الصلاة والسلام على الإباحة، ما لم تقم قرينة دالة على الندب أو الوجوب» «3» .
والأدلة عليه في القرآن كثيرة منها:
- وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «4» .
- كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... «5» .
- وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً «6» .
- وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ... «7» .
- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ... «8» .
ومن النصوص النبوية، قوله صلّى الله عليه وسلّم، «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون» «9» . وفي تفسير البخاري: أن الطائفة هم أهل العلم.
ويعلق محمد عبد الله دراز: «أنه إذا كانت عصبة الحق لا تزال باقية في العالم الإسلامي، فإن فكرة الاتفاق الإجماعي على الضلالة سوف تكون إذن مستبعدة، على أنها أمر محال من الوجهة العملية في العالم الإسلامي» «10» .
ودور الإجماع هو حسم مشكلة جديدة، ذات طابع أخلاقي أو فقهي، أو عبادي، أما الحياة المادية فليس
__________
(1) عبد الوهاب خلاف: مرجع سابق ص 45.
(2) يوسف حامد العالم، مرجع سابق، ص 61.
(3) المرجع السابق: 61.
(4) البقرة: 143.
(5) آل عمران: 110.
(6) النساء: 115.
(7) آل عمران: 103.
(8) النساء: 59.
(9) ابن حجر: الفتح (ط المكتبة التجارية) (7311) 13/ 227.
(10) محمد عبد الله دراز، مرجع سابق، ص 43.(1/104)
له النظر فيها، وشرط الإجماع أن يكون كل عضو مدركا لاستقلاله الأدبي ولمسئوليته الأخلاقية وأن يعبر عن رأيه في حرية، بعد تأمل ناضج في المشكلة المعروضة ولا أحد يمكن أن يكون مجتهدا في هذه الجماعة إلا إذا كان له حق الاجتهاد، أما من له هذا الحق فهم أولئك الذين توفرت فيهم الشروط التي نص عليها العلماء في هذا الشأن، وقد كان الشافعي- رحمه الله- من أسبق من جمع الآلة التي له القياس بها، وهي العلم بأحكام كتاب الله، فرضه وأدبه، وناسخه ومنسوخه، وعامّه وخاصّه وإرشاده، ويستدل على ما احتاج التأويل منه بسنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإذا لم يجد سنّة فبإجماع المسلمين، فإن لم يكن إجماع فبالقياس، ولا يمكن أن يقيس حتى يكون عالما بما مضى فيه من السّنّة وأقاويل السلف، وإجماع الناس واختلافهم ولسان العرب، وعليه في ذلك بلوغ غاية جهده، والإنصاف من نفسه حتى يعرف من أين قال ما قال، وترك ما يترك. فأما من تمّ عقله ولم يكن عالما بما وصفنا فلا يجوز أن يقول بقياس، ومن كان عالما بما وصفنا بالحفظ لا بحقيقة المعرفة فليس له أيضا أن يقول بقياس، لأنه قد يذهب عليه عقل المعاني «1» ، وقد استنبط بعض الباحثين شروطا أخرى للمجتهد ليس هنا محل تفصيلها «2» . ولينظرها من شاء في مظانها من كتب الأصوليين.
(د) المصدر الرابع: القياس:
القياس يفترض وجود حالة نقيس عليها، تمثل بها الحالة الجديدة، وعلى ذلك فالحالة الأصلية ينبغي أن يكون قد سبق لها ذكر في القرآن أو في السنة، أو في الإجماع، ولذا يعرف بأنه «إثبات حكم معلوم في معلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت» «3» .
وللقياس حجيته، ولهذه الحجية أدلتها من القرآن، والسنة، والإجماع «4» . ومهما قيل في أمر القياس فإننا لا نجد وراء جهود الفقهاء إلا التوصل إلى المنبع الوحيد الذي يستقي منه الناس جميعا هو حكم الله وهو الحكم الذي أثبته القرآن، ثم الحديث، فالإجماع فالقياس. فالله سبحانه هو إذن المشرع، وليس الآخرون سوى مقررين لأمره وحكمه، بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة «5» .
__________
(1) بتلخيص من الرسالة للإمام الشافعي (509- 510) .
(2) انظر في ذلك مثلا: كتاب الاجتهاد في الشريعة الإسلامية لمحمد فوزي فيض الله، والبحثين القيمين للشيخ زكريا البري (233- 256) ، والشيخ علي الخفيف (250- 232) المنشوران ضمن منشورات المجلس العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض 1404 هـ.
(3) نادية محمد شريف العمري: القياس في التشريع الإسلامي، ط 1، القاهرة، دار هجر، 1407 هـ/ 1987 م، ص 53.
(4) راجع فى هذا: الطيب خضري السيد، الاجتهاد فيما لا نص منه، الرياض، مكتبة الحرمين، 1403 هـ/ 1983 م ج 1 ص 132- 165.
(5) محمد عبد الله دراز، مرجع سابق ص 50.(1/105)
وعموم القول هنا، أن الإلزام الخلقي في الإسلام يستند إلى ما قرره الإسلام عن طبيعة الإنسان من حيث كونه حرّا مختارا وهدى إلى طريقي الفضيلة والرذيلة، ففي الإنسان من حيث كونه فاعلا، عنصر أخلاقي بالمعنى الحق، وفي الأمر الخلقي عنصر آخر هو العقل والحرية، والمشروعية، وتلكم هي العوامل الأساسية في الالتزام الخلقي، ولذا كان القرآن يقف موقفا دافعا أمام عدوين خطيرين للأخلاق الإسلامية، أولهما: اتباع الهوى دون تفكير، والثاني: الانقياد الأعمى دون تمييز.
إذن فالإلزام الخلقي يقوم على مصدرين أساسيين أولهما: النور الفطري، والثاني: النور الشرعي. والأمر اختيار حر دنيوي ليس مفروضا علويا، ويرجع إلى استخدامنا الحسن أو السيء لملكاتنا وقدراتنا وهي ملكات يزكي تثقيفها النفس، كما يدسيها ويطمسها إهمالها «1» .
ثانيا: المسئولية الخلقية:
كل مسئولية تفترض الإلزام سلفا ويتبعه جزاء، وقد رأينا أن الإنسان مكلف، والأخلاق الإسلامية قائمة على التكليف، ويعني هذا أن الأخلاق الإسلامية قائمة على المسئولية التي تلزم الإنسان بالعمل الخلقي، وتعني المسئولية «تحمل الشخص نتيجة التزاماته وقراراته واختياراته العملية من الناحية الإيجابية والسلبية أمام الله» «2» .
وتقوم المسئولية على الحرية، ولا يكلف بها مجنون، وتسقط عن صاحب الإرادة المسلوبة، ويشترط في المسئولية الكاملة أن يكون هناك نص ثابت يأمر بالفعل أو بالترك، وأن يكون المسئول كامل الأهلية، ومعنى هذا أن المسئولية الخلقية تقوم على مبدأ الالتزام الخلقي «3» .
وقد ثبت أن الإنسان لديه أهلية للقيام بهذه المسئولية، والقيام بها شرف للإنسان، وعلى هذا نجد أنفسنا أمام أنواع من السلطة التي تحدد المسئولية، وهي:
1- سلطة داخلية، أي إلزام الفرد نفسه بإرادة وقصد وتصميم، وهناك العزم على فعل شيء وهذا كاف لتحمل مسئولياته إن خيرا فخير وإن شرّا فشر.
2- سلطة خارجية، أي إلزام من خارج النفس، كأن يتلقى المسئولية من أناس آخرين، أو من سلطة أعلى.
__________
(1) المرجع السابق، ص 29.
(2) مقداد يالجن: التربية الأخلاقية الإسلامية، ط 1، القاهرة، مكتبة الخانجى، 1397 هـ/ 1977 م، ص 331 (بتصرف) .
(3) راجع: عبد المنعم الحفني: المعجم الفلسفي، القاهرة، الدار الشرفية، 1410 هـ/ 1990 م ص 319، 320.(1/106)
وأيا كان الأمر، فإن الإنسان يكون مسئولا أمام نفسه، أو أمام الآخرين (الإنسان والمجتمع) أو أمام الله، هذا ما يعنيه التقسيم السابق، ومع هذا فإن الإنسان يظل مسئولا عن كل شيء أمام الله تعالى.
وعلى ما سبق يمكن أن يكون هناك ثلاثة أنواع من المسئولية:
1- المسئولية الأخلاقية المحضة.
2- المسئولية الاجتماعية.
3- المسئولية الدينية.
والمسئولية الأخلاقية المحضة هي ما تقابل الالتزام الذاتي من الإنسان نفسه على الإتيان بشيء أو الانتهاء عن فعل شيء، والمسئولية الاجتماعية هي ما تقابل الالتزام تجاه الإنسان وما يفرضه المجتمع من قواعد، أما المسئولية الدينية فهي ما تقابل الالتزام أمام الله تعالى. ولعله من الضروري الإشارة إلى أن كلا من المسئولية الأخلاقية والمسئولية الاجتماعية إنما هما مسئولية دينية، وفي الوقت ذاته هي مسئولية خلقية، إذ أنه على حد قول (دراز) : «فالمسئولية التي يحملنا إياها غيرنا تصبح بمجرد قبولنا لها مطلبا صادرا إليه شخصنا. وإذا فليس من المستغرب أن نرى القرآن يقدم لنا المسئولية الدينية ذاتها في صورة مسئولية أخلاقية محضة حين يقول بمناسبة بعض التعاليم المتعلقة بالصوم المفروض، وقد تحايل بعض الناس على التخلص منه سرا: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ «1» . وفي كثير من الأحيان لا يكتفي الكتاب، حين يستحث المؤمنين إلى الطاعة بأن يذكرهم بالأمر الإلهي، بل يذكرهم في الوقت نفسه بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم بأن يطيعوا هذا الأمر» «2» .
معنى هذا أن الالتزام الذاتي، والمؤسسات الاجتماعية لا حق لها في إصدار التكليف، والمسئولية، ما لم تكن مفوضة من قبل السلطة الإلهية، ويعني هذا أن الأخلاق مرتبطة بالدين ارتباطا واسعا، ولا يمكنها الفكاك من أسره، وعليه فعلى الإنسان المسلم أن يتحمل مسئوليته الخلقية التي أقرتها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ويراعي الأمانة بناء على الأمانة التي حمّلها له القرآن، على أساس من المبادرة الفردية وحفظ العهد، في إطار شرع الله وهذا واجب عليهم.
كما أن عليه أن يتحمل مسئوليته عن التكاليف والأعمال تجاه الآخرين، وذلك انطلاقا من قول الله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «3» . وذلك في إطار شرع الله، أما إذا كان أي من هذه الأمور مخالفا لما في القواعد الإسلامية مخالفة صريحة، فإن عليه أن لا يأتيها. يقول الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم: «السمع والطاعة على المرء
__________
(1) البقرة: 187.
(2) اقرأ: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ الحديد: 8. إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا المائدة: 7. محمد عبد الله دراز مرجع سابق ص 141.
(3) المائدة: 1.(1/107)
المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «1» . أي لا يجب السمع والطاعة في الأمر بالمعصية، قال ابن حجر: «يحرم على من كان قادرا على الامتناع، وفي حديث معاذ عند أحمد «لا طاعة لمن لم يطع الله» وعنده وعند البزار في حديث عمران بن حصين والحكم بن عمرو الغفاري «لا طاعة في معصية الله» وسنده قوي «2» . وفي مسند أحمد «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» «3» .
وعن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، قلنا: أصلحك الله حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: دعانا النبي صلّى الله عليه وسلّم فبايعناه. فقال: فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان» «4» .
يقول ابن حجر في قوله: «أن لا ننازع الأمر أهله» أي الملك والإمارة، زاد أحمد عن طريق عمير بن هانيء عن جنادة «وإن رأيت أن لك رأيا وإن اعتقدت أن لك في الأمر حقا فلا تعمل بذلك الظن بل اسمع وأطع إلى أن يصل إليك بغير خروج عن الطاعة» وفي قوله «إلا أن تروا كفرا بواحا» قال الخطابي: معنى قوله بواحا يريد ظاهرا باديا من قولهم باح بالشيء يبوح به بوحا وبواحا إذا أذاعه وأظهره» «وعندكم من الله فيه برهان» : «أي نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل، قال النووي:
المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم» «5» .
وبهذا يتحقق الاتزان حيث يطيع الإنسان المسلم الأوامر المتسقة مع نصوص القرآن والسنة، ولا يتبع ما يخرج عن أوامرهما أو يتعارض معهما. ولا بد إذن من الإشارة إلى أن المسئولية شاملة متكاملة، إذ أن كل إنسان مسئول مسئولية كاملة عن كافة أعماله، وما منحه من قدرات وإمكانيات، يقول الله تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا «6» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره
__________
(1) البخاري- الفتح، مرجع سابق، 13/ 130 حديث رقم 7144، ط الريان.
(2) فتح الباري، مرجع سابق 13/ 31- 132، ط الريان.
(3) أحمد بن حنبل، المسند، رقم أحاديثه محمد عبد السلام عبد الشافي ط 1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1413 هـ/ 1993 م (5/ 66) ، حديث رقم 20680.
(4) البخاري- الفتح، مرجع سابق، 13/ 7، حديث رقم 7055، 7056.
(5) فتح الباري، مرجع سابق 13/ 10، 11.
(6) الإسراء: 36.(1/108)
فيم أفناه وعن علمه ما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» «1» .
ويقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية، ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته» «2» .
وكما نلاحظ، فإن المسئولية شاملة كل شيء في حياة الإنسان. إذ أن كل فرد مسئول مسئولية تامة عن حسن سير الأمور في مجاله، سواء كانت عامة أم خاصة، إذا وكلت إليه، وأسند إليه مسئوليتها.
شروط المسئولية الخلقية في الإسلام:
ذكرنا أن الأخلاق في الإسلام تقوم على أساس من التكليف، وذكرنا أن الإنسان لكي يكون مكلفا، لابد وأن يكون حرا، وأن تكون لديه الإمكانيات اللازمة للقيام بمهام التكليف، وأوضحنا ذلك بما يكفي للإفادة في هذا المجال، ومع هذا فيمكن عرض شروط تحمل المسئولية في إيجاز فيما يأتي:
1- الإعلام والبيان:
إن الإنسان يجب أن تصل إليه الدعوة، وذلك حتى تستيقظ الضمائر الغافلة، وهذا لا يتم إلا بإعلام الإنسان بما هو مفروض وواجب عليه فعلا أو تركا، بمعنى أن الإنسان لابد أن يكون عالما بما هو مكلف به.
وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يعلم الإنسان وتعلم الأمم بواجباتها وحقوقها عن طريق الرسل الذين يذكرونهم دائما بالأوامر الشرعية من أجل تحقيق المسئولية والالتزام، وقد وردت الآيات القرآنية دالة على ذلك، فما كان الله ليحاسب إلا بعد الإبلاغ والبيان والإعلام، وما كان الله ليعذب أهل القرى دون أن يرسل لهم الرسل والأنبياء لدعوتهم إلى التقوى والصلاح وحتى يكونوا شهداء عليهم، يقول الحق تبارك وتعالى:
- وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (الإسراء: 15) .
- وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا (القصص: 59) .
- وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ* ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (الشعراء: 208، 209) .
- هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (آل عمران: 138) .
- وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (إبراهيم: 4) .
إن معنى ذلك أن هذا البيان والإعلام هدفه الأساسي رد الناس إلى الاهتداء بنور الوحي المنزل حتى
__________
(1) أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة: الجامع الصحيح، سنن الترمذي، تحقيق كمال يوسف، ط 1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1408 هـ/ 1987 م، 4/ 529 حديث رقم 2417، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال محقق «جامع الأصول» (10/ 436) : وهو كما قال.
(2) ابن حجر- الفتح، مرجع سابق، 10/ 375، حديث رقم 5200 وقد وردت روايات متعددة فى أرقام: 2554، 2558، 2751، 5188.(1/109)
يصلوا إلى الهداية، فإذا ضلوا كان العذاب الغليظ، وإذا اهتدوا كانوا في سعادة في الدنيا والآخرة. وذلك حتى يكون الجزاء لعمل ناتج عن عمل. وحتى يكون الحساب على أفعال قد علموا مسبقا أحكامها.
2- الالتزام الشخصي:
وتتسم المسئولية الخلقية في الإسلام بأنها ذات طابع شخصي فردي خالص، ونجد كثيرا من الآيات القرآنية الدالة على ذلك:
- لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ «1» .
- مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «2» .
- وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى «3» .
فالإنسان مسئول مسئولية كاملة عما يصدر عنه من أفعال، وعلى ذلك يأتي الثواب والعقاب. فمسئولية كل فرد واضحة جلية عن العمل الذي يقوم به سواء كان هذا العمل من أجل نفسه أو من أجل الغير إذ هو لا يتحمل تبعة عمل إنسان غيره، ولكنه مسئول عن الطريقة التي أتى بها هذا العمل أو ذاك بعد أن علم وتعلم سبل الخير والشر.
إلا أن هذه المسئولية الفردية لا تمنع الفرد أن يكون مسئولا عن انحراف مسلك أقرانه، فعليه أن يتدخل بوسائل مشروعة ليمنع الجماعة من التمادي في الأعمال التي تضر المجتمع الإسلامي، وهنا تتحول المسؤلية إلى مسئولية ذات طابع جماعي، حيث إن هذه الجماعة ما هي إلا مجموعة الضمائر التي تربت في أحضان المدرسة الإسلامية الحقة. فأوجدت المجتمع المتكافل والمتعاون الذي يعمل من أجل الخير والسلام «4» .
3- النية (القصد) :
وهذا الشرط يتعلق بعلاقتنا بالعمل، وهذه العلاقة علاقة إرادة، فبعد المعرفة والإعلام، والذي أنتج الطابع الشخصي للمسئولية، فإن هناك مركزا داخليّا في النفس الإنسانية تصدر عنه إرادة العمل، أو النية، حيث يتبنى الإنسان الفعل أو يحققه ويؤكده من داخله، والإنسان ليس بما يفعل، فحسب بل بما يرغب فيه بشغف، وبدون ذلك يصبح عمل الإنسان آليا، ومجرد صدفة في العالم الذي يعيش فيه، فالأخلاق الحقيقية ينصب اهتمامها على النية أن تريد وأن تعمل، وذلك أمر إنساني فبالإرادة والعمل ينتهي مجال الأخلاق، أما النتائج والمعطيات فهي أمور بيد الله تعالى.
__________
(1) البقرة: 286.
(2) الإسراء: 15.
(3) النجم: 39.
(4) محمد ممدوح محمد علي العربي: الأخلاق السياسية في الفكر الإسلامي، مرجع سابق، ص 220، 221. وراجع: محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق للقرآن، مرجع سابق، ص 155.(1/110)
ولعله من المهم الإشارة إلى أن الإنسان غير مسئول عن الأعمال اللاإرادية للإنسان حيث يفتقر إلى الإرادة، ولا هو مسئول عن الفعل الخطأ غير المقصود أو المراد وذلك لعدم استهدافها الشر أو الخطأ. فالإنسان لا يحاسب على عمل إلا إذا توافر القصد الكامل له. وهذا مصداق قوله سبحانه وتعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ «1» .
وهكذا يظهر دور النية في الأخلاق الإسلامية باعتبارها شرطا ضروريا، وعلى ذلك هي شرط للمسئولية، ومصداق هذا قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات» «2» . ويفيد الحديث أن الأعمال لا قيمة لها إلا بالنية، وأن الأعمال بنياتها، وعلى هذا فالأعمال لا توجد «أخلاقيا» إلا بالنية، وهذا يؤكد وجود النية كشرط لقيمة الفعل الخلقي «3» .
4- حرية الاختيار:
حين تتحقق شروط المعرفة والعمل الإرادي على بصيرة من الفرد بما يعمل، فليس معنى ذلك أن العمل قد استوفى جميع شروط المسئولية، إذ أن هناك شرطا آخر على درجة من الأهمية، وهو القدرة وفاعلية الجهد الإنساني، أو بتعبير آخر: الحرية. ويؤكد «دراز على ذلك بقوله: «إن مبدأ التناسب بين المسئولية والحرية تمتد جذوره بعمق في الضمير الإنساني، بحيث لا يمكن تجاهله دون أن يبدو في موقفنا شيء من الإجحاف «4» .
إن المسلم مطلوب منه استخدام قدرته على الاختيار حتى لا يتخذ من القضاء والقدر ذريعة للتهرب من المسئولية، وقد بسطنا القول قبل ذلك فيما يتعلق بشرط التكليف، وهو أن يكون الإنسان مختارا فلا معنى لكون الإنسان مجبرا على شيء ونحاسبه عليه وإنما يحاسب على اختياراته. إن الإنسان يصبح مسئولا، وهو يحقق ذاته بنفسه، وهكذا يصبح مسئولا أمام الله عما آتاه من فعل بإرادته وحريته.
لعله قد تبين أن المعرفة لا تكفي دليلا على تحمل المسئولية الخلقية، ما لم تصاحبها النية (الإرادة الجازمة) تجاه الخير أو الشر، وهذه الإرادة وحدها- أيضا- لا تكفي، بل لا بد من الاختيار والقدرة والحرية التي تسلك معها في نمط واحد حتى تكون الخلقية هي الصفة الجوهرية التي تميز الإنسان المسئول في هذه الحالة «5» .
وكما يقرر «دراز» : فالشروط الضرورية والكافية لمسئولياتنا أمام الله وأمام أنفسنا هي: أن يكون العمل
__________
(1) الأحزاب: 5.
(2) ابن حجر- الفتح ج 1، حديث رقم (1) .
(3) محمد ممدوح العربي: الأخلاق السياسية، مرجع سابق، ص 220، 221، محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق فى القرآن، ص 179، 180، وابن حجر: فتح البارى، (ط الشيخ بن باز، ج 1، ص 20، 21) .
(4) محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق فى القرآن، مرجع سابق، ص 181.
(5) محمد عبد الله عفيفى: الأخلاق عند ابن تيمية، مرجع سابق، ص 187، 188.(1/111)
شخصيا، إراديا، تم أداؤه بحرية «أي بدون إكراه» وأن نكون على وعي كامل وعلى معرفة بالشرع أو القانون «1» .
ثالثا: الجزاء:
يعتبر الجزاء العنصر الثالث من عناصر النظرية الخلقية. فالقانون الخلقي يبدأ بتوجيه الدعوة إلى الإرادة، فتستجيب لتلك الدعوة، ثم بإعلان الالتزام تأتي المسئولية، كاستجابة جازمة، ثم يأتي التقويم بعد ذلك، أي يأتي الجزاء.
فالجزاء هو رد فعل القانون الخلقي على موقف الأشخاص الخاضعين لهذا القانون والملتزمين به.
وللجزاء ثلاثة ميادين هي:
1- الجزاء الأخلاقي. 2- الجزاء الشرعي. 3- الجزاء الإلهي.
وفيما يلي تناول موجز لهذه الأنواع:
(1) الجزاء الأخلاقي:
يباشر الإنسان عمله طبقا لقواعد يعرفها ويحس بها، وبعد ذلك تحدث في النفس أصداء معبرة عن الرضا في حالة النجاح، وعن الألم في حالة الفشل، هذا يتعلق بالإنسان الذي يعرف أن هناك قواعد للسلوك، أما ذلك الإنسان الذي لا يعرف قواعد السلوك فإنه يكون فاقدا لمعنى الخير والشر تماما، فما معنى هذا بالنسبة للجزاء الخلقي؟.
يحلل ذلك الدكتور دراز متوصلا إلى أن الندم لا يعتبر جزاء لما يقترفه الفرد، وهو ليس بعقوبة أو مكافأة للقانون الأخلاقي. ويرى كذلك أن المتعة والألم اللذين نحس بهما بعد أن نفعل خيرا أو شرا هما رد فعل لضميرنا على ذاته، أكثر من أن يكون رد فعل للقانون علينا. فهما تعبيران طبيعيان يدلان على توافق في الذات مع المثل الأعلى، أو على تضاد الذات معه. وهذا ما تدل عليه النصوص النبوية. يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا ساءتك سيئتك، وسرتك حسنتك فأنت مؤمن» «2» . فالحديث لم ينظر إلى حالات النفس هذه على أنها ثواب يقتضيه سلوكنا، وإنما رأي فيه ترجمة وتحديدا للإيمان الخلقي.
وفي حديث آخر: «إنه المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه» «3» . وهذا يعود إلى درجة شدة اللوم الباطن التي تعكس صدق إيماننا وتقيس درجته قياسا دقيقا فنحن نشعر بمساءة الذنب وخطورته فينا لدرجة شعورنا الحي بالتكليف.
__________
(1) محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق فى القرآن، مرجع سابق، ص 222.
(2) مسند أحمد 5/ 251، 252، 256.
(3) الترمذى، كتاب صفة القيامة 4/ 568 برقم 2497.(1/112)
وهذا كله يشير إلى أن الندم لا ينشيء جزاء ثوابيّا، ولا جزاء إصلاحيّا. ولذا فإن الجزاء الخلقي الصحيح هو ذلك الشعور الذي يعيد تثبيت القانون المنتهك وهو (التوبة) ، والندم هو مقدمة التوبة وإعداد لها. وهو محاولة لتجميع قوى النفس ورأب لصدعها، وتجد في حرارة الندم المؤلمة وسيلتها لتلتئم وتقوى، وتعاود حمل الأمانة من جديد بمزيد من الطاقة والحماس وقد يثير الندم التوبة، وقد لا يثيرها على وجه الإطلاق، أي أنه لا يستتبعها كنتيجة مبدئية «1» .
وعلى هذا فالتوبة هي الجزاء الخلقي، يفرض تدخل الجهد من أجل الإصلاح، إنها واجب يفرضه الشرع على أثر تقصير في أداء الواجب، وهناك الكثير من الآيات والأحاديث الدالة على ذلك «2» . لكون التوبة كذلك، فإنها في ذاتها ندم على ما سلف، وإقلاع عنه في الحال، وعزم على عدم المعاودة في المستقبل «3» .
إن التوبة لا يمكن أن تؤدي وظيفتها الإصلاحية في الأخلاق الإسلامية إذا اقتصرت على الأسف على ما اقترفناه من شر والعزم على عدم المعاودة ولكنها موقف أكثر تعقيدا، موقف ينظر للماضي والحاضر والمستقبل، ويتجلى في الأفعال لا في اتخاذ خط سلوكي جديد فقط، بل أيضا في إعادة تجديد البناء الذي تهدم بصورة منهجية، وقد أوضح القرآن مجموع الشروط الموضوعية الضرورية ليصبح للتوبة عائدها الحقيقي هو الغفران.
- إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «4» .
فليس المهم التوبة فقط، وإنما الإصلاح، إصلاح ما نقص أو فسد أو أفسده الإنسان وهذا الإصلاح يتمثل في أمور عدة:
- إما في عمل ناقص، ويجب أن يعاد، ويؤدى بطريقة مناسبة آجلا أو عاجلا.
وإما في إصلاح شر بتعويض آثاره من سلبيات إلى تقليل آثاره السلبية بأداء أفعال ذات طبيعة مناقضة للفعل الأول: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «5» .
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها «6» .
__________
(1) محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن، مرجع سابق ص 248- 502 (بتصرف) .
(2) راجع: صفة التوبة من صفات الموسوعة.
(3) راجع ابن القيم: مدارج السالكين لابن القيم، ج 1، ص 202، 203.
(4) البقرة: 160، الأنعام: 54، والنحل 119.
(5) هود: 114.
(6) التوبة: 102- 103.(1/113)
- وإما في خطأ واجب إزالته: وفي هذا المجال يميز الرسول صلّى الله عليه وسلّم بين أخطاء تنتهك واجبا شخصيا، وما يطلق عليه: حق الله. وهو إما أن يكون خالصا أو مختلطا عن إنسان آخر. وبين أخطاء ترتكب في حق العباد، وهو ما يسمى: حق العباد.
والأخطاء التي في حق الله تعالى يغفرها الله تعالى، إلا الشرك. أما ما يتعلق بحق العباد فمهما فعلنا من أفعال طيبة مناقضة، ومهما دعونا الله أن يغفر لنا فإنه يظل عاجزا عن أن يصل إلى التوبة الكاملة، إذ يجب أن نحصل على إبراء صريح ومحدد من الذين أساءوا إليه، والأحاديث الشريفة في هذا المجال وافرة رويت في الصحيحين وفي المسانيد.
إلا أن الأمر لا يتوقف على مجرد الجزاء الإصلاحي. بل هناك جزاء ثوابي لممارسة القواعد الخلقية، فالفضيلة لها محاسنها، فالصلاة تجعلنا على اتصال بمنبع الكمالات، والزكاة تزكى، والصوم وسيلة إلى بلوغ التقوى، وبالجملة فإن ممارسة الفضائل تجعل الإنسان حكيما. شجاعا. كريما.
وكذلك ممارسة الرذيلة لا يتوقف أمرها على أضرار اجتماعية وفردية، بل يمتد أثرها إلى الجوانب النفسية والروحية. والأحاديث في هذا الباب كثيرة. ودلالتها واضحة.
وبالجملة كما يقول الدكتور دراز: «إن الجزاء الأخلاقي الثوابي يتمثل في الحسنة والسيئة أي في كسب القيمة أو خسارتها كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ «1» . كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ «2» «3» .
2- الجزاء الشرعي:
المراد بالجزاء الشرعي تلك العقوبات التي أقرتها الشريعة الإسلامية لأولئك الذين يتعدون حدود الله، فيظلمون بذلك أنفسهم أولا، وغيرهم ثانيا.
إنه إذا كان الجزاء الأخلاقي يتصل بتركيب النفس من حيث الإصلاح وتزكية النفس فإن الجزاء الشرعي جزاء تأديبي أو عقابي لكل من تسول نفسه تجاوز قانون الحياة في المجتمع الإسلامي.
إن الترغيب والترهيب وإن كان لهما أثر بالغ في الردع عن مخالفة القواعد الشرعية لما يحدثانه من خشية وخوف ورجاء وطمع، ويؤازرهما في ذلك ما يسمّى ب «الوازع الأخلاقي» المتمثل في محاسبة النفس ومجاهدتها وما ينجم عن ذلك من نهي النفس عن الهوى وابتعاد الإنسان عن ارتكاب الخطايا والآثام، إلا أن ذلك كله قد لا
__________
(1) المطففين: 7.
(2) المطففين: 18.
(3) محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق، مرجع سابق، ص 261.(1/114)
يكفي- أحيانا- لكف بعض الأشقياء عن الظلم والاعتداء واقتراف الجرائم ومن ثم كان الوازع المتمثل في الحدود الشرعية، هاما وضروريا في هذا المجال، نظرا لما لهذا الوازع من خطورة اجتماعية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الجزاء الشرعي يرتبط بارتكاب الأمور المنهي عنها شرعا، تلك الأمور التي تعد في حد ذاتها من المفاسد الأخلاقية، ومن هنا ندرك أهمية الجزاءات الشرعية في دفع المفاسد الأخلاقية «1» .
إن لهذه الجزاءات الشرعية أهدافا عديدة ترمي إلى تحقيقها منها:
1- الردع عن ارتكاب الجرائم أو تكرار ارتكابها، وبالتالي تربية هؤلاء وإصلاحهم.
2- جعل من يرتكب هذه المفاسد أو الجرائم عبرة وعظة لغيرهم، وزجر هذا الغير عن التشبه بهم.
3- تلافي الثأر، وإحلال الوئام والسلام في المجتمع والمحافظة على أمنه وسلامته «2» .
وبالنظر في نظام المجازاة في التشريع الإسلامي يمكن أن نميز فيه مرتبتين أساسيتين هما:
1- الحدود: وهي الجزاءات التي حددها الشرع بدقة وصرامة. وهي من حقوق الله تعالى، ولا تسقط بالعفو ولا بالصلح، وهذه تتعلق بالجرائم التالية:
الزنا، السرقة، القذف، شرب الخمر، البغي، قطع الطريق، الردة.
والصرامة في هذه العقوبات لا تتيح مجالا أمام أي تنازل أو حل وسط. وفي الأحاديث ما يوضح ذلك جيدا فلا شفاعة لأحد في حد من حدود الله ولا تنازل عن توقيع هذا الحد، يوضح هذا ما روي عن عائشة- رضي الله عنها- أن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن يجتريء عليه إلا أسامة حب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «أتشفع في حد من حدود الله؟» ثم قام فخطب قال:
«يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» «3» .
وهذه الأخطاء لا يجوز العفو فيها إلا إذا كان في المجال الخاص، فمتى وصلت السلطة الجريمة أصبح تطبيق الحد أمرا جازما لا رجعة فيه «4» .
إن هذه الحدود باعتبارها حق الله تعالى: إنما جعلت للحفاظ على حياة الإنسان، وبدنه وماله وعرضه،
__________
(1) صبحي محمصاني، الدعائم الخلقية للقوانين الشرعية، ص 430- 433 (بتصرف واختصار) .
(2) السابق، ص 433- 435 (بتصرف) .
(3) صحيح البخارى (ط البغا) ، ج 6 حديث رقم 6406، كتاب الحدود. باب 12.
(4) اقتصرنا هنا على ذكر الخصائص العامة، أما العقوبات نفسها فيمكن مراجعة كتب التشريع الإسلامي في هذا المجال.(1/115)
بمعنى آخر الحفاظ على المقومات الأساسية لحياة الإنسان، ولأن الله خالقها وحده جل علاه، جعلها حرمات لا يجوز لأحد الاقتراب منها إلا بحقها فإذا ما تجاوز أحد ذلك كان الحد.
وفي هذا المجال يشير دراز إلى حقيقة مهمة، وهي أن الجرائم التي تقع تحت طائلة القانون هي تلك الرذيلة التي تتفشى، وتعرض نفسها، وتتحدى، أما حالة الإنسان الذي يستتر، وترتعد فرائصه حين يخضع لأهوائه، وهو الواقع الذي لا ينكشف لنا، لا بذاته، ولا بواسطة صاحبه، فإنه سيكون من اختصاص محاكمة الله تعالى له. وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف حين يقول: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا..... فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه» «1» .
وفي نص آخر يشير إلى استهجان النبي صلّى الله عليه وسلّم فعل بعض الناس. ممن يقعون في الحرام خفية ثم يثرثرون بما فعلوا: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين. وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه. فيقول: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه» «2» .
2- التعزيرات: وهي عقوبات تأديبية يفرضها القاضي على جناية أو معصية لا حد فيها. ويتعلق بالتعزير حقان: حق الله وحق العباد، وما كان حق العباد فيه غالبا فيجوز قبول العفو فيه، وما كان حق الله فيه أغلب فبرغم عفو المتضرر فإن التعزير واجب.
وهنا تتنوع العقوبة الموقعة على المجرم من تأنيب، إلى تعنيف أمام العامة إلى السجن، إلى الجلد، ومن حق القاضي أن يتغاضى عن بعض الأخطاء القليلة حين تقع من إنسان ذي خلق.
وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود» «3» .
3- الجزاء الإلهي:
إذا كان النوعان السالفان من الجزاء ينتميان إلى مجال الواقع الدنيوي، فإن الجزاء الإلهي له طبيعته وامتداداته، ولعل هذا يرتبط أساسا بنظام التوجيه الإسلامي في القرآن والسنة، ولهذا بحثه الخاص، إلا أنه يمكن القول أن القرآن حدد الجزاء الإلهي في ناحيتين.
__________
(1) صحيح البخاري (ط. البغا) - ج 6، حديث رقم 6402، كتاب الحدود، باب 8.
(2) المرجع السابق، ج 5 حديث رقم 5721، كتاب الأدب باب 60 وراجع دستور الأخلاق في القرآن 270، 272.
(3) سنن أبي داود، حديث رقم 4375.(1/116)
1- الجزاء الإلهي في العاجلة: أي في الدنيا.
وهذا الجزاء الإلهي في الدنيا له عدة جوانب:
الجانب المادي: ويعني أن من يقوم بفعل الأوامر يلتزم بقواعد السلوك الخلقي يحصل على نصيب من ثوابها في الدنيا، وكذا من يتجنب فعل الفضيلة ويأتي مضادها فإن الله يصب سخطه عليه في غضبه على هذا السلوك المنحرف. وفي القرآن أمثلة تؤكد ذلك:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ «1» .
وفي سورة سبأ وبعد عرض قصتهم يقول الله عز وجل: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ «2» .
وهكذا في قصة صاحب الجنتين، وفي قصة أصحاب الجنة، وفي قصص الأمم الأوائل الذين كذبوا الرسل، كل ذلك يدلنا على أن غير الملتزمين، والمتمردين يدفعون ويجازون من حياتهم، أما حالات الإفساد العام أو انتشار الفساد الأخلاقي العام فإن الله سبحانه يقابلها بتدمير الشعب كله وإهلاكه، وينجي الله المتقين الصالحين المحسنين الطائعين.
وهكذا: وباستقراء آيات القرآن نجد أنه يثير اهتمامنا وانتباهنا وانتباه البشر جميعا إلى أن الأمن والترف ما كان ليعصم الناس من الجزاء الإلهي إذا انتشر الفساد.
وهناك حالات يحتوي الجزاء فيها على حالات مادية، أو عناصر مادية: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ «3» ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ «4» . وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «5» .
- تأييد الله لجماعة المؤمنين:
وهذا التأييد والنصر من الله سبحانه لجماعة المؤمنين الملتزمين بالقانون الخلقي، وهذا التأييد يشمل النصر والمساعدة والتثبيت، أما خصوم المؤمنين فهم مسوقون إلى الهزيمة والعذاب، وموعودون بالذل، ومشمولون بالخزي.
وفي نص واحد يبين الحق تبارك وتعالى هذا الجزاء الدنيوي في قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ
__________
(1) النحل: 112.
(2) سبأ: 16، 17.
(3) الطلاق: 2، 3.
(4) الزمر: 10.
(5) النحل: 41.(1/117)
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً «1» .
أما إذا ركن الناس إلى الأخلاق المنحلة، والفوضى والعصيان فإن الجزاء عبر عنه القرآن بقوله تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ «2» .
- الهداية والرشاد:
إن الأمر لا يقتصر على ما سبق من جزاءات مادية، أو جزاءات جماعية، فالجزاء الإلهي في الدنيا يمتد إلى هداية المؤمنين، وهداية قلوبهم، ويبدد ظلماتهم، ويوصلهم إلى النور، ويرشدهم إلى الطريق المستقيمة، ويمنحهم القوة على تمييز الحق من الباطل والخير من الشر، ويصلح نواياهم، ويزيدهم نورا، ويهدي خطاهم على دروب مستقيمة، وينزل في قلوبهم الطمأنينة والسكينة.
أما الظالمون فيحدث لهم عكس ما يحدث للمؤمنين المتمسكين بالفضيلة. وكذلك المؤمنون إذا ما غيروا مواقفهم فإن ذلك يؤدي إلى سحب النعم الممنوحة لهم ليصبحوا كالظالمين تماما.
- رضا الله تعالى وحبه:
وهذا نوع من الجزاء العظيم، وهذا هو الهدف الأسمى الصالح للحصول عليه، حيث يسعى المسلم من خلال سلوكه إلى التمثل بالصفات المستحسنة عند الله، فهو من المحسنين والمقسطين، والصابرين، والمتقين، والمتطهرين، والمتوكلين، ومحبيه، الذين يقاتلون في سبيله، إن المسلم كلما وقف موقفا يحترم فيه أوامر الله تعالى كلما اقترب من رضاه ورحمته، وفي نفس الوقت كلما وقف موقفا لا يحترم فيه أوامر الله تعالى اقترب من سخط الله وعدم حبه.
2- الجزاء الإلهي في الآجلة: (الحياة الأخرى) :
لا يقتصر الجزاء الإلهي على الجزاءات الدنيوية والتي سبق بيانها، بل إن الجزاء الإلهي يمتد إلى الآخرة فهناك عودة للعدالة الإلهية، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ «3» . أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً «4» .
ومن ثم نجد تفرقة واضحة بين المؤمنين الصالحين، والظالمين، فلكل منهم جزاؤهم في الآخرة، مما يجعل العمل الدنيوي مرتبطا أيضا بالجزاء الأخروي: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ
«5» . أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
__________
(1) النور: 55.
(2) محمد: 38.
(3) المؤمنون: 115.
(4) القيامة: 36.
(5) الجاثية: 21.(1/118)
كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ «1» .
ولذا نجد الجزاء الأخروي على نوعين: الجنة للصالحين، وفيها نعيم مقيم وخلود دائم. والنار للعصاة والمفسدين والفجار خالدين فيها أبدا. ثم هناك الرضوان على المؤمنين وعدم الرضوان على الكفار والفاسدين «2» .
والخلاصة:
أن المؤمن مرتبط دائما بخالقه، وبالقرآن الكريم وبالرسول صلّى الله عليه وسلّم ولو غفل في ساعة الضعف البشري عن العقوبة الآجلة أو الأخروية لارتكاب المنكر فإن تفهمه للعقوبة الدنيوية وقوة حجمها وشدة وطأتها يبعده عن الاقتراب من المنكر وينهاه عن أن تمتد قدمه أو يده إلى المحرم، ويرجعه إلى رشده وإلى ملكاته العقلية، فيتيقظ لديه الرادع الديني ويخمد نداء الشيطان وسرعان ما يستطيع أن يلجأ إلى الوسيلة التي تطرد عنه وسوسة الشيطان وما قد يزينه له من عمل يراه حسنا، هذه الوسيلة ميسرة ومعروفة لدى كل مسلم، ولا تكلفه سوى التصميم على عمل الخير والإرادة القوية لأن يتجنب طريق الغواية وسبيل الهوى والفساد، هذه الوسيلة هي قول الله تبارك وتعالى:
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ* وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (المؤمنون 97/ 98) .
فالعقوبة الدنيوية طريق لتنبيه الغافلين وإيقاظ اللاهين وحاجز منيع يحول دون تجاوز طريق المباحات إلى المحرمات فكانت كإشارة المرور في الطريق لتبين معالم الخطر وحدود السبل التي يحق للسائق أن يسير بها في سيارته آمنا مطمئنا وحدود السبل التي لا يحق له أن يصل إليها ولا أن يمر بها ولا أن يدخل مداخلها، والرجوع عنها واجتنابها خير من إيقاع الذات بالخطر وخير من المهالك التي قد تقضي عليه وعلى غيره.
والحدود الإسلامية التي هي العقوبات الدنيوية إنما شرعت للحفاظ على حياة الناس وأعراضهم ودمائهم وأعضائهم وقد يكون داعي القتل هو الغضب والعنف أو حب الجاه والمنصب والتعالي على الآخرين وقد عالج الإسلام ذلك بطريقة مثالية واقعية قبل أن يشتد الغضب وقبل أن يغلي حب الانتقام في النفس وقبل أن يسيطر العجب والكبر على الإنسان ويجعله كالريشة في مهب الهواء، فقد عالج الإسلام هذه الحالات النفسية كلها علاجا واقعيا مثاليا، بحيث يستطيع المسلم بعد المواظبة على ذلك العلاج فترة زمنية أن يتخلص من كافة أمراضه النفسية التي أوجدت لديه اختلالا في التوازن النفسي وجموحا نحو زاوية الانحراف والغواية، هذا العلاج يكمن في وسيلتين إحداهما مادية والأخرى معنوية.
أما المادية: فهي الوضوء والغسل وتغير الحالة التي هو فيها، فإن غضب وهو واقف فليمش وإن غضب
__________
(1) ص: 28.
(2) فى مبحث الجزاء الأخلاقي إلى جانب ما ذكرناه من مراجع يراجع المصدر الرئيسى في هذا المجال وهو كتاب: دستور الأخلاق في القرآن للشيخ دراز ص 245- 417. وسنجد الكثير جدا من الإشارات حول الجزاء في ثنايا الموسوعة.(1/119)
وهو جالس فلينهض ثم ليأخذ ماء للوضوء والغسل، ومن توضأ فإنه يرى أن لله عليه ركعتين فيصليهما ويسأل الله تبارك وتعالى له الهداية ولمن أغضبه فيستحقق لديه النتائج المرضية للعلاج وهو ذهاب الغضب والصبر على ما لقيه من أخيه المسلم.
أما المعنوية: فهي ذكر الله تبارك وتعالى وذكر الله سبحانه أكبر من الصلاة فيما ينتج عنه من نتائج تلازم الفرد بسبب ملازمته للذكر فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (المؤمنون/ 116) .
إذا توصل المسلم إلى هذه المرحلة وإلى هذا العلاج النفسي والوجداني فسوف يلمس في نفسه الإحساس بالارتياح والاستقرار والأمن والطمأنينة وسوف يتجنب كل شر قد خطر له أو عرض لذهنه لحظة من الدهر، وهكذا في كل الحالات النفسية التي فيها ضعف أو فيها مرض فإن الإسلام يضع الأسباب الوقائية التي تحول دون أن يصل المسلم إلى الحالة المرضية أو إلى الضغط النفسي الشديد الذي يعمي البصر أو يصم السمع أو يغلق القلب.
فإن لم تجد معه الأسباب الوقائية ووقع في المرض النفسي فإن الإسلام يرشده إلى العلاج النفسي الذي يشفيه مما ابتلي به من أمراض قال الله تبارك وتعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (الإسراء/ 82) وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (يونس/ 57) وهكذا أرشدنا القرآن والسنة المطهرة إلى أن من وجد في صدره شيئا من الضيق أو القلق أو الاضطراب أو نزوعا للاعتداء على الآخرين فليفتح كتاب الله- تبارك وتعالى- بعد الوضوء وبعد الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان وليقرأ ما تيسر له من الآيات الكريمة، أو ليستمع لغيره وهو يتلو كتاب الله تعالى فإن كافة تلك الأمراض الباطنية ستتقلص وتخف شدتها بالتدريج ثم تزول نهائيا.
فإن كان المرض مسيطرا ومتغلبا لديه وقد أسفر اتجاهه نحو الانحراف ونحو ارتكاب الجريمة التي اتجه إليها فليقرأ عقوبة هذه الجريمة وليتصور نفسه أنه قد وقعت عليه هذه العقوبة وأقيم عليه الحد، فماذا يا ترى؟ هل يستمر لديه خاطر الشر أم أنه يخمد نهائيا، ويزول تماما؟ فمن قوي لديه الانحراف في طلب الرزق وفكر في السرقة فليتصور نفسه ويده مقطوعة، فبم يأكل وبم يحمل الأشياء وكيف يعمل؟ وما هو موقفه من أسرته، من أولاده وزوجته، وقد جعلوه قدوة لهم، وهم يصبرون على الجوع ولا يصبرون على المحرم ولا يريدون أن يروا رب أسرتهم مقطوع اليد حدا. إنها آثار سيئة ومشينة ومكروهة من جميع أفراد المجتمع المحيط بهذا الإنسان، ثم ماذا هل يكتب على نفسه أن يكون في عداد المجرمين العابثين بأمن الأفراد والمجتمع؟ «1» .
__________
(1) بتصرف واختصار يسير عن: القضاء في الإسلام ودوره في القضاء على الجريمة، ج 1، ص 307- 310.(1/120)
الفصل الثالث المنهج الإسلامي في تنمية القيم الخلقية
اتضح لدينا في الفصل السابق، طبيعة الأخلاق الإسلامية، ومصادرها، وفي أثنائها تناولنا فطرة الإنسان وطبيعته وأبعادها باعتبار أن الإنسان مكلف ومتحمل مشاق التكليف، ولعلنا نتساءل:
هل الأخلاق فطرية في الإنسان أو مكتسبة؟ بمعنى: على أي شيء تعتمد عليه تربية السلوك الخلقي؟ هل تعتمد على ما لدى الإنسان من فطرة وقوة واستعدادات؟ أم تعتمد على التنشئة والتوجيه؟
وعلى أي حال كان الموقف، فكيف يتم النمو الخلقي لدى الإنسان؟ وكيف يتم تنشئة السلوك الخلقي عند الإنسان؟
هذا هو حديثنا وتحليلنا في هذا الفصل، في محاولة لإيضاح هذا الأمر، وخاصة أن هناك نظريات كثيرة في هذا المجال، والباحثون فيه يعتمدون على نظريات صاغها علماء وباحثون غربيون يفسرون في ضوئها ويحللون.
وليس لدينا مساحة للاستفادة مما كتبوا، إلا أن الأفضل أن نحاول الاستفادة مما تحت أيدينا من أفكار في هذا المجال، مما أنتجه علماؤنا وخبروه.
أولا: هل تكتسب الأخلاق:
لعله قد تقرر لدينا أن الإنسان مخلوق لديه استعدادات كامنة تظهر بالتنشئة والاكتساب، بحيث تنمو وتنضج، وتصبح طابعا مميزا للإنسان «1» . وتقرر أيضا- أن الإسلام منهج شامل لكافة جوانب حياة الإنسان، والأخلاق الإسلامية هداية من الله للإنسان، من التزم بها فقد حمد ربه، لأنها سعادة في الدنيا والآخرة.
وإذا كان ثمة تفسيرات طرحت للسلوك الخلقي منها ما يرد تكوين السلوك إلى التكوين الحياتي للإنسان، ومنها ما يرده إلى مدى التفهم العقلي لدى الإنسان، ومنها ما يرده إلى التأثير الاجتماعي.
ويرتبط مدخل التفسير الحياتي لتكوين الأخلاق بما يسمى بالمثير والاستجابة، بمعنى أن الخلق يتكون عن طريق الربط بين مثيرات معينة مثل الخسائر المادية والعقاب أو ما يشبه العقاب من مثيرات غير محببة، وهذا الارتباط وتعميمه يختلف نوعا عن الصراعات بين الرغبة في إشباع المشاعر الداخلية، أو الحاجات الفورية وبين المتاعب التي تنشأ من القلق، ومن ثم يتكون الضمير باعتباره نوعا من أنواع القلق الذي يصاحب القيم بالفعل الشائن أو حتى التفكير في القيام به، ومن ثم ينصرف عنه لما يسببه من ألم لدى الإنسان «2» .
__________
(1) راجع: الفصل السابق.
(2) انظر: محمد رفقي محمد فتحي، في النمو الأخلاقي، ط 1، الكويت، دار القلم، 1403 هـ/ 1983، ص 13- 26.(1/121)
وبالرغم من التفصيلات الكثيرة في هذا المجال والتي يمكن مراجعتها في مصادرها الأصلية، إلا أنه يمكن القول بأن هذه النظرية بكاملها وتفريعاتها وتطبيقاتها تنتمى إلى التفسير المادي لسلوك الإنسان، وتحاول أن تلخص السلوك الخلقي فيما يصدر عن الإنسان من أفعال فيما يمكن قياسه فقط، ولذلك يفقدون ما يسمى بالنور الداخلي أو الضوء الداخلي الكاشف للقيم لدى الإنسان ويرفضون أثره في تكوين الأخلاق بحجة أننا لا نستطيع أن نخضعه للبحث، ولأنه لا يستطيع أن يفسر الفروق الفردية في اكتساب الخلق.
ولا يخفى ما لهذه النظرة من آثار سلبية، حيث إنها تجعل المادة وتركيباتها واستجاباتها الأسباب الوحيدة المعتبرة لتفسير تصرفات الإنسان واستجاباته، وهي بذلك تجعل منه قطعة هامدة لا بد من تشغيلها بطاقة وبقوى خارجية «1» .
وهذه النظرية تؤمن بضرورة التدريب والتكرار والتقليد وإعطاء النموذج وغير ذلك من أساليب التدريب حتى تتحول الأخلاق إلى عادات ثابتة يمارسها الإنسان آليا بعد فترة دون تفكير، والتركيز دائما على السلوك الظاهري الذي يمكن ملاحظته، فموضوع مثل تكون مفهوم العدل أو العدالة يمكن تفسيره كردود فعل للتعزيز السابق أو محاولة لاكتساب القول، أو محاولة لتجنب العقاب الذي يصاحب السلوك غير العادل، ومن ثم فإن مفاهيم العدل أو القيم الأخلاقية يمكن تغييرها عن طريق الإثابة أو العقاب، أو التقليد أو التكرار «2» .
أما من يرد تكوين السلوك الخلقي إلى التأثير الاجتماعي، فإنه يرى أن الجانب الخلقي في الإنسان يتكون من تعلم الطفل أن يكف أو يعبر عن أعمال معينة يتم تحديد نوعيتها من الخير أو الشر أو عن طريق ممثلي المجتمع الذين يقومون بعملية التنشئة الاجتماعية، ويتم تعزيزها أو عقابها عن طريقهم، فإذا كان السلوك مقبولا اجتماعيا، يتم تعزيزه، ويستمر أداؤه عبر الزمن، وفي مواقف مختلفة، وإذا ما كان السلوك غير مقبول اجتماعيا، فإنه سيتم العقاب عليه، بأي صورة من صور العقاب، ومن ثم فإنه يختفى، وباختصار فإن الوقت كله يدور حول الإرادة الخارجية للسلوك والرغبة الداخلية في الحصول على الثواب وتجنب العقاب «3» .
إن أصحاب هذا الموقف مع إيمانهم بنظرية المثير والاستجابة، والتعزيز والعقاب، يرون أن أثر التنشئة الاجتماعية المتمثلة في سلطة الوالدين، وضغوط جماعات الأقران وغيرها من القوى الاجتماعية، أمر مهم في تنظيم النشاط الإنساني، وأن اكتساب الاتجاهات الأخلاقية المتمثلة في مسايرة الأهداف الاجتماعية، إنما يتم عن طريق التعلم، وهم يركزون في الأساس على العلاقات الاجتماعية التي يمكن أن تقاس عن طريق المقاييس الاجتماعية
__________
(1) روبرت م. أجروس، جورج ن. ستانسيو، العلم فى منظوره الجديد- ترجمة كمال خلايلي، العدد (34) عالم المعرفة، الكويت، د. ت، ص 84.
(2) محمد رفقي محمد فتحي: مرجع سابق، ص 17.
(3) المرجع السابق: ص 17، 18.(1/122)
(السوسيومترية) ، وهي مقاييس تقيس مدى تحقق العلاقات والصفات الاجتماعية، وما يتفق عليه المجتمع من خلال ممارسة التفاعلات الاجتماعية على أن ما يتصل بالأخلاق يكون أخلاقيا، وهذا ما جعل علماء الاجتماع يقولون أن الأخلاقيات تختلف من مجتمع لآخر، وأنها نسبية طبقا لدرجة التفاعل الحادث في المجتمع واتفاقه عليها «1» .
على أن لكل فرد في الجماعة «دورا» يرمز إلى مكانته فيها، وترفض الجماعة أخلاقا معينة على مختلف الأدوار الاجتماعية، فالأخلاق المتوقعة من «الأب» غير الأخلاق المتوقعة من «الابن» أو «الابنة» ، والأخلاق المتوقعة من «القائد» غيرها عند «الجندي» وهكذا، والتزام هذه الأخلاق يطلق عليه مصطلح «الضمير» وأصلها أن الأفراد «يضمرون أو يبطنون» معيارا أخلاقيا واحدا يتوقع منهم أن يسلكوا سلوكا متشابها وأن يصبح كل فرد شاهدا على الآخر، وأن يحسب حساب الآخرين فيخجل منهم عند سوء الخلق، ويسر عند حسنه «2» .
أما من يرد تفسير السلوك الأخلاقي إلى مدى التفهم العقلي لدى الإنسان، وأصحابه يطلق عليهم «أصحاب نظرية النمو العقلي في السلوك الأخلاقي» فيتخذون موقفا يؤكد على أهمية
المعرفة والفكر في تكوين المواقف والسلوك الخلقي وقد تبلورت هذه النظرية على يد المربي السويسري المعروف «بياجيه» الذي يرى أن الفرد لا يستجيب سلبيا لما يراه حوله أو ما يفرضه عليه الآخرون، وإنما هو كائن نشط يتفكر فيما يستقبله ويستنتج منه مبادىء عامة يسترشد بها في سلوكه وأحكامه، بمعنى أن السلوك الأخلاقي هو تفاعل الفرد مع بيئته أو هو عمل الفرد في البيئة وعمل البيئة في الفرد.
ويميز بياجيه بين مستويين من السلوك الأخلاقي: المستوى الأول: هو المجرد أو التركيب العميق المحتوى على الأسس النظرية، ويتميز باعتبارات الواجب والانصياع للسلطة الخارجية، فالطفل يتقبل من الراشد من الأوامر يجب الانصياع لها مهما كانت الظروف، والصواب عنده ما يتفق مع هذه الأوامر، والخطأ هو ما يتعارض معها، وهذا هو ما أسماه بالتحكم أو القسر وهنا تقوم الأخلاقيات على واقعية الاحترام من جانب الطفل، وبهذا الاعتبار يتم تطبيعه اجتماعيا وأخلاقيا إلا أن الطفل حين ينمو متفاعلا مع بيئته ومجتمعه يتفاعل مع أقرانه على أساس التبادل والعطاء، ومن ثم يأتي التعاون أساسا لتنمية السلوك الأخلاقي، وتظهر أهمية الاحترام المتبادل.
ولعله من المهم أن ندرك أن الأخلاقيات عند بياجيه أساسها الاتزان القائم على العدل، وليست حسب الإنسان أو الإحساس البديهي بالواجب، وقدسية الخير، وإنما الارتكاز إلى الأخذ والعطاء «3» .
__________
(1) إبراهيم عصمت مطاوع، أصول التربية، ط 2، دار المعارف، ص 131، 132.
(2) ماجد عرسان الكيلاني، اتجاهات معاصرة في التربية الأخلاقية، مرجع سابق، ص 21.
(3) محمد رفقي، مرجع سابق، ص 48، 49.(1/123)
أما المستوى الثاني: فهو الحسي الذي تميزه استجابات محددة وموضوعات فعلية، ويبدو من دراسات بياجيه، أن هناك تخلفا لدى الأطفال في الأحكام الخلقية في المراحل العمرية الأولى عكس الأطفال الكبار، وبالتالي فالطفل الأكثر نضجا لديه القدرة على ممارسة وتطبيق مبدأ التعاون أو الأخذ والعطاء «1» .
وإذا كان بياجيه قد قدم نظريات هامة في مجال النمو الإنساني طبقا لمراحل النمو، فإنه قدم أسسا للنمو الأخلاقي نوردها فيما يلي:
1- النمو الأخلاقي والنمو المعرفي:
حيث يرى أن هناك علاقة بين مستوى الذكاء ومستوى النمو الأخلاقي بمعنى أن الخبرة والذكاء وليس العمر الزمني يعتبران من أحسن المؤشرات الدالة على التعرف على الأعمال المشينة وغير المشينة، ولكن ليس معنى كون الإنسان ذكيا يعني أنه أخلاقي، فكثير من الحالات تشير إلى أن الذكاء البشري قد يتوجه إلى الشر، إلا أنه من المهم التأكيد على أن النمو في المعرفة الخلقية يلزمه قدرة معرفية مناسبة في الفرد أيا كان ذلك النمو.
2- الخبرة الاجتماعية القائمة على المساواة:
ويرى أن التفاعل الاجتماعي بين الرفاق القائم على المساواة هو المصدر الرئيسي لإدراك أن أخلاقيات التعاون هي أساس العلاقات الاجتماعية المتناغمة وهي التي تحقق الانسجام بين أفراد المجتمع، وأشار بياجيه إلى أنه إذا أعطى الوالدان الطفل شعورا بالمساواة بتأكيد التزامات كل فرد ومظاهر عجزه، وأن يقوما بالوعظ عن طريق القدوة فإنهما يدفعان الطفل إلى الترقي على سلم النمو الخلقي، وهذا المنحى في تربية الأطفال يؤكد القيمة الكبرى للنمط غير التسلطي في التربية.
3- الاستقلال عن سلطة الكبار القسرية:
حيث يعتبر أن الاستقلال المتزايد على سلطة الكبار- التي تعتبر قسرية وإكراها- سبب ونتيجة لتزايد إقبال الطفل على أخلاقيات التعاون، وبالتالي يقهر التمركز حول الذات ويقبل أكثر على التعاون بين الأقران، ومعنى هذا أنه كلما زاد استقلال الطفل عن سيطرة الكبار كلما زاد انطلاقه وإخلاصه لمبدأ التعاون بين الأقران الذي يؤكد هذه الاستقلالية. ومعنى هذا أن الاتجاهات الوالدية القسرية والمتطرفة في القسر ترتبط ارتباطا سالبا بالنمو الخلقي السليم.
وإذا كان ثمة اتفاق بين الباحثين على ما نادى به بياجيه في كثير من آرائه مثل: تأكيدهم أن الطفل- وهو لا يمكن أن ننظر إليه كبالغ- تنقصه جرعة من التلقين والإرشاد. وأن ما يبدو عدم نضج حين ننظر إلى الطفل قد
__________
(1) المرجع السابق، ص 49، وماجد عرسان الكيلاني، ص 23.(1/124)
يعتبر نموا سويا ناضجا إذا ما نظرنا إليه في الإطار العام للنمو. وأن الأحكام الخلقية التي يصدرها الطفل لا توجد في مناخ اجتماعي أو ثقافي رغم ما يبدو من تلقائية نحوها، وإنما تخضع للمؤثرات الثقافية والاجتماعية في معدل نموها وهيئة تواجدها، والأبعاد التي تظهر فيها، إلا أن الفكر الخلقي لا ينمو ككل، وإنما كجهات متفرقة، وهذا ما لا يمكن أن نستخلصه من فكر بياجيه ولا من كتبه «1» .
ولا نريد أن نعرض أسماء بعض أصحاب نظريات كثيرة في هذا المجال، ولكن نكتفي بسرد بعض أسماء بعض أصحاب النظريات التي اشتهرت في هذا المجال والتي منها:
- نظرية كولبرج «2» .- نظرية رست «3» .- نظرية بل «4» .
- نظرية دامون.- نظرية ايزنبرج.- نظرية البيئة الاجتماعية «5» .
ونكتفي بهذا العرض الموجز للنظريات التي حاولت تفسير تكوين السلوك الخلقي والأخلاقيات لدى الأفراد والأطفال، وقد كان لها تطبيقات جيدة في مجال التربية الخلقية.
نظرة نقدية:
بالرغم من كثرة الآراء المتعلقة بالنمو الخلقي في الغرب، إلا أنّ الوضع يوحي بضعف شديد في التربية الخلقية، فتزعزعت القيم الجديدة، وهي مشتقة من عالم المال وأصحابه، وأصبحت الدراسة التقنية الفنية، وأرباب الإدارة والتنظيم، الذين لا يهمهم إلا تغليب قيم الكسب المادي، والربح، والاستثمار الأقصى للموارد المادية والبشرية. وقد خلت تلك القيم من القيم الإنسانية الرفيعة، وأصبح الإنسان صاغرا أمام سلطان الآلة وغدا العالم في ضياع خلقي وقيمي، حتى إن الإنسان- وعلى لسان علماء الغرب- يتساءل: هل هناك حاجة إلى قيم؟ أو ليس من الممكن أن يقوم عالم إنساني بلا أخلاق وبلا قيم؟ بل يذهب المنكرون للقيم والأخلاق إلى أن تمسك الإنسان بقيم خلقها المجتمع هو ضرب من الامتهان لقيمة الإنسان نفسه، وشكل من أشكال الطغيان على حريته، ولون من ألوان التسلط على الإنسان.
إن الذي نريد إبرازه هنا هو أنه على الرغم من انتشار النظريات والمذاهب الأخلاقية، إلا أن هناك نظريات تنكر الأخلاق، وهي أوسع انتشارا وهذا دليل على تدني الأوضاع القيمية والضياع القيمي في العصر الذي نعيشه،
__________
(1) محمد رفقي، ص 62- 69. (بتصرف يسير) .
(2) راجع نظريته فى المرجع السابق، ص 76- 89، وماجد عرسان، ص 24- 32.
(3) راجع نظريته فى محمد رفقي، ص 101- 110.
(4) راجع نظريته فى ماجد الكيلاني، ص 32- 40.
(5) راجع محمد رفقي، ص 135- 158. ولم نحدد الأسماء لشهرتها بهذا الاسم.(1/125)
وهذا بالتأكيد تجن على فطرة الإنسان، وانحطاط به إلى مستوى الحياة العضوية والغريزية الحيوانية.
والذي نعرفه ونؤمن به وما يؤمن به أصحاب التأمل في الواقع والتاريخ، وما تدل عليه الدراسات المنصفة:
«أن الإنسان بالتعريف كائن ذو قصد وهدف، وأنه لا يستطيع الحياة بلا هدف يؤمن به، وأنه يزداد رقيا في معارج إنسانيته حين يجد الرسالة التي يؤمن بها والتي يكتسب وجوده الإنساني من خلالها معناه أنه كما يدل الواقع وكما تدل الأبحاث لا يستطيع أن يلصق بحمأة الأرض ويحيا حياته البيولوجية المحضة ما لم يتخلّ عن إنسانيته، إن صح أنه في وسعه أن يتخلى عنها، أي عن طبيعته التي جبل عليها بوصفه إنسانا، أي كائنا ما هو بالملاك ولا هو بالشيطان، بل هو عوان بينهما، تتوق طبيعته الإنسانية الملكية دوما إلى التغلب على طبيعته الحيوانية والشيطانية، وهذا هو الذي يفسر ما يتعرض له إنسان العصر الحديث من اضطرابات وأمراض في حياته النفسية حين يجرب التنكر لطبيعته الإنسانية عن طريق تنكره للقيم الإنسانية، ولا نغلو إن قلنا إن الطبيعة الإنسانية حين ينكرها إنسان العصر الحديث ظنا منه أن في وسعه أن يغيرها أو يتنكر لها، تنتقم لنفسها عن طريق وقوعها في الاضطراب والتفكك والحيرة، أي عن طريق احتمائها بالمرض «1» . حيث إن جميع الشواهد تدل على أن التدخل المنافي للطبيعة الإنسانية في نمو الشخص، أثناء الطفولة وبعدها، هو أصل الأصول في المرض العقلي والاجتماعي عامة والتدمير خاصة «2» .
ويشهد على فقدان القيم، وتدني المستوى الإنساني، أن أسلوب العيش المرتكز على التملك والأنانية، والسلوك الذي يتركز حول الملكية والربح يؤكد الأنانية المنوطة والفردية المفرطة، فهو لا بد وأن يخلق الرغبة، بل الحاجة إلى القوة، فمن أجل السيطرة على كائنات بشرية أخرى، يحتاج الإنسان إلى استخدام القوة لتحطيم مقاومتهم، ولإحكام القبضة على ما استولينا عليه من ممتلكات خاصة فهو بحاجة لاستخدام القوة لحمايتها من الذين يمكن أن يأخذوها، لأنهم- والحال من بعضه- لا يمكن أن يقنعوا بما عندهم والرغبة في الحصول على أعلى ملكية خاصة وأكبرها تولد الرغبة في استخدام العنف من أجل سرقة الآخرين بوسائل سافرة أو خفية مما يؤكد الأنانية والفردية المطلقة «3» .
ويتبع نزعة التمركز حول الذات والأنانية نزعة التميز عن شيء واحد ووحيد هو المتعة الفردية، والبحث الضيق عن المتعة الفردية المباشرة (اللذة الجنسية غالبا) وشيوع الأمراض النفسية الجنسية، والأمراض الجسدية الصحية، واضطرابات خطيرة في السلوك الجنسى، وانتشار المخدرات والعنف والإرهاب وما إلى ذلك من أمور
__________
(1) عبد الله عبد الدايم، نحو فلسفة تربوية عربية، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1، 1991 م، ص 239.
(2) أريك فروم، الإنسان بين الجوهر والمظهر، ترجمة سعد زهران، مراجعة وتقديم لطفي فهيم، عالم المعرفة، العدد (140) أغسطس 89، ذو الحجة 1409 هـ، ص 83.
(3) المرجع السابق: ص 83 (بتصرف يسير) .(1/126)
تؤكد النزعة الأنانية المفرطة.
ومن مظاهر الاضطرابات الناجمة عن فقدان القيم الروحية والسند الروحي، انتشار اللجوء إلى السحر والشعوذة طلبا للشفاء من الأمراض الاجتماعية والنفسية بل مساعدة أصحاب الأعمال على تنظيم أعمالهم وغير ذلك من أمور «1» .
وتتعدد أشكال فقدان القيم الخلقية في المجتمع الغربي المعاصر، مما يدفعنا إلى القول بأن هذه النظريات في تكوين السلوك الخلقي تكاد تكون قد فقدت فعاليتها في واقع الحياة، بالرغم من تحقق مكاسب واضحة في المجال المادي وإن كان لهذه المكاسب انعكاسات على روح الإنسان وعقله وفكره، ومظاهر إيجابية من القيم الجيدة التي يرتكز عليها.
ثانيا: منهج الإسلام في تنمية القيم الخلقية:
لعله قد ظهر لدينا الآن ضرورة ملحة لطرح منهج الإسلام في تنمية القيم الخلقية لدى الإنسان المسلم وهذا المنهج بأصالته وربانيته استطاع أن يساعد على اكتساب الأخلاق الإسلامية واستمرارها استمرارا مشهودا، وسيادتها في حركة الإنسان المسلم الصادق، وبداية لا بد أن نقرر مجموعة من المبادىء الأساسية التالية:
1- إن تنمية القيم الخلقية لدى المسلم تعتمد على فطرة الإنسان وما زود به من استعدادات فطرية للتعلم والتخلق، ثم يأتي بعد ذلك عملية اكتساب الأخلاق من المجتمع المحيط في إطار التنمية المتكاملة المتوازنة لكامل شخصية الإنسان من خلال الجوانب الروحية والوجدانية والعقلية للإنسان وحواسه، وعلى ذلك فإن على التعليم والتربية أن يقدما الزاد لتنمية الإنسان من كافة النواحي، على صعيدي الفرد والجماعة وأن يحفزا هذه الجوانب كافة إلى الخير وطلب الكمال «2» .
وهذا يعنى أن الجهد التوجيهي التربوي ينصب على كافة جوانب الشخصية الإنسانية وعلى التكامل بين المعرفة والسلوك، وينبغي للإنسان أن يعرف كيف يمزج بين المعرفة والعمل في إطار كلي، وبذلك تزداد خبرته وتجربته بالممارسة التي تعدل وتنسق الكثير من خبراته «3» .
2- إن وجود القيم الخلقية والمباديء العليا والأهداف السامية ضروري لتوجيه حياة الإنسان توجيها
__________
(1) راجع: عبد الله عبد الدايم، مرجع سابق ص 240.
(2) سيد على أشرف، آفاق جديدة في التعليم الإسلامي، ترجمة أمين حسين الرباط، السعودية، عكاظ، 1404 هـ/ 1984 م، ص 28، 29.
(3) محمد النقيب عطاس، التعليم الإسلامي أهدافه ومقاصده، ترجمة عبد الحميد محمد الحديبي، سلسلة التعليم الإسلامي، عكاظ وجامعة الملك عبد العزيز، 1404 هـ/ 1984 م، ص 14.(1/127)
صحيحا يضبط حركته سليمة صحيحة، فالإنسان لكي يجعل نفسه في صورة إنسانية مرضية ينبغي أن يكون له في حياته أسلوبه الخاص الذي يميزه عن غيره، ويتمثل ذلك في مجموعة من القواعد الخلقية، والمثل العليا التي يلزم نفسه بها ويسير على منهاجها طوعا وتزيد فرادته في قوة خلقه ومثابرته في التمسك بها، وعندما ينعدم وجود هذه المباديء والمثل تفقد الحياة دوافعها ومعانيها، بل تبدو راكدة غير منتجة، ويضمحل الإنسان وتهمد إرادته بافتقادها الهدف والمبدأ والخلق والقيمة.
وهذا يعطينا مؤشرا هاما على أهمية القيم الخلقية في بناء الإنسان، وكذا أهميتها كمصدر من مصادر الأهداف التي ترتجى وتؤمل في نمو الشخصية المسلمة في المجتمع.
3- إن هذه القيم والمباديء والأهداف تحتويها ثقافة المجتمع المسلم باعتبارها الإطار المرجعي لكافة سلوكيات الفرد والجماعة، وهي التي تمثل القيم والأخلاق والمهارات والأذواق وما إلى ذلك مما يكتسبه الإنسان وتشكل شخصيته القيمية والأخلاقية.
وهذه الثقافة تقوم على مبدأ التوحيد حيث تشتق منه وتدور حوله كافة القيم الإسلامية باعتبارها معايير واقعية توجه جميع أفعال الفرد في مختلف المواقف الفردية والاجتماعية، وباعتبارها تصورا للمعاني الكلية المسئولة عن الأحكام التي يصدرها الفرد على أي موضوع أو موقف، ويرى الفرد فيها شيئين: الحق والخير، وهذه لا تتم إلا بالاتصال بين الأجيال.
إن التوحيد، ومجموعة الأحكام المعيارية بما فيها الأخلاق لا يتحققان إلا في ثقافة هيئة اجتماعية وفي ذوات إنسانية، فالفرض يكتسب قيمه الخلقية من المصدرية الجماعية، ومن خلال التفاعل مع الجماعة يمتص الفرد القيم الخلقية وتنمو لديه الأحكام الخلقية، ويحرص المجتمع الحرص الشديد الأكيد على إكساب الفرد القيم الخلقية، حتى تصبح سمة من سمات شخصيته بل إنها في الحقيقة تعتبر الأساس الجوهري لبناء شخصيته.
4- إن تنمية القيم الخلقية لدى الإنسان المسلم تعتمد على تكوين الوازع الداخلي في الفرد منذ الطفولة الأولى حيث يؤمن الفرد بالقيم، ويكتسبها ويتشربها ويضيفها إلى إطاره المرجعي للسلوك، ويتم ذلك من خلال التنشئة الاجتماعية، وعن طريق التفاعل الاجتماعي يتعلم الفرد أن مواقفه يجب أن تتسم بالخلقية وذلك حتى يشارك في حياة المجتمع بفاعلية.
وبعد فإن منهج الإسلام في تكوين القيم الخلقية يتأتى كما يلي:
باستطلاع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، تطالعنا طريقة فذة في معالجة القيم الخلقية من حيث تكوينها لدى الفرد المسلم والجماعة المسلمة. وقد أتى الإسلام لا ليصطدم مع الطبيعة البشرية بل ليضبطها، ويفجر أحسن ما فيها، وقد أقام السلوك على أساس خلقي ضابط بوعي واختيار واع وذلك كما يلي:(1/128)
1- اهتم القرآن الكريم في مرحلته المكية ببناء الإيمان في نفوس الناس، والدعوة إليه بكافة الوسائل، وذلك بلفت النظر إلى خلق الله، والتأمل فيه، للاستدلال على الخالق- عز وجل- والإيمان به، والتصديق بما أنزله على رسوله.
وقد عرضت الآيات الواردة في هذا المجال: سنة الله في الأسباب والمسببات، سنة الله في جزاء من اتبع هداه، سنة الله في حال الإعراض عنه، سنة الله في التدافع بين الحق والباطل، سنة الله في الابتلاء والفتنة، سنة الله في الظلم والظالمين، سنة الله في الترف والمترفين، سنة الله في الطغاة والطغيان، سنة الله في بطر النعمة وتغييرها، سنة الله في الذنوب والسيئات، سنة الله في الاستدراج. وغير ذلك من سنن عرضها القرآن في قصصه أو في آيات منفصلة، بهدف تعريف الناس بكيفية السلوك الصحيح في الحياة، حتى لا يقع الإنسان في الخطأ والعثار والغرور والأماني الكاذبة.
إنها الدعوة الكاملة إلى الإيمان الكامل الصحيح، وقد يصاحب بيان ذلك في الآيات ذكر الجنة والنار، والثواب والعقاب، ليحرك في النفس عاطفة الخوف والإحساس بالأمن، وهو في ذلك يريد أن يحرك في الإنسان الإحساس بالأمان النفسي والشعور بالحماية الإلهية في ظل الإيمان، وفي الوقت نفسه يعطيه الثقة بنفسه، وبأنه مكرم ومؤهل لحمل أمانة الوجود، وحمل أمانة التكليف.
فهي تستثير في الإنسان أقصى طاقاته الإنسانية لتسمو بها وتضعها على الطريق السوي السليم المنشود من الإيمان «1» . وتحويل الإنسان من التبعية الذليلة في كل شيء من جنبات حياته للطواغيت الكفرة والفجرة، إلى آفاق العزة والكرامة وتحقيق الإنسانية الكريمة وذلك ببث روح القوة والتخلص من العجز والاتكالية وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «2» .
2- وقد صحح القرآن علاقة الإنسان بما حوله بأن جعلها علاقة تعاطف وتعارف، فلا عبودية لها ولا تأليه، ولا استهانة ولا إنكار، وقد ربى القرآن الإنسان على حضور واع، واتخذ في هذا السبيل طرقا مختلفة لعملية التصحيح هذه، وهي لازمة لتكوين قيم صحيحة سليمة، وكان أول ما قام به هو تصحيح علاقة الإنسان بالله الخالق الراعي لخلقه المعتنى بهم، الرحيم، المبدع، التواب. وهو الواحد؛ غرس في نفس المسلم التوحيد، الذي دفع الإنسان إلى حب الخير وفعله، وتجنب الشر وكراهيته، وبالتالي كانت العلاقة بين الإنسان والله طريق الإنسان إلى الكمال، وكانت طريقا إلى امتلاء قلب الإنسان بالولاء والانتماء إلى الله وحده، ومنهجه الذي إذا تمسك به الإنسان أصبح إنسانا فاضلا يسارع إلى فعل الخيرات، ويبتعد عن فعل الشر، وبالتالي يتصف الإنسان بمكارم الأخلاق، ويتشبه بأخلاق الله تعالى من حيث الاتصاف بالكمالات والتنزه عن النقائص، ويصبح مجتمعه كله ذا أخلاق
__________
(1) اقرأ الآيات: 10 من سورة لقمان، 53 من سورة طه، 7 من سورة الشعراء والواقعة.
(2) آل عمران: 139.(1/129)
دينية، تسوده مكارم الأخلاق.
وكان ذلك منطلقا لتصحيح كافة العلاقات الأخرى بما حول الإنسان ومن حوله، وما دام الإنسان قد آمن موحدا وتولدت في نفسه حالة العبودية الكاملة لله وحده، فإن ذلك ينعكس على علاقاته بالأشياء حوله، وعلى كافة مكونات حياته؛ ذلك أن الإيمان الصحيح هو أكبر القيم الخلقية الدافعة للإنسان في مجرى الحياة الصحيح الموصل للسعادة.
ومن هنا تنبع مجموعة من القيم الخلقية الفذة النابعة من توجيه التوحيد، كحالة نفسية، وضرورية للتعايش مع الكون والعالم ومصادقة قوى الطبيعة، ودراستها وفهمها، واكتشاف أسرارها لتضفي قيمة عليا على العلم والبحث العلمي بالمعنى الواسع للكلمة.
ثم هو لا يذوب في الطبيعة المادية ولا يعاديها، لكنه لا بد أن ينفصل عنها إلى عالم التوحيد المطلق والمجرد، فالطبيعة ليست مقصودة لذاتها، وهي ليست ثابتة، بل هي متغيرة ومتقلبة، ومن حق المسلم أن يتجاوزها بعد أن يكتشف فيها لغة التسبيح لله. وفي هذا الذي أقره الإسلام ووجه إليه تحقيق سام لإنسانية الإنسان، لأن الإنسان بهذا يتحرر من عبودية أي شيء سوى الله تعالى، ويتخلص من قلقه المرضي؛ لأن المنهج الإسلامي يضع الإنسان حيث يجب أن يوضع، مخلوقا ذا رسالة سامية في هذه الحياة «1» .
3- وصحح القرآن علاقة الإنسان مع نفسه ثم مع من حوله من الناس، وذلك بعد أن ضبط حركته بقيم خلفية معينة تجاه الخالق والأشياء، والآيات المدنية تأتي لبناء الإرادة الإنسانية وتكوين القيم السليمة لعلاقات الإنسان بنفسه، وبالإنسان في مجتمعه، وللجماعة كلها بعد أن قام البناء الإيماني في نفس المسلم.
وكثيرة هي تلك القيم الفاسدة التي كانت موجودة عند العرب وفي العالم، واستطاع الإسلام بتوجيهاته أن يقضي عليها، ويحولها إلى قيم إيجابية صحيحة على أساس من الإيمان الصحيح الخالي من الشوائب.
وقد اهتم القرآن كثيرا بتوضيح الانحرافات الخلقية التي يمكن أن توجد في المجتمع المسلم، فاهتم بإيضاح حقيقة النفاق وعدّها انحرافا نفسيا يسهل الوقوع فيه؛ لأن الإنسان المسلم- تحت الظروف المستبدة- قد يعيش حالة مزيفة، إنه يصبح ضد نفسه أحيانا، ويحبس حركتها الحرة في التنقل من حالة إلى حالة، ويوقف تيارها الداخلي وهذا مرض نفسي، يجمد حركة الإنسان، ويحرمه من الحركة الحية، ويصيبه بالخواء والزيف والخداع، وقد صور القرآن حالة المنافقين في آيات كثيرة منها:
__________
(1) عبد الغني عبود: العقيدة الإسلامية والأيدولوجيات المعاصرة- الطبعة الأولى- القاهرة- دار الفكر العربي، 1976 م ص 143.(1/130)
- فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً «1» .
- إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
«2» .
- وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ «3» .
- مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ* أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ* يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «4» .
إن القرآن يعرض النفاق كطبيعة منحرفة وسلوك مريض، ويشخص هذا المرض ويحلله ويتحدث عنه باستفاضة وعن مضاعفاته ونتائجه، وقصده من ذلك التحذير منه، ومن النتائج الخطيرة التي تترتب عليه، فهي نتائج تصيب الإنسان في وجوده الذي يرتبط بالصدق والحرية والتجدد، فيتحول وجوده إلى زيف وجمود وهراء «5» .
ومن هذا المنطلق حارب البخل والجبن في نفس الإنسان، وحارب التواكل الذي يحيل الإنسان إلى طفل لا يستنفر ذاته، وإنما يعتمد على الآخرين في حل مشكلاته، وفي حربه تلك يجعل المسلم يجابه الواقع ويتحمل المسئولية، ويبتعد عن كل شيء يصادر تلك المسئولية «6» .
لقد علم الإسلام المسلم أن يؤمن بوجود قوة عليا، وأن يستفيد من إمكانياته واستعداده للإيمان بالغيبيات فضبطها، بحيث لا يصل إلى التصادم مع الأسباب والمسببات. وعلمه القرآن أن الحق يبطل السحر، وأنه ليس بإمكان أحد أن يضره إلا بإذن الله، وأن التلصص على السماء لسماع الغيب قد بطل منذ بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأن الشفاعة لا تنفع إلا لمن أذن له الرحمن، وقد كان ذلك كله إيذانا بتصحيح علاقة الإنسان بنفسه، فلا يخور ولا يجبن ولا ينافق ولا يدع الأسباب «7» . وكان أيضا إيذانا بتصحيح علاقة الإنسان مع الآخرين، وانطلق المسلم بالدعوة الإسلامية إلى مرحلة العالمية.
4- وأتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بناء القيم الخلقية في النفوس المسلمة، وكانت طريقته في ذلك أبدع ما تكون الطريقة، وأساليبه أشهر ما تكون وأعظم، في ضربه المثل الأعلى والقدوة الصالحة من ذاته، في نفسه، وفي مجالسه،
__________
(1) البقرة: 10.
(2) النساء: 142.
(3) المنافقون: 4.
(4) البقرة: 17: 20.
(5) عبد الحميد إبراهيم: الوسطية العربية، الكتاب الأول، المذهب، الطبعة الثالثة، القاهرة، دار المعارف، 1990 م، ص 157.
(6) المرجع السابق، ص 157، 159، واقرأ: الإسراء: 93- 95.
(7) المرجع السابق، ص 160.(1/131)
وتوجيهاته، وأفعاله، وأقواله، وباستخدام كافة الطرق لاستثارة إمكانيات الإنسان من أجل تمثل القيم الخلقية، والأمثلة على ذلك كثيرة في مواقف الرسول صلّى الله عليه وسلّم، نذكر منها- على سبيل المثال- ما يتعلق بمجلسه صلّى الله عليه وسلّم، فقد كان- كما جاء في حديث هند بن أبي هالة: «مجلس حلم وحياء، وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبّن فيه الحرم، ولا تثنى فلتاته، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، كان دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخّاب في الأسواق، ولا فحّاش ولا عيّاب ولا مدّاح ولا يقبل الثناء إلا من مكافيء» .
ولا عجب أن نجد في أثناء حياته صلّى الله عليه وسلّم وبعدها مجتمعا إسلاميا ملتزما، وفردا مسلما ملتزما توجهه قيم خلقية صحيحة في كافة نواحي سلوكه المختلفة. ونجد الأفراد في المجتمع الإسلامي أصحاء أزكياء مبدعين ملتزمين بالإسلام.
ثالثا: كيفية تكوين القيم الخلقية:
لتكوين القيم الخلقية عمليا- وبالوسائل السابقة، وعلى أساس القدوة الحسنة- نجد أن هناك عدة مراحل هامة، وقد استنبطنا بعضها من أسلوب عرض القرآن، واستعنا ببعض القراءات في هذا المجال، وهي كما يلي:
1- عرض المواقف الخلقية لجذب الانتباه إليها:
لقد عرض القرآن مواقف خلقية كثيرة، وذلك لجذب انتباه الإنسان، وإيقاظ إحساسه بالقيمة الخلقية وهنا تستخدم كافة الإمكانيات في سبيل هذا العرض بقصد الاستحواذ على انتباه المسلم. ويعتبر هذا درجة أولى لتكوين الوعي بها، وإثارة الرغبة في الترقي لتتم عملية تركيز الانتباه، ويظهر الإنسان نوعا من الاهتمام تأتي بعده الاستجابة النشطة الطوعية النابعة من داخله.
ومثال ذلك: قيمة الصلاة، حين نريد تكوينها في نفس الناشيء الصغير، فإنه لا بد من جذب انتباهه باستثارة حواسه، والسلوك الفعلي أمامه، بحيث نبين له أهمية الصلاة مرة بعد مرة، بحيث يبدأ تكون الوعي لديه بها، ويتطلب هذا إطلاع الناشيء على أهمية الصلاة وكيفية أدائها دون تمييز محدد أو إدراك للخصائص الموضوعية لها، بمعنى أنه لا بد من إتاحة وتهيئة
جو يظهر اهتمام الناشيء بالقيمة فيصحبه إلى المسجد وبغير قصد وعن طواعية من الناشيء، وبالتالي يمكن- وبهذه الطريقة المبسطة التي تحترم إنسانية الناشيء وتجذبه في جو تعاوني تعاطفي- أن نغرس قيمة أداء الصلاة في نفسه.
2- موقف التقبل الواضح وتعزيز هذا التقبل:
فحيث يظهر الإنسان تجاوبا معينا مع القيمة والوعي بها فإنه لا بد من مصاحبة ذلك بقول لطيف مشجع يحرّض على ذكر هذه الاستجابة الطيبة التي تكاد تظهر إلى حيز الوجود الفعلي دون إشارة إلى ضعف ممكن،(1/132)
وبهذه الخطوة يمكن القول إن القيمة أصبحت متمثّلة بدرجة كافية من العمق بحيث يمكن أن تصبح قوة مسيطرة باستمرار على السلوك، ومعنى هذا أن الإنسان تتكون لديه رغبة مستمرة في تطوير قدرته على الالتزام بالقيمة.
وقد أشار القرآن إلى هذه الخطوة، حيث يثير الانتباه إلى حضور الله العليم المطلع على كل ما يأتيه الإنسان:
وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (البقرة/ 215) . الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
(الشعراء/ 218) .
إن دفع الإنسان نحو انطباع معين- وهو أن يجد في هذه الفكرة ما يحفزه حقا لدعم جهوده، وتغذية طاقاته، وترقية نفسه، ومضاعفة ما يقتضيه من ذاته وذلك من أجل المحافظة على جودة أعماله وطهارة نواياه، يقتضي أن يجد فيه ما يتقبله ليدفعه إلى أن يأتي دائما بالجديد وبالأفضل.
إن أفضل شيء يعزز هذا التقبل للقيمة هو دفع الإنسان إلى التفكير في صلته بالله لحظة العمل، حيث إن لهذا تأثيره على إرادة الإنسان، ليضاعف ذلك من حماسه، ويكمل عمله وبالتالي يتحقق ثبات القيمة، وتحقيق التقدم المطرد في سبيل تعزيز القيمة، وليس هناك أعظم من الحب في تثبيت هذا التعزيز، وهذا الشعور بالحب يولد شعورا بالارتياح وبالقوة البناءة «1» .
ونجد ذلك ملخصا في قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين سئل: ما الإحسان؟ «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» «2» .
3- موقف تفضيل القيمة الخلقية:
ويظهر هذا الموقف من خلال التزام الفرد بالقيمة لدرجة تجعله يحرص على القيمة ويسعى وراءها ويريدها، وهنا تظهر استجابات معينة تعبر عن هذا التفضيل، حيث يسعى إلى تكوين أرضية واسعة عنها، ويمكن أن يتعدى ذلك إلى الكتابة عما يشعر به إزاءها.
وهنا يتدخل المربي من أجل زيادة العمل التوجيهي، ولا يجوز أن يكون هذا العمل صريحا بل ضمنيا عمليا. ذا رزانة وبرفق وأناة مع إتاحة فرصة أوسع للناشيء لإظهار استجابات أوسع وبتفكيره الذاتي المستقل «3» .
4- موقف الالتزام بالقيمة:
في هذه المرحلة- وبعد استخدام كافة إمكانياته- يصل الفرد إلى اليقين، بل إلى درجة عالية من اليقين فيصل إلى اقتناع عال وتأكد لا مجال للشك فيه، وإيمان راسخ بضرورة هذه القيمة، ومن ثم التقبل الوجداني
__________
(1) محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن، ص 323، 324.
(2) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، حديث رقم 50- فتح الباري، طبعة المكتبة التجارية، ج 1، ص 157.
(3) راجع: على خليل مصطفى: القيم الإسلامية والتربية، مرجع سابق، ص 84.(1/133)
الكامل، فيعمل الفرد لتقرير القيمة وتأكيدها، وتتعمق مشاركته في هذا التقرير والتأكيد، كما يبحث عن أشباهه المؤمنين بهذه القيمة والملتزمين بها فيشاركهم أنشطتهم وتعبيراتهم، إلا أنه يجب أن نعي عدة أمور هامة، وهي:
- أن الالتزام ليس مجرد قدرة عاطفية وقتية عابرة، أو مجرد حماس يوجد ويتلاشى لتحل محلها عاطفة مؤقتة أخرى. إن الالتزام يعني استمرارا عاطفيا لتأكيد الالتزام. إنه يأخذ شكل العاطفة الثابتة.
- أن اعتناق الفرد لخلق معين فترة طويلة من الزمن لا يدل على الالتزام به، إذ لا يكون قد بذل فيه جهدا عاطفيا من طاقة الفرد العاطفية بحيث يتم الالتزام، وإنما لا بد من استغلال أكبر قدر ممكن من طاقة الفرد العاطفية وتشغيلها بطريقة فعالة حتى يتم الالتزام الحقيقي.
- أن الأعمال المؤيدة للقيمة تعد أمرا مهما، وهذه الأعمال إما أن تهيّأ في البيئة المحيطة أو من إتاحة مناخ تظهر فيه هذه الأعمال من الفرد؛ لأنها تدل على وعي والتزام بحكم طبيعتها «1» .
وفي هذه المرحلة- أيضا- يعبر الفرد عن اعتقاده بقيمة خلقية في سلوكه العلني البراني المترتب على القناعة الجوانية، بمعنى إلزام المرء نفسه، وتعهده بانتهاج خلق معين.
ولزيادة درجة الالتزام في تنمية القيمة الخلقية يمكن استخدام واحد أو أكثر من العناصر التالية:
- توضيح الفعل الخلقي- صالحا أو طالحا- بمعنى توضيحه وخلوه من الغموض.
- إبراز أهمية الفعل الخلقي الصالح.
- إبراز تعذر الرجوع في الفعل الخلقي الصالح أو الطالح.
- تكرار مواقف السلوك الخلقي.
- إتاحة فرصة الاختيار والحرية أمام الملتزم في إقدامه على الفعل الخلقي.
