وُلد في فيينا، وأمضى صباه في جاليشيا عند جده حيث اتصل بالحركة الحسيدية التي لعبت دوراً حاسماً في تطوره الديني (الصوفي) والفلسفي والسياسي. وانتقل إلى فيينا عام 1896 لمتابعة دراسته في جامعتها، وتزوج بولا ونكلر (وهي فتاة ألمانية غير يهودية من ميونيخ) . انضم بوبر إلى جماعة قديما الصهيونية في فيينا، ثم انضم إلى المنظمة الصهيونية عند تأسيسها عام 1898 وعمل رئيساً لتحرير جريدة دي فيلت الناطقة بلسان الحركة الصهوينة. وبعد فترة قصيرة من التعاون مع هرتزل، اختلف الاثنان بسبب اختلاف منطلقاتهما الفلسفية. واشترك في تأسيس ما يُسمَّى «العصبة الديموقراطية» مع وايزمان الذي عارض هرتزل خلال المؤتمر الصهيوني الخامس (1901) . ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، أسس بوبر اللجنة القومية اليهودية التي تعاونت مع قوات الاحتلال الألمانية في بولندا، وقامت بالدعاية بين يهود اليديشية لضمهم للجانب الألماني ولتجنيدهم لحسابه. وفي عام 1916، أسس مجلة اليهودي التي كانت تُعَدُّ من أهم المجلات الفكرية اليهودية، والتي شرح بوبر على صفحاتها فلسفة الحوار الحلولية الوجودية وموقفه الصهيوني. وقد اشترك بوبر مع الفيلسوف اليهودي فرانز روزنزفايج في ترجمة التوراة إلى الألمانية في العشرينيات (ولكنه لم يَفرُغ منها إلا عام 1964) وهي ترجمة ذات طابع وجودي. وقد نشر خلال هذه الفترة بضعة كتب عن الحسيدية.(15/120)
شغل بوبر منصب أستاذ فلسفة الدين اليهودي والأخلاق في جامعة فرانكفورت في الفترة 24 ـ 1933، وأسس معهد الدراسات اليهودية فيها. وقد صَدَر له عام 1923 أهم كتبه أنا وأنت الذي يحوي جوهر فلسفته الحوارية. وفي عام 1933، استولى النازيون على الحكم وصاغوا مفهوم الشعب العضوي (فولك) ، ذلك المفهوم الذي يشكل حجر الزاوية في الفكر النازي والصهيوني، وهو ما كان يعني تأسيس نظام تعليمي لليهود مستقل عن النظام التعليمي الألماني. وقد عُيِّن بوبر مديراً للمكتب المركزي لتعليم الكبار. أما هجرته إلى فلسطين، فقد كانت عام 1938 حيث جرت محاولة لتعيينه أستاذاً للدراسات الدينية. ولكن المؤسسة الأرثوذكسية عارضت ذلك بشدة لأن بوبر، حسب تعريفها، لا يؤمن باليهودية، ومن ثم تم تعيينه أستاذاً للدراسات الاجتماعية في الجامعة حيث شغل المنصب حتى عام 1951. صدر أول كتب بوبر بالعبرية، وهو العقيدة النبوية، عام 1942، وقد طرح بوبر في هذا الكتاب أن وجود الإرادة الإلهية حقيقي تماماً مثل وجود يسرائيل، وهو ما يعني المساواة بين الخالق (الإله) والمخلوق (الشعب) . كما صدر له كتاب موسى عام 1941. أما عام 1949، فقد شهد نشر كتابه طرق اليوتوبيا، وهو كتاب عن تطوُّر الاشتراكية الطوباوية. وتبع ذلك نشر كتابيه نوعان من الإيمان (1951) ، وخوف الإله (1953) ، ويقارن الكتاب الأول بين الإيمان اليهودي والإيمان المسيحي. أما الثاني، وهو آخر أعمال بوبر المهمة، فيذهب فيه إلى أن الإله لم يمت أو أنه احتجب وحسب!
أسَّس بوبر كلية لتعليم الكبار لإعداد المعلمين من بين المهاجرين، وهي جزء من محاولة المُستوطَن الصهيوني دمج المهاجرين الجدد، وخصوصاً من البلاد الإسلامية، في نسيج المستوطن الصهيوني. وكان بوبر أول رئيس لأكاديمية العلوم الطبيعية والإنسانية في إسرائيل.(15/121)
وقد أسس بوبر مع يهودا ماجنيس جماعة إيحود التي كانت تطالب بإقامة دولة صهيونية مزدوجة القومية. لكنه تعرَّض لانتقاد شديد في بعض الأوساط اليهودية لقبوله تسلم جائزة جوته من مدينة هامبورج ولاستئناف علاقته بالحياة الفكرية والثقافية الألمانية (مع العلم أن هذا الموقف لا يتناقض البتة مع منطلقاته الفكرية) . وقد منحه مجلس ناشري الكتب في ألمانيا جائزة السلام عام 1953 واستقبله رئيس جمهورية ألمانيا الاتحادية باعتباره واحداً من مفكري ألمانيا وفلاسفتها العائدين إلى وطنهم!
ومصادر الفكر الديني والفلسفي السياسي عند بوبر ألمانية (مسيحية علمانية) . فقد تأثر بالمتصوفين المسيحيين الألمان مايستر إيكهارت وجيكوب بيمه Jacob Boehme، كما تأثر برؤية وحدة الوجود التي طرحاها وبإيمانهما الكامل بأن الإنسان يمكنه أن يعود إلى التوازن من خلال الحدس والاستماع لصوت التجربة الداخلية والتوحد بالخالق. وقد تأثر كذلك بالفكر الرومانسي الألماني، وخصوصاً فكر فخته الذي أكد الحدس على حساب التأمل وميَّز بين الجماعة المترابطة بشكل عضوي (جماينشافت) والجماعة المترابطة بشكل آلي (جيسيلشافت) ، وأعلى من أهمية الشعب العضوي (فولك) . ويُعَدُّ نيتشه من أهم المفكرين الألمان الذين أثروا في بوبر، شأنه في هذا شأن معظم المفكرين اليهود والصهاينة في ذلك الوقت، فتعلَّم من نيتشه فكرة الإرادة المستقلة عن أي حدود وظروف، والإيمان بأهمية الفعل الغريزي المباشر مقابل التأمل والتدبير، والالتزام بالمتعيِّن والمحسوس على حساب المجرد، وتأكيد الحياة والغريزة في مواجهة القيم التقليدية والمثاليات المجردة التي تخنق الحياة والغريزة.(15/122)
وقد عمَّق جوستاف لانداور (1869 ـ 1919) تأثير فخته وفكرة الشعب العضوي والجماعة العضوية وربطهما بالفكر الاشتراكي أو الجماعية بل بالاتجاهات الصوفية الحلولية، وبهذا يكون لانداور قد ربط بين كل المكونات في النسق الفكري عند بوبر. وإلى جانب المصادر الألمانية، تأثَّر بوبر، شأنه شأن كثير من المفكرين الغربيين الوجوديين، بدوستويفسكي، وخصوصاً في إحساسه بغربة الإنسان في عالم خال من المعنى. كما تأثَّر بكيركجارد، الأب الروحي للوجودية الحديثة، الذي أكد أن العلاقة الحقة بين الإله والإنسان لابد أن تكون مباشرة ودون وسطاء، وطالب الإنسان بأن يصبح شخصاً واحداً كلياً فريداً.
ويُلاحَظ أن المصادر الفكرية (الدينية والفلسفية) عند بوبر معظمها غير يهودية. لقد ظل بوبر، طيلة حياته، يجد الدراسات التلمودية جافة وعقيمة. وقد اكتشف الحسيدية باعتبارها تجربة صوفية وتعبيراً عن الصوت الداخلي من خلال مصادره الألمانية المسيحية الصوفية. وفكر بوبر الديني والسياسي فكر حلولي متطرف تتلاقى فيه وحدة الوجود الروحية بوحدة الوجود المادية، فيصبح الإله والإنسان والطبيعة كلاًّ عضوياً واحداً. وتتجلى هذه الرؤية الحلولية في فلسفة الحوار التي تشكل أساس الفكرة الدينية في فكرة الشعب العضوي (فولك) التي تشمل أساس فكره السياسي والاجتماعي، ففكره السياسي هو نفسه فكره الديني، وفكره الديني هو نفسه فكره السياسي، وهذا أمر متوقع داخل منظومة فكرية لا تفرق بين الإله والإنسان، أو بين الإنسان والطبيعة، أو بين هذا العالم والعالم الآخر، أو بين التاريخ والوحي، أو بين القومية والدين.(15/123)
تَصدُر فلسفة الأنا والأنت الحوارية عن رؤية حلولية تتساوى فيها كل العناصر الإنسانية ثم الإلهية، فالإله هنا ليس له وجود حقيقي مستقل متجاوز للطبيعة والتاريخ وإنما هو قوة كامنة في الأشياء ودافعة لها (ومن هنا أهمية الحوار الشفوي، وتفضيله على النص المكتوب. فالحوار الشفوي، مثل الشريعة الشفوية في اليهودية، تفتح المجال على مصراعيه لعمليات التأويل الباطنية حيث يفرض المُفسِّر المعنى الذي يروق له. أما النص المكتوب فهو لا يعطي كلمة وحسب وإنما يعطي سياقاً وكلاًّ دلالياً يحدد المعنى) . والإنسان بدوره شريك للإله في عملية خلاص الكون. وحسب هذه الفلسفة، تأخذ العلاقة السوية بين الإنسان وأخيه الإنسان شكل حوار، وهو حوار حقيقي إن كانت أطراف الحوار متساوية بحيث يجد كل طرف نفسه في الآخر، وهذا الحوار حوار حقيقي إن كان بين الأنا والأنت أو بين ذاتين لهما أهمية واحدة. ولكن الحوار يصبح زائفاً حينما يصبح أحد طرفيه أقوى من الآخر، فيحوِّل محاوره إلى موضوع أو أداة أو مجرد شيء يستخدمه ويستغله ويحوسله لينفذ به أغراضه، وفي هذه الحالة يتحول الحوار إلى علاقة بين الأنا والأنت والهو (أو بين الذات والموضوع) ، وهي علاقة قد تثمر معرفة علمية موضوعية قد تكون مفيدة في حد ذاتها ولكنها ليست كافية ولا تغنينا بأية حال عن علاقة أنا/أنت الأساسية (ومع هذا يرى بوبر أن ثمة صلة جدلية بين العلاقتين أنا/أنت وأنا/هو) .(15/124)
وتتَّسم علاقتنا بالإله بالحلولية الحوارية نفسها، فالإله هو ما يسميه بوبر «الأنت الأزلي» ، وهو كيان لا يمكننا أن نصل إليه من خلال التأمل الميتافيزيقي المجرد (أنا/هو) ، وإنما من خلال علاقة حية تشبه علاقة أنا/أنت، ولذا فيجب أن أتحاور مع الإله بكل كياني ويجب أن أصغي إلى الإله، وأن أعرف ماذا يريد مني. وحيث إن كل حوار لابد أن يؤدي إلى فعل، فالإله سيكشف لي أمره في لحظة الفعل، وسيكشفه لي أنا وحدي. و «الأنت الأزلي» لا يوجد خارج الإنسان وإنما يوجد في كل «أنت إنساني» ، وهو مصدر تَعيُّنه. ولذا يكون لزاماً على الإنسان أن يدخل في حوار دائم مع الإله ليحتفظ بتَعيُّنه وهويته المتميزة عن طريق ما يوحى إليه به. والوحي عند بوبر ليس شيئاً حدث في الزمان الغابر والماضي السحيق، وإنما هو شيء متكرر يحدث دائماً و «الآن» و «هنا» . فيحل الإله في التاريخ حلولاً دائماً، وتصبح الأحداث التاريخية النسبية أحداثاً مقدَّسة.(15/125)
يستخدم بوبر في هذا الجزء من فلسفته خطاباً حلولياً عاماً ينطبق على الوضع الإنساني بأسره. ولكنه، حين يتجه إلى الموضوع اليهودي، يُضيِّق نطاق الحلولية تماماً. فبرغم المساواة الحلولية المبدئية التي انطلق منها، فإن القداسة لا تعبِّر عن نفسها في جميع الأحوال بدرجة واحدة. ولذا، فقد يتم الحوار بين الإله والفرد في حالة البشر العاديين، أما في حالة الشعب اليهودي فإن الحوار يتم بين الشعب ككل والإله من الجهة الأخرى. كما أن الحوار الخاص الدائر بين إسرائيل والإله يأخذ شكل العهد، فالإله (الأنت الأزلي) يطلب من الأمة اليهودية (الأنا الأزلي) أن تصبح أمة مقدَّسة؛ مملكة من الكهنة الإله هو ملكها الوحيد. والمجتمع الديني اليهودي، حسب تصوُّر بوبر، لا يمكنه العيش بدون قومية، ولكن القومية اليهودية ليست قومية عادية (على عكس القوميات الأخرى) ، ولذا فإنها لا تستطيع العيش بدون دين، فالدين والقومية في حالة اليهود متزاوجان ملتحمان (كما هو الحال دائماً في المنظومة الحلولية) . وإذا كان هناك (بالنسبة للأغيار) فارق بين التاريخ النسبي والوحي المطلق (بمعنى أن القداسة الإلهية تظل بمعزل عن تاريخ الأغيار) ، فإن الوضع مختلف تماماً في حالة التاريخ اليهودي إذ يحل الإله فيه، ومن ثم يصبح التداخل بين المطلق والنسبي والمقدَّس والمدنَّس والأزلي والزمني كاملاً. ومن خلال هذه الصيغة تمت صهينة الدين اليهودي وعلمنته، كما تمت صهينة وضع الجماعات اليهودية ليصبح بذلك شكلاً من أشكال التعبير عن القومية العضوية، أي أن الدين يصبح فولكلور الشعب العضوي (فولك) ، ويصبح اليهود لا مجرد أعضاء أقليات ينتمون إلى الأوطان التي يوجدون فيها وإنما يصبحون شعباً عضوياً مقدَّساً منفصلاً. وهنا يجب أن نتذكر أن بوبر كان يؤيد رأي فخته في أن التجربة القومية في العصر الحديث تنجز ما كانت تنجزه التجربة الدينية في الماضي، فهي تجعل العنصر الإلهي يسري في الحياة(15/126)
اليومية.
وعند هذه النقطة التي يتحول فيها الدين إلى فلكلور، والجماعات اليهودية إلى شعب مقدَّس، يمكننا أن نتناول الفكر السياسي القومي عند بوبر ورؤيته الصهيونية. ويُلاحَظ أن المراجع الصهيونية الغربية عموماً تحرص على إخفاء هذا الجانب من منظومته المعرفية لأسباب مفهومة، وإن أشارت لها فهي تعرض لها من خلال ديباجات صوفية لا تكشف عن التضمينات الوثنية والنازية والعنصرية الكامنة في فكره. وقد لاحظنا أن القداسة تحل في الشعب وتاريخه. ولكن، كما هو الحال مع المنظومات الحلولية، لابد أن تشمل القداسة الأرض أيضاً (أو الطبيعة) حتى يتحقق الثالوث ويحل الإله أو القداسة في الشعب اليهودي وفي أرضه اليهودية المقدَّسة بحيث يرتبط الإله بالشعب بالأرض ارتباطاً حلولياً عضوياً. ولكن فكرة الإله تَضمُر وتتراجع بحيث يتحول الإله إلى الرابطة العضوية المقدَّسة بين الشعب (الدم) والأرض (التربة) . عند هذه النقطة نكون قد وصلنا في واقع الأمر إلى وحدة الوجود المادية وعالم الحلولية بدون إله؛ عالم النازية ومعسكرات الإبادة والدولة الحديثة التي تدَّعي المطلقية لنفسها فتضم الأراضي وتقضي على الملايين. إن مفهوم بوبر لوضع اليهود واليهودية لا ينبع من أي فكر ديني وإنما من مفهوم الشعب العضوي (الوثني) . وقد بيَّن بوبر في محاضراته عن اليهودية التي ألقاها في الفترة 1909 ـ 1918، والتي تركت أعمق الأثر في الشباب اليهودي في وسط أوربا، أن ثمة عنصرين ماديين هما أهم مكونات القومية اليهودية، أولهما الدم (أي العرْق والخصائص البيولوجية المتوارثة) الذي صنفه باعتباره أعمق مستويات الوجود الإنساني، وثانيهما البنية أو الطبيعة أو التربة، وهو أهم عنصر في تشكيل الذات القومية، وهما معاً يشكلان الوعي القومي اليهودي (ومن ثم الحس الديني) أو الإحساس الغريزي المباشر لدى اليهود، والذي يتجاوز العناصر الاجتماعية والسياسية كافة، والذي لا علاقة له بأي إله متجاوز.(15/127)
ويجب أن نتذكر أن هذا الخطاب العرْقي النيتشوي كان الخطاب السائد في أوربا قبل الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً في ألمانيا التي نشأ فيها بوبر وتَشَّرب ثقافتها، فهو ابن عصره وبلده. وقد كانت الدراسات الألمانية التي تَصدُر عن مفهوم الشعب العضوي تؤكد عدم تَجذُّر اليهود في وطن قومي، وأنهم بدو رُحَّل في صحراء جرداء، ومن ثم فهم شعب مجدب على عكس الألمان المتجذرين في أرضهم ومن ثم يتمتعون بالصحة النفسية والجسمانية وتعبِّر شخصياتهم المبدعة عن الغابات الألمانية المورقة الخضراء التي يلفها الغموض.(15/128)
لم يرفض بوبر هذه المفاهيم الوثنية الحلولية الحيوية أو العضوية بل دافع عن الشعب العضوي اليهودي انطلاقاً منها. ولذا، فإنه يؤكد أن اليهود لم يكونوا دائماً بدواً رحلاً لا أرض لهم بل كانوا في المراحل الأولى من تاريخهم شعباً زراعياً ملتصقين بالطبيعة ومرتبطين بأرضهم لا يختلفون عن الشعب العضوي الألماني، ولذا فإن بوسعهم أن يصبحوا مرة أخرى في خصوبة وإبداع الشعب الألماني. ويعترف بوبر بأن التماسك الداخلي للروح اليهودية (أي الغريزة الطبيعية) قد ضعف بسبب البعد عن الأرض، وهم يعيشون تحت سماء ليست سماءهم وعلى أرض ليست أرضهم. بل إن بوبر يجعل مسألة الارتباط بالتربة النموذج التفسيري الأكبر في نسقه الفكري وفي قراءته لتاريخ اليهودية. وعلى هذا، فإن اليهود بسبب بعدهم عن أرضهم أجدبوا دينياً، وبدلاً من الوحدة الصوفية العضوية (أي الحلولية) ، وبدلاً من التجذر في الأرض، ضربوا بجذورهم في الشريعة والشعائر والعقائد، ومن ثم تجمدت عقيدتهم الدينية أي أن البُعد عن الأرض (لا الشريعة) هو السبب في أزمة اليهودي، والتمسك بالشريعة هو تعبير عن هذه الأزمة. ولكن، رغم هذا، ظلت شخصية اليهود كما هي شخصية شرقية آسيوية برانية تفضل الفعل والحركة على التوجه إلى داخل الذات والتأمل والانشغال بالإدراك. بل إن النزعة المشيحانية إن هي إلا تعبير عن هذه العبقرية الآسيوية وعن النزوع نحو الحركة. وشغف اليهود بالموسيقى إن هو إلا تعبير عن الخصائص البيولوجية نفسها، فالعنصر الأساسي في الموسيقى هو الزمن، والزمن يفترض الحركة (على عكس المكان الذي يفترض الثبات وعدم التحول) .(15/129)
ولنُلاحظ أن بوبر حوَّل اليهودية من نسق عقيدي ومجموعة من القيم إلى مجموعة من الخصائص البيولوجية، فاليهود لا يؤمنون بعقيدة وإنما هم جماعة يرتبطون برباط الدم. والواقع أن هذا التعريف لا يختلف من قريب أو بعيد عن التعريفات العرْقية المعادية لليهود والتي تفترض ثبات شخصيتهم رغم تَغيُّر الزمان والمكان (كما أنه لا يختلف في بعض جوانبه عن تعريف الشريعة لليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية) . وسنلاحظ كذلك أن فكر بوبر إن هو إلا تطبيق لفكره الغربي العرْقي على يهود اليديشية. فالشرق إن هو إلا شرق أوربا (وآسيا هي بولندا) ، ومن المعروف أن التعبير الفني الأساسي عند يهود اليديشية كان الغناء والرقص.
ماذا سيفعل هذا الشعب الآسيوي في أوربا؟ عند هذه النقطة نجد أن ملامح الحل الصهيوني النازي العضوي الحلولي قد اكتملت، إذ يكتشف بوبر أن ثمة علاقة وثيقة بين الشعبين العضويين الألماني واليهودي. فالألمان هم الشعب العضوي الذي سيقود العالم ويسد الفجوة بين الشرق والغرب لأنه أقرب الشعوب الغربية إلى الشرق (ولا يبيِّن بوبر قط الأسباب التي قادته إلى استخلاص هذه النتيجة) . إن الألمان عندهم مهارات الغرب ولكنهم لم ينسوا قط حكمة الشرق. كما أن الألمان أكثر الشعوب تأثيراً في اليهود (وبوبر نفسه شاهد على ذلك، كما أن اللغة اليديشية لغة معظم يهود العالم آنذاك شاهد قوي آخر) . بل يذهب بوبر إلى أن الألمان أكثر الشعوب تأثراً باليهودية من خلال العهد القديم (الذي ترجمه لوثر ترجمة ممتازة وحوَّله إلى أهم عمل كلاسيكي في اللغة الألمانية) ومن خلال مجموعة من العبقريات اليهودية مثل إسبينوزا ولاسال وماركس.(15/130)
وبعد تأكيد هذه العلاقة بين الألمان اليهود، يتحول بوبر نحو اليهود ليكتشف الحسيدية باعتبارها أهم تجسيد للشخصية اليهودية الآسيوية أو الجماعة العضوية المترابطة (جماينشافت) التي تنظم حياتها ووجودها حول أسطورة مقدَّسة لا يشاركها فيها أحد. ومن ثم، فإن الحسيدية، حسب تصوُّر بوبر، استمرار لتقاليد الثورة في اليهودية: تقاليد الأسينيين والأنبياء التي ترفض الالتزام بالقانون والشريعة وتُعلي من شأن الفعل المباشر والغريزي. والحسيدية حركة متصوفة لا تبتعد عن الدنيا، وإنما تقترب منها، ولذا فهي تصوُّف يترجم نفسه إلى فعل، أي أنها ترجمة لتلاقي وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية. وقد تَغنَّى بوبر بالقائد المحرر والقائد الفنان الذي سيعلم الفولك، ووجد ضالته في التساديك الحسيدي فهو قيادة كاريزمية يدين له أتباعه بالولاء بدون نقاش، تماماً مثلما كان النازيون يدينون للفوهرر، قيادتهم الكاريزمية (ولنُلاحظ أن الأنا والأنت التي كانت تستند إلى علاقة حب، أصبحت هنا تستند إلى علاقة القوة؛ العلاقة الوحيدة الممكنة في المنظومة النيتشوية) .(15/131)
عند هذه الصورة يمكن القول بأن ملامح المجتمع الصهيوني قد اكتملت: جماعة عضوية تجسد القداسة تعيش بطريقة جماعية، ولكن جماعيتها لا تنبع من الفكر الاشتراكي السياسي وإنما من التماسك العضوي الحلولي. ويذهب بوبر إلى ضرورة عودة اليهود إلى صهيون ليؤسسوا مجتمعاً مثالياً مقدَّساً تتداخل فيه القومية والدين، والدين والقومية، والأزلية والزمن، والزمن والأزلية. وتمازُج الديني والقومي والمطلق والنسبي هو أساس نقده لكل من هرتزل والحسيدية، فهرتزل كان ينوي تأسيس مجتمع صهيوني سياسي لحل المسألة اليهودية في وجهيها السياسي والاقتصادي دون أن يتوجه إلى العناصر الأزلية في القومية اليهودية. أما الحسيدية، فرغم رؤيتها الحلولية التي تؤكد قداسة اليهود إلا أن العنصر القومي لم يكن واضحاً في الفكر الحسيدي، بل كانت علاقة الحسيديين بفلسطين علاقة عارضة، ولم تعبِّر عن نفسها في شكل رغبة في التحرر القومي، كما لم تترجم نفسها إلى تَطلُّع إلى أن يقرر الشعب اليهودي إرادته ومصيره في أرضه داخل جماعة مقدَّسة وقومية. وقد كان الحسيديون من دعاة (الروحية) ، وكان هرتزل من دعاة (المادية) ، على حين أن الوحدة المثلى من منظور إسبينوزا هي وحدة وجود واحدة (روحية مادية) تتجسد في المجتمع الصهيوني العضوي.(15/132)
ويرى بوبر أن هذا المجتمع لو تحقق، فسيصبح اليهود مرة أخرى أمة مقدَّسة تلعب دوراً أساسياً في الحضارة العالمية بسبب تاريخهم الفريد وشخصيتهم الفذة، إذ سيلتحم الوحي المقدَّس بالتاريخ مرة أخرى. والواقع أن أمة الكهنة والقديسين (العضوية الحلولية) التي تعمل على هدي الرؤى المشيحانية تزداد أهمية في القرن العشرين لأن الحضارة اليهودية حضارة غربية/شرقية. ولهذا، فبإمكانها أن تكون بمنزلة الجسر بين الحضارات والشعوب كافة. وفي كل هذا، يعود بوبر للرؤية اليهودية الحلولية القديمة الخاصة بمركزية اليهود في العالم والتاريخ (وهي مركزية عرْقية أضفتها الشعوب والديانات القديمة كافة على نفسها) .
ودعنا نُلاحظ هنا أن فكرة الشعب العضوي فكرة حوارية في جوهرها، إذ أن الأنا اليهودي يتجاوز الأنت الإلهي، أو يمتزجان معاً. وبدلاً من أن يطيع الإنسان الإله ويمتثل لإرادته، يمتزج الإنسان بالإله بحيث يُطوِّع أحدهما الآخر وتصبح أفعال الشعب اليهودي تعبيراً عن وحي دائم، ويصبح صوت الشعب الصوت الداخلي الذي هو صوت الإله.
لكن هذه الحوارية الدائرية العضوية الحلولية هي في جوهرها منطق استبعادي، فهي تعطي حقوقاً مطلقة لمن يوجد داخل دائرة القداسة وتهدر حقوق من يقع خارجها. وهي تستبعد، على سبيل المثال، الجماعات اليهودية خارج فلسطين حيث وصفهم بوبر، على طريقة بنسكر والنازيين، بأنهم مجموعة من الأشباح المشئومة الذين لا وطن لهم، ولذا فلا مكان لهم داخل المجتمع العضوي الجديد (وهذا يعني أنهم، باعتبارهم أشباحاً، محكوم عليهم بالموت، الأمر الذي تكفلت به النازية فيما بعد) . أما المجموعة الثانية التي تستبعدها القومية العضوية فهي العرب.(15/133)
وهنا نجد أن الموقف متناقض أكثر من كونه مركباً. وعلى سبيل المثال، فإن بوبر يرى، كما أسلفنا، أن التجربة الدينية الحقة تأخذ شكل حوار بين طرفين متعادلين، وهو تَعادُل ممكن بسبب حلول الخالق في المخلوق، واختلاط الوحي بالتاريخ، وهو ما يعني خَلْع القداسة على أفعال اليهود التاريخية، وخصوصاً أن تجربتهم الدينية جماعية (بينما نجد أن المسئولية الأخلاقية هي، في نهاية الأمر، مسئولية فردية) . وإذا أضفنا إلى هذا تلك الأفكار النيتشوية الخاصة بإعلاء الإرادة، والرابطة المطلقة بين الدم اليهودي والتربة الفلسطينية، فإن مصير العرب قد أصبح واضحاً وهو الطرد أو الإبادة. وهذا هو منطق الرؤية الحلولية. ولكن ثمة تياراً آخر في فلسفة بوبر، هو ما يمكن تسميته بالتيار الأخلاقي، لا ينبع من المنظومة الفكرية نفسها وإنما يضاف إليها بشكل آلي براني. ويحاول بوبر أن يربط عضوياً بين هذا التيار الأخلاقي ومنظومته الفكرية فينتقد المحاولات الصهيونية الرامية إلى تحويل اليهود إلى أمة مثل الأمم كافة تهدف إلى البقاء وحسب وتتسم بالأنانية والاعتداد الأجوف بالذات، مقابل ما يسميه «الإنسانية العبرية» : وهي التمسك بالقيم الأخلاقية اليهودية والإيمان بوحدة واحدة تفصل الصواب عن الخطأ والحقيقة عن الكذب فصلاً حاسماً، أي بضرورة الحكم على الحياة والسلوك السياسي من منظور أخلاقي.(15/134)
والواقع أن هذين التيارين المتناقضين (اللذين يسودان أيضاً في كتابات آحاد هعام) هما سر تَخبُّط بوبر في موقفه من العرب، فهو يكتب إلى غاندي مدافعاً عن الاستيلاء الصهيوني على الأرض الفلسطينية مستخدماً أسلوبه الحلولي الصوفي، إذ يبيِّن لغاندي أن حق العرب في الأرض ليس مطلقاً، فالأرض هي للإله يعيرها للفاتح الذي أقام عليها، ولكن الإله بانتظار ما سيفعل بها، فإن لم يفلحها هذا الفاتح فإن هذا ولا شك سيفتح المجال أمام المستوطنين الصهاينة في القرن العشرين. ولكل هذا نادى بوبر بالدولة اليهودية. ولكنه بعد عام 1948، بعد طَرْد العرب وتشريدهم، صرح بأنه لا يوجد أي شيء مشترك بينه وبين هؤلاء اليهود الذين يدافعون عما سماه «القومية اليهودية الأنانية» ، كما لم يتوقف عن الدفاع عن حقوق العرب والمطالبة بإنشاء دولة مزدوجة القومية تسمح للعرب والإسرائيليين بتحقيق ذاتيهما القوميتين. ولعل التناقض العميق في موقف بوبر يتضح بكل جلاء في أنه كان يدافع طول حياته عن حقوق العرب ويعيش في الوقت نفسه في بيت عربي جميل في القدس رفض أن يعيده لأصحابه.
ولم تترك أفكار بوبر تأثيراً عميقاً في يهود شرق أوربا، كما لم تساهم في تحديد السياسات الصهيونية في الخارج أو في فلسطين قبل أو بعد إعلان الدولة. وقد تركت كتاباته أثراً عميقاً في اللاهوت المسيحي البروتستانتي.
فرانز روزنزفايج (1886-1929 (
Franz Rosenzweig
فيلسوف ألماني يهودي وُلد لأسرة يهودية مندمجة مُعلمَنة ولم يتلق أي تعليم ديني. كان على وشك أن يتنصر عام 1913، ولكنه غيَّر رأيه في آخر لحظة، ووجد أن بإمكانه التعبير عن تطلعاته الدينية من خلال اليهودية، فبقي في برلين حيث نشأت علاقة حميمة بينه وبين هرمان كوهين.(15/135)
قضى روزنزفايج معظم سنوات الحرب الأولى في الجيش الألماني حيث بدأ أهم أعماله التي تتناول الفكر الديني، وهو كتاب نجمة الخلاص الذي نُشر عام 1921. وقد ازداد اهتمام روزنزفايج بالتعليم اليهودي، فأسس مدرسة في فرانكفورت تهدف إلى تعليم اليهود المندمجين الهامشيين الباحثين عن جذورهم الدينية. وقد جذبت المدرسة مجموعة من الشبان الذين أصبحوا من كبار المفكرين اليهود فيما بعد، مثل: جيرشوم شوليم، وليو ستراوس، وإريك فروم. وقد أصيب روزنزفايج بشلل في أواخر حياته، ولكنه استمر مع هذا في التأليف، فكتب مجموعة من المقالات المهمة وترجم قصائد يهودا اللاوي وعلَّق عليها، وبدأ مع مارتن بوبر في إعداد ترجمة جديدة للكتاب المقدَّس بالألمانية.(15/136)
وإذا كان هرمان كوهين يشبه موسى بن ميمون، فإن روزنزفايج يشبه يهودا اللاوي. فكتابه نجمة الخلاص ليس مجرد كتاب في الفلسفة، وإنما هو رحلة روحية من الفلسفة إلى اللاهوت. ويتوجه روزنزفايج بالنقد إلى الفلسفة لمحاولتها رد العالم إلى جوهر واحد مثل الوعي على وجه العموم، فهذا يتنافى مع التجربة المتعينة للإنسان، وكل ما تستطيع الفلسفة أن تنجزه هو إدراك ثلاثة جواهر مستقلة منفصلة: العالم والإنسان والخالق، لكلٍّ طبيعته الخاصة. وكل جوهر عقلاني يشكل جزءاً ومعطى لا يمكن رده إلى شيء خارجه. هذه الجواهر هي «ما قبل العالم» ، ولابد أن تنشأ علاقة فيما بينها استناداً إلى مفاهيم تُستجلَب من خارج عالم التأمل العقلاني. وهذا ما يقوم به اللاهوت الذي يكمل الفلسفة، فهو الذي يُوجد الصلة بين أجزاء العالم والإنسان والخالق المختلفة من خلال الوقائع المعجزة العجائبية الثلاث: الخلق، والوحي، والخلاص. ويرى روزنزفايج أن العلاقة بين الخالق والعالم (الخلق) ، وبين الخالق والإنسان (الوحي) ، وبين الإنسان والعالم (الخلاص) هي إمكانات موجودة دائماً. وأهم أبعاد الوجود أو عناصره هو الوحي، فمن خلاله يخاطب الخالق الإنسان في لحظات الحب، فيهدم الحواجز التي تسبب عزلة الإنسان ووحدته. وكل ما يعطيه الخالق للإنسان هو الحضور، ولكن تجربة الحب الإلهي تأخذ شكل أمر بأن يحبه الإنسان في المقابل. والعنصر الثاني (الخلق) يعني اعتماد كل الكائنات في هذا العالم على القوة الحية للخالق. أما العنصر الثالث (الخلاص) فيعني أن يتوجه من يشعر بالوحي نحو الآخر، ومن خلال الخلاص تتبدد العزلة التي تفرق بين البشر، فمن حب الخالق للإنسان يظهر حب الإنسان لأخيه الإنسان لأن الإنسان من خَلْق الإله. ومسار التاريخ تعبير عن أن الخلاص يتخلل العالم من خلال أفعال الحب حتى تشيع الروح في الدنيا ويتم توحيد العالم والإنسان والخالق.(15/137)
ويُلاحَظ أن روزنزفايج يقترب هنا من القبَّالاه اللوريانية بحلوليتها التي من خلالها تصبح عملية الخلاص عملية كونية تشمل العالم والإنسان، وهي هنا تأخذ شكل نجمة داود (نجمة الخلاص (.
وقد قيل عن رؤية روزنزفايج إنها رؤية وجودية، لأنها تؤكد أهمية التجربة المتعينة التي لا يمكن أن تُرد إلى أي شيء خارجها وترى أن الفلسفة لابد أن تبدأ في تجربة بشرية فردية محدَّدة؛ في الوجود لا الماهية. ويؤكد روزنزفايج أيضاً أن التجربة متجذِّرة في موقف المفكر الفردي المتعيِّن، وأن ما يُهم الإنسان ليس الأفكار الفلسفية المجردة وإنما القناعات التي لا يمكن البرهنة عليها إلا من خلال الحياة الحقيقية. وقد انعكس هذا الموقف الوجودي على رؤيته للشعائر اليهودية، فإذا كان أساس الوحي هو حب الإله للإنسان فإن مضمونه هو الوصايا، ولابد أن يبادل الإنسان الإله المحبة بأن يعمل بوصاياه. والوصايا ليست قوانين، لأن القوانين (الشريعة) أساسها القسر، فهي ليست مجرد مبادئ فلسفية، وقد عاشت الوصايا في ضمير الإنسان تجربة خاصة تَواصَل من خلالها الإنسان والخالق. ومن هنا، فقد أصر روزنزفايج على ضرورة أن يشعر الإنسان بالقانون داخله بحيث يتحول القانون إلى وصية.(15/138)
ووفقاً لروزنزفايج، فإن اليهودية والمسيحية) كلتيهما) جماعتان دينيتان لكل أصالتها، وهما تشكلان قناتين تصب من خلالهما الأزلية في مجرى الزمان. لكن اليهودية هي الحياة الأزلية والمسيحية هي الطريق الأزلي. وفي التقويم اليهودي الديني، وكذلك صلوات اليهود، يُحَتفى بإيقاع الخلق - الوحي - الخلاص، وهو ما يؤدي إلى وضع اليهود خارج التاريخ. فثمة قناة توصل بين اليهود والإله مباشرةً، ولذا فإن الوجود اليهودي يُبشر بخلاص الجميع (وهنا نشعر مرة أخرى بأثر القبَّالاه اللوريانية) . كما أن الأرض اليهودية المقدَّسة، واللغة اليهودية المقدَّسة، والتوراة المقدَّسة، منفصلة عن تتالي الزمان. وكذلك، فإن اليهودي يدخل الميثاق مع الرب بالمولد، ولذا فإن استمرار اليهودية لا يتوقف على تَهوُّد الأغيار، فمهمة اليهود أن «يكونوا يهوداً» لا أن يبشروا باليهودية. فكأن اليهودية خاصية أنطولوجية لصيقة بالجوهر اليهودي، وهذا أمر مستحيل إلا في إطار حلولي. أما المسيحية فتقف على طرف النقيض من ذلك، فهي دائماً «في الطريق» المؤدي من مجيء المسيح في المرة الأولى إلى مجيئه مرة ثانية. وهي ذات طبيعة مختلفة ودور تاريخي مختلف. فكل مسيحي ينتقل من حالة الطبيعة والوثنية إلى المسيحية من خلال الإيمان الديني والتعميد (لا المولد) ، ومن ثم فإن التبشير مسألة أساسية بالنسبة للمسيحية (وهي مسألة مستحيلة داخل الإطار الحلولي اليهودي) . وكما يُلاحظ روزنزفايج أيضاً، فإن المسيحي يحتاج إلى وسيط ليدخل في علاقة مع الإله أما اليهودي فلا يحتاج إلى مثل هذه الوساطة. وإذا أردنا تفسير هذه الفكرة باستخدام نموذج الحلولية، فيمكننا أن نقول إن الشعب اليهودي جزء من الإله بسبب الحلول الإلهي فيه، ولذا فهو شعب مقدَّس بطبيعته، لا يحتاج إلى وسيط. أما المسيحي فهو من البشر العاديين، خال من القداسة ويتطلع إليها، ولذا فهو يحتاج إلى كهنوت تتركز فيه القداسة ليكون بمنزلة الطريق بين(15/139)
الخالق والمخلوق.
ومما يجدر ذكره، أن روزنزفايج يختلف هنا عن كثير من المفكرين الدينيين اليهود مثل: هرمان كوهين، وليوبايك اللذين كانا يعقدان المقارنة بين الديانتين ليبيِّنا مدى التقارب بينهما. أما روزنزفايج، فيعنى بإبراز أوجه الخلافات العقائدية والوجودية بينهما. وتأكيد تفرُّد اليهودي في علاقته مع الخالق، ووجود اليهود خارج التاريخ، وهي أبعاد أساسية في بنية الفكر الحلولي والصهيوني. ومع هذا، رفض روزنزفايج الصهيونية لأنها تقوض دعائم الطبيعة الروحية غير السياسية للشعب اليهودي، أي أنها تقوض تفرُّده، كما أنها تجعل الخلاص مسألة سياسية لا قضية أخروية. وعلى عكس الصهاينة، يؤمن روزنزفايج بأن شتات اليهود أمر ضروري لتطور الشعب اليهودي في المستقبل. وقد وقف روزنزفايج موقف المعارض من كل من اليهودية الأرثوذكسية واليهودية الإصلاحية، فالأولى حَوَّلت العقيدة اليهودية إلى قشرة شعائرية خارجية خالية من المعنى، أما الثانية فأسقطت كثيراً من الجوانب الأساسية في العقيدة اليهودية حتى تقربها من المسيحية البروتستانتية، ومن ثم أفقدت اليهودية ما يميِّزها.
إيمانويل لفيناس (1905-1996 (
Emanuelle Levinas
فيلسوف فرنسي يهودي. وُلد في ليتوانيا ودرس الروسية والعبرية في ليتوانيا ثم درس في جامعة ستراسبورج التي كان يُعلِّم فيها كلٌّ من هوسرل ومارتن هايدجر. درَّس في دار المعلمين اليهودية الشرقية في باريس ثم في جامعات فرنسية أخرى. ومصادر فكر لفيناس عديدة، فقد تأثر بأعمال أفلاطون وكانط وبرجسون.(15/140)
وقد ترك الأدباء الروس مثل بوشكين وجوجول أثراً عميقاً فيه. ولكنه كان يرى أن أعمقهم أثراً فيه دوستويفسكي، وخصوصاً رؤيته للمسئولية نحو الآخر. ولكن المصدر الأساسي لفكره أعمال هوسرل الفلسفية، وقد كتب رسالته للدكتوراه عن نظريته في الحدس (صدرت في كتاب عام 1930) ، وكان من أوائل المفكرين الذين عرَّفوا القُراء الفرنسيين بهايدجر. ولا شك في أن دراسته للتلمود ولأعمال بوبر وروزنزفايج ساهمت في صياغة وجدانه.
ينتمي لفيناس إلى هذا الجيل من الفلاسفة الذين يمكن أن يُطلَق عليهم اسم «الفلاسفة غير الفلسفيين» . وهم مجموعة من الفلاسفة الذين يرفضون الميتافيزيقا بمعناها التقليدي ويثيرون الأسئلة التي يتصورون أن الفلسفة الغربية التقليدية استبعدتها. ويقف هؤلاء الفلاسفة ضد المشروع الفلسفي الغربي برمته «من طاليس لهيجل» ، وهو مشروع يهدف (حسب تصورهم) إلى معرفة كل شيء وإدخال كل الظواهر في حلقة المعرفة والسببية. وهذا المشروع يودي بالذات الإنسانية الفردية من خلال هيمنة الموضوع المادي المجرد (الأشياء والحقائق المادية والموضوعية) أو هيمنة الموضوع الروحي المجرد (حتمية التاريخ وعالم الماهيات والجواهر والروح المطلقة) . ويصل هذا المشروع إلى ذروته في المنظومة الهيجلية بشموليتها الصارمة، حيث يترادف الفكر مع الطبيعة مع التاريخ، وحيث لا يفلت شيء من نطاقها. كما ترجم هذا المشروع نفسه إلى مدارس فلسفية مختلفة، مثل الوضعية والبنيوية، تبدو كما لو كانت متناقضة ولكنها في واقع الأمر تتسم جميعاً بالنزوع نحو الكلية والشمول والرغبة في إدخال كل الظواهر داخل نطاق السببية. وقد هاجم لفيناس هذه الهيجلية في سياق هجومه على البنيوية التي وصفها بأنها «انتصار العقل النظري» ، ولذا فهي تتسم بعدم الاكتراث والحياد والهجوم على الذات الإنسانية.(15/141)
ويمكن القول بأن هذا هو الموضوع الأساسي في فلسفة لفيناس: كيف يمكن أن ندرك الجزء المتعيِّن (الموجود) وندرك الكل المجرد (الوجود) دون أن يُستوعَب الجزء في الكل ودون أن تذوب الموجودات المختلفة في الوجود. ويرى لفيناس أن هذه هي المشكلة الأساسية عند هايدجر، فقد أعطى أولوية للوجود على الموجودات، وهو ما يعني أن الوجود أكثر جوهرية من الموجودات، بل يعني أيضاً أن الموجود لا تتحدد علاقته بالآخر إلا من خلال فكرة الوجود المجردة اللاشخصية. ونَقْد لفيناس لهايدجر لا يختلف كثيراً عن قول الوجوديين بأن الوجود يسبق الماهية، فالوجود في الخطاب الوجودي هو الموجود المتعيِّن، والماهية هي الوجود المجرد.
وحتى نفهم فلسفة لفيناس، قد يكون من المفيد أن نعرض لتعريفه لمصطلحي «أنطولوجيا» و «ميتافيزيقا» . فالأنطولوجيا في تصوُّره هيجلية بطبيعتها، تَردُ الإنسان والموجودات المتعيِّنة والمتنوعة إلى الوجود المجرد أو إلى الكليات المتجاوزة للموجودات. ويضع لفيناس، مقابل هذا، الميتافيزيقا (حسب تعريفه) وهي ما لا يمكن التفكير فيه من خلال الأنطولوجيا. وهو تعريف سلبي غامض، ولكن لفيناس يوضحه حين يقول إن الميتافيزيقا هي التطلع نحو اللانهائي الذي لا يمكن أن يُرد إلى ما هو غيره والذي لا يذوب في أية كلية تاريخية كانت أم إلهية. والرغبة الميتافيزيقية الحقة والأصيلة هي رغبة في هذا الذي يفيض ولا يمكن أن يحيط به العقل، والذي يفلت من نطاق المنطق لأنه خارج نطاق الفكر. والفكر هنا يعني ما يلي: التوازن والتوازي بين الفكرة والشيء، وبين العقل والوجود ـ ما يمكن تمثيله وإلقاء الضوء عليه ـ ما يمكن معرفته.(15/142)
إن الميتافيزيقا في داخل هذا الإطار هي تَطلُّع نحو المطلق الحق، «ما ليس بوجود» (يسميه لفيناس «أذر ذان بيينج other than being» أو «أذروايز ذان بيينج otherwise than being» ) . وهو لهذا السبب لا يمكن استيعابه فيما هو غيره، أي أنه وحدة نهائية لا يمكن أن تُردُّ إلى وحدة أخرى سواء أكانت أعلى أم أدنى مرتبة منها. ويبيِّن لفيناس أن الميتافيزيقا (بالمعنى التقليدي) قد تقيم تمييزاً واضحاً بين الإنسان الفرد المتعيِّن (الموجود) والآخر (الفريد ـ المتعيِّن ـ الموجود أيضاً) ، ولكن التمييز مرحلي ومؤقت لأن الأنا والآخر في الإطار التقليدي ينحلان في نهاية الأمر في كيان واحد، ومن ثم فإن التحدد أو التعين الخارجي (بالإنجليزية: إكستيريوريتي exteriority) الذي يسم الآخرية الحقيقية يضيع ويختفي ويتم استيعاب الآخر في الكل المجرد. ولذا نجد، في الإطار التقليدي، أن الأنطولوجيا تسبق الميتافيزيقا، تماماً كما يسبق الكل المجرد الجزء المتعيِّن، وكما يسبق الوجود الموجودات.
إن الميتافيزيقي الحقيقي (اللانهائي ـ ما ليس بوجود) يتحقق لا في الذات ولا في الموضوع. وهنا نود أن نشير إلى أن كثيراً من الفلسفات الغربية بعد نيتشه (الذي نسف تماماً ثنائية الذات والموضوع وتأكيد الذات على حساب الموضوع) تحاول أن تجد الحل لا في الذاتي ولا في الموضوعي، وإنما في نقطة تقع بينهما. هذه النقطة يمكن تسميتها بفلسفات «تيار الحياة» وهو مصطلح مشتق من ديموقريطوس ( «إرادة القوة» عند نيتشه ـ «وثبة الحياة» عند برجسون ـ «عالم الحياة» [ليبنزفلت] عند هوسرل وهابرماس) . والعبارات كلها تعني العالم المعاش والواقع الموضوعي كما تجربه الذات. وهو عادةً يشير إلى تلك النقطة التي تلتقي فيها الذات بالموضوع أو تذوب فيها الذات في الموضوع، ومن ثم فلا يوجد فيها لا ذات ولا موضوع، فهي نقطة صيرورة كمونية كاملة تفلت من قبضة الكل الشامل.(15/143)
تنتمي محاولة لفيناس لهذا التيار، وإن كان يحاول قدر استطاعته ألا يسقط في لحظة الذوبان هذه ويحتفظ بقدر معقول من التماسك والصلابة. ويتصور لفيناس أنه وجد ضالته في مفهوم الآخر والعلاقة معه. فالإنسان كموجود متعين يمكنه أن يتجاوز الوجود الكلي المجرد من خلال علاقة فريدة تجعله يخرج من ذاتيته الضيقة دون أن يفقدها ويدرك ذاتية الآخر باعتبارها ذاتية وموجوداً متعيِّناً لا يمكن أن يُرد إلى الوجود المجرد، فهي ذاتية موجودة فيما وراء الكل، ولذا ليس بإمكان الفكر (بالمعنى الذي حددناه من قبل) الإحاطة بها.
وآخرية الآخر تتبدَّى بشكل خاص في وجهه، فالوجه هو التعبير عن التفرد وعن جوهر الآخر الإنساني الفردي، الكامن المتبدي. ومن ثم يضع لفيناس الوجه [الأصيل] ضد الواجهة [الزائفة] ، كما يضع الوجه الخاص مقابل نور الاستنارة العام. إن الإنسان حينما يدخل في علاقة ميتافيزيقية حقيقية مع الآخر فإنه سيكتشف أن هذا الوجه هو اللامتناهي وأنه سر، بل تجلٍّ إلهي، لا يستطيع الكل ابتلاعه. والآخر بهذا المعنى، يشبه الإله في كثير من صفاته. ويمكن القول بأن لفيناس، بمعنى من المعاني، ينتمي إلى ما يُسمَّى «لاهوت موت الإله» الذي يتلخص في البحث عن منظومات معرفية وأخلاقية في عالم لا إله فيه، وإن كان لفيناس يؤكد أن غياب الإله لا يعني بالضرورة أنه غير موجود.
ولأن الآخر هو اللامتناهي وهو الزمان اللامتعاقب الذي يقع خارج نطاق الوجود، فإن العلاقة مع الآخر تصبح هي الإسكاتولوجي (آخر الأيام) الذي يشكل انقطاعاً كاملاً وتحطيماً لأية كليات مجردة متجاوزة. ولكنه إسكاتولوجي لا علاقة له بالأديان السماوية، فلاهوت هذه الديانات خاضع للأنطولوجيا، وهو إن لم يؤد إلى الشمولية الكلية التاريخية (على الطريقة الهيجلية) فإنه يؤدي إلى الكلية الإلهية.(15/144)
والعلاقة مع الآخر، والوصول إلى آخريته الحقة، ليست التحاماً عاطفياً وإنما علاقة عادلة تؤدي إلى الإحساس بالالتزام والمسئولية، أي أن لفيناس قد ولَّد من مفهوم الآخر باعتباره اللامتناهي منظومة أخلاقية كاملة. والرغبة الميتافيزيقية الحقة نحو الآخر هي رغبة لا تتشوق للعودة، هذا يعني من منظور لفيناس أن هذه الرغبة الحقة تفترض أن على الإنسان أن يستبعد أن يكون معاصراً لإنجازاته، فعليه أن يعمل دون أن يدخل بالضرورة «أرض الميعاد» ، أي أن لفيناس، بضربة واحدة، يحل مشكلة الأخلاقيات في مجتمع علماني، فبدلاً من الأنانية والدفاع عن المصلحة الشخصية والرؤية الهوبزية الداروينية حيث يصبح الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان، يطرح لفيناس المواجهة مع الآخر وإدراكه بشكل ميتافيزيقي (غير أنطولوجي) باعتباره الحل الحقيقي للمشكلة الأخلاقية. فمن خلال مثل هذه المواجهة يمارس الإنسان إحساساً عميقاً بالمسئولية تجاه الآخر، أي من خلال إدراكه له ككيان متعيِّن متفرد له وجه فريد (ولا ندري كيف يمكن القفز بهذه البساطة من المنظومة المعرفية إلى المنظومة الأخلاقية ومن الإدراك إلى القيم) . ولتوضيح وجهة نظره، يقارن لفيناس بين إبراهيم ويوليسيس، فإبراهيم يغادر وطنه ويتجه نحو أرض مجهولة ولا ينوي العودة، أما يوليسيس فهو يتحرك دائماً نحو نقطة محددة. فإبراهيم مسافر دائم لا يهمه إن كان معاصراً لإنجازاته أم لا، أما يوليسيس فهو عائد دائم يصر على إنجاز السعادة في حياته! (ولكن هل يمكن تَصوُّر إبراهيم ـ المسافر الدائم هذا ــ بدون إله؟ إن لم يكن هناك إله وأمر إلهي فالسفر الدائم حماقة دائمة وحركة بلا معنى في المكان) . ويبدو أن الميتافيزيقا الحقة (حسب تعريف لفيناس) لا تولِّد أخلاقاً وحسب، وإنما هي نفسها الأخلاق. فلفيناس يُعرِّف الأخلاق بأنها سابقة على الأنطولوجيا (شأنها في هذا شأن الميتافيزيقا) وبأنها ليست مجرد قواعد وإنما هي العلاقة مع الأصل، بل هي(15/145)
نفسها الأصل الذي يسبق كل الأصول وهي القَبَلى والأولي a priori، هي «الميتا» في الميتافيزيقا، فهي الماوراء الحقيقي.
وتُصنِّف الموسوعة اليهودية (الجودايكا) لفيناس باعتباره يهودياً بالمعنى الديني، بل تذهب إلى أنه يهودي أرثوذكسي. وهو أمر يصعب تفسيره إلا داخل إطار حلولي كموني، فالميتافيزيقا عند لفيناس تنبع من تأمل وجه الآخر اللانهائي الذي يتحدى الكل، أي أن البشري يقوم مقام الإلهي في هذه المنظومة. وكما هو الحال دائماً مع المنظومات الحلولية، تتساقط كل التمييزات وتضيق البانوراما لتتحول إلى وثنية شوفينية، الأمر الذي يتضح في خطاب لفيناس اليهودي، وهو خطاب يعطي لكل المصطلحات بُعداً يهودياً تماماً (شأنه في هذا شأن بوبر الذي يتكلم عن الأنا والأنت في الفلسفة الحوارية، ثم نكتشف أن اليهودي والشعب اليهودي [الأنا الأزلية!] يوجد في المركز ويدخل الإله في علاقة خاصة مع اليهود الذين يتحول تاريخهم إلى وحي، ويصبح الوحي بالنسبة لهم عقيدة9.(15/146)
يحاول لفيناس في فلسفته الدينية أن يميِّز بين العنصر الهيليني (يوليسيس) والعنصر اليهودي (العبري) (إبراهيم) . وهو يرى أن الخطاب الهيليني يميل دائماً نحو التجسد، والإيمان داخل الإطار الهيليني يأخذ شكل محاولة التواصل مع المتجسد (وهي محاولة جنونية في تَصوُّره) . أما الخطاب اليهودي (العبري) ، فهو شكل من أشكال الإيمان الناضج الذي يأخذ شكل علاقة بين أرواح من خلال وساطة الكتاب المقدَّس الذي يؤكد لنا وجود الإله بيننا دون تجسُّد. فالروحي الحقيقي نشعر به لا من خلال تجسده وإنما من خلال غيابه. ويقتبس لفيناس عبارة وردت في التلمود وهي «أن يحب اليهودي التوراة (الشريعة ـ القانون) أكثر من الإله» ، وهي عبارة تصدم الآذان التي تدور في إطار توحيدي ولكنها مفهومة تماماً داخل إطار حلولي. ورغم رفض لفيناس للتجسد، إلا أن الكتاب نفسه يكتسب أبعاداً تجسدية (تماماً كما أن العلاقة مع الآخر تكتسب كل أبعاد الإله) . وكما أن الآخر يحل محل الإله، في سياق فلسفة لفيناس العامة، فإن التوراة تحل محله في سياق فلسفته الدينية اليهودية.
ويذهب لفيناس إلى أن الكتاب المقدَّس هدية وليس رسالة؛ هو دعوة للحوار وليس مجرد أطروحات. والهدية تتطلب من الآخر استجابة، أما الرسالة فهي غير شخصية (تشبه فكرة الكل المجرد) . والتوراة ليست هدية وحسب وإنما نص مفتوح يمكن تفسيره. وكما هو الحال في المنظومات الحلولية، يتراجع النص ليظهر المفسر الذي يفرض المعنى عليه. ولفيناس، بهذا، متسق تماماً مع تقاليد الشريعة الشفوية، أي التفسير الذي يُفترض أنه أُعطي لموسى عند سيناء مع الشريعة المكتوبة (التوراة) والذي توارثه الحاخامات المفسرون عبر التاريخ حتى أصبح تفسيرهم (التلمود) أكثر أهمية من التوراة وأكثر أهمية من الإله. وهكذا ترجح كفة الحاخامات على كفة الإله من خلال فكرة النص المفتوح.(15/147)
وماذا عن الشعب اليهودي؟ يشير لفيناس إلى قصة وردت في التلمود عن شخص طلب المغفرة من آخر ولكن هذا الأخير رفض طلبه لمدة ثلاثة عشر عاماً. يقول لفيناس في مجال شرح هذه الأمثولة: بإمكان اليهود أن يعفوا عن بعض الألمان ولكن هناك ألماناً من الصعب العفو عنهم (أي أن خطيئتهم مطلقة) . فمثلاً يصعب العفو عن هايدجر لأنه قَبل أن يعمل في وظيفة في الجامعات الألمانية أثناء حكم النازي ولم يُقر بذنبه، أي أن هناك آخرين: آخر يُقبَل وآخر يُرفَض. وقد بيَّن لفيناس أن الإحساس بالآخر لابد أن يترجم نفسه إلى إحساس عميق بالمسئولية تجاهه. ولكنه، مع هذا، يتحفظ على هذا بقوله إن الإنسان لابد أن يفضل الآخر القريب (الزوجة والابن) على الآخر الغريب، أي أن يفضل الآخر اليهودي على الآخر غير اليهودي (يتلاعب لفيناس بالكلمات العبرية: «أح» أي «أخ» و «آحر» أي «آخر» و «أحريوت» أي «المسئولية» - فكأن الآخر هو الأخ الذي يشعر الإنسان نحوه بالآخرية أي بالمسئولية) . وهذه طريقة مصقولة للغاية وحداثية (حيث إنها تتضمن لعباً بالألفاظ وبعلاقة الدال بالمدلول) للتعبير عن ثنائية اليهود أو الشعب المختار مقابل الآخر الآخر، أي الأغيار. وبالفعل، نجد أن الشعب اليهودي له مكانة خاصة في الكون، فهو شعب مختار. واختياره قد يعني مزيداً من المسئولية، ولكنه يحمل أيضاً معنى الانفصال والتميز (وهذا لا يختلف كثيراً عن الرؤية اليهودية الحلولية القديمة) . والواقع أن رؤية لفيناس حلولية، رغم كل حديثه عن الآخر. فالمواجهة بين الإله والإنسان (حسب قوله) مسألة مسيحية، أما بالنسبة لليهود فالمسألة لعب بين ثلاثة: أنا وأنت وطرف ثالث، هذا الطرف الثالث هو الإله المساوي للإنسان (اليهودي!) .(15/148)
داخل هذا الإطار، يبدأ لفيناس في اكتشاف خصوصية اليهودية وتميُّزها، فالإنسان الغربي يبحث عن الحرية حتى أصبح العصر الحديث عالماً لا قانون له، معادياً للإنسان، خالياً تماماً من المسئولية (أحريوت) . أما اليهودية، فهي على النقيض من ذلك، فالحرية فيها هي حرية صعبة المنال، فاليهودي يكتسب حريته بأن يعيش تحت نير الشريعة الذي يتطلب منه الإحساس بالمسئولية الأخلاقية والاجتماعية. واليهودية ـ حسب تصوُّره ـ تستند إلى استحالة رد الإنسان إلى ما هو دونه وتصر على تَفوُّق الإنسان على الكون (فاليهودية بهذا المعنى ديانة لا أنطولوجية، ديانة ميتافيزيقية أخلاقية حسب معجم لفيناس) . والإنسان اليهودي يكتشف الإنسان قبل الطبيعة، ويصل إلى فكرة الوجود حينما يرى وجه الإنسان العاري. ومن ثم، فإن اليهودية هي الإنسانية، والحرية التي تنادي بها هي حرية تستند إلى الإحساس بالمسئولية.(15/149)
ومرة أخرى، قد نتصور لوهلة أن الحديث هنا عن إنسانية رحبة، ولكن لفيناس يقول: إن اليهودية، هذه الأيديولوجيا المترادفة مع الإنسانية، لا تعني إنسانية روحية عامة وإنما هي إنسانية محددة تأخذ شكل أمة، واليهودية ليست أيديولوجيا مثالية تعيش بدون خطر وإنما هي مثالية تأخذ شكل دولة تجسِّد القيم الأخلاقية للأنبياء، فهي قدر ومسئولية الشعب اليهودي المختار، الذي يتبدَّى في الدولة الصهيونية التي تستند إلى الرغبة العارمة في البقاء وفي البدء من جديد بعد أن يسقط كل شيء. هذه الدولة تقف شاهداً على إرادة اليهود وعلى رغبتهم في أن يُعرِّضوا أنفسهم للخطر وأن يضحوا بأنفسهم ليضطلعوا بمسئوليتهم، أي أن الدولة الصهيونية تجسيد للحرية التي تستند إلى المسئولية. والحلم الصهيوني يَصدُر عن تَطلُّع مؤمن متجذر ثابت غير مُحتمَل يعود إلى مصادر الوحي نفسها، وهو صدى لأعلى التوقعات. وهكذا نعود للوثنية الحلولية القديمة، حيث تصبح الدولة (التي تقتل الأطفال ولا تكترث بالآخر الآخر) موضع الحلول الإلهي، بل تعود جذورها إلى الوحي الإلهي!
وقد عرَّف لفيناس مهمته الفلسفية بأنها تعريف العصر الحديث بالتلمود، وأن هذا أيضاً هو جوهر الصهيونية، فهي الدولة التي تضطلع بهذه المهمة بشكل متعيِّن.
ومن أهم مؤلفات لفيناس من الوجود إلى الموجود (1947) ، والزمان والآخر (1948) ، وفي اكتشاف الوجود مع هوسرل وهايدجر (1949) ، والكلي واللامتناهي (1961) ، وحرية صعبة (1963) ، وأربع محاضرات تلمودية (1968) ، والإنسانية والإنسان الآخر (1972) ، وما وراء الآية (1982) .
شمويل تريجانو (1948 (–
Shmouel Trigano(15/150)
عالم اجتماع ومفكر فرنسي يهودي، وُلد في الجزائر. وهو يحاضر في علم الاجتماع في جامعة مونبييه ورئيس مركز الدراسات اليهودية التابعة للأليانس، ويقوم بتحرير مجلة بارديس. ويُعَدُّ من أهم المفكرين الدينيين اليهود الجدد في فرنسا، وهو يرى أن ثمة إمكانية للعثور على حلول لمشاكل الصهيونية والجماعات اليهودية بالعودة لروح اليهودية السفاردية، وله دراسات عديدة من أهمها المسألة اليهودية الجديدة (1979) والجمهورية واليهود (1982) .
الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة
اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة
Judaism, Members of Jewish Communities, and Post-Modernismلوحظ أن كثيراً من دعاة ما بعد الحداثة إما يهود أو من أصل يهودي (جاك دريدا ـ إدمون جابيس ـ هارولد بلوم ... إلخ) . وقد أثرت ما بعد الحداثة في العقيدة اليهودية، وفي كثير من المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية.
وسنتناول في مداخل هذا الباب جذور ما بعد الحداثة في العقيدة اليهودية، وفي وضع اليهود في الحضارة الغربية، وفكر بعض دعاة ما بعد الحداثة من اليهود. أما أثر ما بعد الحداثة في العقيدة اليهودية فسندرسه في القسم المعنون «لاهوت موت الإله» .....(15/151)
ونحن نذهب إلى أن العلمانية الشاملة تؤدي في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير إلى فصل كل مجالات النشاط الإنساني عن الإنسان ليشير كل مجال إلى نفسه ويستمد معياريته من ذاته وهذا ما يُسمَّى «التحييد» الذي يتصاعد إلى أن يصبح العالم بأسره مجالات محايدة لا يربطها رابط فيتفكك وتختفي أية معيارية إنسانية عامة. وتتآكل القيم والمفاهيم الكلية وتسود النسبية التي تنكر على الإنسان المقدرة على تجاوز صيرورة عالم الطبيعة المادة والحركة فيسقط في قبضتها تماماً وتسقط فكرة الحقيقة والحق والخير والجمال والكل، ثم تسقط فكرة الطبيعة نفسها (البشرية والمادية) في قبضة الصيرورة، أي تسقط كل المنظومات المعرفية والأخلاقية والجمالية، فهي عملية تفكيك كاملة. وهذا الانتقال من عالم متماسك فيه مرجعية ومعيارية (حتى لو كانت مادية) إلى عالم متفكك بلا مرجعية أو معيارية، هو الانتقال من عصر التحديث والحداثة (الصلب) إلى عصر ما بعد الحداثة (السائل) .
والعلمانية الشاملة شكل من أشكال الحلولية الكمونية. ونذهب إلى القول بأن المتتالية النماذجية العلمانية تبدأ بحلول مركز الكون في الكون نفسه. ورغم حلوله في الكون إلا أنه يظل مصدر تماسك الكون ويمكن أن يتم التجاوز باسمه، وفي هذا الإطار يحاول الإنسان أن يستمد معياريته من الطبيعة، وهذه هي مرحلة التحديث البطولية والثنائية الصلبة. ولكن درجات الحلول تزداد تدريجياً ويتوزع المركز الكامن في أكثر من عنصر واحد حتى تصبح كل عناصر الواقع موضع الحلول والكمون فتصبح كل الأشياء مقدَّسة، ويتساوى المقدَّس والمدنَّس، والمطلق والنسبي، ويختفي المركز وتصبح كل الأمور نسبية، وهذه مرحلة وحدة الوجود المادية الكاملة وما بعد الحداثة.(15/152)
ويمكننا أن نصف ما بعد الحداثة بأنها حالة من التعددية المفرطة التي تؤدي إلى اختفاء المركز وتساوي كل الأشياء وسقوطها في قبضة الصيرورة بحيث لا يبقى شيء متجاوز لقانون الحركة (المادية أو التاريخية) ، فتصبح كل الأمور نسبية وتغيب المرجعية والمعيارية، بل ويختفي مفهوم الإنسانية المشتركة (باعتباره معيارية أخيرة ونهائية) . فتَفْسُد اللغة كأداة للتواصل بين البشر وينفصل الدال عن المدلول وتطفو الدوال وتتراقص دون منطق واضح فيما يُطلَق عليه «رقص الدوال» ، وتختفي فكرة الكل تماماً. وما بعد الحداثة تعبير عن انتقال الفكر الغربي من مرحلة الثنائية الصلبة إلى مرحلة الحلولية الكمونية الكاملة والسيولة حيث يختفي المركز تماماً.
التبادل الاختياري بين اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة
Elective Affinity between Judaism and Members of Jewish Communities and Post-Modernism
يرى بعض دعاة ما بعد الحداثة (من أعضاء الجماعات اليهودية ومن غير اليهود) أن ثمة عناصر في اليهودية وفي وضع أعضاء الجماعات اليهودية تجعلهم يتجهون نحو ما بعد الحداثة فيتأثرون بها ويساهمون في فكرها بشكل ملحوظ. وفي بقية هذا المدخل سنورد بعض آرائهم ونعبِّر عنها بمصطلحاتهم، ولكننا نستخدم أحياناً مصطلحنا لفك شفرة مصطلحاتهم ولتوضيح أبعادها الفلسفية الكامنة.
ولنبدأ بالعناصر الموجودة داخل التراث اليهودي:(15/153)
1 ـ نحن نذهب إلى أن العقيدة اليهودية تضم عدداً من العقائد غير المتجانسة والمتناقضة بشكل عميق (ومن هنا إمكانية الحديث عن «يهودي ملحد» داخل إطار العقيدة اليهودية) . ولذا فنحن نستخدم عبارة «اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي» لنصف هذا الوضع. فالتركيب الجيولوجي يتسم بأنه يتكون من طبقات جامدة مستقلة، تراكمت الواحدة فوق الأخرى، ولم تلغ أية طبقة جديدة ما قبلها، ولذا تتجاور الطبقات وتتزامن وتتواجد مع بعضها البعض، ولكنها لا تتمازج ولا تتفاعل ولا تلغي الواحدة الأخرى. وقد أشار الفيلسوف إسبينوزا، حين طُرد من حظيرة الدين اليهودي، إلى أن مجلس السنهدرين، أعلى سلطة دينية يهودية في عصر المسيح وهو الذي قام بمحاكمته، كان يسيطر عليه فريقان دينيان: الصدوقيون والفريسيون. وبينما كان الفريق الأول لا يؤمن بالبعث أو اليوم الآخر كان الفريق الثاني يؤمن بهما. ومع هذا تعايشا وتقاسما السلطة الدينية. فكأن اليهودية تفتقر إلى معيارية حقيقية واحدة محددة، ولذا فمن الممكن أن يشير الدال الواحد إلى مدلولين متناقضين.
2 ـ تذهب العقيدة اليهودية (في شكلها الحاخامي) إلى أن التوراة هي الشريعة المكتوبة، ولكنها ليست الشريعة الوحيدة، إذ يؤمن اليهود بأن هناك ما يُسمَّى «الشريعة الشفوية» وأن الإله أعطى كلا من الشريعتين، المكتوبة والشفهية، لموسى في جبل سيناء. وقد توارث كل اليهود الأولى، أما الثانية فقد توارثها الحاخامات، والتفسيرات الحاخامية التي دُوِّنت في التلمود هي هذه الشريعة الشفوية. وتذهب العقيدة اليهودية (في شكلها الحاخامي) إلى أن الشريعتين متساويتان في الأهمية، بل إن الشريعة الشفوية أكثر أهمية من الشريعة المكتوبة وتجُبّها. كل هذا يعني أن الثابت هو المتغير وأن اللامعيارية هي المعيارية، كما تعني أن الدال الإلهي الوارد في العهد القديم لا يتحدد مدلوله إلا من خلال تفسيرات الحاخامات، وهي تفسيرات متغيرة.(15/154)
3 ـ سيطرة النسق القبَّالي الحلولي على الفكر الديني اليهودي حتى وصل إلى مرحلة وحدة الوجود المادية، وهو ما يعني أن كل الكلمات تصبح إما مقدَّسة ومتأيقنة تماماً أو عاجزة تماماً عن الإفصاح بسبب امتلاء القداسة وهيمنة النسبية، فالتجربة الحلولية الكاملة تعبِّر عن نفسها بالصمت كما أن الحلول الكامل هو أيضاً مرحلة سقوط المعيارية.
4 ـ انتشار الأسلوب الماراني في التفكير بين بعض قطاعات الجماعات اليهودية في الغرب ابتداءً من القرن الثامن عشر. والمارانو هم يهود شبه جزيرة أيبريا الذين أبطنوا اليهودية وادعو الكاثوليكية وأظهروها. وجوهر المارانية أن يقول الإنسان شيئاً وهو يعني عكسه تماماً. ومما له دلالته أن إسبينوزا ودريدا وجابيس كلهم ينتمون للتراث السفاردي الذي دخل فيه مكون ماراني قوي.
5 ـ توجد مدارس يهودية في التفسير تفترض أن المعنى الباطني غير المنظور للعهد القديم أكثر دلالة من المعنى الظاهري. وحيث إن المعنى الباطني في بطن المفسر، فإن هذا يفتح الباب على مصراعيه لنسبية لا نهاية لها ولا معيارية كاملة.
6 ـ توجد مدارس للتفسير ترى أن فَهْم التوراة يشبه الجماع مع أنثى عارية، ولعل هذا يشبه من بعض الوجوه الحديث عن لذة النص وعن أن اللغة الحقيقية هي الصيحات الجنسية أو صيحات الألم ذات المقطع الواحد، إذ أن الدال يلتصق بالمدلول ويصبح الدال مدلولاً.
7 ـ ثمة مفاهيم دينية يهودية عديدة في تراث القبَّالاه الصوفي الحلولي قريبة في بنيتها من مفاهيم ما بعد الحداثة مثل مفهوم شفيرات هكليم والتسيم تسوم والتيقون، وهي مفاهيم ترى أن الإله لم يكمل عملية الخلق بعد. بل إن الذات الإلهية لم تكتمل بعد، وهو ما يعني أن العالم في حالة صيرورة دائمة.(15/155)
8 ـ زادت الخاصية الجيولوجية في اليهودية، وزادت من ثم اللامعيارية في العصر الحديث بظهور بعض المذاهب الدينية مثل اليهودية الإصلاحية والمحافظة، وهي مذاهب علاقتها باليهودية الحاخامية واهية للغاية وتُسمِّي نفسها (مع هذا) يهودية. بل إن أتباع هذه المذاهب يشكلون الأغلبية الساحقة بين يهود العالم، الأمر الذي يعني استحالة التمييز بين الإيمان والهرطقة.
أما بالنسبة لوضع اليهود (أو الجماعات اليهودية) في العالم (أي في الحضارة الغربية) ، وهو الوضع الذي أدَّى إلى زيادة وجود استعداد اختياري عندهم لتبنِّي فكر ما بعد الحداثة وإلى إسهامهم فيه، فقد أورد بعض مؤرخي ما بعد الحداثة بشأنه العناصر التالية:
1 ـ النفي هو التجربة التاريخية الأساسية لليهود، والنفي هو تجربة اقتلاع ثم إحلال (بالإنجليزية: ديسبليسمنت displacement) . فقد أُقتلع اليهود من وطنهم الأصلي وتم إحلال شعب آخر محلهم، كما تم توطينهم في بلاد غريبة عنهم. واليهودي يعيش في بلاد الأغيار وكأنه مواطن فيها مندمج في أهلها مع أنه في واقع الأمر ليس كذلك. فهو فيها وليس منها. فهو الغريب المقيم أو المقيم الغريب؛ الحاضر الغائب. وهو كذلك المتجول الدائم يحلم دائماً بأرض الميعاد، وعلى وشك العودة دائماً، ولكنه لا يعود، فهو يعيش في المنفى الدائم ولكن المنفى ليس بمنفى لأنه من اختيار الإنسان، فهو في حالة صيرورة ولا معيارية، الدال المنفصل عن المدلول أو الدال الذي له مدلولات متعددة بشكل مفرط.(15/156)
2 ـ اليهود في العالم المسيحي هم قتلة المسيح، ولذا فهم شعب منبوذ، ولكن اليهود في الوقت نفسه شعب شاهد على عظمة الكنيسة ولذا لابد من حمايته. وهو يعيش في المجتمع المسيحي الذي يحميه ولكنه يرفض التجسد فهو لا يزال في انتظار الماشيَّح رغم أن المسيح من وجهة نظر المسيحيين قد جاء وصُلب ثم قام. وهو شعب مختار كما يقول كتابه المقدَّس ولكنه في واقع الأمر شعب منبوذ. وهو شعب ينسب له الأغيار والمعادون لليهود قوى عجائبية (الشر ـ السحر) ولكنه في واقع الأمر لا سلطة له. وكل هذا يجعل من الصعب على أعضاء هذا الشعب تبنِّي مرجعية ثابتة أو معيارية واحدة. واليهود بهذا يصبحون دالاً بدون مدلول.
3 ـ يُشار إلى اليهودي باعتباره صاحب هوية واضحة، ولكنه في واقع الأمر مفتقد تماماً للهوية، فهو يزداد اندماجاً في الحضارة الغربية رغم كل محاولات الإفلات من قبضتها. ومن المفارقات أن إسرائيل قامت للدفاع عن الهوية اليهودية ولكنها أصبحت الآلية الكبرى لطمس معالم هذه الهوية. ومن ثم، فإن العودة التي كان المفترض فيها أن تكون نقطة التحقق والحضور الكامل، أصبحت لحظة الغياب الكامل، وهو ما يعني اختلاط المدلولات وتعددها.
4 ـ ومما زاد من زعزعة ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» تزايد تعريفات اليهودي، فهو يمكن أن يكون إصلاحياً أو محافظاً أو تجديدياً. وهناك اليهودي الملحد واليهودي غير اليهودي واليهودي المتهود واليهودي بالاختيار. وقد عُرِّف اليهودي بأنه «من يصفه الناس بأنه كذلك» . وهو في تعريف آخر «من يشعر في قرارة نفسه أنه كذلك» . ولعل سؤال «من اليهودي؟» المطروح بحدة في الدولة اليهودية، هو تعبير عن هذا الفصل الحاد بين الدال والمدلول واستحالة التعريف بسبب سقوط الدال في قبضة الصيرورة.
الهرمنيوطيقا المهرطقة أو التفكيكية اليهودية
Heretical Hermeneutics or Jewish Deconstruction(15/157)
«الهرمنيوطيقا المهرطقة» يمكن أن نسميها «التفكيكية اليهودية» أو «التقويضية اليهودية» . و «الهرمنيوطيقا» فرع من فروع اللاهوت يختص بتفسير النصوص الدينية تفسيراً رمزياً متعمقاً يركز على الجانب الروحي. وقد استُعير المصطلح للعلوم الإنسانية وأصبح يعني علْم تفسير النصوص والظواهر الإنسانية الذي يركز على تميُّز الإنسان عن الظواهر الطبيعية. و «الهرمنيوطيقا المهرطقة» عبارة تتواتر في عدة أعمال حداثية، وخصوصاً كتابات سوزان هاندلمان (الكاتبة الأمريكية اليهودية المتخصصة في فكر أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب) . وتُستخدَم العبارة للإشارة لمحاولة بعض المهرطقين (من المثقفين اليهود) تحطيم النص المقدَّس وتفكيكه (لا تفسيره) . ورغم أنها محاولة تقويضية إلا أنها تتلبس لباس الهرمنيوطيقا التقليدية وتستخدم آلياتها.
ولفهم العبارة، لابد أن نَعرف علاقة النص المقدَّس بالتفسير (الحاخامي) داخل إطار العقيدة اليهودية. وهي علاقة تختلف في كثير من جوانبها عن علاقة النص المقدَّس بالتفسير في الديانات التوحيدية الأخرى. وتلخص سوزان هاندلمان آراء بعض دارسي ظاهرة الهرمنيوطيقا المهرطقة فتبيِّن أنهم يذهبون إلى أن الحضارة اليونانية حضارة مكانية ولذا فهي حضارة رؤية: الصورة أساسية فيها. ولذا، فهي حضارة تحترم الأيقونات بكل ما تتسم به من تَحدُّد وثبات ووضوح. وهي حضارة أفلاطونية في جوهرها تحترم الثبات وتسعى له وتنظر للعالم في إطار ثنائية أساسية: عالم المُثُل (المجردة الثابتة المتجاوزة لعالم الحركة) مقابل عالم المادة (المتغير المحسوس) وهذه هي ثنائية المعقول والمحسوس.(15/158)
والمسيحية الغربية استمرار للتقاليد اليونانية في الإدراك ورؤية الكون والثنائية. فهي حضارة متمركزة حول اللوجوس/الكلمة التي تتجاوز عالم المادة المحسوس والتي تشكل نقطة ثبات مطلقة في التاريخ النسبي المتغير. واللوجوس هو المدلول المتجاوز الذي يزوِّد العالم بالمركز وينقذه من السقوط في قبضة العبثية واللامعنى. فهو يعطي الصيرورة حدوداً واتجاهاً فيصبح للتاريخ معنى، وتكتسب اللغة فعاليتها كأداة تفاهم وتواصل بين البشر. واللوجوس، رغم أنه متجاوز للتاريخ، إلا أنه يتجسد فيه للحظات فيصبح الدال مدلولاً، وهذه هي لحظة الحضور الكامل بلا غياب. وحياة المسيحي بأسرها، من هذا المنظور، هي بحث عن هذه اللحظة ومحاولة للوصول إليها للاتحاد بالخالق المطلق. ولذا، تصبح الكلمات (التاريخية ـ النسبية ـ الزمانية) شكلاً من أشكال النفي من الحضور الإلهي واغتراباً عن الجوهر الإلهي وعن الحضور المطلق، وتصبح التعددية اللغوية إحدى علامات السقوط. ولذا، فإن الكتاب المقدَّس يشغل مكانة ثانوية بالنسبة للوجوس في المسيحية الكاثوليكية، بل إن المجاز نفسه (الذي يعني انفصال الدال عن المدلول نسبياً) يصبح شكلاً من أشكال النفي، وتصبح كل النصوص البشرية حديثاً عن هذا الغياب الذي يشير إلى الحضور بلا غياب!(15/159)
لكل هذا، تحاول التفسيرات المسيحية الوصول إلى معنى ثابت، فهناك التفسير الكاثوليكي وهو تفسير رمزي يتم من خلال وسائط رمزية ولكنه يحاول أن يصل إلى معنى محدد ثابت (يستند إلى لحظة التجسد) وراء الدوال. وقد يبدو أن نظرية التفسير البروتستانتية مختلفة، فهي ترفض التفسير الرمزي وتطالب بالعودة إلى النص؛ إلى كلمة الإله التي تتجاوز التفسير؛ إلى الكلمة المطلقة بقدر الإمكان، وذلك بهدف الوصول إلى المعنى المحدد الثابت الأصلي الذي يستند إلى لحظة التجسد! فالتفسيران يختلفان في الآلية ولكنهما يتفقان في النهاية. فكل الكلمات يتحدد معناها من خلال اللوجوس، أي الدال/المدلول المتجاوز الذي يوقف لعب الدوال ويعطي معنى واحداً نهائياً للنص. وثمة عودة، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، إلى المعنى الثابت. وهكذا، رغم أهمية التفسير، يظل النص المقدَّس (الوحي الإلهي) أكثر أهمية من تفسيره (الإنساني) كما هو الحال في كل العقائد التوحيدية.(15/160)
تقف اليهودية (من منظور آراء المفكرين اليهود وغير اليهود من دعاة ما بعد الحداثة) على النقيض من كل هذا. فالحضارة العبرية ليست حضارة مكانية وإنما حضارة زمانية، فالارتباط بالمكان (الأرض) مستحيل بالنسبة لليهودي، فالمكان ليس مكانه حيث يعيش في الزمان متجولاً. والزمان نفسه يتم إلغاؤه تقريباً، فالزمان ليس زمانه لأن اليهودي يعيش في بداية الزمان وفي نهايته دون أن يعرف أصله بوضوح ودون أن يصل إلى النهاية. ومع هذا، يظل الزمن العنصر الأساسي والحاسم بالنسبة لليهودية. ولا تشغل الصورة حيزاً أساسياً في الوجدان اليهودي ولا تحظى الأيقونة بكثير من الاحترام، بل إن اليهودية بأسرها تعبير عن رفض للحظة التجسد والثبات هذه (أفلاطونية كانت أم مسيحية) . ولذا، فإن اليهودي يعيش في عالم الإشارات الزمانية التاريخانية المختلطة، لا يحاول تجاوزها ويصبح هو حامل لوائها. ولأن النفي بالنسبة لليهودي ليس حالة مؤقتة يتغلب عليها المرء وإنما حالة دائمة بل نهائية، ولأن اليهودي يرحل من مكان لآخر دون حلم بالعودة، أي دون حنين للمعنى والحقيقة والبنية الميتافيزيقية الثابتة التي تمنح الاطمئنان، لكل هذا يصبح الانقطاع المستمر جوهر حياته والاقتلاع سمتها. ولذا، فهو يقبل النفى والانقطاع ولا يحاول الاتحاد بنقطة الأصل الثابتة لتجاوز اغترابه، كما أنه لا يحاول تَجاوُز عالم الصيرورة، أي أنه يصل إلى حالة الكمون الكاملة حيث تصبح الصيرورة هي البداية والنهاية، وحيث لا يوجد فارق كبير بين الحضور والغياب، وتصبح التعددية اللغوية أمراً مقبولاً تماماً فتفسد اللغة وينطلق لعب الدوال خارج أية حدود أو قيود أو سدود. وكما قالت سوزان هاندلمان، فإن تَقبُّل التعددية اللغوية هو محاولة لفرض الشرك (أي تعدُّد الآلهة) بدلاً من التوحيد.
آليات الهرمنيوطيقا المهرطقة
Mechanisms of Heretical Hermeneutics(15/161)
يتحقق الإطار العام لظهور الهرمنيوطيقا المهرطقة أو التفكيكية اليهودية من خلال خطوتين أساسيتين:
1 ـ رؤية يهودية محددة للنص حيث يفقد النص المقدَّس حدوده ويتداخل والنصوص الأخرى ويصبح من الممكن تحميله بأي معنى يشاء المفسر، ومن ثم فهو يصبح نصاً مفتوحاً.
2 ـ عند هذه اللحظة يمكن تحميل النص المفتوح بالهرطقة باعتبارها المعنى الحقيقي.
1 ـ عملية فتح النص:
يمكن وصف عملية فتح النص من خلال النقاط التالية:
أ) بالنسبة لليهودي، لا يأخذ الحضور الإلهي في التاريخ شكل تجسد مباشر في لحظة، فهو يوجد في نص مقدَّس موحى به من الإله. والنص، اللوجوس، وهو تَركُّز القوة الإلهية، يحتوي على كل شيء. ولذا، جاء في التراث الديني اليهودي أن خلق التوراة يسبق خلق العالم، بل إن الإله استخدمها في خلق العالم.
ب) ولكن هذا لا يعني أن التوراة تصبح، بذلك، نقطة الثبات والحضور الكامل (المطلق) في التاريخ الذي ينقذ التاريخ من قبضة الصيرورة واللامعنى إذ أن الصيرورة تبتلع النص المقدَّس نفسه، فهو ليس كتاباً نهائياً، كما يتضح من «مصادره» المتعددة. وهناك كذلك مشكلة الأصول، فالتراث اليهودي لم يحسم قط مسألة هل التوراة بأسرها كلمات الإله الموحى بها أم أجزاء منها وحسب؟ وهل أُعطيت هذه الكلمات لموسى مباشرة ثم كتبها هو، أم أن الإله خطها بنفسه، أم أعطاها لموسى في حضور الشعب؟ لكل هذا، نجد أن الحضور الإلهي في النص اليهودي المقدَّس ليس حضوراً مطلقاً ثابتاً كاملاً وإنما مجرد أثر أو صدى.(15/162)
جـ) والتوراة، علاوة على هذا، كتاب مُشفَّر لا يمكن فهمه بشكل مباشر. ولذا، حينما أُعطيت التوراة لموسى، أُعطيت له معها آليات التفسير التي استخدمها الحاخامات لتوليد تفسيراتهم المتعددة. والتفسير الحاخامي ليس مجرد مقدمة ضعيفة للمعنى الحقيقي للنص المقدَّس، كما هو الحال في التفسيرات المسيحية، وإنما هو جزء مكمل للوحي الإلهي الأصلي وبالتالي يتداخل النص المقدَّس والتفسير الإنساني وتظهر حالة من التناصّ والسيولة.
د) والعلاقة بين النص المقدَّس (الثابت) والتفسيرات (المتغيِّرة) علاقة كناية (بالإنجليزية: ميتونومي metonomy) وهي في اللغات الغربية صورة بلاغية تتلخص في استعمال اسم شيء بدلاً من شيء آخر متصل به اتصالاً معيَّناً، كما تقول «جهزوا الأشرعة» أي «جهزوا السفن» فتحل كلمة «الشراع» محل كلمة «السفينة» وهذا ما يحدث في اليهودية إذ نجد أن التفسير متصل بالنص المقدَّس ويحل محله.
هـ) والتفسيرات الحاخامية هي نفسها متشابكة، فكل تفسير يشير إلى التفسير الذي يسبقه والذي يليه إلى ما لا نهاية (حالة الاخترجلاف) . فإن كان ثمة تناص بين النص المقدَّس والتفسير فهو حالة تناص بين كل التفسيرات. وهكذا، يظهر التلمود كتاباً للتفسير الذي يصبح كتاباً مقدَّساً يفوق في قداسته الكتاب المقدَّس، ولكن هذا الكتاب الأكثر قداسة مكتوب بيد إنسانية؛ فهو مطلق غير مطلق، ثابت متغيِّر، إنه الحضور بلا حضور والغياب بلا غياب.(15/163)
و) وهكذا تدخل جرثومة الصيرورة كل شيء حتى في داخل اللوجوس نفسه. ولذا، فإننا نجد جاك دريدا يسخر من المفسرين الذين يحاولون الوصول إلى معنى محدد ونهائي (أو إلى أي معنى على الإطلاق) ، فهم مسيحيون بالمعنى النماذجي وغير قادرين على أن يعيشوا التوتر الناجم عن الغياب داخل الحضور والحضور داخل الغياب. وقد شبَّه أحد دعاة ما بعد الحداثة من اليهود التفسير الحاخامي بأنه مثل الأنثى المعوجة اللينة التي تُغوي الحقيقة المستقيمة الصلبة الثابتة فتضيع الحقيقة (المجردة المعقولة) وتظهر الحقائق المتعددة المتغيرة المحسوسة.
ز) وتتعمق الصيرورة، ففي داخل هذا الإطار يصبح المفسر (أي من يفك شفرة النص المقدَّس) أهم من النص نفسه، ولذا فإن عبارة «لا يوجد شيء خارج النص» تعني في واقع الأمر لا يوجد شيء خارج المفسِّر/الحاخام، هذا القارئ السوبرمان، وهو ما يعني موت الإله وموت النص ومولد الحاخام. ولكن الحاخام قد ينطق عن الهوى وقد يناقض نفسه، كما أنه لا يوجد حاخام واحد وإنما عدة حاخامات، وهكذا تهيمن التعددية المفرطة.(15/164)
والقصة التالية التي وردت في التلمود توضح كل النقاط السابقة. جاء في التلمود أن الحاخام أليعازر كان يتجادل مع بعض الحاخامات بشأن قضية فقهية ويحاول أن يبيِّن لهم أن الشريعة المكتوبة تتفق مع رأيه، بل أتى ببعض المعجزات ليبيِّن أنه مؤيَّد من الإله. فعلى سبيل المثال قال الحاخام أليعازر: «إن كانت الشريعة تتفق معي، فليبرهن النهر على ذلك» . وبالفعل، جرى النهر في عكس اتجاهه. وبعد مجموعة من المعجزات، سئم الحاخام أليعازر من الجدل مع الحاخامات وقال «إن كانت الشريعة تتفق معي، فليأت البرهان من السماء» . وهنا سمع الحاخامات صوتاً من السماء يقول: «لماذا تحاجون الحاخام أليعازر بعد أن برهن على أن الشريعة تتفق معه في كل الأمور؟» . فرد أحد الحاخامات «إنها [أي المعنى أو التفسير] ليست في السماء» . وأكد الحاخام للإله أن التوراة قد أُعطيت لموسى في سيناء وانتهى الأمر، ومن ثم فإن الحاخامات لا يعيرون الصوت الإلهي أي انتباه. ثم اقتبس الحاخام من التوراة ما يؤيد قوله، وهنا ضحك الإله وقال: «لقد هزمني أبنائي، لقد هزمني أبنائي» (بابا ميتسا 59 أو59 ب) .
إن أساس الهرمنيوطيقا اليهودية (حسب تصوُّر دعاة ما بعد الحداثة من أعضاء الجماعات اليهودية وغيرهم) ليس شيئاً في النص وإنما في العقل الحاخامي وهو قلب كامل للأوضاع.
2 ـ تحميل النص المقدَّس بالهرطقة:
ولكن ثمة خطوة أخرى أكثر عمقاً وراديكالية من الخطوة السابقة التي تحوِّل الهرمنيوطيقا اليهودية إلى هرمنيوطيقا مهرطقة وهي إعطاء النص المقدَّس مضموناً مهرطقاً بعد فتحه. وهي عملية تتم أيضاً على عدة خطوات:
أ) لم يهاجم المفسر اليهودي النص المقدَّس بوضوح وبشكل مباشر كما يفعل المهرطقون عادةً، وإنما لجأ إلى حيلة بارعة تأخذ شكل الالتفاف. فأعلن أن النص المقدَّس مصدر الشرعية؛ بل أعلن إيمانه الكامل به وأنه يتحرك داخل إطار التقاليد الأرثوذكسية اليهودية.(15/165)
ب) اكتسب المفسر بذلك شرعية وقداسة، أي باعتباره مفسر النص صاحب الشرعية والقداسة.
جـ) بدأ المفسر يأتي بتفسيرات حاخامية يفرضها على النص فرضاً.
د) تحولت هذه التفسيرات تدريجياً إلى تفسيرات باطنية غنوصية قبَّالية مهرطقة.
هـ) كانت هذه التفسيرات هامشية ثم أخذت تتحرك تدريجياً نحو المركز.
و) استولى التفسير المهرطق على النص تماماً وأصبحت الهرطقة هي الجوهر، أي أصبحت الهرطقة هي الشريعة، والكفر هو الإيمان، والغنوص هو التوحيد، واللامعنى هو المعنى.
وقد وردت هذه القصة في أحد أعمال كافكا موضحةً جوهر الهرمنيوطيقا المهرطقة ومتتاليتها. تدخل الفهود (المدنَّسة) المعبد وتشرب الماء المقدَّس من الكئوس المقدَّسة. يحدث هذا مرة بعد أخرى. ولذا، وبعد مرور فترة من الوقت، يتوقع الناس وصول الفهود إلى أن تصبح الفهود (المدنَّسة) جزءاً لا يتجزأ من الطقوس (المقدَّسة) .
ترى سوزان هاندلمان أن هذا وصف دقيق لما قام به المثقفون اليهود من دعاة الهرمنيوطيقا المهرطقة. فبعد تحطيم الهيكل، حلت دراسة التوراة ودراسة شعائر الهيكل محل تقديم القرابين. ولكن اليهود، بسبب غربتهم ونفيهم وشعائرهم، يقومون بالهجوم على النص لفتحه فيقوم الفهود (الحاخامات) بدخول المعبد (النص) فيشربون الماء المقدَّس من الكئوس المقدَّسة (النص) ، وبالتدريج يصبح الفهود (الحاخامات وأصحاب التفسيرات المهرطقة الذين كانوا مغتصبين للمعبد) جزءاً من شعائره، أي أن التفسير المهرطق يصبح هو الشريعة، وهكذا يتم الاستيلاء على الكتاب المقدَّس بدعوى تفسيره.(15/166)
ويرى الأديب الفرنسي اليهودي ما بعد الحداثي إدموند جابيس أن أهم نقطة في اليهودية هي اللحظة التي تقع بين تحطيم موسى الوصايا العشر بسبب غضبه من عبادة الشعب للعجل الذهبي وبين تلقىه الوصايا العشر الجديدة. وهذه اللحظة هي لحظة حضور/غياب، شريعة غائبة/موجودة. ويرى جابيس أن الشريعة الشفوية، أي التفسيرات الحاخامية، نشأت في الشقوق التي نجمت عن تحطيم الوصايا العشر كالأعشاب والطحالب التي تقتل النباتات المزروعة التي تأتي بالثمر. بذلك، فقد تحوَّلت يسرائيل بأسرها إلى تساؤل مستمر بلا نهاية، وأصبح واجبها هو التفكيك، أي الهرمنيوطيقا المهرطقة؛ وأصبح اليهودي، المتجول المنبوذ، ممثل الأعشاب التي ظهرت في الشقوق، هو عنصر الظلام والشقوق التحتية المظلمة. (وهل يختلف هذا الوصف كثيراً عن وصف أعداء اليهود لدور اليهودي في المجتمعات المختلفة؟ (.
الهرمنيوطيقا المهرطقة والمثقفون اليهود
Heretical Hermeneutics and Jewish Intellectuals(15/167)
الهرمنيوطيقا المهرطقة (حسب تصوُّر دعاة ما بعد الحداثة من أعضاء الجماعات اليهودية وغيرهم) تعبير عن رغبة اليهود في الانتقام لأنفسهم بسب ما حاق بهم من كوارث تاريخية وبسبب حالة النفي والتبعثر التي يعيشونها وعملية الإحلال التي فُرضت عليهم. إنها محاولة اليهودي الانتقام من العالم اليوناني المسيحي الذي يزعم أن العالم يدور حول اللوجوس وحول نقطة ثبات نهائية، ولكن هذا العالم الذي يبحث عن الثبات قام باقتلاع اليهود وفَرَض عليهم النفي والتحول والصيرورة. ولذا، فهم رداً على ذلك، يفرضون على النص المقدَّس «التفسير» و «سوء القراءة» المتعمد، الذي هو في واقع الأمر تفكيك وتقويض له وفرض الصيرورة عليه. ولكن التفسير المهرطق، رغم هرطقته، يدَّعي أنه هو نفسه النص المقدَّس حتى يتسنى له أن يحل محله، أي أنها مؤامرة تتم من الداخل باسم التفسير، وهي في واقع الأمر تقويض: إنها فرض اللامعنى باعتباره المعنى، وفرض الظلام باعتباره النور، وفرض الهرطقة باعتبارها الشريعة؛ إنها عملية قلب كامل للمعنى تتم بهدوء ومن خلال الخديعة.
ولكن الهرمنيوطيقا المهرطقة لم تكن مقصورة على الكتاب المقدَّس المسيحي/اليهودي إذ قام اليهود بتوجيه الهرمنيوطيقا المهرطقة إلى عالم الأغيار الدنيوي أيضاً واستخدموا الخديعة نفسها على الطريقة المارانية التي تجعل اليهودي يظهر غير ما يبطن. وهذا ما يفعله اليهود، فهم في محاولة ضرب أعدائهم ادعوا أنهم يقومون بعملية تفسير للتراث الإنساني، لا أكثر ولا أقل. ولكنهم في واقع الأمر يقومون بعملية تقويض جذرية، الهدف منها البقاء الفكري لليهود وتحقيق شيء من الهيمنة.(15/168)
والمثقفون اليهود المحدثون - حسب هذه الرؤية - ينتمون إلى تقاليد الهرمنيوطيقا المهرطقة، فهم يقعون خارج التراث الغربي (المتمركز حول اللوجوس) يحاولون تحطيمه (ماركس والمجتمع - فرويد والذات البشرية - دريدا والفلسفة - بلوم والأدب) ، فهم أيضاً يغوصون في ظلمات النفس البشرية ويصلون إلى عناصر الهرطقة المكبوتة التي تتحدى المعيارية القائمة، فيقومون باكتشافها وبلورتها ودفعها نحو المركز. وكما أن العالم قام بنفي اليهود وإحلال شعب آخر محلهم، فإنهم يقومون بإحلال النص المهرطق محل النص المقدَّس، وهم بذلك يحوِّلون الخارجي إلى داخلي والعكس بالعكس. فيقوم فرويد بتعرية الرغبات المهرطقة في الذات الإنسانية، ويقوم دريدا، سيد التقويضيين، بتحطيم ركائز الفلسفة الغربية، ويقوم بلوم بتحطيم تقاليد الأدب الغربي الذي يرتكز على المسيحية ويبيِّن الحرب الأزلية الدائرة بين الشعراء. وما يفعله هؤلاء المهرطقون هو أنهم يقضون على النصوص الأصلية (المقدَّسة ـ الأبوية ـ السلطوية ـ الثابتة) ، ومن خلال تفسيرها، يقومون بتفكيكها وتوضيح الظلمات داخلها وإطلاقها من إسارها. وهم يدينون بالولاء للتقاليد الخفية التي يجعلونها التقاليد الحقيقية، ويصبح التفسير المظلم هو الوحي ويصبح اللاوعي هو الوعي الحقيقي.
وترى سوزان هاندلمان أن تقاليد الهرمنيوطيقا المهرطقة لم تَعُد مقصورة على المثقفين اليهود، فهناك في كل أنحاء العالم «مثقفون يهود» بالمعنى المجازي جعلوا همهم فَتْح النصوص المقدَّسة عن طريق إعلان أن النص المقدَّس صامت يمكن أن يحمل أيَّ معنى يشاء المفسر، ثم قاموا بإعادة تفسيرها وتحميلها معنى مهرطقاً حتى يسود الظلام وتهيمن العدمية (ومما يجدر التنبيه إليه أن كلمات مثل «فوضى» و «ظلام» و «انقطاع» و «عدمية» لا تحمل أيَّ معنى سلبي أو قدحي في معجم سوزان هاندلمان) .(15/169)
وهذه الرؤية للمثقفين اليهود تُشيِّئهم تماماً وتجعلهم قوة فريدة من قوى الظلام. ولعل المدافعين عن مثل هذه الرؤية لو دققوا قليلاً لوجدوا أن هؤلاء المثقفين لا ينتمون إلى تقاليد يهودية وإنما إلى تقاليد غربية علمانية. ونحن نذهب إلى أن الحضارة الغربية العلمانية الحديثة هي في جوهرها حضارة تفكيكية. فحين أعلنت هذه الحضارة إلغاء فكرة الإله أو تهميشها، لم يكن هناك بُد من تفسير الإنسان في إطار طبيعي/مادي، فأصبح جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة/المادة يُردُّ في كليته إليها، فيتحول من كائن إنساني متجاوز للطبيعة/المادة إلى كائن مادي يمكن تفكيكه إلى عناصره المادية الأولية. وهذا هو ما فعله توماس هوبز غير اليهودي الذي أعلن أن الإنسان (الذي يعيش في عالم الطبيعة/المادة وحسب) إن هو إلا ذئب لأخيه الإنسان. وجاليلو، ومن بعده نيوتن، كانا «مسيحيين» ، وأنكرا على الإنسان أية مركزية، وجاء داروين غير اليهودي، قَبْل فرويد «اليهودي» ، واكتشف الظلمات في الطبيعة وفي النفس البشرية. وجاء بعد فرويد عشرات المحللين النفسيين من غير اليهود ممن تبنوا الرؤية الفرويدية بحماس بالغ، وقاموا لا بتطبيقها وحسب وإنما بتعميقها كذلك (هذا مقابل عشرات المثقفين من أعضاء الجماعات اليهودية ممن رفضوا هذه الرؤية التفكيكية العدمية مثل إريك فروم) . وهكذا فإن تقاليد التفكيك التقويضي المهرطق، هي تقاليد راسخة في الحضارة العلمانية الغربية.(15/170)
يُسقط دعاة ما بعد الحداثة من أعضاء الجماعات اليهودية كل هذه الاعتبارات ويجعلون الهرمنيوطيقا المهرطقة ظاهرة يهودية، وهم في هذا لا يختلفون كثيراً عن رؤية بروتوكولات حكماء صهيون التي تجعل اليهود قوة من قوى الظلام والدمار. ومما يجدر ذكره أن مسألة الاختلاف الجذري بين العقل الهيليني والعقل العبراني هي أحد أسس التفكير العنصري الغربي. ولكن رغم عنصرية سوزان هاندلمان وغيرها من دارسي ظاهرة ما بعد الحداثة بين المفكرين، فإنهم قد وضحوا إحدى السمات الأساسية للإنجازات الفكرية للمثقفين اليهود من دعاة ما بعد الحداثة.
بعض مصطلحات ما بعد الحداثة وعلاقتها باليهودية وبأعضاء الجماعات اليهودية
Some Post-Modernist Terms and Their Relation to Judaism and Members of Jewish Communities
تتسم المصطلحات التي يستخدمها دعاة ما بعد الحداثة بالصعوبة البالغة، ولكنها صعوبة ناجمة عن التضخيم الذي لا مبرر له، أي أنها حالة تورُّم لا تركيب. ويتضح مدى بساطة هذه المصطلحات حينما يدرك المرء أساسها الفلسفي. ومعرفة أصولها في العقيدة اليهودية تساهم في عملية التبسيط والتوضيح هذه. وسنتناول في بقية هذه المداخل بعض المصطلحات الأساسية التي يستخدمها دعاة ما بعد الحداثة. ومعظم هذه المصطلحات تدور حول فكرة النص والقراءة.
الدال المتجاوز والمدلول المتجاوز
Transcendental Signifier and Signified
«المدلول المتجاوز» هو الركيزة الأساسية لكل الدوال ويقف خارج لعب الدوال، فهو «غير ملوث» بهذا اللعب، وهو ليس جزءاً من اللغة التي تحاول أن تُوقف لعب الدوال وانزلاقيتها وانفصالها عن المدلولات.(15/171)
ويُشار إلى «المدلول المتجاوز» أحياناً بأنه «الإله» و «روح العالم» و «المادة» و «الحضور المطلق» و «اللوجوس» . ووجود مدلول متجاوز (مفارق) هو الطريقة الوحيدة لكي نخرج من عالم الحس والكمون والصيرورة ونوقف لعب الدوال إلى ما لا نهاية، ونحرز التجاوز والثبات ونؤسس منظومات فلسفية؛ معرفية وأخلاقية. وكل النظم المتمركزة حول اللوجوس لابد أن تتضمن مدلولاً متجاوزاً لعالم الدلالات: هو الإله في المنظومات الدينية، وهو الكل المادي الثابت المتجاوز في المنظومات المادية، ونشير إليه أيضاً بأنه «المطلق العلماني» . وهو الذي يضمن علاقة الدال بالمدلول. وتتسم العقلانية المادية بوجود مركز فيها، مركز مادي (الإنسان الطبيعي ـ الطبيعة/المادة) ولكنه مركز (مبدأ واحد) يعطي النسق صلابة.
وقد بيَّن نيتشه الميتافيزيقا الكامنة في فكرة المركز والكل والمعنى المتجاوز للصيرورة، وبيَّن أنه رغم موت الإله فإن ظلاله لا تزال جاثمة، وتتبدَّى في مثل هذه الأفكار. ولذا طالب بمحو ظلال الإله من خلال ضَرْب هذه الأفكار وتقويضها عن طريق ضَرْب الدال المتجاوز (المركز ـ الكل) بحيث لا يبقى سوى لعب الدوال بلا مركز ولا كليات ولا معنى. وهذا ما ترمي ما بعد الحداثة إلى إنجازه، فهي تحاول أن تضرب العلاقة بين الدال والمدلول حتى يتحرر الدال تماماً من المدلول. وكما يقول دريدا فإن الدال هو المحسوس والمدلول هو المعقول. وإن ظلت ثنائية الدال والمدلول قائمة فإن هذا يعني أن هناك عالم الدال المحسوس غائص في عالم الصيرورة ولكن يقف إلى جواره عالم آخر، معقول وغير محسوس، عالم المدلول الذي سيفلت بذلك من قبضة الصيرورة. وقد عبَّر دريدا عن هذه الثنائية بقوله إن المدلول المعقول يتجه بوجهه نحو الله، أي إلى عالم الثبات والميتافيزيقا. وما بعد الحداثة تحاول أن توقف هذه السلسلة التي تبدأ بالثنائية وتنتهي عند الله.(15/172)
وقد حاول الحاخامات إنجاز شيء من هذا القبيل في اليهودية، فالحاخام المفسر جزء من صيرورة التاريخ والزمان ولكن تفسيراته التي لم تفلت من قبضة الصيرورة مساوية لكلمات الإله (المدلول المتجاوز) . ثم تتجاوز كلمات الحاخامات النسبية المبعثرة كلمة الإله الثابتة وتصبح بديلاً لها، وبذلك يسقط كل شيء في قبضة الصيرورة ويصبح العالم بلا مدلول متجاوز، وتتساوى كل الأمور وتصبح نسبية لا معنى لها.
الحضور
Presence
«الحضور» من الكلمة الفرنسية «بريزانس presence» ، وهو مصطلح استخدمه هايدجر وأشاعه دريدا. و «الحضور» هو ما لا يستند وجوده (حضوره) إلى شيء إلا نفسه. والحقيقة هي التمييز بين الحضور والغياب. ورغم جدة المصطلح، فهو مرادف لكلمات أخرى في الفلسفة الغربية مثل «اللوجوس» (اللوجوس في القبَّالاه اسم الإله الأعظم - أكبر تركيز للحضور الإلهي) ، و «الأصل» و «الأساس النهائي» و «الركيزة النهائية» و «المبدأ الواحد، الكلي والنهائي، الروحي أو المادي» و «المركز» و «الأساس القَبَلي» و «الأوَّلي» و «الميتافيزيقا» و «المطلق» و «عالم المثل» و «الكليات الثابتة المتجاوزة» و «المدلول المتجاوز» . وقد ذكر دريدا نفسه بعض المرادفات الأخرى، مثل: «الجوهر» و «الحقيقة» و «الوجود» و «الغرض» ، وعرَّفه بأنه الأساس الصلب الثابت لأي نسق فلسفي.(15/173)
و «الحضور» مقولة أولية قَبَلية توجد في البدء قبل تفاعل الذات مع الموضوع، وهو مكتف بذاته ومصدر للوحدة والتناسق والمعنى في الظواهر، وهو يتجاوز الإنسان وواقعه المحسوس، ويتجاوز التفاصيل الحسية ويهرب من قبضة الصيرورة، أي أن الحضور يؤدي إلى ظهور ثنائية الحاضر/الغائب أو ثنائية المتجاوز/الكامن التي هي تعبير عن ثنائية أولية (ثنائية الخالق/المخلوق) . وتنتج عن هذه الثنائية ثنائيات أخرى، مثل: الذكر/الأنثى ـ الإنسان/الطبيعة ـ المقدَّس/المدنَّس ـ الثابت/المتحول. ومن خلال «الحضور» ، يمكن تنظيم أجزاء الواقع بشكل هرمي والحكم عليها وتقرير ما هو كلي وجزئي، وما هو مركزي وهامشي.
ويرى دريدا أن النظام الدلالي مبني على الاختلاف والإرجاء (الاخترجلاف) الذي يؤدي إلى عدم تَحدُّد أي معنى وإلى لعب لا متناه للدوال والنصوص، فالمعنى دائماً حاضر/غائب (تحت الممحاة) ، وهو ما ينجم عنه انفصال الدال عن المدلول. ولا يمكن أن يتوقف لعب الدوال ويتم التواصل بين البشر إلا من خلال وجود المدلول المتجاوز (الحضور) ، وهو النقطة المرجعية النهائية التي توجد خارج الأنساق الدلالية وعالم الصيرورة. وهي نقطة يدركها الوعي مباشرةً، ذلك لأنه مُعطَى مباشر للذات بلا وسيط دلالي. ولأنه أساس مطلق، خارج النظام اللغوي والدلالي، فهو لا يشكل جزءاً منه ولا يستند إلى سلسلة الدوال، بل إن النسق اللغوى هو الذي يستند إليه، أي أن وجوده يسبق وجود اللغة. وبهذا المعنى، فإن أية لغة إنسانية (من منظور دريدا) هي لغة أفلاطونية تفترض وجود عالم ثابت يسبق عالم الصيرورة (المدلول المتجاوز/الإله) يضمن الثبات والمعنى. وهذا يعني أن النظام الدلالي ثانوي بالنسبة للمدلول (بسبب أسبقية المدلول المتجاوز على كل الظواهر) ويمكن الاستغناء عنه، فهو يساعد على التذكر أو على التعبير الموجز عن الأفكار، ولكنه في واقع الأمر يقف عائقاً بين الذات والموضوع.(15/174)
والمشروع ما بعد الحداثي هو مشروع الحلولية والكمونية الكاملة ومحاولة تأسيس وعي إنساني كامل دون أساس إلهي أو حتى إنساني أو مادي؛ عالم من الصيرورة الكاملة لا حضور فيه ولا مطلقات ولا أي مدلول متجاوز. وهذا يعني ضرورة موت الإله والمطلقات حتى يصبح اللعب الحر للدوال ممكناً وحتى تنتهي النزعة الدينية (مركزية الإنسان التي تستند إلى وجود الإله) والنزعة الإنسانية (مركزية الإنسان التي تستند إلى أسبقية الذات الإنسانية على الطبيعة) . وبذا، نصل إلى النهاية الحقيقية لكل أنواع الميتافيزيقا سواء أكانت ميتافيزيقا دينية أم ميتافيزيقا مادية، ولأي نظام فلسفي يعتمد على أساس أو مبدأ أول أو أرضية يؤسس عليها التراتب الهرمي. ومن ثم، لابد من فك المبدأ الأول والأساس الثابت للوجود الإنساني، ولابد من محو الأصول تماماً، للوصول إلى نقطة بلا أصل، نقطة حلولية، أصولها كامنة فيها تماماً بحيث لا يفلت أيُّ شيء من قبضة الصيرورة، وهي نهاية يرى دريدا أنها لن توصل إلى العدم ولا إلى الغياب (عكس الحضور) ، فوجود الغياب شكل من أشكال الوجود يستدعي الحضور، ولذا لابد من الوصول إلى نقطة ليس فيها حضور أو غياب، نقطة بينية مثل الاخترجلاف وهو ليس حضوراً ولا غياباً.
ونقطة اللاحضور واللاغياب (نقطة الصيرورة الكاملة) مفهوم أساسي في اليهودية. فالإله في اليهودية ليس بشراً ولكنه ذو سمات بشرية، وهو مطلق يتجاوز الطبيعة والتاريخ ولكنه نسبي لأنه مقصور على اليهود، دائم التدخل في الطبيعة والتاريخ، بل يحل في الشعب اليهودي والتاريخ اليهودي. وفي القبَّالاه التراث الصوفي الحلولي اليهودي، هو الأين سوف (الذي لا مثيل له) ولكنه هو أيضاً الآيين (اللاشيء) . والكلمتان، كما يشير القبَّاليون، مكونتان من الحروف والأصوات نفسها تقريباً، فكأن الإله لا هو هذا ولا ذاك ولا هو بالغياب ولا هو بالحضور.(15/175)
وقصة الخلق في القبَّالاه قد وُلِّدت منها كثير من مفاهيم ما بعد الحداثة وبخاصة مفهوم الحضور/الغياب هذا. ويبدأ خلق العالم في القبَّالاه بالتسيم تسوم، أي الانكماش، وهي تعني أن الإله خَلَق العالم بأن انكمش في ذاته وانسحب من المادة الأصلية. وبعد ذلك بدأ يوزع الإله ذاته النورانية في أوعية، ولكنها ناءت بحملها فتهشمت في حادثة يُطلَق عليها تَهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) . وقد نتج عن هذا تَبعثُر الشرارات الإلهية واختلاطها بالمادة الكونية الرديئة. وقد شُبِّهت هذه الحادثة بهَدْم هيكل القدس ونفي اليهود وتَبعثُرهم في بقاع الأرض وإحلال شعب آخر محلهم. وبعد تَهشُّم الأوعية تأتي عملية التيقون، أي الإصلاح الكوني إذ يبدأ الإله في جمع شتات ذاته إلى أن تكتمل. ولكنه لن يصل الإله إلى مرحلة الوحدة والتكامل هذه إلا بمساعدة اليهود. فالإله هنا حاضر/غائب، ومطلق/نسبي، وثابت/متغير، ومتجاوز/ حال، وكل غير متكامل.
والنمط نفسه يوجد في مفهوم الشريعة الشفوية، أي التفسير الحاخامي، ذلك أن قواعد التفسير يُفتَرض أنها أُعطيت لموسى على جبل سيناء مع الشريعة المكتوبة. فالثابت، أي الشريعة المكتوبة، لا يمكن أن يكتمل وجوده دون المتغير، أي التفسير الحاخامي المستمر عبر التاريخ. ولذا، فهي أيضاً حالة حضور وغياب. ويشير جابيس إلى حادثة تحطيم لوحي الوصايا العشر على يد موسى نتيجة غضبه من الشعب لعبادته العجل الذهبي. وما بين لحظة تحطيم الوصايا العشر وإعطاء موسى النسخة الثانية، ثمة حالة من الحضور والغياب، فالشريعة غائبة/حاضرة وحاضرة/غائبة. والوصايا العشر عدة نسخ كلها مختلفة، فهي من ثم حاضرة/غائبة أيضاً.(15/176)
بل إن اليهودي نفسه تجسيد لهذا الحضور/الغياب، فهو منفيٌّ أزلي ولكنه منفيٌّ أزليّ يرفض العودة إلى الدولة اليهودية، وهو صاحب أصول راسخة ولكنه متجول لا حدود له، وهو يبحث دائماً عن جذوره ويعلم مسبقاً أنه لن يجدها، ويُقال إنه صاحب هوية ولكنه في واقع الأمر صاحب هويات لا هوية واحدة، فهو أيضاً المطلق/النسبي، الحاضر/الغائب.
الثنائية
Dualism
يرى أنصار ما بعد الحداثة أن كل النظم المعرفية مبنية على أصل ثابت (الحضور) تنتُج عنه ثنائيات متعارضة، مثل: الفكر/الواقع والمكتوب/المنطوق والحقيقي/الزائف والإنسان/الطبيعة، وتعطي أسبقية للعنصر الأول على الثاني. فالثنائيات المتعارضة هي الطريقة التي تقدم بها أية أيديولوجيا رؤيتها للواقع. فكل رؤية ترسم حدوداً واضحة بين ما هو مقبول وما هو مفروض، وبين المركز والهامش، وبين الذات والموضوع، وبين الداخل والخارج، وبين الصواب والخطأ، وبين المعنى واللامعنى، وبين العقل والجنون، وبين السطح والعمق، وبين الحلال والحرام، وبين المقدَّس والمدنَّس، وبين الأزلي والزمني وبين الدال والمدلول. ويمكن أن يستمر النظام في العمل ما دامت هذه الثنائية قائمة، ولا يمكن أن تقوم للثنائية قائمة بدون الحضور (اللوجوس ـ الأصل ـ لحظة البدء ـ المدلول المتجاوز) ، فهو ليس جزءاً من أية ثنائية داخل النظام ويتجاوزها ويتجاوز النظام نفسه فتتوقف عنده سلسلة المعنى المنزلق ولعب الدوال، ويمكن فرض التراتب الهرمي على الواقع من خلاله (ونحن نرى أن النظم التوحيدية تؤدي إلى ظهور مثل هذه الثنائية ولكنها ثنائية فضفاضة تكاملية) .(15/177)
ومن أهم الثنائيات داخل أي نسق فلسفي ثنائية الإنسان/الطبيعة التي تجعل الإنسان يدرك أنه مختلف عن الطبيعة متميِّز عنها وأنه ليس له ما يماثله في عالم الطبيعة، فهي ثنائية راديكالية. ومن ثم، فإن الإنسان يكتشف أن الحالة الإنسانية حالة متمردة على النظام الطبيعي/المادي، فيشعر الإنسان بكينونته وهويته وحدوده ومقدرته على التجاوز، فيبدأ بالتفكير في أصوله الربانية. وهذا التفكير، إن لم يواكبه إيمان حقيقي بالإله، يؤدي إلى العدمية، إذ أن ذكرى الأصل الرباني تُعذب الإنسان. ومن هنا، يرى أنصار ما بعد الحداثة ضرورة إلغاء الثنائية، فإلغاؤها إلغاء للأصل، وإن أُلغي الأصل وأُلغيت الثنائيات تَساقَط النظام تماماً وسادت الواحدية السائلة وتداخلت الحدود والهويات والأشياء (أي تظهر الحالة الرحمية التي لا حدود لها) . ولذا، يجعل النقد التفكيكي همه هَدْم الثنائيات وتوضيح انفصالها الكامل أو التحامها الكامل، وذلك بهدف هَدْم الأساس والمبدأ الأول والثابت لتسود حالة الواحدية السائلة والرحمية. وإن ظلت هناك ثنائيات فهي ثنائيات متداخلة يتساوى فيها القطبان ولا تمنع قط لعب الدوال ورقص القلم.
وما ذكرناه عن الحضو والغياب ينطبق أيضاً على الثنائية، فالتراث الديني اليهودي، بتأكيده حالة الحضور/الغياب هذه، يمحو الثنائيات تماماً. وكل أنواع الحلولية تمحو أية ثنائيات حينما تصل إلى مرحلة وحدة الوجود، حيث لا يبقى إلا جوهر واحد.
التمركز حول اللوجوس
Logocentrism
«التمركز حول اللوجوس» ترجمة لكلمة «لوجوسنتريك logocentric» المكونة من كلمتي «لوجوس logos» بمعنى «كلمة» أو «حضور» أو «عقل» أو «تجلِّي الإله» أو «المبدأ الثابت الواحد» وكلمة «سنتر centre» بمعنى «مركز» .(15/178)
ويرى دريدا أن الفكر الغربي فكر متمركز حول اللوجوس (ففي البدء كانت «الكلمة» ) ، فاللوجوس هي الأصل وكل شيء يستند إليها، ولا يستطيع أحد أن يخرج من نطاق اللوجوس. واللغات الأوربية نفسها متمركزة حول اللوجوس، وبداية الإنسان الغربي متمركزة حول اللوجوس. والأنساق المتمركزة حول اللوجوس تدَّعي لنفسها العالمية والشمول وتدعي أن نقطة مرجعيتها موجودة خارجها، وأنها تستمد معقوليتها ومعياريتها من هذه النقطة. كما أن مفهوم الغائية والعلية يستند إلى هذا الأصل الثابت، والتراتب الهرمي والمنظومات الأخلاقية والثنائيات الأنطولوجية والمعرفية والأخلاقية (معقول/غير معقول ـ خيِّر/شرير) كلها تستند إليه. ولكن، بمعنى من المعاني، يرى أنصار ما بعد الحداثة أن الفكر الإنساني كله متمركز حول لوجوس ما (بمعنى العقل والمركز والمبدأ الأساسي الثابت) ، فلا يوجد فكر إنساني بدون أساس ثابت خارج عنه، ولذلك فإن كل الفكر الإنساني (ربانياً كان أم إلحادياً) ميتافيزيقي (ملوث بالميتافيزيقا) لا يتعامل مع الصيرورة الحسية المباشرة.
ويهاجم أنصار ما بعد الحداثة التمركز حول اللوجوس، فيطرح دريدا مفهوم الاخترجلاف والتناص والكتابة الأصلية والأثر والهوة (أبوريا) ورقص الدوال والتمركز حول المنطوق والنص المفتوح، وكلها تحاول مهاجمة فكرة الأصل الثابت من خلال محو الثنائيات والحدود حيث يسقط كل شيء في الصيرورة وتسود الانزلاقية.(15/179)
والتمركز حول اللوجوس، في التراث اليهودي، حالة مستحيلة توجد في الماضي السحيق حينما كان يهوه يحل في الشعب ويقوده في البادية ويدخل معه في علاقة حوارية مباشرة. كما يوجد التمركز حول اللوجوس في نهاية التاريخ في اللحظة المشيحانية حين يجمع الإله شعبه المبعثر ويحل فيه ويقوده مرة أخرى إلى أرض الميعاد ليسود العالم. أما ما بين اللحظتين، وهو التاريخ بأسره، فإن الإله غائب واللوجوس غير موجود لا يمكن التمركز حوله (على عكس ما يتصوره المسيحيون) ، فهي حالة تبعثر وتشتت وصيرورة عبثية كاملة، وهذا هو المجال البحثي لأنصار ما بعد الحداثة. وقد تطوَّر اللاهوت اليهودي تدريجياً ليصبح لاهوتاً بلا مركز ولا لوجوس، وهو ما يُسمَّى «لاهوت موت الإله» .
القصص الصغرى والقصة الكبرى
Small Narratives and Grand Narrative
» القصص الصغرى» و «القصة الكبرى» مصطلحان من فلسفة ما بعد الحداثة. وهي، كالمعتاد، لا تقول شيئاً جديداً وإنما تقول القضايا القديمة بطريقة متضخمة متورمة تخبئ أكثر مما تكشف. وما بعد الحداثة ليست معادية للمنظومات الدينية وحسب وإنما معادية للمنظومات الإنسانية الإلحادية أيضاً. ويتضح هذا في استخدامهم كلمة «قصة» ، فكلمة «قصة» بديل لكلمة «رؤية» أو «نظرية» أو «نموذج» ، وعلاقة القصة الصغرى بالقصة الكبرى هي علاقة الخاص بالعام والحالة بالنظرية والفرد بالمجتمع ... إلخ.(15/180)
ودعاة ما بعد الحداثة يعادون القصص الكبرى (النظريات الكبرى والرؤى العامة والنماذج) ويرون أنه، منذ عصر النهضة والاستنارة، تحاول المنظومة المعرفية الغربية الحديثة التوصل إلى نظرية (قصة عظمى) تضم كل النظريات (القصص) الصغرى وتتجاوزها. ووصفهم هذا وصف للفلسفات المادية التي تطرح رؤية مادية للكون ترتكز إلى مطلق كامن في المادة (العقل ـ الروح المطلقة ـ البروليتاريا) وتفسر كل شيء بدون ثغرات وبدون أية مسافة بين الكل والجزء، وهو وصف جيد لفلسفة التاريخ المادية بكل حتمياتها وإيمانها بأنها تفسر كل شيء وتَرُدُّ كل الأبنية الفوقية إلى بناء تحتي واحد يُردّ بدوره إلى عنصر مادي واحد، فتسقط في الواحدية السببية.
ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا، فقد وُصفت ما بعد الحداثة بطريقة متورمة بأنها فلسفة ضد القصص ذات النزعة الكلية الترانسندنتالية (المتجاوزة) المتمركزة حول اللوجوس (بالإنجليزية: أجينست لوجوسنتريك توتاليزنج ترانسندتال ميتاناراتيفز against logocentric totalising transcendental metanarratives) ، أي أنها فلسفة معادية للقصص الكلية التي تستند إلى لوجوس (مركز) متجاوز للصيرورة المادية، أي أنها ببساطة شديدة ضد أية نظرية كلية تشير إلى عالم متجاوز لعالم الجزئيات المحسوسة المباشرة.(15/181)
ويستخدم دعاة ما بعد الحداثة كلمة «قصة» بدلاً من كلمة «رؤية» أو «نظرية» لأن الرؤية والنظرية إذا كانت مجرد قصة، فهي إذن نسبية ولا تشير إلى ما هو خارجها (تماماً مثل النظام اللغوي) . ولا شك في أن محاولة تأسيس نظرية (عامة) على أساس القصة (الخاصة) هو من قبيل العبث، إذ لا يمكن التعميم من الخاص. فكل النظريات قصص، ومن ثم فالحقيقة الدينية بل الإنسانية غير ممكنة، والمعرفة أمر غير وارد، ولا يوجد أساس لكتابة تاريخ عام، ولا توجد نظرية للكون، ولا توجد حدود إنسانية شاملة ومشتركة؛ ولكن توجد جزر من الحتمية والحرية، والمعرفة كلها مرتبطة بمواقع محلية مختلفة داخل إطار لغوي وتفسيري خاص، ولا يبقى أمامنا سوى القصص الصغرى التي لا تتجاوز شرعيتها ذاتها. فهي (كالنظام اللغوي) مغلقة على نفسها تماماً وتمنح صاحبها يقيناً خاصاً عالياً ولكنها لا تجيب عن أية أسئلة كبرى نهائية أو كلية. وهي قصة لا تتطلب أية شرعية من قصة كبرى فمطلقها (مركزها) كامن فيها، مرتبط بالآن الخاص والهنا الخاصة، مرتبط بالموقف المادي المباشر (الزماني المكاني) الذي لا علاقة له بالتاريخ الأكبر أو المطلقات العالمية أو الإنسانية المشتركة. وتفترض القصة العظمى وجود الكليات المتجاوزة للسياق الحسي المباشر مثل الإنسانية المشتركة ووحدة الحق ووحدة الحقيقة ولا تتغير بتغير السياق. أما القصة الصغرى، فهي مرتبطة تمام الارتباط بسياقها، فتفترض المطلق الخاص الذي يذكِّرنا بالحلوليات الكمونية الوثنية والوثنيات القديمة، التي لم تكن تؤمن برؤية عالمية ولا أخلاقيات عالمية ولا إنسانية مشتركة، والتي تذكِّرنا كذلك بالقوميات العضوية، وبالحركة النازية والصهيونية وجوش إيمونيم، فهي جميعاً تدور في إطار قصص صغرى يؤمن بها أصحابها ويستمدون قداستهم منها، ويستبعدون الآخر بالضرورة إذ لا توجد قصة إنسانية عظمى تضم الجميع ويمكن الاحتكام لها. ومن ثم، يمكن القول بأن القصة الصغرى(15/182)
قصة علمانية تماماً، فهي تنكر أي تجاوز أو أي ثبات أو أية كليات توجد وراء التجربة الحسية المباشرة أو تقف خلف دوامة الصيرورة.
والقصة الصغرى قصة الشعب المختار الذي يؤمن بأن الإله غير مفارق له، يسكن في وسطه، ويتحد به، وهم يعاملونه معاملة الند لنده، فيدخلون معه في علاقة حوارية، ويعصون أوامره ببساطة شديدة وفي نهاية الأمر يتحدث الحاخامات بدلاً منه. ولكنهم لا يأتون بقصة كبرى، وإنما بقصص حاخامية متعددة مختلفة، إلى أن نصل إلى اليهودية المحافظة التي تُعلي الذات اليهودية وتجعلها المركز الحقيقي للمنظومة اليهودية، ثم تجعلها مصدر المعيارية. وفي نهاية الأمر ظهرت اليهودية الإنسانية فاليهودية الإلحادية فلاهوت موت الإله.
الاختلاف
La Differance
» الاخترجلاف» كلمة قمنا بنحتها من كلمتي «اختلاف» و «إرجاء» ، على غرار كلمة «لا ديفيرانس la differance» التي نحتها دريدا من الكلمة الفرنسية «differer» بمعنى «أخَّر» أو «أرجأ» و «difference» بمعنى «اختلاف «.
ويُلاحَظ أن الفرق بين «ديفرانس la differance» (الكلمة التي نحتها دريدا) وكلمة «difference» بمعنى «الاختلاف» ليس في النطق وإنما في الكتابة، ففارق النطق بين «ence» و «ance» ضعيف للغاية ويكاد لا يبين للسمع. وتحتوي الكلمة على معنى الاختلاف (في المكان) ومعنى الإرجاء (في الزمان (.(15/183)
ويرى التفكيكيون أن المعنى يتولَّد من خلال اختلاف دال عن آخر، فكل دال متميِّز عن الدوال الأخرى. ومع هذا، فثمة ترابط واتصال بين الدوال، فكل دال يتحدد معناه داخل شبكة العلاقات مع الدوال الأخرى، لكن معنى كل دال لا يوجد بشكل كامل في أية لحظة (فهو دائماً غائب رغم حضوره) إذ أن كل دال مرتبط بمعنى الدال الذي جاء قبله والذي جاء بعده، ووجوده نفسه يستند إلى اختلافه. ويضرب دعاة ما بعد الحداثة مثلاً بالبحث عن معنى كلمة في القاموس فإن أردت أن تعرف معنى كلمة «قطة» فسيتحدد معناها من خلال اختلافها مع كلمتي «نطة» و «بطة» . كما أن القاموس سيخبرنا أن «القطة حيوان» فسنذهب لكلمة «حيوان» لنعرف معناها، وهناك سنعرف أنه «كائن ذو أربعة أرجل» فسننظر لمعنى كلمتي «كائن» و «أرجل» إلى ما لا نهاية، أي أن دائرة الهرمنيوطيقا هنا دائرة مفرغة لا تؤدي إلى نهاية أو معنى فكل تفسير يؤدي إلى تفسير آخر. وهذا يعني أن مدلول أي دال مُعلَّق ومؤجل إلى ما لا نهاية، وهو ما يؤدي إلى لعب الدوال اللامتناهي (ولا يمكن أن يوقف هذه العملية سوى المدلول المتجاوز، أي الإله الذي يقف خارج شبكة لعب الدوال) .
والاخترجلاف ليس هوية أو أساساً أو جوهراً أو أصلاً وإنما هو قوة كامنة وحالة في اللغة نفسها يحركها من داخلها فيفصل الدال عن المدلول، ولذا يصبح عالم الدوال مستقلاً عن عالم المدلولات ويخلق الهوة (أبوريا) ، ومن ثم تصبح اللغة قوة لا يمكن التحكم فيها. ولأن الاخترجلاف كامن في اللغة، فليس بإمكان أي شيء أن يهرب منه، فهو ممثل الصيرورة داخل النسق اللغوي، وسيلة الإنسان الوحيدة للتعامل مع الواقع والتواصل مع بقية البشر.(15/184)
والاخترجلاف يحل محل مفهوم البنية عند البنيويين، ولكنها البنية بعد أن وقعت في دوامة الصيرورة، فالاخترجلاف لا يعرف الثنائية ولا التجاوز ولا الغائية، فهو مجرد منها جميعاً. فالحضور الوحيد بالنسبة له هو عملية لا متناهية في الزمان والمكان ولا يعرف الزمان أو المكان. والاخترجلاف - كما أسلفنا - يتم على أساس الاختلاف في المكان والإرجاء في الزمان، فهو لا يستقر فيهما أبداً ولا يمكن أن يصبح هو هو. والاخترجلاف، على خلاف البنية، لا يعرف أي مركز، ومن ثم لا يوجد أي تراتب هرمي من أي نوع.
والاخترجلاف لا يشاكل العقل الإنساني بل يتجاوزه ويستوعبه. وهو على عكس البنية ليس مفهوماً، فهو شيء لا يفكر فيه المرء وإنما يحدث له، أو يحدث للنص (ولذا فإن النص يكشف لنا شيئاً عن طبيعة المعنى/اللامعنى التي لا يمكن صياغتها على هيئة أطروحة) .
الاخترجلاف، إذن، عكس الحضور والغياب، بل يسبقهما (ولذا سمي أنطولوجيا الحضور والغياب الذي لا يمكن معرفته) ، وهو لا وعي اللغة والأصل الذي لا يمكن معرفته أو إدراك كنهه، وهو آلية تقويض المعنى والحقيقة والأصل الثابت المتجاوز للغة والإنسان، وهو تأكيد أولوية اللغة على الإنسان.
الاخترجلاف، إذن، هو استيعاب المطلق في الصيرورة، فهو المطلق/النسبي. وهو المبدأ المادي الواحد الذي يسري في الكون، وهو القوة الدافعة له الكامنة فيه والتي تتخلل ثناياه وتضبط وجوده وتوحده، وهو النظام الضروري والكلي للأشياء، نظام ليس فقط فوق الطبيعة ولكنه نظام فوق الإنسان أيضاً، إنه مطلق علماني جديد في عصر المادية الجديدة أو اللاعقلانية المادية حيث تغوص كل الأشياء في دوامة الصيرورة.(15/185)
ومفهوم الاخترجلاف فيه آثار كثيرة من المفاهيم القبَّالية مثل «إين سوف» ، أي «الذي لا نظير له» ، ومفهوم «شفيرات هكليم» ، أي «تَهشُّم الأوعية» ، وعملية «تيقون» ، أي «إصلاح» ، وكلها عمليات مستمرة بلا نهاية في عالمنا هذا ولا تتوقف إلا في نهاية التاريخ. وثمة صدى من مفهوم الشريعة الشفوية التي تفرض نفسها على الشريعة المكتوبة الموحى بها من الإله، والشريعة الشفوية عملية اخترجلافية لا تنتهي، ولذا يسخر دريدا من المفسرين الذين يودون الوصول إلى معنى نهائي (فهم مسيحيون بالمعنى النماذجي) غير قادرين على أن يعيشوا في التوتر الناجم عن الغياب داخل الحضور وعن الحضور داخل الغياب. ويرى أن اليهودية والقراءة هما شيء واحد، هما الانتظار الإرجاء نفسه؛ الاخترجلاف نفسه؛ التوقع نفسه والأمل نفسه الذي لا يتحقق أبداً.