وبهذا يمكن تأكيد الالتزام وزيادة درجته بحيث تقوى وتتأكد لدى الشخص، ونجد هذه الملامح الأساسية من خلال نصوص القرآن والسنة النبوية المطهرة.
5- وضوح التنظيم القيمي الأخلاقي:
ويعني هذا ترتيب القيم الخلقية في نظام ترتيبي معين أو في نسق معين، ويظهر ذلك في أنه حين يأخذ الفرد في تمثل القيم الخلقية بصورة متتابعة، يواجه العلاقة ذاتها بأكثر من قيمة واحدة، وهنا تنشأ الضرورة لأمور ثلاثة، وهي:
- ضرورة تثبيت القيم في نظام تتابعي أو نسق واحد.
- تحديد العلاقات المتبادلة بين هذه القيم الخلقية وبين المواقف الحياتية المختلفة.
__________
(1) المرجع السابق، ص 85.(1/134)
- إبراز القيم المسيطرة ذات اليقين العالي عند الفرد.
- وهنا يأتي التجريد للأحكام الخلقية المعلنة، ويكون التعبير عنها في صورة رمز أو عمل، ومن خلال عملية التجريد هذه يقوم الفرد بتحديد الأشياء العامة المعتمدة على التحليل والمفاضلة، حتى يصل إلى تنظيم معين لقيمه، مكونا أحكامه- بناءا على الخطوات السابقة- على الأشياء والعلاقات حوله. وهنا لا بد أن يتصف المرء بالمرونة الأخلاقية، التي تعني القدرة على صياغة قواعد أخلاقية مرنة. وحيث تفيده في التعرف على المبدأ الأخلاقي الكامن وراء التعليمات والقوانين وهذا من الأمور المهمة.
6- التميز الخلقي والفعالية الأخلاقية:
وهذه مرحلة أخيرة حيث يصبح الفرد متميزا، ويصل إلى التصرف السلوكي الذاتي طبقا للقيم التي تمثلها والتي أصبحت تسيطر على أفعاله وتصرفاته وتراقبها، فهي تقوم بدور المراقب على قدر كبير من سلوك وتصرفات الإنسان، إذ يمكن وصفه وتقديره عن طريق هذه القيم الأخلاقية.
وهنا يكون طابعه تطبيق المباديء الخلقية التي آمن بها في مواقف وسلوكيات حياته بفعالية وإيجابية وإقبال، حيث يكون الفرد قد دمج قيمه وأفكاره ومواقفه واتجاهاته في رؤية متكاملة تشكل علاقته مع العالم المحيط به، واستجاباته الدائمة والثابته تجاه المواقف والأشياء بصورة مترابطة، أي تشكل توجها سلوكيا أساسيا يمكن الفرد من الاستجابة لمواقف العالم المحيط والعمل بثبات وفعالية في هذا العالم.
ويرتبط بهذه النقطة ما يسمى بالإبداع الخلقي، حيث إن من يتصف بهذا الإبداع يتعامل مع كل موقف جديد بانفتاح كامل متوج بالحب والعقل، فهو يتعامل مع الناس بالحب، ويتعامل مع المشكلات بالعقل، وتنطلق لديه قدرات علمية وثقافية فائقة التصور. ومعنى هذا أنه لا يخضع خضوعا أعمى للأعراف والتقاليد، وإنما يتعامل معها بانفتاح ومرونة واستقلالية، ويبلور لنفسه ولمجتمعه قيما جديدة وأهدافا جديدة تتناسب مع طبيعة المجتمعات والتحديات التي تواجهها «1» .
7- موقف دعوة الغير إلى الالتزام بالقيمة:
طالما أن القيمة الخلقية قد ترسخت جذورها، وأصبحت ديدنا للإنسان لا يحيد عنه في مواقف الحياة المختلفة، فإنه- ومن منطلق إيماني- يدعو غيره إليها، ويحببه فيها بشتى الوسائل الممكنة، فالمؤمن لا يكتمل إيمانه إلا إذا أحب لأخيه ما يحبه لنفسه، يقول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» «2»
__________
(1) ماجد عرسان الكيلاني، مرجع سابق، ص 52.
(2) البخاري- الفتح (13) ، ومسلم 45، أنظر صفة الإيمان.(1/135)
وبهذا فقط تتحقق الخيرية المشار إليها في قول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (آل عمران/ 110) .
إن الالتزام الكامل الناتج عن اقتناع تام بهذه القيمة الأخلاقية أو تلك يشكل مطلبا أساسيا من متطلبات الدعوة إلى الله «1» ذلك أن المطلوب من الداعية أن تكون حياته وأخلاقه تطبيقا عمليا لعقيدته «2» . «3» .
__________
(1) انظر الدعوة والدعاة من القرآن ص 27.
(2) صفة الدعوة إلى الله.
(3) ولا يتحقق ذلك إلا بالاستقامة.(1/136)
الفصل الرابع وسائل تنمية الأخلاق الإسلامية
مقدمة:
لا يمكن لأي مذهب أو نظرية أو فكرة أن تترجم عن ذاتها، وتحقق أهدافها بدون وسيلة تمكنها من أن تتجسد في سلوك الناس.
وإذا كانت التربية الإسلامية- في هذا المجال- تقوم بدور عظيم، وهو تغيير أنماط من السلوك وبعض من الأخلاق التي تكبل المسيرة الصحيحة نحو أهدافها، إلى الأخلاق الإسلامية الصحيحة، وتخفيف حدة الصراع القيمي السائد، ذلك التغيير اللازم من وسط ومعطيات القيم الإسلامية، وما توحي به معطيات العصر المعقدة المتشابكة، ومتغيراته الثقيلة الشديدة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا- بالذات- وهو ما الوسيلة إلى ذلك؟
وما دور الوسائط التربوية المتعددة في هذا السبيل؟
والإجابة على هذا السؤال في ظل المعطيات السابقة تشكل تحديا حقيقيا، بل أمرا صعبا في ظل الوضعيات الاجتماعية السائدة، لأن الوسيلة لا يمكن أن تقدم، ولا يمكن تحديد دور الوسائط بعيدا عن تلك الوضعيات، لأنها البؤرة الحقيقية التي تنعكس عليها تلك الوضعيات.
ورغم هذا نحاول الاجتهاد استمدادا من الممارسات السابقة للمجتمع العربي الإسلامي، وخاصة في أزهى فتراته، فترة النبوة، لعرض الوسائل، وتحديد أدوار الوسائط في إطار من مراعاة متغيرات العصر وذلك في إطار تربوي عام لا يقتصر أو لا يقف عند مجرد الممارسات التدريسية أو التعليمية، ومن أجل تحقيق هذا الغرض، سنتعرض هنا للنقاط التالية:
- مفهوم الوسيلة التربوية.
- شروط الوسيلة.
- بعض وسائل تنمية القيم الإسلامية.
أولا: مفهوم الوسيلة التربوية:
الوسيلة: ما يتقرب به إلى الشيء، والجمع وسائل «1» ، ويقصد بها- تربويا- الإجراء المحدد لنقل المعلومات أو المعارف والمهارات أو الاتجاهات والقيم بهدف تحقيق هدف تربوي مرغوب فيه.
فإذا كنا نهدف- مثلا- إلى تنمية شيء ما، كالقيم فلا بد من إجراء نتخذه من أجل تحقيق هذا الهدف، ومعنى ذلك أننا اتخذنا لذلك وسيلة، قد تكون أسلوبا تدريسيا أو تربويا عاما.
فالوسيلة إجراء محدد يستخدم لتحقيق هدف تربوي، أما في التدريس فهي الأداة المستخدمة لنقل محتوى
__________
(1) الفيومي، المصباح المنير- بيروت- مكتبة لبنان- 1977، ص 253.(1/137)
الرسالة المرغوب نقلها للتلميذ، ووسيلة التعلم أداة يستخدمها المتعلم بهدف تسهيل عملية استيعابه لمحتوى الرسالة «1» .
ثانيا: شروط الوسيلة:
إن تكوين الأخلاق في الشخصية العربية الإسلامية بحيث لا تخرج عن خصائصها الأصيلة أمر بالغ الأهمية، وهناك ثوابت لابد أن تأخذ عناية كافية، بحيث تتكون الشخصية الحضارية المتميزة، وانطلاقا من هذا فإننا لا نستطيع أن نلغي القدرات البشرية الهائلة، والطاقات المبدعة فيها، والتي يمكنها أن تثري تلك الأخلاق فلا بد- إذن- من التكامل في بناء الشخصية الأصيلة المبدعة، لتكون الوحدة ثم التنوع، وحدة الهدف وتنوع الوسائل، بما يكون مصدرا من مصادر عن هذه الشخصية، وبابا من أبواب التفتح والانطلاق والنمو عن طريق الحوار والتبادل، والاختيار «2» .
ولا بد من التكامل بين الغايات والوسائل، وإذا كانت غاية الأخلاق الإسلامية تحقيق السعادة للبشر في الدنيا والآخرة من خلال تحقيق رضوان الله تعالى، فإن للوسائل التي تستغل في تنمية هذه القيم شروطها، المتمثلة فيما يلي:
1- أن تصطبغ بروح الإسلام، في إطار تعاليمه وأخلاقه.
2- أن تكون مرنة، متفتحة، قابلة للتكيف حسب الظروف والأحوال.
3- أن تربط بين الجوانب الفكرية النظرية والجوانب التطبيقية العملية.
4- أن تحترم الإنسان ورأيه ودوره ونشاطه في كسب هذه القيم.
5- أن تراعي الدوافع الإنسانية، والرغبات والأهداف التي تتوخاها العملية التربوية.
6- أن تحترم مبدأ تكافؤ الفرص، وتراعي الفروق الفردية بين المتعلمين.
7- أن تؤكد على مبدأ القدوة الصالحة.
8- أن تحرص على جعل عملية تعليم أو تعلم الأخلاق عملية سارة ومحدثة للأثر المطلوب منها «3» .
9- أن تراعي واقع المجتمع الإسلامي إمكانياته وأوضاعه، وما يحيط به من ظروف.
10- أن تراعي ما استحدث في مجال التعليم والتعلم وغيرهما من أفكار ومستحدثات صالحة.
__________
(1) حمدي أبو الفتوح عطيفة، أسلمة مناهج العلوم المدرسية- الطبعة الأولى- المنصورة- دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع-، 1407 هـ/ 1986 م، ص 126.
(2) محيي الدين صابر، من قضايا الثقافة العربية المعاصرة- الطبعة الثانية- بيروت- المكتبة العصرية- 1987 م ص 79.
(3) عمر محمد التومي الشيباني، «إعداد المعلم ودوره في تطبيق منهج التربية الإسلامية» - مؤتمر بحوث خبراء التربية الإسلامية- مكة المكرمة- 1399- 1400 هـ، ص 30.(1/138)
إن الوسيلة التي تنمي الأخلاق الإسلامية لا بد أن تكون نابعة من الإسلام ذاته، الذي حمل إلى العالم كله رسالة المدنية والتقدم، الذي لا يعارض التقدم العلمي والتكنولوجي بل يدفع إليه، ولذا سيظل هو وأخلاقه عامل تقدم ومعاصرة، لأنه مستقبلي، ولكي تحدث الوسيلة الأثر المطلوب فإنه من الضروري:
- تنقية العقيدة الإسلامية مما علق بها وشابها من زيف وجهل وابتداع.
- تنقية الثقافة الإسلامية- نظريا واجتماعيا- مما علق بها من أوهام ما زالت مسيطرة على أفكار الناس واعتقاداتهم، وتأكيد العقائد الصحيحة القائمة على الوحدانية، والعلم، والمعرفة، والعدالة والمساواة، والتفتح والقوة، وعمارة الأرض.
- توفير المناخ الصحي للقدرة الإسلامية أن تنمو، وأن تدعم الشخصية المسلمة، بأسباب التفتح والعطاء، لأنه من المهم «إطلاق طاقات المجتمع وتحقيق إرادته، وتحصينه ضد الخوف بأشكاله المختلفة» «1» ، مع الاهتمام بالفرد، وتوعيته بالقضايا المصيرية إسلاميا وعربيا «وحشد قواه وتمكينه من المشاركة فيها، مما يجعله أكثر التزاما بالمعاصرة، وأكثر اهتماما بالمستقبل» «2» .
إن هذا يعني أن الإسلام لا يعارض إطلاق بعض النظريات التربوية والنفسية المعاصرة، طالما لا تتضمن ما يتعارض مع تعاليمه، وأيضا فإنه يعني توجيه العديد من الأساليب التي يمكن استخدامها لتحقيق أهداف الإسلام من تنمية الأخلاق الإسلامية.
ثالثا: وسائل تنمية القيم الإسلامية:
لتنمية القيم في المجتمع الإسلامي وسائل عديدة ومتنوعة منها:
أ- العبادات:
العبادات هي الأسلوب العملي والوسيلة الأولى في التربية (أي عبادة الله حق العبادة) إلا أن العبادات ليست من وسائل التربية الروحية فقط، ولكنها من وسائل تربية الإنسان المسلم ككل، ففي العبادات تربية جسمية وتربية اجتماعية وتربية خلقية وتربية جمالية وكذلك تربية عقلية (انظر صفة العبادة) .
فالصلاة تربي الإنسان خلقيا وعقليا، فهي تربط الإنسان بالله، كما أنها تقوي إرادة الإنسان وتعوده على ضبط النفس والصبر والمثابرة» «3» يقول الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ «4» . (انظر صفة الصلاة) .
__________
(1) محيي الدين صابر (مرجع سابق) ، ص 85.
(2) المرجع السابق نفسه، الصفحة نفسها.
(3) محمد فاضل الجمالي: نحو توحيد الفكر التربوي في العالم الإسلامي، الدار التونسية للطباعة والنشر والتوزيع، 1972، ص 105.
(4) سورة العنكبوت، الآية (45) .(1/139)
وكان من دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم في افتتاح الصلاة «اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت» «1» كما أن تأدية الصلاة في أوقاتها «تعلم النظام والدقة في حفظ المواعيد، حتى إذا شب الطفل على إقامة الصلاة مع المحافظة عليها تعود الإقبال على العمل في الوقت المناسب، والمبادرة إلى انتهاز الفرصة قبل ضياعها، وابتعد عن التثاقل، وامتنع عن التكاسل» «2» . (انظر صفة الدعاء) .
وفي الصوم، تربية خلقية، والأثر التربوي للصوم يتلخص في تربية الروح، وتربية الخلق حيث يتعود الإنسان على ضبط نفسه ومكافحة شهواته وبذلك تتقوى الإرادة، يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «3» .
والصوم عبادة تتضمن التربية الخلقية، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم» «4» . (انظر صفة الصوم) .
وفي الزكاة تربية روحية وخلقية، فعن طريقها يتعلم الإنسان إطاعة الأوامر الإلهية ومكافحة الأنانية والإفراط في النزعة المادية والفردية» «5» . (انظر صفة الزكاة) .
والقرآن ينظم هذه الفريضة، ويجعل لها هدفا هو في غاية السمو «6» .
ب- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق:
القرآن الكريم يوصي ويفرض ضرورة التذكير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والصبر، يقول سبحانه وتعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ «7» ، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ «8» .
وإن التذكير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي من أساليب التربية الإسلامية التي بدت خلال أحاديث المربي الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وفي طريقة التواصي دعوة كل مسلم إلى أن يكون مربيا يعلم أخاه المسلم، والتذكير
__________
(1) أبو حامد محمد بن محمد الغزالي: إحياء علوم الدين، الجزء الثامن، كتاب الشعب، دار الشعب، القاهرة، د. ت ص 1430، 1431.
(2) أحمد فؤاد الأهواني: التربية في الاسلام، ط 2، دار المعارف بمصر، القاهرة 1967 م، ص 117.
(3) سورة البقرة، من الآية (183) .
(4) رواه أبو داود والترمذي: الشيخ منصور علي ناصف، التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ط 4، دار الفكر العربي، بيروت 1935 هـ، ص 16، 17. وقال محقق «جامع الأصول» (4/ 5) : إسناده صحيح.
(5) محمد فاضل الجمالي: تربية الإنسان الجديد، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، 1967 م، ص 135.
(6) يمكن الرجوع إلى: سورة البقرة، الآيات: 271، 263، 264.
(7) سورة الذاريات، آية (55) .
(8) يمكن الرجوع إلى سورة آل عمران آية (110) ، سورة البلد آية (17) ، سورة العصر آية (3) . وانظر: صفة الأمر بالمعروف، وصفة النصيحة والتواصي. من هذه الموسوعة.(1/140)
بالخير والحق، والدعوة إليهما، والتنبيه إلى الشر والضرر والنهي عنهما، هو من صميم الأساليب التربوية الإسلامية لتنمية القيم والأخلاق الإسلامية في نفس المسلم، وفي الحديث الشريف أن أبا ذر لما بلغه مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاسمع من قوله، فرجع فقال: «رأيته يأمر بمكارم الأخلاق» «1» .
ولما كانت هذه الوسيلة من أهم الوسائل التربوية التي حث عليها القرآن الكريم والتي يتحقق بها الهدف من التربية، لأنها تقوم بصيانة الحياة من الشر والفساد وفي هذه الطريقة يتحقق المبدأ الديمقراطي في التربية.
ج- ضرب الأمثال:
الأمثال «تبرز المعقول في صورة المحسوس الذي يلمسه الناس فيتقبله العقل، لأن المعاني المعقولة لا تستقر في الذهن، إلا إذا صيغت في صورة حية قريبة الفهم، وتكشف الأمثال عن الحقائق وتعرض الغائب في معرض الحاضر، وتجمع الأمثال المعنى الرائع في عبارة موجزة.
والأمثال كثيرة في القرآن، وهي تلعب دورا هاما وبالغا، في التأثير في العواطف، وفي التأثير في السلوك الإنساني، وفي غرس القيم الاسلامية في نفس المسلم، فيما لو استعملت بحكمة، وفي الظروف المناسبة، ولذلك أبرزها القرآن، واهتم بضرب الأمثال وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «2» ، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «3» .
كما تضرب الأمثال لتربية الإنسان تربية روحية وخلقية- ففي الحديث الشريف عن أبي موسى- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب، ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر، ولا ريح لها» «4» .
وفي الحديث الشريف أيضا «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين» «5» .
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الأدب، الجزء الثامن، ص 16.
(2) العنكبوت، الآية (43) .
(3) الحشر، الآية (21) .
(4) رواه البخاري رقم (5020) ومسلم رقم (797) والترمذي رقم (2869) والنسائي (8/ 124. 125) وأبو داود رقم (4830) وانظر: «جامع الأصول» (2/ 453) .
(5) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، الجزء التاسع، ص 115.(1/141)
وقد تضرب الأمثال لتربية المسلم تربية عقلية ينمو فيها العقل ويزداد علم الإنسان يقول صلّى الله عليه وسلّم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقيّة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان فيها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ- فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» «1» .
وخلاصة القول: أن ضرب الأمثال وسيلة تربوية هامة تلعب دورا هاما في التأثير على سلوك الإنسان، وفي غرس القيم الإسلامية لدى النشء والمسلم، فيما لو استعملت بحكمة وفي الظروف المناسبة.
(د) الموعظة والنصح:
التربية بالوعظ، لها دورها الهام في غرس القيم الإسلامية بميادينها المختلفة، وهي قد تكون في صورة مباشرة على شكل نصائح، فالإنسان «قد يصغى ويرغب في سماع النصح من محبيه وناصحيه- فالنصح والوعظ يصبح في هذه الحالة ذا تأثير بليغ في نفس المخاطب» «2» .
والقرآن الكريم زاخر بالمواعظ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ «3» .
إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ «4» .
وفي الحديث الشريف «عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» «5» ، وعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق» «6» .
والموعظة المؤثرة تفتح طريقها إلى النفس مباشرة مما يؤثر في تغيير سلوك الفرد وإكسابه الصفات المرغوب فيها، وكمال الخلق: عن ابن عباس قال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج ومعه بلال فظن أنه لم يسمع فوعظهن وأمرهن بالصدقة فجعلت المرأة تلقي القرطم والخاتم» «7» .
وفي المواعظ القرآنية نلحظ أسلوبا تربويا رائعا: يبغي كمال الإنسان، بحيث «يجب أن يتمثلها المعلم
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب العلم، الجزء الأول، ص 30.
(2) محمد فاضل الجمالي: نحو توحيد الفكر التربوي في العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص 111.
(3) سورة يونس، الآية (57) .
(4) سورة النساء، الآية (58) .
(5) أخرجه ابو داود والترمذي، ابن الديبع الشيباني، تيسير الوصول، الجزء الثالث (مرجع سابق) ، ص 37. وقال محقق «جامع الأصول» (6/ 667) : إسناده حسن.
(6) أخرجه الترمذي (المرجع السابق) ، الجزء الأول، ص 81.
(7) صحيح البخاري، كتاب العلم، الجزء الأول، مرجع سابق، ص 35.(1/142)
والمتعلم، إذ هي صادرة عن حكمة، وليس عن هوى» «1» والمثال على ذلك نأخذ خلاصة من عظة لقمان لابنه، التي تهدف إلى:
1- أن يكون الله هو مصدر السلوك، بمعنى إيمان الإنسان به، واتباع شريعته، وذلك هو محدد سلوك الإنسان، وهو الهدف والغاية لسلوكه، بمعنى أن يكون مخلصا لله، وذلك عن طريق عدم الإشراك بالله، والشكر له.
2- أن يكون السلوك كما حددته الموعظة، في قصد واعتدال في كل شيء، فلا مغالاة ولا تفريط، إنما توسط واعتدال، وهذا يعكس هدف التربية الإسلامية السلوكية: إنها تنشىء إنسانا معتدلا في سلوكه وفي عقيدته.
وهكذا يبدو دور الوعظ كوسيلة في التربية الإسلامية، تصلح في ميدان التربية الخلقية، كما هي في ميدان التربية الاجتماعية والعقلية وباقي الميادين الإسلامية.
هـ- القدوة:
تعني القدوة هنا أن يكون المربّي أو الداعي مثالا يحتذى به في أفعاله وتصرفاته، وقد أشاد القرآن الكريم بهذه الوسيلة فقال عز من قائل: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ (الممتحنة/ 4) ، وقد كان المصطفى صلّى الله عليه وسلّم- ولا يزال- قدوة للمسلمين جميعا، والقدوة الحسنة التي يحققها الداعي بسيرته الطيّبة هي في الحقيقة دعوة عملية للإسلام «2» بكل ما يحمله من مبادىء وقيم تدعو إلى الخير وتحث على الفضيلة.
ولأثر القدوة في عملية التربية، وخاصة في مجال الاتجاهات والقيم، كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو قدوة المسلمين طبقا لما نص عليه القرآن الكريم، وقد استطاع بفضل تلك القدوة أن يحمّل معاصريه قيم الإسلام وتعاليمه وأحكامه، لا بالأقوال فقط، وإنما بالسلوك الواقعي الحي، وقد حرصوا على تتبع صفاته وحركاته ورصدها والعمل بها، وما ذلك إلا حرصا منهم على تمثل أفعاله صلّى الله عليه وسلّم، لقد كان المثل الأعلى لهم.
وقد تمثلت في الرسول صلّى الله عليه وسلّم صفات جليلة جعلت منه قدوة بالفعل، ويمكننا أن نعرض لبعض تلك الصفات التي تفيد في توضيح القدوة وصفاتها الفعالة كأسلوب من أساليب تنمية القيم.
1- العقل:
فهو الأصل، وعنصر الينابيع، ونقطة الدائرة، منه ينبعث العلم والمعرفة، ويتفرع عنه ثاقب الرأي وجودة الفطنة والإصابة، وصدق الظن، والنظر للعواقب ومصالح النفس، ومجاهدة الشهوة، وحسن السياسة والتدبير، وانتقاء الفضائل وتجنب الرذائل، وقد بلغ الرسول صلّى الله عليه وسلّم في العقل الغاية التي لم يبلغها بشر سواه، يقول القاضي عياض: «وإذ جلالة ذلك وما تنوع منه متحقق عند من تتبع مجاري أحواله، واطراد سيره، وطالع جوامع كلامه،
__________
(1) علي خليل مصطفي أبو العينين، فلسفة التربية في القرآن الكريم، ط 3، مكتبة ابراهيم حلبي، المدينة المنورة، 1988 م.
(2) مبادىء ونماذج في القدوة للشيخ صالح بن حميد، ص 8.(1/143)
وحسن شمائله، وبدائع سيره، وحكم حديثه، وعلمه مما في التوراة والإنجيل والكتب المنزلة، وحكم الحكماء، وسير الأمم الخالية وأيامها وضرب الأمثال وسياسات الأنام، وتقرير الشرائع، وتأصيل الآداب النفسية، والشيم الحميدة إلى فنون العلوم، التي اتخذ أهلها كلامه عليه السلام فيها قدوة، وإشاراته حجة، كالعبادة والطب والحساب والفرائض والنسب، وغير ذلك.. دون تعليم ولا مدارسة، ولا مطالعة كتب من تقدم، ولا الجلوس إلى علمائهم، بل نبي أمي لم يعرف بشيء من ذلك حتى شرح الله صدره، وأبان أمره وعلمه وأقرأه.. وبحسب عقله كانت معارفه صلّى الله عليه وسلّم إلى سائر ما علمه الله تعالى، وأطلعه عليه من علم ما يكون وما كان من عجائب قدرته وعظيم ملكوته» «1» .
2- الحلم والاحتمال والعفو عند القدرة، والصبر على المكروه:
وهذا شرط آخر في القدوة، وقد كان صلّى الله عليه وسلّم متمثلا هذا، فقد أمره ربه خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «2» . وما يروى عنه صلّى الله عليه وسلّم يدل على هذا دلالة واضحة «3» ، والمقتدي به إن لم يكن متحليا بهذه الصفات أو الشمائل فقد كثيرا من مؤهلاته التي يتمكن عن طريقها من احتواء انفعالات الناس، وهذا شرط ضروري كي يؤثر في الناس، أو يتأثر به الناس.
3- الجود والكرم والسخاء:
كان صلّى الله عليه وسلّم لا يبارى في هذه الصفات، وبهذا وصفه كل من عرفه، ويروى عنه أنه كان «أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس» «4» .
4- الشجاعة والنجدة:
وقد كان صلّى الله عليه وسلّم منهما «بالمكان الذي لا يجهل، وقد حضر المواقف الصعبة، وفر الكماة والأبطال عنه غيره مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، ولا يتزحزح، وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة، وحفظت عنه جولة سواه» «5» .
وإذا كان القدوة يدعو إلى صفات مثل هذه، فلا بد وأن تكون فيه متمثلة، وهاتان الصفتان أساسيتان في القدوة، لأنها إذا ما توفرت فيه، كان قادرا على ترجمة القيم إلى سلوك، واعتراض ما يواجهه من صعاب في تأدية مهامه، إنهما أساسيتان لأي قدوة.
__________
(1) القاضي عياض، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، تحقيق على محمد البجاوي، الجزء الأول، بيروت، دار الكتاب العربي، 1404 هـ/ 1984 م، ص 133، 134.
(2) سورة الأعراف: 199.
(3) القاضي عياض، مرجع سابق، ص 136- 147، وراجع صفة: الحلم والعفو، والصبر من الموسوعة.
(4) حديث صحيح عن أنس: انظر مختصر صحيح مسلم، حديث رقم 1581، ومحمد ناصر الدين الألباني، صحيح الجامع الصغير وزيادته، المجلد الثاني، الطبعة الثانية، بيروت، المكتب الإسلامي، 1406 هـ/ 1986 م، حديث رقم 4634. وراجع صفة: الجود والكرم والسخاء من الموسوعة.
(5) القاضي عياض، مرجع سابق، ص 147، 148. وراجع صفة: الشجاعة من الموسوعة.(1/144)
5- الحياء والإغضاء:
وقد كان صلّى الله عليه وسلّم «أشد الناس حياء، وأكثرهم عن العورات إغضاء» وعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه» «1» . وكان صلّى الله عليه وسلّم:
«لطيف البشرة، رقيق الظاهر، لا يشافه أحدا بما يكرهه حياء وكرم نفس» . وعن عائشة- رضي الله عنها-: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا بلغه عن أحد ما يكرهه، لم يقل: ما بال فلان يقول كذا؟ ولكن يقول: ما بال أقوام يصنعون أو يقولون كذا؟ ينهى عنه ولا يسمى فاعله» «2» .
إن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب النقائص والقبائح والمنكرات، ويدفع المرء إلى التحلي بكل جميل محبوب، وإذا كان الحياء خلقا إسلاميا عاما يطلبه الإسلام في أتباعه، فإنّ تحلّي القدوة به أوجب، ولذا وردت الأحاديث النبوية الكثيرة تصف حياء الرسول القدوة وتدفع المسلمين إلى التزامه.
6- حسن العشرة والأدب، وبسط الخلق مع أصناف الخلق:
يقول علي- رضي الله عنه- في وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كان أوسع الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة» «3» ، وكان يؤلف أصحابه، ولا ينفرهم، ويكرمهم «ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره، ولا خلقه، يتفقد أصحابه، ويعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، من جالسه أو قاربه لحاجة صابره، حتّى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول، وقد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق سواء» «4» .
وصف بأنه كان «دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا عياب، ولا مزّاح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يؤيس منه (راجيه) ولا يخيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والإكثار وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذمّ أحدا، ولا يعيّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه» «5» .
__________
(1) حديث صحيح، مختصر صحيح مسلم، حديث رقم 1568، وانظر: الألباني مرجع سابق، ص 870، حديث رقم 4799.
(2) حديث صحيح، المرجع السابق، ص 857، حديث رقم 4692. وراجع صفة: الحياء من الموسوعة.
(3) القاضي عياض، الشفاء، مرجع سابق ص 155.
(4) المرجع السابق، ص 156.
(5) أبو نعيم الأصفهاني، دلائل النبوة، تحقيق محمد رواس قلعجي، عبد البر عباس، الجزء الثاني، الطبعة الثانية، بيروت، دار النفائس، 1406 هـ/ 1986 م، ص 631.(1/145)
ويقول جرير بن عبد الله: ما حجبني رسول الله منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم، كان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم، ويداعب صبيانهم، ويجلسهم في حجره، ويجيب دعوة الحر والأمة والمسكين، يعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر» «1» .
وكان «يبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، ولم ير قط مادّا رجليه بين أصحابه حتى يضيق بهما على أحد، يكرم من يدخل عليه، وربما بسط له ثوبه ويؤثره بالوسادة التي تحته، ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبي ويكني أصحابه، ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوّز فيقطعه بنهي أو قيام» «2» .
7- الشفقة والرأفة والرحمة لجميع الخلق:
وقد وصف القرآن محمدا صلّى الله عليه وسلّم: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «3» . فهو رءوف ورحيم، وشفيق، ومن شفقته على الأمة «تخفيفه وتسهيله عليهم وكراهته أشياء مخافة أن تفرض عليهم كقوله: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء» «4» . وكذا خبر صلاة الليل، ونهيه عن الوصال، وكراهته دخول الكعبة لئلا يعنت أمته، ورغبته لربه أن يجعل سبّه ولعنه رحمة بهم، وأنه كان يسمع بكاء الصبي فيتجوز في صلاته «5» .
8- الوفاء بالعهد، وصلة الرحم:
والشواهد على ذلك كثيرة، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم وفيا لعهده، حسن العهد، يقول: «إن حسن العهد من الإيمان» ، وكان يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هم أفضل منهم «6» .
9- التواضع:
والآثار المروية عنه صلّى الله عليه وسلّم في هذا المجال كثيرة، لم يكن يحب أن يعظمه الناس، فقد خرج ذات يوم متكئا على عصا فقام له الناس، فقال: «لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظّم بعضهم بعضا» «7» .
وعن أنس- رضي الله عنه- قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا خير البرية، فقال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ذاك
__________
(1) القاضي عياض، الشفا، مرجع سابق، ص 157.
(2) المرجع السابق، ص 158. وراجع صفة: حسن العشرة، وحسن الخلق من الموسوعة.
(3) سورة التوبة: 128.
(4) حديث صحيح، انظر الألباني، مرجع سابق، ج 2، ص 940، حديث رقم 5317.
(5) القاضي عياض، مرجع سابق، ص 162، وراجع ص 163، 164. وراجع صفة: الشفقة، والرأفة، والرحمة من الموسوعة.
(6) المرجع السابق، ص 165- 167.
(7) حديث حسن، انظر البغوي، مصابيح السنة، تحقيق يوسف عبد الرحمن المرعشلي وآخرون، مجلد 3، الطبعة الأولي، بيروت، دار المعرفة، 1407 هـ/ 1987 م، ص 287، حديث رقم 3641.(1/146)
إبراهيم» «1» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله» «2» .
والآثار والأحاديث في هذا الباب وافرة.
والأمر الذي نود التأكيد عليه، هو أنه مع نبوته كان متواضعا، ومع علو منصبه ورفعة رتبته، وغزارة علمه، كان أشد الناس تواضعا، فالتواضع من أهم شروط التأثير في الناس، ومع أن الله سبحانه وتعالى مدحه في القرآن، إلا أنه كان في أشد التواضع، لا يتطاول على الناس ولا على الخلق، وكان هذا أكبر داعية لاتخاذ الناس الرسول قدوة لهم.
10- العدل والأمانة والعفة، وصدق اللهجة:
فقد كان صلّى الله عليه وسلّم آمن الناس، وأعدلهم، وأعف الناس، وأصدقهم لهجة وقد كان مشهورا بهذه الأوصاف قبل الرسالة وبعدها، ولولا هذه الصفات، وخاصة الأمانة لما حصلت الثقة فيه بما يبلّغ به عن ربّه، ولما اصطفاه الله لحمل الرسالة إلى البشر «3» .
وهذه الصفات ضرورية لحمل مسئولية القدوة، ولا بد أن تتوفر فيه حتى يثق الناس فيمن هو قدوة لهم، وبالتالي يثقون فيما يصدر عنه ويصدقونه فيه.
11- الوقار والتؤدة والمروءة والهدى والرفق:
وقد جاء في ذلك الكثير من الآثار، فقد جاء في الروايات، أنه صلّى الله عليه وسلّم كان «أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئا من أطرافه» وأنه «كان كثير السكوت لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، وكان ضحكه تبسما، وكلامه فصلا، لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم، توقيرا له، واقتداء به، مجلسه مجلس حلم وحياء، وخير وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا توبّن فيه الحرم، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير» «4» .
وقد كان حسن الهدى رفيقا بالناس والأشياء والحيوان، والآثار في ذلك كثيرة وافرة. ومن هذا مراعاته صلّى الله عليه وسلّم التوسط والاعتدال في سلوكه وتعامله، في قوله وفعله، في طعامه وشرابه، ولباسه ومسكنه، ومات وهو على ذلك، ولأنه قدوة فقد تبعه في تلك الوسطية أصحابه، فقصوا أثره إلى حد بعيد خاصة الخلفاء الراشدين «5» .
__________
(1) حديث صحيح، أخرجه مسلم، انظر المرجع السابق، ج 3، ص 340، حديث رقم 3804.
(2) حديث صحيح، أخرجه البخاري، ومسلم، المرجع السابق، ج 3، ص 340، حديث رقم 3805. وراجع صفة: الوفاء بالعهد، وصلة الرحم، من الموسوعة.
(3) القاضي عياض، مرجع سابق، ص 172- 176. وراجع صفة: العدل، والأمانة والعفة، من صفات الموسوعة.
(4) المرجع السابق، ص 177، وانظر: أبو نعيم، دلائل النبوة، مرجع سابق ج 2، ص 629- 632. وتوبّن: تؤذي (القاموس «وبن» ) .
(5) حسن خالد، مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها، بيروت، دار النهضة العربية، 1406 هـ/ 1986 م، ص 177. وراجع صفة: الوقار والتؤدة والرفق من صفات الموسوعة.(1/147)
12- الزهد في الدنيا والتقلل منها:
ولم يكن هذا الزهد عن ضعف، فقد سيقت له الدنيا بحذافيرها، وترادفت عليه فتوحها، إلا أنه صلّى الله عليه وسلّم رغب عنها وكان يقول: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا» «1» . والآثار في ذلك وافرة.
ومن ذلك ما يرويه ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نام على حصير، فقام وقد أثر في جسده، فقال ابن مسعود: يا رسول الله لو أمرتنا أن نبسط لك ونعمل، فقال «مالي وللدنيا، وما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» «2» .
وعن أنس: «أنه مشى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بخبز شعير وإهالة سنخة، ولقد رهن النبي صلّى الله عليه وسلّم درعا بالمدينة عند يهودي وأخذ منه شعيرا لأهله، ولقد سمعته يقول: ما أمسي عند آل محمد صاع برّ ولا صاع حبّ، وأن عنده لتسع نسوة» «3» . وهذا الزهد لم يكن زهد الحرمان والقهر وترك الأسباب، وإنما هو القدرة والقدرة واليسر والأخذ بالأسباب، وهو عدم تعلق همة القلب بمتع الحياة الدنيا وزخارفها وزينتها، وهذا الزهد النبوي، لم يكن يعني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يزهد بأن يدخل عليه المال الوفير، وإنما كان يعني زهده في ادخاره لنفسه وحرصه عليه، فهو الذي يقول: «لو كان لي مثل أحد ذهبا لسرني أن لا يمر على ثلاث ليال وعندي منه شيء، إلا شيء أرصده لدين» «4» .
13- الخوف من الله وطاعته وعبادته:
وقد كان صلّى الله عليه وسلّم أخوف الناس من الله، وكان يصلي ويداوم العبادة، ويصوم، ويقرأ القرآن، ويستغفر ربه، ويدعوه، والآثار في ذلك وافرة.
هذه هي صفات القدوة كما تمثلت في النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبهذه الصفات الجامعة استطاع صلّى الله عليه وسلّم أن يغرس القيم الإسلامية في نفوس أصحابه، ويرعاها نامية قوية وقد أدرك صلّى الله عليه وسلّم أنه ليس هناك أخطر على القيم ونموها مثل الانفصال بين الداعي والمدعوين، بين المعلم والمتعلمين، بين الدعوة والتنفيذ، بين القول والعمل، خاصة أن هذا ما نعاه الله على بني إسرائيل في القرآن:
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ «5» .
__________
(1) حديث صحيح، أخرجه مسلم، انظر البغوي، مصابيح السنة، مرجع سابق، ج 3، ص 417، حديث رقم 4006.
(2) حديث صحيح، انظر: محمد نصر الدين الألباني، صحيح سنن ابن ماجه، المجلد الثاني، الطبعة الأولي، بيروت، المكتب الإسلامي، 1407 هـ/ 1986 م، ص 394، حديث رقم 3317.
(3) حديث صحيح، أخرجه البخاري، انظر مصابيح السنة، مرجع سابق، ج 3، ص 431، حديث رقم 4048.
(4) حديث صحيح، متفق عليه، انظر المرجع السابق ج 2، ص 238، حديث رقم 1314.
(5) سورة البقرة: 44 وانظر: محمد صابر قميحة، مرجع سابق، ص 119. وراجع صفة: الزهد والقناعة من صفات الموسوعة.(1/148)
إن دور القدوة مهم في حياة الأفراد والجماعات، وما أصيبت دعوة أو فكرة أو مذهب بافتقاد القدوة إلا فقدت تأثيرها، وما قدم صاحب دعوة الدليل العملي على صحة دعواه إلا بالسلوك والقدوة، وحينئذ يقتنع الناس وتصبح واقعا سلوكيا في حياة الناس.
وما أصيبت مجتمعاتنا الإسلامية في صميمها إلا حين افتقدت القدوة. إن القدوة ترجمة عملية واقعية للمبادىء والأفكار تستطيع أن تجمع الناس حول المثل الأعلى، ولذا حين تفتقد المثل الأعلى، ويصبح الناس فرقا وجماعات ومذاهب، فيفقدون إرادة الفعل ويغرقون في التناطح، ويتترّسون خلف متاريس الفكر، كل يحاول الانتصار لفكرته بالكلام والتراشق بالاتهامات، والتعصب الأعمى القائم على التقليد الأعمى.
إن مجتمعاتنا تشكو من فقر خلقي وعلمي وحضاري، وما ذلك إلا نتيجة لافتقادها للقدوة الصالحة ولو صحت عزائم الناس والعلماء منهم خاصة لأصبح كل واحد منهم قدوة حسنة في مجاله- فهو يملك مقوماتها- ولتحولت الأفكار والمبادىء إلى فعاليات سلوكية صحيحة، وهذا ما نحتاجه فعلا، ولكن- وللأسف- ما زلنا نعيش مرحلة اجترار المبادىء والأفكار بدون فعالية، فنحن في أمس الحاجة إلى القدوة الصالحة بكافة أشكالها وبشروطها السابقة، ويوم أن توجد تلك القدوة نستطيع أن نمتلك الفعالية، وننتج الحضارة، ويكون لنا مكاننا العالمي عطاء وإبداعا.
إن القدوة السلوكية أمر لازم لتنمية القيم وصبغها بالفعالية لتكون موجها حقيقيا، وما امتازت التربية الإسلامية عبر عهودها التي عاشتها إلا بتلك القدوة، ويوم أن فقدت القدوة فقدت فعاليتها في حياة الناس، ولذا فإن واجب التربية الإسلامية توفير هذه القدوة حتى تعاود التأثير والإبداع، ولها في هدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زاد كبير ومدد تستمد منه في إعداد المربين القدوة، وكذا الآباء والأمهات وسائر المجتمع الإسلامي الذي هو في أمس الحاجة إلى القيم الإسلامية مجسدة في أفراده.
والتربية العملية والتربية بالوقائع:
لتنمية الأخلاق لدى المسلمين اتبع الرسول صلّى الله عليه وسلّم أسلوب التربية العملية، تعليما وتدريبا، وربط التوجيه بالأحداث والوقائع الجارية في حياة الناس، والتربية الإسلامية في هذا المجال تظهر من خلال حديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وقبله القرآن الكريم «تربية عملية، تتحول بها الكلمة إلى عمل بناء، أو إلى خلق فاضل، أو إلى تعديل في السلوك على النحو الذي يحقق وجود ذلك الإنسان كما تصوره الإسلام» «1» . وكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يهمه أن يتحول ما يتلقاه المسلمون منه إلى مواقف عملية وسلوكيات، وكان كمرب «يثبت بالبراهين العملية والتجارب الفعلية أن ما
__________
(1) عبد الغني عبود، فى التربية الإسلامية، الطبعة الأولى، القاهرة، دار الفكر العربي، 1977 م، ص 157.(1/149)
يدعو إليه هو أمر ممكن التنفيذ، وآية ذلك أنه مشخص في سلوكه» «1» . وهناك الكثير من مواقف حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم تترجم هذا وتدل عليه.
إن التربية الحقيقية هي التي تحاول أن تجعل من العلم سلوكا حقيقيّا، ومن الأفكار مواقف، والرسول صلّى الله عليه وسلّم يصور هذا فيما يروى عنه، فالعلم قبل القول والعمل، ولكن العمل ضروري لا يكفي القول ولا العلم، حتى الإيمان يعتبر عملا، وقد جاء في صحيح البخاري باب بعنوان: «من قال إن الإيمان هو العمل» لقول الله تعالى:
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «2» . وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ «3» . عن قول لا إله إلا الله، وقال: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ «4» . ويروى عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل «أي العمل أفضل؟ فقال: الإيمان بالله ورسوله، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور» «5» .
ومن هذا القبيل الأمر بالتبليغ عن رسول صلّى الله عليه وسلّم، ومن هذا القبيل أيضا ما روي عن شعبة عن أبي جمرة، قال:
كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس، فقال: إن وفد بني عبد القيس أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «من القوم أو من الوفد؟» قالوا: ربيعة، فقال: «مرحبا بالقوم أو الوفد، غير خزايا ولا ندامى» قالوا: إنا نأتيك من شقة بعيدة، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، ولا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر نخبر به من وراءنا، ندخل به الجنة، فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله- عز وجل- وحده، قال: «هل تدرون ما الإيمان بالله وحده» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وتعطوا الخمس من المغنم» . ونهاهم عن الدّبّاء والحنتم والمزفت، قال شعبة: ربما قال:
«النقير» وربما قال «المقير» ، قال: «احفظوه وأخبروه من ورائكم» «6» .
__________
(1) سعيد إسماعيل على: أصول التربية الإسلامية، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر 1978 م، ص 82.
(2) سورة الزخرف: 72.
(3) سورة الحجر: 92- 93.
(4) سورة الصافات: 61.
(5) الإمام البخاري، صحيح البخاري، ضبط وإخراج: مصطفى ديب البغا، الطبعة الأولى، الجزء الأول، بيروت، دار القلم، 1401 هـ/ 1981 م، ص 18، حديث رقم 26.
(6) الإمام البخاري، مصدر سابق، ج 1، كتاب الإيمان، ص 29، حديث رقم 53، والحنتم: جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم، والدباء: اليقطين إذا يبس اتخذ وعاء. والنقير: أصل النخلة ينقر ويجوف فيتخذ منه وعاء. المزفت: ما طلي بالزفت. المقير: ما طلي بالقار.(1/150)
وكما نلاحظ فإن الرسول يحرص كل الحرص على ترجمة الإيمان إلى سلوك، وكلا الأمرين النهي والأمر لا بد أن يترجما إلى سلوك، وهو حرص الوفد نفسه على أن يدله الرسول صلّى الله عليه وسلّم على عمل يدخلهم الجنة، ثم أمر آخر نلاحظه في الحديث، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: (احفظوه، وأخبروه من وراءكم) حفظ ووعي وفهم وتطبيق ثم تبليغ.
إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يحرص على أن يعلم الناس، وأن ينشر العلم، لأنه أساس التربية العملية، يقول في خطبة بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لا مرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخّص لقتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها، فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب» «1» .
وعن أبي موسى- رضي الله عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» «2» .
هذه شواهد متعددة تبين أن العبرة في العلم التطبيق والعمل، لا مجرد المعرفة، ومن هنا كانت عنايته صلّى الله عليه وسلّم بالتربية العملية، لأنها أكثر فعالية في تطبيق الأخلاق ورعايتها.
وكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يغتنم فرصة التصرفات العملية التي تقتضي توجيها تربويا أو عمليا ليأخذ منه المسلمون درسا إيجابيا، فكان يدعو إلى قيمة أو يصحح سلوكا، أو ينفي هذا السلوك الخاطيء وهي طريقة فعالة لأنها ترتبط بالوقائع المشاهدة وتتصل بما يعيشه الناس، ولذا ترسخ في الذهن، وتثبت في القلوب، وبهذا ترتبط القيم بواقع الحياة، وهذا يعني أن غرس القيم لا يقتصر على مجرد التعلم والحفظ والتسميع، وإنما يعتمد على واقع الحياة والخبرة المعيشية وبالتالي يكون تأثيرها قويا، لأنها «تثير الانتباه الذي يجمع الفاعلية النفسية حول ظاهرة ما، عن طريق الحس إن كانت هذه الظاهرة خارجية، وعن طريق التأمل إن كانت داخلية» «3» .
والحديث الشريف مليء بالأمثلة من ذلك النوع، من ذلك:
- ما يروى عن أبي ذر- رضي الله عنه- قال: كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية، فنلت منها فذكرني إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «أساببت فلانا» قلت: نعم، قال: «أفنلت من أمه؟» قلت: نعم، قال: «إنك امرؤ
__________
(1) المرجع السابق، كتاب العلم، ص 51، حديث رقم 104.
(2) الإمام البخاري، صحيح البخاري، مرجع سابق، كتاب العلم، ص 42، حديث رقم 79.
(3) التهامي نفرة، سيكولوجيية القصة في القرآن، الجزائر، جامعة الجزائر، الشركة التونسية للتوزيع، 1971 م، ص 572.(1/151)
فيك جاهلية» ، قلت على حين ساعتي: هذه من كبر السن؟ قال: «نعم، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه فليعنه عليه» «1» .
- وذكر رجل عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فأثنى عليه رجل خيرا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ويحك، قطعت عنق صاحبك- يقول مرارا- إن كان أحدكم ما دحا لا محالة فذلك أحسب كذا وكذا، إن كان يرى أنه كذلك، والله حسيبه ولا يزكي على الله أحدا» «2» .
- ويروى عن جابر بن عبد الله: أن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، قال: فتجوز رجل فصلى صلاة خفيفة فبلغ ذلك معاذ، فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إنا قوم نعمل بأيدينا، ونسقي بنواضحنا، وإن معاذا صلّى بنا البارحة فقرأ البقرة، فتجوزت، فزعم أني منافق، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا معاذ، أفتان أنت- ثلاثا- اقرأ: وَالشَّمْسِ وَضُحاها وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ونحوها» «3» .
إن هذه الأمثلة وغيرها توضح أنه ما من واقعة تحدث، إلا وكان يبينها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان صلّى الله عليه وسلّم لا ينطق عن الهوى فإذا وقعت بعد ذلك، عرف الناس كيف يتصرفون حيالها، وهناك عدة أمور توافرت لتضمن فعالية هذا الأسلوب، وهي:
- وقوع الشخصية في موقف ما، اجتماعي أو إنساني أو غير ذلك من مواقف أو واقعات.
- إثارة قوى الشخصية الانفعالية والعقلية بكافة الأساليب الممكنة: السؤال، الاعتراض، الاستنكار ...
الخ، وإشعارها أنها تقف موقفا يحتاج إلى معيار يضبطه.
- الإجابة عن السؤال أو الاعتراض.
- تزويد الشخصية بالحل الأمثل بالقيمة المطلوبة في هذا الموقف.
وتأتي بعد ذلك الاستجابة والاختيار في إطار هذا الخلق والالتزام به، وهكذا وبهذه الطريقة استطاع الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يبني الأخلاق في نفوس المسلمين.
ز- القصة:
وهي من أكبر وأكثر الوسائل فعالية في تنمية الأخلاق، وقد استخدمها الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وحرص على أن
__________
(1) الإمام البخاري، صحيح البخاري، مرجع سابق، ج 5، كتاب الأدب، ص 2248، حديث رقم 5703.
(2) المصدر السابق، كتاب الأدب، ص 2252، حديث رقم 5714.
(3) المصدر السابق، كتاب الأدب، ص 2264، حديث رقم 5755.(1/152)
يضمنها الكثير من الأخلاق الإسلامية، إما من أجل توضيحها أمام المسلمين من ناحية، وإما من أجل تعميقها في نفوسهم من ناحية ثانية، وذلك «من خلال جعلها موضوعات تدور حولها أو تتحدث عنها أحداث القصة ومواقفها، وهي قيم ذات جوانب متعددة» «1» .
وتأتي فعالية القصة من كونها «مزيجا من الحوار والأحداث والترتيب الزمني مع وصف للأمكنة والأشخاص والحالات الاجتماعية والطبيعية التي تمر بشخصيات القصة» «2» .
وهي قادرة على تأكيد الاتجاهات المرغوبة وترسيخ القيم والأخلاق، وذلك عن طريق استثارة مشاركة الإنسان العاطفية لنماذج السلوك والقيم التي تقوم القصة بتقديمها وللمواقف التي تصورها.
وقد كانت القصة القرآنية وسيلة من وسائل التربية وتنمية القيم الخلقية الإسلامية، وذلك باستخراج العبرة من التجربة السابقة، واستخراج المثل وشرح طرق الخير، والتحذير من الكفر والجحود، يقول تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ «3» .
ويقول تعالى:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ «4» .
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها «5» .
فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «6» .
وهذا القصص باحتوائه على ألوان كثيرة وصور كثيرة عن الماضي من لدن آدم لبعث الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وما كان من أخبار الرسل والأمم السابقة، وما يعرض من صور المكذبين لتخليهم عن تحكيم القيم والمعايير التي جاء بها الرسل، كل هذا يؤكد معلما بارزا حيا في استخدام هذا القصص كوسيلة من أهم وسائل التربية وتنمية القيم.
تمد القصة القرآنية الفرد والجماعة بالقيم الأخلاقية الإسلامية الصادقة وتسهم- بإيجابية- في غرس هذه القيم في نفوسهم، وهي إحدى وسائل التربية، التي يميل إليها النشء. فإن «القصة تؤثر في النفس إذا وضعت في
__________
(1) محمد بن حسن الزير، القصص في الحديث النبوي، الطبعة الثالثة، بدون ناشر، 1405 هـ/ 1985 م، ص 388.
(2) حسن إبراهيم عبد العال، أصول تربية الطفل والإسلام، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية تربية، جامعة طنطا، 1400 هـ/ 1980 م، ص 295.
(3) سورة يوسف: 2، 3.
(4) سورة غافر: 78.
(5) سورة الأعراف: 101.
(6) سورة الأعراف: 176.(1/153)
قالب عاطفي مؤثر، وهي تجعل القاريء أو السامع يتأثر بما يقرأ أو يسمع، فيميل إلى الخير وينفذه، ويمتعض من الشر فيبتعد عنه» «1» .
وكل القصص الذي تضمنه القرآن الكريم هو قصص واقعي، جاء به القرآن للتربية. «وهذا القصص يشتمل على كل أنواع التعبير الفني ومشخصاته، من حوار إلى سرد، إلى إحياء للشخص، إلى دقّة في رسم الملامح، إلى اختيار دقيق للخطة الحاسمة في القصة» «2» .
والقرآن الكريم يقرر ذلك كله- منذ مئات السنين- في لفظ قصير، وأسلوب جميل، وبيان معجز، ونستدل من ذلك على أن القصة تلعب دورا فعالا في غرس كثير من القيم الإسلامية السامية في نفوس الأفراد.
والقصة لم تكن وسيلة من وسائل الدعوة الإسلامية إلى الله في القرآن «إلّا بعد أن قطعت الدعوة أشواطا من سيرها مع العقل الإنساني، والتعريف بالخالق العظيم الرزّاق، بالنظر في آيات الله، وما صورت من عجائب الخلق والإبداع» «3» .
والقصة القرآنية الهادفة «سلاح نفسي، في الدعوة الإسلامية إلى عقيدة التوحيد، وفي إقناع المخالفين عن طريق الجدال والحوار بسمو هذه العقيدة ونيل أهدافها» «4» .
وجاء القرآن الكريم بقصص تربوية، هي «غاية في الأهمية، في علاقات الإنسان الأخلاقية- ذلك مع جمال الأسلوب وبلاغة المعنى» «5» .
كما نص القرآن الكريم على أهمية القصة، ودورها في غرس القيم الأخلاقية، وذلك في مثل قوله تعالى:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ «6» .
ونتيجة لما للقصص من دور خطير في التوجيه الفني الخفي، ألح علماء التربية على حسن اختيار ما يعرض أو يقدم للناشئة من قصص، حتى لا ينقلب عاملا سيء الأثر من تربيتهم، وتكوينهم الفكري والخلقي، وهم لم يبلغوا درجة من النضج تؤهلهم للتمييز، وتمكنهم من الحكم الصحيح على المواقف والتصرفات «7» .
__________
(1) محمد فاضل الجمالي: تريبة الإنسان الجديد، مرجع سابق، ص 140، 141.
(2) سعيد إسماعيل علي: أصول التربية الإسلامية، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1978، ص 26.
(3) عبد الكريم الخطيب، الله ذاتا وموضوعا، القاهرة، ط 2، دار الفكر العربي، 1971، ص 403.
(4) التهامي نفرة، سيكولوجية القصة في القرآن، جامعة الجزائر، الشركة التونسية للتوزيع، 1971 م، ص 572.
(5) محمد فاضل الجمالي: تريبة الإنسان الجديد، مرجع سابق، ص 49.
(6) سورة يوسف: 3.
(7) التهامي نفرة، سيكولوجية القصة في القرآن، مرجع سابق، ص 14.(1/154)
والقرآن الكريم استخدم القصة لجميع أنواع التربية والتوجيه التي يشملها: تربية الخلق، تربية الوجدان، تربية الجسم، والتربية بالموعظة.
لقد كانت القصة- وما تزال- مدخلا طبيعيّا، يدخل منه أصحاب الرسالات والدعوات والهواة والقادة إلى الناس، وإلى عقولهم وقلوبهم، ليلقوا فيها ما يريدونهم عليه، من قيم وآراء ومعتقدات «1» .
والقصة في عصرنا الحاضر من «أقوى أجهزة التأثير في قيادة الجماعات البشرية، فلا عجب أن تكون القصة في القرآن ركيزة قوية من ركائز الدعوة الإسلامية، القائمة على الاقتناع العقلي، والاطمئنان القلبي، لما تدعو إليه، من الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر «2» . وبهذا تكون القصة القرآنية لها دور فعال في غرس القيم المرغوب فيها في نفوس النشء.
والقصة القرآنية يمكن أن تكون عملا تربويّا هامّا في نشر الاتجاهات والقيم المرغوب فيها، والدعوة إلى الإصلاح، والتحلي بكريم الأخلاق، بما لها من أثر عميق وعظيم في نفوس المتعلمين، ولما لها من قدرة على التأثير والتغيير والتوجيه، وفي هذا الشأن يقول رب العزة في قصة يونس عليه السلام: فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ «3» . ومن هذه الآية الكريمة، يمكن غرس قيمة وجدانية أساسية، وهي قيمة الإيمان بالله، وتشير الآية أيضا إلى أن الإيمان يجعل المؤمن مستجاب الدعوة، حيث ينجي الدعاء صاحبه حتى في أحرج الظروف.
ويمكن الإشارة إلى أن بعض الآيات الكريمة، التي فيها دلالة صريحة على القيم الأخلاقية التي يعني بها القصص القرآني، ومن هذه الآيات يمكن الإشارة إلى أهم القيم الخلقية، التي تتشكّل في ضوئها أهداف التربية الخلقية للقصص القرآني منها على سبيل المثال لا الحصر:-
أ- الرحمة، حيث يقول الله تعالى، على لسان أيوب- عليه السلام-: وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «4» .
ب- العدل، يقول- جلّ شأنه- على لسان شعيب عليه السلام-: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ «5» .
ج- الصدق، يقول الله تعالى: ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ «6» .
__________
(1) سيد أحمد طهطاوي: القيم التربوية في القصص القرآني، رسالة ماجستير منشورة، دار الفكر العربي، ط 1، القاهرة، 1416 هـ/ 1996 م.
(2) عبد الكريم الخطيب: القصص القرآني في منطوقه ومفهومه، القاهرة، ط 1، مكتبة السنة المحمدية، 1964 م، ص 6.
(3) سورة الأنبياء: 88.
(4) سورة الأنبياء: 83.
(5) سورة الشعراء: 182.
(6) سورة الأنبياء: 9.(1/155)
وجملة القول، أن القرآن الكريم يشتمل على كثير من القصص التربوية، التي تسهم إسهاما فعالا في تحقيق أهداف التربية الإسلامية، وذلك لأنها تضع المثل أمام المتعلمين، مما يساعد على غرس كثير من القيم التربوية السامية في نفوسهم، وتتميز القصة في القرآن بأنّها تمد القرّاء والجماعات بالقيم الإسلامية الصادقة النابعة منه.
القصة في الحديث الشريف:
لقد أدرك الرسول العربي صلّى الله عليه وسلّم الميل الفطري إلى القصة، وأدرك ما لها من تأثير ساحر على القلوب، فاستغلها لتكون وسيلة من وسائل التربية والتقويم. والقصة الهادفة المربية «سلاح نفسي في الدعوة المحمدية إلى عقيدة التوحيد، وفي إقناع المخالفين عن طريق الجدل والحوار بسمو بهذه العقيدة ونبل أهدافها «1» .
وفي الحديث الشريف، قصة موسى- عليه السلام- والخضر، التي وردت في القرآن الكريم، جاء بها الحديث مبينا دقائقها كما حدّث به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، مستخدما هذه القصة- التي وقعت فعلا- في التربية العقلية للإنسان المسلم، ففي هذه القصة «جواز التمادي في العلم إذا كان كل واحد يطلب الحق ولم يكن تعنتا- الرجوع إلى قول أهل العلم عند التنازع، كما يجب على العالم الرغبة في التزود من العلم والحرص عليه، وألا يقنع بما عنده، كما لم يكتف موسى عليه الصلاة والسلام بعلمه.
ويجب التواضع، لأن الله تعالى عاتب موسى- عليه السلام- حين لم يرد العلم إليه وأراه من هو أعلم منه، والرحلة في طلب العلم» «2» . وفي الحديث: «حدثنا أبي بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم: فقال: أنا، فعتب الله عليه، إذ لم يرد إليه العلم ... » «3» .
وقد تستخدم القصة في الحديث الشريف كوسيلة من وسائل تنمية الأخلاق الإسلامية، وعلى سبيل المثال هناك قصة أوردها الحديث الشريف عن «ثلاثة الأخوة الذين أووا للمبيت إلى الغار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار» «4» . في هذه القصة تربية خلقية وآداب اجتماعية، ففيها احترام الأبوين والعفة والطهارة، وأداء الحق إلى أصحابه ومخافة الله ومهابته، إيمانا حقيقيّا خالصا به.
وهناك أمثلة أخرى متعددة لا مجال هنا للحديث عنها «5» .
وهكذا استخدم الرسول صلّى الله عليه وسلّم القصة، وترسم خطى القرآن في توظيف القصة من أجل نشر الوعي
__________
(1) التهامي نفرة: سيكلوجية القصة في القرآن، رسالة دكتوراة، (الحلقة الثالثة) ، ص 237.
(2) العيني: عمدة القارىء، شرح صحيح البخاري، المجلد الأول (أجزاء 1- 2) ، كتاب العلم، ص 64، 65.
(3) انظر الحديث الشريف: صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق، الجزء الرابع، ص 183.
(4) انظر الحديث الشريف: صحيح البخاري، كتاب الإجارة، الجزء الثالث، ص 119، 124.
(5) يمكن الرجوع إلى: سيد أحمد طهطاوي: القيم التربوية في القصص القرآني، مرجع سابق.(1/156)
الإسلامي وتعميق مبادىء الإسلام وقيمه في نفوس المسلمين، واستخدم هذه الوسيلة أيضا صحابة رسول الله- رضوان الله عليهم- وجاء استخدام القصة لأغراض شتى ومتنوعة وبأشكال شتى أيضا، كلها تؤدى إلى تعميق القيم أو تأسيسها، وتتمثل تلك الأغراض فيما يلي:
1- غرس القيم الخلقية:
تعرضت القصة القرآنية والنبوية لقضايا ومعايير تنمية القيم الخلقية، كالثبات على العقيدة، والتمسك بها، وعدم التنازل عن مبادئها، وبطريقة التكرار لتؤكد على «تعميق هذه المواقف وترسيخها في نفوس المسلمين، لتستقر في وجداناتهم ومشاعرهم ولتكون معلما يضىء لهم الطريق وهم يواجهون ما يواجهون من ألوان الاضطهاد والتنكيل بسبب ما يعتقدونه من دين وما يؤمنون به من عقيدة» «1» . كما تتعرض القصة للصلاة وفضلها، والصدقة وفضلها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتوبة، والأمانة والصدق، وغير ذلك من قيم إسلامية صحيحة أكدتها القصة ودعت إلى التزامها، سواء فيما يتصل بالسلوك الفردي أو السلوك مع الجماعة وما يصون عليها وحدتها وأفعالها من قيم «2» .
إن القصة في المصادر الأصيلة تهدف إلى إيجاد عواطف متجاوبة مع تعاليم الإسلام وقيمه وأخلاقه، وذلك مما يدعو إلى الالتزام بهذه القيم، والأمثلة كثيرة ومتنوعة، فالقصص القرآني والنبوي زاخر وغني بالقيم الإسلامية، ونجد فيها توظيفا لإمكانيات القصة في سبيل تحقيق هذا الغرض وهو تنمية القيم الإسلامية، إلى جانب الأغراض الأخرى، فقد كانت «تسعى إلى هدفها بسلوك طرق مختلفة، لها أثرها الحيوي في تربية الإنسان وتوجيهه والأخذ بيده نحو الأفضل، وهو أثر نابع من الاستجابة الطبيعية التي يحس بها الإنسان، وهو يتعامل مع تلك الوسائل، لأنها وسائل تتجاوب مع إمكاناته النفسية، وما جبل عليه من طبائع واستعدادات وقوى، وتوقع على أوتارها ما تنشده من غايات تربوية» «3» .
2- تأكيد العقيدة وتعميقها في وجدان الناس:
باعتبارها القيمة الأساسية التي تقوم عليها وتحيا في ظلها جميع فروع الدين وجزئياته ونظمه، وذلك كتأكيد قضية وحدانية الله وإفراده بالألوهية والعبادة.
ولأهمية البناء العقيدي للمسلم فردا وجماعة، ولأهمية مبدأ التوحيد المحرر للإنسان وللجماعة تهتم القصة بعرض جزئيات قيم العقيدة، كصفات الله تعالى، والتأكيد على أنه هو المهيمن المتصرف في هذا الوجود، وأنه تعالى
__________
(1) محمد بن حسن الزير، مرجع سابق، ص 390.
(2) المرجع السابق، ص 397- 402.
(3) المرجع السابق، ص 444.(1/157)
صاحب الشأن في هذا الكون الفعال لما يريد، كما تؤكد أهمية الثقة في الله والكفاية به، والاعتماد الدائم عليه والاعتصام به، والإيمان بالملائكة، والرسل والكتب واليوم الآخر، وبالقضاء والقدر، خيره وشره، وحلوه ومره، وأن الإنسان لم يسلب إرادته وحريته بهذا الإيمان، بل أعطى حريته وإرادته المختارة، وأعطى عقلا يميز به، وهو أساس التكليف والمسئولية، إلى غير ذلك من جزئيات القيم العقيدية التي تعتبر الأساس لكل القيم، وعرضته القصة عرضا جيدا «1» .
3- عرض حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وما تضمنته من قيم خلقية:
حيث إنه الرائد الذي لا يكذب أهله، وهو الهادي إلى الحياة الصحيحة، من تبعه فيما دعا إليه فاز ونجا، ومن كذبه خسر وبار، وأنه خاتم الرسل ولا نبي بعده، وتعرض دلائل النبوة وبراهين الرسالة، كما تعرض لصفات النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وتعرض القصة حياة الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- ودعوتهم إلى أقوامهم، ومواقف الأمم من الدعوة وانتصار الحق وغير ذلك من ملامح تاريخ الرسل، ومحاولتهم تخليص العقيدة من الأمراض التي تفتك بها، وإرساء القيم الصحيحة للاقتداء بهم، والتأسي بهم فيما كانوا عليه من الهدى.
وجملة الأمر أن القصة كوسيلة من وسائل تنمية القيم الخلقية تتسع إمكاناتها، إذ إنها تستخدم كافة الإمكانات التى تفيد في هذا المجال، استخدام عناصر التشويق، والتقرير والحوار والسؤال وغير ذلك من إمكانات «2» . كالنموذج والقدوة للاحتذاء بها، والتوجيه التقريري على لسان أحد شخصياتها، والمادة التاريخية الواردة بها، والوسائل التعليمية والتربوية، ومعنى هذا أن إمكانياتها واسعة جدا، يمكن الاستفادة منها في مجال تنمية القيم الخلقية الإسلامية.
وقد أحس المسلمون قيمة القصة في تنمية القيم الخلقية، فبعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، كان الآباء والأمهات من الصحابة والصحابيات يستخدمون القصة من أجل تحقيق هذا الهدف، وبدأ القصّاص يجلسون في المساجد يقصون أخبار الرسول صلّى الله عليه وسلّم وسيرته، وأخبار الأمم السابقة، والقارىء للفكر الإسلامي وفنونه يستدل على الكثير من الشواهد الدالة على شيوع استخدام القصص عند المسلمين.
وإذا كانت القصة تحتل تلك الأهمية في تاريخ التربية الإسلامية، فإن أهميتها لا تزال مستمرة وتحقق أهدافا تربوية جيدة للأطفال والشباب والشيوخ، فلكلّ قصصه الذي يناسبه، ويمكن استخدامها بطريقة فعالة لغرض القيم الخلقية الإسلامية، ولذلك شروطه كما يلي:
- أن تكون القصة منسجمة مع أهداف الإسلام ومبادئه وقيمه بحيث تقدم هذه القيم في إطار أهداف
__________
(1) راجع: المرجع السابق، ص 379- 385، وعبد الوهاب لطف الديلمي، معالم الدعوة في قصص القرآن الكريم، الطبعة الأولى، ج 1، جدة، دار المجتمع للنشر والتوزيع، 1406 هـ/ 1986 م، ص 61- 120.
(2) راجع: المرجع السابق، ص 94- 123، وعبد الوهاب بن لطف الديلمي، مرجع سابق، ج 2، ص 1084.(1/158)
الإسلام بعيدة عن التهويل والمبالغات، فضلا عن الأساطير والأكاذيب والبدع.
- أن تكون القصة مناسبة للسن الذي تكتب له، فجمهور القصة ليس واحدا متجانسا في صفاته، وخصائصه ورغباته وقدراته، ومعنى هذا مراعاة خصائص النمو بكافة جوانبها النفسية واللغوية والحضارية والعلمية.
- أن تختار الموضوعات المناسبة، بحيث يحوي جوهر الموضوع الاتجاهات والقيم والمعلومات المناسبة لما تعرضه.
- أن تراعي العناصر الأساسية للقصة، من حيث البنية العامة، والنسيج القصصي، والأسلوب المناسب، والتشويق، ومراعاة الإطارين الزمني والمكاني، وطريقة العرض والشخصية الأساسية والشخصيات الثانوية، ثم نوع القيم ومصادرها، وطريقة عرضها، وغير ذلك من شروط تتصل بهذا الموضوع «1» .
إن القصة تلعب دورا بالغ الأهمية في تنمية القيم الخلقية والاتجاهات الإسلامية، لو وجهت التوجيه الإسلامي في الهدف والنزعة والأسلوب، وقد تكون فائدة القصة أكثر في مرحلة الطفولة مما يستدعي اهتماما جيدا بهذا اللون من القصص وتضمينه القيم الإسلامية الصحيحة.
ح- السؤال والحوار والمناقشة:
قد تكون هذه الوسيلة من أساليب التدريس العامة، إلا أن استخدامها في مجال تنمية القيم الخلقية يعتبر فعالا، وهذا ما تدل عليه النصوص القرآنية والنبوية، فقد كان المسلمون يسألون الرسول صلّى الله عليه وسلّم ويستفتونه فيما يواجههم من شئون الدين والدنيا، وكان القرآن يجيب على تلك الأسئلة، وكثيرة تلك الموضوعات التي أجاب القرآن فيها على أسئلة المسلمين «2» .
واستخدم الرسول صلّى الله عليه وسلّم الطريقة نفسها، فكان يجيب المسلمين على ما يعن لهم من أسئلة تواجههم معطيا كل سؤال حقه من الإجابة، إيجازا وتفصيلا تبعا لمقتضيات الحال، «والإجابة دائما شافية، بحيث لا يترك النبي صلّى الله عليه وسلّم السائل وفي نفسه أثارة من حرج أو أثارة من جهل، بأي جانب من جوانب الموضوع الذي يسأل عنه» «3» .
والأمثلة من السنة كثيرة وافرة، ونلاحظ أن السؤال تارة يأتي من المسلمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وتارة يسأل الرسول
__________
(1) انظر حسن إبراهيم عبد العال، مرجع سابق، ص 303- 305، ورشدي طعيمة: تحليل المحتوى في العلوم الإنسانية، مفهومه، أسسه، استخداماته، القاهرة، دار الفكر العربي، بدون تاريخ، ص 322- 340.
(2) اقرأ: المائدة: 4، البقرة: 189، 215، 217، 219، 221، 222.
(3) جابر قميحة، مرجع سابق، ص 123.(1/159)
صلّى الله عليه وسلّم مستثيرا الرغبة في المعرفة لدى المستمعين. ونذكر هنا أمثلة حسب مقتضى الحال.
يروى «أن سعد بن عبادة- رضي الله عنه- استفتى النبي صلّى الله عليه وسلّم نذرا كان على أمه، فتوفيت قبل أن تقضيه، فأفتاه بأن يقضيه عنها» «1» .
ويروى عن عقبة بن عامر- رضي الله عنه- أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة؟ فقال: «مرها فلتختمر ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام» «2» .
ويروى عن أبي موسى- رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدنا يقاتل غضبا، ويقاتل حمية، فرفع إليه رأسه، قال: وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائما، فقال:
«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله حتى يرجع» «3» .
والأمثلة على أسئلة المسلمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم كثيرة، متنوعة، تتعلق بمسائل كثيرة ومواقف عديدة من مواقف الحياة التي كان يعيشها الناس.
أما سؤال النبي صلّى الله عليه وسلّم للمسلمين فأمثلته كثيرة، تدل على حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على تعليم المسلمين أمر دينهم وغرس القيم لديهم، من ذلك ما يروى عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم، حدثوني ما هي؟» فوقع الناس في شجر البادية، ووقع في نفسي أنها النخلة، قال عبد الله: فاستحييت، فقالوا: يا رسول الله، أخبرنا بها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هي النخلة» . قال عبد الله: فحدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحب إليّ من أن يكون لي كذا وكذا» «4» .
وسواء كان السؤال للاستفهام أو للاستفسار أو للتقرير أو للإنكار أو للتوبيخ، أو للتهكم، أو للأمر أو للتنبيه أو للتحقيق، وغير ذلك من أغراض السؤال، فإنه يعد وسيلة من أهم وسائل تقرير القيمة الخلقية وتنميتها، فضلا عن أنه أسلوب من أساليب التعليم والتعلم، بل إن صياغته تعتبر فنا له شروطه وطريقته يستخدمه المربون استخداما له أهدافه في مجالهم، وما تزال له فعالية وله شيوعه في أساليب التعليم منذ القدم وحتى اليوم «5» .
__________
(1) حديث صحيح: متفق عليه، انظر البغوي، مرجع سابق، ج 2، ص 597، حديث رقم 2573.
(2) حديث حسن، انظر: المرجع السابق، ص 500، حديث رقم 2582.
(3) الإمام البخاري، مصدر سابق، ج 1، كتاب العلم، ص 58، حديث رقم 123.
(4) الإمام البخاري، مصدر سابق، ج 1، كتاب العلم، ص 1، حديث رقم 131.
(5) انظر: محمد عبد العليم مرسي، المعلم والمناهج، الطبعة الأولى، الرياض، دار عالم الكتب، 1405 هـ/ 1985 م، ص 191، 192.(1/160)
هذه بعض وسائل تنمية القيم الخلقية الإسلامية، ولكنها ليست كل ما كان يستخدمه صلّى الله عليه وسلّم أو استخدمه القرآن الكريم، فهناك طرق ووسائل أخرى كثيرة كاستخدام العقل «1» ، والترغيب والترهيب، وغير ذلك «2» . وقد حققت نتائج تربوية بالغة الأهمية في غرس القيم الإسلامية، والتي بدت آثارها في تقدم وتفوق المجتمع الإسلامي، وهذه استخدمت بفعالية كطريقة في حد ذاتها، وكوسيلة تتخلل الوسائل السابقة الذكر وتتكامل معها، فكل هذه الوسائل مترابطة، لها أثرها في تنمية جانب أو أكثر من القيم الإسلامية.
وهذه هي أهم وسائل تنمية القيم الخلقية الإسلامية في الشخصية المسلمة، فإن محاولتنا ربطها أو استنباطها من النصوص القرآنية الكريمة والسنة المطهرة الشريفة لا تعني أنها ثابتة غير مرنة، مغلقة جامدة غير متفتحة، أو عاجزة عن استيعاب الجديد من وسائل التعليم والتعلم، إذ هي من الأصول العامة التي يمكنها أن تستوعب الجديد من الوسائل، ما لم يتعارض مع نص صريح من النصوص الإسلامية، أو يعمل على الإخلال بأهداف ومبادىء الإسلام، وإلا فإن هذه الوسائل في حد ذاتها أكبر داعية للأخذ بأي وسيلة مستحدثة، ما دامت تفيد في تحقيق أهداف رسالة الإسلام.
ولكن العبرة في كل هذا بالاستخدام لا باستهلاك الكلام، ومن ثم فإن فعالية الاستخدام تعود إلى المربي والمعلم الكفء الناجح والذي يستطيع بتمكنه العلمي والمهني أن يستخدم هذه الوسائل بفعالية مستفيدا من كل جديد في المجال، مستغلا كافة الطاقات والإمكانيات المتاحة في سبيل تنمية القيم الخلقية بطريقة صحيحة وجيدة.
هذا فيما يتعلق بالوسائل التربوية بوجه عام، أما إذا تعلق بتربية التلاميذ فإنه يمكن أن يضاف إلى الوسائل السابقة مجموعة أخرى من الوسائل أهمها:
1- أسلوب الأحداث الجارية:
إن استخدام الأحداث الجارية والمناسبات الدينية كمدخل لترغيب التلاميذ وتشويقهم لدراسة موضوعات التربية الإسلامية، طريقة لها أثرها الفعال في العملية التعليمية، وذلك لكونها تربط ما يتعلمه التلاميذ من الكتاب المدرسي بواقع حياتهم وخبراتهم ومشاهداتهم، الأمر الذي يزيد من فعالياتهم ونشاطهم ومشاركتهم الايجابية في دراسة موضوعات التربية الإسلامية.
ليس ثمة من شك في أن كشف أسباب النزول تؤدي في هذا الصدد خدمة كبيرة في تربية النشء، ولكن لن
__________
(1) يراد باستخدام العقل وسيلة للتنمية الخلقية: النظر بواسطة الحجة والتعليل والقياس، مما يؤدي إلى الاقتناع بسواء بما يتلقاه الإنسان من معلومات أو يتخذه من سلوك.
(2) راجع: على خليل أبو العينين، فلسفة التربية الإسلامية في القرآن الكريم، الطبعة الأولى، القاهرة، دار الفكر العربي 1980 م، ص 219- 252، وعبد الجواد سيد بكر، فلسفة التربية الإسلامية في الحديث الشريف، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي، 1973، ص 301- 355.(1/161)
تتحقق هذه الخدمة إلا إذا عرف المعلم بصورة محددة ما يجب أن نستكشفه في ضوء هذه الأسباب، فليس في مقدور هذه الحوادث المروية وحدها أن تقود التلاميذ قيادة مثمرة للفهم، إلا إذا أحسن المعلم تدبرها واستطاع أن يساعد التلاميذ ليروا من ثناياها الأوضاع العامة التي أدت إلى نزول القرآن من لدن رب العالمين ليحق الحق ويبطل الباطل، وليمحوا العقائد الضالة والأوضاع الاجتماعية الفاسدة.
2- أسلوب تفريغ الطاقة:
تحرص التربية الإسلامية على النظر إلى الإنسان باعتباره جهازا معقدا من الطاقات، ومن ثم يجب توجيه هذه الطاقات وجهتها الصحيحة لكل ما يجلب المنفعة للفرد، ويحميه من الدوافع والميول التي قد تعرضه للانحراف أو السلوك غير السوي، ويتجلى هذا الأسلوب فيما يلي:
أ- الاهتمام بحاجات وميول ورغبات التلاميذ وجعلها أساسا محددا في موضوعات التربية الإسلامية.
ب- الاهتمام بأوجه النشاط المختلفة وحفز التلاميذ على الاشتراك فيها مما يؤدي إلى تفريغ الشحنات المتجمعة في داخلهم بصورة تهدف إلى تحقيق أغراض التربية «1» .
ج- مساعدة التلاميذ على الاطلاع الخارجي، والقيام بالرحلات التي تؤدي إلى اكتساب المهارات المستخدمة في إفراغ طاقتهم بصورة سليمة.
3- أسلوب العادة:
يشغل أسلوب العادة مركزا مهما في ميدان التربية والتعليم لما له من قدرة في تربية النشء وتوجيهه التوجيه الأمثل المحقق لأهداف التربية الإسلامية. والعادة هي (كل سلوك متكرر يكتسب اجتماعيا ويتعلم اجتماعيا، ويمارس اجتماعيا، ويتوارث اجتماعيا «2» .
4- أسلوب الممارسة والعمل:
إن تكوين أخلاق الإنسان وبناء علاقاته الاجتماعية لا تقوم بالوعظ وحده ولا بالحفظ وحده، بل تحتاج إلى أفعال يمارسها الإنسان لتتكون أخلاقه عمليّا ليبني علاقات مع بني الإنسان بالواقع «3» . إذ مما تجدر الإشارة إليه أن «تعود المرء على النظام في الحياة، وعلى ضبط النفس وعلى الحياة الاجتماعية التعاونية، كلها تتطلب مرانا وممارسة يومية تلازم حياة الإنسان ليل نهار» «4» .
__________
(1) بإيجاز وتصرف عن التربية الإسلامية، كيف نرغبها لأبنائنا ص 52- 53.
(2) انظر في ذلك، وفي الموجهات التي يجب الالتزام بها، المرجع السابق، ص 64.
(3) محمد فاضل الجمالي، نحو توحيد الفكر التربوي، ص 104.
(4) محمد فاضل الجمالي، المرجع السابق، ص 105، وقارن ب: التربية الإسلامية، كيف نرغبها لأبنائنا، ص 99.(1/162)
الفصل الخامس وسائط تنمية الأخلاق
إن وسائط تنمية القيم الخلقية كثيرة ومتعددة، ويتم عن طريقها تنشئة الأفراد المسلمين على القيم الإسلامية الصحيحة، وهذه الوسائط هي نفسها وسائط أو وكالات الثقافة المنوط بها تنشئة الأفراد على ثقافة المجتمع، ذلك أن الثقافة هي «الإطار الأساسي والوسط الذي تنمو فيه الشخصية وتترعرع، فهي التي تؤثر في أفكاره ومعتقداته ومعلوماته ومهاراته، وخبراته ودوافعه، وطرق تعبيره عن انفعالاته ورغباته، كما تحدد له القيم والمعايير التي يسترشد بها وتفرض عليه التقاليد التي يتمسك بها» «1» ، إلا أن الثقافة لا يمكنها أن تشكل الشخصية بهذا الشكل، وتقدم لها القيم اللازمة لاستمرار حياتها إلا عن طريق التربية والتعليم أو ما يسمى بالتنشئة الاجتماعية، والتي ينظمها المجتمع تنظيما دقيقا بها وكالاته أو مؤسساته أو وسائطه «2» .
فالثقافة- إذن- «بكل وسائطها، تعتبر الوعاء التربوي العام حيث تحدث عملية التنشئة الاجتماعية للأفراد بما تؤدي إليه من اكتسابهم أنماطا سلوكية تحدد علاقاتهم وتعبر عن نفسها فيما يقومون به من أدوار اجتماعية «3» .
ولذا يأتي البحث هنا عامّا بمعني أنه لن يقتصر على المدرسة وحدها كمؤسسة تعليمية وتربوية مقصودة، بل سنبحث عن الوسائط الثقافية كلها، لما لها من دور بالغ الأهمية في عملية تنمية القيم، ولأن حديثنا عن القيم الإسلامية موصول، فإن تناولنا لهذه الوسائط يأتي في هذا الإطار الإسلامي غير مغفلين أثر التطورات والتغيرات التي لحقت بالحياة المعاصرة وما صاحبها من تخصص وتداخل وتكامل أو حتى ضياع مراكز كانت تحتل الصدارة فأصبحت في المؤخرة، وتقدم أخرى حتى أصبحت في المقدمة.
ويأتي الحديث عن هذه الوسائط في محاولة لتحديد دور كل واحد من هذه الوسائط وما يجب أن يقوم بأدائه من أدوار في إطار تنمية القيم الإسلامية في المجتمع الإسلامي المعاصر.
أ- الأسرة:
وهي الوعاء الاجتماعي الذي يتلقي الطفل معلوماته، ويتفاعل مع أفرادها، ويشعر بالانتماء إليه، وبذلك يكسب الطفل أول عضوية له في جماعة، ويتعلم منها كيف يتعامل مع الآخرين في سعيه لإشباع حاجاته وتحقيق مصالحه من خلال تفاعله مع أعضائها.
__________
(1) سامية الساعاتي، الثقافة والشخصية، بحث في علم الاجتماع الثقافي، الطبعة الثانية، بيروت، دار النهضة العربية، 1983 م ص 223.
(2) المرجع السابق، ص 224- 226.
(3) محمد الهادي عفيفي، في أصول التربية، الأصول الثقافية للتربية، القاهرة، الأنجلو المصرية، (بدون تاريخ) ، ص 218.(1/163)
ويولد الطفل خلوا من أي شيء يحدد شكل تعامله مع المواقف والأشياء والأشخاص والأهداف التي تنتظم عليها حياته بعد ذلك، والأسرة هي التي تتولى رسم توجهاته في الحياة من خلال القيم التي تحتويها ثقافة المجتمع ويستجيب الطفل لها نظرا لما للأسرة من قدرة وإمكانات على إشباع حاجاته، ومعاونته على مواجهة المواقف التي تواجهه في حياته المبكرة «1» .
وأهم مشكلة تواجه الفرد في حياته، تلك التي تتمثل في الكيفية التي يتعامل بها مع محيطه، بعبارة أخرى:
كيف يتمكن من التعامل مع عالمه بطريقة منسقة؟ والجواب هنا يتمثل في الخبرات التي يستمدها الطفل من بيئته، وما تتضمنه من مسلمات تتعلق بدلالات الأشياء والأشخاص والأحداث، أي من خلال القيم التي يتشربها ويستدخلها في ذاته من خلال أسرته، وتظل معه طوال حياته في بنائه الشخصي والذات «2» .
وهنا تبرز أهمية التنشئة الاجتماعية عن طريق الأسرة، التي يكتسب الطفل عن طريقها الحكم على الأشياء والمواقف والخبرات، وتتأثر تلك العملية بالجو الأسري وما يسوده من تعاون واستقرار، أو تشاحن واضطراب، وكلما كانت العلاقة القائمة بين الوالدين تستند إلى المحبة والتفاهم والتعاون، تأتي التنشئة الاجتماعية صحيحة وسليمة، فيتشرب الطفل القيم بطريقة صحيحة سليمة.
وكلما كانت الأسرة متمسكة بدينها، ومبادئه وقيمه، انعكس ذلك على تربية الأطفال، حيث تعمل على تنشئة أبنائها على القيم الصحيحة، فيحكمون الدين ومبادئه وأحكامه في كل تصرفات حياتهم، والعكس صحيح «3» .
وقد أراد الله للأسرة أن تقوم على الأسس الصحيحة السليمة، فأرسى الدعائم السليمة الصحيحة، والأسس القويمة لتكوينها تكوينا سليما كحاضن جيد للطفل، بحيث ينشأ نشأة سوية، متمسكا بالقيم الإسلامية، ولهذا وردت النصوص الوافرة موجهة إليه، عاكسة روح الإسلام وأهدافه في بناء الأسرة «4» .
إن الأسرة المسلمة تقوم على مبادىء معينة، هامة وجليلة الشأن من أجل توفير جو صحي سليم لتربية الأولاد تربية سليمة على القيم الإسلامية، فهي تقوم على المودة والرحمة: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ «5» .
__________
(1) محيي الدين أحمد حسين (مرجع سابق) ، ص 59.
(2) المرجع السابق، ص 59.
(3) منير المرسي سرحان، في اجتماعيات التربية، الطبعة الثانية، بيروت، دار النهضة العربية 1981 م، ص 184، 183.
(4) راجع في نظام الأسرة في الإسلام- مثلا-: أحمد محمد العسال، مرجع سابق، ص 179- 200.
(5) سورة الروم: 21.(1/164)
كما تقوم على مبدأ العدل والمساواة: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ «1» .
على اعتبار أن لكل من الرجل والمرأة وظيفة في الأسرة، كما أن الأسرة تقوم على مبدأ المعاشرة بالمعروف:
وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ «2» .
وفي مثل هذا الجو الأليف الودود تقوم عملية التربية للأبناء وسط جو من ضمان حقوقهم، ووسط الشعور بالمسئولية التامة عن هذه التربية التي أكدها الشارع الحكيم، فالأسرة قائمة على قيم ومن أجل قيم، يقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» «3» .
ولا بد من التنويه بأمرين هامين في هذا المجال يؤثران تأثيرا واضحا في مسئولية الأسرة عن تنمية القيم الخلقية،
وهما:
الأمر الأول: إن مسئولية الأسرة متكاملة تجاه الأطفال وتربيتهم،
ذلك أن تنمية القيم لا يأتي وحده، بل في إطار إشباع الحاجات التي يحتاجها الطفل، جسمية وعقلية وخلقية وجمالية ونفسية وعقدية واجتماعية، ومعلوم أن القيم تتخلل كافة هذه الحاجات، ومعنى العناية بهذه الحاجات وإشباعها الاهتمام الشامل بتنمية هذه الجوانب على أساس قيمي.
وتشير السنة المطهرة إلى ذلك، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها» «4» .
فحاجات الطفل المتعددة وإشباعها هي الأساس في تنمية القيم لديه، فالحاجات الجسمية، توفرها الأسرة، من أكل وشرب وملبس ومسكن وعناية بالجوانب الصحية وغير ذلك، وعن طريقها يتعلم الطفل الضبط وغير ذلك، فهي المدخل الأساسي لتكوين نواة الالتزام، وكذا الحاجات العقلية والخلقية، ويحتاج الطفل إلى
__________
(1) سورة البقرة: 228.
(2) سورة النساء: 19.
(3) صحيح متفق عليه، راجع: البغوي، مصابيح السنة، مرجع سابق، ج 3، ص 12، حديث رقم 2776. وراجع صفة المسئولية من صفات الموسوعة.
(4) صحيح متفق عليه، راجع: المرجع السابق، ج 1، ص 136، حديث رقم 69. والجمعاء: السليمة من العيوب فمجتمعة الأعضاء كاملها لا جدع بها ولا كي (ابن الأثير في النهاية: 1/ 296) .(1/165)
مجموعة حاجات أخرى تؤهله لاكتساب القيم، كالحاجة إلى الأمن، والتقبل، والتقدير الاجتماعي، والحب، كما أنه يحتاج إلى إشباع حاجته إلى التحصيل والنجاح، وإلى تعلم المعايير السلوكية، وإلى السلطة الضابطة المرشدة، وغير ذلك من حاجات «1» .
إن الإشباع وطريقته يعتبر الأساس في تنمية القيم الإسلامية، فالطفل يولد وهو مزود ببعض القابليات، إلا أنه يعيش في بيئة معينة يتفاعل معها وتتفاعل معه، والبيئة السلوكية التي يعيش فيها تضطره إلى تعديل إشباع بعض دوافعه الأولية، وتكوين بعض العادات الانفعالية. أي أن البيئة السلوكية لا تدعه يعبر عن دوافعه تعبيرا حيوانيا، ذلك لأن القيود الاجتماعية التي يمليها النظام الحضاري تملي عليه نوعا من تعديل هذه الميول الفطرية «2» .
إن أهمية الأسرة المسلمة في تنشئة الطفل المسلم على المعايير والقيم الإسلامية غاية في الأهمية، ومسئوليتها متكاملة تجاه تلك التنشئة بحيث يكتسب الطفل المسلم الشخصية الإسلامية الصحيحة، والمتكاملة المتوازنة.
الأمر الثاني: أن الأسرة المسلمة أصابها من التغيير ما أصابها، وتواجه مشكلات جمة،
بل يمكن القول بأنها تعيش صراعا قيميا ليس هذا مجال تحليله وبيان أسبابه، فقد انسحب عليها ما انسحب على المجتمع الإسلامي، والمجتمع العالمي معا، وكان لهذا تأثيراته الواضحة عليها.
ومع التغير الاجتماعي تغيرت أشياء في الأسرة منها الإيجابي، ومنها السلبي، وكان للتغيير الذي صاحب التصنيع والتقنية أثره الفعال على الأسرة في نواح متعددة «3» . وهذا التغيير يجعل وظيفة الأسرة المسلمة أكثر أهمية وصعوبة، خاصة في مجال تنمية القيم الإسلامية، وفي إطار أهداف الرسالة الإسلامية الخالدة المتجددة، وفي إطار تلك المتغيرات التي أصابت الأسرة، فإن دورها في تنمية القيم الخلقية في إطار رعايتها للنمو المتكامل لشخصية الطفل يتحدد كما يلي:
1- مساعدة الطفل على تأكيد الإيمان بالله- عز وجل-، بكافة الطرق المناسبة، بالكلمة الحانية، والسلوك القويم، بالقصة الهادفة الملتزمة، بالترغيب في العبادات وقراءة القرآن، وغير ذلك من أسباب ووسائل تحقق الأهداف الإسلامية وتغرس عقيدة التوحيد في نفس الناشىء.
2- مساعدة الطفل على تمثل القيم والحقائق والمبادىء الإسلامية، وإمداده بالخبرات الاجتماعية المثيرة له
__________
(1) انظر: حسن إبراهيم عبد العال، مرجع سابق، ص 119- 124، ص 201- 220.
(2) المرجع السابق، ص 223.
(3) انظر: سناء الخولي، الزواج والعلاقات الأسرية، بيروت، دار النهضة العربية، (بدون تاريخ) ، ص 299- 310.(1/166)
والتي تضيف إلى خبرته قيما وحقائق جديدة في إطار إسلامي، مع التبسيط المناسب المعبر عن حاجات الطفل ومشكلاته.
3- مساعدة الطفل على توضيح وترجمة قيمه واتجاهاته ومشاعره وآرائه التي تمثلها، وكذا مشكلاته الخاصة، وتوجيهه لحلها في اطار إسلامي صحيح.
4- تهيئة المناخ المناسب المساعد على اكتساب القيم، عن طريق صلاح الأسرة وصلاح الأبناء وتهيئة المجال للطفل للاقتراح والتخطيط المناسب، ومزاولة الأنشطة التي تبدو هامة بالنسبة له.
5- توجيه الطفل إلى ما يجب أن يفعله في المواقف المختلفة، وبيان أنه يتعين عليه أن يفعله دون ضغط أو إكراه من أحد.
6- وانطلاقا من احترام الإسلام لذاتية الطفل، فعلى الأسرة أن تحترم ذاتيته، وتقدر ما ينوي فعله، وقدرته على الأداء، واحترام أسئلته عن عالمه، والإجابة عنها بأسلوب مناسب، حتى يتمكن من فهم عالمه واستقاء المعاني منه، وتكوين القيم الإيجابية تجاه هذا العالم.
7- العدل بين الأطفال والمساواة بينهم، على النحو الذي أشار إليه الإسلام مما يحفظ على الطفل كرامته واعتزازه بنفسه، ويساعده على التمثل الفعال للقيم الإسلامية.
8- تعويد الطفل على الآداب الاجتماعية الإسلامية، والأخلاق الإسلامية بالممارسة العملية وليس عن طريق الكلام النظري وإلقاء الأوامر ليقتنع بها اقتناعا كاملا.
9- تعويد الطفل على السيطرة على بيئته، والتعامل معها تعاملا رفيقا، من خلال المحاولة والخطأ وتعليمه أن الواقع المحيط به يحتاج إلى التفاعل الجاد معه.
10- تقبل الأفكار الجديدة من الطفل، واحترام حبه للاستطلاع دون التقليل من شأنه أو قهره أو احتقاره، لأن هذا يقلل من شعور الطفل بذاتيته مما يعتبر معوقا في نمو القيم لديه «1» .
وقد يكون هذا الكلام جميلا مثاليّا، وكثير غيره كذلك، ويأتي السؤال الطبيعي جدا والواقعي: ما الطريق إلى تحقيق هذا؟ نقول: إن تربية الأطفال بهذه الصورة تحتاج إلى جهد ومشقة، ولن يتم هذا إلا في ظل أبوة حانية، وأمومة رحيمة لديها الوعي الكامل بأهمية وخطورة ما يقومان به. لذا فإن تربية الآباء يجب أن تأتي قبل تربية
__________
(1) يقصد بالذاتية: هوية الذات في إطارها الفردي والتي بها يتمايز الإنسان عن غيره من البشر، وهو أمر أكده الإسلام في القرآن والسنة وانظر: محمود فهمي قمير، ذاتية الطفل والنظرية التربوية في الإسلام، في: أحمد إبراهيم كاظم وآخرون، دراسات في التربية الإسلامية وأصولها النظرية والفلسفية- مركز البحوث التربوية- المجلد التاسع- جامعة قطر- 1985 م، ص 282.(1/167)
الآبناء.
إن هذا يستدعي- أولا- أن يتمثل الآباء والأمهات القيم الإسلامية، ويستعينوا بالحكمة والأناة والصبر، فالتربية لا تأتي بين يوم وليلة، وإنما بمجاهدة الأيام والليالي، وليس لسياسة الزجر والعنف، لأنها تدفع بالطفل إلى التطلع للممنوع، وإشباع حاجاته من هذا الممنوع، بالتمرد على توجيه الأبوين، أو بالظهور بمظهر الخضوع الكاذب ... وربما انتهى الأمر إلى ازدواج في شخصية الناشيء، مما يؤدي في النهاية إلى أن يصبح منافقا، وهو المرض الفردي الاجتماعي الذي نشكو منه مر الشكوى «1» .
ولعلنا نعود هنا إلى ما سبق أن ذكرناه عن القدوة وما تتطلبه من الشفقة والرحمة. وقد أدرك ابن خلدون- وغيره- خطورة هذا، فقال: «ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم، سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله، وصار عيالا على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين» «2» .
إن الأسرة المسلمة يجب عليها أن تتخلص من قيم الضعف وما يسودها من ضعف وقيم لا تنتمي لقيم الإسلام الصحيحة، وإذا كان لنا أن نبني مجتمعا مسلما على قيم الإسلام الصحيحة، فلا بد من تغيير قيم الأسرة وما يسودها من قيم ضعف وهوان تجاه القيم الإسلامية الصحيحة، في بنائها وفي تربية أبنائها، وهذا هو أساس التغيير الصحيح نحو القيم الإسلامية، إن عين الطفل وسمعه يجب ألا يقعا إلا على سلوك صحيح مترجم عن واقع صحيح وقيم سليمة، ولذا فإن المطلوب من الوالدين أن يكونا فعلا قدوة صالحة، ليتلقى الطفل منهما مباشرة وبدون مباشرة ما يؤكد ذاتيته واستقلاله في إطار التصور الإسلامي الصحيح.
وينبغي أن تكون سياسة الأسرة قائمة على التفتح واختيار الجيد، والبعد عن سياسة الانغلاق والحرمان وإيصاد الأبواب، والاعتماد على تكوين الحس الإسلامي في نفوس الأطفال، وبالتدرج وإنضاج القدرة على الاختيار الجيد، والبعد عن السفاسف والرذائل.
__________
(1) أحمد محمد العسال، مرجع سابق، ص 206، 207.
(2) ابن خلدون، المقدمة، الجزء الثاني، المدينة المنورة، مكتبة ودار المدينة المنورة للنشر والتوزيع، 1984 م، ص 704.(1/168)
ب- جماعة الأقران:
بمرور الأيام، وتقدم عمر الطفل تتحول ميوله من الأسرة إلى الالتحاق بجماعات الرفاق على أساس من تقارب السن، فجماعة الأقران أو الرفاق، تكوين طبيعي ينشأ من اختلاط الأطفال ببعضهم في إطار العائلات أو الحي أو الشارع الذي يسكنون فيه، والناشىء بنزعته الاستقلالية يندمج مع هذه الجماعة، ويؤدي به الأمر إلى مجاراة ما يسود بينهم من قيم ومعايير.
ويقضي النشء وقتا طويلا مع هذه الجماعة، خارج المدرسة وداخلها، الأمر «الذي يؤثر في سلوكهم واتجاهاتهم تأثيرا كبيرا، وكذلك في قدرتهم على التعلم» «1» .
وجماعة الأقران أو الرفاق أكثر «من مجرد جماعة من الأصدقاء يهتمون بأمورهم الخاصة وعلاقاتهم المتبادلة فحسب، بل تعتبر كذلك، بمعنى خاص معين، جماعة يتدخل فيها الكبار ويحددون مركز كل طفل والغرض من المحافظة على بقاء هذه المراكز» «2» . وتلعب هذه الجماعة دورا بالغ الأهمية في إكساب الناشىء القيم، نظرا لأنها تضم جماعة متناسقة من حيث العمر، ومن ثم يتمكن الناشىء من اكتساب خبرات وقيم معينة لا يمكن اكتسابها داخل الأسرة، وتنجح جماعة الأقران في نقل قيم متميزة للأفراد، كما يمكنها أن ترسخ قيما سائدة في المجتمع «3» .
وكذا يمكنها أن تحطم قيما سائدة في المجتمع أيضا «4» .
فجماعة الأقران ناتج اجتماعي يتكون على أساس فئات السن، لإشباع حاجات محددة، ومعنى هذا أنها تقوم بوظيفة شرعية في نمو الطفل وإكسابه القيم السائدة في المجتمع. ومن أهم ما تقوم به هذه الجماعة في هذا المجال: الاعتراف بحقوق الآخرين، وهنا تنمو صيغة الواجب، ومعايير التصرف السليم بتلقائية كما أنها تقوم بدورها كأداة من أدوات الضبط، ذلك أن هذه الجماعة تتكون من أشخاص متكافئين، تقوم بينهم علاقات ودية وثيقة، ويسود بينهم التآلف، ويتوحد فيها الأعضاء بعضهم ببعض فتكون النتيجة أن يصبح الأعضاء شديدي الحساسية لموافقة الآخرين أو اعتراضهم، وهذا يعني شدة الضغوط التي تفرضها الجماعة على الفرد «5» ، وهكذا تساعد جماعة الرفاق في ضبط الاتجاهات وتكوين القيم، وتصحيح السلوك المتطرف أو
__________
(1) محمد مصطفى الشعبي: علم الاجتماع التربوي في اجتماعيات التربية، القاهرة، دار النهضة العربية، 1978 م ص 76.
(2) محمود حسن، الأسرة ومشكلاتها، بيروت، دار النهضة العربية، 1981، ص 430.
(3) انظر: محيي الدين أحمد حسين، مرجع سابق، ص 63، 64.
(4) انظر: محمود حسن، مرجع سابق، ص 430، 431، 435، 436.
(5) المرجع السابق، ص 444، 445.(1/169)
المنحرف بين أعضائها.
كما أنها أداة من أدوات توفير الأمن والاطمئنان الجسمي والنفسي، كما أنها تكون وحدة ثقافية خاصة ومتميزة، أي يكون لكل جماعة مجال محدد للنشاط والميول، ومجموعة معينة من القيم والاختيارات والتفضيلات تتضافر فيما بينها ويتكون منها النمط الاجتماعي للجماعة «1» .
ومن المهم الإشارة إلى أن جماعة الرفاق تعتبر انعكاسا لثقافة المجتمع الذي يعيشون فيه، وتتبلور فيها قيم المجتمع التي يؤمن بها، فالناشىء ينقل إلى هذه الجماعة ثقافة أسرته وثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه، وبالجملة فإن جماعة الرفاق من أهم الجماعات التربوية المؤثرة في نقل القيم وغيرها من المكونات الثقافية للمجتمع، ولذا تعتبر وسطا مهمّا جدّا في هذا المجال.
ولهذه الأهمية فقد حظيت باهتمام خاص من توجيهات الإسلام، ومفكريه ورجالات التربية الإسلامية، ففي صلاحها صلاح الفرد، وصلاح الفرد صلاح لها، ونجد توجيهات إسلامية واضحة تدعو الآباء والأمهات والمربين إلى العناية بتوجيه أبنائهم إلى اختيار رفقائهم من الأخيار الصالحين دينا وخلقا وسلوكا حتى يقتدوا بهم، ويكتسبوا منهم الصفات الحميدة والخلال الفاضلة، وأن يجنبوهم مخالطة الأشرار حتى لا يقلدوهم ويسلكوا طريقهم المعوج «2» .
وبتوجيه عام نقرأ في القرآن آيات عن أهمية الصحبة والرفقة، تؤكد ما ذهبنا إليه، يقول الله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا* يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا «3» . الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ «4» . وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ* فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ «5» .
وعن أبي سعيد- رضي الله عنه- أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي» «6» . وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» «7» .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا
__________
(1) المرجع السابق، ص 448، 449.
(2) عبد الحميد السيد الزنتاني، أسس التربية الإسلامية في السنة النبوية، ليبيا، الدار العربية للكتاب، 1984 م، ص 776.
(3) سورة الفرقان: 27، 28.
(4) سورة الزخرف: 67.
(5) سورة الشعراء: 99- 101.
(6) حديث حسن، انظر: البغوي، مصابيح السنة، مرجع سابق، ج 3، ص 381، حديث رقم 3902.
(7) حديث حسن غريب، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، المرجع السابق، ص 382، حديق رقم 3903.(1/170)
خبيثة» «1» .
وطبقا لهذه التوجيهات العامة، فإن اختيار الرفاق، وتوجيه الأبناء نحو اختيارهم صالحين، أمر واجب، والأساس في ذلك كله هو تنشئة الأطفال في أحضان الأسرة تنشئه صحيحة وسليمة وقويمة، وإذا ما عمت تلك التنشئة أسر المسلمين كانت جماعة الرفاق على نفس الدرجة من الصلاح، فلا يكتسب الناشىء إلا قيما صالحة، ويدعم هذا الوسط الاجتماعي العام والذي بقدر ما يكون صالحا يكون الأفراد كذلك، ومن ثم يعم الصلاح جماعة الرفاق وغيرها.
إن من الواجب مساعدة الناشىء على اختيار جماعته، لأنها تساعده على تحقيق استقلاليته على نحو تدريجي، كما تنمي لديه مفهومه عن ذاته، وتدعم القيم الصالحة «2» . لأن ميل الأطفال إلى اختيار الأقران وتقبل قيم الآخرين واتجاهاتهم النفسية يعتبر متغيرا من متغيرات الشخصية كما دلت على ذلك دراسات علمية متنوعة «3» .
وقد أدرك المربون المسلمون قيمة هذه الصحبة، ولهم في ذلك اجتهادات وأقوال قيمة، يقول الجاحظ:
«الصبي عن الصبي أفهم وبه أشكل» «4» .
إن حرص الإسلام والمفكرين المسلمين على سلامة البيئة الاجتماعية، وعلى إشباع حاجات الطفل إلى جماعة الرفاق والأتراب واضح، ومن خلال كل هذا نعود فنؤكد أهمية المحافظة على الوسط الاجتماعي حتى لا يتسرب الفساد أو الخلل للناشئة، لتنمو القيم الإسلامية نموا سليما وصحيحا وقويا.
ج- المسجد:
كان المسجد وما يزال شعار الحياة في المجتمع الإسلامي، ويدل على ذلك اهتمام الرسول صلّى الله عليه وسلّم ببناء المسجد أول قدومه إلى المدينة، مما يدل دلالة صادقة على أهميته وضرورته، ولم يكن المسجد بناية لأداء الصلاة فقط، بل كانت له وظائف أخرى كثيرة تتعلق بسياسة الدولة، وفي هذا إشارة إلى أن المسجد إنما أقيم كمؤسسة محققة لأهداف الإسلام ورعاية مصالح الدنيا والآخرة، فقد كان مقرا للتعليم لاستقبال الوفود واقامة الاحتفالات
__________
(1) متفق عليه. من رواية أبي موسى الأشعري، المرجع السابق، ص 378، حديث رقم 3895.
(2) كافية رمضان، فيولا البيلاوي، ثقافة الطفل، الكويت، كلية التربية، 1983 م، ص 228، 229.
(3) انظر: كونجر وآخرون، سيكولوجية الطفولة والشخصية، ترجمة أحمد عبد العزيز سلامة وجابر عبد الحميد، القاهرة، دار النهضة العربية، 1985 م، ص 482.
(4) أبو عثمان عمر بن بحر الجاحظ، كتاب المعلمين، (على هامش الكامل في اللغة والأدب للمبرد) ، الطبعة الأولى، الجزء الأول، مصر، مطبعة التقدم، 1323، ص 26. وانظر: ابن سينا، السياسة (نشرة الأب لويس معلوف) مجلة المشرق البيروتية، السنة التاسعة، الأعداد، 21، 23، 1906، ص 1074، 1075.(1/171)
وغير ذلك، مما يدل على أهميته في حياة المسلمين.
وتظهر أهمية المسجد في إطار تنمية القيم الخلقية الإسلامية في قيامه بالوظائف التالية:
1- نشر العلم وتعليم الأفراد والجماعة التعاليم الدينية وغيرها، مما ينمي لديهم معايير سلوكية إسلامية تحقق سعادة الفرد والمجتمع.
2- إمداد الأفراد بالإطار السلوكي المعياري القائم على التعاليم الإسلامية، مما يمكن للعمل الصالح لديهم، حبا وسلوكا، ويكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، لأن صلاتهم فيه تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، وتأمرهم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، كما تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر.
3- تنمية الوازع الداخلي لدى الأفراد والجماعة، ومن ثم دعوتهم إلى ترجمة المبادىء والتعاليم الإسلامية إلى سلوك عملي واقعي.
4- دعم روح الأخوة والتعارف بين المؤمنين مما يؤدي إلى دعم القيم الخلقية الإسلامية وتوحيد السلوك الاجتماعي، ونبذ كل ما يضعف الروح الإيمانية والاجتماعية من قيم سالبة، كالظلم والحسد، واحتقار الغير، والسخرية بالآخرين، والغيبة والنميمة، وغير ذلك من أمراض اجتماعية تضعف البناء الاجتماعي الإسلامي، وتفرق جهده.
5- محاولة تذويب الصراع القيمي بين الأجيال الجديدة والأجيال القديمة، لأن الأفراد الجدد يقتدون بالأفراد القدامى، فالقدوة الصالحة والنماذج السلوكية تبرز جيدا من خلال المسجد، ومن ثم تضعف اتجاهات الصراع القيمي، في ظل القدوة ومبدأ الشورى، والمناقشات الموضوعية في شتى شئون الحياة بين الصغار والكبار.
6- الإرشاد والتوجيه المستمرين تحت رعاية أئمة المساجد الواعين، خاصة للالتزام بالقيم الخلقية الإسلامية، واستشارتهم فيما يجد من شئون الحياة «1» .
7- إن للمسجد دوره الهام والخطير في عملية تنمية القيم الخلقية الإسلامية لدى الأفراد والجماعات، خاصة إذا توافرت له الإمكانيات من قوى بشرية وإمكانيات مادية، وإذا كان دوره في حاضرنا المعاصر قد تراجع- إلى حد ما- لوجود المدارس، ووسائل الإعلام، فإن ذلك لا يعني اختفاء دوره، فدوره قائم، ولذا تجب العناية به، وتطويره بناية وأهدافا، مما يعيقه من القيام بوظيفته وأهدافه، بما يجعله قادرا على خدمة الحياة الإسلامية المعاصرة في إطار أهداف الإسلام.
__________
(1) انظر: عبد الله بن أحمد قادري، دور المسجد في التربية، جدة، دار المجتمع، 1407 هـ/ 1987 م، ص 109- 132.(1/172)
إن المسجد مؤسسة اجتماعية مثلها مثل باقي المؤسسات بل هو تنظيم من تنظيمات المجتمع الإسلامي، التي استخدمها لتنشئة الأجيال، ولذا فهو يتكامل أو يجب أن يتكامل مع المؤسسات والتنظيمات الاجتماعية الأخرى، مع ضرورة التركيز على إعداد القائمين عليه إعدادا جيدا بما يهيؤهم للتعامل مع رواد المسجد صغارا وكبارا، وبالقدر نفسه من الأهمية، يجب العناية بالمؤسسات الأخرى في المجتمع، بحيث تتكامل مع وظيفة المسجد، فإذا كان المجتمع يغلب فيه انحراف ما فإن المسجد لن يستطيع أن يؤدي وظيفته كما ينبغي، لأن هذا الانحراف سيحول بين أفراد المجتمع والتأثر بالمسجد وما يقدمه.
ولقد اعتبر المسجد منذ أن وجد مؤسسة للصغار والكبار، للرجال والنساء، لكل طوائف المجتمع، وكان مؤسسة تربوية للصغار، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يمنع الصغار عن المسجد، بل كانت له مواقف معينة تؤكد اهتمامه بهم، ومما يروى في هذا المجال:
عن أبي قتادة الأنصاري- رضي الله عنه- أنه قال: «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يؤم الناس وأمامه بنت أبي العاص على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها (ويروى) رفعها» «1» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم يراعي وجود الأطفال في المسجد، يقول: «إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من
بكائه» «2» .
وعن أنس- رضي الله عنه- قال: «ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه من بكائه» «3» .
وعن جابر بن سمرة- رضي الله عنه- قال: «صليت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله وخرجت معه فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدي أحدهم واحدا واحدا، وأما أنا فمسح خدي فوجدت ليده بردا أو ريحا كأنما أخرجها من جؤنة عطار» «4» .
إن هذا كله يدل على حضور الصغار المسجد. وهناك أدلة غير هذه كثيرة نكتفي هنا بما ذكرناه، فصلة الناشىء بالمسجد في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم كانت قوية ومقصودة، وإن تنشئته على ذلك تجعله يألفه ويرتبط به، ليكون من رواده فيه مصلحة عظيمة، ولذلك أثره في تنمية القيم الخلقية الإسلامية.
__________
(1) متفق عليه، مصابيح السنة (مرجع سابق) ج 1، ص 336، حديث رقم 699.
(2) متفق عليه، المرجع السابق، ص 408، حديث رقم 809.
(3) متفق عليه، المرجع السابق، ص 408، حديث رقم 808.
(4) أخرجه مسلم، المرجع السابق، ج 4، ص 49، حديث رقم 4512.(1/173)
ولكي يؤدي المسجد وظيفته في تنشئة الأجيال المسلمة على القيم الإسلامية نقدم هنا بعض المقترحات، سواء فيما يتصل بالأهداف أو الوسائل، كما يلي:
فيما يتصل بالإشراف على المسجد والقائمين عليه:
1- أن يقدم للمسلم كيفية أداء العبادات بطريقة صحيحة.
2- أن يعرّف المسلم بأركان الإسلام وأسسه وأحكامه.
3- أن يعتني بتحفيظ القرآن الكريم وتفسيره.
4- أن يعني بتعليم الأحاديث الشريفة، حفظا وتفسيرا، وكذا العناية بالسيرة النبوية.
5- أن يعتني بتنمية الآداب والأخلاق الإسلامية.
6- أن يعني الإمام بالإجابة على استفسارات رواد المسجد.
7- أن يعني بتزويد المسلمين بآداب المسجد والصلاة واحترام المصلين.
8- أن يعني بتمرين المسلم على ممارسة السلوك الاجتماعي الإسلامي.
9- أن يعني بوسائل جذب الناشئة إلى زيارة المسجد المنتظمة وحضور الصلوات فيه.
10- أن يمرن الناشىء على خدمة المسجد ورواده، مما يساعد على غرس قيم العمل في نفسه.
وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف، فإن هناك مواصفات معينة يجب أن تراعى، وهي:
1- أن يكون المسجد مركز نشاط اجتماعي وثقافي وعلمي، يضم مكتبة جيدة ومتنوعة.
2- أن يقدم المسجد دروسا متنوعة حول ما يتعلق بأمور حياة الناس، ويقدم المعارف المتنوعة.
3- أن يضم مركزا للمعلومات يرجع الناس إليه ليجدوا ما يجيب عن تساؤلاتهم.
4- أن يكون مقرا لتوجيه الشباب لما يتطلبه تكوين الأسرة المسلمة الصالحة، بل يتعاون أهل كل مسجد على تزويج الشباب كل بقدر استطاعته.
5- أن يكون المسجد مركزا إعلاميا يسهم في تقديم ما تتطلبه ظروف الحياة المعاصرة وما يجد في الساحة الإسلامية من أخبار، وتحليلها بعقلية واعية ومتفتحة لكي تواكب الحياة وما يدور فيها.
6- أن يكون المجتمع هو الذي يضرب القدوة الصحيحة في إجابة نداء المؤذن بسرعة واستمرار بحيث يشاهد الناشئة هذا فيتمثلونه.
7- أن يذكر على أسماع الصغير وخاصة من أمه فضائل المساجد، والثناء على المصلين فيها وما أعد الله لهم من ثواب، كل ذلك بهدف غرس حب المسجد في قلبه.(1/174)
8- أن يصطحب الكبير الصغير إلى المسجد، حتى يألفه، ويألف المصلين ولا يستوحش منهم.
9- أن يعامل العاملون بالمسجد والمصلون الصغير معاملة لطيفة، وألّا يغلظوا له القول، فإن الملاطفة والمداعبة تجعله يألف المصلين ويحب أن يتردد على المسجد.
10- تنويع الوسائل المتاحة، لجذب الناشىء إلى المسجد، كنظم الأناشيد وغير ذلك من وسائل «1» .
د- المدرسة:
وهي مؤسسة وتنظيم اجتماعي، أنشأها المجتمع خاصة لتربية وتعليم صغاره، وكالة عن الكبار المشغولين في مشاغل الحياة، ونيابة عن المجتمع في نقل تراثه الثقافي إلى الصغار، وللمدرسة وظائفها الهامة في المجتمع، إذ يوجد فيها المتخصصون في مجالات العلم والمعرفة لتقوم بتلك الوظائف، ومن ثم فهى تبلور اتجاهات المجتمع وتعكس إطار حياته.
وتمتاز المدرسة عن بقية المؤسسات الاجتماعية والوسائط الثقافية بأنها: بيئة تربوية مبسطة للمواد العلمية والثقافية، وأنها بيئة تربوية منقية للثقافة مما قد يتخللها من فساد وانحرافات، وأنها بيئة تربوية موسعة تضم جميع أبناء المجتمع الواحد، وتوسع أفق الناشىء عن طريق تعليمه المباشر من خلال خبراته الشخصية وخبرات الآخرين، وأنها بيئة تربوية جاهزة وموحدة لميول ونزعات التلاميذ وصهرهم في بوتقة ثقافية واحدة مما ييسر التفاهم والتعاون بينهم بعد الخروج إلى معترك الحياة العملية. ثم هي تستكمل ما بدأ في الأسرة لتتمه وتهذبه، وتقوم من الاعوجاج الخلقي عند الناشىء، إذا ما كان قد تعرض لرفقاء السوء واتخذ طريقا خاطئا في سلوكه «2» .
وتمتاز المدرسة أيضا باتساق جهدها الذي تبذله مع المؤسسات الأخرى في سبيل تربية النشء ولذا فهي على اتصال دائم بتلك المؤسسات، وتتعاون معها في هذا السبيل.
إن دور المدرسة واضح وجلي، ويتمثل في تثقيف الناشئة وتربيتهم، بما تقدمه لهم من خبرات منظمة ومتنوعة وأنشطة مختلفة، ومعلومات تغطي مختلف مجالات المعارف الإنسانية، كل ذلك في إطار فلسفة تربوية واضحة المعالم، تشتق من الإطار العام لحياة المجتمع وأهدافه، وحاجات التلميذ ومطالبه ومتطلبات العصر.
وتستطيع المدرسة أن تسهم الإسهام الفعال في بناء شخصية الفرد بما تهيؤه له من مناخ صحي يساعد على
__________
(1) انظر: كافية رمضان وأخرى، مرجع سابق، ص 221، 222 وعبد الله أحمد قادري، مرجع سابق، ص 132- 146 أحمد قادري، مرجع سابق، ص 132- 146.
(2) سمير عبد اللطيف هوانة، الأدوار التربوية للمؤسسات الاجتماعية، الفصل الخامس من: محمد عكيلة وآخرون: مدخل إلى مبادىء التربية، الطبعة الأولى، الكويت، دار القبس، 1404 هـ/ 1984 م، ص 135- 137.(1/175)
النمو المعرفي والانفعالي والجمالي والاجتماعي والعقدي، لا بما تقدمه من معلومات نظرية فقط، بل بالممارسة العملية وما يعينه هذا من تكامل بين المعرفة والممارسة،
وهذا يعني أن دور المدرسة في تنمية القيم الإسلامية ليس نظريا وإنما هو نظري تطبيقي وذلك في ضوء الاعتبارات التالية:
الاعتبار الأول:
أن العملية التربوية تعتبر- في الأساس- عملية خلقية، وتنمي الأفراد عليها، وعلى هذا فإن العملية لا يجب أن تقوم على القيم الثابتة فقط، بل يجب أن تعتني بالقيم النسبية التفضيلية والتي هي اتجاهات تغيير حادثة في نوع الخبرات المقدمة، والمعبرة عن نفسها في سلوك الناشئة والمتعلمين.
الاعتبار الثاني:
أن هذه القيم يجب أن تتخلل جميع المناهج الدراسية، إذ لا بد أن تسيطر على كل ميادين الدراسة، إذ أن الهدف لتنمية القيم في نفوس الأفراد إنما يمكن في إعادة توجيه الحياة في إطار تكاملي شمولي إيجابي، بحيث يصبح الأفراد أكثر إيجابية في حياتهم.
الاعتبار الثالث:
أن المدرسة وحدها لا يمكن أن تتم هذا الجهد بدون مشاركة كافة أنظمة المجتمع وهيئاته ومؤسساته وأنظمته وأفراده، وهذه المشاركة التكاملية في تنمية القيم تمكن المدرسة من القيام بواجبها وتحقيق أهدافها كما ينبغي «1» .
الاعتبار الرابع:
أن المدرسة في قيامها بهذه العملية يجب أن تعتمد على فلسفة تربوية نابعة من المجتمع الإسلامي ذاته، معبرة عن أهدافه، عاكسة لصورة المجتمع وفهمه عن الإنسان، وأهدافه في الحياة. وإذا لم تفعل باءت محاولتها بالفشل، ووقعت في محذور الانعزالية عن الواقع الاجتماعي.
إن وظيفة المدرسة في هذا الإطار تشمل كل مكوناتها وأركانها، من مربين، ومناهج وأنشطة، والمدرسة نفسها كأسلوب حياة وكمجتمع تعلم، والمادة التي تقدمها، والطريقة التي تقدم بها هذه المادة وبكلمة جامعة، فإن المدرسة لكي تقوم بتنمية القيم الإسلامية يجب أو ينبغي أن تتحقق بالشروط التالية:
1- توفير الخبرات المتنوعة لتنمية هذه القيم لدى الناشئة، وإتاحة الفرص أمامهم للتعرف عليها
__________
(1) محمد عبد الهادي عفيفي، الأصول الفلسفية للتربية، مرجع سابق، ص 318- 322.(1/176)
والانفعال بها والوعي بها، إذ أن المسألة ليست مجرد تقديم للقيم الخلقية واستيعابها نظريا، وإنما كيفية بناء هذه القيم واستدخالها في نفوسهم، ثم إنه إذا لم يكن للفرد أهداف ينفعل بها ويتجه نحوها وينمو في إطارها من خلال المشاركة والممارسة فلا يمكن أن يكون هناك تأثير ما لما يعيشه.
إن هذه الخبرات يجب أن تخضع للاختبار القائم على أساس القيمة، إذ أن القيمة أو القيم بعموم تحدد ما هو جيد، ومعنى هذا أن القائمين على أمر المدرسة وتخطيط مناهجها يجب أن يكونوا على وعي تام بأهداف القيم الخلقية الإسلامية وبنسق هذه القيم لأن هذا يساعدهم في اختيار محتوى المنهج وتوجيه السلوك، إذ أن هناك مجموعة من التساؤلات الملحة التي تواجه مخططي هذه الخبرات في المنهج والتي يجب على المدرسة أن تضمّنها في برنامجها التعليمي:
- ما المعلومات المرتبطة بالقيمة الخلقية التي ينبغي نقلها للتلاميذ عن طريق المدرسة؟
- كيف يمكن تنظيم هذه المعلومات بطريقة فعالة لتكون جزءا من المنهج؟
- ما العمليات التي سوف تؤكدها المدرسة للتعامل مع المشكلات المتعلقة بالقيم الخلقية؟
- كيف يمكن ترتيب العبارات عن العمليات في المنهج لتساعد في تطوير استراتيجيات تعليمية فعالة؟ «1» .
إن الإجابة عن هذه الأسئلة مهمة جدا من قبل المخططين وواضعي المناهج، حيث إنه يحدد نوع الخبرات اللازمة لتنمية القيم الخلقية الإسلامية كما ينبغي أن يكون.
2- الاهتمام بتوفير مواقف ممارسة هذه القيم، وهي مواقف عملية لأنه لا يكفي ترديد المعلومات ولا الوعظ والتلقين، وإنما لا بد من النشاط الواقعي والمواقف الحية التي لا بد أن يعيشها الناشىء في المدرسة، ومعنى هذا أنه بعد تحديد القيم التي ستقدم لا بد من إتاحة الفرصة أمام الناشئة للمشاركة في تحمل المسئولية إزاء المهام والقيم المطلوب الالتزام بها.
3- الاهتمام باتجاهات الناشئة ومشاعرهم، واستخدام القوة الانفعالية والتفكير معا في تنمية القيم الإسلامية، وإشعارهم بأهمية القيم بالنسبة لهم وبالنسبة للجماعة التي ينتمون إليها، وتدريبهم على الاستقلال في الاختيار، ومنحهم مساحة كافية من الحرية للتدريب على الاختيار والممارسة لهذه القيم.
4- الاهتمام بتوفير القدوة الصالحة المتمثلة في المعلم الخيّر الكفء الذي يكون على درجة عالية من المهارة، وعلى وعي وتدريب كافيين لتنمية القيم، ليمكن الناشىء من التفاعل مع المواقف المتغيرة بشكل جيد، ومعنى هذا
__________
(1) جورج بوشامب، نظرية المنهج، ترجمة: ممدوح محمد سليمان وآخران، مراجعة ممدوح محمد سليمان، القاهرة، الدار العربية للنشر، توزيع 1987، ص 105.(1/177)
أن هناك شروطا معينة لا بد من توافرها في المعلم:
- أن يكون واعيا بوظيفته وأهميتها في مجال تنمية القيم الخلقية.
- أن يكون على علم بتوجيهات الكتاب والسنة في هذا المجال.
- أن يكون عالما بما يريد تعليمه وتنميته من قيم في الأفراد.
- أن يكون ملتزما بتلك القيم، أي أن يكون قدوة متمثلة فيه الشروط التي سبق تناولها، اقتداء بالرسول صلّى الله عليه وسلّم.
- أن يكون عالما متمكنا بتخصصه العلمي، وبالأساليب التي يستطيع عن طريقها تنمية القيم الخلقية من خلال تدريس التخصص.
5- الاهتمام بتنظيم العلاقة القائمة بين المدرسة والمجتمع ومؤسساته، وكذا العلاقة القائمة بين العاملين في المدرسة، إذ يجب أن يسودها جو قيمي موات لأن يتأثر به الناشئة إيجابيا.
6- الاهتمام بالجو الاجتماعي المدرسي القائم على أساس الحب والألفة والتفاهم والتشجيع، إذ أن هذا يعطي المتعلم فرصا مناسبة ليكون على علاقة وطيدة توجيهية وإرشادية مع معلمين وإداريين وعاملين يعرفونه جيدا، وبالتالي يتشرب القيم الإسلامية عن طريق العلاقة الحميمة مع أساتذته ومعلميه.
7- الاهتمام بالأنشطة المدرسية المتنوعة، والتي تعتبر بيئة مناسبة جدا لتنمية القيم الخلقية، إذ يمكن عن طريقها ممارسة تلك القيم، كالشورى والحوار وتبادل الرأي والخبرة، والتعاون، والصدق، والتخطيط وحسن اتخاذ القرار، وتقديم أفكار جديدة، والالتزام بالقرارات والاقتراحات، كما أنها تعمل على تنمية القيم السياسية والإدارية، وقيم التنظيم، والرقابة، وغير ذلك، وتؤدي دورا ملحوظا في تنمية المسئولية وقيمها «1» .
8- الاهتمام بالمكتبة المدرسية، على أن تختار محتوياتها بعناية بالغة من حيث الشكل والمضمون ومراعاة نوعها، وتنظيمها، وكذا الاهتمام بأماكن الرياضة واللعب، وغير ذلك «2» .
إن دور المدرسة مهم في مجال تنمية القيم الخلقية الإسلامية ولا بد أن يعلم القائمون عليها هذا وأن يجعلوا منها بيئة تربوية مناسبة تعمل على تنمية هذه القيم، ولكن كما أشرنا، نؤكد أهمية التكامل بين المدرسة ومؤسسات المجتمع، والوسط الاجتماعي العام الذي تترجم عنه المدرسة وتعكس إطاره الثقافي وعلاقاته وقيمه.
__________
(1) راجع: كافية رمضان وأخرى، مرجع سابق، ص 220، 201.
(2) راجع: المرجع السابق، ص 212، 214.(1/178)
هـ- وسائل الإعلام:
تقوم وسائل الإعلام والاتصال بدور بالغ الخطورة والأهمية في حياة الناس بعامة، وفي حياة الناشيء بصفة خاصة، فقد احتلت مركزا بالغ الأهمية لديهم، حتى إنها أصبحت- في كثير من الأحيان- بديلا عن الكتاب من مؤسسات التربية والتعليم والتثقيف.
ولأنها تقدم مواد متنوعة ومختلفة فإن تأثيرها في مجال تنمية المفاهيم والقيم والاتجاهات بالغ الأهمية، فهي تنقل إلى الناس معتقدات واتجاهات وقيما، في شكل قصة أو في شكل أنماط سلوكية قد تحظى بالقبول وقد ترفض، ومن خلال وسائل الإعلام هذه يتلقى الناشئة تلك المعتقدات والاتجاهات والقيم، والتي من المفروض أن تكون متوافقة مع ما يرتضيه المجتمع الذي تنتمي إليه وما ترتضيه ثقافته، وأن تعرض المثل الأعلى المنشود في هذا المجتمع أو ذاك، وبمعنى آخر: أن تعكس أهداف المجتمع من الإنسان والحياة.
ولأن وسائل الإعلام متنوعة ومتعددة، فإنه يمكن أن ننظر إليها في ضوء وظائفها الأساسية والمتمثلة فيما يلي:
1- إضفاء المكانة: فوسائل الاتصال تلقي الضوء على بعض الحركات والقضايا العامة والأشخاص والمؤسسات، وتؤيدها أو ترفضها مما يضفي عليها مكانة أو يؤثر في مكانها سلبيا.
2- تقويم ثقافة المجتمع ومعاييره: إذ أن لها من القوة في استثارة العمل الاجتماعي المنظم وفقا للمعايير الأخلاقية والمثالية في المجتمع، ولو حدث انحراف ما عن هذه المعايير تقوم تلك الوسائل بالتنبيه عليه، حيث تقوم بإعلام أفراد المجتمع به وبحقائقه وبأساليب مواجهته كي تتفق الأنماط السلوكية للناس مع المعايير الاجتماعية المقبولة.
إن هذه الوسائل تفرض ضغطا كبيرا للوقاية من مظاهر الانحراف عن المعايير والقيم، لإعادة تثبيتها ودعمها وتطبيقها، وجعلها في بؤرة الوعي الاجتماعي ولب اهتماماته.
3- تنمية الذوق العام: حيث تقوم بتنمية الإحساس بالجمال في الحياة، وكذا جمال النفس الذي يستطيع الإنسان به أن يرى الوجود جميلا، وكذا تنمية الذوق العام في السلوك العام في الأماكن العامة والالتزام بمعايير المجتمع وقيمه.
4- خدمة المجتمع: وهي في هذا تساعد وتكمل عمل التربية، فهي تعمل على تشكيل الشخصية الإنسانية القادرة على تحقيق التقدم والتنمية، وذلك عن طريق بيان أهمية العمل وتغيير المفاهيم السائدة التي لا تصلح لمسيرة المجتمع، وتقديم المعلومات التي تفيد في هذا المجال، وهي تخدم قضية التغيير الثقافي والاجتماعي.(1/179)
كما أن هذه الوسائل في عملية التطبيع الاجتماعي، عن طريق نقلها لأنماط السلوك المقبولة ومساندتها، وبالتالي يكتسبها الناس صغارا وكبارا ويحتضنونها من خلال تلك الوسائل، وبالتالي تؤثر في تكوين الشخصية، وتساعدها على التكيف للمواقف والخبرات الجديدة «1» .
وتساعد عدة عوامل على إحداث التأثير الكبير في الشيء، من هذه العوامل: التكرار، والجاذبية والمشاركة، ولا نريد أن نستفيض في هذا المجال، لأن المقام لا يسمح، ولكن عوامل تأثر النشء بالمواد الإعلامية- وخاصة التليفزيون- يستحق منا التركيز. ويمكن ذكر تلك العوامل فيما يلي:
1- الاستيعاب: ومعناه: امتصاص المواد المبثوثة في وسائل الإعلام لما تنطوي عليه من مغريات فنية وأدبية وإخراجية، وكلما تكررت المادة بصورة أو أخرى زاد الاستيعاب.
2- التقليد: وخاصة بين الصغار، فالصغير يقلد النماذج التي تعرض له، ويتوقف التقليد على بيئة الناشىء، وعلى ردود الفعل لدى أفراد هذه البيئة تجاه ما يقرأونه ويشاهدونه.
3- التقمص: وهو حالة نفسية واجتماعية تتوحد خلالها شخصية المشاهد أو القارىء مع النماذج التي تقدم له من خلال وسائل الإعلام، ويستخدم المتلقي التقمص كوسيلة لإرضاء أو إشباع الحاجات الأساسية «2» .
إن أهمية وسائل الإعلام قد غدت واضحة في مجال التربية، والأمر كذلك، فإنها تقوم على قيم معينة، هي قيم المجتمع الذي نعيش فيه، وهي إما أن تساعد على تثبيت هذه القيم ودعمها، وإما أن تعمل ضدها، بحيث تغرس في نفوس الأفراد قيما أصيلة جيدة، أو تخلع منها قيما رديئة وتغرس محلها قيما أخرى جيدة، وهذا يعود بالتأكيد إلى القائمين على أمر هذه الوسائل ومدى فهمهم لثقافة المجتمع ومعاييره وقيمه.
وقد تستخدم هذه الوسائل استخداما سيئا يعطل في الإنسان عقله ووجدانه، واهتمامه بالقيم مما يؤدي إلى حالة من الركود والخمول واللامبالاة، أو ما يسمى بعدم الاهتمام أو الاهتمام الظاهري الكاذب بمشكلات المجتمع، فكما أن لها استخداماتها الفعالة، فإن لها استخدامات ضارة أيضا، خاصة إذا ما وجهت توجيها ضد قيم المجتمع الأصيلة، فهي في هذه الحالة تهدم ولا تبني.
ومن الملاحظ في حياتنا تسرب ظواهر معينة من خلال وسائل الإعلام، كإشاعة العنف، والهروب من الواقع، والاستغراق في الخيال، والسلبية، والتقليد الأعمى، وغير ذلك وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه، وتؤكده دراسات
__________
(1) راجع كافيه رمضان وأخرى، مرجع سابق، ص 252، 253.
(2) راجع عبد اللطيف هوانة، مرجع سابق، ص 126، 127.(1/180)
متعددة عن الأثر السلبي لوسائل الإعلام «1» . فهذه الوسائل قد تصبح معوّقا كبيرا- في بعض مواقفها- لتنمية الإنسان وقيمه المنشودة، وفي هذه الحالة لا بد أن نعي أن الإعلام في هذا الوضع يشكل معوّقا وخطرا على القيم، ويكمن هذا في التناقض الأساسي بين القائمين على الإعلام، أو بعضهم وبين الأغلبية الساحقة في المجتمع صاحبة المصلحة الحقيقية في تنمية القيم الإسلامية الدافعة نحو التقدم والتغيير الهادف البناء تجاه أهداف الإسلام «2» .
وتزداد خطورة وأهمية وسائل الإعلام في مجال تنمية القيم، وذلك مع ما يمر به المجتمع العربي والإسلامي من ظروف التغير وسرعته ومن انفجار سكاني ومعرفي، وما يعانيه الإنسان من فراغ، واهتزاز في نظم العلاقات الاجتماعية الناتج عن اهتزاز القيم لدى الأفراد والمجتمعات، وما يتطلبه هذا المجتمع من جهود تنموية تدفعه نحو التقدم ليعبر هوة التخلف المادي التي يعاني منها، والتي تتطلب تنمية القيم اللازمة لمساندة هذه الجهود لتحقيق إنسانية الإنسان وتوفير جهده وحفظه وحفظ كرامته.
ولكل هذا نقول إن خطورة وأهمية وسائل الإعلام في مجال تنمية القيم الإسلامية المعبرة عن حركة المجتمع الإسلامي واضحة، فهي تقوم بدور رائد وفعال في هذا المجال، ولكي تكون هذه الوسائل أكثر فعالية، فإنه من اللازم عليها:
1- أن تنبثق رسالتها من تصور إسلامي خالص، وبطريقة متكاملة مع بقية الوسائط الأخري، حتى تتضافر الجهود في سبيل تقديم القيم الخلقية الإسلامية الخالصة.
2- أن تخضع لتنظيم وتخطيط متكامل شامل لإيصال القيم الخلقية الإسلامية الخالصة للناس كافة بأسلوب عصري يعتمد على العقل والمنطق، وبكافة الأساليب الممكنة، ولا بد أن يأتي هذا التخطيط على أساس دراسة الواقع وفهمه فهما جيدا ومن ثم تتحدد الأهداف التي تسعى إليها وسائل الإعلام في هذا المجال.
3- أن تستخدم الحكمة في مخاطبة الناس، فتأتيهم من جانب اهتماماتهم وآلامهم اليومية مع انتقاء الكلمة الطيبة التي تفتح أقفال العقول والقلوب، التزاما بالتوجيه القرآني الكريم: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ «3» . فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا
__________
(1) انظر في هذا المجال: نور الدين عبد الجواد، الإعلام والرسالة التربوية، في: ماذا يريد التربويون من الإعلاميين، الجزء الثاني، الرياض، مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1404 هـ- 1984 م، ص 205.
(2) انظر: محمد سيد محمد، الإعلام والتنمية، الطبعة الثالثة، القاهرة، دار الفكر العربي، 1405 هـ- 1985 م، ص 279- 289.
(3) سورة النحل: 125.(1/181)
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ «1» .
4- أن تتصدى للقيم والاتجاهات الهابطة التي تقدم بقصد أو عن غير قصد في المادة الإعلامية، بهدف التشكيك في القيم الإسلامية، بل في الإسلام كله، وهنا لا بد من استخدام الحجة والبرهان مع الصراحة والوضوح، وحسن البيان مع الالتزام بالأدب في القول.
5- أن تعمل على إيجاد كوادر إعلامية مسلمة، تقدم المادة الإعلامية، وتبدع من أجل إيصال القيم الإسلامية لكل فرد في المجتمع الإسلامي وبصورة مناسبة ومشوقة، وتستطيع توجيه الناس إلى الإسلام الصحيح للإفادة به على نطاق واسع ومفيد.
6- أن تعمل على تكريس الطاقات المسلمة وتكثيفها، فكرا وثقافة وعلما واقتصادا، وأن تحشدها في سبيل تقديم ما يفيد المسلمين في دنياهم وأخراهم، مع تكييف الدعوة للقيم الإسلامية عن طريق الكلمة المسموعة أو المقروءة أو المرئية، والمعبرة تعبيرا صادقا عن القيم الإسلامية الصحيحة.
7- أن تعمل على توفير القدوة الحسنة إعلاميا والملتزمة بالقيم الإسلامية والصادقة مع نفسها وربها، والموجهة جهودها نحو الخير، المجانبة للكلمة النابية والعبارة الخارجة، وذلك لأن هذه الوسائل تؤثر في الإنسان وخاصة ميله للتقليد والمحاكاة والتي لها تأثير فعال في ميدان الإعلام، وميدان التربية والتعليم على السواء، لذلك يعتمد عليها رجال هذه الميادين كلها بدون استثناء.
فرجال الإعلام ينظرون إلى القدوة الحسنة على أنها من وسائل الإعلام، تغني في ذاتها عن بذل الجهود الإعلامية في سبيل دعوة ينشرونها أو فكرة يدعون إليها، أو عقيدة أو سياسة جديدة ينشرونها، ونحو ذلك لذا فإن «القدوة الحسنة هي من أنجح الأساليب والوسائل للاتصال بالناس» «2» .
8- أن تركز باهتمام بالغ على برامج الأطفال بوجه خاص، بحيث تقدم لهم القيم الإسلامية بصورة مبسطة تعتمد على المواقف الحياتية والإسلامية وخصائصها، متفتحة على العصر بأسلوب سهل ميسر، بحيث يساعد على تكوين وتنمية ذاتيتهم الإسلامية العربية فيعتزون بالقيم الإسلامية ويعملون على المحافظة عليها بالقول والسلوك.
9- أن تركز باهتمام على برامج المرأة المسلمة، وتقدم لها كافة ما يهمها، وبصورة تتمكن معها المرأة المسلمة قارئة وغير قارئة من الاستفادة من هذه البرامج، ذلك لأن المرأة هي أخطر عامل مؤثر في تنمية القيم لدى الطفل المسلم.
__________
(1) سورة آل عمران: 159.
(2) عبد اللطيف حمزة، الإعلام في صدر الإسلام، الطبعة الثانية، القاهرة، دار الفكر العربي، 1978، ص 74.(1/182)
هذه هي أهم الوسائط التي يناط بها تنمية القيم الإسلامية، وهذه هي الصورة التي ينبغي أن تكون عليها تلك الوسائط لتقوم بوظيفتها، أو تبدأ بأدائها، حاولت توضيحها حتى لا تفقد قيمتها، وحتى لا تقع في تناقضات تفقدها ثقة الناس بها، وحتى لا تصبح عبئا ثقيلا على المجتمع الإسلامي، بحيث تقع في جانب الاستهلاك المرذول بدلا من أن تكون في جانب الإنتاج المطلوب، وبحيث يتكامل بعضها مع بعض وبطريقة شاملة منسقة مع أهداف المجتمع الإسلامي المتشوق بدور حضاري جديد مبني على القيم الإسلامية الصحيحة الدافعة نحو التقدم والتحضر والرقي والتنمية الصحيحة.
إلا أن الأمر ليس بهذه السهولة، بل هو أمر جد صعب وجاد، يحتاج إلى جهد وجهاد للعبور فوق التخلف، لبناء إسلامي صحيح، والدفاع عنه بكل ما يستطاع بطريقة مدروسة ومخططة تخطيطا جيدا.
إن الأمر أوسع مما يتصور، وأخطر مما نقدر، ومن حجم هذه الكلمات، إن الجهد المبذول من أجل تقدم المجتمعات العربية الإسلامية لن يكون ذا جدوى إذا لم تواكبه حركة قوية في بناء وتنمية القيم الإسلامية التي بإمكانها أن تحفظ هذا الجهد فلا يضيع وتحفظ الإنسان الذي يبذل هذا الجهد من الضياع والعدم والاغتراب والاستلاب واللامبالاة، ولذا فإن القيمة الحقيقية لتلك الوسائط وهذه الوسائل هي في الالتزام بتلك القيم والمحافظة عليها ورعايتها في أعماق الإنسان الذي تحاول أن تبنيه، وهي في هذا تستجيب استجابة حقيقية لحاجات الإنسان في هذه المجتمعات، وتنسق مع إمكانياته، وقدراته وتفجرها تفجيرا من أجل خيره وخير الإنسانية.(1/183)
السيرة النبوية العطرة
الأخلاق ودراسة السيرة:
إن لدراسة السيرة العطرة- خاصة فيما يتعلق بالمجال الأخلاقي- أهدافا عديدة يمكن إبراز أهمها فيما يلي:
1- يجد المرء في سيرته صلّى الله عليه وسلّم ما يعينه على فهم كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
2- إن الدارس لسيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم يقف على التطبيق العملي لأحكام الإسلام التي تضمنتها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة في مجالات الحياة المختلفة.
3- إن الاقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقتضي معرفة شمائله وأحواله صلّى الله عليه وسلّم في المجالات المختلفة ومن عرف شمائله وأحواله وأحبه واقتدى به فسيهتدي بإذن الله إلى الصراط المستقيم وسينال ما يدخره الله عز وجل له على ذلك. قال تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (الأحزاب/ 21) . فقد كان صلّى الله عليه وسلّم في هدايته الناس كما وصفه ربه: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (الشورى/ 52- 53) .
4- إن الاقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم واتباعه دليل على محبة العبد ربه، وسينال العبد محبة الله له، وفي هذا يقول الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (آل عمران/ 31) .
5- يقف الدارس لسيرته صلّى الله عليه وسلّم على حقائق معجزاته- دلائل نبوته- مما يقوي ويزيد الإيمان من ناحية، والفهم الجيد لهذه المعجزات في ضوء معرفة هذه الوقائع من ناحية أخرى.
6- إن معرفة ما حفلت به السيرة من مواقف إيمانية عقدية، وقفها الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لإعلاء كلمة الله، تقوي من عزائم المؤمنين السائرين على درب الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وتثبتهم للدفاع عن الدين والحق، وتبعث في قلوبهم الطمأنينة.
7- في سيرته صلّى الله عليه وسلّم دروس كثيرة لجميع الناس، ومواساة لهم في كافة أنواع الابتلاءات التي يتعرضون لها، لا سيما الدعاة.
8- إن سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم هي المثل الأعلى للإنسان الكامل في جميع الجوانب.
9- يحصل دارس السيرة على قدر كبير من المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة، من عقيدة وشريعة وأخلاق وتفسير وحديث وسياسة وتربية واجتماع ... الخ.
10- يقف الدارس لسيرته صلّى الله عليه وسلّم على تطور الدعوة الإسلامية، وما كابده الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لإعلاء كلمة الله، وما واجهه هو وأصحابه من مشكلات، وكيفية التصرف في تذليل تلك العقبات، وحل تلك المشكلات.
11- إن معرفة أسباب نزول الآيات القرآنية ومناسبات أقوال كثيرة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لا تعرف إلا بمعرفة السيرة النبوية، ولهذا أهمية قصوى في الفهم الصحيح للآيات الكريمة والأحاديث الشريفة.
12- إن علم الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم والسنة، لا يتأتى فهمه ومعرفته إلا في ضوء وقائع السيرة.
13- إن معرفة السيرة على وجهها الصحيح يمكن المسلم من تفنيد الترهات والأباطيل التي يحاول بعض المستشرقين أن يفسروها على غير وجهها الصحيح.
14- في السيرة العطرة ما يساعد المسلمين على الخروج من المحنة التي ابتلى بها كثير منهم في هذه الأيام حيث توضح مواقف السيرة كيف يتآخى المسلمون ويصبرون على الشدائد ويثقون بنصر الله تعالى.(1/184)
تمهيد
مصادر دراسة السيرة النبوية:
القرآن الكريم هو المصدر الأول والأساسي من مصادر دراسة السيرة النبوية المطهرة، ذلك أنه يشتمل على بيان واضح للعقيدة والشريعة والأخلاق ويتضمن وصفا للعديد من الغزوات والأحداث الجليلة التي واجهت الرسول صلّى الله عليه وسلّم، كما أنه يتضمن تصويرا للصراع الفكري والمادي بين الرسول عليه السلام وخصومه، وبين الإسلام ومعانديه. ولا شك في أن القرآن الكريم من المصادر التي لها خصوصية الصدق والدّقة والثبوت المطلق من ناحيتي العقيدة والتاريخ عند المسلمين، كما لا يشك أحد فيه من الناحية التاريخية، وإن حصل بعض الاختلاف بين عموم المسلمين من جهة وبين غيرهم من الجهة الأخرى حول مصدره.
ويرد في الكتاب العزيز ذكر لبعض الأحداث التاريخية المهمة في عصر النبوة مثل معركة بدر، التي نجد تفصيلات عنها في سورة الأنفال، ومعركة أحد التي وردت في سورة آل عمران تفصيلات عنها، ومعركة الخندق في سورة الأحزاب، وحنين في سورة التوبة، ونجد آيات عن هذه الغزوات في سور أخرى. كما أن هناك آيات نزلت في مناسبات أخرى من عصر السيرة، كما نجد في بعض الآيات تصويرا دقيقا للصراع الفكري والمادي بين المسلمين واليهود في الحجاز كما يتضح ذلك في سور البقرة والحشر والأحزاب.
وإضافة إلى ذلك فإن القرآن الكريم يتناول في بعض آياته مناقشات مع عرب الجاهلية تتضمن استعراض مجالات حياتهم العقدية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، كما يلمّح القرآن الكريم إلى الحضارات القديمة في الجزيرة وما جاورها، مما يعين على فهم أحوال المجتمعات الإنسانية قبل ظهور الإسلام، وعند ظهوره. غير أنه من غير الممكن تحقيق الاستفادة الكاملة من جميع ذلك إلّا بالرجوع إلى كتب التفسير وبشكل خاص التفسير بالمأثور مثل تفسير الطبري وابن كثير وابن الجوزي والحافظ السيوطي في تلخيصه الموسوم «بالدر المنثور في التفسير بالمأثور» ، كما ينبغي الإنتباه إلى ما صنّف في ناسخ القرآن ومنسوخه، وكتب أسباب النزول وغيرها مما له صلة وثيقة بالقرآن وعلومه «1» .
والمصدر الثاني للسيرة المطهرة، كتب الحديث وهي متنوعة، منها الكتب المرتبة على المسانيد، ومنها الكتب المرتبة على الموضوعات الفقهية، وهذه الكتب تقدم مادة واسعة، فهي تعنى بالدرجة الأولى بجمع أقوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأفعاله، وتقريراته، وفضائله، وسيرته، ومغازيه، وسراياه، وبعوثه، وتحتوي على تفاصيل أخرى كثيرة متصلة بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، وهي توضح جذور النظم الإسلامية وكيفية تطبيق التشريعات الأولى.
وتمتاز المصادر الحديثية بأنها أوثق رواة وأدق متونا من كتب السيرة المتخصصة، وينطبق هذا الوصف بشكل دقيق
__________
(1) أكرم العمري- السيرة النبوية الصحيحة 1/ 47- 9، مهدي رزق الله أحمد- السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ص/ 15- 16، فاروق حماده- مصادر السيرة النبوية وتقويمها ص/ 34- 35.(1/185)
على الكتب الستة وفي مقدمتها صحيحا البخاري ومسلم. ولا بد من ملاحظة أن السيرة تستقي من كتب أسباب النزول والناسخ والمنسوخ في القرآن، وكتب التفسير وخصوصا تفسير الطبري وتفسير ابن أبي حاتم الرازي، ذلك أن التفسيرين يسوقان الروايات بالأسانيد مما يخدم توثيق النصوص عن طريق المتابعات والشواهد ومعرفة اختلاف المخارج بالنسبة للمراسيل «1» .
وتبين كتب الدلائل صدق معجزات النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأقدم من أفردها عن كتب الحديث محمد بن يوسف الفريابي (ت 212 هـ/ 827 م) «2» في كتابه «دلائل النبوة» «3» . أما كتب الشمائل فتتناول أخلاق وآداب وصفات النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأقدم من أفردها أبو البختري وهب الأسدي (ت 200 هـ/ 815 م) «4» .
وتأتي كتب السيرة النبوية والمغازي، ضمن المصادر المهمة، وقد ظهر عدد كبير من هذه الكتب خلال القرون الثلاثة الأولى من الهجرة، ونشير من بين رجال القرن الأول إلى عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيّب، وأبان بن عثمان بن عفان. ومن رجال القرن الثاني إلى ما كتبه موسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق بن يسار، ومعمر بن راشد، والزهري. أما في القرن الثالث الهجري فقد برز محمد بن عمر الواقدي، وعبد الرزاق بن همّام الصنعاني، وعمر بن شبّة بن عبيد. ولا يمكن أن نغفل المجلدين الأولين من كتاب الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد وهما في السيرة النبوية «5» . وتمتاز كتب السيرة المتخصصة بسهولة العرض، وتتابع الأحداث التاريخية واتصالها، ومراعاة التتابع التاريخي في سردها، كما أنها تقدم وصفا مفصلا للأحداث بحكم تخصصها، ومع أن أغلب كتب المغازي والسير الأولى لا يزال مفقودا فإن ما أمكن رصده منها في المصادر المتأخرة يعكس مفردات الهيكل العام للمؤلّف، وأساليب المؤلفين ومستوى الدقة التي يتمتع بها كل منهم.
ويعتبر كتاب السيرة النبوية الذي هذّبه ابن هشام عن سيرة ابن إسحاق من أوثق كتب السيرة المتخصصة، وعلى الرغم من موقف علماء مدرسة المدينة من ابن إسحاق، وما ذكره النقّاد المحدثون عنه من تساهل في الإسناد، وقبول مرويات الإخباريين ووجود المناكير والعجائب في رواياته، وما في أصل سيرته من الشّعر المنتحل، فإنه اعتمد عند الحافظ الذهبي حجة في المغازي. وقد قبل من أحاديثه في أمور العقيدة والشريعة ما صرّح فيها بالتحديث ولم يدلس، ما لم يخالف من هو أوثق منه، واعتبرها في مرتبة «الحسن» الذي يحتج به. وقد اطلعت على نسخة فريدة كاملة من السيرة الواسطية، فلم أجد فيها ما يزيد على ما ورد في تهذيب السيرة لابن هشام إلا ما اتصل بالمرويات الخاصة بالعصر الجاهلي، وثبت لدي أنهما يصدران عن مصدر واحد.
__________
(1) أكرم العمري- السيرة الصحيحة 1/ 50- 51.
(2) الألباني- فهرست مخطوطات الظاهرية/ 373.
(3) أورد العمري في السيرة الصحيحة 1/ 51- 52 ذكرا لأحد عشر كتابا في الدلائل.
(4) ذكرت المصادر تسعة كتب في «الشمائل» باستثناء من خرّج الأحاديث ومن شرحها من العلماء، المرجع السابق 1/ 52- 53، وانظر ابن النديم- الفهرست ص/ 272. (تحقيق: رضا تجدد المازندراني، (طهران 1391 هـ/ 1971 م) ..
(5) الدوري- بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب ص/ 137- 214.(1/186)
أما محمد بن عمر الواقدي، فلم يرد له في الصحيحين رواية واحدة، ورفض النقاد من المحدثين قبول مروياته. وقد ورد في ثنايا كتابه في المغازي الكثير من المرويات بأسانيد فيها رواة لا نجد لهم تراجم في كتب علم الرجال، كما قبل وثائق مزورة، كان الوضع فيها بيّنا واضحا ولعل أبرزها كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى يهود مقنى والذي كان الكذب والوضع فيه ظاهرين للعيان. ومع ذلك فإنهم اهتموا بكتاب «المغازي» لغزارة ما فيه من المعلومات، ولتقديمه تفصيلات كثيرة ينفرد بها.
وعند الانتقال إلى كتب التاريخ والأنساب فإن الطبري يقدم في كتابه «تاريخ الأمم والملوك» معلومات موسّعة عن السيرة يعتمد فيها بشكل كبير على ما قدمه ابن إسحاق، وإن كان يضيف روايات من مصادر أخرى.
أما القسم الأول من كتاب «أنساب الأشراف» للبلاذري، فإنه من المصادر التي تقدم معلومات تمتاز بأهميتها وقدمها في مجال السيرة المطهرة.
ويبقى بعد ذلك أن نشير إلى عدد من المؤلفات المتأخرة التي كتبت بعد منتصف القرن الخامس الهجري والتي قام مؤلفوها بجمع معلوماتهم فيها من كتب الحديث وكتب السير الأولى وهذبوها واختصروها. ويمكن الإشارة في هذا المجال إلى عدد كبير من المؤلفين أمثال ابن عبد البر القرطبي في «الدرر» ، وابن حزم في «جوامع السير» ، وابن سيد الناس في «عيون الأثر» والحافظ الذهبي في «السيرة النبوية» ، والواسطي في «السيرة» ، وابن كثير في قسم السيرة من «البداية والنهاية» ، والدمشقي الشامي في «سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد» .
وتأتي المصادر التكميلية، بعد القرآن الكريم، وكتب الحديث، وكتب السيرة المختصة، والمغازي، وكتب الشمائل والدلائل، لكي تكمّل معالم الصورة وتسد بعض الثغرات التي يمكن أن تبقى بعد استيفاء المعلومات الأساسية من المصادر الأصلية. وتتمثل هذه المصادر التكميلية في كتب «معرفة الصحابة والتراجم» ، وكتب «الأدب في صدر الإسلام» ، وخصوصا الشّعر، ثم كتب «الجغرافية التاريخية» التي تعطي الباحث صورة دقيقة عن الإطار المكاني للأحداث.
لقد حفظ الله سيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم من الضياع والتحريف والمبالغة والتهويل، بأن هيأ لها جهابذة المحدثين ليعنوا بها ويدونوا أصولها الأولى قبل أن تتناولها أقلام المؤرخين ومبالغات القصّاصين وهذه ميزة لمصادر السيرة لم تتوفر لغيرها، حيث إن المحدثين ثقاة مأمونون في الرواية، وهم في الوقت نفسه علماء لهم مناهج واضحة في نقد الروايات، ولهم أسلوبهم الجاد البعيد عن الحشو والمبالغات «1» .
__________
(1) في هذا الموضوع انظر: الدوري- بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب، ص/ 30- 46، صبحي الصالح- علوم الحديث ص/ 15- 16، محمد عزت دروزة- سيرة الرسول، مصطفى السباعي- السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص/ 293- 4، جواد علي- تاريخ العرب في الإسلام- السيرة ص/ 9- 11، العمري- السيرة النبوية الصحيحة ص 47- 70.(1/187)
بيئة الدعوة:
يقع البيت العتيق وما يحيط به من مناطق سكنية وأسواق في واد تشرف عليه الجبال من أغلب النواحي، فمن الشرق يشرف عليه جبل «أبو قبيس» ، ومن الغرب جبل «قعيقعان» ، والجبلان يطوقان المنطقة على شكل هلالين متقابلين ويتركان من الناحية الشرقية منفذا إلى الأبطح وأعالي مكة مما يلي الحجون، أما من الجهة الثانية فالمسفلة حيث تنحدر الأرض مع مجرى السيل القديم، ويعرف الوادي الذي يقوم فيه البيت العتيق باسم البطحاء «1» ، وتحيط بالمسجد الحرام بيوت قريش «البطاح» التي امتازت بالتحضر والغنى والجاه. أما خارج أطراف الجبال فكانت تسكن «قريش الظواهر» وهم من العشائر الفقيرة ولكنها شديدة البأس. وتنتمي قريش إلى كنانة التي كانت تسكن قريبا من مكة، مما يعطي مكة عمقا معنويّا للحماية والدعم. وقد تعززت العلاقات النّسبيّة وصلة القربى والرحم بالمحالفات بين الطرفين، وكان الأحابيش الذين يعيشون عند مشارف مكة حلفاء لقبيلة قريش، تساندهم في حروبهم وتستخدمهم في حراسة قوافل التجارة المكية إلى اليمن والشام وأطراف الجزيرة في طريق العراق، وقد شملت محالفات قريش عددا كبيرا من القبائل العربية التي تقع مواطنها على امتداد طرق التجارة التي يباشرونها. ولما كان الاقتصاد التجاري يعتمد على استتباب الأمن، فقد اعتمدت قريش على مكانتها عند العرب، وتحالفاتها مع القبائل العربية، وما كان يظهره زعماؤها من الحصافة والحلم واللين وبعد النظر في سبيل الوصول إلى غاياتهم في تحقيق الأمن لطرق مواصلاتها التجارية. ومع أن قريشا قد دخلت قبل الإسلام في حروب الفجار الأربع التي كانت مناوشات محدودة، فإنها لم تستطع أن تحرز نصرا في تلك الحروب الصغيرة على الأعراب، وذلك يشير إلى عدم اعتمادها على القوة في تأمين مصالحها، بقدر ما تعتمد على مكانتها التي بوأها لها وجود البيت العتيق الذي يحج إليه العرب من شتّى المناطق والذي كانت تحيط به أصنامهم التي زاد عددها كثيرا حتى تجاوز ثلاثمائة وخمسين صنما، وذلك مما ساعدها على تحقيق الأمن، إضافة إلى ما كانوا يحققونه من مكاسب مادية.
لقد قام قصيّ بتوحيد قريش وجمعها في مكة وما حولها، ومكّن لها ونظّم شئونها. وقام أبناؤه بأعمال جليلة أدت إلى ازدهار الحياة في مكة وأبرزت مكانتهم وفضلهم وشرفهم ومكّنت لسيادتهم، فقد تولوا السقاية والرفادة والحجابة واللواء والندوة، وتمكّن هاشم بن عبد مناف بن قصي من عقد الإيلاف وتوسيع نطاق التجارة المكية بنقلها من النطاق الإقليمي إلى آفاق العالم القديم الرحبة، لِإِيلافِ قُرَيْشٍ* إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ «2» .
وقام هاشم كذلك بحفر عدد من الآبار وتوفير المياه لسكان مكة وحجاج البيت العتيق على حد سواء.
وقد عرف «المطلب» بن عبد مناف بالدعوة إلى مكارم الأخلاق، والأمر بترك الظلم والبغي والعدوان، كما عرف بشدّة التزامه بالنسك. وقد حاز عبد المطلب بن هاشم على مكانة متميّزة في قلوب الناس لكرمه وجوده، واشتهر بحفره بئر زمزم التي وفرت المياه في مكة، فلم تعد هناك حاجة لنقل المياه إلى مكة من خارجها، ومع أن عبد المطلب
__________
(1) جواد علي- المفصل في تاريخ العرب 6/ 10- 25، أكرم العمري- السيرة النبوية الصحيحة 1/ 77- 88.
(2) القرآن الكريم، سورة قريش، الآية/ 1- 2.(1/188)
لم يكن أغنى رجال مكة ولا هو زعيمها الوحيد، غير أن صلته المباشرة بشئون البيت العتيق، وقيامه بخدمة حجاج البيت جعلته من أبرز زعماء مكة، فكان هو الذي فاوض أبرهة حين قدم بالأحباش غازيا لمكة بقصد هدم الكعبة: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ «1» .
ومع ظهور الإسلام، وبدء نزول الوحي، وقبيل اشتداد مقاومة قريش للدعوة الإسلامية، تولى أبو طالب بن عبد المطلب الرفادة والسقاية بعد وفاة والده، ولم يكن موسرا لينفق من ماله، فاضطر إلى الاقتراض من أخيه العباس ابن عبد المطلب مبلغا كبيرا من المال أنفقه على الحجيج، ولما عجز عن إيفاء القرض تنازل عن السقاية والرفادة إلى أخيه العباس مقابل ذلك.
نتبيّن مما تقدّم بأن عشيرة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم كانت تتبوأ مكانة متميّزة في مكة عند ظهور الإسلام، رغم أنهم لم يكونوا من أهل الثراء الواسع، ولعلهم كانوا وسطا في ذلك، ودون أوساط تجار مكة الآخرين. في حين كان الثراء قبيل الإسلام في بني عبد شمس وبني نوفل وبني مخزوم، وقد نازعتهم العشائر القرشية الأخرى السيادة على مكة، وكان هذا النزاع قد بدأ بين أبناء قصي وأدى إلى انقسامهم إلى محورين هما: «المطيّبون» : وهم بنو عبد مناف ومن حالفهم من بني أسد بن عبد العزى وبني زهرة وبني تيم وبني الحارث بن فهر. أما المحور الثاني فهم «الأحلاف» وهو تجمّع يضم بني عبد الدار ومن حالفهم من بني سهم وجمح ومخزوم وعدي. وحصلت منافرات ومنازعات بين زعماء الأسر الكبيرة أحيانا، مثال ذلك ما حصل بين أميّة بن عبد شمس وعمه عبد المطلب بن هاشم.
لقد بيّن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم أن العرب المشركين في جاهليتهم كانوا يعبدون آلهة مزعومة لتقربهم من الله وتشفع لهم عنده، قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «2» .
ولقد اتصلت فيهم هذه الوثنية مع شعائرها وعاداتها واعتقاداتها فترة طويلة، وهم يتشفعون بالأصنام والأوثان: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى «3» .
ولقد ترسخت لديهم الوثنية بمرور الزمان لما كانوا عليه من إجلال أسلافهم وتعظيمهم: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ «4» .
وهكذا فقد أعماهم التقليد عن نقد تراثهم العقدي وتحكيم العقل، واستتبع الانحراف في العقيدة انحرافا في العبادة والسلوك والشعائر والشرائع. وهكذا جرى تحريف الحنيفية الإبراهيمية، فدخلت الوثنية مناسك الحج، ووضعوا الأصنام حول الكعبة، وجرى الطواف بها مع التعري من الثياب أحيانا «الحمس» . وأصبحت قريش في
__________
(1) القرآن الكريم، سورة الفيل، الآية/ 1.
(2) القرآن الكريم، سورة يونس، الآية/ 18.
(3) القرآن الكريم- سورة الأنعام، الآية/ 19.
(4) القرآن الكريم- سورة الزخرف، الآية/ 23.(1/189)
آخر المطاف لا تخرج إلى صعيد عرفات لتقف مع الناس للحج، بل تقف في مزدلفة، متميّزة عن غيرها من بقية القبائل «وكانوا لا يسلئون ولا يأقطون ولا يرتبطون عنزا ولا بقرة، ولا يغزلون صوفا ولا وبرا، ولا يدخلون بيتا من الشّعر والمدر، وإنما يكتنّون بالقباب الحمر في الأشهر الحرم، ثم فرضوا على العرب قاطبة أن يطرحوا أزواد الحل إذا دخلوا الحرم، وأن يتركوا ثياب الحل ويستبدلوها بثيات الحرم إما شراء وإما عارية وإما هبة، فإن وجدوا ذلك فبها، وإلّا طافوا بالبيت عرايا، وفرضوا على نساء العرب مثل ذلك. وهكذا فقد شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله مع أنهم كانوا يزعمون بأنهم إنما يسيرون وفق شريعة إبراهيم عليه السلام.
أما تصوراتهم عن الله سبحانه وتعالى فقد كان يعتورها القصور والنقص فهم ينحرفون عن الطريق القويم في جملة أمور أساسية في العقيدة، فقد اتخذوا أصناما لهم في كل بيت، يعبدونها ويتمسحون بها عند سفرهم وعند قدومهم ولذلك فإنهم عابوا التوحيد وقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ «1» .
وروى الشيخان أن عمرو بن عامر الخزاعي كان أول من سيّب السوائب «2» ، وأورد ابن كثير عددا من الأحاديث الصحيحة التي تدل على أن عمرو بن لحيّ كان أول من غيّر دين إبراهيم عليه السلام، فنصب الأوثان، وبحّر البحيرة، وسيّب السائبة، ووصل الوصيلة وحمى الحامي، فاتّبعته العرب فضلوا ضلالا بعيدا «3» .
وقد أنكر الله تعالى عليهم ذلك في أكثر من آية فقال عزّ وجلّ: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ «4» .
ذلك أنهم يشركون بالله فلا يوحدونه بل إنهم يلحدون في أسمائه سبحانه وصفاته «5» ، فيسمونه بأسماء لا توقيف فيها، أو بما يوهم معنى فاسدا، وينكرون بعض صفاته سبحانه، وينسبون إليه النقائص كالحاجة والولد فزعموا أن الملائكة بناته «6» ، والجن شركاؤه «7» ، وجحدوا القدر، وقالوا- كما في القرآن الكريم على ألسنتهم-:
لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ «8» .
وأنكروا القيامة والبعث والنشور والدار الآخرة والحساب والجنة والنار، رغم إقرارهم بالربوبية وقسمهم
__________
(1) القرآن الكريم- سورة ص، الآية/ 5.
(2) البخاري- فتح 17/ 156- 158 (التهذيب 4623- 4624) ، مسلم- الصحيح 4/ 2192 (حديث 2856) .
(3) ابن كثير- البداية 2/ 206- 207، ابن هشام- السيرة 1/ 121.
(4) القرآن الكريم- سورة النحل، الآية 116، وانظر سور: النحل/ 56، المائدة، الآية/ 103، الأنعام، الآيات 136- 140، وقال ابن عباس- رضي الله عنهما-: «إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام» ، الطبري- تفسير 12/ 155.
(5) قال تعالى في ذلك: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ سورة الأعراف، الآية/ 180.
(6) قال تعالى في ذلك: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ سورة النحل، الآية/ 57.
(7) قال تعالي في ذلك: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ ... سورة الأنعام، الآية/ 100.
(8) القرآن الكريم- سورة الأنعام، الآية/ 148.(1/190)
بالله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ «1» .
وأما عبادتهم الناقصة لله تعالى، وحجهم إلى بيته العتيق، وتوسيطهم الأصنام والأوثان لتقربهم إلى الله زلفى وتقديم القرابين، ونذرهم النذور، فإنه لا يعكس إلّا الرغبة في الحياة السعيدة الرغيدة في الدنيا والحصول على الأموال والثراء، وتحقيق آمال دنيوية أخرى مثل جلب المنفعة، ودفع الشر والإضرار، فهم يعبدون الأصنام لتقربهم من الله تعالى الذي يطمعون منه أن يمنحهم ما يأملون في هذه الحياة التي تنتهي عادة بالهلاك الأبدي الدائم عندهم، الذي ينسبونه إلى الدهر: وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ «2» .
ويفضح القرآن الكريم إنكارهم للآخرة في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز «3» : وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ «4» .
وفي قوله تعالى: وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ «5» .
وقد زادوا في شعائر الحج التي جاء بها إبراهيم- عليه السلام-، ونقصوا فيها، وحرّفوها عن مقاصدها فقد كانت قريش كما أسلفنا لا تقف مع الناس في عرفات ولا تفيض معهم منها، وذلك ما وضحه حديث أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- «6» عنهم، وفي أسباب نزول قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «7» .
وكانوا يحرّمون العمرة في أشهر الحج ويرون أن ذلك من أفجر الفجور في الأرض. ولم يبق من دين إبراهيم- عليه السلام- إلّا القليل، مثل تعظيم البيت العتيق والطواف به والحج والعمرة، مع ما فيهما من تحريف، والوقوف في عرفات والمزدلفة وإهداء البدن، مع أنهم أدخلوا في هذا ما ليس منه فقد كانت قريش وكنانة إذا أهلوا بالحج أو بالعمرة قالوا: «لبيك اللهم لبيك لا شريك لك، إلّا شريكا هو لك تملكه وما ملك» «8» . فهم يوحدونه بالتلبية، في الوقت الذي يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده. ومما زادوه في عباداتهم المكاء والتصدية في المسجد الحرام وهو التصفيق والصفير. قال تعالى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً «9» ، إضافة إلى ذبحهم على النصب تعظيما للأصنام. ويستسقون بالأنواء، ويقسمون باللّات والعزى.
أما أخلاقهم وأعرافهم وعاداتهم، فكثير منها هدمه الإسلام، ومن ذلك ممارسة الكثير من الرذائل من
__________
(1) القرآن الكريم- سورة النحل، الآية/ 38.
(2) القرآن الكريم- سورة الجاثية، الآية/ 24.
(3) سورة الحج، الآية/ 5، سورة هود، الآية/ 7، سورة الإسراء، الآية/ 49، 98، سورة المؤمنون، الآية/ 37، 82، سورة الصافات، الآية/ 16، سورة الواقعة، الآية/ 47، سورة المطففين، الآية/ 4، سورة الأنعام، الآية/ 29.
(4) القرآن الكريم- سورة هود، الآية/ 7.
(5) القرآن الكريم- سورة الأنعام، الآية/ 29.
(6) مسلم- الصحيح 2/ 893 (الحديث 1219) .
(7) القرآن الكريم- سورة البقرة، الآية/ 199.
(8) ابن هشام- السيرة 1/ 122، البزار- كشف الأستار 2/ 15، الهيثمي- مجمع الزوائد 3/ 223، ورجاله رجال الصحيح. وفي صحيح مسلم من حيث جاء الطويل.
(9) القرآن الكريم- سورة الأنفال، الآية/ 35.(1/191)
شرب للخمور، ولعب الميسر، والزواج بغير عدد، وقتل بعضهم للأولاد بسبب الفقر، ووأد البنات خوف العار والفقر، وإثارتهم الحروب لأتفه الأسباب وأخذ الثأر، وقد حكى عنهم الله تعالى كل تلك الرذائل في القرآن الكريم وعابهم عليها ومن ذلك قوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ «1» .
وقوله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ «2» .
وقوله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ* يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ «3» .
وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ «4» .
وقوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «5» .
سادت في بعض الأوساط أنواع من الأنكحة، التي لا تختلف عن الدعارة، فقد أورد البخاري وأبو داود بسندهما رواية عن أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- ذكرت فيها أنواع الأنكحة الفاسدة في الجاهلية «6» . حيث إنها ذكرت تفصيلات عن «نكاح الاستبضاع» ، و «نكاح الرهط» ، و «نكاح ذوات الرايات» ، ويظهر أنهم لم يكونوا يشعرون بالعار من هذه الممارسات «7» . كما أنهم يجمعون بين الأختين، ويتزوجون بزوجات آبائهم إذا ما طلقن أو ماتوا عنهن.
ومن خصال الجاهلية تعييرهم بعضهم لبعض بفعل الأمهات والآباء، وافتخارهم بولاية المسجد الحرام «8» ، وازدراؤهم الفقراء والضعفاء «9» ، وقد شاعت فيهم العيافة والطّرق والطيرة والكهانة «10» ، وكانوا يتعوذون بالجن خوفا منهم «11» .
__________
(1) القرآن الكريم- سورة التكوير، الآيات/ 8- 9.
(2) القرآن الكريم- سورة الزخرف، الآية/ 17.
(3) القرآن الكريم- سورة النحل، الآيات/ 58- 59.
(4) القرآن الكريم- سورة الاسراء، الآية/ 31.
(5) القرآن الكريم- سورة المائدة، الآية/ 90.
(6) البخاري- الفتح 19/ 220- 222 (حديث 5127) ، أبو داود- السنن 2/ 702- 703.
(7) البخاري- الفتح 9/ 138 (حديث 2053) ، مسلم- الصحيح 2/ 1080 (حديث 1757) .
(8) قال تعالى في ذلك: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ سورة المؤمنون، الآية/ 67.
(9) قال تعالى في ذلك: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، القرآن الكريم- سورة الزخرف، الآية/ 31.
(10) العمري- السيرة النبوية الصحيحة 1/ 86. والطّرق: الضرب بالحصا الذي يفعله النساء، وقيل هو الخط في الرمل.
(11) قال تعالى في ذلك: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً سورة الجن، الآية/ 6، البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 156) ، مسلم- الصحيح 2/ 644، حديث رقم 934.(1/192)
مبعث النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم:
نسبه صلّى الله عليه وسلّم:
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان «1» .
وأمه آمنة بنت وهب من بني زهرة ويلتقي نسب أمه بنسب أبيه في كلاب بن مرّة «2» .
قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ «3» .
وأورد البخاري الحديث الصحيح، الذي قال فيه صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» «4» . وقال صلّى الله عليه وسلّم أيضا في حديث آخر:
«بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتّى كنت من القرن الّذي كنت فيه» «5» .
صفته صلّى الله عليه وسلّم:
كان صلّى الله عليه وسلّم متوسط القامة ليس بالنحيف ولا الجسيم، عريض الصدر، ضخم اليدين والقدمين، مبسوط الكفين ليّنهما، قليل لحم العقبين، يحمل في أعلى كتفه اليسرى خاتم النبّوة وهو شعر مجتمع كالزّرّ. وهو أحسن الناس وجها أبيض اللون بياضا مزهرا، مستدير الوجه مليحه، واسع الفم، طويل شقّ العينين، رجل الشعر، ولم يشب من شعره الأسود إلّا اليسير. وإضافة إلى حسن خلقته وسلامة حواسّه وأعضائه فقد اعتنى بمظهره من النظافة وحسن الهيئة والتطيب بالطيب «6» .
أما صفاته الخلقية فقد وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «7» .
وأكدت أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- على أنه: «كان خلقه القرآن» «8» .
إن دراسة سيرته صلّى الله عليه وسلّم تعكس صور التواضع المقترن بالمهابة، والحياء المقترن بالشجاعة، والكرم الصادق البعيد عن حب الظهور، والأمانة المشهورة بين الناس، والصدق في القول والعمل، والزهد في الدنيا عند إقبالها، وعدم التطلع إليها عند إدبارها، والإخلاص لله في كل ما يصدر عنه، مع فصاحة اللسان وثبات الجنان، وقوة العقل وحسن الفهم، والرحمة للكبير والصغير ولين الجانب، ورقة المشاعر وحب الصفح والعفو عن المسيء، والبعد عن الغلظة والجفاء والقسوة، والصبر في مواطن الشدّة، والجرأة في قول الحق.
__________
(1) البخاري- الصحيح 4/ 238، كتاب الفضائل 15/ 36، خليفة بن خياط- الطبقات ص 3، ابن القيم- زاد المعاد 1/ 71.
(2) البخاري- فتح 14/ 2230 (كتاب المناقب) .
(3) القرآن الكريم- سورة الأنعام، الآية/ 124.
(4) البخاري- الصحيح 15/ 26.
(5) المرجع السابق 6/ 566، (فتح الباري 6/ 574) ، وانظر كذلك: البيهقي- دلائل النبوة 1/ 174- 175.
(6) البيهقي- دلائل 1/ 175.
(7) القرآن الكريم- سورة القلم، الآية/ 4.
(8) مسلم- الصحيح 1/ 746.(1/193)
أسماؤه صلّى الله عليه وسلّم:
للنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم أسماء كثيرة استخرجها العلماء وشرحوا معانيها وما تدل عليه «1» . وقد ثبت في الصحيحين من حديث جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لي خمسة أسماء: أنا محمّد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الّذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الّذي يحشر النّاس على قدميّ، وأنا العاقب» «2» . وقال أيضا: «أنا محمّد وأحمد والمقفّى والحاشر ونبيّ التّوبة، ونبيّ الرّحمة» «3» .
وأسماؤه صلّى الله عليه وسلّم نوعان: أحدهما خاصّ به لا يشاركه فيه غيره من الرسل مثل الأسماء الخمسة التي وردت في الحديث الصحيح الآنف الذكر كمحمد وأحمد ... ، والنوع الثاني ما يشاركه في معناه غيره من الرسل ولكن له منه كما لهم، كرسول الله، والشاهد، والنذير، ونبي الرحمة.
ومن أشهر أسمائه صلّى الله عليه وسلّم محمد. وهو في الأصل اسم مفعول من الحمد. وهو يتضمن الثناء على المحمود ومحبته وإجلاله وتعظيمه. هذا هو حقيقة الحمد وبني على وزن «مفعّل» مثل معظم، ومحبب، ومسوّد، ومبجّل، ونظائرها، لأن هذا البناء موضوع للتكثير، فإن اشتق منه اسم فاعل فمعناه من كثر صدور الفعل منه مرة بعد مرة، كمعلم، ومفهم، ومبيّن، ومخلّص، ومفرّج ونحوها. وإن اشتق منه اسم مفعول فمعناه من كثر تكرر وقوع الفعل عليه مرة بعد أخرى، إما استحقاقا أو وقوعا. فمحمد هو الذي كثر حمد الحامدين له مرة بعد أخرى، أو الذي يستحق أن يحمد مرة بعد أخرى. ويقال: حمّد فهو محمد كما يقال: علّم فهو معلّم. وهذا «علم» وصفة، اجتمع الأمران في حقه صلّى الله عليه وسلّم، وإن كان علما مختصّا في حق كثير ممن تسمى به غيره» «4» .
زواج عبد الله بن عبد المطلب من آمنة بنت وهب:
الثابت تاريخيّا أن عبد الله بن عبد المطلب قد تزوج من آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، ولم ترد تفاصيل الزواج من طرق صحيحة، ولكن موضوع الزواج وعلاقات النسب من الموضوعات المستفيضة التي لا تحتاج إلى سند موثق «5» .
ولم ير الرسول صلّى الله عليه وسلّم أباه، فقد مات في المدينة عند أخواله بني عدي بن النجار، وقد ذكر الزهري أنه: «بعث عبد المطلب (ولده) عبد الله بن عبد المطلب يمتار له تمرا من يثرب فتوفي عبد الله بها، وولدت آمنة رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)
__________
(1) انظر تفاصيل ذلك على سبيل المثال في: ابن القيم- زاد المعاد 1/ 86- 97، وما قاله الحافظ ابن حجر في فتح الباري 6/ 641- 644، والنووي في شرحه صحيح مسلم 15/ 104- 106.
(2) البخاري- فتح الباري 6/ 641 (حديث 3532) ، صحيح مسلم بشرح النووي 15/ 104- 105، السيوطي- الرياض الأنيقة في شرح أسماء سيد الخليقة، البيهقي دلائل النبوة 1/ 155- 156.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 15/ 105.
(4) ابن القيم- جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام/ 83- 84.
(5) ابن سعد- الطبقات 1/ 86، 94- 95، الطبراني- المعجم الكبير 3/ 149، الحاكم- المستدرك 2/ 601، أبو نعيم- الدلائل 1/ 161.(1/194)
فكان في حجر عبد المطلب «1» . وقد أشار القرآن الكريم إلى يتمه (صلّى الله عليه وسلّم) فقال تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى «2» .
وقد صحت الرواية واشتهرت بأنه قد ولد يتيم الأب «3» .
مولده صلّى الله عليه وسلّم:
تفيد أوثق الروايات التي ذكرت مولده صلّى الله عليه وسلّم أنه ولد في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل. وقد صح أنّ ذلك التاريخ كان يوم الاثنين «4» .
إن القرائن التاريخية التي تتصل بالروايات التي تفيد أن مولده صلّى الله عليه وسلّم عام الفيل قوية، وقد ذهب ابن القيم إلى القول بأنه: «لا خلاف أنه ولد صلّى الله عليه وسلّم بجوف مكة، وأن مولده كان عام الفيل، وكان أمر الفيل تقدمة قدّمها الله لنبيّه وبيته، وإلا فأصحاب الفيل كانوا نصارى أهل كتاب، وكان دينهم خيرا من دين أهل مكة إذ ذاك، لأنهم كانوا عبّاد أوثان، فنصرهم الله على أهل الكتاب نصرا لا صنع للبشر فيه، إرهاصا وتقدمة للنبي صلّى الله عليه وسلّم الذي خرج من مكة، وتعظيما للبيت الحرام» «5» .
وقد صح أن ثويبة مولاة أبي لهب أرضعته، كما ثبت أن عمه حمزة بن عبد المطلب كان أخاه من الرضاعة «6» ، كما صح أن حليمة السعدية أرضعته، وعاش معها في البادية «7» .
وقد حدثت معجزة شق صدره صلّى الله عليه وسلّم وغسل قلبه ولأمه مرتين، الأولى عند ما كان طفلا في الرابعة من عمره «8» . وقد روى الإمام مسلم في صحيحه خبر معجزة الشق الأول هذا عن أنس بن مالك: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه جبريل صلّى الله عليه وسلّم وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشقّ عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: «هذا حظّ الشّيطان منك» ، ثمّ غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثمّ أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمّه- يعني ظئره- فقالوا إنّ محمّدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللّون» . قال أنس: وقد
__________
(1) الصنعاني- مصنف 5/ 317 بإسناد صحيح إلى الزهري مرسلا، وهذا يتفق مع حديث الصحابي قيس بن مخرمة- رضي الله عنه- عن ولادته صلّى الله عليه وسلّم ورد فيه قوله «وتوفي أبوه وأمه حبلى به» / الحاكم- المستدرك 2/ 605.
(2) القرآن الكريم- سورة الضحى، الآية/ 6.
(3) مسلم- الصحيح 3/ 1392، ابن كثير- السيرة 1/ 260.
(4) مسلم- الصحيح 8/ 52، أبو داود- السنن 2/ 808- 9، الإمام أحمد- المسند 5/ 297- 299. أما عن تحديد عام الفيل فهي الأقوى بين الروايات: الحاكم- المستدرك 2/ 603، ابن هشام- السيرة 2/ 155، وذكر خليفة في تاريخه (ص/ 53) بأن ذلك هو «المجتمع عليه» واختلف في تحديد تاريخ يوم ولادته وأوثق ما لدينا رواية ابن إسحاق- سيرة ابن هشام 1/ 171.
(5) ابن القيم- زاد المعاد 1/ 76، وانظر القسطلاني- شرح المواهب/ 130.
(6) البخاري- الصحيح (فتح 9/ 140، 143) ، صحيح مسلم (بشرح النووي) 10/ 23- 24.
(7) ابن هشام- السيرة 1/ 149- 153، ابن حبّان- موارد الظمآن ص/ 512- 513، الطبراني- المعجم الكبير 24/ 212- 215، أبو نعيم- دلائل النبوّة 1/ 193- 196.
(8) ابن سعد- الطبقات 1/ 112، أبو نعيم- دلائل 1/ 49، أحمد- المسند 5/ 139، الذهبي- ميزان 4/ 44.(1/195)
كنت أرى أثر المخيط في صدره «1» .