الأثر
Trace(15/186)
«الأثر» ترجمة لكلمة «تريس trace» الإنجليزية، وهو من المفاهيم الأساسية في فكر دريدا والمرتبط تمام الارتباط بمفهوم الاخترجلاف. والاخترجلاف هو القوة الكامنة في اللغة الدافعة لها والمقوضة للدلالة. ويبيِّن دريدا أن معنى الكلمة (دلالتها) ليس كامناً فيها، فهي لا جوهر لها، وإنما يتحدد من خلال الاخترجلاف. أي أن مدلول كل كلمة يتحدد من خلال غياب المدلولات الأخرى، فحضور الدال وارتباطه بمدلوله هو غياب الدوال والمدلولات الأخرى. ولكن، رغم غياب الدوال الأخرى، فإن الدال الحاضر يستدعيها عن غير وعي. ولذا، فإنني حينما أفكر في الدال الماثل أمامي وأركز عليه، أفكر عن غير وعي في الدوال الأخرى. وكل دال يحتوي على أثر من الدوال التي يختلف عنها سواء وردت قبله أم وردت بعده. ومعنى الدال غائب عنه دائماً وليس له حضور كامل قط، فهو جزء من شبكة العلاقات الدلالية (غائب/حاضر) . ومن خلال عملية الاخترجلاف عبر السنين، يحدث تراكُم للآثار. ويبدو هذا التراكم وكأنه المعنى الثابت والمستقر للكلمات، ولكنه في واقع الأمر ليس كذلك، فهو مجرد وهم ـ أثر. وتعني عبارة «سو راتير sous rature» الفرنسية (بالإنجليزية: أندر إريشر under erasure) «تحت الممحاة» أن الكلمة التي نظن أنها مُحيت وزالت تترك وراءها أثراً لا يزول ويمارس وظيفته أو آثاراً من وظيفته.(15/187)
والنتيجة أن اللغة ليست طاهرة تماماً، ذلك لأن كل كلمة تحتوي أثراً من الكلمات السابقة وتترك أثراً في الكلمات اللاحقة، ولذا يفيض المعنى عن إرادة الكاتب وعن حدود النص، وبذا يحل الأثر محل الحضور ويمَّحي الأصل تماماً إذ لا يبقى من الأصل سوى الأثر، فالأثر هو الأصل الذي لم يبدأ شيئاً، فهو أصل بلا أصل، ومن ثم فإن الإنسان يجد نفسه بلا أصل رباني أو إنساني ولا يبقى أمامه سوى الصيرورة الثابتة (التي تشبه النفي الأزلي لليهودي) . ولذا، فإن القارئ لن يجد أساساً قوياً يستند إليه وينزلق لذلك في دوامة الصيرورة. وإذا كانت الحقيقة هي المقدرة على التمييز بين الحضور والغياب، فإن الحقيقة (بذلك) تغيب، والأثر يلقي بظلاله على كل شيء، وهذا يعني استحالة الوصول إلى الحضور الكامل والمدلول المتجاوز الذي يقع خارج نطاق الحسية المباشرة والنص، كما يعني استحالة الوصول إلى أي معنى، فالمعنى متناقض غير محدد ولا يمكن التوصل إليه. وهذا لا يختلف كثيراً عن مفهوم الشريعة الشفوية حيث حل التفسير محل الأصل والنص المقدَّس ولم يبق منه سوى أثر. كما أن التفسيرات نفسها تتلاحق بحيث يجُبُّ بعضها البعض ولا يبقى سوى صدى، أثر لعملية التفسير نفسها والتي أُعطيت آلياتها لموسى مع الشريعة المكتوبة (التوراة) ، أي أن التوراة من البداية جاءت ومعها التفسير الذي لا يقل عنها قداسة. وبرغم كل هذا، فنحن لا نملك سوى تكرار استخدام الكلمات. ولذا، فإن التكرار هو الذي يعطيها هويتها (الآثار المتراكمة) وهو الذي يهدمها. والتكرار من ثم هو فقدان دائم للبراءة والطهر. ولكن ليس أمامنا سوى التكرار، ولا يوجد أمامنا سوى أن نعني (نقول) شيئاً (بالفعل ـ دائماً ـ كذلك) مختلفاً عما نود أن نوصله (نعنيه ـ نقوله) ونفهم شيئاً ثالثاً، وما نصل إليه من معنى هو نتاج لعب لامتناه للدوال. ولأن الكلمات ليست بريئة، ولأن المعنى وقع في قبضة لعب الدوال ورقص القيم، قرَّر دريدا(15/188)
(مقتفياً أثر هايدجر) أنه لابد أن يخلق لغته الخاصة، زاعماً أنه كلما نحت كلمات جديدة فإن الميتافيزيقا تستوعبها ويصبح لها معنى ثابت.
تناثر المعنى
Dissemination
عبارة «تناثر المعنى» هي ترجمتنا لكلمة «ديسمينيشن dissemination» التي يستخدمها دريدا في مقام كلمة «دلالة» . والكلمة من فعل «ديسمينيت disseminate» بمعنى «يبث» أو «ينثر الحبوب» . والمعروف أن أحد مقاطع الكلمة «سيمين semen» تعني «بذر» أو «سائل المني» . والمعنى المباشر للكلمة عند دريدا هو «ينثر المعنى» . ومع هذا، فإن للكلمة عدة مستويات:
1 ـ معنى النص منتشر ومبعثر فيه كبذور تُنثَر في كل الاتجاهات، ومن ثم لا يمكن الإمساك به؛ تشتيت المعنى؛ لعب حرّ لامتناه لأكبر عدد ممكن من المعاني.
2 ـ تأخذ الكلمة معنى «وكأن لها دلالة دون أن تكون لها دلالة» ، أي أنها تُحدث أثر الدلالة وحسب.
3 ـ نفي المعنى.
وهذا المفهوم لا يختلف عن المفاهيم الأخرى مثل «الأثر» و «النسخة» و «الاخترجلاف» ، وكلها محاولات تهدف إلى أن يغوص كل شيء في دوامة الصيرورة، حتى يفقد كل شيء هويته وحدوده. وتناثُر المعنى مفهوم يشبه تَهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) في التراث القبَّالي. وهو مرتبط بمفهوم الشعب اليهودي المشتت في عالم بدون مركز، فتناثُر المعنى هو تشتيته في كل النص بلا مركز، فكأن المعنى المتناثر هو الشعب المنفي. واجتماع الشعب مرة أخرى من خلال عملية الإصلاح (تيقون) هو عملية الحضور (الإلهي) الكامل والعودة لحالة البليروما (حالة الامتلاء الأولى) .
الهوة (أبوريا)
Aporia(15/189)
«أبوريا» كلمة يونانية تعني «الهوة التي لا قرار لها» . والهوة (أبوريا) عكس الحضور الكامل أو الأساس الذي نطمئن إليه، أو على وجه الدقة هي ما يتجاوز ثنائية الحضور والغياب. وإذا كان الحضور هو الحقيقة والثبات والتجاوز والعلاقة بين الدال والمدلول والتحامهما، فالهوة هي الصيرورة الكاملة التي لا يفلت من قبضتها شيء، فهي دليل على أن الواقع متغيِّر بشكل دائم. ولا هرب من التغير، فحتى التغير نفسه (شكله ـ طريقته ـ نمطه) متغير. والهوة دليل على أن اللغة قوة لا يمكن التحكم فيها.
إن الهوة هي أحد أسماء المطلق/النسبي ما بعد الحداثي. وقد وصفها دريدا بأنها المحدد غير المحدد، والتناهي غير المتناهي، والحضور/كغياب. وفي لغة أكثر صوفية وإشراقية وبلاهة، وصفها في كتابه علم الكتابة (الجراماتولوجي) بأنها "طريقة التفكير في عالم المستقبل الذي لا مفر منه، والذي يعلن عن نفسه في الوقت الحاضر متجاوزاً انغلاق المعرفة ... إنها هي التي ستفصم الوعي تماماً عن المعيارية السائدة ... ولا يمكن الإعلان عنها وتقديمها إلا باعتبارها شكلاً من أشكال الوحشية". أما في الكتابة والاختلاف فإنه يشير إليها باعتبارها "الشيء الذي لا يمكن تسميته، النوع الذي لا نوع له.. الشكل الذي لا شكل له.. رؤية الوحشية المخيفة". وهذا خليط من أسماء الإله (شيم هامفوراش ـ إين سوف ـ آيين) والمفاهيم القبَّالية (شخيناه السوداء) .(15/190)
والهوة (أبوريا) مرتبطة تماماً بالنزعة الرحمية وفقدان الحدود والمسئولية والهوية، فهي تشير إلى عالم لا يوجد فيه أي ثبات ولا يوجد فيه أي توق لثبات. ولن تكون هناك عودة للميتافيزيقا والتمركز حول اللوجوس ولا حتى ما هو خلف الميتافيزيقا (ميتا ميتافيزيقا) . فهو دائماً بقاء في براءة الصيرورة، في عالم من الإشارات بلا خطأ، ولا يمكنها أن تخطئ لأنها لا تشير إلى أية حقيقة. فالإشارات بلا أصل (وهذا يعني في الخطاب ما بعد الحداثي، أن أصلها مادي في عالم الصيرورة، وأن الإنسان إنسان طبيعي/مادي) ، فهو عالم "تصاحبه ضحكة ما" و"رقصة ما" ... تأكيد فرح للعب العالم ونسيان نشيط للوجود (نيتشه في أصل الأخلاق) ، فهو لعب بلا أمن، لعبة الصدفة المطلقة حيث يستسلم الإنسان إلى اللامحدود، فالمستقبل غير مغلق وهو خطر كامل.(15/191)
والهوة هي النقطة التي تنفصل فيها سلسلة الدلالات عن سلسلة المدلولات، ويبدأ انزلاق الدوال وتبدأ عملية الاخترجلاف وتناثُر المعنى. والدلالات هي التي تبيِّن الهوة ولكنها هي أيضاً التي تخبئها. وسبب الاخترجلاف هو الهوة (أبوريا) ، فوجودها يمنع أن يتطابق الدال وأي مدلول ويظل المعنى مختلفاً ومُرْجَئاً دائماً. وكل النصوص تحوي داخلها هذه الهوة أو نقطة الفراغ أو تحوي عنصراً غير منطقي لا يستطيع النص أن يستوعبه، فهو تناقض داخل النص غير متسق معه. ومهمة الناقد التفكيكي هي أن يبحث عن هذه الهوة ويمسك بها، وقد شبهها أحد الدارسين بأنها مثل الخيط الذي إن أمسك به الناقد وجذبه انهدم البناء تماماً أو هي حجر الأساس داخل جدار ما (حجر مُفكَّك) إن جذبه الناقد تهدَّم البناء بأسره ويُلاحَظ أن المسألة ليست «تفكيكاً» (ديكُنستراكشن deconstruction) كما يدَّعون وإنما هو «تقويض» (ديستراكشن destraction) . ومع هذا، يقول التفكيكيون إنهم لم يهدموا البناء وإنما يبينون أنه مفكك وحسب، وأن البنية المتماسكة التي تظهر لعيوننا ليست سوى وهم إذ أنها لا أساس لها. فالتفكيكيون لا يفككون لأن كل شيء مُفكَّك متفكك من تلقاء نفسه، أو على الأقل عنده قابلية كامنة للتفكك!
الكتابة/ القراءة
Writing/ Reading(15/192)
«الكتابة/القراءة» هي إحدى الثنائيات المتعارضة التي روج لها البنيويون. وقد تطوَّر المفهوم على يد أنصار ما بعد الحداثة (أنصار ما بعد البنيوية) . والقراءة في هذا السياق هي النص المغلق الذي ينطوي على معنى ثابت ولا يدعو لمشاركة القارئ في عملية إنتاج المعنى، فهو متمركز حول فكرة (صدى للوجوس، أي الكلمة المطلقة، فالقراءة صدى للتمركز حول اللوجوس) ، أي أن النص هنا قد أفلت من قبضة الصيرورة. هذا على عكس الكتابة، فهي منظومة من القوائم التي تنطوي عليها تفاعلات نصية منفتحة دائماً على التفسير، فهي حمَّالة لمعان لا تكف عن التولد، وعلى نحو يؤكد إسهام القارئ في إنتاج الدلالة، فالنص المكتوب نص يدخل عالم التناص والصيرورة.
وقد قال إدمون جابيس إن الشاعر هو رجل الكلمة والكتابة تماماً، مثل اليهودي، فكلاهما يحلم حلماً منفصلاً عن الواقع، حلم العودة إلى صهيون وحلم كتابة أجمل قصيدة، فالحلم المنفصل عن الواقع يشبه لعب الدوال حين لا تشير الدوال إلى شيء خارجها. وكل من الشاعر واليهودي لا يضرب بجذوره في أي موقف ثابت أو أرض محددة أو وطن دائم، فهم دائماً ليسوا هنا وإنما هناك، على وشك التحقق ولا يتحققون. ووطن الشاعر واليهودي ليس الأرض وإنما الكلمة (ديوان الشاعر وكتاب اليهودي المقدَّس) . لكن النصوص التي ينتجها اليهودي والشاعر هي نصوص مفتوحة، شكل من أشكال الكلام المنفيّ، كلام ليس له معنى نهائي، فالقصيدة تقع في قبضة الاخترجلاف الدائم والنص المقدَّس يقع في قبضة التفسيرات التي لا تنتهي. وكما أن الشاعر يخلق وطنه من خلال الكتابة، فإن اليهودي يفعل الشيء نفسه، فهو يفرض على النص المقدَّس تفسيرات مستمرة هي وطنه. والكلمات هي التي تختار الشاعر ولكنه هو الذي يلدها، والإله هو الذي اختار اليهود ولكنه لا يكتمل ولا يجمع شتات ذاته إلا من خلال اليهود. فصعوبة أن يكون الإنسان يهودياً هي نفسها صعوبة الكتابة (على حد قول دريدا) .(15/193)
الكتابة الكبرى أو الأصلية
Archi-Ecriture; Proto-Writing
«الكتابة الكبرى» أو «الكتابة الأصلية» أو «الكتابة بشكل عام» ترجمة لمصطلح ابتكره دريدا، وهو «آرشي إكرتيير archi-ecriture» ، وهي كلمة فرنسية مركبة تُرجمت إلى الإنجليزية بلفظة «بروتو رايتنج proto writing» بمعنى «الكتابة الأصلية أو الأولية» ، و «أوريجينال تكست original text» بمعنى «النص الأصلي» . كما أن كلمة «ecriture» الفرنسية تعني أحياناً «سكريبتشر scripture» أي «النص المقدَّس» . وكل هذا الإسهال اللفظي مرتبط بإحدى الثنائيات التي يود دريدا محوها، وهي ثنائية المنطوق المكتوب وأسبقية الأول على الثاني، أي أسبقية الفكر على اللغة ومن ثم إفلاته من قبضة الصيرورة والاخترجلاف. ولكن لابد من أن تُقلَب الأمور رأساً على عقب حتى يمكن «إثبات» أسبقية اللغة على الفكر، وحتى يقع كل شيء في قبضة الاخترجلاف والصيرورة والحركة الدائمة. ولذا، يقرِّر دريدا أن الكلام المنطوق إن هو إلا صدى لنص أصلي أو أولي يوجد في عقل الإنسان قبل تقسيم الكلمة إلى دال ومدلول ويتجاوز القسمة المبتذلة إلى كلام وكتابة. وبذا، فإن الكلمة المنطوقة التي يتفوه بها الإنسان هي في واقع الأمر صدى لنص مكتوب أولي في عقله.
ولا يوجد أي دليل أو سند تاريخي لإثبات هذه النظرية، ولكن هناك رغبة أيديولوجية عند دريدا لإثباتها. وهذا يعود إلى أنه يحاول أن يزيح المتكلم الذي ينطق بالكلام، فهو عنصر إنساني واضح متعين له بنية وقصد ووعي، وهو يشير إلى واقع موضوعي يتحدث عنه. فالمتحدث كيان يصعب تفكيكه، فهو ذات تشير إلى موضوع، توجد فكرة في عقله ومن ثم فإن وجوده تأكيد للحضور والتمركز حول اللوجوس. أما مفهوم الكتابة الأصلية الموجودة في عقل الجميع، فهو يزيح المتحدث تماماً ومن ثم يُنهي وهم الحضور.(15/194)
ولا شك في أن أسطورة الكتابة الكبرى أو الأصلية هي محاولة من قبَل دريدا لأن يرفض الرؤية التوحيدية للخلق، أي أن الله خلق آدم وعَلَّمه الأسماء كلها (المعرفة ـ العقل ـ اللوجوس) ، وبث النور في صدره، نوراً معقولاً وليس محسوساً، وانطلاقاً من هذا نطق آدم وسمَّى الحيوانات والنباتات، فهي رؤية متمركزة حول اللوجوس. أما دريدا فيرى ضرورة أن يدفع بكل شيء في دوامة الصيرورة، فكل نص يحيلك إلى نص آخر وكل النصوص صدى لهذا النص الأصلي الذي لم ولن يقرأه أحد (يُذكِّرنا بتوراة الفيض الإشراقية الخفية في القبَّالاه اللوريانية المكتوبة بحبر أبيض لا يراه أحد سوى أصحاب الغنوص والعرفان) .
التمركز حول المنطوق
Phonocentric
«التمركز حول المنطوق» ترجمة لكلمة «فونوسنتريك phonocentric» من كلمة «فونو phono» بمعنى «صوت» و «سنتر centre» بمعنى «مركز» . وهي إحدى الإشكاليات الفلسفية التي يطرحها دريدا وهي مرتبطة تمام الارتباط بهجومه على الأفكار الكلية، وبفكرة الحقيقة والحضور، بمحاولة دفع كل شيء في قبضة الصيرورة.
ويرى دريدا أن الحضارة الغربية (بل الفكر الإنساني) متمركزة حول اللوجوس (مطلق ما متجاوز للتفاصيل الحسية المباشرة يقع خارج شبكة لعب الدوال) يمكن ترتيب الواقع في إطاره. يأخذ هذا الترتيب شكلاً هرمياً داخله ثنائيات متعارضة، وداخل الثنائية نفسها ثمة أسبقية أو أفضلية لأحد طرفيها. ويرى دريدا أن تراث الحضارة الغربية الفكري يقوم على ثنائية المنطوق/المكتوب، وأن المنطوق له أولوية وأسبقية على المكتوب، أي أن اللغة المنطوقة في مرتبة أعلى من اللغة المكتوبة بحيث يمكن اعتبار اللغة المكتوبة تابعة للغة المنطوقة.(15/195)
وقد تبدو هذه الإشكالية وكأنها إشكالية أكاديمية خاصة بعلماء اللغة يمكنهم وحدهم النقاش بشأنها. ولكننا سنجد أن الأمر أبعد ما يكون عن ذلك، فهو مرتبط تمام الارتباط برغبة دريدا في إنكار أية أصول متجاوزة وأي ثبات وأية كليات وذلك حتى تسود الصيرورة الكاملة والحسية والجزئية. فالكلام المنطوق يَصدُر عن جسد حي وعقل مفكر بشكل مباشر وذات مستقلة حرة وشخص ممسك بدلالة الكلمات يتحدث إليك مباشرةً، فإن لم تفهم ما يقوله فأنت تطلب منه إيضاحاً فيجيبك، وبوسعه أن يُعدِّل ما يقول أو يتحفظ عليه، فهناك معنى داخله لم يتم الإفصاح عنه. والكلام المنطوق يفترض أن فحوى الكلمات موجود بشكل مباشر في وعي الناطق، وهو ما يعني أن كلماته (دواله) تربطها علاقة مباشرة وذات مغزى بالمدلول. هذا يعني أن المعنى له أسبقية على الكلام، وأنه منفصل عن النظام الدلالي، وأنه قد هرب من الصيرورة المتمثلة في رقص الدوال، واللغة إن هي إلا أداة (المعنى في بطن الشاعر قبل أن يتحول إلى قصيدة) . والشخص الحي الناطق بالكلمات هنا هو الوسيط بين المعنى الذي في عقله واللغة التي ينطقها.
إن الكلام المنطوق تنطق به ذات إنسانية متماسكة تتحدث عن أفكار مستقرة في الذهن، فكأن هناك ذاتاً مستقرة وموضوعاً مستقراً. والمنطوق، بذلك، يشير إلى الأصل (الحضور واللوجوس) بشكل مباشر وبدون وساطة، فهو أقرب إليه وهو أكثر قرباً من نقطة الحضور من المكتوب وأكثر شفافية.(15/196)
هذا على عكس الكلام المكتوب، فكاتبه غائب بعيد لا يتفاعل مع المتلقين بشكل مباشر، والنص المكتوب يُفترض فيه أنه تعبير غير مباشر يصل إلى المتلقي من خلال القلم والمطبعة والأوراق. فإذا لم يفهم المتلقي ما جاء فيه، فلا يمكنه الاستفسار عن معناه من الكاتب، فالنص المكتوب منفصل عن كاتبه، كُتب على الورق وأصبح نصاً يمكن تداوله وإعادة طبعه وتفسيره، ويمكن استخدامه بطرق لا يمكن أن تطرأ للإنسان الذي كتبه على بال. وبهذا، فإن المكتوب لا يشير إلى الحضور وإنما يعبر عنه وحسب، فهو منفصل عنه. الكتابة، بهذا، تسرق من الإنسان وجوده، فهي طريقة ثانوية للاتصال أكثر بعداً عن اللوجوس، ولذا فإن التراث الغربي (وأي نظام متمركز حول اللوجوس) يفضل المنطوق على المكتوب. وأي تفضيل للمنطوق على المكتوب هو تعبير عن التمركز حول اللوجوس وعن الميتافيزيقا المتعالية المرتبطة بذلك.
وليس هناك أدلة تاريخية تؤيد ادعاء دريدا عن تمركُز الحضارة الغربية حول المنطوق، فهي شأنها شأن معظم الحضارات الأخرى تُعطي مكانة أعلى لما يُسمَّى في علم الأنثروبولوجيا «التراث السامي» أو «التراث الراقي» أو «التراث الأعلى» (بالإنجليزية: هاي تراديشان high tradition) وهو التراث المكتوب للأرستقراطية، مقابل «التراث الأدنى» أو «التراث الشعبي» (بالإنجليزية: لوتراديشن low tradition) وهو التراث الشعبي الشفهي. كما أن معظم الحضارات الكبرى تدور حول نصوص مقدسة مكتوبة، يحاول البشر توليد معان منها يمكنهم من خلالها ضبط ممارساتهم اليومية وتقييمها. والحضارة الغربية أصبحت تدور، بعد سقوط الوثنية الرومانية على وجه خاص، حول العهدين القديم والجديد (الكتاب المقدَّس) . فهم أهل كتاب (حسب التعبير الإسلامي) .(15/197)
ولذا، فيجب أن نرى هجوم دريدا على المنطوق وتأكيد أسبقية المكتوب باعتباره جزءاً من ترسانته الفكرية التي يطوِّرها للهجوم على اللوجوس باعتباره أساساً فلسفياً وباعتباره مركزاً ومصدراً للمعقولية والمعيارية والثبات، هو هجوم على ما يسميه «المدلول المتجاوز» (الإله ـ الكل المتجاوز) الذي يمكن أن يوقف لعب الدوال والذي يدركه الإنسان مباشرةً من خلال تجربته الإنسانية المباشرة.
إن المنطوق هو صدى كلمة الإله المعقولة التي يدركها ويعقلها المرء مباشرةً من خلال تجربته الإنسانية المباشرة، واستناداً لإنسانيته المشتركة مع الآخرين، وهي ليست تجربة مادية محسوسة. والمنطوق من ثم هو صدى الحضور الإلهي أو الكلي في فؤاد الإنسان، فهو يشير إلى أصول الإنسان الربانية. وما يحل محل المنطوق ليس المكتوب، كما يدَّعي دريدا، فنحن نعرف أن المكتوب والمدوَّن أكثر ثباتاً وتركيباً من المنطوق. والحضارات المركبة - كما أسلفنا - تعتمد دائماً على نص مقدَّس مكتوب يتجاوز ذاكرة الأفراد وصيرورة حياتهم الفردية المتغيرة. وما يحل محل المنطوق هو ما يسميه دريدا «النص» ، والنص هو نص مكتوب فَقَد علاقته بكاتبه. ولذا فإنه، رغم ثباته، مجرد كلمات مثبتة على ورق (حبر على ورق) ومؤلفه قد «مات» وانفصل عن النص وأصبح مجرد علامات محسوسة على الصفحة يمكن أن يفعل بها الناقد ما يريد لأنها دخلت شبكة الدوال والصيرورة، فكل كلمة تشير إلى كلمة أخرى، وكل نص يشير إلى نص آخر، وهي عملية تستمر إلى ما لا نهاية إن لم يوقفها مدلول متجاوز. والهجوم هنا هو هجوم على عالم ما قبل اللغة، عالم الإيمان الذي يحتوي على المفاهيم الكلية، وهو هجوم على أي نص (مكتوباً كان أم منطوقاً) ما دام متمركزاً حول اللوجوس والأصل والمبدأ، وعلى ما يقترن به من مفهوم الغائية والعلم. ويمكن هنا، أن نتحدث عن موت النص أو تقسيمه أو فقدانه حدوده وهويته. وهنا يصبح الثابت متحولاً والكل جزئياً والمطلق(15/198)
نسبياً. وبدلاً من المؤلف يظهر صاحب الإرادة، وبدلاً من النص الذي ينقل للقارئ معنى كامناً في عقل المؤلف يظهر المفسر الذي يستولي على النص ليولد منه ما يشاء من معان.
وهذا، في واقع الأمر، صدى لثنائية الشريعة المكتوبة والشريعة الشفهية في العقيدة اليهودية. فالشريعة المكتوبة هي التوراة التي أرسلها الإله، كلامها واضح وبإمكان من يود أن يفهمها أن يفعل، وأن يفسرها دون أن يخل بمعناها، ويمكن الاحتكام لها. ومن هنا، طوَّر الحاخامات فكرة الشريعة الشفوية ومفادها أنه حينما أعطى الإله الشريعة المكتوبة لموسى فوق سيناء، أعطاه أيضاً الشريعة الشفهية (المنطوقة) التي يتوارثها الحاخامات، وتفسيرات الحاخامات هي هذه الشريعة الشفهية. وهي تفسيرات لا تنتهي عبر الأجيال، فهي حالة صيرورة تستبعد الإله وتميت النص فيفرض الحاخام/المفسر إرادته على النص، حتى أن التفسير (التلمود) أصبح يَجُّب الأصل (التوراة) وحلت إرادة المفسر (الحاخام) محل إرادة المؤلف (الإله) . وقد تدهور الأمر مع التراث القبَّالي (الذي تأثر به كثير من أنصار ما بعد الحداثة) إذ أصبح هناك التصور القائل بأن التوراة المكتوبة المتداولة غير التوراة الباطنية التي لا يراها إلا المفسر القبَّالي، ومن هنا يكون الفرق بين توارة الخلق وتوراة الفيض. ورغم أن التفسيرات الحاخامية يُطلَق عليها تعبير «شريعة شفهية» ، إلا أنها تعادل في واقع الأمر ما يسميه دريدا «النص» (المكتوب) ، أي الكلام الذي دخل عالم الصيرورة ولعب الدوال وانفصل عن مؤلفه وتعدَّى حدوده وأصبح خاضعاً لإرادة الحاخام/المفسِّر. أما التوراة المكتوبة فهي المنطوق المتمركز حول اللوجوس، وهي ما يُشار إليه بكلمة «العمل» الذي له حدود واضحة.(15/199)
القضية، إذن، ليست قضية المنطوق مقابل المكتوب، بل هي قضية المرجعية واللامرجعية، والمكتوب هنا تعني ما لا حدود ولا مرجعية له! كما تعني تأكيد أن الإشارة تسبق المعنى وأن اللغة تسبق الواقع (وأن المادة تسبق الوعي وأن القوة تسبق الحقيقة وأن الحاخام والشعب اليهودي يسبقان الإله، وأن المسألة مسألة إرادة القوة والمفسر/الحاخام) وأن كل شيء في قبضة صيرورة عمياء.
العمل والنص
Work and Text
يطلق أنصار ما بعد الحداثة على النص الذي له حدود ومعنى ومركز كلمة «عمل» (بالإنجليزية: ويرك work) ، مقابل النص الذي لا حدود له ولا مركز. والعمل، في تصوُّرهم، يتسم بأنه متماسك ويشير إلى صانعه الأول وينطوي على معنى الغائية، وهو بهذا قد أفلت من قبضة الصيرورة وحقَّق ثباتاً وتماسكاً ومن ثم تجاوزاً.
وقد تصاعدت النسبية المعرفية، فازداد إحساس الفنان بتفرده وغربته وبعدم اكتراث المتلقين وبَذَل جهوداً غير عادية لكي يخلق مسافة بين العمل الفني والواقع المتشيئ، ولذا يبدأ النص في الاستقلال عن الواقع ويزداد الكاتب إحساساً بذاتيته. ولذا، نجد أن معاني النصوص تختلط بل يرسل كل نص أكثر من رسالة، كما أن كل نص يحاول أن يرسل رسالة فريدة فيتخذ أشكالاً فريدة ويتزايد التجريب. ورغم كل هذا، فإن ثمة محاولة مأساوية ملهاوية عبثية لإرسال رسالة ذات معنى.
والناقد، هو الآخر، يزداد انغلاقاً على نفسه فينظر إلى النص مباشرةً ويعزله عن الواقع وعن المؤلف ويلتهمه، ولذا فإنه لا تهمه الخلفية التاريخية أو النفسية ولا يهمه قصد المؤلف أو وعيه. ومع هذا، تستمر محاولة الناقد في التفسير والاجتهاد والوصول إلى الأبعاد الإنسانية الكامنة في العمل الفني التي قد تساعد الإنسان على تجاوز واقعه رغم استحالة التجاوز.(15/200)
وفي عصر ما بعد الحداثة (وما بعد البنيوية) تتغيَّر الصورة تماماً إذ تَسقُط الكليات والثوابت، وكل شيء، وضمن ذلك النص، في عالم الصيرورة الذي لا مركز له، والنص نفسه يشبه دوامة الصيرورة. فالنص متعدد المعاني بشكل مطلق لأنه يستحيل الاتفاق على معنى أو معيار متجاوز. ولذا، فإن هناك معاني بعدد القراء، فهي مجرد مجال عشوائي للعب الدوال ورقصها والشفرات المتداخلة، فهي معان لا يربطها مركز واحد وليست مستقرة، إلى أن يتبدَّد المعنى ويصبح البحث عنه نوعاً من العبث النقدي. ويؤدي هذا إلى حالة من السيولة وإلى اختفاء الحقيقة وتَعدُّد المعاني.
وتذهب سوزان هاندلمان إلى أن التعددية عند دريدا هي محاولة لنقل الشرك إلى عالم الكتابة، وإنكار إمكانية التجاوز. بحيث يحل تعدد المعنى محل تعدد الآلهة، وتصبح تعددية المعنى إنكاراً للمعنى وإنكاراً للتواصل بين البشر، أي أن تعددية المعنى هي في واقع الأمر إنكار لمقدرة الإنسان على التجاوز وإنكار لظاهرة الإنسان نفسها.
وكلما ازدادت تعددية النص، تعذَّر بل استحال الوصول إلى «أصل» ، سواء أكان صوت المؤلف أم مضموناً يحاكي الواقع أم حقيقة فلسفية. وإن كانت هناك حقيقة ما، فهي في داخل النص وليست خارجه، ولا يوجد شيء خارج النص. ولكن، إذا كان لا يوجد خارج للنص فلا داخل له أيضاً، فليس هناك مضمون محدد (وهذا تعبير عن محاولة أنصار ما بعد الحداثة لإلغاء الثنائية: ثنائية الداخل والخارج) . والنص، في هذا، مثل المجتمع الاستهلاكي، فنحن ننتج لنستهلك ونستهلك لننتج، ولا يوجد شيء خارج حلقة الإنتاج والاستهلاك ولا يوجد شيء داخلها أيضاً، فهي لا تؤدي إلى تَحقُّق إمكانيات الإنسان وإنما تؤدي إلى مزيد من الاستهلاك.(15/201)
لا يوجد شيء أكيد في النص سوى الحيز والفراغات بين الحروف المكتوبة بالحبر، فالنص أسود على أبيض (بالإنجليزية: بلاك أون بلانك black on blank) ؛ مجرد حبر على ورق؛ شيء محسوس مادي؛ علامات بين إشارات صماء بينها فراغات صماء لا تشير إلى شيء خارج نفسها ولكنها لا حدود لها. فلعب الدلالات لا نهاية له ولا يتوقف إلا بشكل عشوائي وعرضي، عند هامش الصفحة وفي نهايتها مثلاً.
وعبارة «حبر على ورق» تحمل كل تضمينات السطحية كما هو في العبارة العربية، مع فارق أن ما بعد الحداثي يقبل هذا كحقيقة إيجابية إذ يرى فيها حرية وأيما حرية.
والاخترجلاف هو العنصر الأساسي داخل النص، أما التناص فهو العنصر الأساسي خارجه، فالمعنى داخل النص يَسقُط في شبكة الصيرورة من خلال الاخترجلاف، ويسقط النص ككل في الصيرورة من خلال التناص. فالتناص هو الاخترجلاف على مستوى النصوص. فكل نص يقف بين نصين، واحد قبله وواحد بعده، وهو يفقد حدوده في ما قبله وفي ما بعده، وفي كل النصوص الأخرى التي تركت آثارها على النصوص التي تسبقها وعلى النصوص التي تأتي بعدها، فكل نص هو أثر أو صدى لكل النصوص الأخرى حتى يفقد النص هويته ويصبح مجرد وقع. والنص يفيض ويلتحم بالنصوص الأخرى (تماماً كما تفيض اللغة داخل النص بفائض في المعنى لا يُستوعَب داخل حدود النص نفسه، تماماً مثل الذات التي تفقد تماسكها فتلتحم بالذوات الأخرى) . كل هذا يعني أن النص يوجد في كل النصوص الأخرى من خلال آثاره التي يتركها ولكنه لا يوجد بشكل كامل في أي مكان، فهو حاضر غائب دائماً، إن حالة التناص هذه حالة سيولة رحمية.(15/202)
والتناص يعني تضاؤل قيمة النص المعرفية أو الأخلاقية. وإذا كان المجاز لا يشير إلى الحقيقة وإنما يخبئها، وإذا كانت الصورة المجازية لا تتسم بالشفافية مثلما أن اللغة ليست وسيلة أو شكلاً وإنما غاية ومضمون، فهذا يعني أن الصور المجازية تصبح مفاهيم والمفاهيم تصبح صوراً مجازية وتصبح النصوص مجموعة من الحيل البلاغية، وبذا تتحول كل النصوص (فلسفية أو إخبارية) إلى نصوص أدبية، أي أن التناص لا يؤدي إلى تداخل كل النصوص الأدبية وحسب وإنما إلى تداخل كل النصوص من كل الأنواع.
ومع اختفاء حدود النص وتعدديته، ومع تزايد انفتاحه، زادت إمكانية التفسيرات. وقد عُرِّف النص ما بعد الحداثي بأنه «آلة لتوليد التفسيرات» أي «تكأة» أو «مناسبة» أو «حيز» يمارس فيه الناقد إرادته. والناقد هو القارئ القوي الذي يعيد إنتاج النص ويعمل على تخليقه حسب المواصفات التي يراها.
والقراءة هي أحد الجيوب الأخيرة التي لم تحتلها الحضارة الاستهلاكية بعد. ومن هنا الإصرار على الحرية الكاملة في القراءة وعلى لذة القراءة باعتبارها لذة جنسية؛ ممارسة كاملة للصيرورة دون وسائط ودون قيود، وإحساساً كاملاً بالإرادة (فالناقد هو سوبرمان نيتشه) . فهو الذي يفرض المعنى، ولذا فهو حر تماماً، حتى في أن ينحت لغة خاصة به. وما يسيطر هنا هو نموذج صراعي، فاللغة تصارع ضد من يستخدمها وتهزمه، وبدلاً من أن تكون أداة للتعبير تصبح عائقاً. والناقد يضطر إلى قتل الأديب والنص ليفرض معناه. والناقد هنا يشبه تماماً الحاخام المفسر في المنظومة القبَّالية الذي يفرض أي معنى يشاء على التوراة، وذلك من خلال الجماتريا وأشكال التفسير الأخرى. وإرادة الحاخام هي أثر يجري فرضه على التوراة، والتفسير الذي يطرحه هو قراءة تَجبُّ النص الإلهي وتحل محله، ومن ثم حلَّ التلمود (وهو كتاب تفسير التوراة) محل التوراة نفسها.(15/203)
والنص، كما أسلفنا، مجرد فراغ تلعب داخله الدلالات، ويمكن للناقد أن ينزلق فيه كما يشاء، ويمارس أقصى حرية يمكن أن يتمتع بها الإنسان في عصر ما بعد الحداثة، وهي لذة التفكيك التي يبيِّن من خلالها أن النص يقول ما لا يعني، ويعني ما لا يقول، حتى نصل إلى الهوة (أبوريا) : الطريق المسدود والتناقضات التي لا يمكن أن تُحسَم. والأبوريا هي الحقيقة الوحيدة التي يمكن الوصول إليها. ولكن إذا كانت الحقيقة الوحيدة هي الهاوية، فإن مهمة الناقد هي أن يفتح النص المنغلق على الهوة، وهو انغلاق وهمي على أية حال، وهي هوة للمعاني المختلفة المرجأة التي تقودنا إلى نقطة تليها تحتوي على معان أخرى مختلفة مرجأة أيضاً، وهكذا نظن أننا سنصل إليها ولكننا لا نصل إليها أبداً.
ولكن حتى الناقد نفسه أسير النص اللغوي وشبكة الدلالات، ولذا فهو حينما يتحدث فإنه يتحدث لنفسه عن نفسه، ذلك لأن الكلمات لا تقول ما يعنيه هو وإنما ما تعنيه هي، فكلماته واقعة في شبكة الصيرورة ولعب الدلالات، ولذا فكل قراءة هي إساءة قراءة (بالإنجليزية: ميس ريدنج misreading) . وهذه هي القراءة الوحيدة الممكنة. فاللغة لا توصِّل، وكلنا واقعون في شبكة الصيرورة، لا نملك التواصل ولا نستطيع إلا اللعب وإساءة القراءة وسوء التفسير.(15/204)
وأفضل النصوص هي النصوص المكتوبة (لا المنطوقة) ، فالنص المكتوب ينفصل عن مبدعه ولذا لا يمكن إغلاقه، ويستطيع الناقد أن يتلقاه ويفرض إرادته عليه ويقوم بربط بعض أجزائه التي لم يقم المؤلف نفسه بالربط بينها (أي أن القارئ يصبح هو الكاتب) . وهو يرى علامات غير مقصودة وأصداء وآثاراً للنصوص الأخرى. فالقراءة تعكس ذات القارئ وتستبعد ذات الكاتب (مرة أخرى، الصراع بين الإله/الكاتب والحاخام/القارئ المفسر) . ومن هنا تفضيلهم المكتوب على المنطوق، والنصوص ذات الخصائص الكتابية (الحركية المنفتحة التي ترقص فيها الدوال والتي لا مركز لها ولا أساس) على النصوص ذات الخصائص القرائية (الساكنة الجامدة ذات الهيكل الثابت من القيم التي تخطاها الزمن، أي التي أفلتت من قبضة الصيرورة والتي يرتبط فيها الدال بالمدلول) .
كل هذا يعني، في واقع الأمر، موت المؤلف ثم موت القارئ، وأخيراً موت النص ليقع جثة هامدة أو حيواناً أعجم أو امرأة لعوباً في يد الناقد. وكل هذا يعني أن هذه المرأة اللعوب ستقود الناقد (آخر ممثلي الوعي الإنساني واحتمال التفسير) في هوة الصيرورة!(15/205)
ولقد أعطانا دريدا مثلاً للنص ما بعد الحداثي المثالي، وهو عبارة كتبها نيتشه مكوَّنة من كلمتين «نسيت مظلتي» . هذا نص منفتح تماماً، فليس له سياق تاريخي، فقد فُقد مثل هذا السياق للأبد ولا نعرف قصد المؤلف، ولا يمكن تحديد استجابة القارئ له. ولأن المؤلف نفسه قد مات، فإنه لن يشرح لنا المناسبة ولا القصد، ولذا فإن النص متحرِّر من القصد ومن الكلام الشفوي، فهو نص مكتوب. ويرفض دريدا كذلك أن تُقرَأ العبارة قراءة فرويدية (فالمظلة وهي مغلقة يمكن أن تكون القضيب وإن فتحت يمكن أن تكون عضو التأنيث، والنسيان هو عملية الإخصاء، وفتح المظلة هو عملية الاقتحام الجنسي ... إلخ) . ولكن دريدا يرفض التفسير الفرويدي لا لأنه تَعسُّف وتأويل مُبتسَر، بل لأن هذا يعني فرض معنى ما على النص؛ فهذا النص بالنسبة له نص بريء تماماً لا حدود له؛ إشارة بلا شيء يُشار إليه؛ دال بلا مدلول؛ كلمات بلا قصد؛ جُمَل بلا وعي؛ ظاهر أو باطن بلا أصل (رباني) . هذا هو لعب الدلالات الحقيقي فهي دلالات تستعصي على كل تفسير، ولذا ستظل بلا معنى تستفز المفسر وتثير أعصابه.
وقد يمكن أن نقول إن العبارة لا يزيد معناها ولا ينقص عن أية جملة أخرى، ولكن العبارة لا يمكن أن تتركنا وشأننا، فلعب الدوال سيغوينا لنقوم بعملية التفسير، ونحن لا نملك أي تفسير، أي أننا نحن أنفسنا نسقط في الهوة، وهي المنطقة بين الذات والموضوع التي لا هي بالذات ولا بالموضوع ولا هي بالحقيقي ولا بالزائف؛ عالم صيرورة حيث لا حدود ولا هوية وإنما سيولة نصوصية مريحة تشبه الرحم قبل الميلاد والنضج وتشبه آدم وهو بعد طين لم ينفخ الله فيه من روحه ولم يعلمه الأسماء كلها.(15/206)
وثمة تَبادُل اختياري بين اليهودية الحاخامية ووضع اليهود من جهة وفكرة النص ما بعد الحداثي من جهة أخرى. فاليهودية الحاخامية تفرض تفسيراً على النص المقدَّس فيتناصّ النص المقدَّس مع النصوص التفسيرية، ثم تتناصّ التفسيرات نفسها ولا تنتهي هذه العملية. واليهودي المتجول المغترب ليس له مضمون محدد، فهناك اليهودي الأرثوذكسي واليهودي الملحد. وقد عُرِّف اليهودي بأنه «من يراه الآخرون كذلك» كما عُرِّف بأنه «من يشعر في قرارة نفسه بذلك» . فتعددية التعريفات تعني أنه لا يوجد يهودي، فاليهودي مثل النص ما بعد الحداثي، ولذا يُسأل في الدولة اليهودية: من اليهودي؟ هو كل شيء ولا شيء، بسبب التعددية المفرطة.
ويرى جابيس أن أهم نقطة في اليهودية هي النقطة التي حطم فيها موسى الوصايا العشر ولم يكن قد تَلقَّى النسخة الجديدة بعد. هذه اللحظة أهم اللحظات، فهي لحظة حضور/غياب، شريعة غائبة/ موجودة. ويرى جابيس أن النص اليهودي (التفسيرات الحاخامية) نشأ في الشقوق التي نتجت عن تحطيم الوصايا العشر، فهو كالأعشاب والطحالب التي تقتل النباتات.
جيرشوم شوليم (1897 – 1982 (
Jershom Scholem(15/207)
مؤرخ يهودي صهيوني من أصل ألماني، تَخصَّص في دراسة القبَّالاه وفك رموزها حتى ارتبط اسمه بها تماماً. وُلد شوليم في ألمانيا لأسرة يهودية مندمجة وقد تمرَّد على هذه الثقافة الاندماجية واتجه نحو حركات الشباب الصهيونية تحت تأثير مارتن بوبر. ولكنه اختلف معه أثناء الحرب العالمية الأولى إذ يبدو أن بوبر أيَّد الحرب، ولكن شوليم تبنَّى موقف جماعة داعية للسلام رافضة للحرب برئاسة جوستاف لانداور. ولكن موقف شوليم كان لا ينبع من أي حب للسلام أو أي عداء للحرب وإنما من موقف انعزالي يرى أن اليهود أمة عضوية لا علاقة لها بأوربا أو بحروبها وأن عليهم أن يهاجروا إلى فلسطين لتأسيس دولة صهيونية، أي أن الخلاف بينه وبين بوبر لم يكن جوهرياً إذ أن بوبر كان هو الآخر من دعاة القومية اليهودية العضوية (أي الصهيونية (.
وقد درس شوليم الفلسفة والرياضيات في بادئ الأمر. ولكنه قرَّر أن يتخصص في القبَّالاه فتَعلَّم قراءة النصوص العبرية وكتب رسالة عن كتاب الباهير نال عنها درجة الدكتوراه من جامعة ميونيخ عام 1922. وفي العام التالي، هاجر شوليم إلى فلسطين حيث عُيِّن في الجامعة العبرية محاضراً في التصوف اليهودي ثم أستاذاً وظل فيها إلى أن تقاعد عام 1965 بعد أن جعل القبَّالاه موضوعاً أساسياً للدراسة ومكوناً أساسياً في تفكير كثير من المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية (مثل وولتر بنجامين وهارولد بلوم (.(15/208)
كان كثير من المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية، انطلاقاً من مُثُل عصر الاستنارة، يذهبون إلى أن اليهودية عقيدة عقلانية تزود الإنسان بقوانين عامة لا علاقة لها بالعواطف المشبوبة أو الشطحات الصوفية. ولكن شوليم وقف على الطرف النقيض منهم (فهو من دعاة العداء للاستنارة) إذ ذهب إلى أن الغنوصية هي الجوهر الحقيقي لليهودية وأن الصوفية (القبَّالاه) هي القوة الحيوية الحقيقية في تاريخ اليهودية واليهود وأنه لولاها لتجمدت الفلسفة اليهودية وتيبست الشريعة.
ويذهب شوليم (متبعاً الإيقاع الثلاثي الهيجلي) إلى أن كل الأديان تمر بثلاث مراحل تاريخية: المرحلة الأسطورية حيث يكون الإنسان في علاقة مباشرة مع الإله (مرحلة الواحدية الكونية الوثنية في مصطلحنا) ، ثم المرحلة الفلسفية والقانونية حيث يتم إعطاء الوحي إطاراً مؤسسياً دينياً ويتم تفسير النص المقدَّس وأداء الشعائر من خلال المؤسسات الدينية. ثم تظهر أخيراً المرحلة التصوفية حيث يحاول الإنسان المؤمن أن يستعيد العلاقة المباشرة التي تسم علاقة الخالق بالمخلوق في المرحلة الأولى، بعد أن تجمدت وتيبست نتيجة المرحلة الثانية.
ومن الواضح أن شوليم يرى أن جوهر التاريخ هو الأسطورة، فهو يبدأ بالأسطورة ثم يعطيها إطاراً مؤسسياً ثم يحاول العودة إليها (أي أن تاريخ الدين هو تاريخ الحلولية الواحدية الكونية ومحاولة العودة إليها (.
ويذهب جيرشوم شوليم إلى أن القبَّالاه إن هي إلا نظام فكري غنوصي وتعبير عن القوى المظلمة الخفية، وأن المتصوفة اليهود توصلوا إلى شكل من أشكال الغنوص متلبساً لباساً توحيدياً، وأن هذه الطبقة الغنوصية ظلت قائمة في أطراف التراث وانتقلت من بابل إلى جنوب فرنسا (عبر إيطاليا وألمانيا) حيث ظهرت بشكل مبدئي في كتاب الباهير ثم بدأت الموضوعات الغنوصية في التبلور وعبَّرت عن نفسها في القبَّالاه والحركات الشبتانية ثم هيمنت تماماً على اليهودية.(15/209)
ولكن كيف تمكنت القوى الغنوصية المظلمة الخفية من إنجاز ذلك؟ يرى شوليم أن الشبتانية كانت هناك دائماً داخل المنظومة الحاخامية، لكن المنظومة الحاخامية كانت تنطلق منذ البداية من الإيمان بالشريعة الشفوية التي تذهب إلى أنه لا يوجد نص ثابت وأن الوحي يضم النص وتفسيره وأن التفسير جزء من النص المقدَّس ويحل محله (ومن ثم بدأ يظهر نص مفتوح لا حدود له) ، فالتفسيرات متغيرة لا حدود لها وفَتْح النص هو فَتْح الباب على مصراعيه للنسبية والعدمية. وبدأت الهرطقات تدخل عالم التفسير، كما بدأت المراكز تتعدد داخل المنظومة الحاخامية. وبالتدريج، تزايدت الهرطقات وأخذت شكل القبَّالاه. ولكن القبَّالاه لم تكن غريبة تماماً عن التراث، فالقبَّالاه تعني التقاليد (رغم أنها تقاليد مضادة) . وهكذا هيمنت القبَّالاه على اليهودية وأصبحت الهرطقة هي المعيار وأصبح الغنوص هو التوحيد!
ويذهب شوليم إلى أن هذه الحركات هي التي هزت اليهودية الحاخامية من جذورها وأنها بذلك هي الحدود الفارقة بين العصور الوسطى والعصر الحديث وأنها إرهاص لظهور العلمانية. ولم يكن فكر حركة الاستنارة والحسيدية سوى ردود أفعال للحركة الشبتانية ومن ثم فإن ظهور اليهودية الحديثة كان نتيجة حدوث كارثة داخل التقاليد اليهودية الدينية ولم يكن مجرد نتيجة لقوى خارجية.
ويرى شوليم أن الدوافع الأسطورية والصوفية في القبَّالاه هي القوى الخفية لليهودية في القرن العشرين وأن الصهيونية أخذت طاقتها من هذه القوى الخفية ولكنها قد تنتهي بكارثة مثل الحركات الشبتانية إن فشلت في تحييد القوى العدمية. وفي محاولته وضع موقفه موضع التنفيذ، انضم شوليم لجماعة بريت شالوم كما هاجم شبتانية جماعة جوش إيمونيم، فكأن شوليم يُظهر حماسه للشبتانية في الماضي كقوة بعْث وحياة ولكنه يرفض القوى نفسها في الواقع التاريخي المعاصر.(15/210)
ويرى البعض أن حماس شوليم للحركة الصهيونية تعبير عن أزمة بعض المثقفين العلمانيين من أصل يهودي الذين نشأوا في بيئة اندماجية وفقدوا الإيمان الديني ولكنهم مع هذا يرفضون فكرة الاندماج وفقدان الهوية ومن ثم يحاولون الاستيلاء على اليهودية ورموزها، فهي شخصيات علمانية فقدت انتماءها الديني اليهودي وتحن له في الوقت نفسه فتظهر اليهودية الإلحادية أو الإثنية التي ليس لها مضمون ديني توحيدي. وهذا ما فعله شوليم مع الغنوص اليهودي، فقد بيَّن أن الغنوص (التاريخ المضاد المظلم) هو التاريخ العقلي وجوهر اليهودية وبذلك تتحول الهرطقة إلى الشريعة.
والصهيونية هي في جوهرها المحاولة نفسها. فالصهاينة يودون الانسلاخ من يهودية المنفى ولكنهم يودون الحفاظ على هوية قومية عضوية (على الطريقة الغربية الألمانية) فنظروا للتاريخ اليهودي وقرروا عدم قبوله في كليته، وبدلاً من ذلك عادوا للمرحلة العبرانية، أي قبل ظهور الأنبياء وظهور اليهودية حيث كان اليهود لا يزالون عبرانيين وشعباً وثنياً لم تُضعف القيم الأخلاقية التوحيدية إرادته بعد. ونادى الصهاينة بأن هذا هو التاريخ اليهودي الحقيقي وأن وثنية مرحلة ما قبل الأنبياء هي اليهودية الحقيقية، وأسست الحركة الصهيونية دولة تبعث هذا التاريخ المضاد. وهكذا تتحول الهرطقة إلى الشريعة في شكل دولة تزعم أنها ليست دولة بعض اليهود وحسب أو حتى كل اليهود وإنما دولة يهودية!
من أهم مؤلفات شوليم الاتجاهات الأساسية في التصوف اليهودي (1961) حيث يبيِّن أن كتاب الزوهار لم يُكتَب في العصور القديمة (كما كان هو نفسه يظن) وإنما كُتب في القرن الثالث عشر. ومن مؤلفاته الأخرى الفكرة المشيحانية في اليهودية ومقالات أخرى (1971) . كما كتب شوليم سيرته الذاتية بعنوان من برلين إلى القدس (1981 (.
جاك دريدا (1930 (-
Jacques Derrida(15/211)
فيلسوف فرنسي، يهودي من أصل سفاردي، تُعَدُّ منظومته الفلسفية (إن صحت تسميتها كذلك) قمة (أو هوة) السيولة الشاملة والمادية الجديدة واللاعقلانية المادية. وهو أهم فلاسفة التفكيكية وما بعد الحداثة. وُلد باسم جاكي في بلدة البيار (قرب الجزائر العاصمة) ، وترك الجزائر عام 1949 لأداء الخدمة العسكرية ولم يَعُد لها قط بعد ذلك (وهو يدَّعي في تصريحاته الصحفية أنه ترك الجزائر لأنه كان قد سئم الحياة في الجيب الاستيطاني) . كان دريدا قد عقد العزم أن يصبح لاعباً محترفاً في كرة القدم، لكنه لم يكمل مشروعه هذا. وكتب شيئاً من الشعر في صباه. ومع أنه فشل في امتحان البكالوريا في صيف 1947، إلا أنه أكمل دراسته الجامعية في السوربون وهارفارد. وقد اشترك في مظاهرات الطلبة عام 1967 ضد ديجول. وصدر كتابه الأول أصل الهندسة (عام 1962) وهو عن هوسرل، ولكن أول كتبه المهمة هو الكتابة والاختلاف (1967) . ويُقسِّم دريدا وقته بين باريس حيث يُدرِّس في معهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية (E. H. E. S. S.) والولايات المتحدة حيث يُدرِّس في جامعة ييل.
خرج دريدا من تحت عباءة نيتشه (الذي مات بمرض سري) ، وتأثر في الخمسينيات بوجودية سارتر وهايدجر (وتفكيكيته) ، وببنيوية ليفي شتراوس في الستينيات. كما تأثر بهيجلية جان هيبوليت، وبفرويدية جاك لاكان، وبالمفكر الديني اليهودي الفرنسي إيمانويل ليفيناس.(15/212)
تعرَّف دريدا إلى مُستوطن فرنسي آخر في الجزائر هو لويس ألتوسير (في دار المعلمين العليا) الذي كان له أكبر الأثر في دريدا. وألتوسير هو الفيلسوف الذي حاول أن «يُطهِّر» المنظومة الماركسية من أية آثار إنسانية غير مادية لتصبح علماً كاملاً يُسقط الذات الإنسانية وكل بقايا الميتافيزيقا (وقد قتل ألتوسير زوجته عام 1980 بأن خنقها ووُضع في مستشفى للأمراض العقلية للمجانين الخطرين) . كما تَعرَّف دريدا كذلك إلى ميشيل فوكوه، أهم استمرار لفلسفة القوة النيتشوية وأحد كبار فلاسفة التفكيك وما بعد الحداثة (وفوكوه شاذ جنسياً، سادي مازوكي، حاول الانتحار عدة مرات ومات بالأيدز عام 1981 (.
قامت أخت دريدا (حسب روايته) بحبسه وهو صبي في صندوق خشبي كبير على سطح المنزل حيث مكث هناك (حسب قوله) «الدهر كله» . وأثناء ذلك، تصوَّر أنه مات وذهب إلى عالم آخر. ثم أحس بأنه تم خصيه وأنه الإله أوزوريس الذي كان يُقتَل ويُمزَّق إرباً ثم يُعاد جَمْع أعضاء من جسمه (باستثناء قضيبه) (التبعثر والتشتت ومفردات الحلولية الواحدية اليهودية (.
ومن الواضح أن دريدا مهتم، منذ أن بدأ ينشر أعماله، بمشاكل الأصل والبنية والثنائيات وكيف تُختَم الأعمال وعلاقة كل هذه الأمور بالتاريخ والحقيقة والموضوعية العلمية والمعنى. وكان اهتمامه الأكبر هو نفي الميتافيزيقا باعتبارها شكلاً من أشكال الثبات لأن مثل هذا الثبات (من ثم) يشير إلى مفهوم الطبيعة البشرية، وهذا بدوره يشير إلى أصل الإنسان غير المادي (أي أصله الإلهي) الأمر الذي يؤدي إلى التجاوز وظهور المعنى (تيلوس) وأخيراً المطلق (لوجوس) . وكان دريدا يرى أن الحل الوحيد لهذا الوضع هو أن يسقط كل شيء في قبضة الصيرورة، بحيث لا يبقى أي أثر لأي ثبات أو تجاوز أو معنى ويهتز كل شيء ومن ضمن ذلك الإحساس بالعدم نفسه.(15/213)
ألقى دريدا بحثاً في مؤتمر عُقد في جامعة جونز هوبكنز عام 1966 لتوضيح الفلسفة البنيوية للجمهور الأمريكي. والمؤتمر هو نقطة ميلاد التفكيكية وما بعد الحداثة (وقد ظهر في العام نفسه كتاب سوران سونتاج ضد التفسير، أي أن التفكيك قد بدأ يتحول إلى ظاهرة عامة في الفكر الفلسفي الغربي) . وقد بيَّن دريدا أن البنيوية إن هي إلا حلقة في سلسلة طويلة من بنيويات مختلفة مستعدة لأن ترد ذاتها إلى نقطة حضور واحدة أو مركز أو أصل ثابت، لكن هدف هذا المركز ليس تحديد اتجاه البنية أو توازنها أو تنظيمها وإنما الهدف منه وضع حدود للعب البنية. فمركز البنية «يسمح بلعب عناصرها الأساسية، ولكن داخل الشكل الكلي الثابت الذي له مركز وله معنى، فهو لعب يصل إلى نقطة نهائية عند مدلول متجاوز» . ويقول دريدا: «وحتى اليوم، يُلاحَظ أن مفهوم بنية ليس لها أي مركز (أو أصل) هو أمر لا يمكن حتى التفكير فيه» . ودريدا كعادته لا يقول الصدق، فما يفعله هو أنه يأخذ جزءاً من الحقيقة ثم يضخمه ويجعل من هذا الجزء الحقيقة كلها. والحقيقة أن عالم السفسطائيين (الذين سبقوا دريدا بأكثر من ألفي سنة) هو عالم بلا مركز، عالم من الصيرورة الكاملة وعدم التواصل، وكذلك عالم القبَّالاه اللوريانية. وكثير من الحركات المشيحانية الشيوعية الحلولية فهي الأخرى تدور جميعاً في إطار عالم سائل تماماً لا مركز له. كما أن الإنجاز الفلسفي الأساسي لنيتشه هو أنه نبَّه الإنسان الغربي إلى أن اختفاء المركز حتمية فلسفية بعد موت الإله (أي في إطار الفلسفة المادية) . ومع هذا، يمكن القول بأن دريدا أول من جعل برنامجه الفلسفي يدور حول هذه الفكرة بشكل منهجي صارم.(15/214)
يرى دريدا أن ثمة بحثاً دائباً عند الإنسان عن أرض ثابتة يقف عليها خارج لعب الدوال الذي لا يمكن أن يتوقف إلا من خلال المدلول المتجاوز الرباني (الذي هو أيضاً «ميتافيزيقا الحضور» و «اللوجوس» و «الأصل» ) . وتاريخ الفلسفة الغربية هو البحث عن الأصل، سواء أكان دينياً أم مادياً، لنصل إلى قصة كبرى متمركزة حول اللوجوس وحول المنطوق، أي أن الفلسفة الغربية تتعامل دائماً مع الواقع من خلال نسق مغلق. بل إنه يرى أنه، في أكثر الفلسفات الغربية مادية ونسبية، يظل هناك إيمان ما بالكل المادي المتجاوز ذي المعنى (الحضور) ، واستناداً إلى هذا الحضور يتم تأسيس منظومات معرفية وأخلاقية وجمالية تتسم بشيء من الثبات وتفلت من قبضة الصيرورة، أي أن الخطاب الفلسفي الغربي ظل ملوثاً بالميتافيزيقا ما دام يصر على البحث عن المعنى وعن الثبات. وقد قرَّر دريدا أن «يفكر في الأمر الذي لا يمكن التفكير فيه» وهو أن ينطلق، كفيلسوف، من الإيمان بعدم وجود أصل من أي نوع، ومن ثم يسقط كل شيء بشكل كامل في هوة الصيرورة (أبوريا) وتتم التسوية بين كل الأشياء من خلال مفاهيم مثل الاخترجلاف (الاختلاف/الإرجاء (.
وسيُلاحظ القارئ أن دريدا (ودعاة ما بعد الحداثة) يستخدمون مصطلحات كثيرة تبدو جديدة. فهناك مصطلح مثل «القصة الكبرى» (أي النظرية العامة) و «القصص الصغرى» و «التمركز حول اللوجوس» و «التمركز حول المنطوق» و «الأبوريا» و «الاخترجلاف» . وهي مصطلحات تدَّعي أنها جديدة وهي أبعد ما تكون عن الجدة، فهي تعبِّر عن أفكار ومفاهيم عدمية. فقد يكون المنطوق نفسه جديداً، ولكن المفهوم وراء المصطلح قديم قدم الفلسفة اليونانية القديمة والكتب العدمية مثل سفر الجامعة في العهد القديم (انظر المداخل الخاصة بكل مصطلح في هذا القسم) .(15/215)
ويمكن القول بأن مشروع دريدا الفلسفي هو محاولة هدم الأنطولوجيا الغربية اللاهوتية (بالإنجليزية: أونطوثيولوجي ontotheology) بأسرها والوصول إلى عالم من صيرورة كاملة عديم الأساس لا يوجد فيه لوجوس ولا مدلول متجاوز، ولذا فهو عالم بلا أصل رباني، بل بلا أصل على الإطلاق، ولذا لا توجد فيه ثنائيات من أي نوع؛ الدوال ملتحمة فيه تماماً بالمدلول، ولذا لا توجد لغة، وإن وجدت لغة فهي الجسد باعتبار أن الجسد يجسد المعنى فلا ينفصل الدال عن المدلول. والنصوص تتداخل بعضها مع بعض، ولا يمكن الحديث عن نص مقابل نص آخر ولا عن نص في مقابل الواقع، كذلك لا يمكن الحديث عن نص مقابل معنى النص، إذ لا يوجد شيء خارج النص ولا يوجد أصل للأشياء، فكل نص يحيل إلى آخر إلى ما لا نهاية، وبذا يكون قد تم إنهاء الميتافيزيقا. وتصبح هذه الرؤية العدمية الفلسفية هي التفكيكية حينما تصبح منهجاً لقراءة النصوص. ولإنجاز هدفه العدمي، يتجه دريدا نحو أحد المفاهيم الأساسية في الفكر البنيوي، أي علاقة الدال بالمدلول، ويبين أنه لا علاقة بين الواحد والآخر، أو أن العلاقة بينهما واهية للغاية. وحيث إنه لا يمكن الاحتفاظ بالعلاقة بين الدال والمدلول إلا من خلال ما يُسمَّى «المدلول المتجاوز» (بالمعنى الديني أو الفلسفي) ، فإنه يتجه نحو إسقاط هذا المدلول المتجاوز وإثبات تناقضه وكذلك إثبات وجود الصيرورة داخله. وتفكيك النصوص في واقع الأمر إن هو إلا بحث عن المدلول المتجاوز وعن المركز في النصوص، وتوضيح أن ثمة تناقضاً أساسياً فيها لا يمكن حَسْمه. وأن تماسُك النص واتساقه أمر زائف فهو عادةً تعبير عن إرادة القوة لدى صاحب النص، وليس له أي أساس عقلاني عام. ومع هذا، يرى دريدا أن التناقض يظل قائماً فعالاً، ولذا فعادةً ما يؤدي بالمؤلف إلى إضافة عناصر هي عكس المعنى المقصود تماماً، وهو ما يجعل النص (أدبياً كان أم فلسفياً) يتجاوز حدود المعنى التي يضعها لنفسه(15/216)
والاتساق الذي يفترضه وتظهر فيه الثغرات والتشققات ويقع في التناقض الذي لا يمكن حسمه.
وبهذه الطريقة، يحلل دريدا كل كلاسيكيات الفلسفة الغربية من أفلاطون إلى هيجل، كما يحلل بعض النصوص الفلسفية المعاصرة من ليفي شتراوس إلى لاكان ويقوم بتفكيكها، وهو بهذا يحاول تفكيك الحضارة الغربية نفسها.
والمشروع الفلسفي عند دريدا مُوجَّه ضد الإنسانية وضد علاقة الدال بالمدلول، ولذا فهو يبحث عن لغة بلا أصل وبلا حدود نظامها الإشاري لا يشير إلى شيء، لغة متأيقنة تماماً لا يوجد فيها أثر للإله أو المعنى أو أية مرجعية، وقد وجد ضالته فيما أسماه أنطوان أرتو (1895 ـ 1946) «الشعر اللفظي» وهو شعر مبني على مجاورة أصوات لا دلالة لها إلا أن تركيباتها النبرية تصنع حالات شعرية أو هكذا كان الظن. وفيما يلي مَثَلٌ من هذا الشعر اللفظي الأيقوني: «أوبيدانا/ ناكوميف/ تاوديدانا/تاوكوميف ـ ناسيدانو/ناكوميف/ تاركوميف/ناكومي» ، وتنتهي القصيدة بأصوات أخرى! (ومن الأمور التي قد يكون لها بعض الدلالة أن أنطوان أرتو قد أُودع مصحة عقلية في مقتبل حياته) .(15/217)
وأسلوب دريدا أمر جديد كل الجدة في الخطاب الفلسفي الغربي، يتسم بكونه طنيناً وجعجة بلا طحن، وإن أخرج طنيناً فهو تقليد مألوف لا يختلف عما قاله السوفسطائيون من قديم الأزل ولا يخرج عن كونه تعبيراً طفولياً غير أنيق عن العدمية. وحتى نعطي القارئ فكرة عن هذا الطنين سنقتبس بعض ما قاله دريدا عن شعر أرتو اللفظي. ينوه دريدا بهذا «الشعر الرائع» لأنه «لا يمثل لغة محاكاتية ولا خلق أسماء. بل يقودنا إلى حواف اللحظة التي لم تُولَد فيها الكلمة بعد والتي لم يَعُد فيها التمفصل [الكلامي] هو الصرخة، ولا يشكل الخطاب بعد، اللحظة التي يكون فيها التكرار أو الترديد، ومعه اللغة بعامة، مستحيلاً تقريباً: انفصال المفهوم والصوت، المدلول والدال، النقش والكتاب، حرية الترجمة والذات، حركة التأويل، اختلاف الروح والجسد، السيد والعبد، الإله والإنسان، المؤلف والممثل. إنه العشية السابقة لأصل اللغات» . وكل هذا الصخب يعني أنها لغة آدم قبل أن يتعلم الأسماء كلها، أي لغة آدم قبل أن ينفخ فيه الإله من روحه، أي لغة آدم حين كان كائناً طبيعياً بلا أصل إلهي غير قادر على الحديث (فوعيه لم يظهر بعد) ولكنه قادر على الصراخ كالحيوان وإصدار أصوات أخرى مرتبطة بالاستجابات الحسية المختلفة.(15/218)
ويمكن أن نشير مرة أخرى إلى أنطوان أرتو ولكن باعتباره مؤسس «مسرح القسوة» . وقد كتب دريدا دراسة عنه في الكتابة والاختلاف، كما حرَّر بالاشتراك (مع آخر) كتاباً عن رسوم أرتو (1986) وكتب مقدمته. ومسرح القسوة هو مسرح يحاول أن يقلد المسرح البدائي، سواء في الرؤية التي ينبع منها أو في شكله الفني، ويرى أرتو أن المسرح الحديث يتوجه إلى عقل الإنسان وإلى سمعه وبصره وحسب، وأنه يوجد فاصل حاد بين الفن والواقع وبين الممثلين والجمهور ويأخذ النص المسرحي شكل نص محدَّد له مؤلف محدَّد. بدلاً من ذلك، يرى أرتو ضرورة قيام مسرح يمكن أن نسميه (تبعاً لمصطلحنا) «متأيقن» ، وهو مسرح يتوجه إلى كيان الإنسان كله. ولذا، لا توجد فيه فواصل بين الدال والمدلول والمسرح والواقع، وبإمكان الجمهور أن يشارك في المسرحية التي تتكون من ملابس ورقص وموسيقى ولا تشغل الكلمات فيها إلا حيزاً محدوداً، ويضرب أرتو مثلاً على ذلك بمسرح جزيرة بالي.(15/219)
يجد دريدا أن هذا سياق مناسب ليعبِّر عن إشكالية الأصول والمدلول المتجاوز فيقرر أن: «مسرح القسوة يطرد الإله من المسرح، فالمشهد المسرحي يظل لاهوتياً ما دام أنه هيمن عليه الكلام أو إرادة الكلام وما دام أنه هيمن عليه مخطط (لوجوس) لا يقيم في الموضع المسرحي إلا أنه يوجهه ويحكمه من بعيد. يظل المسرح لاهوتياً ما بقيت بنيته تحمل، بمقتضى التراث بأسره، العناصر التالية: مؤلف ـ خالق ـ غائب ـ بعيد ـ مسلح بنص ـ يراقب ويوحِّد ويقود زمن العرض (أو معناه) تاركاً إياه يمثله عبر ما يُدعَى محتوى أفكاره ومقاصده. يمثله عن طريق نواب، مخرجين وممثلين مفردين مُستبعَدين يمثلون شخصيات هي نفسها لا تقوم سوى بتمثيل فكرة الخالق.. عبيد يؤدون (ينفذون بوفاء) مخططات «السيد» الإلهية. ولذا، كي يتحرر المسرح، عليه أن ينفصل عن النص وعن الكلام الخالص وعن الأدب. وبتحرُّره من النص ومن الإله/المؤلف، يُعاد الإخراج المسرحي إلى حريته الخلاقة والمؤسسة» .(15/220)
وما يفعله دريدا هنا هو أنه يغمر القارئ بفيض من الكلمات ليخلق حالة من السيولة، يمرر معها بعض الافتراضات التي لا يمكن قبولها إلا إذا كان القارئ في حالة غيبوبة نابعة من السيولة والتدفق. فدريدا يقول مثلاً: «إن المسرح يهيمن عليه الكلام» ، وهذا طبعاً غير دقيق، فأي طالب يدرس فن المسرح يعرف أن النص المسرحي المكتوب غير الأداء الذي يتضمن عناصر أخرى غير النص المكتوب. كما أن المؤلف قد يكون مجازياً في علاقته بالنص مثل الإله في علاقته بالعالم، ولكن الصورة المجازية لها حدود لأن الممثلين حينما يمثلون النص يعرفون أنه مجرد تمثيل، فالواقع يوجد خارجهم، وهم ليسوا عبيداً يؤدون مخططات «السيد» الإلهية. وإن تحرَّر المسرح من النص تماماً، فلن تعود للإخراج المسرحي حركته، إذ أنه (كما يقول دريدا) لن تكون هناك حاجة إلى إخراج مسرحي، أي أن مشروع أرتو يؤدي إلى نفي المسرح (وبالفعل، عبَّر هو عن نفسه عدة مرات عن كراهيته للمسرح وللتمثيل) ، فكأن ما يسعى إليه هو إسقاط الحدود، أي حدود، وهو يعلم تماماً أن إسقاط الحدود، هو ذوبان الهوية وهو السيولة الرحمية. وفي الواقع، إذا كان هناك إله/مؤلف في نصٍّ ما، فهو نص مسرحية جزر بالي هذه، فالمسرح هناك جزء من الشعائر الدينية التي تُؤدَّى، ولذا لا توجد مسرحيات وإنما مسرحية/صلاة، وهي إن كانت لا تحتاج إلى مخرج فلأن الجميع يعرف دوره في هذه المسرحية الدينية. إن كل ما يفعله دريدا هو أن يحوِّل أرتو إلى تكأة يُصدِّر من خلالها ماديته السائلة الجديدة. يقول دريدا: «الجسد بالنسبة لأرتو قد سُرق منه، سرقه الآخر: النص الواحد العظيم المتسلل، واسمه «الإله» ، مكانه هو فتحة صغيرة ـ فتحة الميلاد والتبرز ـ وهي الفتحة التي تشير إليها كل الفتحات الأخرى، وكأنها تشير إلى أصلها» . وفي لغة غنوصية واضحة يقول: «إن تاريخ الإله الصانع هو تاريخ الجسد الذي طارد جسدي الذي وُلد وأسقط نفسه على جسدي ووُلد من خلال(15/221)
تمزيق جسدي واحتفظ بقطعة منه حتى يتظاهر أنه أنا. فالإله هو، إذن، عَلَم على ما يحرمنا من طبيعتنا، من ميلادنا، ولذا فهو (دائماً) يكون قد تحدَّث قبلنا بمكر» .
وعلى أية حال، فإن الإله الصانع لا يخلق، فهو ليس الحياة وإنما هو صانع الأعمال (بالفرنسية: أوفر oeuvres) والمناورات (بالفرنسية: مان أوفر manouvres) ، فهو اللص المحتال المزيف الزائف المغتصب بخلاف الفنان المبدع، وهو الكائن الصانع، وهو كيان الصانع الشيطان، «أنا الإله والإله هو الشيطان» .. ويربط دريدا الكينونة بالبراز (كما فعل نيتشه من قبل) لأنه يجب أن يكون للإنسان عقل كي يتبرز، فالجسد المحض لا يمكن أن يتبرز. وقد شبَّه نفسه بالبراز، كما شبه كتابته بأنها براز على الصفحة.(15/222)
ثمة شيء طفولي سخيف في كتابات وفكر دريدا لخصه هو نفسه في واحدة من أسخف عباراته وأكثرها طفولية «ما ليس بالتفكيكية؟ كل شيء بطبيعة الحال. ما التفكيكية؟ لا شيء بطبيعة الحال» "What deconstruction is not ? Everything of course! What is deconstruction ? Nothing of course". ومعنى هذه العبارات الفارغة، هو أن التفكيكية أمر فارغ، لا شيء! وهي عبارة تشبه أحجيات الأطفال، التي كنا نتفنن فيها في طفولتنا. ولكن اللعب الطفولي مقبول حينما نكون أطفالاً، أما حينما نكون فلاسفة، رجالاً ناضجين غادورا الرحم، وابتعدوا عن ثدي الأم ودفء غرفة الحضانة ووقعت عليهم مسئولية التفكير بوعي، فإن الأمر جدُّ مختلف. وسخافة دريدا تظهر بوضوح في تعليقه على اسمه إذ يقول إنه وُلد باسم جاكي وغيَّره إلى جاك، أي أنه غيره دون أن يتخلص منه تماماً، فاسمه الثاني الجديد يحمل «أثر» اسمه الأول، فالأول هو الثاني، تماماً كما أن الثاني هو الأول. وكيف كان ذلك؟ يجيب دريدا على ذلك بقوله: «الاسم أشبه بعلامة الختان، إشارة متأتية من الآخرين ننصاع لها بسلبية كاملة، ولا يمكنها أن تفارق الجسد» . ولكن الاسم قد يكون مثل الختان في بعض الأوجه، ولكنه ليس مثله في كل الأوجه، ولذا فإن المجاز لا يمكن أن يُدفع إلى نهايته المنطقية المتوحشة. ولكن دريدا يفعل ذلك لإفساد اللغة.(15/223)
ودريدا، المولع بالسيولة، مولع باللعب بالألفاظ بلا هوادة ودائماً. فبطبيعة الحال، يوجد اصطلاح «الاخترجلاف» (بالفرنسية: لاديفرانس la differance) ، وهو من كلمتي «الاختلاف» و «الإرجاء» ، وهناك كلمة أخرى هي «سيركومفشن circumfession» وهي من كلمتي «سيركموسيشن circumcision» أي «الختان» و «كونفشن confession» أي «الاعتراف» ، ونترجمها بكلمة «الختانعراف» . وهو يتلاعب بكلمات مثل «ايمين hymen» بمعنى «بكارة/جماع» و «هيمن hymne» بمعنى «نشيد» . وكلمة «مارج marge» بمعنى «هامش» تتداخل مع كلمة «مارك marque» أي «علامة» ، وتتداخل كلتاهما مع كلمة «مارش marche» أي «سير» . ومن هذا يستنتج أو يخبرنا أن الهامش علامة فهو يساهم في مسيرة النص. ويتلاعب باسم الفيلسوف هيجل، فهو «إيجيل» بالفرنسية، ولكن الكلمة «إيجل» تعني «نسر» ، وقد وجد اللاعب الأعظم ذلك فرصة فريدة للتهكم فيقول: «إن هيجل يستمد قوته الإمبراطورية والتاريخية من اسمه» . والمعرفة المطلقة (بالفرنسية: سافوار أبسولو savoir absolu) تصبح «سا sa» التي توحي بأنها الإيدid وهي كذلك الكلمة الألمانية «شتورم أبتايلونجين Sturmabteilungen» أي «قوات العاصفة النازية» . ولا شك في أن هذا جزء من لعب الدوال الذي يتحدث عنه دريدا، ولكن إذا كان هيجل إمبراطورياً، فهو على الأقل يقدم لنا أعماله فنقرؤها، أما دريدا فهو ينصب شباكه حولنا لننزلق، أو هكذا يظن، إذ أن هناك دائماً من يبحث عن المعنى ويرى أن النكتة قد تكون مقبولة بعض الوقت ولكنها لا يمكن أن تحل محل الحقيقة، ولذا فهي ليست مقبولة طيلة الوقت، ونحن نضحك على النكتة ما دامت في الهامش وليست أساساً للرؤية، وخصوصاً إن كانت النكتة ثقيلة الظل مثل كلمات دريدا.(15/224)
ويُصنِّف دريدا نفسه أحياناً كيهودي، بل يوقِّع بعض مقالات بكلمة «رب ريدا Reb Rida» أي «الحاخام رضا» ، أو «رب دريسا Reb Derissa» أي «الحاخام دريسا» . وهو يرى أن وظيفته كيهودي في الحضارة الغربية المسيحية أن يفكك الأنوطوثيولوجي (لاهوت الأنطولوجيا) أي الأنطولوجيا التي تستند إلى الأصل الإلهي، فهو يرى أن ثنائية الإنسان والطبيعة (وأية ثنائيات أخرى) تفترض وجود عالم متراتب هرمياً يستند إلى لوجوس/مركز يشير إلى إله متجاوز. ويرى دريدا أنه، بكونه يهودياً، مرشح أكثر من غيره لأن يقوم بهذه المهمة العدمية التفكيكية فتجربة الشتات اليهودي والرحيل الدائم نحو مكان آخر دون حلم بالعودة (أي دون حنين للمعنى والحقيقة) هو رفض عميق للثبات والميتافيزيقا ولأي شكل من أشكال الطمأنينة. ولكي ينجز هدفه، قرَّر دريدا أن يهاجم الكتابة المتمركزة حول اللوجوس التي ورثتها الحضارة الغربية المسيحية من الآباء المسيحيين، وقد قرَّر أن يواجه هذا بمفهوم آخر للكتابة يتفق مع المفهوم اليهودي للكتابة الذي يتلخص في أن الكتاب المقدَّس ليس هو الحيز الذي تحل فيه الكلمة. وهو يشير إلى فيلسوف يهودي آخر، معلمه إيمانويل ليفناس الذي أكد ضرورة البحث عن العناصر التي تسبب عدم الاتساق في الميتافيزيقا الغربية. ويذهب دريدا إلى أن الميتافيزيقا الغربية تعتمد على تهديد خارجي لتحتفظ بتماسكها، وهذا التهديد هو اليهودي، ولذا فإن القضاء على معاداة اليهود يتطلب القضاء على الميتافيزيقا الغربية. وفي كتابه جرس الموت Glas الذي كُتب على هيئة عمودين: العمود الأول في اليسار عن هيجل والعمود الثاني عن جان جينيه ويعارض الواحد منهما الآخر؛ فبينما يؤكد هيجل أهمية الأسرة باعتبارها وحدة تستند إلى العلاقة الجنسية السوية بين ذكر وأنثى، يؤكد جينيه الشذوذ الجنسي. أما المؤلف (أي دريدا نفسه) ، فهو اليهودي الذي يقف بين شكلين من أشكال معاداة اليهود (الألماني والفرنسي) . وهو،(15/225)
في كتاباته الأخرى، يتحدث عن الهولوكوست وعن كتاب إستير وعن العلاقة بين اللغة والدياسبورا ويعطي محاضرات عن إسبينوزا وهرمان كوهين.
وفي مقال له عن إدمون جابيس، يتحدث دريدا عن صعوبة أن تكون يهودياً، تلك الصعوبة التي تشبه صعوبة الكتابة "فاليهودية والكتابة هما الشيء نفسه، الانتظار نفسه، الأمل نفسه، عملية إفراغ الشخصية نفسها (بالإنجليزية: ديبليشن depletion) ". ولكن اليهودية لم تكن إفراغاً للشخصية وليست تحديداً للهوية؟ للإجابة عن هذا السؤال يحتاج الأمر إلى تفسير جاد لا إلى نكتة. إن دريدا عضو في جماعة وظيفية استيطانية هي جماعة المستوطنين الفرنسيين البيض الذين كانوا مرتبطين عضوياً (مادياً وحضارياً) بالوطن الأم فرنسا، والجماعة اليهودية في الجزائر كانت جزءاً لا يتجزأ من الجماعة الاستيطانية الفرنسية، وقد مُنح يهود الجزائر جميعاً الجنسية الفرنسية عام 1830؛ وبهذا يكون اليهودي الجزائري الذي أصبح جزءاً من الجماعة الاستيطانية شخصاً يمارس الاقتلاع والهامشية مرتين؛ مرة لكونه مستوطناً فرنسياً اغتصب الأرض من أصحابها ويعيش عليها في وسط عربي، ومرة أخرى باعتباره يهودياً نشأ في بلد عربي. ولكنه، ومع هذا، حوَّل ولاءه إلى مغتصبي البلد الذي وُلد ونشأ فيه. ولا شك في أن سفارديته ساهمت في عملية تهميشه، فاليهود السفارد كانوا يتمتعون بمركزية ثقافية بين أعضاء الجماعات اليهودية، وكانوا أرستقراطيتها الثقافية، ولكن عملية الطرد والنفي والتشتيت (بالإنجليزية: ديسبرشن dispersion) والتناثر والتبعثر التي تُذكِّرنا بتناثر المعنى وبعثرته في النص أثرت فيهم بشكل عميق، وكانت لهذا آثاره في القبَّالاه اللوريانية (التي وضع أسسها يهودي سفاردي آخر هو إسحق لوريا) . كما يُلاحَظ أن التجربة الأساسية في تاريخ اليهود السفارد هي تجربة المارانو (من كلمة «مرائي» ، وهم يهود شبه جزيرة أيبريا الذين أبطنوا اليهودية وأظهروا الكاثوليكية) الذين(15/226)
تآكلت يهوديتهم المستبطنة واختفت، ولذا كان اليهودي السفاردي إنساناً هامشياً تماماً في مختلف التقاليد الدينية والثقافية التي يتحرك فيها، فهو لا يؤمن بالكاثوليكية ولا يعرف اليهودية (يهودي غير يهودي على حد قوله) ، وهو لا يعرف لا الختان ولا الاعتراف وإنما يعرف شيئاً «تناصياً» يُسمَّى «الختانعراف» ، فلا هو كاثوليكي ولا يهودي ولكنه يُفقد الكاثوليكية حدودها وهويتها ويُفقد اليهودية حدودها ومضمونها وهويتها. إن هامشية دريدا جعلته مرشحاً لأن يكون فيلسوف التفكيك الأول، فهو نفسه إنسان مفكك تماماً: فهو فرنسي ولكنه من أصل جزائري، وهو جزائري ولكنه عضو في جماعة استيطانية فرنسية، وهو يهودي سفاردي لا ينتمي إلى التيار الأساسي لليهودية، وهو لا يؤمن بهذه اليهودية ولا يكن لها الاحترام ولكنه مع هذا يشير إليها دائماً. وإن كان هناك دال بدون مدلول، فإن جاك دريدا الفيلسوف الفرنسي الجزائري اليهودي السفاردي هو هذه الحالة، فهو ليس فرنسياً ولا جزائرياً ولا يهودياً ولا سفاردياً، كما أن مشروعه الفلسفي هو إنهاء الفلسفة.
وغني عن القول أن دريدا لا يقدم فلسفة يهودية، ولا يمكن فهم فلسفته إلا في سياق تاريخ الفلسفة الغربية. ورغم وجود أفكار تفكيكية وما بعد حداثية في مدارس التفسير اليهودية (التي اطلع عليها دريدا وتأثر بها فهو تلميذ ليفناس) ، إلا أنه يظل مفكراً غربياً بالدرجة الأولى، ولا تشكل يهوديته سوى عنصر مساعد في تصعيد تفكيكيته. ولدريدا العديد من المؤلفات والكتب، أهمها: الصور والظواهر (1970) ، وتناثر المعنى (1972) ، وفي علم الكتابة (جراماتولوجي) (1972) ، وهوامش الفلسفة (1972) ، وجرس الموت Glas (1974) ، وعن النبرة والرؤية (الأبوكاليبسية) التي تم تبنيها في الفلسفة (1982) ، وجرامافون أوليس (1987) . وقد صَدَر له مؤخراً كتاب أطياف ماركس (1995) .
هارولد بلوم (1930 (–
Harold Bloom(15/227)
ناقد أدبي أمريكي يهودي وُلد في نيويورك. يُدرِّس الأدب الإنجليزي في جامعة ييل منذ عام 1955. وهو حلولي ذو رؤية غنوصية قبَّالية واعية تماماً بغنوصيتها وعدميتها. نشر في الستينيات ثلاث دراسات تدور حول الشعر الرومانتيكي الإنجليزي، هي شيللي وصياغة الأسطورة (1959) ، والجماعة الرؤياوية (1961) ، ورؤى (أبوكاليبس) بليك (1963) .
وقد استخدم بلوم في هذه الدراسات مقولات تحليلية مستقاة إما من القبَّالاه أو من فلسفة بوبر (الحلولية الحسيدية الجديدة) . ويذهب بلوم إلى أن الشعراء الرومانسيين الإنجليز كانوا يرمون إلى تحويل الطبيعة من موضوع إلى ذات من خلال رؤية أسطورية للواقع فيدخلون في علاقة حب مع الطبيعة، وهي ليست علاقة آلية (الأنا مع الهو) وإنما علاقة متعيِّنة مباشرة (الأنا مع الأنت) حيث يصبح الآخر (أي الطبيعة) كياناً حياً مفعماً بالحياة، تماماً مثل الإنسان، فهي لذلك علاقة حوارية يتساوى فيها الإنسان مع الطبيعة ويظهر الإنسان الطبيعي (أو الإنسان/الطبيعة) وتتضخم الأنا الإنسانية لتسم الطبيعة بميسمها، ولكنها في الوقت نفسه تذوب في الطبيعة حيث يصبح هناك كيان واحد تسري فيه الروح المقدَّسة، ومعنى ذلك أن الثالوث الحلولي يكتمل تماماً في شعر كبار الشعراء الرومانتيكيين. وأهم الشعراء على الإطلاق هو شيللي، فصوته ـ في تصوُّر بلوم ـ مثل صوت أنبياء العهد القديم بعد أن يتخلوا عن الرؤية التوحيدية التي تفترض انفصال الإنسان عن الطبيعة، وتفترض وجود مساحة بين الخالق والمخلوق، ليصبحوا أنبياء حلوليين لا يتلقون الكلمة الإلهية لإبلاغها وإنما يتوحدون بها ثم يصبحون تجسيداً لها: صوتهم هو صوت الإله (والطبيعة) . وقد قدَّم بلوم تحليلاً كاملاً لنسق بليك باعتباره نسقاً غنوصياً. وفي السبعينيات، صَدَر لبلوم عدة دراسات، هي ييتس (1970) ، وقلق التأثر (1973) ، وخريطة إساءة القراءة (1975) ، والقبَّالاه والنقد (1975) ، ولشعر والكبت (1976) .(15/228)
كما نشر رواية بعنوان هرب لوسيفر: فانتازيا غنوصية (1979 (.
ولفهم نقد بلوم، لابد أن نفهم منظومته الغنوصية الصراعية التي تضرب بجذورها في كل من الغنوص اليهودي القديم والغنوص العلماني الحديث. وتعود هذه الرؤية الصراعية إلى عالم الجسيلشافت التعاقدي حيث يتشيأ كل من الإنسان والطبيعة وحيث يصبح الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان. ولكن هذه الرؤية تعبِّر عن نفسها في ديباجات غنوصية مثل أصحاب الغنوص الروحانيين (النيوما) الذين يعيشون مغتربين عن أصلهم النوراني. وحتى يتغلب الغنوصي على غربته، فإنه يؤكد اتصاله بالجوهر الإلهي. بل إنه يبيِّن أحياناً أنه هو نفسه الإله، فهو خالق وليس مخلوقاً. وهذا هو ما يفعله بلوم الذي يشير إلى قول نيتشه: «إن كان هناك إله، فماذا أكون أنا إذن؟» فالإنسان حين يكتشف أنه مخلوق وليس خالقاً، أنه إنسان وليس إلهاً، أنه لم يخلق نفسه بنفسه وأن له أصلاً ربانياً فإنه يشعر بالاغتراب، وخصوصاً أنه قُذف به في عالم ليس من صنعه. ولذا، لابد أن يثور الإنسان فينكر أصله الرباني ويمحوه تماماً ليصبح هو نفسه مرجعية ذاته وليكون العبد والمعبود والمعبد، وليس أمامه سوى أن يعيد خلق العالم في صورته. وبذلك يصبح العالم المخلوق من خلقه هو، ويصبح الإنسان خالقاً لنفسه ولعالمه. وإحدى الحيل الأساسية في هذا المضمار هي تأكيد أن العالم صيرورة كاملة ونسبية كاملة بحيث تتساوى كل الأمور ويختفي السبب والنتيجة والخالق والمخلوق وكل ثنائية تدل على وجود أصل يسبق النسخة، فالصيرورة هنا هي الآلية الأساسية حيث لا توجد أية معيارية يمكن الإهابة بها ولذا لا يبقى إلا الصراع اللانهائي في إطار الصيرورة الأزلية.(15/229)
هذه المنظومة الغنوصية تكتسب أبعاداً يهودية في كتابات بلوم، فتجربة اليهود الأساسية هي كارثة المنفى حين ينفصل اليهود عن أصلهم النوراني فيتم نفيهم من صهيون ويُقذَف بهم في عالم الأغيار. وكارثة النفي هي كارثة «إحلال» (بالإنجليزية: ديسبليسمنت displacement، من كلمة «ديسبليس displace» الإنجليزية التي تعني «يُشرِّد» و «يزيح» و «يحل محل» ) إذ تم تشريد اليهود وإزاحتهم من مكانهم وإحلال شعب آخر محلهم. ولم يبق أمام اليهود سوى البكاء أمام حائط المبكى. واليهود، هؤلاء المنفيون الأزليون، هم رمز التجوال الأزلي والصيرورة الأزلية (على عكس المسيحيين الذين أصبحوا إسرائيل الحقيقية الثابتة المستقرة المؤسسية التي فسرت العهد القديم تفسيراً رمزياً مستقراً) . وفي مقابل الكنيسة بأيقوناتها المفعمة بالدلالة، يوجد حائط المبكى (بقية الهيكل) ، أي أنه مجرد شظايا؛ بقايا معنى؛ دال دون مدلول، أو دال ابتعد مدلوله حتى أمّحي.
وقد تَعمَّق انفصال الدال عن المدلول عند الشعب اليهودي؛ فهذا الشعب المختار أصبح الشعب المنبوذ، وهذا الشعب صاحب الهوية أصبح بلا هوية، وهذا الشعب الذي كان يحلم بسيادة العالم أصبح مسلوب الإرادة والسلطة. وبدلاً من أرض الميعاد النهائية، توجد أرض المنفى والتجوال الأزلية؛ وبدلاً من دال له مدلول واضح، أصبحت هناك رموز شظايا ليس لها معنى (على عكس التجسد المسيحي حيث يلتصق الدال بالمدلول ويصبح الدال مدلولاً ويصبح تجسُّد المسيح ابن الإله هو ما يعطي معنى لفوضى التاريخ) .(15/230)
ولهذا السبب، أصبح اليهود قوى الظلام والإحلال والتقويض في العالم. وقد لجأوا لاستراتيجية الهرمنيوطيقا المهرطقة التي تتلخص ببساطة في أن الهرطقات الإلحادية دخلت التراث الديني من خلال التفسيرات الحاخامية الغنوصية التي اكتسبت مركزية في حالة القبَّالاه. ثم تدريجياً أصبحت التفسيرات الغنوصية هي نفسها التراث وحلت محل الكتاب المقدَّس وتداخل المقدَّس والمدنَّس تماماً. إن الهرمنيوطيقا المهرطقة تعبير عن الصراع الماكر بين اليهود والقوى التي نفتهم وشردتهم وأحلت شعباً محلهم، وتعبير عن انتقامهم من عدوهم الهيليني المسيحي الذي يزعم أن العالم يدور حول اللوجوس، ولذا فقد جعلوا همهم ضرب اللوجوس عن طريق تَبنِّي اللامعنى والتغير وانفصال الدال عن المدلول.
وعلى هذا فإن الناقدة الأمريكية اليهودية سوزان هاندلمان شبَّهت هارولد بلوم بيهوذا الإسقريوطي حواريّ المسيح الذي باعه للرومان بحفنة فضة (ومع هذا لم تهدأ روحه فرفضه الرومان) . كما شبَّهته بيهودا الحشموني (المكابي) الذي دخل معبد النقد الأدبي ليطهره من المسيحية ومن رغبتها المحمومة في الاتحاد بالخالق وفي الثبات.
تقارن هاندلمان بين بلوم ونقاد (مسيحيين) مثل إليوت وفراي يؤمنون بالتجسد حيث يظهر المسيح في التاريخ فيُنهى التاريخ اليهودي. ولكن تجسد المسيح هو لا تاريخ، هو ثبات وتَوقُّف، هو اللوجوس الذي أدَّى إلى ظهور الفكر الغربي الأونطوثيولوجي، وهو الحضور في التاريخ ونقطة الثبات التي تفلت من قبضة الصيرورة. وانطلاقاً من أرضيتهما المسيحية، يرى إليوت وفراي أن الهرب من الذات (النسبية ـ المتغيرة ـ الضيقة) يتم عن طريقه فهم التقاليد والانتماء إليها أو عن طريق ما سماه فراي «النمط الأوليّ» (وهو شكل من أشكال التجسد) . أما بالنسبة لليهودي بلوم، فإن الهرب من الذات يتم عن طريق فتح النص.(15/231)
كتب بلوم دراسة بعنوان أجون (الصراع) وهي محاولة من جانبه لمراجعة النظرية النقدية الغربية. ويذهب بلوم في هذه الدراسة إلى أن النص الأدبي حلبة صراع بين الشعراء فيما بينهم، وبين الشعراء والنقاد، وبين النص والمفسر، حيث يحاول كل متصارع أن يؤكد إرادته ويمليها على الآخر (يمحو الآخر) . والقراءة النقدية شكل من أشكال الصراع المستمر (تماماً مثل قوانين الحركة المادية، فالعالم صيرورة مطلقة وكل شيء يسقط فيها) . أما النص نفسه فليس له معنى محدد، فهو صامت (كما يقول الباطنيون) ومن ثم لا توجد قراءة دقيقة وقراءة غير دقيقة. فالقراءة أمر مستحيل لأن القراءة تفسير، والتفسير يفترض وجود مركز ومعنى محدد ومعيارية لم تسقط في قبضة الصيرورة ونص ثابت مستقر وأصل ثابت للنص. ولكن، في واقع الأمر، لا يوجد نص في ذاته ولا توجد قصيدة في ذاتها، ولا يوجد سوى نصوص متداخلة (بالإنجليزية: إنترتكست intertext) ، ولا يوجد ما هو داخل النص وما هو خارجه، ولا يوجد سوى مفسر تفسيره هو رؤيته للنص، ولذا فإن ما يوجد هو عبارة عن سوء قراءة ليس إلا. ومعنى القصيدة لا يوجد في بطن القصيدة ولا في بطن الشاعر وإنما في بطن الناقد أو في إرادته إن أردنا توخِّي الدقة، والفعل النقدي فعل نيتشوي صراعي يتضمن فرض الإرادة. ومعنى القصيدة، بهذا المعنى، هو قصيدة أخرى، فلا مفر من الذاتية الكاملة ولا مفر من إساءة القراءة. ولهذا، ركَّز بلوم على الناقد صاحب الإرادة النيتشوية (الذي يشبه الحاخام ممثل الشريعة الشفوية التي تحل محل الشريعة المكتوبة) . وما يوجد هو، إذن، إساءة قراءة، قد تكون قوية أو ضعيفة، ولكنها قوية كانت أم ضعيفة إساءة قراءة ليس إلا.(15/232)
وتمتد الرؤية الصراعية لتتجاوز الصراع بين الناقد والنص لتصبح صراعاً بين الشاعر والشاعر. فكل نص قديم يُشكل أصلاً يترك أثره فيما بعده، فهو حاضر/غائب، ومهمة الشاعر المبدع أن يحاول أن التحرر من أي أصل ثابت، وتتحدد درجة الإبداع بمدى الإفلات من أثر الأسلاف بل من أي أثر لأي أصول، أي أن الإبداع هو إنكار الأصول الربانية أو الإنسانية، هو عملية تأله، فالإله وحده هو الذي لا أصل له. وثمة صور صراعية عديدة في كتابات بلوم فهو يشير إلى واقعة صراع يعقوب مع الإله (في صورة ملاك) فصرع يعقوب الإله/الملاك، ولذا فإنه سُمِّي «يسرائيل» (وهي كلمة معناها «يصارع الإله» أو «صرع الإله» ) .
كما يمجد بلوم شيطان جون ملتون (في ملحمة الفردوس المفقود) لأن الشيطان في حالة غيرة من الإله (الأصول) بسبب مقدرة الإله على الخلق وعجزه هو. فالشيطان هو الغنوصي الحقيقي الذي يصر على أنه قديم وليس مخلوقاً، تماماً مثل الإله نفسه وقادر على الخلق مثله. والشيطان يرفض تجسُّد المسيح (لحظة التجسد تشكل لحظة ثبات في الصيرورة التاريخية) . ولأن الشيطان يود تأكيد مقدرته على الخلق، فإنه يتزوج من الرذيلة متحدياً الإله فتلد له الرذيلة ابناً يُسمَّى «الموت» ، هو القصيدة الوحيدة التي يسمح له الإله بنظمها. فالشيطان هو مثال الشاعر القوي الذي يصارع الإله ويأتي بوحي بديل لوحي الإله والذي يود أن يزيل أثر الإله تماماً.(15/233)
وتُشبِّه هاندلمان اليهودي بشيطان الشاعر جون ملتون في ملحمته الفردوس المفقود، فهو أيضاً يرفض التجسد. وعلاقة القبَّالاه بالتوراة تشبه علاقة الشيطان بالإله، فالقبَّالاه تمحو المعنى الإلهي وتأتي بالمعنى الغنوصي البديل. وكما يرفض الشيطان اللوجوس (رمز الثبات ومصدر اليقين) ، يرفض اليهودي المسيح (اللوجوس) ، فهو يعيش في المنفى الدائم في حالة الإرجاء والاختلاف (الاخترجلاف) وفي حالة تفسير مستمرة لا تنتهي للنص المقدَّس وبذلك يصبح اليهودي عدو التجسد وعدو أي يقين معرفي. والتفسير المستمر للنص هو إستراتيجية اليهودي للتغلب على غربته وهي إستراتيجيته التقويضية لينتقم من الأغيار فيأخذ نصوصهم المقدَّسة أو المركزية ويحل محل معناها الأصلي معنى غنوصياً مظلماً فكأنه انتقم مما حلَّ به من إحلال.
والصراع مع الأصل يأخذ شكل الصراع مع الأب، فالأب هو الذي يمنحنا الحياة، فإن قتلنا الأب محونا الأصل ووصلنا إلى عالم بلا أصل ولا ثبات، بلا مركز ولا مطلقات.(15/234)
وهنا يشير بلوم إلى أسطورة أوديب (في المصطلح الفرويدي) حيث يدخل الشاعر في صراع مع من سبقه من شعراء (آبائه) فإما أن يصرعهم وإما أن يصرعوه. ويؤكد بلوم دائماً (مثله مثل كثير من دعاة ما بعد الحداثة) أن الرغبة تسبق الفعل أو أن الرغبة هي المحرك، فالرغبة تتجاوز الحدود وتتجاوز التاريخ والزمان والمكان، هي الذاتية الكاملة والنسبية والصيرورة. لكل هذا، نجد أن الموضوعات الأساسية في كتابات بلوم هي التقويض والمراجعة والانقطاع والتفسيرات التفكيكية والإحلال. ويرى بلوم أن آليات الدفاع عن الذات هي أشكال بلاغية سماها في البداية بأسماء يونانية، فهناك: كلينامن Clinamen، أي الإنحراف، وتيسيرا Tesera، أي الاكتمال والتناقض، وكينوسيس Kenosis، أي السعي إلى الانقطاع عن الشاعر السابق، والديمنة Daemonization (من «ديمون demon» ، أي «الشيطان» ) ، وهي الشيطنة، ولكنه في دراسة لاحقة أسقط هذه المصطلحات وأحل محلها مصطلحات من القبَّالاه مثل تهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) والانكماش (تسيم تسوم) والإصلاح) تيقون) .
ويثير مفهوم التسيم تسوم على وجه الخصوص اهتمام بلوم. فالخلق، حسب الأسطورة اللوريانية، تم من خلال عملية انكماش أي غياب، ولكن هذا الغياب الإلهي ضروري للحضور الإلهي، فكأن الغياب والحضور يتداخلان. والحضور الإلهي ليس كاملاً فهو عملية مستمرة عبر التاريخ، هو نقطة غياب وحضور. وبهذا، يكون التسيم تسوم تعبيراً عن المفارقة (أيروني irony) . كما يربط بلوم بين حادثة تهشُّم الأوعية ونفي اليهود فتهشُّم الأوعية أدَّى إلى تناثُر الأشعة الإلهية واختلاطها بمادة الكون الرديئة. وهذا هو نفسه نفي اليهود وتناثرهم في بقاع الأرض واختلاطهم بالأغيار، كما أن اليهود بعد نفيهم تم إحلال شعب آخر محلهم. ثم يربط بلوم بين هذا كله والكناية حيث يحل الكل محل الجزء.(15/235)
وبجسارة غير عادية، ورغم عدم معرفته اللغات القديمة، كتب بلوم مقالاً عن المصدر اليهوي للعهد القديم بيَّن فيه أن يهوه الذي يُشار إليه في هذا المصدر ليس له أدنى علاقة بإله العهد القديم ككل، وأن مؤلف هذا النص ليس رجلاً بل امرأة وأنها امرأة متقدمة في السن تنظر إلى يهوه باعتبارها أماً تنظر إلى ابنها الذي بدأ يشب عن الطوق ويزداد قوة ولكنه ابن سريع الغضب بشكل شاذ. ومن الواضح أن بلوم هنا يغازل حركة التمركز حول الأنثى التي تحاول أن ترد كل شيء إلى الأنثى وتبين أن أصول الإنسان ليست إلهية وإنما أنثوية، فهو حلول أنثوي.(15/236)
ولا يركز نقد بلوم الأدبي على النص وإنما يركز على أهم قارئ للنص وهو قارئ يتسم بالقوة: أي الناقد، فكأن النص يموت وكاتب النص يموت وينتصر الناقد الذي يفرض إرادته النيتشوية على الكلمات التي أمامه، ومن ثم يذوب النص المكتوب في صوت الناقد (الذي يصبح اللوجوس في العملية الأدبية) . ولذا، يصبح النقد الأدبي مناسبة أو تكأة للناقد لأن يطلق صوته وكأنه كاهن حلولي يتصور أن الإله قد تلبَّسه وأن اللوجوس حل فيه فأصبح هو نفسه اللوجوس. ويُلاحَظ أن السيولة الحلولية هنا تؤدي إلى انثيال المصطلحات وتَغيُّرها من عمل إلى عمل، فالمصطلحات البوبرية التي استُخدمت في المرحلة الأولى أُسقطَت في المرحلة الثانية حيث حلت محلها مصطلحات من القبَّالاه اللوريانية ثم من الفكر الغنوصي وأخيراً من فكر التمركز حول الأنثى، ولكن الثابت في كل هذا هو الصيرورة. وعلى كلٍّ، فإن هذه صفة أساسية في النقد الأدبي الحديث لعصر ما بعد الحداثة في الغرب حيث يتسم كل شيء بالسيولة بعد غياب اليقين المعرفي والأخلاقي. ومن ثم، فلا يمكن الحديث عن بلوم باعتباره ناقداً يهودياً، فهو ناقد علماني غربي من نقاد عصر ما بعد الحداثة وقد أصبحت القبَّالاه نفسها جزءاً من التراث الفكري الغربي بحيث لا يوجد فارق كبير بين القبَّالاه المسيحية والقبَّالاه اليهودية.(15/237)
وقد صَدَر لبلوم مؤخراً كتاب العقيدة الأمريكية: ظهور الأمة ما بعد المسيحية (1992) يذهب فيه إلى أن الأمريكيين يؤمنون بعقيدة واحدة ذات بنية غنوصية تؤله الذات الأمريكية وترى أنها قديمة وليست مخلوقة. والحرية في هذا الإطار هي الخلاص الغنوصي، أي الاتصال الأبدي بالخالق والعودة إلى حالة الامتلاء الأولى (بليروما) . ويرى بلوم أن المسيحية الأمريكية لم تَعُد مسيحية رغم استخدامها المصطلحات المسيحية. وأهم تجليات هذه العقيدة شبه المسيحية هي المورمونية وشهود يهوه. ويرى بلوم أن الطوائف المسيحية كلها وجميع الطوائف الدينية الأخرى تتبع هذا الإطار الغنوصي الأمريكي.
الصهيونية وما بعد الحداثة
Zionism and Post-Modernism
حاولنا في المداخل السابقة أن نكتشف الصلة بين ما بعد الحداثة من جهة، واليهودية واليهود من جهة أخرى، من خلال محاولة الوصول إلى البُعد المعرفي للظاهرة «المعرفي» ( «الكلي والنهائي» ) ومن ثم طوَّرنا مقولات مثل الحلول مقابل التجاوز، والصيرورة مقابل الثبات، والتبعثر مقابل الكلية والتكامل.
ويمكن أن نطبق المنهج نفسه على علاقة الصهيونية (باعتبارها وريثة بعض جوانب التراث اليهودي الحاخامي) وما بعد الحداثة.
والصهيونية، في جوهرها، حركة فكرية وسياسية غربية، أي أنها إفراز من إفرازات النموذج الغربي العلماني الشامل، ولذا فثمة علاقة بنيوية وثيقة بينها وبين ما بعد الحداثة، شأنها في هذا شأن معظم الحركات الفكرية السايسية الغربية. بل إنه يمكننا القول بأن كثيراً من مقولات ما بعد الحداثة، كحركة فلسفية متبلورة، كانت قد تبدت في الفكر الصهيوني قبل ظهور ما بعد الحداثة. ويمكن أن نوجز هذه المقولات فيما يلي:(15/238)
1 ـ تقوم الصهيونية بتفكيك كل من اليهودي والعربي، فكلاهما لا يتمتع بأية مطلقية، وكلاهما ليس له قيمة تذكر في حد ذاته: فاليهودي، شأنه شأن العربي، شخص لا جذور له، ومن ثم يمكن نقله ببساطة من مكان لآخر، ويمكن أن تُفرض عليه هوية جديدة، فيصبح اليهودي المستوطن الصهيوني ويصبح العربي اللاجئ الفلسطيني، وتصبح فلسطين إسرائيل بل ويصبح الوطن العربي السوق الشرق أوسطية! فكأن علاقة الدال بالمدلول في الخطاب الصهيوني مسألة هشة عرضية، قابلة للتغير، أي أن المدلول هنا سقط تماماً في قبضة الصيرورة. وينطبق الشيء نفسه على المشروع الصهيوني، فهو يدَّعي أنه مشروع يهودي ولكنه يهدف إلى مَحْو يهودية المنفى (أي اليهودية عبر تاريخها) وإلى محو اليهود عن طريق تطبيعهم ودمجهم في مجتمع الأغيار، فهو دال دون مدلول أو دال مدلوله عكسه. ولا يختلف الأمر كثيراً على مستوى التطبيق، فالدولة التي أسستها الصهيونية هي دولة تزعم أنها يهودية ولكن، مع هذا، ليس لها مضمون يهودي، وهي تُعَدُّ من أكثر الدول علمنة في العالم وتتهدد الهويات اليهودية الدينية والإثنية.
2 ـ الصهيونية، مثل ما بعد الحداثة، نسبية تماماً تؤمن بالصيرورة الكاملة. وانطلاقاً من هذه الصيرورة، وإنكار الكليات والحق والحقيقة، يُستخدَم العنف لتغيير الوضع القائم لصالح صاحب السلاح القوي.
3 ـ يتبدَّى هذا الإيمان بالصيرورة في برجماتية الصهيونية (وما بعد الحداثة) . فالصهيونية تملك مقدرة هائلة على التحرك دون مطلقات، وقد أسست دولة وظيفية في العالم العربي تغيَّر دورها من مرحلة لأخرى حتى يتسنى لها خدمة المصالح الغربية بكفاءة عالية.(15/239)
4 ـ انطلاقاً من هذا الإيمان بالصيرورة، تذهب ما بعد الحداثة إلى أنه لا توجد نظرية (قصة) كبرى تنبع من إنسانيتنا المشتركة، ولذا لا يبقى سوى قصص صغرى ليس بإمكان البشر جميعاً أن يشاركوا فيها. كما أن الصهيونية هي أيديولوجية القصص الصغرى التي لا تؤمن بقصة إنسانية كبرى، فالصهيوني يؤسس نظريته في الحقوق اليهودية في فلسطين انطلاقاً من «شعوره الأزلي بالنفي وحنينه إلى صهيون» ، أي أنه يدور في نطاق قصته الصغرى. وحيث إن ارتباط العرب بفلسطين ووجودهم فيها يقع خارج نطاق هذه القصة، فلا شرعية لها بل لا وجود.
5 ـ يُلاحَظ أن كلاًّ من الصهيونية وما بعد الحداثة يتسمان بالثنائيات المتعارضة المتطرفة التي تؤدي إلى العدمية. فما بعد الحداثة تطرح تصوراً للحقيقة باعتبارها حضوراً كاملاً مطلقاً. وحيث إن مثل هذا الحضور مستحيل، فهي تعلن أنه لا توجد حقيقة على الإطلاق. وهذا لا يختلف كثيراً عن طرح الصهاينة لفكرة اليهودي الخالص (المطلقة) كمعيار وحيد للهوية اليهودية. وحيث إن مثل هذا اليهودي غير موجود في عالم المنفى، فإن عالم المنفى والأغيار يُرفَض بأسره حتى يتم تأسيس الدولة اليهودية الخالصة. ثم تزول الثنائية تماماً حين نكتشف أن الدولة اليهودية الخالصة ستُعيد صياغة اليهودي ليصبح مثل الأغيار وتسود الواحدية، أي أنه تم الانتقال من التعارض الكامل إلى التماثل الكامل وإلى الواحدية التي تمحو الثنائية.
الباب العاشر: اليهودية بين لاهوت موت الإله ولاهوت التحرير
اليهودية في عصر ما بعد الحداثة
Judaism in the Age of Post- Modernism
بإمكان القارئ أن يعود للباب المعنون «الحلولية والعلمانية» ليجد تعريفنا للحداثة، أي باعتبارها إنكاراً لأي يقين معرفي أو أخلاقي وتعبيراً عن تصاعد معدلات العلمنة بل عن اكتمال المنظومة العلمانية التحديثية التنويرية. و «لاهوت موت الإله» هو لاهوت يهودية عصر ما بعد الحداثة.
لاهوت موت الإله(15/240)
Death of God Theology
كلمة «لاهوت» تشير إلى التأمل المنهجي في العقائد الدينية. وعلى هذا، فإن الحديث عن «لاهوت موت الإله» ينطوي على تناقض أساسي. ومع هذا، شاعت العبارة في الخطاب الديني الغربي، وخصوصاً في عقد الستينيات. وعبارة «موت الإله» في حد ذاتها مأخوذة من فيلسوف العدمية والعلمانية الأكبر فردريك نيتشه. ويحاول لاهوت موت الإله تأسيس عقيدة تَصدُر عن افتراض أن الإله لا وجود له وأن موته هو إدراك غيابه.
والحديث عن موت الإله أمر غير مفهوم في إطار إسلامي، فالله واحد أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. وفي المسيحية (ورغم حادثة الصلب) فإن الإله موجود من الأزل إلى الأبد. والشيء نفسه يُقال عن الطبقة التوحيدية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي. ولكن، في إطار حلولي، يصبح الحديث عن موت الإله أمراً منطقياً، فالحلول الإلهي يأخذ درجات منتهاها وحدة الوجود حيث يتجسد (يحل) الإله تماماً في الطبيعة وفي أحداث التاريخ ويتوحد مع الإنسان ومع مخلوقاته ويصبح كامناً فيهما. ولكن لحظة وحدة الوجود هي نفسها اللحظة التي يصبح الإله فيها غير متجاوز للمادة، ويتوحد الجوهر الرباني مع الجوهر المادي ويصبح هناك جوهر واحد، ومن ثم يفقد الإله سمته الأساسية (تجاوزه للطبيعة والتاريخ وتنزهه عنهما) ويشحب ثم يموت، ويصبح لا وجود له خارج الجوهر المادي. ولاهوت موت الإله هو فكر ديني مسيحي ويهودي ظهر في عقد الستينيات في العالم الغربي، وما يهمنا هنا في هذه الدراسة هو التيار اليهودي داخله.(15/241)
ويمكن القول بأن لاهوت موت الإله هو حلولية كمونية مادية، حلولية يموت فيها الإله تماماً (وحدة وجود مادية) وتحل مطلقات دنيوية أخرى كامنة في المادة والتاريخ محله. وينطلق لاهوت موت الإله عند اليهود من فكرة قداسة التاريخ اليهودي النابعة من قداسة الشعب اليهودي ومن مركزيته الكونية، وهي قداسة تشمل ما يقوم به هذا الشعب من أفعال، وما يقع له من أحداث. وأهم الأحداث التي وقعت له في الماضي هي العبودية في مصر والخروج منها، والسبي البابلي والعودة منه، ثم سقوط الهيكل والشتات. ولكن أهم ما وقع لليهود على الإطلاق هو الإبادة النازية ليهود أوربا. وهذه الإبادة ليست فعلاً ارتكبته الحضارة الغربية ضد ملايين البشر (من يهود وبولنديين وغجر ومعوقين وعجائز) ، وإنما هي جريمة ارتُكبت ضد اليهود وحسب. وهكذا يُنظر إلى الإبادة باعتبارها حادثة تاريخية تجسد الشر المطلق، وهي رهيبة لدرجة أنها تنفي وجود الخير والعقل واليقين والأمل، وهي أخيراً تنفي وجود الإله. وحتى إن كان الإله موجوداً فيجب ألا نثق فيه لأنه تخلَّى عن الشعب اليهودي. بل إن هذه الحادثة تكاد تكون حدثاً يقف خارج التاريخ، فهي عدم تام. وهي مدلول متجاوز لا يمكن أن يدل عليه دال؛ فهو مرجعية ذاته ولا يمكن فهمه إلا بالعودة إليه خارج أي سياق. ويمكن القول بأن كلمة «هولوكوست» أصبحت دالاً ومدلولاً في آن واحد، فهي تشبه الأيقونة. ولذا، فالفهم غير ممكن ولا يمكن سوى التذكر.(15/242)
وكما جاء خروج اليهود بعد العبودية في مصر، والعودة بعد السبي في بابل، جاءت وقفة الشعب اليهودي ومقاومته لما يتهدد بقاءه في أعقاب حادثة سقوط الهيكل والشتات ثم الإبادة. ولنا أن نلاحظ الثنائية الصلبة التي تسم لاهوت موت الإله: عبودية/خروج ـ سبي/عودة ـ شتات/استقلال إسرائيل ـ إبادة/بقاء الشعب، وهي ثنائية صلبة تأخذ شكل حركة دائرية متكررة (ويتسم التفكير الحلولي بالدائرية إذ يختفي التاريخ ويتداخل القومي والديني والإنسان والإله) . ولكن هذه الوثنية الحلولية الجديدة هي وثنية بدون إله، إذ تحل الذات القومية محل الإله تماماً، أي أن الشعب اليهودي استوعب في ذاته كل المطلقية والقداسة الممكنة وأصبح مركز الكون والكلمة المقدَّسة (لوجوس) والغرض الإلهي (تيلوس) معاً وفي آن واحد. ولذا، تُعَدُّ مقاومة الشعب اليهودي للإبادة بمنزلة تنفيذ الأوامر والنواهي (متسفوت) في التراث القبَّالي؛ فهذه المقاومة هي التي تقوم بعملية إصلاح الخلل الكوني (تيقون) . وهي عملية يقوم الإله من خلالها باستعادة وحدته التي فقدها أثناء عملية تَهشُّم الأوعية (شفيرات هكيليم) . وكلما قاوم اليهودي، زادت عملية الإصلاح تسارعاً واكتملت استعادة الإله لوحدته. ومن ثم، فإن الشعب اليهودي يوجد خارج التاريخ ككيان لا يخضع لقوانينه العبثية، ويؤكد المعنى من خلال مقاومته، أو هو بمنزلة الجسر الذي يصل بين الإله والتاريخ (على حد قول آرثر كوهين) . وكل هذا يتضمن فكرة حلولية كمونية متطرفة وهي أن الشعب هو الإله وأن هذا الإله لا يتجاوز تاريخ هذا الشعب وإنما يتجلى ويحل ويذوب فيه تماماً ويختفي!(15/243)
وإذا كانت الجريمة الكبرى هي الفناء، فالفضيلة الكبرى هي المقاومة والبقاء، وكل هذا يجسده ظهور دولة إسرائيل كدولة ذات سيادة تعبِّر عن إرادة الشعب اليهودي ورغبته في البقاء، وتثبت أن الشعب اليهودي يرفض أن يلعب دور الشعب الشاهد كما ترى المسيحية، ولا أن يكون شعباً شهيداً كما تتصور اليهودية الحاخامية التي ترى أن اليهود تم اختيارهم ليكونوا شعباً من الشهداء والقديسين والأنبياء والكهنة لا سيادة له، عاجز لا يشارك في السلطة (وهو الدور الذي يرى دعاة لاهوت موت الإله أنه أدَّى باليهود إلى الاستسلام للإرهاب النازي، وعبَّر عن نفسه في اشتراك القيادات اليهودية في المجالس اليهودية التي أسسها النازيون والتي قامت بتسليم اليهود إلى قاتليهم) . لكن الدولة الصهيونية تقف على الطرف النقيض من هذا كله، فهي تحل مشكلة العجز اليهودي الناجم عن انعدام السيادة وعدم المشاركة في السلطة، فإسرائيل دولة ذات سيادة ولها سلطة وجيش قوي ومؤسسات عسكرية تدافع عن الإرادة اليهودية المستقلة، وإسرائيل هي الشيء الإيجابي الذي ظهر من رماد أوشفيتس، وهي (باعتبارها رمز بقاء الشعب) تشكل هزيمة للعدم ولهتلر (ولذا، يُشار إلى لاهوت موت الإله بأنه «لاهوت البقاء» و «لاهوت ما بعد أوشفيتس» ) . بل إن إسرائيل هي حقاً الوسيلة الكبرى لعملية الإصلاح الكوني (تيقون) . فمن خلال هذه الدولة يعلن المطلق عن نفسه ويُستعاد الحضور الإلهي داخل التاريخ (على حد قول الحاخام إليعازر بركوفتس) . فبقاء الشعب والدولة هو بقاء الإله، واستمرار الشعب والدولة هو استمرار الإله. ولذا، فإن من يقف ضد الدولة ولا يقبلها فهو كمن ينكر وجود الإله، ومن يقبلها بلا شرط فهو وحده المؤمن (على حد قول آرثر روبنشتاين) . وقد صرَّح الحاخام إيوجين بورويتز أحد مفكري لاهوت موت الإله بأن الدولة الصهيونية إبان حرب 1967 لم تكن وحدها المهددة بالخطر، بل كان هذا الخطر محدقاً بالإله نفسه.(15/244)
ويمكننا الآن أن ننتقل من عالم المعرفة والتاريخ إلى عالم الشعائر والأخلاق. فالقيمة الأخلاقية المطلقة هي بقاء الشعب اليهودي، وهذا البقاء هو نهاية في ذاته، والحفاظ على الدولة وبقائها وبأي ثمن هو أيضاً مطلق أخلاقي (أو ليس دفاع اليهود عن أنفسهم دفاعاً عن الإله؟) ، ومن ثم نجد أن لاهوت موت الإله يؤدي إلى ظهور أخلاقيات داروينية، أي أخلاقيات هي في جوهرها لا أخلاقيات، إذ أنها لا تحاكم إسرائيل بأية مقاييس أخلاقية، وإنما تبرر كل أفعالها وتقبلها تماماً. بل إن الشغل الشاغل للشعب اليهودي هو: تَذكُّر الإبادة وما حلَّ بهم، ثم الالتزام ببقاء إسرائيل وحماية سيادتها وصون بقاء الشعب اليهودي، بأية طريقة ودون الالتزام بأية قيم.
أما الشعائر، فهي تكتسب أبعاداً جديدة تماماً. فإن كان تَذكُّر الذات (اليهودية) واجباً أخلاقياً، فإن كتابات اليهود من أمثال إيلي فيزيل عن الإبادة تصبح هي الكتب المقدَّسة، ويُعتبَر متحف مثل متحف بيت هاتيفوتسوت (متحف الدياسبورا في إسرائيل) مستودعاً للذاكرة وتصبح زيارته شعيرة دينية مقدَّسة، والأوامر والنواهي تضاف إليها أوامر ونواه تضفي الطابع الديني على الدولة والمؤسسات الصهيونية والإسرائيلية مثل مؤسسة الجباية اليهودية والكنيست وجيش إسرائيل. وقد نجح اليهود، في حوارهم مع المسيحيين، في أن يجعلوا من الإيمان بالدولة الصهيونية أحد المطلقات التي لا يجوز في شأنها حوار، كما لا يمكن مناقشة أفعالها.(15/245)
وقد يكون من المفيد أن نشير هنا إلى أن إدراك يهود أوربا للإبادة النازية على هذا النحو هو إدراك حلولي كموني متأثر بحادثة الصلب المسيحية (وتشويه له في الوقت نفسه) ، فالمسيح هو اللوجوس ابن الإله الذي ينزل فيُصلَب ثم يقوم ويعود إلى أبيه (وهذا هو الحلول المؤقت الشخصي المنتهي) . أما في اليهودية، فالشعب هو اللوجوس الذي يعيش بين الأمم ويتعرض للشتات والعذاب وأخيراً الصلب في حالة الإبادة النازية. وكما أن حادثة الصلب لابد أن تُقبل كما هي في الوجدان المسيحي، فإن لاهوت موت الإله اليهودي يتطلب من اليهود والأغيار قبول حادثة الإبادة باعتبارها سراً من الأسرار. وكما أن المسيح يقوم بعد الصلب، فإن الشعب يبقى بعد الإبادة ثم يقوم على هيئة الدولة الصهيونية! أي أن الحلول المسيحي الشخصي المنتهي يتحول إلى حلول قومي دائم ومستمر.
ولا شك في أن هذا الخطاب لا علاقة له بأي دين، سواء أكان الإسلام أم المسيحية أم حتى اليهودية الحاخامية. وهو بالفعل يصدم أسماع كثير من الحاخامات الذين قاموا بتكفير أصحابه. ولكن التركيب الجيولوجي للعقيدة اليهودية يجعل وجود سوابق لمثل هذه الأفكار أمراً ممكناً. ففكرة الإصلاح (تيقون) في القبَّالاه اللوريانية تمنح اليهود مركزية كونية وتجعل وجود الإله أو وحدته مرهوناً بوجودهم. والقبَّالاه لم تكن هرطقات ثانوية هامشية وإنما كانت العمود الفقري لليهودية الحاخامية أو لتيار مهم داخلها.
ويمكننا ببساطة القول بأن لاهوت موت الإله (وحدة الوجود المادية) هو اللحظة التي تتم فيها صهينة اللاهوت اليهودي تماماً، إذ يختفي الإله تماماً ويموت وتموت معه شعائره وكتبه المقدَّسة ليحل محله إله جديد هو الدولة الصهيونية، وتظهر شعائر جديدة هي الدفاع عن الدولة وتَذكُّر الشعب اليهودي، أما الكتب المقدَّسة فهي سجلات هذه الذاكرة.(15/246)
وكثير من الحركات الصوفية الحلولية تترجم نفسها إلى أساطير من هذا النوع، ويخلع الأتباع القداسة على أنفسهم. ويُلاحَظ كذلك أن الحركات الفاشية تخلع القداسة على نفسها وعلى تاريخها وتعلن نهاية التاريخ. ومع هذا، فإنها تتحرك داخل التاريخ لاغتيال الأطفال والاستيلاء على الأرض. هذا ما فعله النازيون، وهذا ما يفعله الصهاينة. ولاهوت موت الإله ينجز ذلك أيضاً، لكنه يحتوي داخله على تناقض أساسي، فهو يصر على أن يخلع المطلقية على اليهود ومؤسساتهم وتاريخهم (فالإبادة لا يمكن النقاش في معناها، والدولة الصهيونية لا يمكن نقدها أو الحوار بشأنها، وهكذا) ، ولكنه في الوقت نفسه يرفض دور الشاهد على التاريخ ويصر على المشاركة في السلطة، مع أن من يتصف بالمطلقية يقف خارج التاريخ، أما من يشارك في السلطة ويستخدمها فهو يقف داخله. ولكن هذا التناقض العميق تتصف به كل النماذج الحلولية الكمونية حينما تتحول إلى نظام حكم.
ولاهوت موت الإله تعبير عن العلمنة الشاملة الكاملة للنسق الديني اليهودي، فهو شكل حاد من حالات تَوثُّن الذات القومية التي تتحول إلى مطلق يعبِّر عن نفسه من خلال مطلق آخر: الدولة. وهي مطلقات مادية لها كل صفات الغيب والميتافيزيقا دون أن تُحمِّل من يؤمن بها أية أعباء أخلاقية، بل تعطيه العديد من المزايا، والتزامه الوحيد هو البقاء. ولكن البقاء بأي شرط ليس عبئاً وإنما هو حالة تتسم بها كل المخلوقات البيولوجية، لا فرق في ذلك بين الإنسان والحيوان الأعجم والنبات الذي لا يتحرك، فهذه هي أخلاقيات النظام المادي الواحدي الذي ينتظم كلاًّ من الإنسان والمادة، وهذا هو ميراث عصر الاستنارة.(15/247)
ولعل إدراكنا منطلقات لاهوت موت الإله بمطلقيته وتاريخيته، وكذلك إدراكنا لنتائجه المعرفية والأخلاقية، يفسر لنا شيئاً من الموقف الصهيوني والإسرائيلي تجاه العرب، فإذا كانت الذات القومية مطلقة فلا مجال للحوار مع الآخر ولا حقوق له فهو يقع خارج الدائرة المقدَّسة. ويمكننا أن نقول إن لاهوت موت الإله هو النسق الكامن وراء الخطاب السياسي الإسرائيلي بكل علمانيته وبريقه وعنفه وقوته.
إن لاهوت موت الإله تعبير عن النسق المعرفي الجديد الذي يسيطر في الوقت الحالي على الحضارة الغربية، أي نسق ما بعد الحداثة (التي يشار إليها أيضاً بالتفكيكية أو ما بعد البنيوية) وهو شكل من أشكال العدمية الكاملة التي لا تنكر وجود الإله وحسب، وإنما تنكر أية مركزية للإنسان، بل تنكر فكرة الطبيعة البشرية نفسها. وهي لا تنكر الحقيقة الدينية وحسب وإنما الحقيقة في أساسها، ولا تتمرد على فكرة القيمة الدينية أو الأخلاقية، وإنما على فكرة القيمة نفسها، أي أنها تنكر قيمة القيمة.
ومن أهم مفكري لاهوت موت الإله إرفنج جرينبرج وريتشارد روبنشتاين وإميل لودفيج فاكنهايم.
لاهوت ما بعد أوشفيتس
Post-Auschwitz Theology
عبارة «لاهوت ما بعد أوشفيتس» تُستخدَم للإشارة إلى التفكير الديني اليهودي الذي ظهر منذ أوائل الستينيات، والذي يتوقف عند حادثة الإبادة النازية ليهود أوربا ويضفي عليها المركزية. وعادةً ما يتم الربط بين ظهور دولة إسرائيل وحادثة الإبادة حيث تظهر الإبادة باعتبارها العنصر السلبي على حين أن إعلان استقلال إسرائيل هو العنصر الإيجابي في هذه الدراما الكونية. ولاهوت ما بعد أوشفيتس هو مسمى آخر للاهوت موت الإله. (انظر: «لاهوت موت الإله» ) .
لاهوت البقاء
Survial Theology
«لاهوت البقاء» عبارة تُطلَق على لاهوت موت الإله والذي يُسمَّى أيضاً «لاهوت ما بعد أوشفيتس» .
إتي هلسوم (1914-1943 (
Etty Hillesum(15/248)
مفكرة دينية هولندية يهودية. حصلت على الدكتوراه في القانون من جامعة أمستردام، وبدأت في دراسة اللغات السلافية حتى غزا النازيون هولندا. وُلدت إتي لأسرة يهودية مندمجة مع أن أمها كانت من يهود اليديشية. نشطت لفترة في القضايا السياسية، ولكنها تركتها وركزت على العمل الأدبي. وقد تأثرت هلسوم بأعمال دوستويفسكي وريلكه والكتاب المقدَّس (العهد القديم والعهد الجديد) . وقد عَملت بعض الوقت في أحد المجالس اليهودية التي أسسها النازيون لإدارة شئون الجماعات اليهودية ولترحيل اليهود إلى معسكرات الاعتقال والإبادة. وقد نُقلت هلسوم إلى أحد المعسكرات حيث كان يتم فرز اليهود لتقرير من سيُرحَّل إلى معسكرات الاعتقال، وقد رفضت أن تتخلى عن عملها حتى حينما سنحت لها الفرصة. وقد رُحِّلت إلى أوشفيتس حيث قُتلت عام 1943.(15/249)
ينطلق فكر هلسوم من حادثة الإبادة النازية ليهود أوربا وغياب الإله أو موته وعجزه، بل إنها تسأل: إذا كان الإله عاجزاً ولا يستطيع مساعدة شعبه اليهودي، هل يستطيع هذا الشعب مساعدته؟ وهذا هو بالضبط مفهوم الإصلاح الكوني (تيُّقون) القبَّالي. والواقع أن يومياتها مليئة بالإشارات إلى ضرورة أن يضحي الإنسان بنفسه دون انتظار أية عدالة ودون أن يكن أي كره لقاتله، وقد وُصف فكرها الديني بأنه مسيحي متأثر لا بحادثة الخروج اليهودية وإنما بحادثة الصَلْب المسيحية. وبالفعل، نجد أن كتاباتها مليئة بإشارات إلى العهد الجديد. بل يبدو أن رؤيتها لأوشفيتس هي رؤية مسيحية، فالشعب اليهودي هو الذي يتم صلبه وكأنه حَمَل الإله الوديع ودمه النازف شهادة على وجود الإله أو دعوة للشعوب ألا تنغمس في العنف مرة أخرى. ولذا، فإننا نجد أنها لا تهتم كثيراً بإشكالية عجز الشعب اليهودي بسبب عدم مشاركته في السلطة، وهي الإشكالية التي يهتم بها دعاة لاهوت موت الإله وبقاء الشعب اليهودي. وبقاء الشعب ليس المطلق أو حجر الزاوية المقدَّسة بالنسبة إليها، فالموضوع الأساسي في كتاباتها هو اليهود كشاهد وليس اليهود كشعب له سيادة. وقد ظهرت طبعة لأعمالها الكاملة بالهولندية عام 1986. والواقع أن كتابات هلسوم، شأنها شأن كتابات شيستوف وأعمال شاجال، تثير قضية الهوية اليهودية، فإذا كانت النقطة المرجعية لهلسوم هي المسيحية، وإذا كان خطابها الديني مسيحياً، فبأي معنى من المعاني يمكن الحديث عن يهوديتها.
إرفنج جرينبرج (1933-)
Irving Greenberg
حاخام أمريكي يوصف بأنه أرثوذكسي وبأنه مفكر تربوي أمريكي يهودي. وُلد في بروكلين، وعمل في جامعة براندَيز كمدير لجماعة هليل الطلابية وكمحاضر، ثم عمل أستاذاً للتاريخ في جامعة يشيفا.(15/250)
وينطلق فكر جرينبرج من نقد جذري عميق لكل من الدين والحداثة من خلال واقعة الإبادة. فاليهودية والمسيحية في رأيه مسئولتان عن الإبادة لأنهما أدتا إلى عجز اليهود: المسيحية بقيامها بتجريد اليهود من السلطة وتحويلهم إلى شعب شاهد وبتوليدها كُرهاً عميقاً تجاه اليهود لدى المسيحيين، واليهودية الحاخامية بتقبلها العجز بسبب عدم المشاركة في السلطة واعتباره حالة نهائية لن تنتهي إلا بمقدم الماشيح. فاليهود، حسب تصوُّر اليهودية الحاخامية، شعب مختار من الكهنة والأنبياء والشهداء.
ولكن الحل لا يكمن في الاتجاه إلى العلم، فالحضارة الحديثة التي نقلت الولاء من إله التاريخ والوحي إلى إله العلم والإنسان لم تؤد إلى سعادة الإنسان وإنما إلى الإبادة، والمجتمع الحديث بكل آلياته وإمكاناته هو الذي جعل الإبادة أمراً ممكنا. بل إن كلاًّ من المؤسسات الدينية والحديثة مرت على الإبادة مروراً عابراً وتقاعست عن واجب تحديها بالخروج عن الصمت، أي أن جرينبرج يرفض أن ينسب أية مطلقية للعقيدة الدينية أو للمجتمع العلماني.(15/251)
وحلاًّ لهذه المشكلة، يقترح جرينبرج أمراً جديداً تماماً فبدلاً من الحديث عن الإيمان والإلحاد، علينا أن نتحدث عن لحظات من الإيمان ولحظات من الإلحاد، وعلينا أن نتقبل كلاًّ من لحظات الإيمان ولحظات الإلحاد، وبذا نتخلص من الثنائية التقليدية التي تضع الإيمان مقابل الإلحاد، وفي هذا تَقبُّل للتعددية الحقة حيث لا يوجد مركز دائم وإنما هناك مراكز متعددة متنقلة متغيرة تماماً كعلاقة الدال بالمدلول في الفكر التفكيكي وفكر ما بعد الحداثة (فهي علاقة مؤقتة غير نهائية) . وحياة الشعب اليهودي بأسره جدل مستمر بين لحظات الإيمان ولحظات الإلحاد، وهو ما يسميه جرينبرج «جدلية القدس» أو «جدلية أوشفيتس» . فالقدس ترمز إلى لحظة الإيمان بالإله والشعب وتبعث على الأمل، أما أوشفيتس فترمز إلى الاغتراب عن الإله والناس وتبعث على القنوط. ورغم إصرار جرينبرج على عدم تفضيل الإيمان على الإلحاد، ورغم سعيه إلى نفي فكرة المركز، إلا أنه يرى أن المؤمن هو من يمارس عدداً من لحظات الإيمان والأمل يفوق عدد لحظات الإلحاد واليأس.
ويقدم جرينبرج تاريخاً لليهودية هو تطبيق لنظرية اختفاء المركز هذه، فتاريخ اليهودية يعبِّر عن ظاهرة اختفاء الإله تدريجياً. ولإثبات نظريته هذه، يُقسَّم تاريخ اليهودية إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى، مرحلة العهد القديم: وهي المرحلة التي بدأت بالحديث المباشر بين الإله وموسى ثم حديث الإله للشعب من خلال الكهنة والأنبياء. والشعب في هذه المرحلة كل لا يتجزأ، وتأخذ الشعائر شكل العبادة القربانية في الهيكل التي كان يشرف عليها الكهنة. والخطايا في هذه المرحلة جماعية، كما أن التوبة والندم جماعيان.(15/252)
المرحلة الثانية، مرحلة التلمود واليهودية الحاخامية أو التلمودية: وهي المرحلة التي لا يتحدث فيها الإله مباشرة للشعب، وإنما يتم الحوار من خلال الحاخامات الذين يدرسون كتاب الإله من خلال التفسيرات التي وضعها المفسرون الأوائل، أي يدرسون التلمود. وتأخذ الشعائر هنا شكل التعبد في المعبد اليهودي تحت قيادة الحاخام، وتصبح الخطيئة فردية، وكذلك التوبة. ويُلاحَظ في هذه المرحلة بداية التراجع النسبي للإله (قياساً إلى المرحلة السابقة) .
المرحلة الثالثة، مرحلة الإبادة وأوشفيتس ودولة إسرائيل: وهي المرحلة التي يختفي فيها الإله تماماً وتصبح الدولة الصهيونية هي المطلق، إذ كان الإله في المعسكرات يقول للبشر أوقفوا المذبحة ولكنها لم تتوقف، ولم يستجب أحد. ومع هذا جاءت الاستجابة في شكل دولة إسرائيل. فكأن الإله قد حلَّ تماماً في التاريخ و «صعد» مع الشعب إلى إسرائيل، ومن ثم فإن هذه المرحلة تتسم بغياب الإله وحضور إسرائيل.(15/253)
والتحول الذي حَدَث هو تحوُّل من العجز بسبب عدم المشاركة في السلطة إلى تأكيد السيادة والاستيلاء على السلطة، وهو أمر لا يتم بالنسبة للمستوطنين في إسرائيل وحدهم، وإنما يحدث لجميع يهود العالم الذين يشكلون أداة ضغط متمثلة في اللوبي الصهيوني والمؤسسات الصهيونية الأخرى، فكأن حالة النفي تنتهي فعلياً ومادياً بالنسبة إلى المستوطنين وتنتهي نفسياً بالنسبة إلى يهود العالم. كما أن بقاء الشعب اليهودي متمثلاً في الدولة الصهيونية في فلسطين والجماعات اليهودية في العالم، وتأكيد سيادة اليهود سواء في إسرائيل أو في خارجها، أمر مطلق لا يجوز الحوار بشأنه. فمن يقف ضد تعبير إسرائيل عن سيادتها يكون مثل من ينكر واقعة الخروج من مصر، ومن ثم فإنه يكون كمن ارتكب خطيئة دينية قاطعة تؤدى إلى الطرد من حظيرة الدين. ولا يمكن الحكم على إسرائيل بالمقاييس العادية، فبقاؤها مطلق، وهو ما يعطيها الحق في أن تستخدم أحياناً أساليب غير أخلاقية لضمان البقاء. وعلى سبيل المثال، يمكن الحديث عن حق العرب في تقرير المصير شريطة ألا يؤدي هذا إلى تهديد وجود إسرائيل وبقائها. فكأن جرينبرج يدعو إلى تَمحوُّر حلولي وثني حول الذات.(15/254)
والشيء نفسه ينطبق على الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة التي يجب أن تتحول هي الأخرى إلى جماعة عضوية متماسكة (التمحور الوثني حول الذات مرة أخرى) ذات إرادة مستقلة، تتطهر رؤيتها تماماً من كلٍّ من الليبرالية والعالمية، بحيث يركز اليهود لا على الأصدقاء الدائمين وإنما على المصالح الدائمة، ويصبحون ملمين تماماً بموازين القوى وكيفية توظيفها لصالح اليهود وحدهم ولصالح الدولة الصهيونية أيضاً. وبدلاً من أن يضغط اليهود على أمريكا لخفض أسلحتها أو للانسحاب من مناطق مثل فيتنام مثلاً، انطلاقاً من قيم أخلاقية مطلقة، لابد أن يدرك اليهود أن قوة إسرائيل تستند إلى قوة الولايات المتحدة، كما أن إدراك العرب واليهود لهذا الوضع يشكل مفتاح السلام في الشرق الأوسط.