ولا شك في أن التطهير من حظ الشيطان هو إرهاص مبكر للنبوّة، وإعداد للعصمة من الشر وعبادة غير الله. فلا يحل في قلبه شيء إلّا التوحيد، وقد دلت أحداث صباه على تحقق ذلك، فلم يرتكب إثما، ولم يسجد لصنم. أما معجزة شق الصدر الثانية فكانت ليلة الإسراء «2» .
وتوفيت أمه آمنة بالأبواء بين مكة والمدينة وهو في السادسة من عمره «3» . وقد ترك يتم النبي صلّى الله عليه وسلّم في نفسه أعمق الأثر فكان قد ولد يتيم الأب، ثم فقد أمه في طفولته، وقد بيّن الزهري أن جده عبد المطلب كفله ورعاه «4» ، غير أن جده ما لبث أن توفّي، بعد أن أوصى ولده أبا طالب برعايته «5» . وكان صلّى الله عليه وسلّم قد بلغ الثامنة، ولا شك في أن أثر ذلك كان كبيرا على أحاسيسه، لما كان يحبوه به جده من العطف والرعاية «6» .
وقد وردت روايات تفيد عطف أبي طالب عليه وتعلقه به، ومما يدل على شدة محبة أبي طالب إياه صحبته له في رحلته إلى الشام «7» . ولعل ضيق حال عمه أبي طالب قد دفعه صلّى الله عليه وسلّم إلى العمل لمساعدته فرعى له غنمه، كما رعى لأهل مكة على قراريط «8» .
حياة العمل والكدح:
عمد محمد صلّى الله عليه وسلّم منذ أن أضحى يعيش في كنف عمه أبي طالب إلى مساعدته، ولا سيّما أن أبا طالب كان في أشد الحاجة للمساعدة لفقره وكثرة عياله، فاشتغل برعي الأغنام في شعاب مكة وفجاجها. وقد ثبت في الحديث الصحيح قيامه بهذا العمل، حيث روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«ما بعث الله نبيّا إلّا رعى الغنم» . فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: «نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكّة» «9» .
وفي رعي الغنم ما فيه من تهيئة الله سبحانه وتعالى لنبيه لتلقي الرسالة والقيام بأمر الدعوة. ويورد الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث خلاصة أقوال العلماء في ذلك فيقول: «الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكفلونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصّل لهم الحلم والشفقة لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع وغيره، كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها، مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة، ألفوا من ذلك الصبر على
__________
(1) مسلم- الصحيح (كتاب الإيمان- باب الإسراء/ 74، شرح النووي على مسلم 2/ 216، ابن هشام- السيرة 1/ 166.
(2) البخاري- الصحيح- كتاب الصلاة- (الفتح 1/ 458، 3/ 492، 6/ 374) ، مسلم- الصحيح 1/ 148.
(3) ابن سعد- الطبقات 1/ 116- 117، ابن هشام- السيرة 1/ 155، أبو نعيم- دلائل النبوة 1/ 118.
(4) الصنعاني- المصنّف 5/ 318.
(5) ابن سعد- الطبقات 1/ 117- 119.
(6) البيهقي- دلائل النبوة 2/ 21- 22، ابن سعد 1/ 112- 113، الحاكم- المستدرك 2/ 603- 604، الذهبي- تقريب ص 293.
(7) ابن سيد الناس- عيون الأثر ص/ 40، وانظر: الترمذي- جامع 5/ 590، الحاكم- المستدرك 2/ 615، الطبري- تاريخ 2/ 277.
(8) البخاري- الصحيح (فتح 4/ 141، 6/ 438) ، مسلم- الصحيح (شرح النووي 14/ 605) .
(9) البخاري- الصحيح (فتح الباري 4/ 516 حديث رقم 2262) ، وانظر صحيح مسلم (بشرح النووي) 1/ 5- 6.(1/196)
الأمة، وعرفوا اختلاف طباعها، وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها، ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقيادا من غيرها» «1» .
حلف الفضول:
وشهد محمد صلّى الله عليه وسلّم في شبابه حين بلغ العشرين من عمره حلف الفضول الذي تداعى زعماء قريش لعقده وتواثقوا بينهم ألّا يجدوا بمكة مظلوما إلّا نصروه، ولا صاحب حق مسلوب إلّا أعادوا إليه حقه، وسبب عقد هذا الحلف أن رجلا من زبيد باع سلعة للعاص بن وائل السهمي فمطله في الثمن، فشكا الزبيدي إلى قبائل قريش والأحلاف فلم يلتفتوا إليه، فوقف عند الكعبة وأنشد بأعلى صوته قائلا:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكّة نائي الدّار والنّفر
ومحرم أشعث لمّا يقض عمرته ... يا للرّجال، وبين الحجر والحجر
إنّ الحرام لمن تمّت كرامته ... ولا حرام بثوب الفاجر الغدر
فأثار هذا الشعر نخوة الزبير بن عبد المطلب (عم الرسول صلّى الله عليه وسلّم) ، فنادى زعماء قريش فاجتمع بنو هاشم وبنو المطلب وبنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة بن كلاب وبنو تيم، في دار عبد الله بن جدعان، وتم عقد هذا الحلف الذي حضره محمد صلّى الله عليه وسلّم قبل بعثته «2» . وقد أشاد به بعد نبوته فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحبّ أنّ لي به حمر النّعم» «3» .
شهوده صلّى الله عليه وسلّم حلف المطيّبين:
لم يثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد شهد حرب الفجار التي حصلت بين قريش وكنانة من جهة، وقيس عيلان من جهة أخرى وهي من الحروب التي حصلت في إطار الأحلاف والأعراف الجاهلية «4» .
أما حلف المطيبين فقد ثبت أنه صلّى الله عليه وسلّم قد أخبر عن شهوده وأثنى عليه بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «شهدت حلف المطيّبين مع عمومتي وأنا غلام فما أحبّ أنّ لي به حمر النّعم وأنّي أنكثه» «5» . وقد عقد الحلف في دار عبد الله بن جدعان
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 4/ 516) .
(2) ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/ 82، ابن الجوزي: المنتظم 2/ 308- 312، المسعودي- مروج الذهب 2/ 276- 277، الغزالي فقه السيرة ص/ 72- 73.
(3) البيهقي- دلائل النبوة 2/ 38، انظر: محمد الغزالي- فقه السيرة ص/ 72 حاشية رقم (2) . وسبب تسميته بحلف الفضول أنه كان أحياء لحلف سابق في الجاهلية دعا إليه ثلاثة اسمهم مشتق من الفضل هم: الفضيل بن الحرث الجرهمي، والفضيل بن وداعة القطوري والفضل بن فضاله الجرهمي، ابن الأثير: الكامل ح 1 ص 57.
(4) وردت في ذلك رواية أوردها ابن إسحاق والواقدي دون إسناد. ولم يرد في المصادر الصحيحة ما يثبت ذلك.
(5) أحمد- المسند 1/ 190- 193، وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح (حديث 1655) ، البخاري- الأدب المفرد رقم/ 567، الحاكم- المستدرك 2/ 219- 220، الطبراني- المعجم 11/ 293.(1/197)
أيضا بمكة المكرمة، بين بني هاشم وبني أمية وبني زهرة وبني مخزوم «1» . وهو تحالف على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم، ورد الفضول على أهلها، وإنما سمي بحلف المطيبين لأنهم أحضروا جفنة فيها طيب فوضعوا أيديهم فيها وتحالفوا، فلما قاموا مسحوا أيديهم بأركان البيت وقد كانت القبائل التي عقدته هي نفس القبائل التي عقدت حلف المطيبين القديم بعد وفاة قصي بن كلاب وتنازع بني عبد مناف وبني عبد الدار على الرفادة والسقاية بمكة «2» . ولا شك في أن العدل قيمة مطلقة وليست نسبية. وأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يظهر اعتزازه بالمشاركة في تعزيز مبدأ العدل قبل بعثته بعقدين من الزمان. فالقيم الإيجابية تستحق الإشادة حتى لو صدرت من أهل الجاهلية.
زواجه صلّى الله عليه وسلّم بخديجة بنت خويلد- رضي الله عنها-:
ولما سرت أخلاق محمد صلّى الله عليه وسلّم في أرجاء مكة، وعرف القاصي والداني أمانته وصدقه وحسن خلقه رغبت خديجة بنت خويلد في أن يدير لها تجارتها. وكانت خديجة امرأة ذات شرف ومال من خيرة نساء قريش نسبا وأعظمهن شرفا وحسبا، فاختارت محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليتاجر لها في أموالها. وقد سافر بتجارتها مرتين إلى بلاد الشام وإلى سوق حباشة بتهامة جنوب مكة، فربحت تجارتها ربحا وفيرا بفضل إدارته صلّى الله عليه وسلّم وكان غلامها ميسرة قد صحبه في تلك الرحلات فلما عاد حدثها بما شاهده من أخلاقه وصدقه وأمانته، الأمر الذي رغبها في الزواج منه، فأرسلت إليه من أفصح له عن رغبتها، فأبدى رغبته في الزواج منها وعرض الأمر على أعمامه فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب ودخلا على خويلد بن أسد فخطبها إليه وتزوجها «3» .
قريش وبناء البيت العتيق:
ذكر بعض المؤرخين أن البيت العتيق انهدم مرتين بعد بناء إبراهيم- عليه السلام- بفعل السيول فبنته العمالقة في المرة الأولى، وجرهم في المرة الثانية «4» . أما الماوردي فيذكر أن «أول من جدد بناء الكعبة من قريش بعد إبراهيم- عليه السلام- قصي بن كلاب وهو جد من أجداد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وسقفها بخشب الروم وجريد النخل» «5» . على أن المهم هنا هو بناء قريش للكعبة وهو البناء الثابت بنص الصحيحين حيث شارك فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم قبيل بعثته.
ويعود سبب بناء قريش للكعبة إلى جملة عوامل منها: أنها كانت نحو القامة في الارتفاع أو فوقها بقليل، ولم يكن لها سقف، وكانت ذات ركنين كهيئة الحلقة. وكانت الكسوة تدلّى على جدر الكعبة من الخارج وتشد من أعلى الجدر في بطنها، وكانت البئر التي جعلها إبراهيم- عليه السلام- خزانة داخل الكعبة ليوضع فيها ما يهدى إليها من أموال وحلي، وقد امتدت أيدي اللصوص إلى خزانة الكعبة عدة مرات عبر القرون فسرقوا ما بها من مال وحلي، إضافة إلى أنّ امرأة من قريش ذهبت تجمّر الكعبة فطارت من مجمرتها شرارة فاشتعلت النار في كسوة الكعبة والتهمتها، وكانت
__________
(1) البيهقي- السنن الكبرى 6/ 366، ابن هشام- السيرة 1/ 133.
(2) البيهقي- السنن 6/ 367، ابن قتيبة- المعارف/ 604، وانظر هامش (1655) في المسند بتحقيق الشيخ شاكر ح 3 ص 121.
(3) ابن هشام- السيرة 1/ 114- 115، الحاكم- المستدرك 3/ 182، ابن سعد- الطبقات الكبرى 1/ 155- 157.
(4) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 180، الأزرقي: أخبار مكة 1/ 62، محمد صالح الشيبي- إعلام الأنام بتاريخ بيت الله الحرام، ص/ 125.
(5) الماوردي- الأحكام السلطانية ص/ 180، وانظر أيضا حسين باسلامة: تاريخ الكعبة المعظمة ص/ 47- 49.(1/198)
الكسوة توضع فوق بعضها البعض، فلما احترقت وهنت جدران الكعبة من كل جانب وتصدعت، ومما زاد الطين بلة أنه أعقب ذلك الحريق سيل جارف غمر الكعبة حتى دخل في جوفها، فجزعت قريش لذلك جزعا شديدا، وخافوا أن تنهدم، وخشوا إن قاموا بهدمها وبنائها أن ينزل عليهم العذاب، وأخذوا ينظرون ويتشاورون في أمر البيت العتيق «1» .
خطة البناء والتنفيذ:
واستقر رأيهم أخيرا على إعادة بناء الكعبة، وسمعوا أن سفينة رومية تحطمت قرب الشعيبة، ميناء مكة القديم، فركب الوليد بن المغيرة ومعه نفر من زعماء قريش واشتروا خشبها لاستخدامه في سقف الكعبة، واستعانوا بنجار رومي يسمى باقوم «وتعاونوا وترافدوا في النفقة، واختلفوا في بنيان مقدّم البيت، فقال أبو أمية بن المغيرة:
يا معشر قريش لا تنافسوا ولا تباغضوا فيطمع فيكم غيركم، ولكن جزّئوا البيت أربعة أجزاء، ثم ربّعوا القبائل فلتكن أرباعا، ثم اقترعوا عند هبل في بطن الكعبة على جوانبها، فطار قدح بني عبد مناف وبني زهرة على الوجه الذي فيه الباب وهو الشرقي، وقدح بني عبد الدار، وبني أسد بن عبد العزى، وبني عديّ على الشق الذي يلي الحجر وهو الشق الشامي. وطار قدح بني سهم، وبني جمح، وبني عامر بن لؤي على ظهر الكعبة وهو الشق الغربي. وطار قدح بني تيم وبني مخزوم وقبائل من قريش ضمّوا معهم على الشق اليماني الذي يلي الصفا وأجياد.
وأمروا بالحجارة أن تجمع بين أجياد والضواحي، فكانت قريش تنقل بأنفسها الحجارة تبرّرا وتبركا بالكعبة» «2» وقد شارك محمد صلّى الله عليه وسلّم قومه في نقل الحجارة، وكان عمره حينذاك خمسا وثلاثين سنة «3» .
ولما أجمعت قريش على هدم الكعبة، أخرجوا ما كان بها من مال وحلية، وجعلوه عند أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عبد الدار بن قصي، وأخرجوا كبير الأصنام هبل، ونصبوه عند المقام. ولما أرادوا الشروع في الهدم ظهرت لهم حية كانت داخل الكعبة وكشّت «4» وفتحت فاها، فهابوها، فقال لهم الوليد بن المغيرة: «يا قوم ألستم تريدون بهدمها الإصلاح؟ قالوا: بلى. قال: فإن الله لا يهلك المصلحين، ولكن لا تدخلوا في عمارة بيت ربكم إلّا من طيّب أموالكم، ولا تدخلوا فيه مالا من ربا، ولا من مال ميسر، ولا مهر بغيّ، ولا مظلمة أحد من الناس، وجنبوه الخبيث من أموالكم، فإن الله لا يقبل إلّا طيبا» ، ففعلوا، ثم وقفوا عند المقام ودعوا الله أن يذهب عنهم تلك الحية، فأقبل طائر كبير فاختطفها وألقى بها في أجياد، فاعتبروا ذلك دليلا على رضا الله عن عملهم «5» .
تقدم الوليد بن المغيرة بمعول في يده وبدأ في الهدم بمفرده دون أن يشاركه أحد من قريش خوفا من أن ينزل به العذاب إذا أمسى، ولما أصبح سليما اشتركوا معه في هدم البيت حتى بلغوا حجارة خضرا لا يطيق تحريك الحجر
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 3/ 516، 7/ 180، ابن هشام: السيرة 1/ 117، ابن فهد- إتحاف الورى 1/ 144- 145.
(2) ابن فهد: إتحاف الورى 1/ 146- 147، انظر أيضا: الأزرقي- أخبار مكة 1/ 160- 161، المسعودي- مروج الذهب 2/ 280.
(3) ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 117، ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 298، ابن الجوزي- المنتظم 2/ 328.
(4) كشّت أي ضربت باحتكاك جلد بعضها ببعض.
(5) الأزرقي- أخبار مكة 1/ 161- 162، ابن فهد- إتحاف الورى 1/ 149- 150، باسلامة- تاريخ الكعبة المعظمة ص/ 61- 62، والسيرة النبوية لابن هشام 1/ 22.(1/199)
الواحد منها عدة رجال، فاتخذوا من ذلك أساسا للبناء. ولما جمعوا ما أخرجوه من النفقة وجدوها أقل من أن تبلغ بهم عمارة البيت كله، فتشاوروا في ذلك، واستقر رأيهم على أن يقصروا عن القواعد ويحجّروا ما يقدرون عليه من بناء «1» البيت، ويتركوا بقيته في الحجر عليه جدار مدار يطوف الناس من ورائه، ففعلوا ذلك وبنوا في بطن الكعبة أساسا يبنون عليه من جهة الحجر، وتركوا من ورائه من فناء البيت في الحجر ستة أذرع وشبرا، ثم شرعوا في بنائها، ورفعوا بابها عن الأرض حتى لا تدخلها السيول، ولا يرقى إليها إلا بسلّم ولا يدخلها إلّا من أرادوا، وبنوها بمدماك من حجارة ومدماك من خشب بين الحجارة «2» . وبذلك يتضح أن هذا البنيان للكعبة قد قصر عما كان عليه منذ زمن الخليل- عليه السلام-. وقد أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد البعثة إلى هذا الأمر في الأحاديث الصحيحة التي رواها البخاري ومسلم، فقد قالت أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها-: سألت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الحجر أمن البيت هو؟ قال: «نعم» . قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: «إنّ قومك قصّرت بهم النّفقة» ، قلت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: «فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا أنّ قومك حديثو عهد بالجاهليّة فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه بالأرض» «3» .
الحكم الأمين:
عندما انتهت قريش إلى موضع الحجر الأسود اختلفوا في رفعه وأراد كل فريق أن يذهب بشرف وضعه في مكانه، وزعمت كل قبيلة أنها أحق بذلك الشرف حتى كاد ينشب بينهم القتال. وظلوا على تلك الحال بضع ليال، ثم تشاوروا فأشار عليهم أبو أمية حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر، وكان أسنّ قريش، بأن يحكّموا أول من يطلع عليهم من باب بني شيبة، فرضوا بذلك فطلع عليهم محمد صلّى الله عليه وسلّم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، قد رضينا بما قضى بيننا، فلما أخبروه الخبر أمر بثوب فوضع فيه الحجر الأسود وطلب أن يتقدم من كل ربع من أرباع قريش رجل وأن يأخذ كل رجل بزاوية من زوايا الثوب، ثم رفعوه فأخذه بيده ووضعه مكانه وشده، وبذلك حسم خلافا خطيرا كاد أن يمزق قريشا. ثم واصلوا البناء وزادوا في ارتفاعها تسعة أذرع وجعلوا لها سقفا مسطحا تحمله ست دعائم في صفين في كل صف ثلاث دعائم.
وكان الخشب خمسة عشر مدماكا والحجارة ستة عشر مدماكا وبلغ ارتفاعها من خارج الأرض إلى أعلاها ثمانية عشر ذراعا، وجعلوا ميزابها يسكب في الحجر، وأقاموا داخلها درجة من خشب يصعد بها إلى ظهرها، وزوّقوا سقفها وجدرانها الداخلية، ودعائمها، وصوروا فيها صور الأنبياء، ويبدو أن ذلك كان بتأثير باقوم، ذلك الروميّ البنّاء الذي استعانوا به، فكانت فيها صورة إبراهيم عليه السلام يستقسم بالأزلام، وصور الملائكة، وصور مريم- عليها السلام- وفي حجرها ابنها عيسى- عليه السلام-، وجعلوا لها بابا يفتح ويغلق، ثم ردوا المال والحلية في الجب وعلقوا فيه قرني الكبش ونصبوا هبل على الجب كما كان قبل ذلك، وكسوها حبرات يمانية وردموا الردم الأعلى وصرفوا السيل عن الكعبة» «4» .
__________
(1) معنى هذه العبارة أنهم اقتصروا في النباء على ما يقدرون عليه ووضعوا الأحجار في هذا الجزء الذي اكتفوا به.
(2) الأزرقي- أخبار مكة 1/ 162- 163، ابن فهد- إتحاف الورى 1/ 156.
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري 3/ 513- 514) حديث (1584- 86) ، صحيح مسلم (شرح النووي) 9/ 88- 91.
(4) الأزرقي- أخبار مكة 1/ 163- 165، ابن فهد- إتحاف الورى 1/ 156- 160، ابن كثير- البداية والنهاية 2/ 303- 304، المسعودي- مروج الذهب 2/ 278- 279، الشيبي- إعلام الأنام ص/ 136- 138.(1/200)
الصادق الأمين:
ولا غرابة أن يشارك محمد صلّى الله عليه وسلّم قومه ذلك العمل الجليل وأن يعرف بينهم بالصادق الأمين فقد نشأ والله سبحانه وتعالى يكلؤه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية وأنجاسها لما يريده له من كرامته ورسالته، فما إن أصبح رجلا حتى أضحى أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأشهرهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، تنزها وتكرما، حتى لقبه قومه بالأمين، لما جمع الله فيه من الخصال الصالحة «1» .
وظهرت أمانة محمد صلّى الله عليه وسلّم أبين الظهور حين اشتغل بالتجارة، فقد روي أنه شارك السائب بن أبي السائب قبل بعثته فلما كان يوم الفتح جاءه السائب فقال له: «مرحبا بأخي وشريكي كان لا يداري ولا يماري» «2» . وفي رواية أبي داود أن السائب قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «بأبي أنت وأمّي كنت شريكي. فنعم الشّريك كنت لا تداري ولا تماري» «3» .
هكذا عاش محمد صلّى الله عليه وسلّم بين قومه قبل بعثته نزيه النفس فما حكيت عنه مغامرة لنيل جاه أو مداهنة لاصطياد ثروة بل على العكس بدأت سيرته تومض في أنحاء مكة بما امتاز به على سائر أقرانه، بل على أشراف قومه من خلال عذبة، وشمائل كريمة، وفكر صائب، ورأي راجح، ومنطق صادق، ونهج أمين، حتى وصلت رجولته إلى القمة، وازدانت تلك الرجولة بمحامد الأدب، والاستقامة والقنوع، وسمو روحه، وصفاء نفسه، فقد صانه الله تعالى من حب العظمة ومن التظاهر والرياء، أو طلب الرياسة عن طريق المداهنة، فإذا أضفنا إلى هذا كرهه الشديد للأصنام التي عكف عليها قومه، وازدراءه للعقائد المحرفة التي تسود عالمه، وإدراكه أن الحق شيء آخر وراء هذه الخرافات والأوهام السائدة.. تبينا السر في استئناسه للجبال والفضاء، واستراحته إلى رعي الغنم في هذه الأنحاء القصية، مكتفيا بالقليل الذي يعود عليه من كسبها «4» .
إرهاصات البعثة:
لقد عصم الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم من الكفر وجنّبه عبادة الأوثان التي عبدها قومه، فلم يعبدها، ولم يقدم لها القرابين، ولم يكن يأكل مما يذبح على النصب، وكان يستمسك بإرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في حجهم ومناكحهم وبيوعهم «5» ، فكان يطوف بالكعبة المشرفة، وقد طاف معه مولاه زيد بن حارثة مرة، فلمس زيد بعض الأصنام
__________
(1) ابن هشام- السيرة 1/ 112.
(2) أحمد- المسند 3/ 425، أبو داود- السنن، حديث رقم (4836) ، ابن ماجه- السنن حديث رقم (2287) ، وقال عنه الحافظ الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد 1/ 94، وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن أبي داود 3/ 917 (حديث رقم 4049) .
(3) أبو داود- السنن حديث رقم 4836.
(4) محمد الغزالي- فقه السيرة ص/ 74- 75.
(5) البيهقي- دلائل النبوة 2/ 37.(1/201)
فنهاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد حلف زيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما مسّ منها صنما حتى أكرمه الله بالوحي «1» وكان التعري عند الطواف مألوفا، ولكن النبي صلّى الله عليه وسلّم عصم من ذلك. وقد اشترك مع عمه العباس في نقل الحجارة لما جددت قريش بناء الكعبة، فاقترح عليه عمه العباس أن يرفع إزاره ويجعله على رقبته ليقيه أثر الحجارة ما دام بعيدا عن الناس، فلما فعل ذلك سقط على الأرض مغشيّا عليه، فلما أفاق طلب أن يشدّوا عليه إزاره «2» .
وعرف صلّى الله عليه وسلّم بالصدق والأمانة، وصلة الأرحام ومساعدة الضعفاء والبذل في الخير، فكانت قريش تلقبه بالأمين، وصفته خديجة- رضي الله عنها- بقولها: «إنّك لتصل الرّحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم، وتقري الضّيف، وتعين على نوائب الحقّ» «3» .
وكان أقرب أصدقاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى نفسه ثلاثة هم أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله- رضي الله عنهم- وثلاثتهم من تجار قريش، وقد اتسموا بالأخلاق العالية، والنظرة السليمة، والبعد عن الرذائل، والتثقف بثقافة حسنة من معرفة الأحساب والأنساب والشعر كما عرفوا بإكرام الضيف والإنفاق في الخير، وهذه الخصال الحميدة قربتهم إلى رسول صلّى الله عليه وسلّم، فكانوا أصدقاء قبل البعثة، وأتباعه الأولين بعدها، فقد هدتهم فطرتهم إلى الإسلام.
بشارات الأنبياء بمحمد صلّى الله عليه وسلّم:
رغم التحريف الحاصل في نسخ التوراة والإنجيل المتداولة حاليّا، فلا زالت نسخة «توراة السامرة» ، «وإنجيل برنابا» الذي حرمت الكنيسة تداوله في آواخر القرن الخامس الميلادي، تحتوي على نصوص صريحة تبشر بظهوره ونبوته صلّى الله عليه وسلّم. وقد نص إنجيل برنابا على التصريح برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم مثال ذلك، ما ورد في الإصحاح الحادي والأربعين عن إخراج آدم وحواء من الجنة حيث ورد فيه: «فاحتجب الله، وطردهما الملاك ميخائيل من الفردوس، فلما التفت آدم رأى مكتوبا فوق الباب: لا إله إلّا الله محمد رسول الله» «4» . وقد أيدت المخطوطات التي عثر عليها في منطقة البحر الميت حديثا ما ورد في نصوص إنجيل برنابا المذكورة.
وحين تحدث المسيح- عليه السلام- إلى الحواريين عن الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم وبشرهم أنه قادم إلى العالم سأله الحواريون: «يا معلم: من عسى أن يكون ذلك الرجل الذي سيأتي إلى العالم؟» أجاب يسوع بابتهاج قلب: «إنه محمد رسول الله» «5» . ومثل هذه البشارات تتكرر في إنجيل برنابا في مواضع كثيرة.
وفي الإصحاح الثاني من إنجيل لوقا «6» قوله: «الحمد لله في الأعالي وعلى الدنيا السلام، وللناس أحمد» وقد
__________
(1) الطبراني- المعجم الكبير 5/ 88.
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري 1/ 474) ، مسلم- الصحيح (شرح النووي 4/ 33- 34) .
(3) البخاري- (فتح الباري 1/ 30، ومسلم (حديث 160) ح 1 ص 141 واللفظ لمسلم.
(4) انجيل برنابا (مطبوع) الإصحاح 41 الفقرات/ 29- 30.
(5) انجيل برنابا 163/ 7.
(6) انجيل لوقا 2/ 14.(1/202)
تم تحريف الفقرة الأخيرة عند ترجمتها من النص السرياني إلى العربية «1» .
وفي الإصحاح السادس عشر من إنجيل لوقا يرد قول المسيح: «إن لم أنطلق يأتكم الفارقليط» «2» وأما بشارة عيسى ابن مريم- عليهما السلام- قومه ببعثة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم فقد كانت صريحة نص عليها القرآن الكريم في قوله تعالى: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ «3» .
وكانت صفات النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وعلاماته قد وردت في كل من التوراة والإنجيل بشكل صريح كما أخبر الله تعالى في الكتاب العزيز بقوله الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «4» .
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية بأن الأخبار متواترة بمعرفة أهل الكتاب بصفة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم «5» . وقد أخبر الله تعالي بذلك عن أهل الكتاب كما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ «6» .
وعلى الرغم من ثبوت قيام اليهود والنصارى بتحريف التوراة والإنجيل وتعمدهم حذف اسم النبي صلّى الله عليه وسلّم وحذف النصوص الواضحة الدالة على صفاته كما يتضح ذلك من النقول والاقتباسات التي أوردها العلماء المسلمون في مؤلفاتهم أمثال ابن قتيبة، والماوردي، والقرافي، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية، وغيرهم مما يدل على أن التحريف قد استمر حتى العصور المتأخرة، ومع ذلك فقد بقيت بعض النصوص التي تشير بشكل صريح إلى ذلك فقد نصت التوراة المتداولة بين الأحبار على ظهور النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم في مكة في نص جاء فيه:
«جاء الرب من سينا.. ... واشرق لنا من ساعير
استعلن من جبل فاران ... ومعه الوف الأطهار
في يمينه سنة نار» «7» .
__________
(1) لقد حقق ذلك واكتشف الخطأ في الترجمة الأستاذ عبد الأحد داود، وانظر: حجازي- التوراة السريانية.
(2) فارقليط: لفظ سرياني مشتق من «فاران» بمعنى مكة وجبل فاران هو جبل حراء، والقليط بمعنى الجاثم أو المتحنث أو المتعبد وتأتي بمعنى الحامد وأحمد.
(3) القرآن الكريم- سورة الصف، الآية/ 6.
(4) القرآن الكريم- الأعراف، الآية/ 157.
(5) ابن تيمية- الجواب الصحيح 1/ 340.
(6) القرآن الكريم- سورة البقرة، الآية/ 89.
(7) الإشارة إلى جبل فاران أي جبل حراء في مكة المكرمة، أما الإشارة إلى الأطهار فقد وردت كذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (التوبة/ 108) .(1/203)
ومما لا شك فيه أن الدلائل على صدق النبوة المحمدية لا تتوقف على هذه البشارات، فدلالات القرآن الكريم من التشريع الباهر، والإعجاز البلاغي، ودلالات السنة النبوية المطهرة الصحيحة على وقوع المعجزات الحسيّة ومشاهدة الألوف من المسلمين لها، ودلالات السيرة النبوية المطهرة، في إيمان النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم ويقينه، وعبادته ومجاهدته، ودعوته وجهاده وعدله وصدقه وإيمان المقربين إليه العارفين به يقطع بصدق البعثة المحمدية «1» .
وينقل ابن إسحاق عن رجال من الأنصار قولهم: «إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى وهداه، لما كنا نسمع من رجال يهود، كنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه تقارب زمان نبي يبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم» «2» . ولا شك في أن يهود المدينة كانوا يعرفون أن زمان النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم قد اقترب، وكانوا يزعمون أنه منهم ويتوعدون به العرب وقد بين الله سبحانه وتعالى أنهم يعرفونه بصفاته وإنما أنكروا نبوّته وجحدوها لما تبين لهم أنه من العرب، قال تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ «3» .
وأورد البخاري في صحيحه «4» ، ومسلم في كتاب الجهاد والسير «5» ما صرح به هرقل ملك الروم حين استلم رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم إليه في قوله: «وقد كنت أعلم أنّه خارج، ولم أكن أظنّ أنّه منكم» «6» .
إرهاصات نبوته صلّى الله عليه وسلّم:
كانت الرؤيا الصادقة هي أول ما بديء به من الوحي فكان صلّى الله عليه وسلّم لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح «7» . ومن ذلك تسليم الحجر عليه قبل النبوة كما أخبر «8» وقد «حبّب إليه الخلاء، فكان يخلوا بغار حراء فيتحنّث فيه- وهو التعبد- اللّيالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك ... » «9» . حتى نزل عليه الوحي فجأة وهو في الغار «10» .
__________
(1) أكرم العمري- السيرة النبوية الصحيحة 1/ 121.
(2) ابن هشام- السيرة 1/ 231، ابن سعد- الطبقات 1/ 158- 159، أبو نعيم- دلائل النبوة 1/ 88.
(3) القرآن الكريم- سورة البقرة، الآية/ 89. وعن أسباب النزول: انظر ابن هشام- السيرة 1/ 195، الطبري- التفسير 2/ 75- 6.
(4) البخاري- الصحيح (كتاب بدء الوحي) ، 1/ 6.
(5) مسلم- صحيح 3/ 1395 (كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل) .
(6) البخاري- الصحيح 1/ 6، مسلم- الصحيح 3/ 1395.
(7) البخاري- الصحيح 1/ 3، مسلم- الصحيح 1/ 139.
(8) مسلم- الصحيح 4/ 1782، الترمذي- سنن 5/ 593.
(9) البخاري- الصحيح 1/ 3، وأطرافه في الحديث 3392، 4953، 4955، 4956، 4957، 6982، مسلم- الصحيح 1/ 140.
(10) البخاري- الصحيح 1/ 3، مسلم- الصحيح 1/ 140.(1/204)
نزول الوحي والبعثة النبوية:
بدأ نزول الوحي على محمد صلّى الله عليه وسلّم وعمره أربعون سنة «1» . وقصة بدء نزول الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلّم ثابتة بنص الصحيحين من حديث عروة بن الزبير، فعن عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها- أنها قالت: «كان أول ما بديء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب
إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقاريء. قال فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقاريء. فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقاريء فأخذني فغطّني الثالثة، ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «2» .
فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد- رضي الله عنها- فقال: زمّلوني زمّلوني. فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، ثم قال لخديجة: أي خديجة مالي لقد خشيت على نفسي، وأخبرها الخبر.
فقالت خديجة: «كلّا، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» . فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى- وهو ابن عم خديجة أخي أبيها- وكان امرءا تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب. وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا «3» . ثم لم ينشب ورقة أن توفّي، وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي (صلّى الله عليه وسلّم) حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أو فى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد: إنك رسول الله حقّا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي، غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل، فقال له مثل ذلك» «4» .
لقد كان بدء نزول الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلّم ونزول صدر سورة «اقرأ» نقطة تحول في تاريخ البشرية، نقلتها من طريق الاعوجاج والظلام إلى طريق الهدى والنور، طريق الله المستقيم المؤدي إلى النجاة في الدنيا والآخرة.
__________
(1) البخاري (فتح الباري) ج 6/ 564، 7/ 162، 227، 10/ 356 (كتاب المناقب) ، مسلم- الصحيح (شرح النووي) 4/ 1824، 1827، ابن هشام- السيرة 1/ 251- 252.
(2) سورة العلق/ 1- 5.
(3) البخاري (فتح الباري) 1/ 30- 31، كتاب بدء الوحي (حديث رقم 3) ، 8/ 585- 6 كتاب التفسير (حديث رقم 4953) ، مسلم- الصحيح (شرح النووي) 2/ 197- 204.
(4) البخاري- الصحيح 8/ 67، (فتح الباري 1/ 22، 8/ 715، 722، 12/ 351- 2) ، مسلم- الصحيح 1/ 139.(1/205)
ويعلق أحد الباحثين على ذلك بقوله: «لقد تحول خط التاريخ كما لم يتحول من قبل قط، وكما لم يتحول من بعد أيضا. وكان هذا الحدث هو مفرق الطريق. وقامت المعالم في الأرض واضحة عالية لا يطمسها الزمان، ولا تطمسها الأحداث. وقام في الضمير الإنساني تصور للوجود وللحياة وللقيم لم يسبق أن اتضح بمثل هذه الصورة، ولم يجئ بعده تصور في مثل شموله ونصاعته وطلاقته من اعتبارات الأرض جميعا، مع واقعيته وملاءمته للحياة الإنسانية.
ولقد استقرت قواعد هذا المنهج الإلهي في الأرض وتبينت خطوطه ومعالمه لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ «1» . لا غموض ولا إبهام. إنما هو الضلال عن علم، والانحراف عن عمد، والالتواء عن قصد. إنه الحادث الفذ في تلك اللحظة الفريدة. الحادث الكوني الذي ابتدأ به عهد في هذه الأرض وانتهى عهد. والذي كان فرقانا في تاريخ البشر لا في تاريخ أمة ولا جيل. والذي سجلته جنبات الوجود كله وهي تتجاوب به، وسجله الضمير الإنساني. وبقي أن يتلفت هذا الضمير اليوم على تلك الذكرى العظيمة ولا ينساها وأن يذكر دائما أنه ميلاد جديد للإنسانية لم يشهده إلا مرة واحدة في الزمان» «2» .
أيقن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه رسول الله بعد أن نقشت تلك الآيات من سورة «اقرأ» في صدره، وبعد حديث ورقة بن نوفل له، وازداد يقينه بعد نزول الآيات الأولى من سورة المدثر، فقد روى جابر بن عبد الله الأنصاري وهو يحدث النبي صلّى الله عليه وسلّم عن فترة الوحي- فقال في حديثه: «بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السّماء فرفعت بصري فإذا الملك الّذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السّماء والأرض، فرعبت منه فرجعت فقلت: زمّلوني. فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ- إلى قوله- وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ «3» فحمي الوحي وتتابع «4» . وهذه الآيات الأولى من سورة المدثر فيها الأمر من الله سبحانه وتعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلّم بإنذار البشر «5» ودعوتهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فهي تمثل في حياة محمد صلّى الله عليه وسلّم حدّا فاصلا بين عهدين، عهد ما قبل البعثة الذي يمثل أكثر عمره صلّى الله عليه وسلّم والذي لم يكن فيه مكلفا من الله تعالى بشيء. وعهد ما بعد البعثة الذي يمثل أخطر وأصعب مرحلة في حياته صلّى الله عليه وسلّم لأنها مرحلة تغيير طريق البشرية وهي مرحلة خطيرة عندما نتصورها بكل أبعادها فها هي الأوامر الربانية تأمره صلّى الله عليه وسلّم أن يترك عهد النوم وأن يشمر عن ساعد الجد، ليس لتغيير عقيدة قومه فحسب، بل لتغيير مسار البشرية بأكمله، ونقل تلك البشرية من طريق الهلاك والردى الذي كانت تتردى فيه، إلى طريق النجاة الذي يؤدي إلى سعادة الدنيا والنجاة العظمى في الأخرى. وهذه المهمة، وهذا التكليف الإلهي لم يكن يسيرا بل كانت دونه من الصعوبات والأخطار ما لا يستطيعه أحد سوى محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي اختاره الله تعالى لهذه المهمة الشاقة ونجح فيها- كما يشهد التاريخ- أيما نجاح، ووضع البشرية على الطريق الصحيح وأوضح لها السبيل الحق، وأنار لها الطريق ولم يعد لفرد أو جماعة أو فئة عذر في تنكب طريق الحق والزيغ عن الهدى والنور.
__________
(1) القرآن الكريم- الانفال، الآية/ 42.
(2) قارن بمقدمة الأستاذ العقاد لكتابه «عبقرية محمد» ، وانظر صفة تكريم الإنسان.
(3) القرآن الكريم- المدثر الآية/ 1- 5.
(4) البخاري- فتح الباري 1/ 37 حديث (رقم 4) ، مسلم- الصحيح (شرح النووي) 2/ 206.
(5) انظر صفة الإنذار، وصفة التبليغ.(1/206)
وقد ثبت أن الوحي قد نزل عليه أول ما نزل يوم الإثنين «1» . كما أن المشهور أن ذلك قد حصل في شهر رمضان. قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ «2» . والوحي إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم نظير الوحي الإلهي إلى الأنبياء السابقين، قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً «3» .
وكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يعالج من التنزيل شدّة «4» ، وكان جبينه يتفصّد عرقا في اليوم الشديد البرد، وكان وجهه يتغير ويكرب «5» ، وجسمه يثقل يقول زيد بن ثابت: «فأنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفخذه على فخذي، فثقلت عليّ حتّى خفت أن ترضّ فخذي» «6» . وكان يركز ذهنه بشدّة لحفظ القرآن، فيحرك به لسانه وشفتيه، فنزلت الآية:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
«7» .
كان حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على تبليغ القرآن الكريم يدفعه إلى التعجل في تلقيه والشوق إليه، وقد بيّنت ذلك الآية وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «8» .
ولقد أوضح النبي صلّى الله عليه وسلّم كيف يأتيه الوحي حين قال: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس- وهو أشدّه عليّ- فيفصم عنّي وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول» «9» . وكان الوحي يأتيه في اليقظة كما تدل على ذلك الأحاديث الصحيحة «10» .
استغرق نزول الوحي ثلاثا وعشرين سنة، منها ثلاثة عشر عاما بمكة المكرمة وهذا هو المشهور «11» وعشر سنين في المدينة وهو المتفق عليه «12» .
إن ظاهرة الوحي معجزة خارقة للسنن الطبيعية حيث تلقى النبي صلّى الله عليه وسلّم كلام الله- القرآن الكريم- بواسطة الملك جبريل (عليه السلام) ، وبالتالى فلا صلة لظاهرة الوحي بالإلهام أو التأمل الباطني، أو الاستشعار
__________
(1) مسلم- الصحيح 8/ 51- 52، أبو داود- السنن 2/ 808- 9.
(2) القرآن الكريم- سور البقرة، الآية/ 851.
(3) القرآن الكريم- سورة النساء، الآية 163.
(4) مسلم- الصحيح 1/ 330.
(5) المرجع السابق 4/ 1817.
(6) البخاري- الصحيح 5/ 182.
(7) القرآن الكريم- سورة القيامة، الآيات/ 16- 19، وانظر: البخاري- الصحيح 6/ 76، مسلم- الصحيح 1/ 330.
(8) القرآن الكريم- سورة طه، الآية/ 114.
(9) البخاري- الصحيح 1/ 32، مسلم- الصحيح 4/ 1816- 1817.
(10) البخاري- المصدر السابق 1/ 2- 3، مسلم- الصحيح 4/ 1816- 7.
(11) البخاري- الصحيح 2/ 238، مسلم- الصحيح 4/ 1825- 6 وكلاهما عن ابن عباس- رضي الله عنهما-، وانظر: الحاكم- المستدرك 3/ 2 عن طريق علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-.
(12) ابن سيد الناس- عيون الأثر 1/ 89.(1/207)
الداخلي، بل إن الوحي يتم من خارج الذات المحمدية المتلقية له، ودون أن يكون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي أثر في الصياغة والمعني، وتنحصر مهمته بتلقى الوحي وحفظ الموحى به وتبليغه «1» ، أما بيانه وتفسيره فيتم عن طريق النبي صلّى الله عليه وسلّم بأسلوبه ولفظه كما تدل على ذلك أحاديثه المحفوظة. وهو أسلوب مغاير تماما لأسلوب القرآن الكريم.
الدعوة الإسلامية ومنطلقاتها الفكرية:
إن الخطاب الإسلامي موجه للناس كافة بشتى بقاعهم ومختلف أزمانهم وبكل أجناسهم وقومياتهم وألوانهم وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «2» . وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً «3» ، وهذا العموم في الخطاب للبشرية اقتضى أن يقوم الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه بدعوة الآخرين إلى الدخول في الإسلام قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي «4» . وقد حفلت العصور الإسلامية المتعاقبة بنشاط دعوي في أوضاع الحرب والسلام كان له أثره البالغ في تكثير أعداد المسلمين وتوسيع رقعة دار الإسلام. وكان الباعث الرئيسي على الدعوة هو طلب مرضاة الله والحصول على مثوبته ففي الحديث النبوي: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النّعم» «5» .
إن موضوع الدعوة هو الإسلام بشموله للعقيدة والشريعة والأخلاق- أو بتعبير معاصر- لجوانب الحياة المتنوعة فكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية، ولكن المحور الأساسي هو التوحيد الخالص لله تعالى، وأنه الرب الخالق والمنعم الرازق، وأنه خلق البشر لتحقيق العبودية له وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «6» ، ويتم اختبار طاعتهم في هذه الدنيا ويجازون على أعمالهم في اليوم الآخر، حيث يدخل المؤمنون الجنة والكافرون النار زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ «7» سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ «8» وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ «9» .
إن الدخول في الإسلام يبدأ ب «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» ، وبها يعلن الإنسان إخلاصه في العبودية لله وحده، والتزامه باتباع أحكام الإسلام التي جاء بها محمد صلّى الله عليه وسلّم «10» وهكذا يدخل الإنسان مرحلة الوعي الديني.. الوعي بالهدف النبيل من الوجود، والوعي بضرورة الارتقاء الروحي والمادي، والوعي بوسائل
__________
(1) انظر صفة التبليغ.
(2) القرآن الكريم- سورة الأنبياء، الآية/ 107.
(3) القرآن الكريم- سورة سبأ، الآية/ 28.
(4) القرآن الكريم- سورة يوسف، الآية/ 108.
(5) البخاري- الصحيح 7/ 544، حديث رقم (4210) مسلم- الصحيح، (كتاب فضائل الصحابة باب 4) رقم 34.
(6) القرآن الكريم- سورة الذاريات، الآية/ 56، وانظر صفة العبادة.
(7) القرآن الكريم- سورة التغابن، الآية/ 7.
(8) القرآن الكريم- سورة الحديد، الآية/ 21، وانظر صفة الفضل.
(9) القرآن الكريم- سورة التغابن، الآية/ 10.
(10) انظر صفة الاتباع.(1/208)
الارتقاء من الاحساس بمعاني الإيمان «1» والتدبر «2» والتفكر «3» والذكر «4» والشكر «5» والعبادات المتنوعة من صلاة «6» وصوم «7» وحج «8» لتوثيق الصلة بالخالق «الصلاة معراج المؤمن» ، ومن الانتصار للحق والعدل والخير والجمال، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «9» ، ومن تمثل القيم الإسلامية في واقع حياته ليكون مثال «الإنسان الصالح» «10» ، ومن العطاء السخي للآخرين «11» عن طريق «العمل الصالح» «12» ، الذي يقربه إلى الله تعالى.
إن دائرة العمل الصالح واسعة، وهو يهدف إلى الارتقاء بالحياة الروحية والمادية ومساندة قيم الحق والخير والجمال في الأرض. وهي معاني كبيرة لا يسهل تحقيقها نسبيّا، وإن تحققت في جيل فليس ثمة ما يضمن تحققها في جيل لاحق، فالصعود والهبوط يتعاقبان في تاريخ البشر، وتجديد الدين وإحياء السنن وتوثيق عرى الإيمان يرتبط بالدعوة الإسلامية «13» ، ومدى وعي الدعاة لمضامين الإسلام وشموليته، وقدرتهم على تمثل تعاليمه، وإقناع الآخرين بها.
إن القرآن هو أول كتاب باللغة العربية حرّك وعي الإنسان قبل أربعة عشر قرنا، وفتح عقله على مكانه في الكون والحياة، وعرّف بالحقوق والواجبات التي تعمق وعيه الاجتماعي ونظرته الإنسانية، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يوضح ذلك كله بأقواله وسيرته الشخصية، ونظرا لتمثله القرآن بعمق ووعي خاصين، وتأثيره الكبير في جيله خاصة، فإن الرؤية القرآنية تحولت إلى واقع إنساني معاش، تفاعل مع الوحي الإلهي- قرآنا وسنة، وأثمر ارتقاء عظيما في الوعي الإنساني العام عندما انتشر الإسلام عبر الزمان والمكان.
هدفت الدعوة الإسلامية إلى تخفيف معاناة الإنسان في الحياة، والتي يمكن أن تتضاءل بازدياد وعيه في ظل الوحي الإلهي، في حين قد يؤدي ازدياد الوعي إلى زيادة المعاناة عند غياب الإيمان، فقسوة الحياة تشتد عندما تفتقد المعنى، والدين هو الذي يعطيها المعنى، نعني بذلك التحلي بالصبر «14» .
وقصدت الدعوة الإسلامية إلى تحرير الإنسان من الأوهام والأساطير والخرافات والشعوذة التي يقوم بها منتفعون يزعمون أنهم وسطاء بين الله والناس. وأحيانا اتخذ الإنسان وسطاء من الحجر والشجر والبشر يناجونهم ويسألونهم، فأعلنت الدعوة الإسلامية أن ذلك محض شرك وأنه لا واسطة بين الله والإنسان «15» ، وفي الحديث
__________
(1) انظر صفة الإيمان.
(2) انظر صفة التدبر.
(3) انظر صفة التفكر.
(4) انظر صفة الذكر.
(5) انظر صفة الشكر.
(6) انظر صفة إقامة الصلاة.
(7) انظر صفة الصوم.
(8) انظر صفة الحج والعمرة.
(9) انظر صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(10) انظر صفة الصلاح.
(11) انظر صفات: الجود- الكرم- السخاء.
(12) انظر صفة العمل.
(13) انظر صفة الدعوة إلى الله.
(14) انظر صفة الصبر.
(15) انظر صفة الشرك.(1/209)
«اتّق دعوة المظلوم فإنّه ليس بينه وبين الله حجاب» «1» مما يفتح بصيرة المؤمن على عاقبة ظلم الإنسان «2» ، ويرسي أساسا للعدل السياسي والاجتماعي.
وتحمل الدعوة الإسلامية ميزانا دقيقا للحقوق والواجبات حسب الشريعة، فلا يجوز التفريط فيها أو التخلي عنها، فهي منحة إلهية للبشرية، وقد اقتضى تطبيق تلك التعاليم جهادا وبذلا منذ نزول الوحي حتى استقرت دولة الإسلام، فلولا الجهاد «3» لما قضي على الشرك وطابع الحياة الجاهلية، ولما استقرت معاني العقيدة وقيم الإسلام الاجتماعية ومضامينه الخلقية في نفوس الملايين.
وحرصت الدعوة الإسلامية على بناء مجتمع العدل والقوة «4» لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ «5» مما يوضح الأسس اللازمة لبناء مجتمع قوي متحضر يقوم على العدل والقوة، فالكتاب والميزان لإقامة العدل، والحديد لايجاد القوة التي تحمي العدل وتكفل استمراره. والعدل الشامل يمتد إلى المسلم والذمي والكافر، والأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء، والرجال والنساء، حيث تتحدد حقوق الجميع وفق موازين العدل دون احتكار أو استغلال أو استئثار أو ظلم إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ «6» .
وتنطلق الدعوة الإسلامية من مبدأ المساواة «7» بين البشر دون اعتبار للثروة والجاه، ولا اللون أو العرق «النّاس بنو آدم وآدم من تراب» «8» . ويقتضي ذلك تحقيق تكافؤ الفرص أمام الناس والتزام العدل المطلق بينهم، وهدم النظم الطبقية، إذ لا مكان للعنجهية والصلف والكبرياء والاستعلاء على الناس «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم» «9» . وهذا يفسر تجاوب الأمم المختلفة مع الدعوة الإسلامية ودخولها في دين الله أفواجا.
وربما من أجل ذلك كله قال الفيلسوف الألماني هيجل: «يعتبر المبدأ الإسلامي- أو روح التنوير في العالم الشرقي- أول مبدأ يقف في وجه البربرية» «10» .
وتعلن الدعوة الإسلامية الشورى «11» أساسا للنظام السياسي والاجتماعي انطلاقا من الآية الكريمة
__________
(1) البخاري- الصحيح 7/ 168، مسلم- الصحيح 4/ 1740.
(2) انظر في الصفات السلبية: صفة الظلم.
(3) انظر صفة جهاد الأعداء.
(4) انظر صفة القوة والشدة.
(5) القرآن الكريم- سورة الحديد، الآية/ 25.
(6) القرآن الكريم- سورة النحل الآية/ 90.
(7) انظر صفة العدل والمساواة.
(8) الترمذي- الجامع حديث رقم (3956) ، أحمد- المسند 2/ 361. وقال محقق «جامع الأصول» (10/ 617) : وهو حديث حسن.
(9) أبو داود- السنن حديث رقم (4531) ، وانظر صفة تكريم الانسان. وقال محقق «جامع الأصول» (10/ 255) : إسناده حسن.
(10) هيجل- محاضرات في فلسفة التأريخ ص/ 250.
(11) انظر صفة الشورى.(1/210)
وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ «1» والآية وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ «2» وقد بيّن عمر- رضي الله عنه- أن الحكم يخص الأمة وأن من يسلبها هذا الأمر يكون غاصبا. «3» .
وتوازن الدعوة الإسلامية بين المطالب الروحية والدنيوية، وتنظر إلى عمران الأرض وزينة الحياة وطيباتها نظرة متفائلة، فلا تطالب البشر بالتبتل والحرمان والنأي عن استثمار الطاقات المتنوعة لمصالحهم قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ «4» وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ «5» . فالمطلوب أن يكون العمران والاستثمار في نطاق الإحساس دون الظلم والانحراف عن الفطرة وتسخير القوى نحو الشر والدمار والطغيان ...
وهي في دعوتها إلى العمران تربي الأتباع على الإتقان، والإتقان يقابل بمصطلحات العصر (التكنولوجيا) ، والإحسان مرتبة عليا فوق الإسلام والإيمان، وفيها تتفجر الطاقات الإنسانية، وتنفتح على عالم الغيب بتركيز عال:
من العبادة والرقابة واليقين «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» «6» .
وقد أثمرت هذه الدعوة حضارة مادية رائعة في العصور الإسلامية الذهبية شملت الفكر والعلوم والزراعة والصناعة.
وكان من مقاصد الدعوة الإسلامية حفظ النوع الإنساني واستمراره في الوجود، بتشريع الزواج، وتحصين الأسرة «7» ، وتحريم إتلاف النفس البشرية بالقتل أو الانتحار مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً «8» معتبرة تحقيق الأمان الفردي أساسا لتحقيق الأمن الجماعي.
وتفتح الدعوة الإسلامية أبواب التوبة «9» أمام العالمين مهما بلغت معاصيهم دون الحاجة إلى الاعتراف أمام وسيط أو كشف مستور للآخرين قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ «10» وبذلك تم التأكيد على قيم إيجابية تحارب اليأس «11» والقنوط «12» والتردي والعبثية والإحساس بالضنك في الحياة، وتمحو الصور القاتمة المظلمة الموحية بالاكتئاب والقلق «13» مثل
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الشورى/ 38.
(2) القرآن الكريم- سورة آل عمران/ 159.
(3) الفسوي- المعرفة والتأريخ 1/ 351 بإسناد صحيح.
(4) القرآن الكريم- سورة الأعراف، الآية/ 32.
(5) القرآن الكريم- سورة القصص، الآية/ 77.
(6) البخاري- الصحيح 1/ 18.
(7) انظر صفة حفظ الفرج.
(8) القرآن الكريم- سورة المائدة، الآية/ 32.
(9) انظر صفة التوبة.
(10) القرآن الكريم- سورة الزمر، الآية/ 53.
(11) انظر صفة اليأس.
(12) انظر صفة القنوط.
(13) انظر صفة القلق.(1/211)
الطّيرة «1» (التشاؤم) والخوف «2» من المستقبل. سأل صحابي النبي صلّى الله عليه وسلّم: منّا رجال يتطيّرون؟ فأجابه: «ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدّنّهم» «3» .
وتكثر الصور المتفائلة، والمعالم المضيئة، والمعاني الإيجابية الملطفة للحياة والمجمّلة للاجتماع البشري بإشاعة السلام «4» والمحبة بين الناس «5» ، والاهتمام بحسن المنظر والمظهر والنظافة «6» وطيب الرائحة.
وأكدت الدعوة الإسلامية على التكافل والتعاون بين الناس ابتداء بصلة الأرحام «7» وانتهاء بالمجتمع، بالحثّ على السخاء، والكرم، والإيثار، ومراعاة حقوق الجيران «8» حيث ينخلع الناس عن أموالهم التي يحبونها استجابة لحديث النبي صلّى الله عليه وسلّم «الصّدقة برهان» «9» يعني أنها دليل قاطع على تذوق حلاوة الإيمان.
وأعلنت الدعوة الإسلامية حماية الملكية الفردية، وحثّت على عدم دوام تداول الأموال بالاستثمار، ومنعت تبديدها حتى من قبل صاحبها فحجرت عليه إذا كان سفيها لا يدرك عواقب إتلاف الثروة، وحرّمت الربا «10» والاحتكار «11» منعا لانحصار المال بأيد قليلة كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ «12» .
وكانت عقيدة الايمان بالقضاء والقدر تحفز روح المغامرة الجهادية والعلمية والتجارية، وتدفع للبذل والتضحية لبناء الأمة وكيانها الحضاري.
وقد اهتمت الدعوة الإسلامية بالعلم «13» ، فهو فريضة على كل مسلم، ووعدت بالأجر العظيم على طلبه، وقد وردت كلمة العلم في (624) موضعا من القرآن الكريم، وأعلت مكانة العلماء حتى اعتبرتهم ورثة الأنبياء «14» وأرست قيما ثقافية تضمن استمرار التقدم العلمي. فالعلم حق للجميع، وليس حكرا لفئة معينة مما يؤدي للارتفاع بالمستوى الثقافي لجمهور الأمة. والعلم يجب أن يقترن بالعمل والسلوك، وهو دليل توفيق الله للإنسان «من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدّين» «15» ، وفقه الدين يقتضي فهم الحياة، والنظر إلى أحداثها وقضاياها وفق مفاهيم الإسلام الذي انتظم جوانب الحياة المتنوعة، فلا عجب إذا ما تفتحت بصيرة المسلم على جوانب الاجتماع والاقتصاد والحس والذوق وقيم الجمال بصورة أرحب وأعمق وأشمل كلما ازداد بصيرة في دينه.
__________
(1) انظر صفة التطير.
(2) انظر صفة الخوف.
(3) مسلم- الصحيح 1/ 382 حديث رقم (537) ، أبو داود- السنن 1/ 244- 245.
(4) انظر صفة إفشاء السلام، والسلم.
(5) انظر صفة المحبة.
(6) انظر صفة حسن السمت.
(7) انظر صفة صلة الرحم.
(8) انظر صفة حق الجوار.
(9) مسلم- الصحيح 1/ 203.
(10) انظر صفة الربا.
(11) انظر صفة الاحتكار.
(12) القرآن الكريم- سورة الحشر، الآية/ 7.
(13) انظر صفة العلم.
(14) انظر صفة الفقه.
(15) جزء من حديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عدد من الصحابة. انظر «جامع الأصول» (9/ 205) و (10/ 164) .(1/212)
والعلم تترتب عليه مسئولية دينية، فالعالم يسأل عن موقفه العلمي يوم القيامة «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يسأل عن أربع خصال: ... وعن علمه ماذا عمل فيه» «1» والعالم مسئول عن نشر العلم وعدم كتمانه «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» «2» .
والعلم بحر لا ساحل له، ولا يمكن للفرد الإحاطة به، لذلك لا بد من الاستمرار في طلبه دون انقطاع، وقد أثمرت هذه القيم الثقافية حركة فكرية زاهرة حيث صار «التعلم المستمر» و «تراكم المعرفة» و «تجميع العلم» ودراسته بصورة منظمة من أبرز خصائص الحركة الفكرية في عصور الإسلام الذهبية.
وكانت الدعوة الإسلامية ترتكز على مفهوم أن العقل وحرية الفكر مناط التكليف، وطالبت أتباعها بالبحث الحر عن الدليل أو البرهان، وأنكرت تقليد الآخرين، فلم يظهر في الإسلام كهنوت يدّعي احتكار فهم الإسلام وحق تفسير نصوصه كما حدث في تاريخ الأديان الأخرى، بل بوسع كل مسلم أن يرجع إلى القرآن والسنة وأن يتضلع في علومهما ويأخذ بعد ذلك عنهما، ويناقش الآخرين في صحة الدليل وطريقة الاستدلال.
وأخيرا.. فإن التأمل في المنطلقات الفكرية للدعوة الإسلامية يكشف عن مباديء أساسية تتمثل في تحقيق العبودية لله، والكرامة والحرية والعلم والعدل والمساواة والشورى «3» للإنسان الذي يتجه إليه الخطاب الإسلامي في مطلق الزمان والمكان.
مرحلة الدعوة السرية:
بدأت الدعوة الإسلامية بمكة المكرمة بشكل سري وتتراوح مدة هذه المرحلة بين ثلاث وأربع سنوات «4» . وكانت مكة تخضع لقريش بعشائرها الأربع عشرة التي كان لكل منها كيانها الخاص مع تحالفها ضمن الإطار العام لقبيلة قريش. وكان من المتوقع أن ينتشر الإسلام في عشيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم في قريش التي ينتمي إليها أخيرا، غير أن انتشار الإسلام لم يرتبط بالعشائرية ولا بالعصبية القبلية. ورغم أن بني هاشم قد تعاطفوا مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم فإن ذلك لم يدفعهم إلى الدخول في الإسلام أكثر من غيرهم. وانتشر الإسلام في هذه المرحلة في سائر عشائر قريش بشكل متوازن وهو أمر يخالف طبيعة الحياة البدوية والنظرة القبلية. ولعل ذلك قد أعان على انتشار الإسلام بين مختلف العشائر دون تحفظات عصبية، ولو دققنا في انتماءات كل من أبي بكر الصديق التيمي، وعثمان بن عفان الأموي، والزبير بن العوام الأسدي، وعلي بن أبي طالب الهاشمي، ومصعب بن عمير الداري،
__________
(1) أبو داود- السنن 3/ 323، وابن ماجه- السنن 1/ 93. وقال محقق «جامع الأصول» (10/ 436) : وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وهو كما قال.
(2) أبو داود- السنن 3/ 321، والترمذي- الجامع 5/ 29. وقال محقق «جامع الأصول» (/ 12) : وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وهو كما قال، وله شاهد عند الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو، وصححه ووافقه الذهبي.
(3) انظر الصفات الخاصة بهذه الأمور في مواضعها من الموسوعة.
(4) المرويات التي أوردها ابن إسحاق والواقدي حددت الفترة بثلاث سنين: ابن سعد- الطبقات 1/ 199، ابن هشام- السيرة النبوية 1/ 262، وحددها البلاذري في أنساب الأشراف (1/ 116) بأربع سنين.(1/213)
وعمر بن الخطاب العدوي، وعبد الرحمن بن عوف الزهري، وعثمان بن مظعون الجمحي، لتبين لنا ذلك. وإضافة إلى هؤلاء فقد خرج اعتناق الإسلام عن إطار رجالات قريش، فعبد الله بن مسعود من هذيل، وعتبة بن غزوان من مازن، وعمار بن ياسر من مذحج، وزيد بن حارثة من كلب، والطفيل بن عمرو من دوس، وعبد الله بن قيس من الأشعريين، وهكذا فلم يقتصر اعتناق الإسلام على أفراد ينتمون إلى قريش أو يقيمون في مكة.
أول من أسلم:
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ «1» : لقد كانت خديجة- رضي الله عنها- أول من آمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم من البشر كما هو واضح من حديث بدء الوحي عند ما بشرته وصدقته فيما أخبرها به وخديجة «مثل طيب للمرأة التي تكمل حياة الرجل العظيم. إن أصحاب الرسالات يحملون قلوبا شديدة الحساسية، ويلقون غبنا بالغا من الواقع الذي يريدون تغييره، ويقاسون جهادا كبيرا في سبيل الخير الذي يريدون فرضه. وهم أحوج ما يكونون إلى من يتعهد حياتهم الخاصة بالإيناس والترفيه، بله الإدراك والمعونة! وكانت خديجة سبّاقة إلى هذه الخصال، وكان لها في حياة محمد صلّى الله عليه وسلّم أثر كريم» «2» ، ولذلك نالت خديجة مكانة عليّة عند ربها (عز وجل) فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: «أتى جبريل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السّلام من ربّها ومنّي وبشّرها ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب» «3» .
ولما كان علي بن أبي طالب يعيش حينذاك في كنف الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقد تأثر بالنبي، فكان أول من أسلم من الصغار أو من الشباب. وكان في العاشرة من عمره «4» . كما كان من أوائل من أسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «5» . أما أول من أسلم من الرجال من خارج بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم باتفاق الجمهور فهو أبو بكر الصديق «6» «وكان أبو بكر رجلا مؤلفا لقومه، محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه ... لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه، ممن يغشاه ويجلس إليه.. فأسلم على يديه.. عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فجاء بهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين استجابوا له فأسلموا» «7» .
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الواقعة 10- 11.
(2) محمد الغزالي- فقه السيرة ص/ 75.
(3) البخاري- فتح الباري 7/ 166 (حديث رقم 3820) ، مسلم- الصحيح (شرح النووي) 15/ 199.
(4) الترمذي- الجامع 5/ 642، أحمد- المسند ص/ 330- 332، ابن هشام- السيرة 1/ 153.
(5) ابن هشام- السيرة 1/ 154.
(6) البخاري- الصحيح (فتح الباري 4/ 475، 6/ 18، 7/ 207- 208، ابن كثير- السيرة 1/ 434.
(7) ابن هشام- السيرة 1/ 155.(1/214)
ويذكر أن عبد الله بن مسعود أسلم قبل دخول النبي صلّى الله عليه وسلّم دار الأرقم، وأنه أسلم وهو غلام، وأنه أخذ من فم النبي صلّى الله عليه وسلّم سبعين سورة من القرآن الكريم «1» . ولا شك في تقدم إسلام خباب بن الأرت «2» . وكذلك تقدم إسلام بلال الحبشي وكان رقيقا اشتراه أبو بكر وأعتقه «3» . وثبت أن عمّار بن ياسر أسلم مبكرا «4» .
إسلام الجن:
ويستدل من القرآن الكريم والسنة الصحيحة أن نفرا من الجن رأوا النبي صلّى الله عليه وسلّم في نخلة عامدا إلى عكاظ فاستمعوا إليه وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فآمنوا ورجعوا إلى قومهم، ولم يرهم الرسول في هذه المرة وإنما أوحي إليه خبرهم وأنزل الله تعالى عليه سورة الجن «5» . مما يدل على أن بعثته صلّى الله عليه وسلّم كانت لعالمي الجن والإنس.
بدء الجهر بالدعوة:
دامت دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم السرّية زهاء ثلاث سنوات أو أربع سنوات «6» . ولما «نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «7» صعد النبي صلّى الله عليه وسلّم على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عديّ» - لبطون قريش- حتّى اجتمعوا، فجعل الرّجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: «أرأيتم لو أخبرتكم أنّ خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقي؟» قالوا: نعم، ما جرّبنا عليك إلّا صدقا. قال:
«فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد» ، فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ* ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ «8» » «9» .
«ومن الطبيعي أن يبدأ الرسول صلّى الله عليه وسلّم دعوته العلنية بإنذار عشيرته الأقربين إذ أن مكة بلد توغلت فيه الروح القبلية، فبدء الدعوة بالعشيرة قد يعين على نصرته وتأييده وحمايته. كما أن القيام بالدعوة في مكة لا بد أن يكون له أثر خاص لما لهذا البلد من مركز ديني خطير فجلبها إلى حظيرة الإسلام لا بد أن يكون له وقع كبير على بقية القبائل.. على أن هذا لا يعني أن رسالة الإسلام كانت في أدوارها الأولى محدودة بقريش، لأن الإسلام، كما يتجلى
__________
(1) أحمد- المسند 1/ 379، ابن سعد- الطبقات 3/ 150- 151، ابن أبي شيبة- المصنف 11/ 510.
(2) ابن أبي شيبة 12/ 149 بإسناد صحيح.
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 99) ، أحمد- فضائل الصحابة 1/ 182، 231 بأسانيد صحيحة، ابن سعد- الطبقات 3/ 233، الحاكم- المستدرك 3/ 284.
(4) البخاري- الصحيح (فتح 7/ 18، 170) ، أحمد- مسند 1/ 112، 404، ابن سعد- الطبقات 4/ 215، وانظر صحيح مسلم 1/ 596.
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري 2/ 253، 7/ 171، 8/ 669- 670) ، مسلم- الصحيح (شرح النووى) 4/ 167- 168، 171 وأنظر سورة الجن، واسباب النزول.
(6) ابن هشام- السيرة 1/ 159.
(7) القرآن الكريم- سورة الشعراء، الآية/ 214.
(8) القرآن الكريم- سورة المسد، الآيات/ 1- 2.
(9) البخاري- فتح الباري 8/ 360، 609 (الاحاديث رقم 4770، 4971) .(1/215)
من القرآن، اتخذ الدعوة في قريش خطوة أولى لتحقيق رسالته العالمية. والواقع أن كثيرا من الآيات المكيّة كانت تنص على أن القرآن إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ* «1» » «2» .
وقد أسلم أبوذر الغفاري في هذه المرحلة «3» ، فقد قدم مكة وكان قد بلغته أخبار ظهور النبي صلّى الله عليه وسلّم فقصد لقاءه، وقد استضافه علي بن أبي طالب، وهيأ له مقابلة الرسول صلّى الله عليه وسلّم واستمع إلى قوله فأسلم، وأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم بالرجوع إلى قومه فيدعوهم حتى يأتيه أمره، غير أنه ذهب إلى المسجد الحرام ونادى بأعلى صوته بالشهادتين مما أثار زعماء قريش وضربوه حتى أضجعوه، وتمكن العباس بحكمته من إنقاذه منهم. وقد عاد أبو ذر إلى غفار فأسلم نصفهم وأسلم النصف الثاني بعد الهجرة «4» .
وفي هذه المرحلة أسلم ضماد، من أزد شنوءة، الذي حدثه الرسول صلّى الله عليه وسلّم ودعاه إلى الإسلام فأسلم «5» .
وأسلم في هذه المرحلة أيضا الطفيل بن عمرو الدوسي «6» . وعثمان بن مظعون «7» ، كما أسلم حمزة بن عبد المطلب، وفي هذه الفترة اشتدت جرأة قريش على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «8» .
__________
(1) القرآن الكريم- سورة التكوير، الآية/ 27.
(2) عماد الدين خليل- دراسة في السيرة ص/ 66.
(3) البخاري- فتح الباري 7/ 174.
(4) البخاري- صحيح (فتح الباري 7/ 173) ، مسلم- صحيح 4/ 193- 5.
(5) مسلم- الصحيح 2/ 593.
(6) ابن كثير- السيرة النبوية 2/ 76.
(7) أحمد- المسند 1/ 318، ابن سعد- الطبقات 1/ 174- 175.
(8) الطبراني- المعجم الكبير 3/ 152- 153.(1/216)
كتابة التنزيل:
كانت الأمة أميّة عند نزول الوحي لم تنتشر بين أفرادها القراءة والكتابة، غير أن هذا لا يعني الانعدام التام للكتابة في جميع الأنحاء، فقد كانت مكة المكرمة منطقة تجارية ولها علاقاتها المستمرة مع اليمن والشام والعراق، ولا شك في أن علاقات التجار وصفقاتهم تقتضي كتابة الاتفاقات والعقود والحسابات وأن تجري المراسلات بينهم وبين نظرائهم الموردين والمستوردين، وعقود القروض والرهون وغير ذلك من المعاملات التجارية. ولقد كان من الثابت انتشار الخط الحميري في اليمن فقد كانت حمير تكتب الخط المسند وهي كتابة تختلف عن الكتابة العربية المعهودة، وقد نقل ابن النديم نموذجا لذلك الخط في خزانة الخليفة المأمون عبد الله بن هارون مما أمر به الخليفة «1» وكذلك الحال في العراق وبلاد الشام حيث انتشرت الكتابة النبطيّة، ثم وضعت الأبجدية العربية لأول مرة في الأنبار والحيرة.
إن المشكلة التي تواجه الباحث في موضوع كتابة آيات التنزيل تحتم عليه الفصل بين أصل الخط العربي ونشأته، وبين ما كان يدونه كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وخاصة كتاب الوحي من خطوط. وذلك أن مسألة نشأة الخط العربي وأصوله مسألة خاصة لدينا حولها العديد من النظريات والنصوص، ولا يخرج الحديث عنها عن إطار الفرضيات رغم وفرة النصوص، حيث لا يستطيع أحد الجزم بدقتها خاصة في إطار التناقض في وجهات النظر المتعددة في هذا المجال.
أما كتّاب الوحي فلا شك في أنهم باشروا بتدوين آيات الكتاب الحكيم بالخط العربي الذي كان سائدا في مكة المكرمة خلال فترة نزول الوحي، ثم في المدينة بعد الهجرة. وذلك ما يفسر قول ابن النديم «فأول الخطوط العربية، الخط المكي وبعده المدني «2» » ولذلك فإنه عاد فأشار إلى النمطين المذكورين في النص نفسه فقال: «فأما المكي والمدني ففي ألفاته تعويج إلى يمنة اليد وأعلى الأصابع وفي شكله انضجاج (يسير) «3» » «4» وذلك صريح في أن المقصود بالأولية هو بداية الكتابة في رسم المصاحف أو في فترة الدعوة الإسلامية. ومما يدعم هذا الرأى أن ابن النديم قد نص بعد ذلك على رسم صورة البسملة فاتحة لعنوان «خطوط المصاحف» ثم أورد بعد ذلك العنوان مباشرة ذكرا لعدد كبير من الخطوط «5» بدأها «بالمكى والمدني» «6» مما يوحي بمتابعته لتطور خطوط المصاحف في المدينة، ولعل أولهما ما كتبت به صحف التنزيل الكريم، وثانيهما ما كتب به المصحف عند جمعه في عهد الراشدين «7» . وقد روى البلاذري عن أبي بكر بن عبد الله العدوي قال: «دخل الإسلام (مكة)
__________
(1) ابن النديم- الفهرست ص/ 8.
(2) المرجع السابق ص/ 9.
(3) في الأصل «يصير» ولا معنى لها في الجملة التي انتهت وهى تصحيف.
(4) الفهرست ص/ 9.
(5) تجاوزت العشرين.
(6) الفهرست ص/ 9.
(7) انظر الجمع الأول والجمع الثاني في عهدي الصديق وعثمان بن عفان، في الفصل الثالث من هذا البحث.(1/217)
وفي قريش سبعة عشر رجلا كلهم يكتب ... » «1» .
لغة القرآن:
لقد أكد القرآن الكريم في عدد كبير من المواضع أنه قد أنزل بلسان عربي مبين «2» ؛ قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «3» ، وقال سبحانه: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا «4» ، ووصفه بأنه: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ «5» ، وأنه قد فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا «6» ، وكذلك إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «7» . وبهذا فقد أنزل حُكْماً عَرَبِيًّا «8» ، وأكد الباري سبحانه لرسوله صلّى الله عليه وسلّم وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا «9» ، وهذا التأكيد النصي القاطع يحسم المسألة بشكل ثابت ومستقر بأن القرآن الكريم قد نزل بلغة العرب على عمومها، وذلك ما يسر قراءته على الأحرف السبعة التي نصت عليها كتب القراءات وما هو واضح في أبحاث العلماء المختصين في ذلك. على أن ذلك لا يمكن أن يتعارض مع القول بأنه قد نزل بلغة قريش فقد أخرج أبو داود من طريق كعب الأنصاري أن عمر كتب إلى ابن مسعود «أن القرآن نزل بلسان قريش، فأقريء الناس بلغة قريش لا بلغة هذيل» ، وأما عطف العرب عليه فمن عطف العام على الخاص، لأن قريشا من العرب «10» . وقد أخرج ابن أبي داود في «المصاحف» من طريق آخر عن عمر قال: «إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلسان مضر» . ومضر هو ابن نزار بن معد بن عدنان وإليه تنتهى أنساب قريش وقيس وهذيل وغيرهم «11» . ثم أبيح أن يقرأ بلغة غيرهم ذلك «أنه نزل أولا بلسان قريش أحد الأحرف السبعة، ثم نزل بالأحرف السبعة المأذون في قراءتها تسهيلا وتيسيرا «12» . وأورد الإمام البخاري في باب نزول القرآن على سبعة أحرف حديثا برواية الزهري عن ابن عباس- رضي الله عتهما- «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتّى انتهى إلى سبعة أحرف» «13» .
ونقل الزهري رواية عن طريق عروة بن الزبير وسمعها عن طريق المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد القارّيّ حدثاه أنهما سمعا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يذكر أنه صلّى خلف هشام بن حكيم فقرأ سورة الفرقان في
__________
(1) البلاذري- فتوح 3/ 580 (رقم 1104) .
(2) القرآن الكريم- سورة الشعراء، الآية/ 195، سورة النحل، الآية/ 103.
(3) القرآن الكريم- سورة يوسف، الآية/ 2.
(4) القرآن الكريم- سورة طه، الآية/ 113.
(5) القرآن الكريم- سورة الزمر، الآية/ 28.
(6) القرآن الكريم- سورة فصلت، الآية/ 3.
(7) القرآن الكريم- سورة الزخرف، الآية/ 3.
(8) القرآن الكريم- سورة الرعد، الآية/ 37.
(9) القرآن الكريم- سورة الشورى، الآية/ 7.
(10) البخاري- (فتح الباري 8/ 625) كتاب فضائل القرآن.
(11) المرجع السابق 8/ 625- 6.
(12) المرجع السابق 8/ 626.
(13) المرجع السابق 8/ 639 (حديث رقم 4991) .(1/218)
حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» وقد أنكر عمر عليه ذلك وعرضا الأمر على الرسول صلّى الله عليه وسلّم فلما سمع قراءة هشام قال: «كذلك أنزلت» ، كما أقر عمر على قراءته وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فأقرأوا ما تيسر منه» «1» . وكان القرآن يحفظ في صدور الرجال، ويكتب على العسب واللخاف «2» .
كتّاب الوحي:
أما كتّاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد اشتهر زيد بن ثابت بينهم رغم أنه أسلم بعد الهجرة واقتصر في الكتابة لذلك على ما نزل في المدينة ولم يكتب من السور المكية شيئا عند الوحي، وحتى في المدينة فربما غاب زيد فيكتب الوحي غيره.
وأول من كتب آيات التنزيل في مكة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش عبد الله بن سعد بن أبي سرح «3» وممن كتب له في الجملة الخلفاء الأربعة، والزبير بن العوام، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص بن أمية، وحنظلة بن الربيع الأسدي، ومعيقب بن أبي فاطمة وعبد الله بن الأرقم الزهري، وشرحبيل بن حسنة وعبد الله بن رواحة في آخرين.
وكان أبي بن كعب هو أول من كتب له بالمدينة «4» .
وروى الإمام أحمد، وأصحاب السنن الثلاثة وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عباس عن عثمان بن عفان قال: «كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: «ضعوا هذه في السّورة الّتي يذكر فيها كذا» الحديث «5» .
وفي رواية الواقدي عن أشياخه: «إن أول من كتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقدمه المدينة أبيّ بن كعب الأنصاري، وهو آخر من كتب في آخر الكتاب وكتب فلان، فكان أبيّ إذا لم يحضر دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن ثابت الأنصاري فكتب له، فكان أبيّ وزيد يكتبان الوحي بين يديه، وكتبه إلى من يكاتب من الناس وما يقطع وغير ذلك» «6» .
قال الواقدي: وأول من كتب له من قريش عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ثم ارتد ورجع إلى مكة وقال لقريش: أنا آتي بمثل ما يأتي به محمد، وكان يملّ عليه «الظالمين» فيكتب «الكافرين» يمل عليه «سميع عليم» فيكتب «غفور رحيم» وأشباه ذلك. فأنزل الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ «7» .
__________
(1) البخاري- (فتح الباري 8/ 639- 640- حديث رقم 4992) .
(2) البخاري- فتح الباري (باب جمع القرآن) 8/ 627 وورد في رواية ابن عيينة عن الزهري «القصب والعسب والكرانيف وجرائد النخل» ووقع في رواية شعيب «من الرقاع» جمع رقعة وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد، وفي رواية ابن غزيّة «وقطع الأديم» ، وفي رواية ابن أبي داود «والصحف» ، فتح الباري 8/ 631.
(3) ارتد ثم عاد إلى الإسلام يوم الفتح، فتح الباري 8/ 639، وقول ابن حجر: في الجملة: يعني في مكة والمدينة.
(4) البخاري- (فتح الباري 8/ 639) باب: كاتب النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(5) المرجع السابق 8/ 639.
(6) البلاذري- فتوح البلدان 3/ 582 (حديث 1112) .
(7) القرآن الكريم- سورة الأنعام، الآية/ 93، وانظر عن الرواية: المصدر السابق 3/ 582 (حديث 1112) .(1/219)
فلما كان يوم الفتح أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقتله فكلمه فيه عثمان بن عفان وقال: «أخي من الرضاعة وقد أسلم» فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتركه «1» .
وتذكر المصادر الموثقة أن معاوية بن أبي سفيان أسلم عام الفتح «2» ، وأنه كتب للرسول صلّى الله عليه وسلّم أيضا «3» .
وقال الواقدي وغيره: وكتب حنظلة بن الربيع بن رباح الأسيدي، من بني تميم، بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرة فسمي حنظلة الكاتب «4» .
ويبدو أن الكتابة كانت قليلة في المدينة كما هو الحال في مكة، فيذكر الواقدي أنه «كان الكتّاب بالعربية في الأوس والخزرج قليلا، وكان بعض اليهود قد علم كتاب (كتابة) العربية، وكان يعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول، وجاء الإسلام وفي الأوس والخزرج عدة يكتبون وهم: سعد بن عبادة بن دليم، والمنذر بن عمرو، وأبّي بن كعب، وزيد بن ثابت- وكان يكتب بالعربية والعبرانية- ورافع بن مالك، وأسيد بن حضير، ومعن بن عديّ البلوي حليف الأنصار، وبشير بن سعد، وسعد بن الربيع، وأوس بن خولي، وعبد الله بن أبيّ «المنافق» «5» . وعدد البلاذري من أسماهم «الكملة، وهم الذين جمعوا العوم والرمي إلى الكتابة، فذكر خمسة من كتاب المدينة، في الإسلام مميزا لهم عن اثنين «ممن جمع هذه الأشياء في الجاهلية من أهل يثرب» وهما سويد بن الصامت وحضير الكاتب «6» كما ذكر كاتبا نصرانيّا من أهل الحيرة كان في المدينة، وهو جفينة العبادي، والذي استمر يسكن المدينة حتى نهاية عهد عمر ابن الخطاب «7» .
وأورد البلاذري رواية عن أبي الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت ذكر فيها أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان قد أمره أن يتعلم كتابة العبرانية، فتعلمها، فكان يكتب له إلى يهود، ويقرأ له ما يكتبون إليه به «8» .
الدعوة في مكة:
نزلت معظم سور القرآن الكريم على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مكة. وكانت القضية الكبرى والمحورية التي ركّز عليها القرآن في معظم سوره وآياته المكية هي قضية أن «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له» وهو التوحيد المطلق والخالص لله سبحانه وتعالى وإفراده وحده بالعبادة وعدم صرف شيء منها لغير الله. فالوحدانية المطلقة هي القضية الأساسية التي قامت عليها دعوة الأنبياء عليهم السلام من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم.
لقد كانت مهمة الأنبياء جميعا توضيح وبيان توحيد الله «9» سبحانه وتعالى وإفراده وحده بالربوبية والألوهية وأن يوصف بما وصف به نفسه أو وصفه به أنبياؤه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل. وبعد أن يتضح
__________
(1) البلاذري- فتوح البلدان 3/ 582.
(2) الاستيعاب 3/ 395، أسد الغابة 4/ 385، البداية والنهاية 8/ 19- 146.
(3) البلاذري- فتوح البلدان 3/ 582.
(4) المرجع السابق 3/ 582.
(5) المرجع السابق 3/ 583 (حديث 1113) .
(6) المرجع السابق 3/ 583.
(7) المرجع السابق 3/ 583، ويذكر الواقدي بأنه كان ظئرا لسعد بن أبي وقاص وأن عبيد الله بن عمر اتهمه بمشايعة أبي لؤلوة المجوسي على قتل أبيه.
(8) المرجع السابق 3/ 583 (حديث 1115) .
(9) انظر صفة التوحيد.(1/220)
توحيد الله في العقول، ويسكن في القلوب، وتطمئن به النفوس، عند ذلك يبدأ العمل بتنفيذ أوامر الله سبحانه وتعالى واجتناب نواهيه وتأدية ما فرضه الله على العباد وفق ما جاء به وحيه، أو أمر به رسوله صلّى الله عليه وسلّم ثم يبدأ التنافس بين العباد في الأعمال الصالحة. ولذلك نجد جوهر دعوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم واضحة جلية في كثير من الآيات والسور التي نزلت بمكة، ومنها على سبيل المثال قول الله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «1» .
ويجمل شيخ الإسلام ابن تيمية دعوة النبي الكريم محمد صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «وعامة السور المكية كالأنعام والأعراف ... هي الأصول الكلية التي اتفقت عليها شرائع المرسلين كالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والصدق والعدل والإخلاص، وتحريم الظلم والفواحش والشرك بالله والقول على الله بلا علم» «2» .
شرع النبي الكريم محمد صلّى الله عليه وسلّم يبين حقيقة أن «لا إله إلّا الله» التي تعني الوحدانية المطلقة لله سبحانه وتعالى وعدم صرف أي شيء من أنواع العبادة لغير الله، «فالإنسان ليس عبدا لكائن في الأرض أو عنصر في السماء، لأن كل شيء في السماء والأرض عبد لله، يعنو لجلاله ويذل في ساحته ويخضع لحكمه، وليس هناك شركاء ولا شفعاء ولا وسطاء، ومن حق كل امرىء أن يهرع إلى ربه رأسا غير مستصحب معه خلقا آخر، كبيرا أو حقيرا. واجب على كل امرىء أن ينكر من أقاموا أنفسهم أو أقامهم غيرهم للتقرب إلى الله زلفى، وأن ينزل بهم إلى مكانهم المحدود سواء كانوا بشرا أو حجارة أو ما سوى ذلك، ويجب أن تبنى جميع الصلات الفردية والجماعية على أساس تفرد الله في ملكوته بهذه الوحدانية التامة. ونتيجة هذه العقيدة أن الحجارة التي يعبدها العرب أصبحت لا تزيد عن الحجارة التي تبنى بها البيوت أو ترصف بها الطرق» «3» .
أبعاد تأثير الدعوة على مجتمع مكة:
جاء الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم بدعوة، قلبت حياة البشر رأسا على عقب، ولم تكن تلك الدعوة تتناول عقيدتهم وحدها، بل شملت حياتهم في جميع مظاهرها: في السياسة، وفي الاجتماع، وفي المال، وفي البيت. ولم يكن طبعيا ولا مألوفا أن ينكروا ما وجدوا عليه آباءهم وبلادهم طواعية، فكان لا بدّ لهم من التصدي لهذه الدعوة، ومقاومة صاحبها، ليرجع إلى الصف الذي خرج عنه، فيعظّم حرماتهم التي يعظّمون.
ولهذا فقد قاومت قريش الدعوة التي نقضت عقيدتها الفاسدة والمنحرفة، والرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يدعو
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الأنعام، الآيات/ 151- 153.
(2) ابن تيمية- الجواب الصحيح 3/ 360.
(3) محمد الغزالي- فقه السيرة ص/ 92- 93.(1/221)
إلى التوحيد، وينذر بالبعث «1» ، فلا هي راضية بإله غير آلهتها، ولا هي واجدة في البعث والحساب الذي ينذرها به ما تعقله أو ترضاه.
ولو أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قصر دعوته على التوحيد، وتسفيه أحلام القوم، لكفى بذلك إعناتا، ولكنه زيادة على ذلك دعا إلى الإيمان بالبعث، فاستغربوا ذلك، واستبعدوه كل الاستبعاد، وقالوا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ* «2» .
لقد سخروا من هذه الفكرة، واستدلّوا بها على ضعف رأي صاحب الدعوة. مشى إليه يوما أبيّ بن خلف بعظم بال، فقال: يا محمّد، أنت تزعم أنّ الله يبعث هذا! ثمّ فتّه بيده، ثمّ نفخه في الرّيح نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فردّ القرآن على ذلك بقوله:
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ «3» .
صدمت الدعوة إلى التوحيد والبعث دين قريش وعقلها فسخرت لذلك قريش من الداعي، ثم هبت إلى الإيذاء والعدوان.
لم يكتف محمد صلّى الله عليه وسلّم بدعوته هذه التي كانت غريبة في رأي القوم، بل زاد عليها أن دعا إلى تحريم الخمر، والزنا، والميسر، والربا. وقريش لا تستغني عن هذه الأربعة، ففيها متعهم، وفيها تفاخرهم، وفيها غناهم وثروتهم.
فربا قريش كان في القبائل كلها، والرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم يريد أن يحرم عليها ما تعدّه من طيبات الحياة، ومصادر الثروة، فأنّى لها أن تستطيع على ذلك صبرا؟.
لم يكتف الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالتوحيد، والبعث، وتحريم بعض ما طاب لنفوس القوم، بل دعا كذلك إلى أمر غريب عليهم، مستنكر لديهم، ذلك هو حق المساواة، وهم الذين قضوا أعمارهم في التفاخر بالأحساب والأنساب. فما بال محمد صلّى الله عليه وسلّم يخرج عليهم بالمساواة بين السادة والعبيد، ويجعل الناس سواسية كأسنان المشط؟
إنها للكبيرة التي لن ترضى قريش أن تقرّه عليها، قريش التي أنفت أن تسوّى بالناس، فحرّفت لذلك دينها، وأنفت أن تقف على عرفة، وأن تفيض منها كما يقف الناس ويفيضون، وهي تعلم أن ذلك من مشاعر إبراهيم وفرائض الحج. قريش التي ألزمت العرب ألا يطوفوا بالبيت في أثواب جاءوا بها من البدو، فطافوا عراة ... قريش التي كانت تختص بأنواع الامتياز التي جعلتها لنفسها كما تشاء، كيف ترضى للرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو للمساواة المطلقة، وأن يقول لعشيرته: «يا بني هاشم لا يجئني النّاس بأعمالهم وتجيئوني بأنسابكم ... » .
بل من الغريب أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وهو في بيت الرياسة من قريش، وفي طليعة الممتازين، رفض في الجاهلية ضروب هذا الامتياز، وسوّى نفسه ببقية الأمة قبل أن يكون رسولا يوحى إليه.
إن دخول المستضعفين في دين الإسلام أزعج زعماء قريش وخافوا مغبته فأرسلوا لمحمد صلّى الله عليه وسلّم يقولون:
«اطرد هؤلاء عنك ونحن لا نرى بأسا من اعتناق دينك» فرفض الرسول صلّى الله عليه وسلّم هذا العرض، فبعثوا إليه مرة أخرى
__________
(1) انظر صفة الإنذار.
(2) القرآن الكريم- سورة الصافات، الآية/ 16.
(3) القرآن الكريم- سورة يس، الآيات/ 78- 79.(1/222)
يقولون له: «إن لم يكن من بقائهم بدّ فليكونوا في مؤخرة الصفوف ونتولى نحن الصدارة» ففكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم في هذا العرض الجديد، إن الصدارة إنما يظفر بها أهل الكفاية وأصحاب السبق في الإيمان والعمل، أيمكن أن تكل المؤمنين إلى إيمانهم، وتتألف هؤلاء الأقوياء بإحلالهم في مكان الصدارة حتى إذا تشرّبت أفئدتهم الإيمان كاملا تركوا هذه العنجهية من تلقاء أنفسهم.
وبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذه المقابلة نزل الوحي بحسم القضية كلها وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ* وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ «1» .
وهكذا ألقت السماء كلمتها إن المبادىء لا يضحّى بها ولو من ناحية الشكل ومن دخل في دين الله فيلخلع عن نفسه أردية الجاهلية كلها، ولا يشعر بأنه أرجح من غيره لامتيازات مبهمة مدّعاة «2» .
لم تستطع قريش صبرا على الدعوة إلى المساواة، فبطشت بالعبيد، وقست على المستضعفين الذين وجدوا في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم إنصافا.
ولم يكتف النبي بأن عاب أوثانها، وأنذرها ببعث وحساب شديد، وقوّض جاهها وسلطانها، وحرمها شهواتها والاتجار بالربا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا «3» وسوى بينها وبين العبيد المستضعفين، بل قام يطلب لهؤلاء العبيد والفقراء وأبناء السبيل حقّا في أموال الأغنياء: وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ* لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ «4» يؤخذ منهم قسرا، ويضرب عليهم ضريبة، وما كان أبغض إلى نفوس القوم من ضريبة يؤدونها مفروضة! فلما انتقل الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى كانت تلك الضريبة أول ما عصوا عليه، وارتدوا من أجله.
ذلك مجمل من القول يصوّر حالة المجتمع الذي قام فيه محمد صلّى الله عليه وسلّم داعيا إلى الله، وإلى نظام سياسي واقتصادي واجتماعي بغيض إلى القوم. وقد صوّر ذلك القرآن في أبدع إيجاز بهذه الآية: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا «5» .
ويجيب القرآن على قولهم هذا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ* وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ* وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ «6» .