ولكن إذا كان العهد القديم كتاب المرحلة الأولى وإذا كان التلمود كتاب المرحلة الثانية، فما كتب هذه المرحلة المقدَّسة؟ إنها النصوص التي تُذكِّر الشعب اليهودي بالإبادة وبضرورة البقاء (ومن هنا نجد أن جرينبرج يعتبر كتابات إيلي فيزيل، على سبيل المثال، كتابات مقدَّسة إذ يدور معظمها حول الإبادة) . وإذا كان الهيكل هو المؤسسة الأساسية في المرحلة الأولى، والمعبد اليهودي مؤسسة المرحلة الثانية، فما مؤسسات المرحلة الثالثة؟ المؤسسات الجديدة ليست الهيكل أو المعبد، وإنما هي المؤسسات الصهيونية: الكنيست، وجيش الدفاع الإسرائيلي، والكيبوتس، والجماعات الإسرائيلية، ومؤسسات الجباية اليهودية، والنصب التذكاري الإسرائيلي (ياد فاشيم) ، بل إن بيت هاتيفوتسوت (متحف الدياسبورا) في إسرائيل ليس مجرد متحف وإنما هو تكرار طقوسي لقصة الدياسبورا وإعادة قصها في أسلوب علماني تعددي في الظاهر، ديني خفي في الباطن، فهو مخزون الذاكرة. كما أن إيباك (اللوبي الصهيوني) ، وجماعات الجباية، تعبير عن تأكيد أن الدياسبورا تقف إلى جانب الظاهرة المقدَّسة (إسرائيل) بدعمها سياسياً ومالياً.(15/255)
وإذا كان الكاهن هو الذي يشرف على إقامة شعائر المرحلة الأولى، والحاخام هو الذي يشرف في المرحلة الثانية، فلابد أن تكون النخبة الصهيونية القائدة (السياسية والعسكرية) هي المشرف على إقامة شعائر المرحلة الثالثة. وبالفعل، لاحَظ جرسون كوهين أن كثيراً من اليهود يعتقدون أن إسرائيل هي معبدهم اليهودي، وأن رئيس وزرائها هو الحاخام الأكبر أو الكاهن الأعظم.
ويضيف جرينبرج أشياء كثيرة عن القيم الأخلاقية، فيصرح بأن الإبادة ينبغي ألا تصبح مبرراً لليهود لأن ينسبوا للآخرين كل الشرور وأن يتجاهلوا عمليات الإبادة التي لحقت بالآخرين. ولكن، رغم هذه الديباجات الأخلاقية، فإن موقف جرينبرج يظل برجماتياً عملياً، فهو لا يتحدث عن التزام الدولة الصهيونية بالقيم المطلقة وإنما يتحدث عن تحالفاتها العملية لتأكيد السيادة اليهودية. ويُلاحَظ أن فكر جرينبرج ينبع من نمط ما بعد الحداثة، فثمة إنكار لأية مطلقات أو مركز، وإيمان باستحالة تجاوز حدود التاريخ وتصوُّر لتطور التاريخ باعتباره تعبيراً عن الاختفاء التدريجي للإله المتجاوز حتى يصبح التاريخ مسطحاً تماماً، دالاً بلا مدلول أو إجراءات بلا معنى، أو معنى بلا إجراءات، صيرورة كاملة يفرض جرينبرج داخلها مطلقاته المكتفية بذاتها كالسيادة اليهودية التي لا تقبل الحوار، فهي دال بلا مدلول أو دال يتجاوز كل الدوال.
ريتشارد روبنشتاين (1924-)
Richard Rubinstien(15/256)
أحد مفكري لاهوت موت الإله. كان يدرس في كلية الاتحاد العبراني ليصبح حاخاماً إصلاحياً، ولكنه حينما سمع عن الإبادة النازية ضد يهود أوربا وجد أن موقف اليهودية الإصلاحية المعادي للصهيونية موقف خاطئ تماماً، فرُسِّم حاخاماً محافظاً عام 1952 في كلية اللاهوت اليهودية. وحصل روبنشتاين على الدكتوراه عام 1960 حيث كانت رسالته عن الوجدان الديني تحليلاً نفسياً للأجاداه يوضح فيها مخاوف حاخامات اليهود من إشكالية العجز اليهودي بسبب انعدام السلطة والسيادة بعد هدم الهيكل.
صاغ روبنشتاين مساهمته في لاهوت موت الإله في كتابه أوشفيتس (1966) الذي يطرح فيه السؤال التالي: إذا كان إله التاريخ موجوداً، فكيف يستطيع المرء إذن أن يفسر إبادة ستة ملايين من شعبه المختار؟ ويرفض روبنشتاين الفكرة التي يذهب إليها بعض اليهود الأرثوذكس القائلة بأن الشعب هو أداة الإله، ومن ثم فإن إبادته ذات مغزى إلهي، كما أنها قد تكون عقاباً للشعب على انحرافه عن الشريعة والوصايا والنواهي.(15/257)
ولتفسير واقعة الإبادة، يستخدم روبنشتاين نموذجين تفسيريين: أحدهما يَغلب عليه الطابع الديني الحلولي، والآخر علمي تاريخي بوجه عام. ولنبدأ بالنموذج الديني الحلولي. يرى روبنشتاين أن الإله أوهم الشعب اليهودي أنه شعب مختار، وهو ما ساهم في استسلام اليهود للأحداث من حولهم، وولَّد في نفوسهم اليقين بأن الإله سيحفظهم وسط الدمار. بل إن العذاب والشتات، حسب هذا التصور، هي علامات الاختيار، الأمر الذي زاد سلبية اليهود فنسوا المقاومة. إذ كانت آخر مرة قاوم فيها اليهود هي فترة التمرد الحشموني. وقد هُزم اليهود وأصبح الفريسيون (الذين اختارهم الرومان) قادة اليهود رغم أنهم من دعاة الاستسلام، وأصبح العجز وعدم المشاركة في السلطة سمة أساسية لليهودية الحاخامية. لقد بدأت حالة الدياسبورا (أي وجود اليهود في المنفى) بالهزيمة العسكرية واستمرت لأن اليهود طوروا ثقافة الاستسلام والخضوع واستوعبوها وعاشوا داخل نطاقها، أي أن سر استمرارهم يكمن في خضوعهم وخنوعهم. وظهرت شخصية الوسيط (شتدلان) الذي يقوم بالتوسط لدى الحاكم باسم اليهود ويقدم له الالتماسات ويطلب منه استخدام الشفقة مع اليهود ويعطيه الرشاوى نيابة عن اليهود ويقوم بجمع الضرائب نيابة عنه. واستمرت هذه التقاليد حتى العصر الحديث في المجالس اليهودية في أوربا التي كانت تقوم بدور الوسيط بين الجماعات اليهودية والسلطات النازية إبان الحرب العالمية الثانية. وقد تعاونت هذه المجالس مع النازيين ونفذت أوامرهم وتولت قيادة الجماعات اليهودية بما يكفل تعاونها مع الجلادين، ومن ذلك إخلاء اليهود وترحيلهم إلى معسكرات الاعتقال. وكان تنظيم اليهود عنصراً أساسياً في مَنْع المقاومة المسلحة، وكل ما فعله النازيون هو استخدام القيادة الموجودة بالفعل. وكان خضوع اليهود رد فعل آلياً، فيما عدا حوادث مقاومة متفرقة أهمها انتفاضة جيتو وارسو عام 1943، ولكن هذه الحوادث تمثل الاستثناء، إذ لم يقاوم(15/258)
معظم اليهود الذين اعتادوا الخضوع.
هذا هو التفسير الديني عند روبنشتاين. أما التفسير التاريخي الزمني، فيذهب إلي أن الإله خلق آدم ليحكم الطبيعة، ولكن التاريخ الإنساني الذي بدأ بآدم تزايد فيه الترشيد البيروقراطي، وهو اتجاه يصل إلى ذروته مع انتصار التكنولوجيا النازية التي تنزع السحر عن الطبيعة، ومع هيمنة البيروقراطية النازية التي تحيِّد العواطف الإنسانية، أي أن الطبيعة والإنسان يصبحان مادة محضة وهو ما يعني موت الإله الذي يحرك الطبيعة والتاريخ يمنحهما المعنى. ويتم هذا في وقت توجد فيه قطاعات كبيرة من السكان لا فائدة من وجودها. ومن ثم، فإن النازية تُعدُّ مَعْلَماً أساسياً في الحضارة الغربية، إذ يصبح بمقدور الدولة إبادة الملايين بشكل منظم. ومن هذا العرض لفكر روبنشتاين، نجد أن ما سقط ليس الفكر الديني وحسب وإنما الفكر العلماني أيضاً، ولذا لا يوجد سوى فراغ وعدم، وعالم لا دلالة له ولا معنى ولا مركز، كله غياب بلا حضور، كله سطح بلا تجاوز أو مُثُل.
ويطرح روبنشتاين فكرة الإله باعتبار أنه العدم المقدَّس؛ الأم آكلة لحم البشر التي تلد البشر لتلتهمهم. والتاريخ الإنساني دورات متكررة، لا بَعْث فيه ولا آخرة، فالحياة تقع بين قوسي النسيان، وما الماشيَّح سوى الموت، وذروة التاريخ الإنساني العبثي هي انتصار التكنولوجيا والبيروقراطية النازية.
وفي قمة عجزه وإحساسه بغياب الإله يعود روبنشتاين للعقيدة الإلهية، لا باعتبارها عقيدة دينية وإنما باعتبارها الطريقة الخاصة التي يواجه بها اليهود الأسئلة النهائية للحياة بكل أزماتها. فاليهودية هنا ليست نسقاً دينياً، وإنما هي تركيبة فكرية (أسطورية) ذات فاعلية نفسية تُمكِّن اليهود من عملية المواجهة هذه.(15/259)
وتشكل اليهودية الجديدة عودة للطبيعة وللإيقاعات الكونية للوجود الطبيعي. ولذا يدعو روبنشتاين اليهودي أن يعود إلى أولويات الطبيعة. ومن ثم يصبح معنى المشيحانية الحقيقي هو «إعلان نهاية التاريخ والعودة للطبيعة ولدورات الطبيعة المتكررة» . والخلاص النهائي لا يكون بغزو الطبيعة من خلال التاريخ وإنما غزو التاريخ من خلال الطبيعة والعودة إلى الأصول الكونية، وعلى الإنسان أن يُعيد اكتشاف قداسة حياته الجسدية ويرفض تماماً محاولة تجاوزها: فيجب عليه أن يستسلم لجسمانيته ويتمتع بها. والصهيونية والعودة للتربة هي بشائر عودة اليهودي الذي فصله اللاهوت اليهودي عن الأرض والطبيعة. والصهيونية بهذا المعنى تشير إلى تحرير اليهودي نهائياً من سلبية التاريخ وعودته إلى حيوية التجدد الذاتي من خلال الطبيعة.
ومن ثم، فيجب التأكيد على ما يُسمَّى طقوس الانتقال (من مرحلة عمرية إلى مرحلة أخرى) ، ويجب الاحتفال بها مع الاحتفاظ بأصالتها الطبيعية والكونية وقدمها. ويجب أن تتناقل الأجيال التراث اليهودي دون تغيير أو تبديل، بل يجب تأكيد الجوانب القربانية في اليهودية على حساب الجوانب العقيدية (يسميها روبنشتاين «البنيوية» ) لأن القرابين (حتى لو كانت شكلية أو اسمية أو لفظية) تُوجِّه عدوانية الشعب وتقلل من إحساسه بالذنب. وهذه عودة كاملة للحلولية الوثنية القديمة. ويُعَدُّ هذا أهم تعبير عن الحلولية بدون إله حيث يقوم الإنسان بكل الشعائر بهدف العلاج النفسي (ثيرابي therapy) ، وبهذا يتحول المعالج النفسي إلى كاهن عبادة جديدة يحل فيها محل الإله الذي تَوحَّد بالإنسان ومات. وإذا كان الأمر كذلك، فليس من الغريب أن تكون الصهيونية أنقى تعبير عن العقيدة اليهودية، داخل هذه المنظومة، ومن ثم فإن تأييدها هو جوهر الحل الذي يقدمه روبنشتاين.(15/260)
نجح روبنشتاين في أن يقرن الصهيونية بالعقيدة اليهودية، بل وفي أن يعود باليهودية إلى العبادة القربانية المركزية الوثنية. كما جعل الشعائر الدينية وسيلة للتفريغ النفسي بدلاً من أن تكون حركات جسمانية يقوم بها المرء طاعةً للإله وأملاً في أن يُدخل على حياته قدراً من القداسة يساعده على كبح جماحها وتنظيم نفسه. ورغم تطرُّف أطروحة روبنشتاين، فإنها تعبِّر عن شيء جوهرى في النسق اليهودي، خصوصاً اليهودية المحافظة التي ترى اليهودية تعبيراً عن الشعب العضوي اليهودي.
ونشر روبنشتاين كتاباً آخر عام 1975 بعنوان مكر التاريخ بدأ ينظر فيه إلى الإبادة باعتبارها مجرد برامج تدار بطريقة بيروقراطية ترشيدية تهدف إلى التخلص من الفائض السكاني الناجم عن الانفجار السكاني في العالم، ويرى روبنشتاين أن يهود العالم محكوم عليهم بالاختفاء شاءوا أم أبوا.
إميل فاكنهايم (1916-)
Emil Fackenheim
مفكر ديني يهودي من كندا، وأحد دعاة لاهوت موت الإله. وُلد في ألمانيا، وتم ترسيمه حاخاماً فيها عام 1939، ثم هاجر إلى كندا حيث درس الفلسفة في جامعة تورنتو وحصل على درجة الدكتوراه عام 1945، وعمل أستاذاً فيها، ثم هاجر إلى إسرائيل عام 1983 حيث يعمل أستاذاً للفلسفة في الجامعة العبرية.(15/261)
بدأ فاكنهايم حياته الفكرية الدينية بالتركيز على الوجود الإنساني باعتباره النقطة التي تؤدي إلى الإله، حيث ينظر الإنسان في ذاته وينتظر الكشف الإلهي (وهذه صيغة حلولية مخففة، فرغم أن الإله داخل الإنسان إلا أنه متجاوز له) . ويميِّز فاكنهايم بين الفلسفة العلمانية والعقيدة الدينية، فالفلسفة العلمانية تتعامل مع ما هو واضح ومحدد وقابل للتفسير، أما العقيدة الدينية فتتعامل مع النهائي، ومع ما لا يمكن الإفصاح عنه: الإله. وقد يتصور المرء، انطلاقاً من هذه الأطروحات، أن فلسفة فاكنهايم اكتسبت مركزاً متجاوزاً للحركة التاريخية والمادة الطبيعية، ولكننا نجد أن النزعة الحلولية عميقة متجذرة، ولهذا لا يتجاوز الإله الإنسان وإنما يحل فيه تماماً وتصبح العلاقة بين الخالق والمخلوق حوارية. وفي النهاية، فإن علاقة الشعب اليهودي بالإله تشكل مركز علاقة الإله بالبشر.
والتاريخ اليهودي الذي يجسد الهوية اليهودية هو المجال الدنيوي الزمني الذي يفصح فيه الخالق عن نفسه. فالتاريخ اليهودي تجسيد لكل من الإرادة (الهوية) اليهودية والإرادة الإلهية، وهذا الترادف كامن في الخطاب الحلولي.(15/262)
ولهذا، نجد أن الهوية اليهودية هي حجر الزاوية في الفكر الديني عند فاكنهايم، فهو ينطلق من رفض ميراث عصر الاستنارة والإعتاق، وكذلك من رفض فلسفة إسبينوزا، فهذه الفلسفات طلبت من اليهودي أن يصبح إنساناً بشكل عام، وأن يطرح عن كاهله يهوديته ويكتسب هوية جديدة تتفق مع معايير الحضارة الغربية الحديثة. ولكن هذه الحضارة وفلسفتها العلمانية أثبتت فشلها، ففي أحضانها نشأت النازية وتمت الإبادة، وقد وقف اليهود عاجزين تماماً بسبب عدم المشاركة في السلطة وانعدام السيادة، ولهذا فقدت الحضارة الغربية العلمانية مشروعيتها ولم يَعُد بوسعها أن تطلب من اليهود شيئاً. ومن هنا يرفض فاكنهايم اليهودية الإصلاحية أيضاً التي تحاول أن تعيد صياغة اليهودية بما يتفق مع فكر الاستنارة.
وقد يتصور المرء أن فاكنهايم على استعداد لتَقبُّل الفكر الصوفي الحلولي اليهودي الذي يدافع عن تَفرُّد الهوية اليهودية باعتبارها شيئاً مقدَّساً. ولكننا سنكتشف أنه يرفض مفكراً مثل روزنزفايج الذي دعا اليهود إلى أن يصبحوا كياناً فريداً موجوداً خارج التاريخ لا علاقة له بحقائق السلطة والقوة السياسية. وهو يرفض هذا للسبب نفسه الذي من أجله رفض البديل الغربي، ذلك أنه يؤدي إلى العجز بسبب عدم المشاركة في السلطة.(15/263)
وانطلاقاً من هذه الأطروحات الحلولية الأساسية يقدم فاكنهايم فلسفته الدينية. فالإله يعبِّر عن نفسه في التاريخ اليهودي من خلال أحداث مهمة ودالة، مثل: الخروج من مصر ونزول التوراة في سيناء، وسقوط الهيكل. وهذه الأحداث هي، في الواقع، أحداث فريدة تبدأ عصوراً جديدة وتغيِّر مسار التاريخ الذي لا يُفهَم، منذ وقوع هذه الأحداث، إلا من خلالها، وهي تلقي على عاتق اليهود والبشر جميعاً واجبات جديدة. وهذه الحوادث هي التي تميِّز بين الفترات الأصيلة التي تعبِّر عن الجوهر اليهودي والهوية اليهودية وبين الفترات غير الأصيلة التي ينحرف فيها اليهودي عن جوهره. ويرى فاكنهايم أن الإبادة النازية من أهم هذه الأحداث، فهي تحطيم للاستمرار ولأية علاقة بالماضي، وهي النقطة التي انقطعت فيها العلاقة بين الإله والبشر وثبت فيها عجز اليهود الكامل.
إن شكل استجابة اليهود للأحداث يجعل منهم إما يهوداً حقيقيين أو يهوداً زائفين. فاليهودي الأصيل الحقيقي هو الذي يدرك مغزى الحدث، فإذا كانت الأيديولوجيا النازية هي حيز العدم حيث يُفرَض على الضحية أن ينظر في هوة فارغة تماماً من المعنى ومجردة من أي أمل، وإذا كانت الإبادة هي فناء الشعب اليهودي، فإن الاستجابة الحقة هي إدراك هذه الحقيقة، وهي التي تلقي على عاتق المدرك الوعي بما يسميه فاكنهايم «الأمر الإلهي الجديد» ؛ الأمر أو الوصية (متسفاه) رقم 614، وهي «عام يسرائيل حي» ، أي «شعب إسرائيل حي (باق) » . وبوسع اليهودي الحقيقي أن يتجاهل الأوامر والنواهي السابقة كافة، ولكن لا يمكنه تجاهل هذه الوصية على وجه التحديد، فبعد الإبادة تغيَّر كل شيء.(15/264)
ولكن كيف يحقق اليهود البقاء؟ يكتشف اليهود حيزاً داخلياً يمكنهم التقهقر إليه، حيث يمكنهم أن يدركوا معنى النازية باعتبارها محاولة القضاء على الحياة والهوية اليهودية والعقل الإنساني (ولنُلاحظ هنا الترادف بين «اليهودي» و «الإنساني» ) . وهم، هناك في هذا الحيز، يشعرون بمقدرة على المقاومة، وهي مقدرة من الإله: إله التاريخ اليهودي. ومقدرة اليهود على المقاومة تعني أن التاريخ اليهودي يستمر، حتى أثناء الإبادة، من خلال أفعال المقاومة التي تقوم مقام المتسفاه، أي تنفيذ الأوامر والنواهي الكبرى التي كانت تُقرِّب المسافة بين اليهودي والإله حتى يتم التوحد الكامل بينهما وينصلح الخلل الكوني (تيقون) . وانطلاقاً من هذا، يصبح واجب اليهود الديني الأساسي هو المقاومة والبقاء، وإلا أصبح النصر من نصيب هتلر. وهذا ما يُطلَق عليه أيضاً «لاهوت البقاء» ، فالبقاء هو التيقون.(15/265)
ولكن هل للبقاء مضمون أخلاقي وإنساني؟ تتضح الإجابة على هذا السؤال في تعريف فاكنهايم لأهم آليات إصلاح الخلل الكوني أو الدولة الصهيونية التي هاجر إليها مائة ألف ممن بقوا بعد الإبادة. فإنشاء الدولة الصهيونية لا يقل أهمية عن حادثة الإبادة، والإيمان بالدولة الصهيونية يصبح أيضاً معياراً للتفرقة بين اليهودي الحقيقي واليهودي الزائف، فإسرائيل مطلق جديد، وهي أيضاً المكان الوحيد الذي يستطيع اليهود فيه أن يعبِّروا عن هويتهم اليهودية. وهي تحل مشكلة العجز اليهودي الذي سبَّب هذا الانقطاع بين الإله والجنس البشري، وتسمح لليهود بالمشاركة مرة أخرى في العملية التاريخية وبأن يصبحوا أصحاب سلطة وسيادة. وحينما يهاجم المصريون تل أبيب بعد إعلان استقلال إسرائيل، فإن سكان كيبوتس ياد موردخاي هم الذين يقومون بالدفاع عنها، وهو كيبوتس ينتصب فيه تمثال لأحد قادة ثوار جيتو وارسو. ويقول فاكنهايم إنه رأي صورة لأحد يهود أوربا يلبس شال الصلاة (طاليت) وهو ينحني أمام سنكي جندي نازي وبجوارها صورة لجندي إسرائيلي يرتدي الطاليت أمام حائط المبكى. وهذا هو الإصلاح (تيقون) بعينه، الذي سيستمر ما دام أحد الباقين أحياء بعد أوشفيتس يستيقظ يومياً في الفجر ليصلي عند حائط المبكى ثم يعود للكيبوتس ليؤدي عمله. والصلوات التي تقيمها دار الحاخامية الكبرى في إسرائيل هي التي ستضع الدولة الصهيونية على بداية فجر الخلاص.
أما خارج إسرائيل، فيتلخص التيقون فيما يلي:
1 ـ الإصرار على احتكار اليهود، واليهود وحدهم، للإبادة النازية، فهم وحدهم الضحية.
2 ـ تأييد دولة إسرائيل بلا شروط، والصعود للدولة هو ضرب من ضروب الندم، والإقامة فيها مشاركة في عملية إصلاح الخلل الكوني.(15/266)
ولا يوجد جديد البتة في فكر فاكنهايم، فهو مجرد تحديث لكل أفكار الحلولية اليهودية، وخصوصاً القبَّالاه اللوريانية التي تصل إلى درجة من الحلولية تجعل الشعب اليهودي امتداداً للخالق في التاريخ، وتجعل القيم الأخلاقية غير ذات موضوع. ومن ثم يصبح المطلق الديني الأوحد هو بقاء اليهود واستمرار دولة إسرائيل، والفعل الأخلاقي السليم الوحيد هو تأييدها دون تساؤل، حتى لو أتت بكل الأفعال الإرهابية الممكنة.
ومن أهم أعمال فاكنهايم: البُعد الديني في فكر هيجل (1968) ، ووجود الإله في التاريخ (1970) ، والعودة اليهودية إلى التاريخ (1978) ، والكتاب المقدَّس اليهودي بعد الإبادة (1991) .
إليعازر بركوفيتس (1908-1992 (
Eliezer Berkovits
حاخام ومفكر ديني يهودي. وُلد في ترانسلفانيا، وعمل حاخاماً في برلين، ثم في ليدز (إنجلترا) . وبعد ذلك، سافر إلى أستراليا ومنها إلى الولايات المتحدة حيث استقر فيها وقام بالتدريس في كلية لاهوتية يهودية في شيكاغو.
تناولت دراسته الأولى نحو يهودية تاريخية (1943) التوتر بين الصهيونية والتقاليد اليهودية الدينية، ثم كتب بعد ذلك عدة دراسات من بينها الإله والإنسان والتاريخ (1959) ، ونقد يهودي لفلسفة مارتن بوبر (1962) واليهودية: حفرية أم خميرة (1965) ، وهذا الكتاب الأخير رد على المؤرخ أرنولد توينبي.
وقد تناولت أعماله الأخيرة الدلالة الدينية للإبادة النازية ليهود الغرب، ومن ثم فهو ينتمي إلى ما يُسمَّى «لاهوت الإبادة» . ويرى بركوفيتس أن استجابة اليهود للإبادة لابد أن تشبه استجابة أيوب لما لحق به من محن، فيجب أن يؤمن اليهود بالإله لأن أيوب آمن به. فالإله كان مختبئاً في أوشفيتس، ولكنه كان موجوداً رغم اختبائه؛ وهو إله مختبئ يرسل الخلاص للناس، وفي هوة العدم يظل مخلصاً لإسرائيل.(15/267)
وتظهر أفكاره هذه في كتاباته الأخيرة: الإيمان بعد الإبادة النازية (1973) ، والأزمة والإيمان (1976) ، ومع الإله في جهنم (1979 (.
آرثر كوهين (1928-1987 (
Arthur Cohen
روائي أمريكي وناشر ومؤرخ للفنون وعالم لاهوت يهودي. وُلد في نيويورك، وتَلقَّى دراسته العليا في مدرسة اللاهوت العليا في نيويورك، وقد أسس نونداي برس عام 1951 وميريديان بوكس عام 1956. كما أسس عام 1960 دار نشر اكس ليبريس وعمل فيها محرراً حتى عام 1974. وكلها من دورالنشر المهمة في الولايات المتحدة. وكتب كوهين العديد من المقالات عن موضوعات يهودية شتى، كما كتب عدة روايات في موضوعات يهودية وغير يهودية. وأهم دراساته هي اليهودي الطبيعي واليهودي غير الطبيعي الخرافي (عام 1962) ويذهب فيها إلى أن الفكر والوجدان اليهودي (منذ عصر التنوير) ينظران لليهودي باعتباره ظاهرة إنسانية طبيعية عادية مرتبطة تماماً باهتماماته الاجتماعية والسياسية المباشرة، وقد أدَّى هذا الموقف إلى إهمال ما يسميه كوهين «اليهودي الخرافي» ، أي يهودي الميثاق الواعي بمسئوليته عن ضرورة تأكيد تجاوز الطبيعة والمادة. ومهمة اللاهوت اليهودي هي تأكيد اليهودي الخرافي، أي اليهودي الذي يتجاوز الطبيعة والتاريخ، وكأنه لا علاقة له بهذه الدنيا أو هذا الزمان. ويرى كوهين أن اليهودية مهددة بالفناء إن لم تتم هذه العملية. والأمر الذي زاد من الحاجة إلى ذلك الإبادة النازية لليهود حيث قوَّضت كثيراً من دعائم الإيمان لدى اليهود، وهذا الموضوع يجد صداه في روايات كوهين. وتجب ملاحَظة أن العنصر المتجاوز للطبيعة والتاريخ ليس الإله بمفرده وإنما الإله واليهودي الخرافي، أي أن نسق كوهين نسق حلولي متطرف يضع اليهود وحدهم داخل دائرة القداسة. بل إن كوهين يجعل اليهودي مركز الحلول الإلهي، وهو ما يشي بأثر اللاهوت المسيحي، مع الفارق، فبينما حصر اللاهوت المسيحي الحلول في المسيح الذي يُصلَب ويقوم (ومن ثم فهو(15/268)
حلول مؤقت ومحدَّد) فإن كوهين يجعل اليهودي (ومن ثم كل اليهود) موضع الحلول.
ويُطالب كوهين بإعادة تأسيس اليهودية وهي مهمة صعبة بسبب الإبادة النازية ولكن عدم القيام بهذه المهمة يعني ترك اليهودية تسقط في قبضة الإيمان الأعمى والمشاعر البدائية. ويبيِّن كوهين في كتابه الشيء الرهيب: تفسير لاهوتي للهولوكوست أن الاحتماء بيهودية بدائية يجعل من المستحيل استعادة اليهودية كدين متجاوز للطبيعة.
وليس هناك جديد في آراء كوهين، فهي إعادة إنتاج لكثير من أفكار القبَّالاه اللوريانية، ولكن خطورتها تنبع من أنها، بتأكيدها خرافية اليهود وعجائبيتهم، تنكر إنسانيتهم، إذ أن الاتجاه نحو تقديس اليهود يعني إنكار أنهم بشر، وهذا ما يفعله المعادون لليهود. وهذا مَثَل آخر لتلاقي الفكر النازي والفكر الصهيوني، فكلاهما فكر مشيحاني علماني.
وتوجد أصداء لهذه الموضوعات في روايات كوهين: سنوات النجار (1967) ، وفي أيام سيمون ستيرن (1973) ، وبطل في أيامه (1976) ، وسرقات (1980) ، وامرأة عظيمة (1983) . وحرَّر آرثر كوهين مع بول منديس فور كتاباً بعنوان الفكر الديني اليهودي المعاصر (1987) .
لاهوت التحرير
Liberation Theology(15/269)
«لاهوت التحرير» حركة دينية في العالم الغربي المسيحي ظهرت في صفوف المسيحيين الكاثوليك والبروتستانت ابتداءً من أوائل الستينيات، لكن أطروحاتها تحدَّدت وتبلورت في منتصف السبعينيات. وتَصدُر الحركة عن الإيمان بأن العقيدة الدينية هي في جوهرها رؤية ثورية للواقع ترى أن الإيمان الديني لا يعبِّر عن نفسه من خلال إقامة الشعائر الدينية وحسب، وإنما أيضاً من خلال الدفاع عن قيم العدل والمساواة الاجتماعية وحقوق الأقليات والمضطهدين ضد الاحتكارات العالمية وقوى الرجعية والطغيان العالمي، أي أنه موقف ديني يؤدي إلى تَبنِّي ما يُسمَّى «قيم التحرير» (ومن هنا التسمية) . ودعاة لاهوت التحرير يتمردون أيضاً على المؤسسات الدينية القائمة باعتبارها مؤسسات تم استيعابها في المؤسسات الحاكمة، سواء المحلية الرجعية أو العالمية الإمبريالية، ولهذ أصبحت هذه المؤسسات، من منظور دعاة لاهوت التحرير، امتداداً للسلطة توظِّف الدين والشعائر الدينية في خدمة مؤسسات الطغيان والظلم.
وكما هو الحال دائماً، تأثر الفكر الديني اليهودي بلاهوت التحرير المسيحي. وكما أدَّت حركة الإصلاح الديني إلى ظهور اليهودية الإصلاحية، وكما أدَّت الحركة المعادية للاستنارة بتأكيدها روح الشعب وروح الأرض إلى ظهور اليهودية المحافظة، وكما أدَّى ظهور موت الإله في المسيحية إلى ظهور مدرسة دينية مماثلة في اليهودية، فإن ظهور لاهوت التحرير في صفوف المسيحيين كان له صداه في صفوف أعضاء الجماعات اليهودية. ولكن، كما هو الحال دائماً، نجد أن هناك مرحلة زمنية تفصل بين الصوت والصدى، وأن لاهوت التحرير ظهر بين اليهود في الثمانينيات.(15/270)
ولكن لاهوت التحرير اليهودي ذو خصوصية يهودية نابعة من وضعه الخاص. فلاهوت التحرير اليهودي هو تَمرُّد على لاهوت موت الإله في صيغته اليهودية. ولاهوت موت الإله - كما أسلفنا - هو في جوهره حلولية وثنية بدون إله (وحدة وجود مادية) ، وعودة إلى المطلقات القومية وإلى تقديس الذات القومية متمثلة في التاريخ القومي. لكن التاريخ القومي اليهودي هو تاريخ اليهود وحسب؛ تاريخ يستبعد الآخرين، أي أنه عودة إلى الانغلاق الوثني اليسرائيلي. ويدور تاريخ اليهود المقدَّس حول الأحداث التي تقع لليهود في التاريخ الزمني وحول الأفعال التي يأتون بها. ويرى دعاة لاهوت موت الإله أن أهم حدث هو الإبادة النازية وأن أهم فعل هو ظهور دولة إسرائيل. والإبادة ـ حسب لاهوت موت الإله ـ حدث مطلق في التاريخ ينهض دليلاً على موت الإله وغيابه، ولكن هذا الشعب يدور حول نفسه ويصبح هو نفسه المطلق الوحيد ويؤسس دولة إسرائيل التي تنهض دليلاً على مقدرة هذا الشعب على البقاء وعلى مقدرته على التخلص من عجزه. ومن ثم، فإن إسرائيل تصبح ـ بالنسبة لدعاة لاهوت موت الإله ـ القيمة المطلقة التي يصبح بقاؤها بأي ثمن هدفاً مطلقاً للشعب اليهودي.(15/271)
وينطلق لاهوت التحرير من رفض هذه الحلولية الكمونية الوثنية ومن رفض إضفاء المطلقية على اليهود وتاريخهم. فالإبادة النازية حَدَث تاريخي مهم ولا شك، ولكنها ليست البداية والنهاية في حياة اليهود، كما أنها ليست النمط المتكرر في حياة اليهود في العالم، فقد حدثت تحولات جوهرية لليهود، ومن ثم فلابد من التمييز بين أوضاع اليهود قبل الإبادة وبعدها. فيهود الدياسبورا يعيش معظمهم الآن في سلام في الولايات المتحدة، وهي بلد لا تعرف تقاليد معاداة اليهود ولا تمارس تمييزاً ضدهم، وقد حقق اليهود فيها قدراً عالياً من الحراك الاجتماعي والاندماج، والمنفى لم يعد منفى. غير أن لاهوت موت الإله (في تصوُّر دعاة لاهوت التحرير) يتجاهل هذه الحقائق ويضع اليهود داخل قالب جامد: دور الضحية الأزلية الذي يحتكر الاضطهاد لنفسه، ولذا فإن لاهوت التحرير لا يذكِّر اليهود بأوضاعهم المتميِّزة في الوقت الحالي والتي تجعل الإبادة حديثاً مملاًّ معاداً لا علاقة له بالواقع، وإنما يذكِّرهم أيضاً بضحايا الإبادة الآخرين، بل ويذكِّرهم بضحاياهم، أي الفلسطينيين (فتاريخ الفلسطينيين أصبح جزءاً من تاريخ اليهود) .(15/272)
والشيء نفسه ينطبق على دولة إسرائيل، فهي جماعة يهودية مهمة، ولكنها ليست الجماعة اليهودية الوحيدة (المطلقة) ، ولا هي مركز الوجود اليهودي ولا سمة الوجود اليهودي الوحيدة. وهي ليست مضطهدة مهددة بالإبادة، وإنما هي دولة مسلحة تحرك جيوشها لتضرب جيرانها وبعض سكانها، أي أن وضع الدولة، مثله مثل وضع يهود العالم، قد تغيَّر. ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يذهب لاهوت التحرير إلى أن اليهود واليهودية فقدا براءتهما مع احتلال إسرائيل للضفة الغربية، ومع اندلاع الانتفاضة التي أصبحت نقطة حاسمة في التاريخ اليهودي وفي تاريخ اللاهوت اليهودي. فلم تَعُد الدولة تعبيراً عن رغبة اليهود في التخلص من عجزهم وفي تأكيد إرادتهم، وإنما أصبحت تعبيراً عن إرادة البطش والعنف. بل إن استمرار بقاء الدولة أصبح متوقفاً على موت الأطفال الفلسطينيين، أي إبادتهم! وإذا كان لاهوت موت الإله يُصر على أن الإجابة عن أي سؤال غير ممكنة إلا في حضور الأطفال اليهود المذبوحين، فإن الانتفاضة تواجه الدولة اليهودية واليهود بالسؤال نفسه: إذا كان اليهود يتذكرون عذاب الإبادة وقسوتها، فماذا عن عذاب الفلسطينيين؟ لكل هذا لا يمكن الحديث عن مستقبل اليهود أو عن الهوية اليهودية إلا في ضوء هذا التحول التاريخي. وقد عَرَّفت الإبادة اليهود بأنهم «من ذبحهم هتلر» ، لكن الانتفاضة تطرح أسئلة جديدة: إذا كان اليهود يَعْرفون من كانوا بعد أن حُفرت الإبادة في وجدانهم، فهل يَعْرفون ماذا أصبحوا بعد أن قامت الانتفاضة وكَسَّرت الدولة الصهيونية عظام الأطفال؟ إن من الطبيعي أن يتذكر اليهود أوشفيتس وتربلينكا، ولكن عليهم أيضاً أن يتذكروا صابرا وشاتيلا.(15/273)
هذا على مستوى قراءة التاريخ، وعلى مستوى تعريف الهوية، أما على المستوى الأخلاقي، فإن الدولة لم تَعُد مطلقاً بعد فك المطلقات الحلولية الوثنية. فإذا كانت الإبادة حدثاً مهماً وليست مطلقاً، فما المطلق إذن؟ يؤكد لاهوت التحرير أن المطلق الوحيد هو القيم الأخلاقية التي وردت في التراث الديني اليهودي (الذي يعرِّفونه تعريفاً إنسانياً عالمياً) . ولذا، فإن بقاء الدولة ليس أمراً كافياً، والتخلص من العجز لا يَجُبُّ التساؤلات الأخلاقية، فمن يحصل على السيادة يمكنه أن يستخدمها في الخير أو البطش. وبالمثل، فإن السيادة ليست ميزة خالصة وإنما لها مخاطرها. ومن ينجز معجزة البقاء يمكن أن يكون خيِّراً أو شريراً، ومن يُكلَّف بالرسالة (الاختيار) يمكنه أن يخونها. ولذا، يقرر لاهوت التحرير أن إسرائيل ليست فوق يهود العالم أو فوق ضمائرهم. ولذا فعليهم الالتزام بالقيم الأخلاقية وحدها، وإذا تحركوا فعليهم أن يتحركوا لا لتأكيد أهمية إسرائيل والدفاع عن بقائها، وإنما لتأكيد القيم الأخلاقية المطلقة. ولن يتم إصلاح الخلل الكوني (تيقون) من خلال الدولة وإنما من خلال الأفعال الأخلاقية الخيرة. ويجب على اليهود أن يقفوا لا ضد ذبح الأطفال اليهود على وجه الخصوص وإنما ضد ذبح أي أطفال، وضمنهم الأطفال الفلسطينيون. ويجب على اليهود أن يلجأوا لكل شيء، وضمن ذلك العصيان المدني، لوضع القيم الأخلاقية المطلقة موضع التنفيذ.(15/274)
ويُلاحَظ أن الإيقاع العام للفكر الديني اليهودي لا يزال كما كان منذ بدايته، فقد كان هناك دائماً دعاة الوثنية أو القومية أو الحلولية (الكهنة أو الملوك) الذين يَصدُرون عن الطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي، وكان هناك دعاة الأخلاق العالمية والشاملة (الأنبياء وبعض الحاخامات) الذين يدورون في نطاق الإطار التوحيدي. كما أن التوتر بين لاهوت موت الإله ولاهوت التحرير هو نفسه التوتر القديم بعد أن تصاعدت حدته بسبب تصاعد معدلات العلمنة وبعد أن أصبح الخطاب الوثني أكثر صَقْلاً وأكثر إلماماً بالخطاب الديني وأكثر امتلاكاً لناصيته. ويبدو أن حسم مثل هذا الصراع أمر صعب للغاية بسبب التركيب الجيولوجي لليهودية الذي يوفر لكل المتحاورين إمكانية أن يجدوا سوابق وشواهد تدعم وجهة نظرهم وتعطيهم شرعية دينية.
وقد تصاعدت حدة لاهوت التحرير مع تصاعد حدة الانتفاضة، فالانتفاضة هي التي أثبتت أمام الجميع أن الدولة الصهيونية ليست مطلقاً وأن التاريخ اليهودي ليس مقدَّساً وأن أرض فلسطين ليست أرض ميعاد تنتظر سكانها (فهي ليست سوى أرض مأهولة بسكانها الذين يحيون ويموتون ويحبون ويجاهدون) . ويُلاحَظ في الحوار اليهودي المسيحي، أن المحاورين اليهود كانوا يصرون على ضرورة قبول الدولة اليهودية باعتبارها مطلقاً دينياً، ثم أخذوا يتنازلون عن هذا المطلب. ومن أهم مفكري لاهوت التحرير آرثر واسكو ومارك إليس.
آرثر واسكو (1933-)
Arthur Waskow(15/275)
مفكر ديني أمريكي يهودي. وُلد في بلتيمور، وعمل بعض الوقت كمساعد لأحد أعضاء الكونجرس الأمريكي، ثم انخرط في الستينيات في حركة الحقوق المدنية وحركة السلام المعادية لحرب فيتنام. مر بتجربة دينية عميقة جعلته يرفض الأساس العلماني لاتجاهه السياسي ويتبني اليهودية كعقيدة ورؤية للكون، ولذا فهو يُعَدُّ من أهم العائدين (بعلي تشوبفاه) إلى العقيدة اليهودية. ولكنه بدلاً من الانغلاق عليها، والسقوط في الحلولية الوثنية، نادى بأن اليهودية الحاخامية دعوة لاكتشاف الذات، وإلى المساهمة في بناء العالم حتى يصبح العالم مكاناً صالحاً لا لليهود وحسب وإنما لغير اليهود كذلك. وهو يرى أن الإبادة النازية وإسرائيل ليست حقائق نهائية، وإنما هي حقائق تاريخية في مسيرة العقيدة اليهودية، ومن ثم فإنه لا يُضفي على أيٍّ منها قيمة مطلقة ولا يجعل أياً منها المرجعية النهائية والوحيدة لفكره، أي أنه يرفض لاهوت موت الإله. ولذا، فإنه، حتى بعد أن أصبح من العائدين لدينهم، لم يتخل عن مواقفه السياسية الرافضة للاستغلال والتفرقة العنصرية والحرب، بل استمر فيها. وحاول واسكو اكتشاف عناصر داخل العقيدة اليهودية تدعم موقفه، فاقترح إعادة بعث شعائر سنة اليوبيل (وهي السنة التي يتم فيها إعتاق العبيد وتوزيع الأراضي الزراعية) بعد أن تُعطَى هذه الشعائر مضموناً عصرياً، فعلى سبيل المثال، يمكن أن يُعطَى الفقراء قروضاً دون فوائد.(15/276)
وواسكو عضو في كثير من الجمعيات اليهودية التي تأخذ موقفاً غير صهيوني من إسرائيل، فلا ترى أن إسرائيل مركز اليهود واليهودية، وتعارض مفهوم تصفية الجماعات اليهودية، وتطالب الدولة الصهيونية بالالتزام بالقيم الأخلاقية اليهودية. ومن هذه الجمعيات جماعة بريرا، وجماعة الأجندة اليهودية الجديدة. ويمكن اعتبار واسكو من أهم دعاة لاهوت التحرر داخل العقيدة اليهودية. وله عدة مؤلفات من أهمها وهذه الشرارات الإلهية (1983 (ويساهم واسكو في تحرير مجلات يهودية مثل مجلة تيقون.
العائدون (بعلي تشوباه)
Baalei Teshuva
«العائدون» هو الترجمة العربية للمصطلح العبري «بعلي تشوَّباه» . و «العائدون» اصطلاح يُطلَق على اليهود العلمانيين الذين تركوا تراثهم الديني وقيمه الأخلاقية بعض الوقت ولكنهم يعودون في نهاية الأمر إلى حظيرة الدين، ومعظمهم من يهود الولايات المتحدة من سكان الضواحي أعضاء الطبقة الوسطى الذين رفضوا القيم البورجوازية لمجتمعهم وانضموا إلى الحركات الداعية لوقف الحرب في فيتنام كما انضموا إلى حركة الحقوق المدنية. وهم من المؤمنين بأن الحضارة الحديثة حضارة خالية من المعنى، وأن الرفاهية التي تأتي بها لا تؤدي بالضرورة إلى السعادة. والطريق بالنسبة إلى هؤلاء ليس هو العبادات الجديدة، وإنما العودة إلى العقيدة اليهودية وإعادة اكتشافها. وكثيرون منهم يرفضون الصهيونية باعتبارها حركة علمانية، وهم في هذا يحذون حذو نيثان بيرنباوم المفكر الديني الأرثوذكسي.(15/277)
وينضم بعض هؤلاء إلى معاهد دينية، ويُعيدون صياغة حياتهم حسبما تتطلب الشريعة اليهودية، ويتبنون القيم الأخلاقية التي يحض عليها دينهم. والواقع أن هذه الظاهرة نفسها توجد في إسرائيل كذلك، وهي ظاهرة تعبِّر عن أزمة العلمانية في العالم. والمفكر اليهودي الأمريكي آرثر واسكو، شأنه شأن كثير من الشباب اليهودي الذي اشترك في حركات التمرد اليسارية في الستينيات، انخرط في صفوف الجماعات الداعية للاهوت التحرر وأصبح من العائدين.(15/278)
الباب الحادى عشر: العبادات الجديدة
العبادات الجديدة في العالم الغربي
New Cults in the Western World
«العبادات الجديدة» حركات شبه دينية، لها شعائر مركبة وتنظيم مغلق، يرتدي أعضاؤها أحياناً أزياء خاصة مقصورة عليهم. وتزود هذه الحركة أعضاءها بالأمن من خلال عقيدة ثابتة بسيطة تفسر الكون والظواهر كافة، حيث يتطلب الانتماء إلى هذه العقيدة الولاء الكامل. ومن أكثر الظواهر التي تتهدد اليهودية المعاصرة، إقبال أعضاء الجماعات اليهودية على هذه العبادات الجديدة، وخصوصاً بعد أن تخلَّى أتباع هذه العبادات عن شعائرها الغريبة الشاذة وأصبح أسلوب حياتهم لا يختلف عن أسلوب حياة الإنسان العادي في المجتمعات التي يعيشون في كنفها. ومع أن عدد أعضاء الجماعة اليهودية لا يزيد بأي حال على 3% من سكان الولايات المتحدة، فإن من الملاحظ أن حوالي 20 - 50% من أعضاء مثل هذه الحركات من اليهود، كما أن كثيراً من قياداتها منهم. ولا يختلف الوضع في أوربا الغربية عنه في الولايات المتحدة. ومن أهم هذه الجماعات في الولايات المتحدة الجماعة البوذية من طراز الزن (50% من مجموع أتباعها في سان فرانسيسكو من اليهود) وجماعة هاري كريشنا الهندوكية (15% من جملة أتباع الجماعة في الولايات المتحدة من اليهود) ، وهناك أيضاً كنيسة التوحيد (يونيفيكشان تشيرش Unification Church) وجماعات الإمكانية الإنسانية مثل إست EST وينبوع الحياة. ويمكن أن نعتبر الماسونية والبهائية من هذه العبادات الجديدة. وقد عادت جماعات عبادة الشيطان للظهور مرة أخرى وانتظم في صفوفها كثير من أعضاء الجماعة اليهودية. كما نشطت جماعات تبشيرية مسيحية ذات ديباجات يهودية (جماعات «المسيحيون العبرانيون» ) تمارس نشاطها بين أعضاء الجماعة. ومن أهم هذه الجماعات، جماعة «يهود من أجل المسيح» التي ترى أن بوسع اليهود أن يصبحوا مسيحيين ويهوداً في آن واحد، بل إن مسيحيتهم إن هي إلا مسوِّغ ليهوديتهم. وهؤلاء المبشرون يجيدون استخدام الرموز اليهودية، مثل: الخبز غير المخمر، واللغة العبرية، ونجمة داود،....(15/279)
وشمعدان المينوراه. وهم يشيرون إلى المسيح ومريم بأسمائهم العبرية ( «يهوشاو» ، و «مريام» ) ، ويسمون المسيح «الماشيَّح» . كما يحاولون أن يضعوا مضموناً مسيحياً للرموز اليهودية، ففي عيد الفصح، على سبيل المثال، نجد أرغفة خبز الفطير الثلاثة (مَتْسُوت) هي الثالوث المسيحي، أما نصف الرغيف (أفيكومان) وعظمة الحمل فيرمزان للمسيح المصلوب، والنبيذ هو دمه. وقد أضافوا إلى كل ذلك تأييد دولة إسرائيل تأييداً أعمى، ولكنهم يضعون هذا التأييد في سياق مسيحي. ويبدو أن ثمة إقبالاً شديداً من جانب الشباب اليهودي على هذه الجماعات، بل يُقال إن عدد الذين تنصروا من خلال هذه الجمعية يصل إلى ثلاثين ألف يهودي.
وقد وصل نشاط هذه العبادات إلى إسرائيل ذاتها، فعبارة «تي إم TM» (اختصار لعبارة «ترانسندنتال مديتيشان Transcendental Meditation» أي التأمل المتسامي) قد جذبت آلاف الإسرائيليين، ولها مستوطنة تُسمَّى «ميجداليم» . كما أن جماعة هاري كرشنا تنوي تشييد كيبوتس.
ويبدو أن إقبال اليهود والإسرائيليين على العبادات الجديدة هو تعبير عن ضعف العقيدة اليهودية وعن تزايد الإحساس بالاغتراب نتيجة لتزايد معدلات الترشيد والعلمنة وتآكُل الأسرة كمؤسسة وسيطة. والعبادات الجديدة تحل محل العقيدة والأسرة في الوقت نفسه، وتقوم بعملية الوساطة العقائدية والفعلية بين الفرد والمجتمع. كما يُقبل كثير من الشباب اليهودي على العبادات الجديدة، لتأكيدها الزهد، تعبيراً عن احتجاجهم على النجاح المادي الذي حققه أهاليهم باندماجهم في الحضارة البورجوازية الغربية، فهو في تصورهم نجاح خال من المعنى والمضمون الخلقي، ويؤدي إلى الاستغراق في الحياة الحسية والاستهلاك اللامتناهي.(15/280)
ولعل تركيب اليهودية الجيولوجي التراكمي من أهم أسباب إقبال الشباب اليهودي على العبادات الجديدة، فاليهودية تحوي طبقات مختلفة متناقضة متجاورة متعايشة لا تفاعُل بينها في حين تتسم العبادات الجديدة بأنها قاطعة محددة والانتماء إليها يعني اكتساب هوية واضحة. كما أن اليهودي الذي ينضم إلى عبادة جديدة يمكنه أن يجد سوابق لها في تراثه اليهودي (فعبادة الشيطان ليست أمراً بعيداً عن التضحية لعزازيل) . ومعظم هذه العبادات تعبِّر عن الحلولية إما من خلال وحدة الوجود المادية أو الحلولية بدون إله، أي الحلولية التي يتوحد فيها الخالق تماماً مع الوجود المادي، فيصبح المطلق كامناً في المادة أو في ذات الإنسان. واليهودية باعتبارها تركيباً جيولوجياً تحوي طبقة حلولية قوية تولِّد لدى أعضاء الجماعات اليهودية قابلية للانخراط في صفوف هذه العبادات الجديدة. ومن أهم الأمور الأخرى التي ساعدت على انضمام اليهود إلى هذه الجماعات، بخاصة جماعات المسيحيين العبرانيين، أنها لا تطلب من اليهودي أن يتخلى عن انتمائه أو هويته الدينية الإثنية، الأمر الذي يجعل الأمر سهلاً على الكثير من اليهود. ومن الحقائق الإحصائية التي قد تكون لها علاقة بموضوع العبادات الجديدة أن نسبة أعضاء الجماعات اليهودية في الجمعيات السرية في العالم هو نحو 30%.
ونحن نضع الماسونية والبهائية والموحدانية واليهودية المتمركزة حول الأنثى (بل واليهودية التجديدية وحركة الحضارة الأخلاقية) ضمن هذه العبادات الجديدة (رغم أن المراجع التي اطلّعنا عليها لا تُصنِّفها مثل هذا التصنيف) .
الماسونية: تاريخ وعقائد
Freemasonery:History and Doctrines(15/281)
كلمة «ماسونية» من الكلمة الإنجليزية «ميسون Mason» التي تُكتَب في العربية خطأً «ماسون» . لكن الخطأ شاع، ولا مفر لنا من اعتماده ومسايرته. وهي تعني «البنَّاء» ، ثم تضاف كلمة «فري free» بمعنى «حر» وتعني «البنَّاء الحر» . وقد اختلف المفسرون في تعريف أصل كلمة «حر» ، فيُقال إنها نسبة إلى «فري ستون Free Stone» ، أي «الحجر السلس» . وقد ورد في مخطوطات العصور الوسطى اللاتينية عبارة «إسكالبتور لابيدوم ليبيروروم Sculptor Lapidum Liberorum» ، أي «ناحت الأحجار الحرة» ، ولكن بعض التفسيرات تذهب إلى أن كلمة «حر» تجيء لتمييز الـ «فري ميسون» ، أي «البناء الماهر» ، في مقابل الـ «راف أور رو ميسون rough or raw mason» ، أي «البنَّاء الخام غير المُدرَّب» . وثمة رأي ثالث يذهب إلى أن الـ «فري ميسون» ، عضو في نقابة البنائين، ولذا فهو «حر» أي أن من حقه ممارسة مهنته في البلدية التي يتبعها بعد أن يكون قد تَلقَّى التدريب اللازم. ويذهب رأي رابع إلى أن كلمة «فري» إنما تشير إلى أن البنائين لم يكونوا مُلزَمين بالاستقرار في إقطاعية أو بلدية بعينها والارتباط بها، وإنما كانوا أحراراً في الانتقال من مكان إلى آخر داخل المجتمع الإقطاعي. وإن صَدَق هذا التفسير، فهذا يعني أن البنائين كانوا مثل أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب الذين كانوا يُعَدون عنصراً حراً يمكنه الانتقال من بلد إلى آخر. وقد كان هذا حقاً مقصوراً على الفرسان ورجال الدين.
وتُعرَّف الماسونية بأنها مجموعة من التعاليم الأخلاقية والمنظمات الأخوية السرية التي تمارس هذه التعاليم، والتي تضم البنائين الأحرار والبنَّائين المقبولين أو المنتسبين، أي الأعضاء الذين لا يمارسون حرفة البناء.(15/282)
وبعد أن أوردنا هذا التعريف الشائع، فإننا سنكتشف في التوّ أنه تعريف غير كاف البتة، إذ أن الماسونية، مثل اليهودية، تركيب تراكمي جيولوجي مر بمراحل عدة فأصبحت عناصره تشبه الطبقات الجيولوجية التي تتراكم الواحدة فوق الأخرى دون أي تفاعل أو تمازج. ورغم اختلاف الطبقات، فإنها تظل متعايشة ومتجاورة ومتزامنة داخل الإطار نفسه. ومن ثم، فرغم أنه توجد كلمة واحدة أو دال واحد هو «الماسونية» يشير إلى ظاهرة واحدة، فإن الماسونية في واقع الأمر عدة أنساق فكرية وتنظيمية مختلفة تماماً لا تنتظمها وحدة. ومشكلة التعريف، أي تعريف، أنه يستخدم صيغة المفرد، ومن ثم يفترض وحدة وتجانساً حيث لا وحدة ولا تجانس، ويفترض وجود مدلول واحد للدال.
وقد قيل في محاولة التوصل إلى حد أدنى مشترك بين كل الماسونيات إنه توجد ثلاثة عناصر تميِّزها. أول هذه العناصر هو وجود مراتب ثلاث أساسية يُقال لها درجات، وهي:
أ) التلميذ أو الصبي (الملتحق أو المتدرب) .
ب) زميل المهنة أو الصنعة (الرفيق) .
جـ) البنّاء الأعظم أو الأستاذ (بمعنى أستاذ في الصنعة) .
وقد أضيفت إلى هذه الدرجات الثلاث الأساسية درجة رابعة أخرى أساسية هي «القوس المقدَّس الأعظم» ، ثم هناك ما يقرب من ثلاث وثلاثين درجة أخرى في بعض المحافل (كما هو الحال في الطقس الاسكتلندي القديم) ، ويصل أحياناً عدد الدرجات إلى بضعة آلاف.(15/283)
وما دمنا نتحدث عن أشكال التنظيم فيمكن أن نضيف هنا أن من رموز الماسونية: المثلث، والفرجار، والمسطرة، والمقص، والرافعة، والنجمة الخماسية، والأرقام 3 و5 و7 (وهي رموز وطقوس تساعد على اكتشاف النور) . والوحدة الأساسية في التنظيمات الماسونية هي المحفل أو الورشة. ويحق لكل سبعة ماسونيين أن يشكلوا محفلاً، والمحفل يمكن أن يضم خمسين عضواً. وتعقد المحافل اجتماعاً دورياً كل خمسة عشر يوماً، يحضره المتدربون والعرفاء والمعلمون. أما ذوو الرتب الأعلى فيجتمعون على حدة، في ورشات «التجويد» . ويُفترض في المشاركين في الاجتماع أن يقبلوا لباساً معيَّناً: فهم يضعون في أيديهم قفازات بيضاء، ويزينون صدورهم بشريط عريض، ويربطون على خصورهم مآزر صغيرة، وقد يرتدون ثوباً أسود طويلاً، أو بزة قاتمة اللون، أو «سموكينج» ، بحسب تقاليد محفلهم، وهي تقاليد بالغة التعقيد والتنوع.
وتشكل المحافل اتحادات تدين بالولاء والطاعة لأحد المحافل الكبرى. ففي فرنسا، على سبيل المثال، خمسة محافل أساسية كبرى، وهي: محفل الشرق الكبير، ومحفل فرنسا الكبير، والمحفل الوطني الفرنسي الكبير، والاتحاد الفرنسي للحقوق الإنسانية، ومحفل فرنسا الكبير للنساء. وتعقد المحافل الكبرى جمعيات عمومية يتخللها تقييم العمل الذي تم إنجازه ورسم خطط العمل للمستقبل. وبعد عَرْض هذه الأشكال التنظيمية والطقوس والرموز، يمكننا القول بأن تنوعها يجعلها غير صالحة كأساس تصنيفي للماسونية.(15/284)
أما العنصر الثاني الذي يُقال إنه يميِّز الماسونية عن غيرها من الحركات، فهو الإيمان بالحرية والمساواة والإنسانية. ولكن كثيراً من المحافل اتخذت مواقف عنصرية، فالمحافل الألمانية والإسكندنافية رفضت السماح لأعضاء الجماعات اليهودية بالانضمام إليها، والمحافل الأمريكية رفضت انضمام الزنوج. كما لم تنجح المحافل الماسونية في تجاوز الحدود القومية الضيقة. فأثناء الحرب العالمية الأولى، على سبيل المثال، استبعدت المحافل البريطانية الأعضاء المنحدرين عن أصل ألماني أو نمساوي أو مجري أو تركي.
أما العنصر الثالث، وهو العنصر الربوبي، أي الإيمان بالخالق بدون حاجة إلى وحي، فإن محفل الشرق الأعظم في فرنسا رفض هذا الحد الأدنى تماماً عام 1877، وترك لكل عضو أن يحدد بنفسه موقفه من هذه القضية، وتم تأكيد «التقوى الطبيعية» بدلاً من «الإيمان الحق» ، أي أن الماسونية الفرنسية تبنت صيغة علمانية كاملة مؤسَّسة على الفكر الهيوماني أو الإنساني العلماني.
وحتى نصل إلى تعريف دقيق مركب، فلابد أن نأخذ في الاعتبار هذه الخاصية التراكمية الجيولوجية، فندرس الطبقات الجيولوجية في تراكمها الواحدة فوق الأخرى، والتي أدَّت في نهاية الأمر إلى ظهور الماسونيات المختلفة وصفاتها المتنوعة. ويجب أن نؤكد ابتداءً أننا يجب أن نلزم الحذر في تحديد مستوى التعميم والتخصيص. فرغم أن الماسونية حركة بدأت في أوربا (في العالم الغربي) إلا أنها انتشرت في العالم بأسره. ورغم انتشارها هذا إلا أنها لم تصبح حركة عالمية، إذ لا يوجد نمط واحد للتطور، فالماسونية في الغرب مختلفة عنها في العالم الثالث، وهي في إيطاليا مختلفة عنها في أمريكا اللاتينية. وكما سنبين أن الحركات الماسونية المختلفة خدمت دولها ولذا قامت الحركات الماسونية البريطانية بخدمة الاستعمار البريطاني وقامت الحركة الماسونية الفرنسية بخدمة الاستعمار الفرنسي (ولذا نشب صراع بين الحركتين) .(15/285)
تعود جذور الماسونية إلى جماعات أو نقابات الحرفيين في العصور الوسطى الإقطاعية في الغرب، وهي جماعات كانت منظمة تنظيماً صارماً شبه ديني، فكان لكل نقابة طقوسها الخاصة ورموزها الخفية وقسمها السري وأسرار المهنة التي تحاول كل جماعة الحفاظ عليها. وهذه كلها أدوات لها وظيفة اجتماعية شديدة الأهمية إذ أنه، مع غياب المؤسسات التعليمية، كان يتم توريث المعلومات، والخبرات المختلفة الحيوية اللازمة لاستمرار المجتمع، من خلال نقابات الحرفيين. وبدون هذه العملية، لم يكن المجتمع ليحقق أي استمرار. وكانت جماعات البنَّائين من أقوى الجماعات الحرفية، ذلك أن العصور الوسطى كانت العصر الذهبي لبناء الكاتدرائيات والأديرة والمقابر. وكان البناءون يعيشون على أجرهم وحده، على عكس الحرفيين الآخرين، مثل النساجين والحدادين الذين كانوا يتقاضون من زبائنهم مقابلاً عينياً من خلال نظام المقايضة، أي أن البنائين (مثل أعضاء الجماعات اليهودية) كانوا جزءاً من اقتصاد نقدي في مجتمع زراعي. كما أن البنائين كانوا أحراراً تماماً في حركتهم. فقد كان الحداد، مثلاً، يقوم بعمله في مكان ثابت ويقوم على خدمة جماعة بعينها، أما البناء فكان عليه الانتقال من مكان إلى آخر بحثاً عن عمل. ولذا، يمكن القول بأن البنائين كانوا من أكثر القطاعات حركية في المجتمع الوسيط في الغرب. وكان على البنائين أن يجدوا إطاراً تنظيمياً يتلاءم مع حركيتهم، فالنقابات الحرفية بتنظيمها المألوف كانت ملائمة للحرفيين الثابتين. أما بالنسبة للبنّائين، فكان لابد من ابتداع إطار حركي خاص بهم.(15/286)
ومن هنا كانت فكرة البناَّء الذي يُقال له بالإنجليزية: «لودج lodge» أي «المحفل» . والمحفل هو عبارة عن كوخ يُبنى من الطين أو مادة بناء أخرى تَسهُل إزالتها بعد الانتهاء من عملية البناء. وكان المحفل هو المكان الذي يلتقي فيه البناءون حيث يتبادلون المعلومات، ويعبِّرون عن شكواهم وضيقهم من أحوال العمل، ويتبادلون الأخبار بل المشروبات. كما كان بوسعهم النوم في المحفل وقت الظهيرة. وكان العضو الجديد من جماعة البنائين يذهب إلى المحفل لمقابلة أبناء حرفته، ومن هنا ظهرت فكرة السرية والرمزية، إذ كان لابد أن يتوصل هؤلاء البناءون إلى لغة أو شفرة خاصة بهم لا يفهمها سواهم ولا يستطيع صاحب العمل أو غير المشتغلين بحرفة البناء فهمها. وقد أخذت الشفرة شكل عبارات خاصة وطرق معيَّنة في المصافحة وإشارات بالأيدي الهدف منها أن يتمكن البنّاء من التفرقة بين أبناء حرفته الحقيقيين الذين تلقوا التدريب اللازم وينتمون إلى نقابة الحرفيين وبين الدخلاء على الحرفة. وقد التزم البنّاءون بمجموعة من الواجبات ضمها ما يُسمَّى «كتب الواجبات» أو كتب التعليمات أو الدساتير، ومن أهمها مخطوط ريجيوس الذي يعود إلى عام 1390. وتذكر كتب الواجبات أن البناء يتعيَّن عليه مساعدة زملائه وعدم ذمهم، وعليه تعليم المبتدئين منهم، كما أن عليه عدم إيواء الدخلاء. وتتحدث كتب الواجبات كذلك عن الأصول التاريخية أو الأسطورية لحرفة البناء التي يُرجعونها إلى مصر وإلى بناء هيكل سليمان. وثمة قصص أخرى وردت في هذه الكتب عن «الأربعة المتوَّجين» ، وهم أربعة بنائين مسيحيين قتلهم الرومان وأصبحوا شهداء، ومن ثم فقد كان هؤلاء قديسي البنائين.(15/287)
وقد ظلت نقابات البنائين مزدهرة حتى عصر النهضة في الغرب في القرن السادس عشر، وهو أيضاً عصر الإصلاح الديني، حين توقفت حركة بناء الكاتدرائيات وغيرها من المباني الدينية الكاثوليكية. ولكن ذلك تزامن مع ظهور الدولة القومية المطلقة التي قامت بتأسيس مشاريع عمرانية ضخمة تحت إشرافها كسلطة مركزية، ومن ثم بدأت الدعائم التي تستند إليها نقابات البنائين في الاهتزاز، شأنها في هذا شأن كثير من الجماعات الحرفية والمؤسسات الإقطاعية الأخرى وبدأت في التحول إلى جماعات خيرية أو جماعات تضامن تحاول أن تُوفِّر لأعضائها بعض الطمأنينة النفسية وشيئاً من الأمن الاقتصادي. ومع تَناقُص العضوية، بدأت النقابات تقبل في صفوفها أعضاء شرفيين ليحافظوا على الأعداد اللازمة، ومن هنا بدأ التمييز بين البنائين العاملين أو الأحرار، أي الذين يعملون بالحرفة فعلاً، والبنائين المقبولين أو الرمزيين. وظهرت الماسونية الرمزية أو التأملية أو النظرية أو الفلسفية التي حلت محل الماسونية الفعلية، بحيث تحوَّل البناء وأدواته من وظيفة إلى رمز. ولكن البناء (وأدواته) لم يكن المصدر الوحيد للرموز الماسونية، فكما أسلفنا كان هناك سليمان وهيكله، وهو يعتبر البنّاء الأول، وهيكله رمز الكمال الذي يطمح كل البنائين أو الماسون أن يصلوا إليه. ويبدو أن بعض رموز الملكية المقدَّسة في الدولة العبرانية وجدت طريقها إلى الشعائر والرموز الماسونية. وكانت هناك رموز مسيحية كثيرة مأخوذة من تقاليد جماعات الفرسان التي انتشرت في أوربا في العصور الوسطى، والتي يعود أصل معظمها إلى حروب الفرنجة والاستعمار الاستيطاني للفرنجة في فلسطين، مثل جماعة فرسان الهيكل (الداوية) وجماعة فرسان الإسعاف (الإسبتارية) وغيرهما. كما يحتل يوحنا المعمدان ويوحنا الرسول مكاناً خاصاً لديهم، وقد أسلفنا الإشارة إلى الأربعة المتوجين.(15/288)
وقد يكون من المفيد (أو لعله من الطريف) أن نتوقف قليلاً عند أحد الأصول المفترضة للحركة الماسونية وفكرها حسب بعض مؤرخيها، ونعني بذلك نسبتها إلى بعض الجماعات الإسلامية (أو شبه الإسلامية) ، مثل: الدروز، والطائفة الإسماعيلية، وجماعة الحشاشين. ويرى هؤلاء المؤرخون أن الحركة الماسونية استمدت بعض أفكارها ورموزها وطريقة تنظيمها من هذه الجماعات. فشيخ الجبل، رئيس جماعة الحشاشين، الذي يمسك كل الخيوط بيديه لا يختلف كثيراً عن رئيس المحفل، وطريقة العمل السرية وتجنيد الأعضاء الجدد وفكرة الدرجات التي تتبعها الحركة الماسونية لا تختلف كثيراً عن طريقة العمل والتجنيد في هذه الجماعات. بل تذهب بعض المراجع إلى أن جماعة فرسان الهيكل التي اتخذت الحركة الماسونية كثيراً من رموزها رموزاً لها هي في الواقع الأصل الحقيقي للحركة الماسونية، وأن فرسان الهيكل هؤلاء بدأوا نشاطهم في فلسطين إبّان حروب الفرنجة، ثم انتقل نشاطهم إلى أوربا واستمر بعد سقوط كل جيوب الفرنجة في فلسطين، هؤلاء الفرسان هم في واقع الأمر مسلمون أو متأثرون بالفكر الديني الإسلامي، كانوا يحاولون من خلال تنظيمهم السري/العلني أن يسيطروا على العالم المسيحي. ومن المعروف أن جماعة فرسان الهيكل كانت تكوِّن شبكة ضخمة في معظم أرجاء أوربا وأنه كانت تتبعها مجموعة من المحاربين/الرهبان (الذين تأثروا بفكرة الجهاد الإسلامية) ومجموعة من المؤسسات المالية الضخمة ذات النفوذ القوي. وقد تم ضرب فرسان الهيكل في فرنسا وفي كل أنحاء أوربا وقُدِّموا لمحاكم التفتيش. وكانت إحدى التهم الموجهة إليهم هي رفضهم القول بألوهية المسيح وتأثرهم العميق بالفكر الديني الإسلامي وتبشيرهم به، وقد اعترف بعض الفرسان بالتهم الموجهة إليهم. ويبدو أن فرسان الهيكل تأثروا بالفكر الإسلامي أو المُثُل الإسلامية إبّان وجودهم في الشرق الأوسط الإسلامي، كما أنهم تعاونوا بالفعل مع جماعة الحشاشين ودبروا(15/289)
معهم بعض المؤامرات. مهما كان الأمر فإن بعض المؤرخين يذهبون إلى أن بعض فرسان الهيكل قَدموا إلى اسكتلندا حيث أسسوا الحركة الماسونية للسيطرة على أوربا بعد أن تم ضربهم. وقد استطردنا في الحديث عند فرسان الهيكل والإسلام لنبين مدى تشابك أصول الماسونية وتركيبيتها.
وقد اختلطت فلسفة البنائين بالفلسفة الهرمسية السائدة في عصر النهضة في إنجلترا، وهي فلسفة غنوصية ذات طابع أفلاطوني حديث ارتبطت بهرميس تريسميجيستوس، وهو شخصية رمزية أساسية في الفكر الغنوصي حيث كان يُعَدُّ نبياً قبل المسيحية، وكان يُعَدُّ رسول الآلهة للبشر ويحمل المعرفة الخفية الباطنية (الغنوص) . كما اختلطت فلسفة البنائين بالحركة الروزيكروشيانية (بالإنجليزية: روزيكروشيان Rosicrusian نسبة إلى روز rose بمعنى وردة وكروس cross أي صليب) التي ورد أول ذكر لها في القرن السابع عشر، وهي جماعة غنوصية تدَّعي أنها تمتلك الحكمة الخفية عند القدماء. وقد أدَّى تداخُل رموز البنائين وأسرارهم مع الفلسفة الهرمسية والروزيكرو شيانية، إلى أن سقطت تماماً القيمة الوظيفية لحرفة البناء، كما سقطت أدواتها (الفرجار والذراع والبوصلة والمثلث والمئزر والمزولة) واكتسبت قيمة رمزية، فتحوَّل ميزان البنائين (على سبيل المثال) إلى رمز العدالة، وتحوَّل الفادن (وهو خيط رفيع في طرفه قطعة من الرصاص تُمتَحن به استقامة الجدار) إلى رمز استقامة الحياة وأفعال الإنسان.(15/290)
وهكذا تشكلت الطبيعة الجيولوجية المركبة لرموز الماسونية التي ضمت رموزاً من الديانات المصرية القديمة، كما ضمت كلمات عبرية بتأثير من القبَّالاه التي دخل الماسونية كثير من أفكارها. والواقع أن اختلاط فكر البنائين بالفلسفة الهرمسية والروزيكروشيانية يَصلُح مؤشراً على اتجاه الماسونية. فهذه الفلسفات، برغم شكلها الصوفي، كانت جزءاً من الثورة العلمانية الشاملة الكبرى التي تفجرت في الغرب في القرن السادس عشر، والتي كانت تهدف إلى إزاحة الخالق من الكون أو وضعه في مكان هامشي ووضع الإنسان في المركز بدلاً منه، على أن يقوم الإنسان بالتحكم الكامل في الكون عن طريق اكتشاف قوانين الطبيعة الهندسية والآلية. وهي، بهذا، غنوصية جديدة تهدف إلى التحكم في الكون، لا من خلال المعرفة الخفية وإنما من خلال الصيغ العلمية. وعلى كلٍّ، كانت المعرفة الخفية تأخذ، في كثير من الأحيان، شكل صيغ رقمية أقرب إلى المعادلات الجبرية.
وفي العصور الوسطى، كان الوجدان الشعبي يرى أن مثال الغنوصية هو الدكتور فاوستوس الذي باع روحه للشيطان في سبيل المعرفة الكاملة. وفاوستوس هو بطل التفكير العلمي، إليه تُنسَب النزعة الفاوستية التي تسم الفكر العلمي والثوري. وربما تكون مركزية رموز آلات البناء تعبيراً عن النسق الهندسي والآلي الكامن في الماسونية، وعن رغبة التحكم في كلٍّ من الذات الإنسانية والكون من خلال صيغ رياضية (ولعل المقارنة هنا مع فلسفة إسبينوزا وطموحه نحو لغة رياضية هندسية دقيقة مقارنة ذات دلالة عميقة) .(15/291)
لا يمكن، إذن، فهم الماسونية إلا بوضعها في هذا السياق الفكري. وكما يعرف دارسو تاريخ أوربا، فإنه بعد ظهور فكر عصر النهضة وُلد فكر عصر العقل والاستنارة والإيمان بالقانون الطبيعي. والعلمانية (الشاملة) هي نزع القداسة عن العالم (الإنسان والطبيعة) والإيمان بفعالية القانون الطبيعي في مجالات الحياة الطبيعية والإنسانية كافة وإنكار أي غيب، وإلا لما أمكن التحكم في الكون (الإنسان والطبيعة) وتوظيفه واستخدامه وتحويله إلى مادة استعمالية. وقد انعكس هذا في فكرة الإنسان الطبيعي (العقلاني) أو الأممي، وهو إنسان عام لا يتميَّز عن أي إنسان آخر، صفاته الأساسية عامة أما صفاته الخاصة فلا أهمية لها، وهو إنسان عقلاني إن أعمل عقله بالقدر الكافي لتوصَّل إلى الحقائق نفسها التي يتوصَّل إليها الآخرون بغض النظر عن الزمان والمكان. ومن ثم، فبإمكان هذا الإنسان أن يصل إلى فكرة الخالق بعقله بدون حاجة إلى وحي إلهي أو معجزات، أي دون الحاجة إلى دين مُرسَل، أي أن الإنسان الطبيعي العقلاني العالمي (الأممي) يمكنه أن يتوصل بعقله إلى الإيمان بدين طبيعي عقلاني عالمي.
ويمكن القول بأن الدين الطبيعي، أو «الربوبية» كما كانت تُدعَى، هو تعبير عن معدل منخفض من العلمنة أو تعبير عن علمانية جنينية، فهي تستجيب لحاجة أولئك الذين فقدوا إيمانهم بالدين التقليدي ولكنهم لا يزالون غير قادرين على تَقبُّل عالم اختفى منه الخالق تماماً، أي أنهم بشر جردوا العالم من الدين والقداسة واليقين المعرفي والأخلاقي ولكنهم احتفظوا بفكرة الخالق في صيغة باهتة لا شخصية، حتى لا يصبح العالم فراغاً كاملاً.(15/292)
والفكر الربوبي لا يطالب من يؤمن به بأن يتنكر لدينه، إذ أن المطلوب هو أن يعيد تأسيس عقيدته، لا على الوحي وإنما على قيم عقلية مجردة منفصلة تماماً عن أي غيب، أي منفصلة عن الأنساق الدينية المألوفة للتفكير. فالربوبية، في واقع الأمر، فلسفة علمانية تستخدم خطاباً دينياً، أو ديباجات دينية، للدفاع عن العقل المادي المحض، وعن الرؤية التجريبية المادية. ومن ثم، فهي وسيلة من وسائل علمنة العقل الإنساني.
في هذا الإطار الفكري والفلسفي والديني، وُلدت الماسونية. وقد تم تأسيس أربعة محافل متفرقة في إنجلترا في القرن السابع عشر، جمعها كلها محفل واحد مركزي تأسس عام 1717 مع بدايات عصر العقل وحركة الاستنارة. ويُعَد هذا التاريخ هو تاريخ بدء الحركة الماسونية، وقد سُمح لليهود بالالتحاق بها عام 1732. ودخلت الحركة الماسونية فرنسا عام 1725، وإيطاليا وألمانيا عام 1733.
وإن أردنا تلخيص فكر أولى الماسونيات التي نقابلها، ولنسمها «الماسونية العقلانية» أو «الماسونية الربوبية» ، لقلنا إنها تنادي بتوحيد كل البشر من خلال العقل، كما تنادي بإسقاط الدين مع الاحتفاظ بالخالق خشية الفوضى الفلسفية الشاملة.(15/293)
ولذا، فقد جاء في تعريف الماسوني أنه «ذكر بالغ يلتزم بالنسق الديني الذي يوافق عليه جميع البشر» . وهذا هو الإيمان بالخالق أو الكائن الأسمى (مهندس الكون الأعظم) ، أو الإيمان بالجوهر العقلي للدين الذي يستطيع العقل أن يصل إليه. وبوسع العضو أن يحتفظ لنفسه بأية آراء دينية خاصة أخرى، على أن يعلن تسامحه مع الأديان وإيمانه بأبوة الرب وأخوة البشر وخلود الروح. وقد جاء في الدستور الماسوني لعام 1733 الصادر في إنجلترا أن الماسوني «لا يمكن أن يكون كافراً غبياً أو فاسقاً غير متدين» وعليه أن يحترم السلطات المدنية ولا يشترك في الحركات السياسية. ومن أهداف الماسونية الأساسية ما يُسمَّى «اليقظة الأخلاقية عن طريق العلم» وهي عبارة قد تبدو بريئة ولكنها تعبير عن منظومة عقلانية مادية لا تزال متلبسة ديباجات أخلاقية وروحية. وتدعو الماسونية إلى مجموعة من الصفات العامة التي لا تغيِّر كثيراً من هذه البنية الفكرية التحتية، فهي تدعو إلى وحدة البشر على أساس الإخاء والمحبة والمساواة، والعون المشترك وخدمة الغير وحُسْن معاملتهم، وحب الجماعة وتبادُل المصالح والتحلي بالفضائل المدنية، أى الفضائل التي يتسم بها المواطن الذي ينتمي إلى الدولة القومية (مقابل الفضائل الدينية لدى الإنسان المتدين الذي ينتمي إلى الكنيسة ويؤمن بعقيدة مُنزَّلة) . كما تُقدِّس الماسونية الملْكية الخاصة. وليس للماسونية هدف نهائي محدد، وإن كان ثمة هدف فهو عام غير محدد، وهو أن يكون العالم في النهاية في اتحاد أخوي وإلهي (ولعلنا نُلاحظ هنا النموذج الحلولي الواحدي الكامن) .(15/294)
ويمكننا أن نقول إن الماسونية الربوبية هي ماسونية الفكر المركنتالي والدولة المطلقة، وماسونية الطبقات الأرستقراطية التي احتضنت الطبقات الوسطى الصاعدة باعتبارها قوة تستخدمها وتوظِّفها لصالح الدولة القومية المطلقة دون أن تسلمها صولجان الحكم والقيادة. وقد اكتشف الإنسان الغربي (منذ عصر نهضته، بعد ظهور ماكيافيللي وهوبز وفكرة القانون الطبيعي وضعف الإطار المسيحي التقليدي وانكماش سلطة الكنيسة الدنيوية) أن المطلق الوحيد في الإطار العلماني الشامل هو الدولة وأن مصلحتها العليا هي المطلق الأخلاقي الأسمى. وهذه الفلسفة علمانية شاملة تضع الخالق والغيب في موضع هامشي، وهذا ما تنجزه الماسونية الربوبية وتُعلمن الإنسان وتجعله يستبطن هذه القيمة المطلقة حتى يخضع لإرادة الدولة بدلاً من إرادة الخالق. داخل إطار عقلانى هادئ يشجع على تطويع الإنسان وتطبيعه. والدولة المطلقة إطار يضم كل الطبقات تحت قيادة هذه الملكية المطلقة أو تلك، أو أية ملكية أخرى في مواجهة الكنيسة التي كانت لا تزال تحاول الحفاظ على سلطانها الدنيوي. ومن ثم، نجد أن أعضاء الأرستقراطية انضموا إلى الحركات الماسونية، فقد انضم إليها ملكا بروسيا فريدريك الثاني وفريدريك الثالث، وملوك شبه جزيرة إسكندنافيا، وملك النمسا جوزيف الثاني، ونابليون وأفراد عائلته، وأعضاء الطبقة الوسطى الذين يطمحون إلى شيء من الحراك الاجتماعي. ويمكن تفسير انضمام أعضاء الأسرة المالكة الإنجليزية وأعضاء الأرستقراطية إلى الجماعات الماسونية من المنظور نفسه. وكان كثير ممن يُطلَق عليهم «مثقفو الطبقة الوسطى الصاعدة» من الماسونيين. كما يمكن أن نذكر من أعضائها فولتير ومونتسكيو والأنسيكلوبيديين (الموسوعيين) ، وفخته وجوته وهردر ولسنج وموتسارت، وأعضاء الجمعية الملكية في إنجلترا، وجورج واشنطن، وماتزيني وغاريبالدي.(15/295)
وعشية الثورة الفرنسية، كان يوجد في فرنسا نحو خمسمائة محفل ماسوني. كما يُقال إن أكثر من نصف أعضاء الجمعية العمومية في فرنسا، عشية الثورة، كانوا من الماسونيين. ولكن يجب ملاحظة أن معظم الماسونيين في فرنسا في تلك المرحلة لم يكونوا من غلاة الثوريين (الجمهوريين) بل كانوا من دعاة الإصلاح بلا ثورة. ولذلك، فقد هاجر كثير منهم من فرنسا بعد تصاعد حمَّى الثورة، أو سقطت رؤوس بعضهم ضحايا المد الثوري (ويمكن أن نخص بالذكر مارا ودانتون ميرابو ولافاييت باعتبارهم من قادة الثورة الفرنسية من الماسونيين) .(15/296)
ويمكن القول بأن الماسونيين كانوا من أعضاء طبقات أو فئات هامشية تود أن تحقق شيئاً من الحراك والمركزية، أو كانوا أعضاء هامشيين أو فئات هامشية في طبقات مركزية ويودون أن يحققوا قدراً من الحراك من خلال الانضمام إلى تَجمُّع أكبر، أو كانوا من أعضاء الأرستقراطية الذين أرادوا أن يستخدموا القوة الماسونية وأن يوظفوها لصالحهم الشخصي أو لصالح الدولة المطلقة. وربما يعود شيوع الماسونية في القرن الثامن عشر إلى سببين أساسيين: أولهما، شيوع الفلسفات العقلانية المعادية للكنيسة والطبقات الإقطاعية. ولكن هذه الفلسفات لم تكن بعد ثورية أو إلحادية، فقد كانت تعبِّر عن مصالح الطبقة الوسطى الصاعدة وعن رؤيتها التجارية المادية العلمانية الشاملة للكون، بدون أن تعلن صراحة عن ماديتها أو علمانيتها إذ كانت أضعف من أن تفعل ذلك. أما السبب الثاني، فهو عدم تجانس رموز الحركة الماسونية، الأمر الذي لعب دوراً حيوياً في زيادة مقدرتها التعبوية على مستوى كل الطبقات. وقد كانت الماسونية ديموقراطية تقوم بتجنيد أعضائها من الطبقات كافة، ولكنها كانت في الوقت نفسه أرستقراطية يترأسها الملك وأعضاء النخبة، وتأخذ شكلاً هرمياً جامداً. وكانت ليبرالية تدعو إلى الأخوة والمساواة، ولكنها كانت في الوقت نفسه محافظة تدعو إلى عدم التعرض للسلطات الحكومية أو الخوض في الأمور السياسية. وكانت الماسونية في تلك المرحلة حركة إيمانية ربوبية، ولكنها كانت تحوي داخلها كل معالم التفكير الإلحادي الذي يُسقط الإله تماماً. وكانت عقلانية ذات رموز صوفية، وتضم أفكاراً عالمية ومحلية. وربما جعلتها هذه الصيغة الإسفنجية تحقق هذا النجاح الباهر وتجعلها واحدة من أهم مؤسسات العلمنة في العالم، فهي تستخدم ديباجات دينية ضبابية لتحقيق أهداف علمانية.(15/297)
ولكن الماسونية هي بنت محيطها الحضاري التاريخي والجغرافي (فلا يوجد كما أسلفنا نسق عالمي واحد ينطبق على الماسونيين في كل زمان ومكان) ، فقد كانت ألمانية في ألمانيا، وإنجليزية في إنجلترا، وفرنسية في فرنسا. ولذا، فقد تغيَّرت هي نفسها مع تغيُّر أوربا. كما نجد أن تصاعد قوى الطبقة الوسطى ومعدلات العلمانية والإلحاد قد انعكس على الفكر الماسوني وتنظيماته، فاكتسب كثير من المحافل الماسونية مضموناً ثورياً، وخصوصاً في البلاد الكاثوليكية والأرثوذكسية، وأصبحت الأداة الكبرى في الحرب ضد الكنيسة، وفي المطالبة بفصل الدين عن الدولة. هذا على عكس المحافل الماسونية في البلاد البروتستانتية حيث ظلت معتدلة تدور داخل إطار ربوبي.
وفي هذا الإطار الجديد، ظهرت الماسونية الثانية التي تتخذ موقفاً إلحادياً أكثر صراحة، وبدلاً من العقلانية الربوبية شبه المادية التي تستخدم ديباجات أخلاقية وروحية، تُسقط الماسونية تدريجياً كل هذه الديباجات وتدور تماماً في إطار العقلانية المادية الكاملة، فقرَّر محفل الشرق الأعظم في فرنسا عام 1877 استبعاد أية بقايا إيمانية من الفكر الماسوني. وظهرت محافل ذات طابع ثوري مثل النورانيين (إليوميناتي) في بافاريا، وقبلها المارتينيست في فرنسا، وكانت المحافل الماسونية في روسيا القيصرية (الأرثوذكسية) خلايا ثورية، وكان معظم أعضاء ثورة الديسمبريين من الماسونيين.(15/298)
ويُلاحَظ أن الماسونية الثانية، وهي ثورية إلحادية، تنتشر في البلاد الكاثوليكية والأرثوذكسية، أي البلاد التي توجد فيها كنيسة قوية تقف ضد الفلسفات العقلانية البورجوازية والثورية العمالية. كما يُلاحَظ أن المحافل الماسونية في هذه البلاد، كما هو الحال في أمريكا اللاتينية، تتسم بثوريتها وعدائها للكنيسة والكهنوت، كما تتسم بارتباطها الواضح بالفلسفة الوضعية التي تجعل العلم الأساس الوحيد للقيمة والأخلاق، فالتقدم الأخلاقي يتم تحقيقه من خلال التقدم العلمي، والمنفعة الإنسانية ككل هي نهضة علمية (ولهذا لوحظ أن عدداً كبيراً من دعاة الفكر الوضعي في فرنسا وروسيا والعالم الثالث أعضاء في المحافل الماسونية) . كما أن الكنيسة، بدورها، تناصب الحركة الماسونية العداء. وبمرور الزمن، أصبحت المحافل الماسونية تضم، من ناحية الأساس، عناصر البورجوازية والطبقة الوسطى، ولم يَعُد ينضم إليها أي مفكرين، كما اختفى منها كذلك أعضاء الأرستقراطية. وبرغم كل هذا، فإن عضوية المحافل الماسونية ظلت (من ناحية الأساس) مقصورة على العناصر البورجوازية المعتدلة التي ترفض الدخول في أية مغامرات سياسية، والتي تود أن تعيش في عالم علماني عقلاني ولكنها لا تريد مواجهة النتائج الفلسفية الناجمة عن ذلك، وربما يفسر هذا سر تَصدِّي البلاشفة للجماعات الماسونية وحظرهم إياها، وتَصدِّي هتلر وموسوليني أيضاً لها وتجريمهما الجمعيات الماسونية. فالبلاشفة والفاشيون والنازيون راديكاليون، وإذا كان البلاشفة راديكاليين عقلانيين ماديين فالفاشيون والنازيون راديكاليون لا عقلانيون ماديون، ويطمحون إلى التحكم الكامل في الدولة وجماهيرها، ولذا فالاعتدال أو التراخي الماسوني يُشكِّل تحدياً لسلطتهم. كما أن الجيب الماسوني كان يتمتع بقدر من الاستقلال بل السرية، فهو يمثل جماعة مصالح لها شعائرها وطقوسها، والدول العلمانية الشمولية المطلقة لا تتحمل وجود مثل هذه الجيوب(15/299)
داخلها.
وقد انتشرت الماسونية في البلاد البروتستانتية لأن البروتستانتية شكل من أشكال علمنة المسيحية الكاثوليكية، كما أن معدلات العلمانية مرتفعة فيها. فقد انتشرت بسرعة في الجزر البريطانية بسبب عدم وجود كنيسة مسيطرة على جوانب الحياة، وبسبب انخراط الطبقة الحاكمة في صفوف الماسونية. وقد انتشرت الماسونية مع اتساع الإمبراطورية الإنجليزية، فانتقلت إلى الولايات المتحدة وأستراليا وكندا ومصر وفلسطين والهند وغيرها من المستعمرات أو المحميات. وقد احتفظت الحركة الماسونية بطابع هادئ مهادن داخل التشكيل البروتستانتي.(15/300)
ولكن الماسونية البريطانية لم تكن الماسونية الوحيدة التي انتشرت في المستعمرات، إذ أن الصراع الإمبريالي على العالم انعكس من خلال صراع بين الحركات والمحافل الماسونية، فكان كل محفل ماسوني يخدم مصلحة بلد ويمثله، تماماً كما حدث صراع بين المبشرين البروتستانت والمبشرين الكاثوليك الذين كانوا يمثلون مصالح بلادهم. ويبدو أن بعض الشخصيات المهمة في العالم العربي أرادت أن تستفيد من هذا الصراع، وخصوصاً أن أعضاء هذه المحافل كانوا من الأجانب ذوي الحقوق والامتيازات الخاصة المقصورة عليهم. فكان الدعاة المحليون ينخرطون في هذه المحافل بغية توظيفها في خدمة أهدافهم، وحتى يتمتعوا بالمزايا الممنوحة لهم. وكان من بين هؤلاء الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والأمير عبد القادر الجزائري. ولعل هذه الشخصيات الدينية والوطنية حذت حذو ماتزيني وغاريبالدي وغيرهما ممن حاولوا الاستفادة من أية أطر تنظيمية قائمة. ولنا أن نلاحظ أن الأفغاني قد اكتشف حقيقة الماسونية في وقت مبكر، وتَوصَّل إلى الأسس العلمانية التي يقوم عليها خطابها الديني، ومن ثم ناهض هذه الأفكار في كتابه الرد على الدهريين. أما عبد القادر الجزائري فلا توجد تفاصيل حول علاقته بالماسونية، وإن كان قد حاول إيجاد أطر تنظيمية وتأسيسية لحركته مع الاستفادة من أسلوب التنظيمات الماسونية. وقد انضم إلى الحركة الماسونية أحد أبناء محمد علي باشا وكانت له مطالب في عرش مصر، وقد كان أستاذاً أعظم لمحفل الشرق الأعظم المصري، وتبعه في ذلك عدد من أعضاء الأسرة المالكة. كما انضم إلى الحركة الماسونية شخصيات أخرى، مثل سعد زغلول ويوسف وهبي. ولكن ارتباط أمثالهما بالحركة الماسونية كان واهياً للغاية ولا يعدو قبولهم ذكر أسمائهم ضمن قائمة الأعضاء أو حضور اجتماع يُعقَد على شرفهم دون أي إدراك من جانبهم للتضمينات الفلسفية وراء الفكر الماسوني. كما أن الحركة الماسونية ظلت في مصر(15/301)
وغيرها ضعيفة تضم في صفوفها الأجانب أساساً.
ويمكننا الآن طرح قضيتين مهمتين هما: نفوذ الماسونية السياسي والاقتصادي، وسرية تنظيماتهما، وهما عنصران مترابطان تمام الترابط. فالحركات الماسونية تتركز في بلاد غربية متقدمة تحكمها حكومات مركزية قوية، وتخضع فيها الحركات السياسية والاجتماعية كافة للمراقبة، وإلا لما أمكنها تسيير دفة الحكم. ولا يمكن في الحقيقة تصوُّر وجود حركات ضخمة لها قوة فعالة لا تخضع للإطار العام الذي تفرضه مثل هذه الدول المطلقة الرشيدة، فعملية التنبؤ والتخطيط تتطلب مثل هذا التحكم ومثل هذه المعرفة. والمحافل الماسونية تخضع لهذا القانون العام، ولم يكن من الممكن أن تُشكِّل استثناء منه. لكن هذا لا يمنع، بطبيعة الحال، من تَسلُّل بعض العناصر المغامرة إلى بعض المحافل لتوظيفها بشكل أو بآخر، من خلال شبكة اتصالاتها، في الاحتيال أو الأعمال الإجرامية. وهذا هو بالضبط ما تفعله، على سبيل المثال، عصابات المافيا (الجريمة المنظمة) مع الجهاز التنفيذي في الولايات المتحدة، إذ تستأجر كبار المحامين وتشتري القضاة وتجند ضباط الشرطة، أي تقوم بتوظيف الجهاز الذي أُسِّس لمكافحتها والقضاء عليها لتنفيذ أهدافها الإجرامية. وكل هذا لا يعني وجود مؤامرة مافياوية للاستيلاء على العالم. وكذلك الجماعات الماسونية، فهي إذا ما تحولت إلى قوة ضغط (لوبي) ، فإنها لا تختلف كثيراً عن مراكز الضغط الأخرى داخل النظام السياسي والاقتصادي. وإن أخذ نشاطها شكلاً تآمرياً أو إجرامياً في بلد ما، فلا يصح تعميم مثل هذه الوقائع وافتراض وجود مثل هذا النشاط على مستوى العالم بأسره.(15/302)
وقد وُصفت الولايات المتحدة بأنها ديموقراطية جماعات الضغط. ولابد أن المحافل الماسونية تشكل إحدى هذه الجماعات التي تعمل داخل النظام، فهذا هو المُتوقَّع منها، وهذا هو «قانون اللعبة» . ولا يمكن في هذا السياق أن نتحدث عن مؤامرة خفية أو علنية. ومن الناحية النظرية، يمكن أن نقول إن المحافل الماسونية بوسعها أن تمارس ضغوطاً ضخمة في العالم الثالث نظراً لضعف جهاز الدولة المركزي. ولكن، بحسب ما هو متوافر لدينا من معلومات، لا توجد حكومة في العالم الثالث سقطت في يد اللوبي الماسوني. ولكن لوحظ أنه قد بدأ يظهر تحالف بين بعض المحافل الماسونية وعصابات المافيا في إيطاليا في العالم الأول، وقد بدأوا في السيطرة على بعض المؤسسات المالية الشرعية ليمارسوا نشاطهم غير الشرعي وراء ستار. كما أن الماسونية تلعب دوراً تآمرياً ملحوظاً في بلد مثل تركيا، حيث يمارس بقايا يهود الدونمه نشاطهم من خلال محافلها، وهي جزء لا يتجزأ من المؤسسة العلمانية هناك، بل تشكِّل عمودها الفقري. ويُقال إن الماسونية لها أيضاً دور متميِّز في بلد مثل المملكة الأردنية الهاشمية.
ويُلاحَظ أن رجال الشرطة في إنجلترا وكثير ممن يعملون في المؤسسات الأمنية والقضائية وبعض أهم أعضاء النخبة الحاكمة أعضاء في المحافل الماسونية. وقد طلبت الحكومة البريطانية من أعضاء جهاز الشرطة ممن ينتمون إلى محافل ماسونية أن يعلنوا ذلك، لأنه لوحظ أن أعضاء الشبكة الماسونية يُوظِّفون القوانين والإجراءات لصالحهم ولصالح زملائهم.
ولا توجد سلطة ماسونية مركزية على مستوى العالم، بل يختلف تركيب الحركة من بلد إلى آخر، فلا توجد على سبيل المثال سلطة ماسونية مركزية في أمريكا أو كندا إذ أن التنظيم الفيدرالي في هاتين الدولتين انعكس على شكل تركيب الحركة الماسونية، على عكس الوضع في إنجلترا وفرنسا، حيث توجد حكومة مركزية قوية ومن ثم محفل مركزي قوي.(15/303)
أما بالنسبة إلى سرية المحافل، فهذا أمر مركب أيضاً، فالجمعيات الماسونية سرية بمعنى أن طقوسها وبعض الإشارات الأخرى فيها سرية، ومن ينضم إلى الحركة يُقسم على ألا يكشفها (وهذا ميراث العصور الوسطى) . ولا تسمح الحركة الماسونية لأي شخص بالانضمام إليها، وإنما يتم تجنيد الأعضاء عن طريق توصية أحد الأعضاء العاملين. والحركة الماسونية لا تختلف في هذا عن كثير من النوادي الخاصة وغيرها من المؤسسات. كما أن المحافل تخفي بعض الطقوس عن الأعضاء الجدد إلى حين التأكد من ولائهم. وما عدا ذلك، فلا يوجد أي شيء سري، إذ يتم تأسيس المحافل الماسونية بموافقة السلطات، وكل اجتماعاتها معروفة سلفاً لدى هذه السلطات، كما أن أعضاء المحافل معروفون في أغلب الأحيان لدى الحكومة. والمحافل الماسونية لا تخفي وجودها أو أهدافها أو عملها. وحينما صدر قانون حظر الجمعيات السرية في إنجلترا عام 1798، استُثنيَت المحافل الماسونية من ذلك. وبإمكان أي باحث أن يطالع أرشيف محفل الشرق الأعظم في فرنسا. كما أن كثيراً من المحافل الماسونية تُقدِّم مضابط اجتماعاتها إلى السلطات الحكومية.(15/304)
ولكن، مع هذا، تضطر بعض المحافل الماسونية إلى إخفاء أسماء أعضائها خوفاً من السلطات الحكومية في البلاد التي تلعب فيها هذه المحافل دوراً انقلابياً. ولابد أن نضيف هنا أن المحافل الماسونية تم إغلاقها في مصر لأنها رفضت أن تخضع لتفتيش وزارة الشئون الاجتماعية نظراً لأن هذا يتعارض مع ما تتطلبه الحركة من سرية وكتمان فيما يتصل بالطقوس. ورغم أن هذا هو رأينا، إلا أننا نود أن ننبه إلى أن نموذجنا التفسيري يترك قدراً لا يُستهان به من الحوادث والوقائع دون تفسيره. فعلى سبيل المثال، من المعروف أن عدداً كبيراً من رؤساء الجمهورية في الولايات المتحدة (ومنهم جورج واشنطن) كانوا من الماسونيين. كما لوحظ أن عدداً كبيراً من قادة الثورة الفرنسية - كما أسلفنا - كانوا أيضاً من الماسونيين. والواقع أن هناك شخصيات مهمة في كثير من الحكومات الغربية (في المعسكر الرأسمالي) أو الحكومات الشرقية (في المعسكر الاشتراكي) كانوا أعضاء في المحافل الماسونية، ولكن عضويتها تظل طي الكتمان. كما أن بعض الجرائم تشير إلى وجود شبكة ماسونية، ولكن الوصول إلى الحقائق مازال في حاجة إلى مزيد من البحث الذكي والموضوعي (ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن نوادي الروتاري والليونز، التي يُثار حولها لغط شديد في مصر وغيرها من بلاد العالم الإسلامي، دون أن تكون هناك شواهد متعيِّنة، تشكل أساساً لمثل هذا اللغط) .(15/305)
والآن يبلغ عدد الماسونيين في العالم نحو 59 مليوناً، منهم أربعة ملايين في الولايات المتحدة ومليون في إنجلترا. فإذا أضفنا عدد الماسونيين في كل من كندا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا، فإننا نجد أن الماسونية منتشرة أساساً في البلاد البروتستانتية، وخصوصاً الاستيطانية، وهذا أمر متوقع إذ أنها نشأت أساساً في المحيط البروتستانتي، شأنها شأن كثير من الحركات السياسية والفكرية المعاصرة، كالصهيونية والعلمانية والنازية. وقد لوحظ مؤخراً تَناقُص عدد الماسونيين في العالم بشكل ملحوظ (ولذا، فقد تكون الأرقام التي أتينا بها غير دقيقة. وقد ورد في أحد المصادر أن العدد الآن لا يتجاوز ثلاثة ملايين) .
والماسونية جزء من التشكيل الحضاري الغربي بدأت مع بدايات الظاهرة العلمانية الكبرى وهي تُعَد تعبيراً عنها. و «الماسونية الأولى» (ماسونية عصر الملكيات المطلقة) تعبير عن المراحل الأولى للعلمانية، تماماً كما أن الماسونية الثانية تعبير عن تصاعُد معدلات العلمنة. ويمكننا أن نقول كذلك بأن الماسونية فقدت دورها الثوري بوصفها إحدى مؤسسات العلمنة مع تحقيق أهداف الثورة العلمانية في معظم بلاد العالم الغربي وهيمنتها واكتسبت مضموناً آخر. وبالفعل، بدأت المحافل الماسونية تتحول إلى ما يشبه النوادي التي تضم أعضاء لهم مصلحة مشتركة وتشكل إطاراً يتبادل داخله الأعضاء الخدمات، شأنها في هذا شأن كثير من مؤسسات المجتمعات الغربية التي يقال لها متقدمة. ويمكن أن نطلق على هذا الضرب من الماسونية اسم «الماسونية الثالثة» .(15/306)
أما في الولايات المتحدة، فقد بدأت تظهر محافل ذات طابع اجتماعي ترفيهي، وهي محافل ليس لها وضع مُقنن داخل التنظيمات الماسونية، وإن كان كثير من أعضائها من الماسونيين. ومن هذه المحافل "الطريقة العربية القديمة لنبلاء الحرم الصوفي"، ويُقال لهم «الحرميون» ، و «الطريقة الصوفية لأنبياء المملكة المسحورة الملثمين» . وبدأت بعض هذه المحافل تسمح للنساء بالانضمام إليها، كما أسِّست محافل للفتيان والفتيات. وتمنع المحافل الماسونية البريطانية أعضاءها من الالتحاق بأيٍّ من محافل الترفيه هذه، إذ تُعَدُّ نوعاً من الابتذال. وهذا النوع من الماسونية السوقية أو الماسونية المتأمركة أو ماسونية عصر الاستهلاك وما بعد الحداثة هي «الماسونية الرابعة» .
الماسونية واليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية
Freemasonery and Judaism and Jewish Communities(15/307)
قد يكون من المهم جداً، حين نحاول تحديد علاقة الماسونية باليهود واليهودية، أن نؤكد مرة أخرى الفرق بين أعضاء الجماعات اليهودية الخاضعين لحركيات الحضارات المختلفة التي ينتمون إليها واليهودية كنسق ديني أو حتى كتركيب جيولوجي. وقد يقول قائل إن الماسونية حركة لا علاقة لها بالدين بالمعنى الدقيق للكلمة باعتبارها حركة أخلاقية أخوية وحسب. فالدين علاقة بالخالق تأخذ شكل الإيمان به وعبادته، أما الأخلاق فهي نسق من الأفكار ينظم علاقة الإنسان بالإنسان لا بالخالق، ومن ثم فالماسونية تتعامل مع رقعة من الوجود الإنساني تختلف عن تلك التي يتعامل معها الدين. ولكن كلاًّ من التعريفين السابقين للأخلاق والدين قاصر، فالدين هو إيمان الإنسان بالإله (المطلق ـ الغيب) كعقيدة تترجم نفسها إلى سلوك وإلى علاقة بين الإنسان والإنسان. ولكن الدين ليس فقط عبادات وإنما معاملات أيضاً. والأخلاق بدورها ليست مجرد مجموعة من القواعد الخارجية التي تحدد سلوك الإنسان تجاه أخيه الإنسان، وإنما هي مجموعة من القواعد تستند إلى معنى داخلي يعتمد على رؤية للكون، ومن هنا التداخل بين الدين والأخلاق، وكذلك التداخل بين الماسونية والدين.(15/308)
وقد بيَّنا أن الماسونية بدأت كدعوة ربوبية، فهي نسق فكري ديني متكامل يستند إلى العقل (المادي) وحسب، لا إلى العقل والغيب معاً، يحدد علاقة الإنسان بالخالق وبالطبيعة وبطرق المعرفة. وهي تطرح أمام تابعيها طرق الخلاص وتتكفل بتعليم مريديها السلوك الأسمَى، وتزودهم بأساس فلسفي للأخلاق التي يؤمنون بها، فضلاً عن أن اجتماعاتها تبدأ وتنتهي بصلاة. ولذا، كان لابد أن تصطدم الماسونية بالأديان جميعاً: المسيحية الكاثوليكية، والبروتستانتية، واليهودية الأرثوذكسية وريثة اليهودية الحاخامية. وكانت المسيحية الكاثوليكية أكثر الديانات عداءً للماسونية، فقد أعلن البابا كلمنت الثاني عشر عام 1738 أن الماسونية كنيسة (أي ديانة) وثنية غير مقدَّسة (وهو في تصوُّرنا وصف دقيق لها) ، ولم يسمح للكاثوليك بالانضمام إليها. أما الكنائس البروتستانتية، فبعضها فقط ناصبها العداء. أما اليهودية الأرثوذكسية، فهي تحرِّم على اليهود الانضمام إلى المحافل الماسونية، وتعتبر من ينضم إليها خارجاً على الدين، هذا على خلاف الصيغ اليهودية المخففة مثل اليهودية الإصلاحية كما سنبين فيما بعد.
ويمكننا الآن أن نتناول علاقة الماسونية بأعضاء الجماعات اليهودية. وسوف تكون الصورة هنا أكثر تركيباً وتنوعاً واختلاطاً. وكما أشرنا، تُشكِّل الماسونية دعوة ربوبية رخوة تعددية تستند إلى العقل، وهي تطرح على المؤمن بها عقيدة متكاملة، ولكنها لا تطلب منه أن يتخلى عن عقيدته الأصلية، ولذا كان بإمكان كل أعضاء الديانات الانضمام إليها دون أن يضطروا إلى نبذ دينهم (وقد كان هناك محفل ديني في الصين يستخدم الإنجيل والقرآن وكتابات كونفوشيوس ككتب مقدَّسة) .(15/309)
وقد ظهرت الماسونية في وقت كانت فيه اليهودية الحاخامية قد بدأت تدخل مرحلة أزمتها التي أودت بها في نهاية الأمر. فالفكر القبَّالي كان قد حل محل التلمود وقوض اليهودية من الداخل. كما أن شبتاي تسفي من جهة، وإسبينوزا من جهة أخرى، كانا قد شنَّا هجومهما الشرس في منتصف القرن السابع عشر على اليهودية من ناحيتي اليمين واليسار. وكان يهود البلاط والعنصر السفاردي قد حلاّ محل القيادة الحاخامية التقليدية. كل هذا، جعل الثورة العلمانية تترك أعمق الأثر في بعض أعضاء الجماعات اليهودية الذين كانوا قد بدأوا يضيقون ذرعاً باليهودية وأخذوا يبحثون عن مخرج لهم منها، فظهرت بينهم حركة التنوير واليهودية الإصلاحية. وقد حل بعضهم أزمته بأن تَنصَّر. ولكن الانتقال إلى المعسكر المسيحي أمر صعب من الناحية المضمونية والتعبيرية، فعقيدة مثل التثليث، أو رمز مثل الصليب، أمور من الصعب على كثير من اليهود تَقبُّلها.(15/310)
وقد حلت الماسونية مشكلة هؤلاء اليهود الذين اغتربوا عن يهوديتهم، والذين ازدادت معدلات العلمنة بينهم، والذين كانوا يريدون الاندماج في مجتمع الأغيار ولكنهم لا يريدون التنصر. وكان ظهور الحركة الماسونية علامة على أن مجتمع الأغيار قد بدأ يفتح ذراعيه لهم، وأصبحت المحافل الماسونية الأرضية الروحية والفعلية التي يمكن أن يلتقي أعضاء الجماعات اليهودية فيها مع قطاعات مجتمع الأغلبية. وقد كانت هذه الأرضية تتسم بقسط معقول من الحياد، فرغم وجود رموز ذات أصل مسيحي، ومع أن الفكر الماسوني احتفظ ببعض الأفكار المسيحية، فقد كانت هناك رموز ذات مضمون عقلاني عام (رموز البناء) وهي رموز عامة ومحايدة. وماذا يمكن أن يكون أكثر حياداً من أدوات الهندسة التي يستخدمها البناء؟ بل كانت هناك رموز يهودية أيضاً: سليمان والهيكل وكلمات عبرية. كما كانت هناك رموز كونية عامة يمكن أن يشارك أعضاء الجماعات اليهودية فيها. ولكن الأهم من كل هذا أنه لم يكن مطلوباً منهم اعتناق دين جديد أو رفض دينهم القديم، فكل ما كان مطلوباً منهم هو إزاحته جانباً أو تهميشه وإعادة تأسيس عقيدتهم على العقل لا الغيب. ولذا، انخرط اليهود بأعداد متزايدة في صفوف الماسونية. ويُلاحَظ أن أول الماسونيين بين اليهود كانوا من السفارد، إذ أن معدلات العلمنة كانت مرتفعة بين العنصر السفاردي. ثم بدأت تنخرط في سلك المحافل الماسونية عناصر يهودية أخرى تزايدت بينها معدلات العلمنة، مثل: أتباع اليهودية الإصلاحية، وبقايا العناصر الشبتانية، واليهود الذي تأثروا بالقبَّالاه. ولذا، يجب أن نؤكد أن أعضاء الجماعات اليهودية الذين انضموا إلى المحافل بأعداد متزايدة فعلوا ذلك لا بسبب يهوديتهم أو عقيدتهم، وإنما بالرغم منها. بل إن انخراطهم في المحافل الماسونية يمثل بالنسبة لبعض اليهود صياغة دينية مخففة تساعدهم على التخلص من هويتهم الدينية بدون إحساس بالحرج من عدم وجود إيمان ديني على(15/311)
الإطلاق.
وقد برز اليهود في الحركة الماسونية، وخصوصاً في إنجلترا حيث التحقوا بالحركة عام 1732، وأُسِّس أول محفل ماسوني يهودي عام 1793. أما في فرنسا، فقد أصبح السياسي الفرنسي اليهودي أدولف كريمييه (1869) البنَّاء الأعظم للمحفل الأكبر على الطريقة الاسكتلندية. وكان هناك كثير من مؤسسي المحافل الماسونية التي كان ينضم إليها أعضاء الطبقة الوسطى المعادون للكنيسة الكاثوليكية. ولكن الصورة لم تكن واحدة في كل البلاد، ففي شبه جزيرة إسكندنافيا، وكذلك في ألمانيا، ظلت مشاركة اليهود في الحركة الماسونية مسألة خلافية، وقد سُمح (حتى عام 1870) لعدد صغير جداً من اليهود بالانخراط في سلك الحركة. وكان بعض المحافل يقبل اليهود ولكن داخل إطار ألماني مسيحي. فمحفل الإخوة الآسيويين، الذي أُسِّس في فيينا خلال عامي 1780 و1781، كان ضمن طقوسه أكل لحم الخنزير باللبن. وكما هو معروف، فإن لحم الخنزير محرم على اليهود، وكذلك فإن خلط اللحم باللبن محرم عليهم أيضاً.(15/312)
وقد تزايد إقبال اليهود على الانخراط في المحافل الماسونية في ألمانيا، وقامت دعوة بين الماسونيين الألمان تطالب بقبول اليهود كأعضاء في الحركة. لكن هذه الدعوة لم تنل تأييد زعامة الحركة، وقد تحوَّل بعض يهود ألمانيا إلى الماسونية أثناء رحلاتهم في إنجلترا وهولندا، وخصوصاً في فرنسا ما بعد الثورة. وقد تأسست في ألمانيا نفسها محافل فرنسية ومحافل بمبادرة فرنسية، وأسس يهود فرانكفورت عام 1808 محفل «الفجر الوليد» بتصريح من منظمة الشرق الأعظم. ولا شك في أن مثل هذه المحافل الفرنسية اليهودية زادت من عداء الماسونيين الألمان لليهود. ومن ثم، ظهرت دساتير ماسونية تستبعد اليهود بشكل خاص. ولكن بعض المثقفين الماسونيين الألمان قاموا في ثلاثينيات القرن بالاحتجاج على استبعاد اليهود، وانضم إليهم في احتجاجهم هذا ماسونيو إنجلترا وهولندا والولايات المتحدة. وقد اكتسحت ثورة 1848 بعض الفقرات التي تستبعد اليهود، واعترفت المحافل المسيحية في فرانكفورت بالمحافل اليهودية. وقد كانت محافل بروسيا هي الاستثناء الوحيد حيث استمرت في استبعاد اليهود، ولكنها بدأت مع السبعينيات تسمح بدخول اليهود زواراً ثم أعضاء.
ولكن الموجة العنصرية التي صاحبت الهجمة الإمبريالية على الشرق، اكتسحت أوربا بأسرها وأخذت أشكالاً عديدة من بينها معاداة اليهود. وتقوم بعض أدبيات معاداة اليهود بالربط بين اليهود والماسونيين وتذهب إلى أن ثمة تعاوناً سرياً بين الفريقين للسيطرة على العالم، ولتخريب المجتمعات، وقد ترددت هذه الفكرة إبان محاكمة دريفوس. كما أن هذا الموضوع نفسه يتردد أيضاً في البروتوكولات. وقد كان الربط بين اليهود والماسونيين أحد أحجار الزاوية في الدعاية النازية المضادة لليهود، حيث كان النازيون يشيرون دائماً إلى كريمييه باعتباره البنَّاء الأعظم ومؤسس جمعية الأليانس اليهودية.(15/313)
وغني عن القول أن مثل هذه العلاقة التآمرية المباشرة لا وجود له. وحسب ما توافر لدينا من وثائق، ليست هناك هيئة مركزية عالمية تضم كل المحافل الماسونية. كما أن هناك يهوداً معادين للماسونية وماسونيين معادين لليهود واليهودية. ولكن ثمة علاقة بنيوية وفعلية بين الماسونيين وأعضاء الجماعات اليهودية تفسر انخراط اليهود بأعداد كبيرة في المحافل الماسونية يمكن إيجازها في النقاط الثلاث التالية:
1 ـ من المعروف أن الماسونيين معادون للكنيسة والكهنوت. وهذه نقطة لقاء بينهم وبين أعضاء الجماعات اليهودية الذين فقدوا إيمانهم الديني ـ وهم الآن أغلبية يهود العالم. ويتصور هؤلاء أن المجتمعات العلمانية تضمن لهم أمنهم وحقوقهم، ومن ثم ينخرطون بأعداد كبيرة في المحافل الماسونية. وهذه الظاهرة يمكن رصدها في أمريكا اللاتينية بينما يَصعُب رَصْدها في فرنسا وإنجلترا، على سبيل المثال، لأن الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية لا تزال الإطار المرجعي للمجتمع، ومن ثم تأخذ محاولات العلمنة شكلاً تنظيمياً محدداً مثل المحافل الماسونية. أما في إنجلترا وفرنسا، فإن العلمانية أصبحت الدين الرسمي للدولة، ومن ثم تفقد المحافل الماسونية قيمتها الوظيفية والرمزية.
2 ـ تضم المحافل الماسونية أعداداً كبيرة من العناصر المالية والتجارية والمهنية. كما أن التركيب الوظيفي والمهني ليهود العالم يجعل أغلبيتهم الساحقة من هذه القطاعات، إذ لا يوجد بينهم عمال أو فلاحون، ومن ثم تزداد نسبتهم في المحافل الماسونية.(15/314)
3 ـ الحركة الماسونية حركة أممية تتجاوز الولاءات القومية (كما أن إنسان عصر الاستنارة هو إنسان أممي) . وقد كان أعضاء الجماعات اليهودية أعضاء في جماعات وظيفية وسيطة تقلل من الولاء للوطن وتجعل الولاء للجماعة الوظيفية أو المصالح المالية. كما أن فترة ظهور الماسونية هي أيضاً الفترة التي بدأ فيها يهود اليديشية في الهجرة بأعداد هائلة إلى كل أطراف العالم. والعناصر المهاجرة ليس لها ولاء قومي قوي. لكل هذا، نجحت المحافل الماسونية في اجتذاب بعض أعضاء الجماعات اليهودية فتزايدت معدلات العلمنة وضعف الانتماء القومي. ولعل في تَركُّز اليهود في القطاعات المالية والتجارية ما يفسر وجودهم بأعداد كبيرة في المحافل الماسونية. وحينما يربط المعادون لليهود بينهم وبين الحركة الماسونية، فإنهم محقون في ذلك تماماً إذ أن نسبة أعضاء الجماعات اليهودية في المحافل الماسونية عادةً ما تكون أعلى كثيراً من نسبتهم إلى عدد السكان. ولكن الخلل يبدأ حينما يطرحون تصوُّر وجود مؤامرة خفية، والأمر كله لا يعدو أن يكون ظاهرة اجتماعية. فالخلل ليس في الوصف وإنما في التفسير.(15/315)
وقد اشترك بعض أعضاء الجماعات اليهودية في تأسيس الحركة الماسونية في الولايات المتحدة، وثمة دلائل تشير إلى أنه كان يوجد أربعة يهود بين مؤسسي أول محفل ماسوني عام 1734 في الولايات المتحدة (سافانا في ولاية جورجيا) . ولقد اتُبعَت الطقوس الماسونية في وضع حجر أساس المعبد اليهودي في تشارلستون (ساوث كارولينا) عام 1793. واستمر وجود اليهود البارز في المحافل الماسونية في القرن التاسع عشر. وقد كتب محفل نيويورك إلى محفل برلين الأساسي يشكو من رفض المحافل الألمانية أن تقبل أعضاء المحافل الأمريكية في صفوفها لأنهم يهود. والواقع أن الماسونية الأمريكية، مثل كل المؤسسات الأمريكية، تتسم بأنها لم تعرف التمييز ضد اليهود أو غيرهم من الأقليات والطوائف البيضاء، وقد تبنت جماعة البناي بريت اليهودية عند تأسيسها بعض الطقوس الماسونية السرية، ولكنها أسقطتها بعد فترة.
أما في فلسطين، فقد تأسست محافل ماسونية بين العرب (المسلمين والمسيحيين) والأجانب (المسيحيين واليهود) . وبعد إنشاء الدولة الصهيونية، بلغ عدد المحافل الماسونية أربعة وستين محفلاً سنة 1970، تضم ثلاثة آلاف وخمسمائة عضو من اليهود والمسيحيين والمسلمين.
وقد قامت بعض المحافل الماسونية العربية بنقد الصهيونية واشترك بعض القيادات الماسونية في المقاومة ضد الاستيطان الصهيوني. وعكس ذلك صحيح أيضا، إذ رفضت بعض المحافل الماسونية التصدي للصهيونية باعتبار هذا نوعاً من العمل السياسي.
إفرايم هيرشفيلد (1755-1820 (
Ephraim Hirshfeld(15/316)
ألماني يهودي وماسوني وُلد باسم جوزيف هرشيل دار مستاد. درس الطب في ستراسبورج، كما تلقى تعليماً تقليدياً. عمل من 1779 حتى 1781 معلماً في منزل ديفيد فرايدلاندر، وكان يتردد على منزل موسى مندلسون ويدور في أوساط المستثمرين الألمان. التقى عام 1782 بمؤسس إحدى الحركات الماسونية ذات الاتجاه الثيوصوفي والتي كانت تضم في صفوفها رهباناً مسيحيين وبعض أعضاء الأرستقراطية. وكان دوبروشكا (أحد قيادات الحركة الفرانكية) من مؤسسي هذا المحفل، وقد أدخل في الأدبيات الماسونية بعض المقتطفات من الأدب الشبتاني. وكان المموِّل الألماني اليهودي هانز إيكر فون إيكهوفن من ضمن مؤسسي هذا المحفل. وقد فتح أبوابه أمام المموِّلين اليهود الآخرين الذين كانوا يودون الاندماج في المجتمع المسيحي. ومما له دلالته أن هذه الخطوة كانت تُعَدُّ ثورية، فقد كان كثير من الماسونيين حتى ذلك الوقت يعترضون على السماح لأعضاء الجماعات اليهودية بالانضمام إلى محافلهم. وقام بعضهم بشن الهجوم العنيف على هيرشفيلد. ولكنه نجح في نهاية الأمر في الانضمام بل أصبح سكرتيراً لإيكهوفن واتخذ اسم ماركوس بن بيناه. وبعد ذهاب دوبروشكا، احتل هيرشفيلد دوراً قيادياً في المحفل، ثم عاش في فيينا حتى عام 1786 (حيث اتخذ اسم هيرشفيلد) ثم انتقل إلى شليسنج عام 1791 بعد أن أصبحت مقر التنظيم الماسوني الذي كان ينتمي إليه. وقد طُرد هيرشفيلد من التنظيم بسبب معركة نشبت بينه وبين إيكهوفن وقُبض عليه لعدة شهور ولكنه أُفرج عنه. عكف هيرشفيلد على ترجمة الأعمال الصوفية لهذا التنظيم حتى بدا أنها من أصل عبري أو آرامي.(15/317)
وبعد أن عاش فترة قصيرة في ستراسبورج مع صديقه دوبروشكا، قضى بقية حياته متنقلاً بين فرانكفورت ودافينباخ، واحتفظ بعلاقات وثيقة بأعضاء الحركة الفرانكية. وقد حاول هيرشفيلد أن يزاوج بين المسيحية واليهودية داخل إطار صوفي حلولي قبَّالي (وهو ما كانت تحاول الحركة الفرانكية إنجازه) . وقد نشر هو وأخوه تفسيراً ثيوصوفياً قبَّالياً للفقرات الأولى من سفر التكوين. وكان ينوي إصدار سلسلة متكاملة من التفسيرات الصوفية للعهد القديم.
وتشير حياة هيرشفيلد إلى مدى الترابط والتداخل بين حركات مثل الفرانكية والماسونية والاستنارة. ولا يمكن إدراك هذه الوحدة إلا من خلال نموذج الحلولية حين يحل الخالق في المخلوق فتسقط الحدود ويصبح عقل الإنسان (أو رغباته أو أحلامه أو رؤاه) المعيار الوحيد.
وتُبيِّن سيرته الفكرية أيضاً أن الحلولية الكمونية هي الإطار الذي تلتقي فيه المسيحية باليهودية ويتحللان ليصبحا نسقاً واحداً يُسمَّى الآن «التراث اليهودي المسيحي» وهو في واقع الأمر ليس يهودياً ولا مسيحياً.
البهائية
Bahaism
«البهائية» عقيدة جديدة دعا إليها ميرزا حسين علي نوري (1817 ـ 1892) الذي كان يُلقَّب بـ «بهاء الله» . وتعود جذور هذه العقيدة إلى البابية التي أُسِّست عام 1844 على يد ميرزا على محمد الشيرازي الذي نشأ في وسط باطني متصوف وأعلن أنه الباب (الطريق إلى الله) . وذهبت البابية إلى أن ثمة نبياً أو رسولاً جديداً سيرسله الله. وكانت البهائية في بداية أمرها شكلاً متطرفاً من أشكال العقيدة في الفرقة الإسماعيلية، ومن عقيدة الإمام الخفي الذي سيظهر ليجدد العقيدة ويقود المؤمنين.(15/318)
وقد انتشرت البابية رغم تنفيذ حكم الإعدام في الباب عام 1850 وقَتْل ما يزيد على عشرين ألفاً من أتباعه. وقد قام البابيون بمحاولة اغتيال الشاه، فنُفى قائدهم آنذاك ميرزا حسين علي إلى بغداد عام 1853. وفي عام 1863، أعلن ميرزا أنه رسول الله الذي تنبأ به الباب، وأعلن عن رسالته بخطابات أرسلها إلى حكام كل من: إيران وتركيا وروسيا وبروسيا والنمسا وإنجلترا. واعترف به أغلبية البابيين الذي أصبحوا يُسمَّون «البهائيين» . ونُفي ميرزا حسين إلى عكا في فلسطين، وتُوفي عام 1892 حيث تحوَّل قبره في بهجي (أي الحديقة بالفارسية) إلى أقدس مزارات البهائيين. وقد خَلَفه في قيادة الجماعة البهائية أكبر أبنائه عباس أفندي الذي سُمِّي عبد البهاء (1844 ـ 1921) والذي أصبح كذلك المفسِّر المعتمد لتعاليمه. وقد سافر عبد البهاء إلى عدة بلاد لينشر تعاليم الدين الجديد من عام 1910 إلى عام 1913. وعيَّن أكبر أحفاده شوجي أفندي رباني (1896 ـ 1957) خليفةً له ومفسراً لتعاليمه. وقد انتشرت تعاليم البهائية في أنحاء العالم.
وكتب البهائية المقدَّسة هي كتابات بهاء الله التي كُتبت بالعربية والفارسية، مضافاً إليها التفسيرات التي وضعها عبد البهاء وشوجي أفندي. وتتضمن هذه الكتابات التي تزيد على المائة منها الكتاب الأقدس الذي يحوي كل مفاهيم مذهبه وكل تشريعاته، وكتاب الإيقان، وهو دراسة عن طبيعة الخالق والدين ومجموعة الألواح المباركة، وكتاب الإشراقات والبشارات، وكتاب الأساس الأعظم، وله قصيدة أسماها ورقائية.(15/319)
وجوهر البهائية هو الإيمان بالحلول الكامل أو بوحدة الوجود أي توحد الخالق مع مخلوقاته. فالخالق جوهر واحد ليس له أسماء ولا صفات يمكن أن تصفه ولا أفعال، ولا يمكن الوصول إليه (ولا توجد أدلة على وجوده أو غيابه مثل الإله الخفي في الفكر القبَّالي أو الباطني الغنوصي) ، وهو إلى حدٍّ ما يشبه القوانين الطبيعية غير الشخصية التي لا علاقة لها بالأنساق الأخلاقية (كما هو الحال مع مفهوم الإله عند إسبينوزا) . والخالق واحد ليس له شريك في القوة والقدرة وهو الذي خلق الكون. ولكن هذا الكون ليس شيئاً آخر سوى تجلٍّ للخالق، بل إنه هو ذاته الخالق (أي أن الخالق ومخلوقاته مادة واحدة لا تنفصل ولا تتجزأ) . وقد لُخِّصت هذه الحلولية في القول البهائي الذي يُنسَب إلى الخالق: «الحق يا مخلوقاتي أنكم أنا» . والبهائية، في هذا، لا تختلف كثيراً عن غلاة المتصوفة والباطنية، ولا عن الفكر القبَّالي أو الغنوصي، حيث لا توجد أية مسافة أو ثغرة بين الخالق والمخلوق، بل ثمة اتحاد وحلول واحدية (على خلاف التصور الإسلامي للخالق الذي يرى أن الله قريب من عباده ولكنه ليس كمثله شيء، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد ولكنه لا يجري في عروقنا ولا تدركه الأبصار) .(15/320)
ولكن، إذا كان الخالق هو مخلوقاته، فالحقيقة الدينية تصبح حقيقة نسبية وليست مطلقة لأن كل الأشياء يحل فيها الخالق وتلفحها لفحة من القداسة. والحقيقة تعبر عن نفسها من خلال الزمان وداخله، ولا يختلف تجلِّي الرب في أي شيء عن تجليه في أي شيء آخر. فتصبح كل الأمور مقدَّسة، ومن ثم تصبح كل الأمور متساوية. وفي نهاية الأمر، تصبح كل الأمور نسبية، أي أن المطلق المتجاوز يختفي في لحظة التحام الخالق بالمخلوق. وقد شاء الخالق (وإن كان يصعب في هذا السياق أن نتحدث عن «مشيئة الخالق» فهو لا يتجاوز مخلوقاته) أن يتجلى من خلال رسله، مثل: براهما، وبوذا، وزرادشت، وكونفوشيوس، وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمد (عليه الصلاة والسلام) ، وتضم القائمة الباب ثم بهاء الله الذي تظهر من خلاله صفات الخالق بشكل أوضح وأجلى مما كانت عليه. بل إنه داخل الإطار الحلولي يكون بهاء الله هو ذاته الخالق، ومن ثم وَجَّه البهائيون سهام نقدهم إلى الفكرة الإسلامية الخاصة بأن محمداً (صلى الله عليه وسلم) خاتم المرسلين، ففي رأيهم أن كل عصر يحتاج إلى تجلٍّ إلهي. وثمة تَشابُه عميق هنا بين بنية البهائية وبنية اليهودية الحاخامية، فكلتاهما تؤكد استمرار الوحي الإلهي في التاريخ الإنساني أو استمرار الحلول الإلهي (في الحاخامات حسب النسق اليهودي، وفي بهاء الله حسب النسق البهائي) . وهو تَشابُه سنلاحظه في جوانب أخرى من النسقين الدينيين. كما يُلاحَظ أن هذا التشابه يزداد عمقاً بين البهائية والقبَّالاه. ومن المنظور البهائي، فإن جوهر كل الأديان واحد. ومع هذا، فإن كل دين له سماته الخاصة التي تجيب حاجة كل زمان ومكان وتتفق مع المستوى الحضاري السائد. وحيث إن الخالق يكشف عن نفسه بشكل تدريجي، فإن كل دين سيحل محله دين آخر، ومن ذلك العقيدة البهائية نفسها، ولكن ذلك لن يتم قبل ألف عام.(15/321)
ولكن مهمة الأديان في هذا السياق هي خلق وحدة شاملة بين البشر تزداد اتساعاً مع مرور الزمن. فإبراهيم قام بتوحيد قبيلة، وموسى قام بتوحيد شعب، ومحمد (عليه الصلاة والسلام) قام بتوحيد أمة، أما المسيح فكان هدفه تطهير الأرواح وتحقيق قداسة الفرد، وقد تحققت بالفعل مهمة كل تجلٍّ إلهي. ولكن هذا لا يكفي إذ أن الحضارة ـ في هذا التصور ـ وصلت إلى مرحلة أصبحت معها وحدة الإنسان (وبالتالي وحدة الأديان) مسألة ضرورية. وهذه مهمة بهاء الله الذي ستتحقق على يديه وحدة الأديان وقداسة البشرية بأجمعها. وخالق العالم قد خَلَق الإنسان من خلال حبه له، والإنسان أنبل المخلوقات جميعاً خلقه الإله ليعرفه ويعبده. وهذا أمر يصعب فهمه في إطار حلولي، فالخالق هو المخلوق. ومن ثم، إذا عبد المخلوق الخالق فإنه يعبد نفسه أو يعبد قوة خفية لا يمكن الوصول إليها تشبه قوانين الطبيعة. وثمة تذبذب حاد ومتطرف هنا، بين الذاتية المتطرفة والموضوعية المتطرفة، يسم كل الأنساق الحلولية. ففي اليهودية نجد أن الشعب يتوحد تماماً مع الخالق، ومن ثم تصبح إرادة الشعب من إرادة الخالق. بل إن الخالق يحتاج إلى الشعب لتكامله. ولكن هذا الشعب لا إرادة له لأنه أداة في يد الخالق.(15/322)
ويميِّز البهائيون بين خمسة أنواع من الأرواح: الحيوانية، والنباتية، والبشرية، وكلها أرواح زائلة فانية (ولذا يذهب بعض دارسي البهائية إلى القول بأنها لا تؤمن بخلود الروح) ، وروح الإيمان (وهي وحدها التي تمنح الروح البشرية الخلود) ، ثم أخيراً الروح القدس (وهي منطقة الحلول الكامل ووحدة الوجود حيث يصبح الخالق مخلوقاً والمخلوق خالقاً) ، والواقع أن هذه الهرمية لا تختلف كثيراً عن هرمية المنظومتين الغنوصية والقبَّالية. ويبدو أن الروح البشرية، كالخالق، ليست لها حدود واضحة، إذ أن هذه الروح بعد أن تنفصل عن الجسد قد تحل في شخص آخر وتأخذ شكلاً آخر من الوجود. وفكرة تناسخ الأرواح سمة أساسية في مختلف الأنساق الحلولية التي تنكر حدود الفرد وتنكر المسئولية الخلقية، تماماً كما هو الحال في القبَّالاه.(15/323)
ولا يؤمن البهائيون بالجنة والنار، فهما مجرد رموز لعلاقة الروح بالخالق ليس إلا، فالقرب من الخالق هو الجنة والبُعد عنه هو النار التي تؤدي إلى الفناء الكامل للروح. لكن الإيمان في تصورهم هو الذي يضمن (كما أسلفنا) الخلود، والخلود يعني استمرار الرحلة نحو جوهر الخالق الخفي للاتحاد به. وفي داخل هذا النسق الحلولي، لا يمكن أن يكون هناك مجال للثواب أو العقاب أو البعث. ولا يوجد في البهائية كهنة أو قرابين، فهم يشكلون ما يمكن تسميته بالثيوقراطية الديموقراطية التي تتمثل في هيئتين حاكمتين: إحداهما إدارية والأخرى تعليمية. أما الهيئة الإدارية، فتتكون من المجالس الروحية القومية، وأما المجالس المحلية فتتكون من تسعة أشخاص (التي يمكن تأسيسها أينما وُجد تسعة بهائيين) ، وبيت العدل العمومي (وهو الهيئة العليا ولها سلطة تغيير كل القوانين حينما تدعو إلى ذلك التغيرات الدنيوية، فيمكنها أن تلغي القوانين التي وردت في الكتاب الأقدس وأن تصوغ قوانين جديدة لم ترد فيه) ، ثم هناك الهيئة التعليمية (وهي الأخرى مُكوَّنة من بناء هرمي من المجالس والقادة) . ويتم انتخاب أعضاء المجالس الإدارية عن طريق الأعضاء. ويُعتبَر الانتخاب شكلاً من أشكال العبادة، وما الناخب سوى أداة الخالق، ومن ثم لا يكون العضو المنتخب مسئولاً أمام ناخبيه.(15/324)
ويصلي البهائيون يومياً (قبلتهم القدس) . وبرغم أنه يُفتَرض عدم وجود أماكن عامة للعبادة، فإن الكتاب الأقدس قد أوصى بتشييد معابد تُسمَّى «مشرق الأذكار» ، وهو بناء من تسعة جوانب عليه قبة مُكوَّنة من تسعة أقسام وهي مفتوحة لكل أعضاء الديانات الأخرى. ويصوم البهائيون شهراً بهائياً (19 يوماً) كصيام المسلمين (ينتهي بعيد النيروز) ولا يشربون المشروبات الروحية ويجتمعون في بداية كل شهر بهائي. ولهم قوانين خاصة بالميراث، فالمُعلِّم يرث جزءاً من ثروة البهائي ويتساوى الرجل بالمرأة في كل شيء. وقد جعلوا الحج إلى مقام بهاء الله في عكا. والتقويم البهائي يتكون من تسعة عشر شهراً، والشهر يتكون من تسعة عشر يوماً، ويبدأ العام البهائي في 21 مارس أول أيام الربيع. ومن ناحية أخرى، فإن التقويم البهائي يشبه التقويم الفارسي.