كما أن النبي محمدا صلّى الله عليه وسلّم ذكّر قومه قريشا بفضل الله عليهم وطالبهم بشجاعة وإصرار بترك آلهتهم
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الأنعام، الآيات/ 52- 53.
(2) محمد الغزالي- فقه السيرة ص/ 90- 93.
(3) القرآن الكريم- سورة البقرة، الآية/ 275.
(4) القرآن الكريم- سورة المعارج، الآيات/ 24- 25، وانظر صفة «الزكاة» .
(5) القرآن الكريم- سورة القصص، الآية/ 57.
(6) القرآن الكريم- سورة القصص، الآيات/ 57- 59.(1/223)
وأصنامهم وأن يعبدوا الله وحده ربّ حرمهم الآمن بلفظ واضح جامع: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ* إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ «1» .
ولقد نقل النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى قومه ما جاء به القرآن الكريم في وصف القيامة ومشاهدها ووصف الجنة وما فيها من نعيم للمؤمنين والنار وما فيها من عذاب مهين للكافرين، فنجد سورا كاملة تتحدث عن ذلك «2» . ويعلق شيخ الإسلام ابن تيمية على ذلك بقوله: «وأما وصف القيامة الكبرى في الكتاب والسنة، فكثير جدّا، لأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم خاتم الأنبياء وقد بعث بين يدي الساعة فلذلك وصف القيامة بما لم يصفها به غيره» «3» .
وقد واصل النبي صلّى الله عليه وسلّم عرض دعوته على قومه، وأخذت الآيات البينات تتنزل عليه من ربه تبين لهم أن تلك الأصنام التي يعبدونها من دون الله لا تضر ولا تنفع، وتنذرهم بأن من يعبدها ويموت على ذلك فمصيره إلى النار وبئس القرار.
ولم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم يخاطبهم بلسانهم فحسب، بل كان يخاطبهم بتلاوة كلام الله عليهم، ذلك الكلام العربي المبين الذي يهزهم بفصاحته وبلاغته، وكانت كثير من سور القرآن تبتديء بحروف لها وقع غريب تلفت انتباههم وتشدهم ثم يتلوها كلمات لها معان لم يسمعوا بها قط. يتلوها عليهم، كما نزلت عليه من عند ربّه ليخبرهم برسالته ويعلمهم بحالهم وحاله حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ* وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ* قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ «4» .
ثم يعود ليؤكد لهم بالأسلوب نفسه والطريقة ذاتها أنه رسول الله إليهم وإلى الناس أجمعين لينذرهم ويوضح لهم جوهر دعوته إلى ربه: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ* اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ* الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ* وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «5» .
أصبحت قريش بعد كلّ هذا في حيرة من أمر ابنهم هذا الذي أعجزهم بلغتهم وهم سادة لسان العرب.
وكان أبو طالب في هذه الفترة قد حدب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أمر الله مظهرا لأمره، لا يرده عنه شيء، فلما رأت قريش أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يعتبهم (أي لا يرضيهم) من شيء وأنكروه عليه
__________
(1) القرآن الكريم- سورة قريش، الآيات 1- 4.
(2) منها على سبيل المثال لا الحصر سور: ق، الطور، الرحمن، الواقعة، الحاقة، المعارج، المدثر، القيامة، الإنسان، المرسلات، النبأ، النازعات، عبس، الانفطار، الانشقاق ... وغيرها.
(3) ابن تيمية- الجواب الصحيح، ص/ 99.
(4) القرآن الكريم- سورة فصلت، الآيات/ 1- 6.
(5) القرآن الكريم- سورة إبراهيم، الآيات/ 1- 4.(1/224)
ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه، فلم يسلمه لهم مشى رجال من أشرافهم إلى أبي طالب «1» ، فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، وضلل آباءنا، ف إما أن تكفه عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما هو عليه يظهر دين الله. فذهب الوفد مرة أخرى إلى أبي طالب، فقالوا له: يا أبا طالب: إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك عن ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين ... ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعدوانهم، ولم يطب نفسا بتسليم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم ولا خذلانه، فدعا أبو طالب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال له: يابن أخي: إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا فأبق عليّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فقال عليه الصلاة والسلام: «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته» «2» ، ثم استعبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبكى ثم قال، فلما ولى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يابن أخي، فأقبل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: اذهب يابن أخي فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبدا «3» .
ولما فشل المشركون مع أبي طالب في أن يتخلى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عمدوا إلى المستضعفين من المسلمين فأنزلوا بهم من الأذى والاضطهاد والتعذيب الشيء الكثير «4» . ولما ازداد الأذى بالمسلمين أمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالهجرة إلى الحبشة لأنها أرض صدق وبها ملك لا يظلم أحدا، فهاجر عدد من الرجال والنساء في السنة الخامسة ثم لحق بهم مهاجرون آخرون بعد بضعة شهور حتى وصلوا إلى ثلاثة وثمانين رجلا مع بعض النساء.
وخافت قريش من انتشار الإسلام خارج مكة فأرسلت رجلين إلى النجاشي ملك الحبشة بهدايا قيمة بغية استعادة المهاجرين إلى مكة، فلما طلبا من النجاشي تسليمهم استدعاهم النجاشي وسألهم عن أمرهم فتحدث نيابة عنهم جعفر بن أبي طالب- رضي الله عنه- وعرض في إيجاز جوهر دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم حيث قال:
«أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة
__________
(1) سيرة ابن هشام 1/ 297، وقد ذكر ابن هشام من هؤلاء عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وأبو البختري، والأسود بن عبد المطلب، وأبو جهل، والوليد بن المغيرة، وغيرهم.
(2) سيرة ابن هشام 1/ 299، وتاريخ الطبري 2/ 326، سيرة ابن كثير 1/ 474- 475.
(3) سيرة ابن هشام 1/ 299، وقارن بالمراجع العديدة التي ذكرت هناك.
(4) ابن تيمية- الجواب الصحيح 1/ 194، البلاذري- أنساب الأشراف 1/ 158- 197.(1/225)
والزكاة والصيام- فعدد عليه أمور الإسلام- فصدّقناه وآمنا به، واتّبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك» ، فرفض النجاشي تسليم المهاجرين لمبعوثي قريش وتعهد بحمايتهم «1» .
ثم لجأت قريش إلى ترويج الاتهامات الباطلة لصد الناس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن ذلك أنهم اتهموه بالجنون.
وفي ذلك نزل قول الله تعالى: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ «2» . وقد أجابهم الله في سورة القلم ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ «3» ، وحكى ذلك عنهم في قوله وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ «4» . واتهموه بالسحر وفي ذلك نزل قوله تعالى: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ «5» ، وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً «6» .
وقد تحير الوليد بن المغيرة فيما يصف به القرآن. فعندما أوشك دخول موسم الحج جمع فريقا من عتاة المعاندين، فقال لهم: «يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضا ... » وعلى الرغم من استبعادهم أنه كاهن أو شاعر أو ساحر إلّا أنهم اتفقوا على أن يقولوا للناس إنه ساحر، لأنه يفرق بين الأقارب، فأنزل الله في الوليد ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ... «7» ثم أخذوا يتلقون الناس يحذرونهم من أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم وشاء الله أن تصدر العرب من ذلك الموسم وقد شاع بينهم أمر الدعوة وأخبار الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها «8» وكان مثل هذه المواقف سببا في إسلام الناس في المواسم.
واتهموه بالكذب، وفي ذلك يقول الله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ «9» .
__________
(1) ابن هشام- السيرة 1/ 206- 207، أحمد- المسند 1/ 201- 203، البيهقي- دلائل النبوة 2/ 301- 304، ابن عبد البر- الدرر في اختصار المغازي والسير ص/ 93- 94، الذهبي- السيرة النبوية ص/ 116- 119 وقال الألباني إنّ سنده صحيح، وانظر: محمد الغزالي- فقه السيرة ص/ 115 حاشية رقم (2) .
(2) القرآن الكريم- سورة الحجر، الآية/ 6.
(3) القرآن الكريم- سورة القلم، الآية/ 2.
(4) القرآن الكريم- سورة القلم، الآية/ 51.
(5) القرآن الكريم- سورة ص، الآية/ 4.
(6) القرآن الكريم- سورة الفرقان، الآية/ 8.
(7) القرآن الكريم- سورة المدثر، الآية/ 11. وانظر الآيات التي بعد هذه الآية في صفات الوليد.
(8) ابن هشام- السيرة (2/ 334- 337) من رواية ابن إسحاق، ورواه الطبري في تفسيره (14/ 157) من طريق ابن إسحاق أيضا.
(9) القرآن الكريم- سورة الفرقان، الآية/ 4. وانظر تفسيرها في زاد المسير (6/ 72- 73) . قال مجاهد في قوله وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ: يعنون اليهود. وقال مقاتل: أشاروا إلى عداس مولى حويطب ويسار غلام عامر بن الحضرمي وحبر مولى لعامر أيضا، وثلاثتهم من أهل الكتاب.(1/226)
واتهموه بالإتيان بالأساطير. قال تعالى: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا «1» .
واتهموا المؤمنين بالضلالة.. وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ «2» .
أذى المشركين للرسول صلّى الله عليه وسلّم:
واجهت قريش الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالسخرية والاستهزاء والضحك والغمز واللمز والتعالي عليه صلّى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين.
يقول الله تعالى عن سخريتهم من الذين آمنوا: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ «3» وروى البخاري «4» أن امرأة قالت للرسول صلّى الله عليه وسلّم ساخرة مستهزئة: «إنّي لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثا!» فأنزل الله تعالى: وَالضُّحى * وَاللَّيْلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى «5» .
وروى البخاري «6» أن أبا جهل قال مستهزئا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» . فنزلت: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ* وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ* وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ «7» .
وقال الله تعالى عن ضحكهم وغمزهم: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ* وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ* وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ «8» .
ومن منطلق الاستعلاء والسخرية، قال المشركون للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا نرضى بمجالسة أمثال هؤلاء- يعنون صهيبا وبلالا وخبّابا- فاطردهم عنك» . فهمّ النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك طمعا في إسلامهم وإسلام قومهم، فأنزل الله تعالى وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ
«9» .
ومر الرسول صلّى الله عليه وسلّم يوما بجماعة من زعماء قريش فهمزوه واستهزؤوا به، فغاظه ذلك، فأنزل الله- عز وجل-
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الفرقان، الآية/ 5. قال المفسرون: إن الذي قال هذا هو النضر بن الحارث. انظر: زاد المسير (6/ 63) .
(2) القرآن الكريم- سورة المطففين، الآية/ 32.
(3) القرآن الكريم- سورة الأنعام، الآية/ 53.
(4) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 580) . وقد وردت أقوال أخرى في سبب نزول هذه الآيات، منها المقبول ومنها المردود، انظر ابن حجر: الفتح (8/ 581) .
(5) القرآن الكريم- سورة الضحى، الآيات/ 1- 3، ونص البخاري: «اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يقم ليلتين أو ثلاثا، فجاءت امرأة فقالت: يا محمد إني لأرجو ... » الحديث.
(6) فتح الباري (17/ 185/ ح 4648) .
(7) القرآن الكريم- سورة الأنفال، الآيات/ 32- 34.
(8) القرآن الكريم- سورة المطففين، الآيات/ 29- 31.
(9) القرآن الكريم- سورة الأنعام، الآية/ 52. وانظر سبب نزولها في تفسير الطبري (11/ 374- 388) وقد جمع الطبري الآثار الواردة في ذلك، وخرجها وحققها الشيخ شاكر. وما أثبتنا معناه هنا في المتن هو مضمون الأثر رقم (13258) بإسناد صحيح. وقد روى مسلم والنسائي بعضه من حديث سعد بن أبي وقاص.(1/227)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ* «1» . كما كان المشركون يتواصون بينهم بافتعال ضجة عالية وصياح منكر عند ما يقرأ القرآن، حتى لا يسمع فيفهم فيترك أثرا في عقل نقي وقلب طيب.
وفي ذلك قال المولى- عز وجل-: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ «2» .
لجوء المشركين إلى المطالبة بالمعجزات:
وطالبت قريش أن يريهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم معجزات أو مزايا ليست عند البشر العاديين: من ذلك قولهم ... مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً* أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها «3» فرد عليهم الله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ «4» .
وقولهم: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ. ولذا قال لهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما جاء في الآية نفسها قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا «5» .
وسألوه أن يسيّر لهم جبال مكة، ويقطع لهم الأرض ليزرعوها، ويبعث لهم من مضى من الآباء الموتى أمثال قصي ليسألوه عن صدق محمد، ورد الله عليهم في قوله: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً «6» ، ولقد كان طلبهم على وجه العناد، لا على وجه طلب الهدى والرشاد. قال تعالى:
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ «7» وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ «8» . وقال تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ... «9» .
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الأنعام، الآية/ 10. وذكر ذلك ابن إسحاق بلاغا- ابن هشام- السيرة (2/ 42) . ولم يذكر المفسرون سببا معينا لهذه الآية. ومن ذكره منهم رواه من طريق ابن إسحاق، مثل ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (3/ 5) .
(2) القرآن الكريم- سورة فصلت، الآية/ 26، انظر زاد المسير (7/ 252) .
(3) القرآن الكريم- سورة الفرقان، الآيات/ 7- 8.
(4) القرآن الكريم- سورة يونس، الآية/ 15.
(5) القرآن الكريم- سورة الإسراء، الآيات/ 90- 93.
(6) القرآن الكريم- سورة الرعد، الآية/ 31. وانظر سبب نزولها عند ابن كثير- التفسير (4/ 382) ، والطبري- التفسير (16/ 446- 450/ شاكر) متلا إلى ابن عباس- رضي الله عنهما- ومرسلا إلى مجاهد والضحاك، ابن إسحاق- بدون إسناد: ابن هشام- السيرة (1/ 381) ، الشامي: سبل الهدى (2/ 456- 457) من خبر رواه أبو يعلى وأبو نعيم عن الزبير بن العوام، وفي (2/ 452) حول هذا الخبر من رواية ابن إسحاق وابن جرير والبيهقي- كما قال.
(7) القرآن الكريم- سورة الأنعام، الآية/ 109.
(8) القرآن الكريم- سورة الأنعام، الآية/ 111.
(9) القرآن الكريم- سورة الإسراء، الآية/ 59.(1/228)
لجوء قريش إلى المفاوضات:
حاولت قريش من خلال أسلوب المساومة الذي اكتسبته وأتقنته من خلال خبرتها الطويلة في التجارة، أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق، وذلك بأن يترك المشركون بعض ماهم عليه، ويترك النبي صلّى الله عليه وسلّم بعض ما هو عليه. قال تعالى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ «1» .
وعند ما قالوا له اعبد آلهتنا يوما ونعبد إلهك يوما، أنزل الله تعالى سورة الكافرون: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ* لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ* وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ* وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ* وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ «2» وحسم بذلك هذه المساومة الهزلية.
وكانوا قد ساوموا عمه فيه، حين اقترحوا عليه بأن يعطوه عمارة بن الوليد بن المغيرة بدلا عن محمد صلّى الله عليه وسلّم فيأخذوه ويقتلوه «3» .
وعند ما اشتكى أبو طالب مرض موته، وبلغ قريشا ثقله، قال بعضهم لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها. فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا. وعند ما جاء وفدهم إلى أبي طالب، قال لمحمد صلّى الله عليه وسلّم: «يابن أخي هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم كلمة واحدة يعطونيها يملكون بها العرب وتدين لهم بها العجم» . وفي رواية: «تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية» . ففزعوا لكلمته ولقوله.
فقال القوم: كلمة واحدة؟ قال: نعم. فقال أبو جهل: نعم وأبيك عشر كلمات. قال: «تقولون لا إله إلّا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه» . فصفقوا بأيديهم ثم قالوا: يا محمد تريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن أمرك لعجب. ثم قال بعضهم لبعض: ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون فانطلقوا وامضوا على دينكم حتى يحكم الله بينكم وبينه. ثم تفرقوا، فأنزل الله فيهم أول سورة «ص» ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ* بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ* كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ* وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ* أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ* وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ* ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ* أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ* أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ* أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ «4» .
__________
(1) القرآن الكريم- سورة القلم، الآية/ 9.
(2) القرآن الكريم- سورة الكافرون، الآيات/ 1- 6.
(3) ابن هشام- السيرة (1/ 330) من رواية ابن إسحق بدون إسناد.
(4) القرآن الكريم- سورة ص، الآيات/ 1- 10.(1/229)
لجوء قريش إلى سبّ القرآن ومنزله ومن جاء به:
روى البخاري «1» ومسلم «2» والترمذي «3» وغيرهم في قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها أن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: «نزلت ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مختف بمكة. كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع المشركون قراءته سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك فلا تسمعهم وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا «4» .
وروى ابن إسحق «5» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرقوا عنه وأبوا أن يسمعوا منه، وكان الرجل إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعض ما يتلو وهو يصلي يسترق السمع فرقا منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم ولم يستمع، وإن خفض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صوته لم يسمعوا شيئا من قراءته، فأنزل الله تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي فيتفرقوا عنك، وَلا تُخافِتْ بِها فلا يسمع من أراد أن يستمعها ممن يسترق ذلك دونهم لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع فيقتنع به وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا.
وعند ما كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، أخذ المشركون يسبون الله عدوا بغير علم، فأنزل الله: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ «6» .
التعاون مع اليهود للتصدي للدين الجديد:
أوفدت قريش نفرا منهم إلى المدينة، على رأسهم: النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط ليأتوا من اليهود بأسئلة تعجيزية فيطرحونها على الرسول صلّى الله عليه وسلّم. فقالت لهم يهود: سلوه عن أهل الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح. ولكن الله أبطل كيدهم عند ما أنزل الله قرآنا في شأن الإجابة عن أسئلتهم «7» .
__________
(1) فتح الباري (17/ 299- 300/ ح 4722) . والحديث الذي يليه (4723) فيه تفسير عائشة- رضي الله عنها- بأن الآية نزلت في الدعاء، قال ابن حجر: «ورجح النووي وغيره قول ابن عباس- رضي الله عنهما-، كما رجحه الطبري، لكن يحتمل الجمع بأنها نزلت في الدعاء داخل الصلاة. وقد روى ابن مردويه من حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا صلى عند البيت رفع صوته بالدعاء فنزلت. وجاء عند أهل التفسير في ذلك أقوال أخر..» - الفتح (17/ 300) .
(2) مسلم- الصحيح (1/ 329/ ح 145) .
(4) القرآن الكريم- سورة الإسراء، الآية/ 110.
(3) صحيح سنن الترمذي (3/ 70/ 3366- 3367) ، قال الألباني: «صحيح متفق عليه» .
(5) السير والمغازي، ص/ 206 بإسناد ضعيف لضعف داود بن الحصين في روايته عن عكرمة- انظر الكامل (3/ 959) ، التهذيب (3/ 181) ، التقريب، ص/ 199.
(6) القرآن الكريم- سورة الأنعام، الآية/ 108.
(7) روى هذه القصة ابن إسحق- بدون إسناد- ابن هشام- السيرة (1/ 371- 372) ، والترمذي صحيح الترمذي (3/ 69/ ح 3361- 3362) من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما-، وقال الألباني: «صحيح الإسناد» ، وفيها السؤال عن الروح فقط.(1/230)
اتباع قريش أسلوب الترغيب للرسول صلّى الله عليه وسلّم:
أرادت قريش أن تجرب أسلوب الترغيب، فأرسلت عتبة بن ربيعة، الذي قال للرسول صلّى الله عليه وسلّم: «يابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من المكان في النسب، وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا لعلك تقبل بعضها: إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا. وإن كنت تريد شرفا سوّدناك علينا فلا نقطع أمرا دونك. وإن كنت تريد ملكا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ» .
فلما فرغ من قوله تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدر سورة «فصلت» إلى قوله تعالى فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ «1» وعندها وضع عتبة يده على جنبه وقام كأن الصواعق ستلاحقه، وعاد إلى قريش مخبرا إياهم بأن ما سمع ليس بشعر ولا سحر ولا كهانة، واقترح على قريش أن تدع محمدا وشأنه «2» . وفي رواية البيهقي وابن أبي شيبة وابن حميد من حديث جابر، زادوا: «وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي أبيات قريش شئت» . وفي رواية أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: «يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا» . قال: «لم؟» قال: «ليعطوك، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله..» ثم قال عن القرآن الذي سمعه من محمد صلّى الله عليه وسلّم: «ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته» «3» .
اتباع قريش لأسلوب الترهيب:
كان أبو جهل، إذا سمع عن رجل قد أسلم وله شرف ومنعة، أنّبه وأخزاه، وقال له: «تركت دين أبيك وهو خير منك! لنسفهن حلمك ولنضعفن رأيك ولنضعن شرفك» ، وإن كان تاجرا قال له: «لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك» ، وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به «4» .
أذى المشركين للرسول صلّى الله عليه وسلّم:
عند ما لم تثمر كل الأساليب السابقة في صد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عن دينهم، لجأت قريش إلى أسلوب الاعتداء والتصفية الجسدية.
لقد استفحل إيذاؤهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم في الفترة العلنية لغضبهم منه حين أضحى يظهر شعائر دينه مثل الصلاة عند الكعبة. فقد روى مسلم «5» عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال أبو جهل: «هل يعفر محمد
__________
(1) القرآن الكريم- سورة فصلت، الآية/ 13.
(2) روى هذا الخبر ابن إسحق بإسناد منقطع- ابن هشام- السيرة (1/ 362- 363) .
(3) رواه الحاكم في المستدرك موصولا (2/ 506- 507) .
(4) ابن إسحق، معلقا- ابن هشام- السيرة (1/ 395) .
(5) مسلم- الصحيح، (4/ 2145- 2155/ ح 2797، وانظره مختصرا عند البخاري في الفتح (18/ 380/ ح 4958) .(1/231)
وجهه بين أظهركم؟ قال فقيل: نعم. فقال: واللات والعزى! لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته- أو لأعفرن وجهه في التراب، قال فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي- زعم ليطأ على رقبته. قال: فما فجأهم منه إلّا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، قال: فقيل له: مالك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» ، قال: فأنزل الله- عز وجل- كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى * إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلَّى* أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى* أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى * ... إلى قوله: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ «1» .
وروى البخاري بسنده إلى عروة بن الزبير، قال: سألت عبد الله بن عمر عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: رأيت عقبة بن أبي معيط، جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله، وقد جاءكم بالبيّنات من ربّكم؟» «2» .
وروى البخاري «3» ومسلم «4» من حديث ابن مسعود، قال: «بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد. فانبعث أشقى القوم «5» فأخذه. فلما سجد النبي صلّى الله عليه وسلّم وضعه بين كتفيه، قال: فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر. لو كان لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والنبي صلّى الله عليه وسلّم ساجد ما يرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت هي وجويرية، فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم. فلما قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم ... فو الذي بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالحق لقد رأيت الذي سمى (أي ذكر أسماءهم بالدعاء عليهم) صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر» .
قال ابن حجر «6» وقد أخرج أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح عن أنس، قال: «لقد ضربوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرة حتى غشي عليه، فقام أبو بكر فجعل ينادي: ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ فتركوه وأقبلوا على أبي بكر ... » .
وحاولت أم جميل- زوجة أبي لهب- أن تعتدي عليه بحجر فحماه الله منها فلم تره- كما روى البيهقي «7» . وكانت تحمل الحطب لتضعه في طريقه صلّى الله عليه وسلّم- كما حكاه القرآن الكريم وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ* فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ «8» .
__________
(1) القرآن الكريم- سورة العلق، الآيات/ 6- 19.
(2) البخاري- الصحيح- الفتح: (14/ 179/ ح 3678) و (15/ 9- 11/ ح 3856) .
(3) البخاري- الصحيح- الفتح (12/ 66/ ح 2934) .
(4) مسلم- الصحيح (3/ 1418- 1419/ ح 1794) .
(5) هو عقبة بن أبي معيط كما صرح به في الرواية الثانية عند مسلم- الصحيح (3/ 1419/ ح 1794) .
(6) فتح الباري (15/ 11/ ح 3856) .
(7) الدلائل (2/ 196) بإسناد حسن لغيره لأنه تقوّى بآخر.
(8) القرآن الكريم- سورة المسد، الآيتين/ 4، 5.(1/232)
وروى أحمد «1» أن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونائلة وإساف: «لو قد رأينا محمدا لقد قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله» ... وأخبرته ابنته فاطمة بالذي قالوا، فجاءهم وحصبهم بقبضة من تراب، من أصابته منهم قتل يوم بدر كافرا.
وروى الإمام أحمد «2» من حديث أنس، أن جبريل- عليه السلام- جاء ذات يوم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس حزينا قد خضب بالدماء، ضربه بعض أهل مكة، فقال له مالك؟ قال: «فعل بي هؤلاء وفعلوا» . فقال له جبريل: أتحبّ أن أريك آية؟ قال: «نعم» ، فنظر إلى شجرة من وراء الوادي فقال: ادع بتلك الشّجرة، فدعاها، فجاءت حتى قامت بين يديه، فقال مرها فلترجع، فأمرها فرجعت إلى مكانها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حسبي» .
ويرى ابن كثير «3» ان غالب ما وقع للرسول صلّى الله عليه وسلّم من أذى، كان بعد وفاة عمه أبي طالب.
اضطهاد قريش للمسلمين:
ونال أبا بكر- رضي الله عنه- نصيبه من الأذى، حتى فكر في الهجرة إلى الحبشة فرارا بدينه «4» .
وقام أبو بكر خطيبا في المسجد الحرام ذات يوم فضربه المشركون ضربا شديدا، وممن ضربه عتبة بن ربيعة حيث جعل يضربه على وجهه بنعلين مخصوفتين حتى ما يعرف وجهه من أنفه. وجاء بنو تميم يتعادون، فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحملوه في ثوب إلى منزله، ولا يشكون في موته، وأقسموا لئن مات أبو بكر ليقتلن عتبة بن ربيعة «5» .
وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من أوراق النخيل، ثم يدخنه من تحته «6» . وروي أنه عند ما أسلم أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطا، وأقسم ألا يحله إلّا إذا ترك الإسلام، فأقسم عثمان على عدم تركه الإسلام، فلما رأى عمه صلابته في دينه تركه «7» .
ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه أجاعته وأخرجته من بيتها، وكان من أنعم الناس عيشا، فتخشف جلده تخشف الحية، وحتى حمله أصحابه على قسيهم، لشدة ما به من الجهد «8» .
وعند ما سمع أبوذر الغفاري بخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء ودخل مكة، وأخذ يسأل عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ضربه أهل مكة حتى غشي عليه، وكاد أن يموت، فخلصه العباس- رضي الله عنه- منهم «9» .
__________
(1) المسند (4/ 269/ ح 2672) .
(2) الساعاتي- الفتح الرباني (20/ 220) .
(3) البداية والنهاية (3/ 148) .
(4) انظر الحديث بتمامه من رواية البخاري- الصحيح (فتح الباري 10/ 43- 44/ ح 2297) .
(5) ابن كثير- في البداية (3/ 33- 34) .
(6) المنصور فوري- رحمة للعالمين (1/ 52) .
(7) ابن سعد- الطبقات (3/ 55) من رواية الواقدي.
(8) ابن إسحق- السيرة، ص/ 193، بسند معضل.
(9) طرف من حديث في قصة إسلام أبي ذر، متفق عليه: البخاري- الصحيح (فتح الباري 14/ 33/ ح 3522) ، مسلم- الصحيح (4/ 1920/ ح 2473) ، (4/ 1923- 24/ ح 2474) .(1/233)
تعذيب الموالي:
بعد أن بذلت قريش كل ما في وسعها من قوة وحيلة في إطفاء أنوار الدعوة المحمدية، وباءت بخيبة مريرة حوّلت ذلك إلى نقمة على المستضعفين من المؤمنين كبلال وعمّار ووالده ياسر وأمه سمية، وصهيب الرومي، وخبّاب ابن الأرت وأبي فهيرة، وأبي فكيه، ومن النساء زنّيرة، والنهدية، وأم عبيس.
أمّا بلال فكان مملوكا لأميّة بن خلف الجمحي، وكان يعذبه بإلقائه في الرمضاء على وجهه وظهره، ويضع الصخرة العظيمة على صدره، وذلك إذا حميت الشمس وقت الظهيرة، ويقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، وبلال صابر يردد كلمة: «أحد.. أحد» . وأخيرا استبدله أبو بكر الصديق بعبد مشرك عنده وأعتقه- رضي الله عنهما-.
وأمّا عمّار وأمه ووالده ياسر فقد كانوا يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء يعذبونهم بحرّها، فمر بهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم يعذبون، فقال: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنّة» . فمات ياسر تحت العذاب رحمه الله رحمة واسعة.
وأمّا سميّة فقد أغلظت القول لأبي جهل فطعنها بحربته في قبلها فماتت شهيدة، فكانت أول شهيد في الإسلام.
وشدد أعداء الله العذاب على عمّار ونوّعوا العذاب عليه فمرة بالجرّ ومرة بوضع الصخرة على صدره، وأخرى بالغمس في الماء إلى حد الاختناق ويقولون له لا نتركك حتى تسب محمدا، وتقول في اللات والعزى خيرا، وفعل ما طلبوه منه فتركوه، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم يبكي فقال: «ما وراءك؟» . فقال: شر يا رسول الله، كان الأمر كذا وكذا.
فقال له: «كيف تجد قلبك؟» . قال: أجده مطمئنا بالإيمان. فقال: «إن عادوا يا عمّار فعد» . وأنزل الله تعالى قوله من سورة النحل: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً «1» .
وأمّا خبّاب فقد أسلم سادس ستة فقد عذبه المشركون عذابا شديدا إذ كانوا يلصقون ظهره بالرمضاء ثم بالحجارة المحماة بالنار ويلوون رأسه. وأمّا عامر بن فهيرة فقد أسلم قديما قبل دخول الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى دار الأرقم، وكان من المستضعفين فعذّب عذابا شديدا، ولم يرده ذلك عن دينه، وكان يرعى غنما لأبي بكر، وكان يروح بها الى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وهما في الغار طوال المدة التي كانا فيها في الغار، وأمّا أبو فكيهة واسمه أبو يسار فكان عبدا لصفوان بن أمية بن خلف الجمحي، أسلم مع بلال فأخذه أميّة بن خلف وربط في رجليه حبلا وأمر فجرّ ثم ألقاه في الرمضاء، ومر به جعل (حشرة معروفة) فقال له أمية: أليس هذا ربك؟. فقال: الله ربي وربك وربّ هذا. فخنقه خنقا شديدا، وكان معه أخوه أبي بن خلف فيقول: زده عذابا حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره ولم يزالوا يعذبونه كذلك حتى أغمي عليه فظنوه مات ثم أفاق فاشتراه أبو بكر الصديق وأعتقه.
وأمّا النساء المؤمنات زنّيرة وأم عبيس ولبيبة والنهدية فقد عذّبن كذلك أشدّ العذاب من قبل مواليهنّ ولم يرجعن عن دينهنّ، فرضي الله عنهن وأرضاهن.
__________
(1) القرآن الكريم- سورة النحل، الآية/ 106.(1/234)
لقد نفس الكفار أغلب أحقادهم على الإسلام ومعتنقيه في أشخاص الموالي، لأنه لم تكن لهم منعة. فكان العذاب أقسى وأفظع.
وقد عذر الله المعذّبين فيما يتلفظون به حينما يبلغ الجهد منهم مبلغه. قال سعيد بن جبير لابن عباس: «أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟» قال: «نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجوعونه ويعطشونه، حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهده» «1» . قال ابن كثير «2» : «وفي مثل هذا أنزل الله تعالي: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» «3» .
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحث أصحابه دائما على الصبر على الأذى ويخبرهم بأن الله تعالى سوف ينصر دينه. فقد جاء إليه خبّاب بن الأرت يشكو إليه ما يصيبهم من شدة من المشركين وقال له: «يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟
فقعد وهو محمرّ وجهه فقال: «لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد، ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشقّ باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمّنّ الله هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضر موت ما يخاف إلّا الله» «4» .
لقد عرضت قريش المال والجاه، الثروة والملك على الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم فأجابهم: «ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشّرف فيكم، ولا الملك عليكم ولكنّ الله بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا فبلّغتكم رسالات ربّي ف إن تقبلوه فهو حظّكم في الدّنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم» «5» .
ولما فشل المشركون في محاولاتهم في التصدي للدعوة الإسلامية، تعاهدوا على مقاطعة بني هاشم فلا يبيعونهم شيئا ولا يبتاعون منهم ولا يتزوجون منهم ولا يزوجونهم. وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في جوف الكعبة، فاضطر أبو طالب وعشيرته إلى التحصن بالشعب ودام حصارهم زهاء ثلاث سنوات عانوا خلالها أشد المعاناة من الجوع والعوز. حتى تمكن بعض زعماء قريش بزعامة هشام بن عمرو من نقض ما جاء في الصحيفة الظالمة، وانتهت مقاطعة بني هاشم «6» .
__________
(1) رواه ابن إسحق، ابن هشام- السيرة (1/ 396) .
(2) البداية والنهاية (3/ 65) .
(3) القرآن الكريم- سورة النحل، الآية/ 106.
(4) البخاري- الصحيح (فتح الباري) (7/ 202- حديث رقم 3852) .
(5) ابن هشام: السيرة 2/ 316.
(6) ابن هشام- السيرة 2/ 219- 221، 234- 237، البيهقي- دلائل النبوة 2/ 311- 314، ابن عبد البر- الدرر ص/ 27- 30، البلاذري- أنساب الأشراف 1/ 235- 236.(1/235)
وقامت بين أبي بكر الصديق ومجموعة من مشركي قريش مجادلة حادة حول الحرب القائمة بين الامبراطوريتين الرومية والفارسية بعد نزول الآية الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ «1» .
وكان المسلمون يحبون أن ينتصر الروم لأنهم نصاري وكانت عاطفة المشركين مع الفرس لأنهم أهل أوثان مجوس. وقد راهن أبو بكر على انتصار الروم خلال خمس سنوات، وذلك قبل تحريم الإسلام للمراهنات «2» . ولا بد أن فرحة المؤمنين بانتصار الروم كانت كبيرة لما في ذلك من تأييد القرآن وخذلان المشركين فضلا عن انتصار أهل الكتاب على المجوس، وقد أسلم عدد من الناس على أثر ذلك «3» . وينبغي أن نشير إلى أن الصراع بين الدولتين الكبيرتين فارس والروم كان له أثره في التجارة من جهة، ويستلزم استمرار المراقبة للأوضاع خارج الجزيرة وعلى أطرافها لما كان له من آثار على التعامل الخارجي التجاري في بلد يعتمد على التجارة مثل مكة «4» . كما أن نزول الآيات الخاصة بذلك الصراع تشير إلى أهمية متابعة التطورات السياسية التي تجري على أطراف جزيرتهم، كما أن فيها ما يشير إلى وحدة مواقف المؤمنين بالله وتمايزهم أمام الإلحاد والوثنية. وكان الجدل حول هذه المسألة يوضح أحد جوانب الصراع العديدة بين الجانبين «5» .
ولقد تصاعد العنف مع مرور الأيام، وأصبح المسلمون يشكلون مجتمعا معزولا عن المجتمع المكي، تحيط بهم النظرات الغاضبة والألسن الشاتمة والأيدي التي تسومهم أصناف العذاب، ولذلك فقد أصبح استقرار المسلمين في مكة أمرا ينطوي على المخاطر الكبيرة، وذلك ما أدى إلى ضرورة التفكير بالهجرة إلى أماكن آمنة يهاجرون إليها فرارا بدينهم ونأيا بأنفسهم عن العذاب، وكانت الحبشة أول المناطق التي فكروا بجدوى الهجرة إليها.
الهجرة الأولى إلى الحبشة:
نزلت آيات الذكر الحكيم تلمح إلى الهجرة في قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ «6» .
ولما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يصيب أصحابه من البلاء وما كان ينالهم من التعذيب والإهانة، وأنه لا يقدر أن يمنع عنهم ما يصيبهم، نصح المسلمين بالخروج إلى أرض الحبشة «7» . وفي تلك الظروف الحرجة كانت هجرة المسلمين إلى الحبشة فرارا بدينهم من بلاد الفتنة إلى بلاد الأمان. ومن الثابت أن المسلمين هاجروا إلى الحبشة
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الروم، الآيات/ 1- 5.
(2) الترمذي- السنن 5/ 343- 344، الحاكم- المستدرك 2/ 410، الطبراني- المعجم الكبير 12/ 29، الطبري- التفسير 21/ 12، البيهقي- دلائل النبوة 2/ 330.
(3) الترمذي- السنن 5/ 344- 345.
(4) ابن كثير- التفسير 6/ 305- 306 (ط. الشعب) ، وانظر الطبري- التفسير 21/ 19.
(5) ابن كثير- التفسير 3/ 423.
(6) القرآن الكريم سورة الزمر، الآية/ 10.
(7) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 189، ابن هشام- السيرة 1/ 334، وانظر السير والمغازي ص/ 123.(1/236)
مرتين «1» . وكانت الهجرة الأولي في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، وهم أحد عشر رجلا وأربع نسوة خرجوا متسللين سرّا «2» . حتى انتهوا إلى الشعيبة، منهم الراكب والماشي، ووفق الله تعالى للمسلمين ساعة جاءوا الساحل سفينتين للتجار حملوهم فيهما إلى أرض الحبشة بنصف دينار «3» .
وقد ثبت من طرق صحيحة «4» ما ورد عن أم المؤمنين أم سلمة- رضي الله عنها- «5» وكانت ضمن من هاجر إلى الحبشة في الهجرة الأولي، حيث قالت: «لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في منعة من قومه وعمه لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه» «6» . فخرجنا إليها أرسالا حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار آمنّا على ديننا ولم نخش منه ظلما» «7» .
وكان عثمان بن عفان أول من خرج مهاجرا ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأورد الإمام البخاري حديثا بسند موصول إلى أنس قال: «أبطأ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبرهما، فقدمت امرأة فقالت له: لقد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «صحبهما الله إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط» «8» .
وقد سرد ابن إسحاق وغيره أسماء مهاجرة الحبشة وهم عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وأبو حذيفة بن عتبة، ومصعب بن عمير، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة، وسهيل بن بيضاء، وأبو سبرة بن أبي رهم العامري، وحاطب بن عمرو العامري. وأما النسوة فهن رقية بنت النبي صلّى الله عليه وسلّم وسهلة بنت سهل امرأة أبي حذيفة، وأم سلمة بنت أبي أمية، امرأة أبي سلمة، وليلى بنت أبي حثمة امرأة عامر بن ربيعة «9» . وقد عرفت هذه بالهجرة الأولى إلى الحبشة «10» .
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 10/ 43- 44 (حديث 2297) ، ابن كثير- البداية والنهاية 3/ 73.
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 187) .
(3) المرجع السابق 7/ 187- 188، ابن سعد- الطبقات 1/ 204.
(4) البخاري- الصحيح (فتح 7/ 189) ، ابن إسحاق- السيرة ص/ 194، ابن هشام- السيرة 1/ 3 إإ، وأنظر ابن سعد- الطبقات 1/ 204، ابن كثير- البداية والنهاية 3/ 74.
(5) ولم تكن قد تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حينذاك.
(6) إسناده حسن، ذلك أن رواية يونس بن بكير قد توبعت برواية البكائي، كما أن محمد بن إسحاق بن يسار قد صرح بالتحديث (السيرة ص/ 194) . وقد أورد البخاري الحديث بتقديم «أحد عنده» وتبديل «فألحقوا» بعبارة «فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله» (فتح 7/ 277، حديث 3876) .
(7) البخاري- الصحيح (فتح 7/ 189) ، ابن هشام- السيرة النبوية 1/ 334.
(8) البخاري- الصحيح (فتح 7/ 227 (رقم 3876) وعقب ابن حجر على ذلك بقوله «وبهذا تظهر النكتة في تصدير البخاري الباب بحديث عثمان» وأنظر البيهقي- دلائل النبوة 2/ 297.
(9) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 227- 8) ، ابن سعد- الطبقات 1/ 204، ابن هشام- السيرة 1/ 430.
(10) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 228) ، ابن سعد- الطبقات 1/ 204.(1/237)
أراد أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- الالتحاق بالمهاجرين إلى الحبشة في هذه الهجرة الأولى بعد أن اشتد أذى قريش عليه، ويظهر أنه سلك طريقا آخر، إذ تشير الأخبار بأنه سار في طريق اليمن حتى إذا ما بلغ برك الغماد- وهو موضع على خمس ليال من مكة لقيه ابن الدّغنة- وهو سيد قبائل القارة حلفاء بني زهرة القرشية- فقال له أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. فقال له ابن الدّغنة: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج، فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فأجاره وأعاده معه إلى مكة حيث أعلن لقريش أنه في جواره، فوافقت قريش على ذلك واشترطت عليه أن تكون عبادته في داره وأن لا يستعلن «1» . وبعد مدة أخذ أبو بكر يجتهد بالقراءة في فناء داره «وكان رجلا بكّاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن» فيجتمع إليه ابناء ونساء المشركين يعجبون وينظرون إليه ويستمعون القرآن مما أفزع قريشا ودفعها إلى مطالبة ابن الدّغنة بأن يكفّه عن ذلك، فخيّره ابن الدّغنة بين الإسرار بعبادته، أو أن يردّ عليه جواره، فرد أبو بكر عليه جواره وقال: «إني أردّ عليك جوارك وأرضى بجوار الله» «2» وهكذا بقى أبو بكر بمكة إلى جوار الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، مستجيرا بالله سبحانه وتعالى يحتمل أذى مشركي قريش، بعد أن كان الرسول قد أذن له بالهجرة إلى الحبشة «3» .
قصة الغرانيق الباطلة والهجرة الثانية إلى الحبشة:
وبعد هجرة الحبشة الأولى بفترة قليلة، حدث أن صلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم في المسجد الحرام، فقرأ سورة النجم وسجد في موضع السجود فسجد معه كل من كان يسمعه من المسلمين والمشركين «4» . وشاع أن قريشا قد أسلمت، وبلغ المسلمين وهم بأرض الحبشة «أن أهل مكة أسلموا فرجع ناس منهم عثمان بن مظعون إلى مكة فلم يجدوا ما أخبروا به صحيحا فرجعوا وسار معهم جماعة إلى الحبشة، وهي الهجرة الثانية، وقد ذكرت إحدى الروايات الصحيحة أنهم «كانوا اثنين وثمانين رجلا سوى نسائهم وأبنائهم ... وقيل إن عدة نسائهم كانت ثماني عشرة امرأة» «5» . ولا شك في أن دوافع الهجرة الثانية قد شملت اشتداد البلاء وتعاظم الفتنة والتعذيب الدائم للمستضعفين من المسلمين، والعدوان المستمر على أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم «6» .
وقد ذهبت روايات مرسلة صحيحة السند «7» إلى أن الشيطان كان قد ألقى على لسان الرسول صلّى الله عليه وسلّم في قراءته لسورة النجم في صلاته تلك في الحرم عبارة «تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهنّ لترتجى» ، وذهبت روايات مرسلة أخرى ضعيفة الأسانيد إلى أن هذه العبارة قد قالها الشيطان، وسمعها المشركون دون المسلمين، فسجد
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 4/ 475- 476) .
(2) المرجع السابق 4/ 475- 476.
(3) ابن هشام- السيرة النبوية 2/ 372- 374 بإسناد حسن.
(4) صحيح البخاري (فتح الباري 2/ 551، 553، 557، 560، 8/ 614) ، مسلم- الصحيح 1/ 405.
(5) البخاري- صحيح (فتح الباري 7/ 189) .
(6) ابن إسحاق- السير والمغازى ص/ 213.
(7) ورد في أسانيدها سعيد بن جبير، وأبا بكر بن عبد الرحمن وأبا العاليه.(1/238)
المشركون بسجود المسلمين «1» . وقد اعترض على هذه القصة عدد كبير من أفاضل العلماء والنقاد «2» . والحق أن هذه القصة تصطدم بنصوص القرآن الكريم «3» . وعصمة النبوة في قضية الوحي «4» ، وتتعارض مع عقيدة التوحيد وهي الأصل في العقيدة الإسلامية.
محاولة قريش استرداد المهاجرين المسلمين:
بادرت قريش بعد الهجرة الثانية وفشلها في منع المسلمين من الهجرة، ونتيجة تخوفها من انتشار الدعوة الإسلامية، فأرسلت وفدا مؤلفا من عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، ومعهما الهدايا إلى النجاشي وبطارقته، بهدف إعادة من هاجر من المسلمين إلى مكة. وحاول الوفد إقناع البطارقة عن طريق الهدايا، وعن طريق تصوير المهاجرين المسلمين لهم بأنهم «غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وأنهم جاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم..» «5» ، وبيّتوا الأمر مع البطارقة على أن يشيروا على النجاشي بأن يسلمهم إليهم ولا يكلمهم، غير أن النجاشي رأى ضرورة أن يتحرى الأمر بنفسه فدعا المسلمين وطلب منهم توضيح حقيقة دينهم، فانبرى جعفر بن أبي طالب- رضي الله عنه-. وتكلم نيابة عن إخوانه المهاجرين كما سبق وأسلفنا، قائلا: «أيها الملك:
كنا قوما على الشرك، نعبد الأوثان ونأكل الميتة، ونسيء الجوار ونستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، ولا نحل شيئا ولا نحرّمه. فبعث الله إلينا نبيّا من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الرحم ونحسن الجوار، ونصلّي ونصوم، ولا نعبد غيره» وحين طلب النجاشي من جعفر أن يقرأ عليه شيئا مما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، قرأ عليه صدر «سورة مريم» ، فبكى النجاشي ومن معه من أساقفته وقال:
«إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى، انطلقوا راشدين» . وأقسم بألّا يسلمهم لقريش أبدا «6» .
ورغم فشل المحاولة فقد أثار عمرو بن العاص في اليوم التالي موقف الإسلام من عيسى ابن مريم ونظرة المسلمين إليه بزعمه، وذكر للنجاشي بأنهم يقولون في عيسى قولا عظيما. فسألهم النجاشي فقال جعفر: نقول فيه «هو عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول» . فقال النجاشي: «ما عدا عيسى ابن مريم مما
__________
(1) روى هذه القصة ابن سعد في طبقاته 1/ 205- 206، عن طريق الواقدي وهو ضعيف جدّا، والطبري في التفسير وفي إسناده أبو معشر وهو ضعيف، والبيهقي في دلائل النبوة 2/ 285- 287 وإسناده ضعيف، ولم يروها أحد من أصحاب الكتب الستة والإمام أحمد ولا غيرهم من أصحاب الكتب المعتمدة.
(2) نذكر منهم الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/ 229) ، والقاضي عياض في الشفا (2/ 750 وما بعدها) ، وابن حجر (فتح الباري 18/ 41) ، وللشيخ محمد ناصر الدين الألباني رسالة عنوانها «نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق» خرّج فيها أحاديثها وحكم عليها بالضعف والبطلان وقد فسر الألوسي سبب سجود المشركين بما اعتراهم من خوف ودهشة وهم يستمعون إلى أخبار هلاك من سبقهم من الأمم السابقة. انظر: روح المعاني (17/ 189) الطبعة المنيرية.
(3) القرآن الكريم- سورة النجم، الآية/ 23، سورة الحجر، الآية/ 42، سورة ص، الآيات/ 82- 83، سورة النحل، الآية/ 99.
(4) ناصر الدين الألباني- نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق، أبو شهبة- السيرة النبوية 1/ 364- 374.
(5) ابن إسحاق- السيرة والمغازي/ 213- 217، ابن هشام- السيرة 1/ 289- 93.
(6) ابن هشام- السيرة 1/ 289- 293.(1/239)
قلت هذا العود» «1» واستقر رأي النجاشي على منح المسلمين الأمان، «فأقاموا في خير دار مع خير جار» «2» .
أما القسيسون والرهبان الذين سمعوا قول جعفر واستمعوا إليه وهو يرتل القرآن، فقد ذرفوا الدموع مما عرفوا من الحق فأنزل الله تعالى قوله الكريم: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ* وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ «3» .
وعلى الرغم من فشل مبادرة قريش في محاولتها استعادة المهاجرين المسلمين، فإن هذه المحاولة تدل على إدراكها لخطورة الموقف الناجم عن حصول المسلمين على ملجأ يأوون إليه آمنين، وخاصة أن الحبشة تدين بالنصرانية، وقد شاع عن ملكها العدل والإنصاف، كما أنها قريبة من مكة مما كان يشكل خطرا متوقعا على قريش ومصالحها في المستقبل.
مكث المسلمون في الحبشة ما شاء الله لهم، ولقد توفي عبيد الله بن جحش زوج أم حبيبة بنت أبي سفيان فخطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتزوجها وهي بالحبشة، زوجه إيّاها النجاشي ومهرها أربعة الاف، ثم جهزها من عنده ولم يرسل إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم بشيء، وقد بعثها النجاشي مع شرحبيل بن حسنة «4» .
انضم إلى مهاجرة الحبشة أبو موسى الأشعري مع جمع من قومه بلغوا ثلاثة وخمسين رجلا وكانوا قد ركبوا سفينة يريدون الهجرة إلى المدينة حين بلغهم استقرار الوضع فيها لصالح المسلمين فألقتهم الرياح إلى الحبشة فالتحقوا بالمسلمين ومكثوا معهم إلى أن عادوا جميعا إلى المدينة حين افتتح المسلمون خيبر «5» . فعاد بعضهم إلى المدينة بعد هجرة المسلمين إليها وقبل وقعة بدر الكبرى، وكانت عدتهم ثلاثة وثلاثين رجلا وثماني نسوة، وعاد الباقون وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب في العام السابع من الهجرة في أعقاب فتح خيبر «6» . ولم تخل هجرتهم هذه من الصعوبات، ويستفاد من نقاش جرى بين أسماء بنت عميس- إحدى المهاجرات إلى الحبشة- وعمر بن الخطاب أن المهاجرين المسلمين إلى الحبشة رغم ما تحقق لهم من الاستقرار والتخلص من أذى قريش وعذابها فإنهم لاقوا العنت، وتحملوا الغربة والمشاق، وأنهم كانوا يتعرضون أحيانا للخوف والإرهاب. وقد أنصفهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم حين قال لهم: «ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان» «7» . وذلك
__________
(1) ابن هشام- السيرة 1/ 413- 418.
(2) المرجع السابق 1/ 289- 293.
(3) القرآن الكريم- سورة المائدة، الآيات/ 82- 83، وانظر تفسير الطبري 7/ 3.
(4) أحمد- المسند 6/ 427، أبو داود- السنن 2/ 538، 569 بإسناد صحيح، النسائي- السنن 6/ 119، الحاكم- المستدرك 2/ 181.
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري 6/ 237، 7/ 188، 484، 485، 487) ، صحيح مسلم (بشرح النووي) 16/ 64.
(6) البخاري- الصحيح (فتح الباري 15/ 36 (ح 3876) ، ابن سعد- الطبقات 1/ 207.
(7) البخاري- الصحيح (فتح الباري 6/ 237، 7/ 18، 484، 487) ، مسلم- الصحيح (بشرح النووي 16/ 64- 66) .(1/240)
أسعد مهاجرة الحبشة وأثلج صدورهم.
وقد وردت العديد من الدلائل التي تفيد إسلام النجاشي فقد ورد في الأخبار أنه أسلم ولذلك خرج عليه قومه، ولكنه حرص قبل محاربتهم على أن يؤمن للمسلمين سفنا ليغادروا عليها إذا ما تعرض للهزيمة «1» . وأنه كتب كتابا يشهد فيه بإسلامه «2» . وأورد الشيخان أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نعى النجاشي أصحمة في اليوم الذي مات فيه في العام التاسع من الهجرة النبوية، وأنه صلّى بالمسلمين صلاة الغائب عليه «3» .
إسلام حمزة بن عبد المطلب- رضي الله عنه-:
علم حمزة بن عبد المطلب بعد عودته إلى مكة من الصيد- وذلك في السنة السادسة من المبعث- أن أبا جهل قد شتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأساء إليه إساءات بذيئة، فبادر إلى أبي جهل وهو في مجلسه بين قومه فضربه بالقوس على رأسه فشجه شجة منكرة، وقال له: «أتشتمه وأنا على دينه؟» وانشرح صدر حمزة للإسلام وعرفت قريش أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد عزّ وامتنع، وأن حمزة سيمنع عنه الأذى، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه «4» .
إسلام عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-:
كان عمر بن الخطاب رجلا قويا مهيبا، وكان يؤذى المسلمين ويشتد عليهم. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو الله أن ينصر دينه به «5» .
قال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، ابن عم عمر وزوج أخته: «والله لقد رأيتني، وأن عمر لموثقي وأخته على الإسلام قبل أن يسلم» «6» .
ولم تصح رواية في تعيين وقت إسلام عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وتحديده بشكل دقيق، فقد جعل ابن إسحاق ذلك بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة في هجرتهم الأولى «7» ، ويجعل الواقدي إسلامه في ذي الحجة نهاية السنة السادسة من البعثة النبوية حيث يتراوح عدد المسلمين حينئذ بين أربعين وخمسين، أو ستّا وخمسين منهم عشر أو إحدى عشرة امرأة «8» . وقد أخبرت أم عبد الله بنت أبي حثمة، وهي من مهاجرة الحبشة، أن عمر اطلع استعداداتها وزوجها للهجرة إلى الحبشة، وأنه قد رق لها ولزوجها رغم ما كانوا يلقون منه من البلاء والأذى
__________
(1) ابن هشام- السيرة 1/ 421.
(2) مسلم- الصحيح (2/ 657 (ح 951) .
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري 6/ 141 حديث 1245) ، ابن حجر- فتح الباري 6/ 228- 230، وانظر مسلم- الصحيح 2/ 657 واللفظ للبخاري.
(4) ابن إسحاق- السير والمغازي ص/ 171- 172، ابن سعد- الطبقات 3/ 9، ابن هشام- السيرة 1/ 360- 361، الهيثمي- مجمع الزوائد 9/ 267، الحاكم- المستدرك 3/ 193.
(5) أحمد- المسند 6/ 427، أبو داود- السنن 2/ 538، 569، النسائي- السنن 6/ 119.
(6) البخاري- الصحيح (فتح الباري 15/ 25 (حديث 3867) ، أحمد- فضائل الصحابة 1/ 278.
(7) ابن حجر- فتح الباري 7/ 183، ابن هشام- السيرة 1/ 342.
(8) ابن سعد- الطبقات 3/ 269- 70، ابن حجر- فتح الباري 7/ 178.(1/241)
قبل ذلك، وبأنها قد رأت منه رقة لم تكن تراها من قبل، قالت: «ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا» .
ويستفاد من الرواية أنها طمعت في إسلامه في حين أظهر زوجها اليأس من ذلك لما كان يرى من غلظته وقسوته على المسلمين قبل ذلك. أما القصة التي توردها بعض المرويات عن أن إسلام أخته وزوجها كان سببا في إسلامه فلم ترد عنها رواية بإسناد صحيح، وهي تتناقض مع ما رواه زوج أخته آنفا بشأن موقف عمر من إسلامهما.
وكذلك الحال مع قصة استماعه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يتلو القرآن في صلاته عند الكعبة المشرفة وعمر مستخف بأستارها «1» . ومع ذلك فإن الحافظ ابن حجر أشار إلى أن الباعث على دخوله في الإسلام ما سمع في بيت أخته فاطمة من القرآن الكريم «2» . ولا شك في أن ما يتجلى في الكتاب العزيز من البيان وروعة التصوير لمشاهد القيامة، ووصف الجنة والنار كان له أثر كبير في اجتذاب عمر إلى صفوف المسلمين، كما أن عدم ثبوت الروايات الحديثية هنا لا يعني حتمية عدم حصولها في التاريخ.
استجاب الله تعالى لدعوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم عمر، فأعز الله به الإسلام والمسلمين، وصلى المسلمون بالبيت العتيق دون أن يتعرض لهم المشركون، وهذا ما أشار إليه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود حين قال:
«لقد رأيتنا ما نستطيع أن نصلّي بالبيت العتيق حتى أسلم عمر» و «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر» ، «إن إسلامه كان نصرا» «3» ، وهو ما عناه حبر الأمة عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- حين خاطب عمر- رضي الله عنه- بعد حادثة طعنه، فقد قال له « ... فلما أسلمت كان إسلامك عزّا وأظهر الله بك الإسلام ورسول الله وأصحابه» «4» .
ولقد كانت ردّة فعل زعماء المشركين من قريش عنيفة عند سماعهم نبأ إسلام عمر- رضي الله عنه-. وكان عمر- رضي الله عنه- قد تعمد إبلاغهم جميعا عن طريق أكثر الرجال نقلا للأخبار في قريش وهو جميل بن معمر الجمحي، فما أن أعلمه عمر بإسلامه حتى قام يجر رداءه، وعمر خلفه، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: «يا معشر قريش- وهم في أنديتهم حول الكعبة- ألا إنّ عمر قد صبأ» ، وعمر خلفه يقول «كذب والله، ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلّا الله وأن محمدا عبده ورسوله» فثاروا حتى لقد سال بهم الوادي من كثرتهم يريدون قتله لولا أن أجاره العاص بن وائل السهمي «5» . وقد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سمّاه الفاروق أي الذي
__________
(1) أحمد- المسند 1/ 17- 18 بسند صحيح إلى شريح بن عبيد لكنه مرسل ضعيف لأن شريحا لم يدرك عمر الهيثمي- مجمع الزوائد 9/ 62. أما قصته مع أخته فقد أوردها ابن هشام- السيرة 1/ 425 وهي ترد دون إسناد وقد ضعّف الذهبي إسنادها في السيرة ص/ 179، ورواها ابن سعد- الطبقات 3/ 267- 9 بإسناد ضعيف، وأبو نعيم- دلائل النبوة 1/ 241 بإسناد ضعيف جدّا وفي سنده أبو فروة وهو متروك.
(2) ابن حجر- فتح الباري 7/ 176.
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 41، 137) ، ابن سعد- الطبقات 3/ 270، الطبراني- المعجم الكبير 9/ 181.
(4) الطبراني- المعجم الأوسط 1/ 334 بإسناد حسن.
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 177) ، ابن اسحاق- السيرة/ 184- 18 إ بإسناد حسن، وابن هشام- السيرة 1/ 298- 9 وقال ابن كثير «هذا إسناد جيد قوي» ، السيرة النبوية 2/ 38- 39.(1/242)
فرق بين الحق والباطل «1» .
المقاطعة ودخول المسلمين شعب أبي طالب:
ذكر البخاري في صحيحه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد حدد خيف بني كنانه للموضع الذي تقاسمت فيه قريش على الكفر، وتحالفت على مقاطعة بني هاشم «2» غير أنه لم تثبت رواية في تفاصيل حادثة مقاطعة قريش للمسلمين، وفي تفاصيل دخول المسلمين شعب أبي طالب، على الرغم من أن أصل الحادث ثابت «3» ، كما أن ذلك لا يعني عدم وقوع تفاصيل الحادث تاريخيّا «4» ، ولقد وردت الأخبار عن المقاطعة ودخول المسلمين الشعب في مراسيل عروة بن الزبير وتلاميذه الزهري وأبي الأسود «5» . أما عن تاريخ بداية الحصار، فإنه وقع بعد فشل قريش في استعادة المسلمين المهاجرين إلى الحبشة، فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كثروا وعزّوا بعد إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب- رضي الله عنهما-، وأن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا، وأن النجاشي قد منع المسلمين وأمّنهم، وأن الإسلام بدأ يفشو في القبائل؛ أهاجها الأمر واشتد بلاؤهم على المسلمين في مكة، وعزمت قريش على قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأجمع بنو عبد المطلب أمرهم على أن يدخلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شعبهم وأن يحموه، فدخلوا الشعب جميعا مسلمهم وكافرهم، ولم يشذ عن ذلك إلّا أبو لهب بن عبد المطلب فقد انحاز إلى كفار قريش وظاهرهم.
أجمع مشركو قريش أمرهم، وائتمروا بينهم على أن لا يجالسوا بني هاشم وبني المطلب، ولا يخالطوهم ولا يبيعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للقتل، وكتبوا في ذلك صحيفة «6» علقوها في جوف الكعبة المشرفة في هلال المحرم سنة سبع من المبعث، وجزم موسى بن عقبة «7» بأن المقاطعة استمرت ثلاث سنين، صمد خلالها المسلمون ومن شايعهم من بني هاشم والمطلب، واشتد عليهم البلاء والجهد والجوع، ولم يكن يأتيهم من الأقوات إلّا خفية «8» . وكان ممن يصلهم حكيم بن حزام، وهشام بن عمرو العامري، وزهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وزمعة بن الأسود، وأبو البحتري بن هشام بن الحارث، وكانت تربطهم ببني هاشم والمطلب صلات
__________
(1) ابن سعد- الطبقات 3/ 270 بأسانيد ضعيفة، ابن الجوزي- تاريخ عمر بن الخطاب ص/ 23، 30، 31، الذهبي السيرة ص/ 179.
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري) 7/ 192، 8/ 14، مسلم- الصحيح (بشرح النووي) 9/ 59.
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري) 7/ 193.
(4) أكرم العمري- السنة الصحيحة 1/ 181.
(5) أبو نعيم- دلائل 1/ 357- 362، البيهقي- دلائل النبوّة 2/ 311- 314، ابن عبد البر- الدرر ص/ 27- 30.
(6) ابن إسحاق- السير والمغازي ص/ 156- 167، ابن هشام- السيرة 1/ 430 بدون إسناد، نقله ابن حجر في فتح الباري وهي عند البيهقي- دلائل النبوة 2/ 311 موقوفة على الزهري، عروة بن الزبير- المغازي ص/ 114- 116 موقوفة على عروة، ونقلها أبو نعيم- الدلائل 1/ 272- 275، وانظر ابن سعد- الطبقات 1/ 208- 210.
(7) ابن حجر- فتح الباري 15/ 38، ابن سعد- الطبقات 1/ 208- 210، الذهبي- السيرة ص/ 221 بأسانيد ضعيفة.
(8) ابن سعد- الطبقات 1/ 208- 210.(1/243)
الأرحام. فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من قريش على ما حدث، وأجمعوا على نقض الصحيفة، وقد أعلمهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأنه لم يبق فيها سوى كلمات الشرك والظلم «1» . وهكذا انتهت المقاطعة، وكان خروج المسلمين من الشعب السنة العاشرة من المبعث «2» .
وعلى الرغم من المقاطعة، وما أصاب المسلمين من جرّائها من معاناة فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يتوقف عن الدعوة، فقد كان يخرج في الموسم يتلقى من يقدم إلى مكة للحج ويعرض عليهم الإسلام، كما كان يعرض ذلك على كل من يتصل به من مشركي قريش «3» .
وفاة أبي طالب وخديجة- رضي الله عنها-:
كانت مصيبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم كبيرة بوفاة عمه أبي طالب بن عبد المطلب، وزوجته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد- رضي الله عنها- في آخر السنة العاشرة من المبعث بعد أن غادر المسلمون شعب أبي طالب «4» . وكان أبو طالب «يحوط النبي صلّى الله عليه وسلّم ويغضب له» «5» . كما كان «ينصره» «6» . وكانت قريش تحترمه، وقد جاء زعماؤها حين حضرته الوفاة فحرضوه على التمسك بدينه، وعدم الدخول في الإسلام. وعرض عليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم الإسلام بإلحاح طالبا منه أن يتلفظ بالشهادتين ليشهد له بها يوم القيامة، وكان رد عمه عليه قوله: «لولا أن تعيّرني بها قريش يقولون إنما حمله عليها الجزع، لأقررت بها عينك» «7» ، فأنزل الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «8» .
أما ما نقله ابن إسحاق من أن العباس نظر إلى أبي طالب يحرك شفتيه، فقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم أسمع» ، فهو خبر لا يصح «9» .
لقد فقد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوفاة عمه سندا كبيرا، إذ لم يعد بنو هاشم مستعدين بعده لتقديم القدر نفسه من الحماية للرسول صلّى الله عليه وسلّم لما يصيبهم من أضرار مادية ونفسية، كما تبين من حادثة المقاطعة «10» .
__________
(1) ابن حجر- فتح الباري 7/ 192.
(2) عروة- المغازي ص/ 167، الذهبي- السيرة ص/ 224، ولم ترد تفصيلات هذه المقاطعة في الصحاح وأشار إليها الإمام البخاري بشكل مقتضب- فتح الباري 15/ 38 (حديث 3882) ، 7/ 242 (حديث 1589) ، (حديث 1590) .
(3) ابن هشام- السيرة 1/ 434.
(4) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 511، 547، 571، 572، 573، 574) .
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 193) .
(6) مسلم- الصحيح 1/ 195.
(7) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 506) ، مسلم- الصحيح (بشرح النووي 1/ 213- 216) .
(8) القرآن الكريم- سورة القصص، الآية/ 56، وانظر البخاري- الصحيح (فتح الباري 1/ 592) ، مسلم- الصحيح (بشرح النووي 3/ 84- 85) .
(9) ابن هشام- السيرة 1/ 417 وانظر فتح الباري 7/ 194.
(10) العمري- السنة الصحيحة 1/ 184.(1/244)
أما خديجة بنت خويلد- رضي الله عنها- فقد توفيت قبل الهجرة النبوية إلى المدينة بثلاث سنين في عام وفاة أبي طالب نفسه «1» . وكانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام يسكن النبي صلّى الله عليه وسلّم إليها عند الشدائد «2» وقد وردت آثار كثيرة تدل على فضائلها ومكانتها عند الله ورسوله «3» .
ونظرا لتوالي مثل هذه الآلام في هذا العام فقد سمّاه بعض المؤرخين «عام الحزن» «4» ، ولم يرو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سمّاه بهذا الاسم «5» .
رحلة الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى الطائف:
اشتدت مقاومة قريش للدعوة الإسلامية، ونالت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب. فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الطائف وحده- من أجل إيجاد مركز جديد للدعوة- يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه. ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله- عز وجل-. ولكن ثقيفا لم تستجب له، وأغرى زعماؤها وأشرافها صبيانهم وعبيدهم وسفهاءهم، يسبّونه ويصيحون به، واجتمع عليه الناس ورشقوه بالحجارة وألجئوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حبلة من عنب، فجلس فيه «6» . وذكرت كتب السيرة أنه صلّى الله عليه وسلّم، لما اطمأن، توجه إلى ربه بالشكوى: «اللهمّ إليك أشكو ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي وهواني على النّاس، يا أرحم الرّاحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهّمني؟ أم إلى عدو ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الّذي أشرقت له الظّلمات، وصلح عليه أمر الدّنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتّى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلّا بك» «7» .
وفي طريق عودته من الطائف، وعند حائط ابني ربيعة، التقى بعداس النصراني فأسلم «8» .
وقد ورد في الصحيحين ما يكفى من الدلائل لإثبات رحلته صلّى الله عليه وسلّم إلى الطائف، وأن ما لقيه كان شديدا عليه، وما عرضه عليه الله تعالى من عقوبتهم، ورحمته بهم ورغبته في استبقائهم في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «.. بل أرجو أن يخرج
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 224) .
(2) ابن إسحاق- السيرة ص/ 243، ابن هشام- السيرة 2/ 66.
(3) ابن إسحاق- السيرة ص/ 243- 244، أحمد- فضائل 2/ 850- 856.
(4) المباركفوري- الرحيق المختوم ص/ 133.
(5) الألباني- دفاع عن الحديث النبوي والسيرة ص/ 8.
(6) ابن هشام- السيرة 2/ 70- 72، ابن سعد- الطبقات 1/ 211- 21.
(7) ابن هشام- السيرة (2/ 70- 72) وإسناده حسن مرسل ورواه ابن سعد في الطبقات (1/ 211- 212) مختصرا وفي إسناده الواقدي، ورواه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 414- 417) عن طريق موسى بن عقبة عن الزهري، ورواه الإمام أحمد في المسند (4/ 335) كما ذكره السيوطي في الجامع الصغير، وعزاه للطبراني وحسّنه.
(8) أرّخ الواقدي الرحلة في شوال سنة عشر من المبعث بعد وفاة أبي طالب وخديجة- رضي الله عنها- وذكر أن مدة إقامته بالطائف عشرة أيام، ابن سعد- الطبقات 1/ 121.(1/245)
الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا» «1» .
إسلام نفر من الجن في وادي نخلة:
وفي طريق عودته من الطائف، أقام الرسول صلّى الله عليه وسلّم أياما في وادي نخلة القريب من مكة- وخلال فترة إقامته هذه بعث الله إليه نفرا من الجن استمعوا إلى القرآن الكريم، وأسلموا وعادوا إلى قومهم منذرين ومبشرين كما ذكر الله تعالى في كتابه العزيز: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ* قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ* يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ «2» .
ودخل النبي صلّى الله عليه وسلّم مكة عند عودته من الطائف في جوار المطعم بن عدي، الذي تهيأ هو وبنوه لحماية الرسول صلّى الله عليه وسلّم «3» ، وذلك ما أشار إليه حسّان بن ثابت عند رثائه مطعم في قصيدته التي مطلعها:
أجرت رسول منهم فأصبحوا ... عبيدك ما لبّى مهلّ وأحرما
فلو سئلت عنه معدّ بأسرها ... وقحطان أو باقي بقيّة جرهما
لقالوا هو الموفي بخفرة جاره ... وذمّته يوما إذا ما تذمما «4» .
الإسراء والمعراج:
لقد كان لفقد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لعمه وزوجته، وما قاساه بعدهما من اشتداد أذى قريش وما أسفرت عنه محاولته إلى الطائف من مشاق ونتائج أليمة، ثم ما لقيه من قريش عند عودته إلى مكة من عنت وصلف بدت آثارها على النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد رأينا كيف أنه توجه إلى الله تعالى شاكيا همومه ومعاناته، ملتمسا النصر، مجددا العزم على المضي قدما في تحمل مسئوليته في نشر الدعوة، مستهينا بكل الصعاب مادام الله راضيا عنه.
وقعت حادثة الإسراء والمعراج بعد هذه الغمرة من المآسي والأحزان والشدائد المتلاحقة، فكان ذلك تسرية عن نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم ومواساة له وتكريما وتثبيتا. وقد وقع ذلك في السنة العاشرة من المبعث، بعد وفاة عمه أبي طالب، وقبل هجرته إلى المدينة بأكثر قليلا من السنة «5» .
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 6/ 312- 313) ، مسلم- الصحيح 3/ 1420.
(2) القرآن الكريم- سورة الأحقاف، الآيات/ 29- 31، وانظر البخاري- الصحيح (فتح الباري 18/ 314 حديث 4921) ، مسلم- الصحيح 1/ 331 (حديث 449) ، وانظر البيهقي- دلائل (255/ 6- 233) ، أبو نعيم- دلائل 2/ 363- 366، ابن حجر- فتح الباري 18/ 315، ابن هشام- السيرة 2/ 73، ابن سعد- الطبقات 1/ 211- 212، الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 35.
(3) ابن هشام- السيرة 2/ 24، ابن كثير- البداية والنهاية 3/ 151، وانظر ابن سعد- الطبقات 1/ 212.
(4) ابن هشام- السيرة 2/ 23- 24، وانظر ابن حجر- فتح الباري 15/ 194 وقد حفظ النبي صلّى الله عليه وسلّم لمطعم بن عدي صنيعه هذا وما سبق من صنيعه في نقض صحيفة المقاطعة وأشاد به، انظر البخاري- الصحيح (فتح الباري 12/ 226- 227، حديث 3139) ، وأخرجه أبو داود في السنن (3/ 61 حديث 3689) .
(5) البيهقي- دلائل النبوة 2/ 354، الذهبي- تاريخ الإسلام 1/ 141، ابن كثير- البداية والنهاية 3/ 107، وانظر: البخاري- الصحيح (فتح الباري 3/ 492، 6/ 374، 7/ 196) ، مسلم- الصحيح 1/ 148.(1/246)
إن الإسراء والمعراج حادثتان متلازمتان ومترادفتان وهما ثابتتان بنص القرآن الكريم «1» ، والسنة النبوية الصحيحة «2» . فلقد نص الكتاب العزيز على أن معجزة الإسراء قد تمت ليلا حين تم انتقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في القدس الشريف بأرض فلسطين: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «3» .
أما المعراج، فهو الانتقال بالرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى السماوات، لتصل به إلى سدرة المنتهى وليطلّع بحواسه ودون شك على آيات الله الكبرى، قال الله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى * ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى * لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «4» .
ولقد صحت الروايات عن قيام الملك جبريل- عليه السلام- بشق صدر الرسول صلّى الله عليه وسلّم ثانية في هذه المناسبة، وغسله لقلبه صلّى الله عليه وسلّم بماء زمزم، وإفراغه الحكمة والإيمان في صدره «5» . ففي الصحيحين عن أنس- رضي الله عنه- قال: كان أبو ذر تحدّث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «فرج سقف بيتي وأنا بمكّة، فنزل جبريل، ففرج صدري، ثمّ غسله بماء زمزم، ثمّ جاء بطست من ذهب ممتليء حكمة وإيمانا فأفرغه في صدري ثمّ أطبقه، ثمّ أخذ بيدي فعرج بي إلى السّماء الدّنيا ... » «6» مما يؤكد أن هذه العملية قد تمت في ليلة الإسراء وأن ذلك كان إعدادا له لتحمل الرحلة، وهى تظهر في عدم تأثر جسمه صلّى الله عليه وسلّم بشق الصدر وإخراج القلب وغسله، مما يشير إلى تأمينه من جميع المخاطر. إن هذه الأمور الخارقة لقوانين الحياة البشرية والعادة وما جرى التعارف عليه هى أمور وقعت، ويجب التسليم بها وعدم صرفها عن حقيقتها الثابتة، وهي إنفاذ لإرادة الله تعالى وقدرته التي لا يستحيل عليها شيء «7» .
وبعد الانتهاء من شق الصدر وغسله ولأمه أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس، وهو راكب ظهر البراق «8» . فقد ذكر أنس قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أتيت بالبراق، وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الإسراء، الآية/ 1.
(2) البخاري- الصحيح (فتح 1/ 458، 3/ 492، 6/ 374، مسلم- الصحيح 1/ 148) .
(3) القرآن الكريم- سورة الإسراء، الآية/ 1.
(4) القرآن الكريم- سورة النجم، الآيات/ 13- 18.
(5) البخاري- الصحيح- كتاب الصلاة، الباب الأول (الفتح 1/ 458) ، كتاب الحج، باب ما جاء في زمزم، (الفتح 3/ 492) ، كتاب الأنبياء، الباب الخامس: ذكر إدريس عليه السلام (الفتح 6/ 374) ، مسلم- الصحيح باب الإسراء 1/ 148.
(6) البخاري- الصحيح (فتح الباري 1/ 458، 3/ 492، 6/ 374) ، مسلم- الصحيح (1/ 148) ووردت روايات أخرى صحيحة تفيد أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان نائما في الحجر، في المسجد الحرام حين شق صدره وغسل قلبه، ويمكن الجمع بين الروايات بأنه كان في بيته ثم جاء به جبريل- عليه السلام- إلى المسجد الحرام لإتمام الإستعدادات للرحلة ثم الإنطلاق من باب المسجد الحرام، (مسلم الصحيح 1/ 150) وانظر أيضا: البخاري- الصحيح (فتح الباري 6/ 302، 7/ 210، 13/ 478) .
(7) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 205) .
(8) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 201- 202) .(1/247)
عند منتهى طرفه، فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس ... » «1» .
وفي بيت المقدس صلّى الرسول صلّى الله عليه وسلّم ببعض الأنبياء، ووصف هيئاتهم «2» ، ثم عرج إلى السماء السابعة مارّا بما قبلها من السماوات حيث التقى بالأنبياء آدم، ويوسف وإدريس وعيسى ويحيى وهارون وموسى وإبراهيم- عليهم السلام-. وقد رأى خلال هذه الرحلة السماوية الفريدة الجنة ونعيمها ووصف أنهارها وخاصة الكوثر «3» ، كما رأى النار ومن يعذب فيها «4» وسمع صريف أقلام الملائكة الكاتبين «5» ، ورأى البيت المعمور في السماء السابعة وما يدخله من الملائكة «6» ، كما وصف سدرة المنتهى «7» ، ووصف جبريل- عليه السلام- «8» الذي قدم له خمرا ولبنا فاختار اللبن، فقال جبريل هي الفطرة «9» . وفرضت عليه وعلى أمته خمسون صلاة في اليوم والليلة ثم خفضت إلى خمس صلوات «10» ، قبل أن ينزل ثانية إلى بيت المقدس ليعود منه إلى مكة «11» . وفي حين كان البراق هو الوسيلة التي تمت بواسطتها رحلة الإسراء إلى المسجد الأقصى، فإن «المعراج» لم توضح الروايات الصحيحة ماهيته حيث استعملت صيغة (عرج بي) فلم توضح الوسيلة، في حين أوردت بعض الروايات «نصب المعراج» أو «أتي بالمعراج» «12» وفي بعضها «نصب لي المعراج» «13» . وينقل ابن إسحاق الحديث الذي أورده أبو سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم والذي ورد فيه قوله: «لما فرغت مما كان في بيت المقدس، أتي بالمعراج، ولم أر شيئا قطّ أحسن منه، وهو الذي يمدّ إليه ميّتكم عينيه إذا حضر، فأصعدني صاحبي فيه حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء..» «14» ، وهكذا فلم يكن الصعود إلى السماء قد حصل على البراق كما توهم البعض. ولقد وردت قصة الإسراء والمعراج مفصلة طويلة في كتب المغازي والسيرة والتاريخ وفيها طرق ضعيفة في الأسانيد، متونها تشبه أخبار القصاصين والإخباريين «15» .
__________
(1) رواه أحمد- الفتح الرباني (20/ 251- 2) ، وإسناده صحيح، وانظر: البخاري- صحيح (فتح الباري 9/ 176 حديث 5576) ، مسلم- الصحيح (1/ 145 حديث 162) .
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري 6/ 477) ، مسلم- الصحيح (1/ 151- 157) .
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 201- 202، 8/ 731) .
(4) أحمد- المسند 3/ 224، ابو داود- السنن 5/ 194.
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري 1/ 458، 3/ 492، 6/ 347) .
(6) مسلم- الصحيح 1/ 146.
(7) أحمد- المسند 3/ 128 بإسناد صحيح.
(8) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 610- 11) ، مسلم- الصحيح 1/ 158- 160.
(9) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 210- 202، 8/ 391 مسلم- الصحيح 1/ 145، 5/ 150- 151.
(10) البخاري- الصحيح (فتح الباري 6/ 374، 7/ 201.
(11) ابن هشام- السيرة 1/ 402 برواية ابن إسحاق عن أم هانيء هند بنت أبي طالب وإسناده ضعيف وأخرجه البيهقي في الدلائل (2/ 355- 57) من رواية الترمذي بإسناده إلى شداد بن أوس وقال البيهقي: هذا إسناد صحيح.
(12) ابن هشام- السيرة 1/ 403.
(13) ابن كثير- البداية والنهاية 3/ 122.
(14) ابن هشام- السيرة النبوية 1/ 403.
(15) مثال ذلك: ما أورده ابن هشام في السيرة 1/ 396- 108، الطبري- تفسير 15/ 6- 14، الحاكم- المستدرك 2/ 571 وانظر عن ذلك: ابن كثير- التفسير 3/ 21، الذهبي- السيرة ص/ 182.(1/248)
أعلن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما حصل له في تلك الليلة المباركة وكان مشفقا أن يكذّبه قومه، وقد صدّقه المؤمنون وكذّبه المشركون. يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد رأيتني في الحجر، وقريش تسألني عن مسراي فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثلها قط. قال: «فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلّا نبّأتهم به» «1» . ولقد افتتن المشركون بأخبار الإسراء، فمن بين مصفق، وبين واضع يده على رأسه متعجبا، فقد استنكروا أن يذهب الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى الشام ثم يعود في ليلة واحدة في الوقت الذي يقتضيهم ذلك فترة شهرين. ورغم ذلك فقد اضطروا للاعتراف بصحة وصفه لمسجد بيت المقدس «2» . وقد صح أن بعض المسلمين قد ارتدّوا «3» ، ذلك أنهم كانوا ضعفاء الإيمان فزلزل الحادث إيمانهم، فكفروا ولم يعودوا إلى حظيرة الإيمان حتى قتلوا «4» .
أما أبو بكر الصدّيق- رضي الله عنه- فعندما أخبره بخبر الإسراء والمعراج صدقه دون تردد، قائلا للمشركين: «لئن قال ذلك لقد صدق. فتعجّبوا وقالوا: أو تصدّقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ فقال: وما يعجّبكم من ذلك! فو الله إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوه أو رواحه. ثم أقبل على النبي صلّى الله عليه وسلّم يسأله عن وصفه، وكلما ذكر شيئا قال صدقت. أشهد أنك رسول الله. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وأنت يا أبا بكر «الصدّيق» «5» ، فيومئذ سماه «الصديق» .
لقد تأول بعض العلماء حادث الإسراء والمعراج فزعموا أنها رؤيا منامية، وذهب بعضهم إلى القول بأنها حصلت بالروح دون الجسد «6» ، وقد ثبت عن طريق ابن عباس- رضي الله عنهما- أنها كانت «رؤيا عين بالروح والجسد يقظة لا بالمنام» وهذا هو رأي جمهور العلماء «7» .
أسرى بك الله ليلا إذ ملائكه ... والرسل في المسجد الأقصى على قدم
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 8/ 391 حديث 4710) ، مسلم- الصحيح (1/ 156- 157 حديث 170) ، أحمد- الفتح الرباني 20/ 262 من حديث عبد الله بن عباس بإسناد صحيح.
(2) أحمد- المسند 1/ 309 بإسناد صحيح، وقد صححه السيوطي في الدر المنثور 4/ 155، والهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 64- 65.
(3) ابن هشام- السيرة النبوية 2/ 45، الحاكم- المستدرك 3/ 62- 63، وصححه ووافقه الذهبي.
(4) أحمد- المسند 1/ 349 بإسناد صحيح، ابن كثير- التفسير 3/ 15 وفي إسناده هلال بن خبّاب صدوق.
(5) الحاكم- المستدرك 3/ 62- 63، 76- 77، وفي إسناده محمد بن كثير الصنعاني صدوق كثير الغلط (التقريب ص/ 504) .
(6) الخفاجي- نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض 2/ 265.
(7) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 202، وانظر نفي سفيان بن عيينة أن تكون رؤيا منام عن تفسير الطبري 15/ 110، ويقول ابن حجر: إن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسد النبي صلّى الله عليه وسلّم وروحه بعد البعث، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك، إذ ليس في العقل ما يحيله حتى يحتاج إلى تأويل» (فتح الباري (15/ 44) ، وانظر ابن القيّم- زاد المعاد 1/ 99، 3/ 34، 40 حيث نص إلى أن الإسراء والمعراج كانا في ليلة واحدة.(1/249)
لما خطرت به التفّوا بسيّدهم ... كالشّهب بالبدر أو كالجند بالعلم
صلى وراءك منهم كلّ ذي خطر ... ومن يفز بحبيب الله يأتمم
جبت السماوات أو ما فوقهن بهم ... على منوّرة درّية اللّجم
ركوبة لك من عزّ ومن شرف ... لا في الجياد، ولا في الأينق الرسم
مشيئة الخالق الباري، وصنعته ... وقدرة الله فوق الشك والتّهم
حتى بلغت سماء لا يطار لها ... على جناح، ولا يسعى على قدم
كفاية الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أمر المستهزئين:
أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الإسراء والمعراج على أمر الله تعالى صابرا محتسبا، مؤديا إلى قومه النصيحة على ما يلقى منهم من التعذيب والأذى والاستهزاء، «وكان عظماء المستهزئين خمسة نفر وكانوا ذوى شرف في قومهم» ، وأورد ابن إسحاق رواية عن يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير ذكر فيها أسماءهم وهم: الأسود بن المطلب بن أسد من بني أسد، والأسود بن عبد يغوث من بني زهرة، والوليد بن المغيرة من بني مخزوم، والعاص بن وائل بن هشام من بني سهم، والحارث بن الطلاطلة من بني خزاعة. «1» فلما تمادوا في الشر، وأكثروا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم الإستهزاء أنزل الله تعالى قوله فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ* الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ* وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ* وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ «2» .
__________
(1) ابن هشام- السيرة 1/ 408- 10.
(2) القرآن الكريم- سورة الحجر، الآيات/ 94- 99.(1/250)
عرض الرسول صلّى الله عليه وسلّم نفسه على القبائل:
حرص الرسول صلّى الله عليه وسلّم على الاجتماع بالناس وتبليغهم دعوة الإسلام، وكان يتحرى مواضع اجتماع القبائل وخاصة في موسم الحج وفترات عقد أسواق العرب، حيث كان يلتقي بذوي الشأن من رؤساء القبائل وغيرهم، وكان يطالب الرؤساء بحمايته دون أن يكره أحدا على قبول دعوته «1» . وقد نقل الإمام أحمد رواية ربيعة بن عباد الدؤلي، وكان من شهود العيان الذين رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مواسم الأسواق وهو يباشر الدعوة قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذى المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله- عز وجل-، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: لا يخرجنكم هذا من دينكم ودين آبائكم» «2» .
وكان عليه الصلاة والسلام قد عرض نفسه على كندة «3» وبني كلب «4» وبني حنيفة، وكان ردهم قبيحا «5» ، كما عرض نفسه على بني عامر بن صعصعة «6» ، ومحارب، وفزارة، وغسان، ومرّة، وسليم، وعبس، وبني النضر، وبني البكاء، وعذرة، وربيعة، وبني شيبان، والحضارمة «7» .
وكان مما يقوله صلّى الله عليه وسلّم في المواسم: «هل من رجل يحملني إلى قومه ف إنّ قريشا منعوني أن أبلّغ كلام ربّي عزّ وجلّ» «8» .
وخاطب صلّى الله عليه وسلّم الناس في سوق ذى المجاز بقوله: «أيّها النّاس قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا» وكان الناس يزدحمون عليه غير أنهم لم يتجاوبوا مع دعوته، ومع ذلك فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يواصل الدعوة فلا يسكت، بل يكرر مقولته «9» .
وحين يعرض صلّى الله عليه وسلّم نفسه على القبائل كان يقول: «يا بني فلان، إنّي رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه، وأن تؤمنوا بي وتصدّقوني وتمنعوني حتّى أبيّن عن الله ما بعثني به..» «10» .
__________
(1) عروة- المغازي ص/ 117، البيهقي- الدلائل 2/ 414.
(2) أحمد- المسند 3/ 492، الطبراني- المعجم الكبير 5/ 56، الحاكم- المستدرك 1/ 15.
(3) ابن هشام- السيرة 2/ 75، ابن إسحاق- السيرة/ 232.
(4) المرجع السابق 2/ 75، والحديث في إسناده ضعف.
(5) المرجع السابق 2/ 75- 76 ولم يسمّ من حدثه.
(6) المرجع السابق 2/ 76 مرسلا.
(7) ابن سعد- الطبقات 1/ 216- 217 من حديث الواقدي.
(8) أحمد- المسند 3/ 390 بإسناد صحيح، أبو داود- السنن (حديث 4734) ، ابن ماجه- السنن ص/ 73 (حديث 201) ، وانظر أحمد- الفتح 20/ 267 من حديث جابر، الذهبي- السيرة ص/ 282 وهو على شرط البخاري.
(9) أحمد- المسند 4/ 63 بإسناد صحيح.
(10) المرجع السابق 3/ 492، 4/ 341، الطبراني- الكبير 5/ 56- 63 (الأحاديث 4583- 90) .(1/251)
اتّصال الرسول صلّى الله عليه وسلّم برهط من الأوس والخزرج ودعوتهم:
مكث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتبع الناس في منازلهم وأسواقهم بعكاظ ومجنّة، وفي مواسم الحج في منى، «حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمشي بين رجالهم وهم يشيرون عليه بالأصابع «1» .
ولقد كان أهل يثرب من الأوس والخزرج أكثر الناس تجاوبا مع دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم عندما عرض عليهم الإسلام «2» . وكانت الاتصالات الأولى بالأنصار قد تمّت في مواسم الحج والعمرة، وقد عرض الرسول صلّى الله عليه وسلّم الإسلام على سويد بن الصامت، غير أنه لم يعلن إسلامه، كما أنه لم يبعد عنه، وقد استحسن ما سمع من القرآن، ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج في حرب «بعاث» ، وكان رجال من قومه يقولون إنه مات مسلما «3» .
ويذكر جابر بن عبد الله الأنصاري مجيء أعداد من الأوس والخزرج إلى الحج، وعلاقتهم بالرسول صلّى الله عليه وسلّم فيقول «فأويناه وصدقناه فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلّا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام» «4» .
وكانت الأوس قد سعوا لمحالفة قريش على الخزرج الذين كانوا أكثر منهم عددا، فقدم أبو الحيسر أنس بن رافع في وفد من بني عبد الأشهل لهذا الغرض، فسمع بهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم فجاءهم ودعاهم إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن فقال أحدهم، وهو إياس بن معاذ: «أي قوم! هذا والله خير مما جئتم له، فانتهره أبو الحيسر فصمت، وقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهم، ورجعوا إلى المدينة، وجرت الحرب بين الأوس والخزرج «يوم بعاث» ، ثم مات إياس بن معاذ، وكان قومه يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبّحه حتى مات، فما كانوا يشكّون أنه مات مسلما، فقد استشعر الإسلام في لقائه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك المجلس «5» .
ومع أن هذين الرجلين من الأوس كانا قد استشعرا الإسلام، فإن المصادر لم تذكر قيامهما بالدعوة في وسط قومهما، فإن البداية المثمرة للاتصال بالأنصار كانت مع وفد الخزرج في موسم الحج عند عقبة منى، الذين التقاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وجلس معهم وكلمهم ودعاهم إلى الله- عز وجل-، وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. وقد ذكر ابن إسحاق إسلامهم وقيامهم بالدعوة في المدينة «6» .
__________
(1) أحمد- المسند 3/ 322، 339- 340 وإسناده حسن.
(2) ابن هشام- السيرة النبوية 2/ 77- 79 بإسناد حسن، وقال ابن حجر في الإصابة 1/ 146 بإنه من صحيح الحديث.
(3) المرجع السابق 2/ 34.
(4) أحمد- المسند 3/ 339- 340.
(5) ابن هشام- السيرة 2/ 36- 37 بإسناد حسن.
(6) المرجع السابق 2/ 37- 39 بإسناد حسن.(1/252)
بيعة العقبة الأولى:
وفي السنة التالية للقاء النبي صلّى الله عليه وسلّم مع وفد الخزرج جرت بيعة العقبة الأولي، فقد حضر اثنا عشر رجلا عشرة منهم من الخزرج واثنان من الأوس، مما يشير إلى أن نشاط الرجال الذين أسلموا من الخزرج في السنة السابقة قد تركز ضمن قبيلتهم بشكل رئيسي، وإن كانوا قد تمكنوا من اجتذاب رجال من الأوس، وكان ذلك بداية ائتلاف القبيلتين تحت راية الإسلام. وكان الصحابي الجليل عبادة بن الصامت قد شارك في بيعة العقبة الأولي لذلك فإنه من مصادر المعلومات الأساسية والدقيقة عنها، وقد وردت روايته عن البيعة في الصحيحين، كما أوردها ابن إسحاق في السيرة بشكل أوضح وأكمل. قال عبادة بن الصامت: «كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض علينا الحرب: على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف.
فإن وفّيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا، فأمركم إلى الله عز وجل، إن شاء عذّب وإن شاء غفر» «1» .
وبعد أن تمّت البيعة، وأراد المبايعون العودة إلى يثرب، بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معهم الصحابي مصعب بن عمير ليقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين «2» ، وقد أسلم خلق كثير من الأنصار على يده بعون من الصحابي أسعد بن زرارة «3» ، وعندما بلغ عدد المسلمين الأربعين أمهم مصعب، ثم كتب إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يصلي الجمعة بهم «4» .
وقبل حلول موسم الحج للسنة الثالثة عشرة من المبعث، عاد مصعب بن عمير إلى مكة ليطلع النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما أصابه من نجاح وتوفيق من الله سبحانه وتعالى في مهمته.
بيعة العقبة الثانية:
وفي العام التالي قدم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم من مسلمي الأوس والخزرج ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان، فبايعوه بيعة العقبة الثانية وهي أن يمنعوه- إذا قدم عليهم- مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأنفسهم. وهذه البيعة هي نقطة التحول الكبرى في تاريخ الدعوة حيث أصبح للإسلام دار يمكن أن يتخذ منها قاعدة للانتشار وهو ما حصل بالفعل، فأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة «5» .
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 1/ 66) ، مسلم- الصحيح 3/ 1333، وما أثبتناه من سيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم لابن هشام 2/ 433- 434 عن ابن إسحاق بإسناد صحيح لغيره والنص ورد في الصحيحين قريبا من نص ابن هشام وقد ورد حديث عبادة كذلك في النسائي- السنن (كتاب البيعة على الجهاد 7/ 141- 142، الإمام أحمد- المسند 5/ 313، وابن سعد- الطبقات 1/ 219- 220 والمقصود ببيعة النساء المذكورة في النص ما نصت عليه الآية (12) من سورة الممتحنة التي كانت قد نزلت فيما بعد.
(2) ابن هشام- السيرة 1/ 438.
(3) ابن حجر- فتح الباري 15/ 75، ابن كثير- البداية 3/ 166.
(4) ابن هشام السيرة 1/ 438.
(5) ابن حجر- فتح الباري: 7/ 261- 262، ابن هشام- السيرة 2/ 277- 284، أحمد- المسند 3/ 322- 323، ابن القيم: زاد المعاد 1/ 100- 101.(1/253)
يحدثنا الصحابي الجليل كعب بن مالك الأنصاري عن تفاصيل بيعة العقبة الثانية فيقول: «خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعقبة من أوسط أيام التشريق. فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، نتسلل تسلل القطا مستخفين. حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا. فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلّا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له: فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج- قال: وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار: الخزرج، خزرجها وأوسها-: إن محمدا منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلّا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلّموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده. قال: فقلنا له لقد سمعنا ما قلت،:
فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. قال: فتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله ورغب في الإسلام ثم قال: «أبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» قال: فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبيّا لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر. قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أبو الهيثم بن التّيهان، فقال:
يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا، وإنا قاطعوها- يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «بل الدّم الدّم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم منّي، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم» . قال كعب: وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا، ليكونوا على قومهم بما فيهم. فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس» «1» .
وبعد هذه البيعة، قام العباس بن عبادة بن نضلة فقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلنّ على أهل منى غدا بأسيافنا «2» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم» فرجعوا إلى رحالهم.
وفي صباح اليوم التالي جاءهم جمع من كبار رجال قريش يسألونهم عما بلغهم من بيعتهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم ودعوتهم له بالهجرة، فحلف المشركون من الخزرج والأوس بأنهم لم يفعلوا ذلك، والمسلمون ينظرون إلى بعضهم «3» وبذلك مرت هذه الأزمة بسلام، وعاد الأنصار إلى يثرب وهم ينتظرون هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين بلهف كبير.
__________
(1) ابن هشام- السيرة، 1/ 278- 9، وانظر البخاري- الصحيح (فتح 8/ 57 (حديث 7056) ، مسلم- الصحيح/ 31470 (حديث 1709) ، أحمد- الفتح الرباني 20/ 270، الحاكم- المستدرك 2/ 624- 5، ابن كثير- البداية 3/ 175.
(2) ابن هشام- السيرة 2/ 101- 102.
(3) المرجع السابق 1/ 439- 43، 447- 8 بإسناد حسن، وقد صححه ابن حبان، انظر: فتح الباري 7/ 221، وأورد ابن هشام رواية عن تثبت قريش من صحة الخبر وإدراكهم بأنهم قد خدعوا، وخروجهم في طلب القوم، وإدراكهم سعد بن عبادة وعودتهم به إلى مكة مغلولا وهم يعذبونه حتى أنقذه الله منهم بجوار جبير بن مطعم والحارث بن حرب له (السيرة 2/ 103- 104) .(1/254)
الهجرة إلى يثرب:
لم يكن اختيار يثرب دارا للهجرة مما اقتضته ظروف الدعوة فقط، وإنما كان ذلك بوحي من الله سبحانه وتعالى وقد وردت أحاديث صحيحة تؤكد ذلك، منها قوله صلّى الله عليه وسلّم للمسلمين في مكة، كما ورد في حديث عائشة- رضي الله عنها-: «إنّي أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين- وهما الحرّتان-» «1» . وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت في المنام أنّي أهاجر من مكّة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنّها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب» «2» .
ولا شك في أن الابتلاء والاضطهاد كانا من أسباب الهجرة «3» ، كما أن توفير ملاذ آمن للدعوة يهيىء لها المناخ الملائم للعمل الإيجابي كان من أسبابها المهمة، ويتضح ذلك بشكل بارز من نصوص بيعة العقبة الثانية «4» التي بيّنت أن تكذيب قريش للرسول كان وراء الانتقال عن مكة «5» ، فقد «كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله تعالى وإلى رسوله مخافة أن يفتن ... » «6» . وبعبارة أخرى فقد كانت قريش تضطهد من يتّبع الرسول صلّى الله عليه وسلّم من أهل مكة «حتى فتنوهم عن دينهم، ونفوهم من بلادهم، فهم بين مفتون في دينه، وبين معذب في أيديهم، وبين هارب في البلاد فرارا منهم..» «7» . وذكر ابن إسحاق بأنه قد أذن للمسلمين بعد الهجرة بقتال من بغى عليهم «8» ، وقد أكّد ذلك حبر الأمة عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- فقال: «كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقول لهم: «اصبروا فإنى لم أومر بالقتال» حتى هاجر صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله هذه الآية «9» أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.. الآيات، وهي أول آية أنزلت في القتال «10» .
أول المهاجرين:
كان مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم أول من هاجر إلى المدينة وكانا يقرئان الناس القرآن كما صرح بذلك الإمام البخاري «11» . في حين وردت روايات أخرى تفيد بأن أول من هاجر هو أبو سلمة بن عبد الأسد وذلك بعد أن آذته قريش على أثر رجوعه من هجرته إلى الحبشة فتوجه إلى يثرب قبل بيعة العقبة بسنة واحدة «12» ، على أنه يمكن الجمع بين الخبرين بحمل الأولوية في حالة مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم على أنها بعد
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 231) ، واللابتان هما: الحرتان، الصحيح (فتح 7/ 234) .
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 226) ، مسلم الصحيح 4/ 1779.
(3) البخاري- الصحيح (فتح الحديث 1889) .
(4) ابن هشام- السيرة النبوية 2/ 121.
(5) البخاري- فتح الباري (حديث 3901) ، ابن هشام- السيرة 2/ 121.
(6) البخاري- فتح الباري (حديث 3900) .
(7) ابن هشام- السيرة النبوية 2/ 121.
(8) المرجع السابق 2/ 121.
(9) القرآن الكريم، سورة الحج، الآيات 39- 41.
(10) أحمد بن حنبل- المسند 1/ 262 (حديث 18065) ، ابن الجوزي- زاد المسير 5/ 436، ابن كثير- التفسير 5/ 430.
(11) البخاري- الصحيح (فتح الباري، الأحاديث 3924، 3925) ، وانظر الفتح 7/ 260 من حديث البراء بن عازب.
(12) ابن سعد- الطبقات 1/ 226، ابن هشام- السيرة 2/ 122، الذهبي- السيرة ص/ 313 بإسناد مرسل رواه الزهري.(1/255)
الإذن بالهجرة، وبنيّة الإقامة بها، وليعلّما من أسلم من أهلها، وذلك بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، في حين كان خروج أبو سلمة من مكة فرارا بدينه وليس بقصد الهجرة إلى المدينة للاستقرار بها «1» .
وقد ذكرت المصادر المعتمدة الكثير من المعلومات عن أساليب قريش في محاولتها عرقلة هجرة المسلمين إلى يثرب، وإثارتها للمشاكل في وجه المهاجرين من الإرهاب، وحجز الزوجات والأطفال، وسلب الأموال، أو الاحتيال لإعادة من هاجر منهم، غير أن ذلك لم يعرقل موكب الهجرة، فقد كان المهاجرون على استعداد تام للانخلاع عن الدنيا ومباهجها في سبيل الفرار بدينهم. والمصادر الموثقة تحكي قصص البطولة والفداء في هذا المجال، فقد ذكرت أم المؤمنين أم سلمة- رضي الله عنها- قصة هجرتها مع زوجها الأول، وكيف أن قريشا انتزعتها وطفلها من زوجها. وكيف أن رحلة العذاب قد استمرت قرابة السنة قبل أن يتاح لها أن تسترجع ابنها وأن تلحق بزوجها، وتعكس القصّة، إلى جانب الإيمان العميق والمعاناة في سبيل العقيدة، إحدى صور المروءة التي عرفها المجتمع العربي قبل الإسلام حين تطوع عثمان بن طلحة بمصاحبة أم سلمة وطفلها والإحسان في معاملتهما بشرف وكرامة وحياء إلى أن أوصلها مشارف يثرب واطمأن على سلامتهما قبل أن يعود إلى مكة «2» .
أما صهيب الرومي فقد منعه زعماء قريش من الهجرة بحجة أنه كان قد أتى إلى مكة فقيرا، فقالوا له: «كثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك أبدا» وحين عرض صهيب عليهم أن يجعل لهم المال في مقابل أن يخلّوا سبيله، فإنهم وافقوا على ذلك، وبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
«ربح صهيب» «3» ، ثم تلا قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ «4» .
ويروي عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- خبر هجرته حيث اتعد مع عياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص السهمي، على الالتقاء في سرف على أميال عن مكة، وكيف أن هشام بن العاص قد حبس عنهما، وفتن فافتتن، ثم تحدث عن خبر وصولهما إلى ظاهر المدينة، ونزولهما في بني عمرو بن عوف بقباء، وخروج أبي جهل بن هشام وأخيه الحارث إلى عياش بن أبي ربيعة وإقناعهما إياه بضرورة العودة معهما إلى مكة ليبر بقسم أمه التي نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراه، وكيف حذره عمر منهما وقوله له «يا عياش إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم:» ، وعدم استماعه إلى التحذير، أو إلى عرض عمر بمقاسمته ماله الكثير، وقد صدق حدس عمر في الأمر حيث عدوا عليه في بعض الطريق فأوثقاه وربطاه ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن «5» . يقول عمر: «فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم» ، فلما قدم
__________
(1) ابن حجر- فتح الباري (حديث 3925) .
(2) ابن هشام- السيرة 1/ 469- 70 بإسناد حسن.
(3) الحاكم- المستدرك 3/ 389، اورده موصولا وقال: صحيح على شرط مسلم، والطبراني: (الهيثمي- المجمع 6/ 60) ، البيهقي (ابن كثير- البداية 3/ 191) ، وانظر: أحمد وفضائل 2/ 282.
(4) القرآن الكريم- سورة البقرة، الآية/ 207، وانظر الطبري- تفسير 4/ 250، ابن كثير- التفسير 1/ 360.
(5) ابن هشام- السيرة النبوية 2/ 129- 131، ابن الأثير- أسد الغابة 4/ 58.(1/256)
النبي صلّى الله عليه وسلّم أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم «1» : قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ* وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ «2» .
قال عمر: «فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص» . ويظهر أن هشاما قد وجد صعوبة في فهمها إلى أن ألقى الله في قلبه أنها نزلت في أمثاله فلحق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المدينة» «3» . وقد ثبت أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو في قنوته أن ينجي الله الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة «4» .
نزل أغلب المهاجرين في بني عمرو بن عوف بقباء في موضع يدعى «العصبة» قبل مقدم المصطفى عليه الصلاة والسلام، وكانوا يجتمعون للصلاة في مسجد قباء، يؤمهم سالم بن معقل مولى أبي حذيفة- رضي الله عنهما- لكونه أكثر المهاجرين قرآنا «5» ..
هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى يثرب:
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «6» .
تآمرت قريش على حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد أن علم المشركون بما تم بين الرسول صلّى الله عليه وسلّم والأنصار في العقبة الثانية، ورأوا المسلمين يهاجرون إلى يثرب جماعات وأفرادا. وقد أرّخ الزهري لهجرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم فقال: «مكث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الحج بقية ذي الحجة، والمحرم وصفر، ثم إن المشركين اجتمعوا» «7» - يعني على قتله- وقد تواترت الأخبار بأن خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة كان يوم الاثنين «8» ودخوله المدينة كان يوم الاثنين.
عقد زعماء قريش إجتماعا خطيرا في دار الندوة حيث تشاوروا في أضمن الوسائل للتخلص من الرسول صلّى الله عليه وسلّم «9» ، وقد لخّص القرآن الكريم الآراء التي طرحوها في ذلك الاجتماع في قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
__________
(1) ابن هشام- السيرة 2/ 129- 131.
(2) القرآن الكريم- سورة الزمر، الآيات/ 53- 55.
(3) الحاكم المستدرك 2/ 435، ابن هشام- السيرة 2/ 131- 132. أما ما روى من إعلان عمر لهجرته على قريش عند البيت العتيق وتهديده لمن تحدثه نفسه أن يلحق به بثكل أمه وترميل زوجته ويتم أولاده فلم يصح، حيث ورد الخبر بإسناد فيه مجاهيل ثلاثة، انظر: ابن الأثير- أسد الغابة 4/ 52، وانظر الألباني- دفاع عن الحديث والسيرة ص/ 143.
(4) البخاري- الصحيح (فتح الباري- الحديث 4560) ، أورد البخاري حديثا آخر بزيادة «.. اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين» . المرجع السابق (حديث/ 2932) .
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري 2/ 184، 13/ 167) .
(6) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية/ 40.
(7) ابن حجر- فتح الباري 7/ 236.
(8) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 236) .
(9) ابن حجر- فتح 7/ 236.(1/257)
كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ «1» .
بيّن حبر الأمة عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- حصار المشركين لبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم ابتغاء قتله، ومبيت علي ابن أبي طالب- رضي الله عنه- في فراشه. كما أورد خبر انتقال النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى غار جبل ثور، وقيام المشركين بقص أثره إلى الغار، ورؤيتهم نسيج العنكبوت على مدخله وتركهم التحري فيه، ولكن هذه الرواية لا تصلح للاحتجاج بها وإن كانت هي «أجود ما روي في قصة نسيج العنكبوت على فم الغار» «2» . وقد ورد، إضافة إلى ذلك، حديث آخر ضعيف جدّا بشأن الشجرة التي نبتت في وجه الغار والحمامتين الوحشيتين اللتين وقعتا بفم الغار، وقد تسربت هذه الأخبار وأمثالها في العديد من كتب الحديث والسيرة «3» .
الإذن بالهجرة:
وحين أمر الله تعالى رسوله الكريم صلّى الله عليه وسلّم بالهجرة إلى يثرب، جاء صلّى الله عليه وسلّم متقنعا إلى منزل أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- في وقت لم يعتد أن يزوره فيه، في نحر الظهر، وهو أشد ما يكون في حرارة النهار، وقد روت أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- وقائع ما جرى، فقالت: «فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متقنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها. فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر» . قالت: فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر:
أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: فإنّي قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نعم، قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتيّ هاتين، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالثّمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحثّ الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين، قالت: ثم لحق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شابّ ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحهما عليها حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما «4» - حتى ينعق بها عامر بن فهيره بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث. واستأجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر- رضي الله عنه- رجلا
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الأنفال، الآية/ 30، وانظر أحمد- المسند 5/ 87. وقد بينت رواية ضعيفة بسبب الإرسال قصة اجتماع المشركين على باب دار الرسول صلّى الله عليه وسلّم لمراقبته والتهيؤ لقتله، وخروجه إليهم دون أن يروه وذره التراب على رؤوسهم (ابن هشام- السيرة 1/ 483 بسند صحيح إلى محمد بن كعب القرظي) ، ولكنه مرسل.
(2) أحمد- المسند 1/ 348 بإسناد ضعيف، وقد حسّنه ابن كثير- البداية والنهاية 3/ 179، كما حسّنه ابن حجر في فتح الباري 7/ 236، والزرقاني- شرح المواهب 1/ 323، ويرى الألباني أنه لا يصح حديث في العنكبوت والحمامتين، سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/ 339.
(3) ابن سعد- الطبقات 1/ 229، البزار- المسند 2/ 232، وتسرب الحديث في المعجم الكبير للطبراني 20/ 443، ودلائل النبوة لأبي نعيم 6/ 269- 270، ودلائل النبوة للبيهقي 2/ 231، والبداية والنهاية لابن كثير 3/ 181، وشرح المواهب اللدنّية للزرقاني 1/ 33.
(4) اللبن المرضون هو الذي طرحت منه الرضفة وهي الحجارة المحماة التي تذهب وخامته.(1/258)
من بني الدّيل وهو من بني عبد ابن عدي هاديا خرّيتا- والخرّيت الماهر بالهداية- قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهميّ، وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل» «1» .
وأخرج الإمام أحمد عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة ثم أمر بالهجرة فنزل عليه قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً «2» .
وأورد الإمام أحمد في مسنده رواية حسنة تشير إلى أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد انطلق إلى الغار من بيته حيث حاصره المشركون يريدون قتله، فلبس علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- ثوبه ونام في مكانه، واخترق النبي صلّى الله عليه وسلّم حصار المشركين دون أن يروه، بعد أن أوصى عليّا بأن يخبر أبا بكر أن يلحق به فجاء أبو بكر وعلي نائم، وأبو بكر يحسب أنه نبي الله فقال: يا نبي الله، فقال علي: إن نبي الله قد انطلق نحو بئر ميمون فأدركه، قال: فانطلق أبو بكر فدخل معه في الغار، قال: وجعل علي يرمى بالحجارة كما كان يرمى نبي الله وهو يتضوّر، قد لفّ رأسه في الثوب لا يخرجه حتى أصبح «3» . ثم كشف عن رأسه، فقالوا: إنك للئيم كان صاحبك نرميه فلا يتضوّر، وأنت تتضوّر وقد استنكرنا ذلك «4» .
أمر أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- عامر بن فهيرة أن يصحبهما في هجرتهما ليخدمهما ويعينهما على الطريق «5» . وحمل أبو بكر. رضي الله عنه- ثروته ليضعها تحت تصرف الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقد ذكرت أسماء بنت أبي بكر أنها كانت خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم «6» . ومكث النبي صلّى الله عليه وسلّم والصديق- رضي الله عنه- في الغار ثلاث ليال، تمكن المشركون خلالها من اقتفاء آثارهم إلى الغار، وقد بكى الصديق خوفا على سلامة النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يرى أقدامهم عند فم الغار وقال: «يا نبي الله: لو أن أحدهم طأطأ بصره رآنا» «7» . فقال له الرسول صلّى الله عليه وسلّم «أسكت يا أبا بكر اثنان الله ثالثهما» «8» . وإلى هذا اليقين والتوكل الكامل تشير الآية الكريمة: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «9» .
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 231- 232 (حديث 3905) . وقد أورد البخاري في صحيحه (الفتح 7/ 389) رواية صحيحة أخرى تذكر إن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر- رضي الله عنه- ركبا فانطلقا حتى أتيا الغار وهو بثور.
(2) أحمد المسند 3/ 291، الترمذي- السنن 8/ 291، ابن كثير التفسير 5/ 223، الطبري- التفسير 15/ 148- سورة الإسراء- آية 80.
(3) أحمد- المسند 1/ 25- 26، 84، وانظر: ابن أبي شيبة- المصنف 14/ 488- 9، النسائي- الخصائص ص/ 134- 135، الطبري- تهذيب الآثار 3/ 237، الحاكم- المستدوك 3/ 5، الخطيب- تاريخ بغداد 13/ 302.
(4) أحمد- المسند 5/ 26- 27 ولا تقوى هذه الرواية على معارضة ما في الصحيح ولكن يمكن التوفيق بينهما.
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 231- 2 حديث 3905) .
(6) الحاكم- المستدرك 3/ 5، البيهقي- دلائل 2/ 480، ابن هشام- السيرة 1/ 488.
(7) البخاري- الفتح (الحديث 3922) ، أحمد- المسند 1/ 159.
(8) البخاري- الصحيح (فتح، حديث 4663، حديث 3922) ، مسلم- الصحيح 4/ 1843 بإسناد صحيح، عروة- مغازي ص/ 129.
(9) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية/ 40.(1/259)
وبعد أن أخفقت قريش في العثور عليهما، أعلنت عن مكافأة لمن يقتلهما أو يأسرهما، وانقطع الطلب عنهما، جاءهما الدليل، عبد الله بن أريقط بعد ثلاث من بقائهما في الغار ومعه الراحلتان، وكان معهما عامر بن فهيرة فانطلق الأربعة متوجهين إلى المدينة. ويبدو أنهما كانا يحسان برصد المشركين لهما، يقول أبو بكر الصديق- رضي الله عنه-:
«أخذ علينا بالرصد فأخرجنا ليلا» «1» . وقد تحدث أبو بكر الصديق عن بداية رحلة الهجرة النبوية فقال: «أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق فلا يمر فيه أحد، حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل، لم تأت عليه الشمس بعد، فنزلنا عندها، فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا ينام فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم في ظلها ثم بسطت عليه فروة، ثم قلت: «نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك، فنام» . وهذا أول معجزة وقعت للنبي صلّى الله عليه وسلّم في طريق الهجرة «2» .
وذكر أبو بكر خبر قدوم راع مقبل إلى الصخرة يريد منها مثل الذي أرادوا، وعرف أبو بكر منه أنه رجل من أهل مكة ورضي أن يحلب لهم من شاة له وطلب منه أبو بكر أن ينظف الضرع قبل الحلب، وكره أن يوقظ النبي صلّى الله عليه وسلّم ليشرب، فانتظره حتى استيقظ فشرب ثم أمر بالرحيل «3» .
كان الرسول يردف أبا بكر معه على راحلته، وكان إذا سأل أحد أبا بكر عن الرسول يقول: هذا رجل يهديني السبيل فيحسبه السائل دليلا لطريقه، وإنما كان يكنّي عن سبيل الخير «4» .
وحصلت المعجزة الثانية حين عصم الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم وحماه من سراقة بن مالك، الذي طلبهم طمعا في جائزة قريش. فقد علم سراقة بخبرهم من رجل من بني مدلج رآهم عن بعد وهم مرتحلون مع الساحل «5» . فاتّبعهم سراقة وهم في جلد من الأرض «6» . وينقل البخاري حديث سراقة حيث يقول: «وقد كنت أرجو أن أردّه على قريش فآخذ المائة الناقة. قال فركبت فرسي على أثره، فبينما فرسي يشتد بي، عثر بي فسقطت عنه، قال فقلت ما هذا؟! قال ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره. قال فأبيت إلا أن أتبعه. قال فركبت في أثره، فبينما فرسي يشتد بي عثر بي فسقطت عنه، قال فقلت ما هذا!، فلما بدا لي القوم ورأيتهم عثر بي فرسي، وذهبت يداه في الأرض، وسقطت عنه، ثم انتزع يديه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار قال: فعرفت حين رأيت أنه قد منع مني، وأنه ظاهر قال: فناديت القوم، فقلت أنا سراقة بن مالك بن جعشم انظروني أكلمكم، فو الله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه. قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر: «قل له وما تبغي منا؟» فقال له ذلك أبو بكر قال: قلت: تكتب لي كتابا يكون آية بيني وبينك. قال:
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 255) .
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 255) ، مسلم- الصحيح 4/ 2309.
(3) مسلم- الصحيح- 4/ 2309 من حديث البراء بن عازب، وانظر كذلك البخاري الأحاديث (3917- 18، 3652) وابن عبد البر- الاستيعاب 3/ 240، أحمد- المسند 1/ 154- 155، الحاكم- المستدرك 3/ 8 وصححه عن حديث البخاري.
(4) البخاري- الصحيح (فتح الباري 3911) ، ابن سعد- الطبقات 1/ 34، أحمد- الفتح الرباني 20/ 290.
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 255- 256 حديث 3906) ، مسلم- الصحيح 4/ 309 حديث 2009.
(6) مسلم- الصحيح 4/ 2309.(1/260)
«اكتب له يا أبا بكر» . فكتب لي كتابا في عظم أو في رقعة أو في خزفة، ثم ألقاه إلي فأخذته فجعلته في كنانتي ثم رجعت فسكتّ فلم أذكر شيئا مما كان، ثم حكى خبر لقائه برسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد فتح مكة وإسلامه «1» .
وقد ذكر سراقة في رواية صحيحة أنه اقترب من الاثنين حتى سمع قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات، كما ذكر أنه عرض عليهما الزاد والمتاع فلم يأخذا منه شيئا، وأن وصيته كانت: أخف عنا «2» .
وقد اشتهر في كتب السيرة والحديث خبر نزول الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصحبه بخيمة أم معبد بقديد طالبين القرى، فاعتذرت لهم لعدم وجود طعام عندها، إلّا شاة هزيلة لا تدر لبنا فأخذ صلّى الله عليه وسلّم الشاة فمسح ضرعها بيده، ودعا الله، وحلب في إناء حتى علت الرغوة، وشرب الجميع «3» . أما الصحابي قيس بن النعمان السكوني فقد ذكر نزولهما في خيمة أبي معبد وقوله لهم: والله ما لنا شاة، وإن شاءنا لحوامل فما بقي لنا لبن. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:- فما تلك الشاة؟ فأتى بها، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالبركة عليها، ثم حلب عسا فسقاه، ثم شربوا. فقال أنت الذي تزعم قريش أنك صابيء؟ قال: إنهم يقولون، قال: أشهد أن ما جئت به حق. ثم قال: أتبعك، قال: لا حتى تسمع أنا قد ظهرنا. فاتّبعه بعد. ولا شك في أن هذا الخبر فيه معجزة حسيّة للرسول صلّى الله عليه وسلّم شاهدها أبو معبد فأسلم «4» .
وصول النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة:
كان المسلمون في المدينة قد سمعوا بخروج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى ظاهر المدينة ينتظرونه حتى إذا اشتد الحر عليهم عادوا إلى بيوتهم، فلما كان يوم الاثنين الثاني من ربيع الأول سنة أربع عشرة من المبعث «5» . انتظروه حتى لم يبق لهم ظل يستظلون به، فعادوا وقدم الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقد دخلوا بيوتهم، فبصر به يهودي فناداهم، فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بظهر الحرّة وهم يهللون ويكبرون، وسمعت الرجّة والتكبيرة في بني عمرو بن عوف، فكبر المسلمون فرحا بقدومه وخرجوا وتلقوه وحيّوه بتحية النبوّة «6» . فنزل النبي صلّى الله عليه وسلّم في قباء في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة وأسس مسجد قباء «7» .
ولما عزم النبي صلّى الله عليه وسلّم على أن يدخل المدينة أرسل إلى زعماء بني النجار فجاءوا متقلدين سيوفهم «8» . وقدر
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 230- 248 حديث 3906) ، ابن هشام 2/ 152- 154، مسلم- الصحيح 4/ 309- 15 (حديث 2009) ، أحمد- الفتح الرباني 20/ 284.
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 238- 239) .
(3) طرق هذه الرواية بين ضعيفة وواهية وردت في دلائل النبوة للبيهقي 2/ 493، الطبراني- المعجم الكبير 4/ 56، ابن سعد- الطبقات 1/ 230، البخاري- التاريخ الكبير 20/ 2/ 28 وشك البخاري في انقطاع السند، وفي إسناده عبد الملك بن وهب متروك.
(4) البزار- كشف الأستار 2/ 301، ابن حجر- الإصابة 5/ 506 بسند صحيح.
(5) الموافق 23 ايلول (سبتمبر) 622 م.
(6) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 239، 265 الاحاديث 3906، 3925) ، ابن هشام- السيرة 2/ 156- 7، الحاكم- المستدرك 3/ 11.
(7) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 265 حديث 3925) وكان ذلك يوم الاثنين لاثنى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، الحاكم- المستدرك 3/ 8 بإسناد حسن، وصححه ابن حجر وأشار إلى طريقين آخرين له (فتح الباري 7/ 238) .
(8) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 265) .(1/261)
عدد الذين استقبلوه من المسلمين الأنصار خمسمائة حيث أحاطوا بركب النبي صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه «1» . ومضى الموكب داخل المدينة والجموع تهتف: «جاء نبي الله ... جاء نبي الله» «2» .
وقد صعد الرجال والنساء فوق البيوت وتفرق الغلمان في الطرق وهم ينادون: «يا محمد يا رسول الله يا محمد يا رسول الله» «3» .
وقال أحد شهود العيان وهو الصحابي البراء بن عازب- رضي الله عنهما-: «ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم» «4» .
وتطلع زعماء الأنصار إلى استضافة الرسول صلّى الله عليه وسلّم «5» ، وأقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم بناقته حتى نزل إلى جانب دار أبي أيوب الأنصاري، فتساءل: «أيّ بيوت أهلنا أقرب» فقال أبو أيوب: «أنا يا نبي الله، هذه داري، وهذا بابي» فنزل صلّى الله عليه وسلّم في داره «6» . وكانت داره طابقين، قال أبو أيوب: «لما نزل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتي نزل في السّفل وأنا وأم أيوب في العلوّ، فقلت له صلّى الله عليه وسلّم: يا نبي الله- بأبي أنت وأمي- إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلوّ وننزل نحن فنكون في السفل، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا أيّوب: إنّ أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت» . قال أبو أيوب: «فلقد انكسر حبّ لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا مالنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه شيء يؤذيه» «7» .
اقترعت الأنصار على سكنى إخوانهم المهاجرين وآثروهم على أنفسهم «8» فأثنى الله تعالى عليهم ثناء عظيما خلّد ذكرهم وحسّن صنيعهم أبد الدهر، فقال تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَ
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 251) .
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 250) .
(3) مسلم- الصحيح 4/ 2311، أما الروآيات التي تفيد استقباله صلّى الله عليه وسلّم بنشيد: طلع البدر علينا..» فلم ترد بها روآية صحيحة، انظر عن ذلك ابن حجر- فتح الباري 7/ 261، 262، ابن القيم- زاد المعاد 3/ 551، الزرقاني- شرح المواهب اللدنيّة 1/ 359، 360.
(4) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 260) .
(5) ابن هشام- السيرة 1/ 494، موسى بن عاقبة- المغازي 1/ 183، ابن حجر- فتح الباري 3/ 245، 7/ 246، التقريب ص/ 393، ابن كثير- البدآية والنهاية 3/ 200، وانظر ابن سعد- الطبقات 236- 237، وقد ورد في المصادر المذكورة روآية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول فيها للأنصار: «دعوا الناقة فإنها مأمورة» وهي بدون إسناد عند ابن هشام وموسى بن عاقبة، وهي عند الحاكم وابن كثير بسند ضعيف فيه محمد بن سلمان لا يعرف حاله، وعند ابن سعد بسند الواقدي متروك، كما أوردها بسند معضل (1/ 237) .
(6) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 250، 265) .
(7) ابن هشام- السيرة 1/ 498- 499 بإسناد صحيح، الحاكم- المستدرك 3/ 460- 461، وقال هذا إسناد صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، ابن حجر- فتح الباري 7/ 252، ابن كثير- البدآية والنهاية 3/ 199، وأورد ابن سعد في الطبقات الكبرى 1/ 237 بإسناد ضعيف روآية تشير إلى أن مقامه بدار أبي أيوب قد استمر سبعة أشهر.
(8) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 247) .(1/262)
نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «1» .
ولقد أثنى النبي صلّى الله عليه وسلّم على الأنصار ثناء عظيما فقال صلّى الله عليه وسلّم في مناسبة تالية: «لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار» «2» ، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ولو سلكت الأنصار واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم» «3» .
بناء المسجد النبوي:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي حيث أدركته الصلاة وكان رجال من المسلمين يقيمون الصلاة في مبرك ناقة النبي صلّى الله عليه وسلّم عند بيت أبي أيوب الأنصاري، وكانت الأرض لسهل وسهيل، وهما غلامان يتيمان من بني النجار، وفيها نخل لهما «4» . كما كانت فيها بعض قبور المشركين، وقد اشتراها النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتولى المسلمون تسويتها وقطع نخيلها ونقل قبورها وحجارتها، فجعلوا صخورها وجذوع نخلها في قبلة المسجد «5» . وقد ساهم النبي صلّى الله عليه وسلّم مع المسلمين من المهاجرين والأنصار في المدينة في بناء المسجد، وكانوا في حالة من السعادة الغامرة والسرور العظيم، وهم يهزجون:
«اللهمّ إنّه لا خير إلّا خير الآخره ... فانصر الأنصار والمهاجره» «6» .
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقدم في العمل من يجيده، وأورد البخاري قوله صلّى الله عليه وسلّم: «قرّبوا اليمامي «7» من الطّين، فإنّه أحسنكم له مسّا، وأشدّكم له سبكا» «8» . وفي رواية صحيحة أخرى: «دعوا الحنفي والطين، فإنه أضبطكم» «9» .
وكان عمار بن ياسر من العاملين المجيدين في بناء مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ففي حين كان كل واحد من الصحابة يحمل لبنة واحدة في كل مرة، كان عمار يحمل لبنتين واحدة عنه وأخرى عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فأكرمه النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن مسح على ظهره مبرّكا وقال له: «للناس أجر ولك أجران.. وتقتلك الفئة الباغية» «10» . وقد تم بناء المسجد أول الأمر بالجريد، واستغرق بناؤه إثنى عشر يوما «11» .
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الحشر، الأية/ 9.
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 112) .
(3) المرجع السابق 7/ 110.
(4) المرجع السابق 7/ 265.
(5) المرجع السابق 7/ 265.
(6) المرجع السابق 7/ 265.
(7) المقصود هو: الطلق بن علي اليمامي الحنفي انظر ترجمته في الخزرجي- تذهيب 2/ 14 (ترجمة 3210) .
(8) ابن حجر- فتح الباري 3/ 112.
(9) المرجع السابق 3/ 112، والإصابه 2/ 232، البيهقي- دلائل النبوة (2/ 545) بإسناد صحيح، وابن حبان- الزوائد ص/ 98 (رقم 303) .
(10) مسلم- الصحيح 4/ 2236 (حديث 2916) ، وأحمد- المسند 3/ 5، 4/ 319، الحاكم- المستدرك 3/ 389 وهذا الحديث من دلائل النبوّة، فقد قتل عمار في صفين خلال أحداث الفتنة التي جرت بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان- رضي الله عنهما-، وقد فصل ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 238- 39) وابن حجر في فتح الباري (3/ 110- 112) في ذلك.
(11) البيهقي- دلائل النبوة (2/ 506) بإسناد صحيح عن عبد الله بن الزبير، ابن حجر- فتح الباري 7/ 246 نقلا عن الزبير بن بكار. وتشير الرواية الأخيرة إلى أنه قد أعيد بناؤه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين.(1/263)
وبعد الفراغ من بناء المسجد النبوي بنيت بيوت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم على شاكلة بناء المسجد «1» . وكانت إلى جنب المسجد قصيرة البناء متقاربة «2» . ولم يكن في المسجد النبوي حين بني منبر يخطب الناس عليه، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب وهو مستند إلى جذع عند مصلّاه، ثم اتخذ له كرسيا بدرجتين «3» .
وواجه المسلمون المهاجرون من مكة الكثير من المصاعب الصحية الناجمة عن اختلاف المناخ، ذلك أنهم لم يكونوا قد اعتادوا على البرودة القاسية، والرطوبة العالية وقد تفشت بينهم الحمى، وينقل البخاري مرويات عن بعض كبار الصحابة من المهاجرين الذين أصابهم المرض، وكان أبو بكر الصديق ممن أصيب بالحمى «4» . ويذكر عنه أنه إذا أخذته الحمى كان يقول:
كل امريء مصبّح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
وكان بعض الصحابة يظهرون السأم من الإقامة في المدينة بسبب ذلك ويشتاقون إلى العودة إلى مكة، وذلك ما كان يشعر به بلال الحبشي- رضي الله عنه- فكان إذا ما انتهت دورة الحمى التي كانت تأخذه ينشد «5» .
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنّة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
وحين علم النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك من أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- قال: «اللهمّ حبّب إلينا المدينة كحبّنا مكّة أو أشدّ، وصحّحها، وبارك لنا في صاعها ومدّها، وانقل حمّاها فاجعلها بالجحفة» «6» . وقال أيضا:
«اللهمّ أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردّهم على أعقابهم» «7» .
لقد صارت الهجرة فرضا واجبا على كل مسلم في تلك المرحلة من أجل نصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم ودعوته ومواساته بالنفس، وتعزيز وتقوية معسكر الإيمان، والابتعاد عن الفتنة من الكافرين، ولقد استمر الحث على الهجرة وبيان فضل المهاجرين بنزول الآيات القرآنية، واستمر معها تدفق المهاجرين من كل مكان. وتتابعت الآيات بالأمر
__________
(1) ابن حجر- فتح الباري 3/ 112- 114، ابن كثير- البداية 3/ 222، ابن سعد- الطبقات 1/ 240.
(2) أحمد- الفتح الرباني 21/ 6- 7، ابن كثير- البداية 3/ 241- 2 وقد بنيت في بداية الأمر حجرتان إحداهما لأم المؤمنين سودة بنت زمعة، والأخرى لأم المؤمنين عائشة بنت الصديق وهما أول بيتين بنيا، ونقل البخاري عن الحسن البصري قوله أنه دخل حجرات نساء النبي في خلافة عثمان وأنه كان يتناول سقفها بيده، ابن كثير- البداية والنهاية 3/ 241، الشامي- سبل الهدى 3/ 508.
(3) أورد البخاري في صحيحه (فتح الباري: ح 3584، 3585) خبرا عن حنين الجذع، ونقله ابن كثير- البداية 3/ 239- 240، وأورد البيهقي في دلائل النبوة 2/ 559 تعقيب الحسن البصري على ذلك بعد ذكره الحديث عن أنس- رضي الله عنه-.
(4) يظهر من وصف المصادر لحالة المرض، والدورات التي تنتابهم فيها الحمى أنها- على الأرجح مرض الملاريا.
(5) نقل البخاري في الصحيح «عن- بلال رضي الله عنه- اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء ... » (الفتح الحديث 1889) .
(6) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 262) .
(7) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 269) .(1/264)
بالهجرة وبيان عظيم أجرها حتى وعد الله تعالى المهاجرين بمنعهم وحمايتهم وتمكينهم من مراغمة أعدائهم والتوسعة عليهم في أرزاقهم قال تعالى: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «1» .
وقال تعالى: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ «2» . وقد شرع الله تعالى الهجرة على المسلمين القادرين عليها ومنعهم من الاستمرار في الإقامة مستضعفين مع المشركين، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً «3» .
وتغلب المهاجرون على المشكلات العديدة، واستقروا في دار الهجرة مغلبين متطلبات الدعوة ومصالح العقيدة.
ولقد تأخر بعض المسلمين بمكة عن الهجرة تحت ضغوط أزواجهم وأولادهم، فلما هاجروا ووجدوا أن من سبقهم بالهجرة من إخوانهم قد تفقهوا في الدين، تألموا وهمّوا بمعاقبة ذويهم، وكان ذلك سببا في نزول قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «4» .
ومما يمكن ملاحظته أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد استبدل اسم يثرب فقد أورد مسلم حديثا عن جابر أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الله تعالى سمّى المدينة: طابة» «5» .
وروى البخاري بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطّاعون ولا الدّجّال» «6» . وروى أحمد في مسنده بسنده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سمّى المدينة يثرب فليستغفر الله- عزّ وجلّ- هي طابة، هي طابة» «7» . وقد سماها الله تعالى في كتابه العزيز «المدينة» في مواضع متعددة «8» .
لم يعد سكان المدينة، كما كانوا عليه قبل الهجرة، يقتصرون على يهود وأوس وخزرج، فقد استوطنها المهاجرون من قريش وغيرهم من القبائل الأخرى «9» . وحيث إن أساس المجتمع الجديد يستند إلى العقيدة التي
__________
(1) القرآن الكريم- سورة النساء، الآية/ 100.
(2) القرآن الكريم- سورة الحج، الآية/ 58.
(3) القرآن الكريم- سورة النساء، الآية/ 97.
(4) القرآن الكريم- سورة التغابن، الآية/ 14.
(5) مسلم- الصحيح (2/ 1007 حديث 1385) ، وقد أورده عمر بن شبة في تاريخ المدينة 1/ 164.
(6) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 7133) .
(7) أحمد- المسند 4/ 285 بسنده إلى البراء بن عازب، وانظر ابن حجر في الفتح، والهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 300، ابن شبة- تاريخ المدينة 1/ 164- 65.
(8) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية/ 101، 120، سورة الأحزاب- الآية/ 60، سورة المنافقون- الآية/ 8 كما ورد اللفظ نفسه ليعرف مواضع أخرى في مناطق متعددة من جزيرة العرب ومصر.
(9) ابن هشام- السيرة 2/ 115- 144، 342- 346، ابن سعد الطبقات 2/ 12.(1/265)
أصبحت أساس تقسيمات السكان الذين انقسموا بموجب ذلك إلى ثلاث مجموعات متميزة وهم: المؤمنون، والمنافقون، واليهود.
تنظيم الأمة بعد الهجرة:
أدى تدفق المهاجرين إلى المدينة المنورة إلى حصول العديد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والصحية، ذلك أن المهاجرين كانوا قد تركوا أهليهم ومعظم أموالهم في مكة، كما أنهم كانوا- في الغالب- خبراء متمرسين في أعمال التجارة، ولم تكن لهم مهارة في الزراعة والصناعة اليدوية الشائعة في المدينة، وشكّل حاجاتهم إلى رأس المال حاجزا دون ممارستهم للتجارة. ولقد أبدى الأنصار توجها واضحا نحو البذل والتعاون مع إخوانهم المهاجرين فقد أعطوهم الأرض والنخل ليعملوا بها بنصف ثمارها، ومنهم من أعطى مثل ذلك منيحة دون مقابل، وقد استغنوا عنها حين فتح الله عليهم خيبر «1» . ولا شك في أن عمل الأنصار هذا يعكس مدى اهتمامهم ورعايتهم وحبهم لإخوانهم المهاجرين، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «2» .
وتحدثت الروايات الصحيحة عن صور رائعة من صور الإيثار الذي مارسه الأنصار تجاه إخوانهم المهاجرين «3» . وإلى جانب ذلك فإن انتقال المهاجرين إلى مجتمع جديد زاد من مشاكلهم، وإحساسهم بالوحشة والحنين إلى مكة، كما أن البيئة المناخية الجديدة تختلف عما اعتادوه في ديارهم بمكة، كما تعرّضوا للإصابة ببعض الأمراض. وكانت الحمى من الأمراض الظاهرة التي شاعت بينهم وسببت لهم الكثير من المتاعب وزادت من إحساسهم بالضيق والغربة. وذلك ما أدركه النبي صلّى الله عليه وسلّم حين سأل ربه قائلا: «اللهمّ امض لأصحابي هجرتهم ولا تردّهم على أعقابهم» «4» .
وذلك يعكس دون أدنى شك أن وضع المهاجرين كان يقتضي علاجا سريعا، وحلّا استثنائيّا عاجلا، وذلك ما يوضح السبب في تشريع نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في السنة الأولى من الهجرة «5» . فلقد أراد الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يشرع نظاما يعالج فيه أوضاع المهاجرين الاقتصادية ويشعرهم بأنهم ليسوا عالة على إخوانهم الأنصار.
__________
(1) مسلم- الصحيح (شرح النووي 12/ 99- 101 كتاب الجهاد والسير، باب رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم) .
(2) القرآن الكريم- سورة الحشر، الآية/ 9، وانظر البخاري- الصحيح (فتح الباري حديث 3779) .
(3) البخاري- الصحيح الأحاديث 3929، 3782، 3794، 3797، وانظر: أحمد- الفتح الرباني 21/ 10، البلاذري- أنساب 1/ 270، الترمذي- السنن 2/ 303- 304.
(4) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 269) .
(5) حدد ابن عبد البر تاريخ تشريع المؤاخاة بخمسة أشهر بعد الهجرة (الدرر ص/ 96) ، أما ابن سعد (الطبقات 2/ 9) فيجعلها قبل غزوة بدر الكبرى دون تحديد دقيق.(1/266)
نظام المؤاخاة:
حصل جدل بين العلماء حول مدى صحة المعلومات التي أوردتها بعض المصادر «1» . عن مؤاخاة جرت في مكة بين بعض المهاجرين من أهل السابقة «2» . ولكن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم قد فنّدا ذلك، وتابعهما الحافظ ابن كثير «3» . ولم تشر كتب السيرة الأولى إلى وقوع المؤاخاة بمكة، كما لم يرد عنها رواية صحيحة.
شرع الرسول صلّى الله عليه وسلّم نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وقد شمل ذلك خمسة وأربعين من المهاجرين ومثلهم من الأنصار «4» ، وترتب على هذا النظام حقوق خاصة بين المتآخيين كالمواساة في مواجهة أعباء الحياة والتوارث بينهما دون ذوي الأرحام «5» . وتصور بعض المرويات الصحيحة عمق التزام الأنصار بنظام المؤاخاة ومدى حرصهم على تنفيذه، كما تصور مدى أنفة وكرم أخلاق المهاجرين وامتناعهم عن استغلال إخوانهم «6» .
استمر العمل بنظام المؤاخاة إلى ما بعد غزوة بدر الكبرى حيث ألف المهاجرون جو المدينة، وعرفوا مسالك الرزق فيها، ووثقوا علاقتهم بإخوانهم المسلمين من الأنصار وغيرهم، وأصابوا من غنائم معركة بدر الكبرى ما كفاهم. ولذلك فقد ألغي التوارث في نظام المؤاخاة، وعاد إلى وضعه الطبيعي القائم على أساس صلة الرحم «7» . وقد جاء ذلك الإبطال بنص القرآن الكريم في قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ «8» .
غير أن ذلك لا يعني إبطال مؤاخاة المواساة والتعاون والتناصح فقد أورد البخاري في صحيحه خبرا عن المؤاخاة بين أبي الدرداء وسلمان الفارسي «9» ، كما تورد المصادر مرويات عن مناسبات جرت فيها حالات مؤاخاة أخرى تقتضي المؤازرة والرفقة دون حقوق التوارث، هذا إضافة إلى أن المؤاخاة التي شرعت بين المؤمنين والتي نص
__________
(1) أورد ذلك البلاذري- الأنساب 1/ 270، ابن عبد البر- الدرر في اختصار المغازي والسير ص/ 100، ابن سيد الناس- عيون الأثر 1/ 199، إضافة إلى الحاكم (نقله ابن حجر- فتح الباري 7/ 271) .
(2) مؤاخاة أبي بكر وعمر، وطلحة والزبير، وعبد الرحمن بن عوف وعثمان، والزبير وابن مسعود، والنبي صلّى الله عليه وسلّم وعلي بن أبي طالب، وحمزة وزيد بن ثابت.
(3) ابن تيمية- منهاج السنة 4/ 96- 97، ابن القيم- زاد المعاد 2/ 79، ابن كثير- السيرة النبوية 2/ 324.
(4) يذكر البلاذري- أنساب 1/ 270: أنه لم يبق من المهاجرين أحد إلّا آخى بينه وبين أنصاري، وانظر ابن سعد- الطبقات 1/ 21 مما يجعل عدد المهاجرين معلوما عند التشريع.
(5) البخاري- الصحيح 3/ 119، 6/ 55- 65، 8/ 190- 91، مسلم- الصحيح 4/ 1960، ابن سعد- الطبقات 1/ 9 د، ابن عبد البر- الدرر 96، ابن القيم- زاد المعاد 3/ 79.
(6) انظر مثلا قصة مؤاخاة عبد الرحمن بن عوف بسعد بن الربيع الأنصاري وما جرى بينهما: البخاري- الصحيح 5/ 39، النسائي- السنن 6/ 137.
(7) ابن سعد- الطبقات 1/ 9، ابن القيم- زاد المعاد 2/ 79.
(8) القرآن الكريم- سورة الأنفال، الآية/ 75، ويذكر ابن عباس- رضي الله عنهما-: أن نسخ التوارث بالمؤاخاة قد تم حين نزل قوله تعالى وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ (النساء/ 33) ، مسلم- الصحيح 4/ 1960.
(9) البخاري- الصحيح 3/ 47، 5/ 88.(1/267)
عليها الكتاب العزيز: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ... «1» . باقية لم تنسخ، وأن ما نسخ هو التوارث المترتب عليها. مما حصر الموالاة والأخوّة بين المؤمنين دون غيرهم، وقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين من المشركين واليهود والنصارى قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ «2» .
وتعرّض الصحابة من المهاجرين والأنصار إلى امتحان شديد في عقيدتهم حين خيّرهم الله بين الالتزام بمصالحهم الدنيوية وعلاقاتهم النسبية من جهة وبين الالتزام بالعقيدة فقال تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ «3» .
وقد نجح صحابة النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا الامتحان العسير، وغلّبوا حب الله ورسوله وآصرة العقيدة على كل ما سوى ذلك، فكان مجتمع المدينة الجديد مجتمعا عقديّا يرتبط بالإسلام ولا يعرف الموالاة إلّا لله ولرسوله وللمؤمنين، ومع ذلك فهو مجتمع مفتوح لمن أراد أن يلتحق به فيؤمن بعقيدته بعد أن يخلع نفسه عن عقيدة الجاهلية وصفاتها ودون أي اعتبار لجنسه أو لونه أو انتمائه السابق.
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الحجرات، الآية/ 10.
(2) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية/ 23.
(3) القرآن الكريم- سورة التوبة، الآية/ 24.(1/268)
موادعة اليهود:
وقد كتبت وثيقة هذه الموادعة في المدينة المنورة أول قدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم إليها وقبل معركة بدر الكبرى «1» ، وهي تستهدف تنظيم العلاقة بين الأمة الإسلامية وبين يهود المدينة، وهي تتألف من أربعة وعشرين بندا «2» . ويدل أولها على التزام اليهود بالمساهمة في نفقات الحرب الدفاعية عن المدينة: «وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين» «3» . وقد ركزت الوثيقة في عشرة بنود من صدرها على تنظيم العلاقة بالمتهودين من قبيلتي الأوس والخزرج، مع التركيز على نسبتهم إلى عشائرهم العربية حيث أقرت تحالفهم مع المؤمنين.
«وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم نفسه وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته» «4» .
وهكذا تعرضت الوثيقة إلى ذكر اليهود من بني النجار، وبني الحارث، وبني ساعدة، وبني جشم، وبني الأوس وبني ثعلبة، وجفنة، وبني الشطيبة، وموالي ثعلبة، فأفردت ليهود كل مجموعة قبلية «5» بندا خاصّا بهم وأعطت لكل مجموعة منهم «مثل ما ليهود بني عوف» الذين ورد ذكرهم في الفقرة الأولى، والتي كفلت لهم حريتهم الدينية وحددت مسئولية الجرائم وحصرتها في مرتكبيها الذين ينبغي أن ينالوا عقوباتهم وإن كانوا من المتعاهدين.
ولقد منعت الوثيقة يهود المدينة من الخروج منها إلّا بعد الحصول على إذن من الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «وأنه لا يخرج منهم أحد إلّا بإذن محمد» «6» وذلك حرمهم من القيام بأي نشاط عسكري خارج المدينة قد يؤثر على أمن المدينة وعلاقاتها الاقتصادية.
وفي الوقت الذي أكدت الوثيقة على المسئولية الشخصية للجرائم، فإنها ضمنت «النصر للمظلوم» «7» .
وأكدت على «أن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم» «8» .
غير أن ذلك لا يعني إعفاء اليهود من أعباء المساهمة في نفقات الدفاع عن المدينة. «وأن اليهود ينفقون مع
__________
(1) أبو عبيد القاسم بن سلام- كتاب الأموال رقم «518» حيث قال: «كتبت حدثان مقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة قبل أن يظهر الإسلام ويقوى وقبل أن يؤمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب» ، وانظر البلاذري- أنساب 1/ 286، 308، الطبري- تاريخ 2/ 402، ابن هشام- السيرة 1/ 595.
(2) نشرت الوثيقة بكاملها في مجموعة الوثائق السياسية لمحمد حميد الله الحيدر آبادي مع مقارنة بين سائر الروايات، وأثبت المحقق الاختلافات (41- 47) .
(3) البند (24) من الوثيقة، انظر المصدر السابق.
(4) البند (25) من الوثيقة. ويوتغ: أي يهلك. انظر «النهاية» لابن الأثير (وتغ) (5/ 149) .
(5) انظر البنود 26- 35 من الوثيقة.
(6) البند (36) من الوثيقة.
(7) البند (37 ب) من الوثيقة.
(8) البند (37 أ) من الوثيقة.(1/269)
المؤمنين ما داموا محاربين» «1» . وقد اعتبرت الوثيقة منطقة المدينة حرما آمنا: «وأن يثرب حرام جوفها على أهل هذه الصحيفة» «2» . وتعرض بعض بنود الوثيقة إلى حقوق الجار: «و
أن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم» «3» ، وأكدت على «أنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها» «4» .
اعترف اليهود بموجب بنود هذه الاتفاقية بوجود سلطة قضائية عليا متمثلة في الرسول صلّى الله عليه وسلّم يرجع إليها سائر المواطنين في المدينة بما فيهم اليهود في حالات الأحداث، أو حصول الشجار والاختلاف بينهم وبين المسلمين: «وأن ما كان بين أهل الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده، فإن مردّه إلى الله وإلى محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإن الله على أتقى ما في الصحيفة وأبره» «5» .
وقد منعت الوثيقة اليهود من إجارة قريش أو نصرها: «وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها» «6» . وكان الهدف من ذلك هو ضمان حرية المسلمين في التعرض لتجارة قريش التي كانت تمر غربي المدينة في طريقها من الشام وإليها. ويمكن اعتبار هذا البند ضمانة لمنع احتمال حصول خلاف حول ذلك مع اليهود في المدينة.
وقد امتدت المعاهدة لتشمل «حلفاء» الطرفين إذ اشترطت المعاهدة على كل من الطرفين مصالحة حلفاء الطرف الآخر، باستثناء من حارب في الدين، وذلك لأن المسلمين كانوا في حالة حرب دائمة معهم. ومن الواضح أن المقصود من ذلك هو التأكيد على استثناء قريش من المصالحة «7» .
وفي الختام تضمنت الوثيقة مبدأ عاما في تحمل المسئولية الكاملة عن الظلم والجريمة لمرتكبيها بغض النظر عن بنود هذه الاتفاقية، وإعلانا عامّا بالأمن والسلام لمن خرج من المدينة ولمن بقي فيها باستثناء المجرمين: «وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلّا من ظلم وأثم» ، «وأن الله جار لمن برّ واتّقى، ومحمد رسول الله» «8» .
إعلان دستور المدينة: «وثيقة التحالف بين المهاجرين والأنصار» :
نظّمت وثيقة التحالف هذه العلاقات بين سكان المدينة، ووضّحت التزامات جميع الأطراف داخل المدينة، فقد شملت المعاهدة الخاصة بموادعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لليهود، كما أوضحت التزامات كل من المهاجرين والأنصار في جانبي الحقوق والواجبات.
__________
(1) البند (38) من الوثيقة.
(2) البند (39) من الوثيقة.
(3) الفقرة (40) من الوثيقة.
(4) الفقرة (41) منها.
(5) الفقرة (42) من الوثيقة، ثم ألزمهم بضرورة التحاكم إلى شرع الله ما داموا تحت سلطان الحكومة المسلمة. لما نزل قول الله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ (سورة المائدة، الآية 42) .
(6) الفقرة (43) من الوثيقة.
(7) الفقرات (44- 46) من الوثيقة.
(8) الفقرة (47) من الوثيقة.(1/270)
وقد استعرضنا آنفا نصوص موادعة اليهود، والتي أعلنت بعض بنودها أن المدينة حرم آمن لا يجوز انتهاكه، وبذلك ضمنت استقرار الأمن، ومنعت الحروب الداخلية فيها، وأصبحت المدينة مركز انطلاق الدعوة، وعاصمة للدولة الإسلامية الناشئة.
يتناول القسم الثاني من الوثيقة أو المعاهدة، بنود التحالف بين المهاجرين والأنصار، وبينت الوثيقة في صدرها أطراف التحالف فذكرت «المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم» «1» .
وجعلت الوثيقة أطراف التعاقد «أمة واحدة من دون الناس» «2» .
وتعرضت تسع فقرات تالية «3» إلى ذكر الكيانات العشائرية. والملاحظ أن المهاجرين اعتبروا كتلة واحدة متميزة في حين نسب الأنصار إلى عشائرهم، وقد اتضح أن القصد من ذلك إبراز فكرة التكافل الإجتماعي، دون التناصر في العصبية والظلم. وبهذا فقد حوّل الرسول صلّى الله عليه وسلّم التوجهات القبلية إلى ما يحقق الأهداف السامية للدعوة الإسلامية. وبما أن التكافل يحتم على القبيلة أن تعين أفرادها، وهو أمر كان سائدا في الجاهلية، فقد أقرته الوثيقة لما فيه من روح تعاون وتضامن وتكافل. وهكذا فقد ورد في أعقاب ذكر المهاجرين والقبائل الأنصارية الأخرى قوله بأنهم:
«على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين» «4» .
وأكدت الوثيقة على مسئولية المؤمنين الشاملة في التكافل مع كل فرد من أبناء الأمة: «لأن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف من فداء أو عقل» «5» . وإلى جانب ذلك، أكدت الوثيقة على المسئولية الجماعية، فقد أصبحت مسئولية المؤمنين جميعا تحقيق الأمن والاستقرار والعدالة في المدينة: «وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم «6» ، أو إثما، أو عدوانا أو فسادا بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم» «7» .
وتبرز في الوثيقة بجلاء روح الإسلام في استعلاء المؤمنين على الكافرين، وأن دم الكافر لا يكافيء دم المؤمن، والتأكيد على الترابط الوثيق بين المؤمنين وموالاتهم بعضهم لبعض: «ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس» «8» .
__________
(1) الفقرة الأولى من الوثيقة- مجموعة الوثائق، محمد حميد الله.
(2) الفقرة (2) ، المرجع السابق: (الوثيقة) .
(3) الفقرات (3- 11) من الوثيقة.
(4) الفقرات (3- 11) من الوثيقة.
(5) الفقرة (12) من الوثيقة.
(6) طلب عطية دون وجه حق، انظر ابن الأثير- النهاية في غريب الحديث والأثر 2/ 117.
(7) الفقرة (13) من الوثيقة.
(8) الفقرتان (14- 15) من الوثيقة.(1/271)
والفقرة الأخيرة تشير إلى إقرار الوثيقة لمبدأ الجوار الذي كان معروفا قبل الإسلام، فقد أتاحت لكل مسلم أن يجير، وألزمت المجتمع الإسلامي بأن لا يخفر جواره، وحصرت الموالاة بين المؤمنين. غير أن الوثيقة استثنت من بقي على الشرك من قبائل الأوس والخزرج من إجارة قريش وتجارتها، أو الاعتراض على تصدي المسلمين لها، فذكرت بأنه:
«لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن» «1» .
وقد بينت المعاهدة أن إعلان حالة السلم والحرب هي من اختصاص النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنّ «سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلّا على سواء وعدل بينهم» «2» .
ثم بيّنت الوثيقة عقوبة القتل العمد حيث جاء فيها: «وأنه من اعتبط «3» . مؤمنا قتلا عن بدنة فإنه قود به إلّا أن يرضى ولي المقتول، وأن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلّا قيام عليه» «4» .
وأخيرا فقد أصبح الرسول بموجب هذه الوثيقة هو المرجع الوحيد للفصل في كل خلاف قد يقع بين أطراف التعاقد (المسلمين وحلفائهم) في المدينة: «وأنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلّى الله عليه وسلّم» «5» .
الجهاد: انتشار الإسلام:
1- الجهاد:
قامت دولة الإسلام في المدينة النبوية، وشرع الله سبحانه وتعالى الجهاد، وكانت البداية للدفاع عن النفس، قال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ «6» .
وقال تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ «7» .
واخيرا شرع قتال العدو الكافر من أجل التمكين للعقيدة من الانتشار دون عقبات، ومن أجل صرف الفتنة عن الناس ليتمكنوا من اختيار الدين الحق بإرادة حرّة، فقال تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ «8» .
ولم تكن العقيدة تفرض بالقوة على سكان المناطق التي يفتحها المجاهدون، فقد كانوا يخيرون باديء ذي بدء بين أن يسلموا، أو يحافظوا على دينهم ويدفعوا الجزية، أو يأذنوا بالحرب. وسمح لمن رغب من أهل الكتاب بالمحافظة على دياناتهم بذلك وقد التزم المقاتلون المسلمون بضوابط الحق والعدل والرحمة، فسجل التاريخ لهم انضباطهم الدقيق، حيث لم ترد أية إشارة إلى قيامهم بالمجازر أو سلب الأموال. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبيّن
__________
(1) الفقرة (20) من الوثيقة.
(2) الفقرة (17) من الوثيقة.
(3) أي قتله بدون مبرر أو جناية توجب قتله، انظر لسان العرب 7/ 348.
(4) الفقرة (21) من الوثيقة.
(5) الفقرة (23) من الوثيقة.
(6) القرآن الكريم- سورة الحج، الأية/ 39.
(7) القرآن الكريم- سورة البقرة، الأية/ 190.
(8) القرآن الكريم- سورة الأنفال، الأية/ 39.(1/272)
للمسلمين ضرورة اقتران النيّة بالجهاد، وأن لا يكون الدافع إلى القتال الحصول على الغنائم، أو الرغبة في الشهرة والمجد الشخصي أو الوطني، فقد سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن رجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية أي ذلك في سبيل الله؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» «1» . بل لا بد من إخلاص النية لله، وأن لا يقترن القصد من الجهاد بأي غرض دنيوي لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا له وابتغي به وجهه «2» .
وفي الحديث عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تضمّن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلّا جهادا في سبيله، وإيمانا بي، وتصديقا برسلي، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنّة، أو أرجعه إلى مسكنه، الّذي خرج منه، نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، والّذي نفس محمّد بيده! ما من كلم- أي جرح- يكلم في سبيل الله إلّا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم، وريحه مسك، والّذي نفس محمّد بيده، لولا أن يشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشقّ عليهم أن يتخلّفوا عنّي، والّذي نفس محمّد بيده، لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثمّ أغزو فأقتل، ثمّ أغزو فأقتل» «3» .
ومن الصعب تقديم النماذج الكثيرة التي توضح أثر هذه التوجيهات النبوية على نفسية المقاتل المسلم، ولكن يمكن اختيار نموذجين لمقاتلين من عامة الجند، فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمسلمين أثناء القتال في غزوة أحد: «قوموا إلى جنة عرضها السّماوات والأرض» ، فسمعه عمير بن الحمام الأنصاري فقال: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: «نعم» . قال: بخ بخ- كلمة تقال لتعظيم الأمر في الخير- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما يحملك على قولك بخ بخ؟» ، قال: لا والله يا رسول الله إلّا رجاءة أن أكون من أهلها. قال: «فإنّك من أهلها» . فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل» «4» . فهذا النموذج الأول، وأما الثاني: فقد صح أن أعرابيّا شهد فتح خيبر أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أثناء المعركة أن يقسم له قسما وكان غائبا، فلما حضر أعطوه ما قسم له، فجاء به إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى ههنا- أشار إلى حلقه- بسهم فأدخل الجنة. قال: «إن تصدق الله يصدقك» . قال:
فلبثوا قليلا، ثم نهضوا في قتال العدو فأتى به يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فكفنه النبي صلّى الله عليه وسلّم بجبته وصلى عليه ودعا له، فكان مما قال: «اللهمّ هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا، وأنا عليه شهيد» «5» . إن هذه الرواية شاهد قوي على ما يبلغه الإيمان من نفس أعرابي ألف حياة الغزو والسلب والنهب في الجاهلية فإذا به لا يقبل ثمنا لجهاده إلّا الجنة، فكيف يبلغ الإيمان إذا من نفوس الصفوة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟.
__________
(1) البخاري- الصحيح 1/ 222 (ح 123) ، 6/ 28 (ح 2810) ، مسلم- الصحيح 3/ 1513 (ح 1513) .
(2) النسائي- السنن 5/ 25، 6/ 25.
(3) مسلم- الصحيح 1495/ 3 (ح 1876) .
(4) مسلم- الصحيح 3/ 1509- 1510 (ح 1901) .
(5) عبد الرزاق الصنعاني- المصنف 5/ 276.(1/273)
2- انتشار الإسلام:
كان واضحا منذ المرحلة المكية أن الرسالة الإسلامية خطاب للعالمين وليس لقريش ولا للعرب وحدهم، فالآية: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «1» ، هي مما نزل من القرآن في مكة.
وقد خطط النبي صلّى الله عليه وسلّم لنشر الإسلام خارج مكة منذ وقت مبكر، فلما أسلم أبو ذر الغفاري- رضي الله عنه- طلب منه الإقامة في بني غفار ودعوتهم إلى الإسلام، ولما أسلم الطفيل بن عمرو الدوسي، طلب منه الإقامة في قبيلته دوس التي كانت تقيم بين الطائف واليمن لنشر الإسلام فيها، ولم تثمر جهود الطفيل إلّا عقب قيام الدولة في المدينة حيث قدم الدوسيون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مسلمين عند فتح خيبر. وقام النبي صلّى الله عليه وسلّم بمحاولة نشر الإسلام في الطائف، ولكن قبيلة ثقيف صدت عن الدعوة بعنف وسخرية، ولم تستجب لدعوة الإسلام إلّا عام تسعة من الهجرة بعد حصارها.
ومن المعروف أن جهود نشر الدعوة في مكة ذاتها لم تفلح في إقناع معظم القرشيين طيلة المرحلة المكية وما تلاها وحتى فتح مكة حيث دانت قريش بالإسلام بصورة جماعية ولم يشذ إلّا أفراد قلائل.
وعلى الرغم من تأخر إسلام قبيلة قريش في مكة، وثقيف في الطائف وما جاورها، إلّا أن تلك الاستجابة المتأخرة اتسقت وتمثلت في تعاطف شديد وإيمان عميق راسخ وتحولت القبيلتان إلى أشد أنصار الإسلام حماسة وذودا عن حياضه كما ظهر من خلال أحداث الردة حيث التزمت كل منهما بالإسلام وكانتا أشد القبائل بأسا في مواجهة المرتدين، قبل أن تتحولا إلى مادة رئيسية من مواد الإسلام، حاملة لواءه متوغلة في كل صوب في أحداث الفتوحات ونشر دعوة الحق.
وكان الإسلام قد انتشر في قبائل الحجاز التي تقطن على طريق (مكة- المدينة) مثل مزينة، وجهينة، وغفار، وبلي، وأشجع، وأسلم، وكعب، في وقت مبكر من قيام الدولة الإسلامية بالمدينة، وخاصة في قبائل خزاعة التي كانت متعاطفة مع المسلمين كما أظهرت أحداث عمرة الحديبية، وربما تكون عشيرة بني المصطلق الحجازية قد أفردت بموقف عدائي من المسلمين حتى خضعت بعد غزوة المريسيع عام 4 هـ «2» .
أما بلاد اليمن فقد نجحت الدعوة الإسلامية فيها على نطاق واسع بعد قدوم علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- إليها سنة تسعة من الهجرة، وخاصة إسلام قبيلة همدان الكثيرة العدد، ويبدو أن الانتشار السريع كان عام ثمانية من الهجرة قريبا من فتح مكة. وقد قدمت وفود القبائل اليمانية إلى المدينة للبيعة عام تسعة من الهجرة وهي كندة، والأشعريون، وهمدان، ودوس. وتوضح حركة الردة انتشار الإسلام في قبائل ذي مران، وذي الكلاع، وذي ظليم، وبجيلة، وزبيد، والنخع، وجعفي، والأبناء، والسكون، والسكاسك. وكان انتشار الإسلام في حضرموت التي تقطنها قبيلة كندة محدودا بالقياس إلى انتشاره في رجال كندة القاطنين في اليمن.
وأما مناطق نجد فإن انتشار الإسلام فيها قوي بعد غزوة الخندق حيث تعرض الدعاة السابقون في الرجيع وبئر معونة للإبادة من قبل الأعراب. وقد امتد الإسلام بعد ذلك في قبائل بني سليم، وطيء، وهذيل،
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الأنبياء، الآية/ 107.
(2) الطبري- تاريخ 3/ 131- 132.(1/274)
وتميم، وخاصة بطونها عوف والأبناء والرباب ويهوى، ولكن لم تتح الفرصة لتعميق الإيمان والثقافة الإسلامية في فروع أخرى مهمة منها مثل بني حنظلة، ومقاعس، والبطون «1» . كما أن الإسلام امتد إلى الأقسام الشمالية من شبه الجزيرة العربية حيث أسلمت قبيلة شيبان، وقبيلة بني عذرة «2» . وأما المناطق الشرقية من شبه الجزيرة العربية، فإن أسرعها استجابة هي منطقة البحرين وخاصة جواثا التي تقطنها عبد القيس حيث أقيمت فيها أول جمعة بعد إقامتها في المسجد النبوي بالمدينة.
ويمثل إرسال الرسل إلى الملوك والأمراء عام سبعة من الهجرة أول اتصال بين الدولة الإسلامية والقوى الكبرى في العالم- آنذاك- والمتمثلة بالامبراطورية الساسانية (الفرس) والامبراطورية البيزنطية (الروم) ، وكان رد فعل الملك الساساني عنيفا، في حين أظهر هرقل في الشام والمقوقس في مصر تعاطفا شخصيّا، وإن لم يدخلا في الإسلام. ومن الواضح أن الدعوة الإسلامية شقت طريقها في عصر الرسالة بمدى عميق مكنها من الصمود في وجه المرتدين والاستعداد لمواجهة القوى العالمية الخارجية «3» .
تأسيس الدولة الإسلامية- حكومة النبي صلّى الله عليه وسلّم:
يشير كتاب تنظيم المدينة، أو ما يعرف بالوثيقة التي نظمت علاقة المهاجرين والأنصار، وكذلك كتاب الموادعة الذي ضبط العلاقة بيهود المدينة وحدد التزاماتهم، ومسئولياتهم، وإذعانهم لسلطة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما سبق ذلك من هجرة المسلمين إلى المدينة وانتشار الإسلام فيها، ثم إعلانها حرما آمنا، وتشريع الجهاد والإذن بقتال المشركين إرهاصا بقيام الدولة الإسلامية التي تمثلت مقوماتها في أرض المدينة وما حولها، والامّة وهم المهاجرون والأنصار، ومن التحق بهم فأعلن الإسلام، وهم الغالبية العظمى من السكان، ومن تعاقد وأذعن لسلطة النبي صلّى الله عليه وسلّم من اليهود والمشركين من القبائل العربية التي شملتها الوثيقة. ولم تكن هناك حاجة إلى إعلان قيام السلطة الحاكمة، لأن نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم تقتضي طاعته. وكان المسلمون يتنافسون على تنفيذ أوامر النبي صلّى الله عليه وسلّم وتوجيهاته، وطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم عبادة وفرض، وقد وعى ذلك المسلمون وسارعوا إلى تنفيذه. وكانت بيعتا العقبة الأولى والثانية على الطاعة، كما أن الوثيقة التي نظمت العلاقات بين السكان في المدينة في أعقاب الهجرة قد تضمنت: «بأنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد» «4» . وبذلك أصبح الرسول صلّى الله عليه وسلّم، كما أسلفنا، المرجع الوحيد للفصل في كل ما يقع بين السكان من مشكلات.
وهو تحديد واضح لمرجعية السلطة في المدينة بين الجميع مسلمين كانوا أو مشركين أو يهود ومن شملتهم الوثيقة.
اعتمد الرسول صلّى الله عليه وسلّم في تنظيم الدولة الإسلامية الناشئة وإدارتها على الصحابة، فاتخذ من كبارهم مستشارين وكان في مقدمتهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب- رضي الله عنهما-، كما اتخذ منهم ولاته وعماله على الصدقات.
__________
(1) الطبري- تاريخ 3/ 268، 269.
(2) ابن أعتم الكوفي- الفتوح ص/ 45.
(3) أكرم العمري- السيرة النبوية الصحيحة 2/ 454- 460.
(4) الفقرة (23) من الوثيقة.(1/275)
وبعد أن توسعت الدولة الإسلامية عيّن الرسول صلّى الله عليه وسلّم الولاة على مكة المكرمة والطائف والبحرين وعمان واليمامة كما عيّن عددا من الولاة على مقاطعات بلاد اليمن. وحيث إن مهمة الوالي تتمثل في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فقد كان ولاته صلّى الله عليه وسلّم من فقهاء الصحابة الكبار، فكان من ولاته عتّاب بن أسيد على مكة المكرمة، وعلي بن أبي طالب على نجران، ومعاذ بن جبل على الجند، وأبو موسى الأشعري على زبيد وما والاها، وخالد بن سعيد بن العاص على صنعاء، وعثمان بن أبي العاص على الطائف، وعمرو بن سعيد بن العاص على خيبر، والمهاجر بن أبي أمية على كندة، والعلاء بن الحضرمي على البحرين، وسليط بن سليط على اليمامة، وعمرو بن العاص على عمان.
أما عماله على الصدقات، فقد أرسل أبو هريرة لجمع صدقات البحرين، وأبا عبيدة عامر بن الجراح على صدقات هذيل وكنانة، وعبد الرحمن بن عوف على صدقات كلب، وعباد بن بشر الأشهلي على صدقات سليم ومزينة، والوليد بن عقبة على صدقات بني المصطلق. وكان جمع الصدقات يتم عند تجمع العشائر على المياه في أوائل الربيع، وإلى جانب هؤلاء العمال فقد تولى رؤساء العشائر جمع الصدقات، وكان ذلك يحقق أهدافا إدارية واجتماعية ونفسية، إذ لم يكن دفع الزكاة في البادية من الأمور المستساغة عند الأعراب. ولكن حين يتولى شيخ القبيلة مهام جمعها وتوزيعها فإن ذلك يخفف من الأثر النفسي عليهم، إضافة إلى أن الشيخ يعرف الأغنياء وأصحاب الثروات منهم وكذلك الفقراء. وقد يتولى بعض كبار الصحابة مسئولية جمع الصدقات وتوزيعها حين لا يتوفر في الشيخ القدرة على استيعاب أحكام الزكاة وفقهها.
وقد أشارت المصادر الإسلامية إلى «النقباء» في سياق الحديث عن بيعة العقبة الثانية، حيث اختار النبي صلّى الله عليه وسلّم اثني عشر نقيبا، كانوا كفلاء على قومهم، وهم يمثلونهم أمام النبي صلّى الله عليه وسلّم ويبلّغون تعليماته وتوجيهاته إليهم، ويتولون تنفيذ أوامره بينهم. أما «العرفاء» فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يختار لكل قبيلة عريفا، وكان كل من قدم المدينة من الأعراب ينزل على عريفه، أما إذا كان من قبيلة ليس لها عريف فإنه ينزل في الصّفة «1» بمسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث يتم قراهم من قبله صلّى الله عليه وسلّم.
واحتاجت الدولة الإسلامية الناشئة إلى عدد كبير من الكتاب، وحيث إن مثل هذا العدد لم يكن متوفرا في باديء الأمر بعد الهجرة مباشرة، فقد سعت حكومة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى إعداد الكتّاب عن طريق توسيع نطاق التعليم، وقد أثمرت تلك الجهود حيث بلغ عدد كتّاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وحدهم قرابة الخمسين، بينهم كتّاب الوحي أمثال: زيد ابن ثابت وأبي بن كعب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، وحنظلة بن الربيع، وأبان بن سعيد، وخالد بن سعيد، ومعاوية بن أبي سفيان. ومنهم كتّاب أموال الصدقات أمثال الزبير بن العوام، وجهيم بن الصلت. ومنهم كتاب العقود والعهود والمداينات مثل عبد الله بن الأرقم الزهري، والعلاء بن عقبة «2» .
وأسندت الولايات والأعمال وقيادة الجيوش إلى كبار الصحابة من ذوي الفقه والخبرة والقوة والأمانة مما عمل على شيوع الأمن والاستقرار وتثبيت الناس على الإسلام خاصة في المدن الرئيسية.
__________
(1) ابن شبّة- تاريخ المدينة 1/ 286.
(2) الخزاعي- تخريج الدلالات السمعية ص/ 159، 173.(1/276)
وتمكنت الحكومة الإسلامية من حماية المدينة من الهجمات من خارجها، ومن كيد اليهود والمنافقين من داخلها، ووسعت حدود سلطاتها تدريجيا حتى امتد في أواخر عصر النبوة إلى معظم أنحاء جزيرة العرب. وقد بذلت الكثير من الجهود لتنظيم عمليات الدفاع والهجوم، وزيادة أعداد المقاتلين حتى وصل في غزوة تبوك ما يزيد على ثلاثين ألف مقاتل. وكانت التجهيزات تعتمد على جهود الأفراد، وما يقدمه أغنياء المسلمين من أموال لغرض تجهيز الجيش.
ونظمت حكومة النبي صلّى الله عليه وسلّم المجتمع الإسلامي، فأقامته على أساس الحب والتكافل الاجتماعي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واحترام الإنسان، وتطمين حاجاته الروحية والمادية حسب إمكانات الدولة آنذاك.
وكانت تقوم بجباية الزكاة عن طريق المصّدقين الذين يرسلون إلى القرى والبوادي، وعن طريق الولاة في المدن، وكانت الأموال المجموعة تنفق على الفقراء من مناطق الجباية، وما فضل منها يرسل إلى المدينة. واعتمدت الحكومة النبوية في مواردها المالية على أغنياء الصحابة الذين يبذلون الكثير من أموالهم في مواجهة حاجات الدولة، كالإنفاق على الجيوش، واستضافة الوافدين من خارج المدينة، وإعانة المحتاجين من المهاجرين، وبقية فقراء المسلمين من أهل الصفة. ولكن الدولة حازت على موارد دائمة عقب غزوة أحد، حيث أوصى الحبر اليهودي مخيريق بأمواله للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانت سبع بساتين سخرت إيراداتها لسد نفقات المصالح العامة، فضلا عن نفقات النبي صلّى الله عليه وسلّم وآل بيته.
وقد ازدادت الأموال التي حازتها الدولة بعد فتح خيبر وأراضيها الزراعية الغنية. ولا شك في أن الغنائم التي حازها المسلمون في المعارك الكثيرة قد أسهمت في زيادة موارد الدولة، حيث كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يأخذ الخمس من الغنائم. غير أن الغنائم لم تكن تمثل ثروة كبيرة إلّا في غزوات معينة مثل غزوة هوازن.
وقد ساعدت تعاليم الإسلام الماليّة على ازدهار الحياة الإقتصادية من تجارة وصناعة وزراعة، وخاصة ما يتعلق من تلك التعاليم بحقوق التملك، وحرية العمل، وسيادة الأمن، وقيم العدل والوعد بالأجر الأخروي للتجار والصناع والزراع إذا ما أخلصوا النية في أعمالهم، وأتقنوا أداءها ونصحوا فيها.
وقد ظهر أثر التعاليم الإقتصادية الإسلامية بصورة أكثر جلاء في العصور التي تلت عصر السيرة، حيث إن السنوات العشر الأولى التي مضت على قيام الدولة الإسلامية، لم تكن كافية لتوضيح الآثار الإقتصادية للتعاليم الجديدة بصورة جليّة.
ولم تكن القيود الجديدة على النشاط الاقتصادي لتؤثر سلبا على تكون رؤوس الأموال، فالربا الذي حرّم منع تكدس الأموال بأيد قليلة، لكن السماح بتكوين رءوس أموال مشتركة لتمويل العمليات التجارية- مما كانت قريش تعرفه قبل الإسلام- عوض النقص في رءوس الأموال، كما أن تفتيت الثروة يساعد على زيادة القوة الشرائية في المجتمع، مما ينشط الحركة الإقتصادية. وكانت نصوص تحريم الربا، وتحريم الاحتكار، ونظام الميراث، والزكاة والحث على الصدقات تساعد على تفتيت الثروة وتداولها كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ «1» .
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الحشر، الآية/ 7.(1/277)
واهتمت حكومة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقضاء الذي يهدف إلى تحقيق العدل والإنصاف بين المتخاصمين. وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ «1» . وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقضي بنفسه بين الناس في المدينة فهو أول القضاة في الإسلام. وقد أمره الله تعالى بذلك فقال: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «2» . وقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً «3» .
ولما انتشر الإسلام خارج المدينة عين الولاة على المدن من أهل الفقه ليقضوا بين الناس في خصوماتهم إلى جانب إدارة المدينة أو الإقليم. وقد قال علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-: «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى اليمن قاضيا» «4» ، كما «أرسل معاذا إلى اليمن قاضيا وقال له: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟» قال: أقضي بكتاب الله. قال: «فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: «فإن لم تجد في سنّة رسول الله ولا في كتاب الله؟» قال: أجتهد برأيي ولا آلوا. فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدره وقال: «الحمد لله الّذي وفّق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله» «5» .
ومن آداب مجلس القضاء في عصر السيرة جلوس الخصمين بين يدي القاضي «6» . ومنها أن لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان «7» . وأن يحتج القاضي بإقرار المتهم، وهو شهادة الإنسان على نفسه، فقد قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم إقرار ما عز والغامدية بالزنا «8» . ويعمل بشهادة الشهود العدول، ولا يعذر الشاهد إذا امتنع عن الإدلاء بشهادته وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا «9» ، وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «10» . وقد شدّد النبي صلّى الله عليه وسلّم على شهادة الزور «11» . وقضى: «البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر» الذي ورد في ثنايا حديث شريف «12» .
ولم تكن في المدينة خلال عصر السيرة، قوى أمن أو شرطة تفرض النظام وتحقق الأمن، لذلك نصت الوثيقة على أن هذه المهمة يقوم بها جميع المؤمنين، فهم يسعون للضرب على أيدي الجناة، ولا يساعدونهم في الهرب من العدالة «ولو كان ولد أحدهم» . وقد نجحت هذه الخطة، وبعد أن كان الثأر هو القاعدة لتسوية الحسابات قبل الإسلام، فإنه صار حالة استثنائية نادرة، ولم يسجل التاريخ إلّا بضع حالات جرت في ظروف خاصة
__________
(1) القرآن الكريم- سورة النساء، الآية/ 58.
(2) القرآن الكريم- سورة المائدة، الآية/ 48.
(3) القرآن الكريم- سورة النساء، الآية/ 65.
(4) الماوردي- أدب القاضي 2/ 254- 258.
(5) أحمد- المسند 5/ 236، 242.
(6) أبو داود- السنن (عون المعبود 9/ 498- 9) .
(7) البخاري- الصحيح- كتاب الأحكام 13، أحمد- المسند 5/ 52، 181.
(8) مسلم- الصحيح- كتاب الحدود ص/ 22- 23، الدارمي- السنن- الحدود ص/ 17، ابن ماجه- السنن، حدود ص/ 24. والبخاري في مواضع.
(9) القرآن الكريم- سورة البقرة، الآية/ 282.
(10) القرآن الكريم- سورة الطلاق، الآية/ 2.
(11) البخاري- الصحيح، الاستتابة/ 1، الديات/ 2، الحيل/ 11، مسلم- الصحيح، كتاب الإيمان ص/ 143- 144.
(12) البخاري- الصحيح، كتاب الرهن ص 6.(1/278)
مشتبهة. كما لم تسجل في المجتمع المدني سوى حالة اغتصاب واحدة لامرأة تعرضت لها في الغلس قبيل صلاة الفجر، وهي في طريقها إلى المسجد النبوي. وسجلت حادثة تشهير بامرأة مسلمة من قبل صائغ يهودي. وسجلت أربع حوادث زنا اعترف اثنان من مرتكبيها طواعية طلبا للتطهر من الذنب، وأقيم الحد عليهما وعلى الاثنين الآخرين. وسجلت حالة قتل لمسلم في منطقة سكن اليهود، وحادثة قتل أخرى لمسلمة قتلها يهودي برضخ رأسها بالحجارة. ويمكن إضافة حادثة ارتداد أدت إلى مقتل راعي سرح الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهذا هو كل الذي سجلته المصادر من الجرائم والجنايات خلال السنوات العشر التي حكم فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم الدولة الإسلامية الأولى.
أما في مجال التعليم، فقد منح الإسلام العلم مكانة عالية مقدّسة حين جعل طلبه فريضة على كل مسلم، واعتبره عبادة «1» . وقد سعت الحكومة النبوية إلى نشر التعليم بين المسلمين، وكانت مشكلة الأمية الشائعة بحاجة إلى علاج سريع، لحاجة الدولة إلى كتّاب للوحي، وكتّاب للعقود، وكتّاب رسائل، لمراسلة الأمراء والملوك الحاكمين في الدول المجاورة، وكذلك كتاب إدارة يستعان بهم في مراسلة الولاة والعمال والقضاة الموظفين في الدولة.
وقد صدرت البادرة الأولى عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم نفسه عند ما أمر بعض المتعلمين من المسلمين بتعليم الآخرين، وأمر بعض الأسرى ببدر بتعليم شباب الأنصار الكتابة مقابل مفاداتهم، وأرسل المعلمين- وسط الأخطار- في البوادي للدعوة ولتعليم الناس القرآن وتفقيههم بالدين. وكانت حلقات العلم في المسجد النبوي وبقية المساجد التي شيدت في عصر الرسالة تقوم بعملية التثقيف بصورة يومية، وهي تتسع مع الأيام لتشمل أعدادا كبيرة متزايدة.
وكان التعليم يحقق القوة والاستقرار والتماسك في المجتمع الوليد، لأنه ارتبط منذ البدء بالقيم الدينية والأخلاقية.
وقد تحددت عدة قيم تخص التعليم منها: استحضار النية الخالصة لله في طلب العلم «2» . وعدم جواز كتم العلم لوجود حق عام للناس في علم العالم «3» . والتعليم حق للجميع وهو مجاني «4» . وقد لوحظ في التعليم اختلاف الاستعداد العقلي عند الناس «5» . وروعيت الحالة النفسية للمتعلمين «6» . وكانت طرق التلقي هي السماع والعرض والمذاكرة والسؤال، ولكن السماع كان أكثر انتشارا، لقلة المواد المكتوبة إلّا ما يتعلق بكتابة القرآن.
ومن أشهر المعلمين في عصر السيرة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وهو المعلم الأول- مصعب بن عمير الذي قام بتفقيه أهل المدينة وتعليمهم القرآن قبل الهجرة النبوية «7» ، وعبادة بن الصامت الذي كان يعلم أهل الصفة القراءة
__________
(1) ابن ماجه- السنن 1/ 81 (حديث 244) ، أبو داود- السنن (حديث 3664) .
(2) أبو داود- السنن (حديث 3664) .
(3) القرآن الكريم- سورة البقرة، الآيات/ 159، 74، أبو داود- السنن (حديث 3658) .
(4) أبو داود- السنن (حديث 3416) ، البيهقي- السنن 6/ 126.
(5) الترمذي- سنن 5/ 34.
(6) البخاري- الصحيح (فتح الباري 1/ 163 حديث 70) ، مسلم- الصحيح 4/ 2172.
(7) ابن حجر- الإصابة 1/ 124.(1/279)
والكتابة «1» ، والحكم بن سعيد بن العاص وكان يعلم الكتابة والحكمة «2» ، وعبد الله بن سعيد بن العاص وكان يعلم الكتابة «3» . ومن المعلمين الرواد في المسجد النبوي: سعد بن الربيع الخزرجي، وبشير بن سعد بن ثعلبة، وأبان بن سعيد بن العاص «4» .
ومن النساء: الشفاء بنت عبد الله العدوية القرشية وكانت تعلم النساء الكتابة «5» .
وكان من ثمار السياسة التعليمية التي اختطها الرسول صلّى الله عليه وسلّم ازدياد عدد الكاتبين حتى بلغ عدد كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وحدهم خمسين كاتبا «6» .
وقد تعرضت الوفود التي أرسلها النبي صلّى الله عليه وسلّم لتعليم أبناء القبائل في البوادي للأخطار فقد استشهد معظم المشاركين فيها «7» . وتم إرسال معاذ بن جبل إلى مكة، ثم إلى الجند باليمن، لتعليم الناس القرآن وشرائع الإسلام «8» ، كما تمّ إرسال أبي عبيدة عامر بن الجراح إلى أهل نجران، وأرسل بعده عمرو بن حزم لتفقيههم في الدين والقرآن والسنة «9» .
وكانت موضوعات التعليم هي القرآن وعلومه، والحديث، والفقه، واللغة العربية، والتاريخ والأنساب، والشعر، والقصص والحكم والأمثال.
وكانت المدينة أهم مراكز العلم في عصر السيرة، ومنها انتشر إلى بقية المدن.
خبر الأذان:
أورد ابن هشام رواية ابن إسحاق التي جاء فيها: «لما اطمأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين، واجتمع إليه أمر الأنصار، استحكم أمر الإسلام، فقامت الصلاة، وفرضت الزكاة والصيام، وقامت الحدود، وفرض الحلال والحرام وتبوّءوا الإسلام بين أظهرهم، وكان هذا الحي من الأنصار هم الذين تبوّءوا الدار والإيمان، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حينما قدمها إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها، بغير دعوة» «10» . وهذا صريح في أن الأذان لم يشرع إلى ما بعد تنظيم المدينة ونشأة الحكومة الإسلامية، وقد نقل ابن
__________
(1) أحمد- المسند 5/ 315.
(2) ابن حجر- الاصابة 2/ 102- 103.
(3) المرجع السابق 1/ 344.
(4) ابن سعد- الطبقات 3/ 531، ابن حجر- الاصابة 1/ 10.
(5) ابن حجر- الاصابة 7/ 727، 729.
(6) الخزاعي- تخريج الدلالات ص/ 159، 173.
(7) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 38، 386- 388) .
(8) ابن سعد- الطبقات 7/ 388.
(9) أحمد- المسند 3/ 212، ابن سعد- الطبقات 3/ 411- 412.
(10) ابن هشام- السيرة النبوية 1/ 508، وقد رواه الترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح كما قال الشيخ الألباني- صحيح سنن الترمذي 1/ 61- 62، وقد ورد كذلك في صحيح مسلم بشرح النووي 4/ 75، وانظر: مادة «أذان» في مفتاح كنوز السنّة، وكذلك ابن حجر- فتح الباري 3/ 272.(1/280)
هشام خبرا عن رؤيا عبد الله بن زيد الخزرجي الأنصاري النداء بالأذان، وأنه أعلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك «1» ، فطلب إليه أن يعلمه بلال بن رباح، ففعل، وأذن بلال فسمع ذلك عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وهو في بيته، فخرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يجر رداءه، وهو يقول: «يا نبي الله، والذي بعثك بالحق، لقد رأيت مثل الذي رأى» «2» .
وأورد ابن إسحاق رواية أخرى عن عبيد بن عمير الليثي جاء فيها قوله: «ائتمر (تشاور) النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بالناقوس للاجتماع للصلاة، فبينما عمر بن الخطاب يريد أن يشتري خشبتين للناقوس، إذ رأى في المنام من يقول له: لا تجعلوا الناقوس، بل أذّنوا للصلاة، فذهب عمر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ليخبره بالذي رأى، وقد جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم الوحي بذلك، فما راع عمر إلّا بلال يؤذن، فقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم حين أخبره بذلك: «قد سبقك بذلك الوحي» «3» .
__________
(1) ابن هشام- السيرة 1/ 508.
(2) المرجع السابق 1/ 509.
(3) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.(1/281)
طلائع حركة الجهاد:
مرحلة ما بعد الهجرة حتى معركة بدر:
وتتمثل هذه المرحلة في الغزوات والسرايا التي قام بها المسلمون وفق مخطط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لتهديد اقتصاد مكة، وتأمين الوجود الإسلامي في المدينة عن طريق عقد المحالفات مع القبائل حول المدينة، وإبراز قوة المسلمين أما اليهود والمشركين داخل المدينة، والقبائل العربية خارجها، إضافة إلى تدريب قوات الجهاد على التحمل والطاعة وتنفيذ الأوامر والانضباط وحسن التصرف في حالة حصول مفاجئات إلى جانب التعرف الدقيق على الطرق والمواضع واكتساب الخبرات المتنوعة في فنون القتال.