ويحتل الرقم 19 مكانة خاصة في الفكر البهائي. والبهائية، في هذا، تشبه تراث القبَّالاه والجماتريا الذي رَكَّز على القيمة العددية للحروف، فتُحسَب القيمة الرقمية للكلمات وتُستخلَص منها النتائج التي يريد أن يصل إليها المفسر (وهذه سمة متكررة أيضاً في الأنساق الحلولية التي تدرك الكون من خلال نسق هندسي حتمي) . فيقول البهائيون إن عدد حروف البسملة (بسم الله الرحمن الرحيم) 19، وأن كلمة (واحد) قيمتها العددية 19 (و = 6، الألف = 1، ح = 8، د = 4) . ويستخرج البهائيون من الرقم 19 براهين ودلائل على أشياء عديدة.(15/325)
ويصعب حساب عدد البهائيين في العالم، ويُقال إنه يتراوح بين مليون ونصف ومليونين، وكان يوجد عام 1985 نحو143 مجلساً روحياً قومياً يتبعها 27.886 مجلساً محلياً في 340 بلدة مختلفة. وترجمت تعاليم البهائية إلى أكثر من 700 لغة. وفي هذه الأيام، تحقق العقيدة البهائية انتشاراً سريعاً في أفريقيا والهند وفيتنام حيث يصل عدد البهائيين إلى مئات الألوف. ويتحول عدد كبير من الهنود وسكان أمريكا اللاتينية الأصليين إلى البهائية. ففي بيرو وبوليفيا، على سبيل المثال، توجد قرى بأكملها بهائية، وقد اعتنق ملك سموا Samoa العقيدة البهائية. ويمكن تفسير انتشار البهائية باعتباره تعبيراً عن ضعف كثير من الأطر الدينية التقليدية، وتعبيراً عن تزايد معدلات العلمانية، إذ تؤدي هذه العملية إلى أن قطاعات كبيرة من المجتمع تفقد الإيمان بعقيدتها التقليدية، ولكنها لا يمكنها التخلي عن الدين تماماً أو عن فكرة الخالق. والواقع أن رغبتهم العامة في الإيمان تُشبعها هذه العقيدة التي تستخدم الخطاب الديني دون إشارة إلى عقيدة محددة أو طقوس محددة، وهو عادةً خطاب حلولي واحدي يمحو كل الثنائيات وأشكال التنوع إذ يتم اختزال الواقع إلى مستوى واحد ويتم رده إلى مبدأ واحد، وهو الإله الحال الذي لا يختلف عن قوانين المادة الكامنة فيها، ومن ثم فهو خطاب ديني اسماً ولكنه مادي فعلاًً إذ أن الخالق يصبح مخلوقاته أو يصبح قوة عامة مجردة غير شخصية مثل قوانين الطبيعة وفكرة التقدم. والبهائية، في هذا، تشبه الربوبية والماسونية واليهودية التجديدية. وعند نشوب الثورة الإسلامية في إيران، كان يوجد 300 ألف بهائي في إيران يشكلون جماعة وظيفية وسيطة تشتغل بالتجارة والمال والأمن، واستفاد نظام الشاه من وجودهم. وقد تعاون البهائيون مع الإسرائيليين، وكانوا يديرون مؤسسة الأمن في إيران، كما كانت لهم أنشطة أخرى. وقد حُرِّم نشاطهم بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران.(15/326)
وفيما يتعلق بعلاقة البهائية بالعقيدة والجماعات اليهودية، فقد بيَّنا أن ثمة تماثلاً بنيوياً بين البهائية واليهودية في جانبها الحلولي. ولعل هذا هو السر في أن البهائية تجتذب كثيراً من اليهود الذين يعتنقون العقيدة البهائية. ففي إيران، مَهْد العقيدة، تَبنَّى كثير من أعضاء الجماعة اليهودية البهائية، وهو ما جعل الحاخامات يحاربون ضدها بشراسة. ولا يزال هذا موقف اليهودية الأرثوذكسية منها. ويُلاحَظ أن يهود الولايات المتحدة في الوقت الحالي يتجهون أيضاً إلى الماسونية والعبادات الجديدة والعقائد الغنوصية بأعداد كبيرة، وإن كانت الإحصاءات الدقيقة غير متوافرة. ومع هذا، فمن المعروف أن البهائية أصبح لها أتباع كثيرون في منطقة كاليفورنيا المعروفة بوجود كثافة يهودية عالية فيها.
والأمر ليس مؤامرة بهائية ضد اليهودية، وإنما هو تشابك بين نسقين عقيديين يستجيبان للاحتياجات نفسها ويجيبان عن الأسئلة نفسها بالطريقة السهلة نفسها. ومما يُسهِّل عملية اعتناق اليهود للبهائية أن ثمة تعاطفاً يسري في العقيدة البهائية نحو اليهودية والدولة الصهيونية. فقد كان عباس أفندي يرى أن الخلاص مرتبط بعودة اليهود إلى أرض الميعاد، ولكنه كان يرى أيضاً أن النجاح الذي بدأ اليهود في فلسطين يحققونه في عهده دليل على عظمة بهاء الله وعلى عظمة دورته الإلهية، وفي كتاب المفاوضات ورد ما يلي: "أنت تلاحظ وترى أن طوائف اليهود يأتون إلى الأرض المقدَّسة من أطراف العالم، ويمتلكون القرى والأراضي ويسكنون ويزدادون يوماً بعد يوم حتى تصبح جميع أراضي فلسطين سكناً لهؤلاء". وهو بذلك قد أخذ العقيدة الألفية البروتستانتية وأعطاها بعداً بهائياً.(15/327)
وفي 30 يونيه 1948، كتب أشوجي أفندي رباني، زعيم الحركة البهائية آنئذ، إلى بن جوريون يعبِّر له عن أطيب تمنياته من أجل رفاهية الدولة الجديدة مشيراً إلى أهمية تَجمُّع اليهود في «مهد عقيدتهم» . ومن المعروف أن مركز البهائية هو «بيت العدل» الذي أُعدت له بناية ضخمة في حيفا على جبل الكرمل في أبريل 1983، والذي يديره تسعة بهائيين يتم انتخابهم. وقامت الجماعة البهائية بإعداد قصر ضخم في حيفا حتى يكون مزاراً لكل بهائيي العالم.
ولكن هذا لا يعني بتاتاً أن كل البهائيين يؤيدون الصهيونية وإسرائيل. فالجماعات البهائية تدين بالعقيدة نفسها، ولكن اتجاهاتها السياسية تختلف باختلاف الظروف الاجتماعية والتاريخية. وما ينطبق على البهائية ينطبق على كل الأديان، فيوجد مثلاً مسيحيون صهيونيون في أوربا يؤيدون إسرائيل، وترى بعض الفرق المسيحية الصهيونية في أمريكا أن الخلاص مرتبط بعودة اليهود إلى صهيون. ويجدر بنا أن نذكر هنا أن البهائيين العرب يؤكدون أنهم يدينون بالولاء إلى وطنهم العربي وحسب، وقد يكون في هذا بعض الصدق، أو لعله من باب التقية (أي الإيمان بشيء وإظهار شيء آخر) . والباب مازال مفتوحاً لاجتهاد المجتهدين.
الموحدانية
Unitarianism
«الموحدانية» عقيدة مسيحية تنكر عقيدة التثليث ولاهوت المسيح (أي كونه إلهاً أو ابن الإله) ، وهي نتاج حركة الاستنارة والعقلانية. ويمكن القول بأنها شكل من أشكال الربوبية، أي صيغة شبه علمانية للمسيحية، ولذا فإن أتباع هذه العقيدة لا يعتبرونها عقيدة وإنما مجرد أسلوب في الحياة!(15/328)
وعقيدة الموحدانية نتاج بعض التيارات داخل المسيحية نفسها. وأولى هذه العقائد الإيمان بأن سقوط الإنسان لم يكن كاملاً وأنه يحوي داخله عناصر من الخير، ومن ثم فهو قادر على العمل من أجل الخلاص والوصول إليه من خلال جهده وأعماله الخيرة. وقد حارب القديس أوغسطين ضد بيلاجيوس، الراهب البريطاني (المُتوفي عام 420م) الذي ركز اهتمامه على إمكانيات الخير الكامنة داخل النفس البشرية وفي إمكانية خلاص الفرد المسيحي. أما العنصر الثاني فهو رفض التثليث، كما فعل الراهب الإسباني سيرفيتوس الذي لم يرفض عقائد التثليث وحسب بل رفض مقولة الحمل بلا دنس، وأكد أن عقيدة التثليث لا أساس لها في الكتاب المقدَّس وأن الآباء الأوائل لا يعرفون هذه التمييزات وأن مصدرها هو السوفسطائيون اليونان. ومثل هذه الأفكار شجعهتا حركة الاستنارة التي هاجم مفكروها فكرة التثليث وأكدوا أن الإنسان (لأنه كائن طبيعي) لا يحوي داخله شراً، فهو خيِّر بطبيعته.
وقد كانت عقيدة الموحدانية في بدايتها حركة دينية عقلانية جافة، ويمكن تلخيص مبادئها الأساسية فيما يلي:
1 ـ يؤكد الموحدانيون أُبَّوة الإله بدلاً من مقدرته، فالإله أب لكل البشر. وهو يكاد يكون مبدأ عاماً مجرداً كامناً في الطبيعة والإنسان غير مفارق لهما، أي أن الموحدانية تدور في إطار الواحدية الكونية.
2 ـ ينكر الموحدانيون التثليث ولاهوت (ألوهية) المسيح (مقابل الناسوت) ، فالمسيح ليس ابن الإله وإنما هو بشر، مجرد قائد عظيم، وصَلْبه هو الثمن الذي يدفعه أي قائد عظيم دفاعاً عن مُثُله.
3 ـ الكتاب المقدَّس كتاب كتبه بشر ومن ثم فهو ليس كتاباً معصوماً ولا يُقرأ باعتباره كتاباً مقدَّساً وإنما باعتباره كتاب موعظة.(15/329)
4 ـ خَلَق الإله الإنسان في صورته، ولذا فإن الإنسان يشارك في الخير الإلهي. ولا توجد خطيئة عميقة ولا توجد خطيئة أولى، بل إن الخطيئة هي خطأ أخلاقي ضد البشر وليست خطيئة ضد الإله. ولا يوجد شر مطلق أو خلاص مطلق وإنما يوجد بشر يتطورون يحققون الخلاص بالتدريج من خلال أعمالهم وشخصياتهم، يبدأ تطورهم مع ميلادهم ولا يتوقف بعد موتهم. وفكرة التطور اللانهائي لكل البشر فكرة أساسية في عقيدة الموحدانيين. وقد آمن الموحدانيون بأخوة كل البشر ومساواتهم الكاملة.
5 ـ القوة الأخلاقية العظمى في العالم هي المثل الذي يضربه عظماء الرجال: المسيح مثلاً. ولذا، لا توجد حاجة إلى كنيسة تحتكر طرق الخلاص. فالكنيسة إن هي إلا مجموعة من المؤسسات الاجتماعية لا توجد وراءها كنيسة روحية، كما يدَّعي اللاهوت المسيحي في إحدى صوره. كما لا توجد حاجة إلى الشعائر التي تربط هذا العالم بالعالم الآخر. ولذا، فإن شعائر التعميد وعشاء الإله هي مجرد طقوس تُذكِّر الإنسان بما حدث في حياة المسيح دون تحولات أو أسرار. ولذا، قامت بعض الكنائس المواحدانية بإلغاء كل هذه الشعائر لأنها تُذكِّر المرء بالمفاهيم اللاهوتية.(15/330)
وقد صنَّف الكالفنيون عقيدة الموحدانيين باعتبارها ليست مسيحية، وهم محقُّون تماماً في ذلك إذ أنها عقيدة أنكرت كثيراً من العقائد المسيحية الأساسية، بل يمكن القول بأنها عقيدة شبه علمانية أو تكاد تقترب من العبادات الجديدة، إذ لا توجد فيها فكرة الإله المفارق المتجاوز للإنسان والطبيعة. فالإله قد حل في مخلوقاته وتوحَّد معها وشحُب تماماً وتحوَّل إلى ما يشبه مبادئ الطبيعة والضرورة التي لا شخصية ولا وعي لها، وأصبحت كل الأمور متساوية ونسبية (وقد لخص أحد المفكرين المسيحيين موقف الموحدانيين من الإله بقوله إنهم يؤمنون «بأنه يوجد إله واحد على الأكثر» ، وأنهم «يصلون لمن يهمه الأمر» ) . ويمكن القول بأن فكرة الإله الواحد المتجاوز يمكن أن تختفي عن طريقين: أن يزداد الإله (المبدأ الواحد) في حلوله واقترابه حتى يتحول الحلول والكمون إلى وحدة وجود روحية ثم مادية، حيث يتعرف المخلوق إلى الخالق في مخلوقاته وحسب، وهذا هو النمط الأكثر شيوعاً. ولكن هناك نمطاً آخر وهو أن الإله (المبدأ الواحد) هذه القوة اللامتعينة الدافعة للمادة، الكامنة فيها التي تضبط جوهرها، تزداد تجريداً ومفارقة للمخلوقات. وهنا يظهر في البداية إله كالفن الذي لا يُسبَر له غور، والذي يُختار دون منطق واضح. وتزداد درجة التجريد والمفارقة إلى أن تصل حد التعطيل ويصبح الإله مفارقاً تماماً لا علاقة لنا به (إله الغنوصيين مثلاً) ، أي أن الكالفينية نفسها إن هي إلا حلقة أولى تؤدي إلى الموحدانية (هذا على عكس الفكر التوحيدي الحقيقي حيث يوجد الإله القريب البعيد: ليس كمثله شيء وهو أقرب إلينا من حبل الوريد (.(15/331)
وقد اعتنق هذه العقيدة كثير من أعضاء الشرائح العليا للطبقات الوسطى، وخصوصاً العناصر المحافظة والثرية، وأصبحت معظم كنائس بوسطن تؤمن بالعقيدة الموحدانية هذه. فقد أعفتهم الكنيسة من القيام بأية شعائر وأنهت عملية البحث المضنية داخل الذات الآثمة والمحاولة الذاتية للتأكد من إشارات الخلاص وهما عملية ومحاولة اتسمت بهما العقيدة الكالفنية التي سادت بين المستوطنين البيض الذين سُمُّوا «البيوريتان» ، أي المتطهرين، إذ أكدت الموحدانية للذات الإنسانية أن الخلاص متيسر وأن النعمة حلت. كما أن الإيمان بالتطور المستمر قد أعطى إحساساً إمبريالياً عميقاً لتجار بوسطن، إذ كان هذا يعني أن بوسعهم التحرك بصورة دائمة وغزو العالم بشكل مستمر وأن بوسعهم أيضاً أن يراكموا الثروة أبداً ويقدموا الشكر لله على النعمة الإلهية والاختيار.
والكنيسة الموحدانية، كما أسلفنا، تعبير عن حلولية مرحلة وحدة الوجود، ولكنها كانت ذات طابع عقلاني جاد وجاف (وكادت العبادة تكون مثل البحث العلمي والبحث الصارم عن البراهين) . ولذا، قام وليام أليري تشانينج بإدخال عنصر من العاطفة فانتقل بالعبادة من النموذج الآلي العقلاني الجاف إلى النموذج العضوي العاطفي، إذ قرَّر أن الإله محب للبشر يملك العالم بأسره، كما قرَّر أن وجود (حلول) هذا الإله في كل البشر والطبيعة يجعلهم مقدَّسين وأن العبادة الحقيقية للإله تكمن في إظهار حسن النية للبشر، أي أن الإله قد شحُب تماماً ثم اختفى.(15/332)
وحركة الحضارة الأخلاقية تشبه الموحدانية اليهودية التجديدية في كثير من النواحي، ويُلاحَظ أن كثيراً من اليهود، وخصوصاً من أعضاء الشرائح العليا من الطبقة الوسطى الذين يودون تحقيق الانتماء الكامل للمجتمع الأمريكي، ينضمون لهذه الكنيسة (تماماً مثلما تنضم أعداد أخرى من اليهود للحركة الماسونية والعبادات الجديدة) . وقد أصبح هذا أمراً ميسوراً بشكل أكبر بعد أن «تطورت» الكنائس الموحدانية وتحولت شعائرها إلى أي شيء يقرره أعضاء الكنيسة، فيمكنهم لإقامة الشعائر الموحدانية أن يحضروا قصائد شعرية يقرأونها، وبوسعهم أن يلعبوا أية لعبة تحلو لهم (ومن ذلك حل الكلمات المتقاطعة) تعبيراً عن إيمانهم الديني! وقد أوردت الصحف الأمريكية مؤخراً أن إحدى العاملات في مقهى ليلي أرادت أن تؤدي صلاتها الموحدانية بالطريقة التي تروق لها وتعبِّر عن ذاتها الحقيقية، فوجدت أن الطريقة المثلى هي خَلْع ملابسها أمام المصلين كما تفعل في محل عملها بحكم وظيفتها. وقد قَبل راعي الكنيسة ذلك وإن كان قد علَّق على هذا الحدث بأن صلاتها كانت غير تقليدية بعض الشيء، ولكنه حضر الصلاة الراقصة من أولها إلى آخرها. ويبلغ عدد المواحدانيين حوالي 100.000 ويبدو أن كثيراً من أعضاء النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة من الموحدانيين.
جماعة الحضارة الأخلاقية
Society for Ethical Culure(15/333)
جماعة أسسها فليكس أدلر عام 1876 اجتذبت عدداً لا بأس به من المثقفين الأمريكيين (وخصوصاً اليهود) الذين كانوا قد بدأوا يرفضون كثيراً من الشعائر والعقائد الدينية اليهودية ولكن لم يكن بوسعهم بعد التخلي عن العقيدة الدينية تماماً، ولذا كانت الجمعية بنزعتها الربوبية مناسبة تماماً لهم. وتنطلق الجمعية من الإيمان بوجود إنسانية عامة وبضرورة دراسة ما سمته «الحق» وتطوره في كل مجالات السلوك. وقد اهتمت الجمعية بالجانب التربوي، فأسست حضانة للأطفال استخدمت وسائل تقدمية في التربية. كما أن الجمعية ركزت نشاطها على الجهود الاجتماعية مثل الكفاح ضد الفساد في الحكومة ومحاولة إصلاح المساكن.
ورغم عدم أصالة فكر أدلر، إلا أن أهميته تكمن في أنه يعطينا فرصة لرؤية كيفية علمنة العقيدة اليهودية من الداخل، وكيف تتحول من عقيدة تؤمن بالإله المتجاوز إلى عقيدة يتوارى فيها الإله تدريجياً (اليهودية الإصلاحية التي كان يؤمن بها والده) إلى عقيدة ربوبية دون إله (الحضارة الأخلاقية) إلى عقيدة دون إله ودون مطلقات ودون أخلاق (الصهيونية) إلي عقيدة عدمية مدمرة (لاهوت موت الإله) . وبطبيعة الحال، يمكن اعتبار أدلر يهودياً ويمكن تصنيف فكره وجماعة الحضارة الأخلاقية على أنه من العبادات الجديدة.
فليكس أدلر (1851-1933 (
Felix Adler
فيلسوف يهودي أمريكي وتربوي ومؤسس حركة الحضارة الأخلاقية. وُلد في ألمانيا وهاجر إلى نيويورك وهو بعد في السادسة حينما عُيِّن أبوه، أحد رواد اليهودية الإصلاحية، حاخاماً لمعبد إيمانو ـ ريل الإصلاحي.(15/334)
درس أدلر في جامعة كولومبيا وفي جامعات برلين وهايدلبرج وفي مدرسة علْم اليهودية (في ألمانيا) حيث درس الأدب المكتوب بالعبرية والفلسفة الكانطية ونقد العهد القديم. وقد بدأت بعض الاتجاهات الإصلاحية تأخذ شكلاً متطرفاً في فكره، فقد بدأ يؤكد الجانب العقلي في الدين وإمكانية معرفة الخالق عن طريق العقل وحسب. وبدأ يرفض الجوانب الجمالية والشعائرية في اليهودية، وأية اتجاهات ذات طابع يهودي خاص، أي أنه اتجه اتجاهاً عقلياً أخلاقياً ربوبياً. حتى أنه كان يلقي مواعظ في المعابد لا تَرد فيها كلمة «الإله» .
ويشبه أدلر في هذا الفيلسوف الأمريكي إمرسون الذي رفض العقيدة الموحدانية وأصبح ترانسدنتالياً، أي يؤمن بقوة ما متجاوزة للطبيعة (كان يسميها إمرسون الروح الكلية «أوفرسول Over-Soul» ) وبمقدرة الإنسان على معرفة الخير والحق بنفسه دون حاجة لوحي إلهي أو ميتافيزيقا. وقد تأثر أدلر بإمرسون ولانجه وكانط والأخلاقيات (دون العقائد) المسيحية (أي أنه أصبح نسخة يهودية من إمرسون) .
وقد رفض أدلر فكرة الإله الشخصي الذي يرعى البشر وبدلاً منه طرح فكرة العنصر الأخلاقي المركب الذي يتكون من ذواتنا الداخلية في أعلى تحقُّق لها. فهو يؤمن بأن كل إنسان يحوي داخله «طبيعة نبيلة سامية» تود أن تتحقق، ولكل إنسان فرديته، ولكن العلاقة الإنسانية الحقة هي التي تساعد هذه الطبيعة النبيلة الكامنة فينا على التحقق في العالم الخارجي. وكان أدلر يؤمن بأن إدراك هذه الطبيعة النبيلة سيتزايد كلما ازدادت علاقة الناس بعضهم ببعض. وهذا الإدراك المتزايد سيتحقق في المجتمع الديموقراطي والعلمي الحديث، ومن ثم فالإنسان لا يحتاج إلى تعويض في الآخرة ولا يحتاج إلى ميتافيزيقا، ولا يحتاج إلى أية مؤسسات أو عقائد أو شعائر دينية. وقد استفاد أدلر بما سماه «رسالة الأنبياء الأخلاقية» ولكنه رفض المنظومة العقائدية اليهودية، فهو يُصر على العام والعقلي، ويرفض الخصوصية.(15/335)
ولا يوجد شيء جديد أو أصيل في فكر أدلر فهو تطبيق لفكر حركة الاستنارة في عالم الدين والأخلاق الذي يترجم نفسه إلى منظومة ربوبية يوجد داخلها إله شاحب أو مطلق أخلاقي غير متجاوز.
وقد كتب أدلر عدة مؤلفات أهمها العقيدة والفعل (1877) ، وسيرة ذاتية بعنوان فلسفة أخلاقية للحياة (1918) ، وإعادة تجديد المثل الأعلى الروحي (1934 (.
اليهودية المتمركزة حول الأنثى
Feminist Judaism
كلمة «فيمنست feminist» الإنجليزية في تَصوُّرنا مختلفة تماماً عن عبارة «ويمنز ليبريشياون موفمنت Women's Liberation Movement» . فالعبارة الأخيرة، يمكن التعبير عنها بعبارة «حركة تحرير المرأة» أما الأولى فنحن نؤثر التعبير عنها بعبارة «حركة التمركز حول الأنثى» (لأسباب سوف نوردها فيما بعد) . ومن هنا قولنا «اليهودية المتمركزة حول الأنثى» (الأنثى اليهودية بطبيعة الحال) . وقد ظهرت حركات سياسية واجتماعية وفكرية تدور حول موضوع المرأة في المجتمع. ويمكن أن نقسم هذه الحركات إلى اتجاهين: حركات تحرير المرأة، وحركات التمركز حول الأنثى. والحركات الأولى حركات اجتماعية سياسية فكرية تهدف إلى تحقيق العدالة في المجتمع بحيث تنال المرأة ما يطمح إليه أي إنسان من تحقيق ذاته إلى الحصول على مكافأة عادلة (مادية أو معنوية) لما يقدم من عمل. وعادةً ما تطالب مثل هذه الحركات بحقوق المرأة سواء السياسية (حق المرأة في الانتخاب والمشاركة في السلطة) ، أو الاجتماعية (حق المرأة في الطلاق وفي حضانة الأطفال) ، أو الاقتصادية (مساواة المرأة بالرجل في الأجور) . وبرغم أن حركات تحرير المرأة تَصدُر عن مفهوم تعاقدي للمرأة (باعتبارها فرداً مستقلاًّ بذاتها لا باعتبارها أماً وعضواً في أسرة) ، فإن حركات تحرير المرأة تدور في إطار بعض القيم الاجتماعية المستقرَّة، وتَقَبل المفهوم التقليدي لدور المرأة في المجتمع والمفهوم التقليدي للطبيعة البشرية.(15/336)
أما حركات التمركز حول الأنثى فهي رؤية معرفية أنثروبولوجية اجتماعية تقف على طرف النقيض من كل هذا، فهي تَصدُر عن مفهوم أساسي هو أن تاريخ الحضارة البشرية إن هو إلا تعبير عن هيمنة الذكر على الأنثى، وهي هيمنة تمت إثر معركة أو مجموعة من المعارك حدثت في عصور موغلة في القدم حينما كانت المجتمعات كلها مجتمعات أمومية تسيطر عليها الأنثى أو الأمهات، وكانت الآلهة إناثاً، وكان التنظيم الاجتماعي نفسه يتصف بالأنوثة، أي بالرقة والوئام والاستدارة (التي تشبه نهود الإناث وعضو التأنيث) . ثم سيطر الذكور وأسسوا مجتمعاً مبنياً على الصراع والسلاح (الذي يشبه عضو التذكير) وعلى الغزو (الذي يشبه اقتحام الذكر للأنثى) . وانطلاقاً من هذه الرؤية للتاريخ، يطرح دعاة التمركز حول الأنثى برنامجاً إصلاحياً يدعو إلى إعادة صياغة كل شيء؛ التاريخ واللغة والرموز، بل الطبيعة البشرية نفسها. فالتاريخ في تصورهم سرد للأحداث من وجهة نظر ذكورية، ولابد أن يعاد السرد من وجهة نظر أنثوية، والرموز التي فرضها الذكور لابد أن تضاف إليها رموز أنثوية. واللغات، التي عادةً ما تفضل صيغة التذكير على صيغة التأنيث، لابد أن يعاد بناؤها بحيث تستخدم صيغاً محايدة أو صيغاً ذكورية أنثوية. وهذا البرنامج الإصلاحي يهدف في نهاية الأمر إلى إعادة صياغة الإدراك البشري نفسه للطبيعة البشرية كما تحققت عبر التاريخ وتجلت في مؤسسات تاريخية وأعمال فنية، فهذا التحقق وهذا التجلي إن هما إلا انحراف عن مسار التاريخ الحقيقي بعد استيلاء الذكور عليه!(15/337)
إن ما تُنادي به حركة التمركز حول الأنثى يختلف تماماً عما تنادي به حركة تحرير المرأة. فالرجل يمكنه أن ينضم إلى حركة تحرير المرأة، ويمكنه أن يدخل في حوار بشأن ما يُطرَح من مطالب لضمان تحقيق العدالة للمرأة ولضمان ألا تتحول الاختلافات بين الجنسين إلى أساس بيولوجي للتفاوت الاجتماعي والاقتصادي بينهما (وكأن المرأة تعادل الرجل الأسود في المنظومة العنصرية الغربية البيضاء) . ويمكن أن يتبنى المجتمع الإنساني بذكوره وإناثه برنامجاً للإصلاح في هذا الاتجاه، ومن الممكن أن يؤيد الرجال والنساء ذلك. أما حركة التمركز حول الأنثى فلا يمكن أن ينضم لها الرجال، فالرجل باعتباره رجلاً لا يمكنه أن يشعر بمشاعر المرأة، كما أنه مُذنب يحمل وزر هذا التاريخ الذكوري، رغم أنه ليس من صنعه. ولا يوجد برنامج للإصلاح وإنما يوجد برنامج للتفكيك يهدف إلى تغيير الطبيعة البشرية ومسار التاريخ والرموز واللغات.(15/338)
وفي تَصوُّرنا أن الرؤية الكامنة وراء حركة التمركز حول الأنثى رؤية حلولية تستند إلى رؤية واحدية كونية إذ تحاول اختزال الكون بأسره إلى مستوى واحد، فتدمج الإله والطبيعة والإنسان والتاريخ في كيان واحد وتحاول أن تصل إلى عالم جديد تماماً تتساوى فيه الأطراف والمركز، عالم لا يوجد فيه قمة وقاع ولا يمين ويسار (ولا ذكر وأنثى) ، وإنما يأخذ شكلاً مسطحاً تقف فيه جميع الكائنات الإنسانية والطبيعية على أرضية واحدة وتَمَّحي فيها كل الثنائيات. بل إن تحقُّق هذا النمط يتم عند نقطة الصفر حين تصبح كل الكائنات شيئاً واحداً. وبينما تعترف حركة تحرير المرأة بالاختلافات بين الرجل والمرأة، وتحاول ألا يكون هناك تفاوت اقتصادي أو إنساني نتيجة هذا الاختلاف، فإن حركة التمركز حول الأنثى لا ترفض التفاوت وحسب وإنما ترفض الاختلاف نفسه. وبينما تعترف حركة تحرير المرأة بأن هذا الاختلاف يؤدي إلى اختلاف في توزيع الأدوار وتأمل ألا ينجم عن هذا الاختلاف ظلم أو تفاوت اجتماعي، فإن حركة التمركز حول الأنثى ترفض توزيع الأدوار وتطالب بأن يصبح الذكور آباء وأمهات، وأن تصبح الإناث بدورهن آباء وأمهات. بل إن الأمر يمتد ليشمل الأحاسيس نفسها. فالمرأة يجب أن تشعر مثل الرجل، والرجل يجب أن يشعر مثل المرأة. ويمتد الأمر لرؤية الإنسان للإله. فحركة التمركز حول الأنثى ترى أن كل التاريخ يدور حول مركز، وهذا المركز هو الرجل؛ عضو التذكير، السلطة، الإله الذكر. ويجب أن يحل محل هذا شيء محايد بحيث ينظر للإله باعتباره ذكراً وأنثى، أو ذكراً ثم أنثى، أو ذكراً في أنثى، أو لا ذكر ولا أنثى (وهذه هي مرحلة ما بعد الحداثة حين تسقط كل الحدود ويضمُر المركز ثم يختفي) .(15/339)
والمفارقة الكبرى تكمن في أن حالة السيولة الحلولية الكونية ينتُج عنها حالة تفتُّت ذري وازدواجية صلبة. وتظهر الازدواجية الصلبة في تأكيد حركة التمركز حول الأنثى أن ما تحس به الأنثى لا يمكن أن يحس به الذكر، ومن ثم فالتجربة التاريخية للأنثى مغايرة تماماً للتجربة التاريخية للذكر. أما التفتت الذري فيظهر في مطالبة مساواة الذكر بالأنثى بشكل مطلق. وحينما نصل إلى هذه المرحلة، فإننا لا نتحدث عن برنامج للإصلاح وإنما عن برنامج تفكيكي تختفي فيه كل المقولات الثنائية التقليدية، مثل: إنسان/طبيعة، إنسان/حيوان، ذكر/أنثى، ويختفي المركز تماماً، ويصبح التمييز مستحيلاً. ولذا، تلتحم حركة التمركز حول الأنثى بحركات حلولية مماثلة كالدفاع عن السحاق، وعبادة الأرض، فهي جميعاً حركات تفترض أن ما هو مطلق لا يتجاوز المادة وإنما يكمن ويحل فيها، فهو الأرض بالنسبة لعبدة الطبيعة، وهو الأنثى بالنسبة لحركات التمركز حول الأنثى، وهو الطبقة العاملة بالنسبة للفكر الشيوعي، والمنفعة واللذة الفردية بالنسبة لليبرالية. وهذا المطلق الحال هو الذي يحرك التاريخ ويساوي بين كل الكائنات ويسويها الواحدة بالأخرى.
ويبدو أن المرأة اليهودية كانت مرشحة أكثر من غيرها لأن تنخرط في صفوف حركات تحرير المرأة ثم حركات التمركز حول الأنثى في الغرب لأسباب عديدة، من بينها:
1 ـ ارتفاع معدلات العلمنة بين الإناث اليهوديات في الغرب بنسبة تفوق مثيلتها لا بين أعضاء المجتمع وحسب وإنما بين الذكور اليهود أنفسهم (ولعل هذا يعود إلى أن الأنثى اليهودية كانت لا تتلقى تعليماً دينياً، كما أنها كانت غير ملزمة بأداء كثير من الشعائر الدينية اليهودية) .(15/340)
2 ـ لابد أن الفكر الحلولي اليهودي ولَّد لدى الإناث اليهوديات قابلية عالية للغاية لتَقبُّل نزعة التمركز حول الأنثى والدعوة إليها. ويُلاحَظ أن مقولة يهود/أغيار تقابل تماماً مقولة أنثى/ذكر. كما أن التمركز حول الأنثى يشبه التمركز حول الهوية اليهودية. ورؤية تاريخ البشر كتاريخ ظلم وقمع واضطهاد (لليهود وللإناث) ، هو الآخر، عنصر مشترك. ويشترك الفريقان في البرنامج التفكيكي العدمي.
ويعود تاريخ حركة تحرير المرأة بين أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب إلى عصر التنوير في ألمانيا، حيث عبرَّت عن نفسها في ظاهرة صالونات النساء الألمانيات اليهوديات، مثل راحيل فارنهاجن، وفي ظهور أديبات يهوديات مثل إما لازاروس، ونساء يهوديات في الحياة العامة مثل روزا لوكسمبرج (في الحركة الشيوعية) وهنريتيا سيزولد (في الحركة الصهيونية) . ويمكن القول بأن الحديث عن حركة مستقلة لتحرير المرأة اليهودية أمر صعب إن لم يكن مستحيلاً، إذ أن حركة تحرير المرأة هي مسألة متعلقة بحقوق المرأة في المجتمع، وهو أمر يقع داخل رقعة الحياة المدنية العامة (وكفاح المرأة اليهودية للحصول على حقوقها لا يختلف في الواقع عن كفاح النساء غير اليهوديات، بل هو جزء عضوي منه) . وقد تركت حركة تحرير المرأة أثرها في المؤسسات الدينية اليهودية التي بدأت تفتح أبوابها للنساء. وبدأت اليهودية الإصلاحية والمحافظة تحث النساء اليهوديات على المشاركة في الصلوات التي تُقام في المعابد اليهودية التي لا يُفصَل فيها الجنسان. كما أصبح هناك احتفال ببلوغ البنات سن التكليف الديني (بَتْ متْسفاه) على غرار احتفال البرمتسفاه، أي بلوغ الصبيان هذا السن.(15/341)
أما حركة التمركز حول الأنثى، فهي أمر مختلف تماماً. فهذه الحركة، كما أسلفنا، ليست مسألة حقوق، وإنما هي قراءة للتاريخ، وموقف من اللغة والرموز والجسد، ومن ثم يمكن الحديث عن حركة يهودية للتمركز حول الأنثى تركت أثراً جذرياً في الجماعات اليهودية وفي العقيدة اليهودية، ولَّدت يهودية متمركزة حول الأنثى وُصفت بأنها حركة تحاول تركيب بنية دينية جديدة، تتكون من عناصر يجمعها مفكرو وقيادة الحركة لإعادة بناء اليهودية بطريقة تُرضي الإناث وتفي بحاجاتهن الأنثوية الخاصة. وهذه العناصر مجموعة من الأساطير الشعبية والأفكار الوثنية التي تراكمت داخل التركيب الجيولوجي اليهودي (مثل أسطورة ليليت) ، وهو تركيب جعل دعاة اليهودية المتمركزة حول الأنثى قادرين على توليد نسقهم من داخل النسق الديني نفسه، ذلك لأن هذا التركيب يحوي كل شيء تقريباً، كما أنه يولِّد قابلية عالية لليهودية للتغير حسب الأوضاع والملابسات التاريخية. وقد وصفت جوديت بلاسكو، إحدى مفكرات حركة اليهودية المتمركزة حول الأنثى تلك الحركة بأنها تسعى إلى توسيع نطاق التوراة، ومن ثم فهي تثير الشكوك بشأن نهائية النص التوراتي ومطلقيته، فهي يهودية معادية للمطلق الديني المتجاوز للطبيعة والإنسان، وتطرح بدلاً منه نسقاً يتغيَّر بتغيُّر الملابسات التاريخية والرغبات البشرية، الجماعية والفردية. وهي في هذا لا تختلف كثيراً عن لاهوت موت الإله، حين يموت الإله ويصبح المطلق الوحيد هو حادث الإبادة النازية ليهود أوربا وإنشاء الدولة الصهيونية. وقد صرحت إحدى مفكرات الحركة بأن إعادة النظر في وضع المرأة في سياق العقيدة اليهودية أمر جوهري يُشبه إعادة دراسة المسألة اليهودية في سياق التاريخ العام.(15/342)
وكانت اليهودية الإصلاحية أول فرقة استجابت لحركة التمركز حول الأنثى اليهودية إذ رُسِّمت سالي برايساند حاخاماً في يونيه 1972. وفي عام 1973، وافقت اليهودية المحافظة على أن تحسب النساء ضمن النصاب (منيان) اللازم لإقامة الصلاة في المعبد، كما سُمح لهن بالقراءة من التوراة في المعبد، وهذه أمور كانت مقصورة على الذكور البالغين. ثم وافقت اليهودية المحافظة على ترسيم الإناث كحاخامات محافظات في 1985، وكمنشدات (حزان) عام 1987، وقد اتسع النطاق بطبيعة الحال ليشمل كل الشعائر.
وقد أسَّست بعض النساء الأمريكيات اليهوديات من المدافعات عن التمركز حول الأنثى جماعة «نساء الحائط» التي تطالب بحق تلاوة التوراة أمام حائط المبكى، وارتداء شال الصلاة (طاليت) وهو حق مقصور على الرجال. كما بدأ بعض المؤمنات باليهودية المتمركزة حول الأنثى بارتداء شيلان صلاة (طاليت) حريمية ذات لون وردي وطاقيات للصلاة موشاة بعناصر حريمية مثل الدانتلا، وتمائم صلاة (تيفلِّين) مزينة بالشرائط (وإن كان بعضهن يرفضن الشيلان والطاقيات والتمائم لأنها ذكورية أكثر من اللازم وتُذكِّرهن بآبائهن!) . ومنذ عام 1983، بدأت بعض المعابد اليهودية غير الأرثوذكسية بتعديل الصلوات حتى تتم الإشارة إلى الآباء (باتريارك) وزوجاتهن الأمهات (ماتريارك) .(15/343)
وتحاول بعض المعابد تغيير صيغة الإشارة إلى الإله باعتباره ذكراً، فيُشار إليه باعتبار أنه ذكر وأنثى في آن واحد، حتى تتحقق المساواة التامة بين الجنسين! فيُقال على سبيل المثال "إن الخالق هو الذي/ هي التي، وضع/وضعت ... إلخ"، بل يُشار إليه أحياناً بالمؤنث وحسب، فهو «ملكة الدنيا» ، و «سيدة الكون» و «الشخيناه» . كما أن بعض دعاة حركة التمركز حول الأنثى يستخدمن كلمات لا جنس لها (بالإنجليزية: أن جندرد ungendered» ) مثل: «فريند friend» (صديق) و «كومبانيون companion» (رفيق) و «كو كريتور co-creator» (المشارك في الخلق) . وهذا الاسم الأخير يدل على الجذور الحلولية لليهودية المتمركزة حول الأنثى. فالتراث القبَّالي يرى أن الإنسان شريك للإله في عملية الخلق إذ أن عملية إصلاح الخلل الكوني (تيقون) التي يستعيد بها الإله وجوده ووحدته، لا يمكن أن تتم إلا من خلال أداء اليهود للأوامر والنواهي.
كما تحاول الحركة اليهودية المتمركزة حول الأنثى تطهير الخطاب الديني تماماً من أية صور مجازية قد يُفهَم منها الانقسام إلى ذكر وأنثى مثل صورتي الزواج والزفاف المجازيتين المتواترتين في العهد القديم. ولعل من أهم التغييرات في عالم الرموز ظهور ليليت (نسبة إلى الليل والظلمة) بديلاً لحواء، وهي حسب الأساطير التلمودية زوجة آدم الأولى قبل حواء، وقد تمردت على وضعها كأنثى (فرفضت مسألة أنها تنام تحت الرجل لا فوقه!) كما تمرَّدت على الإله. وأصبحت تنتقم من الرجال والنساء المتزوجات بأن تقتل الأطفال المولودين. فليليت ليست عكس حواء وحسب، بل هي عكس الأنوثة والأمومة والحالة البشرية نفسها، فهي شخصية تفكيكية من الطراز الأول تنتمي إلى عالم ما بعد الحداثة الذي لا يوجد فيه مركز ولا معنى (وقد صدرت عام 1976 مجلة ليليت لتعبِّر عن فكر حركة التمركز حول الأنثى أسستها سوزان وايدمان شنايدر إحدى أهم مفكرات الحركة) .(15/344)
ومن التعديلات الأخرى التي أُدخلت على العبادة اليهودية، الاحتفال بعيد «روش هحوديش» ، أي «عيد القمر الجديد» باعتباره عيداً أنثوياً. وتشير بعض مفكرات الحركة اليهودية للتمركز حول الأنثى إلى علاقة القمر بالعادة الشهرية، وإلى أن في التلمود عبارة تقول إن القمر سيصبح يوماً ما مساوياً للشمس، ويفسر كل هذا على أنه إشارات إلى المساواة المطلقة بين الذكر والأنثى واختفاء أي اختلاف بينهما. ويقيم دعاة حركة التمركز حول الأنثى احتفالات خاصة بالعادة الشهرية والاجهاض والولادة. وقد وصفت إحداهن الاحتفال بالمخاض وإنجاب الطفل وقالت إنها عثرت عليه في كتاب يُسمَّى سيفر هاتشبِّي (وقد ذكره أحد الحاخامات ليحذر أعضاء الجماعة اليهودية من الانغماس في الخرافات الشعبية الوثنية) . ويأخذ الطقس الشكل التالي:
تُرسَم دائرة بالفحم الأسود على حوائط الغرفة التي تجلس فيها الأنثى التي ستنجب، ثم تكتب على الحائط عبارة: آدم وحواء بدون ليليت، ثم تكتب على الباب أسماء ثلاثة ملائكة هم: سانوي وساتسوني وسامنجالوف (وأسماؤهم هي أيضاً سانفي وسانسافي وسامن جاليف) ، ثم تحضر صديقات الأنثى التي ستلد ويجلسن في دائرة حولها وهكذا.(15/345)
وقد أعد دعاة حركة التمركز حول الأنثى هاجاداه لعيد الفصح خاصة بالنساء (وكتبتها الأمريكية إستير بروند والإسرائيلية نعومي نيمرود) . ويبدأ الاحتفال بعيد الفصح بالنساء جالسات على الأرض وقد فرشن أمامهن مفرشاً وتوجَّه الأسئلة لأربع بنات، بدلاً من أربعة أولاد، أما كأس النبي إلياهو فيصبح كأس الكاهنة مريم. وقد كُتبت كتب مدراش خاصة متمركزة حول الأنثى. وقد أدخلت الحركة أيضاً تعديلات عديدة ذات طابع سطحي بعضها يكاد يكون كوميدياً. فمثلاً هناك احتفال يُسمَّى «بريت بنوت يسرائيل» بدلاً من «بريت ميلاه (الختان) » تُتلى فيه صلاة خاصة تؤكد أهمية الأمهات: أولاهن بطبيعة الحال ليليت ثم حواء وزوجة نوح وسارة ورفقه وليئة وراحيل. ويُقام احتفال التشليخ (بعد عيد رأس السنة) حيث تقوم النساء بإلقاء خطاياهن في الماء. وتأكل النساء طعاماً مستديراً (فطائر) علامة الخصوبة والأنوثة، ويشعلن شموعاً يوم السبت على أن تُوضَع الشموع في طبق مليء بالماء حتى تشبه القمر. وتجمع النساء الصدقة فيما بينهن ولا ينفقنها إلا على حركة التمركز حول الأنثى. وكما أسلفنا، رُسِّمت نساء حاخامات كما توجد الآن معابد يهودية إصلاحية ومحافظة للسحاقيات، وقد رُسِّمت لها (حاخامات) من النساء السحاقيات أيضاً، وتوجد الآن مدرسة تلمودية عليا (يشيفا) تسمح بالتحاق الشواذ جنسياً والسحاقيات.
وقد يكون من الأفضل تصنيف اليهودية المتمركزة حول الأنثى على أنها من بين العبادات الجديدة، أكثر من أن تكون استمراراً لليهودية الحاخامية، وهي من ثم محاولة أخيرة للإنسان العلماني اليهودي في الغرب أن يحل مشكلة المعنى والأزمة الروحية الناجمة عن تصاعُد معدلات العلمنة في المجتمعات التي يُقال لها «متقدمة» .(15/346)
وحركة التمركز حول الأنثى تشبه تماماً في بنيتها الحركة الصهيونية التي تذهب إلى أن الأغيار لا يمكنهم أن يشعروا بشعور اليهود، وهم يحملون وزر تاريخ قام باضطهاد اليهود جيلاً بعد جيل، والبرنامج الإصلاحي الصهيوني لا يهدف إلى تحسين أحوال اليهود باعتبارهم أقلية دينية في أوطانهم وإنما هو برنامج تفكيكي يطالب بسحب اليهود من مجتمعات الأغيار (مثلما تُسحَب المرأة في المنظومة المتمركزة حول الأنثى من مجتمع الرجال (.
ولنا أن نقول الشيء نفسه بالنسبة لما يحدث في الدين فما يحدث في حالة اليهودية المتمركزة حول الأنثى ليس إصلاحاً دينياً يهدف إلى تطوير بعض الشعائر حتى يتمكن اليهودي من أن يصبح إنساناً عصرياً، وإنما هو عملية تفكيك للدين تُغيِّر هويته وملامحه وتوجُّهه حتى يصبح من العسير تسميته ديناً على الإطلاق؟ فإذا كان النص المقدَّس نصاً زمنياً تاريخياً وإذا كانت العقائد مسائل اجتماعية اتفاقية، وإذا كانت الشعائر تدور داخل نطاق كل هذا، فما الفرق بين النص المقدَّس ومجلة نيوزويك مثلاً؟
لقد دخل الإنسان الغربي عالم ما بعد الحداثة: وهو عالم حلولي وثني دائري عبثي (مثل «صمت الحملان» ) عالم يحكمه إله مجنون ويعيش فيه بشر لا يمكن الحكم عليهم من منظور أية منظومة قيمية، فهم خليط من الذئاب والأفاعي والأميبا. ومن أهم مفكرات حركة التمركر حول الأنثى: بتي فريدان، وإريكا يونج (وكلتاهما أمريكية يهودية (.
بتي فريدان (1921-)
Betty Friedan
كاتبة أمريكية، وإحدى زعيمات حركة التمركز حول الأنثى في الولايات المتحدة. وُلدت عام 1921 في ولاية إلينوي باسم نعومي جولدشتاين، ودرست علم النفس بكلية سميث بولاية ماساشوستس (وهي كلية للنساء فقط) . وتخرجت عام 1942 لتستكمل بعدها دراستها العليا في جامعة بيركلي بكاليفورنيا ثم عملت لعدة سنوات محللة نفسية وباحثة.(15/347)
تفرغت بعد زواجها عام 1947 لتربية أبنائها الثلاثة. وفي عام 1963، نشرت كتابها الشهير السر الأنثوي الذي يُعَدُّ أبرز أدبيات حركة التمركز حول الأنثى في الولايات المتحدة في الستينيات التي تُعَد بتي فريدان أبرز رائداتها. والكتاب يركز على قضية المساواة ويهاجم إعلاء دور المرأة كأم وزوجة ويدعو إلى تحقيق المرأة لذاتها من خلال التعليم والعمل. وفي الواقع، فإن هذا الكتاب كان بمنزلة المرجع للعديد من الأفكار بشأن حركة التمركز حول الأنثى لفترة طويلة، إلا أن بتي فريدان نفسها عادت (عام 1981) فنشرت كتاب الطور الثاني الذي غيرت فيه كثيراً من آرائها وهاجمت فيه كثيراً من أفكار التمركز حول الأنثى وانتقدت مفهوم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة ودعت إلى عدم حرمان المرأة من خصوصيتها كامرأة، وأكدت أهمية دعم دور المرأة كأم وزوجة وتأكيد حقها في الحرية والاختيار في إطار الحفاظ على مؤسسة الأسرة، كما دعت إلى حق الإجهاض كواحد من الحقوق الإنسانية للمرأة لا كدعوة للانحلال الأخلاقي. كما دعت بتي فريدان الحركة النسوية إلى زيادة الاهتمام بالحقوق الاجتماعية للمرأة وإلى تقليل التركيز على القضايا الجنسية وعلى حرية الشذوذ الجنسي، وهو ما استثار ضدها التيارات الراديكالية في الحركة الأمريكية المتمركزة حول الأنثى التي اتهمتها بالمحافظة بل أحياناً بمعاداة التمركز حول الأنثى.(15/348)
وعلى المستوى الحركي تُعَدُّ بتي فريدان من أنشط العناصر النسائية الأمريكية في عقدي الستينيات والسبعينيات، حيث أسست المنظمة القومية للنساء (ناو NOW) عام 1966 ورأستها حتى عام 1970، وهو العام نفسه الذي قادت فيه مظاهرة تضم 50 ألف امرأة للمطالبة بمساواة المرأة في الحقوق والواجبات مع الرجل، كما شاركت في تأسيس المؤتمر السياسي النسائي القومي عام 1971، وفي تأسيس بنك النساء 1973، والمجلس العالي للمرأة 1973. وكذلك، فإنها تُعَدُّ من أبرز الشخصيات التي دافعت عن مشروع قانون المساواة الكاملة بين الجنسين الذي طُرح في عهد الرئيس ريجان والمعروف باسم إيرا ERA.
وتُعَدُّ بتي فريدان نموذجاً متكرراً بين قيادات حركة تحرير المرأة في الولايات المتحدة، إذ يُلاحَظ أن عدداً كبيراً منهن إما يهوديات، أو ذوي أصول يهودية. ويمكن القول بأن هذا يعود لمركب من الأسباب منها ما يلي:
1 ـ يُلاحَظ تصاعُد معدلات العلمنة بين يهود الولايات المتحدة لكونهم عناصر مهاجرة جديدة لا تحمل أعباءً تاريخية أو دينية، وباعتبار أنهم أعضاء في أقلية وجدت أن بإمكانها أن تحقق الحراك الاجتماعي من خلال الاندماج في المجتمع الأمريكي العلماني ومن خلال تآكل القيم المسيحية الأخلاقية المطلقة.
2 ـ لعل الخلفية الحلولية (القبَّالية) لكثير من هذه القيادات قد ساهم في دفعهم نحو تَبنِّي مواقف جذرية متطرفة، فالحلولية بأحاديتها المتطرفة لا تعترف بأية حدود أو تقسيمات أو اختلافات أو ثنائيات.(15/349)
3 ـ يُلاحَظ أن الأسرة اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية كانت تتميَّز بقدر عال من التماسك حتى أوائل الستينيات، ولكنها أخذت في التآكل والتراجع باعتبارها إطاراً للتضامن، وقد أدَّى هذا إلى غربة عدد كبير من النساء اليهوديات وإلى إحساسهن بالاضطهاد داخل الأسرة. ولا شك في أن الدور المتميِّز الذي كانت تلعبه الأم اليهودية في الأسرة اليهودية في شرق أوربا ثم في الجيلين الأول والثاني من المهاجرين وتآكل هذا الدور وتحوُّله إلى عبء على الأم وعلى أبنائها، بسبب ظهور المؤسسات الحكومية التي تضطلع بوظائف الأم التقليدية، لاشك في أن هذا عمَّق هذه الغربة وبالتالي زاد من تطرف الثورة.
وقد شاركت بتي فريدان في بعض الأنشطة اليهودية، فشاركت عضواً في المجلة الدولية للشئون اليهودية، كما شاركت في الحملة الصهيونية المعادية للأمم المتحدة والتي تتهم المنظمة الدولية بأنها معادية لليهودية.
كاترين شالييه (1940-)
Catherine Chalier
مؤلفة فرنسية، وإحدى مفكرات حركة التمركز حول الأنثى. تلقت تعليماً كلاسيكياً وأجادت العبرية تماماً وحصلت على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة باريس. وقد تأثرت تأثراً عميقاً بفكر المفكر الفرنسي اليهودي عمانويل لفيناس، وطبقت بعض أفكاره في تفسيرها للنصوص المقدَّسة اليهودية، ورفضت التمييز التقليدي بين العقل والإيمان، وحاولت أن تبيِّن أن الكتاب المقدَّس اليهودي يمكنه أن يحرك ويعيد تجديد البحث الفلسفي الغربي، وهي بذلك تحطِّم الحواجز التي تفصل بين الفلسفة والدين.(15/350)
وتذهب كاترين شالييه إلى أن الهدف من الخطاب الإنساني ليس مجرد التعبير عن الفكر العقلاني وإنما الإجابة على كلمة الإله حسب تعاليم التوراة. ولذا، فإنها ترفض في كتابها استمرار الشر (1987) الفصل بين الوجود وسبب الوجود، كما ترفض في كتابها الإيحاء مع الطبيعة (1989) فكرة أن ثمة انقساماً بين اليهودية والطبيعة. فرغم أن النظام الكوني لا يمكنه أن يشكل مصدراً للقواعد الأخلاقية للسلوك ومعايير الأخلاق، إلا أن الطبيعة مع هذا لها دور تلعبه، فالطبيعة مثل الإنسان تتحرك نحو الخلاص (وفي المنظومة الحلولية التي توحد بين الإله والإنسان والطبيعة، يصبح الخلاص مسألة ليست بالضرورة تاريخية إنسانية، وإنما مسألة كونية، حيث لا فارق ـ في نهاية الأمر ـ بين الإنسان والطبيعة) .
وكما هو الحال في كثير من المنظومات الحلولية، تصبح الأرض والأنثى هما المصدر والمركز، وتبين شالييه الدور الأساسي الذي تلعبه الأمهات (ماتريارك) سارة ورفقه وراحيل وليئة. والدور الأساسي الذي لعبنه في تأسيس اليهودية. وهي في تفسيرها للكتب المقدَّسة تستخدم الأقوال القبَّالية والشعر الحديث والأساليب التلمودية لتبرهن على وجهة نظرها المتصلة بالأمهات.
وإلى جانب الكتابين السابقين ألَّفت شالييه الكتب التالية: اليهودية والآخر (1982) ويتضح فيه أثر لفيناس، وهيبة الأنثى (1982) ، والأمهات: سارة ورفقه وراحيل وليئة (1985) .
إريكا يونج (1942-)
Erica Jong(15/351)
روائية وشاعرة أمريكية. وُلدت باسم إيريكا مان في نيويورك ودرست في كلية برنارد التابعة لجامعة كولومبيا، وتَخرجت عام 1963 ثم التحقت بالجامعة نفسها للحصول على الماجستير، ثم انتقلت مع زوجها الذي كان يعمل في الجيش الأمريكي إلى ألمانيا وأقامت بهايدلبرج في الفترة من 1966 حتى 1969، وقد انتهت هذه الزيجة وزيجتان أخريان بالفشل. وقد سجلت إيريكا يونج تجربتها هناك في سيرة ذاتية بعنوان الخوف من الطيران (1973) ، وبدأت في كتابة الشعر الذي أخذ يحمل ملامح الوعي بالذات الأنثوية المنفصلة. وفي عام 1971، نشرت ديوانها الشعري الأول تحت عنوان فواكه وخضراوات الذي عكس موقف المرأة كفنانة. واستمرت في ديوانها الثاني نصف حياة (1973) في تكريس النظرة المتمركزة حول الأنثى لقضايا عديدة.
وقد بدأت شهرتها كروائية بعد أن نشرت رواية الخوف من الطيران التي تصف فيها تجربتها في البحث عن الذات وتحلِّل المشكلات النفسية والجنسية لبطلة الرواية إيزادورا ونج التي تشبه في جوانب كثيرة منها الخلفية الفكرية والتربية اليهودية لإريكا يونج نفسها.
كذلك ضمَّنت الكتاب فصلاً عن حياتها في ألمانيا وأثر ذلك في وعيها اليهودي. وقد أدَّت الصراحة الجنسية للرواية إلى إثارة الكثير من الجدل. وفي عام 1977، نشرت روايتها الثانية كيف تنقذين حياتك، وهي تُعَد تكملة للرواية السابقة، وتعرض لتجربة إيزادورا مع الشهرة والطلاق والعلاقات الجديدة.(15/352)
ثم صدر لها عام 1980 فاني: التاريخ الحقيقي لمغامرات فاني هاكابوت جونز وقد وُصفت بأنها رواية مغامرات من القرن الثامن عشر وتصف المغامرات الجنسية لامرأة في القرن الثامن عشر. وقد نشرت إريكا يونج أيضاً ديواني شعر جذور الحي (1975) ، وعلى حافة الجسد (1979) . ونشرت رواية مغامرات وقبل (1984) ، وسبرتيسيما: رواية من البندقية (1987) ، وهما تتسمان بالانفتاحية الجنسية نفسها. ولا تتمتع يونج بمكانة أدبية عالية، فهي من كُتَّاب الدرجة الثانية، أو الكُتَّاب الشعبيين، وتعود شهرتها إلى أدبها المكشوف، وإن كانت تحاول أن تمزج بين موضوع الهوية الأنثوية المنفصلة والهوية اليهودية المنفصلة حيث ترى أن اليهودي (الواعي بذاته) والأنثى (الواعية بذاتها) هما الشيء نفسه تقريباً، ومن ثم فإن تجربتها كأنثى يهودية في ألمانيا تجربة ذات دلالة خاصة.
الشذوذ الجنسي
Homosexuality
يُحرِّم العهد القديم العلاقة الجنسمثلية أو الشذوذ الجنسي بين الذكور، وتبلغ عقوبة هذه الجريمة حد الإعدام. أما التلمود، فهو يُحرِّم العلاقة الجنسمثلية بين كل من الذكور والإناث. ولا يوجد وصف تفصيلي لحوادث جنسمثلية في العهد القديم إلا في حادثة لوط (تكوين 19/5) ، وفي قصة بنو بليعال من بنيامين (قضاة 19/20) .(15/353)
ويبدو أن سلوك أعضاء الجماعات اليهودية عبر التاريخ البشري كان يتسم بالإحجام عن الشذوذ الجنسي. ولذا، فإننا نجد أن التلمود لا يشغل باله كثيراً بالعلاقات الجنسية الشاذة، بل إن الشولحان عاروخ، وهو تلخيص للقوانين التلمودية، يهمل ذكرها باعتبار أنها أمر مفروغ منه. ومما يجدر ذكره أن المواجهة بين اليهودية والهيلينية في القرون الأخيرة قبل الميلاد، التي تزامنت مع تأغرق أعداد كبيرة من أعضاء النخبة اليهودية في مصر وفلسطين، ورغم القبول الواضح في التراث الهيليني للشذوذ الجنسي، فإن أعضاء الجماعات اليهودية لم ينغمسوا في مثل هذه الممارسة. ويبدو أن بعض الأدباء السفارد، متأثرين بتقاليد الشعر العربي والتغزل بالغلمان، كتبوا عن حب أفراد من الجنس نفسه. بل يبدو أن الممارسات الجنسية الشاذة كانت منتشرة بين السفارد قبل وبعد الطرد من إسبانيا حتى أن كلمتي «يهودي» و «شاذ جنسياً» كانتا مترادفتين في شبه جزيرة أيبريا. كما أن التراث القبَّالي يرى أن كلاًّ من الإله والإنسان (قبل تَبعثُّر الشرارات) مُكوَّنان من عناصر ذكورة وأنوثة مختلطة، وفي هذا تعبير عن الواحدية الكونية الحلولية ورفض للثنائيات.
وقد تغيَّر الوضع تماماً في العصر الحديث مع تصاعد معدلات العلمنة بين أعضاء الجماعات اليهودية، فرئيس أول جماعة عالمية للشواذ جنسياً من الذكور هو ماجنوس هيرشفيلد (1868 ـ 1935) ، ومساعده كورت هيلر (1885 ـ 1972) ، وكلاهما كان ألمانياً يهودياً (بل كان هيلر يزعم أنه من نسل الحاخام هليل) . وكان هيلر هو أول من طالب باعتبار الشواذ جنسياً أقلية لابد من حماية حقوقها. ويُلاحَظ اهتمام علماء النفس اليهود بموضوع الشذوذ الجنسي. ومن المعروف أن فرويد ينسب لكل البشر ازدواجية جنسية أو جنسمثلية كامنة.(15/354)
ولكن حتى لا تُفسَّر هذه المعلومات تفسيراً عنصرياً يبسط الأمور تبسيطاً مخلاًّ يجعل اليهود مسئولين عن الشذوذ الجنسي، لابد أن نشير إلى أن قبول الشذوذ الجنسي بشكل متزايد وتطبيعه إحدى سمات المجتمعات العلمانية المتقدمة، كما أنه نتيجة حتمية لغياب اليقين المعرفي والمطلقية الأخلاقية وغياب المركز وتعاظم أهمية الهامش وإنكار أي مفهوم للطبيعة البشرية ومن ثم أية معيارية. وإذا كان هناك وجود ملحوظ لليهود في الحركات الداعية لتطبيع الشذوذ الجنسي، فهذا أمر نابع من أن أعضاء الأقليات (الذين يوجدون في الهامش) ، وخصوصاً أولئك الذين يتحولون إلى جماعات وظيفية لديهم استعداد أكبر من استعداد أعضاء الأغلبية لارتياد آفاق جديدة سواء في عالم الاستثمار أو في عالم الأفكار والسلوك. ومهما يكن الأمر، فإن حركة الشذوذ الجنسي في العالم الغربي حقَّقت تقدماً ملحوظاً حتى أن قوانين معظم بلاد أوربا قد تغيَّرت، فهي تسمح بالعلاقات الجنسية الشاذة الخاصة بين بالغين يدركون ما يفعلونه ويقبلونه، وبدأت تَصدُر تشريعات تعترف بعلاقة الشواذ جنسياً كزواج شرعي يعطي لطرفيه حقوق المتزوجين كافة من معاش حكومي إلى علاوات إضافية بل وحق تبنِّي الأطفال! كما أن كثيراً من الكنائس المسيحية أصبحت تقبل العلاقة الشاذة جنسياً بل وتُؤسَّس الآن كنائس للشواذ جنسياً، ويُرسَّم الشواذ جنسياً قساوسة ووعاظاً. وقد بدأت المؤسسات الدينية اليهودية تلحق بالركب، فاليهودية الإصلاحية والمحافظة لا تُحرِّمان الآن الشذوذ الجنسي. وقد أُسِّست أيضاً معابد يهودية للشواذ جنسياً، ورُسِّم حاخامات شواذ جنسياً من الجنسين. وهذا دليل آخر على أن الجماعات اليهودية هي، في نهاية الأمر، ثمرة التغيرات الحضارية والاجتماعية التي تقع للمجتمعات التي يعيشون في كنفها، ومن السخف بمكان التحدث هنا عن «تاريخ يهودي مستقل» أو عن مسئولية اليهود عن الشر.(15/355)
ونحن نتوقع أن تتطور الأمور بين الجماعات اليهودية بشكل أسرع منها بين المسيحيين، وهذا يعود إلى تركيب اليهودية الجيولوجي التراكمي التي تحوي داخلها أشياء عديدة متناقضة. كما أن تطوُّر اليهودية وقبولها الهوية الإثنية كأساس للانتماء، بدلاً من العقيدة الدينية، يفتح الباب على مصراعيه لأي سلوك مهما تنافى مع القيم الأخلاقية أو الدينية، فالهوية الإثنية لا تفرض على صاحبها أي أعباء أخلاقية. وكما جاء في إحدى الدراسات، فإن المعابد اليهودية الخاصة بالشواذ جنسياً تكافح من أجل الحصول على الفهم والقبول من بيت إسرائيل (الشعب اليهودي) رغم أنف التحريمات الواردة في التوراة وتقاليد اليهودية الحاخامية التي استبعدتهم من الحياة الدينية للجماعة.(15/356)
والقانون العثماني الذي طبقته حكومة الانتداب، ومن بعدها الدولة الصهيونية، يُحرِّم العلاقات الجنسية الشاذة. ومع هذا، كانت السلطات التنفيذية الصهيونية تنظر للممارسات الشاذة بكثير من التسامح، ولذا لم يُقدَّم أحد قط للمحاكمة بتهمة الممارسة الجنسية الشاذة. وفي عام 1988، أصدر الكنيست قانوناً بإلغاء القانون الذي يُجرِّم العلاقات الجنسية الشاذة (رغم معارضة اليهود الأرثوذكس) . ولا يُعفَى الشواذ جنسياً من الخدمة العسكرية، ويُكتفَى بنقلهم إلى مواقع غير مهمة من الناحية الأمنية. وتوجد في إسرائيل جماعة تُسمَّى جماعة الدفاع عن الحقوق الشخصية أُسِّست عام 1975. وبعد عام 1988، ظهرت مجلات للشواذ جنسياً في إسرائيل باللغتين العبرية والإنجليزية. وفي يونيه 1991، عُقد في تل أبيب المؤتمر الدولي الثالث للشواذ جنسياً من الذكور والإناث والمخنثين (أي الذين يحوون عناصر ذكورة وأنوثة) . وهناك اتجاه الآن في إسرائيل نحو منح المزيد من الحريات للشواذ جنسياً. وقد صرحت يائيل ديان، ابنة موشيه ديان، بأن العلاقة بين الملك داود ويوناثان هي علاقة شاذة جنسياً، كما عُرضت مسرحية في إسرائيل تتناول سيرة داود الملك بالطريقة نفسها وهناك العديد من الأفلام والأعمال الفنية التي تتعامل مع هذا الموضوع.
يهودية الطعام
Culinary Judaism(15/357)
«يهودية الطعام» عبارة نستخدمها في هذه الموسوعة لنشير إلى ما يُسمَّى بالإنجليزية «كيوليناري جودايزم culinary Judaism» وترجمتها الحرفية «اليهودية الطهوية» أو «يهودية الطبيخ» . والواقع أن «يهودية الطعام» هي شكل من أشكال اليهودية الإثنية أو الإثنية اليهودية، إذ أن بعض أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة تنحصر يهوديتهم (كعقيدة وانتماء) في نوع الطعام الذي يأكلونه وفي طريقة طهوه. وما يُطلقون عليه اصطلاح «طعام يهودي» هو في العادة من أصل شرق أوربي يديشي (مثل البيجل والجيلت، والسمك المملح) . كما قد يُراعى بعض قوانين الطعام الشرعي (لا كلها) في بعض المناسبات وحسب (وليس طوال العام) . واليهودي الأمريكي، وهو عادةً من اليهود الجدد، يحرص على تناول مثل هذا الطعام وعلى اتِّباع مثل هذه القواعد ويتصور أنه يؤكد انتماءه اليهودي بهذا الشكل، وأنه قد تَوحَّد مع الشعب اليهودي والأسلاف والأجداد. وهذا شيء مضحك تماماً، فتناول أنواع من الأطعمة لا يعدو أن يكون مجرد تناول لأنواع من الأطعمة، وهو أمر لا علاقة له بأي نسق ديني أو أخلاقي ولا علاقة له بالهوية الإثنية إن تم تعريفها بشكل مركب وشامل.
ويهودية الطعام تعبير آخر عن علمنة النسق الديني اليهودي وعن تحوُّل اليهودية من عقيدة يلتزم بها اليهودي ويخضع لقواعدها إلى مجموعة من الممارسات التي تهدف إلى تحقيق الهوية وإشباع الذات وتحقيق المتعة!
ألعاب التوراة (توراه إيروبكس (
Tora Aerobics(15/358)
«توراه إيروبيكس» عبارة إنجليزية تعني ممارسة التمرينات الرياضية المعروفة بالإيروبيكس بمصاحبة التوراة. ولذا أطلقنا عليها مصطلح «ألعاب التوراة» . وألعاب التوراة إحدى البدع الجديدة التي ظهرت في الولايات المتحدة، وصاحبها حاخام إصلاحي في لونج أيلاند، قرَّر أن يقوم بدراسة نصوص التوراة وتلاوتها وذلك بمصاحبة التمرينات الرياضية المعروفة بالإيروبيكس ضمن الاحتفالات التقليدية المصاحبة لعيد النصيب. وفي الواقع، فإن عدم احتجاج أيٍّ من المؤسسات الدينية اليهودية الإصلاحية المسئولة على هذه البدعة الجديدة تبيِّن أن اليهودية نفسها بدأت تتحول من الداخل إلى إحدى العبادات الجديدة التي فقدت الصلة تماماً باليهودية الحاخامية، وخصوصاً بعد السماح للشواذ جنسياً بالانضمام إلى الأبرشيات الإصلاحية المختلفة، بل وبعد السماح لهم بأن يُرسَّم منهم حاخامات أيضاً. وهذا أمر مُتوقَّع تماماً في مرحلة الحلولية بدون إله، إذ يصبح الجسد (بالنسبة إلى يهود الولايات المتحدة البعيدين عن الأرض المقدَّسة) الكيان المقدَّس الأساسي الذي يشكل العابد والمعبود والمعبد. وألعاب التوراة مثل جيد على علمنة النسق الديني من الداخل، بحيث لا يبقى فيه من الخارج سوى القشرة والمحارة، فألعاب التوراة تعبير عن أخلاقيات اللذة والمتعة حيث يصبح الهدف من الحياة تحقيق الذات وإمتاعها والتعبير عن مبدأ اللذة خارج أية حدود أو قيود. وغني عن القول أن مثل هذه الأخلاقيات يقف على طرف النقيض من الموقف الديني الذي يَصدُر عن الاعتراف بأن الإنسان له حدود وبأن الهدف من وجود الإنسان في الأرض ليس إمتاع الذات وإنما تحقيق مثاليات أخلاقية تستند إلى أمر إلهي.
والله أعلم.(15/359)
المجلد السادس: الصهيونية
الجزء الأول: إشكاليات وموضوعات أساسية
الباب الأول: التعريف بالصيهونية
الصهيونية: إشكالية التعريف
Zionism: The Problem of Definition
كلمة «صهيونية» يصعب تعريفها بشكل مباشر للأسباب التالية:
1 ـ التعريفات الشائعة في المعاجم الغربية تشير إلى "الأمل الصهيوني" وليس إلى الظاهرة الصهيونية، فتُعرَّف الصهيونية، على سبيل المثال بأنها "الحركة الرامية إلى عودة اليهود إلى وطن أجدادهم إرتس يسرائيل حسبما جاء في الوعد الإلهي والآمال المشيحانية لليهود! " وغني عن القول أن الأمل الصهيوني أو المتتالية المفترضة أو المتوقعة تختلف كثيراً عن الواقع الصهيوني أو المتتالية المتحققة.
2 ـ تختلط التعريفات بالاعتذاريات والمنظورات المختلفة بحيث لا تمكن التفرقة بين الواحد والآخر، فالصهيونية قد تكون من منظور البعض هي تحقيق الآمال المشيحانية، ولكنها من منظور البعض الآخر مخطط استعماري استيطاني.
3 ـ يشير المصطلح إلى نزعات وحركات ومنظمات سياسية غير متجانسة، بل متناقضة أحياناً، في أهدافها ومصالحها ورؤيتها للتاريخ، أو في أصولها الإثنية أو الدينية أو الطبقية.
4 ـ قد يُستخدَم المصطلح مع صفة تحدُّ من حقله الدلالي أو تُوسِّعه كأن نقول «الصهيونية العمالية» و «الصهيونية المسيحية» . بل هناك أيضاً «صهاينة صهيون» وهم معارضو مشروع شرق أفريقيا باعتبار أن دعاة هذا المشروع هم صهاينة بدون صهيون (كما أشار بعض دعاة الصهيونية الإثنية العلمانية إلى صهيونية هرتزل باعتبارها «صهيون بلا صهيونية «) .(16/1)
وإذا كانت الصهيونية تعني "تهجير بعض أعضاء الجماعات اليهودية إلى فلسطين وتوطينهم فيها"، فبأي معنى إذن يمكننا الحديث عن «صهيونية الدياسبورا» أو «الشتات» (الجماعات اليهودية في العالم) ،أي صهيونية اليهودي الذي يرفض أن يشترك في عملية الاستيطان الصهيوني وإن كان في الوقت نفسه يرى أن هذا الاستيطان هو الحل الوحيد لمشاكل اليهود؟ ولعل هذا هو الذي حدا بالمفكر الصهيوني العمالي بوروخوف إلى أن ينحت مصطلحاً في غاية الأهمية اختفى من الأدبيات والتواريخ الصهيونية وهو «صهيونية الصالونات» ، ويعني صهيونية الطبقة الوسطى التي تهتم بالجوانب الحضارية والثقافية والإثنية (أي ما يُسمَّى «الوعي اليهودي» ) ولا تهتم كثيراً بالاستيطان. كما نحت آخر (بعد تأسيس الدولة الصهيونية) مصطلح «صهيونية دفتر الشيكات» وهي صهيونية اليهودي الذي يُحدث أصواتاً صهيونية عالية ولكنه يكتفي بدفع مبلغ من المال للمنظمة الصهيونية. ولذا، فإن الصفة هنا في الواقع لا تُعدِّل دلالة المصطلح وحسب، وإنما تغير معناه تغييراً جوهرياً.
5 ـ وهنا يجب أن نثير قضية تتصل بالمجال الدلالي. فإن قَبلنا بأن الصهيوني "هو من يدعو إلى تهجير اليهود إلى فلسطين وتوطينهم فيها"، فهل يمكن أن نُطلق المصطلح على دعوة المعادين لليهود بطرد اليهود من أوطانهم وتوطينهم في فلسطين؟ بل هل يمكن أن نُطلق المصطلح على المشاريع النازية المختلفة للتخلص من اليهود؟ وهل يمكن الحديث عن النازيين كصهاينة؟ وعلى كل حال، فإن هذا ما فعله أدولف أيخمان أثناء محاكمته. فقد أشار إلى نفسه باعتباره صهيونياً يحاول أن يضع شيئاً من الأرض الراسخة تحت أقدام اليهود (باعتبار أن اليهود شعبٌ بلا أرض، أما الأرض الراسخة فهي فلسطين، أرض بلا شعب) .
الصهيونية: تاريخ المفهوم والمصطلح
Zionism: The History of the Concept and the Term(16/2)
لم يُسك مصطلح «الصهيونية» إلا في القرن التاسع عشر، ولكنه مع هذا يُستخدَم للإشارة إلى بعض النزعات في التاريخ الغربي، بل داخل النسق الديني اليهودي قبل هذا التاريخ. وسنحاول فيما يلي أن نرصد بعض استخدامات المصطلح ونوردها ـ على قدر المستطاع ـ في تسلسلها التاريخي، مع العلم بأن كل دلالة جديدة لا تنسخ بالضرورة ما سبقها، وإنما تُضاف إلىها فتزيد المجال الدلالي اتساعاً وتناقضاً وتجعل المصطلح تركيباً جيولوجياً تراكمياً:(16/3)
1 ـ الصهيونية بالمعنى الديني: تشير كلمة «صهيون» في التراث الديني اليهودي إلى جبل صهيون والقدس، بل إلى الأرض المقدَّسة ككل، ويُشير اليهود إلى أنفسهم باعتبارهم «بنت صهيون» . كما تُستخدَم الكلمة للإشارة إلى اليهود كجماعة دينية. والواقع أن العودة إلى صهيون فكرة محورية في النسق الديني اليهودي، إذ أن أتباع هذه العقيدة يؤمنون بأن الماشيح المخلِّص سيأتي في آخر الأيام ليقود شعبه إلى صهيون (الأرض ـ العاصمة) ويحكم العالم فيسود العدل والرخاء. ولكلمة «صهيون» إيحاءات شعرية دينية في الوجدان الديني اليهودي، فقد جاء في المزمور رقم 137/1 على لسان جماعة يسرائيل بعد تهجيرهم إلى بابل: "جلسنا على ضفاف أنهار بابل وذرفنا الدمع حينما تذكرنا صهيون". وقد وردت إشارات شتى في الكتاب المقدَّس إلى هذا الارتباط بصهيون الذي يُطلَق عليه عادةً «حب صهيون» ، وهو حب يعبِّر عن نفسه من خلال الصلاة والتجارب والطقوس الدينية المختلفة، وفي أحيان نادرة على شكل الذهاب إلى فلسطين للعيش فيها بغرض التعبد. ولذا، كان المهاجرون اليهود الذين يستقرون هناك لا يعملون ويعيشون على الصدقات التي يرسلها أعضاء الجماعات اليهودية في العالم. وقد كان العيش في فلسطين يُعَد عملاً من أعمال التقوى لا عملاً من أعمال الدنيا، وجزاؤه يكون في الآخرة أو في آخر الأيام، ولذا فإنه لا تربطه رابطة كبيرة بالاستيطان الصهيوني، وخصوصاً أن اليهودية الحاخامية (الأرثوذكسية) تُحرِّم محاولة العودة الجماعية الفعلية إلى فلسطين وتعتبرها تجديفاً وهرطقة ومن قبيل «دحيكات هاكتس» أي «التعجيل بالنهاية» . فاليهودية تؤمن بأن العودة إلى أرض الميعاد ستتم في الوقت الذي يحدده الرب وبطريقته، وأنها ليست فعلاً بشرياً يتم على يد البشر. وهذه النزعة الصهيونية الدينية (التي تؤكد عنصر تجاوز المادة) لا علاقة لها بالاستيطان الصهيوني الفعلي والمادي في فلسطين ولا حتى بما يُسمَّى «الصهيونية(16/4)
الدينية» في الوقت الحالي.
2 ـ يُطلَق اصطلاح «الصهيونية» أيضاً على نظرة محددة لليهود ظهرت في أوربا (وخصوصاً في الأوساط البروتستانتية في إنجلترا ابتداءً من أواخر القرن السادس عشر) وترى أن اليهود ليسوا جزءاً عضوياً من التشكيل الحضاري الغربي، لهم ما لبقية المواطنين وعليهم ما عليهم، وإنما تنظر إليهم باعتبارهم شعباً عضوياً مختاراً وطنه المقدَّس في فلسطين ولذا يجب أن يُهجَّر إليه. وقد استمر هذا التيار المنادي بتوطين اليهود في فلسطين حتى بعد أن خمد الحماس الديني الذي صاحب حركة الإصلاح الديني. ويُطلَق على هذه النزعة اسم «الصهيونية المسيحية» ، وهي تمارس في الولايات المتحدة الآن بعثاً جديداً وخصوصاً في بعض الأوساط البروتستانتية (الأصولية) المتطرفة.
3 ـ مع تَزايُد معدلات العلمنة في المجتمعات الغربية، ظهرت نزعات ومفاهيم صهيونية في أوساط الفلاسفة (ولا سيما الرومانسيين) والمفكرين السياسيين والأدباء، تنادي بإعادة توطين اليهود في فلسطين باعتبار أنهم شعب عضوي منبوذ تربطه علاقة عضوية بها استناداً لأسباب تاريخية وسياسية بل"علمية". ويُطلَق على هذا الضرب من الصهيونية «صهيونية غير اليهود» أو «صهيونية الأغيار» .
4 ـ يُلاحَظ حتى الآن أن مصطلح «صهيونية» نفسه لم يكن قد تم سكه بعد، ومع هذا كان مفهوم الصهيونية مفهوماً مُتداوَلاً على نطاق واسع بين الفلاسفة والمفكرين والشعراء والمهووسين الدينيين. ولكن مع تبلور الهجمة الإمبريالية الغربية على الشرق، وبخاصة الشرق الإسلامي، ومع تبلور الفكر المعادي لليهود في الغرب (بسبب ظهور الدولة العلمانية المركزية التي همَّشت اليهود كجماعة وظيفية) ، ومع تصاعد معدلات العلمنة بدأ مفهوم الصهيونية نفسه في التبلور والتخلص من كثير من أبعاده الغيبية الدينية أو الرومانسية وانتقل إلى عالم السياسة والمنفعة المادية ومصالح الدول.(16/5)
5 ـ ليس من الغريب إذن أن نجد أن نابليون بونابرت أول غاز غربي للشرق الإسلامي في العصر الحديث وواحد من أهم المعادين لليهود في العالم الغربي (كما يدل على ذلك سجله في فرنسا) وواحد من أهم دعاة العلمانية الشاملة هو أيضاً صاحب أول مشروع صهيوني حقيقي، إذ دعا الصهاينة إلى الاستيطان في "بلاد أجدادهم"!
6 ـ أصبح مفهوم الصهيونية مفهوماً أساسياً في الخطاب السياسي الغربي عام 1841 مع نجاح أوربا في بلورة مشروعها الاستعماري ضد العالم العربي والإسلامي الذي حقق أول نجاح حقيقي له في القضاء على مشروع محمد علي في تحديث مصر والدولة العثمانية، ومع تفاقم المسألة اليهودية التقت المسألة الشرقية بالمسألة اليهودية وساد التصوُّر القائل بإمكان حل المسألتين من خلال دمجهما.
7 ـ تمت بلورة المفاهيم الصهيونية وملامح المشروع الصهيوني بشكل كامل في الفترة بين منتصف القرن التاسع عشر وعام 1880 على يد المفكرين الصهاينة غير اليهود لورد شافتسبري ولورانس أوليفانت. وقد لخص شافتسبري التعريف الغربي لمفهوم الصهيونية في عبارة أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض (في كلمات تقترب كثيراً من الشعار الصهيوني)) . وقد حاول أوليفانت أن يضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ.
8 ـ يُلاحَظ أننا نضع تاريخ تطوُّر مفهوم الصهيونية في سياق التاريخ الفكري والسياسي والعسكري الغربي، ولا نعود إلى العهد القديم أو ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» (إلا في محاولة دراسة الديباجات) . فحتى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر لم يكن يربط اليهود أو اليهودية علاقة كبيرة بالصهيونية كفكرة أو مفهوم أو مشروع سياسي واقتصادي عسكري. وقد كان هذا هو الرأي السائد في الأوساط الصهيونية حتى عهد قريب. فأول تاريخ رسمي للصهيونية، كُتب بتكليف من المنظمة الصهيونية وكتبه ناحوم سوكولوف (الذي تولى رئاسة المنظمة الصهيونية بعض الوقت) مكوَّن من جزأين كرِّس معظمها لتاريخ الصهيونية بين غير اليهود.(16/6)
9 ـ بدأت النزعات الصهيونية تظهر بين اليهود أنفسهم في أواخر القرن التاسع عشر مع تفاقم المسألة اليهودية، وعبَّرت عن نفسها في بادئ الأمر عن طريق المساعدات التي كان أثرياء اليهود في الغرب يدفعونها للجمعيات التوطينية المختلفة التي كانت تهدف إلى توطين يهود شرق أوربا في أي بلد (ويشمل ذلك فلسطين) حتى لا يهاجروا إلى غربها فيعرِّضوا مكانتهم الاجتماعية وأوضاعهم الطبقية للخطر.
10 ـ عبَّرت النزعة الصهيونية في شرق أوربا عن نفسها من خلال جماعات أحباء صهيون التي حاولت التسلل إلى فلسطين للاستيطان فيها. وتُوصَف هذه النزعات أيضاً بأنها «صهيونية» رغم اختلاف الدوافع بين الفريقين الأول والثاني.(16/7)
11 ـ وقد نحت المصطلح نفسه المفكر اليهودي النمساوي نيثان بيرنباوم في أبريل 1890 في مجلة الانعتاق الذاتي وشرح معناه في خطاب بتاريخ 6 نوفمبر 1891 قال فيه إن الصهيونية هي إقامة منظمة تضم الحزب القومي السياسي بالإضافة إلى الحزب ذي التوجه العملي (أحباء صهيون) الموجود حالياً. وفي مجال آخر (في المؤتمر الصهيوني الأول 1897 صرَّح بيرنباوم بأن الصهيونية ترى أن القومية والعرْق والشعب شيء واحد، وهكذا أعاد بيرنباوم تعريف دلالة مصطلح «الشعب اليهودي» الذي كان يشير فيما مضى إلى جماعة دينية إثنية، فأصبح يشير إلى جماعة عرْقية (بالمعنى السائد في ذلك الوقت) ، وتم استبعاد الجانب الديني منه تماماً. وأصبحت الصهيونية الدعوة القومية اليهودية التي جعلت السمات العرْقية اليهودية (ثم السمات الإثنية في مرحلة لاحقة) قيمة نهائية مطلقة بدلاً من الدين اليهودي، وخلَّصت اليهودية من المعتقدات المشيحانية والعناصر العجائبية الأخروية، وهي الحركة التي تحاول أن تصل إلى أهدافها من خلال العمل السياسي المنظم لا من خلال الصدقات. ورغم أن بيرنباوم كان يهدف إلى الدعوة إلى ضرب جديد من التنظيم السياسي مقابل جهود أحباء صهيون التسللية، فإن المصطلح استُخدم للإشارة إلى الفريقين معاً.
وبعد المؤتمر الصهيوني الأول 1897 في بازل، تحدَّد المصطلح وأصبح يشير إلى الدعوة التي تبشر بها المنظمة الصهيونية وإلى الجهود التي تبذلها، وأصبح الصهيوني هو من يؤمن ببرنامج بازل (في مقابل المرحلة السابقة على ذلك، أي مرحلة أحباء صهيون بجهودها التسللية المتفرقة)(16/8)
12 ـ بعد ذلك، بدأت دلالات الكلمة تتفرع وتتشعب، فهناك «صهيونية سياسية» (يُشار إليها أحياناً بعبارة «الصهيونية الدبلوماسية» ) ، وأخرى «عملية» ، وتبعتها «الصهيونية التوفيقية» . وكل صهيونية لها توجُّهها وأسلوبها الخاص وإن كانت جميعاً لا تختلف في الهدف النهائي. وتذهب الصهيونية التوفيقية إلى أن كل الاتجاهات الصهيونية غير متناقضة بل يكمل الواحد منها الآخر، ومن ثم يَسهُل التوفيق بينها.
13 ـ تَبلور المفهوم الغربي للصهيونية تماماً في وعد بلفور الذي مُنح "للشعب اليهودي" (أُسقطت عبارة "العرْق اليهودي") والذي أشار للعرب باعتبارهم الجماعات غير اليهودية، أي أن اليهود أصبحوا شعباً بلا أرض وفلسطين أصبحت أرضاً بلا شعب.
14 ـ ثم ظهرت بعد ذلك «الصهيونية الثقافية» و «الدينية» التي أضافت إلى الصهيونية البعد الإثني (الديني والعلماني) .
15 ـ ثم ظهرت «الصهيونية الديموقراطية» و «الصهيونية العمالية» و «الصهيونية التصحيحية» و «الصهيونية الراديكالية «.
16 ـ وبعد عام 1948، ظهرت «صهيونية الدياسبورا «.
ونحن نذهب إلى أنه يوجد في الواقع صهيونيتان لا صهيونية واحدة (صهيونية توطينية وصهيونية استيطانية) . ومع هذا، فإنهما يُشار إليهما بدالٍّ واحد: «صهيونية» . وذلك برغم أنهما ظاهرتان مختلفتان تماماً، لهما جذور مختلفة وقيادات وأهداف مختلفة.(16/9)
17 ـ ويُشبِّه يوري أفنيري الصهيونية بالبيوريتانية (بالإنجليزية: بيوريتانيزم Puritanism) في أمريكا، فهي أيديولوجيا الأصول التي أدَّت إلى ظهور المجتمع الأمريكي، ولكنها ماتت ولم تَعُد لها فعالية في هذا المجتمع. ويرى الكاتب الإسرائيلي بوعز إفرون أن على الإسرائيلي في علاقته بالصهيونية أن يكون مثل الأمريكي في علاقته بالبيوريتانية. وبذا، تصبح الدوافع الأيديولوجية أو الاقتصادية التي دفعت الرواد الأوائل (الصهاينة أو البيوريتان) إلى الاستيطان (في فلسطين أو الولايات المتحدة) موضوعاً ذا أهمية تاريخية أو أكاديمية محضة، وليس موضوعاً أساسياً.
ويتحدث الكاتب الإسرائيلي أبراهام يهوشاوا عن الصهيونية بوصفها حركة إنقاذ عملية ظهرت حلاًّ للمأزق اليهودي منذ قرن (أي المسألة اليهودية في شرق أوربا) ، وهو يعتقد أن العملية قد وصلت إلى نهايتها، أي أن الصهيونية كانت ولم تَعُد.(16/10)
18 ـ وهناك مصطلح «الصهيونية الجغرافية» الذي ورد في رسالة بعث بها يوسف ضياء الدين الخالدي رئيس بلدية القدس إلى حاخام فرنسا الأكبر صادوق كاهن (الصديق المقرب لكلٍّ من هرتزل ونوردو) يُذكِّره بأن فلسطين جزء لا يتجزأ من الإمبراطورية العثمانية ويسكنها غير اليهود، ويتنبأ بقيام حركة شعبية ضد الصهيونية فيما لو استمرت الحال على ما هي عليه، ولذا فقد نصح الصهاينة بالتخلي عن «الصهيونية الجغرافية» ، أي الربط بين صهيون وفلسطين وبضرورة البحث عن أرض أو بلاد أخرى. ولعل هذا المصطلح هو المحاولة العربية الوحيدة لسك مصطلح مستقل لوصف الظاهرة. وهو مصطلح دقيق إلى حدًّ كبير، فهو يفصل بين الصهيونية وبين أية ديباجات دينية أو علمانية، ويبين أن المستهدف هو الأرض الفلسطينية. كما أن التركيز على عنصر الجغرافيا يبين أن عنصر التاريخ الحي قد استُبعد، ولذا فقد أشار الخالدي في خطابه إلى أن فلسطين هي بلاد اليهود "تاريخياً"، بمعنى أن جزءاً من تاريخهم مرتبط بها، ولكنه تاريخ متحفي بائد، إذ أن فلسطين أصبحت الآن جزءاً من التاريخ العربي الإسلامي. والواقع أن كلمة «جغرافية» تبين شراهة المشروع الصهيوني واستعماريته وإنكاره تاريخ المنطقة ووجود أهلها.
19 ـ وفي الوقت الحاضر، فإن كلمة «صهيونية» تعني في العالم العربي "الاستعمار الاستيطاني الإحلالي في فلسطين الذي تَرسَّخ بدعم من الغرب". وتحمل الكلمة إيحاءات دينية لدى كثير من العرب المسلمين أو المسيحيين الذين يرون أن الصراع العربي/الإسرائيلي صراع ديني.
20 ـ لا تحمل الكلمة أي معنى ديني في بلاد العالم الثالث، ولا تشارك شعوب العالم الثالث في الديباجات الصهيونية المختلفة عن "حق" اليهود بسبب اضطهادهم في أوربا أو عن الرابطة الأزلية بأرض الميعاد. وتحمل الكلمة تقريباً الدلالات نفسها التي تحملها في العالم العربي.(16/11)
21 ـ وحتى نُبيِّن مدى خلل المجال الدلالي، يمكن أن نشير إلى أن الصهيونية حركة عنصرية حسب أحد قرارات هيئة الأمم وأنها ليست كذلك حسب قرارات أخرى.
22 ـ يُلاحَظ أن أزمة الصهيونية عبَّرت عن نفسها من خلال عدد لا ينتهي من المصطلحات تناولناها في الباب المعنون «أزمة الصهيونية «.
وقد حاولنا في هذه الموسوعة أن نحدِّد معنى لفظ «صهيونية» ومجاله الدلالي من خلال ما سميناه «الصيغة الصهيونية الأساسية» التي تحوَّلت إلى «الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة» والتي تم تهويدها وأصبحت «الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة اليهودية» أو «المُهوَّدة» . وقد عرَّفنا الديباجات والانقسامات المختلفة التي تعطي مضموناً للكلمة.
ويمكن اشتقاق فعل من كلمة «صهيونية» فنقول «صَهْيَنَ» َ (بالإنجليزية: زايونايز zionize) . ويُستخدَم المصدر من هذا الفعل عادةً بشكل شبه مجازي فيُقال «صهينة يهود العالم» بمعنى أن تسيطر العقيدة الصهيونية على بعض جوانب وجودهم لا كلها، ويُقال «صهينة اليهودية» بمعنى أن الرؤية الصهيونية للكون تصبح هي القيمة الحاكمة داخل النسق الديني اليهودي. وصهينة اليهود واليهودية هي الشكل الخاص الذي تتخذه عملية علمنتها.
الصهيونية: تعريف
Zionism: Definition(16/12)
تتسم التعريفات الشائعة في المعاجم الغربية للصهيونية بضعف مقدرتها التفسيرية. فإن كانت الصهيونية هي حركة القومية اليهودية وعودة اليهود لأرض الأجداد (كما تقول بعض المعاجم) ، فكيف نُفسِّر أن أغلبية هذا الشعب اليهودي الساحقة لا تزال تعيش في «المنفى» متمسكة به، تدافع عن حقوقها فيه؟ وكيف نُفسِّر امتلاء مخيمات اللاجئين بملايين الفلسطينيين؟ كيف نُفسِّر ما يقومون به من مقاومة؟ ولذا لابد من طرح تعريفات جديدة أكثر تركيبية وشمولاً وتفسيرية تتجاوز كل الاعتذاريات والديباجات (الصهيونية والعربية) لنصل إلى بعض الثوابت الكامنة. وسنحاول إنجاز هذا من خلال عملية تفكيك لما هو ظاهر واكتشاف لما هو كامن وبلورته ثم نعيد التركيب ونطرح تعريفاً جديداً، له مقدرة تفسيرية أعلى.
ونحن نذهب إلى أن ثمة صيغة صهيونية أساسية شاملة تُشكل التعريف الحقيقي للصهيونية، وثمة عقد صامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، كامن في هذه الصيغة، وثمة مادة بشرية مُستهدَفة (أعضاء الجماعات اليهودية خارج فلسطين والعرب الذين يعيشون فيها) .
المادة البشرية المستهدفة
Targeted Human Material
«المادة البشرية المُستهدَفة» اصطلاح نستخدمه للإشارة إلى المادة البشرية اليهودية التي تشير إليها الصيغة الصهيونية الأساسية باعتبار أنها شعب عضوي منبوذ نافع سيتم نقله خارج أوربا لتوظيفه، أي أن المصطلح يشير إلى اليهود باعتبارهم جماعة وظيفية استيطانية. واصطلاح «المادة البشرية» ليس من ابتداعنا فقد ورد في كتابات هرتزل الزعيم الصهيوني وفي تصريحات أيخمان الموظف النازي.(16/13)
ويُلاحَظ وجود مادة بشرية أخرى مُستهدَفة هي «العرب» . ولكن مع هذا لم يأت لهم ذكر في العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، ومن ثم لا تشير إليهم التعريفات الصهيونية من قريب أو بعيد، ولكن من المعروف أن السكان الأصليين المغيبين يكون مصيرهم، في المخططات الاستعمارية الغربية، هو عادةً الإبادة أو الطرد.
الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة
Underlying Zionist Premises
«الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة» مصطلح قمنا بصكه للإشارة إلى الثوابت والمسلمات النهائية الكامنة في الاتجاهات الصهيونية كافة مهما اختلفت دوافعها وميولها ومقاصدها وطموحاتها وديباجاتها واعتذارياتها. ولا يمكن وصف أي قول أو اتجاه بأنه صهيوني إن لم يتضمن هذه المسلمات، فهي بمنزلة البنية العامة الكامنة وهي التي تُشكِّل الأساس الكامن للإجماع الصهيوني. ويمكن تلخيصها فيما يلي:
أ) اليهود شعب عضوي منبوذ غير نافع، يجب نقله خارج أوربا ليتحوَّل إلى شعب عضوي نافع.
ب) يُنقل هذا الشعب إلى أي بقعة خارج أوربا [استقر الرأي، في نهاية الأمر، على فلسطين بسبب أهميتها الإستراتيجية للحضارة الغربية وبسب مقدرتها التعبوية بالنسبة للمادة البشرية المستهدفة] ليُوطَّن فيها وليحل محل سكانها الأصليين، الذين لابد أن تتم إبادتهم أو طَرْدهم على الأقل [كما هو الحال مع التجارب الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية المماثلة [.
جـ) يتم توظيف هذا الشعب لصالح العالم الغربي الذي سيقوم بدعمه وضمان بقائه واستمراره، داخل إطار الدولة الوظيفية في فلسطين.
وهذه الصيغة الشاملة لم يُفصح عنها أحد بشكل مباشر، إلا بعض المتطرفين في بعض لحظات الصدق النماذجية النادرة. ولكن عدم الإفصاح عنها لا يعني غيابها، فهي تشكل هيكل المشروع الصهيوني والبنية الفكرية التي أدرك الصهاينة الواقع من خلالها.(16/14)
ويُلاحَظ أن كثيراً من الأُسس التي تستند إليها الصيغة الشاملة قد اختفى بفعل التطورات التاريخية. فيهود العالم الغربي قد تناقص عددهم واندمجوا بشكل شبه تام في مجتمعاتهم، ولم يَعُد هناك مجال للحديث عن "عدم نفعهم". كما أن عملية نَقْل اليهود ونفي العرب اكتملت معالمها إلى حدٍّ كبير، وخصوصاً أن الترانسفير بعد تأسيس الدولة أصبح عملية هجرة تتم في ظلال قانون العودة. أما بالنسبة للسكان الأصليين فقد تم نفي غالبيتهم عام 1948، ولكن بعد عام 1967 أصبح من الصعب التخلص منهم. وما تبقَّى من الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة هو دولة وظيفية يدعمها الغرب ويضمن بقاءها وتقوم هي على خدمته وعلى تجنيد يهود العالم وراءها لخدمتها وخدمة العالم الغربي، وهذا ما يُشكِّل أساس الإجماع الصهيوني.
وعلى كلٍّ ما يتم الإفصاح عنه هو الصياغة المهوِّدة للصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، فهي أكثر صقلاً، وتبدو أكثر إنسانية، ولذا فإنها تحقق القبول الذي لا يمكن أن تحققه الصيغة غير المهودة بسبب إمبرياليتها وماديتها الشاملة.
الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة: تاريخ
Underlying Zionist Premises: History
لم تظهر الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة كاملةً بين يوم وليلة، وإنما ظهرت بالتدريج، وكان يُضاف لكل مرحلة عنصر جديد إلى أن اكتملت مع صدور وعد بلفور وتحوَّلت إلى الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة. والواضح أن الصيغة الصهيونية الأساسية تضرب بجذورها في الحضارة الغربية. وفيما يلي تاريخ موجز لمراحل تشكُّلها واكتمالها:(16/15)
1 ـ تضرب الصيغة بجذورها في موقف الحضارة الغربية من الجماعات اليهودية وفي وضعهم داخلها، وهو موقف صهيوني ومعاد لليهود في آن واحد؛ أو صهيوني لأنه معاد لليهود. فاليهود شعب مختار عضوي متماسك (شعب شاهد ـ جماعة وظيفية) ، ووجوده في مجتمع ما ليس له أهمية في حد ذاته وإنما بمقدار ما يخدم الوظيفة الموكلة إليه. وحين يفقد الشعب وظيفته، لابد من التخلص منه عن طريق نَقْله (أو ربما إبادته) . ومن هنا، فإن نقطة الانطلاق (الشعب العضوي المنبوذ) هي الرقعة المشتركة بين معاداة اليهود والصهيونية، وهي صيغة خروجية تصفوية إذ تطالب بإخراج اليهود من أوربا وتصفيتهم، فالعنصر الأول بشقيه هو جوهر عداء اليهود وهو أيضاً المقدمة الأساسية للصهيونية.
2 ـ وأضيف لهذه الصيغة العنصر الثاني (الكامن تاريخياً وبنيوياً في العنصر الأول) وهو اكتشاف نفع اليهود، ومن ثم إمكانية توظيفهم خارج أوربا (وإصلاحهم) . وقد اكتُشف هذا الجزء أو تم تأكيده ابتداءً من القرن السابع عشر، عصر ظهور الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية. ويُلاحَظ أن ما يميِّز الصهيونية عن معاداة اليهود هو هذا الجزء. فكلاهما يرى اليهود عنصراً غير نافع يوجد داخل الحضارة الغربية ولكنه لا ينتمي إليها ولا حل للمشكلة إلا بإخراج اليهود. وبينما يلجأ أعداء اليهود إلى إخراج اليهود بشكل عشوائي عن طريق طردهم أو إبادتهم دون تخطيط أو ترشيد، فإن الصهاينة يرشِّدون العملية كلها ويرون إمكانية إخراج اليهود بشكل منهجي وتحويلهم إلى عنصر نافع. كما يُلاحَظ أن مكونات هذين العنصرين (المنبوذين ـ النافعين الذين يمكن توظيفهم) هي ذاتها السمات الأساسية للجماعة الوظيفية. ومن ثم، فإن اكتشاف نفع اليهود كان أمراً متوقعاً، إذ أن ذلك لصيق ببنية الجماعة الوظيفية وهو سر وجودها وبقائها، إذ أنها لا يمكن أن يكتب لها البقاء في مجتمع إلا إذا كانت "نافعة" و"تلعب دوراً ضرورياً".(16/16)
3 ـ تظل الصيغة الصهيونية حتى نهاية القرن التاسع عشر مجرد فكرة، ولكنها تتحول إلى حركة منظمة بعد مرحلة هرتزل وبلفور ومضمونها أن يتم التوظيف من خلال دولة وظيفية على أن تشرف على العملية إحدى الدول الاستعمارية الكبرى في الغرب التي تُؤمِّن للمستوطنين موطئ قدم وتضمن بقاء واستمرار الدولة الوظيفية الاستيطانية. ومع وعد بلفور، يصبح المكان الذي ستقام فيه الدولة الوظيفية هو فلسطين وتتحول الصيغة الأساسية إلى الصيغة الشاملة.
ولنا أن نلاحظ أن المفهوم الكامن وراء الصيغة الأساسية الشاملة في الصهيونية الغربية مفهوم محوري في الحضارة الغربية، فلم يتم إدراك اليهود وحدهم من خلاله وإنما تم إدراك كل المنحرفين اجتماعياً، فمثلاً كان يتم نَقْل المساجين إلى أستراليا وتوظيفهم هناك بحيث يتحوَّلون إلى عناصر صالحة؛ أعضاء في الحضارة التي نبذتهم ونقلتهم.
والصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة محايدة تماماً، فهي صيغة علمانية نفعية مادية تماماً، رغم كل ما قد يحيط بها من ديباجات مسيحية أو رومانسية، فهي ترى اليهود، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، باعتبارهم مادة نافعة لا قداسة لها. وهي تنظر لوجود اليهود في العالم الغربى نظرة سلبية لابد من وضع نهاية له. ولذا، فهي صيغة تدعو اليهود إلى إنهاء السلبية الدينية والعودة المادية العلمانية إلى فلسطين دون انتظار أي أمر إلهي (الأمر الذي يتنافى مع العقيدة المسيحية الكاثوليكية واليهودية الأرثوذكسية)
والصيغة تُعلمن اليهود (فهم مادة نافعة تُنقَل) ، كما تُعلمن المكان الذي سيُنقَلون إليه (فهو مجرد حيز) ، وتُعلمن سكانه الأصليين (فمصيرهم إما النقل أو الإبادة) ، وتُعلمن وسيلة النقل (فهي الإمبريالية)(16/17)
والصيغة الأساسية الشاملة هي القاسم المشترك الأعظم بين كل الصهيونيات: صهيونية اليهود ـ صهيونية غير اليهود ـ صهيونية اليهود المتدينين ـ صهيونية اليهود العماليين ـ صهيونية اليهود المتمسكين بإثنيتهم ـ صهيونية اليهود غير اليهود، وذلك بغض النظر عن الديباجات والاعتذاريات وزوايا الرؤية. ولا شك في أنها تصلح أساساً تصنيفياً للتفرقة بين الصهيونية وغيرها من الحركات التي توجهت للقضايا نفسها.
والصيغة الشاملة تصلح أيضاً إطاراً لكتابة تاريخ عام للصهيونية، باعتبارها حركة فكرية سياسية اقتصادية اجتماعية في الحضارة الغربية (لا بين أعضاء الجماعات اليهودية وحسب) ، بحيث لا يتم الفصل بين صهيونية اليهود وصهيونية غير اليهود كما هو مُتَّبع، وإنما يُنظَر إليهما كمراحل مترابطة في سياق تاريخي حضاري واحد.
والصيغة الشاملة هي الأساس الذي يستند إليه ما نسميه «العقد الصهيوني الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهود الغرب» ، فهذا العقد يتيح الفرصة أمام يهود الغرب لأن يحققوا من خلال الخروج من العالم الغربي ما فشلوا في تحقيقه من خلال البقاء فيه. وعلى المستوى السياسي، يمكن القول بأن الصيغة الشاملة تعني ربط حل المسألة اليهودية (المادة البشرية المستهدفة) بالمسألة الشرقية (المجال الذي ستُنقَل فيه لتُوظَّف لصالح الحضارة الغربية) . وقد تم تهويد الصيغة الشاملة من خلال مجموعة من الديباجات بحيث أصبحت «الصيغة الشاملة المُهوَّدة» ، وذلك حتى يتحقق لليهود استيطانها.
ويُلاحَظ أنه في الوقت الحاضر بعد أن استقرت أوضاع الجماعات اليهودية في الغرب، وبعد دمجهم وتَناقُص أعدادهم أصبحت العناصر الأخيرة في الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة هي العنصر الأساسي (دولة وظيفية يدعمها الغرب ويضمن بقاءها وتقوم هي على خدمته وعلى تجنيد يهود العالم وراءها لخدمتها وخدمة العالم الغربي) . وأصبح هذا هو أساس الإجماع الصهيوني.(16/18)
الصهيونية البنيوية
Structural Zionism
«الصهيونية البنيوية» هي تَشكُّل بنية المجتمع وعلاقاته بحيث يضطر أعضاء الجماعة اليهودية إلى الهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها. و «الصهيونية البنيوية» مرتبطة تمام الارتباط بـ «المعاداة البنيوية للسامية» . بل إن المعاداة البنيوية لليهود واليهودية (أي أن تلفظ بنية المجتمع نفسها أعضاء الجماعات اليهودية الأمر الذي يجعل حياتهم مستحيلة داخل هذا المجتمع ويجعلهم "شعباً عضوياً منبوذاً") هي الشرط الأساسي لظهور الصهيونية البنيوية. ومن ثم فالصهيونية البنيوية لا تختلف كثيراً عن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة. فإذا كانت "الصيغة الشاملة" تشكل النموذج، فالصهيونية البنيوية هي تَحقُّق هذه الصيغة من خلال بنية المجتمع نفسه، حتى تصبح الجماعة اليهودية شعباً عضوياً منبوذاً غير نافع. ولكن حينما ننظر لبقية الصيغة الشاملة (نقل اليهود خارج أوربا ـ توظيفهم لصالح أوربا) نجد أنها ليست جزءاً من بنية المجتمع وإنما نتيجة مخطط صهيوني، أي أن البنيوي ليس الصهيونية وإنما» معاداة اليهود واليهودية «(16/19)
وقد استخدم أحد المراجع مصطلح «صهيونية بنيوية» للإشارة لما حدث في كوبا بعد اندلاع ثورة كاسترو فقد كان القائمون بالثورة متعاطفين جداً مع أعضاء الجماعة اليهودية ويسَّروا لهم كل السُبل ليحققوا ذاتهم الدينية والإثنية. ومع هذا قامت حكومة الثورة بتأميم كثير من المصانع وإغلاق الكازينوهات وقطاع البغاء، وهي قطاعات كان يوجد فيها أعضاء الجماعة اليهودية بشكل ملحوظ. ولذا بدأ نزوح اليهود عن كوبا، حتى اختفت الجماعة اليهودية تماماً. ووُصف هذا الوضع بأنه صهيونية بنيوية، وهو ينم عن عدم فَهْم للواقع وفشل في إدراكه. فما حدث هو عملية تأميم نتج عنها تصفية بعض القطاعات الاقتصادية، وتصفية القائمين عليها يهوداً كانوا أم غير يهود. كما أن أعضاء الجماعة اليهودية الذين "خرجوا" لم "يعودوا" إلى فلسطين المحتلة، وإنما اتجه معظمهم إلى الولايات المتحدة، كما فعلت الآلاف غيرهم من المواطنين الكوبيين الذين رفضوا المشاركة في الثورة أو ممن فقدوا وظائفهم نتيجة التوجهات الاشتراكية للثورة.
الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المهودة
Underlying Judaized Zionist Premises
«الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المُهوَّدة» هي «الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة» بعد أن اكتسبت ديباجات ومسوغات يهودية جعل بإمكان المادة البشرية المستهدفة استبطانها. فالصيغة الشاملة تُعلمن اليهود تماماً وتُحوْسلهم إلى أقصى حد، وهي أيضاً تُعلمن الهدف من نقلهم والأرض التي سيُنقَلون إليها. وليس من السهل على المرء قبول أن يتحول إلى وسيلة وأن يُنقَل كما لو كان شيئاً لا قيمة له إلى أرض (أي أرض) . ولذا، نجد أن المقدرة التعبوية للصيغة الشاملة تكاد تكون منعدمة، إذ أنها تفترض أن ينظر اليهود إلى أنفسهم بشكل براني، وهذا أمر مستحيل بطبيعة الحال.(16/20)
وقد طوَّر هرتزل الخطاب الصهيوني المراوغ الذي فتح الأبواب المغلقة أمام كل الديباجات اليهودية المتناقضة التي غطت، بسبب كثافتها، على الصيغة الأساسية الشاملة وأخفت إطارها المادي النفعي حتى حلَّت، بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية في الغرب بل بالنسبة لمعظم قطاعات العالم الغربي، محل الصيغة الأساسية الشاملة.
وقد تم إنجاز هذا بأن قامت الصهيونية الإثنية (الدينية والعلمانية) بإسقاط ديباجات الحلولية الكمونية (التي تلغي الحدود بين الإله والأرض والشعب وتخلع القداسة على كل ما هو يهودي) على الصيغة الشاملة بحيث يتحول اليهود من مادة نافعة إلى كيان مقدَّس له هدف وغاية ووسيلة ورسالة. وتجعل عملية نقله مسألة ذات أبعاد صوفية أو شبه صوفية نبيلة. لكل هذا أصبح من السهل على المادة البشرية أن تستبطن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة وأصبح من السهل التحالف بين الدينيين والعلمانيين: الجميع يتفق على قداسة الشعب ورسالته (ومطلقيته) ويختلفون حول مصدر القداسة وتجلياتها. ورغم كثافة الديباجات وإغراقها في الحلولية، تظل الثوابت كما هي، وتظل الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة كما هي.(16/21)
وتذهب الصيغة المُهوَّدة إلى أن العالم هو «المنفى» وأن اليهود يشكلون «شعباً عضوياً واحداً» لابد أن يُنقَل من المنفى (فهو شعب عضوي منبوذ) إلى فلسطين «أرض الميعاد» . ورغم هذا الاتفاق المبدئي إلا أن الديباجات تختلف، فالشعب العضوي المنبوذ لا يُنبَذ بسبب كونه جماعة وظيفية فقدت دورها أو لأنه قاتل المسيح، وإنما لعدد من الأسباب تتغيَّر بتغيُّر صاحب الديباجة منها أنه شعب مقدَّس مكروه من الأغيار في كل زمان ومكان بسبب قداسته (الصهيونية الإثنية الدينية) أو بسبب تركيبه الطبقي غير السوي (الصهيونية العمالية) أو لأن هويته الإثنية العضوية لا يمكن أن تتحقق إلا في أرضه (الصهيونية الإثنية العلمانية [الثقافية] ) أو لأنه شعب ليبرالي عادي يود أن يكون مثل كل الشعوب، وخصوصاً الشعوب الغربية (الصهيونية السياسة) . ومهما اختلفت الأسباب، فإن هذا الشعب ينظر إلى نفسه فيرى كياناً عضوياً مطلقاً له قيمة إيجابية ذاتية (بل يجد أنه المطلق وموضع الحلول والكمون (.
أما الهدف من النقل فليس التخلص من اليهود أو تأسيس دولة وظيفية تقوم على خدمة الغرب وإنما هو إصلاح الشخصية اليهودية وتطبيعها وتأسيس دولة اشتراكية تحقق مُثُل الاشتراكية (الصهيونية العمالية) أو الاستجابة للحلم الأزلي في العودة وتحقيق رسالة اليهود الإلهية وتأسيس دولة تستند إلى الشريعة اليهودية (الصهيونية الدينية) أو تحقيق الهوية اليهودية وتأسيس دولة يهودية بالمعنى العلماني تكون بمنزلة مركز روحي وثقافي ليهود العالم (الصهيونية الإثنية العلمانية) أو تحقيق مُثُل الحرية وتأسيس دولة ديموقراطية غربية (الصهيونية السياسية) . كما اكتسب المكان الذي سيُنقل إليه الشعب معنى داخلياً إذ تصبح الأرض هي الأرض الوحيدة التي تَصلُح للخلاص (المشيحاني أو الاشتراكي أو الليبرالي) ، فهي «أرض الميعاد» الإثنية الدينية أو العلمانية، بل إن خلاص الشعب هو خلاص الأرض، وهو نفسه مشيئة الإله.(16/22)
وآليات الانتقال ليست الاستعمار الغربي أو العنف والإرهاب وإنما هي "القانون الدولي العام" متمثلاً في وعد بلفور (في الصياغة الصهيونية السياسية) أو "تنفيذاً للوعد الإلهي والميثاق مع الإله" (في الصياغة الدينية) أو بسبب قوة اليهود الذاتية (في الصياغة الصهيونية التصحيحية) . كما أن النتيجة النهائية واحدة وهي تحويل اليهود إلى مستوطنين صهاينة وطرد الفلسطينيين من وطنهم وتحويلهم إلى مهاجرين. وعلى هذا، فإن عملية نقل اليهود من المنفى إلى فلسطين (سواء بسبب الوعد الإلهي أو بسبب وعد بلفور) تؤدي إلى نقل الفلسطينيين خارج وطنهم (إلى المنفى) .
ويُلاحَظ أن الصهيونية التصحيحية هي أكثر التيارات الصهيونية صراحة، فهي تُفصح عن الارتباط بالاستعمار ووظيفية الدولة وضرورة اللجوء للعنف، فهي تقترب من الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة ولا تختفي إلا وراء الحد الأدنى من الديباجات.
وقد اتجهت الصيغة المُهوَّدة لقضية يهود الغرب المندمجين في مجتمعاتهم والذين لا ينوون (لعدة أسباب خاصة بهم) الانتقال إلى أرض الميعاد الاشتراكية أو الرأسمالية أو اليهودية. فقبلت قرارهم هذا نظير تلقِّي دعمهم والتفافهم حولها على أن تلزم الحركة الصهيونية الصمت تجاه فضيحة الصهاينة الذين لا يهاجرون ومن هنا ولدت الصهيونيتان: الاستيطانية والتوطنيه.(16/23)
وقد تنبَّه كثير من المفكرين الصهاينة إلى وجود الصيغة الشاملة المُهوَّدة أو اليهودية من وجهة نظرهم (رغم أن أحداً منهم لم يُسمِّها) ، فيشير حاييم لانداو، على سبيل المثال، إلى أن البرنامج الصهيوني يدور حول فكرة ثابتة واحدة "وكل القيم الأخرى إن هي إلا أداة في يد المطلق"، ثم يحدد هذا المطلق على أنه "الأمة". وقد وافقه موشيه ليلينبلوم، وكان ملحداً، على قوله هذا: "إن الأمة كلها أعز علينا من كل التقسيمات المتصلبة المتعلقة بالأمور الأرثوذكسية أو الليبرالية في الدين. فلا مؤمنين وكفار، فإن الجميع أبناء إبراهيم وإسحق ويعقوب ... لأننا كلنا مقدَّسون سواء كنا غير مؤمنين أو كنا أرثوذكسيين". والمعنى أن الشعب كله هو مركز الحلول، تجري في عروقه هذه القداسة بشكل متوارث. أما كلاتزكين، فإنه يوضح القضية بما ينم عن الذكاء في مقاله «الحدود» حيث يبين أن اليهودية تعتمد على الشكل لا على المضمون (الشكل يعني في واقع الأمر بنية العلاقات الكامنة وليس الشكل بالمعنى الدارج للكلمة) . وهذا الشكل الأساسي ـ كما يقول ـ هو تخليص "الشعب اليهودي" للأرض. أما المضامين الروحية أو الفكرية، فهي تختلف بشكل جذري، ولكن هذا لا يهم لأن مضمون الحياة نفسه (أي واقعها) سيصبح قومياً عندما تصبح أشكالها قومية. وقد تنبَّه هؤلاء المفكرون الصهاينة ـ وأولهم ديني متطرف في تَديُّنه والآخران علمانيان ـ إلى أن ثمة فكرة ثابتة، جوهراً ما، "مطلقاً" على حد قول الأول، و"شكلاً أساسياً" أو "قداسة معيَّنة" على حد قول المفكرين الآخرين. كما تنبهوا إلى أن هذا الجوهر هو الثابت وأنه يُغيِّر ما عداه ويُحوِّره ويسمه بميسمه. وقد حددوه بأنه مفهوم الأمة اليهودية.
أرض بلا شعب لشعب بلا أرض
A Land without a People for People without a Land(16/24)
شعار صهيوني يصعب معرفة تاريخ ظهوره. ولكن يمكن القول بأنه صياغة معلمنة للرؤية الإنجيلية القائلة بأن فلسطين هي أرض الميعاد والأرض المقدَّسة، وأن اليهود هم الشعب المقدَّس، ومن ثم فالشعب المقدَّس لابد أن يعود للأرض المقدَّسة، فهو صاحبها.
ولعل أول من قام بعلمنة الصياغة هو اللورد شافتسبري الذي تحدث في منتصف القرن التاسع عشر عن "الأرض القديمة للشعب القديم". ثم اكتملت عملية العلمنة في الصياغة الحالية «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» . ويبدو أن إسرائيل زانجويل هو صاحب الصياغة الأخيرة.
ومهما كان الأمر فهذا الشعار السوقي الساذج هو إفراز طبيعي للخطاب الحضاري الغربي الحديث، الذي ينبع من الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية التي قامت بعلمنة الرؤى الإنجيلية وحولتها من صياغات مجازية تتحقق في آخر الأيام بمشيئة الإله إلى شعارات استيطانية حرفية تتحقق الآن وهنا بقوة السلاح. وهذه الرؤية للكون (الطبيعة والبشر) باعتباره مادة استعمالية، تضع الإنسان الغربي في المركز ومن ثم يصبح العالم كله فراغاً بلا تاريخ وبلا بشر، وإن وُجد بشر فهم مادة استعمالية عرضية لا قيمة لها، ومن ثم تصبح فلسطين أرضاً مأهولة بلا شعب. ويصبح الفلسطينيون مادة استعمالية لا قيمة لها في حد ذاتها.
ويخضع أعضاء الجماعات اليهودية لنفس العملية فهم بدلاً من أن يكونوا الشعب المقدَّس بالمعنى المجازي يصبحون الشعب اليهودي بالمعنى الحرفي، وحيث إنهم شعب، فهم إذن لا ينتمون للحضارة الغربية التي لا تضم سوى الشعوب الغربية ومن ثم لا أرض لهم.
لا يبقى بعد هذا إلا عملية الحوسلة والتوظيف التي تأخذ شكل ترانسفير مزدوج: تحريك اليهود من المنفى إلى الأرض، وتحريك السكان الأصليين من الأرض إلى المنفى، وكل هذا يتم تحت رعاية الحضارة الغربية ولخدمة مصالحها، وهذا هو المشروع الصهيوني.(16/25)
ويتسم شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» بتناسقه اللفظي الساحر، فهو ينقسم إلى قسمين متساويين يستخدم كل قسم القدر نفسه من الكلمات. وكلمة «بلا» في القسمين هي المركز الثابت والعنصر المشترك، وما يتحرك هو كلمتا «الأرض» و «الشعب» فيتبادلان مواقعهما تماماً كما سيتبادل اليهود والعرب مواقعهم.
ويتسم الشعار بالتماسك العضوي والوحدة الكاملة، فلا يوجد حرف زائد ولا توجد كلمة ليست في موضعها، وهو تعبير جيد عن الرؤية العضوية المغلقة التي تسم الخطاب الغربي الحديث، الذي يُفضِّل الصيغ الجميلة المتماسكة لفظياً، بحيث تصبح الصيغة مرجعية ذاتها مكتفية بذاتها كالأيقونة. وقد ينبهر المرء بجمال العبارة فينسى أنها عبارة إبادية، تعني اختفاء العرب وتغييبهم. والترجمة السياسية للعبارة في وعد بلفور هي الإشارة للعرب باعتبارهم «الجماعات غير اليهودية» . وقد عبَّر الشعار عن نفسه فيما نسميه مقولة «العربي الغائب» في الخطاب الصهيوني العنصري. ونحن نذهب إلى أن إدراك العالم الغربي للفلسطينيين لا يزال يتحرك في إطار مقولة «أرض بلا شعب» ومن هنا سلوكه الذي قد يبدو لا عقلانياً بالنسبة لنا.
والصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة هي تنويع تفصيلي على شعار أرض بلا شعب. فالشعب العضوي المنبوذ هو الشعب بلا أرض الذي سيُنقل لأرض يتم إبادة شعبها أو طردهم، وبذلك يصبح الشعب المنبوذ شعباً نافعاً داخل إطار الدولة الوظيفية.(16/26)
وغني عن القول أن هذه الصيغة الصهيونية السوقية التي تكشف المضمون الحقيقي للصهيونية وتبيِّن نزعتها العنصرية الإبادية الشرسة، قد اختفت تماماً من الخطاب الصهيوني، وحل محلها صيغ أكثر صقلاً وتركيباً، مثل «الحقوق المطلقة للشعب اليهودي» التي تعني في واقع الأمر أن حقوق الآخرين (العرب) نسبية عرضية ومن ثم يمكن تهميشها، وفي نهاية الأمر إلغاءها. كما أن الخطاب الصهيوني بعد عام 1967 وبعد ضم الأراضي الفلسطينية التي تحوي كثافة بشرية عالية اضطر أن يعترف بوجود شعب على الأرض، فلجأ لعملية تحايل كي يفرض الشعار القديم على الواقع. فمفهوم الحكم الذاتي الإسرائيلي يعني حقوق الفلسطينيين دون أن يكون لهم أي حقوق على الأرض (أي أن الفلسطينيين أصبحوا شعباً بلا أرض) . كما أن الطرق الالتفافية هي تعبير عن اعتراف ضمني بوجود الشعب الفلسطيني الذي لا يملك المستعمرون إلا "الالتفاف" حوله.
القومية اليهودية
Jewish Nationalism
«القومية اليهودية» عبارة مرادفة لمصطلح «الصهيونية» وهي تفترض أن اليهود يشكلون جماعة قومية أو شعباً يهودياً. فالنسق الديني اليهودي، من حيث هو تركيب جيولوجي، يحوي داخله تياراً قومياً قوياً جداً يرتبط ارتباطاً تاماً بالبنية الحلولية، إذ يرى اليهود أنفسهم كياناً دينياً متماسكاً يُسمَّى «بنو يسرائيل» يتمتع بعلاقة خاصة مع الإله الذي يحل فيهم ويمنحهم درجة عالية من القداسة ويتولى قيادتهم وتوجيه تاريخهم القومي المقدَّس الفريد الذي بدأ بخروجهم من مصر. وقد أرسل الإله التوراة إليهم باعتبارهم شعبه المختار. ولذا، فإن اليهودية، من هذا المنظور، قومية دينية، وهي بذلك لا تختلف كثيراً عن الأديان الوثنية الحلولية حيث يقتصر الدين والإله على شعب واحد دون غيره من الشعوب. وتتلخص مهمة هذا الشعب اليهودي المقدَّس في أنه يقف شاهداً على التاريخ وعلى وجود الإله أمام الشعوب الأخرى.(16/27)
اليهودية، إذن، من هذا المنظور، هي دين قومي عرْقي، أو قومية دينية مقدَّسة تمزج الوجود التاريخي المتعيِّن والتصور الديني المثالي. ولذلك، فهي ديانة حلولية تعرف ثنوية الأنا والآخر ولكنها لا تعرف الثنائية الفضفاضة الناجمة عن الإيمان بإله واحد منزَّه. ولذا فاليهودية لا تفرِّق بين الإله والتاريخ أو بين الأرض والسماء. ولذلك، فإننا نجد أن الملكوت السماوي وآخر الأيام يكتسبان في اليهودية الحلولية طابعاً قومياً، فهما مرتبطان بمجئ الماشيَّح الذي يأتي ليعود بشعبه إلى أرض الميعاد. وقد عرَّفت الشريعة اليهودية اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية أو من تهوَّد، وقد اعتمدت بذلك تعريفاً قومياً دينياً للهوية.
هذا من ناحية الرؤية. أما من ناحية الواقع التاريخي المتعيِّن، فنحن نرى أنه لا تُوجَد قومية يهودية أو شعب يهودي وإنما جماعات يهودية منتشرة في العالم تحكَّمت في صياغتها حركيتان أساسيتان متكاملتان:
1 ـ فالجماعات اليهودية لم تكن قط تشكل كتلة بشرية متماسكة تتبع مركزاً ثقافياً أو دينياً واحداً يحدد معايير مثالية أو واقعية يصوغ أعضاء هذه الجماعات رؤيتهم لأنفسهم وأسلوب حياتهم تبعاً لها، بل لم يكن لديهم ميراث ثقافي أو ديني واحد. فالجماعات اليهودية كانت منتشرة في كثير من بقاع الأرض داخل معظم التشكيلات الحضارية المعروفة وداخل البنَى التاريخية والقومية المختلفة، تتفاعل معها وتساهم فيها وترقى برقيها وتتخلف بتخلفها. فاليهودي في الأندلس كان عربياً، واليهودي في روسيا كان روسياً، وفي اليمن كان يمنياً، وهو أمريكي في الولايات المتحدة. وقد أدَّى هذا إلى تحوُّل أعضاء الجماعات اليهودية إلى تركيب جيولوجي غير متجانس، ولا يختلف ذلك عن العقيدة اليهودية بخاصيتها الجيولوجية.(16/28)
2 ـ وقد كان معظم الجماعات اليهودية يشكل جماعات وظيفية، وهي جماعات تحافظ على عزلتها وانفصالها، ويساعدها المجتمع على ذلك حتى يتيسر لها أن تلعب دورها الوظيفي. فهي، إذن، ذات سمات إثنية خاصة تميِّز كل واحدة منها عن أعضاء الأغلبية في المجتمعات التي يعيش اليهود بين ظهرانيها. ولكن هذه السمات الإثنية لم تكن قط سمات قومية عامة تسم كل اليهود أينما كانوا. فرغم أن كل جماعة يهودية كانت منفصلة عن محيطها، فإنها كانت تحدِّد هويتها من خلاله، كما أن انفصالها عن محيطها لا يعني بالضرورة اتصالها بأعضاء الجماعات اليهودية الأخرى. فاليديشية الجرمانية كانت تَعزل أعضاء الجماعة اليهودية عن محيطهم الثقافي السلافي في بولندا. ولكنها، مع هذا، لم تَكُن لها أية علاقة باللادينو (اللاتينية) التي كانت تَعزل يهود السفارد عن محيطهم العربي الإسلامي في الدولة العثمانية. أما العبرية (وهي اللغة الوحيدة المشتركة) ، فقد ظلت من ناحية الأساس لغة الصلاة واللغة التي كُتبت بها النصوص الدينية وحسب، أي أن العنصر المشترك لم يتعد في جوهره الصلوات والعبادات وبعض المؤلفات. وظلت العلاقة بين أعضاء الجماعات اليهودية علاقة دينية أو وظيفية باعتبارهم أعضاء في الجماعة الدينية نفسها أو أعضاء في جماعات تضطلع بالوظيفة نفسها في كثير من المجتمعات. وعلى كلٍّ، لم تكن الرابطة الدينية بمعزل عن الوظيفة الاقتصادية أو الاجتماعية تماماً إذ أن الجماعة الوظيفية تضرب حول نفسها العزلة ويساعدها في ذلك المجتمع المضيف. وتُعدُّ العقائد الحلولية من أهم آليات العزلة.(16/29)
لكن المجتمع الغربي استغنى عن الجماعات الوظيفية، وأخذ في تصفيتها بعدة طرق منها مساعدة أعضاء هذه الجماعات (ومن هؤلاء اليهود) على التخلص من خصوصيتهم الإثنية، وفي دمجهم في المجتمع أو تشجيعهم على الاندماج. واستجابةً لذلك، ظهرت حركة التنوير وحركة اليهودية الإصلاحية اللتان قامتا بتعريف ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» تعريفاً دينياً.
وقد عارضت الصهيونية هاتين الحركتين، وراحت تعمل على تحويل كلٍّ من الإحساس بالانتماء الديني إلى جماعة دينية واحدة والارتباط العاطفي بأرض الميعاد إلى شعور قومي وبرنامج سياسي. كما قامت الصهيونيةبعلمنة المفاهيم الدينية. فبعد أن كانت كلمة «شعب» تعني أن اليهود جماعة دينية قومية، أصبحت الكلمة في المعجم الصهيوني تعني «الشعب» بالمعنى القومي والعرْقي الذي كان سائداً في أوربا في القرن التاسع عشر. وقد تأثر الفكر الصهيوني بفكرة الشعب العضوي، أي الفولك، فنظر الصهاينة إلى اليهود كشعب عضوي قوميته عضوية وعناصره كافة (الأرض والتراث والشخصية واللغة ... إلخ) مترابطة عضوياً. وقد تعمقت هذه الفكرة في كتابات دعاة الصهيونية الإثنية العلمانية الذين نادوا بأن الانتماء القومي لليهود يستند إلى ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» و «التراث اليهودي» ، وما العقيدة اليهودية سوى جزء عضوي من هذا التراث. أما دعاة الصهيونية الإثنية الدينية، فإنهم يرون أن اليهودية دين قومي أو قومية دينية، وأن ما يربط اليهود كشعب هو دينهم القومي أو قوميتهم الدينية.(16/30)
وقد انطلق المشروع الصهيوني من هذا الافتراض، وأُسِّست الدولة الصهيونية تحقيقاً لفكرة القومية اليهودية. ولكن من الواضح أن القومية اليهودية هي رؤية غير واقعية وبرنامج إصلاحي ليس له ما يسنده في الواقع التاريخي، فقد كان اليهود في القرن التاسع عشر، عند ظهور الصهيونية، خليطاً هائلاً غير متجانس: بينهم يهود اليديشية من الإشكناز، ويهود العالم العربي، ويهود العالم الإسلامي من السفارد، واليهود المستعربة. كما كان هناك القرّاءون والحاخاميون الذين انقسموا بدورهم إلى أرثوذكس ومحافظين وإصلاحيين، هذا غير عشرات الانقسامات الدينية والإثنية والعرْقية الأخرى. وقد أطلق الصهاينة على كل هؤلاء اسم «الشعب الواحد» أو «أين فولك» حسب تعبير هرتزل. لقد طرحوا شعارهم، ونجحوا في تهجير نسبة مئوية محدودة وحسب إلى إسرائيل. بل إن الهجرة في كثير من الأحيان، لم تكن تتم لأسباب قومية وإنما لأسباب نفعية محضة. ويواجه الصهاينة أزمة في المصادر البشرية نتيجة لأن سلوك أعضاء الجماعات اليهودية في العالم لا يَصدُر عن إيمانهم بمقولة «القومية اليهودية» . ومن هنا، فإن الهجرة اليهودية ما زالت متجهة إلي الولايات المتحدة من ناحية الأساس. وهكذا، فإننا نجد أن أغلبية أتباع القومية اليهودية لا يزالون في المنفى يرفضون العودة إلى وطنهم القومي. ويتضح زيف مقولة «القومية اليهودية» في فشل الدولة اليهودية في تعريف اليهودي، أي في تعريف ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» . وحينما يهاجر أعضاء الجماعات اليهودية المختلفة إلى أمريكا اللاتينية، فإنهم يكتشفون عدم تجانسهم، إذ أن اليهودي الألماني يكتشف أن الصفات الإثنية المشتركة بينه وبين المهاجر الألماني غير اليهودي أكثر من السمات المشتركة بينه وبين أعضاء الجماعات اليهودية الآخرىن. وقد ظهرت هذه القضية في أمريكا اللاتينية أكثر من أية منطقة أخرى في العالم. وفي الولايات المتحدة، وفي دول الهجرة الأخرى مثل كندا(16/31)
وأستراليا، تُطرَح على المهاجرين هوية قومية جديدة عليهم تَبنِّيها. وقد فعل المهاجرون اليهود ذلك بكفاءة شديدة، واحتفظوا بشيء من يهوديتهم، ولكن هذه الملامح اتضح أنها مجرد ملامح يهودية داخل شخصية أمريكية واضحة. أما في أمريكا اللاتينية، فلا توجد هوية قومية جديدة، وإن وُجدَت فهي كاثوليكية أي استمرار للموروث الأوربي للقارة. وقد امتثل المهاجرون اليهود لهذا النمط، فأكدت كل جماعة يهودية مهاجرة ميراثها الإثني السابق، الأمر الذي أدَّى إلى تبعثر اليهود تماماً وانقسامهم إلى عشرات الجماعات وإلى ظهور انعدام تجانسهم بحدة. ويوجد في المكسيك، على سبيل المثال، عشرات الجماعات اليهودية من بينها جماعتان سوريتان، أي من أصل سوري، إحداهما دمشقية والأخرى حلبية! لكلٍّ منهما مؤسساتها. وفي الآونة الأخيرة، بدأت الحواجز تَسقُط، ولكن هذا يتم داخل إطار أمريكي لاتيني لا داخل إطار يهودي.
وتحاول الدولة الصهيونية بذل محاولات جاهدة لدمج المهاجرين الوافدين إليها. ولكن، مع هذا، يتضح عدم تجانسهم في انقسامهم الحاد. وحتى لو قُدِّر النجاح لمحاولة إسرائيل مَزْج أعضاء الجماعات اليهودية، فإن ثمرة هذه المحاولة لن تكون «الشعب اليهودي» وتحقيق «القومية اليهودية» وإنما ستكون كياناً جديداً يمكن تسميته «الشعب الإسرائيلي» و «القومية الإسرائيلية» .(16/32)
ويرفض كثير من المفكرين اليهود، وكذلك التنظيمات اليهودية، فكرة القومية اليهودية، إما من منظور ديني أو من منظور ليبرالي أو اشتراكي، فيرون أن اليهود ليسوا شعباً وإنما أقلية دينية، كما يرون أنهم ينتمون إلى الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها. ويرفض دعاة قومية الجماعات (الدياسبورا) فكرة القومية اليهودية العالمية المجردة والمرتبطة بفلسطين، ويرون أنه إذا كان ثمة انتماء قومي يهودي فهو عبارة عن انتماءات قومية مختلفة متنوعة مرتبطة بمجتمعات سواء أكانت هذه المجتمعات في شرق أوربا أم كانت في الولايات المتحدة. ومن ثم، يمكننا أن نتحدث عن «الجماعة اليهودية القومية في شرق أوربا» التي لا تختلف عن الأقليات القومية الأخرى، ولكن لا يمكننا أن نتحدث عن «الشعب اليهودي» بشكل عام. وثمة تيار فكري داخل إسرائيل يُسمَّى «الحركة الكنعانية» (نسبة إلى أرض كنعان) يرفض فكرة القومية اليهودية ويطرح بدلاً منها فكرة «القومية الإسرائيلية» .
وتتواتر كلمة «الشعب» في الكتابات الدينية عند اليهود، ولكن المقصود بهذه الكلمة هو جماعة دينية ذات عقيدة دينية وانتماء ديني واحد. كما نجد مصطلحات دينية مماثلة، مثل «الشعب المختار» و «أمة الروح» و «الشعب المقدَّس» ، وهي مصطلحات تهدف إلى الإشارة إلى تجمُّع ديني أو أخلاقي وحسب.
ولكن الصهيونية تستخدم التشابه بين المصطلح الديني والمصطلح القومي الشائع كدليل على أن اليهود أول شعب ظهر على الأرض وأول قومية في التاريخ. ومن ثم، فلابد أن يبتعد الباحث العربي عن استخدام مصطلحات مثل «الشعب اليهودي» و «القومية اليهودية» أو حتى «الصراع العربي اليهودي» لأنه لا يوجد بين الدين الإسلامي والقومية العربية من ناحية والدين اليهودي من ناحية أخرى أي صراع سياسي مسلح أو غير مسلح، وإنما الصراع عربي إسرائيلي، أي صراع بين العرب والمستوطنين الصهاينة الذين استوطنوا فلسطين عن طريق العنف.(16/33)
وفي بطاقة تحقيق الشخصية عند الإسرائيليين، توجد ثلاثة بنود: المواطنة، والدين، والقومية. فجميع المواطنين «إسرائيليون» ومن ذلك العرب. أما الدين، فيختلف فيه مواطن عن آخر، فهو الإسلام بالنسبة إلى المسلمين، والمسيحية بالنسبة إلى المسيحيين، واليهودية بالنسبة إلى اليهود. أما القومية، فهي عربية عند العرب، وبالنسبة إلى الإسرائيليين اليهود فلابد أن تكون القومية هي «اليهودية» ، إذ لابد أن يتفق بندا الدين والقومية (في حالة اليهود) حسب الرؤية الصهيونية.
الوطن القومي اليهودي
Jewish National Home
«الوطن القومي» مصطلح يتواتر في الكتابات الصهيونية والمعادية لليهود، ويعني أن اليهود لا ينتمون إلى أوطانهم وإنما إلى وطن قومي واحد هو فلسطين التي يُشار إلىها أيضاً باسم «إرتس يسرائيل» ، أو «إسرائيل» أو «أرض الميعاد» أو «الأرض المقدَّسة» أو «الأرض» وحسب. كما يعني المصطلح أن البلاد التي يقيم اليهود فيها إنما هي منفى أو مَهْجَر أو بابل (بإيحاءات السبي البابلي) أو مصر (بإيحاءات العودة والخروج) . ويعني المصطلح أيضاً أن اليهود في حالة شتات يشكلون دياسبورا، وهي حالة يشعرون بها منذ هَدْم الهيكل على يد تيتوس. وقد ورد المصطلح في وعد بلفور، رغم احتجاجات قيادة الجماعة اليهودية في إنجلترا، واكتسب شرعية سياسية منذ ذلك التاريخ.(16/34)
لكن مصطلح «الوطن القومي» مصطلح ليست له مقدرة تفسيرية عالية، إذ أن كثيراً من الوقائع التاريخية لا تسانده. ومن الثابت تاريخياً أن عدد اليهود خارج فلسطين فاق عددهم داخلها قبل هدم الهيكل. كما أن من الثابت أن أكبر الهجرات في تواريخ الجماعات اليهودية، والتي بدأت في أواخر القرن التاسع عشر، اتجهت إلى الولايات المتحدة (ولو كانت فلسطين وطن اليهود القومي لاتجهوا إليها) . وقد بلغت نسبتهم نحو 80% من جملة المهاجرين اليهود، بل لم يَعُد يُشار في الأدبيات الصهيونية إلى الولايات المتحدة باعتبارها منفى وإنما أصبح يُشار إليها باعتبارها وطناً قومياً آخر لليهود، وباعتبارها أيضاً «البلد الذهبي» (باليديشية: جولدن مدينا) الذي يحقِّق تطلعات المهاجرين المادية. ولا ندري هل هي وطن قومي ثان أم هي وطن قومي أول بالنسبة إلى اليهود؟ ففي الخطاب السياسي يأتي مصطلح «الوطن القومي» دائماً في صيغة المفرد إذ لا معنى له في صيغة المثنى أو الجمع. وعلى كلٍّ، فقد حسم يهود الولايات المتحدة القضية بأن حوَّلوا إسرائيل (فلسطين) من وطن قومي إلى مسقط الرأس والوطن الأصلي السابق، أما الولايات المتحدة فهي الوطن القومي الحالي الذي يعيشون فيه بالفعل، وبذا أصبح الأمريكيون اليهود أمريكيين يهوداً على غرار الأمريكيين العرب أو الأمريكيين الأيرلنديين. ولكن هذا يعني أن أسطورة الذات الجديدة تصفي الأسطورة الصهيونية، إذ أن مسقط الرأس (إسرائيل) هو البلد الذي يهاجر اليهودي منه لا إليه!
الدولة اليهودية
The Jewish State(16/35)
«الدولة اليهودية» اصطلاح مرادف لمصطلح «الدولة الصهيونية» . ونحن نفضل المصطلح الأخير لدقته إذ يفترض المصطلح الأول أن دولة إسرائيل هي استمرار للمملكة العبرانية المتحدة التي يُشار إليها بـ (الكومنولث الأول) . كما أن الاصطلاح يفترض وحدة اليهود في العالم، وأن هذه الدولة دولتهم التي تعبِّر عن إرادتهم وتطلعاتهم، وهذا أبعد ما يكون عن الصحة إذ لا تزال دولة إسرائيل هي دولة 20% من يهود العالم وحسب.
وعلاوة على كل هذا، يفترض المصطلح أيضاً يهودية هذه الدولة، وهذا أمر محل نقاش حتى في إسرائيل نفسها. فالدولة الصهيونية لا ترتبط بأية قيم أخلاقية يهودية، بل تسلك حسبما تملي عليها مصلحتها العملية. ولعل إيمانها بمصلحتها العملية هو الذي جعلها تحوِّل نفسها إلى ثكنات عسكرية يصعب وصفها باليهودية. ويُلاحَظ أن سكان إسرائيل من الصابرا لا يشعرون بالانتماء اليهودي، بل إن بعضهم يُكن الاحتقار ليهود العالم (الدياسبورا) الهامشيين. ولعله أمر طريف حقاً أن هذه الدولة التي تصف نفسها باليهودية لم تصل بعد إلى تعريف لليهودي.
ولذا، يظل مصطلح «الدولة الصهيونية» أكثر دقة وتحدداً في وصف الكيان الصهيوني، فهو يؤكد استيطانية الكيان القائم الآن في الشرق العربي وطموحاته الإحلالية، ويفصله عن أية تصورات دينية أو عاطفية.
الصهيونية العالمية
World Zionism
«الصهيونية العالمية» ترجمة للمصطلح الإنجليزي «ورلد زايونيزم World Zionism» . وقد شاع المصطلح في اللغة العربية. ويفترض هذا المصطلح أن الصهيونية حركة عالمية، أي تمارس نشاطها في أنحاء العالم بين جميع أعضاء الجماعات اليهودية في كل البلاد. وثمة خلل أساسي في المصطلح يعود إلى ما يلي:(16/36)
1 ـ نشأت الصهيونية في الغرب في البلاد الاستعمارية (البروتستانتية) في بداية الأمر، ثم تبناها يهود العالم الغربي (في شرق أوربا ثم غربها) لأغراض مختلفة. فالصهيونية ليست عالمية من ناحية النشأة، وخصوصاً أن 90%من يهود العالم كانوا يوجدون داخل التشكيل الحضاري الغربي مع نهاية القرن التاسع عشر وهي المرحلة التي نشأت فيها الصهيونية.
2 ـ كانت الصهيونية ولا تزال جزءاً من التاريخ الاقتصادي والسياسي والحضاري، والإمبريالية الغربية هي الآلية الأساسية لتحويل الصهيونية من مجرد فكرة إلى دولة استيطانية.
وعلى هذا، فإن الصهيونية لم تنشأ في العالم ككل أو داخل التاريخ العالمي بشكل مطلق، أو حتى بين كل أعضاء الجماعات الدينية والإثنية اليهودية المتناثرة في العالم، وإنما هي إفراز تشكيل حضاري محدَّد في لحظة زمنية محددة ولا يمكن دراستها خارج هذا التشكيل، ولا يمكن فهمها دون الرجوع إلى مراحل تطوره وأزماته والطريقة التي يحل بها هذه الأزمات. لكن هذا لا يعني، بطبيعة الحال، إسقاط السمات التي تُشكِّل خصوصية الحركة الصهيونية الغربية.
ولعل الإنسان الغربي أطلق صفة «العالمية» على الصهيونية للأسباب التالية:
1 ـ ينظر الخطاب الإنجيلي إلى اليهود باعتبارهم شعباً مختاراً وجزءاً من الدراما الكونية التي يتحرك في إطارها تاريخ العالم والعالمين. والتاريخ اليهودي ـ حسب الرؤية الإنجيلية ـ تاريخ مستقل عن تاريخ الأغيار. ومع هذا، يشكل هذا التاريخ الركيزة الأساسية لتاريخ العالم. وهذا الخطاب الإنجيلي متغلغل تماماً في الوجدان الغربي.(16/37)
2 ـ بعد أن ظهرت الصهيونية بين يهود الغرب، قامت بصهينة معظم يهود العالم، خصوصاً بعد إنشاء الدولة الصهيونية، ومن ثم فهي حركة عالمية بهذا المعنى. ولابد أن نسارع بالقول بأن الغالبية الساحقة من يهود العالم توجد الآن إما داخل التشكيل الحضاري الغربي (فرنسا ـ إنجلترا ـ روسيا) أو داخل التشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي (الولايات المتحدة ـ كندا ـ أستراليا ونيوزيلندا ـ أمريكا اللاتينية ـ جنوب أفريقيا ـ إسرائيل) ، وعلى وجه التحديد داخل التشكيل الاستعماري الاستيطاني الأنجلو ساكسوني.
3 ـ الحركة الإمبريالية التي حوَّلت الصهيونية إلى كيان استيطاني هي حركة عالمية رغم أصولها الغربية، فقد جعلت العالم كله مجالاً لحركتها والتهامها وافتراسها. والإمبريالية عالمية لا لأنها حركة نشأت بين كل البشر وإنما لأنها حوَّلت البشر كلهم إلى مستعمر أو مستعمَر. وتكتسب الصهيونية صفة العالمية من ارتباطها بالإمبريالية الغربية العالمية.
4 ـ يُلاحَظ أن الأدبيات السياسية الغربية، الصهيونية وغير الصهيونية، تستخدم كلمة «عالمي» بمعنى «غربي» . ولعل هذا يعود إلى أن الإنسان الأبيض في الغرب في القرن التاسع عشر كان يتصوَّر أنه مركز العالم وقمة رقيِّه، وأن الحضارات الأخرى حضارات متخلفة ستتطور لتلحق به وتصل إلى النموذج الحضاري العالمي نفسه. ويُلاحَظ في كتابات هرتزل أنه حينما يتحدث عن ضرورة إقامة المشروع الصهيوني "بضمان القانون الدولي العام"، فإن عبارة (القانون الدولي العام) تعني هنا (القانون الغربي) . ولذا، والتزاماً بالدقة، يجب أن نتحدث عن (الصهيونية الغربية) أو عن (الصهيونية) وحسب دون وصفها ليكون مفهوماً أنها حركة غربية وليست عالمية.(16/38)
الباب الثانى: التيارات الصهيونية
التناقضات الأساسية الثلاثة بين الحركات الصهيونية المختلفة
Three Basic Contradictions between Different Zionist Trends
قَبل كل الصهاينة الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة (والعقد الصامت بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية بشأن يهود العالم) ثم تم تهويد هذه الصيغة حتى يمكن تجنيد المادة البشرية المستهدفة. وقد ظهرت مجالات عديدة للخلاف بين الصهاينة قد تبدو لأول وهلة عميقة ولكنها في واقع الأمر سطحية إلى حدٍّ كبير، إذ أن رقعة الاختلاف تظل محكومة بالقبول المبدئي والجوهري للصيغة الأساسية الشاملة.
وحتى يمكننا طرح إطار تصنيفي جديد للتيارات الصهيونية المختلفة سنحاول حَصْر مصادر الخلاف وكيف تبدت في عدة نقاط محدَّدة.
وفي تصوُّرنا توجد ثلاثة مصادر أساسية للخلاف:
1 ـ الخلاف بين الصهاينة التوطينيين والاستيطانيين وهو ما نسميه «إشكالية الصهيونيتين» .
2 ـ الخلافات الأيديولوجية المختلفة بين الصهاينة، وهي الخلافات التي تعبِّر عن نفسها في عدة نقاط أهمها الخلاف بشأن الدولة الصهيونية (موقفها ـ حدودها ـ توجُّهها الأيديولوجي.. إلخ) .
3 ـ الخلاف بين الصهاينة الإثنيين الدينيين والإثنيين العلمانيين.
الصهيونيتان: التوطينية والاستيطانية
Two Zionisms: Settlement and Settler Colonial Zionism
تُستخدَم كلمة «صهيونية» للإشارة إلى عدة مدلولات مختلفة يمكن أن تضمها جميعاً الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، وهي الصيغة التي تم تهويدها بحيث أصبحت صالحة كإطار لكلٍّ من الصهاينة اليهود والصهاينة غير اليهود. وتوجد داخل هذه الوحدة العامة عدة انقسامات لعل أهمها ما نسميه «الصهيونيتين» . فنحن نذهب إلى أنه يوجد ضربان أساسيان من الصهيونية: صهيونية توطينية وأخرى استيطانية، لكلٍّ اتجاهه وتاريخه وجماهيره:(16/39)
1 ـ صهيونية توطينية. وقد ظهرت في بداية الأمر بين الصهاينة غير اليهود (من المسيحيين والعلمانيين) وبين يهود الغرب المندمجين، وعلى وجه الخصوص أثرياؤهم. ثم عبَّرت الصهيونية التوطينية عن نفسها في الصهيونية الدبلوماسية وصهيونية الدياسبورا. وجمهور هذه الصهيونية هم مؤيدو المشروع الصهيوني في العالم الغربي ويهود الغرب الذين يؤيدون المشروع الصهيوني ولكنهم لا ينوون الهجرة، وهم يشكلون غالبية يهود وصهاينة العالم، وكذلك كل يهود غرب أوربا والولايات المتحدة تقريباً.
2 ـ صهيونية استيطانية: وقد ظهرت في بداية الأمر على هيئة صهيونية تسللية ثم تحوَّلت إلى صهيونية استيطانية بعد مرحلة هرتزل وبلفور. وأهم التيارات الاستيطانية التيار العمالي، ويأتي معظم الصهاينة الاستيطانيين من يهود شرق أوربا.
وتقسيم «توطيني/استيطاني» ينصرف إلى المجال الذي يختاره كل صهيوني ليمارس نشاطه. ولنا أن نلاحظ وجود انقسامات فرعية داخل كل تيار بشأن التوجه السياسي (اشتراكي/رأسمالي) والموقف من التراث والهوية (ديني/علماني) . ويجب ألا نتصور أن هناك فصلاً قاطعاً بين الفريقين، فثمة تشابك وتداخُل بين الصهيونيتين (التوطينية والاستيطانية) قد يتبدَّى في الشخص الواحد نفسه، كما هو الحال مع وايزمان الذي قضى معظم حياته يقوم بنشاط في الخارج نيابة عن الداخل، ولكنه عاد بعد إعلان الدولة ليترأسها ويصبح من المستوطنين (وإن كان قد عاش في عزلة نظراً لأن زعيم الصهاينة الاستيطانيين ـ بن جوريون ـ لم يكن يرغب في أن يشاركه وايزمان السلطة) . ويظهر هذا التداخل في شخصية آحاد هعام، فيلسوف الصهيونية الإثنية العلمانية، الذي قام بجهود دبلوماسية ثم استوطن فلسطين نهائياً، ولكنه مع هذا ظل يشعر بالغربة فيها وبالحنين إلى المنفى والشتات!(16/40)
ويظهر التداخل في الوقت الحاضر حين يقرر يهودي من دول الكومنولث المستقلة (الاتحاد السوفيتي سابقاً) الهجرة إلى إسرائيل فيبدأ بالحديث عن هويته اليهودية ورغبته العارمة في الهجرة إلى وطنه القومي المزعوم، ثم يحصل على تأشيرة على أساس نيته الصهيونية الاستيطانية. ولكنه يغيِّر رأيه في النمسا ويقطع مسار هجرته ويتجه إلى الولايات المتحدة بدلاً من إسرائيل لينخرط في صفوف صهاينة الخارج التوطينيين. وهناك بطبيعة الحال الصهاينة الاستيطانيون الذين يتركون إسرائيل ليستوطنوا الولايات المتحدة ويستمروا في تأييد المشروع الصهيوني (ولكن من منظور توطيني هذه المرة) .
والجدير بالذكر أن للاتجاهات الصهيونية المختلفة فروعاً في الداخل والخارج. فهناك فروع للأحزاب العمالية مثل الماباي والمابام في الولايات المتحدة، ولكن الأساس التصنيفي يظل هو الأساس الذي نقترحه. فمثلاً، رغم أن التنظيم الذي يُقال له الماباي في الخارج مرتبط بتنظيم الماباي في الدولة الصهيونية من الناحية التنظيمية، فإن التنظيمين يؤديان وظيفتين مختلفتين تماماً، ولا يشتركان بالتالي إلا في الاسم والديباجات السياسية والعقائدية التي تتسم بالعمومية الشديدة (مثل الإيمان بأزلية الشعب اليهودي وعدم التفريط في شبر من أرض إسرائيل الكبرى والإيمان بالاقتصاد الاشتراكي، وهكذا) . ويكتفي أعضاء عمال صهيون في الولايات المتحدة أو إنجلترا بإرسال الأموال والتوقيعات وبرقيات التأييد، كما يحضرون كل المهرجانات الصهيونية ويرسلون الرسائل إلى الصحف المحلية وإلى أعضاء الكونجرس دفاعاً عن الدولة الصهيونية. وأما أعضاء الحزب المماثل في إسرائيل فهم الذين يقومون بالنشاط الاستيطاني من استيلاء على الأرض وقتال ضد السكان الأصليين وغزو أراضي الدول المجاورة.(16/41)
ولا يعني هذا أن الصهيونية أصبحت وحدة متكاملة، بين التوطينيين والاستيطانيين، بل العكس. فقد ظلت التوترات تعبِّر عن نفسها بحدة، وكل ما حدث أنه تم امتصاصها (وليس استيعابها) من خلال الخطاب الصهيوني المراوغ. وأهم هذه التوترات الصراع الذي نشب على قيادة المنظمة الصهيونية بين الصهاينة التوطينيين والصهاينة الاستيطانيين بعد إنشاء الدولة. وقد حُسم الخلاف باستيلاء الاستيطانيين على المنظمة تماماً. وحتى بعد إنشاء الدولة تظهر صراعات، فبعض الصهاينة التوطينيين لا يقنع بالعمل في مجاله في الخارج ويحاول أن يفرض توجهات بعينها على الداخل كما حدث في حالة برانديز. ويحدث أحياناً أن الصهاينة الاستيطانيين لا يقنعون بالدعم المالي والسياسي ويطلبون من الصهاينة التوطينيين أن يتخذوا مواقف أكثر راديكالية كما حدث في المؤتمر الثامن والعشرين (1972حينما تقدَّم بعض الصهاينة الاستيطانيين بمشروع قرار ينص على أن القادة الصهاينة الذين لا يستوطنون في إسرائيل بعد فترتين من الخدمة يفقدون الحق في ترشيح أنفسهم مرة أخرى، فانسحب كل مندوبي الهاداساه (أكبر تنظيم صهيوني في العالم والذي يمثل أكثر من نصف الوفد الأمريكي) احتجاجاً على الاقتراح. وحدث الشيء نفسه تقريباً حينما وقعت الأزمة بين الدينيين والعلمانيين في إسرائيل مؤخراً إذ قامت جماعة من العلمانيين بحرق معبد يهودي، وقامت جماعة من الدينيين برش الإعلانات الإباحية في محطات الأتوبيس، فألقى المفكر الإسرائيلي العلماني شلومو أفنيري بالتبعة على يهود الولايات المتحدة، الإصلاحيين والمحافظين المندمجين التوطينيين (والذين لا يكفون عن الشكوى من التزمت الديني في إسرائيل) قائلاً لهم إنه لو هاجر منهم 100 ألف وحسب، فإن هذا سيرجِّح كفة العلمانيين وسيتم تكوين الحكومة دون الحاجة إلى أصوات الأحزاب الدينية.(16/42)
والعكس يحدث أحياناً، إذ يجد الصهاينة التوطينيون أن سلوك حكومة المستوطنين تسبب لهم كثيراً من الحرج في مجتمعاتهم الديموقراطية، كما يحدث عادةً بعد ارتكاب المذابح الواضحة (مثل مذبحة صبرا وشتيلا) وبعد الغزوات الفاضحة (غزو لبنان) ، إذ يصبح من الصعب الحفاظ على أساطير كثيرة مثل «إسرائيل المُحاصَرة» أو «إسرائيل الباحثة عن السلام» وكما يحدث بعد حادثة مثل حادثة بولارد (المواطن الأمريكي اليهودي الذي قام بالتجسُّس على حكومة بلده لصالح الدولة اليهودية (.
ولكن معظم هذه الخلافات خلافات سطحية إذ تظل الصهيونية بشقيها التوطيني والاستيطاني متسمة بالوفاق. وقد عاد وفد الهاداساه المنسحب إلى قاعة المؤتمر بعد أن قرر منظمو المؤتمر أن مشروع القرار المقدم لم يكن دستورياً، ولا يزال معظم الصهاينة التوطينيين يؤيدون الدولة الصهيونية علناً ويقفون وراءها رغم كل توسعاتها. وتتولى المؤسسة الصهيونية القضاء على معظم الجماعات اليهودية والصهيونية المنشقة، وقد فعلت ذلك مع بريرا، وتحاول الشيء نفسه الآن مع التنظيمات اليهودية التي لا تقبل الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، أو توجِّه لها بعض النقد.
بعض الاختلافات الصهيونية بشأن الدولة الصهيونية
Some Zionist Disagreements Regarding the Zionist State(16/43)
«الدولة الصهيونية» مفهوم صهيوني محوري. والمشروع الصهيوني، في أهم صوره، يرى أن الحل الوحيد للمسألة اليهودية هو إنشاء "دولة يهودية ذات سيادة" (شعار المؤتمر الصهيوني الأول 1897] ) . ويُلاحَظ أن ثمة ترادفاً في الخطاب الصهيوني بين عبارتي «الدولة الصهيونية» و «الدولة اليهودية» . وقد أصبحت الصيغة الصهيونية الأساسية صيغة أساسية شاملة بعد أن تم تحديد الدولة الصهيونية إطاراً لعملية التوظيف. وقد قام هرتزل بصياغة المفهوم والعقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية الذي تتعهد بمقتضاه الحضارة الغربية بأن تقوم بنقل اليهود إلى فلسطين وتأسيس دولة وظيفية لهم فيها، ورعايتها وحمايتها وضمان بقائها واستمرارها نظير أن يقوم اليهود على خدمة مصالح الغرب. ومع صدور وعد بلفور، يستقر المفهوم تماماً وتتحدد ملامحه وآليات تطبيقه.(16/44)
ومع هذا، بدأت الدعوة لإنشاء الدولة قبل هذا التاريخ بين الصهاينة غير اليهود من المفكرين والزعماء أصحاب المطامع الاستعمارية في الشرق. وكانت هذه الدعوة غريبة على الجماهير اليهودية وعلى المفكرين اليهود، لأنهم كانوا إما متدينين ينتظرون مقدم الماشيَّح المخلِّص ليعود بهم ليؤسس هو الدولة (دون أي تَدخُّل بشري) ، أو علمانيين يدافعون عن الاندماج في أوطانهم. وقد طرح المفكر الصهيوني موسى هس الفكرة في منتصف القرن التاسع عشر في كتابه ذي الطابع الاستعماري الواضح روما والقدس، ولكن الكتاب لم يُتداوَل بين أعضاء الجماعات اليهودية ولم يكن معروفاً لديهم. وقد عالج ليو بنسكر الفكرة نفسها في كتابه الانعتاق الذاتي، غير أن فكره ظل مقصوراً على بعض قطاعات المثقفين في شرق أوربا، ثم تعرَّض هرتزل للموضوع نفسه في كتابه دولة اليهود وجعلها فكرة أساسية. وقد أدرك هرتزل حتمية الاعتماد على الإمبريالية كآلية لتحقيق المشروع الصهيوني، وضرورة أن تكون الدولة الصهيونية دولة وظيفية تابعة تستند شرعيتها إلى الوظيفة التي تضطلع بها وتحصل الدعم الاستعماري بسببها.
وقد أصبحت الدولة بعد مرحلة هرتزل وبلفور جزءاً من الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة. وكما هو الحال عادةً، نجد أن الإجماع الصهيوني لا ينصرف إلا إلى هذه الصيغة الأساسية الشاملة، أما ما عدا ذلك فهو موضع خلاف وصراع (دون قتال) بسبب الطبيعة المراوغة للخطاب الصهيوني. وقد واجهت الفكرة معارضة من اليهود الإصلاحيين، وبعض اليهود الأرثوذكس ودعاة القومية اليديشية، وحزب البوند والاشتراكيين، وذلك لأسباب مختلفة. كما أن الصهاينة التوطينيين عارضوا فكرة الدولة في بداية الأمر خوفاً من أن يُتهَموا بازدواج الولاء. ولم يُكتَب للفكرة أن تتحقق إلا حينما تبنَّت الدول الإمبريالية المشروع الصهيوني ثم فرضت التجمع الاستيطاني على الواقع العربي.(16/45)
والفكر الصهيوني يشبه في بنيته بنية العقائد العلمانية الشاملة في التشكيل الحضاري الغربي الحديث. فمع تزايد معدلات العلمنة، تزايدت أهمية الدولة حتى أصبحت الركيزة الأساسية للمجتمع ومصدر تماسكه الوحيد (بدلاً من القيم الدينية) ، ثم أصبحت الدولة المطلق موضع التقديس الذي يحل محل الكنيسة والإله وأصبحت مصلحة الدولة العليا الإطار المرجعي للمنظومة القيمية. ومع ظهور القومية العضوية، أصبحت الدولة الإطار الذي يعبِّر الشعب العضوي من خلاله عن ذاته ويحقق تماسكه العضوي. ثم يصل هذا التيار إلى ذروته مع الفكر الهيجلي إذ أصبحت الدولة الأداة التي تتوسل بها «الفكرة المطلقة» لتحقيق ذاتها، بل أصبحت تجسد الفكرة المطلقة في التاريخ.
والفكر الصهيوني لا يختلف، إلا في التفاصيل، عن الفكر الغربي، فالدولة اليهودية هي الإطار الذي سيعبِّر الشعب العضوي المنبوذ) أي المادة البشرية التي سيتم نقلها) عن هويته من خلاله. وتكتسب الدولة في الفكر الصهيوني دلالة أخرى هي فكرة الدولة الراعية الغربية. فقد أدرك الصهاينة من اليهود في مرحلة هرتزل أنهم لن يتأتى لهم تحقيق مشروعهم القومي إلا من داخل مشروع استعماري غربي. ومن هنا كان البحث عن دولة غربية عظمى تقوم بعملية نقل اليهود وتوطينهم وتأمين موطئ قدم لهم والدفاع عنهم ضد السكان الأصليين.
وبالتدريج، اكتسبت الدولة اليهودية أبعاداً دينية مطلقة وأصبحت هي آلية تَحقُّق الحلم المشيحاني بل مركز الحلول. وبعد إعلان الدولة الصهيونية بدأ كثير من اليهود ينظرون إليها باعتبارها الكنيس المركزي وإلى رئيس وزرائها باعتباره الحاخام الأعظم. ومع انتشار لاهوت موت الإله بين اليهود، أصبحت الدولة حرفياً هي تَجسُّد المطلق في العالم، الآن وهنا، فهي على حد قول أحد المفكرين اليهود «العجل الذهبي» (وقد تراجع هذا التيار نحو تقديس الدولة مع الانتفاضة وظهور لاهوت التحرير بين اليهود (.(16/46)
وقد نشأت عدة صراعات بين الصهاينة حول عدة قضايا نوجزها فيما يلي:
1 ـ موقع الدولة:
دارت أولى الصراعات حول موقع الدولة، وهو صراع دار بين الاستيطانيين والتوطينيين (قبل مرحلة هرتزل وبلفور) . فالتوطينيون الذين كان همهم التخلص من اليهود كانوا في عجلة من أمرهم، ولذا كانوا على استعداد "لأن يلقوا باليهود في أي مكان" (عبارة نوردو وجابوتنسكي) سواء في فلسطين أو خارجها. ومن هنا المشاريع الصهيونية المختلفة (العريش ـ شرق أفريقيا ـ الأحساء ـ ليبيا ـ مدغشقر.. إلخ) . وقد حُسم الأمر بعد بلفور فوُضعت فلسطين تحت الانتداب ودخلت الفلك الاستعماري وتقرَّر تحويلها إلى مكان لتوطين اليهود ومن ثم توقَّف الحديث عن موقع الدولة.
2 ـ آليات إنشاء الدولة:
يختلف الصهاينة فيما بينهم حول أسلوب إنشاء الدولة. ففي البداية كان هناك الصهيونية التسللية التي وقعت أسيرة وهم كبير، إذ تصوَّر التسلليون أن بإمكانهم الاستيطان دون مساعدة الإمبريالية الغربية وقد اختفى هذا التيار مع تأسيس المنظمة الصهيونية.(16/47)
ولكن حتى بعد تأسيس المنظمة وقبول المظلة الإمبريالية اختلف الصهاينة فيما بينهم. فدعاة الصهيونية الدبلوماسية (الاستعمارية) كانوا يرون أن الطريق الأسلم هو التفاوض مع القوى الاستعمارية والتأكد من ضمانها للدولة. أما دعاة الصهيونية الإثنية العلمانية، فقد كانوا يرون ضرورة اتباع أسلوب العمل الثقافي البطيء بين جماهير اليهود في العالم وفي فلسطين. أما الصهاينة العماليون الاستيطانيون، فكانوا يرون أن خير وسيلة هي خَلْق الحقائق الاستيطانية في فلسطين. وكان بعض التصحيحيين (التوطينيين) ممن ضاقوا ذرعاً بالوجود اليهودي في المنفى يجدون أن خير وسيلة هي التحالف الفوري مع القوى الإمبريالية وفَرْض أغلبية يهودية على الفلسطينيين بالقوة العسكرية لإنشاء وطن يهودي على ضفتي نهر الأردن. وكان جوزيف ترومبلدور يحلم باختزال كل المسافات الزمانية والمكانية بتكوين جيش يهودي جرار قوامه 100 ألف يهودي يقتحم فلسطين ويستوطن فيها، ثم عدل عن خطته «الرهيبة» وأخذ يفكر في جيش قوامه عشرة آلاف. لكنه لم يتمكن من تحقيق حلمه العسكري الضخم الأول ولا حلمه العسكري الهزيل الثاني. ولا تزال الإشكالية تعبِّر عن نفسها وإن أصبحت تنصرف إلى آليات إدارة الدولة وإلى كيفية التعامل مع العرب.
3 ـ حدود الدولة:(16/48)
ظهر خلاف عنيف بين الصهاينة حول حدود الدولة. وهذا يعود إلى عدة أسباب، من بينها أن إرتس إسرائيل ليست ذات حدود معروفة، كما أن الدولة العبرانية القديمة لم تكن لها حدود مستقرة. وكان هناك من الصهاينة مَنْ يدرك أهمية الموازنات الدولية ويقنَع بحدود تتفق مع قرار الدولة الراعية. ولكن كان هناك أيضاً مَنْ لا يدرك هذه الموازنات ويظل يدور في إطار الرؤى الحلولية الدينية والتاريخية القديمة وأحلام النيل والفرات. وبعد إنشاء الدولة، لم تُحسَم المسألة قط. فهناك من يحاول ربط حدود الدولة بالكثافة البشرية اليهودية. ومع تصاعد الأزمة السكانية الاستيطانية ظهر دعاة ما يُسمَّى «الصهيونية السوسيولوجية» أو «الصهيونية السكانية» المهتمون بالطابع اليهودي للدولة، وهم يطالبون بحد أدنى على عكس دعاة ما يُسمَّى «الصهيونية العضوية الحلولية» و «صهيونية الأراضي» ، فهؤلاء يصرون على الحد الأقصى. وتعبِّر الإشكالية عن نفسها في الوقت الحاضر من خلال الحديث عن الحدود الآمنة للدولة، إذ تتغير الرؤية للحدود بتغيُّر الرؤية لأمن الدولة ومقوماته.
4 ـ التوجُّه الأيديولوجي للدولة:(16/49)
لم تتعرض الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة بعد بلفور للتوجُّه الأيديولوجي للدولة، إذ يبدو أن الصهاينة التوطينيين كانوا واعين بحقائق الموقف في فلسطين، وبصعوبات الاستيطان. كما لم يكن توجُّه الدولة الصهيونية يعنيهم من قريب أو بعيد مادامت تؤدي الأغراض المطلوبة منها، مثل إبعاد يهود شرق أوربا عنهم، والقيام بدور المدافع عن المصالح الإمبريالية. ولذلك، فإنهم لم يمانعوا قط في تأييد بعض الأفكار والممارسات الصهيونية التي ترتدي زياً اشتراكياً. ولعل الصيغة المراوغة التي توصلت إليها المنظمة الصهيونية العالمية بشأن الاستيطان كانت محاولة للتوفيق بين كل الصهاينة والجمع بينهم وراء الحد الأدنى الصهيوني، فقد تحدَّد هدف الحركة الصهيونية في الحصول على أراض في فلسطين كي تكون ملكاً للشعب اليهودي ولا يمكن التفريط فيها، وأن يكون الصندوق القومي اليهودي قائماً كلياً على تبرعات تلقائية من اليهود في جميع أنحاء العالم. فالهدف هنا لم يحدد شكل الدولة الصهيونية، ولا شكل ملكية الأرض، ولا المُثل الاجتماعية أو العقائدية الظاهرة أو الكامنة، وإنما تحدَّث فقط عن الحصول على أرض فلسطين كي تكون ملكاً للشعب اليهودي بشكل مبهم ومجرد. ولهذا، يَصعُب الحديث عن يمين أو يسار داخل الحركة الصهيونية، فمن الناحية البنيوية يتفق الجميع على الحد الأدنى.
أما الشكل الاجتماعي والمضمون الطبقي لهذه الدولة، فهو أمر متروك لكل فريق بحيث يستمر الحوار بشأنه أو الصراع حوله دون قتال. بل إننا نجد أن الرأسماليين الصهاينة يقبلون بعض الأشكال الاشتراكية وأن الاشتراكيين يقبلون كثيراً من الممارسات الرأسمالية، كما أن المتدينيين يغضون الطرف عن كثير من ممارسات أعضاء النخبة الإلحادية. وكثير من أعضاء النخبة يؤدون بعض الشعائر الدينية رغم إلحادهم، إذ يدرك الجميع أن ثمة صيغة أساسية تنتظمهم جميعاً.
5 ـ التكوين السكاني للدولة:(16/50)
نشأ صراع حول التكوين السكاني للدولة، إذ تنبَّه بعض الصهاينة منذ البداية إلى أن طبيعة الدولة الصهيونية كدولة إحلالية شاملة ستُؤلِّب السكان الأصليين ضدها وتجعلها تعيش في صراع دائم، ومن ثم ظهرت فكرة الدولة ثنائية القومية التي دعا إليها بوبر وماجنيس وجماعة إيحود وحزب المابام. ولكن معظم الصهاينة أصروا على الطبيعة الإحلالية الشاملة للدولة الصهيونية. وقد خمد الصراع بين الفريقين ولكنه عاد إلى الظهور في أشكال أخرى، من بينها الصراع بين دعاة الصهيونية السوسيولوجية ودعاة صهيونية الأراضي.
6 ـ نطاق سيادة الدولة:
طُرح سؤال بشأن نطاق سيادة الدولة الصهيونية: هل هي دولة الشعب اليهودي بأسره، داخل حدودها وخارجها، أم أنها دولة المستوطنين الصهاينة (وهو الصراع نفسه بين التوطينيين والاستيطانيين) . ويحاول الاستيطانيون أن يؤكدوا أن الدولة هي دولة الشعب اليهودي بأسره، ولذا تم إعلان قيام الدولة عن طريق مجلس قومي يتحدث باسم كل اليهود، سواء في فلسطين أو في خارجها.
وقد أصدرت الدولة الصهيونية قوانين كثيرة، وأقامت هيئات مختلفة بهدف ترجمة مفهوم الشعب اليهودي إلى واقع قائم. ومن أهم هذه القوانين قانون العودة الذي يمنح جميع اليهود حق مغادرة مسقط رأسهم والعودة إلى "وطنهم القومي". وتعمل المنظمة الصهيونية العالمية على تكريس الوحدة اليهودية دون أية مراعاة للحدود الوطنية للدول المختلفة. ويحدد ميثاق المنظمة مهمتها بأنها "لمُّ شمل المنفيين في أرض إسرائيل التاريخية، وتدعيم وحدة الشعب اليهودي".(16/51)
وتأسيساً على هذا الهدف الصهيوني/الإسرائيلي، وعلى أساس هذا الأسلوب في العمل، فإن ميثاق المنظمة الصهيونية العالمية يتحدث عن واجبات المنظمة تجاه الدولة، مثل "تقوية دولة إسرائيل"، و"تعبئة الرأي العام العالمي" لتأييدها، ووردت بالميثاق أيضاً إشارة إلى "الأنشطة التي تتم خارج إسرائيل"، وقد أدَّى هذا المفهوم إلى درجة من التوتر. فالتوطينيون حاولوا، من خلال المنظمة، فَرْض سيطرتهم على الدولة، ولكن الاستيطانيين نجحوا في عزلهم والهيمنة على المنظمة. وقد استمر الصراع بعد انتصار الاستيطانيين، إذ يحاول التوطينيون أن يؤكدوا أن الدولة ليست لها سيادة عليهم وإنما على مواطنيها وحسب. وهذا اتجاه له صداه في إسرائيل إذ توجد جماعات ترى أن الدولة الصهيونية هي دولة الإسرائيليين وحسب (الحركة الكنعانية وغيرها) .
وهكذا نرى أن الاختلافات بين الاتجاهات الصهيونية المختلفة إنما ينصرف إلى موقع الدولة والآليات المتبعة في إنشائها (وإدارتها) أو حدودها أو توجُّهها الأيديولوجي أو تكوينها السكاني أو نطاق سيادتها. ولكن ثمة اتفاقاً على المبدأ نفسه، أى ضرورة إنشاء الدولة. كما أن هناك قبولاً للعقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن وظيفية الدولة. ومن هنا كانت الوحدة الأساسية بين كل الصهاينة.(16/52)
ومع هذا، لجأت الحركة الصهيونية إلى أسلوب التدرج لتعلن عن حدها الأدنى الصهيوني بسبب الموازنات الدولية، وبسبب العلاقة المتوترة بين الاستيطانيين والتوطينيين، وبسبب الخوف من السكان المحليين. ويمكننا متابعة هذا التدرج بتأمل قرارات المؤتمرات الصهيونية المختلفة. فإذا ما نظرنا إلى قرارات المؤتمر الصهيوني الأول (1897 ثم إلى قرارات مؤتمر بلتيمور (1942) ، ثم إلى قرارات المؤتمر الصهيوني السابع والعشرين الذي عُقد في القدس (1968 للاحظنا التباين الشاسع ولرأينا كيف أن الحركة صاعدة من الحد الأدنى إلى الحد الأقصى. فقد صيغت قرارات المؤتمر الأول بشكل لا يزعج الأغيار (المطلوب عونهم في ذلك الوقت) ولا يزعج حكومة سويسرا (التي عُقد على أرضها المؤتمر) ولا يزعج يهود الغرب المندمجين (المطلوب دعمهم) ولا ينبه السكان الأصليين (المطلوب تصفيتهم) . ولذلك طلب المؤتمر إقامة «وطن قومي» (وليس دولة) في فلسطين يضمنه «القانون العام» (وليس الاستعمار الغربي ولا العنف أو الإرهاب) . كما دعا المؤتمر إلى تقوية الوعي والعواطف اليهودية وحسب دون أن يؤدي هذا إلى أي ازدواج في الولاء. ولم تصبح فكرة الدولة الصهيونية الشعار الرسمي للحركة الصهيونية إلا عام 1942 في مؤتمر بلتيمور، غير أن المُؤتمرين الصهاينة عبَّروا في قرارات هذا المؤتمر عن أملهم في انتصار الإنسانية والديموقراطية وما شابه ذلك، كما رحبوا بالتعاون مع العرب وبالبعث العربي اليهودي المشترك. وبرغم أن المطلقات الحلولية بدأت في الظهور، فإن الصياغة ظلت ديموقراطية ليبرالية إلى حدٍّ كبير. أما قرارات المؤتمر السابع والعشرين الذي عُقد بعد حرب يونية وبعد "توحيد" القدس على الطريقة الصهيونية وبعد ضم أراض عربية، فقد جعلت حدود الدولة الصهيونية تقترب بعض الشيء من تصوراتهم عن الحدود التاريخية أي المقدَّسة. ونحن هنا نجد الحلولية العضوية تسفر عن وجهها وأن الأهداف المعلنة قد قطعت شوطاً(16/53)
كبيراً في رحلتها إلى المطلق، فأصبحت أهداف الصهيونية هي وحدة الشعب اليهودي، ومركزية دولة إسرائيل في حياته، وتجميع المنفيين من الشعب اليهودي في وطنه التاريخي عن طريق الهجرة من جميع البلاد، وتدعيم دولة إسرائيل القائمة على مُثُل الأنبياء في العدل والسلام، والمحافظة على أصالة الشعب اليهودي بتنمية التعليم اليهودي واللغة العبرية اليهودية والثقافة اليهودية وتقوية التحالف الإستراتيجي مع الحضارة الغربية.
الصراع بين الإثنيين الدينيين والإثنيين العلمانيين
Conflict between Religious and Secular Ethnic Zionists
نشب صراع حاد بين الصهاينة الإثنيين الدينيين والإثنيين العلمانيين. ولفهم طبيعة الصراع بإمكان القارئ أن يعود للأبواب التالية: «الصهيونية والعلمانية الشاملة» ـ «الصهيونية الإثنية الدينية» ـ «الصهيونية الإثنية العلمانية «.
مواطن الاختلاف بين التيارات الصهيونية المختلفة
Points of Disagreement between Various Zionist Trends
قد يكون من المفيد حصر بعض الموضوعات الأساسية التي يختلف الصهاينة بشأنها، وكل موضوع سيأخذ شكل سؤال يجيب عنه كل تيار صهيوني بطريقته. ويُلاحَظ أن طريقة الإجابة على السؤال تُحدِّدها ثلاثة عناصر أساسية: هل الصهيوني توطيني أو استيطاني؟ هل الصهيوني إثني ديني أو إثني علماني؟ هل الصهيوني اشتراكي أو رأسمالي ... إلخ؟ (كان هناك تساؤلات تُطرَح قبل مرحلة هرتزل وبلفور تم حسمها فيما بعد وقد استبعدناها من قائمة الأسئلة على قدر المستطاع) .
1 ـ ما الموقف من اليهودية؟
* عقيدة الشعب اليهودي التي يجب اتباعها.
* فلكلور الشعب اليهودي الذي يجب الحفاظ عليه.
* تراث ميت يشكل عبئاً على الشعب اليهودي لابد من التخلص منه.
2 ـ من هو اليهودي؟
* إشكنازي وحسب.
* كل يهود العالم.
* من يؤمن باليهودية.
* من وُلد لأم يهودية.
* من تهود حسب الشريعة (أى على يد حاخام أرثوذكسي) .
* من يشعر في قرارة نفسه أنه يهودي.(16/54)
* من يكتشف أن جده كان يهودياً.
3 ـ ما الموقف من ظاهرة العداء لليهود؟
* ظاهرة حتمية أزلية.
* ظاهرة سلبية يمكن القضاء عليها أو تخفيف حدتها.
* ظاهرة سببها اليهود أنفسهم (باعتبار أنهم شعب مختار أو شعب طفيلي أو شعب يرفض الاندماج أو شعب ذو وضع طبقي متميِّز) .
4 ـ ما طبيعة هذا الشعب اليهودي؟
* شعب مقدَّس.
* شعب مختار.
* طبقة وسطى هرمها الإنتاجي مقلوب.
* مجموعة من الطفيليين.
* شعب مثل كل الشعوب.
* قومية عضوية.
5 ـ من ينبغي نقله من أعضاء هذا الشعب؟
* كل اليهود (وتصفى الدياسبورا) .
* الفائض اليهودي البشري وحسب.
* فقراء اليهود.
* يهود اليديشية.
* أي يهودي غير مندمج.
6 ـ ما سبب النقل (نظرية الحقوق) ؟
* كي يعود الشعب المختار لأرض الميعاد ليؤسس دولته.
* كي يعود اليهود (الشعب الشاهد) إلى أرض الميعاد حيث يتم تنصيره تعجيلاً بالخلاص.
* طفيلية اليهود التي لابد من القضاء عليها (أي تطبيع الشخصية اليهودية) .
* فائض بشري لابد من التخلص منه.
* ضحايا دائمون للأغيار.
* مادة استيطانية جيدة.
* رُسُل الحضارة الغربية البيضاء الذين سيأتون بالتقدم ويشكلون قاعدة للاستعمار الغربي.
* تثوير المنطقة على يد الاشتراكيين اليهود عن طريق إقامة مجتمع اشتراكي.
* مساعدة الإمبريالية الغربية.
7 ـ ما طبيعة الدولة الصهيونية؟
* وطن قومي وحسب.
* دولة رأسمالية.
* دولة اشتراكية.
* دولة دينية.
* دولة فاشية.
* دولة مستقلة عن الغرب.
* دولة تابعة للغرب.
8 ـ ما حدود الدولة؟
* قرار التقسيم.
* حدود 48.
* ضفتا نهر الأردن.
* من النيل إلى الفرات.
* حدود عملية تتحدد حسب عدد المهاجرين المستوطنين.
* حدود جغرافية آمنة.
* حدود تحددها القوة الذاتية للدولة.
9 ـ ما وظيفة الدولة؟
* دولة قومية للشعب اليهودي.
* واحة للديموقراطية الغربية.
* مكان لتطبيع اليهود وتخليصهم من طفيليتهم.(16/55)
* قاعدة للمصالح الغربية (ضد الوحدة العربية وفي مواجهة القومية العربية والشيوعية) .
* مكان يحقق اليهود فيه هويتهم الدينية والإثنية.
* مكان يحقق اليهود فيه مستوى معيشياً مرتفعاً.
* مركز ثقافي لكل يهود العالم.
* قاعدة للنظام العالمي الجديد (ضد الإسلام) .
10 ـ ما علاقة يهود العالم بالدولة؟
* هي الدولة التي يستوطنون فيها والتي عليهم أن يستوطنوا فيها.
* دعم الاستيطان.
* تكوين مراكز قوة وضغط (لوبي) في بلادهم لدعم الدولة.
* التبعية للدولة اليهودية.
* تبعية الدولة اليهودية لهم.
* الدولة هي مجرد مركز ثقافي لهم.
11 ـ ما فلسطين؟
* أرض الميعاد.
* موقع إستراتيجي بين آسيا وأفريقيا.
* بقعة جيدة للاستثمار.
12 ـ ما مصير العرب؟
* لابد من رحيلهم من خلال الإقناع.
* لابد من رحيلهم من خلال العنف.
* دولة مزدوجة الجنسية.
إن شقة الخلاف واسعة حيث يجيب كل تيار صهيوني عن الأسئلة بطريقة مختلفة. ومع هذا، تظل البنية الكامنة هي الصيغة الشاملة التي تفترض أن المادة البشرية اليهودية سيتم نقلها إلى فلسطين لإقامة دولة وظيفية بمساعدة الاستعمار الغربي. ثم تضاف إليها أية ديباجات تروق للصهيوني. فالمادة البشرية يمكن أن تكون الشعب المختار أو طليعة الطبقة العاملة ... إلخ.
التيارات الصهيونية: إطار تصنيفي
Zionist Trends: Framework for Classification
نستخدم مصطلح «التيارات الصهيونية» للإشارة إلى التيارات الفكرية والتنظيمية داخل الحركة الصهيونية. ويُلاحَظ أننا لم نستخدم كلمة «مدارس» لأن هذه الكلمة قد توحي بأن ثمة اختلافات عميقة وجوهرية بين تلك التيارات، وهو أمر مناف للحقيقة. أما الصراعات داخل التيارات المختلفة فنشير إليها باعتبارها «اتجاهات» .(16/56)
وتعود الوحدة الأساسية بين التيارات الصهيونية المختلفة إلى أنها تدور في إطار الصيغة الصهيونية الأساسية بعد أن تحولت إلى صيغة أساسية شاملة وبعد تهويدها. فمهما احتدم الصراع بين تيار وآخر، يظل هناك الاتفاق المبدئي على الأهداف النهائية وعلى آليات تنفيذها. ومع هذا، تحدُث بعض الانقسامات داخل التيارات الصهيونية يمكن تصنيفها على النحو التالي:
أولاً: التقسيم على أساس مجال النشاط الصهيوني.
ينقسم الصهاينة من هذا المنظور إلى صهاينة استيطانيين يمارسون نشاطهم في فلسطين، وإلى آخرين توطينيين في الخارج (انظر: «الصهيونيتان» ـ «الصهيونية التوطينية» ـ «الصهيونية الاستيطانية» ) .
ثانياً: التقسيم على أساس إثني (ديني/علماني) .
ينقسم الصهاينة من المنظور الإثني إلى تيارين: صهيونية إثنية دينية وأخرى إثنية علمانية (انظر: «الصهيونية الإثنية الدينية» ـ «الصهيونية الإثنية العلمانية» ) . والتقسيمان السابقان يتعاملان مع اليهود على مستويين مختلفين، ومن ثم فهما لا يتداخلان ولا يوجد بينهما أي تناقض. وثمة تكامل بينهما، فيمكن أن تبذل الصهيونية التوطينية (التي استوعبت الصهيونية الدبلوماسية والسياسية الاستعمارية وصهيونية يهود الغرب المندمجين) الجهود المكثفة وتقوم بالمحاولات الدائبة لتأمين الدعم الاستعماري وإيجاد آليات إخلاء أوربا من اليهود ونَقْلهم خارجها. وتصوغ الصهيونية الإثنية (الدينية والعلمانية) المصطلح اللازم لإثارة حماس الجماهير المطلوب نقلها، وذلك بإطلاق اسم «الشعب اليهودي» عليها وبربطها عاطفياً بفلسطين، أو «إرتس يسرائيل» كما يسمونها. أما الصهيونية العمالية الاستيطانية، فإنها تُقدِّم المظلة العسكرية والسياسية الواقعية واللازمة لعملية الاستيطان في بيئة معادية. وفي تصوُّرنا أن هذه الطريقة لتصنيف التيارات الصهيونية ذات قيمة تفسيرية عالية وتشكل الإطار الحقيقي للانقسامات الصهيونية.(16/57)
ثالثاً: التقسيم على أساس إثني (إشكنازي/سفاردي، وغربي/شرقي (.
فرغم عدم اشتراك يهود البلاد العربية في إفراز الفكر الصهيوني أو الحركة الصهيونية، ورغم أن الصهيونية (بشقيها الشرقي الاستيطاني والغربي التوطيني) لم تتوجه إليهم بشكلٍّ خاص ولم تحاول تجنيدهم بشكل عام وواسع قبل عام 1948، إلا أن إنشاء الدولة قد خلق حركيات تتخطى إرادتهم. كما أن حاجة الدولة الصهيونية إلى طاقة بشرية (بعد عزل يهود الشرق أو اختفائهم، وبعد رفض يهود الغرب الهجرة) ، جعلها تهتم بهم وتجندهم وتفرض عليهم في نهاية الأمر مصيراً صهيونياً، أي الخروج من أوطانهم. كما أن رغبتهم في الحراك الاجتماعي (فيما نسميه الصهيونية النفعية) قد ساعدت على ذلك. وقد استقرت أعداد كبيرة منهم في الدولة الصهيونية، وإن كان من الملحوظ أن أعداداً أكبر قد استقرت خارجها.
والانقسام على أساس إثني (إشكنازي/سفاردي، وغربي/شرقي) هو انقسام مهم وخطير، فرغم أنه لم يؤثر في الأطروحات الفكرية النظرية الصهيونية الأساسية إلا أنه ترك أعمق الأثر في حركيات الدولة الصهيونية.
رابعاً: التقسيم على أساس العقيدة السياسية.
ينقسم الصهاينة من المنظور السياسي إلى قسمين أساسيين: اشتراكي (عمالي) ورأسمالي ليبرالي من دعاة المشروع الحر. وهو تقسيم ذو قيمة تفسيرية ضعيفة، وذلك بسبب طبيعة الدولة الصهيونية الوظيفية وقيام الإمبريالية الغربية بتمويلها بكل قطاعاتها الرأسمالية والاشتراكية. وهناك تصنيفات سياسية أخرى مثل انقسام الصهاينة إلى ديموقراطيين وفاشيين، وهكذا. لكن هذا التقسيم لا يقل في ضعفه من ناحية مقدرته التفسيرية عن التقسيم على أساس اشتراكي/رأسمالي للسبب السابق نفسه. ولعله، بعد تَساقُط المنظومة الاشتراكية في العالم، لم تَعُد لهذا التقسيم قيمة كبيرة. وهناك أيضاً الانقسام على أساس حدود الدولة ومستقبلها.(16/58)
ونحن نقترح هذا الإطار كأساس تصنيفي لكل التيارات الصهيونية إذا نظرنا إليها من منظور الصهيونية ككل لا من منظور إسرائيل وحسب. ولذا، فإننا نذهب إلى أن الصهيوني لابد أن يكون واحداً من أربعة انتماءات محتملة:
1ـ أ) صهيوني توطيني ديني.
ب) صهيوني توطيني علماني.
2ـ أ) صهيوني استيطاني ديني.
ب) صهيوني استيطاني علماني.
وخريطة الأحزاب في التجمُّع الصهيوني تعكس هذه الاختلافات، فتُقسَّم الأحزاب حسب الأيديولوجية (مشروع حر مثل الليكود و"عمالية" مثل المعراخ) . وحسب ازدواجية الديني/العلماني (أحزاب دينية مثل مزراحي وأحزاب علمانية مثل ميرتز) . وحسب ازدواجية الشرقي والغربي (حزب جيشر السفاردي وحزب إسرائيل بعاليا الروسي) . وحسب الموقف من حدود إسرائيل وتكوينها السكاني (موليديت وميرتس) . ويمكن أن يعكس حزب واحد كثيراً من هذه الازدواجيات أو يتأرجح بينها (شاس السفاردي الديني الذي يؤيد التوسع وضم الأراضي أحياناً ويتراجع عن ذلك أحياناً) . ولكن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة تظل في البداية العقد الاجتماعي الصامت والمرجعية النهائية التي يتقبلها الجميع.
الصهيونية التوفيقية
Synthetic Zionism
مصطلح «الصهيونية التوفيقية» تعبير آخر عما يُسمَّى «الصهيونية التركيبية» (بالإنجليزية: سينثيتيك زايونيزم Synthetic Zionism) . وهو مصطلح استخدمه وايزمان في المؤتمر الصهيوني الثامن 1907 حين طالب الصهاينة العمليين والصهاينة الدبلوماسيين بمزج أساليبهم في العمل. وقد أكد وايزمان أنه لا يرفض الأساليب الدبلوماسية (الاستعمارية) ولكنه يجدها غير كافية في حد ذاتها إذ لابد أن يساعدها نشاط استيطاني، وهو بذلك يكون قد قَبل الصهيونية الاستيطانية والصهيونية التوطينية.(16/59)
وقد عبَّر أتو ووربورج، رئيس المنظمة منذ عام 1911 وحتى عام 1920، عن هذه الصهيونية التوفيقية بشكل أدق إذ قال: إن "الحق التاريخي الذي تستند إليه ملكيتنا لفلسطين ... لا تأثير له وحده وفي حد ذاته على الدول الكبرى. بل يتوجب علينا إيجاد صيغة عصرية لذلك الحق تضاف إليه. وهذه الصيغة تقوم على برهنتنا، إن لم يكن شرعياً أو حقوقياً (دي جوري de jure) فبحكم الواقع الفعلي (دي فاكتو de facto) ، على أن فلسطين تخضع اقتصادياً لنفوذنا، وأن جميع ما أحرزته تلك البلاد من تَقدُّم كبير وملموس يرجع في الأصل إلى مبادرتنا وقوة وسائلنا الاقتصادية وفعاليتها ولم ينشأ إلا بفضلها". وهو هنا لا يشير إلى الصهيونية الدبلوماسية التوطينية وحسب، أو إلى الصهيونية الاستيطانية وحسب، وإنما يشير أيضاً إلى الصهيونية الإثنية (الحق التاريخي) ، كما أنه ينظر إلى فلسطين من منظور التيارات الصهيونية الثلاثة وإن كان يؤكد أهمية الاستيطان وسياسة خلق الحقائق.
ولعل كلمات أوسيشكين (بعد وفاة هرتزل) هي أدق التصريحات، فقد اقترح العودة لا إلى صهيونية أحباء صهيون الاستيطانية ولا إلى الصهيونية الروحية (الصهيونية الإثنية) ولا إلى الصهيونية الدبلوماسية (التوطينية) وإنما إلى مزيج من هذه التيارات الثلاثة معاً، أي إلى الصهيونية السياسية كما نص عليها برنامج بازل. وهي، إذن، دعوة إلى الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المُهوَّدة وإلى وحدة كل التيارات الصهيونية داخل إطار هذه الوحدة.(16/60)
وقد حقق الصهاينة قدراً كبيراً من الوحدة عبر تاريخهم. فأثناء المحادثات بشأن وعد بلفور، نجد أن وايزمان التوطيني يبذل جهوداً دبلوماسية غير عادية ويستفيد من التغيرات الدولية من أجل تحقيق هدف استيطاني (استصدار ضمان دولي لعملية الاستيطان الصهيوني في فلسطين) ، وفي خلفية هذه النشاطات كان يوجد آحاد هعام (أستاذ وايزمان ومؤسِّس التيار الصهيوني الإثني العلماني) يزودهم منذ عام 1908 بالمشورة وينصحهم بأن يبحثوا عن موافقة وتأييد بريطانيا لمشاريعهم الاستيطانية المختلفة. ثم يَصدُر وعد بلفور بالفعل على هيئة رسالة موجهة إلى أحد أثرياء الغرب المندمجين الذين غيَّروا موقفهم من رفض المشروع الصهيوني إلى قبوله.(16/61)
ويمكننا أن نقول إن الصهيونية الحقة، شأنها في هذا شأن إسرائيل، هي الصهيونية التي تمزج جميع التيارات الصهيونية؛ عمالية كانت أو رأسمالية، راديكالية أو تصحيحية، دينية أو علمانية، توطينية أو استيطانية، ذلك أن صهاينة الخارج يتحركون على الصعيد السياسي لصالح المُستوطَن الصهيوني ويقومون بتجنيد يهود العالم وراءه ويجمعون الضرائب لدعمه (الصهيونية التوطينية، أي كل التيارات الصهيونية في الخارج) . ويقوم المستوطنون بخلق حقائق جديدة (الصهيونية الاستيطانية، أي التيارات الصهيونية المختلفة في الداخل) . وتصر الصهيونية في الداخل على وحدة الهوية اليهودية (صهيونية إثنية) ، وهي هوية نابعة من التراث الديني (صهيونية إثنية دينية) وفق أحد التيارات الدينية، أو لا علاقة لها بالدين وإنما تنبع من التراث (صهيونية إثنية علمانية) حسب تصوُّر التيار العلماني. ومع ذلك، وبغض النظر عن كل هذه التصنيفات، نجد أن جميع التيارات الصهيونية تشترك في الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المُهوَّدة، وفي الاعتماد شبه الكامل على الدعم الإمبريالي من خلال الراعي الإمبريالي والجماعة اليهودية في الغرب. ولذا، فيمكننا أن نزعم أن جميع الصهاينة، في نهاية الأمر، توفيقيون.
الصهيونية: القيم السياسية
Zionism: Political Values(16/62)
يجتمع في الإطار السياسي النظري للصهيونية نظم أساسية ومختلفة من القيم: اليهودية التي تمت صهينتها، والعنصرية، والقومية السياسية، والقومية العضوية، والاشتراكية، والليبرالية، الأمر الذي يجعل مبدأ "القوة" كأساس للمشروعية السياسية - ولا نقول للشرعية (المبدئية) - المبدأ الأساسي الذي يحكم مدركات التعامل السياسي الإسرائيلي. ولذا يتحكَّم هذا المبدأ في الحياة والمستقبل الإسرائيليين تحكُّماً يتجاوز في مداه وعمقه تأثير طاقات أيٍّ من تلك النظم المختلفة من القيم. ولإيضاح هذا، يتوجب تحديد ما نعنيه هنا بتلك النظم من القيم، وبمبدأ القوة كأساس للتعامل السياسي، وذلك في إطار تناولنا الصهيونية باعتبارها تلك العقيدة السياسية التي تدعو يهود العالم للتجمُّع في فلسطين لتكوين وبناء الدولة الإسرائيلية.
ويمكن القول بأن المنهجية "التلفيقية" هي السمة البارزة في خطاب الصهيونية، لا ينهض الجانب الدعوي من هذا الخطاب بدونها، سواء في التعامل مع القوى غير اليهودية، أو في التعامل مع الجماعات اليهودية نفسها، أو في بناء فكرها نفسه. ولبيان ذلك علينا ملاحظة أن أياً من نظم القيم السياسية إنما يتكون، كغيره من نظم القيم الأخرى، من قيمة جماعية عليا (كالديموقراطية: احتراماً للكرامة الإنسانية، في نسق قيم الحضارة الغربية الحديثة) ، يرتبط بها ويعبِّر عنها نسق من القيم السياسية الفردية.(16/63)
وعَبْر هذا النسق من القيم السياسية الفردية، يتميَّز أيُّ نسق من القيم عن أنساق القيم الأخرى تميُّزاً لا يتحدد بالضرورة بهذه القيم كمفردات، بل يتحدد بالعلاقة فيما بينها في نسق القيم الذي يجمعها. فنسق القيم الشيوعي، في رفضه نسق القيم الغربي الليبرالي، لا يرفض مفردات قيمه السياسية الفردية، من حرية ومساواة وعدالة، ولكنه في الأساس يرفض أولوية قيمة الحرية على المساواة والعدالة؛ ويتبنَّى المساواة كقيمة سياسية عليا في نسق قيمه، جاعلاً لها الأولوية على الحرية مثلاً، منطلقاً في ذلك من فهم الشيوعية للعلاقة بين الظاهرة السياسية والظاهرة الاقتصادية، التي تعتبر مفهوم "الكفاف الاقتصادي" أساساً للديموقراطية السياسية. بل تمضي أبعد من ذلك لتعتبر أن تحقُّق "العدالة" مرهون بتحقُّق المساواة الفعلية في الأوضاع الاقتصادية.
ولكن الأمر جدُّ مختلف بالنسبة للصهيونية إذ نجد أنفسنا أمام إطار من القيم تتداخل فيه أنساق من القيم، وليس مجرد مفردات من القيم. وهي بطبيعتها أنساق مختلفة، غير منسجمة مع بعضها البعض. وهو ما يجعل محاولة تبيُّن سمات نسق قيم الصهيونية عملية صعبة، بل قد تكون غير ممكنة، ما لم نلحظ السمة التلفيقية فيها بين أنساق من القيم وليس بين مفردات.(16/64)
وأول تلك الأنساق هي اليهودية التي تمت صهينتها أو الصهيونية ذات الديباجات الدينية اليهودية، ونعني بها تلك المعتقدات من اليهودية التي توظِّفها الصهيونية في مشروعها لبناء الدولة الصهيونية. ولا نقصد بذلك أن هذا التوظيف يتوافر على رؤية معرفية كلية، على درجة من الثبات المنهجي، تفسر الوجود السياسي، وتقيِّم الحركة السياسية، بصورة منطقية ومتجانسة. فاليهودية بوصفها تركيباً جيولوجياً تراكمياً عاجزة وعصيِّة تماماً على الانصهار في مثل تلك الرؤية المعرفية المحددة. غير أن هذه السمة الجيولوجية التراكمية نفسها، بما تشتمل عليه من أنساق وأفكار ومعتقدات ومفاهيم متعددة ومختلفة ومتناقضة، جعلت من اليسير على الصهيونية أن تختار الإطار المعتقدي أو المنطلق القيمي المناسب والمطلوب، لتقييم كل حركة أو مرحلة سياسية أو تبريرها، والتعامل معها؛ كما أنها (أي السمة التركيبية الجيولوجية التراكمية) تسمح بتفسير أو تبرير كل حالة سياسية، أو حتى الوجود السياسي نفسه، وذلك كله تبعاً لتغيُّر الإطار - أو حتى الظرف - التاريخي والسياسي والاجتماعي، أو تبعاً لاختلاف طبيعة التوظيف المعتقدي المطلوب سواء كان دعوياً يتجه إلى تأكيد رابطة الولاء والانتماء اليهودي للكيان الصهيوني، أو دعائياً يرمي إلى كسب التعاطف والتأييد الخارجي (الدولي) لهذا الكيان. ومع أن مثل هذا التوظيف التلفيقي يعمل على صبغ الصهيونية وشحنها بالمفاهيم والأطروحات المتناقضة الأمر الذي يدفعها في النهاية للانفجار والتفتت الفكري، إلا أنه يهيئ لها من جهة أخرى، وبخاصة في ظل ظروف وتحالفات دولية مواتية، استمراراً مرحلياً ما دامت تواجه بيئة سياسية واهنة أو مسترخية فكرياً وسياسياً، كما هو الحال في البيئة الثقافية والسياسية العربية الراهنة، وذلك بغض النظر عن الطاقات والإمكانات الفكرية والسياسية الكامنة لهذه البيئة (العربية) .(16/65)
إن مقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» مثلاً، إنما تعبِّر في توظيفها، الدعوي والدعائي، عن تلك المنهجية الصهيونية التلفيقية، حيث يتم إحياء مفاهيم وتقاليد معينة في هذا التراث وتجاهُل أخرى، وذلك تبعاً لما يتطلبه الإطار التاريخي أو الظرف السياسي والاجتماعي، الذي تجرى فيه عملية التوظيف التلفيقية تلك. فعلى المستوى الدعوي المعني بتأكيد الانتماء والولاء اليهودي، وبخاصة نحو المشروع الصهيوني، يمكن توظيف المفاهيم الحلولية في التراث اليهودي كما يمثلها الثالوث الحلولي: الإله والأرض والشعب، فيحل الإله في فلسطين لتصبح أرضاً مقدَّسة، ويحل في يهود العالم ليصبحوا شعباً مقدَّساً، ومختاراً من الإله للتمركز في الأرض المقدَّسة، من أجل خلاصهم وخلاص العالم بأن ويتولوا قيادته حضارياً. ويمكن في مستهل المشروع الصهيوني، وعَبْر هذا التوظيف، اعتبار الأرض المقدَّسة أرضاً بلا شعب، فالأغيار (من عرب فلسطين) يمكن اعتبارهم مستباحين ومدنَّسين (بخلاف الشعب المقدَّس) ، فيستوي بذلك وجودهم وعدمه.(16/66)
وعندما يؤدي نضال عرب فلسطين إلى أن يصبح وجودهم وانتماؤهم لأرضهم حقيقة عصيّة أمام التوظيف الدعائي (لهذا الطرح الدعوي) ، فيمكن حينئذ - وعند اللزوم - تخفيف الطابع العنصري والحلولي الفج لمفهوم الاختيار، والاستعاضة عنه بمفهوم «البروليتاري الأزلي» كتصور لليهودي الذي أختير منذ الأزل لتأدية رسالة أزلية اشتراكية (كما هو الحال عند المفكر الصهيوني الاشتراكي نحمان سيركين) ثم يوظِّف هذا المفهوم لكسب تأييد الاشتراكيين ومعسكرهم من جهة، ومن جهة أخرى لخلق وتأكيد علاقة انتماء فعلية بين اليهودي وأرض فلسطين. كما يمكن أيضاً توظيف مفهوم اليهودي باعتباره «الديموقراطي الأزلي» الذي تحدَّث عنه لويس برانديز باعتبار أن اليهودي هو الجدير بحمل رسالة الديموقراطية (وخصوصاً في الوسط العربي الغريب عنها) ما دام الإله قد اختار اليهود للحوار الحق معه دون باقي أمم الأرض. وبالطبع، يمكن أن تجد هذه المفاهيم سندها داخل التركيب الجيولوجي التراكمي لليهودية، وذلك عبر إحياء فكرة "الاختيار الرسالي" التي دعت إليها اليهودية الإصلاحية، إلى جانب حركة التنوير اليهودية، وكلتاهما تمردت على فجاجة الطابع العنصري للرؤية اليهودية الحلولية لمفهوم الاختيار.
هذا على صعيد تبرير وإضفاء المشروعية على الوجود الصهيوني السياسي نفسه، وهو تبرير يتم التعبير عنه، دعوياً ودعائياً، على مستوى مفكري وقادة المشروع الصهيوني أنفسهم. غير أن بإمكاننا تتبُّع هذه السمة التلفيقية، على مستوى تقييم تيارات وقوى يهودية في الكيان الصهيوني، لمشروعية هذا الكيان، وذلك في إطار مسيرته السياسية ومدى نجاحه في فَرْض وجوده الإقليمي والدولي. ويمكن أن نأخذ مثلاً على ذلك رؤية مثل تلك التيارات أو القوى للمشروع الصهيوني، في ضوء العقيدة المشيحانية التي تؤمن بأن خلاص اليهود وجَمْعهم من الشتات إنما يكون بقدوم الماشيَّح في آخر الأيام.(16/67)
لقد ظلت أكثرية التيارات والجماعات الدينية اليهودية تحافظ على موقف غير صهيوني من المشروع الصهيوني (الانتظار لمشيئة الإله) . ولكن هذه التيارات بدأت بعد إعلان الدولة الصهيونية تنقاد بالتدريج للتعايش مع المفهوم الصهيوني للعودة. وبعد حرب 1967، بدأت أحزاب دينية صهيونية عديدة تنظر إلى نتائج هذه الحرب باعتبارها معجزة و"إشارة ربانية" إلى بداية الخلاص، وأن دولة إسرائيل ما هي إلا مقدمة مجيء الماشيِّح المخلِّص، مضفية بذلك على دولة إسرائيل سمات دينية مشيحانية. بل اعتبرها البعض استجابة لنداء الرب، بل هي "الإرادة الإلهية نفسها" (على حد تعبير الحاخام كوك الأب الروحي لحركة جوش إيمونيم) .
كذلك تتضح هذه المنهجية التلفيقية على صعيد مبادئ وأُسس النظام السياسي والاجتماعي في الكيان الصهيوني، وسواء أتعلَّق ذلك بتصور الصهيونية لهذه المبادئ والأُسس أم تعلَّق بتعاملها معها. وهكذا، فإن الصهيونية توظف فكرة العودة مثلاً لحث أكبر عدد من يهود العالم على الهجرة إلى فلسطين، بينما يظل التساؤل حول المعيار المحدد للهوية اليهودية (من هو اليهودي؟) بغير جواب حاسم من مؤسسة دولة إسرائيل، لئلا يقود - كما رأت جولدا مائير مثلاً - تبنِّي معيار متساهل لتحديد الهوية اليهودية إلى اندماج يهود الخارج في مجتمعاتهم، بينما يقود التشدد في ذلك إلى عواقب وخيمة على بنية الكيان الصهيوني نفسه في فلسطين؛ وعبر مثل هذا التوظيف (العملي) الذي تمارسه هنا جولدا مائير أحد أقطاب الصهيونية العمالية لأطروحات الصهيونية الإثنية، يظل تحديد من هو اليهودي خاضعاً، عن وعي وتصميم، لاعتبارات ظرفية غير عقائدية، وذلك رغم المحورية المركزية الطاغية لصفة اليهودي في المشروع الصهيوني.(16/68)
ويخضع تحديد مبادئ وأُسس الحياة الاجتماعية والسياسية في الكيان الصهيوني لتوازن معقد بين التيارات والقوى والأحزاب التي يُقال لها "علمانية" من جهة، ومن جهة أخرى التيارات ذات الديباجات الدينية فيها. ومع هذا لا يمكن الاكتفاء بإرجاع غياب الحسم العقائدي، في قضية مركزية في محوريتها، تهيمن على تعريف "المواطنة" نفسه، إلى غَلَبة إرادة العلماني على إرادة الديني في مركز القرار الإسرائيلي. فمن المعروف أن تشريعات "اليهودية الحاخامية" (كما تعبِّر عنها التشريعات التلمودية) ، تسيطر على تنظيم الأحوال الشخصية في الكيان الصهيوني، وذلك رغم أن الإحصاءات الاستطلاعية تشير (عام 1987 إلى أن 84%من يهود هذا الكيان لم يطَّلعوا على التلمود قط. كما نجحت الأحزاب الدينية (عام 1950) ، على سبيل المثال، في فرض إرادتها في أن تكون لها اليد الطولى في الإشراف على النظام التعليمي في معسكرات المهاجرين اليهود في فلسطين، وذلك بالرغم مما يفرضه هذا من تأثير داخلي جذري على مستقبل النظام السياسي والاجتماعي في الكيان الصهيوني.(16/69)
إن ما سبق من أمثلة يُظهر أن المعوَّل عليه في نهاية المطاف، بالنسبة للصهيونية، ليس إطاراً معتقدياً معيناً مستمداً من إحدى طبقات التركيب الجيولوجي التراكمي للعقيدة اليهودية، يتم تبنِّيه والثبات عليه؛ وإنما تفرض كل مرحلة حلاً مؤقتاً كل ما يُشتَرط فيه أن يكفُل التميُّز، ولكنه تميُّز لا مضمون له وإنما هو تميُّز وكفى. ولذلك، فحينما يعني التمسك بهوية (صلبة) للتميُّز (تحدِّد مثلاً من هو اليهودي؟) ، فإن التميُّز من حيث هو اختلاف عن الآخر، يصبح مصدر تهديد، ومن ثم يتم العدول عنه، ويتم تبنِّي تعريف للهوية يسمح بقدر من السيولة. وهي ظاهرة تتبدى في الحيرة والصراع داخل الكيان الصهيوني، حول الخيارات المستقبلية لمضمون تميُّزه، وهي قضية وثيقة الصلة بالصراع العربي الصهيوني: القبول بدولة فلسطينية مستقلة في سبيل نقاء الكيان الصهيوني؟ أم السماح بالوجود العربي داخل إطار الدولة الصهيونية، في سبيل إسرائيل الكبرى؟ إن الصراع هنا هو صراع بين الرؤية الصهيونية التقليدية (الحلولية المادية الصلبة) التي تتمسك بمفاهيم مثل إسرائيل الكبرى جغرافياً، والرؤية الإسرائيلية البرجماتية (الحلولية الشاملة السائلة) التي لا تُمانع في التنازل عن هذا المفهوم في سبيل الوصول إلى إسرائيل العظمى اقتصادياً. وهو ما يعكسه توجُّه اتفاقيات أسلو (1993وما بعدها، التي تمت بقيادة تيار فاعل في المؤسسة الإسرائيلية تنَّبه قبل عقود من هذه الاتفاقيات (وبخاصة عبر شيمون بيريز) إلى عناصر الحيرة والصراع التي تكتنف عملية حَسْم هوية المشروع الصهيوني. فكانت اتفاقيات أوسلو إيذاناً بتكريس توجُّه إسرائيل كبرى مختلفة: يعمل، وذلك بعد أن واتته الفرصة بعد حرب الخليج الثانية (1991) ، على إرساء نظام شرق أوسطي متمركز اقتصادياً حول الكيان الصهيوني؛ أي أنه توجُّه يعمل، عن وعي وإرادة، على تمييز الكيان الصهيوني بسطوة سائلة حلولية صهيونية اقتصادية، وذلك على حساب(16/70)
تميُّزه بهويته الحلولية الصهيونية العنصرية الصلبة.
وباختصار، فإن المنهجية التلفيقية تهيمن بالضرورة، على تصوُّر الصهيونية لأُسس تبرير مشروعية الوجود الصهيوني السياسي نفسه، فضلاً عن مبادئ وأُسس النظام السياسي والاجتماعي في الكيان الصهيوني؛ والاصطدام (الكامن دوماً والمتفجر دورياً) ، الذي يقع بين هذه المنهجية التلفيقية من جهة، وبين حقائق الواقع والحقيقة الصلبة من جهة أخرى، لا يقودها إلى إعادة النظر في عناصر رؤيتها المعرفية (اليهودية الحلولية التراكمية) ؛ بل يدفعها (متأثرة طبعاً بحلوليتها اليهودية التراكمية هذه) إلى إعادة تشكيل مبادئها وأُسسها بنفس المنهجية التلفيقية. إنها تلفيقية مسكونة بهدف البقاء المتميِّز، تجعل مبدأ القوة المادية أساساً لتبرير مشروعيتها وتقييم، ثم إعادة تشكيل، مبادئ وأُسس حركتها ونُظُمها. ويُبرز وصف ديفيد بن جوريون للجيش الإسرائيلي بأنه "خير مفسِّر للتوراة"، هذه التلفيقية بجلاء وهي التلفيقية التي كانت تجعل بن جوريون يُفسِّر التوراة والتلمود، فضلاً عن الواقع والتاريخ، من خلال توظيف انتصارات جيش الدفاع الإسرائيلي. إن قيم اليهودية التي تمت صهينتها كرافد أصيل في تركيب إطار قيم الصهيونية، إنما تجعل مبدأ القوة مثاليتها وقيمتها العليا المحددة.
الباب الثالث: العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية
العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهود العالم
Silent Contract between Western Civilization and the Zionist Movent regarding Western Jewry
«العقد» هو اتفاق بين طرفين يلتزمان بمقتضاه تنفيذ بنوده، أما «العقد الصامت» فهو عقد ضمني غير مكتوب لا يتم الإفصاح عنه أو التصريح به. والعقد الصامت في أغلب الأحيان غير واع ومع هذا فهو يعبِّر عن نفسه من خلال سلوك الأفراد والجماعات والمؤسسات.(16/71)
ويمكن القول بأن كل مجتمع إنساني يستند إلى عقد صامت بين أعضائه ينطلق من بعض المقولات الأولية القَبْلية التي يؤمن بها أعضاء هذا المجتمع، وتستمد السلطة الحاكمة شرعية وجودها واستمرارها من هذا العقد. والحديث عن «العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية» هو محاولة من جانبنا لتسمية شيء كامن مهم مُتضمَّن لم يُسمِّه أحد من قبل، رغم المقدرة التفسيرية للمصطلح.
وقد ظل تاريخ الصهيونية متعثراً قبل ظهور هرتزل وظلت الصهيونية فكرة غير قادرة على التحقق لأسباب عديدة من أهمها أن دعاة الفكر الصهيوني كانوا من الصهاينة غير اليهود أو من أعداء اليهود، الأمر الذي جعل أعضاء المادة البشرية المستهدفة (أي اليهود) يرفضون الدعوة إلى استيطان فلسطين. كما أنه لم تكن هناك أية أطر تنظيمية تضم كل الجماعات اليهودية. وعلاوة على هذا كان هناك يهود الغرب المندمجين الذين كانوا يرون أن المشروع الصهيوني يهدد وجودهم ومكانتهم وكل ما حققوه من مكاسب.
وقد حل هرتزل كل هذه الإشكاليات، فقام بوضع العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية استناداً للصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي نبعت من صميم هذه الحضارة ومن تاريخها الفكري والاقتصادي والسياسي. ولم يكتف هرتزل بوضع العقد وإنما قام بتأسيس المنظمة الصهيونية التي طرحت نفسها كإطار تنظيمي يمكن من خلاله توقيع العقد مع الحضارة الغربية وفرض الصيغة الصهيونية الشاملة على الجماهير اليهودية بحيث تتحول هذه الجماهير إلى مادة استيطانية ويدخل المشروع الصهيوني إلى حيز التنفيذ. كما طوَّر هرتزل الخطاب المراوغ الذي جعل بالإمكان إرضاء مختلف قطاعات يهود العالم الغربي (في غرب أوربا وشرقها) ، بل استيعاب كل ما قد يجد من مشاكل في المستقبل، الأمر الذي فتح الباب أمام تهويد الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة.(16/72)
وهرتزل، واضع العقد الصامت، لم يكن مفكراً من الطراز الأول أو مُنظِّراً قادراً على التجريد وإنما كان صحفياً ذكياً سطحياً قليل الثقافة وخبرته السياسية محدودة، ولذا فإن تَوجُّهه كان برجماتياً عملياً. ومع هذا، فإن كتاباته تضم مادة هذا العقد الصهيوني الصامت كما تضم كتابات من لحقه مواد تكميلية للعقد.
وكما أسلفنا هذا عقد صامت، غير مكتوب، أي أن كلمة «عقد» هنا تُستخدَم مجازاً. ومع هذا يمكننا القول بأن هذه الصورة المجازية ليست من نحتنا إلا بشكل جزئي. فهي تتواتر في الأدبيات الصهيونية غير اليهودية (وهذا أمر متوقع، فهي صهيونية كانت تنظر لليهود كعنصر نافع غريب يمكن توظيفه) ثم انتقلت الكلمة إلى كتابات الصهاينة اليهود. فقد أشار هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول (1897 إلى ضرورة التفاهم التام مع الوحدات السياسية المعنية حتى يتم الحديث عن حقوق الاستعمار وعن المنافع التي سيقدمها الشعب اليهودي برمته مقابل ما يُعطَى له. كما أشار إلى أن هذا سيأخذ شكل اتفاقية وإلى أن الاتفاقية سوف تصاغ على أساس الحقوق (التي ستُمنَح لليهود) وعلى أساس تعهدات قانونية معترف بها. وحينما طلب القيصر ولهلم الثاني من هرتزل أن يلخص له مطالب الصهيونية، قال هذا "تشارتر charter"، أي «ميثاق» أو «براءة» أو «عقد شركة» . وكان الصهاينة يشيرون إلى وعد بلفور باعتباره هذا الميثاق أو البراءة أو العقد الذي مُنح للحركة الصهيونية.
وقد كان هرتزل يهدف إلى تحديث المسألة اليهودية، ولذا فقد كان من اللازم أن يستخدم (فعلاً أو ضمناً) اللغة التعاقدية النفعية التي تفهمها الحضارة الغربية.(16/73)
وإذا حاولنا ترجمة هذا العقد الصامت الذي يستند إلى الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة والصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المُهوَّدة إلى لغة تعاقدية بسيطة، فإنه سيأخذ الشكل التالي: عقد بين المنظمة الصهيونية (كمتحدث غير مُنتخَب باسم يهود شرق أوربا وغربها) وبين العالم الغربي (وضمنه المعادون لليهود) ، وتفاهم ضمني بين يهود غرب أوربا ويهود اليديشية. تتعهد الحركة الصهيونية بمقتضى هذا العقد بإخلاء أوربا من يهودها (أو على الأقل الفائض البشري اليهودي) وتوطينهم في منطقة خارج هذا العالم الغربي (داخل دولة وظيفية) ، ويتحقق نتيجة ذلك ما يلي:
1 ـ الهدف الأكبر:
يُؤسِّس المستوطنون، في موقعهم الجديد، قاعدة للاستعمار الغربي، وتتعهد الصهيونية بتحقيق مطالب الغرب ذات الطابع الإستراتيجي ومنها الحفاظ على تَفتُّت المنطقة العربية.
2 ـ أهداف أخرى:
أ) يتم بذلك تخليص العالم الغربي من اليهود الزائدين، باستيعابهم في ذلك الجيب وتحويل فيض المهاجرين من يهود اليديشية.
ب) عن طريق نَقْل اليهود، ستقوم الحركة الصهيونية بالسيطرة على الشباب اليهودي وتسريب طاقته الثورية من خلال القنوات الصهيونية.
جـ) ستقوم الحركة الصهيونية بحشد يهود العالم وراء المشروع الصهيوني الغربي بحيث يصبحون عملاء ووكلاء للغرب أينما كانوا.
د) ستقوم الحركة الصهيونية بتجنيد يهود الغرب المعروفين بثرائهم ليدعموا هذا المشروع الغربي دون أن تطالبهم بالهجرة.
هـ) عن طريق نقل اليهود، ستقضي الصهيونية على معاداة اليهود في الغرب.
ونظير ذلك، سيقوم الغرب (ككل) برعاية هذا المشروع ودَعْمه، كما أنه سيساعد الحركة الصهيونية في الهيمنة على يهود العالم الغربي (الذين يشكلون غالبية يهود العالم) .(16/74)
ولم يتوجه العقد بطبيعة الحال لمشكلة السكان الأصليين وكيفية حلها، ومع هذا يمكن القول بأن الحل مُتضمَّن في تَعهُّد الدول الغربية بضمان بقاء الدولة الوظيفية، الأمر الذي يعني استعدادها لاستخدام الآليات المألوفة المختلفة ضد السكان الأصليين من طَرْد أو إبادة أو محاصرة.
وبرغم تناقض بنود العقد، إلا أنه تم توقيعه (مجازاً) وأصبح قيام الصهيونية بـ "خدمة اليهود والمسيحيين" (على حد قول نوردو) ممكناً وبتوظيف المادة البشرية اليهودية في خدمة الحضارة الغربية، ولذا "ستقام الصلوات في المعابد] اليهودية] من أجل نجاح هذا المشروع، وستُقام الصلوات في الكنائس أيضاً" (على حد قول هرتزل) .
وقد أُضيف بعد ذلك عقد تكميلي أو تفاهم بين يهود الغرب التوطينيين ويهود شرق أوربا الاستيطانيين بحيث تَكفَّل يهود الغرب بالجانب التوطيني بدعم المُستوطَن الصهيوني مالياً والضغط من أجله سياسياً شريطة ألا تناقض مصالح المُستوطَن الصهيوني مصالح بلادهم، وبحيث يكتسبون شيئاً من هويتهم من خلال تَوحُّدهم العاطفي مع المُستوطَن الصهيوني مع بقاء ولائهم لأوطانهم، كما يتعيَّن على الصهاينة الاستيطانيين ألا يقوموا بشيء من شأنه إحراجهم أمام حكوماتهم أو وَضْع ولائهم لأوطانهم موضع الشك. أما الاستيطان والقتال والدفاع عن المصالح الإستراتيجية، فيقوم به الاستيطانيون في صهيون: أرض الميعاد والقتال.
وقد لعبت الصياغة الصهيونية المراوغة دوراً أساسياً في صياغة العقد وترويجه. كما تم توقيع العقد بإصدار إنجلترا وعد أو عقد بلفور. وقد عبَّر العقد عن نفسه عبر تاريخ الصهيونية من خلال مذكرات تفاهم واتفاقيات عسكرية وإستراتيجية ودعم عسكري ومالي وسياسي فعلي.
الوعود البلفورية
Balfour Declarations(16/75)
«الوعود البلفورية» مصطلح نستخدمه للإشارة إلى مجموعة من التصريحات التي أصدرها بعض رجال السياسة في الغرب يدعون فيها اليهود لإقامة وطن قومي لهم في فلسطين ويعدون بدعمه وتأمينه نظير أن يقوم اليهود على خدمة مصالح الدولة الراعية، أي أنها دعوة لتوقيع العقد الصامت بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية.
والوعود البلفورية تعبير عن نموذج كامن في الحضارة الغربية يضرب بجذوره فيها. وهي حضارة تنحو منحى عضوياً، وتجعل التماسك العضوي مثلاً أعلى. ونظراً لأن التماسك العضوي هو المثل الأعلى، فإن عدم التجانس يصبح سلبياً كريهاً. وينتج عن هذه الرؤية للكون رفض الآخر في شكل الأقليات. ومن ثم، نجد أن الحضارة الغربية (والمسيحية الغربية) لم تتوصل إلى إطار تتعامل من خلاله مع الأقليات، وبالذات اليهود، وإنما همَّشتهم (شعب شاهد) وحوسلتهم (جماعة وظيفية) . ومنذ عصر النهضة الغربية والثورة العلمانية الشاملة، بدأت أزمة الجماعات اليهودية وظهرت الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي تُعَد جزءاً من فكرة العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهود العالم: شعب عضوي منبوذ ـ نافع ـ يُنقَل خارج أوربا إلى فلسطين ليُوظَّف لصالحها في إطار الدولة الوظيفية.
وقد صدرت معظم الوعود البلفورية في القرن التاسع عشر واستمرت حتى صدور وعد بلفور عام 1917، الذي حسم مسألة علاقة اليهود بالحضارة الغربية. وسنقوم بمحاولة تحليل عدد من الوعود البلفورية وسنقسمها إلى ثلاثة عناصر أساسية:
1 ـ نص الوعد
2 ـ الديباجة العلنية (أو الأسباب المعلنة) التي عادةً ما ترد في الوعد نفسه أو في مجال الدفاع عنه.
3 ـ الدوافع الخفية (العميقة أو الحقيقية) وهي عادةً لا ترد في أيٍّ من الوعود، وعلينا أن نبحث عنها في نصوص وحقائق تاريخية تشكِّل السياق التاريخي للوعد البلفوري موضع البحث.(16/76)
ويُعتبَر نابليون بونابرت من أوائل القادة الغربيين الذين أصدروا وعداً بلفورياً وهو أيضاً أول غاز للشرق في العصر الحديث. وفيما يلي الجزء المهم من نص الوعد:
"من نابليون القائد الأعلى للقوات المسلحة للجمهورية الفرنسية في أفريقيا وآسيا إلى ورثة فلسطين الشرعيين.
أيها الإسرائيليون، أيها الشعب الفريد، الذين لم تستطع قوى الفتح والطغيان أن تسلبهم اسمهم ووجودهم القومي وإن كانت قد سلبتهم أرض الأجداد فقط.
إن مراقبي مصائر الشعوب الواعين المحايدين ـ وإن لم تكن لهم مواهب المتنبئين مثل أشعياء ويوئيل ـ قد أدركوا ما تنبأ به هؤلاء بإيمانهم الرفيع من دمار وشيك لمملكتهم ووطنهم: أدركوا أن عتقاء الإله سيعودون لصهيون وهم يُغنّون، وسيُولَد الابتهاج بتَملُّكهم إرثهم دون إزعاج، فرحاً دائماً في نفوسهم (أشعياء 35/10) .
انهضوا إذن بسرور أيها المبعدون. إن حرباً لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، تخوضها أمة دفاعاً عن نفسها بعد أن اعتبر أعداؤها أرضها التي توارثوها عن الأجداد غنيمة ينبغي أن تُقسَّم بينهم حسب أهوائهم. وبجرة قلم من مجلس الوزراء تقوم للثأر وللعار الذي لحق بها وبالأمم الأخرى البعيدة. ولقد نُسي ذلك العار تحت قيد العبودية والخزي الذي أصابكم منذ ألفي عام. ولئن كان الوقت والظروف غير ملائمة للتصريح بمطالبكم أو التعبير عنها، بل وإرغامكم على التخلي عنها، فإن فرنسا تقدم لكم إرث إسرائيل في هذا الوقت بالذات، وعلى عكس جميع التوقعات.
إن الجيش الذي أرسلتني العناية الإلهية به، والذي يقوده العدل ويواكبه النصر، جعل القدس مقراً لقيادتي، وخلال بضعة أيام سينتقل إلى دمشق المجاورة التي لم تَعُد تُرهب مدينة داود.
يا ورثة فلسطين الشرعيين:(16/77)
إن الأمة التي لا تتاجر بالرجال والأوطان، كما فعل أولئك الذين باعوا أجدادهم لجميع الشعوب (يوئيل 4/6) ، تدعوكم لا للاستيلاء على إرثكم بل لأخذ ما تم فتحه والاحتفاظ به بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء.
انهضوا وأظهروا أن قوة الطغاة القاهرة لم تُخمد شجاعة أحفاد هؤلاء الأبطال الذين كان تَحالُفهم الأخوي شرفاً لإسبرطة وروما (مكابيون 12/15) ، وأن معاملة العبودية التي دامت ألفي عام لم تُفلح في إخمادها.
سارعوا! إن هذه هي اللحظة المناسبة ـ التي قد لا تتكرر لآلاف السنين ـ للمطالبة باستعادة حقوقكم ومكانتكم بين شعوب العالم، تلك الحقوق التي سُلبت منكم لآلاف السنين، وهي وجودكم السياسي كأمة بين الأمم، وحقكم الطبيعي في عبادة يهوه، طبقاً لعقيدتكم، علناً وإلى الأبد. (يوئيل 4/20.
وفيما يتعلق بوعد نابليون البلفوري، يمكن ملاحظة ما يلي:
1 ـ جوهر الوعد هو العبارة التالية: "تقدِّم فرنسا فلسطين لليهود في هذا الوقت بالذات، وعلى عكس جميع التوقعات ... وهذه هي اللحظة المناسبة التي قد لا تتكرر لآلاف السنين". "تدعوكم [فرنسا] لا للاستيلاء على إرثكم بل لأخذ ما تم فتحه والاحتفاظ به بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء". "وجودكم السياسي كأمة بين الأمم، وحقكم الطبيعي في عبادة يهوه طبقاً لعقيدتكم، علناً وإلى الأبد".
2 ـ لا يختلف تصريح نابليون عن وعد بلفور، فنابليون يعتبر أعضاء الجماعات اليهودية شعباً غريباً عن وطنه (وهو ما يعني إسقاط المواطنة عنه) وهو شعب مرتبط بفلسطين. وقد وجه نابليون نداءه إلى "الشعب الفريد" و"المبعدين" الذين عاشوا "تحت قيد العبودية والخزي ... منذ ألف عام" و"ورثة فلسطين الشرعيين" (أي الشعب العضوي المنبوذ) بأن يتبعوا فرنسا التي ستقدم لهم إرث إسرائيل، أي أرض فلسطين، أي أنهم سيتم خروجهم من فرنسا وتوطينهم في فلسطين.(16/78)
3 ـ ثم نأتي ثالثاً إلى الدوافع الخفية الحقيقية، وليس من الصعب تخمينها، فنابليون لم يَكُن يُكن كثيراً من الحب أو الاحترام لليهود، وهذا يظهر في تشريعاته داخل فرنسا. ولذا، فإن إرسالهم إلى فلسطين فيه حل للمسألة اليهودية في فرنسا (والتي كانت قد بدأت في التفاقم) . ومع هذا، كان نابليون يهدف إلى توظيف اليهود في خدمة مشاريعه وتحويلهم إلى عملاء له، وهذا ما قاله ملك إيطاليا لهرتزل (وقد وافقه الزعيم الصهيوني على رأيه) . ولعل إشارة نابليون إلى التقاليد المكابية هو إشارة خفية للدور القتالي (المملوكي) الذي يمكن أن تلعبه الدولة اليهودية المقترحة في خدمة المصالح الغربية.
وقد صدرت أيضاً عدة وعود بلفورية ألمانية. ويمكننا هنا أن نتوقف قليلاً عند واحد من أهم إسهامات هرتزل للحركة الصهيونية وهو أنه إذا كانت الفكرة الصهيونية إمكانية كامنة في الحضارة الغربية تود أن تتحقق، فلم يكن بإمكانها أن تخرج من عالم الوجود بالقوة إلى عالم الوجود بالفعل إلا من خلال آليات محددة أهمها تنظيم المادة البشرية (اليهودية) التي سيتم ترحيلها وتأسيس إطار تنظيمي يستطيع أن يتلقى الوعود وأن يقوم بتنفيذها. وحينما أصدر نابليون وعده البلفوري لم يكن هناك تنظيم يهودي يمكنه تلقِّي هذا الوعد والعمل على تسخير المادة البشرية لتنفيذه. وهذا ما أنجزه هرتزل بعد أن نشر كتابه دولة اليهود الذي وضَّح فيه ما نسميه «العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية» . فقرَّر هرتزل أن يأخذ بزمام الأمور وأن يتوجه للدول العظمى. وقد ساعده في مسعاه هذا القس (الواعظ) الصهيوني نصف المجنون هشلر إذ قدمه إلى أحد كبار المسئولين الألمان الذي تحدَّث إلى القيصر عن الموضوع. وكانت ثمرة هذه الاتصالات وعد بلفوري ورد في خطاب من دون إيلونبرج باسم حكومة القيصر إلى هرتزل (مؤرخ في سبتمبر 1898وجاء فيه:(16/79)
"إن صاحب الجلالة على استعداد أكيد أن يناقش الأمر [توطين اليهود] مع السلطان، وأنه سيسعده أن يستمع إلى مزيد من التفاصيل منكم في القدس.
وقد أصدر جلالته أوامره بأن تُذلِّل كل الصعاب التي تواجه استقبال وفدكم.
وأخيراً يحب جلالته أن يخبركم عن استعداده أن يأخذ على عاتقه مسئولية محمية [يهودية] في حالة تأسيسها. وجلالته، حينما يكشف لكم عن نواياه، فهو يعوِّل، بطبيعة الحال، على مقدرتكم على الكتمان. وكم يسعدني أن أنقل لكم هذه المعلومات، وأتمنى أن تنجح في الوصول إلى القدس في الموعد المحدد. وفي الحقيقة، فإن فشلك في هذا سيسبب لجلالته خيبة الأمل. وأترك لكم، بما تتميزون به من لباقة، أن تقرروا ما إذا كنتم تودون الوصول إلى إستنبول في الوقت الذي يصل فيه جلالته إليها أم لا ".
ويمكننا ملاحظة ما يلي:
1 ـ جوهر الوعد يُوجَد في العبارة: "يحب جلالته أن يخبركم عن استعداده أن يأخذ على عاتقه مسئولية محمية [يهودية] في حالة تأسيسها" وأنه "على استعداد أكيد أن يناقش الأمر [توطين اليهود] مع السلطان".
2 ـ وإذا انتقلنا بعد ذلك إلى الديباجة العلنية والنوايا المعلنة، فإننا لن نجد لها أيَّ أثر، فقيصر ألمانيا لم يكن تحت أية ضغوط للبحث عن مسوغات رومانسية، بل إن العكس في حالته هو الصحيح، إذ كان عليه أن يبرر أمام شعبه مسألة تعاطفه مع المشروع الصهيوني وتأييده له، بل واستعداده لأن يضع الصهاينة تحت حمايته. وكما قال في خطابه المؤرخ 29سبتمبر 1898والمُرسَل إلى دوق بادن، فإن تسعة أعشار شعبه سيُصدَم صدمة عميقة إذا اكتشف هذه الحقيقة. فاليهود ـ كما يقول ـ هم قتلة المسيح، وهو يعترف بهذه الحقيقة، ولكنه يضيف قائلاً: "إن الإله قد أنزل بهم العقاب على ما اقترفوه من آثام، إلا أنه لم يأمر المسيحيين بأن يسيئوا معاملة هذا الشعب".(16/80)
3 ـ وأما العنصر الثالث، أي الدوافع الحقيقية الخفية، فهي موجودة وبغزارة، في خطاب القيصر المذكور، وفي تعليقه على تقرير سفير ألمانيا في سويسرا عن المؤتمر الصهيوني الأول (1897 فهو، في مجال تسويغ تعاونه مع "قتلة المسيح"، يورد الأسباب التالية لتأييد ألمانيا للمشروع الصهيوني:
أ) سينتج عن توطين شعب إسرائيل رخاء للمنطقة، ولا سيما أن الملايين ستصب في الأكياس العثمانية، الأمر الذي قد يؤدي إلى شفاء الرجل المريض.
ب) ستُوجَّه طاقة اليهود ومواهبهم إلى أهداف أكثر نبلاً من استغلال المسيحيين.
جـ) إفراغ ألمانيا من اليهود الذين فيها "وكلما عجلوا بالذهاب..، كان ذلك أفضل. فلن أضع أية عراقيل في طريقهم".
د) إذا بُحثت المسألة من منظور الحقائق السياسية [لا الأخلاقية] ، فإن ألمانيا ستستفيد غاية الاستفادة لأن رأس المال اليهودي العالمي، بكل خطورته، سينظر بعين العرفان إلى ألمانيا.
ولعل موقف القيصر من اليهود، بما يتسم به من كره عميق لهم وترحيب شديد بالتخلص منهم واستعداد تام لتوظيفهم في خدمة المصالح الألمانية، لا يختلف كثيراً عن موقف نابليون من قبله أو موقف بلفور من بعده.
ورغم وعود القيصر، ورغم حرصه على تبنِّي المشروع الصهيوني، إلا أنه لم يكن مدركاً مدى عُمْق الرفض العثماني للمشروع الصهيوني، وهو الأمر الذي أدركه إبان زيارته لإستنبول. ولذا، فحينما تم اللقاء في نهاية الأمر في القدس، حيث كان من المتوقع أن يُصدر القيصر وعده البلفوري العلني الكامل، تراجع واكتفى ببعض المجاملات الخالية من المعنى.(16/81)
ومن الأمثلة الأخرى على الوعود البلفورية، الوعد البلفوري الروسي القيصري. فقد قام هرتزل بمقابلة فون بليفيه، وزير الداخلية الروسي المعادي لليهود، بتفويض من المؤتمر الصهيوني الخامس (1901) ، حتى يَحصُل على تصريح يعبِّر عن نوايا الروس يتلوه في المؤتمر الصهيوني السادس المزمع عقده سنة 1903. وبالفعل، صَدَر الوعد البلفوري القيصري على النحو التالي (في شكل رسالة وجهها فون بليفيه إلى تيودور هرتزل) . وهذا هو منطوق الوعد:
"ما دامت الصهيونية تحاول تأسيس دولة مستقلة في فلسطين، وتنظيم هجرة اليهود الروس، فمن المؤكد أن تظل الحكومة الروسية تحبذ ذلك. وتستطيع الصهيونية أن تعتمد على تأييد معنوي ومادي من روسيا إذا ساعدت الإجراءات العملية التي يفكر فيها على تخفيف عدد اليهود في روسيا".
وقد توصَّل هرتزل أيضاً إلى اتفاق مع المسئولين الروس مفاده: أنْ تبذل الحكومة الروسية مساعيها الحميدة لدى تركيا لتسهيل دخول اليهود إلى فلسطين. وستقدم مساعدات مالية للمهاجرين تُجمَع من مصادر يهودية، وستُسهِّل تنظيم الجمعيات الصهيونية الملتزمة ببرنامج بازل. وقد سُمح أيضاً لبنك الاستيطان اليهودي ببيع أسهمه في روسيا شريطة أن يفتح فرعاً له في البلد لكي تستطيع السلطات مراقبة عمليات البيع. كذلك قام بليفيه بتزويد هرتزل برسالة موقعة منه، وبعد أن بحث محتوياتها مع القيصر، أعلن فيها أن الحكومة الروسية تنظر بعين العطف إلى الصهيونية ما دام هدفها إقامة دولة مستقلة في فلسطين، وأنها على استعداد لمساعدتها. وهذه المساعدة قد تتخذ شكل حماية الممثلين الصهاينة أمام الحكومة العثمانية، وتسهيل نشاط جمعيات الهجرة ومساعدتها مالياً من الضرائب التي تُجبى من اليهود. وقد استغل هرتزل هذه الرسالة، في أكثر من مناسبة، فيما بعد.(16/82)
ويُلاحَظ أنه لا توجد أية ديباجات رومانسية في هذا الوعد، فهو مسألة تعاقدية جافة يتحدث فيها كل طرف عن الفائدة المرجوة وعلى العائد من الصفقة. ولذا، فقد أكد فون بليفيه دون مواربة أو حياء أن الهدف هو التخلص من اليهود عامة باستثناء الأثرياء منهم، وجاء هذا واضحاً في قوله: " ... إن نجاح اليهود في إقامة دولة مستقلة لهم تستوعب عدة ملايين منهم لهو أمر نقبله وندعمه ... إننا لا نريد التخلص من جميع اليهود الروس ... إننا نريد فقط التخلص من المعدمين والمضطربين". وحذر فون بليفيه من أن التأييد الروسي القيصري سيتم سحبه إن كان هدف الصهيونية، غير المعلن، هو تحقيق تركيز قومي لليهود في روسيا، فالدعم الروسي مشروط بالتخلص من اليهود.(16/83)
وقد كان ذلك مفهوماً تماماً لدى هرتزل الذي أكد في مفاوضاته مع بليفيه أن الحركة الصهيونية "ستستقطب جميع اليهود وضمنهم المتطرفون [أي العناصر الثورية التي كانت تقض مضجع الدولة الروسية القيصرية] . أما إذا انهارت آمالنا، فإن الوضع سينقلب رأساً على عقب وستكسب الأحزاب الثورية إلى صفوفها أولئك الذين سينسحبون من الصهيونية التي أمثلها أنا وزملائي". كما أن هرتزل فهم تماماً تحذير بليفيه. وهكذا فإننا نجده، في المؤتمر الصهيوني السادس (1903، يؤكد للمجتمعين أن الحكومة الروسية لن تسبب أية مشاكل للحركة الصهيونية، ما دام نشاطها منحصراً ضمن النظام والقانون (أي في عملية التخلص من اليهود وتفريغ روسيا منهم) . واستطاع هرتزل بجهد وتصميم أن يحول بين المؤتمر وبين مناقشة مذابح كيشينيف، وقد علق على الموضوع في رسالة بعث بها إلى بليفيه قال فيها: " ... رغم المصاعب التي واجهتني في إدارة جلسات المؤتمر بجوها المشحون نتيجة الأحداث المؤلمة (مذابح كيشينيف) ، إلا أنني نجحت في المحافظة على النظام وإعادة الهدوء إلى الجلسات.. ولا شك في أن الفضل يعود في ذلك إلى رسالتكم التي تكرمت بإرسالها في 2 1أغسطس والتي كشفت محتوياتها لأخمد بذلك كل جدال ثار حول تلك الأحداث".
ويمكن أن ننظر إلى مشروع شرق أفريقيا باعتباره أحد أهم الوعود البلفورية وهو لا يختلف كثيراً عن الوعود البلفورية التي أشرنا إليها وإن كان أكثر جدية وأكثر تحدداً منها. كما أنه يشبه في كثير من النواحي وعد بلفور الذي صدر في نهاية الأمر. (انظر الباب المعنون «الصهيونية الإقليمية» ) .(16/84)
وقد صدر آخر الوعود البلفورية عن ألمانيا بعد صدور وعد بلفور نفسه عن إنجلترا، إذ استغل الصهاينة الوضع الدولي الناشيء عن الجمود الذي ساد جبهات القتال عام 1916 واتجهوا إلى حث الحكومة الألمانية على إصدار بيان رسمي يتضمن العطف على الصهيونية في فلسطين. ولكن الحكومة الألمانية كانت لا تزال مرتبطة بتحالف مع الحكومة العثمانية. كما كانت تخشى أن يؤدي تدهور الوضع العسكري إلى أن تسارع الحكومة العثمانية بعقد صلح منفرد مع الحلفاء. وحيث إن ألمانيا لن تضحي بتحالفها من أجل الصهاينة، فإنها ترددت كثيراً في الاستجابة للمطلب الصهيوني. ثم صدر وعد بلفور نفسه عام 1917، وعند هذه النقطة. وحسبما جاء في دراسة الدكتور محافظة، "اندفع الصهاينة يلحون على حكومة برلين لتلبية مطالبهم مع تشكيل وزارة طلعت باشا في عام 1917 وحاولت الحكومة الألمانية إرضاء الصهاينة بتَدخُّلها الحاسم لإلغاء التدابير العسكرية التي فرضها جمال باشا على اليهود في فلسطين عام 1917. وبعد صدور تصريح بلفور، اتجه الصهاينة إلى برلين لإستصدار تصريح مماثل. كما انتهزوا زيارة الصدر الأعظم (طلعت باشا) في مطلع يناير 1918، فقابله الزعيم الصهيوني ألفريد نوسيج الذي بحث معه موضوع اليهود في الدولة العثمانية (ومما يجدر ذكره أن هذا الزعيم الصهيوني أصبح عميلاً للجستابو النازي فيما بعد، كما وضع خطة لإبادة يهود أوربا. وقد قبض عليه ثوار جيتو وارسو. وبعد محاكمة قصيرة، نُفِّذ فيه حكم الإعدام) . وطلب نوسيج باسم الصهاينة إلغاء القيود المفروضة على هجرة اليهود إلى فلسطين. فوعدهم الصدر الأعظم بأن الباب العالي سوف يعيد تنظيم الأوضاع حالما تعود القدس وجنوب فلسطين إلى السيادة العثمانية بصورة تَكفُل الرضا التام لليهود وتحقق أمانيهم كافة. وقد نُشر هذا التصريح في الصحف الألمانية في اليوم التالي للقاء.(16/85)
ولا يمكن أن نسمي هذا التصريح وعداً بلفورياً بمعنى الكلمة وإن كان يقترب من ذلك. ومن الواضح أن ذلك يمثل إحدى الحيل التي كانت تستعملها الدولة العثمانية على ممثلي العالم الغربي، وهو فن تَملَّك العثمانيون ناصيته نظراً لضعفهم العسكري. ولكن أهمية هذا التصريح لا تكمن فيه وإنما في أنه أعطى الضوء الأخضر للدولة الألمانية. وقد استمر الصهاينة في ضغوطهم حتى حصلوا على تصريح من وكيل وزارة الخارجية الألمانية في اليوم التالي لتصريح الصدر الأعظم هذا نصه:
"نحن نؤيد رغبة الأقليات اليهودية، في البلدان التي لهم فيها ثقافة متطورة، في أن تختط طريقها الخاص بها، ونميل إلى دعم أمانيها. أما بالنسبة إلى أماني اليهود، وبخاصة أماني الصهاينة منهم في فلسطين، فإن الحكومة [الألمانية] ترحب بالتصريح الذي أدلى به مؤخراً الصدر الأعظم، طلعت باشا، والذي يعبِّر عن عزم الحكومة التركية، المتفق مع نظرتها الودية نحو اليهود بوجه عام، على تنمية استقرار يهودي مزدهر في فلسطين، عن طريق الهجرة غير المُقيَدة والاستيطان ضمن قدرة البلاد الاستيعابية وقيام حكم ذاتي يتفق وقوانين البلاد والتطور الحر لحضارتها".(16/86)
ويُلاحَظ أن صياغة هذا الوعد تميل نحو الإبهام الشديد، فهو يؤكد حق اليهود المندمجين في الاستمرار في اندماجهم، وهو يميِّز بينهم وبين الصهاينة الذين لهم أمان في فلسطين حيث سيسمح لهم "باستقرار يهودي مزدهر في فلسطين"، وهي عبارة غامضة حاول الوعد تحديدها عن طريق عبارة "قيام حكم ذاتي"، ثم عاد وعدَّلها من خلال إضافة عبارة "يتفق وقوانين البلاد والتطور الحر لحضارتها". ولنلاحظ أن فكرة "قوانين البلاد" تحل محل عبارة "القانون العام" أو "القانون الدولي" التي ترد في الأدبيات الصهيونية، خصوصاً في صياغتها الهرتزلية، وهي عبارة تعني "حسب القانون الغربي أو الاستعماري". فكأن الوعد هنا ينزع المشروع الصهيوني من سياقه الغربي ويضعه في سياق عثماني، الأمر الذي يعني فقدانه كل معنى، فالمستوطنون الصهاينة كان معروضاً عليهم دائماً أن يحصلوا على المواطنة العثمانية ويستقروا في فلسطين كعثمانيين لا كعنصر استيطاني تابع لدولة غربية. والقضية لم تكن قضية عدة آلاف يهودي لا وطن لهم، أو مضطَّهدين في أوطانهم ويبحثون عن مأوى لهم، وإنما هي قضية غَرْس عنصر بشري غريب يتحول إلى دولة ذات تَوجُّه غربي استعماري استيطاني رفض هذا الحل.(16/87)
وبعد صدور الوعد البلفوري الألماني، استمر الصهاينة في الضغط على الدولة العثمانية. وكلَّف الصدر الأعظم، بعد عودته من برلين، النائب اليهودي التركي قاراصو بتأليف لجنة يهودية عثمانية لوضع التفاصيل العملية لإنشاء شركة ذات امتياز في إستنبول تتولَّى العمل في المناطق المأهولة باليهود لإقامة حكم ذاتي فيها. وأمر طلعت باشا بدراسة الخطة التي وضعهتا اللجنة ووعد بتبنيها عند بَحْث شروط الصلح بعد انتهاء الحرب. وسعى الصهاينة، انطلاقاً من هذا الوعد، إلى الحصول على مزيد من التنازلات من الجانب العثماني، وإصدار تصريح عثماني مماثل لتصريح بلفور. وقد تمكنوا من الحصول على هذا التصريح في 4 1تموز 1918، وتشكلت لجنة عثمانية لوضع ما جاء فيه موضع التنفيذ.
ويمكننا ملاحظة اختفاء الديباجات العلنية المزخرفة أو الإشارة إلى الدوافع الحقيقية، فلا توجد أية إشارة للشعب اليهودي أو أمانيه القومية أو ارتباطه الأزلي بالأرض، وإنما هي إشارة روتينية إلى "أماني الصهاينة" وحديث عن استقرار يهودي مزدهر. ومقابل هذا، لا توجد أية إشارة لكره اليهود أو الرغبة في استخدامهم أو تأسيس حامية عسكرية يقطنون فيها كمادة قتالية. ولا شك في أن وجود العثمانيين كطرف هو الذي أفضى إلى هذا الوضع. فهم لم يتحمسوا قط للمشروع الصهيوني، بل كانوا يرونه جزءاً من المحاولة الغربية لتفتيت حكمهم ودولتهم. ومع هذا، فقد اضطروا كارهين للدخول في حوار مع الصهاينة وتقديم بعض التنازلات بسبب تدهور الوضع العسكري العام على الجبهات كافة وفقدان معظم فلسطين، واعتقاد الدولة العثمانية أن تحقيق بعض المطالب الصهيونية قد يُحسِّن وضعها في مؤتمر الصلح الذي كان مقبلاً.
ويمكننا أن نقول إن وعد بلفور هو أهم حدث في تاريخ الصهيونية وتاريخ الجماعات اليهودية في العالم، كما أن أهميته بالنسبة لفلسطين والفلسطينيين لا تخفى على أحد.
وعد بلفور
Balfour Declaration(16/88)
«وعد بلفور» هو التصريح الشهير الذي أصدرته الحكومة البريطانية عام 1917 تعلن فيه عن تعاطفها مع الأماني اليهودية في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وحين صدر الوعد كان عدد أعضاء الجماعة اليهودية في فلسطين لا يزيد عن 5% من مجموع عدد السكان. وقد أخذ الوعد شكل رسالة بعث بها لورد بلفور في 2 نوفمبر 1917 إلى اللورد إدموند دي روتشيلد أحد زعماء الحركة الصهيونية آنذاك. وفيما يلي النص الكامل للرسالة:
"عزيزي اللورد روتشيلد:
يسعدني كثيراً أن أنهي إليكم، نيابةً عن حكومة جلالة الملك، التصريح التالي تعاطفاً مع أماني اليهود الصهاينة التي قدموها ووافق عليها مجلس الوزراء. إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وسوف تبذل ما في وسعها لتيسير تحقيق هذا الهدف. وليكن مفهوماً بجلاء أنه لن يتم شيء من شأنه الإخلال بالحقوق المدنية للجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين أو بالحقوق أو الأوضاع القانونية التي يتمتع بها اليهود في أية دولة أخرى.
وسوف أكون مديناً بالعرفان لو قمتم بإبلاغ هذا التصريح إلى الاتحاد الصهيوني.
) إمضاء (
وفيما يتصل بهذا النص، نلاحظ ما يلى:
1 ـ صيغة الوعد واضحة تماماً هنا إذ تُوجَد هيئة حكومية (حكومة جلالة الملك) تؤكد أنها تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي سيضم "الشعب اليهودي"، أي أنه تم الاعتراف باليهود لا كلاجئين أو مضطهدين مساكين، كما أن الهدف من الوعد ليس هدفاً خيرياً ولكنه هدف سياسي (استعماري) . كما أن هذه الحكومة التي أصدرت الوعد لن تكتفي بالأمنيات وإنما سوف تبذل ما في وسعها لتيسير تحقيق هذا الهدف. هذا هو الجوهر الواضح للوعد.(16/89)
2 ـ ثم تبدأ بعد ذلك الديباجات التي تهدف إلى التغطية، فالوعد لن يضر بمصالح الجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين ولا بمصالح الجماعات اليهودية التي لا تود المساهمة في المشروع الصهيوني، بل تود الاستمرار في التمتع بما حققته من اندماج وحراك اجتماعي. وسنلاحظ أن الديباجات تتسم بكثير من الغموض إذ أن الوعد لم يتحدث عن كيفية ضمان هذه الحقوق.
ثم نأتي الآن للأسباب التي يوردها بعض المؤرخين (الصهاينة أو المتعاطفون مع الصهيونية) لتفسير إصدار إنجلترا لوعد بلفور. فهناك نظرية مفادها أن بلفور قد صدر في موقفه هذا عن إحساس عميق بالشفقة تجاه اليهود بسبب ما عانوه من اضطهاد وبأن الوقت قد حان لأن تقوم الحضارة المسيحية بعمل شيء لليهود، ولذلك، فإنه كان يرى أن إنشاء دولة صهيونية هو أحد أعمال التعويض التاريخية. ولكن من الثابت تاريخياً أن بلفور كان معادياً لليهود، وأنه حينما تولى رئاسة الوزارة الإنجليزية بين عامي 1903 و1905 هاجم اليهود المهاجرين إلى إنجلترا لرفضهم الاندماج مع السكان واستصدر تشريعات تحد من الهجرة اليهودية لخشيته من الشر الأكيد الذي قد يلحق ببلاده.
وقد كان لويد جورج رئيس الوزراء لا يقل كرهاً لأعضاء الجماعات اليهوديةعن بلفور، تماماً مثل تشامبرلين قبلهما، والذي كان وراء الوعد البلفوري الخاص بشرق أفريقيا. وينطبق الوضع نفسه على الشخصيات الأساسية الأخرى وراء الوعد مثل جورج ملنر وإيان سمطس، وكلها شخصيات لعبت دوراً أساسياً في التشكيل الاستعماري الغربي.(16/90)
ويرى بعض المؤرخين أن إنجلترا أصدرت الوعد تعبيراً عن اعترافها بالجميل لوايزمان لاختراعه مادة الأسيتون المحرقة أثناء الحرب العالمية الأولى، وهو تفسير تافه لأقصى حد لا يستحق الذكر إلا لأنه ورد في بعض الدراسات الصهيونية والدراسات العربية المتأثرة بها. ويبدو أن وايزمان نفسه قد تقبَّل هذا التفسير بعض الوقت. ولذا، حينما توترت العلاقات بين إنجلترا والمستوطنين الصهاينة في الأربعينيات، وضع وايزمان مواهبه العلمية تحت تصرف الإمبراطورية، متصوراً أن بإمكانه ممارسة بعض التأثير عليها. وبطبيعة الحال، لم يُوفَّق وايزمان في مساعيه. وفيما يتصل بجهوده الدبلوماسية نفسها أثناء الحرب، يمكن القول بأنه كان شخصية محدودة الذكاء، فلم يدرك الأبعاد الإمبريالية للمشروع الصهيوني أو لوحشية المشروع الإمبريالي، وغير مدرك حتى لدقائق السياسة البريطانية (وهذا هو وصف موظفي الخارجية البريطانية له في تقاريرهم السرية التي تم الكشف عنها مؤخراً) . وحينما اندلعت الحرب العالمية الأولى، كان وايزمان قد وصل لتوه إلى سويسرا في إجازة صيفية. ثم اضطر إلى العودة إلى بريطانيا، فطلب منه لويد جورج أن يقابل هربرت صمويل، فعبَّر عن خوفه من أن يكون صمويل مثل سائر يهود إنجلترا معادياً للصهيونية، ولكنه فوجئ بأن صمويل هذا صهيوني هو الآخر. وحينما تقدَّم بطلباته الصهيونية، أخبره صمويل بأن طلباته هذه متواضعة أكثر من اللازم وأن عليه أن يفكر على مستوى أكبر من ذلك (ويبدو أن هرتزل لم يشف التسلليين تماماً من ضيق الأفق والفشل في إدراك عالمية الظاهرة الإمبريالية ووحشيتها) . ثم أخبره صمويل بأن أعضاء الوزارة يفكرون في أهداف صهيونية، ودوَّن وايزمان بعد ذلك العبارة التالية: "لو كنت يهودياً متديناً لظننت أن عودة الماشيَّح قد دنت". ومع هذا، وكما سنبيِّن فيما بعد، أظهر وايزمان شيئاً من الذكاء باكتشافه بريطانيا (لا ألمانيا) باعتبارها القوة الإمبريالية(16/91)
الصاعدة التي يمكنها أن ترعى المشروع الصهيوني. ولعل الأمر لا يدل على ذكاء بقدر ما ينبع من وجوده في إنجلترا بالفعل وتَحرُّكه داخل إطار المصالح البريطانية. ولعله لو وُجد في فرنسا لما أدرك شيئاً.
وهناك نظرية تذهب إلى أن الضغط الصهيوني (واليهودي) العام هو الذي أدَّى إلى صدور وعد بلفور، ولكن من المعروف أن أعضاء الجماعات اليهودية لم يكونوا كتلة بشرية ضخمة في بلاد غرب أوربا، وهم لم يكونوا من الشعوب المهمة التي كان على القوى العظمى أن تساعدها أو تعاديها، بل كان من الممكن تجاهلهم. ويمكن القول بأن أعضاء الجماعات اليهودية كانوا مصدر ضيق وحسب، ولم يكونوا قط مصدر تهديد. أما الصهاينة فلم تكُن لهم أية قوة عسكرية أو سياسية أو حتى مالية (فأثرياء اليهود كانوا ضد الحركة الصهيونية) . ولكل هذا، لم يكن مفر من أن تكون المطالب الصهيونية على هيئة طلب لخدمة مصالح إحدى الدول العظمى الإمبريالية.
ولعل أكبر دليل على أن الضغط الصهيوني أو اليهودي لا يشكل عنصراً فعالاً في عملية استصدار وعد بلفور وأنه عنصر ثانوي على أحسن تقدير، هو نجاح الصهاينة في إنجلترا وفشلهم في ألمانيا. فقد بذل صهاينة ألمانيا جهوداً محمومة لاستصدار وعد بلفوري، وكانت توجد عندهم مقومات النجاح، ولكن كل هذا لم يُجد فتيلا:
1 ـ بذل صهاينة ألمانيا قصارى جهدهم ليبينوا للحكومة الألمانية مدى نفع اليهود للمشروع الاستعماري الألماني، وقد كان هناك كثير من المفكرين الألمان غير اليهود يشاركون في هذه الرؤية.
2 ـ كان عدد كبير من الزعماء الصهاينة يقف وراء ألمانيا، وكانت برلين لوقت طويل المقر الرئيسي للمنظمة.
3 ـ كانت ألمانيا حليفة لتركيا التي كانت فلسطين تابعة لها.
4 ـ كانت لغة المؤتمرات الصهيونية هي الألمانية، كما كانت ثقافة مؤسسي الحركة الصهيونية ألمانية.(16/92)
5 ـ كانت الجماعة اليهودية في ألمانيا مُشرَّبة بالثقافة الألمانية، وكان كثير من أعضاء النخبة الثقافية الألمانية من اليهود، وقد يسَّر هذا على اليهود الحركة داخل المجتمع الألماني.
6 ـ كانت الجماعة اليهودية في ألمانيا ذات ثقل مالي وثقافي وسياسي كبير إذ كانت أهم البنوك الألمانية في أيد يهودية.
7 ـ اشترك أعضاء الجماعة اليهودية في ألمانيا في القوات الألمانية أثناء الحرب بأعداد تفوق نسبتهم القومية.
8 ـ كانت القوات الألمانية في الحرب العالمية الأولى تقوم بما سمته «تحرير» بولندا وليتوانيا وغرب روسيا (مراكز الكثافة البشرية اليهودية) واعتبرت اليهود عنصراً بشرياً ألمانياً تابعاً لألمانيا. وقد أسَّس الزعيم الصهيوني ماكس بودنهايمر لجنة لتحرير يهود روسيا عام 1914. وكان بين أعضائها ليو موتزكين. وقد تم إصدار نشرة بالعبرية كتب ناحوم سوكولوف افتتاحيتها. وكان أمل الصهاينة أن تستولي القوات الألمانية على غرب روسيا حيث كان يوجد معظم اليهود. ومعنى هذا أنه كان ثمة تلاق بين الآمال الصهيونية والآمال التوسعية الألمانية.
9 ـ كانت أرستقراطية اليهود في أمريكا (كبار المموِّلين) من أصل ألماني، وقد كانت هذه الأرستقراطية متعاطفة تماماً مع ألمانيا ومؤيدة لها.
ويمكن أن نقارن هذا الوضع بوضع الجماعة اليهودية في إنجلترا، التي كانت صغيرة العدد ومندمجة ومعادية للصهيونية، وكانت الحركة الصهيونية فيها ضعيفة للغاية. ومع هذا، فشل صهاينة ألمانيا في استصدار وعد بلفوري من ألمانيا. وحينما نجحوا، كان ذلك في مرحلة متأخرة من الحرب وكان وعداً باهتاً للغاية، بينما نجح صهاينة إنجلترا فيما فشل فيه صهاينة ألمانيا.(16/93)
وفي الواقع، يمكننا تفسير الفشل الصهيوني في ألمانيا والنجاح الصهيوني في إنجلترا، لا بالقوة والضعف الذاتيين الصهيونيين، ولا بحجم الضغوط الصهيونية مهما كانت ضخمة ومهمة وحيوية، ولكن بالعودة إلى المصالح الإستراتيجية الغربية. ويبدو أن ألمانيا، بسبب علاقتها الحميمة مع تركيا، لم يكن بإمكانها أن تُصدر مثل هذا الوعد (تماماً كما كان الوضع مع إنجلترا عام 1904 حينما أصدرت وعد شرق أفريقيا البلفوري ولم تذكر فلسطين من قريب أو بعيد لأن علاقتها مع الدولة العثمانية لم تكن تسمح بذلك) . ومن المعروف أن وايزمان، كي ينجح في الحصول على وعد بلفور، قطع علاقته مع اللجنة التنفيذية الصهيونية في برلين ورفض التراسل مع زملائه في دول الوفاق Entente ورفض موقف الحياد الرسمي الذي اتخذته المنظمة. كما أنه لم يخبر المقر الرئيسي للمنظمة في كوبنهاجن بمباحثاته مع إنجلترا. ويُقال إن انقسام الحركة الصهيونية لم يُعق جهوده بل ساعدها. والواقع أن نجاحه في إنجلترا، تماماً مثل الفشل الصهيوني في ألمانيا، يمكن تفسيره بإستراتيجية الإمبراطورية الإنجليزية التي قررت تقسيم الدولة العثمانية واحتلال الشرق العربي. ولعل ذكاء وايزمان يَكمُن في اكتشافه ذيلية الصهيونية وحتمية الاعتماد على الإمبريالية وصعود القوة البريطانية فتبعها بكل قوته وقطع كل علاقاته مع المنظمة الصهيونية ذات الجذور الألمانية والتوجه الألماني.
ويمكننا الآن تناول الديباجات والأسباب الحقيقية لصدور الوعد:(16/94)
كان وعد بلفور إمكانية كامنة في الحضارة الغربية تريد أن تتحقق لتوجد بالفعل، ولذا يجب ألا ننظر لوعد بلفور بمعزل عن الوعود البلفورية السابقة عليه أو اللاحقة له أو عن المعاهدات الاستعمارية الدولية التي أُبرمت أثناء الحرب العالمية الأولى وكانت تهدف إلى حل المسألة الشرقية عن طريق تقسيم تركيا، وأهم هذه المعاهدات اتفاقية سايكس ـ بيكو واتفاقية ماكماهون ـ حسين. كما لا يجب النظر إلى الوعد بعيداً عن البراءات التي كانت تُعطَى للشركات الاستيطانية في آسيا وأفريقيا، ولا عن تقسيم العالم من قبَل القوى الإمبريالية الغربية وإعادة تقسيمه عام 1917، ولا عن الرؤية المعرفية الإمبريالية، ولا عن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي كانت كامنة في الحضارة الغربية.
ولذا، قد يكون من المفيد أن نحاول فَهْم وعد بلفور في هذا الإطار باعتباره براءة لاستعمار فلسطين، الأمر الذي يتطلب منا أن نزيح الديباجات العلنية لنصل إلى لُب الموضوع، أي المصالح الإستراتيجية الغربية كما تخيَّلها أو توهَّمها أصحابها وكما قاموا بتحديدها، ويمكن أن نتحدث عن بعض الفوائد الجانبية التي سيجنيها أصحاب الوعد من إصداره ومن تأسيس الوطن القومي اليهودي:
1 ـ يتحدث العقد الصامت بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية عن تحويل يهود شرق أوربا عن غربها، حفاظاً على الأمن القومي بالداخل. ولابد أن الحكومة البريطانية كانت تأخذ هذا في اعتبارها، وخصوصاً أنه قد سبق لها إصدار وعد شرق أفريقيا البلفوري لهذا السبب.(16/95)
2 ـ يتحدث العقد الصامت عن تسريب الطاقة الثورية من شباب اليهود من خلال المشروع الصهيوني. وهذه مسألة لم تكن بعيدة عن أذهان أصحاب وعد بلفور. وقد نُشر خبر إصدار الوعد في الصحف في 8 نوفمبر 1917، وهو العدد نفسه الذي نُشرت فيه أنباء اندلاع الثورة البلشفية، وقامت طائرات الحلفاء بإلقاء ألوف النسخ من وعد بلفور وأنباء صدوره على يهود روسيا القيصرية وبولندا وألمانيا والنمسا.
3 ـ كان ثمة اعتقاد غالب بأن الإعلان سيكون ذا قيمة دعائية على الصعيد الدبلوماسي، ذلك أن وعد بلفور سيَلقى صدى لدى اليهود الروس بحيث يمكن أن يصبحوا بشكل من الأشكال أداة ضغط على الحكومة الروسية المؤقتة حتى لا تتراجع عن رغبتها في متابعة الحرب مع ألمانيا.(16/96)
4 ـ كان من المتوقع أن يؤدي الوعد إلى عائد مماثل بين يهود أمريكا الذين كانوا قد أصابهم شيء من خيبة الأمل بسبب تحالف الحلفاء الوثيق مع حكومة روسيا القيصرية التي كانت مكروهة عند أعضاء الجماعات اليهودية، فكان من المؤمل أن يشجع الوعد أصحاب الأموال من أعضاء الجماعات اليهودية على المساهمة في الجهود الحربية للحلفاء وعلى عدم الارتماء في أحضان الألمان، وخصوصاً أن أرستقراطية يهود الولايات المتحدة كانت من أصل ألماني. ولكن مسار الأحداث أثبت أن ثمة خطأً فاحشاً في التقدير، فلم يكن يهود روسيا أو الولايات المتحدة مهمين إلى هذا الحد. وكانت المنظمة الصهيونية منقسمة على نفسها، كما أن عدد الصهاينة من اليهود كان لا يزال صغيراً للغاية. وقد أوقفت الحكومة الروسية كل عملياتها العسكرية في أكتوبر 1917 حتى قبل وعد بلفور، ثم استولى البلاشفة على الحكم وأنهوا النفوذ الصهيوني فيها. وعلى أية حال، كان يهود روسيا منقسمين ولم يكن بوسعهم أن يحملوا روسيا على الاستمرار في الحرب. أما في أمريكا، فلم يلعب أعضاء الجماعات اليهودية دوراً في الحرب وتم توفير الدعم الأمريكي المطلوب من خلال الحكومة دون أي التفات إلى الصهيونية أو الصهاينة.
ولكن كل هذه فوائد جانبية للحضارة الغربية. أما الفائدة الكبرى، فهي تأسيس دولة وظيفية في فلسطين تُوظَّف في إطارها المادة البشرية اليهودية في خدمة الاستعمار الغربي. فالدافع الحقيقي لوعد بلفور هو رغبة الإمبراطورية البريطانية في زرع دولة استيطانية في وسط العالم العربي في بقعة مهمة جغرافياً لحماية مصالحها الاستعمارية، وخصوصاً في قناة السويس ولحماية الطريق إلى الهند.(16/97)
وكان وايزمان يعرف، رغم بطء إدراكه، أن كل هؤلاء الإنجليز الذين لا يهمهم اليهود ولا اليهودية تُحرِّكهم دوافع المصالح الإمبريالية، وأن مهمته تتلخص في تقديم المادة البشرية حتى يمكنهم توظيفها. ولذا، فقد صرح قائلاً: إن وافقت إنجلترا على منحنا فلسطين، فإننا سنحصل على وطن وستحصل هي على سند فعال. وقد قال وايزمان إنه لم يحلم قط بوعد بلفور، وإنه جاء بكل صراحة بشكلٍّ مفاجئ. إذ كان قد أعد نفسه لأن يبدأ نشاطه بعد انتهاء الحرب، ولكن الإمبراطورية الإنجليزية كانت قد قررت أن تُوظِّف اليهود لمصلحتها. ومن ثم، لم يكن هناك مفر من إدخالهم في الصورة. ولذا، وعلى عكس المُتصوَّر، لم يبادر الصهاينة بالمفاوضات مع الحكومة الإنجليزية وإنما نجد أن الحكومة البريطانية هي التي بادرت بالاتصال بهم. وقد تَقدَّم الصهاينة بمطالبهم، ولكن رئيس الوزراء إسكويث كان ملتزماً بسياسة إحلال العرب محل الأتراك. ولكن قبل استقالة إسكويث، كانت الحكومة البريطانية قد درست مستقبل فلسطين وتوصلت إلى مخطط بشأن هذا المستقبل. وهناك لحسن الحظ المذكرة التي تقدَّم بها السير هربرت صموئيل في مارس 1915 للحكومة البريطانية ووضَّح فيها الاحتمالات الخمسة لمستقبل فلسطين بعد انهيار الدولة العثمانية. وما يهمنا هنا الاحتمالان الرابع والخامس في هذه المذكرة. لقد كان الاحتمال الرابع هو "الإقامة المبكرة لدولة يهودية وإنشاء محمية بريطانية". لكن هذا الاحتمال تم رفضه لأن اليهود كانوا لا يشكلون آنذاك سوى أقلية صغيرة لا تُذكَر "الأمر الذي سيؤدي إلى تلاشي حلم الدولة الصهيونية". وتضيف المذكرة أن زعماء الحركة الصهيونية "كانوا على إدراك تام لهذه الاعتبارات".
وأما الاحتمال الخامس فهو الاحتمال الأوحد القابل للتحقيق حسبما جاء في المذكرة، وهو يشكل في رأينا الدوافع الحقيقية والعامة لإصدار وعد بلفور:(16/98)
1 ـ يشكل إنشاء المحمية ضماناً لسلامة مصر [أي سلامة المصالح الإمبراطورية البريطانية التي كانت مصر تشكل إحدى ركائزها الأساسية أنذاك [
2 ـ سوف يُقابَل إعلان الحماية البريطانية بالترحيب من السكان الحاليين [وسيتم بالتالي تحاشي الصدام مع اليهود [
3 ـ ستُعطَى المنظمات اليهودية تحت ظل الحكم البريطاني تسهيلات لابتياع الأراضي وإنشاء المستعمرات وإقامة المؤسسات التربوية والدينية، والتعاون في إنماء البلاد اقتصادياً، وستنال مسألة الهجرة اليهودية مركز الأفضلية بحيث يتحول السكان اليهود إلى أكثرية مستوطنة في البلاد [أي توطيد دعائم الاستيطان الصهيوني] .
4 ـ ستؤدي هذه الخطوة إلى شعور يهود العالم بالامتنان تجاه بريطانيا وسوف يؤلف اليهود كتلة متحيزة للإمبراطورية البريطانية [توظيف اليهود في الداخل والخارج لخدمة المصالح الإمبريالية البريطانية] .
5 ـ يشير صموئيل في المذكرة (وفي أماكن أخرى) إلى أنه، بعد أن يستقل اليهود في دولة خاصة بهم، سوف تشكل هذه الدولة جزءاً من الحضارة الغربية وتدافع عن مصالحها.
وإذا كان هذا هو الإطار العام، فإن التحرك من خلاله كان يتطلب استقالة إسكويث عام 1916، وقد حل محله لويد جورج كرئيس للوزراء وبلفور وزيراً للخارجية. وهنا ظهر السير مارك سايكس (1979-1919 المهندس الحقيقي لوعد بلفور الذي عُيِّن مستشاراً لوزارة الخارجية البريطانية لشئون الشرق الأوسط. ويكاد يكون هناك ما يشبه الإجماع بين المؤرخين على أن الإمبراطورية البريطانية كانت شديدة الاهتمام بفلسطين، وقد أبرمت معاهدة سايكس ـ بيكو لتحديد طريقة تقسيم الدولة العثمانية. ولم يشترك الصهاينة في المفاوضات المؤدية، ولم يُدعَوا إليها، ولم يعرفوا بها حتى بعد توقيعها، أي أن مصير فلسطين تقرَّر دون مشاركتهم.(16/99)
وكان سايكس يقبل مبدأ تقسيم الدولة العثمانية، ولكنه كان معارضاً لذلك القسم الخاص بتدويل فلسطين. لأن هذا كان "ينفي السيطرة البريطانية عليها" بل كان يعني قيام سيطرة فرنسية، الأمر الذي كان يعني زيادة حجم نفوذ الفرنسيين بشكل لا يتفق مع الواقع، كما قد يؤدي إلى نسف الموقف الإستراتيجي لبريطانيا في الشرق الأوسط برمته. وكان لويد جورج مقتنعاً بحاجة بريطانيا إلى فلسطين للدفاع عن مشارف قناة السويس، ومن هنا برزت أهمية المشروع الصهيوني كوسيلة للانسحاب بلباقة من اتفاقية سايكس ـ بيكو. فهذا المشروع يعني ببساطة تحويل فلسطين إلى وطن قومي يهودي تحت الرعاية البريطانية، وهذه الرعاية تعني في الواقع احتلال بريطانيا لفلسطين، ومن ثم قررت بريطانيا توظيف اليهود حتى تتخلص من البنود الخاصة بفلسطين في اتفاقية سايكس بيكو. ومنذ أن اتصل الصهاينة بهربرت صموئيل، اكتشفهم سايكس الذي أراد أن يستخدمهم في محاولة تعديل الاتفاقية وظلوا هم الجانب المتلقي لما تشاؤه الإرادة الإمبريالية البريطانية. وبعد أن تقرَّر توظيفهم، دُعي الصهاينة لأول مرة للاجتماع مع ممثلي الحكومة في فبراير 1917. وتتالت الأحداث، فقام سايكس بكتابة أولى مسودات الوعد، وتمت الموافقة عليها. وحينما تمت صياغة الوعد (كما لاحظ آحاد هعام) تمت صياغته بدون الالتفات إلى مقترحات الصهاينة أو مقترحات أعداء الصهيونية.