وتشير المصادر إلى أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم عقد عددا من العهود والمواثيق على النصح والسلم والمناصرة والتعاون في القتال مع عدد من الزعماء، ومن ذلك كتاب الأمان إلى بديل بن ورقاء وبسر بن عمرو الخزاعي وأخيه سروات بن عمرو «1» ، وكتابه إلى أسلم بن خزاعة وفيه الإقرار بالمناصرة «2» ، وكتابه إلى بني غفار وفيه اتفاق على المناصرة المتبادلة ضد من يحاربهم ويحارب المسلمين «3» ، وكتابه إلى نعيم بن مسعود الأشجعي على المحالفة والنصر والنصيحة «4» .
غزوة ودّان «الأبواء» :
وهي أول غزواته صلّى الله عليه وسلّم، فقد خرج غازيا من المدينة في الثاني عشر من شهر صفر بعد مضي سنة كاملة على قدومه إلى المدينة (سنة 2 هـ) ، حتى بلغ ودان «5» ، وكان يستهدف قريشا وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناه بن كنانة.
وقد وادعه مخشي بن عمرو الضّمري عن بني ضمرة «ألّا يكثروا عليه ولا يعينوا عليه أحدا» «6» . وقد عاد عليه الصلاة والسلام بقواته إلى المدينة ولم يلق كيدا، «فأقام بها بقية صفر، وصدرا من شهر ربيع الأول» «7» .
سريّة عبيدة بن الحارث:
وكانت أول راية عقدها النبي صلّى الله عليه وسلّم هي راية سريّة عبيدة بن الحارث الذي بعثه في ستين رجلا من المهاجرين بعد عودته من غزوة ودّان، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرّة، فلقي جمعا عظيما من قريش عليهم عكرمة ابن أبي جهل، فلم يكن بينهم قتال، إذ حصل تناوش وتراشق بالسهام، وكان سعد بن أبي وقاص أول من رمى بسهم في الإسلام في هذه السريّة، ثم انصرف القوم بعضهم عن بعض، وللمسلمين حامية، وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة، وعتبة بن غزوان بن جابر المازني حليف بني نوفل بن عبد مناف وكانا
__________
(1) ابن الأثير- أسد الغابة 1/ 170، ابن سعد- الطبقات 1/ 272.
(2) ابن سعد- الطبقات 1/ 271.
(3) المرجع السابق 1/ 274.
(4) ابن هشام- السيرة 1/ 299 1/ 274.
(5) إحدى القرى الجامعة في منطقة الفرع، تبعد عن المدينة حوالي 24 ميلا.
(6) أورد ابن سعد- الطبقات 1/ 275 نص الكتاب.
(7) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 279) ، خليفة بن خياط- تاريخ ص/ 56، ابن هشام- السيرة 1/ 590- 91.(1/282)
مسلمين ولكنهما جعلا خروجهما مع الكفار وسيلة للوصول إلى المسلمين «1» .
سريّة حمزة إلى سيف البحر:
وأرسل الرسول صلّى الله عليه وسلّم سريّة من ثلاثين رجلا جعل عليهم عمه حمزة بن عبد المطلب، إلى سيف البحر ليعترضوا قافلة تجارية لقريش قادمة من الشام فيها أبو جهل في ثلاثمائة رجل، ولكنهم لم يشتبكوا مع قريش في قتال فقد حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني وكان حليفا للطرفين «2» .
غزوة بواط:
قاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم غزوة شارك فيها مائتين من الصحابة، استهدفت اعتراض قافلة تجارية لقريش يرأسها أمية ابن خلف ويرعاها مائة رجل من قريش، وفيها ألفان وخمسمائة بعير محملة بأنواع البضائع- وقد وصل النبي صلّى الله عليه وسلّم بقواته إلى بواط، وهي من جبال جهينة من ناحية رضوى، ثم رجع حين لم يعثر على القافلة، ولم يلق حربا «3» .
وكان قد استعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون «4» .
غزوة العشيرة:
وغزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريشا لاعتراض قوافلها التجارية، وكان معه مائة وخمسون من أصحابه، فبلغ العشيرة بناحية ينبع، وفاتته العير، ووادع في هذه الغزوة بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة، ثم عاد إلى المدينة، ولم يلق حربا «5» .
سريّة سعد بن أبي وقاص إلى الخرّار:
بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم أن عيرا لقريش في طريقها إلى مكة، وأنها قد أخذت طريق الخرّار «6» ، فانتدب سعد بن أبي وقاص لقيادة سريّة لاعتراضها، يقول سعد: «فخرجت في عشرين رجلا أو إحدى وعشرين «7» على أقدامنا، نكمن بالنهار ونسير بالليل حتى صبحناها صبح خمس، فنجد العير قد مرّت بالأمس، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم عهد إليّ ألّا أجاوز الخرّار، ولولا ذلك لرجوت أن أدركهم» «8» .
غزوة بدر الأولى (الصغرى) :
أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة المنورة في أعقاب غزوة العشيرة، ونهب بعض الإبل والمواشي،
__________
(1) ابن هشام- السيرة 1/ 591- 2، الواقدي- المغازي 1/ 10 دون إسناد، ابن سعد- الطبقات 2/ 7.
(2) الواقدي- المغازي 1/ 9، ابن هشام- السيرة النبوية 1/ 595، ابن سعد- الطبقات 2/ 6.
(3) ابن هشام- السيرة 1/ 598، الواقدي- المغازي 1/ 12، ابن سعد- الطبقات 2/ 908.
(4) ابن هشام- السيرة 1/ 598.
(5) البخاري- الصحيح (الفتح باب غزوة العشيرة، الحديث 3949) ، ابن هشام- السيرة 1/ 598- 99، الواقدي- المغازي 1/ 12، ابن سعد- الطبقات 2/ 9- 10.
(6) الخرار- موضع من الجحفة، قريب من خم، الواقدي 1/ 11.
(7) جعلهم ابن إسحاق ثمانية، ابن هشام- السيرة 1/ 600.
(8) الواقدي- المغازي 1/ 11 بإسناد متصل، ابن هشام- السيرة 1/ 600، ابن سعد- الطبقات 2/ 7.(1/283)
فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطارده مع عدد من الصحابة، إلى أن وصلوا وادي سفوان من نواحي بدر، وتمكن كرز الفهري من الإفلات من حملة المطاردة، وقد تأكد من جرّاء هذا الحادث ضرورة توثيق المسلمين لعلاقاتهم مع القبائل المجاورة للمدينة «1» . وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد استعمل على المدينة زيد بن حارثة «2» .
سريّة عبد الله بن جحش إلى نخلة:
أراد الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يربك قريشا ويضيق عليها في تجارتها، ولذلك فإنه صلّى الله عليه وسلّم لم يقتصر في تعرضه لتجارة قريش على الشام وإليها، وإنما وسّع ذلك ليشمل طرق تجارتها مع اليمن أيضا، ولذلك فقد بعث عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي عند عودته من غزوة بدر الصغرى، وأرسل معه ثمانية من المهاجرين، ليس فيهم أحد من الأنصار، وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، «فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحدا» . وقد نفذ عبد الله بن جحش توجيهات الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وتبين له أنه قد أمره بالتوجه إلى نخلة- بين الطائف ومكة- ليرصد قريشا ويعلم أخبارهم وألّا يستكره أحدا ممن كانوا معه. غير أن أحدا منهم لم يتخلّف عن تنفيذ أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكنهم تعرضوا لقافلة تجارية قرشية، فظفروا بها وقتلوا قائدها، وأسروا اثنين من رجالها وعادوا بها وبالأسرى إلى المدينة «3» . وقد أبى النبي صلّى الله عليه وسلّم تسلم الغنيمة وقال لعبد الله بن جحش وأصحابه: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» وظن القوم أنهم هلكوا.
استغلت قريش حصول هذه الحادثة في الشهر الحرام، فأثارت ضجة إعلامية كبيرة أعلنت فيها أن المسلمين ينتهكون حرمة الأشهر الحرم، وكان لذلك أثره الخطير على نظرة القبائل العربية والحواضر إلى المسلمين، فالحادثة تمثل خروجا على المألوف، وهي خرق للأعراف التي التزم بها العرب في منع الاقتتال في الأشهر الحرم فترة طويلة قبل الإسلام. ولكن لما كثر الكلام في ذلك، أنزل الله تعالى حكمه في ذلك، قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «4» . وعند ذلك تسلم الرسول صلّى الله عليه وسلّم الغنائم، وفادى الأسيرين مع قريش «5» .
__________
(1) ابن هشام- السيرة 1/ 601، الواقدي- مغازي 1/ 12، ابن سعد- الطبقات 2/ 9، وانظر: خليفة بن خياط- تاريخ ص 57.
(2) ابن هشام- السيرة 1/ 601 برواية بدون اسناد.
(3) خليفة بن خياط- التاريخ ص/ 63، وذكر ابن حجر في الإصابة 2/ 278 أن قصة هذه السرية قد خرجها الطبراني، وانظر: الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 66- 67، ابن هشام- السيرة 1/ 601- 605، ابن كثير- البداية 3/ 274، التفسير 1/ 368- 369.
(4) القرآن الكريم- سورة البقرة، الآيات/ 217- 218.
(5) ابن كثير- التفسير 1/ 368- 9. وانظر: ابن هشام- السيرة 1/ 601- 605، من مراسيل عروة بن الزبير، البيهقي- السنن 9/ 12، 58- 59، بسند صحيح إلى عروة، ابن كثير- البداية 1/ 251.(1/284)
تحويل القبلة إلى الكعبة:
ورد عن عبد الله بن عباس رواية صحيحة الإسناد جاء فيها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتجه في صلاته بمكة قبل الهجرة إلى بيت المقدس تاركا الكعبة المشرفة بينه وبين بيت المقدس «1» . وكذلك كان يفعل المسلمون إذ يتوجهون إلى بيت المقدس، وبيّن سعيد بن المسيّب أن الأنصار كانوا يصلون إلى بيت المقدس قبل الهجرة بثلاث سنوات.
وبعد هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة استمر في التوجّه بصلاته نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا «2» .
وفي منتصف رجب من السنة الثانية للهجرة أمر الله تعالى نبيه والمسلمين بالتحول في الصلاة نحو الكعبة المشرفة قبلة إبراهيم وإسماعيل.- عليهما السلام- وقد حدد سعيد بن المسيب تاريخ هذا الحادث بشهرين قبل معركة بدر «3» .
كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكثر من الدعاء والتضرع يسأل ربه أن يصرف قبلته والمسلمين إلى الكعبة المشرفة، فأنزل الله تعالى قوله: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ «4» .
وكانت أول صلاة صلاها النبي صلّى الله عليه وسلّم مستقبلا الكعبة المشرفة والمسجد الحرام صلاة الظهر «5» . أما أهل قباء من المسلمين فقد تأخر وصول الخبر إليهم إلى فجر اليوم التالي وهم يصلون الصبح، فتحولوا عند ذلك «6» .
وكان اليهود قبل تحويل القبلة يرون بأن شريعة الإسلام تابعتهم في قبلتهم، ويشيعون كذبا بأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم يأخذ عنهم في التقاليد والطقوس، حتى أنهم قالوا عنه صلّى الله عليه وسلّم: «يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا» «7» .
ولذلك فقد كان وقع تغيير القبلة من بيت المقدس وتوجيهها إلى الكعبة المشرفة شديدا على اليهود، وقاموا عند ذلك بدعاية مضادّة واسعة النطاق تساءلوا فيها عن مبررات تحويل القبلة «الحق التي كانوا عليها» بزعمهم، فأنزل الله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «8» .
ولما يئس اليهود من محاولتهم الأولى، زعموا بأن البر هو التوجه بالصلاة إلى بيت المقدس، فأنزل الله في ذلك قرآنا: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ
__________
(1) ابن سعد- الطبقات 1/ 243، البخاري- الصحيح (فتح الباري 1/ 95- 96) .
(2) الطبري- تفسير 2/ 4، وانظر: البخاري (فتح الباري 1/ 96- 97) .
(3) خليفة بن خياط- التاريخ ص/ 64، ابن سعد- الطبقات 1/ 242، تفسير الطبري 2/ 3.
(4) القرآن الكريم- سورة البقرة، الآية/ 144.
(5) وكان ذلك في مسجد بني سلمة، وحين عاد إلى مسجده صلّى الله عليه وسلّم صلى فيه العصر، فتح الباري 1/ 97، وانظر: (الحديث 4486) .
(6) البخاري- الصحيح (فتح الباري 1/ 97) .
(7) الطبري- تفسير 2/ 20.
(8) القرآن الكريم- سورة البقرة، الآية 142، وانظر: الطبري- تفسير 2/ 1- 2.(1/285)
الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ «1» . وبذلك أفشلت جميع محاولات اليهود الدعائية الواسعة للتشكيك في القبلة.
غزوة بدر الكبرى:
لم يكن المسلمون قد اشتبكوا مع قريش بشكل حاسم حتى تاريخ هذه الغزوة، وذلك ما أتاح لقريش مواصلة إرسال قوافلها التي كانت تمثل شريان الحياة لاقتصادها، ويلاحظ أن قريشا استشعرت الخطر فأخذت تهيىء لقوافلها حراسات شديدة وكثيفة، وتنوع الطرق التي تسلكها. وكان المسلمون يرصدون تحرك القوافل القرشية وتتجمع لديهم الأخبار عن محتواها وبضاعتها وحراساتها والطرق التي تسلكها.
بلغ المسلمين تحرك قافلة تجارية كبيرة من الشام وهي تحمل أموالا عظيمة «2» لقريش يقودها أبو سفيان ويقوم على حراستها بين ثلاثين وأربعين رجلا «3» ، فأرسل الرسول صلّى الله عليه وسلّم بسبس بن عمرو «4» لاستطلاع أخبار القافلة، فلمّا عاد بسبس بخبرها ندب النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه للخروج متعجلا بمن كانوا على استعداد دون أن ينتظر تهيؤ الآخرين ممن أبدى رغبة في الخروج، حرصا منه على ألّا تفوتهم القافلة «5» ، وكلّف عبد الله بن أم مكتوم بالصلاة بالناس في المدينة عند خروجه إلى بدر، ثم أعاد أبا لبابة من الروحاء إلى المدينة وعيّنه أميرا عليها «6» .
أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم اثنين من أصحابه «7» إلى بدر طليعة للتعرف على أخبار القافلة، فرجعا إليه بخبرها «8» ، وقد حصل خلاف بين المصادر الصحيحة حول عدد الصحابة الذين رافقوا النبي صلّى الله عليه وسلّم في غزوته هذه إلى بدر، ففي حين جعلهم البخاري «بضعة عشر وثلاثمائة» «9» ، يذكر مسلم بأنهم ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا «10» ، في حين ذكرت المصادر أسماء ثلاثمائة وأربعين من الصحابة البدريين «11» . غير أن علينا أن نتذكر بأن قوات المسلمين هذه التي صاحبت النبي صلّى الله عليه وسلّم في غزوته إلى بدر لا تمثل الطاقة العسكرية القصوى للحكومة النبوية، ذلك أنهم إنما
__________
(1) القرآن الكريم- سورة البقرة، الآية/ 177.
(2) قدرت قيمة البضائع التي تحملها القافلة بخمسين ألف دينار، انظر: الواقدي- المغازي 1/ 200، البلاذري- أنساب الأشراف 1/ 312.
(3) ابن حزم- جوامع السيرة ص/ 107.
(4) ورد الإسم في صحيح مسلم بصيغة التأنيث مصحّفا إلى «بسيسة» ، وصححه ابن حجر في الإصابة 1/ 151.
(5) مسلم- الصحيح (شرح النووي 12/ 84 حديث 1157) .
(6) الحاكم- المستدرك 3/ 632. ابن كثير، البداية والنهاية 3/ 260.
(7) وهما عدي بن الزغباء، وبسبس بن عمرو، انظر ابن سعد- الطبقات 2/ 24.
(8) ابن سعد- الطبقات 2/ 24 بإسناد صحيح.
(9) فتح الباري 7/ 290- 292.
(10) مسلم- الصحيح (بشرح النووي 12/ 84) وتذكر الرواية وهي عن طريق الزبير بن العوام وقد شهد الموقعة بأن منهم مائة من المهاجرين والباقي من الأنصار، في حين ذكر البراء بن عازب أن المهاجرين كانوا يزيدون على الستين وأن الأنصار يزيدون على أربعين ومائتين (فتح الباري 7/ 290- 292، 324- 326) .
(11) مثلا: ابن كثير- البداية والنهاية 3/ 314، وكذلك كتب الطبقات لابن سعد وخليفة بن خياط العصفري.(1/286)
خرجوا لاعتراض قافلة تجارية واحتوائها، يدل على ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للمسلمين: «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعلّ الله ينفلكموها» «1» ، ولم يكونوا يعلمون أنهم سوف يواجهون قوات قريش وأحلافها مجتمعة للحرب والتي بلغ تعدادها ألفا «2» ، معهم مائتا فرس يقودونها إلى جانب جمالهم، ومعهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه «3» ، في حين لم يكن مع القوات الإسلامية من الخيل إلا فرسان، وكان معهم سبعون بعيرا يتعاقبون ركوبها «4» .
بلغ أبا سفيان خبر مسير النبي صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه من المدينة بقصد اعتراض قافلته واحتوائها، فبادر إلى تحويل مسارها إلى طريق الساحل، في نفس الوقت الذي أرسل فيه إلى قريش يستنفرها لإنقاذ قافلتها وأموالها. وكان وقع ذلك شديدا على قريش، التي اشتاط زعماؤها غضبا لما يرونه من امتهان للكرامة، وتعريض للمصالح الاقتصادية للأخطار إلى جانب ما ينجم عن ذلك من انحطاط لمكانة قريش بين القبائل العربية الأخرى ولذلك فقد سعوا إلى الخروج لمجابهة الأمر بأقصى طاقاتهم القتالية «5» .
وأرسل أبو سفيان بعد ذلك إلى زعماء قريش وهم بالجحفة برسالة أخبرهم فيها بنجاته والقافلة، وطلب منهم العودة إلى مكة، وذلك أدّى إلى حصول انقسام حاد في آراء زعماء قريش، فقد أصر أغلبهم على التقدم نحو بدر من أجل تأديب المسلمين وتأمين سلامة طريق التجارة القرشية «6» وإشعار القبائل العربية الأخرى بمدى قوة قريش وسلطانها «7» . وقد انشق بنو زهرة «8» ، ومن كان مع قريش من بني هاشم «9» . وعادوا إلى مكة، أما غالبية قوات قريش وأحلافهم فقد تقدمت حتى وصلت إلى منطقة بدر.
بلغت أخبار تجمع قريش وتقدمهم تجاه منطقة بدر إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو في طريقه إلى بدر، فاستشار أصحابه في الأمر «10» ، وأبدى بعض الصحابة عدم ارتياحهم لمسألة المواجهة الحربية مع قريش حيث إنهم لم يتوقعوا المواجهة ولم يستعدوا لها، وحاولوا اقناع الرسول صلّى الله عليه وسلّم بوجهة نظرهم، وقد صور القرآن الكريم موقفهم
__________
(1) ابن هشام- السيرة 2/ 61 بسند صحيح إلى عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما-.
(2) مسلم- الصحيح (بشرح النووي 12/ 84) .
(3) ابن كثير- البداية 3/ 260.
(4) أحمد- المسند 1/ 411، والحاكم- المستدرك 3/ 20. الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 69، ابن كثير- البداية والنهاية 3/ 260، ابن حزم- جوامع السيرة ص 108.
(5) ابن حجر- فتح الباري 7/ 283، ابن هشام- السيرة 2/ 298، 311 بأسانيد حسنة.
(6) كان عدد بني زهرة في قوات قريش حوالي ثلاثمائة مقاتل، ابن هشام- السيرة 2/ 212.
(7) الطبري- تفسير 13/ 579.
(8) نصحهم بذلك الأخنس بن شريف في أعقاب وصول أنباء نجاة القافلة، ابن هشام- السيرة 2/ 301، الطبري- تاريخ 2/ 443.
(9) كانوا بقيادة طالب بن أبي طالب، وكانت قريش قد اتهمتهم بأن هواهم مع محمد صلّى الله عليه وسلّم، ابن هشام- السيرة 2/ 311- 312.
(10) البخاري- الصحيح (حديث 3952) ، مسلم- الصحيح (حديث 1779) ، أحمد- الفتح الربّاني 21/ 29- 30، ابن أبي شيبة- المصنف 14/ 355، ابن كثير- البداية 3/ 262- 63.(1/287)
وأحوال الفئة المؤمنة عموما في قوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ* يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ* وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ* لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ «1» .
وقد أجمع قادة المهاجرين على تأييد فكرة التقدم لملاقاة العدو «2» . وبعد ذلك عاد النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أشيروا عليّ أيّها النّاس» وكان إنما يقصد الأنصار، لأنهم غالبية جنده، ولأن بيعة العقبة الثانية لم تكن في ظاهرها ملزمة لهم بحماية الرسول صلّى الله عليه وسلّم خارج المدينة. وقد أدرك الصحابي سعد بن معاذ، وهو حامل لواء الأنصار، مقصد النبي صلّى الله عليه وسلّم من ذلك فنهض قائلا: «والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟» قال صلّى الله عليه وسلّم: «أجل» ، قال: «لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر على بركة الله» «3» .
سرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم من مقالة سعد بن معاذ، ونشّطه ذلك، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «سيروا وأبشروا، فإنّ الله تعالى قد وعدني إحدى الطّائفتين. والله لكأنّي أنظر إلى مصارع القوم» «4» .
نظّم النبي صلّى الله عليه وسلّم جنده، بعد أن رأى طاعة الصحابة وشجاعتهم واجتماعهم على القتال، وعقد اللواء الأبيض وسلمه إلى مصعب بن عمير، وأعطى رايتين سوداوين إلى سعد بن معاذ، وعلي بن أبي طالب، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة «5» .
وحصل الرسول صلّى الله عليه وسلّم على معلومات كثيرة عن موقع الجيش المكي، ومن به من الأشراف، واستنتج عدد أفراده من معرفته لعدد ما ينحر لهم يوميّا من الجمال وتوجّه صلّى الله عليه وسلّم لقومه قائلا: «هذه مكّة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» «6» .
وقد ظهر الخلاف بين زعماء قريش، فقد حاول عتبة بن ربيعة أن يثني قومه عن القتال محذرا من مغبته وخاصة أن بين الفريقين أرحام موصولة، غير أن أبا جهل خطّل رأيه واتهمه بالجبن «7» .
أنزل الله تعالى في ليلة بدر على المؤمنين نعاسا أمنهم وأراحهم، ومطرا طهرهم به، وأذهب عنهم رجس الشيطان وربط على قلوبهم وثبّت به أقدامهم، قال تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الأنفال، الآيات/ 5- 8.
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 3952) ، أحمد- المسند 5/ 259، ابن هشام- السيرة 2/ 305.
(3) مسلم- الصحيح 3/ 1404 (حديث 1779) ، ابن كثير- البدآية 3/ 351.
(4) ابن كثير- البدآية 3/ 262- 3 بإسناد صحيح، وذكر الحافظ ابن كثير أن له شواهد في وجوه كثيرة إذ رواه البخاري والنسائي والإمام أحمد (فتح الباري- 7/ 287) ، وأحمد- المسند 5/ 259 (حديث 3698) .
(5) ابن القيم- زاد المعاد 2/ 85.
(6) مسلم- الصحيح 3/ 1404، كما ورد في السيرة النبوية لابن هشام بروآية ابن إسحاق.
(7) أحمد- الفتح الرباني 21/ 43، الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 76، ابن كثير- البدآية 3/ 295- 6.(1/288)
ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ «1» .
وقد وصف الصحابي الجليل علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- حال المسلمين في معسكر النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة السابع عشر من رمضان وهي ليلة معركة بدر الكبرى، فقال: «لقد رأيتنا يوم بدر، وما منا إلا نائم، إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح ... ثم إنه أصابنا من الليل طش من مطر ... وبات النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو ربه ويقول: «اللهمّ إن تهلك هذه الفئة لا تعبد» ، فلما طلع الفجر نادى للصلاة ... فصلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحرّض على القتال» «2» .
وصل المسلمون إلى بدر واستطلعوا الموضع قبل وصول قوات قريش، وقد وردت رواية حسنة السند تذكر أن الحباب بن المنذر أشار على النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن: «نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله ونغوّر ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملأه ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون» «3» ، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد قبل مشورته وفعل بما أشار به الحباب بن المنذر «4» .
وفي صباح السابع عشر من شهر رمضان نظّم الرسول صلّى الله عليه وسلّم جيشه على هيئة صفوف «5» ، ثم بني للنبي صلّى الله عليه وسلّم عريش- باقتراح من سعد بن معاذ- ليدير منه المعركة. وأكثر النبي صلّى الله عليه وسلّم من الدعاء، واستغاث بالله تعالى «فما زال يهتف بربه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه ... فأنزل الله عزّ وجلّ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ «6» ، فأمده الله بالملائكة» «7» .
وقد ثبت أنه صلّى الله عليه وسلّم خرج من مقر قيادته- العريش- وهو يقرأ قول الله عزّ وجلّ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «8» .
ويفهم من النصوص الكثيرة والصحيحة الواردة عن أحداث المعركة يوم بدر أن النبي عليه السلام شارك شخصيّا في القتال وكان أقرب الناس إلى خطوط العدو كما كان أشد المؤمنين بأسا «9» . وقد نقل الإمام أحمد بسنده عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- قوله: «لما حضر البأس يوم بدر، اتقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان من أشد الناس، ما كان أو لم يكن أحد أقرب من المشركين منه» «10» .
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الأنفال، الآية/ 11، وانظر: أحمد- الفتح الربّاني 21/ 43.
(2) أحمد- الفتح الرباني 21/ 30.
(3) ابن حجر- الإصابة 1/ 302 بسند حسن إلى عروة ولكنه مرسل.
(4) ابن هشام- السيرة 2/ 312- 313 وإسناده مرسل موقوف على عروة كما في المصدر السابق، والحاكم- المستدرك 3/ 446- 447، قال الذهبي عنه حديث منكر، وفي البداية والنهاية 3/ 293: إسناده منقطع.
(5) أحمد- المسند، وهو أسلوب جديد لم تعتد عليه العرب قبل ذلك يقلل من خسائر الجيش ويعوض عن قلة العدد أمام العدو ويمكن القيادة من إحكام السيطرة. انظر: محمود شيت خطاب- الرسول القائد ص 78- 79.
(6) القرآن الكريم- سورة الأنفال، الآية/ 9.
(7) مسلم- الصحيح (بشرح النووي 12/ 84- 85) .
(8) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 287) .
(9) أحمد- المسند 2/ 64 بإسناد صحيح.
(10) المرجع السابق 2/ 228.(1/289)
وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه صبيحة يوم المعركة أنه: «لا يتقدّمنّ أحد منكم إلى شيء حتّى أكون أنا دونه» «1» ، فدنا المشركون فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قوموا إلى جنّة عرضها السّماوات والأرض» «2» .
تقابل الجيشان ودنا بعضهم من بعض، وأخذ أبو جهل يدعو على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اللهم أيّنا كان أقطع للرحم وأتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة» فكان ذلك استفتاحه الذي أشارت إليه الآية الكريمة: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ «3» .
وبدأ القتال بمبارزات فردية، فقد خرج عتبة بن ربيعة وولداه الوليد وشيبة طالبين المبارزة، ورفضوا مبارزة بعض شباب الأنصار الذين انتدبوا لقتالهم، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم عمه حمزة بن عبد المطلب، وعلى بن أبي طالب، وعبيدة ابن الحارث فبارزوهم وقتلوهم. وفي هؤلاء الستة نزل قوله تعالى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ* يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ* وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ* كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ* إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ* وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ «4» . مما كان له آثاره على الطرفين المتحاربين. وبدأت قريش بالهجوم.
وكانت توجيهات النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أكثبوكم فارموهم واستبقوا نبلكم. ولا تسلّوا السّيوف حتّى يغشوكم» «5» .
وحرضهم صلّى الله عليه وسلّم على القتال قائلا: «والّذي نفس محمّد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا غير مدبر إلّا أدخله الله الجنّة» «6» .
وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد رمى الحصا في وجوه المشركين وذلك صريح في مشاركته الشخصية في المعركة راجلا في مقدمة المسلمين. ويشير القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «7» .
والتقى الجمعان، وكان المسلمون يقاتلونهم وهم يؤملون إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة، وكان شعارهم التوحيد «أحد أحد» ، فشدوا على المشركين واستهدفوا زعماءهم، فقتلوا فرعون الأمة أبا جهل عمرو بن
__________
(1) مسلم- الصحيح 3/ 1510 (حديث 1901) .
(2) المنذري- مختصر صحيح مسلم 2/ 70 (حديث 1157) .
(3) القرآن الكريم- الأنفال، الآية/ 19، وانظر: الطبري- التفسير 13/ 454، والحاكم- المستدرك 2/ 328.
(4) القرآن الكريم- سورة الحج، الآيات/ 19- 24، وانظر: البخاري- الصحيح (فتح الباري- الأحاديث: 3966- 3969) .
(5) أبو داود- السنن 4/ 49.
(6) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 306 الحديث 3985) .
(7) القرآن الكريم- سورة الأنفال، الآية/ 17، وانظر: الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 84، قال: ورواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، وانظر: ابن هشام- السيرة 1/ 323.(1/290)
هشام، وأمية ابن خلف وابنه علي بن أمية وغيرهم كثير «1» . وقد بلغ عدد صرعى المشركين سبعين قتيلا، ومثلهم كان عدد الأسرى «2» . وفر باقي مقاتلة المشركين لا يلوون على شيء. وتركوا أثقالهم وأموالهم في ميدان المعركة، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بأربعة وعشرين قتيلا من صناديد قريش فقذفوا في بعض آبار بدر «3» .
أما شهداء المسلمين فقد دفنوا في أرض المعركة، وكان عددهم أربعة عشر شهيدا «4» ، ولم يرد ما يشير إلى الصلاة عليهم ولم يدفن أحد منهم خارج بدر «5» .
وقد ثبت من نصوص القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة، ومرويات عدد من الصحابة البدريين أن الله سبحانه وتعالى قد أمدّ الفئة المؤمنة بالنصر، وبأنه أمدهم بالملائكة الذين ثبّتوا الذين آمنوا فقاتلوا معهم، وأنه تعالى ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب، قال تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ «6» . وقال تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ* بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ* وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ «7» .
وأورد البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل وغيرهم عددا من الأحاديث الصحيحة التي تشير إلى مشاركة الملائكة في معركة بدر، وقيامهم بضرب المشركين وقتلهم «8» .
وقد حصل خلاف بين المسلمين بعد المعركة بشأن الغنائم إذ لم يكن حكمها قد شرع حتى ذلك الوقت.
فنزلت سورة الأنفال: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 4/ 480، 7/ 293- 96، 321) ، مسلم- الصحيح (بشرح النووي 12/ 59- 60) ، وابن كثير- البدآية 3/ 286، والهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 79، وانظر: عن الشعار ابن هشام- السيرة/ 634.
(2) مسلم- الصحيح (بشرح النووي 12/ 86- 87) وقد صرع عدد منهم في مواضع كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد بينها لأصحابه قبل المعركة ذكرهم بأسمائهم. أحمد- المسند 1/ 232 بإسناد صحيح.
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري حديث 3976) ، مسلم- الصحيح 4/ 2204 (حديث 2875) ، أحمد- المسند 1/ 232 بإسناد صحيح، ابن هشام- السيرة 1/ 339، الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 91 نقلا عن الطبراني، وقال المؤلف: رجاله رجال الصحيح.
(4) ابن هشام- السيرة 1/ 428، ابن كثير- البدآية 3/ 327، وزاد ابن حجر عليهم اثنين آخرين، انظر: الإصابة 3/ 328، 608.
(5) وهذا هو السنّة في الشهداء.
(6) القرآن الكريم- سورة الأنفال، الآية/ 12.
(7) القرآن الكريم- سورة آل عمران، الآيات/ 123- 126.
(8) البخاري- الصحيح (فتح الباري 1/ 311- 312، 7/ 312) ، مسلم- الصحيح (بشرح النووي 12/ 85- 86) ، أحمد- المسند 2/ 194 بإسناد صحيح، الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 75- 76، ابن كثير- البدآية 3/ 284. وأشار أكرم العمري في السيرة النبوية الصحيحة إلى أن بعض الكتاب المسلمين يتحاشون الإشارة إلى مشاركة الملائكة ببدر وهو يرى بأن «هذا من مظاهر الهزيمة أمام الفكر المادّي الذي لا يؤمن إلّا بالمحسوسات» في حين أن الإيمان برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم يقتضي الإيمان بالملائكة (2/ 366) .(1/291)
وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «1» .
وقد قسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على فواق بين المسلمين «2» ، بعد أن أخرج منها الخمس، حيث نزل في ذلك قرآن: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ «3» .
وأسهم النبي صلّى الله عليه وسلّم لتسعة من الصحابة لم يشهدوا بدرا بسبب تكليفهم من قبله بأعمال في المدينة، أو لأنهم لم يشاركوا لأعذار مباحة مثل إصابتهم وهم في طريقهم إلى بدر بجروح أو كسور مما حرمهم من فرصة المشاركة ومن هؤلاء الصحابي عثمان بن عفان الذي أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم بالبقاء في المدينة للعناية بزوجته رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرض موتها «4» .
إن اتضاح الحكم الشرعي في شأن الغنائم بعد نزول آيات الأحكام الخاصة بها، وبكيفية توزيعها قد أدى إلى إلغاء الخلاف الذي كان قد حصل حولها، فقد ثاب الناس إلى طاعة الله ورسوله، وقد تم توزيع الغنائم في موضع الصفراء في طريق عودة الجيش الإسلامي إلى المدينة.
أما الأسرى، فقد استشار النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه في أمرهم، فأشار عليه عمر بن الخطاب بقتلهم ضمانا لقوة الدولة الإسلامية حيث إنهم يشكلون عامل تحدّ وخطورة، ولأنهم أئمة الكفر وصناديد مكة، وأشار أبو بكر الصديق بأخذ الفدية منهم إذ كان يرى أن في ذلك قوة للمسلمين على الكفار، وكان يأمل أن يهديهم الله تعالى للإسلام. وقد أخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم برأي أبي بكر، وقد تباين فداء الأسرى، فمن كان ذا مال أخذ فداؤه، وتتناقص الأموال المأخوذة منهم بعد ذلك تبعا لكفاءتهم المالية وقد حفظت لنا المصادر نماذج منها، فمن ذلك أنه استوفى من العباس بن عبد المطلب مائة أوقية من الذهب فداء عنه، ومن عقيل بن أبي طالب ثمانين أوقية، واستوفى من آخرين أربعين أوقية لكل منهم «5» .
ولقد نزل القرآن الكريم بعد ذلك موافقا لرأي عمر، وذلك في قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ* فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. ثمّ قال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «6» .
أطلق النبي صلّى الله عليه وسلّم سراح عمرو بن أبي سفيان مقابل إطلاق قريش سراح سعد بن النعمان بن أكال الذي
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الأنفال، الآية/ 1، الطبري- التفسير 13/ 367- 371، ابن هشام- السيرة 1/ 344، الحاكم- المستدرك 2/ 326، أحمد- الفتح الرباني 14/ 72.
(2) أي بالتساوي بين المقاتلين المسلمين في بدر، أحمد- المسند (الفتح الرباني 14/ 73) ، ابن حبّان- الموارد ص 410، الحاكم المستدرك 2/ 135.
(3) القرآن الكريم- سورة الأنفال، الآية/ 41، وانظر: البخاري- الصحيح (فتح حديث 4003) ، ابن كثير- البداية والنهاية 3/ 302- 303.
(4) أحمد- المسند 8/ 101 بإسناد صحيح.
(5) مسلم- الصحيح 3/ 1385 حديث 1763.
(6) القرآن الكريم- سورة الأنفال، الايات/ 67- 70.(1/292)
أسره أبو سفيان وهو يعتمر بالبيت العتيق «1» .
وكان المسلمون يقبلون من بعض الأسرى ما عندهم إذا تعذر دفع ما فرض عليهم من الفداء «2» . وأطلق النبي صلّى الله عليه وسلّم أسر بعض الأسرى الذين لم يقدروا على دفع شيء «3» .
أما الأسرى الذين يعرفون القراءة والكتابة، ولم يكن لدى أهليهم أو لديهم مقدرة على الفداء، فقد جعل فداؤهم أن يعلموا أبناء الأنصار القراءة والكتابة، وقد وردت رواية صحيحة الإسناد عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: «كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة ... » «4» .
وفي طريق عودة الجيش الإسلامي إلى المدينة أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقتل اثنين من الأسرى وهما النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط اللذين كانا من أئمة الكفر، يؤذيان المسلمين بمكة ويشتدان في عداوتهما لله ولرسوله، وكان في قتلهما درسا بليغا للطغاة ونهاية حاسمة للجبروت «5» . أما بقية الأسرى فقد استوصى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بهم خيرا «6» .
وقد أسلم عدد منهم على فترات قبل فتح مكة وبعد ذلك «7» .
أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة إلى المدينة ليزفا بشرى النصر، وقد تلقى المسلمون الخبر بسرور بالغ، وقد ذكر أسامة بن زيد أنه لم يصدق الخبر إلى أن رأى الأسرى مقرنين «8» ، وكانت الدهشة تعلو الوجوه إذ لم يصدق الناس في بادىء الأمر أن قريشا قد هزمت، وأن زعماءها قد أصبحوا بين قتيل وأسير، وأن كبرياءها قد تحطمت، وظهرت حقيقة آلهتها الزائفة وعقائدها الباطلة.
لقد كانت معركة بدر من المعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام وقد عرفت في القرآن الكريم بيوم الفرقان لأنها فرّقت بين الحق والباطل، وكان لها أثرها الكبير في إعلاء شأن الإسلام، وانتصار العقيدة السمحاء. ولقد أوضحت الأحاديث النبوية الشريفة مبلغ فضل البدريين وعلو مقامهم. كما كانت أصداء انتصار المسلمين شديدة على أعداء الإسلام من يهود ومشركين، ولم تكد قريش تصدق ما حدث، وحين تأكدت لديها الأخبار، فإنها أقدمت على اتخاذ بعض الإجراءات التي تؤكد عجزها وإسقاط ما في يدها، فقد أمر زعماء مكة بالامتناع عن إقامة العزاء
__________
(1) ابن هشام- السيرة 1/ 357- 358.
(2) أحمد- الفتح الرباني 14/ 100، ابن هشام- السيرة 1/ 359.
(3) ابن هشام- السيرة 1/ 368- 9.
(4) أحمد- المسند 4/ 47 (حديث 2216) وإسناده صحيح.
(5) الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 89، السهيلي- الروض الآنف 3/ 53، وانظر: الطبراني- الكبير 11/ 406 (حديث 12154) ، وأورد ابن هشام في السيرة 2/ 327 أن الآية (27) من سورة الفرقان قد نزلت في عقبة بن أبي معيط هذا، وأخرج ذلك الطبري في تفسيره (19/ 6) عن طريق عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما-، وانظر: ابن كثير- التفسير 6/ 116 وقال: «وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي معيط أو في غيره، فإنها عامة في كل ظالم» .
(6) الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 86، ونقل عن الطبراني في الكبير والصغير، وقال إسناده حسن. وانظر: ابن هشام- السيرة 2/ 349- 50.
(7) السهيلي- الروض الآنف 3/ 125، ابن الأثير- عيون الأثر 1/ 387.
(8) ابن كثير- البداية والنهاية 3/ 304 بإسناد صحيح.(1/293)
على القتلى أو بكائهم والنياحة عليهم، في محاولة لإظهار التجلد حتى لا يشمت بهم المسلمون، كما تصرفت بعصبية ونزق، فقد تآمر صفوان بن أمية على حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بإرساله عمير بن وهب الجمحي بعد أن تحمل عنه ديونه وإعالة أهله، غير أن عالم الغيب أعلم نبيه ومصطفاه صلّى الله عليه وسلّم بالأمر مما أفشل الخطة، بل وأدى ذلك إلى إسلام عمير بن وهب وعودته إلى مكة داعية للإسلام «1» ، كما منعت زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من اللحاق بأبيها في المدينة، وحاول بعض فرسان قريش الاعتداء عليها فأرعبوها برماحهم وأكرهوها على العودة إلى مكة «2» . كما أقدموا على أسر أحد المعتمرين خلافا لما كان عليه العرف في احترام الحجاج والمعتمرين وعدم الاعتداء عليهم.
وهم وإن كانوا قد نجحوا في مقايضته بعمرو بن أبي سفيان «3» فإن ذلك قد كشف للقبائل العربية الأخرى مدى طغيانهم وعدوانهم وحقارتهم. وأخيرا فقد اشترت قريش اثنين من أسرى الرجيع وهما خبيب وابن الدّثنّة وأقدمت على قتلهما للتشفي من المسلمين «4» .
وأورد ابن هشام رواية عن ابن إسحاق قال: «فلما انقضى أمر بدر، أنزل الله عزّ وجلّ فيه من القرآن سورة الأنفال بأسرها» .
ومن العدد الكبير من القصائد التي قيلت في بدر والتي عبّرت عن وجهات نظر الطرفين، نذكر قول حسّان ابن ثابت- رضي الله عنه-:
لقد علمت قريش يوم بدر ... غداة الأسر والقتل الشديد
بأنّا حين تشتجر العوالي ... حماة الحرب يوم أبي الوليد
قتلنا ابني ربيعة يوم سارا ... إلينا في مضاعفة الحديد
وفرّ بها حكيم يوم جالت ... بنو النجار تخطر كالأسود
وولت عند ذاك جموع فهر ... وأسلمها الحويرث من بعيد
لقد لاقيتم ذلّا وقتلا ... جهيزا نافذا تحت الوريد
__________
(1) ابن حجر- الإصابة 3/ 26.
(2) ابن هشام- السيرة 2/ 654- 655.
(3) المرجع السابق 2/ 357- 358.
(4) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 308) .(1/294)
وكل القوم قد ولّوا جميعا ... ولم يلووا على الحسب التليد
وقال حسّان أيضا:
ألا ليت شعري هل أتى أهل مكة ... إبارتنا الكفار في ساعة العسر
قتلنا سراة القوم عند مجالنا ... فلم يرجعوا إلا بقاصمة الظهر
قتلنا أبا جهل وعتبة قبله ... وشيبة يكبو لليدين وللنحر
قتلنا سويدا ثم عتبة بعده ... وطعمة أيضا عند ثائرة القتر
فكم قد قتلنا من كريم مرزّء ... له حسب في قومه نابه الذكر
تركناهم للعاويات ينبنهم ... ويصلون نارا بعد حامية القعر
لعمرك ما حامت فوارس مالك ... وأشياعهم يوم التقينا على بدر
النشاط العسكري الإسلامي بين بدر وأحد:
ارتفعت معنويات المسلمين كثيرا بعد انتصارهم الكبير في معركة بدر الكبرى، وقد حرص المسلمون على تأديب المعاندين من المشركين في نطاق المدينة وما حولها، فقد أقدم عمير بن عدي الخطمي- رضي الله عنه- على قتل عصماء بنت مروان التي كانت تحرض على النبي صلّى الله عليه وسلّم وتعيب الإسلام «1» ، وحين سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك عما إذا كان عليه شيء؟ قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نصرت الله ورسوله يا عمير» «2» ، ثم قال: «لا ينتطح فيها عنزان» «3» . وقد أسلم نتيجة ذلك عدد من بني خطمة وجهر بالإسلام منهم من كان يستخفي «4» .
وقد غزا النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد سبع ليال من عودته إلى المدينة من غزوة بدر، وبلغ ماء الكدر في ديار بني سليم
__________
(1) ابن هشام- 4/ 377- 79، الواقدي- المغازي 1/ 172، ابن سعد- الطبقات 2/ 27.
(2) ابن هشام- السيرة 4/ 379 بإسناد ضعيف، وانظر: أبو داود- السنن 4/ 528- 29.
(3) أبو داود- السنن- كتاب الحدود، باب الحكم فيمن سبّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، 4/ 528- 529 بإسناده متصل ورجاله ثقات، انظر: ابن حجر- بلوغ المرام 2/ 241.
(4) ابن هشام- السيرة 4/ 379، ابن سعد- الطبقات 2/ 27.(1/295)
الذين قصدهم بغزوته هذه، غير أنه لم يلق حربا فأقام ثلاث ليال على الماء ثم رجع إلى المدينة «1» .
وحين قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحارث بن سويد بن صامت، نجم نفاق الشاعر أبي عفك من بني عمرو بن عوف وقال شعرا هجا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عليه السلام: «من لي بهذا الخبيث؟» ، فخرج إليه الصحابي سالم بن عمير فقتله «2» .
غزوة بني قينقاع:
أورد الزهري أنها حصلت في السنة الثانية من الهجرة، وذكر الواقدي وابن سعد أنها وقعت يوم السبت للنصف من شوال من السنة الثانية «3» ، واتفق معظم من كتب في مغازي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسيرته على أنها وقعت بعد معركة بدر، إذ لم يلتزم اليهود بالمعاهدة التي أبرمها الرسول صلّى الله عليه وسلّم معهم، ولم يوفوا بالتزاماتهم التي حددتها، ووقفوا من الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين مواقف عدائية، فأظهروا الغضب والحسد عند ما انتصر المسلمون في بدر، وجاهروا بعداوتهم للمسلمين «4» . وقد جمعهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في سوقهم بالمدينة ونصحهم، ودعاهم إلى الإسلام، وحذّرهم أن يصيبهم ما أصاب قريشا في بدر «5» ، غير أنهم واجهوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتحدي والتهديد رغم ما يفترض أن يلتزموا به من الطاعة والمتابعة لبنود المعاهدة التي جعلتهم تحت رئاسته، فقد جابهوه بقولهم: «يا محمد! لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال. إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا» «6» .
وهكذا بدأت الأزمة تتفاعل إذ لم يكن في جوابهم ما يشير إلى الالتزام والاحترام، بل على العكس فإنهم قد أظهروا روحا عدائية، وتحديّا واستعلاء واستعدادا للقتال، فأنزل الله سبحانه وتعالى فيهم قوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ* قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ «7» .
واستمر اليهود من بني قينقاع يظهرون الروح العدائية ضد المسلمين، فقد أقدم أحدهم على الاعتداء على كرامة إحدى النساء المسلمات، فقد عقد طرف ثوبها وهي جالسة دون أن تعلم، فلما قامت انكشفت فاستصرخت المسلمين فأغاثها أحدهم وقتل اليهودي، غير أن اليهود تواثبوا على ذلك المسلم وقتلوه، واستصرخ أهل المسلم إخوانهم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع «8» .
__________
(1) ابن هشام- السيرة النبوية 3/ 64.
(2) المصدر السابق 4/ 376- 377، ابن حجر- الإصابة 4/ 238، الواقدي- مغازي 1/ 174 وفيه أنه حسد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ابن سعد- الطبقات.
(3) الطبري- تاريخ 2/ 479- 480، الواقدي- المغازي 1/ 176، ابن سعد- الطبقات 2/ 28- 29.
(4) ابن حجر- فتح الباري 7/ 332، أبو داود- السنن 3/ 422- 3 (حديث 3001) ، ابن هشام 3/ 71- 72.
(5) ابن هشام- السيرة 2/ 294، أبو داود- السنن 3/ 402- 3، وانظر: ابن حجر- فتح الباري 7/ 332.
(6) وردت عن طريق ابن إسحاق، انظر: ابن هشام- السيرة 2/ 294- 3 وهي وإن كان ابن حجر قد حسنها في الفتح 7/ 332 فإن في سندها مجهول (التقريب 2/ 205) .
(7) القرآن الكريم- آل عمران، الآيات/ 12- 13.
(8) ابن هشام- السيرة 3/ 70.(1/296)
وهكذا فإن سبب الأزمة كان يكمن في رفضهم التعايش مع المسلمين، وتحديهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وتهديدهم أمن المدينة واعتدائهم المباشر على أفراد المجتمع الإسلامي، ورفضهم الانصياع لبنود المعاهدة التي أبرمها الرسول صلّى الله عليه وسلّم معهم. وقد خشي الرسول صلّى الله عليه وسلّم خيانتهم فنبذ إليهم على سواء تنفيذا لأمر الله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ «1» .
أما تفاصيل حصارهم وإجلائهم فإنها ثابتة في المصادر بروايات صحيحة «2» ، ذلك أنهم أظهروا صريح البغضاء والعداء، فعقد النبي صلّى الله عليه وسلّم لواء أبيض لحمزة بن عبد المطلب، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وخرج بقواته وحاصرهم خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة، وحين اشتد عليهم الحصار نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم: على أن له أموالهم، وأن لهم النساء والذرّية. فأمر بهم فكتّفوا، ثم كلمه فيهم حليفهم عبد الله بن أبي بن سلول، وألحّ عليه قائلا: «أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع منعوني من الأحمر والأسود وتحصدهم في غداة واحدة» . فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هم لك» وأمر بهم أن يجلوا عن المدينة، وتولى أمر إجلائهم عبادة بن الصامت، فلحقوا بأذرعات، وتولى قبض أموالهم محمد بن مسلمة الأنصاري، فخمّست وقسم الباقي بين الصحابة «3» .
وأعلن عبادة بن الصامت براءته من حلفائه اليهود لمحاربتهم المسلمين، ومظاهرة لله ورسوله فقال: «يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله» .
ولقد أنزل الله سبحانه وتعالى في موالاة عبد الله بن أبي بن سلول لليهود، وبراءة عبادة بن الصامت منهم قرآنا، فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ... «4» .
غزوة السويق:
أراد أبو سفيان القيام بعمل انتقامي ضد المسلمين، فاصطحب معه مائتي فارس، وتقدم سرّا نحو المدينة، وتخفّى عند بني النضير، وفي أوائل الحجة من السنة الثانية من الهجرة هاجم أبو سفيان بقواته ناحية العريض فقتلوا رجلين من المسلمين وأحرقوا نخلا، وفروا مسرعين عائدين إلى مكة، وقد تخففوا من حمولتهم من الطعام في سبيل التعجيل بالفرار، وضمانا لعدم لحاق المسلمين بهم وطلبا للنجاة. وقد نفر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالمسلمين في أثرهم حين بلغه الخبر حتى وصلوا قرقرة الكدر فلم يلحقوا بهم «5» ، فعادوا بأزوادهم التي رموها وغالبها من السويق
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الأنفال، الأية 58.
(2) البخاري- الصحيح 3/ 11 (حديث 4028) ، مسلم- الصحيح 3/ 1387- 8 (حديث 1766) ، ابن هشام- السيرة 3/ 70- 71، الواقدي- المغازي 1/ 176، ابن سعد- الطبقات 2/ 92.
(3) الواقدي- المغازي 1/ 176- 177، ابن سعد- الطبقات 2/ 29.
(4) القرآن الكريم- سورة المائدة، الآيات 51- 52، وروى الخبر ابن إسحاق بإسناد مرسل يتقوي مع المتابعات والشواهد. انظر: ابن هشام- السيرة 3/ 71- 72، الطبري- التفسير 6/ 275، السيوطي- الدر المنثور 2/ 291.
(5) ابن هشام- السيرة 2/ 422- 423 بإسناد صحيح إلى عبد الله بن كعب بن مالك، الطبري- تاريخ 2/ 484، الواقدي- مغازي 1/ 181، ابن سعد- الطبقات 2/ 30، وذكر الحافظ ابن كثير في البداية 3/ 378 بأنها غزوة قرقرة الكدر.(1/297)
فسميت بذلك «1» . وقد وقعت هذه الغزوة في شهر محرم سنة ثلاث للهجرة «2» .
غزوة قرقرة الكدر:
جمعت قبيلتا غطفان وبنو سليم جموعا على ماء لبني سليم بقرقرة الكدر بهدف التحرك ضد المسلمين بسبب ما لحقهم من آثار سلبية اقتصاديّا من جرّاء جهود المسلمين في التصدي لقريش وإحكامهم الحصار الاقتصادي عليها. ويظهر أن هاتين القبيلتين كانتا تستفيدان من أنشطة الحركة التجارية المكية. وحين بلغت أنباء هذا التجمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاد بنفسه جيشا من مائتي مقاتل وداهمهم على الماء. وقد فر المقاتلون من الجانب المعادي لمجرد سماعهم أنباء قدوم الرسول صلّى الله عليه وسلّم «3» تاركين خلفهم جمالهم التي بلغ تعدادها 500 بعير، فكانت غنيمة للمسلمين، وأقام النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أيام في الموقع- كعادته في غزواته- قبل أن يعود إلى المدينة «4» .
سريّة مقتل كعب بن الأشرف:
فصّل الإمام البخاري في خبر سريّة قتل ابن الأشرف وفي حادثة قتله «5» ، وينتسب كعب بن الأشرف إلى بني نبهان من قبيلة طيء، كان أبوه قد أصاب دما في الجاهلية، فقدم إلى المدينة وحالف يهود بني النضير وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق فولدت له كعبا «6» . وكان كعب شاعرا، ناصب الإسلام العداء، وقد غاظه انتصار المسلمين على قريش في معركة بدر، فسافر إلى مكة يهجو النبي صلّى الله عليه وسلّم ويحرّض قريشا على الثأر لقتلاهم الذين كان ينوح عليهم ويبكيهم في شعره، ويدعو إلى القضاء على الرسول والمسلمين «7» . ولم يكتف كعب بذلك، بل إنه فضّل عقائد الجاهلية على الإسلام حين سأله أبو سفيان، وأكد أنها أحب إلى الله وأقرب إلى الحق، فأنزل الله بشأنه قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا «8» .
وعلى الرغم من كل ذلك، فإنه عاد بصلافة إلى المدينة، وبادر بالتشبيب بنساء المسلمين بكل وقاحة «9» ، وقد أهدر الرسول صلّى الله عليه وسلّم دمه وأمر بقتله «10» ، فأبدى محمد بن مسلمة الأنصاري استعداده لإنفاذ أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه،
__________
(1) الواقدي- مغازي 1/ 181، ابن سعد- الطبقات 2/ 31.
(2) الطبري- تاريخ 2/ 484.
(3) ابن هشام- السيرة 2/ 421 وهذه الغزوة هي ليست ما ذكره ابن إسحاق حين خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد سبع ليالي من عودته من بدر إلى بني سليم ولم يلق حربا (3/ 64) ، وانظر: الواقدي- مغازي 1/ 181 وقد أشار الواقدي إلى وجود غلام اسمه يسار مع الجمال جعله المسلمون في سهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الغنيمة فأعتقه النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(4) ابن سعد- الطبقات 2/ 31.
(5) البخاري- الصحيح 5/ 25- 26.
(6) ابن هشام- السيرة 3/ 74- 75 بإسناد مرسل، الطبري- تاريخ 2/ 488.
(7) أبو داود- السنن 3/ 402، البيهقي- دلائل النبوّة 3/ 197.
(8) القرآن الكريم- سورة النساء، الآية/ 51.
(9) ابن هشام- السيرة 2/ 564- 65.
(10) ورد ذلك في الصحيحين: البخاري- الفتح (حديث 4037) ، مسلم 3/ 1425 (حديث 1801) ، أبو داود- السنن 3/ 211- 12.(1/298)
وأعانه أبو نائلة الأنصاري أخو كعب من الرضاعة، وأعانهما ثلاثة آخرون من الصحابة «1» ، وتم وضع خطة محكمة لتنفيذ العملية واستدرجوا كعبا خارج حصنه ليلا حيث أجهزوا عليه «2» . وقد اشتكى اليهود عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك، فبيّن لهم- عليه السلام- ما بدر من كعب بن الأشرف من عداء وتحريض وهجاء، وفزع اليهود وبقية المشركين مما حدث وخافوا على أنفسهم أن يصيبهم ما أصاب كعبا فدعاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى كتابة معاهدة بينهم فكتبت صحيفة عامة بين الطرفين، جاءت تأكيدا لما في المعاهدة التي كتبها النبي صلّى الله عليه وسلّم بين المسلمين واليهود في المدينة بعد الهجرة والتي عرفت بالصحيفة «3» . وقد ذهب الجمهور إلى أن قتل ابن الأشرف وقع في السنة الثالثة للهجرة في ليلة النصف من شهر ربيع الأول «4» .
غزوة ذي أمر:
في صفر سنة 3 هـ غزا النبي صلّى الله عليه وسلّم قبيلة غطفان التي تجمعت في ذي أمر من أرض نجد بهدف محاربة المسلمين، غير أنهم سرعان ما تهاربوا حين علموا بتوجه الرسول صلّى الله عليه وسلّم ناحيتهم «5» . وكان عدد جيش المسلمين أربعمائة وخمسين رجلا، ولم يقع قتال، وأقام النبي صلّى الله عليه وسلّم بقواته على ماء ذي أمر طيلة شهر صفر ثم قفل عائدا إلى المدينة «6» .
غزوة بحران:
غزا النبي صلّى الله عليه وسلّم بحران من ناحية الفرع بقوة بلغ تعدادها (300) مقاتل مستهدفا بني سليم الذين كانوا يؤمّنون الطريق التجارية لقريش بين مكة المكرمة وبلاد الشام، وذلك في جمادى الأولى سنة 3 هـ «7» . ويبدو أنه لم يلق كيدا، ولم يقع قتال «8» . وعاد عليه السلام بقواته بعد عشرة أيام «9» .
__________
(1) أبو داود- السنن 3/ 211- 212 كتاب الجهاد، البيهقي- دلائل النبوة 3/ 187- 200، ابن سعد- الطبقات 2/ 32- 34، الواقدي 1/ 184- 193، ابن هشام- السيرة 3/ 81- 84.
(2) البخاري- الصحيح 5/ 25- 26، ابن هشام- السيرة 3/ 81- 84 مع بعض الإختلاف غير أن المضمون واحد.
(3) أبو داود- السنن 3/ 402، البيهقي- دلائل 2/ 462.
(4) ابن هشام 3/ 66، الواقدي- مغازي 1/ 181، وانظر: الطبري- تاريخ 2/ 484.
(5) ابن هشام- السيرة 2/ 425، وقد ذكر الواقدي في مغازيه 1/ 194، وتلميذه ابن سعد في طبقاته 2/ 34 بأن المجتمعين على ماء ذي أمرهم من بني ثعلبة بن محارب من غطفان. وخالف ابن إسحاق في تاريخها فجعله الخميس 12 ربيع الأول سنة 3 هـ.
(6) انفرد الواقدي في مغازيه، وتابعه تلميذه ابن سعد بإيراد قصة محاولة دعثور المحاربي الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأورد القصة ضمن هذه الغزوة خلاف ما ورد في الصحيحين عن وقوعها في غزوة ذي الرقاع (المغازي 1/ 93) .
(7) ابن هشام- السيرة 2/ 425، الواقدي- المغازي 1/ 196، ابن سعد- الطبقات 2/ 35.
(8) ابن هشام- السيرة 2/ 425.
(9) ابن كثير- البداية 4/ 3.(1/299)
سريّة القردة:
أرادت قريش حماية تجارتها من الأخطار التي تتعرض لها عند سلوكها أحد الطريقين- الساحلي والداخلي- بين مكة وبلاد الشام، وخصوصا بعد أن ازدادت العمليات العسكرية الإسلامية شدة وتأثيرا بعد معركة بدر الكبرى وما يتعرض له حلفاء قريش من غزوات مما جعل الطريق تحت رحمة المسلمين «1» . ولهذا فقد فكر تجار قريش في إرسال تجارتهم عبر الطريق المتجهة إلى نجد فالعراق من أجل التخلص من الحصار الاقتصادي الإسلامي، فخرج أبو سفيان على رأس قافلة شارك في تمويلها عدد كبير من تجار قريش، وهي تحمل كميات كبيرة من الفضة إضافة إلى البضائع الأخرى، وقد استأجروا دليلا من بني بكر بن وائل «2» . وحين علم النبي صلّى الله عليه وسلّم بخبر القافلة، أرسل زيد بن حارثة على رأس مائة من المسلمين في أثرهم، فلحقوا بهم على ماء بنجد يسمى القردة، فأصاب القافلة وحمولتها الثمينة، بعد أن فر الرجال. وقد تم ذلك بعد مرور ستة شهور من غزوة بدر الكبرى «3» . وقد بلغت قيمة الغنائم مائة ألف درهم، مما عرض تجارة قريش لضربة عنيفة «4» ، كما أن نجاح المسلمين في عرقلة طريق العراق أمام تجارة قريش أدى إلى إحكام الحصار التجاري عليها مما دعاها إلى التفكير الجاد في ضرورة القيام بعمل عسكري ضد المسلمين دفعا للأخطار التي تتعرض لها تجارتها، وتأمينا لطرقها، ومحاولة استعادة مكانتها وسمعتها التي تردت في أعقاب هزيمتها في معركة بدر الكبرى.
غزوة أحد:
تعود أسباب هذه المعركة إلى جملة من الأسباب المتداخلة، أبرزها رغبة قريش في الانتقام من المسلمين لقتلاها يوم بدر حيث كانت قد فقدت صناديد رجالها ولحق بها عار الهزيمة المنكرة إضافة إلى ما فقدته من أموالها التي غنمت، ومكانتها التي تهاوت وسمعتها التي مرغت في الوحل «5» . يضاف إلى ذلك ما كان يشعر به زعماء قريش من أخطار تهددهم وتجارتهم التي كادت أن تتوقف مع بلاد الشام بعد أن تحكم المسلمون في كافة طرق التجارة الداخلية والساحلية، وخاصة بعد أن فقدوا أملهم الأخير في سلوك طريق العراق، وما جرى في سريّة القردة حين غنم المسلمون تجارتهم وعيرهم وقطعوا عليهم آخر طريق كانوا يؤملونه لاستمرار سير تجارتهم «6» . هذا إلى جانب تعنت قريش وإصرارها على دين الآباء والأجداد ومقاومتها التوحيد، وحقدها التاريخي على الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين الذين أفلتوا من قبضتها، فأصبحوا لها ندّا يناصبونها العداء ويقطعون عليها سبل حياتها.
كانت استعدادات قريش لحرب المسلمين قد بدأت مبكرة في أعقاب هزيمتها في بدر، فقد رصدوا أموال
__________
(1) ابن هشام- السيرة 2/ 429- 430.
(2) المرجع السابق 2/ 430، ابن كثير- البداية 4/ 4، وذكر الواقدي في مغازيه أن قائد القافلة لقريش كان صفوان بن أمية. انظر: البداية والنهاية لإبن كثير 4/ 5.
(3) الواقدي- المغازي 1/ 197، ابن سعد- الطبقات 2/ 36.
(4) ابن سعد- الطبقات 2/ 36 بدون إسناد.
(5) ابن إسحاق- السيرة ص/ 322، ابن هشام- السيرة 3/ 86، الواقدي 1/ 199، ابن سعد- الطبقات 2/ 37.
(6) انظر مصادر سرية القردة فيما سبق.(1/300)
تجارتهم التي تمكن أبو سفيان من الإفلات بها قبيل معركة بدر مع أرباحها لتجهيز جيش الثأر «1» ، وجمعت ثلاثة آلاف مقاتل من أبنائها وحلفائها من كنانة وأهل تهامة «2» ، بينهم مائتا فارس وسبعمائة دارع «3» ، وجعلت على قيادة الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل «4» ، وصاحب الجيش عدد من نساء قريش لغرض إثارة الحماس ومنع المقاتلين من التفكير بالفرار خشية العار «5» . بلغت أنباء تقدم قوات قريش إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم «6» ، فشاور أصحابه في الموضع الذي يرونه لمواجهة جيش المشركين «7» ، وحيث إن المدينة كانت قد شبكت بالبنيان فهي كالحصن «8» . فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يرى البقاء والتحصّن فيها، وقال: «إنّا في جنّة حصينة» «9» ، وقد أبدى بعض أصحابه من الأنصار كراهة القتال في طرق المدينة وقالوا: «وقد كنا نمتنع من الغزو في الجاهلية، فبالإسلام أحق أن نمتنع منه، فابرز إلى القوم» «10» . انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلبس لامته. وتلاوم القوم وقالوا: «عرض نبي الله صلّى الله عليه وسلّم بأمر وعرّضتم بغيره، فاذهب يا حمزة فقل لنبي الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرنا لأمرك تبع» . فأتى حمزة فقال له: «يا رسول الله إن القوم قد تلاوموا فقالوا: أمرنا لأمرك تبع» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّه ليس لنبيّ إذا لبس لامته أن يضعها حتّى يناجز» «11» .
لبس النبي صلّى الله عليه وسلّم درعين، رغم علمه بأن الله تعالى يعصمه من القتل تعويدا للأمة على الأخذ بالأسباب المادية ثم التوكل على الله «12» . وعقد صلّى الله عليه وسلّم راية سوداء وثلاثة ألوية أحدها للمهاجرين والثاني للأوس من الأنصار والثالث للخزرج منهم «13» . وانتظمت قوات المسلمين التي قدرت بألف مقاتل بما فيهم المنافقون المتظاهرون بالإسلام ومعهم فرسان فقط ومائة دارع تحت قيادة النبي صلّى الله عليه وسلّم وتحركت تاركة المدينة من الجانب الغربي من الحرة
__________
(1) ابن هشام- السيرة 3/ 1، الواقدي- المغازي 1/ 200، ابن إسحاق- السيرة ص/ 322.
(2) ابن هشام- السيرة 3/ 84، الواقدي- مغازي 1/ 101.
(3) ابن هشام- السيرة 3/ 87، الطبري- تاريخ 3/ 502 من رواية الواقدي.
(4) ابن هشام- السيرة 3/ 8- 12، الطبري- تاريخ 3/ 504.
(5) ابن هشام- السيرة 3/ 87 برواية ابن إسحاق دون إسناد، الطبري- تاريخ 3/ 504، الواقدي- مغازي 1/ 201، ابن سعد- الطبقات 2/ 37.
(6) عن رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم وتفسيرها انظر: البخاري- الصحيح [فتح الباري (حديث 3622) ] ، مسلم- الصحيح 4/ 1779- 1780 (حديث 2272) ، أحمد- الفتح الرباني 21/ 50، ابن سعد- الطبقات 2/ 245.
(7) الطبري- التفسير 7/ 272، التاريخ 3/ 11.
(8) الصنعاني- المصنف 5/ 363.
(9) أحمد- المسند 3/ 351، الفتح الرباني 21/ 51- 52، الطبري- تفسير 7/ 372 بإسناد حسن إلى قتادة، وقد جاء بطرق عديدة وبمجموع الطرق يصح الحديث، وانظر: البيهقي- دلائل النبوة 3/ 204، 308، الصنعاني- المصنف 5/ 364- 65، الحاكم- المستدرك 2/ 128- 129، 296- 97، ابن سعد- الطبقات 2/ 38.
(10) الطبري- تفسير 7/ 372.
(11) انظر الهامش (4) أعلاه.
(12) الحاكم- المستدرك 3/ 25.
(13) خليفة بن خياط- تاريخ ص/ 67، الواقدي- المغازي 1/ 33، ابن عبد البر- الاستيعاب 3/ 540، وحمل مصعب بن عمير لواء المهاجرين، وأسيد بن حضير لواء الأوس، والحباب بن المنذر لواء الخزرج.(1/301)
الشرقية «1» . وقد انسحب من جيش المسلمين المنافق عبد الله بن أبيّ بن سلول وثلاثمائة من أتباعه المنافقين، بدعوى أنه لن يقع قتال مع المشركين، ومعترضا على قرار الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالخروج من المدينة لملاقاة المشركين بقوله «أطاع الولدان ومن لا رأي له، أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا» «2» . وقد انقسم الصحابة في مسألة قتال هؤلاء المنافقين «3» ، فأنزل الله تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا «4» .
وقد حاول الصحابي عبد الله بن عمرو بن حرام تدارك الأمر فلحق بالمنافقين المنسحبين، وحاول إقناعهم بضرورة نصرة نبيهم وقومهم، غير أنهم أصروا على موقفهم، وقالوا له: «لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم» ، وبعد أن يئس عبد الله منهم سأل الله أن يبعدهم، وأن يغني الله نبيه عنهم «5» ، وقد أشار القرآن إلى ذلك في قوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ* وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ «6» .
وكاد بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وهما طائفتان من المسلمين، أن يتخاذلا وينسحبا مع المنافقين، وفكروا جديّا في التراجع إلى المدينة، لولا أن الله تعالى أنقذهم وثبّت قلوبهم مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومع إخوانهم المؤمنين «7» ، وفيهم قال تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ «8» .
عسكر الجيش الإسلامي في منطقة الشيخين حيث استعرض الرسول صلّى الله عليه وسلّم المتطوعين من صغار السن فرد منهم أربعة عشر صبيّا «9» ، ثم تقدم الجيش بعد ذلك إلى ميدان أحد حيث اتخذ مواقعه وفق الخطة المحكمة التي وضعها الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ فقد نظّم صلّى الله عليه وسلّم صفوف جيشه بحيث أنه حمى ظهر المسلمين بالجبل وهم يستقبلون عدوهم «10» ، وجعل خمسين من الرماة بقيادة عبد الله بن جبير فوق تل عينين المقابل لجبل أحد بقصد منع المشركين من تطويق
__________
(1) ابن هشام- السيرة 3/ 8- 12.
(2) البخاري- الصحيح (حديث 4050) ، ابن هشام- السيرة 2/ 92، الواقدي- مغازي 1/ 219، ابن سعد- الطبقات 2/ 39، البيهقي- دلائل 3/ 208.
(3) البخاري- الصحيح (فتح حديث 4050) ، الطبري- تفسير 9/ 7- 9.
(4) القرآن الكريم- سورة النساء، الآية/ 88.
(5) ابن هشام- السيرة 3/ 9.
(6) القرآن الكريم- سورة آل عمران، الآيات/ 166- 167.
(7) البخاري- الصحيح (حديث 4051) ، مسلم- الصحيح 4/ 1948 (حديث 2505) ، ابن هشام- السيرة 3/ 154، الطبري- تفسير 7/ 166، البيهقي- دلائل النبوة 3/ 220- 22.
(8) القرآن الكريم- سورة آل عمران، الآية/ 122.
(9) البخاري- فتح الباري 5/ 276، مسلم الصحيح 2/ 142.
(10) البخاري- الصحيح (حديث 3039) ، أحمد- المسند 4/ 209.(1/302)
المسلمين، وأمر الرماة بالثبات في مواقعهم مهما حصل، وقال لهم: «إن رأيتمونا تخطّفنا الطّير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتّى أرسل لكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا مكانكم» «1» . وهكذا فقد سيطر المسلمون على المرتفعات تاركين الوادي لجيش المشركين الذي تقدم ليواجه المسلمين «2» .
وقاتل المسلمون عند لقاء العدو، تحت شعار: أمت، أمت، واستماتوا في قتال بطولي ملحمي سجل فيه صناديد الإسلام صورا رائعة في البطولة والبسالة «3» ، وسجل التاريخ روائع بطولات حمزة بن عبد المطلب، ومصعب ابن عمير وأبي دجانة، وأبي طلحة الأنصاري، وسعد بن أبي وقاص، وأمثالهم كثير «4» ، وحقق المسلمون الانتصار في الجولة الأولى من المعركة «5» . وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ... «6» . الآية. ولما رأى الرماة الهزيمة التي حلت بقريش وأحلافها تنادوا: «الغنيمة الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون» فقال لهم أميرهم عبد الله بن جبير: «أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟» قالوا:
«والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة» ، وهرعوا إلى جمع الغنائم تاركين مواضعهم الحصينة الخطيرة، عاصين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، باستثناء أميرهم عبد الله بن جبير «7» . وكانت فرصة مواتية للمشركين الذين التف خيّالتهم حول المسلمين، واستفاد من ذلك مقاتلة المشركين فعادوا إلى ميدان القتال ثانية، حيث استطاعوا أن يشكّلوا طوقا حول قوات المسلمين «8» . وفقد المسلمون مواقعهم الأولى، وبدأو يقاتلون دون تخطيط ولم يعودوا يميّز بعضهم بعضا «9» .
ولم ينفع بأس المسلمين وحرارة قتالهم ما داموا لا يقاتلون وفق خطة تستهدف أمرا واضحا، وتساقطوا في ميدان المعركة شهداء أبرارا، بعد أن انقطع اتصالهم بالرسول القائد صلّى الله عليه وسلّم، وشاع في ميدان المعركة أنه قد استشهد «10» . وفر
__________
(1) البخاري- الصحيح [فتح الباري 6/ 162 (حديث 3039) ] ، أحمد- المسند 4/ 209، الحاكم- المستدرك 2/ 296، الواقدي- المغازي 1/ 219- 220، ابن سعد- الطبقات 2/ 39- 40.
(2) البخاري- الصحيح [فتح 6/ 162 (حديث 3039) ] .
(3) مسلم- الصحيح 4/ 1917 (حديث 2470) ، أحمد- المسند 3/ 123، 4/ 46، الحاكم- المستدرك 2/ 107- 108، 3/ 230، الدارمي- السنن 2/ 219.
(4) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 367) ، مسلم- الصحيح 2/ 284، أحمد- الفتح الرباني 21/ 6059، الواقدي- المغازي 1/ 301، خليفة بن خياط- التاريخ ص/ 67.
(5) البخاري- الصحيح [فتح الباري 6/ 162، 375 (حديث 3043) ] ، الطبري- تفسير 7/ 281- 288، ابن كثير- التفسير 2/ 114- 115 من رواية الإمام أحمد (انظر: المسند 1/ 287- 8) ، الحاكم- المستدرك 2/ 296.
(6) القرآن الكريم- سورة آل عمران، الآية/ 152.
(7) ابن كثير- البداية والنهاية، وانظر: الطبري- التفسير 7/ 281- 282.
(8) ابن هشام- السيرة 2/ 112.
(9) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 4065) ، الحاكم- المستدرك 3/ 202، أحمد- المسند 4/ 209- 211، ابن هشام 3/ 127.
(10) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 361) ، ابن هشام- السيرة 3/ 112.(1/303)
جمع من المسلمين من ميدان المعركة، وجلس بعضهم إلى جانب ميدان المعركة دون قتال «1» ، وآثر آخرون الشهادة بعد أن تصوروا أنهم قد فقدوا نبيّهم! ومن هؤلاء أنس بن النضر الذي كان يأسف لعدم شهوده بدرا والذي قال في ذلك: «والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليرين الله كيف أصنع» ، فلما رأى بعض المسلمين جلوسا تائهين محتارين في أحد صاح: «واها، لريح الجنة أجد دون أحد» وقاتل بشجاعة نادرة حتى استشهد. وقد وجد في جسده بضع وثمانون أثرا بين ضربة سيف وطعنة رمح ورمية نبل «2» ، ونزل فيه وفي أمثاله قول الله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا «3» .
أما أولئك النفر الذين فرّوا لا يلوون على شيء رغم دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم بالصمود والثبات فقد نزل فيهم قوله تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ «4» .
ولقد حكى القرآن الكريم خبر فرار هذه المجموعة من الصحابة الذين ترخصوا في الفرار بعد سماعهم نبأ مقتل النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي شاع في ساحة المعركة، وكان أول من علم بنجاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأنه حي هو الصحابي كعب بن مالك الذي رفع صوته بالبشرى فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم بالسكوت حتى لا يفطن المشركون إلى ذلك «5» . وقد نص القرآن الكريم على أن الله تعالى قد عفا عن تلك الفئة التي فرت، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ «6» .
ويبدو أن بعض مقاتلة المشركين قد انتبهوا إلى وجود الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع تسعة من أصحابه، سبعة منهم من الأنصار فهاجموهم، واستبسل الأنصار واستشهدوا واحدا بعد الآخر «7» ، ثم قاتل عنه طلحة بن عبيد الله حتى أثخن وأصيب بسهم شلّت يمينه «8» ، وقاتل سعد بن أبي وقاص بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان يناوله النبال ويقول له: «إرم يا سعد، فداك أبي وأمّي» «9» ، كما قاتل بين يديه أبو طلحة الأنصاري الذي كان من أمهر الرماة، وهو الذي قال عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لصوت أبي طلحة في الجيش أشدّ على المشركين من فئة» «10» .
__________
(1) ابن هشام- السيرة 3/ 33، الطبري- التفسير 7/ 256.
(2) ابن المبارك- كتاب الجهاد ص/ 63، البخاري- الصحيح (فتح الباري 6/ 21، 7/ 274، 8/ 517) .
(3) القرآن الكريم- سورة الأحزاب، الآية/ 23.
(4) القرآن الكريم- سورة آل عمران الآية 153، وانظر: تفسيرها عند الطبري- تفسير 7/ 301- 302.
(5) الحاكم- المستدرك 3/ 201، الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 112.
(6) القرآن الكريم- آل عمران، الآية/ 155، وانظر: ابن الجوزي- زاد المسير 1/ 483.
(7) مسلم- الصحيح 3/ 1415 (حديث 1789) .
(8) البخاري- الصحيح [فتح الباري 7/ 359 (حديث 3724) ] .
(9) المرجع السابق 7/ 358 (حديث 3724) .
(10) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 361) ، أحمد- المسند (الفتح الرباني 22/ 589 بإسناد رجاله ثقات، الواقدي- مغازي 1/ 243 باختلاف في نص الحديث.(1/304)
وعلى الرغم من استبسال الصحابة في الدفاع عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فقد أصيب إصابات عديدة فقد كسرت رباعيته، وشجّ في وجهه، فأخذ يمسح الدم عن وجهه الكريم وهو يقول: «كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيّهم وهو يدعوهم إلى الإسلام؟» «1» . فأنزل الله تعالى في ذلك: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ «2» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما طمع في إسلامهم: «ربّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون» «3» .
وبرزت مواقف بطولية شامخة لها دلالاتها الإيمانية تمثّلت في استشهاد عدد من المهاجرين والأنصار، وكان حمزة بن عبد المطلب عم الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الذين استشهدوا في ذلك اليوم، قتله وحشيّ غلام جبير بن مطعم «4» . كما استشهد أيضا عبد الله بن جحش، وعمرو بن الجموح وحنظلة بن أبي عامر، وثابت بن وقش «5» . وساهمت النساء المسلمات في جيش المسلمين، يسقين العطشى ويداوين الجرحى، ويحاربن عند الضرورة «6» .
وقد استمر القتال بين الطرفين حتى أجهدا، وانسحب النبي صلّى الله عليه وسلّم بمن معه ومن لحق به من أصحابه إلى أحد شعاب جبل أحد «7» ، وكان المسلمون في حالة من الألم والخوف والغم لما أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما أصابهم رغم نجاحهم في رد المشركين «8» . فأنزل الله عليهم النعاس فناموا يسيرا ثم أفاقوا آمنين مطمئنين «9» ، قال تعالى:
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «10» .
وقد أجمع المفسرون على أن الطائفة التي قد أهمتهم أنفسهم هم المنافقون وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول وبعض من بقي منهم مع الجيش الإسلامي «11» .
__________
(1) مسلم- الصحيح 2/ 149، البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 365) معلقا، ابن هشام- سيرة 3/ 29.
(2) القرآن الكريم- سورة آل عمران، الآية/ 128.
(3) مسلم- الصحيح 3/ 1417 (حديث 1791) .
(4) ابن هشام، السيرة 3/ 129.
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 354) ، مسلم- الصحيح 2/ 154، الحاكم- المستدرك 3/ 199، ابن المبارك- كتاب الجهاد ص/ 69، ابن هشام- السيرة 3/ 44، وانظر: أحمد- المسند 5/ 299، الهيثمي- مجمع الزوائد 9/ 315، أبو داود- السنن 2/ 19.
(6) البخاري- الصحيح (فتح الباري 6/ 78، 7/ 366) ، مسلم- الصحيح (بشرح النووي 12/ 189) وممن شاركن أم عمارة، وحمنة بنت جحش، وأم سليط، وأم سليم، وأم المؤمنين عائشة.
(7) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 358، مسلم- الصحيح 2/ 321.
(8) لم يصح قتال الملائكة في أحد ذلك أن الله تعالى قد علّق وعده بأن يمدّهم بالملائكة لنصرهم إذا ما تحققت ثلاثة أمور وردت في قوله تعالى: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (آل عمران- الآية/ 125) وحيث إن هذه الأمور لم تتحقق فإن الإمداد لم يحصل، وانظر: الطبري- التفسير 7/ 137- 190.
(9) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 365) .
(10) آل عمران، الآية/ 154.
(11) الطبري- التفسير 7/ 323، ابن كثير- التفسير 1/ 418.(1/305)
أما قريش فإنها يئست من تحقيق نصر حاسم، وأجهد رجالها من طول المعركة، ومن صمود المسلمين وجلدهم، وخاصة بعد أن اطمأنوا وأنزل الله عليهم الأمنة والصمود فالتفوا حول النبي صلّى الله عليه وسلّم ولذلك فقد كفّوا عن مطاردة المسلمين وعن محاولة اختراق قوتهم «1» . ولم يملك أبو سفيان إلّا أن يأمر بالانسحاب باتجاه مكة بعد أن توعد المسلمين بحرب أخرى في السنة القادمة فوافق النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك «2» .
وقد ثبت أن أبا سفيان خاطب المسلمين من بعد فقال: أفي القوم محمد؟» ، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجيبوه» ، فقال:
«أفي القوم ابن أبي قحافة؟» ، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجيبوه» ، فقال: «أفي القوم ابن الخطّاب؟» ، ثم قال: «إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا» . فلم يملك عمر نفسه فقال: «كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يخزيك» . قال أبو سفيان: «أعل هبل» . فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أجيبوه» . قالوا: «ما نقول؟» . قال: «قولوا: الله أعلى وأجلّ» . قال أبو سفيان: «لنا العزّى ولا عزّى لكم» . فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أجيبوه» . قالوا: «ما نقول؟» . قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم» . قال أبو سفيان: «يوم بيوم والحرب سجال. وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني» . قال عمر: «لا سواء قتلانا إلى الجنة وقتلاكم إلى النار» «3» .
والواقع فأن السكوت عن استفسارات أبي سفيان وعدم إجابتها بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما كانت تصغيرا لشأنه واحتقارا لكفره، فلما انتشى وملأ الكبر قلبه، بادر المسلمون إلى إخباره بحقيقة الأمر وردوا عليه بكل إيمان وشجاعة.
انسحبت قريش من أرض المعركة، وامتطت إبلها مكتفية بما حققت من نصر مكّنها من الانتقام، ودون أن تتطلع إلى نصر حاسم ضد المسلمين المعتصمين في شعاب أحد، بغية القضاء عليهم أو إلى غزو قاعدتهم المدينة «4» .
وبعد أن غادرت قريش، أمر الرسول بدفن شهداء المسلمين وكانوا سبعين شهيدا «5» ، ولم يؤسر أحد من المسلمين، في حين بلغ عدد قتلى قريش اثنين وعشرين رجلا «6» .
جمع الرسول صلّى الله عليه وسلّم بين الرجلين من الشهداء في ثوب واحد، وقدم عند الدفن أحفظهم لكتاب الله، وأمر أن يدفنوا في دمائهم فلم يغسلوا ولم يصلّ عليهم وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة» . ودفن الاثنان والثلاثة في قبر واحد، وأمر أن يدفنوا حيث صرعوا «7» .
وقد جمع النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بعد دفن الشهداء وجعلهم صفّا وأثنى على ربه ودعاه أن يمنحهم نعيم الدنيا وحسن ثواب الآخرة وأن يقتل الكفرة المكذبين «8» .
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 2/ 349) ، أحمد- المسند 4/ 211، 6/ 181.
(2) ابن هشام- السيرة 3/ 49، الواقدي- المغازي 1/ 297.
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 349) ، أحمد- المسند 4/ 211، 6/ 181 بإسناد حسن.
(4) ابن هشام- السيرة النبوية 3/ 136- 137، الواقدي- المغازي 1/ 298، البيهقي- دلائل النبوة 3/ 282.
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 4043) ، ابن هشام- السيرة 3/ 179، الواقدي- المغازي 1/ 200.
(6) ابن هشام- السيرة 3/ 182، الواقدي- المغازي 1/ 307، أما عند ابن سعد- (الطبقات 2/ 42) فإن عددهم ثلاثة وعشرون.
(7) البخاري- الصحيح (فتح الباري 3/ 209- حديث 4079) ، أبو داود- السنن 2/ 174.
(8) أحمد- المسند 3/ 424، الحاكم- المستدرك 3/ 23.(1/306)
ولقد نزلت في موضوع غزوة أحد ومعركتها ثمان وخمسون آية من سورة آل عمران تبدأ بذكر المراحل الأولى للمعركة في قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ «1» .
ونزلت آيات القرآن تمسح جراحات المسلمين وآلامهم وتعطيهم جرعات كبيرة من التربية الإيمانية، وهي تسجل مشاهد متعددة من هذه الغزوة والدرس، منها قوله تعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «2» . ومنها: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ «3» .
ومنها قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ «4» .
وقوله: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ «5» .
وقوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ «6» .
وقوله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ «7» .
وقوله: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا «8» .
وقوله تعالى: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ «9» .
وتقدم في النهاية تعليقا جامعا على نتائج المعركة والحكمة التي أرادها الله من جرّائها، في قوله تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ «10» .
واجه المسلمون عند عودتهم إلى المدينة اليهود الشامتين، والمنافقين المرجفين، وكانوا يواجهون في أطرافها الأعراب المشركين الذين تطلعوا بشراهة إلى ثمار المدينة وخيراتها.
لقد كان التحرك السريع والدقيق من أجل استعادة مواقع المسلمين ومكانتهم ضروريّا للردّ على كل الأخطار والاحتمالات السلبية. ومن هذا المنطلق كان أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه أن يخرجوا- رغم كل ما أصابهم-
__________
(1) القرآن الكريم- سورة آل عمران، الآية/ 121.
(2) القرآن الكريم- سورة آل عمران، الآية/ 139.
(3) القرآن الكريم- سورة آل عمران، الآية/ 140.
(4) القرآن الكريم- سورة آل عمران، الآية/ 142.
(5) القرآن الكريم- سورة آل عمران، الآية/ 140.
(6) القرآن الكريم- سورة آل عمران، الآية/ 143.
(7) القرآن الكريم- سورة آل عمران، الآية/ 144.
(8) القرآن الكريم- سورة آل عمران، الآية/ 145.
(9) القرآن الكريم- سورة النساء، الآية/ 104.
(10) القرآن الكريم- سورة آل عمران، الآية/ 179.(1/307)
لمطاردة جيش قريش إلى حمراء الأسد في غزوة اقتصرت على من شهد أحدا دون غيرهم «1» .
غزوة حمراء الأسد:
استجاب المسلمون الذين شاركوا في غزوة أحد فخرجوا في اليوم التالي، وهو الثامن من شوال سنة 3 هـ، مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى حمراء الأسد على ما بهم من خوف وإرهاق وقروح، وقالوا سمعا وطاعة وأذن النبي لجابر بن عبد الله بالمسير معه مع أنه لم يشهد أحدا، إذ كان أبوه قد خلّفه على بناته «2» ، وتقدم المسلمون حتى بلغوا حمراء الأسد، وكان عددهم حينذاك ستمائة وثلاثين مقاتلا «3» .
وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأسلم، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يلحق بأبي سفيان ويخذّله، فلحقه بالروحاء- ولم يعلمه بإسلامه- فخذّله إذ أخبره بخروج النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين خلفهم إلى حمراء الأسد، ونصحه وقريش بالعودة إلى مكة على عجل «4» .
ولقد أثنى الله تعالى على مبادرة أصحاب النبي بالخروج معه في هذه الغزوة فقال تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ «5» .
وأقدم أبو سفيان على محاولة تخذيل المسلمين عن ملاحقتهم فأرسل مع ركب من عبد القيس رسالة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ورد فيها: «إنّا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم» وحين سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك قال:
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ «6» .
وأنزل الله تعالى في ذلك قوله: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ* إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «7» .
أقام النبي صلّى الله عليه وسلّم في حمراء الأسد ثلاثة أيام «8» ، وقد أسروا في طريق عودتهم كلا من معاوية بن المغيرة وأبا عزّة
__________
(1) البخاري- الصحيح (الحديث 4077) ، مسلم- الصحيح (حديث 2418) .
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 373) .
(3) خرج معبد ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ... فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط. قال: ويحك! ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى أرى نواصي الخيل ... (ابن هشام- السيرة 3/ 101) .
(4) ابن هشام- السيرة 2/ 102.
(5) القرآن الكريم- سورة آل عمران، الآية/ 172، وانظر: البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 2418) ، مسلم- الصحيح 4/ 1881 (حديث 2418) .
(6) القرآن الكريم- سورة آل عمران، الآية/ 173.
(7) القرآن الكريم- سورة آل عمران، الآية/ 173- 175، وانظر: الطبري- تفسير 7/ 399- 415.
(8) ابن هشام- السيرة 3/ 101.(1/308)
الجمحي الشاعر الذي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد منّ عليه فأطلقه من أسره ببدر دون فداء واشترط عليه بألّا يحارب المسلمين. وقد حاول الاعتذار غير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حسم الموقف فأمر الزبير بضرب عنقه «1» .
لقد حققت غزوة حمراء الأسد أهدافها المرجّوة فقد أظهرت قدرة المسلمين- وهم في أحلك الظروف- على التصدي لخصومهم. كما أنها بيّنت أنهم إذا كانوا قادرين على متابعة التحرك العسكري خارج المدينة بقسم من قواتهم فإنهم لا شك أقدر على مواجهة أعدائهم داخل المدينة من اليهود والمنافقين وبقايا المشركين. وحفلت كتب السيرة بالكثير من الشعر الصحيح والمنحول في تبيان وجهتي النظر المتصارعتين في معركة أحد ومن ذلك قول شاعر النبي صلّى الله عليه وسلّم حسّان بن ثابت الأنصاري في التعريض بزعماء قريش في هذه المناسبة «2» :
سقتم كنانة جهلا من سفاهتكم ... إلى الرّسول فجند الله مخزيها
أوردتموها حياض الموت ضاحية ... فالنار موعدها والقتل لاقيها
جمّعتموها أحابيشا بلا حسب ... أئمّة الكفر غرّتكم طواعيها
ألا اعتبرتم بخيل الله إذ قتلت ... أهل القليب ومن ألقينه فيها
كم من أسير فككناه بلا ثمن ... وجزّ ناصية كنّا مواليها
وقال حسان في قصيدة أخري يرد فيها على ابن الزبعري: «3»
أشاقك من أمّ الوليد ربوع ... بلاقع ما من أهلهنّ جميع
عفاهنّ صيفيّ الريّاح وواكف ... من الدلو رجّاف السّحاب هموع
فلم يبق إلّا موقد النّار حوله ... رواكد أمثال الحمام كنوع
فدع ذكر دار بددت بين أهلها ... نوى لمتينات الحبال قطوع
وقل إن يكن يوم بأحد يعدّه ... سفيه فإنّ الحقّ سوف يشيع
فقد صابرت فيه بنو الأوس كلهم ... وكان لهم ذكر هناك رفيع
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 6133) ، ابن هشام- السيرة 3/ 152 بلاغا عن ابن المسيّب.
(2) ابن هشام- السيرة 3/ 132.