وقد تأخر صدور الوعد بعض الوقت بسبب معارضة يهود إنجلترا المعادين للصهيونية، إذ قاد لوسيان وولف وسير إدوين مونتاجو حملة ضد الوعد وإصداره لأنه يُسقط حق المواطنة عن اليهود ويجعلهم مواطنين في دولة أخرى. واستجابةً لهذه الضغوط، أُسقطت عبارة "الجنس اليهودي" وحل محلها عبارة "الشعب اليهودي" كما أضيفت عبارة أن الوعد لن يؤدي إلى الإخلال بالحقوق والأوضاع القانونية التي يتمتع بها اليهود في أية دولة أخرى.(16/100)
ولكن الحكومة الإنجليزية لم تعامل أعداء الصهيونية برفق شديد إذ أن بلفور أخبر وولف وأصدقاءه أن يوقفوا الهجوم على الصهيونية، فالمشروع الصهيوني يشكل جزءاً من المشروع الاستعماري الغربي وعليهم أن يعوا ذلك.
ووعد بلفور صيغة جديدة من البراءات الاستعمارية التي كانت تُمنَح للمستوطنين الغربيين في آسيا وأفريقيا. وحينما أُصدر وعد بلفور، سماه الصهاينة «الميثاق أو البراءة» . وقد كانوا، في ذلك، أكثر دقة من كثير من العرب ومؤرخي الصهيونية، فوعد بلفور كان الميثاق الذي يشبه البراءة التي مُنحت لرودس (وإن كان وعد بلفور أكثر التزاماً بمساعدة اليهود من البراءة التي مُنحت لرودس) . وقد مُنحت براءة بلفور لليهود بعد تقسيم تركيا بطريقة لا تختلف كثيراً عن البراءات التي أُعطيَت لبعض الشركات الغربية في أعقاب تقسيم أفريقيا في مؤتمر برلين. وقد أصدرت بريطانيا البراءة بعد التفاوض مع الحلفاء، ووافقت عليه مسبقاً كلٌّ من فرنسا وإيطاليا، ثم أيَّدته الولايات المتحدة، فهو ليس وعداً إنجليزياً وإنما هو وعد غربي، كما أن المستعمرة اليهودية التي ستُؤسَّس لن تكون تابعة لإنجلترا وحسب وإنما ستخدم المصالح الإمبريالية الغربية كافة. ولذا، فإن ثمة مسافة بين الصهاينة والحكومة البريطانية رغم التزام إنجلترا بدعم المُستوطَن الصهيوني، إلا أنه كان من المتوقع أن يقع عبء العمل الاستيطاني نفسه على عاتق الصهاينة أنفسهم (تماماً كما هو الحال مع شركات الاستيطان (.
ويُلاحَظ أن براءة بلفور الاستيطانية، مثل البراءات الأخرى، صدرت دون استشارة السكان الأصليين ودون أخذ مصيرهم في الاعتبار.
عقد بلفور
Balfour Contract(16/101)
«عقد بلفور» مصطلح قمنا بسكه للإشارة إلى وعد بلفور. فوعد بلفور هو بمنزلة «عقد» علني واضح وقِّع بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية العالمية باعتبارها ممثلة للجماعات اليهودية في العالم لوضع العقد الصامت والصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة موضع التنفيذ.
جيمس بلفور (1848-1930 (
James Balfour
صهيوني غربي بريطاني يستخدم الديباجات المسيحية تارة، والعلمانية (العرْقية والإمبريالية) تارة أخرى، ويمزج بينها جميعاً تارة ثالثة. ويُنسَب إليه التصريح الذي أصدرته الحكومة البريطانية عام 1917 ويُسمَّى «وعد بلفور» .
تلقَّى بلفور تعليماً دينياً من أمه في طفولته، وتشبَّع بتعاليم العهد القديم، خصوصاً في تفسيراتها الحرفية البروتستانتية. ورؤية بلفور لليهود متأثرة بالرؤية الألفية الاسترجاعية التي تراهم باعتبارهم شعباً مختاراً ومجرد وسيلة للتعجيل بالخلاص، وهي الرؤية التي تمت علمنتها فتحوَّل اليهود إلى الشعب العضوي (المختار) المنبوذ.
ويتجلى هذا المزيج من الكره والإعجاب من جانب بلفور في تلك المقدمة التي كتبها لمؤلَف سولوكوف تاريخ الصهيونية حيث يبدي معارضته لفكرة المُستوطَن البوذي أو المُستوطَن المسيحي. فالمسيحية والبوذية في رأيه هما مجرد أديان، ولكنه يَقْبل فكرة المُستوطَن اليهودي لأن "العرْق والدين والوطن" أمور مترابطة بالنسبة إلى اليهود كما أن ولاءهم لدينهم وعرْقهم أعمق بكثير من ولائهم للدولة التي يعيشون فيها. إن هذا الشعب العضوي يتميَّز أعضاؤه بالنشاط والحركية، ولذا فقد حققوا نجاحاً باهراً في المجتمع.(16/102)
ولكن هذا الشعب العضوي المختار هو أيضاً "جماعة أجنبية معادية" تؤمن بدين هو محل كره مُتوارَث من المحيطين بها، أدَّى وجودها في الحضارة الغربية إلى "بؤس وشقاء استمرا دهراً من الزمان". ولأن تلك الحضارة لا تستطيع طَرْد أو استيعاب هذه الجماعة، فهم يتسببون في كوارث تحيق بإنجلترا (كما فعل يهود اليديشية المهاجرون إليها) . وقد أعلن بلفور أن ولاء اليهود للدولة التي يعيشون فيها "ضعيف إذا ما قُورن بولائهم لدينهم وعرْقهم، وذلك نتيجة طريقتهم في الحياة ونتيجة عزلتهم، فهم لا يتزاوجون إلا من بني جنسهم". وهذا اتهام لليهود بأنهم جماعة لا تندمج كما أنها تعاني من ازدواج الولاء بل من انعدامه أحياناً، وهو اتهام يوجهه دائماً الصهاينة ومعادو اليهود لما يسمونه «الشخصية اليهودية» .
وقد اعترف بلفور نفسه لوايزمان بأنه وجد نفسه متفقاً مع افتراضات كوزيما فاجنر (ابنة الموسيقار) عن اليهود ومتقبلاً لها، وهي افتراضات معادية لليهود بشكل متطرف. لكل هذا، خلص بلفور إلى أنه ليس من مصلحة أي بلد أن يكون فيه يهود مهما بلغت وطنيتهم وانغماسهم في الحياة القومية. وانطلاقاً من كل هذا، فقد تبنَّى قانون الغرباء الذي صدر بين عامي 1903 و1905 والذي كان يهدف إلى وضع حدٍّ لدخول يهود اليديشية إلى إنجلترا. وقد أدَّى موقفه هذا إلى الهجوم عليه من قبَل المؤتمر الصهيوني السابع (1905، حيث وُصفت تصريحاته بأنها "معاداة صريحة للشعب اليهودي بأسره"، كما هاجمته الصحافة البريطانية.(16/103)
وقد يبدو الأمر لأول وهلة وكأنه نوع من التناقض الواضح الذي يقترب من الشيزوفرانيا، ولكن أفكار بلفور الاسترجاعية (علمانية كانت أم دينية) تعبِّر عن رغبة في التخلص من اليهود وفي حوسلتهم لخدمة الحضارة الغربية. والواقع أن مفهوم الحوسلة هو الذي يفسر تأرجحه بين الحب والكره، فالحب هو حب لشعب عضوي مختار متماسك، ومن ثم فإنه لا ينتمي إلى مسار التاريخ الإنساني العادي ولا يمكن استيعابه في الحضارة الغربية، والكره هو أيضاً كره لشعب عضوي مختار متماسك يرفض الاندماج أو الانتماء لمسار التاريخ الإنساني العادي أو الحضارة الغربية. والنتيجة واحدة، حباً أو كرهاً، وهي نقل اليهود خارج أوربا وتوظيفهم في خدمة الحضارة الغربية. فالشعب العضوي المنبوذ لا يمكن أن يحل مشكلته داخل التشكيل الحضاري الغربي عن طريق الاندماج في المجتمعات الغربية، وإنما يمكنه حلها من داخل التشكيل الاستعماري الغربي عن طريق التحول إلى مادة استيطانية نافعة بيضاء تُوطَّن خارج أوربا (في أية بقعة في آسيا أو أفريقيا) . وبالفعل، تعمَّق اهتمام بلفور بالمسألة اليهودية حين حضر هرتزل وتفاوض مع وزير المستعمرات جوزيف تشامبرلين ووزير الخارجية لانسدون، حيث أجرى معهما مفاوضات بشأن توطين اليهود في شبه جزيرة سيناء لتحويل الفائض البشري اليهودي عن إنجلترا وتوطينه في خدمة الإمبراطورية. وفي هذا الإطار، اقترح تشامبرلين، الوزير في وزارة بلفور، توطين اليهود في إحدى المستعمرات الإنجليزية، وتُرجم هذا الاقتراح إلى مشروع شرق أفريقيا.(16/104)
وفي عام 1905، قام بلفور بمقابلة حاييم وايزمان في مانشستر وأُعجب به كثيراً، ولكنه نسي فكرته الصهيونية إلى حدٍّ كبير في فترة الحرب. ثم قابله مرة أخرى عام 1915 وناقش معه الأهداف الصهيونية (بعد أن كانت الوزارة البريطانية قد ناقشتها عام 1914 وعندما عُيِّن وزيراً للخارجية في وزارة لويد جورج عام 1916، عاد بلفور لاهتمامه القديم بالصهيونية بسبب تزايد أهمية فلسطين في المخطط الإمبريالي البريطاني وبسبب تصاعُد الجو الثوري الذي ساد أوربا والشرق العربي (وقد كان بلفور يرى أن الصهاينة حماة مجتمع ذي تقاليد دينية وعرْقية تجعل اليهودي غير المندمج قوة محافظة هائلة في السياسة العالمية) .
زار بلفور الولايات المتحدة عام 1917 في إطار محاولات إنجلترا حث الولايات المتحدة على دخول الحرب إلى جانب الحلفاء، وقابل الزعيم الصهيوني الأمريكي لويس برانديز. وفي نوفمبر من العام نفسه، أصدر بلفور تصريحه أو وعده المشهور نيابةً عن الحكومة الإنجليزية. وقد شهد العام نفسه رفضه التدخل لدى الحكومة الروسية لإزالة القيود المتعلقة بإعطاء اليهود حقوقهم المدنية.
وبعد ذلك، استمر بلفور في دعم الصهيونية عدة سنوات وفي يونيه عام 1922، ألقى خطاباً في مجلس اللوردات البريطاني يحث فيه بريطانيا على قبول فرض الانتداب على فلسطين، وتقدَّم بمسودة قرار الانتداب لعصبة الأمم، كما شارك في افتتاح الجامعة العبرية عام 1925
وقد بيَّن بلفور تصوُّره لمستقبل فلسطين في إحدى المذكرات حيث قال: إن الصهيونية، سواء أكانت على حق أم كانت على باطل، خيِّرة كانت أم شريرة، فإنها ذات جذور متأصلة في "تعاليم قديمة وحاجات حالية وآمال مستقبلية" (غربية) . ولذا، فإن أهميتها "تفوق رغبات وميول السبعمائة ألف عربي" قاطني هذه الأرض. وقد أكد بلفور في مذكرة أخرى أن الحلفاء لم يكن في نيتهم قط استشارة سكان فلسطين العرب.(16/105)
وانطلاقاً من إدراك الأهمية الجغراسية (الجغرافية/السياسية) لفلسطين، طلب بلفور أن تكون فلسطين متاحة لأكبر عدد من المهاجرين (الذين رفض من قبل دخولهم إنجلترا) وأن تُوسَّع حدودها لتشمل الأراضي الواقعة شرقي نهر الأردن.
ويوجد في إسرائيل موشاف يُدعَى «بلفوريا» أسسه مستوطنون من الولايات المتحدة، كما توجد شوارع في القدس وتل أبيب سُمِّيت جميعها باسمه، ويطلق كثير من اليهود على أبنائهم اسم «بلفور» مع أنه ليس اسماً عبرياً أو يهودياً. وقد ألَّف بلفور عدة كتب في الفلسفة الدينية، من أهمها: دفاع عن الشك الفلسفي (1879) ، وأُسس الاعتقاد الديني: ملاحظات أولية لدراسة اللاهوت (1893) ، والإيمان بالله والفكر: دراسة في العقائد المألوفة (1923) .
مارك سايكس (1879-1919)
Mark Sykes
دبلوماسي ورحالة بريطاني وُلد في لندن وتلقَّى تعليمه في موناكو وبروكسل وكمبردج. عمل في الجيش البريطاني بعض الوقت في جنوب أفريقيا (1902 وسافر إلى سوريا والعراق، وعُيِّن ملحقاً فخرياً للسفارة البريطانية في إستنبول. وعُيِّن بسبب خبرته الواسعة في شئون الشرق مساعداً لوزارة الحرب البريطانية، وكانت وظيفته تزويد مجلس الوزراء بالمعلومات والمشورة حول شئون الشرق الأوسط. ولم يكن سايكس من صانعي القرار إلا أنه كان مؤثراً جداً فيهم بسبب شهرته كخبير في شئون الشرق الأوسط وحظوته لدى أصحاب السلطة. بل يرى كاتب سيرة حياته أنه كان القوة المحركة للسياسة البريطانية الخاصة بفلسطين التي أدَّت إلى إصدار وعد بلفور ثم الانتداب البريطاني على فلسطين. ومما تجدر ملاحظته أن سايكس كان كاثوليكياً على عكس الغالبية الساحقة من الصهاينة غير المسيحيين الذين يأتون من أوساط بروتستانتية.(16/106)
اشترك سايكس، بحكم منصبه، في المباحثات التي جرت في لندن وكان يمثل فيها الجانب البريطاني. أما فرانسوا جورج بيكو، القنصل الفرنسي السابق في بيروت ومستشار السفارة الفرنسية في لندن، فكان يُمثل الجانب الفرنسي فيما يتصل بما كان يُسمَّى «المسألة السورية» ، أي مستقبل المنطقة العربية (وخصوصاً الشام) وتقسيم ممتلكات الدولة العثمانية في آسيا. وقد انتهت هذه المباحثات، بشكل مبدئي (عام 1916 بتوقيع اتفاقية سايكس ـ بيكو الشهيرة لتقسيم مناطق النفوذ بين إنجلترا وفرنسا. وقد وُضعَت فلسطين بمقتضى الاتفاق تحت إشراف إدارة دولية.(16/107)
وبعد هذا التوقيع المبدئي، اطَّلع السير مارك سايكس على المذكرة التي وزعها هربرت صمويل على أعضاء الوزارة البريطانية يقترح فيها أن تبنَّت إنجلترا المشروع الصهيوني. وقد اكتشف سايكس على التو أنه لو تبنَّت إنجلترا المشروع الصهيوني، فإن هذا سيوفر لها موطئ قدم راسخاً في الشرق الأرسط. واكتشف سايكس أن بوسعه استخدام الصهاينة في التخلص من الجزء الخاص بوضع فلسطين تحت إدارة دولية (أي فرنسية إنجليزية) . ومما له دلالته، أن القيادة الصهيونية لم تكن تعرف شيئاً عن الاتفاق السري هذا (أي أن القرار دائماً قرار استعماري يتم توظيفه لاحقاً الصهاينة) . ولم يعرف وايزمان عن الاتفاق إلا في 16 أبريل 1917 من تشارلز سكوت رئيس تحرير المانشستر جارديان. وقد تقرَّر أن يعبِّر الصهاينة عن رغبتهم في أن تكون فلسطين تحت حكم إنجلترا وحسب وألا تُقسَّم. وبالفعل، قام الصهاينة بما طُلب منهم، وقام سوكولوف بمقابلة بيكو وعبَّر له عن وجهة النظر الصهيونية، وأكد له أن الدولة الصهيونية لن تضر بمصالح فرنسا. ولكن العنصر الحاسم في تغيير وجهة النظر الفرنسية لم يكن الضغوط الصهيونية وإنما وصول القوات البريطانية تحت قيادة أللنبى إلى فلسطين واستيلائهم عليها دون عون القوات الفرنسية. كما أن اندلاع الثورة البلشفية وانسحاب روسيا من الحرب غيَّر الصورة تماماً. وقد انتهى الأمر بأن تنازلت فرنسا عن فلسطين لإنجلترا. وقد شارك سايكس بشكل أساسي في الصياغة النهائية لوعد بلفور.(16/108)
وكان سايكس ـ كما هي العادة مع الصهاينة غير اليهود ـ معادياً لليهود بشكل صريح ويَصدُر عن مفهوم الشعب العضوي المنبوذ. فاليهودي بالنسبة له هو المموِّل العالمي. وينقسم اليهود ـ حسب تصوُّره ـ إلى قسمين: اليهود المتأنجلزون (أي المندمجون) الذين يتخلون عن هويتهم (العضوية) ، ومن ثم يمكثون في بلادهم ولا يهاجرون منها، وكان سايكس يكن لهم احتقاراً عميقاً، وهناك العبراني الحقيقي (هذا الذي يترك إنجلترا ليستوطن في بلده العضوي) ، وهؤلاء كان يحبهم سايكس، شأنه في هذا شأن النازيين وشأن كل من يرغب في أن "يعود" اليهود إلى "وطنهم القومي" في فلسطين، فتُفرَّغ أوربا من يهودها. ومن هنا، فلا غرو أن يؤيد سايكس المشروع الصهيوني.(16/109)
الباب الرابع: وضع العقد موضع التنفيذ
العقد الصامت: تاريخ
Silent Contract: History
إن فَهْم ماهية العلاقة بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، وكيفية إبرام هذا «العقد الصامت» بينهما، يقتضي استذكار قصة ظهور الفكرة الصهيونية في ظل الحضارة الغربية ـ وهي قصة بدأت قبل ظهور الحركة الصهيونية بثلاثة قرون. فالصهيونية ـ على صعيد الفكر ـ فكرة غربية استعمارية عنصرية دعت إلى اصطناع قومية لليهود وإقامة دولة لهم في فلسطين العربية يتجمعون فيها على أساس استعماري استيطاني، بالتعاون مع قوى الاستعمار الغربي. وقد انطلقت هذه الفكرة في دعوتها هذه من الزعم بأن اليهود أينما كانوا يشكلون "شعباً" واحداً، وهم غير قابلين للاندماج في الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها وهذا ما يجعلهم هدفاً دائماً لاضطهاد هذه الشعوب لهم في كل زمان ومكان. كما انطلقت من الزعم بأن اليهود كشعب لهم تاريخ متصل في فلسطين انقطع لفترة مائتين وألف من السنين كانوا خلالها يتطلعون إلى العودة. كما أوضحنا أن ظهور هذه الفكرة بدأ في الغرب الأوربي الحديث خلال القرن السادس عشر الميلادي حين تضافرت حركة "النهضة الأوربية"، وحركة "الإصلاح الديني البروتستانتي"، وحركة "الكشوف الأوربية" في إرساء التاريخ الأوربي الحديث. وجاء تبلور هذه الفكرة من خلال تفاعُل أفكار الهيمنة الاستعمارية والسمو القومي والتفوق العنصري في الغرب الأوربي على مدى ثلاثة قرون.(16/110)
وكان من النتائج الواضحة للبروتستانتية ظهور الاهتمام الغربي بتحقيق النبوءات التوراتية المتعلقة بنهاية الزمان وتردُّد الحديث عن «العصر الألفي السعيد» المستند إلى الاعتقاد بعودة المسيح المنتظر الذي سيقيم مملكة الله في الأرض لتدوم ألف عام، وتتالي ظهور علماء لاهوت بروتستانت تحدثوا عن أمة يهودية وبَعْث يهودي، وعن كون فلسطين وطناً لليهود، وانتشار هذه الأفكار في الجزر البريطانية وبخاصة. وكان من النتائج الواضحة للكشوف الجغرافية الأوربية بدء الاستعمار الأوربي التجاري الذي تطوَّر بفعل عوامل أخرى إلى حركة استعمارية واسعة بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر مع حدوث الانقلاب الصناعي في أعقاب الانقلابين التجاري والآلي، وهو ما أدَّى إلى تسلُّط أفكار الهيمنة الاستعمارية على دول أوربا، ومنها إنجلترا التي برز فيها اهتمام خاص بفلسطين وبفكرة عودة اليهود إليها لأسباب تجارية. وقد تنامى الاهتمام الأوربي بفلسطين بسبب موقعها المهم بالنسبة لطرق التجارة الدولية وبرزت فكرة استعمارها استيطانياً باليهود، ثم تضاعف هذا الاهتمام مع نشوء ما عُرف في أوربا بالمسألة الشرقية التي جرى تعريفها باللغة الاستعمارية "بأنها مشكلة ملء الفراغ الذي ولَّده الانحسار التاريخي التدريجي للدولة العثمانية عن الحدود التي بلغتها في أوج توسُّعها". وقد بلغ التنافس أوجه بين إنجلترا وفرنسا القوتين الاستعماريتين الأكبر في القرن الثامن عشر على مدِّ نفوذهما إلى قلب الوطن العربي. وبادر بونابرت حين غزا مصر وفلسطين وارتد أمام أسوار عكا إلى مخاطبة يهود فرنسا مقترحاً عليهم إقامة دولة يهودية في فلسطين، ولم تلبث الفكرة الصهيونية أن تبلورت في المخططات الاستعمارية الفرنسية في القرن التاسع عشر. وحدث الأمر نفسه في المخططات الاستعمارية البريطانية في الفترة نفسها. وامتلأت وزارة الخارجية البريطانية بمعتنقي الفكرة الصهيونية. ولم تلبث المخططات الاستعمارية(16/111)
الأوربية عامة أن تبنت فكرة توطين يهود أوربا في فلسطين وإقامة دولة لهم تكون قاعدة استعمارية.
عمل الاستعماريون الأوربيون الذين بلوروا الفكرة الصهيونية على توظيف المعتقدات اليهودية لإقناع يهود أوربا بفكرة "عودتهم إلى فلسطين وإقامة دولة لهم فيها". وهكذا شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر تطوراً في مفهوم الماشيَّح تمثَّل في فتاوى حاخامات اليهود القائلة بضرورة هجرة أعداد كبيرة من اليهود إلى فلسطين لاستعمارها كخطوة على طريق تحقيق مملكة الخلاص وظهور المخلِّص. وألبس هؤلاء الاستعماريون الأوربيون ومنهم يهود الفكرة الصهيونية الثوب القومي، في وقت شهد ازدهار الفكرة القومية في أوربا، وعملوا على اصطناع قومية لليهود. وحين انحرف بعض المفكرين الأوربيين بفكرة القومية ونادوا بالسمو القومي والتفوق العنصري انساقت الفكرة الصهيونية مع ادعائهم وسقطت في مهاوي العنصرية مرددة مقولة شعب الله المختار.(16/112)
وثمة أسباب عديدة جعلت الفكرة الصهيونية "غير قادرة على التحقق"، من أهمها "أن دعاة الفكر الصهيوني كانوا من الصهاينة غير اليهود أو من أعداء اليهود، الأمر الذي جعل المادة البشرية المستهدفة (أي اليهود) يرفضون الدعوة إلى استيطان فلسطين. كما أنه لم يكن هناك أية أطر تنظيمية تضم كل الجماعات اليهودية. وعلاوة على هذا كان هناك يهود الغرب المندمجون الذين كانوا يرون أن المشروع الصهيوني يهدد وجودهم ومكانتهم وكل ما حققوه من مكاسب". وجاء تيودور هرتزل ليحل كل هذه الإشكاليات بوَضْع العقد الصامت استناداً للصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي نبعت من صميم الحضارة الغربية ومن تاريخها الفكري والاقتصادي والسياسي وبتأسيس المنظمة الصهيونية إطاراً تنظيمياً يمكن من خلاله توقيع العقد الصامت وفرض الصيغة الصهيونية الشاملة على الجماهير اليهودية. كما طوَّر الخطاب المراوغ الذي جعل إرضاء مختلف قطاعات يهود العالم الغربي في غرب أوربا وشرقها أمراً ممكناً.(16/113)
لقد جاء تيودور هرتزل 1860-1904 لينشر عام 1896 كتاب الدولة اليهودية مضمناً إياه "محاولة إيجاد حل عصري للمسألة اليهودية". وتلقَّفه وليام هشلر 1845 ـ 1931 القس الإنجليكاني الملحق بالسفارة البريطانية في فيينا، وعاونه في عقد المؤتمر الصهيوني الأول في بال عام 1897وصاغ هرتزل شعارات الحركة الصهيونية "نحن شعب"، و"فلسطين وطننا التاريخي الذي لا يُنسَى". ووضع خطة لتحقيق المشروع الصهيوني، وحوَّلها المؤتمر إلى برنامج سياسي، وقاد التحرك الصهيوني مع قوى الاستعمار الغربي وبخاصة في بريطانيا لتنفيذ هذا البرنامج. ووضعت الحركة الصهيونية نصب عينها بعد انعقاد مؤتمرها الأول القيام بمهام ثلاث هي: استعمار فلسطين، ومحاولة خلق شعب يهودي واحد متجانس، وإنشاء حركة تكون بمنزلة رأس الرمح في البرنامج الصهيوني الاستعماري. وتضمَّن هذا البرنامج تشجيع الاستعمار الصهيوني في فلسطين، وتأسيس منظمة تربط يهود العالم عن طريق مؤسسات محلية أو دولية طبقاً لقانون كل دولة، وتقوية الشعور القومي اليهودي، والحصول على موافقة حكومية لبلوغ الأهداف الصهيونية، وصولاً إلى "إنشاء وطن للشعب اليهودي في فلسطين يحميه القانون".
باشرت الحركة الصهيونية تهجير يهود أوربيين إلى فلسطين التي كانت جزءاً من الدولة العثمانية. واستغلت هذه الحركة ما كانت تعانيه الدولة من فساد إداري لتمكِّن آلاف اليهود من التسلل. وكثَّف هرتزل في هذه المرحلة جهوده الدبلوماسية للحصول على "براءة" تضمن أي كيان صهيوني يقام في فلسطين، فحصل على نوع من الاعتراف الأوربي بالمنظمة الصهيونية العمالية رغم معارضة يهود غير صهاينة رأوا في الصهيونية خطراً عليهم في أوطانهم. وقد استخدم هرتزل مصطلح «البراءة» في جوابه عن سؤال القيصر ولهلم الثاني أن يلخص له مطالب الصهيونية.(16/114)
إن هذه البراءة هي في واقع الأمر العقد الصامت الذي أبرم بين المنظمة الصهيونية (كمتحدث غير منتخب باسم يهود شرق أوربا وغربها) وبين العالم الغربي (وضمن ذلك المعادون لليهود) . وهو تفاهم ضمني بين يهود غرب أوربا ويهود اليديشية، تتعهد الحركة الصهيونية بمقتضاه بإخلاء أوربا من يهودها (أو على الأقل من الفائض البشري اليهودي) وتوطينهم في منطقة خارج هذا العالم الغربي (داخل دولة وظيفية) ، ويتحقق نتيجةً لذلك أن يؤسس المستوطنون في موقعهم الجديد قاعدة للاستعمار الغربي وتتعهد الصهيونية بتحقيق مطالب الغرب ذات الطابع الإستراتيجي وضمنها الحفاظ على تفتُّت المنطقة العربية. هذا فضلاً عن أهداف أخرى تمكِّن الصهيونية من التحكم باليهود وتخلِّص العالم الغربي من نسبة كبيرة منهم. ولم يلتفت هذا العقد لمشكلة شعب الأرض المستهدفة وكيفية حلها، بل عمدت الحركة الصهيونية إلى الزعم بأن "فلسطين أرض بلا شعب" منكرة وجود شعب تمتد جذوره في وطنه إلى فجر التاريخ الإنساني. وقد جاء استهداف طرفي العقد فلسطين لعدة أسباب في مقدمتها موقع فلسطين في قلب دائرة الوطن العربي وفي موقع إستراتيجي من دائرة العالم الإسلامي والحضارة العربية الإسلامية.(16/115)
والعقد الصامت بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية هو الإطار الذي تمت من خلاله عملية الاستعمار الإحلالي الصهيوني في فلسطين. وقد مارست دول أوربا الاستعمارية ضغوطاً على الدولة العثمانية لتمكِّن الصهيونية من التسلل إلى فلسطين في مطلع القرن، وعملت الحركة الصهيونية طابوراً خامساً لهذه الدول إبان الحرب العالمية الأولى (1914ـ 1918) . ثم قامت بريطانيا يوم 3 نوفمبر 1917 بأصدار تصريح بلفور الذي مثَّل اعترافاً رسمياً بريطانياً بالهدف الصهيوني الخاص بتحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود والتزاماً بريطانياً رسمياً بالتعاون مع المنظمة الصهيونية العالمية لتحقيق هذا الهدف. وكان هدف بريطانيا منه استعمار فلسطين واغتصابها وإيجاد قاعدة استعمارية استيطانية فيها تفصل مشرق الوطن العربي عن مغربه، وتمكِّن بريطانيا من الهيمنة على المنطقة.
تتالت الأمثلة الواقعية على هذا العقد الصامت في فلسطين إبان فترة ما بين الحربين وأثناء الحرب العالمية الثانية التي شكلت خلالها الحركة الصهيونية "الفيلق اليهودي" ليحارب مع الحلفاء. ومكَّنت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، التي أصبحت قائدة الاستعمار الغربي بعد الحرب، الحركة الصهيونية من إقامة دولة إسرائيل في فلسطين عام 1948 وخلال العدوان الثلاثي وحرب 1967 عملت إسرائيل لمصلحة المخططات الغربية في المنطقة. وقد كشفت الوثائق البريطانية عن نظرة ونستون تشرشل أحد رموز الاستعمار الغربي في الخمسينيات لدور إسرائيل في الضغط على مصر لتقبل الشروط البريطانية. والأمر نفسه كشفته الوثائق الأمريكية في الستينيات وما بعد. وقد جاء تجسيد «العقد الصامت» صارخاً في الاتفاق الإستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي عام 1981 الذي استهدف فلسطين والدائرة العربية والدائرة الإسلامية. وهكذا عبَّر العقد عن نفسه من خلال مذكرات تفاهم واتفاقيات عسكرية وإستراتيجية ودعم عسكري ومالي وسياسي فعلي.(16/116)
لقد واجه طرفا العقد مقاومة قوية استمرت هي الأخرى في مراحل نضال الشعوب المُستعمَرة من أجل التحرير في الدائرة العربية والإسلامية. ولا تزال هذه المقاومة مستمرة. وقد برزت بفعلها أسئلة عن مستقبل القاعدة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية، وعن مدى صواب إستراتيجية العداء الغربي للعروبة وحضارة الإسلام، وعن ما تسببه الصهيونية العنصرية من تداعيات تهدد يهوداً كثيرين فضلاً عن الشعوب العربية والإسلامية المُستهدَفة بالعقد الصامت.
العقد الصامت والدعم السياسي والاقتصادي والعسكري الغربي للحركة الصهيونية وللدولة الصهيونية
Silent Contract and Western Political, Economic, and Military Support of the Zionist Movement and State
قامت القوى الاستعمارية الغربية بدعم الحركة الصهيونية حتى عام 1948 ثم قامت بدعم الدولة الوظيفية بعدها. وسنتناول بعض أشكال الدعم السياسي في مداخل هذا الباب. وبإمكان القارئ أن يعود إلى الباب المعنون «الدولة الوظيفية» وإلى المدخل المعنون «المعونات الخارجية للدولة الصهيونية الوظيفية.»
لجنة كينج ـ كرين
King-Crane Commission(16/117)
في سياق تصفية تركة الحرب العالمية الأولى بتقسيم مناطق النفوذ في العالم بين البلدان الاستعمارية المنتصرة، وانطلاقاً من رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في استثمار تضارب المصالح بين فرنسا وبريطانيا لإيجاد موطئ قدم في المنطقة العربية، اقترح الرئيس الأمريكي ويلسون في مارس 1919 على المجلس الأعلى لمؤتمر الصلح بين دول الحلفاء (أمريكا ـ بريطانيا ـ فرنسا ـ إيطاليا) إرسال لجنة تحقيق للوقوف على رغبات المواطنين في فلسطين وسوريا ولبنان وشرق الأردن تمهيداً لتقرير مصير المنطقة. ورغم التصديق على الاقتراح، فقد امتنعت فرنسا وبريطانيا عن الاشتراك في اللجنة لعلمهما بأن نتائج التحقيق لن تكون في صالحهما، ولذا فقد اقتصرت اللجنة على العضوين الأمريكيين اللذين سُميِّت اللجنة باسميهما وهما: هنري كينج وتشارلز كرين بالإضافة إلى بعض المستشارين.
اطلعت اللجنة على المذكرة التي قدمتها المنظمة الصهيونية العالمية للمؤتمر في فبراير 1919، والتي تضمنت مطالب الحركة الصهيونية المتمثلة في الاعتراف بما يُسمَّى «الحقوق التاريخية للشعب اليهودي» في فلسطين، وحق اليهود في إقامة "وطن قومي" لهم، كما اطلعت على المذكرات المماثلة التي قدمها الفلسطينيون للمؤتمر، ومنها: مذكرة الاحتجاج التي بعث بها وجهاء وأعيان مدينة نابلس في يناير 1919، والمذكرة التي قدمها المؤتمر العربي الفلسطيني الأول في الشهر نفسه. وقد شددت المذكرات العربية على رفض المطالب الصهيونية وعلى أن فلسطين جزء لا يتجزأ من سوريا.(16/118)
وفي العاشر من يونيه 1919، بدأت اللجنة عملها في يافا فالتقت بالجمعيات الشعبية فيها وممثلي الطوائف الدينية ومندوبي القرى، واستمعت إلى مطالبهم. وفي القدس، التقت اللجنة بممثلي الجمعية الإسلامية ـ المسيحية الذين أكدوا رفض الهجرة اليهودية إلى فلسطين لأنها ترمي إلى تحقيق المشروع الصهيوني بإقامة وطن قومي لليهود، كما أكدوا وحدة سوريا وفلسطين مع احتفاظ الأخيرة باستقلالها الداخلي وحريتها في انتخاب حكامها من الوطنيين وسن قوانينها وفقاً لرغبات السكان.
وواصلت اللجنة جولتها في المدن والقرى الفلسطينية حيث تعرفت على مواقف مختلف الأطراف، ثم سافرت إلى دمشق وأجرت فيها استفتاء شمل العلماء وممثلي الطوائف والحرف وممثلي مجلس الشورى وغيرهم، وتسلَّمت مذكرة من المؤتمر السوري العام تضمَّنت المطالب العربية الأساسية، كما انتقلت اللجنة إلى شرق الأردن وبيروت واطلعت على آراء السكان هناك. ثم توجَّهت بعد ذلك إلى الأستانة حيث عكفت على دراسة المذكرات والوثائق التي تلقتها وبلغت 1863 مذكرة، وانتهت من وضع تقريرها في أغسطس 1919 (ولكنه لم يُنشَر إلا بشكل موجز عام 1922، ولم يُنشَر رسمياً إلا عام 1947) .(16/119)
وذكرت اللجنة في تقريرها أن العداء للصهيونية لا يقتصر على فلسطين فحسب بل يشمل المنطقة كلها، وأن هناك إجماعاً على رفض البرنامج الصهيوني تماماً، وأضافت أن اليهود ـ الذين يشكلون نحو 10% من سكان فلسطين ـ هم وحدهم الذين يؤيدون الصهيونية وإن كانوا يختلفون في بعض التفاصيل والوسائل المتعلقة بإقامة الدولة اليهودية ومدى تَوافُقها مع تعاليم الدين اليهودي، كما أنهم وحدهم الذين يطالبون بفرض الانتداب البريطاني على فلسطين لأنه سيساعدهم على تحقيق مشروعهم. واعترفت اللجنة بأنها لمست بوضوح إصرار الصهاينة على تهجير الفلسطينيين والاستيلاء على الأراضي بالقوة. ووصف التقرير المزاعم الصهيونية بشأن "الحقوق التاريخية" لليهود في فلسطين بأنها لا تستوجب الاكتراث ولا يمكن النظر إليها جدياً بعين الاعتبار. وبيَّنت اللجنة ما في تعهدات وعد بلفور من ازدواجية وتناقض إذ "لا يمكن إقامة دولة يهودية دون هَضْم خطير للحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية في فلسطين". وكانت أهم توصيات اللجنة:
1 ـ ضرورة تحديد الهجرة اليهودية إلى فلسطين والعدول نهائياً عن الخطة الرامية إلى جعلها دولة يهودية.
2 ـ ضم فلسطين إلى دولة سوريا المتحدة لتكون قسماً منها.
3 ـ وضع الأماكن المقدَّسة في فلسطين تحت إدارة لجنة دولية تشرف عليها الدولة المنتدبة وعصبة الأمم، ويمثِّل اليهود فيها بعضو واحد.(16/120)
وقد قوبل تقرير اللجنة بالرفض التام من جانب فرنسا وبريطانيا والحركة الصهيونية. أما الولايات المتحدة ـ التي كان رئيسها صاحب فكرة إرسال اللجنة ـ فلم تُعر انتباهاً هي الأخرى لتوصيات اللجنة، رغم ما نص عليه تقريرها من أن المشروع الصهيوني يناقض مبدأ الرئيس ويلسون بشأن حرية الشعوب في تقرير مصيرها. وإذا وضعنا في الاعتبار أن ويلسون نفسه كان قد وافق على تصريح بلفور قبل إعلانه، فستتضح على الفور حقيقة الموقف الأمريكي وحقيقة أن تلك المبادئ لم تكن في الواقع إلا ستاراً للمصالح الاستعمارية.
الانتداب
The Mandate
طبقاً لقرار مؤتمر سان ريمو لدول الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، وفي سياق اقتسام مناطق النفوذ في العالم بين الدول الاستعمارية الكبرى، وُضعت فلسطين عام 1920 تحت الانتداب البريطاني، ورأت الحكومة البريطانية أن تحصل على تصديق دولي لهذا القرار، فعرضته على عصبة الأمم التي أصدرت صك الانتداب عام 1922، وضمَّنته بريطانيا نص وعد بلفور، فأصبح بذلك وثيقة دولية، وأصبحت بريطانيا مسئولة عن تنفيذه أمام عصبة الأمم. وتجاهل صك الانتداب واقع فلسطين التاريخي والقومي، والأكثرية العربية الساحقة فيها التي لم يأت ذكرها إلا بشكل عرضي ومنقوص. رغم أن عددهم كان يفوق عندئذ 90%من مجموع السكان، بينما يمثل اليهود 10% فقط ولا تتجاوز أملاكهم 2% من الأراضي. كما جاء الصك مخالفاً بوضوح لميثاق عصبة الأمم نفسها الذي أعطى السكان الأصليين حقهم في اختيار الدولة المنتدبة طبقاً لرغبتهم.(16/121)
اتبعت سلطات الانتداب سياسة موالية للصهيونية، فعُيَّن الصهيوني السير هربرت صمويل مندوباً سامياً بريطانياً، وتم إفساح المجال لعمل المؤسسات الصهيونية المختلفة، مثل: الصندوق التأسيسي الفلسطيني، الهستدروت، والمجلس القومي. كما مُنحت عدة امتيازات للمستوطنين الصهاينة مكنتهم من السيطرة على كثير من المصالح الاقتصادية الحيوية في فلسطين، وجرى تعاون واسع بين سلطات الانتداب والوكالة اليهودية. وفي ظل هذه الأوضاع، تزايد النشاط الصهيوني واتجه إلى وسيلتين: الأولى: تشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين على أوسع نطاق، والثانية: تشجيع انتقال الأراضي من العرب إلى اليهود بالطرق المختلفة؛ كشراء الأراضي، ومَنْح القروض لليهود، وتقديم المساعدات لتشييد المستعمرات. ومن ناحية أخرى، شجعت سلطات الانتداب تأسيس المنظمات العسكرية الصهيونية، مثل: الهاجاناه، إتسل، وليحي. وشاركت هذه السلطات في تدريب أفرادها وتطوير وسائلها، وتسترت على نشاطها الإرهابي ضد السكان العرب.
وأمام تَصاعُد الرفض العربي للسياسة البريطانية في فلسطين وللإرهاب الذي تمارسه المنظمات الصهيونية، ولمواجهة الانتفاضات العربية المتتالية، أوفدت بريطانيا عدة لجان لدراسة الأوضاع في فلسطين واقتراح حلول لمشكلتها، وهي: لجنة هيكرافت (1921) ، لجنة شو (1930، لجنة بيل (1936) ، اللجنة الملكية للتحقيق (1936) ، ولجنة وودهيد (1938 كما أوفدت بريطانيا أيضاً سير جون سمبسون إلى فلسطين لهذا الغرض، وشكلت مع الولايات المتحدة لجنة مشتركة لتقصي الحقائق هي اللجنة الأنجلو ـ أمريكية (1946) . وأوفدت عصبة الأمم لجنة البراق الدولية إلى فلسطين (1930 لدراسة الأوضاع إثر انتفاضة البراق عام 1929.(16/122)
ودرجت الحكومة البريطانية أيضاً، خلال فترة الانتداب، على إصدار الكتب البيضاء لمعالجة الأوضاع المتفجرة في فلسطين. وقد قوبلت هذه الإجراءات بالرفض من الجانب العربي الذي لم يأل جهداً في سبيل التخلص من الاحتلال البريطاني والتغلغل الصهيوني في فلسطين. أما الجانب الصهيوني، فقد اتسمت علاقته مع سلطات الانتداب بالتعاون والتنسيق التام، عدا بعض الفترات القليلة التي شهدت خلافات بينهما نظراً لرفض الصهاينة نصوص الكتب البيضاء ولرغبتهم في الضغط على بريطانيا لدفعها إلى مواقف أكثر تأييداً للمشروع الصهيوني. وقد وصلت الخلافات إلى حد الصدام المسلح بين الطرفين في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
وقد أنهت بريطانيا انتدابها على فلسطين في 14 مايو 1948 بعد طرح القضية برمتها على الأمم المتحدة وصدور قرار تقسيم فلسطين عام 1947.
لجنة هيكرافت
Haycraft Commission
في أول مايو 1921، اندلعت الاشتباكات بين المواطنين الفلسطينيين واليهود في مدينة يافا إثر قيام الهستدروت بتنظيم مظاهرة للعمال اليهود رفعوا خلالها الرايات الصهيونية، وهو الأمر الذي استفز مشاعر الفلسطينيين إذ رأوا في ذلك إعلاناً عن قيام حكومة يهودية في فلسطين. وقد امتدت الاشتباكات إلى القرى والمدن المجاورة واستمرت نحو خمسة عشر يوماً تعرَّض المواطنون الفلسطينيون خلالها لقمع السلطات البريطانية والمستوطنين الصهاينة على حدٍّ سواء. وإزاء إحساس الحكومة البريطانية بتفاقم العداء العربي لها بسبب دعمها للمشروع الصهيوني، وخوفاً من امتداد أعمال العنف ضدها إلى مناطق أخرى من فلسطين، قرَّر هربرت صمويل ـ المندوب السامي البريطاني آنذاك ـ تشكيل لجنة للتحقيق في ملابسات أحداث يافا، وأسند رئاستها إلى توماس هيكرافت ـ قاضي قضاة فلسطين ـ وضمت اللجنة: هـ. لوك وج. ستوبس.(16/123)
بدأت اللجنة عملها في أواخر مايو 1921، فاتصلت بالجمعيات والمؤسسات العربية وتلقت منها تقارير عن الأحداث، كما استمعت إلى عشرات الشهود من الجانب العربي ومن جانب المستوطنين الصهاينة. وفي أكتوبر 1921، قدمت اللجنة تقريرها إلى مجلس العموم البريطاني أكدت فيه أن موقف بريطانيا المؤيد للمشروع الصهيوني بإقامة "وطن قومي" لليهود في فلسطين هو السبب الأساسي في تصاعُد مشاعر العداء من جانب الفلسطينيين تجاه السلطات البريطانية والمستوطنين اليهود. ونفت اللجنة مسئولية العرب عن تدبير أعمال العنف وأشارت إلى أن الذي أثار نقمة العرب هو: تبجُّح المستوطنين الصهاينة وخروجهم على الآداب العامة في الشوارع، وعدم اعتدادهم بالعادات والتقاليد العربية، وعدم اعترافهم بوجود تقاليد قومية عند العرب، كما أشارت إلى أن عدد اليهود في الوظائف العامة غير متناسب مع نسبتهم، وإلى اتساع سلطة البعثة الصهيونية الزائد عن الحد.
ثم بسطت اللجنة شكاوى المواطنين الفلسطينيين الذين يمثلون الطوائف كافة. وأجمعت الشكاوى على مخاطر الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومخاطر الدعم البريطاني للحركة الصهيونية والذي مكَّن المنظمة الصهيونية من أن تصبح بمنزلة حكومة داخل حكومة فلسطين. وأكدت اللجنة في ختام تقريرها أنها لمست بوضوح إصرار الصهاينة على إقامة "الوطن القومي اليهودي" بالقوة، ورفضهم مساواة الفلسطينيين بهم. وانتقد التقرير الدكتور أور رئيس البعثة الصهيونية لاقتراحه بأن لا يُسمَح لغير اليهود بحَمْل السلاح.
وقد شنت الدوائر الصهيونية هجوماً عنيفاً على التقرير، فاعتبره حاييم وايزمان هدية قُدِّمت إلى خصومه ليستغلوها في تشويه أغراض الصهيونية، بل ذهب إلى حد القول بأن هذا التقرير غرس بذور المتاعب التي واجهها الصهاينة في فلسطين خلال السنوات التالية.
دستور فلسطين
Palestine Constitution(16/124)
وثيقة صدرت عن البلاط الملكي في قصر باكنجهام في اليوم الرابع عشر من شهر أغسطس 1922. وكان هذا الدستور امتداداً لصك الانتداب وتحدَّث عنه البعض باعتباره لائحة لتنظيم عملية تهويد فلسطين، وإطلاقاً ليد "المندوب السامي البريطاني" في فلسطين لتنفيذها. وقد أعطى هذا الدستور للمندوب السامي حق رَفْض القوانين وحق التصرف في الأراضي وحق السجن والإبعاد وحق قبول الشكوى إذا كانت ناجمة عن تقصير في تنفيذ صك الانتداب. ومن مواد هذا الدستور:
ـ المادة 13: للمندوب السامي أن يهب أو يؤجر أية أرض من الأراضي العمومية أو أي معدن أو منجم، وله أن يأذن بإشغال هذه الأراضي بصفة مؤقتة بالشروط والمدد التي يراها ملائمة. ويشترط في كل هذا أن تجرى كل هبة كهذه أو كل إيجار أو تصرف كهذا وفقاً لمرسوم أو تشريع أو قانون معمول به في فلسطين، أو سيُعمَل به فيما بعد، أو وفقاً لما قد يَصدُر للمندوب السامي من التعليمات بتوقيع جلالته وختمه أو بواسطة الوزير تنفيذاً لأحكام صك الانتداب.
ـ المادة 25: للمندوب السامي أن يعلن موافقته أو عدم موافقته على أي قانون بمحض إرادته مع مراعاة التعليمات الصادرة إليه بتوقيع الملك وختمه.
ـ المادة 46 ـ الفقرة 3: يُشترَط ألا يُطبَّق التشريع العام ومبادئ العدل والإنصاف المشار إليها في هذا الدستور في فلسطين إلا بقدر ما تسمح به ظروف فلسطين وأحوالها، ومدى اختصاص جلالة الملك فيها، وأن تُراعَى عند التطبيق التعديلات التي تستدعيها الأحوال العامة.
ـ المادة 85: إذا كانت أية طائفة دينية أو كان فريق كبير من سكان فلسطين يشكو من عدم قيام حكومة فلسطين بتنفيذ صك الانتداب، فيحق للطائفة أو الفريق المذكور أن يرفع مذكرة بذلك إلى المندوب السامي بواسطة عضو من أعضاء المجلس التشريعي.
الكتاب الأبيض
White Paper(16/125)
«الكتاب الأبيض» عبارة تُطلَق على مجموعة الوثائق التي تتضمن تقرير السياسة البريطانية فيما يتصل بموضوع ما والتي تقوم الحكومة بتقديمها إلى البرلمان. وقد لعبت هذه الوثائق دوراً مهماً في تاريخ الانتداب البريطاني في فلسطين إذ صدر منها ستة في الفترة 1922 ـ 1939:
1 ـ الكتاب الأبيض الصادر في يونيه 1922 (كتاب تشرشل الأبيض (:
سادت فلسطين حالة من القلق وزادت الانتقادات في الصحف البريطانية بعد اتضاح محاباة الحكومة البريطانية للمؤسسة الصهيونية. لذا، رأى تشرشل أن يضع حداً لكل هذا بإصدار بيان رسمي عن السياسة البريطانية في فلسطين.
تحتوي هذه الوثيقة التي قدَّمها ونستون تشرشل، باعتباره وزير المستعمرات، تقريراً بريطانياً بالغ الأهمية. فقد أكد هذا الكتاب ما تضمَّنه وعد بلفور 1917، ثم أعلن أن فلسطين لن تصبح يهودية بمثل ما تُعتبَر إنجلترا إنجليزية، أي أن العرب عليهم ألا يتخوفوا من طَرْد السكان العرب في فلسطين أو اختفاء ثقافتهم أو لغتهم. وأضافت هذه الوثيقة أنه "لا يوجد في وعد بلفور ما يشير إلى أن فلسطين بكاملها ستتحول إلى وطن «قومي» يهودي فقط، إن مثل هذا الوطن القومي سيكون في فلسطين دون أن يعني هذا فرض الجنسية اليهودية على سكان فلسطين بالكامل".(16/126)
كذلك تضمنت هذه الوثيقة سياسة الحكومة البريطانية فيما يتعلق بالهجرة، فذكرت أن الهجرة اليهودية ستستمر طالما أنها لا تتجاوز ما تستطيع طاقة البلاد الاقتصادية استيعابه، وأن الحكومة البريطانية ستشجع العمل على منح الإقليم حكماً ذاتياً يديره مجلس تشريعي من اثنى عشر عضواً منتخبين وعشرة مختارين يرأسهم المفوض الأعلى. وقد رفض هذه السياسة العرب واليهود على حدٍّ سواء. وقد استثنى الكتاب الأبيض هذا منطقة شرق الأردن من فلسطين. ومع هذا، سارع الصهاينة إلى الموافقة على الكتاب الأبيض. ولكن العرب أصروا على رفضهم، ذلك أن الوفد الفلسطيني لم يكن مفوضاً بقبول أية سياسة بريطانية مبنية على تصريح بلفور. كما أن تنظيم الهجرة اليهودية كان يعني في واقع الأمر، خلق أكثرية يهودية تعني بدورها سيطرة الصهاينة على فلسطين.
2 ـ الكتاب الأبيض الصادر في أكتوبر 1930 (كتاب باسفيلد الأبيض (:
وقد أصدر هذا الكتاب اللورد باسفيلد وزير المستعمرات في أكتوبر 1930 على إثر الاضطرابات الدامية التي شهدها عام 1929. فقد أرسلت الحكومة البريطانية لجنة شو لتقصِّي الحقائق حول أسباب هذه الحوادث. وجاءت هذه الوثيقة لتشير إلى أن إعلان وعد بلفور والانتداب البريطاني في فلسطين كليهما يتضمنان نوعين من الالتزامات الملقاة على عاتق الحكومة البريطانية. الأول منها يتعلق بكفالة إنشاء وطن "قومي" لليهود في فلسطين، والثاني يتعلق بموقف السكان غير اليهود. وقد رفضت الوثيقة وجهة النظر القائلة بأن إنشاء وطن "قومي" لليهود هو الواجب الأساسي لنظام الانتداب، وصاغت السياسة البريطانية المقترحة في أربعة بنود أساسية: الأمن ـ التطوُّر الدستوري ـ التطوُّر الاقتصادي ـ التطوُّر الاجتماعي. وأعلنت الحكومة أنها لن تتحول عن هذه السياسة بتأثير أية ضغوط، وأنها ستعاقب بشدة أية تهديدات للأمن في المنطقة وأنها ستسير قدماً نحو إنشاء المجلس التشريعي الذي اقترحه كتاب تشرشل السابق.(16/127)
وتتبنَّى الوثيقة وجهة النظر القائلة بأن مساحة الأرض المزروعة في فلسطين لم تَعُد تسمح باستيعاب مهاجرين جدد، وتنتقد بشدة سياسة الوكالة اليهودية الخاصة بالاستيطان، إذ ترى فيها تهديداً للوجود العربي في فلسطين، كما أنها تتعارض مع مزاعم الصهيونية القائلة برغبة الصهاينة في العيش في سلام مع العرب. وطالبت الوثيقة بإدخال موضوع الأيدي العاملة العربية التي تعاني من البطالة في التقدير عند الحديث عن الطاقة الاقتصادية للإقليم فيما يتعلق بالهجرة.
وقد تعرَّضت هذه السياسة لنقد عنيف من بعض الساسة البريطانيين الذين رأوا فيها اتجاهاً إلى تخلِّي الحكومة البريطانية عن التزاماتها الواردة في صك الانتداب. كذلك قدَّم وايزمان استقالته من رئاسة الوكالة اليهودية احتجاجاً على ما اعتبره إنكاراً لحقوق وآمال «الشعب اليهودي» في إنشاء وطن "قومي".
وقد دخلت لجنة حكومية خاصة في مفاوضات مع ممثلين للوكالة اليهودية نتج عنها خطاب رامزي ماكدونالد رئيس الوزراء في 13 فبراير 1931 الذي وجَّهه إلى وايزمان واعتُبر وثيقة رسمية قُدِّمت لعصبة الأمم وللمندوب السامي في فلسطين. ولم يكن الخطاب في الظاهر سوى تفسير لكتاب باسفيلد الأبيض. إلا أنه من الناحية العملية تَضمَّن إلغاء الكثير من القيود التي فُرضت على الحركة الصهيونية عندما أكد أن الالتزام الوارد في صك الانتداب هو التزام "للشعب اليهودي" وليس فقط للسكان اليهود في فلسطين. كما أكد ما تضمنته ديباجة صك الانتداب (تضمنت نص وعد بلفور) ، بالإضافة لإشارته للحقوق "التاريخية" لليهود في فلسطين. كذلك وافق الخطاب على تسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتشجيع الاستيطان اليهودي بها.
3 ـ الكتاب الأبيض الصادر في يوليه 1937 (لجنة بيل (:(16/128)
صدر هذا الكتاب مُتضمِّناً السياسة البريطانية في فلسطين في الوقت نفسه الذي صدر فيه تقرير «اللجنة الملكية لفلسطين» المعروف بتقرير بيل. فذكر أن الحكومة البريطانية قَبلت خطة التقسيم التي وضعتها اللجنة من ناحية المبدأ، وأنها ستتخذ الإجراءات الضرورية لوضعها موضع التنفيذ. وحتى يتم إنشاء الدولتين العربية واليهودية، فإن الحكومة لن تتخلى عن التزاماتها في حفظ السلم والأمن والنظام العام في سائر أنحاء فلسطين. وحتى يتم وَضْع الخطة موضع التنفيذ، فإن الحكومة قررت اتخاذ إجراءين:
أ) حظر أي تغيير في ملكية الأراضي يكون من شأنه عرقلة تنفيذ البرنامج الحكومي.
ب) تحديد الهجرة في الفترة من أغسطس 1937 حتى مارس 1938 بثمانية آلاف مهاجر.
4 ـ الكتاب الأبيض الصادر في ديسمبر 1937 (لجنة وودهيد) :
وتتضمن هذه الوثيقة خطاباً من وزير المستعمرات إلى ووشوب المندوب السامي في فلسطين. وقد تَضمَّن هذا الخطاب تعيين لجنة وودهيد لدراسة تفصيلات وإمكانات مشروع التقسيم من الناحية العملية، فلو قدَّرت الحكومة أن المشروع عادل وعملي، فإنها ستحيله إلى عصبة الأمم، ويمكن بعدئذ أن تنشئ نظماً حكومية جديدة للمناطق اليهودية والعربية.
5 ـ كتاب نوفمبر 1938 الأبيض (تقرير لجنة وودهيد) :(16/129)
بعد إصدار تقرير لجنة وودهيد الذي طالب بإلغاء توصيات لجنة بيل (على اعتبار أن المشروع الذي طالبت به غير مجد) ، وحاولت الحكومة البريطانية تقديم وجهة نظر تهدف إلى احتواء الثورة الفلسطينية التي نشبت آنذاك في جبال فلسطين فانتهت إلى ادعاء رفض التقسيم حيث إن المصاعب الإدارية والسياسية والمالية التي تتضمنها عملية التقسيم من شأنها أن تجعل فكرة التقسيم غير عملية، وعليه فقد قررت الحكومة البريطانية بذل الجهود لخلق تفاهم أكبر بين العرب واليهود عن طريق الدعوة لعقد مؤتمر يحضره ممثلو الوكالة اليهودية وممثلو عرب فلسطين والدول العربية المجاورة للتباحث حول "سياسة المستقبل"، وضمنها موضوعات الهجرة إلى فلسطين "فإذا لم تتوصل الأطراف إلى اتفاق خلال فترة معقولة، فإن الحكومة البريطانية ستتخذ قرارها الخاص".
6 ـ الكتاب الأبيض الصادر في مايو 1939 (كتاب ماكدونالد الأبيض (:
أدَّى إخفاق المؤتمر المشار إليه سابقاً إلى صدور هذه الوثيقة التي تضمنت "أن الحكومة البريطانية قد تبنت سياسة جديدة غير سياسة التقسيم، وأن حكومة صاحب الجلالة تعلن ـ حتى تزيل أية شكوك ـ أنها لا تتبنَّى أية سياسة ترمي لجعل فلسطين دولة يهودية"، ذلك أن "هذا يُعدُّ منافياً لالتزاماتها تجاه العرب بمقتضى صك الانتداب" إذ أن هدف الحكومة البريطانية هو خَلْق دولة مستقلة خلال عشر سنوات ... يمكن فيها تأمين الحقوق الأساسية لكل من العرب واليهود، وستكون الخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي إلقاء مسئولية الإدارات الحكومية على عاتق كل من اليهود والعرب وفقاً لنسبتهم العددية".(16/130)
وقد قرَّرت الحكومة في هذه الوثيقة وَقْف الهجرة اليهودية لا على أسس اقتصادية هذه المرة، ولكن على أساس مبدأ سياسي "ذلك أن الحكومة لا تستطيع أن ترى في وثيقة الانتداب أيَّ دليل على أن الهجرة يجب أن تستمر إلى الأبد ... أو أن قدرة البلاد الاقتصادية على امتصاصها يجب أن تكون المعيار الوحيد، إذ أن خوف العرب من الهجرة اليهودية غير المحدودة يجب أيضاً أن يؤخذ بعين الاعتبار عند وضع سياسة الهجرة".
وقرَّرت الوثيقة أن اتساع الوطن اليهودي دون ضوابط "سيعني الحكم بالقوة"، ولذلك "فإن الحكومة البريطانية قررت ألا تسمح باتساع هذا الوطن ـ عن طريق قبول المزيد من المهاجرين ـ إلا إذا قبل العرب ذلك، وعليه فإن حجم الهجرة الكلي سيحدد خلال السنوات الخمس التالية بـ 75.000 مهاجر، وهو ما يجعل العدد الكلي لليهود في فلسطين حوالي ثلث إجمالي عدد السكان. وبعد نهاية السنوات الخمس، لن يُسمَح بالمزيد من الهجرة في حالة رفض العرب ذلك".
وبالنسبة لتحويل ملكية الأراضي، قررت الوثيقة رفض المزيد من عمليات تحويل الملكية في بعض المناطق، وعملت على تقييدها في مناطق أخرى. و"يُعطَى المندوب السامي في فلسطين الصلاحيات اللازمة لمنع وتنظيم هذه العمليات".
وفي 28 فبراير 1940، أصدر المندوب السامي «قانون تحويل ملكية الأراضي» الذي قسَّم الإقليم الفلسطيني إلى ثلاث مناطق:
1 ـ المنطقة (أ) ، وتشمل التل وبعض المناطق المجاورة (64% من مساحة فلسطين) وهذه حُظر فيها نقل ملكية الأرض لغير العرب الفلسطينيين.
2 ـ المنطقة (ب) ، وتشمل وادي جزريل والجليل الشرقي ومعظم السهل الساحلي (ما عدا منطقة تل أبيب) والنجف (31% من مساحة فلسطين) وهذه أُبيح فيها انتقال الملكية في ظروف معيَّنة.
3 ـ المنطقة ج (5% من مساحة فلسطين) ، وقد بقيت «منطقة حرة» .(16/131)
وقد اعتادت الحركة الصهيونية أن تنظر لهذه الوثيقة باعتبارها بداية «الخيانة النهائية» للالتزامات الواردة في إعلان بلفور «للشعب اليهودي» وللانتداب البريطاني على فلسطين. وأعلنت الحرب ضد الانتداب البريطاني على فلسطين منذ صدورها.
لجنة شو
Shaw Commission
أدَّت انتفاضة عام 1929 في فلسطين إلى تزايد مخاوف بريطانيا من تصاعُد الرفض العربي لسياستها المؤيدة للمشروع الصهيوني، وبدا لها أن الاشتباكات، التي جرت خلال هذا العام بين المواطنين الفلسطينيين من جهة والمستوطنين الصهاينة وسلطات الانتداب البريطاني من جهة أخرى، يمكن أن تمتد إلى مناطق أخرى داخل فلسطين وخارجها بشكل يهدد المصالح البريطانية في المنطقة. وفي محاولة لاحتواء الموقف، سارع لورد باسفيلد ـ وزير المستعمرات البريطاني آنذاك ـ بتشكيل لجنة للتحقيق في أحداث الانتفاضة التي فجَّرها ادعاء المستوطنين الصهاينة ملكية الحائط الغربي من الحرم الشريف بالقدس (حائط البراق) ، وتولَّى رئاسة اللجنة والتر شو (أحد القضاة الإنجليز) .
بدأت اللجنة عملها في أواخر سبتمبر 1929، فاستمعت إلى شهادة عدد من كبار موظفي حكومة الانتداب، وحصلت على بيانات عن الأوضاع الاقتصادية للمواطنين الفلسطينيين ومعدلات الهجرة اليهودية إلى فلسطين والمؤسسات الممثلة لمختلف الطوائف. ثم بدأت اللجنة في عقد جلسات استماع، واعتُبرت الوكالة اليهودية مُمثِّلة للمستوطنين اليهود واعتُبرت اللجنة التنفيذية ـ المنتخبة من المؤتمر العربي الفلسطيني السابع عام 1927 ـ مُمثِّلة للفلسطينيين. واستمر عمل اللجنة نحو شهرين توجهت بعدهما إلى لندن حيث عكفت على إعداد تقريرها الذي قدمته إلى وزير المستعمرات البريطاني في مارس 1930.(16/132)
لامت اللجنة العرب لبدئهم المشكلة، ولكن التقرير ذكر أن السبب الحقيقي لتَفجُّر الأحداث يَكمُن في الأعمال الاستفزازية التي يقوم بها المستوطنون اليهود، فضلاً عن مخاوف الفلسطينيين على مصالحهم الاقتصادية من جراء الأنشطة الصهيونية الرامية إلى تهجير الفلسطينيين والاستيلاء على الأراضي الخاصة بهم، وكذلك المخاوف من اتساع اختصاصات الوكالة اليهودية في ظل دعم سلطات الانتداب. وكانت أهم توصيات اللجنة:
1 ـ أن تُصدر بريطانيا بياناً صريحاً عما تنوي اتباعه في فلسطين، وتفسر في الوقت نفسه المقصود بأحكام صك الانتداب وبخاصة ما يتعلق منها بحقوق الطوائف غير اليهودية في فلسطين.
2 ـ أن يُوضَع تفسير دقيق للبند الوارد في صك الانتداب بشأن مهام الوكالة اليهودية، بحيث يتم تأكيد أن الامتيازات التي تحظى بها الوكالة بموجب هذا البند لا تخوِّلها حق الاشتراك في حكومة فلسطين.
3 ـ وضع قيود على انتقال الأراضي، واتخاذ وسائل لحماية المزارعين الفلسطينيين والحيلولة دون إجلائهم عن الأراضي التي يزرعونها لكيلا يتسبب ذلك في مزيد من الاضطرابات في المستقبل.
4 ـ ضرورة تهدئة موجات السخط والاستياء بين المواطنين الفلسطينيين نظراً لحرمانهم من الحكم الذاتي، إذ أن استمرار الأوضاع على ما هي عليه سيزيد مصاعب سلطات الانتداب.
5 ـ إصدار بيان صريح من جانب بريطانيا بشأن الهجرة اليهودية إلى فلسطين ودراسة وسائل تنظيمها وتحديدها.
6 ـ تشكيل لجنة دولية بإشراف مجلس عصبة الأمم لتحديد حقوق الفلسطينيين والمستوطنين اليهود في حائط البراق.
وقد قوبل تقرير اللجنة بالرفض من الدوائر الصهيونية بينما نظرت إليه الأوساط العربية بارتياح مشوب بالحذر والتحفظ. وقد تشكَّلت ـ طبقاً لتوصيات التقرير ـ لجنة حائط البراق، كما كان التقرير سبباً من أسباب صدور الكتاب الأبيض عام 1930.
لجنة حائط البرا ق
Buraq Wall Commission(16/133)
لجنة دولية شكلتها عصبة الأمم في يناير 1930 بناء على توصية تقرير لجنة شو، وذلك للنظر في النزاع القائم بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود بشأن حائط البراق الذي يشكل جزءاً من الحائط الغربي للحرم الشريف بالقدس. وتألفت اللجنة من ثلاثة أعضاء من السويد وسويسرا وأندونيسيا، وبدأت عملها في يونيه 1930 فاستمعت إلى شهادة 52 شاهداً من الجانبين وحصلت على 61 وثيقة تمثل وجهتي نظر الطرفين. وانتهت اللجنة من وضع تقريرها في ديسمبر من العام نفسه، وحاز موافقة الحكومة البريطانية وعصبة الأمم، ليصبح بذلك وثيقة دولية تؤكد حق الشعب الفلسطيني في حائط البراق، وأهم ما خلصت إليه اللجنة من نتائج:
1 ـ أن ملكية الحائط الغربي تعود إلى المسلمين وحدهم، ولهم فقط الحق العيني فيه، وينطبق ذلك بالمثل على الرصيف المجاور له.
2 ـ أن أدوات العبادة وغيرها من الأدوات التي يحق لليهود وضعها بالقرب من الحائط ـ استناداً إلى تقرير اللجنة أو بالاتفاق بين الطرفين ـ لا يجوز بأية حال من الأحوال أن يكون من شأنها إثبات أي حق عيني لليهود في الحائط أو في الرصيف المجاور له.
3 ـ لليهود حرية إقامة التضرعات عند الحائط في جميع الأوقات مع مراعاة عدم جلب أية خيمة أو ستار أو ما شابههما من الأدوات.
4 ـ لا يُسمَح لليهود بنفخ البوق بالقرب من الحائط.
وكان من الطبيعي أن يثير تقرير اللجنة غضب الدوائر الصهيونية، إذ أكد بما لا يدع مجالاً للشك أن حائط البراق من الآثار الإسلامية المقدَّسة، كما بيَّن بوضوح زيف الادعاءات الصهيونية في هذا الشأن.
لجنة موريسون
Morrison Commission(16/134)
بناء على قرار وزير المستعمرات البريطاني، تشكَّلت هذه اللجنة في نوفمبر 1933 برئاسة وليم موريسون، وذلك للنظر في الأسباب المباشرة للمظاهرات التي قام بها المواطنون الفلسطينيون في أكتوبر من العام نفسه (احتجاجاً على السياسة البريطانية المؤيدة للمشروع الصهيوني) ووقعت خلالها اشتباكات عنيفة مع سلطات الانتداب البريطاني.
وقد قاطع الفلسطينيون أعمال اللجنة إذ أدركو أنها ليست سوى محاولة من بريطانيا لاحتواء الموقف وتهدئة الغضب العربي العام، فضلاً عن أن المهام الموكلة للجنة تنصب على بحث الأسباب المباشرة للأحداث وبالتالي تمنعها من النظر في جذور النزاع الحقيقية والمتمثلة في مجمل سياسات بريطانيا الاستعمارية ودعمها غير المحدود للحركة الصهيونية. وقد حدث بالفعل ما كان متوقعاً، فقد جاء تقرير اللجنة في فبراير 1934 متجنياً بشدة على المواطنين الفلسطينيين إذ حمَّلهم وحدهم مسئولية أعمال العنف، دون أن يتطرق البتة إلى القمع الوحشي الذي واجهت به سلطات الانتداب جموع المتظاهرين وأسفر عن سقوط أكثر من ثلاثين شهيداً، كما لم يذكر التقرير شيئاً عن التحالف البريطاني ـ الصهيوني، ولكنه لاحظ الاختلاف بين أحداث 1933 وانتفاضة عامي 1920 و1929 وأكد أن ثمة مغزى في اتجاه الفلسطينيين للكفاح ضد بريطانيا بشكل مباشر، وفي إدراكهم العلاقة الحيوية بينها وبين الحركة الصهيونية.
لجنة بيل
Peel Commission
لجنة تحقيق شكلتها الحكومة البريطانية في أغسطس 1936 بغرض دراسة الأسباب الأساسية لانتفاضة المواطنين الفلسطينيين في أبريل 1936 وبحث كيفية تنفيذ صك الانتداب على فلسطين والتزامات بريطانيا تجاه كل من الفلسطينيين والمستوطنين اليهود، كما طلبت الحكومة من اللجنة تقديم توصيات بشأن شكاوى الفلسطينيين واليهود عن طريقة تنفيذ الانتداب. وقد ضمت اللجنة ستة أعضاء برئاسة اللورد بيل الذي شغل منصب وزير شئون الهند.(16/135)
وصلت اللجنة إلى فلسطين في نوفمبر 1936، واستمر عملها ستة أشهر عقدت خلالها ستة وأربعين اجتماعاً منها واحد وثلاثون اجتماعاً علنياً واستمعت إلى أربعين شاهداً يهودياً، أما الفلسطينيون فقد قاطعوا أعمال اللجنة في بداية الأمر ثم تغيَّر الموقف فيما بعد، وقد أدلى بشهادته أمامها مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني بالإضافة إلى أربعة وعشرين شاهداً.
وفي يوليه 1937، قدَّمت اللجنة تقريرها الذي أرجع انتفاضة المواطنين الفلسطينيين إلى رغبتهم في الاستقلال القومي وإلى مخاوفهم من إقامة الوطن القومي اليهودي واستمرار الهجرة اليهودية إلى فلسطين واستيلاء المستوطنين الصهاينة على الأراضي العربية، فضلاً عن عدم تكافؤ الفرص بين الفلسطينيين واليهود في عَرْض قضيتهم أمام الحكومة والبرلمان في بريطانيا وتشكَّك الجانب العربي في قدرة ورغبة الحكومة البريطانية في تنفيذ وعودها.
وتوصلت اللجنة إلى أن استمرار الانتداب البريطاني على فلسطين يعني مزيداً من التذمر إلى أجل غير مسمى، فهو الذي خلق العداء بين الفلسطينيين واليهود نظراً لتناقُض الالتزامات الواردة في صك الانتداب والتي يستحيل معها تحقيق المطلب الرئيسي لكل طرف دون الإخلال بالالتزام تجاه الطرف الآخر. ولهذا، أوصت اللجنة بأن تتخذ الحكومة البريطانية الخطوات اللازمة لإنهاء الانتداب وتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية مع بقاء القدس وبيت لحم والناصرة تحت الانتداب البريطاني، وكانت تلك المرة الأولى التي ترد فيها فكرة التقسيم.(16/136)
وقد تباينت ردود الأفعال تجاه تقرير لجنة بيل، ففي حين رأت الحكومة البريطانية في مشروع التقسيم أفضل حل للمشكلة، أعرب الفلسطينيون عن رفضهم تقسيم فلسطين أو التنازل عنها، وذلك من خلال مؤتمر بلودان في سبتمبر 1937. أما الحركة الصهيونية، فقد أجمع ممثلوها في المؤتمر الصهيوني العشرين على رفض انتقادات لجنة بيل لنظام الانتداب، ولكنهم اختلفوا فيما بينهم بشأن موضوع التقسيم وطالبوا بمزيد من الضمانات للدولة اليهودية.
وقد درست لجنة الانتدابات التابعة لعصبة الأمم تقرير اللجنة. ورغم اعترافها بمساوئ الانتداب، إلا أنها اعتبرت قيام دولتين مستقلتين عملاً غير حكيم قبل مضي فترة أخرى من إدارة الانتداب، وأوصت ـ في حالة قبول مشروع التقسيم ـ ببقاء الدولتين العربية واليهودية تحت نظام انتداب انتقالي إلى أن تبرهن كلٌّ منهما على أحقيتها بالاستقلال. وفي سبتمبر 1937، اتَّخذ مجلس عصبة الأمم قراراً بتخويل بريطانيا في وضع خطة مفصلة لتقسيم فلسطين، وأُجِّل بحث جوهر الموضوع لحين تقديم هذه الخطة.
ويمكن القول بوجه عام بأن تقرير لجنة بيل كان محاولة بارعة لحل مأزق السياسة البريطانية الاستعمارية في المنطقة، فهو يحقق للحركة الصهيونية مطلبها الأساسي في تأسيس "وطن قومي لليهود" ويحاول في الوقت نفسه امتصاص الغضب العربي عن طريق منح الفلسطينيين نوعاً من الاستقلال الشكلي الذي يضمن استمرار السيطرة الاستعمارية البريطانية.
لجنة وودهيد
Woodhead Commission
لجنة تحقيق شكلتها الحكومة البريطانية في مارس 1938 تنفيذاً لقرار مجلس عصبة الأمم في سبتمبر 1937 حول تقرير لجنة بيل، وكانت مهمة اللجنة العمل على تنفيذ مقترحات لجنة بيل بشأن تقسيم فلسطين، وقد ضمت اللجنة أربعة أعضاء برئاسة سير جون وودهيد.(16/137)
وقد عُهد إلى اللجنة أن توصي برسم حدود فاصلة بين المنطقتين العربية واليهودية المقترحتين، وكذلك رسم حدود الأراضي المزمع بقاؤها تحت الانتداب البريطاني بصورة دائمة أو مؤقتة، على أن يكون من شأن هذه الحدود تقديم ضمانات كافية لتأسيس دولتين إحداهما عربية والأخرى يهودية مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة تقليل السكان العرب والمشاريع العربية في المنطقة اليهودية لأقل حد ممكن والعكس بالعكس. كما طالبت الحكومة البريطانية اللجنة بتقديم توصيات تساعدها على القيام بمسئولياتها كدولة منتدبة، كما منحتها الحرية الكاملة في إدخال أية تعديلات على مشروع التقسيم الذي اقترحته لجنة بيل بناء على دراستها للأوضاع الاقتصادية والسياسية في فلسطين.
وفي 23 أبريل 1938، وصلت اللجنة إلى فلسطين ومكثت بها حتى 3 أغسطس حيث قابلت شهوداً من المستوطنين اليهود والمسئولين البريطانيين في فلسطين وشرق الأردن وعقدت 55 جلسة كانت اثنتان منها علنيتين والباقية سرية. أما الفلسطينيون فقد قاطعوا اللجنة لإدراكهم أن نقطة انطلاقها هي مشروع تقسيم فلسطين الذي ترفضه الجماهير العربية بجميع طوائفها واتجاهاتها.
وقد توجَّهت اللجنة بعد ذلك إلى لندن حيث عقدت عدة جلسات سرية أعدت خلالها تقريرها الذي نُشر في نوفمبر من العام نفسه وذكرت فيه أن الفلسطينيين يقفون موقفاً عدائياً من التقسيم أياً كان شكله الأمر الذي يجعل اقتراحات لجنة بيل بشأن تفريغ الدولة اليهودية المقترحة من السكان العرب عن طريق النقل الإجباري أو الاختياري أمراً مستحيلاً، وفي المقابل قدَّمت اللجنة عدة اقتراحات بديلة لمواجهة المشاكل الناجمة عن التقسيم.
وبعد نشر التقرير، أصدرت الحكومة البريطانية كتاباً أبيض تعترف فيه بالصعوبات السياسية والإدارية والمالية التي يتضمنها مشروع التقسيم، وأعلنت عزمها على عقد مؤتمر في لندن للتوصل إلى اتفاق بهذا الشأن من خلال المباحثات بين ممثلي العرب واليهود.(16/138)
قرار التقسيم
Partition Resolution
في التاسع والعشرين من نوفمبر 1947 أصدرت هيئة الأمم المتحدة قرار التقسيم. ويمكن القول بأن هذا القرار يشكل البداية الحقيقية لدولة إسرائيل.
ومع مقاومة العرب في مناقشات الجمعية العامة للأمم المتحدة، انتوى الوفد الأمريكي القيام بخطوة تهدئ حدة مقاومة العرب واعتزم رئيس الوفد السفير هيرشل جونسون التقدم بتسوية تُبنَى على اقتطاع قسم من أراضي النقب، وضمنها العقبة، وضمه إلى أراضي الدولة العربية المقترحة. غير أن وايزمان يذكر في مذكراته أنه، عندما علم بما انتواه المستر جونسون، سافر إلى الولايات المتحدة لمقابلة الرئيس الأمريكي هاري ترومان في التاسع عشر من نوفمبر 1947 ولقي من المستر ترومان لطفاً وعطفاً شديدين.
وقبيل أن يقوم المستر جونسون بالإبلاغ عن عزمه بصورة رسمية لسكرتارية الأمم المتحدة، أجرى الرئيس الأمريكي ترومان اتصالاً هاتفياً شخصياً بمندوب الولايات المتحدة الذي أصدر فيما بعد تعليماته للوفد الأمريكي بإبقاء النقب والعقبة ضمن نصيب اليهود. وقد فتح هذا القرار الأمريكي السبيل للتصويت في الجمعية العامة على مشروع التقسيم فنال أكثرية 33 صوتاً مقابل 13 صوتاً.
فولك برنادوت (1895 ـ 1948)
Folke Bernadotte
ضابط سويدي ينحدر من أسرة ملكية عريقة، وقد تلقَّى تعليمه في مدرسة التدريب العسكري للضباط في كالبيرج. ارتبط اسمه بالمسألة اليهودية حين كان يشغل منصب نائب رئيس هيئة الصليب الأحمر السويدية عام 1943 وحين تولَّى رئاستها عام 1946، ففي هذه الأثناء قام بتنظيم عملية تبادل الأسرى والجرحى بين ألمانيا النازية والحلفاء ثم تفاوض مع هيملر (مسئول الأمن الألماني) عام 1945 بشأن إطلاق سراح أكثر من 7000 معتقل إسكندنافي من بينهم ما يزيد على 400 يهودي دانماركي. وقد نجح برنادوت في إطلاق سراح عدة آلاف من النساء اليهوديات من معسكرات الاعتقال.(16/139)
وفي عام 1948 قام مجلس الأمن باختيار برنادوت وسيطاً في النزاع العربي الإسرائيلي لتنفيذ اتفاقية الهدنة. وكان قد نجح في تحقيق الهدنة الأولى بين الطرفين المتحاربين في 11 يونيه، متنقلاً بين العواصم العربية للتعرف على وجهة نظر الزعماء العرب بشأن قضية فلسطين، كما اجتمع بالقادة الصهاينة واطلع على موقفهم بالنسبة للنزاع. وأسفرت هذه الاتصالات عن عدد من المقترحات عُرفت باسم «مقترحات برنادوت» قامت على أساس إدخال تعديلات على قرار الأمم المتحدة عام 1947 بتقسيم فلسطين إلى دولتين، وهو ما رأت فيه الدوائر الصهيونية إخلالاً بموازين القوى بين الدولة الصهيونية الناشئة والبلدان العربية المحيطة. ومن ثم، دبرت منظمة شتيرن الصهيونية خطة لاغتيال الرجل، وقامت بتنفيذها في 17 سبتمبر 1948 أثناء وصوله إلى القدس قادماً من دمشق خلال عمله كوسيط. وفي البداية، أعلنت جهة مزعومة تطلق على نفسها "جبهة أرض الأجداد" مسئوليتها عن الحادث، ثم تبيَّن فيما بعد أن الاسم المزعوم ما هو إلا ستار لمنظمة شتيرن. وجدير بالذكر أن إسحق شامير كان أحد ثلاثة خططوا وأطلقوا النار على برنادوت.
ومما يستلفت النظر أن الصندوق القومي اليهودي قام بإطلاق اسم برنادوت على إحدى الغابات "تكريماً" لذكراه. ولبرنادوت مؤلفان أولهما ويسدل الستار ـ أو ـ الأيام الأخيرة للرايخ الثالث (1945) ، والثاني إلى القدس (1951) .
مقترحات برنادوت
Bernadotte Proposals
مقترحات خاصة بالنزاع العربي الإسرائيلي أعدها فولك برنادوت من خلال اتصالاته مع الزعماء العرب والقادة الصهاينة أثناء عمله كوسيط بين الأطراف المتحاربة بتكليف من مجلس الأمن، وذلك لتنفيذ اتفاقية الهدنة عام 1948. وقد أرسل برنادوت مقترحاته في أوائل سبتمبر عام 1948 إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تلقتها وقامت بنشرها بعد أيام قليلة من اغتياله.(16/140)
وتقوم هذه المقترحات على إدخال بعض التعديلات على قرار الأمم المتحدة الصادر عام 1947 الخاص بتقسيم فلسطين، وتتلخص فيما يلي:
1 ـ ينشأ في فلسطين بحدودها التي كانت قائمة أيام الانتداب البريطاني الأصلي عام 1922 (وهي تتضمن شرقي الأردن) اتحاد من عضوين أحدهما عربي والآخر يهودي. وذلك بعد موافقة الطرفين اللذين يعنيهما الأمر.
2 ـ تُجرَى مفاوضات يساهم فيها الوسيط لتخطيط الحدود بين العضوين على أساس ما يعرضه هذا الوسيط من مقترحات. وحين يتم الاتفاق على النقاط الأساسية، تتولَّى لجنة خاصة تخطيط الحدود نهائياً.
3 ـ يعمل الاتحاد على تدعيم المصالح المشتركة، وإدارة المنشآت المشتركة وصيانتها، وضمن ذلك الضرائب والجمارك، وكذا الإشراف على المشروعات الإنشائية وتنسيق السياسة الخارجية والدفاعية.
4 ـ يكون للاتحاد مجلس مركزي وغير ذلك من الهيئات اللازمة لتصريف شئونه حسبما يتفق عضوا الاتحاد.
5 ـ تكون الهجرة إلى أراضي كل عضو بحسب طاقة ذلك العضو على استيعاب المهاجرين. ولأي عضو، بعد عامين من إنشاء الاتحاد، الحق في أن يطلب إلى مجلس الاتحاد إعادة النظر في سياسة الهجرة التي يسير عليها العضو الآخر؛ وفي وضع نظام يتمشى والمصالح المشتركة للاتحاد؛ وفي إحالة المشكلة، إذا لزم الأمر، إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة.
6 ـ كل عضو مسئول عن حماية الحقوق المدنية وحقوق الأقليات، على أن تكون الأمم المتحدة ضامنة لهذه الحقوق.
7 ـ تقع على عاتق كل عضو مسئولية حماية الأماكن المقدَّسة والأبنية والمراكز الدينية، وضمان الحقوق القائمة في هذا الصدد.
8 ـ لسكان فلسطين، إذا غادروها بسبب الظروف المترتبة على النزاع القائم، الحق في العودة إلى بلادهم دون قيد وفي استرجاع ممتلكاتهم.
وقد أتبع برنادوت مقترحاته السابقة بملحق تضمَّن الآتي:(16/141)
"بالإشارة إلى الفقرة الثانية من المقترحات، يبدو أن من الأوفق عرض مقترحات تكون أساساً لتخطيط الحدود بين العضوين:
1 ـ ضم منطقة النقب بأكملها أو جزء منها إلى الأراضي العربية.
2 ـ ضم منطقة الجليل الغربي بأكملها أو جزء منها إلى الأراضي اليهودية.
3 ـ إعادة النظر في وضع مدينة يافا.
4 ـ ضم مدينة القدس إلى الأراضي العربية، ومنح الطائفة اليهودية فيها استقلالاً ذاتياً لإدارة شئونها، واتخاذ التدابير اللازمة لحماية الأماكن المقدَّسة.
5 ـ إنشاء ميناء حر في حيفا، على أن تشمل منطقة الميناء الحر مصانع تكرير البترول ونهاية خط الأنابيب.
6 ـ إنشاء ميناء جوي حر في مطار اللد.
ويبدو أن برنادوت اقترح اتحاد شرقي الأردن وفلسطين آخذاً بعين الاعتبار الوضع الجغرافي لشرقي الأردن.
وقد رفضت البلدان العربية مقترحات برنادوت لأنها تعترف بتقسيم فلسطين وبقيام الدولة الصهيونية كأمر واقع لا مناص منه، كما أنها تفسح المجال للاستعمار الاقتصادي الصهيوني في الكيان الفلسطيني المقترح. أما الحكومة الإسرائيلية المؤقتة، برئاسة بن جوريون، فقد رفضت المقترحات بشدة لأنها ـ في نظرها ـ تخل بالتوازن بين الدولة الصهيونية الناشئة والبلدان العربية المحيطة، كما أنها "تتجاوز" اختصاصات برنادوت كوسيط. ومن ناحية أخرى، لم تحصل المقترحات على تأييد الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر 1948 حيث أيَّدت بريطانيا والولايات المتحدة مقترحات برنادوت في حين عارضها الاتحاد السوفيتي.
وفي ضوء ما تلقَّاه من ملاحظات وردود على مقترحاته الأولى، وما لاحظه من مشاهداته عند زيارته لفلسطين، أعد برنادوت صيغة معدلة لاقتراحاته عُرفت باسم «مشروع برنادوت» بعث به قبل اغتياله إلى الأمين العام للأمم المتحدة. وتتلخص خطوطه العامة فيما يلي:(16/142)
1 ـ يجب أن يعود السلام العام الشامل إلى ربوع الأراضي المقدَّسة حتى يمكن إيجاد جو من الهدوء تعود فيه العلاقات الطيبة بين العرب واليهود إلى الوجود. وينبغي على الأمم المتحدة أن تتخذ كل ما من شأنه إيقاف الأعمال العدوانية في فلسطين.
2 ـ يجب أن يعترف العالم العربي بأنه قد أصبح في فلسطين دولة يهودية ذات سيادة تُدعَى «دولة إسرائيل» وهي تمارس سلطاتها كاملة في جميع الأراضي التي تحتلها.
3 ـ يجب قيام هذه الدولة الإسرائيلية ضمن الحدود التي نص عليها قرار التقسيم.
الباب الخامس: الصهيونية والعلمانية الشاملة
الرفض الصهيوني لليهودية
Zionist Rejection of Judaism
تمت محاولات عدة لعلمنة اليهودية من الداخل من أهمها اليهودية الإصلاحية واليهودية المحافظة، ثم تصاعدت حدة العلمنة في اليهودية التجديدية. والصهيونية، في تصوُّرنا، أهم الأيديولوجيات اليهودية في العصر الحديث التي أنجزت عملية العلمنة من الداخل.
وموقف الصهيونية من اليهودية يأخذ شكلين مختلفين مرتبطين:
1 ـ رفض العقيدة اليهودية على أساس علماني صريح وبشكل جذري وواضح.
2 ـ علمنة اليهودية من الداخل، أي صهينتها من خلال الحلولية الكمونية مع استيعاب المصطلح الديني.
وسنتناول في هذا المدخل موقف الرفض الجذري والصريح لليهودية.(16/143)
طرحت الصهيونية نفسها من البداية على أنها رؤية كاملة وشاملة للحياة اليهودية والتاريخ اليهودي والإنسان اليهودي وعلاقته بالطبيعة (الأرض) وبذاته (الهوية اليهودية) الخ، أي أنها طرحت نفسها كرؤية للكون. وقد أدركت الصهيونية هويتها، منذ البداية، باعتبارها حركة علمانية شاملة ترفض العقيدة اليهودية وترفض الإيمان بأية مطلقات أخلاقية أو دينية متجاوزة لعالم المادة والقوى السياسية والطبقية والصراعات الفكرية. والعنوان الفرعي لكتاب هرتزل دولة اليهود هو محاولة لحل عصري للمسألة اليهودية (تماماً مثل المفكرين العنصريين الغربيين ولهلم مار وإيوجين دوهرنج اللذين كانا يصران على علمانية وعلمية رؤيتهم العنصرية لليهود واليهودية) . ولنا أن نلاحظ أن مؤسسي الحركة الصهيونية الذين أتوا أساساً من مجتمعات وسط أوربا لم يعيروا اليهودية أي انتباه إلا باعتبارها مشكلة تبحث عن حل. بل إن بعضهم اعتبر العقيدة اليهودية نفسها مشكلة اليهود الحقيقية. وقد أظهر بعض زعماء الصهيونية عداءً واضحاً لليهودية، فتيودور هرتزل تعمَّد انتهاك العديد من الشعائر الدينية اليهودية حين قام بزيارة القدس، وذلك لكي يؤكد أن الرؤية الصهيونية رؤية لادينية. وكذا كان الوضع مع ماكس نوردو الذي كان يجهر بإلحاده، ويؤكد دائماً أن كتاب هرتزل دولة اليهود سيحل محل التوراة باعتباره كتاب اليهود المقدَّس. وقد اتخذ الصهاينة موقفاً لا دينياً من كثير من المفاهيم المحورية في العقيدة اليهودية، ويمكن أن نأخذ أهم العناصر وهي الموقف من كلٍّ من الأرض والشعب وآلية عودة الشعب للأرض.(16/144)
1 ـ لم تكن صهيون (فلسطين) بالنسبة للصهاينة أرضاً ذات قداسة خاصة، مرتبطة بالخلاص، وإنما كانت مجرد أرض يُنقَل إليها اليهود لأسباب مادية علمانية. ولم يطالب هرتزل بالقدس وإنما طالب بالأرض العلمانية فقط (على حد قوله) ؛ أرض صالحة للتقسيم والتوزيع والاستيطان حتى يمكن إقامة قاعدة يُجمَع فيها اليهود ليقوموا على خدمة من يتكفل بحمايتهم ودعمهم.
2 ـ وقد تم أيضاً رفض مفهوم الشعب المختار أو الشعب المقدَّس. فالشعب المختار، حسب المفهوم الحاخامي، يشير إلى جماعة من المؤمنين يرتبط انتماؤهم إلى هذه الجماعة بمدى طاعتهم للإله. وقد أخذ الصهاينة موقفاً مغايراً تماماً، فنزعوا القداسة عن هذا الشعب ووجهوا سهام نقدهم إليه وإلى الشخصية اليهودية (الدينية) مستخدمين في نقدهم هذا مقولات تحليلية ونقدية وأنماطاً إدراكية استوردوها من كلاسيكيات الفكر العرقي الغربي، وخصوصاً أدبيات معاداة اليهود. ونقدهم في جوهره هو نقد الفكر التنويري للشخصية الدينية. وأعاد الصهاينة تعريف اليهود على أساس عرْقي أو إثني (مادي) . ومن ثم، أصبح اليهود بالنسبة لهم شعباً مثل كل الشعوب، فهم مادة بشرية نافعة يمكن نقلها وتوظيفها لصالح من يدفع الثمن.
3 ـ وبعد تحويل صهيون إلى مادة طبيعية (أرض للاستيطان) والشعب المختار إلى شعب مثل كل الشعوب (مادة استيطانية) ، وجَّه الصهاينة سهام نقدهم لعقيدة الماشيَّح والعودة فوصفها هرتزل بأنها رؤية متخلفة، ووسمها بن جوريون بالسلبية وطرح بدلاً من ذلك فكرة العودة بقوة السلاح وبمساعدة القوى العظمى لتأسيس دولة يهودية.(16/145)
ويمكن القول بأنه تم استبعاد أي تجاوز معرفي أو مطلقية أخلاقية، وتم تبنِّي الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية وما يتبعها من تمجيد لإرادة البقاء والقوة، وطُرحت الصيغة الصهيونية الأساسية التي تشكل العمود الفقري لكل الصهيونيات: شعب عضوي منبوذ نافع يُنقَل خارج أوربا ليُوظَّف لصالح الغرب، وهي صيغة علمانية كاملة لا تعترف بقداسة أرض أو إنسان ولا تعترف بأية أخلاقيات تضبط عملية العودة. وفي هذا الإطار، يمكن فَهْم مشاريع الاستيطان الصهيونية المختلفة خارج فلسطين (صهيونية دون صهيون) ، فهي مشاريع استعمارية عادية، شأنها في هذا شأن أيِّ مشروع استعماري غربي يهدف إلى حل بعض المشاكل الاجتماعية التي ظهرت داخل التشكيل الحضاري السياسي الغربي عن طريق نقلها إلى آسيا وأفريقيا. فالمشكلة كانت المسألة اليهودية وكان حلها نَقْل اليهود إلى أي مكان في الأرض وتحويلهم إلى مستوطنين غربيين.
وحتى بعد أن ظهرت الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة (توظيف اليهود داخل إطار الدولة الوظيفية التي تُؤسَّس في فلسطين) ، ظل كثير من الصهاينة ينظرون لمشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين من خلال المنظور نفسه، أي باعتباره مشروعاً استعمارياً غربياً.
وإذا كانت المنظومة العلمانية في العالم الغربي قد أخذت شكل تأسيس الدولة القومية العلمانية التي قامت بعلمنة المادة البشرية داخل نطاق الدولة وبترشيدها حتى يمكن توظيفها، ثم قامت بعد ذلك بتجييش الجيوش التي حقَّقت الانطلاقة الإمبريالية الغربية، فإن الاختلاف في حالة الصهيونية اختلاف فرعي، إذ تمت أولاً علمنة المادة البشرية اليهودية من خلال الدول القومية الغربية، ثم تم بعد ذلك نَقْل المادة البشرية بمعاونة القوى الإمبريالية الغربية، وتم أخيراً تأسيس الدولة اليهودية القومية العلمانية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من التشكيل الإمبريالي الغربي، فالاختلاف لا ينصرف إلى الرؤية وإنما إلى ترتيب الخطوات.(16/146)
ولا يزال هذا التيار الصهيوني العلماني الرافض لليهودية قوياً، فمن المعروف أن الفكر الصهيوني كان يرفض استخدام اصطلاح «دولة يهودية» ، فكتاب هرتزل يُسمَّى دولة اليهود لا «الدولة اليهودية» . وكانت النية تتجه نحو استخدام اصطلاح «عبري» بدلاً من «يهودي» ، ولذا كانت تتم الإشارة إلى «الدولة العبرية» وإلى «العبرانيين» (ولم يتم استخدام مصطلح «دولة يهودية» إلا في مراحل متأخرة) . والصهاينة العلمانيون هم مؤسسوا المُستوطَن الصهيوني الحقيقيون، وهم صهاينة إلحاديون تماماً، وكان المستوطنون الأوائل ينظمون مسيرة كل عام للإعلان عن إلحادهم. وكان فريق منهم يحرصون على الذهاب إلى حائط المبكى في يوم الغفران (أكثر الأيام قداسة في التقويم الديني اليهودي) ويلتهمون ساندوتشات من لحم الخنزير تعبيراً عن رفضهم اليهودية. وقد توارت هذه الطفولية الثورية الرافضة إلى حدٍّ كبير، ولكن الإلحادية الصريحة ما تزال تُعلن عن نفسها. فلا يزال هناك صهاينة من أمثال شالوميت آلوني ويائيل ديان يحملون بغضاً عميقاً للعقيدة اليهودية والمؤسسة الدينية. بل إن الأولى كانت وزيرة للتربية في إسرائيل وكانت لا تكف عن التعبير عن احتقارها للتقاليد الدينية اليهودية. أما الثانية، وهي كاتبة روائية وابنة موشيه ديان، فكانت تصر دائماً على أن الملك داود كان مصاباً بالشذوذ الجنسي وأن علاقته مع يوناثان تدل على ذلك (وهناك مسرحية بهذا المعنى تُعرَض في إسرائيل) . ولا تزال الكيبوتسات (العمود الفقري للمجتمع الإسرائيلي، وفي صفوفها تُجنَّد أعداد كبيرة من أعضاء النخبة الحاكمة) مؤسسات علمانية تماماً ترفض الاحتفال بالأعياد الدينية وتُطوِّر احتفالات خاصة بها، وتعيد تفسير كثير من النصوص الدينية والشعائر ليحل القومي الزمني محل الإلهي المتجاوز. ويصل هذا التيار إلى قمته فى حركة الكنعانيين الذين يرون العقيدة اليهودية انحرافاً عن الهوية العبرية السامية. وتُعَدُّ الدولة(16/147)
الصهيونية من أكثر المجتمعات إباحية واستهلاكية على وجه الأرض، وكانت ستُطبَع فيها طبعة عبرية من مجلة بنت هاوس الإباحية وقد استُقبل محررها عند حائط المبكى احتفالاً بهذه المناسبة السعيدة. وتنتشر محلات الأشياء الإباحية في مدينة القدس وتُقام المسرحيات المهرطقة التي لا تعرف حرمة لأي شيء.
أما الأحزاب الدينية، فهي أحزاب أقلية لا تمارس نفوذها إلا في رقعة ضيقة جداً من الحياة العامة في إسرائيل، وهي على كل أحزاب تعبِّر عن يهودية تمت علمنتها على يد الصهاينة (أي صهينتها) ، ولذا فهي يهودية المظهر علمانية المخبر.
وقد نجحت الصهيونية كذلك في تصعيد معدلات العلمنة بين يهود العالم بحيث حلت الصهيونية محل اليهودية، وأصبحت المشاعر الدينية تعبِّر عن نفسها من خلال التظاهر من أجل إسرائيل وتحرير الشيكات لها (انظر الباب المعنون «الصهيونية التوطينية» ) .
وهنا لابد أن نثير قضية أساسية وهي أن النقد العربي العلماني الثوري لإسرائيل والصهيونية يستند إلى أُسس مادية واقتصادية وحسب، باعتبار أن الدولة الصهيونية تقوم باستغلال المواطن العربي. والسؤال هو: ماذا لو أصبحت إسرائيل مفيدة من الناحية الاقتصادية والمادية داخل إطار النظام العالمي الجديد؟ ما أساس رفضها؟ ألا يُفسَّر ذلك سرّ اندفاع الكثيرين الآن نحو إسرائيل؟
ورغم أن الصهيونية بدأت كحركة علمانية صريحة في علمانيتها، إلا أنها لم تكن لتستمر على هذا المنوال للأسباب التالية:(16/148)
1 ـ من المعروف في تاريخ الحضارة الغربية الحديثة (ومتتالية العلمنة فيها) أن عملية العلمنة لا يمكن أن تتم بشكل واضح وصريح دفعة واحدة، حتى لا تَفزَع الجماهير من وحشية النموذج المطروح (العالم باعتباره مادة استعمالية خالية من القيمة ومجرد من الغاية) ، ولذا نجد أن الخطاب العلماني يتبنَّى ديباجات دينية في المرحلة الأولى (كما هو الحال مع فلسفة إسبينوزا والعقائد الربوبية) لترويج أفكار إلحادية الجوهر إيمانية المظهر. ثم تظهر تنويعات مختلفة على هذا إلى أن نصل إلى التعريفات العرْقية أو الإثنية الوثنية الصريحة. والصهيونية ولا شك، تنتمي إلى هذا النمط.
2 ـ المنظومة العلمانية المادية ترفض فكرة غائية الكون وفكرة ثبات القيمة الأخلاقية ومطلقيتها. فالإنسان موجود في الكون بالصدفة دون هدف أو غاية، والأخلاق تتغير بتغير الزمان والمكان. وكل هذا يخلق ما يُسمَّى «أزمة المعنى» . ولذا، فإن المنظومات العلمانية كثيراً ما تستورد مصطلحات ومفاهيم دينية دون أي التزام بالأعباء الأخلاقية المرتبطة بهذه المفاهيم، وذلك لحل مشكلة المعنى. فالجندي البريطاني الذي كان يقتل الأطفال في أدغال أفريقيا ويأتي على الأخضر واليابس، كان في حاجة إلى ما يبرر أفعاله الوحشية من خلال منظومة مريحة تخبره أنه يقتل دفاعاً عن الحضارة الغربية وأخلاق المحبة المسيحية وأن هذا هو عبء الرجل الأبيض.
والصهيونية، أيضاً، حركة قامت باقتلاع مئات الألوف من اليهود من أوطانهم، ونقلتهم إلى أرض معادية داخل مجتمعات تُكن لهم البغض. ولذا، لجأت الصهيونية للعقيدة اليهودية لتحل مشكلة المعنى للمادة البشرية المنقولة.(16/149)
3 ـ الصهيونية، شأنها شأن أية عقيدة سياسية، تود أن تكتسب شرعية، وأن تُجيِّش الجماهير وراءها. وقد كان هذا أمراً حتمياً بالنسبة للصهيونية، فقد كانت أيديولوجية نشأت في وسط أوربا بين مثقفين يهود غير يهود، مندمجين تماماً، تشربوا الثقافة الألمانية لا مجرد معجبين بها. أما الجماهير اليهودية، فقد كانت في شرق أوربا، وهي جماهير يهود اليديشية. وكانت قطاعات كبيرة منهم إما عميقة الإيمان بالدين أو على الأقل تربطها صلة وثيقة برموزه. ومن ثم، لم يكن هناك مفر من أن تستغل الصهيونية العقيدة اليهودية لتضفي على نفسها صبغة دينية، فلجأت إلى تبنِّي الرموز والأفكار الدينية المألوفة لدى هذه الجماهير بعد علمنتها، إذ أن أية صيغة صريحة في علمانيتها كانت ستفشل حتماً في تجنيدها. وهذا ما عبَّر عنه كلاتزكين حين قال: "إن الدين اليهودي يمكن أن يساهم في بلورة الروح القومية للشعب اليهودي". وقد كان نوردو وهرتزل يدركان أهمية العناصر الدينية في تجنيد الجماهير. ولذا، فعندما فكرا في اختيار العراق مكاناً للاستيطان، فكرا أيضاً في «العناصر الصوفية» المرتبطة به وفي إمكانية الاستفادة منها. ولقد استقر الأمر على فلسطين في نهاية الأمر بسبب عدة عوامل من بينها قوة الأسطورة، أي الاسم في حد ذاته، "ففلسطين هي صرخة عظيمة تجمع اليهود" على حد قول هرتزل.(16/150)
والصهيونية، في هذا، لا تختلف من قريب أو بعيد عن كثير من أيديولوجيات المستوطنين البيض أو النازيين (بل وكثير من أيديولوجيات القومية العلمانية) . فالمستوطنون البيض في جنوب أفريقيا أصحاب أيديولوجية عرْقية بيولوجية حتمية تستبعد السود من نطاق ما هو إنساني وهو ما يتنافى تماماً مع العقيدة المسيحية. ومع هذا، فقد استخدموا ديباجات مسيحية لتسويغ كل أفعالهم، ومن ذلك إبادة الملايين، بل أسسوا كنيسة مسيحية تستبعد السود ولا تسمح لهم بالانضمام لها. وهذا أيضاً ما فعله النازيون الذين كانوا يؤمنون بأيديولوجية حلولية وثنية تماماً تحاول بَعْث التاريخ الألماني قبل دخول المسيحية في ألمانيا وقبل تغلغل أخلاق الضعفاء بين أعضاء الجنس الآري. ولكن النازية، مع هذا، أسَّست كنيسة مسيحية ألمانية بهدف اجتذاب الجماهير لهذه الأيديولوجية دون إفزاعها بالإلحاد الكامن والوثنية المتضمنة.
لكل هذا، نجد أن الصيغة الصهيونية التي شاعت هي التي تدور في إطار الحلولية الكمونية العضوية والتي تستخدم ديباجات دينية أو شبه دينية رغم أنها لا يربطها بالدين أي رابط (وهي الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المُهوَّدة) .
المصادر العلمانية للفكر الصهيوني
Secular Sources of Zionist Thought(16/151)
تظهر علمانية الصهيونية في مصادرها الفكرية المتنوعة والمتعددة والتي تنتمي كلها للأنساق الفكرية العلمانية الغربية. وقد عبَّرت المنظومة العلمانية عن نفسها من خلال ما نطلق عليه «الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية» التي ترى العالم بأسره مادة نسبية يمكن توظيفها لصالح الإنسان الغربي، وهذه هي الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، فهي صيغة تستند إلى رؤية إمبريالية (من الناحية المعرفية) تهدف إلى توظيف اليهود (والعرب) باعتبارهم مادة بشرية يمكن نَقْلها واستخدامها، كما تهدف إلى توظيف الطبيعة (الأرض أو فلسطين) باعتبارها مادة طبيعية، إذ لا قداسة ولا حرمة لأي شيء. أما من الناحية الأخلاقية، فإن الصهيونية ممارسة علمانية إمبريالية تقوم على العنف وإبادة السكان الأصليين أو طَرْدهم من أرضهم، وهي تستعين بالإمبريالية الغربية في تنفيذ مخططها، سواء في نَقْل اليهود من بلادهم أو في طَرْد الفلسطينيين من وطنهم.
ولكن، إلى جانب هذا الإطار الأساسي العام، تُوجد بعض الأفكار الغربية العلمانية المحددة التي تركت أثراً عميقاً في الفكر الصيهوني، كما شكلت مصادره الأساسية والمباشرة. وفيما يلي المصادر الأساسية للفكر الصهيوني، وسنذكر بعد كل مصدر العناصر التي استقاها النسق الفكري الصهيوني منه، ثم نورد (بين قوسين) عنوان المدخل أو المداخل التي يجد فيها القارئ معالجة مستفيضة للموضوع.
1 ـ الفكر الصهيوني الاسترجاعي ذو الديباجات المسيحية: عودة اليهود ـ فلسطين كمركز تجمُّع لهم ـ اليهود كشعب مختار منبوذ ـ توظيف الديباجات الدينية (انظر: «الأحلام والعقائد الألفية» ـ «العقيدة الاسترجاعية» ) .
2 ـ فكر حركة الاستنارة: رفض سلبية الدين اليهودي وغيبيته ـ رفض خنوع الشخصية اليهودية ـ الإيمان بالتقدم وبأن اليهود حَمَلة التقدم للشرق ـ العودة لن تتم إلا من خلال التخطيط البشري (انظر الباب المعنون «الاستنارة اليهودية» ) .(16/152)
3 ـ فكر حركة معاداة الاستنارة: الرؤية العضوية ـ أسبقية الأمة على الفرد (انظر: «الشعب العضوي [فولك [» ) .
4 ـ الدولة المطلقة: الدولة هي القيمة المطلقة والقيمة الحاكمة في النسق الصهيوني وهي الإطار الذي ستُوظَّف من خلاله المادة البشرية المنقولة (انظر: «الدولة اليهودية» ـ «بعض الاختلافات الصهيونية بشأن الدولة الصهيونية» (.
5 ـ القومية العضوية أو الشعب العضوي: اليهود يكوِّنون شعباً عضوياً مرتبطاً بأرضه برابطة حلولية عضوية، فلابد أن يعود إليها. ويُلاحَظ أن الدولة القومية هي الإطار الذي يعبِّر الشعب العضوي من خلاله عن نفسه (انظر: «الشعب العضوي المنبوذ «) .
6 ـ الفكر العرْقي العلماني (وخصوصاً معاداة اليهود والفاشية والنازية) : اعتماد العرْق والوراثة (لا الدين) مقياساً ـ تَفوُّق اليهود على العرب ـ الخضوع للعنصر اليهودي المتفوق (انظر الباب المعنون «العنصرية الصهيونية» . وانظر أيضاً الباب المعنون «بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا» ، والباب المعنون «إشكالية العزلة والخصوصية اليهودية» ) .
7 ـ النيتشوية: اليهود كأمة متفوقة (سوبر أمة) ـ العنف كآلية حتمية للبقاء ـ رفض أخلاق الضعفاء (الدينية) واعتماد إرادة القوة باعتبارها المطلق الأخلاقي الوحيد (انظر: «النيتشوية والصهيونية» ) .
8 ـ الداروينية أو التطورية: البقاء (المادي) هو القيمة الوحيدة المطلقة ـ سيحقق اليهود البقاء باعتبارهم العنصر الأصلح والأقوى ـ بقاء الشعب اليهودي هو الهدف من الوجود ـ اليهود أهم من اليهودية (انظر: «الداروينية الاجتماعية» ) .
9 ـ الرومانسية: العودة للأرض كمطلق ـ عبادة الفعل الجسدي المباشر ـ كرامة العمل اليدوي (انظر الباب المعنون «الصهيونية العمالية» ) .
10 ـ البرجماتية: اليهود أكثر حركية من العرب، ولذا فإن الأرض تصبح من حقهم، وعلى العرب الرضوخ للأمر الواقع (انظر: «هوراس كالن والبرجماتية» )(16/153)
11 ـ النفعية أو نَفْع اليهود: اليهود كعنصر وظيفي استيطاني يمكن توظيفه ـ الدولة الصهيونية الوظيفية (انظر: «نَفْع اليهود» ـ انظر أيضاً الباب المعنون «الدولة الصهيونية الوظيفية» ) .
12 ـ الليبرالية والرأسمالية: المشروع الصهيوني مشروع رأسمالي استعماري ـ المشروع الصهيوني سيصرف الشباب اليهودي عن الحركات الاشتراكية (انظر: «الصهيونية العامة» ـ «الصهيونية التصحيحية» ) .
13 ـ الفكر الاشتراكي: المشروع الصهيوني مشروع اشتراكي تعاوني ـ إسرائيل دولة اشتراكية ستقوم بتثوير المنطقة ـ ستقوم الصهيونية بشفاء اليهود من أمراض الطفيلية (انظر: «الصهيونية العمالية» ) .
وبإمكان القارئ أن يعود إلى الباب المعنون «إشكالية علاقة اليهودية بالصهيونية» .
الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية والصهيونية
Secular Imperialist Epistemological Outlook and Zionism
ثمة علاقة بنيوية بين الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية والتشكيل الاستعماري الغربي من جهة والصهيونية من جهة أخرى:
1 ـ فالرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية منظومة تركز على هذه الدنيا فتراها في إطار الواحدية المادية وترى أن هدف الإنسان في الكون هزيمة الطبيعة والإنسان وحوسلتهما وتسخيرهما، وهي تقوم بترشيد الإنسان والمجتمع على هدي هذه المنظومة. وهذا ما فعلته الصهيونية بفلسطين، واليهود والعرب، فقد فرضت الواحدية المادية على فلسطين ورشَّدتها وحولتها من أرض مقدَّسة (صهيون) إلى مكان غير مقدَّس للاستيطان كما رشَّدت اليهود والعرب وحولتهم إلى مادة بشرية تُنقَل من مكان إلى آخر، فاليهود مادة استيطانية نافعة تُنقَل من أوربا إلى فلسطين، أما العرب فهم مادة بشرية لا نفع لها، ولذا فهي تُطرَد من فلسطين.
2 ـ تستبعد الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية أي إيمان بأية حدود ويأخذ هذا شكل النزعة المشيحانية في الصهيونية وما يُسمَّى «دحيكات هاكتس» ، أي «التعجيل بالنهاية» .(16/154)
3 ـ الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية تجعل الإنسان الغربي مركز الكون وتُسبغ عليه محورية وقداسة ومطلقية فهو صاحب رسالة حضارية تُسمَّى عبء الرجل الأبيض. وهذا ما فعلته الصهيونية مع اليهود الذين تحولوا إلى شعب مختار بالمعنى المادي العلماني.
4 ـ مركزية الإنسان تمنحه حقوقاً مطلقة وتجعله المرجعية الوحيدة. وهذا ما فعلته الصهيونية مع اليهود إذ جعلتهم شعباً عضوياً يرتبط ارتباطاً عضوياً بأرضه وتراثه وهو ما يعطيه حقوقاً مطلقة في هذه الأرض يمكنه بمقتضاها أن ينقل سكانها بعيداً عنها أو يوظفهم في خدمته، ثم يستورد إلى هذه الأرض من يشاء من البشر (المهاجرين السوفييت) ويمنع عنها من يشاء (الفلسطينيين العرب) .
5 ـ المنظومة العلمانية الإمبريالية تنكر الآخر وأىة منظومات قيمية أخلاقية إلا أخلاق القوة وهذا يتضح في النزعة النيتشوية القوية في الفكر الصهيوني (انظر: «النيتشوية والصهيونية» ـ «المصادر العلمانية للفكر الصهيوني» ) .
6 ـ الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية مبنية على تصدير المشاكل للخارج بحيث يدفع بقية العالم فواتير التقدم الأوربي. والحل الصهيوني بهذا المعنى هو حل إمبريالي مبني على تصدير المسألة اليهودية إلى فلسطين لحل مشاكل أوربا وتوظيف العنصر البشري لصالحها. أما على المستوى السياسي فقد قامت الإمبريالية الغربية بتأسيس الدولة الصهيونية بحيث أصبحت قاعدة للاستعمار الغربي تدين له ببقائها وتقوم على خدمته فهي دولة وظيفية تابعة للإمبريالية الغربية.(16/155)
الباب السادس: الخطاب الصهيوني المراوغ
سمات الخطاب الصهيوني المراوغ
Charactaristics of the Evasive Zionist Discourse
كلمة «خطاب» العربية هي ترجمة لكلمة «ديسكورس discourse» الإنجليزية. وكلمة «خطاب» كلمة مركبة وخلافية ولها معان عديدة إذ تطوَّر حقلها الدلالي بشكل ملحوظ منذ الخمسينيات مع ظهور البنيوية وما بعدها. وقد عُرِّف الخطاب (بالمعنى المعجمي المباشر) بأنه "كل كلام تجاوز الجملة الواحدة سواء كان مكتوباً أو ملفوظاً". ولكن للكلام دلالات غير ملفوظة يدركها المتحدث والسامع دون علامة معلنة واضحة. ولذا عُرِّف الخطاب بأنه نظام من القول له قواعده وخواصه التي تحدِّد شكل الجمل وتتابعها والصور المجازية والخواص اللفظية ونوع الأسئلة التي تُسأل والموضوعات الأساسية الكامنة، وما يُقال وما يُسكت عنه، أي تحدِّد الاستدلالات والتوقعات الدلالية. ويتم إنتاج المعرفة الإنسانية من خلال الخطاب، وكثيراً ما تستمد هذه المعرفة مصداقيتها من القواعد التي تحكمها وليس من مطابقة تلك المعرفة لما هو حاصل أو واقع. ولذا فإنتاج الخطاب وتوزيعه ليس حراً أو بريئاً، كما قد يبدو من ظاهره.
ولكل مجتمع خطابه إذ تتآلف الجمل لتشكل نصاً مفرداً، وتتآلف النصوص لتُشكل نصاً شاملاً، أي نسقاً فكرياً متكاملاً ورؤية للكون. ومن ثم فالخطاب (من منظور فوكوه) هو مجموعة من المنظومات التي تنتمي إلى تشكيل واحد، يتكرر على نحو دال في التاريخ، بل على نحو يغدو معه الخطاب جزءاً من التاريخ، جزء هو بمنزلة وحدة وانقطاع في التاريخ نفسه. والمحرك الأساسي وراء شكل الخطاب (عند فوكوه وغيره) هو الرغبة في الاستئثار بالقوة من قبَل فئات اجتماعية (وهو تفسير دارويني نيتشوي للإنسان ولسلوكه ودوافعه) .
وتحليل الخطاب هو استنباط القواعد التي تحكم التوقعات الدلالية، ولذا يتشابك تحليل الخطاب بالسيموطيقا أو علْم العلامات من حيث هو أيضاً بحث في القواعد أو الأعراف التي تحكم إنتاج الدلالة (البازعي والرويلي) .(16/156)
والخطاب الصهيوني له سمات محددة أهمها المراوغة النابعة من تَعدُّد الجهات التي يتوجَّه لها هذا الخطاب:
1 ـ الصهيونية حركة تابعة يدعمها ويمولها الاستعمار الغربي، ولذا فإن الخطاب الصهيوني يتوجَّه إلى الدول الاستعمارية الراعية.
2 ـ لا تتوجه الصهيونية لهذه الدول وحسب أو لنخبها وحسب وإنما للرأي العام غير اليهودي فيها الذي قد لا يدرك الأبعاد الإستراتيجية للتحالف بين إسرائيل والحضارة الغربية.
3 ـ لابد أن يتوجه الخطاب الصهيوني للمادة البشرية المُستهدَفة، أي تلك الجماعات اليهودية في العالم التي تنتمي إلى تشكيلات ثقافية وحضارية واجتماعية مختلفة.
4 ـ تعود الصهيونية إلى أصول ثقافية ودينية واجتماعية وطبقية متباينة، وهو ما يجعل لكل فريق صهيوني رؤية وأولويات مختلفة. ومما يجدر ذكره أن التيارات الصهيونية تركت بعض القضايا الأساسية دون اتفاق. فلم يتم الاتفاق على هوية اليهودي، بل لم يتم الاتفاق على هوية الصهيوني. كما لم يتحدد التوجه الاجتماعي أو الاقتصادي للعقيدة الصهيونية.
والمشكلة التي واجهها الخطاب الصهيوني هي كيف يمكن التوجه لكل هذه القطاعات في وقت واحد، إذ كان على الدولة الصهيونية أن تُقدم نفسها باعتبارها: دولة ديموقراطية تنبع من أيديولوجية ليبرالية وتنتمي إلى الحضارة الغربية العقلانية، وتقوم في الوقت نفسه بطرد الفلسطينيين وهَدْم قراهم وديارهم وخوض حروب توسعية تُذكِّر الإنسان بدولة مثل إسبرطة أو بروسيا لا بأثينا. وكان على الدولة الصهيونية أن تُقدِّم نفسها باعتبارها: دولة علمانية متطرفة في علمانيتها، ولكنها في الوقت نفسه دينية متطرفة في تديُّنها، ورأسمالية مغالية في رأسماليتها، واشتراكية مغالية في اشتراكيتها. والحركة الصهيونية تقبل اندماج اليهود في غرب أوربا (حتى لا تثير حفيظة يهود هذه البلاد أو حكوماتها) ولكنها في الوقت نفسه تطالب بتهجير يهود شرقها.(16/157)
ولإنجاز هذا، ولتحقيق هدفها في اغتصاب فلسطين وطَرْد أهلها وتجنيد يهود العالم لدعم مشروعها ومده بالمادة البشرية المطلوبة، طوَّرت الصهيونية خطاباً هلامياً مبهماً غير متجانس بشكل متعمد يتسم بدرجة عالية من عدم الاتساق ويحتوي على فجوات كثيرة بهدف تغييب الضحية وتشويه صورته.
وقد كتب هرتزل قائلاً إنه "حقق شيئاً يكاد يكون مستحيلاً: الاتحاد الوطيد بين العناصر اليهودية الحديثة المتطرفة [أي اليهود المندمجين في غرب أوربا واليهود غير اليهود] ، والعناصر اليهودية المحافظة [أي يهود شرق أوربا واليهود المتدينين]ـ وقد حدث ذلك بموافقة الطرفين دون أي تنازل من الجانبين ودون أية تضحية فكرية". كما تَباهَى هرتزل بمصالحة أخرى أجراها بين الحضارة الغربية ويهود العالم.
وهرتزل كان محقاً تماماً فيما يقول، فالخطاب الصهيوني المراوغ (الذي وضع هو أساسه) نجح في إخفاء كل التناقضات وفي التوجه إلى كل القطاعات المعنية، إلى كل قطاع بصوت يرضيه. كما أنه تجاهل العرب تماماً، فلم يذكرهم بخير أو شر. وقد احتفظ هذا الخطاب بتوجُّهه الأساسي من خلال التمسك بالصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة (والمهوَّدة) وإخفائها إلى حدٍّ كبير في آن واحد، على أن تعبِّر عن نفسها من خلال تنويعات عليها تخبئها سحابة كثيفة من الإستراتيجيات والحيل البلاغية المتنوعة التي سندرسها حتى يمكننا أن نفك شفرة الخطاب الصهيوني.
1 ـ محاولة تجاهل الأصول التاريخية أو تزييفها:(16/158)
من الحيل الأساسية في الخطاب الصهيوني محاولة عزل الظواهر والدوال عن أصولها التاريخية والاجتماعية والثقافية بحيث يبدو الواقع كما لو كان مجرد عمليات وإجراءات ليس لها تاريخ واضح ولا سياق تاريخي محدَّد، ومن ثم فليس لها سبب معروف أو اتجاه محدَّد. فالصراع العربي الإسرائيلي، على سبيل المثال، ليس ثمرة العقد الصهيوني الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، والذي قامت الدول الإمبريالية بمقتضاه بغرس كتلة بشرية غريبة في وسط العالم العربي والإسلامي، وتحوَّلت هذه الكتلة إلى دولة وظيفية تحتفظ بعزلتها وتقوم بضرب السكان الأصليين وجيرانها لصالح الراعي الإمبريالي. إذ يتم تناسي كل هذا، ويُقدَّم الصراع العربي الإسرائيلي باعتباره نتيجة رفض العرب قرار التقسيم وهجومهم "الغاشم" على "اليهود" المسالمين، دون سبب واضح ومفهوم. وتُقدَّم الصهيونية لا باعتيارها حركة استعمارية استيطانية إحلالية وإنما باعتبارها تعبيراً عن الحلم اليهودي المشيحاني الخاص بالعودة إلى صهيون أو أرض الميعاد، أو باعتبارها حركة إنقاذ يهود العالم من هجوم الأغيار.
داخل هذا الإطار، تصبح المقاومة شكلاً من أشكال الإرهاب غير العقلاني وغير المفهوم، بينما تصبح هجمات إسرائيل على العرب مجرد دفاع مفهوم ومشروع عن النفس. ومن ثم، فإن الجيش الإسرائيلي هو "جيش الدفاع الإسرائيلي". وقد سُمِّيت هذه الحيلة «الأكاذيب الصادقة» (بالإنجليزية: ترو لايز true lies) ، فهي صادقة بمعنى أن هجوم العرب هو حقيقة مادية لا مراء فيها، فهي واقعة قد وقعت بالفعل. ولكنها أكاذيب بلا شك باعتبار أن هجوم العرب على إسرائيل ورَفْضهم قرار التقسيم ليس نتيجة عناد لاعقلاني وإنما هو دفاع مشروع عن الحقوق الثابتة التي أقرتها المواثيق الدولية والقيم الأخلاقية.(16/159)
وفي هذا الإطار، يمكن أن نفهم بعض الحيل الصهيونية البلاغية الأخرى. فالإصرار على "المفاوضات وجهاً لوجه" باعتبارها الحل الوحيد والناجع للصراع العربي الإسرائيلي هو إصرار على إجراءات دون أية مرجعية أخلاقية أو تاريخية، وكأن الصراع أمر غير مفهوم ليس له أصل؛ وكأنه ليس هناك حالة من التفاوت والظلم ناتجة عن الغزو.
وقل الشيء نفسه عن دعوة الأمريكيين لكل من العرب والصهاينة إلى أن يظهروا ضبط النفس والاستعداد لتقديم التنازلات. ويُضرَب المثل بقرار التقسيم. فقد أظهر الصهاينة الاعتدال بقبول أكثر من نصف فلسطين، أما الفلسطينيون فقد أظهروا تطرُّفهم برفضهم ما قُدِّم إليهم. فالاعتدال والتطرف في هذا السياق قد عُرِّفا في إطار تجاهل الأصول التاريخية وهو أن المستوطنين الصهاينة مغتصبون جاءوا إلى أرض فلسطين يحملون السلاح واحتلوا أجزاء منها، وما فعله قرار التقسيم هو قبول حادثة الاغتصاب بل منحهم المزيد من الأرض ليؤسسوا دولتهم فيها.
ومنذ إنشاء دولة إسرائيل، استمر استخدام هذه الحيلة إلى أن وصلنا إلى شعار "الأرض مقابل السلام" الذي يمكن ترجمته ببساطة إلى "بعض القرى والمدن التي كان قد تم الاستيلاء عليها بقوة السلاح الغربي تُعاد مقابل السلام الذي يعني وقف المقاومة ويعني الاستسلام". وهذا يعني ببساطة "أرض بلا شعب حي قادر على المقاومة وبلا ذاكرة تاريخية"، أي أنها تعني "نسيان الظلم الذي وقع في الماضي وفرض السلام حسب الشروط الصهيونية".(16/160)
ويرتبط بهذا الاتجاه نحو إنكار التاريخ تغليب عنصر المكان على عنصر الزمان فتتحول "فلسطين" إلى "أرض" و"الوطن العربي" إلى "منطقة" وتبحث إسرائيل عن "الحدود الآمنة" الجغرافية التي لا تأبه بالتاريخ. وتُعبِّر نظرية الأمن الإسرائيلية عن هذا التحيز الشديد للجغرافيا والتجاهل الكامل للتاريخ. ولذا، فإن أية حركة من العرب تذكر الصهاينة بوجود عنصر الزمان (كماض وتراث ومخزون للذاكرة وكحاضر وصراع وكمستقبل وإمكانية ومجال للحرية والحركة) تولِّد الذعر الشديد في قلوب المستوطنين الصهاينة، وتُسمَّى مثل هذه الحركة "إرهاب".
2 ـ استخدام مصطلحات محايدة هي في جوهرها عمليات تغييب للعرب وللواقع وللتاريخ العربي:(16/161)
من الحيل الصهيونية البلاغية استخدام مصطلحات تبدو كما لو كانت بريئة محايدة تحل محل المصطلحات ذات المضمون التاريخي والإنساني العربي. ولعل أهم هذه المحاولات بطبيعة الحال هو الإشارة إلى فلسطين باعتبارها "أرض بلا شعب". فهذه عبارة محايدة للغاية، ففلسطين ليست "فلسطين" أساساً وإنما هي مجرد "أرض" والسلام. وتتبدَّى نفس الظاهرة في الخلاف بشأن قرار مجلس الأمن رقم 242 فينص في مقدمته على مبدأ عدم "جواز الاستيلاء على الأرض بالقوة" ويتعامل مع الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967 ويدعو إلى الانسحاب منها، وهنا طرح الإسرائيليون إشكالية الأراضي المعنية وهي «أراض» كما في النص بالإنجليزية، أو «الأراضي» كما في النص بالفرنسية. وكانوا يفضلون بطبيعة الحال النص الإنجليزي لأنه يحيِّد الأرض ويفقدها حدودها فتصبح كلها قابلة للتفاوض بشأنها. وقد تدهور (تطور) الأمر حين قرر الإسرائيليون أن "الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 في الضفة والقطاع «أراض متنازع عليها» (بالإنجليزية: دسبيوتيد disputed) وليست «محتلة» (بالإنجليزية: أوكيوبايد occupied) وقد وافقهم الأمريكيون على ذلك. وقد حاولت الدعاية الإسرائيلية أن تشير إلى "الانتفاضة" باعتبارها "أحداث الشغب" أو مجرد "عصيان مدني" ولكن الانتفاضة نجحت في اختراق المعجم الصهيوني واستقرت (كالنجم الساطع) داخل الكلمات العبرية والإنجليزية.(16/162)
وتظهر عملية التحييد في حديث الصهاينة عن "التقدم" في المنطقة وتحويل الصحراء إلى مزارع خضراء.. إلخ، دون أن يُحدَّد لحساب مَنْ وعلى حساب مَنْ سيتم هذا التقدم. وقد لجأ مارتن بوبر لحيلة مماثلة في خطاب أرسل به لغاندي إذ كتب له محاولاً تبرير الغزو الصهيوني قائلاً إن الأرض لمن يزرعها، وكأن المستوطنين الصهاينة مجرد فلاحين مسالمين وجدوا أرضاً فقاموا بحرثها وزرعها في صبر وأناة بينما يقوم العرب [اللئام] بالتنغيص عليهم! وفي هذا إلغاء كامل لأصول الصراع واستخدام لمصطلحات محايدة تُلغي التاريخ.
3 ـ استخدام مصطلحات دينية يهودية في سياقات تاريخية زمنية:
هذه الحيلة البلاغية مُتضمَّنة في كل الحيل السابقة، ولكنها من الأهمية بمكان بحيث قد يكون من المفيد معالجتها بشكل مستقل. والخطاب اليهودي الحلولي الكموني لا يُفرِّق بين التاريخ الزمني والتاريخ المقدَّس ولا بين المطلق والنسبي. وهذا ما يفعله الخطاب الصهيوني حين يشير إلى فلسطين باعتبارها «الأرض المقدَّسة» أو «أرض الميعاد» أو «إسرائيل» (وهو اسم يعقوب بعد أن صارع الرب) . واستخدام المصطلحات الدينية في سياق زمني يخلق استمرارية لا زمنية، فالعبرانيون الذين خرجوا من أرض المنفى في مصر وصعدوا إلى أرض كنعان لا يختلفون كثيراً عن اليهود السوفييت أو يهود الفلاشاه الذين خرجوا من بلادهم (المنفى) وصعدوا إلى أرض كنعان (دولة إسرائيل) . ومن هنا تُسمَّى الهجرة الاستيطانية إلى فلسطين «عالياه» ، من العلو والصعود، بينما الهجرة منها هي «يريداه» بمعنى «الارتداد والكفر» . ويؤدي استخدام المصطلحات الدينية إلى خلع القداسة اليهودية على الأرض الفلسطينية، الأمر الذي يعني تحويل اليهود إلى عنصر مرتبط بها عضوياً، أما العرب، فيتم تهميشهم، فهم يقعون خارج نطاق دائرة القداسة.
4 ـ إخفاء دال معيَّن تماماً أو محوه من المعجم السياسي والحضاري أو استخدام دوال تؤدي إلى تغييب العرب:(16/163)
يلجأ الصهاينة لمحو بعض الدوال تماماً من المعجم السياسي والحضاري حتى يمكن محو المدلول وإخفاؤه من الخريطة الإدراكية. وهذه الإستراتيجية تضرب بجذورها في الخطاب الاستعماري الاستيطاني الغربي الذي يستخدم ديباجات توراتية. فالمستعمرون الاستيطانيون هم «عبرانيون» أو «الشعب المختار» ، والبلاد التي يفتحونها (سواء في أمريكا الشمالية أو جنوب أفريقيا أو فلسطين) هي «صهيون» أو «إسرائيل» ، ويُشار إلى سكان هذه البلاد بـ «الكنعانيين» ، ولذا فمصيرهم الإبادة. ثم تمت علمنة هذا الاتجاه وأصبح المستعمرون الاستيطانيون "حملة مشعل الحضارة الغربية والاستنارة" وسكان البلاد المغزوة هم «السكان الأصليون» أو «البدائيون» أو «الهمجيون» أو «المتخلفون» أو «الهنود الحمر» . وفقدت بلادهم أسماءها فزيمبابوي أصبحت، على سبيل المثال، «روديسيا» ولم تَعُد بلاد الأباشي والتشيروكي تُسمَّى بأسمائها وإنما أصبحت «أمريكا» نسبة إلى "مكتشف" هذه البلاد (أميريجو فيسبوتشي) . وقد حدث شيء مماثل في الخطاب الصهيوني، فالمستوطنون الصهاينة هم «العبرانيون» (و «الحالوتسيم» في المعجم العلماني، أي الرواد الذين وصلوا إلى الأرض فاكتشفوها) أما سكان البلاد الأصليون فقد أصبحوا إما «كنعانيين» أو «إشماعيليين» (وفي الصياغة البلفورية العلمانية «الجماعات غير اليهودية» ) . وتمت إعادة تسمية فلسطين فأصبحت «إسرائيل» وأصبحت عملية الاستيلاء على فلسطين هي مجرد «إعلان استقلال إسرائيل» . واستمرت هذه العملية بعد عام 1948، فأصبحت أم الرشراش «إيلات» وأصبحت الضفة الغربية «يهودا والسامرة» . وقد اتسع نطاق هذه العملية في الوقت الحاضر بحيث بدأ الاتجاه نحو تغييب العالم العربي بأسره وليس الفلسطينيين وحدهم. ومن هنا الحديث عن «السوق الشرق أوسطية» بدلاً من الحديث عن «العالم العربي» . فالسوق الشرق أوسطية تعني أن هناك بلداناً مختلفة في هذه «المنطقة» وأن عروبتها مسألة وهمية أو هامشية ليست(16/164)
ذات قيمة تفسيرية أو تصنيفية عالية.
ويبدو أن هناك اتجاهاً في هذه الأيام لمحو كلمة «مقاومة» من المعجم السياسي بحيث يهيمن دال واحد هو كلمة «إرهاب» ، وتصبح أعمال المقاومة التي لها جذور تاريخية ومعنى محدد مجرد «إرهاب» أو «هجمات انتحارية» ليس لها سبب واضح ولا اتجاه مفهوم. ولذا، نجد أن مؤتمر شرم الشيخ حاول تعريف «الإرهاب» ولم يأت أي ذكر لكلمة «مقاومة» . ومن هنا يمكن إدراك حجم الإنجاز الذي حققته اتفاقية وقف إطلاق النار بين لبنان (حزب الله) وإسرائيل، فهي اتفاقية قد نصت على حق الدفاع عن النفس، أي حق المقاومة.
5 ـ الخلط المتعمد بين بعض الدوال وفرض نوع من الترادف بينها:
يعمد الصهاينة إلى الخلط بين بعض الدوال التي لها حدود معروفة. ومن أهم هذه العمليات محاولة الخلط بين مصطلحات «يهودي» و «صهيوني» و «إسرائيلي» وأحياناً «عبراني» ، وذلك على الرغم من أن كل مصطلح له مجاله الدلالي الواضح. وقد جرى الخلط بينها لتأكيد مفهوم الوحدة اليهودية الذي يشكل جوهر الرؤية الصهيونية. وقد شاع الاستخدام الصهيوني في العقول حتى أصبح الحديث عن «الدولة اليهودية» و «دولة اليهود» و «الدولة الصهيونية» ممكناً باعتبارها عبارات مترادفة.
6 ـ استخدام اسم يشير إلى مسميات مختلفة:(16/165)
يُستخدم اسم مثل «الشعب اليهودي» دون تعريف هذا الشعب اليهودي، و «إرتس يسرائيل» دون التحدث عن حدودها. وحيث إن لكل صهيوني تعريفه الخاص، فإن الاسم هنا يشير إلى مسميات مختلفة تختلف باختلاف من يستخدم الدالّ: توطينياً كان أم استيطانياً، علمانياً كان أم متديناً؟ وهذا الإبهام يعني أن الصهيوني يمكن أن يكون معتدلاً إن شاء (فيُصرح بأن الشعب اليهودي هو من هاجر بالفعل إلى إسرائيل) ، ويمكنه أن يكون متطرفاً إن ذكر عكس ذلك (الشعب اليهودي هو كل يهودي أينما كان) ، وحدود إرتس يسرائيل هي حدود 1948 أو 1967 أو من النيل إلى الفرات، والأمر متروك دائماً للاعتبارات البرجماتية. والشيء نفسه ينطبق على مصطلح «صهيوني» نفسه، فهو مصطلح مطلق يشير إلى كل من يرى نفسه كذلك بغض النظر عما يفعله بعد ذلك. فاليهودي، الذي يجعل الولايات المتحدة وطنه ويقود سيارته مكيفة الهواء ويدفع بضعة دولارات للمنظمة الصهيونية، يمكن أن يعتبر نفسه صهيونياً (إن كان ذلك يروق له) ، ومن ينتقل إلى الضفة الغربية ويحمل السلاح ضد أهلها هو صهيوني كذلك.(16/166)
ويمكننا هنا الإشارة إلى الصورة المجازية العضوية الحلولية الكمونية المتواترة في الخطاب الصهيوني، فهي صورة مجازية تفترض أن الأرض والشعب متوحدان من خلال روح تحل فيهما هي مصدر التماسك العضوي بينهما. وهذه الروح تُسمَّى «الإله» في الخطاب الديني، وهي «روح الشعب» في الخطاب العلماني. وداخل هذا الإطار، يمكن أن يشير الدالّ الواحد (الروح) إلى مدلولين. وأثناء إعداد وثيقة إعلان الدولة الصهيونية التي يُقال لها «وثيقة إعلان استقلال إسرائيل» ، نشب خلاف بين الصهاينة الإثنيين الدينيين والصهاينة العلمانيين حول عبارة «واضعين ثقتنا في الإله» حيث أصر الدينيون على تضمينها في ديباجة الوثيقة. وقد حُلَّ الخلاف عن طريق تبنِّي عبارة «تسور يسرائيل» والتي تعني حرفياً «صخرة إسرائيل» ولكنها تعني أيضاً «الإله» . ومعنى هذا أن دالاًّ واحداً وهو «صخرة إسرائيل» يمكن أن يؤدي معنىً إلحادياً للعلمانيين ومعنى دينياً للمتدينين، فالصخرة قد تكون الإله وقد تكون روح الشعب وقد تكون أساساً مادياً متيناً لتأسيس الدولة الصهيونية.
7 ـ استخدام أسماء مختلفة تشير إلى مسمَّى واحد أو إلى مسميات مختلفة توجد رقعة عريضة مشتركة بينها:
يستخدم الصهاينة اصطلاحات كثيرة مثل «الصهيونية السياسية» و «الصهيونية التصحيحية» و «الصهيونية العمالية» و «الصهيونية الدينية» ... إلخ، وهي تيارات صهيونية عديدة يمكن اختزالها في نوعين اثنين: صهيونية استيطانية وصهيونية توطينية. كما يُشار إلى فلسطين المحتلة باعتبارها «اليشوف» أو «إرتس يسرائيل» أو «إسرائيل» .
والأسلوبان السابقان في التعامل مع الدوال مسألة تضرب بجذورها في طريقة استخدام المصطلحات في التراث الديني اليهودي حيث نجد أن كلمة مثل «التوراة» لها عدة مسميات.
8 ـ استخدام مصطلحات لكل منها معنيان؛ معنى معجمي مباشر ظاهر ومعنى آخر حضاري كامن:(16/167)
يستخدم الصهاينة عبارات تبدو بريئة وساذجة إن عُرِّفت حسب مجالها الدلالي المعجمي المباشر وحسب، ولكن معناها الحقيقي يتضح إن عُرِّف مجالها الدلالي من خلال المعجم الحضاري، فتعبيرات مثل «القانون الدولي العام» أو «القانون العام» أو «قانون الأمم» تعني في المعجم اللفظي دلالاتها الحرفية، ولكنها في المعجم الحضاري الغربي في القرن التاسع عشر تعني «قانون الدول الغربية الاستعمارية» أو «القانون الاستعماري الدولي» . وينطبق الوضع نفسه على عبارة مثل «شركة ذات براءة» ، فمعناها الحرفي أنها "شركة" حصلت على براءة لا أكثر ولا أقل ولكنها في المعجم الحضاري والسياسي الغربي تعني «شركة استيطانية تشبه الدولة تقوم بنقل كتلة بشرية غربية وتوطِّنها منطقة في آسيا أو أفريقيا لاستغلالها اقتصادياً» . ولذا، فإن المعنى الحقيقي (الاستعماري) لكثير من الدوال الصهيونية تتم تخبئته بعناية وراء الكلمات البريئة. ويمكننا أن ندرج مصطلح «السلام» أو «عملية السلام» تحت هذا التصنيف، فكلمة «السلام» قد تُركت مبهمة عامة، وهي يمكن أن تعني: «السلام الدائم» ـ «السلام العادل» ـ «السلام المؤسس على العدل» ، ولكنها يمكن أن تعني أيضاً «السلام حسب الشروط الصهيونية/ الأمريكية» . وسلوك الإسرائيليين وحلفائهم الأمريكيين يدل على أن المعنى الأخير هو المعنى المقصود.
9 ـ استخدام دوال تعبِّر عن مدلولات هي دون الحد الأدنى الصهيوني المعلن ولكنها تشير إليه:(16/168)
لعل أهم الأمثلة على هذا الدال الذي استُخدم في مؤتمر بازل للإشارة للدولة اليهودية، فالصيغة الصهيونية الأساسية تم تعديلها في مرحلة هرتزل وبلفور وأصبحت الصيغة الشاملة بحيث أصبحت الدولة (الوظيفية) جزءاً من هذه الصيغة وهي الإطار المفترض لعملية نَقْل اليهود وتوطينهم وتوظيفهم. وهذا ما عبَّر عنه شعار المؤتمر الصهيوني الأول (1897) : "تأسيس الدولة هو الحل الوحيد للمسألة اليهودية". وكان هرتزل قد دوَّن في مذكراته: "اليوم وضعت أساس دولة اليهود". ومع هذا، عند مناقشة القرارات، حاول المجتمعون أن يبتعدوا قدر الإمكان عن استخدام كلمة «دولة» في الإعلان النهائي كيلا يثيروا مخاوف السلطات العثمانية. كما أدرك واضعو البرنامج أن أكثرية اليهود لم تكن موافقة في ذلك الوقت على فكرة أمة يهودية ومن ثم كانت ترفض فكرة الدولة اليهودية. ولذا، فقد اقترح الزعيم الصهيوني ماكس نوردو كلمة «هايمشتات Heimstatte» ، وهي كلمة ألمانية مبهمة قد توحي بمعنى «الاستقلال» ولكنها لا تعني بالضرورة «دولة» . ويقول نوردو نفسه إنه استخدم طريقة المواربة أو الدوران حول المعنى واقترح الكلمة المذكورة (ومعناها: بيت ـ دار ـ ملاذ ـ مأوى ـ موطن ـ منزل) كمرادف لكلمة «دولة» ، ثم أضاف نوردو قائلاً: "ولكننا جميعاً فهمنا المقصود بها. وقد دلت آنذاك بالنسبة لنا على دولة يهودية كما هي الآن".(16/169)
وكتب هرتزل في دي فيلت في 9 يوليه يقول: "الاحتمال الوحيد أمامي هو إنشاء «بيت» (ملجأ) بحماية «قانون الأمم» أو «قانون الشعوب» (فولكرشتليخ Volkerrechtlich) لهؤلاء اليهود الذين لا يمكنهم الحياة في مكان آخر". وحين وردت عبارة «قانون الأمم» أثناء المؤتمر، أثارت العبارة كثيراً من النقاش، فالبعض أخذ على هذه العبارة ما تتضمنه من الاعتراف بفكرة تَدخُّل الدول الغربية العظمى. ولذا، اقترح نوردو كلمة «رختليخ Rechtlich» ، أي «قانون» وحسب، فرُفض الاقتراح. وأخيراً، تم التوصل للصيغة المراوغة «أوفينتليخ ريختليخ Offentlich Rechtlich» أي «القانون العام» ، فهي أوسع من كلمة «قانون» التي قد يُفهَم منها قوانين بلدية أو مدنية ولكنها لا تحمل معنى السيادة القومية أو أي شكل منها.(16/170)
ويرتبط هذا الجانب من الخطاب الصهيوني بمقدرة الصهاينة على قبول الدوال (أو الحلول) المعروضة عليهم حتى لو كانت دون الحد الأدنى الصهيوني مع تأكيد أن القبول أمر مرحلي مؤقت وأن المضمون الحقيقي للدال أو الحل يشير إلى الحد الأدنى الصهيوني الذي قد يكون من الخطر الإعلان عنه أو الإصرار عليه في مرحلة معيَّنة. وحينما أصدرت سلطات الانتداب عملة كانت هذه العملة تحمل كلمة «فلسطين» بالعربية وكلمة «بالستين Palestine» بالإنجليزية، ولكنها لم تحمل سوى حرفي إ. ي بالعبرية (وهما أول حرفين في عبارة «إرتس يسرائيل» ) ، فقد سُجل الحرفان تأكيداً لحقوق المستوطنين الصهاينة واكتُفي بهما دون العبارة كاملة حتى لا يتم استفزاز العرب. وقد قَبلت القيادة الصهيونية هذا الحل رغم اعتراض بعض "المتشددين") . وحينما عُرض على وايزمان قرار التقسيم (الذي أصدرته اللجنة الملكية عام 1937) فإنه لم يكن يشتمل على صحراء النقب، ولكنه قَبل القرار لأن النقب باقية في مكانها و"لن تجري" (وهو ما يعني إمكانية ضمها فيما بعد) . وقد تكرَّر الموقف نفسه من قبل حين أصر بعض الصهاينة على رفض الكتاب الأبيض الأول وعلى عدم القبول إلا بميثاق يهودي، فقال وايزمان انطلاقاً من مبدأ العمل بما هو واقع بدلاً من الإلحاح على الحد الأدنى الصهيوني: "الكتاب الأبيض أمر واقع، ولكن الميثاق ليس كذلك".
وهذه حيل لفظية للمراوغة عمل بها الاستعماريون الإنجليز من قبل، فحين صدر وعد بلفور الذي ينص على أن فلسطين وطن قومي للشعب اليهودي، قَبله الصهاينة كتسوية مرحلية مع الإبقاء على الحد الأدنى. وهي حيلة قَبلها لويد جورج رئيس الوزارة البريطانية إذ قال: "حين يأتي الوقت لمنح فلسطين مؤسسات نيابية ويصبح اليهود الأكثرية المطلقة في السكان، فإن فلسطين ستصبح كومنولث يهودياً".
10 ـ تَرْك فراغات كثيرة ومساحات خالية بين العناصر المختلفة، وعدم رَبْط المقدمات بالنتائج:(16/171)
يعمد الخطاب الصهيوني إلى ترك فجوات واسعة بين العناصر المختلفة وبين المقدمات والنتائج، فيذكر النتائج دون المقدمات والمقدمات دون النتائج. وقد تُركت هذه المساحات خالية وجرى التزام الصمت حيال بعض النقاط عن عمد لأن ملأها والإفصاح عنها قد يكشف أهداف الصهاينة في مرحلة مبكرة قد لا يَحسُن الكشف عنها مرحلياً (وهذا تكتيك معروف في عالم السياسة. فبعد أن ضمت بروسيا الألزاس واللورين، كان شعار أهل هاتين المنطقتين من الفرنسيين هو: "لا تتحدث عنهما قط، ولا تكف عن التفكير فيهما قط") . وكما قال بن هالبرن (مؤرخ فكرة الدولة اليهودية) ، اتفق يهود اليديشية ويهود غرب أوربا على ضرورة الصمت بشأن فكرة السيادة اليهودية والطرق السياسية لتحقيقها. وكتب هرتزل في يومياته "يجب ألا يُكشَف كل شيء للجمهور، يجب كشف النتائج وحسب أو ما قد يحتاج المرء لكشفه في مناقشة ما"! وحذر آحاد هعام من الإفصاح العلني عن "آرائنا" بشأن مستقبل فلسطين، فلا يزال (حينذاك) يشكل خطراً ما دام مستقبل تركيا لم يتقرر بعد. وحينما نُوقشت قضية مصطلح «الدولة» في المؤتمر الصهيوني الأول، واستُخدم مصطلح «وطن قومي» ، طمأن هرتزل الجميع قائلاً: "لا داعي للقلق فسوف يقرؤه الناس «دولة يهودية» على أية حال" و"لا داعي لتوخي الدقة لأن الكل يعرف المطلوب في الممارسة، ولا يوجد أي مبرر لجعل مهمة اللجنة التنفيذية أكثر صعوبة مما هي عليه بالإصرار على الدقة". ومعنى قوله هو: كلنا نعرف القصد الصهيوني الصامت، ونعرف الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المهوَّدة، وقد قررنا الالتزام بهما ولكن لا داعي للإفصاح عنهما.(16/172)
ولا يلتزم بعض "المتطرفين" أحياناً بعملية الصمت وعدم الإفصاح كما حدث مع جابوتنسكي إبان فترة الانتداب حين أصر على أن يُكتَب اسم «إرتس يسرائيل» كاملاً على العملة، وكان لا يكف عن المطالبة بأن يُعلَن صراحةً أن هدف الصهيونية هو إنشاء دولة يهودية على ضفتي الأردن. ولكن القيادة العمالية الحصيفة اكتفت بالحرفين الأولين E.I. فهما يشيران إلى الحد الأدنى الصهيوني.
وهناك حادثة طريفة تبين التصادم نفسه بين من يلتزمون الصمت ومن يحاولون كشفه. ففي إحدى الحملات الانتخابية في إسرائيل، أشار إسحق نافون إلى العرب باعتبارهم "إخوته" وهو يعني في واقع الأمر أنهم "أعداؤه"، وكل ما في الأمر أنه يحاول خداعهم حتى يحصل على أصواتهم الانتخابية. وحين اعترض بعض السامعين من الإسرائيليين على إشارته الأخوية للعرب صاح نافون: "أنتم عباقرة! أنتم دبلوماسيون! ألا تفهمون؟ إنها مسألة رياضية بسيطة، إن هدف البرنامج العمالي الصهيوني هو الحصول على أكبر قدر ممكن من الأرض وأقل عدد ممكن من العرب". وهكذا، فلابد من التخلص من العربي، هذا ما يقوله البرنامج العمالي دون إفصاح، أما حكاية الأخوة هذه فهي دعاية انتخابية.
11 ـ التأرجح المستمر والمتعمد بين أعلى مستويات التعميم والتجريد وأدنى مستويات التخصيص:(16/173)
يحاول الصهاينة أن يتحركوا من أعلى مستويات التعميم والتجريد إلى أدنى مستويات التخصيص حسبما تمليه عليهم الاعتبارات البرجماتية. فحين يكون الحديث موجهاً إلى اليهود وإلى الرأي العام في الغرب، فإنه يكون عن أرض الميعاد المقدَّسة وحق اليهود الأزلي فيها والوعد الإلهي الذي ورد في العهد القديم. وهناك الحديث عن النفي إلى بابل والعودة منها كنمط أزلي متكرر وعما لحق باليهود من اضطهاد ... إلخ. ولكن، إلى جانب ذلك، هناك الحديث الموجه إلى العرب عن ضرورة تناسي الماضي ومحو الذاكرة والتركيز على الحاضر وعلى التفاوض وجهاً لوجه ودراسة التفاصيل المباشرة والإجراءات والعائد الاقتصادي. وبدلاً من الحديث عن صهيون، يكون الحديث عن سنغافورة كمثل أعلى يُحتذى، وبدلاً من الحديث عن رؤى الأنبياء يكون عن مشاريع الاستثمار، وبدلاً من الحديث عن البلاد والأوطان يكون الحديث عن الفنادق والكازينوهات، وبدلاً من ارتداء ثياب المعارك يكون التركيز على آخر الموضات والمايوهات.
وبطبيعة الحال، يمكن استخدام الخطاب النفعي الإجرائي حين يتوجه الصهاينة إلى الحكومات الغربية طلباً للمعونات إذ يسقط الحديث عن صهيون والأراضي المقدَّسة بطبيعة الحال، ويكون الحديث عن العائد الإستراتيجي العسكري والاقتصادي للدولة الصهيونية الوظيفية المملوكية. ويظهر هذا التأرجح بين أعلى درجات التعميم وأقصى درجات التخصيص في الطريقة التي يُنفَّذ بها شعار "الأرض مقابل السلام"، فرغم أن الأرض أمر محدد إلا أنها تدريجياً تحوَّلت إلى مفهوم شديد العمومية، على عكس السلام، الذي تحوَّل من كونه مفهوماً عاماً إلى مجموعة محددة من الإجراءات الاقتصادية والأمنية المادية الصارمة.
12 ـ أيقنة بعض الدوال والعبارات:(16/174)
من الحيل الصهيونية الأساسية ما نسميه «أيقنة» المصطلح أو العبارة، أي تحويل المصطلح إلى ما يشبه الأيقونة، بحيث يصبح المصطلح مرجعية ذاته وتُختزل الحقيقة المركبة إلى مثل هذه الأيقونة، التي لا تقبل المناقشة أو المراجعة أو الدراسة أو التساؤل. وهذا ما حدث بعض الوقت لعبارة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" ولعبارة "المفاوضات وجهاً لوجه". وفي الوقت الحاضر، ظهرت مصطلحات مثل» عملية السلام» و «السلام مقابل الأرض. «
ولعل من أهم العبارات المتأيقنة عبارة "ستة ملايين يهودي" التي يُفترض أنها تشير إلى عدد ضحايا الإبادة النازية من اليهود، وأصبح مجرد التساؤل عن مدى دقة هذا العدد شكلاً من أشكال الكفر يُسمَّى» إنكار الإبادة. «
13 ـ إشاعة بعض الصور التي تختزل الواقع:
وترتبط بالأيقنة محاولة إشاعة بعض الصور المجازية التي تختزل الواقع وتترجمه إلى أطروحة صهيونية. فرغم أن إسرائيل من أكثر الدول تسلُّحاً وشراسة وقوة عسكرية، إلا أن الصورة التي تُشاع يجب أن تكون صورة إسرائيل صاحبة الحق المسالمة التي تدافع عن نفسها. وقد تمت ترجمة هذا كله إلى صورة داود وجالوت المجازية، بحيث أصبحت إسرائيل داود الصغير الذي لا يوجد معه سوى مقلاع ضد جالوت المدجج بالسلاح والذي يُهاجم داود الصغير بشراسة (ومن الطريف أن الانتفاضة قلبت الأمور رأساً على عقب، إذ أن الفلسطينيين كانوا هم المسلحون بالمقاليع، أما الإسرائيليون فكانوا هم جالوت المدجج بالسلاح) .
ومن الصور الأخرى التي تمت إشاعتها صورة إسرائيل باعتبارها واحة الديموقراطية الغربية (الأمر الذي يتطلب إخفاء كل ما تقوم به من عمليات قمع وإرهاب) ونموذجاً للإنتاجية والكفاءة (الأمر الذي يتطلب إخفاء المساعدات الغربية التي تصب في هذا المجتمع) .
14ـ تغيير الاعتذاريات وتنويعها حسب تنوُّع الجمهور المُستهدَف: انظر المدخل التالي.
الاعتذاريات الصهيونية العنصرية ونظرية الحقوق اليهودية المطلقة(16/175)
Racist Zionist Apologetics and the Theory of Absolute Jewish Rights
» الاعتذاريات» من «عَذَر» بمعنى «رفع عنه اللوم» ، و «العُذر» هو «الحجة التي يُعتذَر بها» ويُقال «اعتذر المذنب» أو «اعتذر عن الشيء» بمعنى «أبدى عذره» و «احتج لنفسه» . و «الاعتذاريات» هي الحجج التي يسوقها المرء ليرفع اللوم عن نفسه. والاعتذاريات تستند إلى رؤية للذات (الفاعلة) ورؤية الآخر (المفعول به) . وفي حالة الاعتذاريات الاستعمارية، نجد أنها في جوهرها نظرية للحقوق يحاول الكيان الغازي أن يبرر عن طريقها عدوانيته وأن يضفي شيئاً من المعنى على فعلته.
وتنطلق الاعتذاريات الصهيونية من الافتراض المحوري في الفكر القومي العضوي والعنصري الغربي الذي يذهب إلى أن أعضاء الحضارة (الغربية) الغازية أكثر تفوقاً من الناحيتين الحضارية والعرْقية من أعضاء الحضارات (الشرقية) المغزوة، وأن تخلُّف هذه الحضارات الشرقية أمر وراثي حتمي، ومن ثم تكون الغزوة الإمبريالية مسألة منطقية وحتمية بل يحتمها منطق التقدم!
وقد تم الغزو الصهيوني لفلسطين مثلما تم أي استعمار استيطاني إحلالي آخر، أي عن طريق العنف واغتصاب الأرض من أصحابها. لكن المادة البشرية الغازية في حالة فلسطين كانت متنوعة غير متجانسة وكان لها انتماءات حضارية ودينية وثقافية وسياسية مختلفة، كما أن الصهيونية كان عليها أن تبيع صورتها للاستعمار الغربي وللدول الاشتراكية وليهود العالم، ومن ثم تنوعت الاعتذاريات والتبريرات التي يستند إليها الغزو الصهيوني بشكل يفوق الاعتذاريات الاستعمارية المألوفة، لكن هناك عناصر كثيرة مشتركة:
1 ـ عبء اليهودي الأبيض:(16/176)
من أهم الاعتذاريات الصهيونية، تلك الاعتذاريات الاستعمارية العامة، أي التي لا تَصدُر عن منطق أو تسويغ صهيوني أو يهودي خاص، وإنما تَصدُر عن منطق استعماري عام. ومن المعروف أن الجيوب الاستيطانية البيضاء قامت بتقديم اعتذاريات مفصَّلة لتسويغ وجودها الشاذ في كل من آسيا وأفريقيا. وفي بعض الأحيان، نجد أن الاعتذاريات الصهيونية من النوع التقليدي المألوف الذي يدافع عن نقاء الرجل الأبيض وتفوُّقه. فالإنسان الأبيض في هذه المنظومة هو مثل اللوجوس المتجسد أو موضع الحلول ومركز الإطلاق والركيزة النهائية للكون والتاريخ والذي يدور حوله ويكتسب معنى من وجوده في مركزه. ولهذا، فإن حقوق هذا الإنسان مطلقة وتجبُّ حقوق الآخرين.
وقد وصف اللورد بلفور عملية الاستعمار الاستيطاني بأنها تعبير عن حقوق وامتيازات الأجناس الأوربية، واعتبر عدم المساواة بين الأجناس حقيقة تاريخية واضحة. أما ريتشارد كروسمان، فكان يرى أن الاستعمار الاستيطاني الأوربي يَصدُر عن الإيمان بأن الرجل الأبيض سيقوم بجلب الحضارة إلى السكان الأقل تحضراً في آسيا وأفريقيا، وذلك عن طريق احتلال القارتين فعلياً، حتى لو أدَّى ذلك إلى إبادة السكان الأصليين (ولا شك في أنها طريقة غريبة ومدهشة أن تدخل الحضارة إلى شعب عن طريق إبادته) . أما ماكس نوردو، فقد اقترح (حتى قبل تبنيه الرؤية الصهيونية وتمشياً مع نظرته العنصرية الاستعمارية) توطين العمال الأوربيين العاطلين ليحلوا محل الأجناس الدنيا التي لا تستطيع البقاء خلال معركة التطور.(16/177)
وقد قدَّم الزعيم والمفكر النازي ألفريد روزنبرج حجة مماثلة لإثبات براءته خلال محاكمته في نورمبرج، مؤكداً للقضاة العلاقة العضوية بين العنصرية والاستعمار، إذ أشار إلى أنه عثر على لفظ «سوبرمان» لأول مرة في كتاب عن حياة اللورد كتشنر، الرجل الذي قهر العالم. وبيَّن روزنبرج أيضاً أنه صادف عبارة «العنصر السيد» أو «العنصر المتفوق» في مؤلفات عالم الأجناس الأمريكي ماديسون جرانت والعالم الفرنسي لابوج، ثم أشار أخيراً إلى أن هذا الضرب من التفكير الأنثروبولوجي ليس سوى اكتشاف بيولوجي جاء في ختام أبحاث دامت 400 عام وأن النظرية العنصرية، ونظريات التفوق العرْقي، جزء من فكر الحضارة الغربية العلمانية الحديثة. والمشروع الصهيوني جزء من المشروع الاستعماري الغربي، والصيغة الصهيونية الأساسية صيغة غربية غير يهودية. وليس غريباً أن نجد الصهاينة يؤكدون انتماءهم إلى الجنس الأبيض، صاحب الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية والمشروع الاستعماري المنتصر، حتى يتمكنوا من المشاركة في المزايا والحقوق التي منحها الرجل الأبيض لنفسه، وحتى يساهموا في حَمْل عبئه الحضاري الثقيل. فنجد أن عالم الاجتماع الصهيوني آرثر روبين (1876 ـ 1943) يؤيد في دراسته يهود اليوم النظرية التي تؤكد الشبه الجسماني بين الجنس اليهودي وأجناس آسيا الصغرى ولا سيما الأرمن، إذ أنه يفضل (على حد قوله) أن يرى اليهود أعضاء في الجنس الأبيض، ويرحب بأية محاولات نظرية ترمي إلى توجيه الضربات للنظرية السامية التي تَنسب اليهود للعرْق السامي أو الحضارة السامية. ويرى أن الاختلاف العنصري بين اليهود والأوربيين ليس كبيراً إلى درجة تؤدي إلى التشاؤم من ثمار الزواج المُختلَط بين أعضاء الجنسين.(16/178)
وثمة اتجاه في التفكير الصهيوني يَقصُر لفظ «يهودي» على اليهود البيض وحدهم، أي الإشكناز. وقد أفصح روبين عن هذه الفكرة بصراحة بالغة في كتابه آنف الذكر، حيث يناقش أثر الحركة الصهيونية في وعي كثير من اليهود الغربيين، وكيف أن محاولات الاستيطان الصهيونية كانت تستهدف أساساً تجنيد اليهود الأوربيين، لا اليهود الشرقيين، رغم أن تجنيد وتوطين اليهود الشرقيين (من اليمن والمغرب وحلب [سوريا] والقوقاز) في المستعمرات الزراعية كان أكثر سهولة ويسراً.
وقد ذكَّر روبين قارئه بأن الإشكناز، بسبب طبيعة حياتهم في أوربا، وبسبب الاضطهاد الذي تعرَّضوا له، اجتازوا عملية طويلة من الاختيار وصراعاً مريراً من أجل البقاء، وهو صراع لا يستطيع البقاء فيه سوى الأكثر ذكاء والأكثر قوة. ولذلك تمت المحافظة على المواهب العنصرية الطبيعية العظيمة التي يتمتع بها اليهود، بل جرت تقويتها. وقد ساهمت عوامل أخرى أيضاً في تصفية غير الموهوبين، وفي الإبقاء على الأكثر موهبة، الأمر الذي شكَّل ضماناً أكيداً للتقدم الفكري للإشكناز وتفوُّقهم في النشاط والذكاء وفي المقدرة العلمية على السفارد وعلى اليهود العرب.
لكل ما تقدَّم، يرى روبين أن الحقوق التي يدَّعيها الرجل الأبيض لنفسه لا تنطبق على السفارد، وإنما تنطبق على الإشكناز وحدهم (فهم وحدهم القادرون على حمل عبء الرجل الأبيض، وعلى اغتصاب آسيا وأفريقيا) .(16/179)
وهذه الرؤية للمستعمر الصهيوني، بوصفه رجلاً أبيض، موضوع أساسي كامن في الاعتذاريات الصهيونية. فتيودور هرتزل كان يؤمن تمام الإيمان بتفوق الرجل الأبيض، وكان يدرك تمام الإدراك ضرورة التنسيق بين الخطة الصهيونية الاستعمارية والمشروعات الاستعمارية المماثلة حتى لا تتعارض الحقوق المختلفة للبيض. ولذلك، فقد قرر الزعيم الصهيوني، قبل أن يجتمع بتشامبرلين، أن من الضروري قبل مناقشة الخطة الصهيونية، أن يبين لوزير المستعمرات البريطاني أن هناك بقعة ما في الممتلكات الإنجليزية ليس فيها حتى الآن أناس بيض. وقد بيَّن الروائي الإنجليزي والمفكر الصهيوني إسرائيل زانجويل في خطابه أمام المؤتمر الصهيوني السادس (1903) أن الاستيطان الصهيوني في شرق أفريقيا سيكون وسيلة لمضاعفة عدد السكان البيض التابعين لبريطانيا هناك. ولكن يبدو أن المستوطنين البيض هناك (وهم موضع الحلول) لم يقبلوا تعريف اليهودي بأنه رجل أبيض فعارضوا الاستيطان.
وقد حاول الصهاينة تسويغ الاستعمار الصهيوني بالرجوع إلى فكرة التفوق الحضاري الغربي. وانطلاقاً من هذا التصور، تَحدَّث هرتزل عن الإمبريالية بوصفها نشاطاً نبيلاً، يهدف إلى جَلْب الحضارة للأجناس الأخرى التي تعيش في ظلام البدائية والجهل. وقد كان هرتزل ينظر إلى مشروعه الصهيوني من خلال ذلك المنظور الغربي حين كتب رسالة إلى دوق بادن يؤكد له فيها أن اليهود، عندما يعودون إلى وطنهم التاريخي، سيفعلون ذلك بصفتهم ممثلين للحضارة الغربية، وأنهم سيجلبون معهم النظافة والنظام والعادات الغربية الراسخة إلى هذا الركن الموبوء البالي من الشرق، وأن الصهاينة سيقومون (بصفتهم من المؤيدين المتحمسين للتقدم الغربي) بمد السكك الحديدية في آسيا التي تُعَدُّ الطريق البري للشعوب المتحضرة.(16/180)
والاعتذاريات التي تنطلق من مقولة عبء الرجل الأبيض موجَّهة بالدرجة الأولى للدول الإمبريالية ولشعوبها. وفي هذا الإطار طرحت إسرائيل نفسها باعتبارها دولة وظيفية غربية (بيضاء) نظيفة متقدمة، قاعدة للديموقراطية الغربية تحمي المصالح الإستراتيجية الغربية وتقف بحزم وصرامة ضد القومية العربية (في عصر النظام العالمي القديم) وضد الحركات الإسلامية (في عصر النظام العالمي الجديد) .
ويؤكد الكثير من تصريحات الصهاينة أنهم لا يعتبرون أنفسهم كياناً عنصرياً منفصلاً فحسب، بل يعتبرون أنفسهم أعضاء في الجنس الأبيض. وفي عام 1917، كتب الزعيم الصهيوني بن جوريون مقالاً تحت عنوان "في يهودا والجليل" وصف فيه المستوطنين الصهاينة في فلسطين لا بوصفهم عاملين في هذه الأرض فحسب، بل على أنهم غزاة لها، "لقد كنا جماعة من الفاتحين". وفي مقال آخر بعنوان: "الحصول على وطن قومي" كتبه عام 1915، قارن بن جوريون بين الاستيطان الصهيوني والاستيطان الأمريكي في العالم الجديد، مستحضراً صورة المعارك العنيفة التي خاضها المستوطنون الأمريكيون ضد الطبيعة الوحشية، وضد الهنود الحمر الأكثر وحشية. ومما له مغزاه أنه ساوى بين الطبيعة وبين الهنود، بل وضعهم في مرتبة أدنى إذ هم أكثر وحشية منها. والواقع أن هذه الواحدية الكونية تؤدي إلى تجريد الإنسان وتحويله إلى مجرد جزء من دورات الطبيعة، الأمر الذي يجعل إبادته أو نَقْله أمراً مقبولاً بل مرغوباً فيه، أما وايزمان فقد فضَّل في كتابه المحاولة والخطأ أن يقارن بين المستوطنين الصهاينة من جهة والمستوطنين الفرنسيين في تونس والمستوطنين البريطانيين في كندا وأستراليا من جهة أخرى، كما أظهر أيضاً تعاطفاً ملحوظاً إزاء المستوطنين في جنوب أفريقيا.(16/181)
ويتبدَّى الاتجاه العنصري، الذي يسوِّغ الاستعمار والعنف والإبادة باسم التقدم، في مذكرة بعث بها وايزمان إلى الرئيس ترومان (في 27 نوفمبر 1947) يشرح له فيها أن المجتمع الصهيوني في فلسطين يضم أساساً فلاحين متعلمين وطبقة صناعية ماهرة تعيش على مستوى عال، ثم يقارن بين هذه الصورة المشرقة والصورة الكئيبة للمجتمعات الأمية الفقيرة في فلسطين.
وإذا نظرنا إلى الجانب الآخر لأسطورة عبء اليهودي الأبيض، وهو التفوق التكنولوجي للصهاينة (وليس العرْقي) ، الذي سيجعلهم رسلاً للتقدم يقومون بتطوير المجتمع ودَفْعه من المرحلة الدنيا التقليدية إلى المرحلة العليا الحديثة، فإننا نجد أن كتابات الصهاينة تزخر بها. وقد اقتبسنا بعضاً من كتابات بن جوريون (الصهيوني الاشتراكي) وغيره، في دفاعهم عن الاستعمار الصهيوني، باعتبارهم ممثلين للحضارة الغربية. ولا شك في أن المستوطنين الصهاينة كانوا عارفين بالتكنولوجيا وبوسائل التنظيم والقيم السياسية المعاصرة، كما كانوا جماعة معاصرة فعلاً، وقد نقلوا قيمهم ومؤسساتهم المعاصرة إلى الوطن الجديد، فنظموا النقابات العمالية والأحزاب السياسية، وأجروا الانتخابات على أساس صوت واحد لكل ناخب. بل إنهم مارسوا أحياناً أشكالاً من الاشتراكية، من حيث عدالة توزيع الدخل أو الإيمان بأهمية العمل اليدوي ومساواته بالعمل الفكري. ولكن كل هذه الأشكال المعاصرة من التنظيم، وهذه القيم الديموقراطية والاشتراكية، ظلت مقصورة على الصهاينة وحدهم، تُطبَّق على مجتمعهم الصغير (الميكرو) وليس على المجتمع كله. ولم يحاول الصهاينة تحديث المجتمع بأكمله بل على العكس حاولوا أن يوقفوا تطوُّره (وهذا الدور يقف على الطرف النقيض من الدور الذي تلعبه النخبة المعاصرة ذات الأصول القومية) .(16/182)
وقد بذل المستوطنون جهدهم في إبقاء السكان الأصليين في مستوى حضاري متخلف، ومنعهم من تنظيم أنفسهم داخل أُطر معاصرة (نقابات عمال، أحزاب سياسية) ، وفضلوا التعامل معهم داخل أطر المجتمع التقليدي وتنظيماته. ولذا، فقد فضلوا التعامل مع كبار الملاك وزعماء العشائر. وقد رفض الهستدروت (اتحاد العمال المستوطنين الصهاينة) السماح للعمال العرب بالانتظام في صفوفه إلا في تاريخ قريب. كما أن الدولة الصهيونية (العصرية الديموقراطية) ترفض الاعتراف بحق تقرير المصير للسكان الأصليين أو حقهم في المشاركة في النظام السياسي الصهيوني الجديد عن طريق تكوين الأحزاب والاشتراك في الانتخابات، وترفض أيضاً تشكيل دولة تضم كلاًّ من العنصر السكاني الدخيل والعنصر الأصلي على قدم المساواة.
وإلى جانب هذا، هناك الحقيقة الأساسية، وهي أن جماعة المستوطنين الغزاة تسرق من السكان الأصليين أرضهم، أي تسرق منهم الأساس المادي لأي تَقدُّم، وتهدم نمط حياتهم (الإطار الاجتماعي الذي تتحقق من خلاله ذواتهم التاريخية) . ولذا، تتغيَّر الأولويات، ويصبح واجب المواطن الأصلي (الجزائري أو الفلسطيني) هو البقاء وليس التقدم. ولعل هذا هو الذي يُفسِّر سرّ رفض موسى العلمي لكلمات بن جوريون الحلوة العذبة حين تقابلا عام 1936 في منزل موشي شاريت. فطبقاً لما جاء على لسان بن جوريون بدأ الحديث بترديد النغمة (القديمة) التي أعدها عن المستنقعات التي يجري تجفيفها، والصحارى التي تزدهر بالخضرة، والرخاء الذي سيعم الجميع. ولكن العربي قاطعه قائلاً: "اسمع! اسمع يا خواجه بن جوريون، إنني أفضل أن تظل الأرض هنا جرداء مقفرة مائة عام أخرى، أو ألف عام آخر، إلى أن نستطيع نحن استصلاحها ونأتي لها بالخلاص". ولم يسع بن جوريون إلا أن يعلق (فيما بعد) بأن العربي كان يقول الحقيقة، وأن كلماته هو بدت مضحكة وجوفاء.
2 ـ عبء اليهودي الخالص:(16/183)
رغم شيوع أسطورة اليهودي الأبيض وحقه في استعمار فلسطين، فإن هذه الأسطورة لا تحتل مركز الصدارة وحدها في الخطاب الصهيوني، ذلك أن الاعتذاريات الصهيونية، وبخاصة حينما تتوجه إلى يهود العالم، تستند بصفة جوهرية إلى فكرة اليهودي الخالص. واليهودي الخالص غير مرتبط بأي جنس أو حضارة، شرقية كانت أو غربية (فهو يهودي مائة في المائة، على حد قول بن جوريون) ، إذ أن اليهود بحسب هذا التصور يشكلون جنساً مستقلاً أو أمة مستقلة، وليسوا مجرد سلالة من سلالات الجنس الأبيض أو الحضارة الغربية. واليهودي، وليس الجنس الأبيض، هو نقطة الحلول والركيزة الأساسية للتاريخ والكون، أي أن مفهوم اليهودي الخالص عودة إلى الحلولية العضوية اليهودية المنفصلة تمام الانفصال عن الأغيار. وفي الواقع، فإن اليهودي الخالص ظهر في إطار محاولة تهويد الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، حين أسقطت الصهيونية الإثنية مصطلحات الصهيونية الحلولية اليهودية عليها.
كما أن فكرة اليهودي الخالص، مثلها مثل فكرة الرجل الأبيض المتفوق، تمنح اليهود حقوقاً معينة مقدَّسة وخالدة لا تتأثر بأية اعتبارات أو مطالب تاريخية، ولا يمكن حتى للفلسطينيين أنفسهم أن يكون لهم حقوق أقوى أو حتى مماثلة لحقوق اليهود في فلسطين. ويتضح هذا التصور في كلمات الحاخام جـ. ل. هاكوهين فيشمان ميمون، أول وزير للشئون الدينية في إسرائيل، حيث أكد أن الصلة بين الشعب اليهودي وأرضه مقدَّسة أو هي سر من الأسرار الدينية، وهذا ما يبيِّن أنه يدور في إطار حلولي عضوي. وقد يكون للآخرين، على أحسن الفروض، صلة ما بهذه الأرض (سياسية علمانية خارجية عرضية مؤقتة) في حين أن لليهود، حتى وهم في حالة الشتات، صلة مباشرة بها (صلة سماوية وأبدية، فهي صلة حلولية عضوية) .(16/184)
وفي مجال الدفاع عن هذه الأسطورة، نصح مناحم بيجين بعض المستوطنين الصهاينة عام 1969 بأن يصروا على أن فلسطين هي أرض إسرائيل "فلو كانت هذه الأرض هي حقاً فلسطين وليست أرض إسرائيل، إذن فأنتم فاتحون ولستم مزارعين يفلحون الأرض، أنتم إذن غزاة. وإذا كانت هذه الأرض هي فلسطين فهي إذن تنتمي إلى الشعب الذي عاش هنا قبل أن تأتوا إليها.. لن يكون لكم حق العيش فيها إلا إذا كانت أرض إسرائيل".
وإذا أصبحت فلسطين الأرض المقدَّسة أو أرض يسرائيل تصبح حقوق اليهود الخالدة سارية المفعول فيها، فيصبح بالإمكان الادعاء بأن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض لأنها دخلت الدائرة الحلولية التي تستبعد الآخر. لقد كان الصهاينة يدركون أن الفلسطينيين يعيشون في فلسطين، وأن اليهود المشردين يعيشون في الأراضي التي وُلدوا فيها. ولكن الرابطة الأبدية بين الأرض والشعب اليهودي هي التي تجعل اليهود مجرد مشردين وشعباً رُحلاًّ بلا جذور، رغم وجودهم في أوطانهم في كل أنحاء العالم. وهذه الرابطة هي التي تنكر وجود الفلسطينيين وتجعل مطالبهم القومية مسألة هامشية. ولهذا، فإن شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" لابد أن تتم إعادة صياغته على النحو الحلولي التالي: "أرض مقدَّسة بلا شعب مقدَّس لشعب مقدَّس بلا أرض مقدَّسة". وفي هذه القداسة يذوب الفلسطينيون (شعب غير مقدَّس لا يتمتع بالحلول الإلهي) ، وتصبح مطالبهم أمراً هامشياً وتافهاً، وقد تحقَّق كل ذلك دون اللجوء إلى أية نظريات عرْقية فاضحة.(16/185)
إن أسطورة الحقوق الأبدية لليهودي الخالص في أرض فلسطين، التي تفترض هامشية السكان الأصليين، هي شكل من أشكال الاعتذاريات يتسم بدرجة عالية من الغموض واللاأخلاقية تفوق غموض ولا أخلاقية الاعتذاريات العنصرية التقليدية التي تنسب التفوق الحضاري والعرْقي للمستغل وتنسب التدني الحضاري العرْقي للمستغَل؛ فالأساطير التقليدية، في نهاية الأمر، تعترف بوجود الآخر، أما الأسطورة الصهيونية الخاصة بالحقوق اليهودية فهي ترفض الاعتراف بوجوده. وفي إطار الحلولية العضوية، تصبح فلسطين (الأرض المقدَّسة) بلداً بلا سكان، لأن امتلاك فلسطين ليس من حق السكان الأصليين. وليس بإمكان البشر، يهوداً كانوا أم عرباً أن يتساءلوا عن معنى هذا القرار، لأن محور مشكلة فلسطين، وفقاً لما قاله بن جوريون، يتلخص في حق اليهود المشتتين في العودة (فاليهود هم موضع الحلول الإلهي، وهم اللوجوس المتجسد في التاريخ) ، وهو حق مطلق قائم منذ بداية التاريخ حتى نهايته. وكما قال وايزمان "إن أساس وجودنا كله هو حقنا في إقامة وطن قومي فوق أرض إسرائيل [فلسطين] وهو حق نملكه منذ آلاف السنين، ومصدره وعد الرب لإبراهيم، وقد حملناه معنا في أنحاء العالم كله طوال حياة حافلة بالتقلبات". وقد وصلت نظرية الحقوق هذه إلى ذروتها فيما نسميه «الصهيونية الحلولية العضوية» ، صهيونية جوش إيمونيم وكاهانا حيث يصبح اليهودي الخالص هو اليهودي المطلق.(16/186)
والجدير بالذكر أن النطاق الإقليمي المحدود للأسطورة الصهيونية قد جعل كثيراً من الناس، ولا سيما في الغرب، يعتقدون أن الصهيونية ليست عنصرية. وهم على حق في هذا من بعض النواحي، فالنازية على سبيل المثال لم تكن عنصرية إزاء اليابانيين مثلاً. وكذلك الصهيونية في العالم الغربي، فهي ليست سوى أيديولوجيا سياسية وضعها اليهود من أجل اليهود، تخصهم وحدهم ولا تتضمن أي تمييز ضد أي شخص في الولايات المتحدة أو إنجلترا. بل لقد دافع بعض الغربيين عن الدور الإيجابي البنَّاء الذي تلعبه الصهيونية بين الأمريكيين اليهود، حيث تزوِّدهم بالشعور بالترابط والانتماء. وقد تكون هذه النظرة سليمة في حدود هذه الجزئية. ولكن الصهيونية حين نُقلت من أوربا وأمريكا إلى آسيا (مسرحها الحقيقي) ، فإن الأمر أصبح جد مختلف، وأفصحت الصهيونية عن وجهها العنصري القبيح وأخذت تمارس أثرها الهدام على المجتمع الفلسطيني. والواقع أن التناقض هنا ليس تناقضاً بين النظرية والممارسة، ولكنه تناقض بين نظرية ونوعين من أنواع الممارسة، أحدهما عرضي مؤقت (في الغرب) والآخر ضروري وجوهري (في آسيا) . وفي تصوُّري أن الحكم على الصهيونية لا يمكن أن يتم في لندن أو باريس، وإنما ينبغي أن يتم الحكم عليها في مجال فعاليتها الأساسية، في حيفا ويافا والضفة الغربية ومئات القرى التي هُدمت. ولو أننا حكمنا على النازية في طوكيو مثلاً لوجدناها أيضاً مجرد أيديولوجيا قومية تدافع عن حقوق وأمجاد الشعب الألماني.(16/187)
ومما يدعو للسخرية أن بعض المتحدثين بلسان حكومة التمييز العنصري بجنوب أفريقيا، والذين لا يهتمون بالتجربة الصهيونية العرضية في الغرب، قد وضعوا تقييماً واقعياً للتجربة الصهيونية في آسيا. فقد عنَّف فيروورد، رئيس وزراء جنوب أفريقيا السابق، بعض الصهاينة الذين أرادوا المقارنة بين سياسة النمو المنفصل التي تنتهجها إسرائيل على أساس من الدين (أو اليهودية الخالصة) والسياسة المماثلة التي تنتهجها حكومة جنوب أفريقيا على أساس عنصري، فقال: "إذا كان التمييز خاطئاً في الحالة الثانية، فهو لا شك خاطئ أيضاً في الحالة الأولى". والواقع أن الاعتذاريات، مهما بلغت من تركيب ودهاء، فإنها لا تغيِّر حقيقة التمييز العنصري في شيء. كما أن الحقوق المقدَّسة التي تَجُّب حقوق الآخرين، سواء استندت إلى أساس عنصري أو إلى أساس إلهي أو إثني، فإنها في نهاية الأمر تعد على حقوق الغير وإلغاء لوجوده.(16/188)
وتعبِّر فكرة اليهودي الخالص عن نفسها في فكرة الدولة اليهودية الخالصة الخالية من أية عناصر غير يهودية وفي التركيز المستمر على قضية اضطهاد اليهود في كل زمان ومكان. وقد حاول وايزمان أن يبلور هذه الفكرة من خلال صورة مجازية إذ قارن بين "اليهودي الخالص" والحيوانات التي تحيا حياة سعيدة في حديقة الحيوان (في جنوب أفريقيا) : "ها هي ذي في موطنها، الذي تقل مساحته قليلاً عن مساحة فلسطين، تنعم بالحرية، وتقدِّم لها الطبيعة هباتها بسخاء، ولا تواجهها مشكلة العرب". وحتى لا يترك أي مجال للشك لدى قارئه، يعمم القضية على كل اليهود: "لا شك أنه أمر رائع أن يكون المرء حيواناً في حديقة الحيوانات بجنوب أفريقيا. فذلك أفضل له كثيراً من أن يكون يهودياً في وارسو أو حتى في لندن". والصورة المجازية التي يستخدمها وايزمان تدل على غبائه الشديد، ولكنها مع هذا ذات دلالة، فالحيوان في حديقة الحيوان يشبه اليهودي الخالص في دولته اليهودية، وهذا ما يفتقده اليهودي في فلسطين ووارسو ولندن!
كما أن التركيز على قضية البقاء اليهودي المهدد دائماً إما من خلال الإبادة المباشرة (الهولوكوست ـ أفران الغاز) أو من خلال الاندماج وفقدان الهوية هو تعبير عن مفهوم اليهودي الخالص. وينبع النقد الصهيوني للشخصية اليهودية في المنفى (باعتبارها شخصية جيتوية هامشية طفيلية) من مفهوم اليهودي الخالص هذا.
3 ـ عبء اليهودي الاشتراكي:(16/189)
وإذا كانت الاعتذاريات التي تستند إلى فكرة اليهودي الخالص فريدة مقصورة على الصهاينة، فإن الاعتذاريات التي تستند إلى فكرة اليهودي الاشتراكي وحقوقه في فلسطين قد تكون أكثر تَفرُّداً وطرافة. وكما أشرنا من قبل، انضم كثير من الشباب اليهودي إلى صفوف الحركات الثورية، وقد سبَّب هذا حرجاً شديداً لليهود المندمجين. وقد باعت الصهيونية نفسها باعتبار أنها الحركة التي ستحوِّل الشباب اليهودي عن طريق الثورة. والواقع أن أسطورة الاستيطان العمالية برزت لتحقيق ذلك الهدف. تقوم هذه الأسطورة بتسويغ الاستيطان الصهيوني لا باسم التفوق العنصري أو التقدُّم الحضاري الأزلي أو الحقوق المقدَّسة الأزلية بل على أسس اشتراكية علمية (والاشتراكية في هذه المنظومة هي موضع الحلول، وهي أيضاً اللوجوس المتجسد في التاريخ) . ومن ثم، فإن الحقوق اليهودية تستند ـ حسب هذه الأسطورة ـ إلى المثل الاشتراكية العليا (ومنها نُبل العمل اليهودي) . ولم يكن هذا المنطق مقصوراً على الصهاينة وحده، فثمة اتجاه داخل الحركة الاشتراكية الغربية يُطلَق عليه اصطلاح «الاشتراكية الإمبريالية» ، وتضم أولئك الاشتراكيين الذين وجدوا أن من المحتم عليهم (باسم التقدم والأممية) تأييد الإمبريالية الغربية لأنها تعبير عن الرأسمالية الغربية (أعلى مراحل التطور الاجتماعي والاقتصادي الذي بلغه الإنسان) . كما أنهم كانوا يرون أن الإمبريالية، بغزوها آسيا وأفريقيا، ستقضي على كل المجتمعات التقليدية فيها، كما ستقضي أيضاً على التخلف وتجلب الصناعة والتقدم لها. ومن هذا المنطلق، شجع بعض أتباع سان سيمون وكذلك فردريك إنجلز الاستعمار الاستيطاني في الجزائر، كما دافع كثير من الاشتراكيين الهولنديين عن "الهجمة الحضارية" التي شنتها بلادهم على الأندونيسيين.(16/190)
وقد خرجت أسطورة الصهيونية العمالية من هذه المجموعة من الأفكار، فلم يكن المستوطنون الصهاينة مجرد يهود فحسب بل كانوا أيضاً رواداً زراعيين اشتراكيين وحارثين لأرض أجدادهم. وقد كتب مارتن بوبر لغاندي يقول: "إن مستوطنينا لم يجيئوا إلى فلسطين كما يفعل المستعمرون الغربيون الذين يطلبون من أهالي البلاد أن يقوموا عنهم بكل الأعمال، بل إنهم يشدون بأكتافهم المحراث ويبذلون قوتهم ودمهم من أجل أن تصبح الأرض مثمرة". وقد عاد المستوطنون العبريون الجدد إلى الأرض مثقلين بماضي يهود الشتات بكل ما في ذلك من شذوذ وطفيلية. وتقول النظرية العمالية الصهيونية إن المستوطن الجديد يمكنه، من خلال العمل العبري، أن يُطهِّر نفسه مما علق بها من شوائب وأدران، فالمستوطنون إنما يحررون أنفسهم حين يحررون الأرض، بحرثها والعمل على ازدهارها "إن هذه الأرض تعترف بنا لأنها تثمر من خلالنا".(16/191)
ولقد نقل الكاتب الإسرائيلي عاموس إيلون سطراً من أغنية جذابة كان الرواد الزراعيون يرددونها في المستوطنات الإسرائيلية، يصفون أنفسهم فيها بأنهم أول من وصل، "مثل العصافير في الربيع"، إلى الحقول الملتهبة والأرض المقفرة الجرداء. وهذه البراءة الكونية، وهذا الإيمان بقدرة العمل على الشفاء والتطهير، وهذا الالتزام بمبدأ المساواة، تظهر جميعاً في كلمات بن جوريون حين تحدَّث عن مدى أحقية الإنسان في أرض ما، فهذا الحق لا ينبع من سلطة سياسية أو سلطة قضائية (فكل هذه الأمور ليست ذات شأن من وجهة النظر الصهيونية العمالية) وإنما ينبع من العمل. ثم أطلق بن جوريون شعاراً ثورياً أحمر لابد أنه لاقى هوى في القلوب الثورية البريئة: "الملكية الحقيقية والدائمة للعمال". بيد أن نقل المفاهيم من مستواها وسياقها إلى مستوى وسياق آخرين يسفران عن نتائج مختلفة، فمثل هذا الشعار يتسم بالثورية الحقة إذا استخدمه العمال الفرنسيون في الأرض الفرنسية. ولكن حينما يقوم العمال الفرنسيون بتطبيق الشعار نفسه في الأراضي الجزائرية، فإنه يصبح في التو اغتصاباً للأرض، وخصوصاً إذا كانت المنافسة بين العمال الفرنسيين والجزائريين منافسة غير متكافئة، حيث كان الفريق الأول تسانده مؤسسة عسكرية متقدمة تكنولوجياً.
وقد علق الكاتب الإسرائيلي عاموس كنان على هذا النوع من الاعتذاريات الاشتراكية قائلاً: "إن الصهيونية لم تستطع تحقيق انتصاراتها وإنجازاتها دون الاستفادة من النفاق الذي تنطوي عليه هذه الاشتراكية. فكما أن المسيحية (بمُثُلها ومثالياتها) كانت بمنزلة عذر معنوي للصليبيين، فإن الاشتراكية (بمُثُلها ومثالياتها) أدَّت هذه المهمة للصهاينة".(16/192)
والاعتذاريات الاشتراكية موجَّهة بالدرجة الأولى للقوى والدول الاشتراكية في العالم وللشباب الاشتراكي من أعضاء الجماعات اليهودية. وفي هذا الإطار تطرح إسرائيل نفسها باعتبارها دولة اشتراكية يمقت سكانها الرأسمالية. ويُلاحَظ أنه في الستينيات مع تصاعد قوى التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا، كان ضرورياً أن تتلون الاعتذاريات الصهيونية. فطرحت الصهيونية نفسها على أنها حركة تحرُّر الشعب اليهودي (ممن؟) وهو شعب صغير استُعبد عبر تاريخه ويبحث عن الحرية. وعملية تلوُّن الاعتذاريات الصهيونية دليل على مدى ذكاء الصهاينة وغياب البُعْد العقائدي الثابت، وهو أمر متوقع من أيديولوجية تحملها جماعات هامشية تطالب بإنشاء دولة وظيفية لخدمة الاستعمار الغربي أو أية قوى على استعداد لتزويد هذا الجيب الاستيطاني بالأمن والدعم.
وتعبِّر كل نظرية للحقوق عن رؤية للذات تكملها رؤية للآخر. ويمكن القول فيما يتعلق بالحقوق الصهيونية بأن نظرية الحقوق الصهيونية في فلسطين تعني في واقع الأمر أن اليهود لا حقوق لهم في أوطانهم التي يقيمون فيها، فمن له حقوق مطلقة في مكان ما لا يمكنه الادعاء أن له حقوقاً مطلقة أو نسبية في مكان آخر.
كيفية فك شفرة الخطاب الصهيوني المراوغ
How to Decode the Evasive Zionist Discourse
يتسم الخطاب الصهيوني بعدم التجانس والإبهام والمراوغة نظراً لاستخدامه آليات أسلوبية عديدة مثل استخدام أسماء ذات مسميات مختلفة أو عدة أسماء لها في واقع الأمر مسمَّى واحد أو كلمات لها معنى مبهم، ومثل ترك فراغات عديدة داخل الخطاب دون ملئها.. إلخ. لكل هذا، تتطلب قراءة أي نص صهيوني، وكذلك فك شفرته، أن نفعل العكس: فنقرأ ما بين السطور ونملأ الفراغات ونحاول التوصل للمعنى الدقيق للمصطلحات ونحدد العلاقة بين الأسماء والمسميات.(16/193)
وأهم الخطوات هو تَذكُّر الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة والمُهوَّدة، فهي تشكل الأساس الراسخ والمقولات الثابتة وراء كل الديباجات والحيل البلاغية الأخرى. وعلى الدارس كذلك أن يتذكر كل الحيل والإستراتيجيات البلاغية للخطاب الصهيوني. ويستطيع الدارس بعد ذلك أن يقوم بما نسميه «عملية استنطاق النص» ، أي أن يجعله ينطق بما هو متخف وكامن فيه ولا يُفصح عنه (المسكوت عنه) . فيتم تفكيك العبارات الصهيونية المختلفة وصولاً إلى المقولات الثابتة وراءها، ثم يُعاد تركيب العبارات والنصوص والتصريحات في ضوء هذه المقولات (وعلى كل لم تَعُد هذه المقولات الثابتة أمراً يحتاج للتخمين أو قدح زناد الفكر، فبعد مائة عام من الاستيطان الصهيوني، وبعد حوالي نصف قرن بعد تأسيس الدولة، أصبحت هذه المقولات مسألة واضحة تماماً) .
وسنحاول قراءة بعض قرارات المؤتمرات الصهيونية بالطريقة التي نقترحها، ثم نستنتج ما نتصور أنه المعنى المقصود من خلال عبارات سنضعها بين أقواس معقوفة. وأول هذه القرارات هي قرارات المؤتمر الصهيوني الأول (1897) التي تُسمَّى برنامج بازل، وهو يتكون من جملة افتتاحية تحدد الغرض من الحركة الصهيونية، وأربع نقاط تقترح الوسائل اللازمة لتحقيق هذا الغرض.
"تستهدف الصهيونية إنشاء وطن [أي دولة] للشعب اليهودي [أي الفائض اليهودي من شرق أوربا] في فلسطين [أرض الميعاد أو الأرض المقدَّسة أو الأرض ذات الموقع الإستراتيجي] تحت حماية القانون العام [أي بحماية الدول الغربية [".
ويوصي المؤتمر بالوسائل التالية لتحقيق هذا الغرض:
"1 ـ تطوير عملية توطين المزارعين والحرفيين والعمال اليهود في فلسطين [وطَرْد العرب منها] من خلال الأطر المناسبة [أي إقامة استعمار استيطاني يهودي في فلسطين عن طريق المكر أو العنف] .(16/194)
2 ـ تنظيم جميع اليهود وتوحيدهم عن طريق تنظيمات وهيئات محلية وعالمية ملائمة وفقاً لقوانين كل دولة [أي الهيمنة على الجماعات اليهودية مع عدم إحراج يهود غرب أوربا] .
3 ـ تقوية الشعور القومي اليهودي والوعي القومي وتدعيمهما [أي المزيد من الهيمنة والتخلص من الجيوب غير الصهيونية بين اليهود، وإرضاء يهود شرق أوربا من دعاة الخطاب الإثني: الديني والعلماني] .
4 ـ اتخاذ خطوات تمهيدية للحصول على موافقة الحكومات [الغربية] ، باعتبار أن ذلك ضروري لتحقيق الهدف الصهيوني [أي الحصول على الشرعية الاستعمارية من خلال الدول الغربية] ".(16/195)
إن صياغة برنامج بازل تعبير بليغ عن الخطاب الصهيوني المراوغ، فلم يُذكَر فيه ما هو مفهوم من الجميع ويمكن أن يسبب الحرج وتُركت في بنوده فراغات كثيرة ليملأها كل صهيوني على طريقته، ولم يذكر الدولة ولا حدودها، وتم تغييب العرب تماماً من خلال التزام الصمت الكامل تجاههم، ويُضاف إلى ذلك عدم تحديد أعضاء الشعب اليهودي، ولم يتم الإفصاح عن أيٍّ من المفاهيم الأساسية الكامنة إلا بعد نصف قرن تقريباً في برنامج بلتيمور (الذي أصدره مؤتمر استثنائي عقده الصهاينة الأمريكيون والأوربيون في نيويورك مع ممثلي المستوطنين في فلسطين في مايو 1942) وجاء فيه ما يلي: "الاعتراف بأن الغرض من شروط تصريح بلفور والانتداب التي تبيِّن ارتباط الشعب اليهودي التاريخي بفلسطين هو إيجاد حكومة يهودية هناك وجعل فلسطين حكومة يهودية". وكما يقول ألان تايلور أحد مؤرخي الحركة الصهيونية: "وهكذا ظهر على السطح الآن وضوح الهدف الخفي [المقولة الثابتة] الذي رافق الصهيونية دوماً". ولم يجانب هذا المؤرخ الصواب ولا حاول أن يفرض تفسيراً متعسفاً على الأحداث أو الكلمات. فقد وصف المجتمعون في فندق بلتيمور في مدينة نيويورك برنامج بلفور بأنه "تطبيق كامل لبرنامج بازل". وكل ما حدث هو أن بعض الفراغات قد مُلئت، وبعض العبارات الصامتة قد استُنطقت، وبعض العبارات الهلامية قد تحدَّدت (ومع هذا استمر التزام الصمت تجاه مصير السكان الأصليين) . وقد ظل برنامج بازل ساري المفعول (مع تفسير بلتيمور) إلى أن تم تعديله بعد إنشاء الدولة.(16/196)
وقد عُقد المؤتمر الصهيوني الثالث والعشرون (1951) بهدف التوصُّل إلى تعريف للصهيونية يحل محل برنامج بازل. فتقدَّم بعض الصهاينة الاستيطانيين بمشروع قرار يُعرِّف هدف الصهيونية بأنه "خلاص الشعب اليهودي من خلال تجميع المنفيين في أرض إسرائيل" وهي صيغة متشددة لا تتسم بأية هلامية ولا تحوي أية فراغات، ولذا فإنها كانت تهدد بتفجير التناقضات. ولذا، تم التغاضي عنها، واتخذ المؤتمر بدلاً من ذلك قراراً يحدد مهمة الصهيونية بالطريقة المراوغة التالية: "تدعيم دولة إسرائيل، وتجميع المنفيين في أرض إسرائيل، وتأمين وحدة الشعب اليهودي". وبينما تتضمن الصيغة المرفوضة أن الخلاص "لا يكون إلا من خلال الدولة وأن تجميع المنفيين هو الوسيلة الوحيدة للخلاص وأن الشعب اليهودي بأسره هو في المنفى ما دام باقياً خارج إسرائيل"، نرى أن الصيغة المراوغة الجديدة لما سُمِّي «برنامج القدس» تترك الفراغات وتكتفي بسَرْد ثلاث مهمات مستقلة عن بعضها البعض ومتناقضة، فمن سيقوم بدعم دولة إسرائيل يمكنه أن يفعل ذلك من الخارج، أي باعتباره صهيونياً توطينياً، الأمر الذي يعني أنه سيظل صهيونياً سواء هاجر أم لم يهاجر ما دام "يدعم" الدولة الصهيونية. بل إن عبارة «تجميع المنفيين» نفسها عبارة مراوغة، فالمنفى (على ما يبدو) حالة عقلية وليست فعلية. فيهود أمريكا يعتبرون أمريكا وطناً قومياً لا منفى، على عكس يهود روسيا، ومن ثم فإن العبارة تعني تجميع المنفيين من شرق أوربا "بمساعدة المندمجين في غربها". أما وحدة الشعب اليهودي، فهو أمر هلامي عائم غائم إذ يمكن أن يشعر الصهيوني التوطيني بهذه الوحدة ويدافع عنها وهو جالس في غرفته المكيفة في منزله الوثير في أمريكا أو أستراليا. ورغم كل التحولات والتغيرات لا تذكر القرارات الصهيونية العرب بخير أو بشر.(16/197)
وقد تم تعديل مهام الصهيونية مرة أخرى في المؤتمر الصهيوني السابع والعشرين بمقتضى " برنامج القدس 5728 (1968) " الذي لا يزال البرنامج المعتمد للحركة الصهيونية. وسوف نورد مرة أخرى ما نتصور أنه المعنى المقصود من خلال عبارات سنضعها بين أقواس معقوفة. ونصه كما يلي:
"أهداف الصهيونية هي:
ـ وحدة الشعب اليهودي [سواء استمر في الحياة في نيويورك أم حيفا] ومركزية إسرائيل في حياته [والمركزية مسألة شديدة العمومية [.
ـ تجميع [من يريد من] الشعب اليهودي في وطنه التاريخي ـ أرض إسرائيل ـ عن طريق الهجرة من مختلف البلدان.
ـ تدعيم دولة إسرائيل التي قامت على أساس رؤية الأنبياء للعدل والسلام [وهي رؤية يمكن تفسيرها بطريقة حلولية كمونية عضوية تُرضي الدينيين والعلمانيين [.
ـ الحفاظ على هوية الشعب اليهودي من خلال تشجيع التربية اليهودية والعبرية والقيم الروحية والثقافية اليهودية [سواء في إسرائيل أو في الولايات المتحدة] وحماية الحقوق اليهودية أينما كانت".
والواقع أن صيغة البرنامج هي التسليم بالأمر الواقع، أي بانقسام الحركة الصهيونية إلى اتجاهين، أحدهما توطيني والآخر استيطاني، لكلٍّ تعريفه الخاص "للشعب اليهودي". وهو يشكل محاولة للحفاظ على وحدة غير موجودة ولتغطية تناقض يزداد تفاقماً. ولذا، فقد ازدادت درجة المراوغة والصمت. وثمة افتراضان متناقضان كامنان في برنامج القدس:
1 ـ أن الشعب اليهودي شعب واحد وأن "وطنه التاريخي" هو أرض إسرائيل، وبالتالي يكون هدف الصهيونية هو تجميع الشعب اليهودي عن طريق الهجرة، أي تصفية الجماعات اليهودية، وهذه هي صهيونية المستوطنين.(16/198)
2 ـ أن حالة التشتت حالة نهائية، ومن ثم المناداة بحماية "الحقوق اليهودية أينما كانت"، والحديث عن "مركزية إسرائيل في حياة الشعب". أما القرار الخاص بالهوية اليهودية وضرورة الحفاظ عليها فهو يشير ولا شك إلى «خطر الاندماج» ، وخصوصاً في الولايات المتحدة، الأمر الذي يعني أيضاً استمرار حالة الشتات، في الوقت الحاضر على الأقل، ونسيان مسألة "تصفية الجماعات".
وتجدُر ملاحظة أن برنامج القدس الذي حدد أهداف الصهيونية قد لجأ إلى صيغة مراوغة تسمح لكل صهيوني بأن يفسر حدود إسرائيل بالطريقة التي تروق له، فلم ينص البرنامج صراحةً على أن "إقامة الدولة على ضفتي نهر الأردن هو هدف الصهيونية" وإنما تحدَّث عن "الوطن التاريخي ـ أي أرض إسرائيل" وهي عبارة مطاطة لها دلالات كثيرة في العقل الصهيوني (وخصوصاً في إطار "رؤية الأنبياء") من بينها ولا شك ضفتا نهر الأردن وضفاف النيل والفرات (إذا انفتحت الشهية) . ولا يزال هناك عنصر واحد ثابت لا يتغيَّر، وهو عدم التوجه للقضية الفلسطينية ولمصير العرب.
وقد قُدِّر للصيغة المراوغة الاستمرار للأسباب التالية:
1 ـ كان من الممكن ترك الفراغات والتسلح بالصمت أو التشاجر بصوتٍ عال بشأن الديباجات دون أن يلجأ فريق إلى تصفية الآخر، وذلك لوجود اتفاق تام على الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة والعقد الصهيوني الصامت الذي تمت ترجمته إلى واقع تاريخي: احتلال فلسطين وطرد أهلها والاستيطان فيها.
2 ـ كان جميع الصهاينة يدركون تماماً أن حركتهم ودوافعهم ليس لها استقلال حقيقي أو حركية مستقلة ذاتية. فالصهيونية، كما كان يعرف الجميع، تدين بوجودها واستمرارها لتبعيتها للغرب الذي كان يقوم بتمويل المشروع الصهيوني، وبالتالي فإن الاختلاف على الديباجات هو اختلاف على أمور فرعية لا تؤثر في الحركة الفعلية.(16/199)
3 ـ بعد أن كانت الصهيونية الاستيطانية تطالب بتصفية الجماعات اليهودية في العالم (يهود الدياسبورا) ، أصبح من صالحها بقاء هذه الدياسبورا لتُقدِّم الدعم السياسي والعون المالي للدولة الصهيونية. ولذا، فقد أصبحت الصيغة المراوغة الإطار الوحيد الممكن الذي يمكن من خلاله الاستمرار في العمل والتعايش مع التناقض.
4 ـ وأخيراً، كُتب للصياغة المراوغة الاستمرار بسبب فشل العرب في التمييز بين التيارات المختلفة داخل الحركة الصهيونية، بل وفشلهم في التمييز بين اليهود الصهاينة واليهود الذين لا يكترثون بالحركة الصهيونية، وبين اليهود الذين يدَّعون الصهيونية على مستوى القول ويتملصون منها على مستوى الفعل، واليهود الذين يناصبونها العداء صراحةً وعلانيةً، قولاً وفعلاً. كما أن فشل العرب في إلحاق هزيمة ضخمة بالكيان الصهيوني (باستثناء الانتفاضة) قد خَلَق تربة خصبة يمكن أن تنمو فيها الأساطير وتترعرع بما في ذلك ادعاء عدم وجود العرب. وتستطيع الصياغات المراوغة أن تستمر دون تحدٍّ، فالإنسان يسائل نفسه بشأن أساطيره وأكاذيبه وخداعه لذاته وللآخرين إن كان هناك ثمن يُدفَع. أما إن ظلت الصياغة المراوغة صالحة للتعامل مع الواقع، فهي ستمنح المرء ما يحتاج إليه من اتزان داخلي وطمأنينة نفسية دون أن يزعجه هذا الواقع، ولذا فبوسعه أن يستمر في استخدامها والترويج لها.
القانون الدولي العام
International Law(16/200)
» القانون الدولي العام» عبارة تتواتر في كلٍّ من الكتابات الصهيونية ومؤلفات هرتزل، وكلمة «دولي» في معناها المعجمي تعني «عالمي» أو «يختص بكل الدول» ، ولكننا إن قرأناها في سياقها في كثير من النصوص الغربية المكتوبة في القرن التاسع عشر، فإننا سنكتشف أنها تعني «غربي» ، ومن ثم فإن عبارة «القانون الدولي العام» تعني «القانون الغربي السائد آنذاك» ، وهو القانون الاستعماري الذي تم بمقتضاه تقسيم العالم بين الدول الغربية. ومن المصطلحات المرادفة، مصطلح «قانون الأمم» ، أو «قانون الأمم المتحضرة» ، وهو بدوره يعني «قانون أمم الغرب» ، أي «القانون الاستعماري» .
وقد كان هرتزل والصهاينة يتحركون في إطار الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية وواقع الإمبريالية الغربية (كحقيقة تاريخية سياسية) ، وهذه الإمبريالية هي التي قامت بتقسيم العالم فيما بينها. ومن هذا المنظور، يصبح الغرب مركز العالم، وتصبح الحضارة الغربية قمة التطور الإنساني، وكل الظواهر والقوانين هي محاولات متعثرة للوصول للحالة الغربية، والإنسان الغربي الأبيض في القرن التاسع عشر هو الإنسان الذي يجسد قمة التطور. ولذا، يصبح كل شيء غير غربي هامشياً، وما هو غربي وحده هو الحقيقي والتاريخي والمركزي، وإذا كان العالم هو الغرب فإن القانون الغربي يكون بالتالي هو القانون الدولي. ومن هنا كانت الصهيونية تُسمِّي نفسها «الصهيونية العالمية» (ومازلنا نتحدث عن «المغني العالمي» ـ خوليو مثلاً ـ ونحن نعني «المغني الغربي» ، أو نقول «له سمعة عالمية» ونحن نعني «سمعة في العالم الغربي» وهكذا) .(16/201)
ومن أهم المصطلحات التي ترتبط بهذا الاستخدام مصطلح «صهيونية سياسية» أو «صهيونية دبلوماسية» فهي تعني في واقع الأمر صهيونية تقوم ببذل جهود سياسية لدى "الدول المتحضرة"، أي الدول الغربية، والمناورة الدبلوماسية معها للحصول على موافقتها للاستيلاء على فلسطين. فهذه الدول هي التي قسَّمت العالم بينها، ومن ثم فإن أي جهد سياسي أو دبلوماسي يُبذَل يدور في إطارها، وأي جهد آخر هو أمر غير منطقي وغير سياسي أساساً فهو جهد رومانسي عبثي.(16/202)
ويمكن أن تثار هنا قضية تَوجُّه هرتزل إلى السلطان العثماني طالباً منه براءة لشركة استيطانية، مع أن الدولة العثمانية لم تكن دولة "متحضرة "، أي لم تكن غربية استعمارية. إن تفسير ذلك ببساطة هو أنه لم يكن قد تقرَّر بعد تقسيم الدولة العثمانية، وكانت القوتان البروتستانتيتان (إنجلترا وألمانيا) تقفان وراءها حتى تقف حاجزاً أمام النفوذ الأرثوذكسي الروسي والنفوذ الكاثوليكي الفرنسي. ومع هذا، كانت ثمة مؤشرات قد بدأت تلوح في الأفق، فإنجلترا كانت قد استولت على قبرص، ولكن الأهم أنها كانت قد استولت على مصر (1882) ، وكانت أول دولة إسلامية تضمها إنجلترا، الأمر الذي كان يعني تعدياً صريحاً على الدولة العثمانية وعلى شرعيتها الإسلامية، وكان يعني بالتالي أن الوقت قد حان للتقسيم. وفي هذا الإطار تحرَّك هرتزل، فكان يتقدم لتركيا لا باعتبارها دولة متحضرة وإنما باعتبارها منطقة نفوذ ألمانية ثم إنجليزية. وقد كان يعلم ذلك تماماً، ولذا فإنه كان يلجأ دائماً إلى الحكومة الألمانية عسى أن تتوسط له عند السلطان. ولعل ما شجَّع هرتزل أن القوميات الجديدة، خصوصاً في وسط أوربا والبلغاريين والصرب والمجر، اقتطعت أوطانها أساساً من الدولة العثمانية تحت رعاية الدول الأوربية. وكان كل من كاليشر والقلعي يكتبان ويفكران على هذا المنوال حينما بدءا في التعبير عن النزعات الصهيونية الأولى. ولم يكن هرتزل استثناءً من القاعدة، ولذا فقد كان عليه أن يتقدم للدولة العثمانية مضطراً بسبب طبيعة الوضع القائم، ولكنه مع هذا كان يتحرك داخل إطار غربي وكان يسعى للحصول على الاعتراف الغربي به، أي أن مناوراته في تركيا تمت هي الأخرى في إطار «القانون الدولي العام» الذي وضعته الدول المتحضرة.
شركة ذات براءة
Chartered Company(16/203)
» شركة ذات براءة» عبارة تتواتر كثيراً في كتابات هرتزل وكتابات الصهاينة قبل ظهور وعد بلفور، ولا يمكن فهم النصوص الصهيونية قبل بلفور إلا بإدراك معناها الدقيق داخل سياقها. ومن المعروف أن هرتزل حينما بدأ في تحديث حل المسألة اليهودية كتب إلى عدد من كبار الاستعماريين في العالم (سير سيسل رودس وستانلي) . وقد رد عليه رودس عن طريق طرف ثالث قائلاً: "ضع نقوداً في حافظتك"، أي أن تنفيذ المشروع الصهيوني يتطلب أن يقوم هرتزل بتدبير مبالغ للاستثمار. ورودس لم يكن ذكياً في إجابته، فهو لم يفهم المشكلة الخاصة بالمشروع الصهيوني وهي أن المادة البشرية الاستيطانية المُستهدَفة والتي سيتم توطينها لا تتمتع بعلاقة عضوية مع أية دولة غربية على وجه التحديد (فهم أعضاء شعب عضوي منبوذ) . ولذا، فقد كان هرتزل حصيفاً حينما قرر أن قوة المحفظة مسألة أساسية، ولكنه أضاف: "جمعية اليهود [أي المنظمة الصهيونية] ، والهدف النهائي هو الحصول على الضمانات الدولية".(16/204)
كان هرتزل يعرف أن أحد أشكال العلاقة بين جماعات المستوطنين والتشكيل الاستعماري الغربي هو الشركات الاستعمارية الاستيطانية ذات البراءة، ولذا فحينما طلب قيصر ألمانيا من هرتزل أن يلخص له ما يريده قال الأخير: "شركة ذات ميثاق أو براءة تحت الحماية الألمانية". ومرة أخرى، أظهر هرتزل براعته الفائقة وحسه العملي الزائد. فبدلاً من أن يقدم إلى القيصر ديباجة طويلة مملة عن حقوق الشعب اليهودي وعن ارتباطه الأزلي بأرض الميعاد، أو حتى عن بؤس يهود شرق أوربا وما شابه ذلك من شعارات ما كانت لتنطلي على القيصر الذي كان يتحرك في نطاق الصيغة الصهيونية الشاملة ويعرف جيداً مدى فائدة اليهود ونفعهم وضرورة التخلص منهم. بدلاً من كل ذلك، قال له هرتزل عبارة واحدة تلخص كل شيء. ولكي ندرك مدلول العبارة كما فهمها ممثل الصهيونية وممثل الدولة الراعية، لابد من وضعها في سياقها التاريخي والحضاري. والكلمة الأساسية هنا هي كلمة «تشارتر charter» الإنجليزية وهي مستقاة من الكلمة اللاتينية «كارتا charta» (ورقة أو خطاب) ومعناها «خطاب أو ترخيص ينص على حقوق معينة تمنحها حكومة أو حكام لشخص أو شركة» . وهي الكلمة نفسها التي كانت تُستَخدم في العصور الوسطى في الغرب للإشارة إلى الاتفاق الموقَّع بين الجماعة اليهودية كجماعة وظيفية والسلطة الحاكمة.(16/205)
ويبيِّن جورج جبور، الدارس العربي لظاهرة الاستيطان، أن هذه الشركات كانت إحدى الوسائل التي ابتدعها الاستعمار الغربي في أواخر القرن الماضي. فقد كانت هذه الشركات تقوم بتجنيد الفائض البشري في أوربا وتؤمِّن لهم سفرهم أو تمنحهم بعض المزايا في البلدان المُكتشَفة حديثاً مقابل أن يخدموا الشركة وينفذوا سياستها ويوسعوا نفوذها. وكانت الدول الراعية، مانحة البراءة، تقوم بحماية الشركة من المنافسات الدولية وتنظم العلاقة بين المستوطنين والسكان المحليين. وقد كانت البراءة تمنح الشركة حق أن تكون «شبه دولة» فهي لم تكن مشروعاً مدنياً يهتم بالشئون التجارية وحسب، وإنما كانت إحدى أدوات الاستعمار في مراحله التمهيدية. وقد كان مجال نشاطات الشركة واسعاً متنوعاً، فمثلاً كانت تقوم بشراء وإنشاء المصانع وبناء القلاع والاستيلاء على الأراضي وسك النقود وإدارة القلاع والدخول في أحلاف سياسية وإعلان الحرب والسلم. ورغم هذه الاستقلالية، فإن المشروع ككل كان يقع ضمن الإطار العام لمخططات تلك الإمبراطورية التي قامت بمنح البراءة. والفائدة التي تجنيها الإمبراطورية مانحة الصك من جراء مثل هذا الوضع مضمونة تماماً، ففي حالة نجاح الشركة تحقِّق الإمبراطورية أرباحاً كبيرة. أما إذا فشلت، فإن هيبة الإمبراطورية لا تتأثر (وهذا مناسب جداً لعلاقة الحضارة الغربية بالشعب العضوي المنبوذ والدولة الوظيفية) . وتبين موسوعة الصهيونية وإسرائيل أن هرتزل حينما كان يستخدم كلمة «تشارتر» فإنه كان يفكر أساساً في الميثاق أو البراءة التي منحتها الحكومة البريطانية في 20 أكتوبر 1889 إلى شركة سيسل رودس المسماة شركة جنوب أفريقيا البريطانية وأعطت بموجبها الحكومة البريطانية الشركة المذكورة حكماً ذاتياً كاملاً في منطقة الزامبيزي (التي يقع معظمها ضمن حدود روديسيا، أي زمبابوي الآن) وذلك فيما يختص بإدارة المنطقة والنشاط السياسي تجاه السكان المحليين تحت إشراف(16/206)
الحكومة البريطانية. وقد أشار هرتزل إلى فكرة الميثاق في المؤتمر الصهيوني الثالث (1889) ، كما أن مفهوم الميثاق استُخدم للإشارة إلى المحاولات الصهيونية الرامية إلى الاستيطان في العريش وشرق أفريقيا.
والواقع أن هرتزل، بذلك، كان يتبع النمط الاستعماري الاستيطاني السائد. فالاستيطان، كما يقول جبور، كان يبدأ عادةً برحلات الاستكشاف الجغرافية أولاً، ثم يأتي عدد من الجنود والبحارة والمبشرين (بهذا الترتيب أو بغيره) ثم تبدأ هجرة المستوطنين. وقد قامت بهذه النشاطات كلٌّ من الصهيونية ذات الديباجة المسيحية والصهيونية التسللية والقنصليات الغربية، وأدرك هرتزل أن الوقت قد حان للحصول على البراءة لدعم مشاريع الاستيطان، وهي موافقة مختلفة عن الموافقة التي كانت تُمنَح عادةً للتجار والمستكشفين.
هذا ما كان يفكر فيه هرتزل. وقد كان تقسيمه للمشروع الصهيوني يماثل تقسيم شركة الهند الشرقية التي كانت تشرف عليها لجنة الأربعة وعشرين (جمعية اليهود) التي تقوم بعملية التخطيط والإدارة، كما كان هناك جهاز تنفيذي خاص بالشركة نفسها يقوم بتنفيذ الأعمال التجارية.
ولكن الأمور تطورت بأسرع مما تصوَّر الصهاينة، إذ تم تقسيم الدولة العثمانية وصدر وعد بلفور الذي زود الصهاينة بدعم وحماية أكثر مما توفره الشركات ذات البراءة، فحل وعد بلفور محل البراءة. وقد كان الصهاينة يشيرون بالفعل إلى وعد بلفور وإعلان الانتداب على فلسطين باعتبارهما «الميثاق أو البراءة» ، وكان أتباع الصهيونية الدبلوماسية الاستعمارية يُسمَون «الميثاقيون» (بالإنجليزية: تشارترايتس Charterites) .
ورغم أننا صنفنا وعد بلفور على أنه براءة منحتها دولة استعمارية لمجموعة من المستوطنين، فإن ثمة اختلافات بين وعد بلفور والبراءات الأخرى، أوجزها الدكتور جورج جبور فيما يلي:(16/207)
1 ـ مع أن البراءة الممنوحة للحركة الصهيونية كانت بريطانية أساساً، إلا أنها ووفق عليها من قبَل أهم الدول الأوربية، ومن قبَل الولايات المتحدة الأمريكية، بشكل أكثر صراحة من براءات الاستيطان السابقة.
2 ـ لم يأتِ المستوطنون اليهود من قُطر أوربي واحد، ولا أتوا أساساً من القُطر الذي منح البراءة، بل من أقطار أخرى أهمها أوربا الشرقية.
3 ـ كانت البراءة الممنوحة للحركة الصهيونية تخص اليهود وحدهم، ولم تكن مفتوحة للجميع.
"وهكذا، فإن تجربة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني كانت جغرافياً أوسع مدى من جهة (إذ تشمل كل الدول الأوربية وغير الأوربية في مرحلة لاحقة) ، وأضيق في القاعدة الاجتماعية (السكانية) من جهة ثانية (إذ كانت تقتصر على اليهود ولا تشمل جميع السكان) . كما أن هذه التجربة جاءت نتيجة إجماع إيجابي أوربي حكومي (إذ أن عدداً من الدول الأوربية، بالإضافة إلى الولايات المتحدة، أيَّدت وعد بلفور) من جهة ثالثة".
الكومنولث
Commonwealth
كلمة استخدمها الصهاينة ابتداءً من 1944 للإشارة إلى الكيان الذي ينوون تشييده في فلسطين (وقبل ذلك التاريخ كانت الكلمة المستخدمة بالإنجليزية هي «وطن» ، أي «هوم لاند Homeland» وليس دولة) . وتُستخدَم كلمة «كومنولث» في الوثائق الرسمية الأمريكية للإشارة إلى أربع ولايات أمريكية (كنتكي، وماساتشوستس، وبنسلفانيا، وفيرجينيا) وهي ولايات ليس لها استقلال ولا تختلف من الناحية الفعلية عن الولايات الأخرى. وتُستخدَم الكلمة أيضاً للإشارة إلى بورتوريكو، وهي ولاية تحكم نفسها حكماً ذاتياً ولكنها لا تتمتع بالاستقلال الكامل. والمعنى الذي كان يقصده الصهاينة، كما تدل المراسلات بينهم، وكما يدل تطوُّر الأحداث فيما بعد، يعني «دولة مستقلة ذات سيادة» ولكن هذا المصطلح تم استخدامه من قبيل المراوغة.(16/208)
ويُشار أيضاً في الأدبيات الصهيونية إلى الكومنولث الأول والكومنولث الثاني أو الثالث. أما الأول، فهو دولة سليمان وداود، أما الثاني فهو دولة الحشمونيين، أما الثالث فهو الدولة الصهيونية. ومن ثم، فإن كلمة «كومنولث» دالٌّ ذو حقل دلالي مضطرب تماماً.
وقد استخدم الصهاينة كلمات أخرى مراوغة مثل «وطن قومي» ، وذلك لتحاشي استخدام كلمة «دولة» بكل ما تتضمنه من إيحاءات الاستقلال التي قد تُفجِّر الصراعات بين الصهاينة التوطينيين والصهاينة الاستيطانيين (قبل بلفور) والتي كان يمكن أن تُنبِّه العرب للخطر الاستيطاني الإحلالي المحدق بهم.
خلق الحقائق الجديدة
Creating New Facts
«خَلْق حقائق جديدة» من العبارات المتواترة في الخطاب الصهيوني. وقد وردت العبارة في أقوال وايزمان وجابوتنسكي وموشيه ديان (بعد حرب عام 1967) . والعبارة تجسد مفهوماً أساسياً كامناً في الفكر الصهيوني والفكر الإمبريالي عامة. فهو فكر لا يؤمن بأية قيم أخلاقية، ولا يحتكم إلى أية منظومات معرفية، وهو فكر عملي واقعي مرن، ولكن مرونته تكمن وراءها إرادة القوة والحد الأقصى من العنف (كما هو الحال مع الفكر البرجماتي) .(16/209)
وتتبدَّى خاصية المراوغة في الخطاب الصهيوني في عبارة «خَلْق حقائق جديدة» . فالصهيونية عقيدة تتضمن أطروحاتها الأساسية (الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة) مسألة طرد العرب والاستيلاء على أراضيهم. ولكن، لأسباب عملية عديدة، لم يتمكن الصهاينة من الإعلان عن أهدافهم، وأعلنوا أنهم ليست لديهم أية أطماع توسعية بل يرحبون بوجود العرب داخل الدولة الصهيونية (وكأن هذا أمر ممكن بالفعل) . ولكنهم كانوا يعلمون أنه حين تتغيَّر موازين القوة، وحين تحين اللحظة، فبإمكانهم التحرك لتحقيق الأهداف الكامنة (طرد العرب ـ الاستيلاء على أراضيهم) فيغيِّرون الوضع القائم ويخلقون حقائق جديدة لدعم الوضع القائم الجديد المبني على العنف. ويتم تعديل الأهداف الصهيونية المعلنة بما يتفق مع الوضع الجديد.
وهذا ما فعله الصهاينة بالضفة الغربية، بعد عام 1967. فقبل ذلك التاريخ لم يكن أحد يتحدث عن ضم الضفة الغربية (إلا المتطرفون والمجانين) ، إذ كان الهدف المعلن هو العيش في سلام مع العرب داخل حدود 1948. ولكن، بعد أن تم ضم الضفة الغربية، قام الصهاينة بتكثيف الاستيطان لخلق حقائق جديدة حتى يُواجَه العالم الخارجي بأمر واقع جديد. ويتم حينذاك إعادة تعريف السلام، فيصبح الانسحاب من بعض أجزاء الضفة الغربية وحسب هو الحد الأقصى الممكن.
إن المدلول المحوري (الركيزة النهائية) في كل المنظومة الصهيونية هو إرادة القوة، فهذه هي الميتافيزيقا الحقيقية، وهي في هذا لا تختلف عن الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية الغربية عامةً.(16/210)
الجزء الثاني: تاريخ الصهيونية
الباب الأول: تاريخ الصهيونية
تاريخ الصهيونية: مقدمة
History of Zionism: Introduchion
يرى الصهاينة والمعادون لليهود أن الحركة الصهيونية بدأت مع التاريخ اليهودي نفسه وأنها لازمت اليهود عَبْر تاريخهم بعد تحطيم الهيكل، وذلك لسببين: واحد سلبي والآخر إيجابي. أما السلبي، فهو ظاهرة العداء لليهود والمذابح والاضطهاد اللذين تعرَّض لهما اليهود في كل مكان وكل زمان، وهي ظاهرة حتمية أزلية من المنظور الصهيوني. أما السبب الإيجابي، فهو الرغبة العارمة لدى اليهودي في العودة إلى فلسطين (أرض الوطن ـ أرض الأجداد والأسلاف ـ الوطن القومي ـ أرض الميعاد) حيث إنه يشعر بالاغتراب العميق في أرض المنفى (الأمر الذي أدَّى إلى إفساد الشخصية اليهودية) . وتعود هذه الرغبة إلى أن اليهود، من منظور صهيوني، يشكلون قومية رغم أنهم لا يوجدون في مكان واحد ولا يتحدثون لغة واحدة ولا يتسمون بسمات عرْقية أو نفسية واحدة ولا يخضعون لظروف اقتصادية واحدة. وقد بدأت المسألة اليهودية يوم أن ترك اليهود وطنهم قسراً. والصهيونية هي التي ستضع نهاية لهذا الوضع، وهي ستفعل ذلك عن طريقة آلية جديدة، فهي ترفض سلبية اليهودية الحاخامية وخنوع الشخصية اليهودية، وبالتالي سوف تحرِّض اليهود على العودة بأنفسهم إلى فلسطين ليحققوا تطلُّعهم القومي وستقوم بتنظيمهم لتحقيق هذا الهدف. ولكل هذا، تنظر الصهيونية إلى نفسها باعتبارها التعبير الحقيقي والوحيد عن مسار التاريخ اليهودي.(16/211)
لكن هذه الرؤية الصهيونية لتاريخ الصهيونية ليس ذات مقدرة تفسيرية عالية إذ أنها تفشل في أن تفسر سبب ظهور الصهيونية بين اليهود في أوربا في أواخر القرن التاسع عشر ولم تظهر قبل ذلك التاريخ في مكان آخر. ولو كان سبب ظهور الصهيونية هو عداء الأغيار لليهود ورغبتهم العارمة في العودة، لكان الأولى أن تظهر الصهيونية إبان حروب الفرنجة على سبيل المثال. وكيف نفسر ظهور الفكر الصهيوني في الأوساط الاستعمارية الغربية وهم لا يدينون باليهودية ولا يوجد عندهم أي تطلُّع للعودة ولم يتعرضوا لاضطهاد الأغيار؟
وفي تصوُّرنا أن الصهيونية تعود إلى مركب من الأسباب التاريخية والحضارية والفكرية (انظر: «السياق التاريخي والاقتصادي والحضاري للصهيونية» ـ «المصادر العلمانية للفكر الصهيوني» ) لعل أهمها طراً هو ظهور الإمبريالية كرؤية معرفية وحركة سياسية اكتسحت العالم بأسره وحولته نظرياً وفعلياً إلى مادة لا قداسة لها تُوظَّف في خدمة الشعوب الغربية. وقد واكب هذا ظهور معاداة اليهود الحديثة التي ارتبطت تماماً بتصاعُد معدلات العلمانية الشاملة والعنصرية. ومن هذه النقطة سنطرح تعريفاً للصهيونية، وسوف يتضمن هذا التعريف الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي تنظر إلى اليهود من الخارج، وسنضع بين قوسين الديباجات الصهيونية اليهودية التي هوَّدت الصيغة ومن ثم يسَّرت على المادة البشرية المستهدفة استبطانها.(16/212)
ويمكن تعريف الصهيونية بشكل مبدئي بأنها حركة داخل التشكيل السياسي والحضاري الغربي تنظر إلى اليهود من الخارج باعتبارهم فائضاً بشرياً، فهم بقايا الجماعات الوظيفية اليهودية التي فَقَدت وظيفتها ونفعها وتحوَّلت إلى شعب عضوي منبوذ وفائض بشري لا نفع له (ويتم تهويد هذا حيث ينظر اليهود إلى أنفسهم من الداخل باعتبارهم الشعب المختار أو الشعب العضوي أو الشعب الذي فقد وطنه ولذا فهو لا يمكنه تحقيق رسالته) . هذا الفائض (الشعب) يجب أن يُهجَّر (يعود) من أوطانهم (أرض المنفى) إلى خارج أوربا في أية بقعة في العالم. ثم تحدَّدت البقعة بفلسطين (صهيون أو إرتس يسرائيل أو أرض إسرائيل في المصطلح الصهيوني) . وسيتم نقلهم حتى يتم توظيفهم وتحويلهم إلى عنصر استيطاني قتالي يقوم على خدمة المصالح الغربية (واحة الديموقراطية الغربية ـ نور الأمم ـ مركز الثقافة اليهودية ـ وطن قومي يهودي ـ مكان تحقق فيه رسالة اليهود المقدَّسة) نظير أن يضمن الغرب بقاءه واستمراره داخل إطار الدولة الوظيفية.
وحركة النقل السكاني هذه تتضمن حركة أخرى لا تذكرها الأدبيات الصهيونية إلا نادراً. فالعنصر السكاني الجديد لن يقوم باستبعاد السكان الأصليين أو استغلالهم عن طريق سرقة أرضهم وتحويلهم إلى عمالة رخيصة وإنما سيحل محلهم. فالمستوطن الصهيوني يريد الأرض خالية من السكان، وبالتالي لابد من التخلص منهم إما عن طريق الإبادة (على الطريقة الأمريكية) ، وهذا أمر أصبح مستحيلاً، أو عن طريق التهجير، ومن ثم فإن المشروع الصهيوني ليس مشروعاً استعمارياً غربياً وحسب، وليس مشروعاً استعمارياً استيطانياً وحسب، وإنما هو مشروع استعماري غربي، استيطاني إحلالي، له ديباجات يهودية فاقعة.(16/213)
ورغم هذه الديباجات، ومع أن هناك بعض ملامح خصوصية بل متفردة في الصهيونية، فإنها في تصوُّرنا ليست حركة عالمية، فهي ليست ثمرة تفاعل حركيات عالمية على مستوى التاريخ العالمي وإنما ثمرة قوى حضارية وسياسية واجتماعية داخل التشكيل الحضاري الغربي. بل نذهب إلى أن الصهيونية إشكالية كامنة داخل الحضارة الغربية ولا يمكن فهمها بمعزل عن سياق هذه الحضارة وتياراتها الفكرية والقوى السياسية والاجتماعية التي تعتمل فيها والإشكاليات الكبرى التي تواجهها. ولعل معظم الناس يسمونها «صهيونية عالمية» لأنها أطلقت على نفسها هذا الاسم، ولأنه حدث ترادف كامل في عقول معظم الناس بين ما هو غربي وما هو عالمي.
ولكل هذا، فإن تاريخ الصهيونية هو بالدرجة الأولى جزء لا يتجزأ من تاريخ الحضارة الغربية، ولا يمكن فهمه خارج حركيات هذا التاريخ. وسنستخدم الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة كوحدة تحليلية تبسيطية أساسية نقدم من خلالها تاريخ الصهيونية. ولنا أن نلاحظ أن التاريخ الذي نقدمه من خلال الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة مرتبط تماماً بتاريخ تحوُّل الجماعات اليهودية في الغرب إلى جماعات وظيفية وبفقدانها هذا الدور في عصر النهضة. وهو الأمر الذي أدَّى إلى تصاعد حمى معاداة اليهود وتزايد وتيرة الدعوة الصهيونية بين غير اليهود ثم بين اليهود، فهو إطار تاريخي عام ينتظم تاريخ الغرب وتاريخ الصهيونية بين غير اليهود واليهود وتاريخ معاداة اليهود. ونحن نصر دائماً على ما نسميه «نظرية الصهيونيتين» ، أي أن هناك صهيونيتين، واحدة توطينية وأخرى استيطانية، لكلٍّ رؤيتها وتاريخها ومصالحها وجماهيرها، ولكنهما تحالفا بعد صدور وعد بلفور. ولكن، رغم هذا التحالف، فإن كل صهيونية لا تزال محتفظة بتوجُّهها ومقاصدها وجماهيرها.(16/214)
وفي مداخل هذا الباب سنقوم أولاً بتقديم السياق التاريخ والاقتصادي والحضاري للصهيونية، ثم نقدم تاريخاً موجزاً للفكر والحركة الصهيونية. وفي بقية مداخل الباب سنقدم تواريخ الحركة الصهيونية في مختلف بلاد العالم.
السياق التاريخي والاقتصادي والحضاري للصهيونية
Historical, Economic, and Cultural Contexts of Zionism
ثمة مركب من الأسباب الحضارية والاقتصادية والتاريخية أدَّى إلى ظهور الصهيونية (بين غير اليهود واليهود) سنحاول أن نوجزها في هذا المدخل، وبإمكان القارئ العودة للمداخل الخاصة بكل عنصر. ويُلاحَظ أننا استبعدنا مفهوم "التسامح مع اليهود" (انظر: «التسامح مع اليهود» ) لأنه لا يصلح كمفهوم تفسيري، كما أن مضمونه السياسي والتاريخي يختلف من مرحلة لأخرى، كما أن ما يبدو تسامحاً قد يكون بغضاً، وما يبدو وكأنه بُغض قد يكون تسامحاً. ومن المعروف أن بلفور الذي أصدر الوعد الشهير كان يكن بُغضاً عميقاً لليهود، على حين أننا نجد أن سير إدوين مونتاجو الذي وقف ضده وضد المشروع الصهيوني برمته كان يهودياً يكن الاحترام لبني ملته. وإذا كانت الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة تتضمن الإيمان بضرورة نقل الشعب العضوي المنبوذ النافع ثم توظيفه لصالح الحضارة الغربية، فهل هذا يعبِّر عن البُغض أو يدل على التسامح والمحبة؟
كما يجب ملاحظة أن تاريخ الصهيونية تاريخ مركب لأقصى حد ويتضمن ساحات ثلاثاً هي:
أ) أوربا: باعتبارها مصدر المادة البشرية والقوى الإمبريالية الراعية.
ب) فلسطين: باعتبارها المكان الذي تُنقَل إليه المادة البشرية.
جـ) العالم: باعتبار أن أعضاء الجماعات اليهودية يوجدون في العالم بأسره.(16/215)
ورغم تعدُّد الساحات، إلا أن سياق الحركة والفكر الصهيونيين يظل سياقاً غربياً تماماً، إذ أن حركيات الصهيونية مرتبطة تماماً بالتاريخ العام للغرب،،وخصوصاً أن الغالبية الساحقة من يهود العالم موجودة في الغرب. فتاريخ الصهيونية جزء لا يتجزأ من تاريخ الحضارة الغربية وما صاحبه من ظواهر مرضية أو صحية (مثل معاداة اليهود وتصاعُد معدلات العلمنة والثورة الصناعية) ، وليس ذا علاقة كبيرة بالتوراة والتلمود أو «حب صهيون» أو حركيات ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» .
ويمكننا أن نُورد الأسباب التالية لظهور الصهيونية:
1 ـ فشل المسيحية الغربية في التوصل إلى رؤية واضحة لوضع الأقليات على وجه العموم، ورؤيتها لليهود على وجه الخصوص؛ باعتبارهم قتلة المسيح ثم الشعب الشاهد (في الرؤية الكاثوليكية) وأداة الخلاص (في الرؤية البروتستانتية) ـ (انظر الباب المعنون «الإقطاع الغربي» (.
2 ـ انتشار الرؤية الألفية الاسترجاعية والتفسيرات الحرفية للعهد القديم التي تعبِّر عن تزايد معدلات العلمنة (انظر: «الأحلام والعقائد الألفية» ـ «العقيدة الاسترجاعية» (.
3 ـ وضع اليهود كجماعة وظيفية داخل المجتمع الغربي (كأقنان بلاط ـ يهود بلاط ـ يهود أرندا ـ صغار تجار ومرابين) وهو وضع كان مستقراً إلى حدٍّ ما إلى أن ظهرت البورجوازيات المحلية والدولة القومية العلمانية (المطلقة والمركزية) فاهتز وضعهم وكان عليهم البحث عن وظيفة جديدة (انظر الباب المعنون «الجماعات اليهودية الوظيفية» (.
4 ـ مناقشة قضية إعتاق اليهود في إطار فكرة المنفعة، ومدى نفع اليهود للمجتمعات الغربية (انظر: «نفع اليهود» (.
5 ـ ظهور الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية التي ترى العالم بأسره مادة نافعة تُوظَّف وتُحوسَل (انظر: «الرؤية المعرفية الإمبريالية والصهيونية» (.(16/216)
6 ـ تَزايُد عدد أعضاء الجماعات اليهودية زيادة ملحوظة بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ، وخصوصاًً في شرق أوربا، ابتداءً من القرن التاسع عشر (انظر الباب المعنون «إشكالية التعداد» (.
7 ـ وجود اليهود في مناطق حدودية مُتنازَع عليها بين الدول الغربية (انظر: «الحدودية» ) .
8 ـ تعثُّر التحديث في شرق أوربا الأمر الذي دفع بالألوف إلى أوربا الغربية، وهو ما ولَّد الفزع في قلوب حكومات غرب أوربا وأعضاء الجماعات اليهودية فيها. ونحن نذهب إلى أن عام 1882 (تاريخ صدور قوانين مايو التي كرَّست تعثُّر التحديث في الإمبراطورية القيصرية الروسية) هو تاريخ ظهور الصهيونية بين اليهود (انظر: «المسألة اليهودية» (.
9 ـ عزلة يهود اليديشية ثقافياً وبخاصة في منطقة الاستيطان وفشل قطاعات كبيرة منهم في التكيف مع الأوضاع الجديدة.
10 ـ أزمة اليهودية الحاخامية وظهور حركات الإصلاح والدمج (انظر: «أزمة اليهودية» (.
11 ـ سقوط القيادات التقليدية للجماعات اليهودية (الحاخامات وأثرياء اليهود) وظهور المثقف اليهودي الذي فقد هويته اليهودية ولم يكتسب هوية غربية جديدة، فهو يهودي غير يهودي يصر عالم الأغيار على تصنيفه يهودياً، ومثل هؤلاء المثقفين هم الذين أخذوا بالتدريج يحلون محل القيادات التقليدية (انظر: «قيادات الجماعات اليهودية» (.
12 ـ ظهور الفكر العنصري وهيمنته على قطاعات كبيرة في المجتمعات الغربية (انظر الباب المعنون «العنصرية الصهيونية» (.(16/217)
13 ـ ولكن أهم العناصر على الإطلاق هو ظهور الإمبريالية الغربية كقوة عسكرية وسياسية عالمية (بمعنى أن ساحتها العالم بأسره) تُجيِّش الجيوش وتنقل السكان وتقسم العالم. وقد وجدت الإمبريالية الغربية في أعضاء الجماعات اليهودية ضالتها باعتبارهم مادة استيطانية تسبب مشاكل أمنية إن بقيت داخل العالم الغربي، ولكنها تستطيع أن تزيد نفوذه إن نُقلت خارجه وتحولت إلى مادة قتالية تحوسل لحساب الغرب داخل نطاق الدولة الوظيفية. ووجدت القيادات الصهيونية بدورها أن ثمة إمكانية لوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ من خلال تَقبُّل الوظيفة القتالية المطروحة.
ويجب ملاحظة أن الصهيونية التوطينية ظهرت في غرب أوربا حيث كان عدد اليهود صغيراً وحيث حقق أعضاء الجماعات اليهودية قدراً عالياً من الاندماج والعلمنة في مجتمعات كانت تحل مشاكلها الاجتماعية عن طريق الاستعمار وغير ذلك من الآليات. أما الصهيونية الاستيطانية فقد ظهرت أساساً في شرق أوربا حيث توجد كثافة سكانية يهودية ضخمة، وحيث تفاقمت القضايا الاجتماعية دون حل حتى عام 1917.
ثم ظهرت الصهيونية النفعية (صهيونية المرتزقة) بعد ذلك بين يهود الدول العربية منذ عام 1948، وبين يهود الاتحاد السوفيتي بعد عام 1917، وتصاعدت وتيرتها بعد عام 1970. والسياق التاريخي للصهيونية النفعية يتفاوت من بلد لآخر، ومن جماعة يهودية إلى أخرى.
الفكر الصهيوني والحركة الصهيونية: تاريخ موجز
Zionist Thought and Movement: Brief History
تاريخ الصهيونية مركب لأقصى حد بسبب تداخل مستوياته وساحاته. وسنحاول تقديم هذا التاريخ الموجز من خلال ثلاث عناصر: الساحة ـ الخلفية ـ المادة البشرية المستهدفة، وسنقسم تاريخ الصهيونية إلى أربعة مراحل أساسية:
أولاً: المرحلة التكوينية.
ثانياً: مرحلة الولادة في مطلع القرن العشرين.
ثالثاً: الاستيطان فى فلسطين.
رابعاً: أزمة الصهيونية.
وسنقسِّم كل مرحلة إلى فترات مختلفة.(16/218)
أولا: المرحلة التكوينية.
1 ـ الصهيونية ذات الديباجة المسيحية) حتى نهاية القرن السابع عشر (:
شهدت هذه المرحلة من ناحية الخلفية العامة البدايات الحقيقية للانقلاب التجاري في الغرب. إذ هيمن الجيب التجاري (الذي كان منعزلاً في المدن في أوربا الإقطاعية) على الاقتصاد الزراعي الإقطاعي عام 1500 تقريباً، وأعاد صياغة الإنتاج وتوجيهه بحيث خرج به عن نطاق الاكتفاء الذاتي وسد الحاجة. وبدأ التجار يلعبون دوراً مهماً في توجيه سياسات الحكومات، وهذا ما يُعبَّر عنه باصطلاح «الانقلاب التجاري» . وقد شجع هذا الانقلاب حركة الاكتشافات الجغرافية، وهي حركة استعمارية ضخمة كانت تأخذ شكل استيطان في مراكز تجارية على الساحل. وفي أواخر القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر، أصبحت إنجلترا، بعد أن تحوَّلت عن الكاثوليكية ونفضت النفوذ الإسباني عنها، أهم قوة استعمارية، فراكمت الثروات وسيطرت على رقعة كبيرة من الأرض. وواكب كل هذا حركة الإصلاح الديني التي أعادت تعريف علاقة الإنسان بالخالق وبالكتاب المقدَّس بحيث أصبح في إمكان الفرد أن يحقق الخلاص بنفسه لنفسه خارج الإطار الكنسي الجمعي، ودون حاجة إلى رجال الدين، وأصبح من واجبه أن يفسر الكتاب المقدَّس لنفسه.
وإذا ما تركنا الخلفية جانباً وانتقلنا إلى الساحة، فلسطين، وجدنا أن الإمبراطورية العثمانية في هذه المرحلة كانت لا تزال تقف شامخة تحمي كل رعاياها، مسلمين ومسيحيين ويهوداً، وتُشكِّل كتلة بشرية ضخمة متماسكة، ولم يكن الاستعمار الغربي يجرؤ على مواجهتها، وكان يفضل الالتفاف من حولها. ومع هذا يجب أن نسجل أن هذه الفترة شهدت بداية جمود الدولة العثمانية وظهور علامات ضعفها (في الوقت الذي كانت فيه الدول القومية الأوربية تزداد قوة بتأثير الانقلاب التجاري) .(16/219)
ظهرت الصيغة الصهيونية الأساسية في أواخر القرن السادس عشر على شكل الأحلام الاسترجاعية في الأوساط البروتستانتية الاستعمارية، وخصوصاً في إنجلترا، وقد وُلدت كفكرة وحسب، كإمكانية تبغي التحقق لا في أوربا وإنما خارجها، وليس من خلال الإنسان الأوربي ككل، وإنما من خلال الجماعات الوظيفية اليهودية. وكانت الصيغة الصهيونية الأساسية متدثرة بديباجات مسيحية بروتستانتية. وقد كانت هذه الصهيونية ترى اليهود باعتبارهم مادة بشرية يمكن حوسلتها. ولذا، فلم يُتصوَّر أن يكون لهم دولة وظيفية مستقلة (فمركز الحلول هو المسيحيون البروتستانت) والمكان الذي سيُنقَلون إليه كان يختلف من مفكر لآخر. والهدف من نقلهم هو الإعداد للخلاص المسيحي. ويُلاحَظ أن هذا الضرب من الصهيونية ا (شأنه شأن أية صهيونية توطينية) ينظر إلى اليهود من الخارج كعنصر يُستخدَم ومادة تُوظَّف. وإن كان يجدر ملاحظة أن الصهيونية هي بالدرجة الأولى حركة غير يهودية، لم يشترك فيها أعضاء الجماعة اليهودية من قريب أو بعيد. كما يُلاحَظ أن الخطاب الصهيوني كان هامشياً جداً، مقصوراً على الأصوليين البروتستانت.
2 ـ صهيونية غير اليهود (العلمانية) (حتى منتصف القرن التاسع عشر) :
شهدت هذه المرحلة تراكم رؤوس الأموال وهيمنة الملكيات المطلقة (بتوجهها المركنتالي) على معظم أوربا، غربها ووسطها، وإلى حدٍّ ما شرقها. ورغم أن القوى السياسية التقليدية كانت لا تزال مسيطرة على دفة الحكم فإن الطبقات البورجوازية ازدادت قوة وثقة بنفسها وبدأت تطالب بنصيب من الحكم، بل بدأت تؤثر فيه. وقد عبَّر هذا عن نفسه من خلال الفلسفات الثورية المختلفة والنظريات الكثيرة عن الدولة والفكر العقلاني، وأخيراً من خلال الثورة الفرنسية التي تُعدُّ ثمرة كل الإرهاصات السابقة وتشكِّل نقطة تحوُّل في تاريخ أوربا بأسرها.(16/220)
وقد أدَّى تراكم رؤوس الأموال والفتوحات العسكرية والاكتشافات الجغرافية وتقدُّم العلم والتكنولوجيا إلى حدوث النقلة النوعية التي يُطلَق عليها «الثورة الصناعية» ، ويرى بعض المؤرخين أن بدايتها تعود إلى هذه الفترة. وكانت إنجلترا في المقدمة في هذا التحول، فقد كانت أول دولة في العالم تتحول من دولة تجارية إلى دولة رأسمالية صناعية، ثم تحوَّلت إلى قوة عظمى بعد انتصارها على فرنسا في حرب السنوات السبع، وبعد توقيع معاهدة أوترخت عام 1713. وفي نهاية القرن الثامن عشر كانت إنجلترا أكبر قوة استعمارية في العالم. ومع تصاعُد المشروع الاستعماري انزوى دعاة الديباجات الدينية وتدثرت الصياغة الصهيونية الأساسية بالديباجات العلمانية الرومانسية والعضوية والنفعية والعقلانية. وقد دعا نابليون (أول غاز في الشرق الإسلامي وعدو اليهود) إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين مستخدماً خليطاً من الديباجات الرومانسية والدينية والنفعية.
وكان الوهن الذي دب في أوصال الدولة العثمانية (رجل أوربا المريض) قد بدأ يظهر ويتضح، وكانت كل القوى الغربية تفكر في طريقة للاستفادة من هذا الضعف لتحقق لنفسها بعض المكاسب. وقد أخذ هذا شكل الهجوم المباشر من روسيا التي ضمت بعض الإمارات التركية على البحر الأسود، ثم هجوم نابليون على مصر، بينما قررت إنجلترا، ومن بعدها ألمانيا (في مراحل مختلفة) الحفاظ على هذه الإمبراطورية مع تحقيق المكاسب من خلال التدخل في شئونها و"إصلاحها" حتى تقف حاجزاً ضد أي زحف روسي محتمل.(16/221)
ولعل أهم حقيقة سياسية في هذه المرحلة هي ظهور محمد علي المفاجئ وقيامه بتكوين إمبراطوريته الصغيرة. فقد قلب موازين القوى وهدد المشروع الاستعماري الغربي الذي كان يفترض أن العالم كله إن هو إلا ساحة لنشاطه وسوق لسلعه، ووضع حداً لآمال الدول الغربية التي كانت تترقب اللحظة المواتية لاقتسام تركة الرجل المريض المحتضر. ولذا تحالفت الدول الغربية كلها، ومنها فرنسا، وعقدت مؤتمر لندن عام 1840 وقررت فيه الإجهاز عليه، فاضطرته إلى التوقيع على معاهدة لندن لتهدئة المشرق. وعند هذه النقطة تبلورت الفكرة الصهيونية بين غير اليهود، وتحوَّلت من مجرد فكرة إلى مشروع استعماري محدد، إذ بدأت تُطرَح فكرة تقسيم الدولة العثمانية ومن ثم اكتسبت الصيغة الصهيونية الأساسية مضموناً تاريخياً وبُعْداً سياسياً، وأصبح بالإمكان دمج المسألة اليهودية (مسألة الشعب العضوي المنبوذ) مع المسألة الشرقية (تقسيم الدولة العثمانية) وطُرحت إمكانية توظيف الشعب المنبوذ وبدأ التفكير في حل المسألة اليهودية عن طريق نَقْل اليهود إلى فلسطين وإيجاد قاعدة للاستعمار الغربي (أي أن تتم حوسلة اليهود باسم الحضارة الغربية ومصالحها التي هي مركز الحلول) . ويمكن القول بأن الفكرة الصهيونية قد بدأت تتحول إلى فكرة مركزية في الوجدان السياسي الغربي. وهذه المرحلة هي مرحلة صهيونية غير اليهود (العلمانية) ، وهي صهيونية توطينية. وظهر أهم مفكر صهيوني (إيرل أوف شافتسبري السابع) ، كما ظهر لورانس أوليفانت. ولكن، حتى هذه المرحلة، لم تكن فكرة الدولة اليهودية قد ظهرت، إذ كان التصور لا يزال أن يكون التجمُّع اليهودي محمية تابعة لدولة غربية. وحتى فلسطين نفسها كمكان للتجمُّع كان لا يزال أمراً غير مقرر. وكانت النظرة لليهود لا تزال خارجية، فقد كان يُنظَر إليهم كمادة استعمالية لا قيمة لها في حد ذاتها تكتسب قيمتها من نفعها. وكانت ديباجات الصهيونية في هذه المرحلة عقلانية مادية(16/222)
ورومانسية (لاعقلانية مادية (.
3 ـ صهيونية أثرياء اليهود المندمجين في مجتمعاتهم الغربية (النصف الثاني من القرن التاسع عشر (:
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لم تَعُد الحروب ضد دول آسيا وأفريقيا، بعد التطورات الصناعية المذهلة في أوربا، أمراً يبهظ خزائن الدول الاستعمارية، بل إن العائد أصبح يفوق التكاليف (وكانت إحدى مقولات أعداء المشروع الاستعماري أن تكاليف الإمبراطورية تفوق عائدها) . ومما تجدر ملاحظته كذلك أن الضغوط السكانية والأزمة الاقتصادية داخل المجتمعات الغربية جعلتها تبحث عن حل لمشاكلها خارج أوربا. ولكل هذا طرحت الإمبريالية نفسها باعتبارها المخرج من المأزق التاريخي.(16/223)
ولكن المشروع الإمبريالي لم يكن يتم في ظل نظريات التجارة الحرة، إذ سيطر فكر احتكاري جديد يُسمَّى «نيو ـ مركنتالي neo-mercantile» (أي «المركنتالي الجديد» ) بحيث تم تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ واحتكارات، كل منطقة منها مقصورة على الدولة التي استعمرتها (ومن هنا المؤتمرات الدولية المختلفة في هذه الفترة لتقسيم العالم إلى مناطق نفوذ) . ومع منتصف القرن التاسع عشر كانت إنجلترا ورشة العالم بلا منازع. فإنتاجها الصناعي كان قد وصل إلى مستوى لم تعرفه البشرية من قبل، وإمبراطوريتها كانت مترامية الأطراف تحميها قوة عسكرية ضخمة وأسطول يُسيطر على كل بحار العالم. وقد اتخذت السياسة البريطانية شكلاً إمبريالياً أكثر حدة، ولا سيما بعد تحطيم مطامع روسيا في حرب القرم، وبعد أن تحوَّل مشروعها الاستعماري إلى أواسط آسيا وغيرها من المناطق البعيدة عن أفريقيا والشرق الأوسط اللذين تزايد الاهتمام الإمبريالي البريطاني بهما. فاشترت بريطانيا أسهم شركة قناة السويس عام 1876، واستولت على قبرص عام 1878، واحتلت مصر (الطريق إلى الهند) عام 1882. ونتيجة كل هذا أصبح مصير فلسطين جزءاً من المخطط الاستعماري البريطاني، الأمر الذي حدا بكتشنر أن يطالب بتأمين ضم فلسطين للإمبراطورية. ومع هذا كانت بريطانيا لا تزال ملتزمة بضمان ممتلكات الدولة العثمانية "من النيل إلى الفرات" التي "وعد الرب بها إبراهيم" ومن ثم أصبحت منطقة نفوذ بريطانية. ولكن في عام 1885 قرَّرت حكومة المحافظين أن من الخير الموافقة على اقتراح القيصر بتقسيم الإمبراطورية (العثمانية) .(16/224)
ومع هزيمة فرنسا على يد ألمانيا عام 1871 نشط المشروع الإمبريالي الألماني، وبالتالي العلاقة مع الدولة العثمانية، فزاد حجم القروض الألمانية لها، وزار القيصر وليام الثاني القسطنطينية عام 1898 وزار بعدها فلسطين، ولذا ظل المشروع الصهيوني متأرجحاً بين أعظم قوتين إمبرياليتين في ذلك الحين، البريطانية والألمانية.
كانت الصيغة الصهيونية حتى هذه المرحلة مجرد فكرة غربية تبحث عن المادة البشرية اليهودية المُستهدَفة التي ستُوظَّف. ومع تعثُّر التحديث في شرق أوربا في أواخر القرن التاسع عشر، تدفَّق المهاجرون اليهود من شرق أوربا إلى غربها، الأمر الذي هدَّد أمن هذه الدول كما هدَّد مكانة أعضاء الجماعات اليهودية فيها، وقد أدَّى هذا إلى تشابك مصير يهود غرب أوربا ومصير يهود اليديشية. وحلاًّ لهذه المشكلة، اكتشف يهود الغرب الحل الصهيوني دون أية ديباجات قومية أو سياسية (ومن هنا رفض فكرة الدولة اليهودية والابتعاد عن فلسطين كمكان للتوطين وعدم الاهتمام بالدولة الراعية إذ لا حاجة لها) وظهرت الصهيونية التوطينية بين أعضاء الجماعات اليهودية في غرب أوربا، وخصوصاً بين الأثرياء منهم المندمجين في مجتمعاتهم. وعلى هذا، فهو يعتبر أول اتجاه صهيوني يظهر بين اليهود، ومع هذا فهو يشبه صهيونية غير اليهود في أنه ينظر لليهود من الخارج.
ويمكننا أن نقول إن تاريخ صهيونية غير اليهود يبدأ مع ظهور حركة الاستعمار الاستيطاني وتتبلور ديباجاته وتكتسب بُعْداً أساسياً مع ظهور محمد عليّ وسقوطه (ويُلاحَظ أن أعضاء الجماعات اليهودية لا علاقة لهم بتطور الفكرة الصهيونية) . ولا يبدأ تاريخ الصهيونية عند اليهود إلا مع تعثُّر التحديث وتعاظم الإمبريالية، كرؤية وكممارسة.
ومن أهم الصهاينة التوطينيين في هذه المرحلة إدموند دي روتشيلد وهيرش ومونتفيوري.
4 ـ إرهاصات التيارات الصهيونية المختلفة بين اليهود (العقود الأخيرة في القرن التاسع عشر) :(16/225)
لا تختلف الخلفية التاريخية لهذه المرحلة كثيراً عن سابقتها، فالإمبريالية الغربية كانت قد قسَّمت العالم بينها. وكانت ألمانيا تحاول أن تُعيد التقسيم لتوسيع الرقعة التي تهيمن عليها. ومن هنا استمرار تذبذب الصهاينة بين بريطانيا وألمانيا. ورغم أن سياسة بريطانيا الرسمية كانت الحفاظ على الإمبراطورية العثمانية وأملاكها إلا أن القرار بتقسيمها كان قد تم اتخاذه بالفعل. وكان التعبير عن كل هذه الصراعات هو الحرب العالمية الأولى التي انتهت بضم فلسطين (الساحة) إلى الإمبراطورية البريطانية واختفاء الدولة العثمانية كقوة سياسية.
أ) الصهيونية التسللية: اكتشف يهود شرق أوربا الصهيونية كحركة استيطانية، ولكنهم لم يدركوا حتمية الحل الإمبريالي. ونظراً لقصور رؤيتهم، حاولوا الاستيطان دون دعم إمبريالي، وحاولوا تجنيد أثرياء يهود الغرب المندمجين ليرعوا مشروعهم ويدعموه، وهذا ما سميناه «الصهيونية التسللية» (التي يقال لها «عملية» ) وهي أول صهيونية استيطانية وتتسم بأنها نابعة من المادة البشرية المُستهدَفة. ويظل مفهوم الدولة شاحباً بين دعاة الصهيونية التسللية، كما أن فلسطين ليست بالضرورة ساحة الاستيطان. ومن أهم دعاة الصهيونية التسللية ليلينبلوم وبنسكر، ثم ظهرت جماعات البيلو وأحباء صهيون. ويمكن النظر إليها باعتبارها إرهاصات لهرتزل وللصيغة الصهيونية الأساسية بعد تهويدها.
ب) إرهاصات الصهيونية الإثنية الدينية والعلمانية: وظهرت كتابات كاليشر والقلعي التي تُعتبر إرهاصات الصهيونية الإثنية الدينية، ونشر آحاد هعام كتاباته الصهيونية التي ترى أهمية تأسيس دولة يهودية في فلسطين، ولكن وظيفتها لم تكن الإسراع بعملية دمج اليهود بل الحفاظ على هويتهم.
جـ) إرهاصات الصهيونية العمالية: وقد ظهرت كذلك كتابات هس في منتصف القرن التاسع عشر التي ساعدت مفكري الصهيونية العمالية على صياغة أفكارهم.(16/226)
5 ـ مرحلة هرتزل (العقود الأخيرة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (:
ظهر هرتزل بين صفوف يهود الغرب المندمجين التوطينيين فاكتشف حاجة الغرب ويهود الغرب للتخلص وبسرعة من يهود شرق أوربا. ولكنه اكتشف الحقيقة البدهية الغائبة عن الجميع: حتمية التحرك داخل إطار الإمبريالية الغربية التي يمكنها وحدها أن تنقل اليهود خارج أوربا وأن توظفهم لصالحها نظير أن تزودهم بالدعم والحماية. وقد اكتشف هرتزل أيضاً فكرة القومية العضوية والشعب العضوي (فولك) التي تستطيع أوربا العلمانية الإمبريالية أن تدرك اليهود من خلالها. وقد نجح هرتزل في التوصُّل إلى خطاب مراوغ وهو ما جعل وضع نصوص العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهود العالم ممكناً. وهو عقد يُرضي يهود الشرق ولا يُفزع يهود الغرب، ويجعل بإمكان الإمبريالية أن تضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ. كما أنه فتح الباب أمام عملية تهويد الصيغة الصهيونية الأساسية من خلال الديباجات اليهودية المختلفة. ويتميز هرتزل عن كل من شافتسبري وأوليفانت في أنه هو نفسه يهودي ينظر إلى المادة البشرية المُستهدَفة من الداخل. ولكنه مع هذا يهودي غير يهودي، ولذا فهو ينظر إلى هذه المادة من الخارج ويراها باعتبارها مشكلة تبغي حلاًّ لا قيمة إنسانية تبغي التحقق. وبسبب ازدواجيته هذه، نجح هرتزل في أن يكون جسراً بين التوطينيين والاستيطانيين وبين اليهود والغرب، ولذا يمكن القول بأن الصهيونية تحوَّلت من فكرة إلى مشروع استيطاني استعماري على يد هرتزل في مؤتمر بال الذي وُلدت فيه الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة. وقد فزع أثرياء الغرب اليهود من دعوة هرتزل في بادئ الأمر، كما رفضها معظم الجماعات والمنظمات اليهودية في العالم.
6 ـ تبلور الفكرة الصهيونية بين اليهود:
أ) حتمية الحل الإمبريالي: أدرك قادة يهود شرق أوربا حتمية الحل الإمبريالي من خلال هرتزل.(16/227)
ب) استقرار الصيغة الصهيونية الشاملة: تم قبول الدولة اليهودية الوظيفية باعتبارها الهدف الأساسي للحركة الصهيونية والإطار الذي يتم توظيف اليهود من خلاله. وأدَّى تقسيم الدولة العثمانية إلى حسم الأمور تماماً لصالح دعاة الاستيطان في فلسطين.
جـ) تهويد الصيغة الصهيونية: أحس قادة يهود شرق أوربا أن الصيغة الصهيونية الأساسية، وصيغة هرتزل الاستعمارية، لا يمكن أن تُجنِّد يهود اليديشية، ولذا فقد أثاروا قضية المعنى والوعي اليهودي وأضافوا ديباجات إثنية دينية وعلمانية أدَّت إلى تهويد الصيغة الصهيونية وجعلت الشعب اليهودي مرة أخرى مركزاً للحلول وجماعةً لها قيمة في حد ذاتها، الأمر الذي جعل بإمكان يهود شرق أوربا استبطان الصيغة الصهيونية الأساسية. ويُلاحَظ أن الصهيونية الإثنية الدينية والعلمانية لا هي بالتوطينية ولا هي بالاستيطانية لأنها تتوجه لمستوى الهوية والوعي الذي يتجاوز ثنائية الاستيطان والتوطين وإن كان لها ثنائيتها الخاصة (ديني/علماني) ، وهي صهيونية تنظر إلى اليهود من الداخل.
د) الديباجات والتيارات السياسية: أدخل بعض الصهاينة العلمانيين ديباجات ليبرالية (الصهيونية العامة) أو اشتراكية (صهيونية عمالية) أو فاشية (الصهيونية التصحيحية) لتحديد شكل الدولة المزمع إقامتها، أي أنهم حددوا شكل الاستيطان، وبذا تكون الفكرة الصهيونية قد اكتملت وتحدَّدت ملامحها وصيغت كل الديباجات اللازمة لتسويقها أمام قطاعات وطبقات الجماعات اليهودية في شرق أوربا وغربها. وحتى ذلك التاريخ، كانت هناك صراعات كثيرة داخل الحركة الصهيونية:
أ) صراع بين التسلليين والدبلوماسيين.
ب) بين الدينيين والعلمانيين.
جـ) بين دعاة الاعتماد على ألمانيا في مواجهة دعاة الاعتماد على إنجلترا.
د) صراعات أيديولوجية بين دعاة الليبرالية ودعاة الاشتراكية.(16/228)
هـ) صراع بين دعاة الصهيونية الإقليمية ودعاة الصهيونية التوطينية، أي بين دعاة الاستيطان في أي مكان ودعاة ما يُسمَّى «صهيونية صهيون» أي الاستيطان في فلسطين وحدها.
7 ـ تأسيس المنظمة الصهيونية: لم تكن بلورة الفكرة الصهيونية كافية، بل كان ضرورياً أن يوجد إطار تنظيمي. وقد وضع هرتزل التصور الأساسي في كتابه دولة اليهود، ثم دعا للمؤتمر الصهيوني الأول (1897) وتم تأسيس المنظمة الصهيونية.
ثانياً: مرحلة الولادة فى مطلع القرن العشرين.
تختلف خريطة العالم السياسية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى عن التي سادت قبلها اختلافاً بيِّناً. فقد انتصر الاستعمار البريطاني على الاستعمار الألماني والتهم النصيب الأكبر من الإمبراطورية العثمانية، ثم ظهرت إرهاصات القومية العربية (ولكن حركة القومية العربية وحركة المقاومة العربية الفلسطينية، وبخاصة في العقود الأولى من هذه الفترة كانت ضعيفة غير قادرة على تعبئة الجماهير وتنظيمها ضد الاستعمارين الإنجليزي والصهيوني بتنظيمهما الحديث وعلاقاتهما العالمية وتعاونهما الوثيق داخل فلسطين وخارجها) . وقد تصاعدت المقاومة في الثلاثينيات، ولكن المؤسستين الاستعماريتين نجحتا في قمعها وانتهى الأمر بطرد غالبية الفلسطينيين من ديارهم وأُعلنت الدولة عام 1948 بموافقة الدول الغربية العظمى كلها وموافقة الاتحاد السوفيتي (ولم تظهر المقاومة الفلسطينية مرة أخرى بشكل منظم إلا عام 1965 بقيادة فتح وبمشاركة الفصائل الفلسطينية الأخرى رغم أنها لم تتوقف إذ أخذت أشكالاً تلقائية غير منظمة طيلة الفترة السابقة) .(16/229)
وفي بداية هذه المرحلة ظهرت الولايات المتحدة كقوة كبرى لها ثقل يُعتدُّ به على الصعيد العالمي. أما الاتحاد السوفيتي فقد دخل مرحلة البناء والتحديث الاشتراكي التي فرضت عليه نوعاً من العزلة. ومع ثلاثينيات القرن بدأ مركز الإمبريالية في الانتقال من لندن إلى واشنطن، وهي عملية يمكن القول بأنها اكتملت بعد الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها الولايات المتحدة قائداً للمعسكر الإمبريالي بلا منازع.
كما يُلاحَظ تَركُّز معظم يهود العالم في الولايات المتحدة وقد كان لهذين العنصرين أعمق الأثر في تعميق توجُّه الحركة الصهيونية ثم الدولة الصهيونية نحو أمريكا.
مع وعد بلفور، حُسمت كل الأمور. فبعد ظهور الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة وقبول القيادات الصهيونية لها، يظهر بلفور (ممثل الإمبراطورية البريطانية والحضارة الغربية ككل) ويوقع عقد بلفور باعتباره ممثلاً للحضارة الغربية (ويوقعه عن الطرف الآخر الصهاينة التوطينيون من يهود الغرب المندمجين والصهاينة الاستيطانيين اليهود ممثلي المادة البشرية اليهودية من شرق أوربا) فتصبح الحركة الصهيونية مشروعاً استعمارياً استيطانياً إحلالياً متكاملاً.
ويجب ألا نخلق انطباعاً خاطئاً بأن هناك تعاقباً زمنياً صارماً، فالصهيونية ذات الديباجة المسيحية لا تزال مزدهرة رغم أن الحضارة الغربية قد تطوَّرت بطريقة همشت المسيحية ككل، كما أن صهيونية غير اليهود) العلمانية) لا تزال قائمة والصهيونية التوطينية لا تزال هي الصهيونية المنتشرة بين معظم يهود العالم (ويُطلَق عليها صهيونية الدياسبورا (.(16/230)
وبعد إعلان وعد بلفور، وبعد اكتساب المنظمات الصهيونية الشرعية الاستعمارية التي كانت تسعى اليها، تغيَّرت الصورة تماماً، فلم تَعُد القضية قضية بعض قيادات الفائض اليهودي من شرق أوربا، ولم تَعُد المسألة متصلة بإغاثة بضعة آلاف من اليهود، وإنما أصبحت المنظمة تابعة لأكبر قوة استعمارية على وجه الأرض آنذاك، وأصبحت ذات وظيفة محددة هي نَقْل المادة البشرية اليهودية إلى فلسطين لتأسيس قاعدة لهذه القوة. ولذا فلم يَعُد هناك مجال للاختلافات الصغيرة بين دعاة الاستيطان العمليين مقابل دعاة بذل الجهود الدبلوماسية مع الدولة الراعية. كما لم يَعُد هناك أي مبرر لوجود دعاة الصهيونية الإقليمية (أي توطين اليهود خارج فلسطين) ، وتساقطت بالتالي كثير من التقسيمات الفرعية أو أصبحت غير ذات موضوع، وتم تقسيم العمل على أساس جديد يقبله الجميع، وظهر ما يمكن تسميته «الصهيونية التوفيقية» . كما أن الرفض اليهودي للصهيونية فقد دعامته الأساسية: الخوف من ازدواج الولاء إذ أصبح تأييد الصهيونية أمراً لا يتناقض مع ولاء الإنسان الغربي لوطنه وحضارته.
ثالثاً: الاستيطان في فلسطين.
تاريخ الحركة الصهيونية بعد ذلك هو تاريخ الاستيطان الصهيوني في فلسطين تحت رعاية حكومة الانتداب ومقاومة العرب لهذا الاستيطان. وقد ظهرت بعض التوترات بين القوة الاستعمارية الراعية والمستوطنين (وهو توتر يسم علاقة أية دولة راعية بالمستوطنين التابعين لها، وهو لا يعود إلى تناقض المصالح وإنما إلى اختلاف نطاقها، فمصالح الدولة الراعية أكثر اتساعاً وعالمية من مصالح المستوطنين) . ولذا، فقد أصدرت الحكومة البريطانية الراعية مجموعة من الكتب البيضاء لتوضِّح موقفها من المستوطنين الصهاينة ومن العرب. وقد انتقل دور الدولة الراعية من إنجلترا إلى الولايات المتحدة. ولكن كل هذه العناصر لا تغيِّر بنية الفكر الصهيوني ولا اتجاه الحركة ولا تؤثر في المنظمة الصهيونية.(16/231)
أما بالنسبة للمنظمة الصهيونية، فبعد صدور وعد بلفور كان ضرورياً أن يكون لها ذراعها الاستيطاني الذي يتعامل مع حقائق الموقف في فلسطين. وقد أسَّست المنظمة الصهيونية ساعدها التنفيذي المعروف باسم الوكالة اليهودية عام 1922، إذ نص صك الانتداب البريطاني على فلسطين على الاعتراف بوكالة يهودية مناسبة لإسداء المشورة إلى سلطات الانتداب في جميع الأمور المتعلقة بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وفي عام 1929، نجح وايزمان ـ رئيس المنظمة الصهيونية آنذاك ـ في إقناع أعضاء المؤتمر الصهيوني السادس عشر بضرورة توسيع الوكالة اليهودية بحيث يتشكل مجلسها من عدد من أعضاء المنظمة وعدد مثله من غير أعضائها. وكان الغرض من ذلك استمالة أثرياء اليهود التوطينيين لتمويل المشروع الصهيوني دون إلزامهم بالانخراط في صفوف المنظمة، والإيحاء في الوقت نفسه بأن الوكالة تمثل جميع يهود العالم ولا تقتصر على أعضاء المنظمة. وكان من شأن هذه الخطوة أن تعطي دفعة قوية للحركة الصهيونية وتدعم الموقف التفاوضي للمنظمة الصهيونية مع الحكومة البريطانية التي كان يقلقها تصاعد الأصوات الرافضة للصهيونية في أوساط يهود بريطانيا (وقد ظلت المنظمتان تُعرَفان بالاسم نفسه على النحو التالي: المنظمة الصهيونية/الوكالة اليهودية حتى عام 1971 حين جرت عملية مزعومة وشكلية لإعادة التنظيم بحيث أصبحت المنظمتان منفصلتين قانونياً ولكل منهما قيادة مختلفة) .
ولم يهدأ الصراع تماماً بين التوطينيين والاستيطانيين. فحتى عام 1948، كان الصراع يدور حول من يتحكم في المنظمة وحول تحديد أهداف المشروع الصهيوني. أما بعد عام 1948، فإن مجال الصراع أصبح تعريف اليهودي (الديني والعلماني) إذ حُسمت قضية التحكم في المنظمة لصالح المستوطنين تماماً، ولم يعد الصهاينة التوطينيون يهتمون به.(16/232)
رغم عدم اشتراك يهود البلاد العربية في إفراز الفكر الصهيوني أو الحركة الصهيونية، ورغم أن الصهيونية (بشقيها الشرقي والغربي) لم تتوجه إليهم بشكل خاص ولم تحاول تجنيدهم بشكل عام وواسع قبل عام 1948، إلا أن إنشاء الدولة قد خلق حركيات تتخطى إرادتهم. كما أن حاجة الدولة الصهيونية إلى طاقة بشرية (بعد عزل يهود الشرق أو اختفائهم وبعد رفض يهود الغرب الهجرة) جعلها تهتم بهم وتجندهم وتفرض عليهم في نهاية الأمر «مصيراً صهيونياً» ، أي الخروج من أوطانهم. وقد استقرت أعداد كبيرة منهم في الدولة الصهيونية، وإن كان من الملحوظ أن أعداداً أكبر استقرت خارجها.
وقد ظهرت صراعات بين دعاة الديموقراطية ودعاة الشمولية، وبين دعاة المشروع الرأسمالي الحر والنهج الاشتراكي، ولكنها صراعات لا علاقة لها بالفكر الصهيوني ولا الحركة الصهيونية فهي صراعات داخلية بين المستوطنين، وإذا شارك فيها الصهاينة التوطينيون فإن مساهمتهم تظل ثانوية. وتعود هامشية هذه الصراعات إلى أن الولايات المتحدة تمول التجمُّع الصهيوني بأسره، بمن فيه من رأسماليين وإرهابيين وعقلاء ومجانين واشتراكيين وقتلة. فالحقيقة الأساسية هي وظيفية الدولة الصهيونية، ولذا فإن الصراعات ذات المضمون الأيديولوجي العميق أو السياسي المسطح ليست ذات أهمية كبيرة. أما الصراع بين الإشكناز والشرقيين فهو صراع عميق ومهم ولكنه لا يؤثر في الفكر الصهيوني أو الحركة الصهيونية، فهو قضية إسرائيلية داخلية تماماً.
وخاضت الدولة الصهيونية حروبها المتعددة ضد العرب، من حرب 1948 إلى حرب 1956 إلى حرب 1967 إلى حرب 1973 إلى اجتياح لبنان عام 1982 وما تبعه من توسُّع ومزيد من القمع. وتزايد الرفض الفلسطينى للدولة الاستيطانية الصهيونية والمقاومة لها.
رابعاً: أزمة الصهيونية.(16/233)
تواجه الصهيونية، كفكرة وحركة ومنظمة ودولة، أزمة عميقة لعدة أسباب من بينها انصراف يهود العالم عنها. فالصهيونية لا تعني لهم الكثير، فهم يفضلون إما الاندماج في مجتمعاتهم أو الهجرة إلى الولايات المتحدة، وقد تدهورت صورة المُستوطَن الصهيوني إعلامياً بعد الانتفاضة إذ أن هذه الدولة الشرسة أصبحت تسبب لهم الحرج الشديد. وقد أدَّى هذا إلى أن المادة البشرية المُستهدَفة ترفض الهجرة، الأمر الذي يسبب مشكلة سكانية استيطانية للمُستوطَن الصهيوني. ويُلاحَظ تزايد حركات رفض الصهيونية والتملص منها وعدم الاكتراث بها بين يهود العالم.