(3) المرجع السابق 3/ 142- 143.(1/309)
وحامى بنو النّجار فيه وصابروا ... وما كان منهم في اللّقاء جزوع
أمام رسول الله لا يخذلونه ... لهم ناصر من ربّهم وشفيع
وفوا إذ كفرتم باخسين بربّكم ... ولا يستوي عبد وفي ومضيع
يكفّ رسول الله حيث تنصّبت ... على القوم مما قد يثرن نقوع
أولئك قوم سادة من فروعكم ... وفي كلّ قوم سادة وفروع
فلا تذكروا قتلى وحمزة فيهم ... قتيل ثوى لله وهو مطيع
فإن جنان الخلد منزلة له ... وأمر الذي يقضي الأمور سريع
وقتلاكم في النار أفضل رزقهم ... حميم معا في جوفها وضريع
وقال عمرو بن العاص من قصيدة له طويلة «1» :
ينزو شرّها بالرّضف نزوا ... وتناولت شهباء تلحو الناس بالضرّاء لحوا
أيقنت أنّ الموت حقّ، والحياة تكون لغوا ... حمّلت أثوابي على عتد يبذّ الخيل رهوا
سلس إذا نكّبن في البيداء يعلو الطرف علوا ... وإذا تنزّل ماؤه من عطفه يزداد زهوا
شنح نساه صابط للخيل إرخاء وعدوا
__________
(1) ابن هشام- السيرة 3/ 146- 147.(1/310)
ففدى لهم أمّي غداة الرّوع إذ يمشون قطوا
سيرا إلى كبش الكتيبة إذ جلته الشمس جلوا
قال ابن إسحاق: فأجابه كعب بن مالك «1» :
أبلغ قريشا وخير القول أصدقه ... والصدق عند ذوي الألباب مقبول
إن قد قتلنا بقتلانا سراتكم ... أهل اللّواء ففيما يكثر القيل
ويوم بدر لقيناكم لنا مدد ... فيه مع النّصر ميكال وجبريل
إن تقتلونا فدين الحقّ فطرتنا ... والقتل في الحقّ عند الله تفضيل
وإن تروا أمرنا في رأيكم سفها ... فرأي من خالف الإسلام تضليل
إنّا بنو الحرب نمريها وننتجها ... وعندنا لذوي الأضغان تنكيل
وقال حسّان يذكر عدّة أصحاب اللواء يوم أحد:
منع النّوم بالعشاء الهموم ... وخيال إذا تغور النّجوم
من حبيب أضاف قلبك منه ... سقم فهو داخل مكتوم
يالقومي هل يقتل المرء مثلي ... واهن البطش والعظام سئوم
لو يدبّ الحوليّ من ولد الذ ... ر عليها لأندبتها الكلوم
شأنها العطر والفراش ويعلو ... ها لجين ولؤلؤ منظوم
لم تفتها شمس النهار بشيء ... غير أن الشباب ليس يدوم
__________
(1) ابن هشام- السيرة 3/ 147- 149.(1/311)
لا تسبّنّني فلست بسبّي ... إنّ سبّي من الرّجال الكريم
ما أبالي أنبّ بالحزن تيس ... أم لحاني بظهر غيب لئيم
ولي البأس منكم إذ رحلتم ... أسرة من بني قصي صميم
تسعة تحمل اللواء وطارت ... في رعاع من القنا مخزوم
وأقاموا حتّى أبيحوا جميعا ... في مقام وكلهم مذموم
بدم عاتك وكان حفاظا ... أن يقيموا إن الكريم كريم
وقريش تفرّ منا لواذا ... أن يقيموا وخفّ منها الحلوم
لم تطق حمله العواتق منهم ... إنما يحمل اللواء النّجوم «1»
وقال كعب بن مالك في يوم أحد:
سائل قريشا غداة السّفح من أحد ... ماذا لقينا وما لاقوا من الهرب
كنا الأسود وكانوا النّمر إذ زحفوا ... ما إن نراقب من آل ولا نسب
فكم تركنا بها من سيّد بطل ... حامي الذمار كريم الجدّ والحسب
فينا الرّسول شهاب ثم يتبعه ... نور مضيء له فضل على الشّهب
الحق منطقه والعدل سيرته ... فمن يجبه إليه ينج من تبب
نجد المقدّم، ماضي الهمّ معتزم ... حين القلوب علي رجف من الرّعب
يمضي ويذمرنا من غير معصية ... كأنه البدر لم يطبع على الكذب
بدا لنا فاتّبعناه نصدّقه ... وكذّبوه فكنّا أسعد العرب
جالوا وجلنا فما فاءوا وما رجعوا ... ونحن نثفنهم لم نأل في الطّلب
ليسا سواء وشتّى بين أمرهما ... حزب الإله وأهل الشّرك والنّصب
__________
(1) ابن هشام- السيرة 3/ 149- 150، قال ابن هشام عن هذه القصيدة بأنها أحسن ما قيل.(1/312)
سريّة أبي سلمة لتأديب بني أسد:
بلغت النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبار الاستعدادات التي قام بها بنو أسد بن خزيمة بقيادة طليحة الأسدي من أجل غزو المدينة طمعا في خيراتها وانتصارا لشركهم، ومظاهرة لقريش في عدوانها على المسلمين. وقد سارع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى تشكيل سريّة من مائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار، وأمّر عليهم أبا سلمة بن عبد الأسد، أرسلهم إلى ديار بني أسد، فباغتوهم على ماء لهم في ديارهم، غير أنّ بني أسد سرعان ما تفرقوا تاركين ماشيتهم وإبلهم غنيمة للمسلمين من هول المباغتة «1» .
سريّة عبد الله بن أنيس:
كان خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي قد جمّع المقاتلة من هذيل وغيرها في عرفات، وكان يتهيأ لغزو المسلمين في المدينة مظاهرة لقريش، وتقربا إليها، ودفاعا عن عقائدهم الفاسدة، وطمعا في خيرات المدينة «2» ، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصحابي عبد الله بن أنيس الجهني إليه بعد أن كلّفه بمهمة قتله، فقتله في وادي عرنة وهو يرتاد بماشيته هناك وكان عبد الله قد غادر المدينة في الخامس من محرم. على رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة، وعاد إليها بعد أن أنجز مهمته يوم السبت لسبع بقين من محرم. «3» وقد هش في وجهه النبي صلّى الله عليه وسلّم حين عاد وقال له:
«أفلح الوجه ... » ثم أدخله بيته، وأعطاه عصا ليتكيء عليها- آية بينه وبين الرسول صلّى الله عليه وسلّم يوم القيامة «4» .
سريّة الرجيع:
اختلفت مرويات سريّة الرجيع فيما بينها كثيرا حول السبب الذي من أجله بعث بها النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي الوقت الذي يورد البخاري بأنه إنما بعث بالسريّة عينا لتجمع المعلومات عن العدو «5» ، فإن مرويات أخرى بأسانيد صحيحة ورد فيها أنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رهط من قبيلتي عضل والقارة المضريتين إلى المدينة وقالوا:
«إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهونا ويقرئونا القرآن ويعلمونا شرائع الإسلام» «6» .
__________
(1) الواقدي- مغازي 1/ 340، ابن سعد- الطبقات 2/ 50 دون إسناد، ابن هشام- السيرة 4/ 344، ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 70 وكان تاريخ هذه السرية في أول محرم من نهاية السنة الثالثة من الهجرة.
(2) ابن سعد- الطبقات 2/ 50، ابن القيم- زاد المعاد 2/ 121.
(3) ابن سعد- الطبقات 2/ 50، ابن هشام- السيرة 4/ 354- 355 بإسناد منقطع وقد وصلها البيهقي في السنن- كتاب صلاة الخوف وإسنادها حسن، وفي دلائل النبوة (4/ 42- 43) ، وانظر: أحمد- المسند 3/ 496، أبو داود- السنن 2/ 41- 42 كتاب الصلاة (حديث 2249) ابن حجر- فتح الباري- غزوة الرجيع، الواقدي- المغازي 2/ 531.
(4) فصّل الرواية ابن إسحاق في السيرة (ابن هشام 4/ 354- 5) وقد وردت في عدد من المصادر كسنن البيهقي وأبي داود ودلائل البيهقي، وأحمد في المسند 3/ 496 وكذلك مغازي الواقدي وطبقات ابن سعد، انظر: الهامش السابق.
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 4086) ، رواه أحمد- المسند (الرباني 21/ 60- 62) بمثل سياق البخاري.
(6) ابن إسحاق (ابن هشام- السيرة 3/ 241- 260) بإسناد موقوف على عاصم بن عمر بن قتادة، الواقدي- مغازي 1/ 354- 363، ابن سعد- طبقات 2/ 55- 56 بإسناد صحيح، وفي مغازي عروة بن الزبير (ص 175) ورد سبب إرسال السرية وهو عين ما أورده البخاري في صحيحه.(1/313)
والراجح أن قبيلة هذيل قد سعت للثأر من المسلمين لسفيان الهذلي فلجأت إلى الخديعة والغدر، وقد جزم الواقدي «1» بأن السبب هو أن بني لحيان وهم حي من هذيل، مشت إلى عضل والقارة وجعلت لهم جعلا ليخرجوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويطلبوا منه أن يخرج معهم من يدعوهم إلى الإسلام، ويفقههم في الدين، فيكمنوا لهم ويأسروهم ويصيبوا بهم ثمنا في مكة «2» .
وهكذا بعث الرسول صلّى الله عليه وسلّم هذه السريّة التي تتألف من عشرة من الصحابة «3» . وجعل عليهم عاصم بن ثابت ابن الأقلح أميرا، حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة أغار عليهم بنو لحيان- وهم قريب من مائتي مقاتل- فألجئوهم إلى تل مرتفع بعد أن أحاطوا بهم من كل جانب، ثم أعطوهم الأمان من القتل، ولكن قائد السريّة أعلن رفضه أن ينزل في ذمة كافر، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصما في سبعة من أفراد السريّة بالنبال، ثم أعطى الأعراب الأمان من جديد للثلاثة الباقين، فقبلوا غير أنهم سرعان ما غدروا بهم بعد ما تمكّنوا منهم وقد قاومهم عبد الله بن طارق فقتلوه، واقتادوا الاثنين إلى مكة- وهما خبيب وزيد بن الدثنّة فباعوهما لقريش «4» وكان ذلك في صفر سنة 4 هـ «5» . فأما خبيب فقد اشتراه بنو الحارث بن عامر بن نوفل فقتلوه بالحارث الذي كان خبيب قتله في بدر. ولما أخرجوا خبيبا من الحرم ليقتلوه صلى ركعتين قبل أن يقتل فكان أول من سن ذلك ثم دعا ربه قائلا: «اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا» ، ثم تمثّل بشعر قال فيه:
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شقّ كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع «6»
وأما ثانيهما- وهو زيد بن الدثنّة فقد اشتراه صفوان بن أميّة وقتله ثأرا لأبيه أميّة بن خلف الذي كان قد قتل ببدر. وقد سأله أبو سفيان قبل قتله: «أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وأنت في أهلك؟ فقال والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي» «7» .
__________
(1) الواقدي- مغازي 1/ 354- 355.
(2) يمكن التوفيق بين رواية البخاري وما ورد في كتب السيرة والمغازي بأن يكون الرسول قد قرر إرسالهم عينا للمسلمين ووافق ذلك قدوم الرهط من عضل والقارة فكلف أعضاء السرية بذلك الواجب في طريقهم لإنفاذ مهمتهم مما يوفر لهم الغطاء والحماية. وانظر: عرجون- محمد رسول الله 4/ 41.
(3) في رواية البخاري- الصحيح 5/ 40- 41 (حديث 4086) ورد أنهم عشرة من الصحابة، وقال ابن إسحاق (ابن هشام- السيرة 3/ 165- 167) أنهم ستة، في حين جعلهم موسى بن عقبة سبعة.
(4) ابن هشام- السيرة 3/ 165- 167، الواقدي- مغازي 1/ 357.
(5) ابن حزم- جوامع السيرة ص/ 176.
(6) البخاري- الصحيح 5/ 40- 41، أحمد- المسند 2/ 310، ابن هشام- السيرة 3/ 165- 167، وقد أورد ابن حجر زيادة في القصيدة إذ جعلها ثمانية أبيات.
(7) ابن هشام- السيرة 3/ 245، ابن سعد- الطبقات 2/ 56 مرسلا عن ابن إسحاق.(1/314)
وقد عرفت هذه الحادثة المفجعة بالرجيع نسبة إلى ماء الرجيع الذي حصلت عنده.
وقد أنزل الله سبحانه في أفراد هذه السريّة قوله تعالى «1» : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ «2» .
وكان المنافقون قد تظاهروا بالتوجع لقتلى سريّة الرجيع وقالوا ويحهم- لا هم أقاموا في أهلهم ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم فأنزل الله تعالى فيهم قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ «3» .
سريّة بئر معونة:
لم تتوقف وفود الصحابة عن الخروج من المدينة لدعوة الأعراب إلى الإسلام إذ لا بد من تبليغ الدعوة الإسلامية مهما غلت التضحيات؛ ففي الشهر نفسه الذي أرسل فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم سرّية الرجيع، أرسل صلّى الله عليه وسلّم سريّة أخرى إلى بئر معونة «4» ، وذلك أن أبا براء عامر بن مالك المعروف بملاعب الأسنّة قدم إلى المدينة، ودعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد ووعد بإجارة وفد من الدعاة يرسلهم النبي صلّى الله عليه وسلّم لدعوة الأعراب من أهل نجد.
وقد ثبت في الصحيح أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أرسل إلى نجد سبعين من خيار الصحابة- رضي الله عنهم- ممن عرفوا بالقرّاء «5» ، وقد أمّر عليهم المنذر بن عمرو الخزرجي «6» . فلما وصلوا بئر معونة وحرّة بني سليم من أرض عامر بن الطفيل، بعثوا حرام بن ملحان بكتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ابن الطفيل الذي غدر بهم فأمر بقتل رسولهم إليه الذي طعن في ظهره برمح فصاح: «الله أكبر فزت ورب الكعبة» وقد استنفر ابن الطفيل قومه من بني عامر إلى قتل السريّة فامتنعوا لأجل الجوار الذي سبق من أبي براء، فاستنفر عدو الله بني سليم فأجابته عشائر عصيّة ورعل وذكوان، وخاضوا مع المسلمين معركة ضارية استشهد فيها القرّاء جميعا عدا عمرو بن أميّة الضمري الذي كان قد تأخر عن إخوانه «7» . وقد عاد عمرو بن أميّة بالخبر الأليم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وقد فتك وهو في طريقه إلى المدينة
__________
(1) ابن كثير- البداية 4/ 76، واصلا منقطع ابن هشام في السيرة 3/ 248.
(2) القرآن الكريم- سورة البقرة، الآية/ 207.
(3) القرآن الكريم- سورة البقرة، الآية/ 204.
(4) ابن إسحاق- ابن هشام- السيرة 3/ 174، الواقدي- المغازي 1/ 346، ابن سعد- الطبقات 2/ 51.
(5) البخاري- الصحيح 5/ 41- 44 (حديث 4090) ، وجعلهم ابن إسحاق أربعين صحابيّا.
(6) خليفة بن خياط- تاريخ 2/ 174، الطبري- تاريخ 2/ 30- 1، وانظر: ابن هشام- السيرة 3/ 174. وفي الوقت الذي يذكر البخاري سببا آخر لإرسالهم وهو أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد أرسلهم مددا لبطون من بني سليم (الفتح- الحديث 4090) ، ابن سعد- الطبقات 3/ 53 بإسناد صحيح، فإن مسلم يذكر في صحيحه (3/ 1511- حديث 677) بأن سبب إرسالهم إنما هو للدعوة وتعليم الأعراب القرآن والسنّة بناء على طلبهم.
(7) أشارت الروايات العديدة إلى أن كعب بن زيد بن النجار ترك في أرض المعركة وبه جراحات كثيرة وبه رمق فعاش وشفي وعاش حتى استشهد في غزوة الخندق. البخاري- الصحيح (الأحاديث 4088- 4096) ، مسلم- الصحيح 3/ 1511 (حديث 677) ، أحمد- المسند: الفتح الرباني 12/ 63- 65، الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 126، ابن سعد- 2/ 51- 54، ابن هشام- السيرة 3/ 260- 267.(1/315)
برجلين من بني كلاب وهو يرى أنه قد أصاب ثأر أصحابه، ولكن تبين أن معهما عهدا من النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو لم يعلم به مما دفع الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى الالتزام بدفع ديتهما. وقد تألّم الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون كثيرا لفاجعتي بئر معونة والرجيع، وأخذ عليه السلام يقنت في صلاة الفجر ثلاثين يوما وهو يدعو على من قتل أصحابه «1» في هاتين السريّتين من رجال عشائر رعل وذكوان ولحيان وعصيّة «2» .
غزوة بني النضير:
قدمت المصادر الحديثة والتاريخية معلومات متنوعة عن تاريخ هذه الغزوة وأسبابها ففي حين روى الزهري أنها وقعت في سنة 2 هـ «3» ، ووردت رواية ثانية مرسلة عن عروة بن الزبير أنها كانت على رأس ستة أشهر من معركة بدر الكبرى «4» ، في حين وردت رواية أخرى عن عروة أنها كانت في محرم من السنة الثالثة للهجرة «5» .
وهذا موافق لما ورد عن طريق موسى بن عقبة «6» ، في حين ذكر محمد بن إسحاق أنها كانت سنة 4 هـ، وهذا يتفق مع ما أورده الواقدي وابن سعد «7» ، ومع ما ذكره هشام كذلك «8» . وقطع ابن القيم بوهم الزهري ولم يشك في أنها وقعت بعد معركة أحد كما ذهب أغلب من كتب في السيرة والمغازي «9» . ورغم توثيق ابن حجر لمرويات الزهري، فإنه يرى بضرورة الأخذ بقول ابن إسحق في هذه المناسبة لأن بئر معونة كانت بعد معركة أحد بالاتفاق «10» .
أما عن سبب الغزوة فتؤكد المصادر على المحاولتين اللتين قام بهما يهود بني النضير لقتل النبي صلّى الله عليه وسلّم، أولاهما بعد معركة بدر الكبرى بمواطأة ودعم من قريش لاستدراج النبي صلّى الله عليه وسلّم وقتله غيلة بالخناجر من قبل ثلاثة من أحبارهم «11» .
أما الثانية ففي أعقاب مأساة سريّة الرجيع، وإقدام عمرو بن أميّة الضمري على قتل رجلين معاهدين خطأ، فقد استعان النبي صلّى الله عليه وسلّم بيهود من أجل جمع الدية، وقد همّ اليهود بقتله غيلة بإلقاء حجر عليه وهو جالس إلى جدار لهم،
__________
(1) كان القراء السبعون أهل سرية الرجيع من خيار المسلمين تواترت الروايات على أنهم كانوا يحتطبون بالنهار وبيبعون حطبهم ويتصدقون به على أهل الصفة ويصلون بالليل ويتدارسون القرآن، انظر: البخاري- الصحيح 5/ 41- 44، ابن حجر- فتح الباري 7/ 386- 388.
(2) انظر البخاري- الصحيح (حديث 4093) حول كرامة ظهرت لعامر بن فهيرة، مسلم 3/ 1511 (حديث 677) .
(3) الصنعاني- المصنف 5/ 357، أبو داود- السنن 2/ 139- 140، الحاكم- المستدرك 2/ 384.
(4) الصنعاني- المصنف 5/ 357.
(5) البيهقي- دلائل النبوة 3/ 446- 450، أبو نعيم- دلائل النبوة 3/ 176- 177.
(6) انظر الهامش السابق.
(7) الواقدي- المغازي 1/ 363، ابن سعد- الطبقات 3/ 57، وهما بدون إسناد وورد فيهما أنها كانت في شهر ربيع الأول على رأس سبعة وثلاثين شهرا من الهجرة.
(8) ابن هشام- السيرة 3/ 683 وذكر أنها وقعت في ربيع الأول وقد تابع جل كتاب السيرة ما أورده ابن إسحاق في تحديده لتاريخ الغزوة.
(9) ابن القيم- زاد المعاد 2/ 110.
(10) ابن حجر- فتح الباري 6/ 388- 389.
(11) الصنعاني- المصنف 5/ 359- 60، ابن حجر- فتح الباري 7/ 331، أبو داود- السنن 2/ 139- 140، الحاكم- المستدرك 2/ 483.(1/316)
فأعلمه الوحي بذلك فانصرف عنهم بسرعة راجعا إلى المدينة حيث أمر بحصارهم «1» . وقد انفرد موسى ابن عقبة بالقول بأن بني النضير كانوا «قد دسّوا إلى قريش وحضّوهم على قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودلّوهم على العورة» وذلك عندما نزلوا بأحد لقتال الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين «2» . وعند تدقيق الأخبار فإن بالإمكان التعرف على مدى حقد يهود بني النضير على الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين، فقد تواطئوا مع أبي سفيان وفرسانه حين كمنوا عندهم في غزوة السويق قبل الاعتداء على أطراف المدينة، وكان كعب بن الأشرف قد أعلن مجاهرته بعداوة المسلمين فهجاهم وحرّض قريشا عليهم وشبب بنسائهم، إلى جانب محاولتهم قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم غيلة في المناسبتين المذكورتين آنفا، وذلك ما يكمن وراء قرار النبي صلّى الله عليه وسلّم الحكيم والحازم بضرورة طردهم من منطقة المدينة حيث إنه وضع بذاك حدّا لممارستهم الإجرامية المتكررة.
إنذار بني النضير بالجلاء وحصارهم:
سجلت معظم كتب السيرة النبوية خبر إنذار النبي صلّى الله عليه وسلّم لبني النضير بالجلاء خلال عشرة أيام دون أسانيد «3» ، كما سجلت موقف المنافقين وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول وتحريضهم لليهود على التمرد وعدم الجلاء ووعدهم بالنصر بروايات ضعيفة لا تصلح للاحتجاج بها «4» ، ولكن يكفي لثبوته ما ورد في سورة الحشر «5» التي ثبت أنها نزلت في بني النضير «6» .
أما عن الحصار فقد صح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد حاصرهم وطالبهم بأن يعاهدوه كشرط لتأمينهم فقال صلّى الله عليه وسلّم لهم: «إنكم لا تأمنون عندي إلّا بعهد تعاهدوني عليه، فأبوا أن يعطوه عهدا، فقاتلهم يومهم ذلك هو والمسلمون، ثم غدا الغد على بني قريظة بالخيل والكتائب، وترك بني النضير، ودعاهم إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه، فانصرف عنهم وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلّت الإبل إلّا الحلقة- السلاح- فجاءت بنو النضير واحتملوا ما أقلّت الإبل من أمتعتهم، وأبواب بيوتهم، فكانوا يخربون بيوتهم فيهدمونها، فيحملون ما وافقهم من خشبها» «7» .
وفي ذلك يقول عزّ وجلّ: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
__________
(1) ابن إسحاق- السيرة 3/ 191.
(2) البيهقي- دلائل النبوة 3/ 180.
(3) الواقدي- مغازي 1/ 363- 370، ابن هشام- السيرة 3/ 682، ابن سعد- الطبقات 3/ 57- 58، البيهقي- دلائل النبوة 3/ 466- 448، الطبري- تاريخ 3/ 334- 335، ابن سيد الناس- عيون الأثر 3/ 48، ابن كثير- البدآية والنهاية 3/ 45.
(4) ابن سيد الناس- عيون الأثر 2/ 49.
(5) القرآن الكريم- سورة الحشر، الآيات/ 11- 12.
(6) الطبري- التفسير 28/ 46، ابن هشام- السيرة 3/ 272- 3، وانظر فتح الباري 7/ 331، وفي آية الحشر ونزولها في بني النضير انظر: البخاري- الصحيح الحديث (4028) ، عبد الرزاق الصنعاني- المصنف 5/ 358- 61، أبو داود- السنن 3/ 404- 7، البيهقي- دلائل 3/ 446- 8.
(7) الصنعاني- المصنف 5/ 358- 61.(1/317)
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ «1» .
وقد ثبت بنص القرآن الكريم «2» والحديث النبوي الشريف «3» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بتحريق وقطع بعض نخل بني النضير خلال الحصار، قال تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ «4» .
وقد خرج يهود بني النضير إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام «5» ، وقد أسلم منهم اثنان ولذلك فإنهما أحرزا أموالهما «6» . أما باقي أموالهم وبساتينهم فكانت نفلا للرسول صلّى الله عليه وسلّم «7» ، كان ينفق على أهله منها نفقة سنة، ويجعل الفاضل عدّة في سبيل الله «8» . أما أرضهم فقد قسمها بين المهاجرين خاصّة، وأعطى اثنين من الأنصار لفقرهما «9» .
لم يتوقف حقد يهود بني النضير وكيدهم للإسلام بإجلائهم وتخليص المدينة وما حولها من شرورهم، فقد ثبت أنهم ساهموا في التحريض على تجميع الأحزاب في مواجهة الإسلام والكيد له فكانت غزوة الخندق «10» .
غزوة بدر الموعد:
تنفيذا للموعد الذي كان أبو سفيان قد اقترحه في أعقاب معركة أحد، والتزام الرسول صلّى الله عليه وسلّم بذلك، فقد خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من المدينة على رأس جيش من أصحابه قوامه ألف وخمسمائة مقاتل بينهم عشرة من الخيّالة وذلك في ذي القعدة سنة 4 هـ، وحمل لواء الجيش علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- فوصلوا بدرا فأقاموا فيها ثمانية أيام بانتظار وصول قوات المشركين من قريش بقيادة أبي سفيان بحسب الموعد بين الطرفين، غير أن أحدا من المشركين لم يصل إلى بدر، وكان أبو سفيان قد جمّع قوات قريش وحلفائها التي تألفت من ألفي مقاتل معهم خمسون فرسا، فلما وصلوا إلى مر الظهران، نزلوا على مياه مجنّة على بعد أربعين ميلا من مكة، ثم عاد بهم أبو سفيان إلى مكة بحجة أن
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الحشر، الآية 2.
(2) القرآن الكريم- سورة الحشر، الآية/ 5.
(3) البخاري- الصحيح 3/ 11، 143، أبو داود- السنن 3/ 36، الترمذي- السنن (تحفة الأحوذي 5/ 157- 158) ، ابن ماجه- السنن 3/ 948- 949.
(4) سورة الحشر- الآية/ 5.
(5) عبد الرزاق الصنعاني- المصنف 5/ 358- 361 بإسناد صحيح، ابن هشام- السيرة 3/ 269، برواية ابن إسحاق معلّقا.
(6) وهما يامين بن عمر بن كعب، وأبو سعد بن وهب، انظر: ابن هشام- السيرة 3/ 270.
(7) كما ورد بنص القرآن في قوله تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ... الآية، ونزول سورة الحشر في بني النضير، وانظر: البخاري- الصحيح (الأحاديث 4882- 4883) ، مسلم- الصحيح 3/ 1388- 1390 (الأحاديث 1768- 1769) .
(8) البخاري- الصحيح (حديث 4885) .
(9) وهما سهل بن حنيف وأبو دجانة، انظر: الصنعاني 5/ 358- 61، أبو داود 3/ 403- 404 (حديث 3004) ولم يصرح باسميهما، وابن إسحاق بإسناد منقطع، ابن هشام- السيرة 3/ 270.
(10) يرد ذكر مقتل سلام بن أبي الحقيق في غزوة خيبر لأنه حرّض الأحزاب. وقد أورد ابن هشام في السيرة أسماء اليهود الذين ساهموا في ذلك التحريض، بإسناد منقطع، وانظر: الصنعاني- المصنف 5/ 368- 373، ابن سعد- الطبقات 3/ 65- 66.(1/318)
ذلك العام كان عام جدب. وكان لإخلاف قريش موعدهم مع الرسول والمسلمين صدى واسع بين القبائل العربية، وأثر كبير في الارتفاع بمكانة المسلمين واستعادتهم لهيبتهم التي كانت قد انتكست بعد معركة أحد «1» .
سريّة أبي عبيدة إلى نجد:
واصل الرسول صلّى الله عليه وسلّم إرسال سراياه إلى أنحاء مختلفة من نجد والحجاز، ومن ذلك إرساله سريّة أبي عبيدة عامر ابن الجراح إلى قبيلتي طيء وبني أسد في نجد فنذروا به، فرجع أبو عبيدة ولم يلق كيدا «2» .
سرايا المسلمين الأخرى بعد بدر الموعد:
بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم عمر بن الخطاب على رأس سريّة إلى قبيلة القارة، فتهاربوا واعتصموا بالجبال فعاد بأصحابه ولم يلق كيدا «3» .
وبعث بلال بن مالك المزني على رأس سريّة من المسلمين إلى بني مالك بن كنانة، فنذروا به فلم يصب من دارهم إلّا فرسا واحدا «4» .
وبعث بشير بن سويد الجهني إلى بني الحارث بن عبد مناف بن كنانة، فاعتصموا في غيضة، فأحرقهم، فلامه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «5» .
غزوة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بني لحيان:
كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد وجه السرايا المذكورة آنفا، وهو غاز إلى بني لحيان، ثم أتى عسفان من وجهه ذلك، وبعث بعدد من السرايا تحت قيادة بعض كبار الصحابة فقد بعث عمر بن الخطاب إلى تربة وبعث محمد بن مسلمة إلى القرطاء من بني كلاب، بشير بن سعد الخزرجي إلى فدك، وغالب بن عبد الله الليثي إلى بني مرة في فدك؛ وغالب بن عبد الله الكلبي إلى بني الملوّح بالكديد وفي السنة التالية وهي سنة 6 هـ بعث بشير بن سعد إلى خيبر، وكعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح، وعبد الرحمن بن عوف إلى كلب، وعلى بن أبي طالب إلى فدك، وعثمان بن عفان إلى الهدى، وعبد الله بن رواحة إلى خيبر، دعما لعلي بن أبي طالب الذي فتح الله عليه فدك «6» .
غزوة دومة الجندل:
لم ترد أخبار غزوة دومة الجندل في الصحيحين، بل في كتب المغازي والسير التي اتفقت على أنها كانت في
__________
(1) ابن هشام- السيرة 3/ 292، الواقدي- مغازي 1/ 384، ابن سعد- الطبقات 2/ 59، ابن القيم- زاد المعاد 2/ 120، ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 87.
(2) خليفة بن خياط- تاريخ 77/ 78.
(3) خليفة بن خياط- تاريخ ص/ 77.
(4) المرجع السابق ص/ 78.
(5) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.
(6) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها، ابن هشام- السيرة 3/ 387، الواقدي- المفازي 2/ 535، ابن سعد- الطبقات 78/ 2- 7، 9.(1/319)
ربيع الأول على رأس تسعة وأربعين شهرا من الهجرة النبوية «1» . ويرجع الواقدي سببها إلى أنه قد بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن بدومة الجندل جمعا كثيرا من الناس وأنهم يظلمون من مرّ بهم من تجار الميرة والمتاع المتنقلين بين المدن- وكان بدومة الجندل سوق عظيم وتجارة رائجة، وأنه قد ضوى إليهم قوم من العرب كثير، وأنهم يريدون التوجه إلى المدينة طمعا في أموالها «2» ، فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس وخرج في ألف من المسلمين، ومعهم دليل من بني عذرة، وقبل وصولهم دومة الجندل هجموا علي ماشيتهم ورعائهم، فأصابوا قسما منها، وهرب من هرب، فبلغ الخبر دومة الجندل، فتهاربوا إذ لم يجد المسلمون أحدا فيها عند وصولهم، فأقام النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمسلمين فيها أياما، وبعث بالسرايا من هناك إلى مختلف الأنحاء وكانت ترجع بالإبل فقط، إلّا سريّة محمد بن مسلمة الذي أسر رجلا منهم وعرض عليه الإسلام فأسلم. وعاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالمسلمين إلى المدينة «3» .
غزوة المريسيع (بني المصطلق) :
ساهم بنو المصطلق- وهم من خزاعة الأزدية اليمانية «4» مع قوات المشركين التي قادتها قريش ضد المسلمين في معركة أحد «5» . وقد تجرّأ بنو المصطلق فيمن تجرّأ من الأعراب على المسلمين، فأخذ زعيمهم الحارث بن أبي ضرار في جمع السلاح والرجال وتأليب القبائل المجاورة للقيام بهجوم على المدينة «6» . وحين علم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بذلك، أرسل عينا جاءه بتأكيد نيّتهم في ذلك «7» .
وفي يوم الاثنين الثاني من شعبان سنة 5 هـ خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من المدينة «8» ، في سبعمائة مقاتل وثلاثين فرسا، وتوجه نحو بني المصطلق «9» . وحيث إنهم كانوا ممن بلغتهم دعوة الإسلام، وكانوا قد شاركوا في غزوة أحد ضمن جيش المشركين ضد المسلمين، كما أنهم كانوا يجمعون الجموع ويستعدون لحرب المسلمين، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أغار
__________
(1) ابن هشام- السيرة 3/ 297- 298، الواقدي- المغازي 1/ 402، ابن سعد- الطبقات 2/ 62.
(2) الواقدي- المغازي 1/ 402- 404، ابن سعد- الطبقات 2/ 62- 63، وقد أضاف الواقدي سببا آخر وهو أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يقترب بتحركاته العسكرية من حدود الشام لكي يفزع الروم (المغازي 1/ 403) ، وانظر ابن هشام- السيرة 3/ 297- 298.
(3) الواقدي- المغازي 1/ 402- 404، ابن سعد- الطبقات 2/ 62- 63 معلقا.
(4) خليفة بن خياط- الطبقات ص 76، 107، ابن هشام- السيرة 1/ 136 وكانوا يسكنون قديدا وعسفان بين مكة والمدينة (الحربي- المناسك 458- 460) ، القلقشندي- قلائد الجمان ص 93، النويري- نهاية الأرب 2/ 332.
(5) ابن هشام- السيرة 2/ 61، الواقدي- مغازي 1/ 200.
(6) ابن سعد- الطبقات 2/ 63 بإسناد جمعي.
(7) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها، وانظر: البيهقي- السنن 9/ 54، ودلائل النبوة 4/ 44، الواقدي- 1/ 404، ابن كثير- البداية 3/ 242، 4/ 156. وكذلك ابن هشام- السيرة 3/ 401.
(8) ابن كثير- البداية 3/ 242، 4/ 156 وهذا هو الراجح حكاه موسى بن عقبة عن الزهري وعن عروة، وتابعه أبو معشر والواقدي وابن سعد انظر ابن حجر فتح الباري 7/ 430، مغازي 1/ 404، ابن سعد- الطبقات 2/ 63، البيهقي- السنن 9/ 54، ابن القيم- زاد المعاد 3/ 125، الذهبي- تاريخ الإسلام 2/ 275.
(9) الذهبي- تاريخ الإسلام (المغازي) 1/ 230، الواقدي- مغازي 1/ 404.(1/320)
عليهم وهم غارّون، وكانت أنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم وغنم أموالهم «1» . ولم تتفق الروايات في عدد القتلى ومقدار السبي والأموال سوى ما ذكره ابن إسحاق من عتق «مائة أهل بيت من بني المصطلق» «2» ، في حين يذكر الواقدي بأنه قد قتل عشرة من بني المصطلق وأسر سائرهم «فما أفلت منهم إنسان» «3» .
وعاد النبي صلّى الله عليه وسلّم من هذه الغزوة إلى المدينة هلال رمضان، بعد أن غاب عنها ثمانية وعشرين يوما «4» .
وفي هذه الغزوة كشف المنافقون عن مدى حقدهم على الإسلام والمسلمين، فقد ازدادوا غيظا بالنصر الذي تحقق على بني المصطلق، وسعوا في بادىء الأمر إلى إثارة العصبية القبلية بين المهاجرين والأنصار «5» . فلما فشلت المحاولة، عمل عبد الله بن أبي بن سلول على عرقلة جهود الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الدعوة، وعلى منع الأموال من أن تدفع لأجل ذلك بغية أن ينفض الناس من حول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتوعد بإخراجه ذليلا من المدينة عند العودة إلى المدينة «6» .
وحين استدعى النبي صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه المنافقين حين علم بما قالوا، واستفسر منهم عن الأمر، فإنهم أنكروا ذلك وحلفوا بأنهم ما قالوا شيئا، ثم أنزل الله تعالى سورة المنافقين وفيها تكذيب لهم «7» ، وفضح لأيمانهم الكاذبة «8» وتأكيد وتصديق لما نقله الصحابي زيد بن أرقم، وذلك في قوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ* يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ «9» .
ولقد ضعف مركز عبد الله بن أبي بن سلول في قومه بعد هذه الحادثة، فقد أصبحوا يعنفونه ويلومونه كلما أخطأ، واحتقره المسلمون، وفقد مكانته «10» ، حتى إن ابنه عبد الله استأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قتله، فنهاه الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك وأمره بأن يبره ويحسن صحبته «11» . وقد أقدم مع شدة برّه بأبيه وهيبته له، على منعه من دخول المدينة
__________
(1) البخاري- الصحيح 3/ 129، مسلم- الصحيح 5/ 139.
(2) ابن إسحاق- السيرة 1/ 336245، ابن هشام- السيرة 2/ 293- 4، 645.
(3) الواقدي- المغازي 1/ 140، ابن سعد- الطبقات 2/ 64 ويذكر الواقدي أن الغنائم كانت ألفي بعير وخمسة آلاف شاة، وأن السبي كان مائتي أهل بيت. وأورد الزرقاني رواية له أن السبي أكثر من سبعمائة (شرح المواهب اللدنية 3/ 245) .
(4) الواقدي- مغازي 1/ 404.
(5) البخاري- الصحيح 4/ 146، 6/ 128، مسلم- الصحيح 8/ 19.
(6) سمع ذلك الصحابي زيد بن أرقم فنقله إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إما عن طريق عمه سعد بن عبادة، أو عمر بن الخطاب، انظر في ذلك: الإمام أحمد- المسند 3/ 392- 393 بإسناد صحيح، فتح الباري 8/ 649، الترمذي- السنن 5/ 90.
(7) القرآن الكريم- سورة المنافقون، الآية/ 1.
(8) القرآن الكريم- سورة المنافقون، الآية/ 2.
(9) القرآن الكريم- سورة المنافقون، الآية/ 7- 8.
(10) ابن هشام- السيرة 2/ 290- 293 ويؤيد ذلك أحد المراسيل الجيدة لعروة بن الزبير (فتح الباري 8/ 649) وأصله في الصحيحين البخاري- الفتح 6/ 127، مسلم- الصحيح 8/ 119.
(11) الهيثمي- مجمع الزوائد 9/ 318.(1/321)
حتى يأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدخولها «1» .
استغل المنافقون بعد ذلك حادثة حصلت لأم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- في طريق العودة من غزوة بني المصطلق فقد نزلت من هودجها لبعض شأنها، فلما عادت افتقدت عقدا لها فرجعت تبحث عنه، وحمل الرجال الهودج ووضعوه على البعير وهم يحسبون أنها فيه، وحين عادت افتقدت الركب فمكثت مكانها تنتظر أن يعودوا إليها بعد أن يكتشفوا غيابها، وصادف أن مرّ بها أحد أفاضل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو صفوان بن المعطل السلمي، فحملها على بعيره وأوصلها إلى المدينة بعد وصول الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فاستغل المنافقون هذا الحادث ونسجوا حوله الإشاعات الباطلة وتولى ذلك عبد الله بن أبي بن سلول، وأغرى بالكلام ثلاثة من المسلمين هم مسطح بن أثاثة، وحسّان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، فاتّهمت أم المؤمنين عائشة بالإفك. وقد أوذي النبي صلّى الله عليه وسلّم بما كان يسمع من دعايات المنافقين، وصرّح بذلك للمسلمين في المسجد حيث أعلن ثقته التامة بزوجته وبالصحابي ابن المعطل السلمي، وحين أبدى سعد بن معاذ استعداده لقتل من تسبب في ذلك إن كان من الأوس، أظهر سعد بن عبادة معارضته بسبب كون عبد الله بن أبي بن سلول من قبيلة الخزرج، ولولا تدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم وتهدئته الصحابة من الفريقين لوقعت الفتنة بين الأوس والخزرج «2» .
ومرضت عائشة بتأثير تلك الإشاعات الكاذبة، فاستأذنت النبي صلّى الله عليه وسلّم في الانتقال إلى بيت أبيها، وانقطع الوحي شهرا عانى الرسول صلّى الله عليه وسلّم خلاله كثيرا، حيث طعنه المنافقون في عرضه وآذوه في زوجته، ثم نزل الوحي موضحا: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ «3» .
وتوالت الآيات بعد ذلك تكشف مواقف الناس من هذه الفرية، وتعلن بجلاء ووضوح براءة أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- التي أكرمها الله سبحانه فمنحها الجائزة والتعويض المناسب لمحنتها وصبرها وحسن توكلها عليه سبحانه، إذ نزل في براءتها آيات من القرآن يتعبّد بها المسلمون أبد الدهر، كما علّم المؤمنين آداب التعامل مع هذه المسائل الحسّاسة، وآداب التعامل مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم قبل ذلك «4» .
لقد كادت حادثة الإفك أن تحقق للمنافقين ما كانوا يسعون إلى تحقيقه من هدم وحدة المسلمين وزعزعة عقيدتهم في النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإشعال نار الفتنة بين المسلمين، ولكن الله سلّم فقد تمكّن الرسول القائد صلّى الله عليه وسلّم من قيادة الأمة بكفاءة وهو في تلك الظروف الحالكة لتجتاز الامتحان الصعب، ويصل بها بأمان إلى شاطىء السلامة.
__________
(1) ابن هشام- السيرة 2/ 293، الترمذي- السنن 5/ 90.
(2) الهيثمي- مجمع الزوائد 9/ 230، السيوطي- الدر 5/ 27.
(3) القرآن الكريم- سورة النور، الآية 11، وانظر: البخاري- الصحيح 9/ 89، مسلم- الصحيح 8/ 112- 118، الطبري- التفسير 18/ 89.
(4) انظر: سورة النور، الآيات 12، 16، 22، وانظر: البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 7370) ، مسلم- الصحيح 4/ 2129 (حديث 2770) .(1/322)
ومن نتائج هذه الغزوة، زواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بعد أن كانت قد كاتبت في عتق نفسها ممن وقعت في سهمه، وقد ذكرت للنبي صلّى الله عليه وسلّم مكانها في قومها فقضى عنها كتابها وتزوجها «1» . وقد أطلق الصحابة بسبب هذا الزواج سائر السبي وقالوا: «أصهار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» ، فأعتق مائة أهل بيت «فما كانت امرأة أعظم بركة على قومها منها» «2» . وقد أسلم أبوها وقومه «3» . وكان لزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من جويرية وإطلاق الأسرى أكبر الأثر في تجميع قلوبهم على
الهدى ومشاركتهم الجادّة في الجهاد للذود عن الإسلام «4» .
غزوة الخندق (الأحزاب) :
كانت تحركات المسلمين المتواصلة في مختلف أنحاء شبه الجزيرة العربية، وتحديهم المستمر لقريش، وتهديدهم لطرق تجارتها، وكذلك إجلاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم بني قينقاع وبني النضير عن المدينة، قد هيأت الظروف لتحالف المشركين مع يهود بني قريظة بهدف اجتثاث المسلمين من قاعدتهم المدينة. ولقد عمد بنو قريظة إلى التظاهر باحترام الحلف المبرم بينهم وبين المسلمين متسترين على مشاعرهم الحاقدة ورغبتهم العارمة في الانتقام.
جرت غزوة الأحزاب للمدينة في شوال سنة خمس من الهجرة «5» . وليس هناك ما يدعو للبحث عن أسبابها فهي حلقة من سلسلة صراع متواصلة، ويمكن ملاحظة أنها جاءت على أثر فشل قريش في محاولتها تأمين طرق تجارتها مع بلاد الشام إذ أنه على الرغم من خسائر المسلمين الكبيرة في معركة أحد، فإنها لم تكن حاسمة ولم تؤمّن الطريق التجاري بين مكة والشام «6» . كما أن ازدياد وعنف النشاط الإسلامي في الغزوات والسرايا العديدة التي جرت بعد معركة أحد، عمل على إنهاء الأثر السلبي لهذه المعركة سواء في المدينة أو في البوادي «7» . ولذلك فإن قريشا عادت من جديد إلى التفكير بإعداد حملة عسكرية ضخمة تأمل أن تحسم بها الأمور، وتقضي نهائيّا على الوجود
__________
(1) ابن هشام- السيرة 2/ 294، 645 بإسناد حسن.
(2) أبو داود- السنن 2/ 347، وقد ذكر خليفة بن خياط خبرا مرسلا عن قدوم والدها الحارث إلى المدينة وتخيير الرسول لها واختيارها البقاء مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (تاريخ ص 80) .
(3) أحمد- المسند 4/ 279.
(4) الهيثمي- مجمع الزوائد 7/ 108، الطبري- تفسير 26/ 124، وانظر: ابن هشام- السيرة 2/ 296.
(5) وهذا قول الجمهور ومنهم ابن إسحاق والواقدي ومن تابعهم (ابن كثير- البداية 4/ 93، الواقدي- مغازي 2/ 440) ، ونقل عن الزهري ومالك بن أنس وموسى بن عقبة أنها جرت سنة أربع (البخاري- الصحيح 5/ 44) حيث أنه نقل رواية موسى بن عقبة، وانظر ابن كثير- البداية 4/ 93، ويمكن التوفيق بين القولين إذا ما لا حظنا بداية تاريخ كل فئة إذ اعتاد البعض احتساب سنوات الهجرة من المحرم وإلغاء ما سبق ذلك من أشهر إلى ربيع الأول.
(6) ابن هشام- السيرة 3/ 214 بإسناد صحيح إلى عروة.
(7) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 393) .(1/323)
الإسلامي، وبالتالي على الأخطار التي تهدد مصالحها «1» . غير أن زعماء قريش كانوا يدركون أن قوة المسلمين قد تنامت كثيرا، وأن قوتهم الذاتية لم تعد وحدها قادرة على تحقيق الهدف المنشود، ولذلك فإنهم سعوا إلى عقد محالفات عديدة من أجل تجميع القوى الحاقدة والقادرة على تحقيق ما يأملون. وقد واتتهم الفرصة حينما اتصل بهم زعماء يهود بني النضير الموتورين من مقر إقامتهم الجديد في خيبر، داعين قريشا إلى حرب المسلمين. وقد وفد منهم إلى مكة سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب من زعماء بني النضير، فتعاقدوا مع قريش على المشاركة في قتال المسلمين، بعد أن شهدوا أنّ الشرك خير من الإسلام وقد نزلت في حقهم الآية الكريمة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا «2» ، ثم خرجوا من مكة إلى نجد فحالفوا غطفان على حرب المسلمين، بعد أن وعدوهم بنصف تمر خيبر «3» . أما قريش فقد نجحت في تجميع حلفائها من بني سليم وكنانة وأهل تهامة والأحابيش «4» .
تحركت قوات «الأحزاب» نحو المدينة، فنزلت قريش وأحلافها «بمجمع الأسيال» ، بين الجرف وزغابة، ونزلت غطفان ومعها بنو أسد «بذنب نقمي» إلى جانب أحد «5» . وقد بدأ الرسول صلّى الله عليه وسلّم باستشارة أصحابه فيما ينبغي عمله لمواجهة الخطر الداهم، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق شمال المدينة بين حرتي «واقم والوبرة» ، والاعتماد في الجهات الأخرى من المدينة على حصانتها وعلى ما يحيط بها من الحرّات التي يصعب اختراقها «6» . ولم يعترض أحد على الاقتراح الذي كان يهيء حاجزا يمنع الالتحام المباشر مع قوات الأحزاب، كما يمنعها من اقتحام المدينة «7» ، وفي الوقت نفسه يوفر للمسلمين فرصة جيّدة للدفاع، ولتكبيد الغزاة الكثير من الخسائر البشرية، وذلك بالتصدي لهم عند محاولة اقتحام الخندق، وبرشقهم بالسهام من وراء التحصينات.
تولى المسلمون مهمة حفر الخندق، ورغم طوله الذي بلغ خمسة آلاف ذراع، بعرض تسعة أذرع وعمق سبعة إلى عشرة أذرع، وبرودة الجو، وقلة التموين التي تسببت في مجاعة أصابت المدينة «8» ، فقد تم إنجاز الحفر بسرعة مذهلة، لم تتجاوز ستة أيام، وكان لمشاركة الرسول صلّى الله عليه وسلّم الفعلية في مراحل العمل المختلفة أثر كبير في الروح
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 393) من رواية موسى بن عقبة دون إسناد.
(2) القرآن الكريم- سورة النساء، الآية/ 51، واورد الطبري آراء العلماء في سبب نزول الآية، وخلص إلى القول بأن أولى الأقوال بالصحة قول من قال بأن ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن جماعة من أهل الكتاب من يهود. وجائز أنهم الذين سماهم ابن عباس، أو أن يكون حييّا وآخر معه إما كعبا وإما غيره (تفسير الطبري 8/ 469- 471) ، وذكر آخرون أنه كعب بن الأشرف وقد سبقت الإشارة إليه آنفا.
(3) الواقدي- مغازي 2/ 443، ابن كثير- التفسير 1/ 513.
(4) البيهقي- دلائل النبوة 3/ 399، ابن حجر- فتح الباري 7/ 393، ابن هشام- السيرة 2/ 219- 220.
(5) وذكر السيوطي أسماء القبائل النجدية التي شاركت في هذا التجمع وهم غطفان وبنو سليم وبنو أسد وفزارة وأشجع وبنو مرة. انظر: الخصائص الكبرى 1/ 565.
(6) ابن حجر- فتح الباري 7/ 393، وانظر: الواقدي- مغازي 2/ 445 بدون إسناد، ابن هشام- السيرة 2/ 224.
(7) ابن سعد- الطبقات 2/ 66- 67.
(8) ابن سعد- الطبقات 2/ 66- 67، الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 130، الطبري- تفسير 21/ 33، ابن حجر- فتح الباري 7/ 397.(1/324)
الإيمانية العالية التي سيطرت على المسلمين في موقع العمل مما مكّنهم من إنجاز متطلبات خطة الدفاع، والاستعداد قبل وصول طلائع قوات الأحزاب «1» . وكان المسلمون يرددون الأهازيج والرجز ويردد معهم النبي القائد صلّى الله عليه وسلّم مشاركة لهم وتواضعا، وروى البخاري قوله صلّى الله عليه وسلّم معهم:
«اللهمّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لا قينا
إنّ الألى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا»
وكان عليه الصلاة السلام يمد صوته الكريم بآخرها «2» ، أما المسلمون فكانوا يرتجزون:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الإسلام ما بقينا أبدا «3»
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يجيبهم بقوله:
«اللهمّ إنّه لا خير إلّا خير الآخره، ... فبارك في الأنصار والمهاجره» «4» .
وحصلت خلال مرحلة حفر الخندق ثلاث معجزات حسّية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهي تكثير الطعام الذي أعدّه الصحابي جابر بن عبد الله للرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد أن باركه صلّى الله عليه وسلّم، فقد أكل منه ألف صحابي حتى شبعوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وتركوا الكثير «5» . ومن معجزاته إخباره لعمار بن ياسر وهو يعمل معهم بأمر غيبي يتعلّق بقتله- رضي الله عنه- «6» .
وقيامه صلّى الله عليه وسلّم بتفتيت صخرة عظيمة عجز الصحابة عن كسرها، فقد ضربها ثلاث ضربات وفتتها ومع كل ضربة كان صلّى الله عليه وسلّم يعلن عن تسلّمه لمفاتيح أقاليم كل من الشام، وفارس، واليمن، وهي بشارة تنبىء عن اتساع الفتوحات الإسلامية والإخبار عنها في وقت كان المسلمون فيه محصورين في المدينة، يواجهون المشاق والخوف والجوع والبرد القارص «7» . وكان جواب المؤمنين كما حكى القرآن الكريم قولهم: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً «8» .
__________
(1) البخاري- الصحيح 5/ 45- 47، فتح الباري 7/ 395، وانظر: مسلم- الصحيح 3/ 1430.
(2) البخاري- الصحيح 5/ 47، فتح الباري 7/ 399.
(3) المرجع السابق (فتح الباري 7/ 392- 393) .
(4) المرجع السابق- الصحيح 5/ 45، وفيه الجهاد بدل الإسلام. انظر الهامش السابق، (فتح 7/ 393) .
(5) البخاري- الصحيح 5/ 46، مسلم- الصحيح 3/ 1610.
(6) وكان قتله- رضي الله عنه- في صفين انظر: مسلم- الصحيح 4/ 2235.
(7) أحمد- المسند 4/ 303، الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 131، ابن حجر- فتح 7/ 397، الطبراني- المعجم الكبير 11/ 376.
(8) القرآن الكريم- سورة الأحزاب، الآية/ 22.(1/325)
أما المنافقون فإنهم سخروا من هذه البشارة، وهذا الموقف منهم يتسم بالجبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين.
وقد صوّر القرآن الكريم موقف المنافقين بشكل دقيق، قال تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً «1» . وقوله تعالى: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً «2» . وقوله تعالى: يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا «3» .
وبالرغم من كل تخذيل المنافقين وإرجافهم، وظروف المجاعة، وشدّة البرد، فقد مضى المسلمون في تنفيذ مهامهم واستعداداتهم، وإكمال خطة الدفاع عن المدينة. وحين انتهى حفر الخندق، وضع الرسول صلّى الله عليه وسلّم النساء والأطفال في حصن فارع، وهو لبني حارثة، وكان أقوى حصون المسلمين «4» . ثم رتّب صلّى الله عليه وسلّم المسلمين للدفاع، فأسند ظهر الجيش إلى جبل سلع داخل المدينة، ووجوههم إلى الخندق الفاصل بينهم وبين المشركين الذين نزلوا «رومه» بين الجرف والغابة ونقمى «5» . وكان تفوق عدد قوات المشركين كبيرا، فقد بلغ عددهم عشرة آلاف مقاتل في مقابل ثلاثة آلاف من المسلمين «6» . وإزاء ذلك رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصالح قبيلة غطفان في مقابل أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة لتلك السنة، غير أن زعيمي الأوس والخزرج سألا النبي صلّى الله عليه وسلّم: أهو وحي من السماء فالتسليم لأمر الله، أو عن رأيك وهواك؟ فرأينا تبع لرأيك وهواك. فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا، فو الله لقد رأيتنا وإياهم على سواء ما ينالون منا ثمرة إلّا شراء أو قرى» فقطع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المفاوضة مع زعماء قبيلة غطفان «7» .
واشتد تأزم الوضع على المسلمين حين بلغهم أن حلفاءهم يهود بني قريظة قد نقضوا العهد وغدروا بهم وكانوا يسكنون العوالي في جنوب شرق المدينة مما يمكنهم من طعن المسلمين من الخلف. وقد أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم الزبير ابن العوام للاستطلاع في أول الأمر، ثم أرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فوجداهما قد نقضوا العهد ومزقوا الصحيفة، إلّا بني سعفة منهم، فإنهم خرجوا إلى المسلمين من حصونهم معلنين التزامهم ووفاءهم بالعهد «8» . وبعد
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الأحزاب، الآية/ 12.
(2) القرآن الكريم- سورة الأحزاب، الآية/ 19.
(3) القرآن الكريم- سورة الأحزاب، الآية/ 20.
(4) مسلم- الصحيح 4/ 1879، الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 133، الطبري- تاريخ 2/ 570- 571.
(5) الطبري- تفسير 21/ 129- 130.
(6) ابن هشام- السيرة 2/ 215، 220، الطبري- تفسير 21/ 130، ابن حجر- فتح الباري 7/ 393، ابن سعد- الطبقات 2/ 66، ابن الجوزي- الوفا ص 292.
(7) الهيثمي- مجمع الزوائد 6/ 132، ابن هشام- السيرة 3/ 310- 311، وانظر: ابن سعد- الطبقات 2/ 73.
(8) البخاري- الصحيح (فتح الباري 7/ 80) .(1/326)
أن أعلن نقض اليهود للعهد، وشاع الخبر بين المسلمين خافوا على ذراريهم من اليهود «1» . ووصف القرآن الكريم حالة المسلمين بقوله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً «2» .
والآية تشير إلى قوات الأحزاب وبني قريظة، كما تعكس حال المنافقين الذين ظنوا بالله الظنون، أما المؤمنون فقد أصابهم البلاء وزلزوا زلزالا شديدا غير أن الإيمان العميق والتربية النبوية، جعلتهم يصمدون أمام سائر تلك الأخطار. فبادروا إلى تسيير دوريات لحراسة المدينة تطوف فيها على الدوام وتظهر التكبير لإشعار بني قريظة بوجودهم واستعدادهم ويقظتهم «3» .
أما الأحزاب فقد فوجئوا بالخندق واحتاروا في كيفية اجتيازه، وكانوا كلما همّوا باقتحامه واجهوا سيلا من سهام المسلمين، واشتد الحصار وتواصل طيلة أربع وعشرين ليلة «4» ، وكانت هجمات المشركين متواصلة حتى إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين أخّروا صلاة العصر في أحد الأيام إلى ما بعد المغرب «5» بسبب ذلك. ورغم طول وشدة الحصار فقد كانت خسائر الطرفين محدودة فقد استشهد ثمانية من المسلمين «6» . وقتل أربعة من المشركين «7» .
وحيث إن أهداف المشاركين في قوات الأحزاب من المشركين لم تكن واحدة، فقد نجم عن طول فترة الحصار حصول ضعف حاد في معنويات المشاركين في الحرب. وقد وردت في كتب السير والمغازي مرويات لا تثبت من الناحية الحديثية عن دور نعيم بن مسعود الغطفاني في تخذيل الأحزاب وشق صفوفهم، وإلقاء الشكوك بينهم، وخداعه لهم وهي على كل حال، لا تتنافي- إن تأكد حصولها- مع قواعد السياسة الشرعية ذلك أن الحرب خدعة «8» .
وقد ثبت أن الله تعالى قد نصر المسلمين بالريح والملائكة «9» ، وذلك ما نص عليه الكتاب العزيز في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ
__________
(1) ابن كثير- البدآية 4/ 103.
(2) القرآن الكريم- الأحزاب، الآيات/ 10- 11.
(3) ذكر ابن سعد- الطبقات 2/ 67 أن الصحابي مسلمة بن أسلم الأوسي كان يقود مائتي رجل، وزيد بن حارثة كان يقود ثلاثمائة رجل كانوا يدورون بالمدينة ويحرسونها.
(4) ابن سعد- الطبقات 2/ 73، الطبري- تفسير 21/ 128، ابن حجر- فتح الباري 7/ 393.
(5) ابن حجر- فتح الباري 2/ 68، 5/ 92.
(6) من روآية ابن إسحاق (ابن هشام- السيرة 3/ 253) معلّقا، الواقدي- المغازي 2/ 495- 496، وقد ذكرا الأسماء والانتماء والعدد، وانظر: ابن سعد- الطبقات 2/ 70.
(7) ابن هشام- السيرة 2/ 224، ابن سعد- الطبقات 2/ 68، وانظر: الطبري- تاريخ 3/ 48.
(8) ابن هشام- السيرة 2/ 229- 230، الواقدي- المغازي 2/ 481- 2، ابن كثير- البدآية 4/ 113.
(9) ابن سعد- الطبقات 2/ 71، البيهقي- دلائل النبوة 3/ 406.(1/327)
بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً «1» .
واشتدت الرياح الباردة العاصفة العاتية، فاقتلعت خيام المشركين، وأطفأت نيرانهم، وقلبت قدورهم، ودفنت رحالهم، وكان لذلك مع طول فترة الحصار وعدم جدوى الانتظار عوامل أسهمت في انهيار معنويات الأحزاب «2» . وحين انتدب الرسول صلّى الله عليه وسلّم حذيفة بن اليمان ليأتيه بخبر الأحزاب، فإنه عاد وأخبره بتفرق الناس عن أبي سفيان، وأنه لم يبق معه إلّا عصبة قليلة «3» . وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يديم الدعاء خلال الحصار فيقول: «اللهمّ منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب، اللهمّ اهزمهم وزلزلهم» «4» .
واستجاب الله سبحانه لدعاء نبيه فأعزّ جنده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، وتنفس المسلمون الصعداء: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً «5» .
لقد بذلت قريش ومن حالفها أقصى طاقاتهم من أجل القضاء على الدعوة الإسلامية واستئصال شأفة المسلمين، ولكن الله تعالى ردهم خائبين. وقد ترتّب على ذلك الفشل آثار خطيرة تمثلت في تغير ميزان القوى لصالح المسلمين، وذلك ما عبّر عنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم» «6» . وذلك يعكس التغير الجذري في سياسة الدولة الإسلامية من اتباع سياسة الدفاع عن المدينة، إلى مرحلة الهجوم والتهديد، وذلك يشير بوضوح إلى أن مناطق الصراع قد انتقلت في أعقاب هذه الغزوة إلى مناطق أخرى مثل مكة وما حولها، وتبوك، وغيرهما بعيدا عن المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية.
غزوة بني قريظة:
كان نقض بني قريظة لوثيقة العهد التي أبرموها مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم عند حصار قوات الأحزاب للمدينة في غزوة الخندق وإصرارهم على خيانة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين، وتعريضهم أمن وسلامة المسلمين ودولتهم للخطر، السبب في هذه الغزوة، فقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بقتالهم بعد انسحاب الأحزاب وانتهاء الحصار والخطر وعودته بالمسلمين من الخندق ووضعهم السلاح «7» . وقد وقعت الغزوة في أول ذي الحجة سنة 5 هـ «8» . حيث أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بالتوجه إلى ديار بني قريظة ومحاصرتهم، وبأن الله سبحانه وتعالى قد أرسل جبريل- عليه السلام-
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الأحزاب، الآية/ 9.
(2) مسلم- الصحيح 3/ 1414- 1415 (حديث 1788) .
(3) المرجع السابق 3/ 1415، ابن هشام- السيرة 2/ 230، الحاكم- المستدرك 3/ 31، الهيثمي- كشف الأستار 2/ 335، مجمع الزوائد 6/ 136.
(4) مسلم- الصحيح 3/ 1363 (حديث 1742) .
(5) القرآن الكريم- سورة الأحزاب، الآية/ 25.
(6) البخاري- الصحيح 5/ 48 (الأحاديث 4109، 4110) وشرحه ابن حجر، ورواه ابن إسحاق بلاغا، ابن هشام- السيرة 3/ 352.
(7) البخاري- الصحيح 3/ 306، مسلم- الصحيح 7/ 138.
(8) ابن سعد- الطبقات 3/ 74، ابن هشام- السيرة 3/ 715، الطبري- تاريخ 3/ 593، ابن سيد الناس- عيون الأثر 3/ 68.(1/328)
ليزلزل حصونهم ويلقي في قلوبهم الرعب «1» ، وطلب إليهم: «ألّا يصلّينّ أحد العصر إلّا في بني قريظة» «2» . كما خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم بنفسه إلى بني قريظة واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم «3» ، وبعث عليّا على المقدمة برايته «4» .
وكان عدد جيش المسلمين ثلاثة آلاف رجل معهم ستة وثلاثون فرسا «5» . واختلفت المصادر في تحديد مدة حصار بني قريظة، وأقوى الأدلة تبين أنه كان خمسا وعشرين ليلة «6» .
أراد بنو قريظة، بعد أن اشتد عليهم الحصار، أن يستسلموا وينزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستشاروا الصحابي أبا لبابة بن عبد المنذر، وكان حليفا لهم، فأشار عليهم بأن ذلك يعني ذبحهم «7» . ونزل يهود بني قريظة على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس أملا في أن يرأف بهم بسبب الحلف القديم بينهم وبين الأوس. وقد قضى سعد فيهم أن «تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتقسّم أموالهم» ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قضيت بحكم الله» «8» .
وقد نفذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حكم الله فيهم، وكانوا أربعمائة مقاتل «9» . ولم يقتل من نسائهم إلّا امرأة واحدة كانت قد قتلت أحد الصحابة حين ألقت عليه رحى من أعلى الحصن، أما الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم فقد أطلق سراحهم «10» . ثم شرع النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك في تقسيم أموالهم وذراريهم بين المسلمين «11» . وإلى ذلك يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً «12» .
الغزوات والسرايا والبعوث بعد غزوة بني قريظة حتى الحديبية:
بعد ما حقق المسلمون ما حققوه من نجاح في صد الأحزاب وإفشال خططهم، وردهم كيد يهود بني قريظة في نحورهم، فباشروا نشاطا واسع النطاق ضد خصومهم على كافة الجبهات، فقد ضيّقوا الخناق الاقتصادي على قريش من جديد كما نفذوا العديد من السرايا لمعاقبة المشاركين في الأحزاب من جهة أو للثأر من
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري- 3/ 134- 144) .
(2) المرجع السابق 3/ 34، ووردت في رواية مسلم (الصحيح 5/ 163) الظهر بدلا من العصر وقد جمع العلماء بين الروايتين (ابن حجر- فتح الباري 7/ 408- 409) .
(3) ابن هشام- السيرة 3/ 716- 717.
(4) المرجع السابق 3/ 717، ابن حجر- فتح 7/ 413.
(5) ابن سعد- الطبقات 3/ 74، ابن سيد الناس- عيون الأثر 3/ 68 دون إسناد.
(6) ابن حزم- جوامع السيرة ص/ 193، الطبري- تاريخ 2/ 583.
(7) وقد ندم أبو لبابة على ذلك وربط نفسه إلى إحدى سواري المسجد النبوي حتى قبلت توبته (أحمد- الفتح الرباني 21/ 81- 83) .
(8) البخاري- الصحيح (فتح الباري- 2/ 120، 3/ 24- 25) ، مسلم- الصحيح 5/ 160- 161.
(9) أحمد- المسند 3/ 350، وفصل ابن حجر (فتح 7/ 414) في اختلاف المرويات بشأن عددهم والتي تراوحت بين 400- 900 وقد نجا ثلاثة منهم اعتنقوا الإسلام، كما نجا بنو سعفه منهم بسبب التزامهم بالعهد في غزوة الخندق.
(10) ابن سعد- الطبقات 2/ 76- 7، ابن هشام- السيرة 3/ 724.
(11) البخاري- الصحيح 3/ 11، مسلم- الصحيح 5/ 159.
(12) سورة الأحزاب، الآية/ 27.(1/329)
القبائل التي كانت قد غدرت بالدعاة أو ناصبت الإسلام العداء وقد تمثّل النشاط العسكري الإسلامي خلال هذه الفترة في ما يلي:
سريّة ابن عتيك لقتل ابن أبي الحقيق:
وكان سلام بن أبي الحقيق ممن ألّب الأحزاب ضد المسلمين، وكان يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويعين عليه «1» .
وقد رغبت الخزرج في قتله مساواة للأوس في قتلهم لابن الأشرف، وحين استأذنوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم في ذلك أذن لهم ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة «2» . وخرج إليه خمسة من الخزرج أمّر الرسول صلّى الله عليه وسلّم عليهم عبد الله بن عتيك الذي تمكّن بمفرده من دخول الحصن، ومن قتله دون أن يؤذي أحدا من ولده أو نسائه، وحينما عادوا ورآهم النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أفلحت الوجوه» «3» . وقد خرجت هذه السريّة في أعقاب غزوة بني قريظة «4» .
سريّة محمد بن مسلمة إلى بني القرطاء:
أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم سريّة من ثلاثين من أصحابه عليهم محمد بن مسلمة لشن الغارة على بني القرطاء من قبيلة بكر بن كلاب، وذلك في العاشر من محرم سنة 6 هـ «5» ، وقد داهموهم على حين غرّة فقتلوا منهم عشرة، وفر الباقون وغنم المسلمون إبلهم وماشيتهم «6» . وفي طريق عودتهم أسروا ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة وهم لا يعرفونه فقدموا به المدينة، وربطوه بسارية من سواري المسجد. وقد اطّلع عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وكلمه، ثم أمر بإطلاق سراحه في اليوم التالي. وقد تأثر بالجو العام السائد بين المسلمين وأخلاقهم الفاضلة، ومعاملتهم الكريمة، لذلك فإنه بادر إلى إعلان إسلامه، وذكر للرسول صلّى الله عليه وسلّم: «أن وجهه أصبح أحب الوجوه إليه، وأن دينه أصبح أحب الدين كله إليه، وأن بلده أصبحت أحب البلاد كلها إليه» ، واستأذن في أداء العمرة، فأذن له الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد أن بشّره.
وفي مكة عيّره أحد معارفه من قريش بأنه صبأ، فكان جوابه: «لا ولكني أسلمت، وأقسم ألا يأتيهم من اليمامة حبة واحدة حتى يأذن فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» «7» . وورد في الصحيحين «8» أنه قد أبر بقسمه مما دفع وجوه مكة إلى أن يكتبوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة ليخلي لهم حمل الطعام «9» .
__________
(1) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 4039) .
(2) ابن هشام- السيرة، من رواية ابن إسحاق بإسناد مرسل موقوف على عبد الله بن كعب (3/ 380) .
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 4039) .
(4) الواقدي- المغازي 1/ 391- 395، ابن سعد- الطبقات 2/ 92، البيهقي- السنن 9/ 80، الصنعاني- المصنّف 5/ 41.
(5) الواقدي- المغازي 2/ 534، ابن كثير- البداية 4/ 168، الذهبي- تاريخ الإسلام (المغازي) ص 351.
(6) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 4372) ، مسلم- الصحيح 3/ 1386 (حديث 1764) ، أحمد- الفتح الرباني 21/ 88- 90، أبو داود- السنن (كتاب الجهاد 3/ 129) ، ابن شبّة- تاريخ المدينة 2/ 433- 9 بإسناد البخاري ولفظه.
(7) انظر المصادر في الهامش السابق.
(8) البخاري- الصحيح (فتح الباري- الأحاديث 5393- 5398) ، مسلم- الصحيح 3/ 1386 (حديث 1764) .
(9) وزاد ابن هشام على سيرة ابن إسحاق قوله: فأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك (2/ 381) معلّقا.(1/330)
غزوة بني لحيان:
خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم في مائتين من الصحابة في ربيع الأول سنة 6 هـ لينتقم لأصحاب الرجيع من بني لحيان، ولم يعلن وجهته، واتبع أسلوب التعمية، وقد سمعت به بنو لحيان فهربوا إلى رءوس الجبال فلم يقدر على أحد منهم «1» . فتقدم إلى عسفان القريبة من مكة، وبعث بعض فرسانه إلى «كراع الغميم» لتسمع به قريش، ويداخلهم الرعب، ويريهم من نفسه والمسلمين قوة «2» .
وفي عسفان واجههم جمع من المشركين، وحين صلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه الظهر، تلاوم المشركون لعدم هجومهم على المسلمين وهم يؤدون الصلاة، ثم انتظروا الصلاة التالية، فنزل جبريل- عليه السلام- بآية صلاة الخوف على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فصلّى العصر بأصحابه وفق أحكامها، وكانت أول صلاة خوف صلّاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «3» .
سريّة عكاشة إلى الغمر:
وفي ربيع الأول سنة 6 هـ انتدب النبي صلّى الله عليه وسلّم عكاشة بن محصن في أربعين رجلا من أصحابه إلى بني أسد في ماء الغمر، ورغم أنهم أسرعوا، فقد نذر بهم بنو أسد فهربوا، ونزلت السريّة على مياههم وأصابت الطلائع من دلّهم على بعض ماشيتهم، ووجدوا مائتي بعير فغنموها وساقوها إلى المدينة «4» .
سريّة محمد بن مسلمة إلى ذي القصّة «5» :
وفي ربيع الآخر سنة 6 هـ بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم الصحابي محمد بن مسلمة في عشرة من الصحابة إلى بني ثعلبة وعوال، فكمن لهم القوم حتى ناموا، فقتلوهم كلهم وسقط محمد بن مسلمة بين أصحابه جريحا فظنوه ميّتا. وقد هيأ الله له بعد ذلك أحد المسلمين الذي أنقذه وأطعمه وسقاه وحمله إلى المدينة، فبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا عبيدة عامر بن الجراح في أربعين رجلا إلى مصارع القوم فلم يجدوا أحدا، ووجدوا نعما وشاء فساقوها غنيمة ورجعوا إلى المدينة «6» .
سريّة زيد بن حارثة إلى بني سليم بالجموم:
وفي ربيع الآخر سنة 6 هـ بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم سريّة عليها زيد بن حارثة، فورد الجموم، فأصابوا من دلّهم على محلة لبني سليم أصابوا بها نعما وشاء وأسرى عادوا بهم إلى المدينة «7» .
__________
(1) الواقدي- مغازي 2/ 535، ابن سعد- الطبقات 2/ 79.
(2) الواقدي- مغازي 2/ 535- 537، ابن سعد- الطبقات 2/ 78- 80.
(3) ابن كثير- البداية والنهاية 4/ 94، وقد فصل آخرون في بيان الوقت الذي فرضت فيه صلاة الخوف وكيفيتها، انظر: الطبري- تفسير 9/ 127- 162، وهناك من رجح أنها قد فرضت في غزوة الحديبية، انظر ذلك في غزوة الحديبية أدناه.
(4) ابن سعد- الطبقات 2/ 85 بدون إسناد، وانظر: خليفة بن خياط- تاريخ ص/ 85.
(5) موضع على الطريق من المدينة إلى الشام، لا يبعد كثيرا عن المدينة وهو منزل ثعلبة وعوال.
(6) الواقدي- مغازي 3/ 551، ابن سعد- الطبقات 2/ 85.
(7) ابن سعد- الطبقات 2/ 86 بدون إسناد.(1/331)
سريّة زيد بن حارثة إلى العيص:
وفي جمادى الأولى سنة 6 هـ بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم زيدا في مائة وسبعين راكبا من الصحابة ليتعرضوا لقافلة تجارية قرشية قادمة من بلاد الشام، فتمكنوا من احتوائها وما فيها، وغنموا فيها فضة كثيرة كانت لصفوان بن أميّة، وأسروا عددا ممن كان مع القافلة، منهم أبو العاص بن الربيع الذي استجار بزوجته زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأجارته، وقبل الرسول صلّى الله عليه وسلّم إجارتها ورد عليه ما أخذ منه «1» . وعاد أبو العاص إلى مكة حيث رد ما كان معه من أموال القوم وأماناتهم، ثم أعلن إسلامه في مكة، وهاجر إلى المدينة فرد عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم زوجته زينب على نكاحها الأول «2» .
سريّة زيد بن حارثة إلى الطّرف «3» :
وفي جمادى الآخرة سنة 6 هـ بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم زيدا في خمسة عشر رجلا إلى بني ثعلبة بالطرف، فهرب القوم وكان بلغهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد سار إليهم، وأصابت السريّة نعما وشاء غنيمة، وعادوا إلى المدينة سالمين «4» .
سريّة عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل:
وفي شعبان سنة 6 هـ بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم الصحابي عبد الرحمن بن عوف على رأس سريّة إلى قبيلة كلب بدومة الجندل، وأمره أن يقاتل من كفر بالله، وبألّا يغل ولا يغدر ولا يقتل وليدا. ويذكر ابن سعد أنه قد جاءهم فمكث فيهم ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم رئيسهم الأصبغ بن عمرو الكلبي- وكان نصرانيّا- وأسلم معه خلق كثير من قومه، وأقام من أقام على إعطاء الجزية، وتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ وقدم بها المدينة «5» .
سريّة علي بن أبي طالب إلى فدك:
بعثها النبي صلّى الله عليه وسلّم في شعبان سنة 6 هـ وهي تتألف من مائة رجل، جعل عليهم علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-. وقد وجهها النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بني عبد الله بن سعد بن بكر عندما بلغه أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا به يهود خيبر. وكانت السريّة تكمن في النهار وتسير في الليل، وأصاب علي في طريقه عينا أقر له أنه أرسل إلى خيبر ليعرض عليهم نصرهم مقابل تمر خيبر لعام، وقد أمنه علي فدلّهم على مكان اجتماعهم، فأغار المسلمون عليهم فغنموا منهم ألفي شاة وخمسمائة بعير، وهرب بنو عبد الله بن سعد بما معهم من ظعن «6» .
وإلى جانب هذه السرايا تذكر المصادر الخاصة بالمغازي والسير معلومات متضاربة عن «سرية زيد بن
__________
(1) ابن سعد- الطبقات 2/ 86 معلّقا.
(2) ابن هشام- السيرة 2/ 368، عن ابن إسحاق بإسناد متصل وفيه ابن الحصين.
(3) ماء قريب من المراض دون النخيل على مسافة قريبة من المدينة، انظر: ابن سعد- الطبقات 2/ 87، ياقوت- معجم 4/ 31.
(4) الواقدي- مغازي 2/ 555، ابن سعد- الطبقات 2/ 87.
(5) الواقدي- المغازي 2/ 560 بإسناد متصل، ابن سعد 2/ 89 معلّقا، كما أورده ابن إسحاق بإسناد منقطع على أنها سرية دومة الجندل، ابن هشام- السيرة 4/ 369.
(6) الواقدي- المغازي 2/ 562- 564، ابن سعد- الطبقات 2/ 89- 90.(1/332)
ثابت إلى بني فزارة» «1» ، وسريّة عبد الله بن رواحة إلى اليسير بن رزّام اليهودي «2» ، وسريّة عمرو بن أمية الضّمري لقتل أبي سفيان «3» . ولم يرد عن هذه السرايا مرويات في الصحيحين، والتناقض والتضارب كبير في مرويات كتب المغازي والسير بشأنها.
سريّة كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين:
قدم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم جماعة من قبيلتي عكل والعرينة في شوال سنة 6 هـ، وتكلموا بالإسلام، فقالوا يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة، فأمر لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بذود وراع.. فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرّة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا الراعي واستاقوا الذود، فبلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم الخبر فبعث الطلب تحت إمرة كرز بن جابر الفهري في آثارهم فقبضوا عليهم، فأمر بهم فسمروا ... وقطعت أيديهم وأرجلهم وتركوا في ناحية الحرّة حتى ماتوا «4» . وقال الجمهور نزل فيهم قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ «5» .
سريّة الخبط (سيف البحر) :
بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا عبيدة عامر بن الجرّاح في ثلاثمائة راكب نحو ساحل البحر الأحمر ليرصدوا عيرا لقريش، فنفدت أزوادهم، وأصابهم الجوع حتى أكلوا الخبط، ثم نحروا من إبلهم فنهاهم أبو عبيدة لحاجتهم إليها إذا لقوا عدوهم، وألقى إليهم البحر بحوت عظيم أكلوا منه نصف شهر وحملوا بعضا منه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأكل منه «6» . ولم يلق المسلمون كيدا، وعادوا إلى المدينة سالمين. وقد وردت مرويات أخرى في المغازي وكتب السير تفيد بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان أرسلهم إلى حي من أحياء قبيلة جهينة «7» . وقال ابن حجر بأن ذلك لا يغاير ظاهره ما في الصحيح لأنه
__________
(1) ابن سعد- الطبقات 2/ 89 معلّقا، وانظر: الواقدي- المغازي 2/ 564، الطبري- تاريخ 2/ 643 وأورد ذلك الإمام مسلم في الصحيح 3/ 1375- 76 (حديث 1755) ، الإمام أحمد (عنه ابن كثير في البداية 4/ 264) ، والبيهقي- دلائل النبوة 4/ 290، ورواية ثانية في الطبري- تاريخ 2/ 643- 644 رواية مغايرة يرد فيها أن أبا بكر الصديق- رضي الله عنه- كان أميرا لسرية إلى بني فزارة علما بأن رواية أهل المغازي مضطربة من ناحية المتن ومناقضة لأوامر النبي صلّى الله عليه وسلّم بشأن الأسرى.
(2) رواه ابن إسحاق وابن سعد معلّقا 2/ 92، والبيهقي- دلائل النبوة 4/ 293- 4، وأبو نعيم- الدلائل 2/ 516- 517، وابن كثير في البداية 4/ 274 ويلاحظ في المرويات تناقض كبير في اسم أمير السرية وفي اسم اليهودي المذكور.
(3) ابن سعد- الطبقات 2/ 93- 94 معلّقا، والبيهقي في السنن بإسناد فيه الواقدي والطبري- تاريخ 2/ 542 بإسناد فيه ابن إسحاق، وفيه مجهول لم يترجم له أحد، وهو جعفر بن الفضل.
(4) البخاري- الصحيح (الفتح- الأحاديث 4192، 5685، 5686، 6805) ، مسلم- الصحيح 3/ 1296- 8 (حديث 1671) ، كما أورد خبرها الجماعة وأهل المغازي والسير، وانظر الطبري- التفسير 10/ 244- 253.
(5) القرآن الكريم- سورة المائدة، الآية/ 33، وانظر: الطبري- تفسير 10/ 242- 44، الشامي- سبل الهدى والرشاد 6/ 181- 190.
(6) أورده الإمام البخاري في صحيحه من طرق متعددة (الأحاديث 4360- 4362) ، وكذلك فعل الإمام مسلم 3/ 1535- 1537 (حديث 1935) ، ابن القيم- زاد 2/ 158.
(7) الواقدي- مغازي 2/ 774.(1/333)
يمكن الجمع بين كونهم ذهبوا يتلقون عيرا لقريش ويقصدون حيّا لجهينة «1» ، ومما يقوي ذلك ما أورده الإمام مسلم في الصحيح أن البعث كان إلى أرض جهينة «2» .
غزوة الحديبية «3» :
وفي يوم الاثنين الأول من ذي القعدة سنة 6 هـ «4» ، خرج الرسول صلّى الله عليه وسلّم من المدينة متوجها بأصحابه إلى مكة لأداء العمرة «5» . وقد كشف بذلك عن حقيقة النظرة الإسلامية إلى البيت العتيق، والمشاعر الإسلامية نحوه وتعظيمهم لشعائر الله في حجه وعمرته. وكان ذلك في الوقت نفسه إظهارا لخطل دعاية قريش المعادية التي حاولت عبر فترة الصراع أن تبثها بين بطون القبائل والتي أرادت أن تظهر أنّ المسلمين لا يعترفون بمكانة البيت العتيق وحرمته. على أن هذا التوجه نحو أداء العمرة من قبل الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين، وخططهم في الوصول إلى مكة ودخولها لأداء النسك قد أحرج قريشا إلى درجة كبيرة وخصوصا أن ذلك يأتي في أعقاب فشل غزوة الأحزاب وانهيار التحالفات القرشية مع القبائل الأخرى ومع يهود. وهي تبرز بوضوح وجلاء قوة المسلمين واستعلائهم في نظر العرب، في نفس الوقت الذي تخطّل فيه جميع الدعايات القرشية المعادية للمسلمين وأوقعت قريشا في الحرج الشديد، فهي إما أن تسمح للمسلمين وعلى رأسهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعمرة، فيتحقق العرب من ضعفها وكذب دعاياتها، وإما أن تعارض ذلك، فتصد الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين عن دخول مكة وأداء العمرة، وبذلك ينكشف زيف ادعائها بالحرص على البيت العتيق وحرمته، ويتحدث العرب عن صد قريش لمن قصدوا تعظيمه وتكريمه والحج إليه، وكانت جميع هذه المعاني ماثلة أمام زعماء قريش حين واجهوا هذا الحدث الكبير.
أما النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد كان قد أعد للأمر عدته، وأدخل في اعتباره أن تقدم قريش على صده وأصحابه عن الوصول إلى مكة وأداء العمرة، بل حتى مقاتلته ومن معه، ولذلك عزم على الخروج بأكبر عدد ممكن من المسلمين، ولذلك فإنه استنفر المسلمين من أهل البادية، غير أنهم أبطئوا عليه وتعلل بعضهم بأعذار شتى كشفها القرآن الكريم: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً* بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ
__________
(1) ابن حجر- فتح الباري 8/ 97.
(2) مسلم- الصحيح/ 1537 (حديث 1935) .
(3) موضع فيه بئر يقع على مشارف مكة الشمالية الغربية وعلى مسافة تزيد على عشرين كيلا من المسجد الحرام. وجعلها ابن هشام: «أمر الحديبية» على اعتبار أن الأصل في ذلك الخروج للعمرة وليس للغزو، وقد سميت بالغزوة بها لأن قريشا منعت المسلمين من دخول مكة وهم في الحديبية (السيرة 3/ 427) .
(4) أجمع أهل العلم على تاريخها بلا خلاف. وقد رواه الزهري وموسى بن عاقبة وقتادة، كما في دلائل النبوة للبيهقي 3/ 91، وانظر: النووي- المجموع 7/ 78.
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 4179) .(1/334)
يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً «1» .
وهكذا فقد خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه من المهاجرين والأنصار وبلغ عددهم ألفا وأربعمائة رجل «2» ، حملوا معهم سلاحهم توقعا لشر قريش «3» . وكانوا مستعدين للقتال «4» .
صلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون بذي الحليفة، وأهلّوا معه محرمين بالعمرة «5» ، وساقوا الهدي معهم سبعين بدنة «6» ، وبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بالصحابي بسر بن سفيان الخزاعي عينا إلى مكة ليأتيه بأخبار قريش وردود فعلها «7» .
وأرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد وصوله الروحاء سريّة جعل عليها أبا قتادة الأنصاري- ولم يكن محرما بالعمرة- في جمع من الصحابة إلى ساحل البحر الأحمر بعد أن علم بوجود تجمع للمشركين في «غيقة» ، وخشية أن يباغتوا المسلمين، فلم يلقوا كيدا ويظهر أنهم أخذوا طريق الساحل لتأمينه، إذ لم يلتحقوا بركب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلّا في «السقيا» «8» .
وحين وصل المسلمون عسفان «9» جاءهم بسر بن سفيان الخزاعي بأخبار استعدادات قريش وتجميعها الجموع لصد المسلمين عن دخول مكة، وإرسالها طلائع من الفرسان إلى «كراع الغميم» «10» . وحين استشار الرسول صلّى الله عليه وسلّم أصحابه في الأمر «11» ، أشار عليه أبو بكر الصديق بالتوجه إلى مكة لأداء العمرة والطواف بالبيت وقال: «فمن صدنا عنه قاتلناه» «12» ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «امضوا على اسم الله» «13» . وقد صلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه في عسفان صلاة الخوف «14» ، ثم سلك بهم طريقا وعرة عبر ثنية المرار إلى الحديبية متجنبا الاصطدام بخيالة قريش
__________
(1) القرآن الكريم- سورة الفتح، الايات/ 11- 12، وذكر مجاهد بأن المراد بالآية أعراب المدينة: مزينة، وجهينة، الطبري- تفسير 26/ 77، بإسناد حسن إلى مجاهد، غير أنه مرسل.
(2) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 3576، 4151، 4154) ، مسلم- الصحيح، كتاب الإمارة ص 73، 75، يحيى بن معين- التاريخ 1/ 321، البيهقي- دلائل النبوة 2/ 214.
(3) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 4179) .
(4) وانفرد الواقدي بالقول بأنهم لم يكونوا يحملون السلاح، المغازي 2/ 573.
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 1694- 1965) وهذا يدل على أن ميقات ذي الحليفة كان قد جرى تحديده قبل غزوة الحديبية.
(6) أحمد- المسند 4/ 323، ابن هشام- السيرة 3/ 308.
(7) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 4179) ، أحمد- المسند 4/ 323، ابن هشام- السيرة 3/ 308.
(8) البخاري- الصحيح (فتح الباري- الأحاديث 1821- 1824) ، والسقيا موضع يبعد 180 كيلا من المدينة في الطريق إلى مكة.
(9) موضع على طريق المدينة- مكة، يبعد 80 كيلا عن مكة.
(10) واد بين عسفان ومكة قريب إلى عسفان، يبعد عنها 16 كيلا عن مكة، انظر: البلادي- معجم المعالم الجغرافية في السيرة، ص/ 264.
(11) البخاري- الصحيح (فتح الباري، الأحاديث 4178- 4179) ، أحمد- المسند 4/ 323.
(12) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 4179) .
(13) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث 4179) ، أبو داود- السنن 2/ 28 (حديث 1236) ، النسائي- السنن (حديث 1550- 1551) ، ابن كثير- التفسير 1/ 548.
(14) مسلم- الصحيح 4/ 2144 (حديث 2780) ، البيهقي- السنن الكبرى 3/ 257، ابن كثير- التفسير 1/ 548، وهذا على رأي من أخر غزوة ذات الرقاع إلى ما بعد فتح خيبر، وهو الصحيح، وخلافا لما ذكره ابن إسحاق وابن هشام والواقدي (السيرة 3/ 203، المغازي 1/ 396) .(1/335)
والقتال «1» . وقد عجل خالد بن الوليد- وكان يقود فرسان قريش- بالعودة إلى مكة حين علم بذلك، وخرجت قريش فعسكرت على طريق المسلمين «ببلدح» «2» حيث سبقوا المسلمين إلى الماء «3» .
وتقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمسلمين حتى إذا اقتربوا من الحديبية بركت ناقته فقالوا: «خلأت القصواء» فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«ما خلأت القصواء وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل» . ثم قال: «والّذي نفسي بيده، لا يسألونني خطّة يعظّمون فيها حرمات الله إلّا أعطيتهم إيّاها» «4» .
عدل الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن الطريق المتجه إلى مكة، وسار بأصحابه حتى نزل بأقصى الحديبية على بئر قليل الماء، فلما اشتكى المسلمون العطش، انتزع صلّى الله عليه وسلّم سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيها، فما زالت تجيش بالماء حتى صدروا عنه وكان ذلك من معجزاته صلّى الله عليه وسلّم «5» .
عمل الرسول صلّى الله عليه وسلّم على إبلاغ رسالة واضحة لزعماء قريش تضمنت أنه لم يأت لحربهم أو حرب غيرهم، وإنما جاء بقصد الاعتمار وتعظيم البيت العتيق وتكريمه وزيارته والطواف به «6» . وقد بيّن الرسول هذه الوجهة لعدد من الرجال المحايدين أحيانا، وبواسطة رسل أرسلهم لهذا الغرض كذلك. وحين وفد عليه بديل بن ورقاء الخزاعي وبيّن له أن قريشا تعتزم صدّ المسلمين عن دخول مكة، أوضح له النبي صلّى الله عليه وسلّم سبب قدومه وأصحابه، وأظهر التوجّع لما أصاب قريشا من عنادها وحربها، وقد نقل بديل الخزاعي ذلك لقريش فاتهموه وخاطبوه بما يكره، وقالوا: «إن كان إنما جاء لذلك فلا والله لا يدخلها عنوة أبدا، ولا تتحدث بذلك العرب» «7» . ثم أرسل خراش بن أميّة الخزاعي- وهو يقصد بيان موقفه أمام الناس جميعا- فعقروا جمله وأرادوا قتله فمنعته الأحابيش «8» . وأراد أن يرسل عمر بن الخطاب فبيّن عمر شديد عداوته لقريش وعلمها بذلك وبأن قومه من بني عدي يناصبونه العداء ولا يحمونه «9» ، فعدل النبي صلّى الله عليه وسلّم عنه إلى عثمان بن عفان الذي دخل مكة في جوار أبان بن سعيد بن العاص، وأبلغ قريشا رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم «10» ، وحين سمح زعماء قريش لعثمان بالطواف بالبيت العتيق فإنه أبى أن يسبق النبي صلّى الله عليه وسلّم بالطواف
__________
(1) مسلم- الصحيح- كتاب صفات المنافقين، ص/ 12.
(2) وهو أحد وديان مكة المكرمة، أعلاه عند وادي العشر وأوسطه منطقة الزاهر، ومصبّه في مر الظهران شمال الحديبية، انظر: البلادي- معجم المعالم الجغرافية ص/ 49.
(3) البيهقي- دلائل النبوة 2/ 219- 220، الواقدي- المغازي 2/ 582، ابن سعد- الطبقات 2/ 95.
(4) البخاري- الصحيح (فتح الباري 5/ 329- حديث 2731) .
(5) البخاري- الصحيح (فتح الباري 5/ 331- حديث 2732) ، وفي رواية صحيحة أخرى أنه صلّى الله عليه وسلّم دعا بماء فتمضمض ومج في البئر (البخاري- الصحيح، فتح الباري- حديث 2577) ويمكن الجمع بين الحديثين.
(6) البخاري- الصحيح (فتح الباري- الأحاديث 2731، 2732) .
(7) أحمد- المسند 4/ 324، وابن إسحاق بإسناد حسن، سيرة ابن هشام 3/ 308.
(8) أحمد- المسند 4/ 324، الفتح الرباني 21/ 101- 104، ابن سعد- الطبقات 2/ 96- 97.
(9) أحمد- المسند 4/ 324، ابن هشام- السيرة 3/ 308 بإسناد حسن.
(10) أحمد- المسند 4/ 324.(1/336)