وعلى المستوى الأيديولوجي، يُلاحَظ، في عصر نهاية الأيديولوجيا وما بعد الحداثة، أن كل النظريات تتقلص ويختفي المركز، والشيء نفسه يسري على الصهيونية إذ أن إيمان يهود العالم بها قد تقلَّص تماماً، ولذا فإن من يهاجر إلى إسرائيل إنما يفعل ذلك لأسباب نفعية مادية مباشرة. وفي داخل إسرائيل، تظهر أجيال جديدة تنظر إلى الصهيونية بكثير من السخرية. وعلى المستوى التنظيمي، تفقد المنظمة كثيراً من حيويتها وتصبح أداة في يد الدولة الصهيونية، وتُقابَل اجتماعاتها بالازدراء من قبَل يهود العالم والمستوطنين في فلسطين. ولم تغيِّر اتفاقية أوسلو من الأمر كثيراً، بل لعلها تُسرع بتفاقم أزمة الصهيونية، باعتبار أن الدولة ستصبح أكثر ثباتاً واستقراراً وستتحدد هويتها كدولة لها مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية المتشعبة التي ليس لها بالضرورة علاقة كبيرة بأعضاء الجماعات اليهودية في العالم.
وهذه المرحلة شهدت تحول الفكرة الصهيونية، الاستيطانية الإحلالية، إلى واقع إستيطانى إحلالى، إذ نجحت الدولة الصهيونية فى طرد معظم العرب من فلسطين واستبعاد من تبقى منهم. وأصبحت الدولة الصهيونية هى الدولة/ الشتتل أو الدولة/ الجيتو، المرفوضة من السكان الأصليين، أصحاب الأرض.(16/234)
ولكن فى عام 1967، مع ضم المزيد من الأراضى العربية بمن عليها من بشر، تحولت الدولة الصهيونية من دولة استيطانية إحلالية إلى دولة استيطانية مبنية على التفرقة اللونية (الأبا رتهايد) الأمر الذى يتبدى فى المعازل والطرق الالتفافية. وشهدت هذه الفترة مولد المقاومة الفلسطينية المنظمة وتصاعدها، واندلاع الانتفاضة المباركة، التى استمرت ما يزيد عن ستة أعوام، ولم تنطفأ جذوتها بعد، وهى بذلك تكون أطول حركة عصيان مدنى فى التاريخ.
المؤتمرات الصهيونية
Zionist Congresses
المؤتمر الصهيوني هو الهيئة العليا للمنظمة الصهيونية العالمية، وقراراته هي التي ترسم الخطوط العامة لسياسات المنظمة (انظر: «الهيكل التنظيمي للمنظمة الصهيونية العالمية» ) . ولذا، فإن رَصْد ما يحدث داخل هذه المؤتمرات، وتعاقُبها، يكون في واقع الأمر بمنزلة رَصْد لبعض أهم جوانب تاريخ الحركة الصهيونية.
وفيما يلي عرض موجز للمؤتمرات الصهيونية التي انعقدت حتى وقت صدور الموسوعة (1997) :
المؤتمر الأول:(16/235)
بازل، أغسطس 1897. وكان مزمعاً عقده في ميونيخ، بيد أن المعارضة الشديدة من قبَل التجمُّع اليهودي هناك والحاخامية في ميونيخ حالت دون ذلك. وقد عُقد في أغسطس 1897 برئاسة تيودور هرتزل الذي حدد في خطاب الافتتاح أن هدف المؤتمر هو وضع حجر الأساس لوطن قومي لليهود، وأكد أن المسألة اليهودية لا يمكن حلها من خلال التوطن البطيء أو التسلل بدون مفاوضات سياسية أو ضمانات دولية أو اعتراف قانوني بالمشروع الاستيطاني من قبَل الدول الكبرى. وقد حدد المؤتمر ثلاثة أساليب مترابطة لتحقيق الهدف الصهيوني، وهي: تنمية استيطان فلسطين بالعمال الزراعيين، وتقوية وتنمية الوعي القومي اليهودي والثقافة اليهودية، ثم أخيراً اتخاذ إجراءات تمهيدية للحصول على الموافقة الدولية على تنفيذ المشروع الصهيوني. والأساليب الثلاثة تعكس مضمون التيارات الصهيونية الثلاثة: العملية (التسللية) ، والثقافية (الإثنية) ، والسياسية (الدبلوماسية الاستعمارية) . وقد تعرَّض المؤتمر بالدراسة لأوضاع اليهود الذين كانوا قد شرعوا في الهجرة الاستيطانية التسللية إلى فلسطين منذ 1882، واقترح شابيرا إنشاء صندوق لشراء الأرض الفلسطينية لتحقيق الاستيطان اليهودي، وهو الاقتراح الذي تجسَّد بعدئذ فيما يُسمَّى الصندوق القومي اليهودي. وقد اعترض هرتزل على هذا الاقتراح رغم أنه لم ينكر الحاجة إلى مثل هذا المشروع، ويبدو أن تحفظاته كانت تنْصبُّ على توقيت المشروع وليس جوهره. وفي هذا المؤتمر أيضاً، تم وضع مسودة البرنامج الصهيوني الذي عُرف ببرنامج بازل، كما ارتفعت الدعوة إلى إحياء اللغة العبرية وتكثيف دراستها بين اليهود والمستوطنين. وشهد المؤتمر ظهور الأشكال الجنينية للتيار الذي عُرف بعد ذلك باسم «الصهيونية العملية» التي قادها زعماء أحباء صهيون واصطدمت في كثير من الجوانب المرحلية بتيار هرتزل الذي يُطلَق عليه اسم «الصهيونية السياسية» ؟ وكانت اللغة المستخدمة في المؤتمر هي(16/236)
الألمانية واليديشية.
المؤتمر الثاني:
بازل، أغسطس 1898. عُقد برئاسة هرتزل الذي ركَّز على ضرورة تنمية النزعة الصهيونية لدى اليهود، وذلك بعد أن أعلن معظم قيادات الجماعات اليهودية في أوربا الغربية عن معارضتهم للحل الصهيوني للمسألة اليهودية. وكانت أهم أساليب القيادة الصهيونية لمواجهة هذه المعارضة، هو التركيز على ظاهرة معاداة اليهود، والزعم بأنها خصيصة لصيقة بكل أشكال المجتمعات التي يتواجد فيها اليهود كأقلية. وقد ألقى ماكس نوردو تقريراً أمام المؤتمر عن مسألة دريفوس باعتبارها نموذجاً لظاهرة كراهية اليهود وتعرُّضهم الدائم للاضطهاد حتى في أوربا الغربية وفي ظل النظم الليبرالية بعد انهيار أسوار الجيتو. كما لجأت قيادة المؤتمر إلى تنمية روح التعصب الجماعي والتضامن مع المستوطنين اليهود في فلسطين بالمبالغة في تصوير سوء أحوالهم، وهو ما بدا واضحاً في تقرير موتزكين الذي كان قد أُوفد إلى فلسطين لاستقصاء أحوال مستوطنيها من اليهود، فأشار في تقريره إلى أنهم يواجهون ظروفاً شديدة الصعوبة تستدعي المساعدة من يهود العالم كافة لضمان استمرار الاستيطان اليهودي في فلسطين. ولهذا الغرض، فقد تم انتخاب لجنة خاصة للإشراف على تأسيس مصرف يهودي لتمويل مشاريع الاستيطان الصهيوني في فلسطين.
المؤتمر الثالث:(16/237)
بازل، أغسطس 1899. عُقد برئاسة هرتزل الذي عرض تقريراً عن نتائج اتصالاته مع القيصر الألماني في إستنبول وفلسطين، وهي الاتصالات التي عرض فيها هرتزل خدمات الحركة الصهيونية الاقتصادية والسياسية على الإمبريالية الألمانية الصاعدة في ذلك الوقت مقابل أن يتبنى الإمبراطور المشروع الصهيوني. وطالب المؤتمر بتأسيس المصرف اليهودي تحت اسم «صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار» ، وذلك لتمويل الأنشطة الاستيطانية الصهيونية وتوفير الدعم المالي للحركة الصهيونية. كما ناقش المؤتمر قضية النشاط الثقافي اليهودي في العالم، كما تناول المؤتمر مسألة إعادة بناء الجهاز الإداري الدائم للحركة الصهيونية ليحل محلها الجهاز المؤقت.
المؤتمر الرابع:(16/238)
لندن، أغسطس 1900. عُقد برئاسة هرتزل، وجرى اختيار العاصمة البريطانية مقراً لانعقاد المؤتمر نظراً لإدراك قادة الحركة الصهيونية في ذلك الوقت تعاظُم مصالح بريطانيا في المنطقة، ومن ثم فقد استهدفوا الحصول على تأييد بريطانيا لأهداف الصهيونية، وتعريف الرأي العام البريطاني بأهداف حركتهم. وبالفعل، طُرحت مسألة بث الدعاية الصهيونية كإحدى المسائل الأساسية في جدول أعمال المؤتمر. وشهد هذا المؤتمر ـ الذي حضره ما يزيد على 400 مندوب ـ اشتداد حدة النزاع بين التيارات الدينية والتيارات العلمانية، وذلك عندما طُرحت المسائل الثقافية والروحية للمناقشة، إذ طالب بعض الحاخامات بألا تتعرض المنظمة الصهيونية للخوض في القضايا الدينية والثقافية اليهودية، وأن تقصر عملها على النشاط السياسي وخدمة الاستيطان اليهودي في فلسطين. وإزاء ذلك، دعا هرتزل الجميع إلى نبذ الخلافات جانباً والتركيز على الأهداف المشتركة. وخلال المؤتمر، تم وَضْع مخطط المشروع المتعلق بإنشاء الصندوق القومي اليهودي. وقد وُوجه المؤتمر بمعارضة أعضاء الجماعة اليهودية في إنجلترا، وتجاهله أثرياء اليهود، ولذا توجَّه المؤتمر لغير اليهود ونجح في اجتذاب اهتمامهم إلى حدٍّ ما، وخصوصاً أن الصهيونية كانت تطرح حلاًّ لمشكلة المهاجرين من يهود اليديشية الذين كانوا يثيرون القلق في أوساط النخبة الحاكمة الإنجليزية وأثرياء اليهود. ولذا، حرص هرتزل على أن يدلي بشهادته أمام اللجان المختصة بمناقشة موضوع الهجرة اليهودية إلى إنجلترا.
المؤتمر الخامس:(16/239)
بازل، ديسمبر 1901. عُقد برئاسة هرتزل الذي قدَّم تقريراً عن مقابلته مع السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ومحاولاته إقناعه بالسماح بموجات هجرة يهودية واسعة إلى فلسطين التي كانت وقتئذ إحدى ولايات الإمبراطورية العثمانية، وذلك مقابل اشتراك الخبرات اليهودية في تنظيم مالية الإمبراطورية العثمانية التي كانت تعاني ضائقة مالية آخذة في التفاقم.
وقد وافق المؤتمر على الاقتراح الذي تقدَّم به جوهان كريمينكس لتأسيس «الصندوق القومي اليهودي» بوصفه مصرفاً للشعب اليهودي يمكن استخدامه على نطاق واسع لشراء الأراضي في فلسطين وسوريا.
وشهد المؤتمر بروز تيار صهيوني، بزعامة مارتن بوبر وحاييم وايزمان وليو موتزكين وفيكتور جاكوبسون، ينتقد أساليب هرتزل غير الديموقراطية في القيادة ويدعو إلى أن تتحلى قيادة الحركة الصهيونية بقدر أكبر من الديموقراطية. كما انتقد هذا التيار عدم حرص قيادة المنظمة على القيام بنشاط فعال لبعث الثقافة اليهودية. وفي المقابل، ظلت التيارات الدينية على موقفها المعارض لقيام المنظمة بأية أنشطة ثقافية. وأدَّى احتدام الجدل بين هذه التيارات إلى انسحاب المتدينين بزعامة الحاخام إسحق راينز، وقد أسسوا فيما بعد حركة مزراحي الصهيونية التي آثرت ممارسة نشاطها في إطار الحركة الأم.
المؤتمر السادس:(16/240)
بازل، أغسطس 1903عُقد برئاسة هرتزل، وكان آخر المؤتمرات الصهيونية التي حضرها. وقد ركز هرتزل في خطابه الافتتاحي، كالعادة، على تقديم تقرير إجمالي عن مباحثاته. وقد كانت مباحثاته هذه المرة مع السياسي البريطاني جوزيف تشمبرلين بشأن مشروع الاستيطان اليهودي في شبه جزيرة سيناء. وكان هرتزل قد ألمح لبريطانيا بهذا المشروع كوسيلة لمواجهة الثورة الشعبية المصرية التي رآها هو وشيكة الحدوث، وهو ما يستدعي وجود كيان سياسي حليف لبريطانيا على حدود مصر الشرقية. إلا أن بريطانيا لم تقبل هذه الفكرة وعرضت مشروعاً للاستيطان اليهودي في أوغندا عرف باسم «مشروع شرق أفريقيا» . وقد نصح هرتزل المؤتمر بقبول هذا العرض، إلا أنه ووُجه بمعارضة من أطلقوا على أنفسهم اسم «صهاينة صهيون» بزعامة مناحم أوسيشكين رئيس اللجنة الروسية والذين رفضوا القبول ببديل لاستيطان اليهود في فلسطين. وقد نجح هرتزل رغم ذلك في الحصول على موافقة أغلبية المؤتمر على اقتراحاته وهو ما حدا بالمعارضين إلى الانسحاب من المؤتمر.
وقد تقرَّر إيفاد لجنة للمنطقة المقترحة للاستيطان اليهودي للاطلاع على أحوالها ودراسة مدى ملاءمتها لهذا الغرض. كما تقرَّر إنشاء «الشركة البريطانية الفلسطينية» في يافا لتعمل كفرع لـ «صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار» .
وقد شهد هذا المؤتمر نمواً عددياً ملحوظاً في أعضائه إذ حضره 570 عضواً يمثلون 1572 جمعية صهيونية في أنحاء العالم.
المؤتمر السابع:(16/241)
بازل، أغسطس 1905. انتقلت رئاسة المؤتمر إلى ماكس نوردو بعد وفاة هرتزل، وكانت القضية الأساسية التي طُرحت للنقاش هي مسألة الاستيطان اليهودي خارج فلسطين، وخصوصاً في شرق أفريقيا. وجاء تقرير اللجنة التي أُوفدت إلى هناك ليفيد بعدم صلاحية المنطقة لهجرة يهودية واسعة. إلا أن بعض أعضاء المؤتمر دافع عن ضرورة قبول العرض البريطاني بدون أن تفقد الحركة أطماعها في فلسطين، وسُمِّي أنصار هذا الرأي الذي عبَّر عنه زانجويل باسم «الصهاينة الإقليميون» . غير أن من المُلاحَظ أن غياب هرتزل، واعتراض المستوطنين البريطانيين في شرق أفريقيا على توطين أجانب في إحدى المستعمرات البريطانية، وكذا اعتراض اليهود المندمجين على المشروع، رجَّح إلى حدٍّ بعيد وجهة النظر الرافضة للاستيطان اليهودي خارج فلسطين، الأمر الذي جعل أغلبية المؤتمر تُصوِّت ضد هذا المشروع، وهو ما أدَّى إلى انسحاب الإقليميين وتأسيسهم المنظمة الإقليمية العالمية. واستمرت الأغلبية في تأكيد ضرورة الاستيطان في فلسطين. واكتسب أنصار الصهيونية العملية (الاستيطانية) قوة جديدة من هذا الموقف فتضمنت قرارات المؤتمر أهمية البدء بالاستيطان الزراعي واسع النطاق في فلسطين عن طريق شراء الأراضي من العرب وبناء اقتصاد مستقل لليشوف الاستيطاني داخل فلسطين، وهو أمر يكتسب أهمية خاصة في تاريخ الحركة الصهيونية على ضوء حقيقة أنه جاء عقب بداية وصول موجة الهجرة اليهودية الثانية (1904) إلى فلسطين، وهي الهجرة التي وضعت الأُسس الحقيقية للاستيطان الصهيوني وأسهمت إلى حدٍّ كبير بالاشتراك مع الهجرة الثالثة في تحديد معالمه، وامتد تأثيرهما معاً إلى فلسفة وأبنية الكيان الإسرائيلي عقب تأسيس الدولة. وقد أدخل المؤتمر تعديلاً مهماً على قانون «صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار» بحيث ينص على تنفيذ المشاريع الصهيونية في فلسطين وسورريا وأي قسم آخر من تركيا الآسيوية وفي شبه جزيرة سيناء وجزيرة(16/242)
قبرص. كما جرى انتخاب دافيد ولفسون لرئاسة المنظمة الصهيونية العالمية خلفاً لهرتزل. وقد انتقلت قيادة الحركة الصهيونية من فيينا إلى كولونيا بألمانيا حيث يعيش ولفسون.
المؤتمر الثامن:
لاهاي، أغسطس 1907. عُقد برئاسة ماكس نوردو، وتركزت المناقشات فيه على برامج الاستيطان وإنشاء المستعمرات الزراعية في فلسطين. ولما كانت المنظمة الصهيونية تفتقر إلى مركز في فلسطين للإشراف على الأنشطة الاستيطانية، قرر المؤتمر تأسيس «مكتب فلسطين» ليتولى شراء الأراضي ومساعدة المهاجرين اليهود ودعم الاستيطان الزراعي. كما وافق المؤتمر على تأسيس شركة لشراء واستثمار الأراضي وهي التي سُجلت ـ فيما بعد ـ في بريطانيا باسم «شركة تنمية الأراضي في فلسطين» . وقد ظهر في هذا المؤتمر التيار الصهيوني المسمَّى «الصهيونية التوفيقية» .
وقد جدَّد المؤتمر انتخاب ولفسون رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية. وكان سبب عقد المؤتمر في لاهاي بهولندا هو تزامنه مع مؤتمر السلام الدولي الثاني حتى تُوضَع الحركة الصهيونية في بؤرة الاهتمام الدولي.
المؤتمر التاسع:
هامبورج، ديسمبر 1909. عُقد برئاسة كل من مناحيم أوسيشكين وحاييم وايزمان وناحوم سوكولوف، وهو أول مؤتمر يُعقَد في ألمانيا، وقد أولى اهتماماً واضحاً لبحث النتائج المترتبة على الثورة التركية بالنسبة لمشاريع الاستيطان اليهودي في فلسطين. وشهد المؤتمر زيادة ثقل الصهاينة العمليين ورغبتهم في ابتلاع فلسطين دون انتظار توافر الظروف السياسية الدولية المناسبة. ولهذا، قرر المؤتمر إنشاء مستوطنات تعاونية مثل الكيبوتس والموشاف، كما تصاعدت الأصوات المعارضة لزعامة ولفسون بسبب نظرته التجارية للنشاطات الاستيطانية إذ كان ينظر إلى أهمية هذه الأنشطة طبقاً لقيمتها الاقتصادية، إلا أنه نجح مع ذلك في الاحتفاظ بمنصبه كرئيس للمنظمة الصهيونية.
المؤتمر العاشر:(16/243)
بازل، أغسطس 1911. عُقد برئاسة مناحم أوسيشكين، وقد اتضح فيه تماماً أن المؤتمرات الصهيونية إطار يتسع لوجود الاتجاهات والتيارات الصهيونية كافة، برغم ما يبدو عليها ظاهرياً من تناقضات. ففي الوقت الذي أكد فيه المؤتمر أن المسألة اليهودية لا يمكن أن تحل إلا بالهجرة إلى فلسطين، وأن المهمة الملحة للمنظمة الصهيونية العالمية هي تشجيع وتنظيم الهجرة إلى فلسطين، فقد نوقشت أيضاً مسألة إحياء وتدعيم الثقافة العبرية. كما سجل الصهاينة العمليون خلال هذا المؤتمر انتصاراً جديداً، حيث اضطر ولفسون أمام المعارضة المتنامية للاستقالة من منصبه وتم اختيار أوتو واربورج (أحد زعماء الصهيونية العملية) رئيساً للمنظمة الصهيونية. كما أن هذا المؤتمر كان بداية صعود نجم ناحوم سوكولوف حيث اختير لعضوية اللجنة التنفيذية للمنظمة. وكل هذا يعني استيلاء يهود شرق أوربا على المنظمة وأفول نجم يهود وسط أوربا (الألمان) الذين طوَّروا الأطروحات الصهيونية وأسسوا المنظمة وأداروها.
المؤتمر الحادي عشر:
فيينا، سبتمبر 1913. عُقد برئاسة ديفيد ولفسون. وهو آخر المؤتمرات الصهيونية قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى. وقد تمت فيه الموافقة بشكل مبدئي على إنشاء جامعة عبرية في القدس، وجاء ذلك تأكيداً لنفوذ وايزمان المتزايد حيث كان هو وأوسيشكين وبوبر من أبرز دعاة المشروع. كما أعلن المؤتمر تشجيعه للجهود الرامية لشراء وتنمية الأراضي في فلسطين. كما أصدر المؤتمر قراراً يتناول الهجرة اليهودية إلى فلسطين كواجب والتزام صهيوني على كل من يملك القدرة المادية على خلق مصالح اقتصادية ملموسة في فلسطين. وأشار القرار إلى أن كل يهودي يجب عليه أن يضع مسألة الاستيطان في فلسطين كجزء من برنامج حياته وسعيه لتحقيق مثاليته وكماله الخلقي.
المؤتمر الثاني عشر:(16/244)
كارلسباد، سبتمبر 1921. عُقد برئاسة ناحوم سوكولوف وهو أول مؤتمر تعقده الحركة الصهيونية بعد نجاحها في استصدار وعد بلفور من بريطانيا عام 1917 واحتلال الجيوش البريطانية لفلسطين، الأمر الذي كان موضع ترحيب شديد من المؤتمر باعتباره خطوة في طريق تحقيق المشروع الصهيوني. كما تمت أيضاً مناقشة نشاطات الصندوق التأسيسي اليهودي الذي أنشئ عام 1920 خلال مؤتمر استثنائي للمجلس الصهيوني العام في لندن. كما قرَّر المؤتمر تأسيس المجلس الاقتصادي المالي ليعمل كهيئة استشارية وليشرف على المؤسسات الاقتصادية والمالية للحركة الصهيونية. ومن الغريب أن المؤتمر، برغم هذا التخطيط الصهيوني، قد أعلن أن الصهاينة يكافحون من أجل العيش في ظل علاقات انسجام واحترام متبادل مع الشعب العربي، كما أن المجلس التنفيذي للمنظمة ناشد المنظمة أن تحقق تفاهماً صادقاً مع الشعب العربي. ونظراً لازدياد أهمية الدور البريطاني بالنسبة للحركة الصهيونية، فقد قرر المؤتمر أن يكون للمجلس التنفيذي للمنظمة الصهيونية العالمية مقران؛ أحدهما في لندن والآخر في القدس. واختير ممثل العمال اليهود في فلسطين جوزيف سبرنزاك رئيساً للجنة التنفيذية في القدس بينما اختير سوكولوف رئيساً للجنة التنفيذية بأكملها. وقد صدَّق المؤتمر على قرارات مؤتمر لندن الاستثنائي عام 1920 بانتخاب وايزمان رئيساً للمنظمة الصهيونية. وهكذا حُسم الصراع الذي دار في المؤتمر حول أساليب الاستيطان بين صهاينة الولايات المتحدة بزعامة لويس برانديز وصهاينة أوربا بزعامة وايزمان لصالح وايزمان.
المؤتمر الثالث عشر:(16/245)
كارلسباد، أغسطس 1923. عُقد بعد موافقة عصبة الأمم على فرض الانتداب البريطاني على فلسطين. وقد أعلن المؤتمر ترحيبه بهذه الخطوة على ضوء التزام بريطانيا (في البند الرابع من صك الانتداب) بالاعتراف بوكالة يهودية تتمتع بالصفة الاستشارية إلى جانب حكومة الانتداب لها سلطة القيام بتنفيذ المشاريع الاقتصادية والاستيطانية، وبذلك التزمت بريطانيا بالتعاون مع تلك الوكالة في كل الأمور المتعلقة بإقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين.
وقد ناقش المؤتمر اقتراح وايزمان الرامي إلى توسيع الوكالة اليهودية بحيث تضم في مجلسها الأعلى ولجانها عدداً من المموِّلين اليهود في العالم، وخصوصاً غير الصهاينة منهم. وكان الغرض من ذلك تعزيز المصادر المالية للمنظمة الصهيونية وضمان سرعة تنفيذ المشاريع الصهيونية اعتماداً على المراكز الرسمية الحساسة التي يشغلها هؤلاء المموِّلون بالإضافة إلى تدعيم المركز التفاوضي للمنظمة مع الحكومات الأوربية، والوقوف في وجه الرفض اليهودي للصهيونية وسياستها بادعاء أن المنظمة تمثل يهود العالم كافة دون تمييز. وقد لقي الاقتراح معارضة شديدة كان أبرز ممثليها جابوتنسكي. ولهذا، اكتفى المؤتمر باتخاذ قرار بتوجيه الدعوة إلى اجتماع لبحث توسيع الوكالة اليهودية عملاً بنص المادة الرابعة من صك الانتداب.
المؤتمر الرابع عشر:(16/246)
فيينا، أغسطس 1925. حضر المؤتمر وفد من الصهاينة التصحيحيين برئاسة جابوتنسكي الذي طالب بتبني سياسة صهيونية أكثر إيجابية، وهو يعني في الواقع سياسة أكثر عنفاً ونشاطاً في تنفيذ مشروعات الاستيطان، كما عارض السماح لغير الصهاينة من اليهود بالانضمام إلى الوكالة اليهودية. وقد تناول المؤتمر بالتقييم تجربة السنوات الخمس الأولى من الانتداب، ومدى نجاح مشاريع الاستيطان المرتبطة بموجة الهجرة الرابعة القادمة من بولندا. كما أدخل المؤتمر تعديلاً على رسم العضوية (الشيقل) إذ أبطل الأساس الحزبي للشيقل وأحل محله الشيقل الموحد، كما رفع عدد دافعي الشيقل الذين يحق لهم انتخاب مندوب عنهم في المؤتمر، إلا أن ذلك لم يؤد إلى تخفيف حدة المعارضة.
المؤتمر الخامس عشر:
بازل، أغسطس/سبتمبر 1927. عُني المؤتمر بقضية أساسية هي بحث الأوضاع الاقتصادية السيئة التي برزت في المقام الأول في شكل تفشِّي ظاهرة البطالة في التجمع الاستيطاني الصهيوني في تلك الفترة، وهو ما أدَّى إلى تصاعُد موجة الهجرة من فلسطين إلى خارجها. وقد نظرت قيادة الحركة الصهيونية إلى هذه الظاهرة بانزعاج شديد، وجعلت هذا المؤتمر ميداناً لبحث الوسائل الكفيلة بمنع تفاقمه.
المؤتمر السادس عشر:
زيورخ، يوليه/أغسطس 1929. كان الإنجاز الأساسي لهذا المؤتمر هو إعداد دستور الوكالة اليهودية التي نص عليها صك الانتداب البريطاني على فلسطين، وتحقَّق في هذا الصدد ما نادى به وايزمان من ضرورة توسيع هذه الوكالة لتشمل اليهود غير الصهاينة، وهو الأمر الذي عارضه جابوتنسكي بشدة. كما كان المؤتمر بداية لبروز شخص ديفيد بن جوريون. وفي نهاية المؤتمر تجدَّد انتخاب وايزمان رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية، وسوكولوف رئيساً لمجلسها التنفيذي.
المؤتمر السابع عشر:(16/247)
بازل، يونيه/يوليه 1931. عُقد برئاسة ليو موتزكين، وقد أعلن المؤتمر احتجاجه على مقترحات اللورد البريطاني باسفيلد، الذي أوصى عقب المظاهرات العربية في فلسطين سنة 1929 بوضع بعض القيود على الهجرة اليهودية وعلى عمليات شراء الأراضي العربية. وقد اضطر وايزمان إلى الاستقالة من رئاسة المنظمة الصهيونية أمام ضغوط المعارضة التي احتجت على سياسته الرامية إلى التحالف غير المشروط مع بريطانيا. وقد انتُخب سوكولوف رئيساً للمنظمة خلفاً لوايزمان. وأثار التصحيحيون بقيادة جابوتنسكي أزمة حينما طالبوا المؤتمر بأن يعلن في قرار واضح لا لبس فيه أن إقامة دولة يهودية في فلسطين هو الهدف النهائي للحركة الصهيونية، إلا أن الأحزاب الصهيونية العمالية قد رفضت أن يُطرَح مثل هذا القرار للتصويت لخطورة النتائج المترتبة على مثل هذا الإعلان المبكر عن الأهداف الصهيونية. وقد أيَّدت الأغلبية هذا الرأي، وهو ما أدَّى إلى انسحاب جابوتنسكي وأنصاره وتكوين المنظمة الصهيونية الجديدة.
المؤتمر الثامن عشر:
براغ، أغسطس/سبتمبر 1933. تكمن أهمية هذا المؤتمر في أنه جاء عقب وصول هتلر إلى الحكم في ألمانيا. وقد درس المؤتمر برنامجاً واسعاً لتوطين اليهود الألمان في فلسطين. وقد حضر المؤتمر بعض التصحيحيين بزعامة ماير جروسمان، الذين انشقوا على قيادة جابوتنسكي وألفوا حزب الدولة اليهودية وأكدوا اعترافهم بسيادة المنظمة الأم في كل الأحوال. كما شهد المؤتمر صراعاً واضحاً بين حزب الماباي الذي تأسس سنة 1930 وبين التصحيحيين، وهو الأمر الذي يُعَد الأساس التاريخي للصراع بين الماباي وحزب حيروت بعد إنشاء دولة إسرائيل (ثم بين المعراخ وليكود) . وقد جدَّد المؤتمر انتخاب سوكولوف رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية. وفي هذا المؤتمر نجح الصهاينة العماليون (الاستيطانيون) في تمرير اتفاقية الهعفراه التي كان يفكر قادة المستوطنين في توقيعها مع النازي.(16/248)
المؤتمر التاسع عشر:
لوسيرن (سويسرا) ، أغسطس/سبتمبر 1935. عُقد برئاسة وايزمان، وكان ناحوم جولدمان أحد نواب الرئيس. وقد قاطع التصحيحيون هذا المؤتمر الذي انصب اهتمامه على أوضاع اليهود في ألمانيا وكيفية ترتيب إجراءات هجرتهم إلى فلسطين، وكذلك تنمية نشاطات الصندوق القومي اليهودي. وقد رفض المؤتمر الاقتراح الذي تقدَّمت به بريطانيا لإنشاء المجلس التشريعي في فلسطين. كما تقرر إعادة وايزمان لرئاسة المنظمة الصهيونية بينما انتُخب سوكولوف رئيساً فخرياً للمنظمة الصهيونية والوكالة اليهودية، كما أُعيد انتخاب بن جوريون لعضوية اللجنة التنفيذية.
المؤتمر العشرون:(16/249)
زيوريخ، أغسطس 1937. عُقد برئاسة مناحم أوسيشكين. وقد تناول المؤتمر تقرير لجنة حول تقسيم فلسطين والذي كان قد أُعلن قبل شهر من انعقاد المؤتمر. وقد انقسمت الآراء حول التقرير ودارت المناقشة حول المقارنة بين المزايا النسبية لإقامة الدولة الصهيونية المستقلة وبين ما تصوَّرت بعض قيادات الحركة الصهيونية أنه تضحية من جانبها بالأقاليم المخصصة للعرب وفقاً لهذا المشروع وخسارة للجزء الأعظم من فلسطين. فمن جانبهما، أعلن وايزمان وبن جوريون تأييدهما لإجراء مفاوضات مع الحكومة البريطانية بهدف التوصل إلى خطة تُمكِّن يهود فلسطين من تكوين دولة يهودية مستقلة ومن تحسين أحوال اليهود في البلاد الأخرى في آن واحد. وعلى الجانب الآخر، قاد كاتزنلسون وأوسيشكين المعارضة الصارمة، ورفضا مبدأ التقسيم أصلاً، انطلاقاً من أن الشعب اليهودي لا يملك أن يتنازل عن حقه في أي جزء من وطنه التاريخي، ولذا فإن الدولة اليهودية (أي الصهيونية) لابد أن تشمل فلسطين كلها. وقد توصَّل المؤتمر إلى حل وسط تمثَّل في اعتبار مشروع التقسيم غير مقبول، إلا أنه فوَّض المجلس التنفيذي في التفاوض مع الحكومة البريطانية لاستيضاح بعض عبارات الاقتراح البريطاني التي اعتُبرت غامضة في ظاهرها، وكان الهدف الحقيقي هو ممارسة الضغط على بريطانيا لتبنِّي موقف أكثر تعبيراً عن المصالح الصهيونية مع استغلال نشوء ظرف تاريخي جديد هو اشتعال الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 ـ 1939) .
المؤتمر الحادي والعشرون:(16/250)
جنيف، أغسطس 1939. عُقد برئاسة أوسيشكين. وكانت القضية الأساسية المطروحة للمناقشة أمامه هي الموقف من الكتاب الأبيض البريطاني الذي كانت بريطانيا قد أصدرته لتوها لاسترضاء العرب بوضع بعض القيود على حجم الهجرة اليهودية ومساحات الأرض التي يجوز شراؤها من جانب اليهود، وذلك بعد أن نجحت في قمع الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 ـ 1939) بالتعاون مع الحركة الصهيونية ومنظماتها الاستيطانية في فلسطين. وقد استند هذا الرفض الصهيوني إلى مناخ الحرب العالمية الثانية التي بدأت نذرها تلوح في الأفق بما يعنيه هذا من شدة احتياج بريطانيا لمساعدة الحركة الصهيونية.
المؤتمر الثاني والعشرون:
بازل، ديسمبر 1946. عُقد برئاسة وايزمان، وقد حضر التصحيحيون هذا المؤتمر. وكان المناخ الذي انعقد في ظله المؤتمر هو محاولة الضغط على بريطانيا لخلق الدولة الصهيونية، ولذا فقد تزعَّم التصحيحيون الاتجاه الداعي إلى تبنِّي سياسة متشددة إزاء بريطانيا انطلاقاً من الاعتقاد بأنها لم تنفذ ما تعهدت به وفق نص الانتداب. كما طالبوا بتدعيم حركة المقاومة العبرية التي هاجمت بعض المنشآت البريطانية. وفي مواجهة هذا الموقف، تبنَّى وايزمان رأياً يدعو إلى الدخول في حوار مع بريطانيا حرصاً على استمرار علاقات طيبة مع الدولة التي تملك إمكانية فتح أبواب فلسطين لهجرة يهودية واسعة. وإزاء هذا الصراع قدَّم وايزمان استقالته من رئاسة المنظمة الصهيونية، وأخفق المؤتمر في اختيار بديل له. وقد اختير ناحوم جولدمان رئيساً للجنة التنفيذية في نيويورك، وبيرل لوكر رئيساً لهذه اللجنة في القدس.
المؤتمر الثالث والعشرون:(16/251)
القدس، أغسطس 1951. أول مؤتمر صهيوني يُعقَد في القدس بعد قيام الدولة الصهيونية، وكان برئاسة ناحوم جولدمان. ولذا، فقد كان من الطبيعي أن تكون إحدى المسائل الأساسية موضوع الدراسة في المؤتمر هي العلاقة بين الدولة الصهيونية الناشئة والحركة الصهيونية التي خلقتها متمثلة في المنظمة الصهيونية العالمية، وكيفية تحديد اختصاصات كل منهما تفادياً للتضارب أو الازدواج. وقد ترتَّب على توصية المؤتمر بتنظيم هذه العلاقة حيث أصدرت الحكومة الإسرائيلية قانوناً بهذا الشأن في نوفمبر 1952 أعطت للمنظمة بموجبه وضعاً قانونياً فريداً يخوِّل لها حق جَمْع الأموال من يهود العالم وتمويل الهجرة إلى إسرائيل بل حتى الإشراف على توطين واستيعاب المهاجرين داخل المجتمع الإسرائيلي والمساعدة في تطوير الاقتصاد وما تستدعيه ممارسة هذه الصلاحيات جميعاً من التمتع بحقوق التعاقد والملكية والتقاضي، وهو ما دفع بعض الفقهاء إلى اعتبار هذا الوضع نموذجاً شاذاً لمنظمة خاصة ذات صفة دولية تمارس صلاحيات واسعة على إقليم دولة معينة بموافقتها وعلى أراضي الدولة الأخرى نيابة عنها. وقد أدخل المؤتمر تعديلات جوهرية على برنامج بازل لمواجهة الأوضاع الجديدة التي ترتبت على تحقيق الهدف الرئيسي لهذا البرنامج أي تأسيس الدولة الصهيونية، وعرف هذا البرنامج الجديد باسم «برنامج القدس» .
المؤتمر الرابع والعشرون:(16/252)
القدس، أبريل/مايو 1956. عُقد برئاسة سير نيزاك. وقد كان هذا المؤتمر بمنزلة مظاهرة دعائية تمهد للعدوان الإسرائيلي على مصر والذي أعقب انفضاض جلسات المؤتمر بخمسة شهور، فقد أشار المؤتمر في بيانه السياسي الختامي إلى أنه يدرك تماماً المخاطر التي تهدِّد دولة إسرائيل بسب النوايا العدوانية للدول العربية التي تتلقَّى السلاح من الشرق والغرب. وناشد المؤتمر يهود العالم جميعاً الإسراع بتحمُّل مسئولياتهم التاريخية تجاه إسرائيل، وتعبئة كل الإمكانيات لضمان قوتها وأمنها ورخائها، وضمنه تدفُّق الهجرات اليهودية واسعة النطاق إلى إسرائيل، وضمان توفُّر نظام متكامل وحديث لاستيعاب المهاجرين الجدد في إسرائيل، وهو ما يعني في النهاية تكريس المشروع الاستيطاني الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني. وفي نهاية المؤتمر، تم انتخاب جولدمان رئيساً للمنظمة الصهيونية ورئيساً للمجلس التنفيذي للوكالة اليهودية بعد أن ظل هذا المنصب شاغراً منذ استقالة وايزمان عام 1946.
المؤتمر الخامس والعشرون:(16/253)
القدس، ديسمبر 1960/يناير 1961. عُقد برئاسة ناحوم جولدمان، وقد اتسم هذا المؤتمر بانفجار خلاف واضح بين بن جوريون (رئيس الوزراء وقتئذ) وجولدمان حول تكييف العلاقة بين إسرائيل والمنظمة الصهيونية. وهنا تبدو محاولة الصفوة السياسية الإسرائيلية وضع قبضتها على المنظمة الصهيونية، فقد أشار بن جوريون إلى ضرورة أن تكون المنظمة إحدى أدوات السياسة الخارجية الإسرائيلية في تحقيق الإشراف على يهود العالم وتعبئة إمكاناتهم لتدعيم الكيان الصهيوني، بينما كان جولدمان يرى أن المنظمة هي المسئولة دائماً عن الحركة الصهيونية، سواء داخل حدود إسرائيل (الكيان الذي خلقته المنظمة) أو خارجها. وبالإضافة إلى هذا، كانت قضية الهجرة اليهودية إلى إسرائيل هي ميدان الخلاف الثاني، خصوصاً بعد أن كادت الهجرة اليهودية من أوربا الغربية وأمريكا لإسرائيل أن تتوقف نتيجة تصاعُد إمكانات اندماج اليهود في مجتمعاتهم. وإزاء هذا الوضع، أكد بن جوريون أن الهجرة إلى إسرائيل واجب ديني وقومي على كل اليهود، ذلك لأن اليهودي لا يكتسب كماله الخلقي ومثاليته ولا يعبِّر عن إيمانه بالصهيونية إلا بالوجود على أرض الدولة اليهودية، أي الدولة الصهيونية، على حين رأى جولدمان أن بمقدور اليهودي أن يكون صهيونياً مخلصاً مع استمراره في الإقامة في بلده الأصلي.
وقد انتهى المؤتمر إلى حل وسط يتمثل في ضرورة تدعيم التعليم اليهودي في أنحاء العالم وتنمية الثقافة اليهودية لدى يهود المجتمعات الغربية للحيلولة دون انصهارهم في مجتمعاتهم الأصلية. كما أعاد المؤتمر انتخاب جولدمان رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية.
المؤتمر السادس والعشرون:(16/254)
القدس، ديسمبر 1964/يناير 1965. عُقد برئاسة جولدمان الذي أشار في خطاب الافتتاح إلى ضرورة بدء عهد جديد من التعاون بين إسرائيل والجماعات اليهودية في العالم (الدياسبورا) ، كما أكد مسئولية دولة إسرائيل في مكافحة خطر اندماج يهود الدياسبورا فكرياً وثقافياً واجتماعياً في المجتمعات التي يقيمون فيها، وهو الخطر الذي اتسمت الحركة الصهيونية دائماً بحساسية دائمة ومفرطة تجاهه والذي رأت فيه تهديداً لها لا يقل عن ظاهرة العداء لليهود. ولمواجهة هذا الخطر، أوصى المؤتمر بأن تُولي المنظمة الصهيونية بالتعاون مع الحكومة الإسرائيلية قضية تدعيم اللغة العبرية والقيم القومية التقليدية لدى يهود العالم اهتماماً متزايداً. ونظراً لهبوط معدلات الهجرة إلى إسرائيل في تلك الفترة هبوطاً شديداً، شهد هذا المؤتمر بداية الضغوط الصهيونية بشأن ما عُرف بقضية اليهود السوفييت. وقد جدَّد المؤتمر انتخاب جولدمان رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية.
المؤتمر السابع والعشرون:(16/255)
القدس، يوليه 1968. أول مؤتمر صهيوني يتم عقده بعد أن دخلت التوسعية الإسرائيلية مرحلة متقدمة من مراحل التعبير عن نفسها في حرب يونيه 1967. وقد طُرحت قضية الهجرة اليهودية إلى إسرائيل كقضية محورية في هذا المؤتمر للدفاع عما استطاعت إسرائيل تحقيقه من تَوسُّع بالقوة المسلحة في حرب يونيه 1967، ولتشجيع سياسة الاستيطان في الأراضي المحتلة، ولتطبيق السياسة التي أعلن عنها ديان باسم «سياسة خَلْق الحقائق الجديدة» . والواقع أن هذا يؤكد ما اعتبره جولدمان المهام الأساسية التي تواجه الحركة الصهيونية والتي كانت مسألة الهجرة في طليعتها. وفي هذا الصدد، صدَّق المؤتمر على قرار الحكومة الإسرائيلية بإنشاء وزارة لاستيعاب المهاجرين. وهنا يبدو أن تَوسُّع سنة 1967 قد اختصر المسافة بين جولدمان وبين بن جوريون وتلامذته ديان وبيريز، وجعل القضية المطروحة عليهم جميعاً بإلحاح هي كيفية خلق واقع سكاني جديد في الأراضي العربية المحتلة. ومن المثير للدهشة بعد هذا أن يناشد المؤتمر الشعوب العربية والقادة العرب التعجيل بإحلال السلام في الشرق العربي، وأن يدعو بيانه الختامي الدول المحبة للسلام أن تقدِّم لإسرائيل أسلحة دفاعية ضد العرب الذين يهددونها بخطر الإبادة. وفي نهاية المؤتمر، قدَّم جولدمان استقالته من رئاسة المنظمة الصهيونية ولم يتم اختيار خلف له.
المؤتمر الثامن والعشرون:(16/256)
القدس، يناير 1972. عُقد برئاسة أرييه بينكوس الذي انتُخب أيضاً رئيساً للجنة التنفيذية. وقد كان واضحاً منذ البداية تصاعد النفوذ الإسرائيلي الرسمي في المؤتمر. وقد أعلن جولدمان اعتراضه على الحملة الإسرائيلية على الاتحاد السوفيتي حول قضية هجرة اليهود السوفييت إلى إسرائيل. ويمكن القول بأن السمة الأساسية للمناخ الذي انعقد في ظله المؤتمر هي الإحساس بتفاقم التناقضات العرْقية والاجتماعية في إسرائيل، ولعلها المرة الأولى التي يتطرق فيها مؤتمر صهيوني إلى الناحية الاجتماعية داخل الكيان الصهيوني، بحيث خصص إحدى لجانه لدراستها، وخصوصاً بعد ظهور حركة الفهود السود، كأحد مظاهر احتدام التناقض بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين. ولعل هذا هو السبب في رفض قيادات المؤتمر الصهيوني إعطاء الفرصة للفهود السود كي يتحدثوا أمام المؤتمر وذلك خشية ما يمكن أن يحدث من آثار سلبية على قضية الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، وهي القضية التي استمر المؤتمر في تأكيد محوريتها وتأكيد ضرورة كفالة الظروف الملائمة لتشجيعها مثل الاستيعاب والاستيطان والحيلولة دون احتدام التناقضات الاجتماعية والسلالية داخل إسرائيل. وقد دعا المؤتمر إلى ضرورة دعم التعليم اليهودي والثقافة الصهيونية لدى الجماعات اليهودية في العالم. وقد استغلت بعض القيادات الإسرائيلية (بنحاس سابير ـ إيجال آلون) المؤتمر لتأكيد أهمية الهجرة للمطالبة بمزيد من المساعدات المالية من الجماعات اليهودية، وذلك لتأمين استيعاب موجات الهجرة إلى إسرائيل عن طريق مشروعات الاستيطان في الأراضي العربية المحتلة، وهي المشروعات التي أشار إيجال آلون إلى أنها تسهم في تجديد روح الريادة في أوساط الشباب، وهو ما يعني تحقيق المزيد من إضفاء الطابع الصهيوني على الصابرا والمهاجرين الجدد، وخصوصاً بعد أن لاحظ المؤتمر عزوف الشباب عن الصهيونية ومُثُلها.
المؤتمر التاسع والعشرون:(16/257)
القدس، فبراير/مارس 1978. عُقد برئاسة أرييه دولزين الذي انتُخب رئيساً للجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية. وشارك في هذا المؤتمر ـ لأول مرة ـ ممثلون ومراقبون من خمس منظمات يهودية عالمية هي: الاتحاد العالمي لليهود الشرقيين ـ منظمة مكابي العالمية ـ الرابطة العالمية لليهود التقدميين ـ المجلس العالمي للمعابد المحافظة ـ المؤتمر العالمي للمعابد الأرثوذكسية.
وجاء المؤتمر عقب صعود ليكود إلى الحكم، ففقد التجمع العمالي «المعراخ» مكانته كقوة أولى في الحركة الصهيونية، كما تغيَّرت التحالفات داخل المؤتمر لصالح الليكود حيث انفرط الحلف التقليدي بين العمل ومزراحي نتيجة انضمام الأخير إلى تحالف الليكود. وأبدت الكونفدرالية العالمية للصهيونية العمومية استعدادها للانضمام للائتلاف الجديد. وفي المقابل، نشأ تحالف بين المعراخ وممثلي اليهود الإصلاحيين. وقد انعكس هذا التحول على مناقشات المؤتمر، فشهدت مداولات تشكيل اللجنة التنفيذية خلافات حادة بين الكتلتين على توزيع مقاعد اللجنة، كما تفجرت الخلافات بينهما عند مناقشة مسألة تمثيل اليهود الشرقيين بشكل مناسب في أجهزة المنظمة الصهيونية.
وعكست مناقشات المؤتمر جو الأزمة العامة التي تعيشها الحركة الصهيونية والتي تجسَّدت في عدد من الظواهر البارزة لعل أهمها تَراجُع معدلات الهجرة إلى الكيان الصهيوني وتزايد معدلات النزوح والتساقط، بالإضافة إلى الإخفاقات المستمرة في مجال التعليم اليهودي وانفصال الشباب اليهودي بشكل متزايد عما يُسمَّى «التراث اليهودي» وارتفاع نسبة الزواج المُختلَط، وهو ما اعتبره أعضاء المؤتمر كارثة سكانية تزداد حدتها يوماً بعد يوم.(16/258)
وأولى المؤتمر التوسع في إقامة مستوطنات جديدة اهتماماً بالغاً، وكذا العمل على سرعة استيعاب المهاجرين في المستوطنات القائمة. وبشكل عام، تميَّزت المناقشات بالتكرار والصخب والتهديد بالانسحاب من جانب هذا التيار أو ذاك، ولهذا فقد أُحيلت القرارات إلى محكمة المؤتمر للبت فيها ولم يتمكن المؤتمر من إعلان مقرراته في جلسته الختامية.
المؤتمر الثلاثون:
القدس، ديسمبر 1982. عُقد برئاسة آرييه دولزين، وهو المؤتمر الأول بعد توقيع معاهدة السلام بين الحكومتين المصرية والإسرائيلية، وقد جاء بعد أشهر قليلة من الغزو الصهيوني للبنان وما أسفرت عنه الحرب اللبنانية من تغيُّرات جوهرية في خريطة الصراع العربي الصهيوني. كما صاحب المؤتمر تصاعُد الرفض داخل إسرائيل وخارجها لسياسات حكومة الليكود.
وقد تركزت مناقشات المؤتمر حول المشاكل التقليدية للحركة الصهيونية وأهمها مشكلة النزوح والتساقط وإخفاق جهود الدولة والمنظمة الصهيونية في جَلْب المهاجرين اليهود إلى إسرائيل، بالإضافة إلى عدم إقبال الشباب على التعليم اليهودي. وكالعادة، لم يتوصل المؤتمر إلى تعريف اليهودي ولا تعريف الصهيوني، وهو ما دفع الكثيرين من أعضاء المؤتمر إلى التعبير عن خيبة أملهم إزاء فشل المؤتمرات الصهيونية المتوالية في مواجهة أيٍّ من المشاكل الملحة للحركة الصهيونية.
وبالنسبة للاستيطان، تقدَّم مندوبو الليكود ومزراحي وهتحيا بمشروع قرار ينص على حق الشعب اليهودي في أرض إسرائيل كحق أبدي غير قابل للاعتراض. واختلف معهم مندوبو المعراخ في تحديد أفضلية مناطق الاستيطان، حيث يرى هؤلاء ضرورة إعطاء الأولوية للتطور الاستيطاني الواسع في المناطق التي لا توجد بها كثافة سكانية كبيرة وفي المناطق التي تشكل أهمية حيوية لأمن إسرائيل.(16/259)
وكاد المؤتمر أن يسفر عن انشقاق في الحركة الصهيونية عندما حاول الليكود تشكيل اللجنة التنفيذية بدون حركة العمل وهو ما أدَّى إلى تشابك المندوبين بالأيدي والكراسي وتهديد حركة العمل بتعطيل المؤتمر. وتعرَّض المؤتمر لهزة أخرى حين قدَّم المراقب المالي للمنظمة تقريراً اتهم فيه كبار المسئولين بإساءة استخدام الأموال التي يتبرع بها يهود العالم.
وتعرَّض المؤتمر لقضية الفجوة الطائفية بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين في إسرائيل، واتهم اتحاد اليهود الشرقيين كلاًّ من وزير الخارجية ورئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية بتجاهل ممثلي الاتحاد عمداً.
وقد أعاد المؤتمر انتخاب دولزين رئيساً للجنة التنفيذية للمنظمة.
المؤتمر الحادي والثلاثون:(16/260)
القدس، ديسمبر 1987. وقد ناقش المؤتمر كالعادة قضية «تعريف اليهودي» وأصدر قراراً في هذا الصدد بمنح تيارات الديانة اليهودية كافة حقوقاً متساوية وهو قرار بلا معنى. وناقش المؤتمر أيضاً قضية حدود الدولة ولم يصل إلى أية قرارات في هذا الصدد كالعادة أيضاً. ولم يتم الموافقة على مشروع القرار الذي قدمته حركة العمل الداعي لإنهاء السيطرة على 1.3 مليون عربي. وحتى بعد تعديله وفوزه بالأغلبية، لم يَصدُر القرار لأن اليمين هدد بالانسحاب. ومن الواضح أن قادة يهود العالم لم يَعُد لهم أي تأثير على سياسة الحكومة الإسرائيلية. وأشارت قرارات المؤتمر إلى تدنِّي الهجرة إلى إسرائيل وازدياد النزوح منها. وطرح البعض مبدأ ثنائية المركزية (أي أن يكون ليهود العالم مركزان، واحد في إسرائيل والثاني في الدياسبورا) بعد فشل برنامج القدس في تحقيق أهدافه. والدلالة العملية لهذا المبدأ هو أن إسرائيل لم تَعُد مركزاً روحياً لليهود كما تدَّعي الحركة الصهيونية بل إن فكرة المركز الروحي نفسها قد اشهرت إفلاسها. وناقش المؤتمر موضوع الفلاشاه ويهود سوريا. وكان التركيز في القرارات على التربية اليهودية والصهيونية رغم أن القرارات عكست أيضاً تمزقاً شديداً، حتى أن البعض ناقش مرة أخرى مبرر استمرار بقاء المنظمة الصهيونية بعد إنجاز هدف إقامة الدولة العبرية.
وقد عكس المؤتمر الانحسار الأيديولوجي للصهيونية خصوصاً أنه جاء بعد نشوب انتفاضة الشعب الفلسطيني في الأرض العربية المحتلة وانكشاف الأزمة العميقة في الدولة الصهيونية.(16/261)
ومما يجدر ذكره أنه، خلال المؤتمر الحادي والثلاثين، لم تَعُد القوة المهيمنة على حكومة المستوطنين هي نفسها القوة المهيمنة على المنظمة، إذ انتقل ميزان القوى ولأول مرة منذ عام 1948 إلى كتلة تمثل التحالف بين بعض الصهاينة الاستيطانيين وحركة العمل الصهيونية (حزب العمل وحزب مابام وراتس وياحد) من جهة، والحركات الصهيونية العالمية (التوطينية) مثل الكونفدرالية العالمية للصهيونيين المتحدين والحركة الصهيونية الإصلاحية وحركة المحافظين من جهة أخرى، حيث استحوذ هذا التحالف على 308 مندوبين من مجموع 530 مندوباً. وقد حدث هذا الانقلاب بعد أن شعر الإصلاحيون والمحافظون بأن اليمين الصهيوني (الليكود وغيره) ، المتحالف مع الأحزاب الدينية، سيعمل على تمرير قانون «من هو اليهودي» ، ذلك إلى جانب الاستياء المتراكم من ممارسات حكومة الليكود الإسرائيلية نتيجة سياستها الداخلية والخارجية. وقد انتُخب سيمحا دينيتز رئيساً للجنة التنفيذية للمنظمة خلفاً لآرييه دولزين.
المؤتمر الثاني والثلاثون:
القدس، يوليه 1992 خيَّم على المؤتمر إحساس عميق بأن "المولد الصهيوني" قد أوشك على الانفضاض، وأن المنظمة الصهيونية أصبحت، "عظاماً جافة" و"هيكلاً بدون وظيفة" (ميزانية المنظمة 49 مليون دولار مقابل ميزانية الوكالة اليهودية التي بلغت 450 مليون دولار) . وقد تساءل مراسل الإذاعة الإسرائيلية: "هل ما زالت هذه المؤسسة قائمة؟ " وقد استُنفد معظم الوقت في تدبير التعيينات في المناصب والصراع على الوظائف رغم أنه كان قد وُوفق على معظمها قبل المؤتمر.(16/262)
وقد لوحظ أن معظم التعيينات تمت على أساس سياسي وليس على أساس الكفاءة، كما لوحظ أن أعضاء المؤتمر لم يتم انتخابهم إذ تم تعيينهم عن طريق عقد الصفقات. وقد أجمع المراقبون على أن المنظمة تعاني تضخُّم البيروقراطية والإسراف والابتعاد عن الأيديولوجية الصهيونية. وقد فُسِّر ذلك على أساس تعاظم دور المؤسسات الصهيونية غير السياسية في الحركة الصهيونية، وخصوصاً تلك التي تنتمي إلى التيارات الدينية المختلفة. ورغم الحديث عن ضرورة تشجيع الهجرة، إلا أن ميخائيل تشلينوف (رئيس المنظمة العليا لمهاجري الاتحاد السوفيتي سابقاً "فاعد") لم يُسمَح له بأن يلقي كلمته، وذلك لأن أعضاء الوفد السوفيتي حضروا باعتبارهم مراقبين ليس لهم حق الانتخاب، وقد انسحب أعضاء الوفد لهذا السبب.
المؤتمر الثالث والثلاثون:
القدس: ديسمبر 1997 -اجتمع هذا المؤتمر متأخرا عن موعده وقد كان المفروض أن يعقد في 1996. وقد تم تأخيره حتى يتزامن مع الذكرى المئوية للمؤتمر الصهيونى الأول! حضر المؤتمر 750 مندوبًا من يهود العالم (حوالى ثلاثة أربعهم من اليهود الإصلاحيين أو المحافظين) و 190 مندوبًا عن المستوطنين الصهاينة. وقد وصل عيزر وايزمان، رئيس الدولة، وبنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء، متأخرين عن موعدهما. ولم تعر الصحف الإسرائيلية المؤتمر اهتماما كبيرا، ونشرت أخباره فى مقابل صفحة الوفيات!(16/263)
وكالمعتاد كان هناك كثيرمن الاقتراحات (فصل الدين عن الدولة ـ تقوية الديموقراطية الإسرائيلية ـ حذف مفهوم «نفى الدياسبورا على أن يحل محله مفهوم «مركزية إسرائيل فى الحياة اليهودية» ـ مفهوم التعددية يحل محل مفهوم «أتون الصهر» أو «مزج المنفيين» ، بمعنى أن تحتفظ كل جماعة يهودية مهاجرة إلى فلسطين المحتلة بملامحها الإثنية والدينية الأساسية التى أتت بها من بلدان المهجر ـ تغيير الموقف من النازحين (يوريديم) ـ الاهتمام بالمواطنين غيراليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل ـ الاهتمام بأسلوب الحياة والبيئة فى إسرائيل ـ إنشاء «بعثات سلام اسرائيلية» ، أى أن يقوم الشباب اليهودى فى العالم بأداء نوع من الخدمة «القومية» فى إسرائيل نيابة عن الشعب اليهودى (.
كما نشبت المعارك المعتادة: فحينما قال يوسى ساريد (عضو الكنيست ورئيس حزب ميرتس) أن أى شخص يساهم فى تسمين المستوطنات يرتكب فعلا معاد للصهوينة لأنه يعرض عملية السلام للخطر، وحين قام بالهجوم على نتنياهو، قاطعته أصوات عالية، تتهمه بأنه ليس يهوديا، بل وطالبه البعض بالذهاب إلى وطنه!
وقد هاجمت شوشانا كاردين، رئيسه النداء الإسرائيلى الموحد، الطبيعة السياسية للحركة الصهيونية وطالبت بإعادة تعريفها بحيث تصبح مشاركة حقيقية بين الدولة الصهيونية والجماعات اليهودية فى العالم، وأن تقوى أواصر العلاقة بينها.
وقد حذر الحاخام نورمان رام، رئيس جامعة يشيفا، من إعطاء ثقل غير حقيقى للحركتين الإصلاحيه والمحافظة داخل الحركة الصهيونية. وهذه كلها موضوعات «قديمة» سبق نقاشها من قبل.(16/264)
وكانت قرارات المؤتمر الصهيونى كلها ذات طابع إدارى إجرائى، وتنبع معظمها من إحساس أعضاء المنظمة الصهيونية والقائمين عليها بأن المنظمة أصبحت لا قيمة لها وأنه أصبح من الممكن الاستغناء عنها (على أن تقوم الحكومة بالوصول مباشرة إلى أعضاء الجماعات اليهودية فى العالم) . وكان من ضمن القرارات إقامة مشاركة حقيقيه بين إسرائيل ويهود العالم ينعكس على اختيار المندوبين، بحيث يكون نصفهم من إسرائيل والنصف الآخر من يهود العالم، وهو قرار يعكس المحاولة اليائسة من جانب المنظمة الصهيونية أن تصبح لها دور، ولكنه فى ذات الوقت تعبير عن تآكل دورها.
والملاحَظ، من متابعة سير المؤتمرات الصهيونية المختلفة، أن الاختلافات والصراعات التي قامت بين أنصار التيارات الصهيونية المختلفة، من صهيونية سياسية وصهيونية عمالية أو عملية أو ثقافية أو دينية أو توفيقية، لا تعدو أن تكون خلافات داخل "الأسرة الواحدة" حول أفضل الأساليب وأكثرها فاعلية دون أن تتجاوز هذا إلى الأهداف النهائية التي هي موضع اتفاق عام بين هذه التيارات.(16/265)
وقد أُثيرت في الآونة الأخيرة شكوك قوية ـ من جانب كثير من القيادات والتيارات الصهيونية ـ حول جدوى المؤتمرات الصهيونية ومدى فاعليتها. إذ يرى الكثيرون أن المؤتمرات تحوَّلت إلى منتديات كلامية وأصبحت عاجزة عن مواجهة المظاهر المتفاقمة للأزمة الشاملة للحركة الصهيونية ودولتها، التي تتمثل في مشاكل النزوح والتساقط واندماج اليهود في مجتمعاتهم والزواج المُختلَط والتمايز بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين، بالإضافة إلى انفضاض يهود العالم عن حركة الصهيونية بما يكرس عزلتها. ومن أبرز الدلائل على تلك الأزمة أن المؤتمرات الصهيونية المتتالية لم تفلح حتى الآن في الاتفاق على حلٍّ لمشكلة من هو اليهودي ومن هو الصهيوني رغم أنها تأتي دائماً في مقدمة الموضوعات المطروحة على جدول الأعمال في المؤتمرات المختلفة. ورغم أن البعض يحاول أن يُرجع هذا العجز إلى أسباب فنية وتنظيمية إلا أنه بات واضحاً أن مظاهر الأزمة ذات طبيعة تاريخية وحتمية تتجاوز الحدود التنظيمية لتصل إلى جذور المشروع الصهيوني نفسه وإلى طابع نشأته وتطوره. ولهذا، فليس من قبيل المبالغة أن يُضاف عجز المنظمة الصهيونية العالمية بهيئاتها المختلفة، ومنها المؤتمر، إلى مجمل المظاهر العامة لأزمة الحركة الصهيونية.
برنامج القدس 5728 (1968 (
Jerusalem Program
أقر المؤتمر الصهيوني الثالث والعشرون، المنعقد في القدس عام 1951، "برنامج القدس" والذي تُعَدُّ الموافقة عليه شرطاً أساسياً لعضوية المنظمة الصهيونية.
ويحدد البرنامج الأهداف الرئيسية للحركة الصهيونية معتبراً أن "تجميع الشعب اليهودي في وطنه التاريخي ـ أرض إسرائيل ـ عن طريق الهجرة من جميع البلدان" هو هدف الصهيونية الأول.(16/266)
وقد أقر المؤتمر الصهيوني السابع والعشرون، الذي عُقد في القدس عام 1968، إضافة الفقرة التالية إلى "برنامج القدس" الجديد الذي سُمِّي "برنامج القدس 5728 (1968) "، وهي تُوضِّح أهداف الصهيونية بالتفصيل كما يلي: وحدة الشعب اليهودي ومركزية إسرائيل في حياته؛ تجميع الشعب اليهودي في وطنه التاريخي ـ أرض إسرائيل ـ عن طريق الهجرة من مختلف البلدان؛ تدعيم دولة إسرائيل التي قامت على أساس الرؤيا النبوئية للعدل والسلام؛ الحفاظ على هوية الشعب اليهودي من خلال تعزيز التربية اليهودية والعبرية والقيم الثقافية والروحية اليهودية، وحماية الحقوق اليهودية أينما كانت.
وصياغة برنامج القدس صياغة مراوغة إلى أقصى حد (انظر: «الخطاب الصهيوني المراوغ» ) وهو ما جعل عملية تبنيه مسألة سهلة جداً.
ورغم الموافقة الأولية على «برنامج القدس» من جانب الاتحادات الصهيونية والتجمعات اليهودية المختلفة، باعتباره شرطاً لانضمامها إلى المنظمة الصهيونية، فقد أثار منذ إقراره (وحتى الآن) نقاشات وخلافات حادة بين الاتجاهات المتعددة في الحركة الصهيونية، وخصوصاً فيما يتعلق بتأكيده محورية الهجرة إلى إسرائيل كأساس لتحقيق الصهيونية، وبالتالي إعطاء إسرائيل دور المركز بالنسبة ليهود العالم، وما يترتب على ذلك من اعتبار من لا يعتزم الهجرة إلى إسرائيل غير صهيوني.(16/267)
وتمثل التجمعات الصهيونية خارج إسرائيل عموماً، والتجمعات الصهيونية في أمريكا بشكل خاص، المعارضة الأساسية لهذه النصوص التي تؤدي ـ في نظرهم ـ إلى زيادة ثقل دولة إسرائيل داخل الحركة الصهيونية مع تقليص دور التجمعات في الخارج وتهميشها. وترفض المنظمات المؤيدة لهذا الاتجاه اعتبار اليهود «أمة» مرتبطة بوطن وتكتفي بالحديث عن «شعب يهودي» دون الارتباط بوطن واحد. كما تطالب بتأكيد المشاركة بين الدولة ويهود «الشتات» في الخارج على قدم المساواة، وبالنظر إلى الهجرة نحو إسرائيل لا كأساس لتحقيق الصهيونية وإنما كمثل أعلى.
هاتيكفاه
Hatikva
«هاتيكفاه» كلمة عبرية معناها «الأمل» ، وهو اسم نشيد الحركة الصهيونية الذي أصبح النشيد القومي لإسرائيل، وفيما يلي مقطوعتان من النشيد:
ما دامت روح اليهودي
في أعماق القلب تتوق.
ونحو الشرق
تتطلع العيون لصهيون.
أملنا لم يُفقَد أبداً.
أمل ألفي عام:
أن نصبح شعباً حراً في وطننا.
أرض صهيون وأورشليم.
والمقطوعة الثانية في النشيد لازمةٌ تتكرر.
والنشيد يشبه من بعض الوجوه الخطاب الصهيوني المراوغ؛ فهو نشيد مليء بالفراغات، يتحدث عن التطلع إلى صهيون، وعن أمل لم يُفقَد بعد، وعن شعب واحد، وعن أرض صهيون، ولكنه يلتزم الصمت تجاه غالبية اليهود الذين يرفضون أن يكونوا جزءاً من الشعب اليهودي وإن قبلوا ذلك اسماً (فهم يرفضون الهجرة) . وبطبيعة الحال، يلتزم النشيد الصمت تجاه آلية العودة إلى الأرض وآلية التخلص من أهلها.(16/268)
ورغم حديث النشيد عن تطلعات هذا الشعب الواحد، فإن ملابسات تأليفه وتلحينه تبيِّن عكس ذلك على طول الخط، فالقصيدة وضعها بالعبرية الشاعر نفتالي هرز إمبر المولود في جاليشيا عام 1856 والمتوفي في نيويورك عام 1909 والذي تنصَّر بعض الوقت وانتقل من شرق أوربا إلى غربها. وبعد استيطانه في فلسطين لم يُطق العيش فيها وانتقل منها إلى الولايات المتحدة (حيث استقر مع الملايين من المهاجرين اليهود) . وكان نفتالي إمبر يكتب بالعبرية واليديشية والإنجليزية. والقصيدة متأثرة ببعض الموضوعات التي ترد في بعض الأغاني الألمانية، كما أنها متأثرة بأنشودة وطنية بولندية أصبحت نشيد بولندا القومي ("بولندا لم تضع بعد، ما دمنا على قيد الحياة") . أما فيما يتصل باللحن، فقد وضع موسيقاه صمويل كوهين الذي اقتبسها من موسيقى أغنية شعبية رومانية من مولدافيا (مسقط رأسه) تُسمَّى «العربة والثور» ، وهو لحن شعبي شائع جداً في وسط أوربا، ولذا فهو موجود أيضاً في تشيكوسلوفاكيا، وقد استخدمه الموسيقار سميتنا في إحدى سيمفونياته.
وقام الصهاينة بمحاولات عدة لإعداد نشيد قومي ليس له أصول غربية (غير يهودية) ، فأعلنوا عدة مسابقات، ولكن النتيجة جاءت دائماً مخيبة للآمال. وتم تبنِّي الهاتيكفاه كنشيد رسمي للحركة الصهيونية في المؤتمر الصهيوني الثامن عشر (1933) ، وهو المؤتمر الذي تم فيه أيضاً الموافقة على اتفاقية الهعفراه (الترانسفير) مع النازي. وقد أثيرت مؤخراً في إسرائيل قضية بشأن مضمون النشيد القومي، فإذا كان نشيد الهاتيكفاه يتحدث عن أحلام اليهود، فكيف يمكن أن يعتبره العرب من مواطني الدولة الصهيونية نشيدهم الوطني؟
نفتالي إمبر (1851-1909 (
Naftali Imber(16/269)
شاعر يكتب بالعبرية واليديشية وأحياناً بالإنجليزية. وُلد في جاليشا لأسرة حسيدية، وتلقَّى تعليماً دينياً. ومع هذا، كانت أول جائزة أدبية حصل عليها عن قصيدة وطنية نمساوية (1870) . وقد تجوَّل إمبر بعد موت أبيه من بلد لآخر. وفي إستنبول، قابل لورانس أوليفانت الصهيوني غير اليهودي الذي كان يحاول أن يبدأ حركة استيطانية بين اليهود، فعمل إمبر سكرتيراً له وذهب معه إلى فلسطين عام 1882 حيث عاش لمدة ستة أعوام وكتب مقالات للمجلات العبرية. ونشر إمبر عام 1886 مجموعة من القصائد العبرية بعنوان نجمة الصباح، وهي المجموعة التي تضم قصيدة «هاتيكفاه (الأمل) » التي كان عنوانها في البداية «تيكفاتينو» (أملنا) . وقد أصبحت هذه القصيدة نشيد الحركة الصهيونية ثم أصبحت النشيد القومي لإسرائيل. ومما له دلالته أن مجموعة نجمة الصباح مهداة إلى أوليفانت، وهو أهم الشخصيات في تاريخ الصهيونية بين غير اليهود. ومن قصائد إمبر الأخرى التي أحرزت شعبية بين المستوطنين، قصيدة «حراسة على نهر الأردن» . وبعد موت أوليفانت، ذهب إمبر إلى إنجلترا حيث تعرَّف إلى إسرائيل زانجويل الذي رسم صورة كاريكاتيرية له (الشاعر الشحاذ) في رواية أطفال الجيتو. وقد انتقل إمبر بعد ذلك إلى الشرق وتجوَّل فيه حتى وصل إلى بومباي حيث يُقال إنه تنصَّر (ويُقال إنه تنصَّر أيضاً بعض الوقت في فلسطين، وهذه رواية يرويها صديقه إسرائيل زانجويل) . وانتقل إمبر بعد ذلك إلى الولايات المتحدة حيث عاش حياة بؤس وفقر وإدمان. وقد تعرَّف إلى امرأة مسيحية بروتستانتية تهوَّدت بعد أن تزوجها، ولكن الزواج انتهى بالفشل. ونشر شقيق إمبر مجموعته الشعرية الأخرى نجمة الصباح الجديدة (1902) ، ولكن معظم نسخها احترق. ثم نشر ديوان شعر ثالثاً له في نيويورك عام 1905 بعد مذابح كيشينيف، وقد أهدى المجموعة لإمبراطور اليابان التي كانت في حالة حرب مع روسيا.(16/270)
وقد كتب إمبر كذلك عدة كتيبات بالإنجليزية عن القبَّالاه، وحرَّر مجلة أورييل وهي مجلة ثيو صوفية كانت تَصدُر في بوسطن. كما قام بترجمة رباعيات عمر الخيام إلى العبرية.
والواقع أن سيرة حياة إمبر ذات دلالات رمزية وواقعية عديدة:
1 ـ فهو يهودي من شرق أوربا ويذهب إلى فلسطين مع صهيوني استيطاني غير يهودي، ويرحل عنها بعد وفاة الصهيوني غير اليهودي.
2 ـ رغم أن إمبر تلقَّى تعليماً دينياً، إلا أن إيمانه الديني تزعزع تماماً ويتضح هذا في تَنصُّره بعض الوقت ثم رجوعه عن ذلك ثم زواجه من امرأة مسيحية ثم انشغاله بالقبَّالاه. لكن تهوُّد هذه المرأة يبين مدى تَداخُل المسيحية واليهودية بعد أن تمت علمنتها من الداخل.
تاريخ الصهيونية في روسيا
History of Zionism in Russia
لعبت روسيا دوراً مهماً في تاريخ الحركة الصهيونية الاستيطانية، فقد كانت أوضاع اليهود في روسيا تربة خصبة لنمو أية أفكار تبشر بالخلاص، سواء الفردي مثل الحسيدية أو القومي مثل الصهيونية. ومثلها مثل العديد من دول شرق أوربا، بدأ التوجه الصهيوني فيها بنشأة حركة أحباء صهيون في ثمانينيات القرن التاسع عشر.
وحينما نشر هرتزل كتابه دولة اليهود، التف حوله صهاينة روسيا، وقد انعكس هذا في التمثيل الروسي في المؤتمر الصهيوني الأول (1897) الذي وصل إلى الثلث، فمن بين 197 مندوباً كان هناك 66 مندوباً روسياً. ومن هؤلاء شخصيات احتلت مراكز مهمة في الحركة الصهيونية فيما بعد مثل ليو موتزكين وفلاديمير تيومكين وهرمان شابيرا وغيرهم.(16/271)
وقبل المؤتمر الصهيوني الثاني (1898) ، اجتمع القادة الصهاينة الروس، ومنهم صهاينة الجزء الروسي من بولندا في وارسو، وظهر في هذا الاجتماع أن ثمة خلافاً في الرأي بينهم وبين القيادة العامة للمنظمة الصهيونية العالمية. وقد كان هذا الخلاف يعبِّر عن اختلاف في التوجه، فبينما اتجهت القيادة العامة ذات المنحى التوطيني إلى التفاوض مع الأتراك للحصول على وثيقة تتيح لليهود استيطان فلسطين، طالب الصهاينة الروس ذوو الاتجاهات الاستيطانية بالقيام بمشاريع استيطان فعلية في فلسطين وتنظيم برامج ثقافية تمهيداً لتوطين اليهود في فلسطين. ورغم هذا، لم يصل الخلاف إلى حد القطيعة أو الانفصال، فقد كان كل فريق بحاجة للآخر، فالروس (الاستيطانيون) كانوا في حاجة إلى الغربيين (التوطينيين) لإمدادهم بالدعم المادي والسياسي اللازم، والغربيون كانوا بحاجة للروس لأنهم يمثلون المادة البشرية الخام. وعلى هذا، حضر الصهاينة الروس المؤتمر الثاني بينهم ياحيل تشيلينوف وحاييم وايزمان وناحوم سوكولوف وشماريا ليفين وموتزكين الذي قدَّم تقريراً مفصلاً عن رحلته التي قام بها بتكليف من المؤتمر الصهيوني الأول (1897) إلى فلسطين.
وازدادت قوة الصهيونية الروسية وسط المنظمة العالمية بمرور الوقت، فقد حضر المؤتمر الرابع في لندن عام 1900 أكثر من 200 مندوب روسي، وقاموا في المؤتمر الخامس في بازل عام 1901 بتشكيل "العصبة الديموقراطية" برئاسة وايزمان وموتزكين التي عبَّرت عن تطلعات الروس الاستيطانية مقابل المسعى التوطيني الذي التزم الغربيون به عن طريق العمل الدبلوماسي والضغط السياسي.
وشكَّل الجناح الأرثوذكسي المتدين بقيادة الحاخام إسحق رينز حركة المزراحي للتعبير عن مخاوف المتدينين من سيطرة العلمانيين. وفي عام 1902، عُقد المؤتمر الصهيوني الأول لعموم روسيا في مدينة منسك.(16/272)
وقام أحاد هعام وناحوم سوكولوف بطرح فكر العلمانيين فيما يخص الثقافة والتربية "اليهوديتين". وقد عارضت حركة المزراحي هذا الفكر بشدة تحت قيادة رينزو شمويل ياكوف. ووصلت الحركة الصهيونية إلى حل توفيقي يقبل جود اتجاهين متعارضين في الصهيونية فيما يخص التربية والثقافة اليهودية. والواقع أن هذا الحل وتلك الطريقة التوفيقية التلفيقية المستمرة حتى اليوم إنما تكشف عن جانب مهم وخاصية أساسية في الصهيونية الاستيطانية ألا وهي محورية فكرة الاستيطان نفسها التي تتلاشى معها الفروق الأخرى.
وقد أثارت زيارة هرتزل لروسيا في صيف 1903 ومحاولته مقابلة وزير الداخلية فون بليفيه ضجة استنكارية واسعة في صفوف الصهاينة الروس الذين عبَّروا عن رفضهم أسلوب التعامل مع من كانوا يعتبرونه جلاد اليهود والمسئول عن المذابح اليهودية.
وفي المؤتمر الصهيوني السادس (1902) ، اتُخذت تلك المسألة تكئة لمعارضة هرتزل في مسألة أهم هي اقتراحه الرامي إلى وضع خطة التوطين في شرق أفريقيا. وقد كانت الحركة الصهيونية الروسية بشُعبها التي تعدَّت 1572 جمعية محلية (عام 1903) تمثل القوة الأولى في المنظمة وتمثل المادة الخام البشرية الأهم. ومن ثم، لم يكن بالإمكان الاستهانة بمعارضة الصهاينة الروس لهذا المشروع. ويمكننا أن نقول إن هذه المعارضة قد تصاعدت حتى بلغت ذروتها في أكتوبر عام 1903 وتجلَّت في شكل مؤتمر كراكوف الذي حضرته القيادات الصهيونية الروسية كافة وقُدِّم في هذا المؤتمر تهديد صريح لهرتزل بضرورة ترك مشروع شرق أفريقيا أو مواجهة انسحاب شامل من المنظمة. وفي مؤتمر بازل عام 1905، حدث الصدام الحاد بين التوطينيين بقيادة إسرائيل زانجويل وبين الصهاينة الاستيطانيين الروس، وخصوصاً بعد موت هرتزل. وانتصر الاستيطانيون وانفصل زانجويل مكوِّناً المنظمة الصهيونية الإقليمية.(16/273)
بيد أن التأثير الأعظم للإقليميين كان على الحركة العمالية الصهيونية التي كانت لا تزال وليدة عام 1905 ولم تكن ذات شأن بين الحركات العمالية في روسيا في هذا الوقت، حيث رأى القادة العماليون أن أية هجرة يهودية إلى أي مكان ستشكل في النهاية حركة استيطان ذات طابع عمالي ومن ثم تنحل المشكلة اليهودية حلاًّ اشتراكياً. وكان الداعية الأساسي لهذه الحركة هو الزعيم الصهيوني بير بوروخوف. وقد تعرضت الحركة الصهيونية في هذا الوقت إلى معارضة قوية في صفوف أعضاء الجماعات اليهودية من حزب البوند الذي كان يدعو إلى نبذ فكرة الهجرة وإلى الاستقلال الذاتي في إطار روسيا الكبرى. وقد ساهمت الحركة العمالية الصهيونية في حركة الهجرة الروسية الثانية التي استمرت بين عامي 1904 و1914 والتي أقامت مستوطنات مثل داجانيا.
وقد أيَّدت الحكومة الروسية الاتجاهات الاستيطانية ورحبت بالهجرة، إلا أن مقررات مؤتمر هلسنجفورس عام 1906، التي دعت إلى تقوية الحركة داخلياً والدفاع عن حقوق اليهود القومية، أثارت شكوك الحكومة القيصرية، وهو ما حدا بها إلى منع الحركة عام 1907. وفي عام 1908، زار ديفيد ولفسون رئيس المنظمة الصهيونية العالمية سان بطرسبورج وحصل ثانيةً على وعد بالاعتراف بالنشاطات الصهيونية الخاصة بالصندوق القومي والصندوق الاستعماري. بيد أن الحكومة القيصرية رفضت التصريح بإعادة المنظمة للمجال الشرعي. ورغم هذا، استمر تأثير المنظمة الروسية عالمياً، فحصل الصهاينة الروس على مقاعد أساسية في اللجنة التنفيذية للمنظمة العالمية في المؤتمر العاشر عام 1911 وفي المؤتمر الحادي عشر في فيينا عام 1913.(16/274)
ومع اندلاع ثورة فبراير عام 1917 في روسيا، انتهت كل المعوقات التي كانت تضعها الحكومة القيصرية أمام الحركة الصهيونية، فاجتذبت أعداداً ضخمة من اليهود الذين شردتهم الحرب وأضرت بهم. وعُقد مؤتمر صهيوني لعموم روسيا في بتروجراد في 24 مايو عام 1917 حضره 552 مندوباً يمثلون 140 ألف شيقل بالمقارنة بعام 1913 حيث كان عدد دافعي الشيقل 26 ألفاً فقط. وقد أقر هذا المؤتمر مقررات مؤتمر هلسنجفورس وصاغ برنامجاً موحداً لكل الجماعات الصهيونية للمشاركة في انتخابات الجمعية التأسيسية لعموم يهود روسيا. ودُعيت اللجنة التنفيذية الجديدة للعمل على إعداد مؤتمر عام. وحينما عُقد المؤتمر، حضره جوزيف ترومبلدور من فلسطين ودعا إلى إنشاء جيش من اليهود الروس لاحتلال فلسطين مروراً بالقوقاز، وأيَّد حوالي 20 مندوباً أفكار جابوتنسكي حول التعاون مع بريطانيا من أجل تكوين الفيلق اليهودي. بيد أن الغالبية العظمى كانت تؤيد فكرة حياد اليهود التي تبنتها المنظمة الصهيونية العالمية. وقد انتهى هذا الحياد مع صدور وعد بلفور عام 1917.(16/275)
ومع قيام الثورة البلشفية في 24 أكتوبر 1917، لم تتأثر الحركة الصهيونية في البداية، بل أُقيم أسبوع لفلسطين في ربيع عام 1918. وسيطر الصهاينة على الاجتماعات اليهودية التي قاطعتها الأحزاب الاندماجية، ففي مؤتمر موسكو الذي حضره 149 مندوباً من أربعة تجمعات يهودية محلية في روسيا كان الصهاينة هم الوحيدون المُمثَّلون، وحصل الصهاينة في أوكرانيا على 55% من مقاعد المجالس اليهودية. ولكن، مع ازدياد قوة الحكم السوفيتي واستتباب الأمر للشيوعيين، أصبحت الصهيونية هدفاً للاتهامات الحكومية، وتم إلغاء الأحزاب والمنظمات الصهيونية وألُقي القبض على بعض القادة. وقد قام القسم اليهودي في الحزب الشيوعي السوفيتي الجديد بمحاربة الروح (الانعزالية والكهنوتية) الصهيونية بين الجماعات اليهودية. وفي العشرينيات، قامت الحركة الصهيونية بعدة محاولات للحصول على حق القيام بنشاط صهيوني علني، وخصوصاً في المجال الثقافي، وفي مجال تشجيع الهجرة لفلسطين (مثلما حدث في المفاوضات شبه الرسمية التي أجراها عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية م. د. إدر أثناء زيارته لموسكو عام 1921) . بيد أن هذه المحاولات باءت بالفشل. وقد استؤنف النشاط الصهيوني العلني في روسيا وأوكرانيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
تاريخ الصهيونية في بولندا
History of Zionism in Poland(16/276)
لا يمكن الحديث عن تاريخ متجانس للصهيونية في عموم بولندا. فقد ارتبطت الحركة في كل قطاع من قطاعات بولندا بتاريخ البلد الذي ينتمي إليه هذا القطاع، بمعنى أن يهود بولندا في القطاع الألماني تأثروا بنظرة اليهود الاندماجية الألمان ومن ثم كانوا يرفضون الصهيونية. لذا، سينقسم الحديث عن تاريخ الصهيونية في بولندا إلى مرحلتين: المرحلة الأولى تشمل تاريخ الصهيونية في بولندا المقسَّمة والمحتلة، والمرحلة الثانية تشمل تاريخ الصهيونية في بولندا المستقلة. وتنقسم المرحلة الأولى بدورها إلى ثلاثة أقسام حيث يعالج كل قسم تاريخ الصهيونية في قطاع بعينه من قطاعات بولندا:
المرحلة الأولى: بولندا المحتلة المقسَّمة:
أ) الصهيونية في القطاع الألماني:
كان عدد اليهود في القسم الألماني من بولندا لا يتعدى 50 ألف نسمة في بداية القرن العشرين، وقد تأثروا جميعاً بالفكر الاندماجي السائد بين اليهود الألمان حتى أن اهتمامهم باليهودية في ذاتها لم يكن كبيراً. ومن ثم، كان موقفهم من الصهيونية معادياً وبشدة لخطورة تلك الأفكار على وضعهم الاجتماعي في ألمانيا. ورغم وجود داعيين صهيونيين مهمين، هما زفي هيرش كاليشر وإليا جوتيماخر، في هذا القطاع، وإقامة أول مؤتمر لحركة أحباء صهيون في كاتوفيتش عام 1884، إلا أن تأثير هذا على الجماعة اليهودية في القطاع الألماني كان ضئيلاً جداً (بل يمكن القول بأنه كان منعدماً) .
ب (الصهيونية في القطاع الروسي:(16/277)
بلغ تعداد السكان اليهود في القطاع الروسي من بولندا، في نهاية القرن التاسع عشر، حوالي 2 مليون نسمة. وكان هذا القطاع قطاعاً متقدماً اقتصادياً، بل من أغنى مناطق بولندا وروسيا كلها، وكان مركزاً للصناعة والتجارة ومحطة مهمة بين روسيا القيصرية وباقي أوربا. ولم يكن يهود هذا القطاع متعاطفين في البداية مع الصهيونية بل كان موقفهم، على حد تعبير الموسوعة اليهودية، "معادياً ومضاداً للصهيونية". وذلك فضلاً عن أن المذهب الأرثوذكسي المنتشر بين يهود هذه المنطقة كان معادياً بشدة لفكرة الصهيونية. وكان حَمَلة لواء الصهيونية الأساسيون في تلك المنطقة هم الليتفاك، أي اليهود القادمون من ليتوانيا وأستونيا ولاتفيا وفنلندا، أي دول البلطيق الروسية في ذلك الوقت، والذين كانت الصهيونية بالنسبة لهم وسيلة للخلاص من القمع المزدوج من قبَل الروس وأهالي البلطيق.
بيد أن الوضع كان مختلفاً في مناطق أخرى من القطاع الروسي في بولندا حيث استُقبلت الأفكار الصهيونية منذ البداية بترحاب شديد لأنها كانت تمثل طريقاً للخلاص، وخصوصاً وسط القطاعات الهامشية من يهود بولندا الروسية الذين كانوا يعيشون بعيداً عن منطقة الوسط الصناعية المتقدمة.
وكانت السلطات الروسية ترحب بالأفكار الصهيونية على أساس أنها وسيلة ناجعة لمكافحة الأفكار الاشتراكية والثورية، وللتخلص من الفائض البشري اليهودي. وتقول الموسوعة الصهيونية في هذا الصدد: "كان رد فعل الأغيار البولنديين إيجابياً تجاه الحركة الصهيونية حيث إنهم نظروا للاستيطان في فلسطين باعتباره السبيل الأمثل للإسراع بطرد اليهود من بولندا".(16/278)
وقد أدَّى إقرار برنامج هلسنجفورس (1906) ، الذي تبنَّى مطلب الدفاع عن المصالح الآنية و"الحقوق المشروعة" للقومية اليهودية إلى وضع الجماعة اليهودية المؤيدة للصهيونية في موقف عداء مباشر مع غيرها من الأقليات والقوميات وكذلك مع السلطات القيصرية التي كانت تنادي بالقومية الروسية السلافية كقومية فوق القوميات. وقد اتخذ هذا العداء أحياناً شكل القمع السياسي ومصادرة الصحف، واتخذ أحياناً أخرى شكل مقاطعة اليهود اقتصادياً، وخصوصاً في الأوساط الشعبية. وقد شهدت تلك الأعوام أيضاً مجموعة يهودية معادية للصهيونية هم اليهود الذين عملوا من خلال البرلمان البولندي أو «السييم» . وقد سُمِّيت تلك المجموعة «السييميون» أو «مؤيدو الانضمام للسييم» ، وكانت الحركة الصهيونية تقاطع البرلمانات سواء الروسية (الدوما) أو البولندية (السييم) . ولكن، مع التطورات السياسية وظهور تلك الجماعة المنافسة، نجح الصهاينة في انتخاب أحد ممثلي الحركة في لودز. ورغم هذا النشاط السياسي والدعائي، لم تنجح الحركة الصهيونية في تهجير عدد كبير من اليهود إلى فلسطين في هذه الفترة.
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، توقفت النشاطات الصهيونية في بولندا، وبعد قيام دول الوسط باحتلال بولندا المؤتمر، بدأت حركة عمال صهيون في الحركة تحت رعاية قوى الوسط التي كانت تبغي توظيف النشاط الصهيوني في مواجهة الأطماع البريطانية في الشرق العربي.
جـ) الصهيونية في جاليشيا (القطاع النمساوي من بولندا) :(16/279)
اختلف نمو وتطوُّر الحركة الصهيونية في جاليشيا، عنها في القطاعات الأخرى من بولندا، اختلافاً بيَّناً. فعلى جانب كانت الحكومة النمساوية أكثر ليبرالية من الحكومة القيصرية في روسيا، وكانت الحركة الصهيونية من جانب آخر تطلب عون النمساويين والألمان من أجل تحقيق فكرة الوطن القومي اليهودي. وقد تطوَّرت الحركة الصهيونية في جاليشيا في صفوف دعاة حركة التنوير اليهودية. وبمعنى آخر، تأثرت الحركة الصهيونية في جاليشيا منذ البداية بالرؤية المعرفية الإمبريالية الكامنة في التنوير وبالبُعْد القومي الرومانسي الذي نشأ في دول الوسط في أوربا. وكانت إمبراطورية النمسا/المجر تعتبر اليهود جماعة دينية لا جماعة قومية. وفي خضم الصراع بين القوميات داخل الإمبراطورية، حاول البولنديون ضم أعضاء الجماعة اليهودية لصفوفهم من أجل التفوق على الأوكرانيين عددياً، كما حاول الأوكرانيون فعل الشيء نفسه. بيد أن هذا الاتجاه لاقى معارضة كبيرة من جانب الصهاينة الاستيطانيين الذين نظروا لهذا الاتجاه على أنه تكريس للاندماج، وأصروا على أن هدف الصهيونية هو الهجرة إلى فلسطين ومن ثم أصروا على أن يقتصر دورها في البلاد الأخرى على الجانب التثقيفي والمالي اللازم لتحقيق الهدف الأساسي، أي الاستيطان في فلسطين. من ثم، فقد وصل مؤتمر كراكوف عام 1906 إلى نوع من الحل التوفيقي في هذا المضمار حيث أنيط بالحزب القومي اليهودي الذي كان حديث النشأة مسئولية الدفاع عن حقوق اليهود (المدنية والسياسية) ، بينما أنيط بالمنظمة الصهيونية مهمة جَمْع المال والتثقيف الصهيوني. وقد كان مؤتمر كراكوف هذا حلبة خاصة لصهاينة جاليشيا رغم أنه كان، من الناحية النظرية، يمثل سائر الاتجاهات الصهيونية في النمسا. وفي عام 1907، نجح الحزب القومي اليهودي الذي كان مجرد واجهة في إرسال أربعة من ممثليه إلى أول برلمان نمساوي، كان ثلاثة منهم من جاليشيا والرابع من بوكوفينا. وفي خضم هذا(16/280)
الصراع السياسي، نجح الصهاينة في إحكام قبضتهم على التجمعات اليهودية في جاليشيا من خلال العديد من المطبوعات اليديشية والبولندية، بل نجح الصهاينة في جاليشيا في إقامة مستوطنة خاصة بهم في فلسطين ونشروا سلسلة من المدارس العبرية وسيطروا على مدارس البارون دي هيرش اليهودية وطردوا الاندماجيين منها. والجدير بالذكر في هذا الصدد أن أعداداً كبيرة من يهود جاليشيا كانوا من الفرانكيين (أتباع فرانك الذي تأثر بالتنوير والفكر القومي الرومانسي) . ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، أصيبت الحركة الصهيونية في بولندا النمساوية بالشلل حيث احتلت القوات الروسية (في بداية الحرب) جاليشيا لمدة سنة، وأدَّى هذا إلى فرار ما يزيد على نصف السكان اليهود إلى داخل النمسا وخصوصاً لاتفيا. ومع تغيُّر مجريات الأمور في الحرب، استعادت الحركة الصهيونية نشاطها ولكن في حذر، وذلك تحسباً لما ستسفر عنه الحرب.
المرحلة الثانية: بولندا المستقلة:
وتتميَّز تلك المرحلة بما يلي:
1 ـ زيادة عضوية المنظمة الصهيونية. وكانت منافستها الوحيدة للسيطرة على يهود بولندا هي منظمة أجودات إسرائيل الأرثوذكسية.
2 ـ نجاح جميع الحركات الصهيونية في مختلف قطاعات بولندا في الاندماج وسط الحركات العمالية (عمال صهيون) والدينية (مزراحي) ولكنهم أخفقوا في الاندماج في الحركات الأخرى.
3 ـ أدَّى هذا الفشل إلى ظهور صراعات حزبية هي في الواقع تعبير عن الصراع حول الرؤية بين الاستيطانيين والتوطينيين. فقد حاول التوطينيون دائماً إبعاد الصهيونية عن دخول مواجهات مع الحكومات، بيد أن الاستيطانيين كانوا يرون أن المواجهة مع الحكومة تدفع إلى هجرة اليهود إلى فلسطين وهو الهدف الأساسي. وقد أدَّى هذا في النهاية إلى هزيمة التوطينيين (الصهاينة العموميين) .
4 ـ ازدادت أهمية الجماعة اليهودية في بولندا وازدادت أهمية الهجرة اليهودية من بولندا إلى فلسطين.(16/281)
ورغم الانقسامات التي حدثت في صفوف الحركة، فإن كل الأحزاب الصهيونية استمرت داخل نطاق المنظمة الصهيونية العالمية عدا حركة اليسار العمالي المتطرف، عمال صهيون والصهاينة التصحيحيين. وقد ارتبطت الحركة الأولى بالحركات الاشتراكية والعمالية في العالم، وساعد نجاح البلاشفة في الاستيلاء على السلطة على تدعيم موقفها الرافض للتعاون مع البورجوازية. وبينما اعتمد العماليون على نجاح البلاشفة لتدعيم حركتهم وسط العمال اليهود، اعتمد التصحيحيون على عدوانيتهم وطابعهم القومي الاستيطاني المتطرف لاجتذاب الشباب. وقد نجح التصحيحيون في أن يحركوا الشباب اليهودي في بولندا فأعلنوا عام 1930 عن خطة ضخمة لتهجير اليهود من بولندا إلى فلسطين. وقد قوبلت الخطة برفض شديد من قبَل أعضاء الجماعات اليهودية لأنها ترسخ الموقف البولندي المعادي لليهود، ولكنها نجحت في دعم موقف التصحيحيين وسط الحركة الصهيونية ذلك أن الحكومة البولندية التي كانت تضم عناصر معادية لليهود استقبلت الخطة بترحاب شديد، وقامت بدعم التصحيحيين باعتبارهم العنصر الصهيوني الذي يعبِّر بشكل متبلور عن الروح الاستيطانية وعن رفض أي شكل من أشكال الاندماج أو الانتماء لغير "القومية اليهودية".
وقد تركزت المعارضة اليهودية للصهيونية، أساساً، في الحركات التي كانت تنادي باندماج اليهود وسط المجتمع البولندي مثل البونديين والسييميين (أي البرلمانيين) . بيد أن النواة الأساسية للمعارضة في الأوساط اليهودية كانت من صفوف اليهود الأرثوذكس في حركة أجودات إسرائيل وغيرهم من حاخامات الحسيديين (رغم أن بعض الحسيديين كانوا مؤيدين للصهيونية ((16/282)
وكان الاندماجيون من البونديين والسييميين يعارضون العبرية ويدعون لاستخدام اليديشية بوصفها لغة قومية. وقد تميزت علاقة هؤلاء بالحكومة البولندية بالتوتر نظراً لطابعهم الذي كان قومياً واندماجياً في آن واحد، وكذلك بسبب الأيديولوجيا الثورية التي كانوا ينادون بها.
وقد لعبت الحركة الصهيونية في بولندا دوراً مهماً في تهجير اليهود البولنديين بين الحربين، حتى أن بولندا صارت المصدر الأول للمادة الاستيطانية البشرية في فلسطين بعد أن منع الشيوعيون اليهود من الهجرة من روسيا، وكان معظم المهاجرين من الشباب من الصهاينة العماليين ذوي التوجه الاستيطاني. وقد جُرِّم النشاط الصهيوني بعد أن وصل الشيوعيون إلى الحكم.
تاريخ الصهيونية في ألمانيا
History of Zionism in Germany
كانت ألمانيا في بداية الحركة الصهيونية محط أنظار القادة الصهاينة ومحور اهتمامهم لأسباب عديدة نوجزها فيما يلي:
1 ـ كانت ألمانيا مهد الفكر القومي الأوربي العضوي وهو الفكر الذي انطلقت منه الصهيونية والإطار الذي تحركت من خلاله.
2 ـ لم تكن ألمانيا قد كوَّنت مستعمراتها بعد، ومن ثم كانت التطلعات الإمبريالية الألمانية محتاجة إلى طلائع استعمارية استكشافية، وقد عرضت الحركة الصهيونية نفسها على الحكومة الألمانية للقيام بهذا الدور.
3 ـ كانت علاقة ألمانيا بالشرق وبالإمبراطورية العثمانية علاقة قوية. ومن ثم، نظر الصهاينة إلى ألمانيا على أنها المعْبَر الأساسي لهم نحو فلسطين. لكل هذا، يمكننا أن نقول إن ثمة اعتبارات معرفية وسياسية وعملية جعلت العلاقة بين الصهيونية وألمانيا علاقة خاصة على مدى تاريخها.(16/283)
وقد كانت الحركة الصهيونية في ألمانيا ذات توجُّه توطيني، وكان موقف معظم اليهود الألمان من الصهيونية معادياً وبشدة. وقد كانت خطة هرتزل الأصلية هي إقامة المؤتمر الصهيوني الأول (1897) في ميونيخ، ولكن محاولته باءت بالفشل بسبب العداء الشديد الذي واجهه من الجماعة اليهودية.
ورغم أن عدد المندوبين الألمان في المؤتمر الصهيوني الأول كان 40 مندوباً، إلا أن معظمهم لم يكن ألمانياً، فبعضهم كان قادماً من فلسطين والبعض الآخر كان مهاجراً من دول أوربا الشرقية.
أُسِّست في ألمانيا أكثر من حركة صهيونية المنحى، والطابع المميِّز لهذه الحركات جميعاً هو استخدامها ديباجة علمية مثل جمعية الإسرائيليين ذات الطابع التاريخي التي تأسست في برلين عام 1883، والجمعية العلمية ليهود روسيا في برلين وتأسست عام 1889 وكان أعضاؤها من يهود شرق أوربا، وجمعية تنمية الزراعة والحرف في فلسطين والتي أسَّسها ماكس بودنهايمر وديفيد ولفسون في كولونيا عام 1892، وقد تحوَّلت عام 1897 إلى الجمعية اليهودية القومية وطالبت بإيجاد دولة يهودية. والطابع العلمي لهذه الجمعيات يدل على أنها جمعيات نخبوية ثقافية كما يشير إلى طرق التفكير المنطقية المنظمة الصارمة التي تتسم بها الصهيونية في ألمانيا.(16/284)
وقد تأسَّست في أكتوبر 1897 الجمعية الصهيونية الألمانية لتنضم إلى الجمعيات الصهيونية في ألمانيا. وقد نمت تلك الجمعية ببطء. ففي عام 1912، كان عدد أعضائها 8.400، ووصل هذا الرقم عام 1927 إلى 20.000، ثم زاد إلى أقصى عدد عام 1934 بعد استيلاء النازيين على السلطة وصار 35.000. وكانت الجمعية تُصدر صحيفة اليوديشر روندشاو، كما كانت تمتلك مؤسسة دار النشر اليهودية، وشهد عام 1912 انعقاد المؤتمر الإقليمي الصهيوني الذي أصدر قرار بوزن والذي نص على أن: "الهجرة هي البرنامج الأساسي للصهيوني في حياته" وعلى الصهيوني أن يربط بين قدره الشخصي وبين مصير الوطن القومي عن طريق الوسائل الاقتصادية والمصالح المادية. وكما نرى، فإن هذا البرنامج التوطيني في الأساس يتيح الفرصة للقادة الصهاينة الألمان من أمثال المالي الكبير ولفسون والعالم البيولوجي واربورج للارتباط المزدوج، وهو ما يتيح لهم إمكانية أكبر داخل المجتمع الألماني حيث تصير الصهيونية بالنسبة لهم نوعاً من تأكيد الانتماء لألمانيا.(16/285)
وقد كان تأثير الاتحاد الصهيوني الألماني قوياً، وبخاصة في الأعوام الخمسة عشر التي بقيت خلالها رئاسة المنظمة الصهيونية العالمية في ألمانيا سواء في كولونيا أثناء فترة رئاسة ديفيد ولفسون أو في برلين أثناء فترة رئاسة أوتو واربورج. ولقد ساعد وجود المنظمة في ألمانيا على إحجام الأتراك (حلفاء الألمان) عن اعتقال اليهود في فلسطين. ومن ثم، لعبت الحرب العالمية الأولى في ألمانيا دوراً حاسماً في تاريخ الصهيونية لا يقل أهمية عن الدور الذي لعبته بريطانيا بعدها بإصدارها وعد بلفور. وقد كان النفوذ الصهيوني لدى الحكومة الألمانية والضغط الذي مارسته ألمانيا على تركيا العثمانية هو الذي حمى الاستيطانيين في فلسطين. بل إن بعض الاستيطانيين من أمثال ديفيد بن جوريون جرى اعتقالهم على يد الإنجليز بوصفهم رعايا دولة معادية. وحتى بعد انتقال المنظمة العالمية من ألمانيا، احتل قادة صهاينة ألمانيا مواقع مهمة في المنظمة العالمية وإن كانت أقل مما كانوا يحتلون بالطبع، ومن هؤلاء فليكس روزنبلوت وريتشارد لختهايم وكورت بلومنفيلد. وقد احتفظت الحركة الصهيونية في فترة جمهورية فايمار (1918 ـ 1933) بطابعها التوطيني، فكانت حركة نخبوية ولم تكن حركة جماهيرية. وكان ظهور النازية فرصة هائلة لازدهار الحركة الصهيونية، فزادت العضوية زيادة هائلة، كما تعاونت الحكومة النازية مع الحركة الصهيونية في ترحيل اليهود من ألمانيا داخل إطار ما عُرف باتفاق الهعفراه أو اتفاق التهجير الذي أصبح بمنزلة بوابة الخروج الوحيدة ليهود ألمانيا حيث أُجبروا على الذهاب إلى فلسطين، أي أن الحركة الصهيونية التوطينية تحوَّلت إلى حركة استيطانية وتم توفير المادة الخام البشرية نتيجة الأزمة التي خلقتها النازية ونتيجة تعاون الحكومة النازية مع المنظمة الصهيونية. ولقد استمرت الحركة الصهيونية في العمل الشرعي في ألمانيا حتى عام 1938، أي أن التعاون بين النازية والصهيونية(16/286)
ظل قائماً طالما ظلت المصالح المشتركة قائمة، ثم انفض الرباط مع إحساس كل منهما بعدم حاجته للآخر.
وقد أُقيم اتحاد صهيوني جديد بعد الحرب العالمية الثانية مباشرةً وأُعيد تكوين الحركة الصهيونية في ألمانيا عام 1954 واعترفت بها المنظمة العالمية عام 1956. وهي تلعب دوراً مهماً في جمع المال ودق ناقوس الجرائم النازية، أي أنها استعادت الطابع التوطيني السالف للحركة.
تاريخ الصهيونية في فرنسا
History of Zionism in France
لم تكن الصهيونية غير اليهودية قوية في فرنسا، فهي بلد كاثوليكي (والصهيونية غير اليهودية ظهرت وترعرت داخل التشكيل البروتستانتي بالأساس) . ومع هذا، ظهرت شخصيات صهيونية غير يهودية داخل التشكيل الاستعماري الفرنسي من أهمها نابليون بونابرت وإرنست لاهاران.
أما بالنسبة للصهيونية بين يهود فرنسا، فيمكن أن نلخص مراحل تطورها فيما يلي:
1 ـ المرحلة الأولى 1880 ـ 1919 (مرحلة النشأة) :(16/287)
كانت الغالبية العظمى من اليهود المولودين في فرنسا لا مبالية إن لم تكن معادية للبرنامج الصهيوني. وحينما بدأ النشاط الصهيوني في فرنسا على يد البارون إدموند دي روتشيلد والتحالف الإسرائيلي العالمي، كان نشاطاً توطينياً، فقد قاما بإنشاء شبكة من المدارس في فلسطين لتدريب اليهود المستوطنين (الذين أتوا أساساً من شرق أوربا) على الزراعة. وقد كان اليهود في فرنسا يمثلون في الأغلب الأعم الشرائح المتوسطة في الطبقة الوسطى، وبذا كان الاتجاه الغالب هو رفض الحل الصهيوني الذي يطلب منهم التخلي عن الوضع المستقر الذي يعيشونه والذهاب إلى أرض يجهلونها تماماً. وكان التوجه السياسي العام لليهود في فرنسا محافظاً ومسايراً لحكومة فرنسا بوجه عام. ولأن الحكومة الفرنسية (في المراحل الأولى من الصهيونية) لم تكن مهتمة بفلسطين، فإن يهود فرنسا تبنوا موقفها. كما أن القيادات الصهيونية الأولى نفسها لم تكن مهتمة بالتوجه للحكومة الفرنسية بحكم نشأتها في ألمانيا. ومع هذا، لاقت الصهيونية في فرنسا ترحيباً كبيراً من قبَل المهاجرين اليهود من شرق ووسط أوربا الذين بدأوا في الوصول إلى فرنسا مع ثمانينيات القرن التاسع عشر، وهكذا كان قادة الحركة الصهيونية في فرنسا هم على التوالي: إسرائيل يفرويكين ومارك ياربلوم وجوزيف فيشر، وكلهم من شرق أوربا. ويمثل هؤلاء المادة البشرية المطلوبة للفكر التوطيني.(16/288)
وكان أول تجمُّع يشكله هؤلاء في فرنسا هو تجمُّع اليهودي الأبدي الذي شكَّلته جماعة من المهاجرين الروس على شاكلة التجمعات الطلابية المماثلة في روسيا عام 1881. وأسست هذا التجمع جماعة استيطانية اسمها "بني صهيون" عام 1886، وقامت هذه الجمعية بشراء 120 دونماً من الأرض في وادي حنين في فلسطين. وعلى المنوال نفسه، نشأت جمعيات طلابية صهيونية في مختلف أنحاء فرنسا. وحاول الطلاب الفرنسيون اليهود ذوو الأصل الروسي أن يكون التجمع في شكل لجنة مركزية تمثل جمعيات أحباء صهيون كافة من بقاع الأرض كافة. بيد أن هذه المحاولة باءت بالفشل. وقد كان عدد المندوبين الفرنسيين في المؤتمر الصهيوني الأول (1897) 12 مندوباً، ولم يكن معظمهم من يهود فرنسا. وتذكر المصادر الصهيونية أن كبير حاخامات فرنسا، الحاخام زادوك كاهن، قد أثَّر كثيراً في الحركة الصهيونية رغم رفضه المُعلَن لها. ونجد أن أبرز الصهاينة الفرنسيين في تلك الفترة هو البيولوجي ألكسندر مارموريك الذي ترأس الاتحاد الصهيوني الفرنسي منذ إنشائه عام 1901 وحتى وفاته عام 1923، والكاتب برنار لازار الذي كان من بين المدافعين عن دريفوس، والنحات فردريش بير، والكاتبة ميريام شاخ. وجميعهم باختصار من مثقفي باريس المعارضين الذين وجدوا في الفكر الصهيوني التوطيني وسيلة للتعبير عن الذات والتميز داخل المجتمع الثقافي في فرنسا. وطوال الفترة الممتدة بين المؤتمر الصهيوني الأول وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918، لم يزد اليهود المنضمون للحركة الصهيونية ومنظماتها العديدة في فرنسا عن بضع مئات من المثقفين ممن لا تأثير لهم في الجماعة اليهودية التي ظلت ترفض الصهيونية.
2 ـ المرحلة الثانية: 1914 ـ 1939 (مرحلة التطور (:(16/289)
تميَّزت هذه المرحلة بازدياد الاهتمام المُتبادَل بين الحكومة الفرنسية والحركة الصهيونية ونمو العلاقة بين الصهاينة والحركات المعارضة. وكانت المادة البشرية في هذه المرحلة من يهود الألزاس واللورين أساساً ثم من الفارين من ألمانيا النازية. وتميَّز الموقف العام للجماعة اليهودية بالاهتمام والترقب دون التأييد الكبير.
ومع الحرب العالمية الأولى وازدياد الاهتمام الإمبريالي الفرنسي بالمشرق العربي بعد أن كان مقصوراً على المغرب، ومع انتصار الحلفاء على دول الوسط وتفتُّت الإمبراطورية العثمانية وسَلْخ الألزاس واللورين من ألمانيا وضمهما لفرنسا، بدأت الحكومة الفرنسية تُظهر اهتماماً خاصاً بالحركة الصهيونية وبدأت أسماء السياسيين تظهر في قائمة مؤيدي الصهيونية. وقد تَوافَق مع هذا الاتجاه التغير في قيادة الحركة الصهيونية وتوجُّهها نحو بريطانيا وفرنسا بدلاً من ألمانيا والنمسا لتكونا القوتين الإمبرياليتين الراعيتين للحركة. ومن ثم، فقد شهدت فترة ما بين الحربين العالميتين نمواً مطرداً في صفوف الحركة الصهيونية في فرنسا حيث وجد يهود الطبقة المتوسطة أن هذا التأييد يضمن لهم مكانتهم في المجتمع نظراً لأنه موقف الحكومة الرسمي، ووجد يهود الألزاس واللورين ذوو الارتباطات الثقافية الألمانية في الحركة الصهيونية نوعاً من التحقق القومي الرومانسي الذي يمثل استمراراً لتلك الارتباطات الثقافية ولا يتعارض في الوقت نفسه مع انتماءاتهم الألمانية الرومانسية التي تغيَّرت. وقد شكَّل هؤلاء في ستراسبورج (عام 1917) حركة صهيونية شبابية عُرفت باسم «هاتيكفاه» ، ومن هذه المنطقة أتى معظم المهاجرين اليهود إلى إسرائيل.(16/290)
وفي عام 1921 تأسست في ستراسبورج أيضاً جماعة مزراحي. وفي إطار هذه الجماعة، أكدت الجمعية الفرنسية للحاخامات (عام 1923) أهمية الاستيطان اليهودي في الأراضي المقدَّسة وضرورة خلق مجتمع صهيوني. وشهدت الأعوام 1919 ـ 1939 نشاطاً محموماً في الحركة الصهيونية، وعلى مستويات عدة. فتحْت قيادة جوزيف فيشر (الذي صار سفيراً لإسرائيل في بلجيكا عام 1949) قام الصندوق القومي اليهودي بفتح فروع له في الجزائر، واشتركت الحركة الصهيونية الفرنسية في الوكالة اليهودية الموحَّدة عام 1929. وكان ممثل فرنسا في مجلس الوكالة هو السياسي الفرنسي الشهير ليون بلوم. وعلى أية حال، كان هذا مؤشراً على ازدياد أهمية الحركة الصهيونية سياسياً داخل فرنسا، كما كان مؤشراً على ضعفها النسبي فلم يكن هذا الممثل صهيونياً قحاً بل كان يهودياً غير صهيوني أو مجرد واجهة ملائمة.
وفي عام 1937، شُكِّلت لجنة التنسيق بين المنظمات الصهيونية التي شملت عضويتها كل الفصائل والتنظيمات الصهيونية حتى أنها ضمت منظمة صهيونية سفاردية بلغت عضويتها 250 فرداً. ورغم كل هذا النشاط، أو بالأحرى لأن كل هذا النشاط كان تعبيراً عن آراء توطينية لا عن آراء استيطانية، لم تكن الهجرة من فرنسا هدفاً حقيقياً، ولم يتعد عدد المهاجرين بضع مئات. وحتى عندما وصل العدد إلى بضعة آلاف من المهاجرين، كان 90% منهم من لاجئي ألمانيا النازية، وبالتالي يمكننا أن نقول إن الحركة الصهيونية الفرنسية وجدت في هؤلاء ضالتها المنشودة ومادتها البشرية التي تسعى إلى توطينها.
3 ـ المرحلة الثالثة1939 ـ 1967 (مرحلة الاستقرار) :(16/291)
وتميَّزت هذه المرحلة بغلبة الطابع السياسي التحريضي وشهدت دعماً مالياً معنوياً ضخماً للحركات الصهيونية في فلسطين ثم لدولة إسرائيل، وازدادت العلاقة توثُّقاً مع الحكومة الفرنسية (ويرجع هذا أيضاً لوصول الاشتراكيين للحكم) . وكانت المادة البشرية في هذه المرحلة أساساً من الفارين من مناطق الاحتلال النازي في أوربا ثم بعد الحرب من يهود شمال أفريقيا بعد حرب تحرير الجزائر واستقلال تونس والمغرب. وتميَّز الموقف العام للجماعة اليهودية في هذه المرحلة بالتأييد الضخم والمبالغ فيه أحياناً حتى صارت التفرقة بين المنظمات اليهودية والصهيونية عسيرة جداً.(16/292)
وقد ازداد هذا الدور التوطيني مع الغزو النازي لفرنسا وازدياد عدد اللاجئين من بولندا وهولندا وغيرها من المناطق الواقعة تحت الاحتلال النازي. ولقد استقر النشاط الصهيوني في منطقة جنوب فرنسا في جمهورية فيشى. وفي عام 1941 أُنشئت في فيشى حركة الشباب الصهيوني بقيادة سيمون ليفيت وجول جفروكن (وهو حفيد إسرائيل يفرويكين الذي تفرنس) . وهنا نلاحظ أن نزعات الجد الاستيطانية تحوَّلت إلى نزعات توطينية لدى الحفيد مع استقرار الأسرة في فرنسا ومع إحساسها بالأمان، ومن ثم تغيَّر محتوى الخطاب وكذلك أهدافه (بل تغيَّر الاسم ذو الطابع السلافي إلى اسم لاتيني النبرة) . وقد لعبت حركة الشباب الصهيوني دوراً بارزاً في تهريب اليهود اللاجئين عبر الحدود إلى إسبانيا وسويسرا ومنها إلى فلسطين، بل شاركت في المقاومة المسلحة. وفي عام 1942، ساهم الشباب الصهيوني في تولوز في تشكيل ما عرف بالجيش اليهودي الذي لعب أيضاً دوراً مهماً في توطين اللاجئين اليهود الفارين في فلسطين وشارك بعدئذ في وحدات فرنسا الحرة تحت قيادة ديجول. وقد كان لهذا الدور، وكذلك لفكرة المذابح اليهودية على يد النازي، أثر جديد مهم في التحول الذي طرأ على الحركة الصهيونية في فرنسا بعد الحرب. فقد قدَّرت الحكومة الفرنسية المساعدات الصهيونية واعتبر يهود فرنسا الصهاينة أبطالاً منقذين.(16/293)
وتشكَّلت في عام 1947 منظمة الاتحاد الصهيوني الفرنسي التي رأسها أندريه بلوميل وهو اشتراكي من أتباع ليون بلوم كما أنه قانوني شهير، ولعبت تلك المنظمة دوراً بالغ الأهمية في عمليات الهجرة غير الشرعية عَبْر الموانئ الفرنسية إلى فلسطين. كما قدَّمت مساعدات مالية هائلة للاستيطان الصهيوني في فلسطين، وخصوصاً بعد صدور قرار التقسيم، حتى أن الهاجاناه وحدها تلقت ما يزيد على 2 مليون من الفرنكات. وفي عام 1950، كان هناك 63.248 دافع شيقل فرنسي في المؤتمر الصهيوني الثالث والعشرين. وتشكلت لجان تبرع عديدة لإسرائيل في فرنسا تحت اسم «مساعدة إسرائيل» ، و «النداء الموحَّد» وغير ذلك.
ومع اندلاع حرب تحرير الجزائر عام 1954، وجدت الحركة الصهيونية في فرنسا فرصة جديدة، فقد جاء تيار المهاجرين اليهود القادم من شمال أفريقيا إلى فرنسا بمادة بشرية جديدة يمكن توجيهها إلى إسرائيل التي كانت في حاجة ماسة للأفراد ذوي التخصصات الدقيقة والأكاديمية. ويمكننا أن نقول إن كل الحركات اليهودية في فرنسا بحلول الستينيات كانت مؤيدة للصهيونية وإسرائيل حتى أن الحاخام الأكبر يعقوب قبلان كان الرئيس الفخري لحركة مزراحي (عمال مزراحي في إسرائيل) ، وشاركت مشاركة فعالة في كل الجهود الصهيونية في فرنسا.
وقد ظهر هذا التأييد الواسع في المساعدات الهائلة التي قدمتها الحركة الصهيونية والمؤسسات اليهودية في فرنسا إلى إسرائيل قبل حرب 1967 مباشرةً، وأثناءها وبعدها، حتى أن حملة التبرعات التي حدثت بعد الحرب مباشرةً أرسلت 4000.000 جنيه إسترليني إلى إسرائيل تحت اسم «تبرعات التضامن مع إسرائيل» . وقد عارضت الحركة الصهيونية الموقف الرسمي الفرنسي الديجولي بعد الحرب وتشكلت جماعة تحت اسم «لجنة التنسيق بين المنظمات اليهودية في فرنسا» لتشكيل رأي عام ضاغط على الحكومة ومساندة إسرائيل.
تاريخ الصهيونية في إنجلترا
History of Zionism in England(16/294)
ارتبطت حركة أعضاء الجماعات اليهودية وهجرتهم بالتشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي (وخصوصاً الإنجليزي) . ويُلاحَظ أن الفكر الصهيوني قد وُلد في البداية في الأوساط الإنجليزية البروتستانتية قبل أن يصل إلى أعضاء الجماعات اليهودية. فمفكرون مثل شافتسبري وأوليفانت، كانوا قد توصلوا إلى كل الأطروحات الصهيونية قبل بنسكر وهرتزل بعشرات السنين. كما أن أوليفانت وغيره كانوا قد بدأوا بوضع مشروعهم الصهيوني موضع التنفيذ. ومقابل ذلك، كان هناك معارضة للصهيونية بين يهود إنجلترا المندمجين. ولم تبدأ الأفكار الصهيونية في الظهور إلا مع هجرة يهود اليديشية في أواخر القرن التاسع عشر.
ويمكن تقسيم تاريخ الحركة الصهيونية في إنجلترا إلى أربع مراحل:
المرحلة الأولى: منذ نشأة الحركة حتى 1914:
اتسمت علاقة الحركة الصهيونية باليهود البريطانيين بالمعاداة أو اللامبالاة حيث اعتبرها معظم الرموز اليهودية في إنجلترا حركة خرافية خيالية تضر بمصالح اليهود، وكان الأنصار الأساسيون للحركة الصهيونية في بريطانيا هم الساسة غير اليهود الذين وجدوا فيها وسيلة جيدة لتحقيق الأطماع البريطانية الاستعمارية في الشرق العربي.
وكانت لندن أول العواصم الأوربية التي عبَّر فيها هرتزل عن فكرته الصهيونية في النادي المكابي في عام 1895 ونشر برنامجه الصهيوني لتوطين اليهود في فلسطين في جريدة جويش كرونيكل (يناير 1896) قبل نشره كتاب دولة اليهود. وكما هو متوقَّع أخذت الصهيونية في بريطانيا الشكل التوطيني. وعندما وصل هرتزل إلى لندن عام 1896، لم يُقابَل اقتراحه بحماس كبير بين اليهود الإنجليز المندمجين. وتخبرنا موسوعة إسرائيل والصهيونية بأن "موجة الحماس التي نتجت عن ظهور هرتزل لم تتعد المهاجرين قط" (بعبارة أخرى: المادة البشرية من شرق أوربا) .(16/295)
وقد أثارت كلمة هرتزل مخاوف جماعة أحباء صهيون اللندنية برئاسة الكولونيل ألبرت جولد سميد من أن تثير خطته السلطات التركية فتمنع إقامة المستوطنات اليهودية في فلسطين، وهو ما حدا بالجماعة إلى رفض دعوة هرتزل لها لحضور المؤتمر الصهيوني الأول (1897) الذى حضره ثمانية مندوبين بريطانيين (من بينهم إسرائيل زانجويل) معظمهم ليسوا من أصل بريطاني بل مهاجرون من أصول شرق ووسط أوربية. وقد تعرَّضت الحركة الصهيونية في بدايتها لانتقادات ومعارضة شديدة من قبَل اليهود البريطانيين حتى أن الحاخام الأعظم الدكتور هرمان أدلر أصدر مرسوماً يحذر فيه من "الأفكار الخرافية والخيالية حول الأمة اليهودية والدولة اليهودية". وقد تطلَّب الأمر من هرتزل، الذي كان يطمح إلى الحصول على تأييد بريطاني لمشروعه، أن يعمل جاهداً على ضم حركة أحباء صهيون. وبحلول المؤتمر الصهيوني الثاني (1898) ، كان عدد الجمعيات الصهيونية في بريطانيا 26 جمعية، ومَثل تلك الجمعيات في بازل 15 مندوباً. وفي عام 1899، تَشكَّل اتحاد صهيوني برئاسة السير فرانسيس مونتفيوري وهو ابن أخى السير موسى مونتفيوري (الداعية اليهودي الشهير) . وفي العام نفسه، نجح هرتزل في تسجيل الصندوق اليهودي الاستعماري، وهو أول أداة مالية صهيونية لتمويل المشروع التوطيني في لندن، كشركة بريطانية. وقد أدَّى هذا إلى القضاء تماماً على جمعية أحباء صهيون كجماعة مستقلة حيث اشترك أغلب أعضائها البارزين في الصندوق وبالتالي في الاتحاد الصهيوني.(16/296)
وقد عُقد في لندن المؤتمر الصهيوني الرابع (1900) وحضره 28 مندوباً يمثلون 38 جمعية أعضاء في الاتحاد الصهيوني الإنجليزي. وفي محاولة من المؤتمر لكسب الرأي العام السياسي البريطاني للفكرة الصهيونية، وزَّع المؤتمر على النواب البريطانيين في مجلس العموم دوريات تشرح أغراض الصهيونية وتدعوهم إلى الرد وإبداء آرائهم حول هذا الموضوع. وقد وصف هرتزل هذا الفعل بأنه "أذكى فعل قامت به حركتنا منذ فترة بعيدة". وقد أيَّد الصهاينة البريطانيون مشاريع الاستيطان الصهيونية خارج فلسطين، سواء مشروع أوغندا أو مشروع العريش أو غيرهما من المشاريع.
المرحلة الثانية: 1904 ـ 1939:(16/297)
اتسمت تلك المرحلة بازدياد أهمية لندن كمركز للحركة الصهيونية وتلاشي دور برلين الصهيوني، وازدادت العلاقات بين الحكومة البريطانية وبين الصهاينة توثقاً، وشهدت مرحلة صدور وعد بلفور ومن ثم أصبح بإمكان الحركة أن تتغلغل سريعاً وسط اليهود البريطانيين. وقد مثَّل عام 1904 نقطة تحوُّل مهمة في تاريخ الحركة الصهيونية البريطانية والحركة الصهيونية ككل، إذ مات هرتزل وانتقلت القيادة إلى ولفسون. وعارضت جماعة من البريطانيين هذه القيادة الجديدة الموالية لألمانيا، كما أن موت هرتزل أضعف التوجهات الألمانية للحركة. كما ساعد على تقوية التوجهات البريطانية ظهور وايزمان وتشكُّل ما عُرف باسم «جماعة مانشستر» ، وهي جماعة من المثقفين اليهود الشبان من بينهم إسرائيل موسى سيف وسيمون ماركس وهاري ليون سيمون. وكانت تربط هذه الجماعة علاقة قوية بشخصيات إعلامية بريطانية مثل تشارلز سكوت رئيس تحرير وصاحب جريدة جارديان مانشستر. وعن طريق هذه الوسائل ازدادت أهمية جماعة مانشستر وزادت أهمية وايزمان كقائد جديد للحركة الصهيونية، وخصوصاً من خلال دعوته الملحة للتركيز على التأثير في بريطانيا العظمى والتخلي عن فكرة "الدبلوماسية التركية الألمانية" التي كان هرتزل يتبناها وكذلك فكرته حول العمل على زيادة عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين لخلق تجمُّع يهودي استيطاني قوي يُوظَّف لصالح بريطانيا. وقد أدَّت هذه العوامل إلى أن يُنتخب وايزمان عام 1914 نائباً لرئيس الاتحاد الصهيوني البريطاني.(16/298)
ومما زاد من أهمية الحركة الصهيونية في بريطانيا، ازدياد اهتمام حكومة بريطانيا بمنطقة الشرق العربي ليس فقط جغرافياً، بل اقتصادياً، مع ظهور البترول وازدياد أهميته كمصدر للطاقة. ومع نشوب الحرب العالمية الأولى، أصبح الاتحاد الصهيوني البريطاني الذي كان يضم في هذا الوقت حوالي 50 جمعية في موقع رئيسي حيث فقدت اللجنة التنفيذية دورها القيادي لأنها تقع في برلين وبالتالي انعزلت فعلاً وقولاً عن العالم كله. وقام ناحوم سوكولوف عضو اللجنة التنفيذية بالانضمام إلى وايزمان، ومن ثم أصبحت اتصالات وايزمان بالساسة البريطانيين أكثر رسمية. ومما ساعد على تقوية موقع وايزمان، تأييد لويس برانديز رئيس اللجنة التنفيذية المؤقتة في نيويورك. وفي الوقت نفسه، عمل هربرت صمويل، وهو عضو في الوزارة البريطانية، على أن يحصل على وعد من الحكومة بإقامة دولة يهودية في فلسطين. وفي يناير عام 1916، كُوِّنت لجنة استشارية من ناحوم سوكولوف وياحيل تشيلينوف وموسى جاستر وحاييم وايزمان وغيرهم. بيد أن عمل اللجنة انتهى عام 1917 بعد استقالة هربرت بنتويتش منها لإتاحة الفرصة لوايزمان ليصير رئيساً للاتحاد الصهيوني الذي كان يخوض معركة شرسة على جانبين: الأول مع اللجنة التنفيذية العالمية ذات الاتجاه الألماني، والثاني ضد قادة التجمع اليهودي البريطاني من غير الصهاينة الذين كانوا يرفضون الصهيونية بعنف، حتى أن مؤيدي الصهاينة وبرنامج بازل لم يتعدوا 5% من جملة يهود بريطانيا في هذا الوقت.(16/299)
ومع صدور وعد بلفور وتَواجُد العديد من القادة الصهاينة في لندن أثناء الحرب مثل أحاد هعام وجابوتنسكي، ازدادت قوة الاتحاد الصهيوني سواء عددياً أو من حيث تأثيره وسط الجماعة اليهودية. ومن الواضح أن الاعتراف الرسمي من قبَل الحكومة البريطانية بالحركة الصهيونية وتبنيها موقفاً صهيونياً حَسَم الموقف لصالح المنظمة الصهيونية وسط الجماعة اليهودية. ومع تبعية المشروع الاستيطاني الصهيوني للمشروع البريطاني الاستعماري، صار الفكر الصهيوني مكملاً للروح الاندماجية وغير متناقض معها، بمعنى أنه أصبح من السهل أن يكون المواطن الإنجليزي اليهودي يهودياً وصهيونياً في آن واحد، بعد أن كان الموقف مختلفاً قبل أشهر قليلة.
وقد عُقد مؤتمر صهيوني في عام 1920 قام بانتخاب وايزمان رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية، وسوكولوف رئيساً للجنة التنفيذية. وبمعنى آخر، كرس هذا المؤتمر سيطرة الاتجاه البريطاني وأنهى تماماً الاتجاه الألماني. وحظي الاتحاد الصهيوني بتأييد سياسيين بريطانيين كبار من أمثال لويد جورج ولورد ملنر ونشرت الصحف البريطانية الصهيونية مقالات تؤيد وضع فلسطين تحت حكم الانتداب.
وقد أنشأ المؤتمر الصهيوني في لندن (1920) الصندوق التأسيسي الفلسطيني (الكيرين هايسود) ، وأصبحت لندن مقره الرئيسي حتى عام 1926 عندما انتقل إلى فلسطين. وهي خطوة ارتبطت بتنامي قوة الاستيطانيين وتأسيس مؤسسات خاصة. ثم انتقلت اللجنة التنفيذية إلى لندن وبقيت بها حتى عام 1936، ومنها انتقلت إلى القدس. ويتبدَّى تنامي نفوذ الصهاينة وسط اليهود البريطانيين، وبكل وضوح، في تكوين الوكالة اليهودية الموسعة التي كانت تحت سيطرة الصهاينة تماماً.
المرحلة الثالثة (1939 ـ 1948 (:(16/300)
اتسمت تلك المرحلة بسيطرة الحركة الصهيونية تماماً على حياة ومقدرات اليهود في بريطانيا وكذلك سياسة الشد والجذب بين الصهاينة والحكومة البريطانية، ويمكن أن نعزو هذا لازدياد أهمية الولايات المتحدة الأمريكية وسط القوى الإمبريالية العالمية وازدياد ارتباط الصهاينة بالولايات المتحدة.
وكتعبير آخر عن محورية الدور البريطاني في الشئون الصهيونية في ذلك الوقت، استقر جابوتنسكي في لندن (منذ 1936) لإدارة أعمال المنظمة الصهيونية الجديدة التي أنشأها. وكالعادة، وفرت النازية للصهاينة التوطينيين البريطانيين المادة البشرية (الخام) الضرورية للعمل التوطيني. وتم تأسيس الصندوق البريطاني المركزي لمساعدة اليهود الألمان، وكان الغرض الأساسي منه هو تهجير اليهود من ألمانيا وتوطينهم في فلسطين. وكما ساعدت تلك المادة على تقوية الدور الصهيوني التوطيني، فقد ساعدت أيضاً الاستيطانيين على زيادة نفوذهم وسط الحركة الصهيونية العالمية بتزويدهم بمادة خام بشرية وأيضاً بإظهار قدرات الاستيطانيين الكبيرة على الاستيعاب، وبالتالي تخليص التوطينيين من مشاكل التعامل المباشر مع المادة البشرية. وقد ظهرت هذه الآثار في تحوَّل الاتحاد الصهيوني البريطاني إلى أقوى المنظمات تأثيراً وسط اليهود البريطانيين كما تخرَّج من تنظيمه الشبابي العديد من القيادات الإسرائيلية فيما بعد، مثل أبا إيبان وإفرام هرمان. وقد ساعدت النازية أيضاً على إثارة مخاوف بعض القطاعات بين الجماعة اليهودية في بريطانيا، وهو ما شجع على ذهاب بعض منهم إلى فلسطين. ونقل هؤلاء عند عودتهم آراء المستوطنين الصهاينة في فلسطين وكيفية التعامل مع العرب. ومع الانتفاضة العربية عام 1936، وقبل ذلك مع ثورات أعوام 1921 ـ 1929، كانت بريطانيا تلجأ لإصدار الكتب البيضاء من أجل إدخال الطمأنينة على قلوب العرب، وخصوصاً أعضاء النخب العربية المرتبطة بإنجلترا، وكان هذا يثير حفيظة الاستيطانيين الذين(16/301)
بدأوا في التفكير في أن الاعتماد الكامل على بريطانيا الإمبريالية غير ممكن، ومن هنا كانت زياراتهم المتكررة للندن بهدف الضغط على الدولة البريطانية عن طريق التأثير المباشر في الاتحاد الصهيوني.
وقد خلقت الحرب العالمية الثانية وضعاً صعباً لليهود الإنجليز، فمع اشتداد الأزمة في بريطانيا، اعتبرت الحكومة البريطانية كل اليهود الألمان الموجودين في بريطانيا جواسيس ممثلين للعدو، أي أنها نظرت إليهم النظرة التقليدية على أساس أن اليهودي هو دائماً الخائن/الجاسوس/المرابي الأبدي، أي الجماعة الوظيفية التي تعمل دائماً في خدمة من يدفع لها أجرها، ولم تقم الجماعات الصهيونية في بريطانيا بمعارضة هذا العمل.
وقد شهد عام 1942 تطوراً مهماً في تركيبة الاتحاد الصهيوني البريطاني، فقد انضمت إليه حركة عمال صهيون ذات الصلات القوية بحزب العمال البريطاني. وتجدر الإشارة إلى أن هذا يُعدُّ مؤشراً على ازدياد أهمية الاستيطانيين وغالبيتهم من حركة عمال صهيون وأيضاً على توثيق الصلة بين الصهاينة في بريطانيا وبين القوى السياسية المختلفة، فقد كانت حكومة كلمنت إتلي العمالية هي التي وصلت إلى الحكم عام 1945 قبل نهاية الحرب العالمية وانتهى في عهدها الصدام المسلح بين الاستيطانيين والبريطانيين على أرض فلسطين. وقبيل تقسيم فلسطين عام 1948، وأثناء انعقاد مؤتمر حزب العمال البريطاني عام 1947، طالب مندوب حركة عمال صهيون في كلمته الموجهة للمؤتمر (الذي حضره كمراقب زائر) باتخاذ قرار بصدد قضية فلسطين يراعي روح وعود الحزب قبل الانتخابات البرلمانية، أي الإقرار بحق اليهود في كامل فلسطين.
المرحلة الرابعة (1948 ـ (:
وتتسم المرحلة الحالية بضعف الحركة الصهيونية نسبياً وانشغالها بأمور ثقافية وشكلية طقوسية. ويعود هذا بالطبع لتضاؤل أهمية بريطانيا في السياسة الدولية وزيادة أهمية الولايات المتحدة بشكل ضخم واعتماد إسرائيل الكامل عليها.(16/302)
وبعد إنشاء دولة إسرائيل، استمر الصهاينة البريطانيون في عملهم الدعائي وفي خلق مؤسسات لرعاية مهاجري اليهود إلى فلسطين، وقد مثلت المنظمة الصهيونية جسراً بين إسرائيل وأوربا. وساهمت الحركة الصهيونية في دعم إسرائيل مادياً بمبلغ يزيد على 17000.000 جنيه إسترليني خلال الأيام الأولى لحرب 1967. وكل هذه المساعدات تأتي في الإطار التوطيني. ويتضح الطابع التوطيني للصهيونية البريطانية في المساهمة الفعلية في الهجرة لإسرائيل حيث نقرأ في موسوعة إسرائيل والصهيونية أن "عدد اليهود البريطانيين الذين استقروا فعلاً في إسرائيل كان عدداً قليلاً". لقد صارت إسرائيل بالنسبة للصهاينة البريطانيين مركزاً روحياً أو بقعة مقدَّسة يتطهر فيها يهود المنفى مما علق بهم من أدران. ويتبدَّى هذا فيما يُسمَّى برنامج "عام العمل" الذي تبنته منظمة اتحاد الشباب الصهيوني عام 1950 والقاضي بأن يسافر الشباب اليهودي من بريطانيا لقضاء سنة من العمل التطوعي في إسرائيل، وهو تعبير عن تقبُّل كامل لحالة الدياسبورا باعتبارها حالة نهائية.
تاريخ الصهيونية في الولايات المتحدة
History of Zionism in the U.S.A(16/303)
يبدأ تاريخ الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة بالجماعات الصهيونية غير اليهودية التي طالبت بتوطين اليهود في فلسطين (أو خارجها) . وفي عام 1818 طالب جون آدامز رئيس الولايات المتحدة بأن يصبح اليهود أمة مستقلة، هذا في وقت لم يزد فيه عدد اليهود عن أربعة آلاف ولم يكن هناك لوبي يهودي أو صهيوني، وهو ما يدل على أن النزعة الصهيونية في الولايات المتحدة أصيلة متجذرة في المجتمع الأمريكي (وهو على كلٍّ مجتمع استيطاني يمكنه التعاطف مع التجربة الاستيطانية الصهيونية) . ومن أهم الشخصيات الصهيونية غير اليهودية وليام بلاكستون (الذي اشترك في مؤتمر اتحاد الصهاينة الأمريكيين في فيلادلفيا) وقد أعلن المؤتمر أن بلاكستون هو "أبو الصهيونية" وهو لقب تستخدمه بعض المراجع للإشارة إلى الرئيس وودرو ويلسون أيضاً (انظر الباب المعنون «صهيونية غير اليهود» ) .(16/304)
أما تاريخ الحركة الصهيونية بين أعضاء الجماعات اليهودية، فهو لا يبدأ إلا في مرحلة لاحقة، وقد بدأت الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة مع وصول ألوف المهاجرين اليهود من شرق أوربا في بداية ثمانينيات القرن التاسع عشر حاملين معهم تقاليدهم وأفكارهم ومعتقداتهم وتنظيماتهم وجمعياتهم التي كان من بينها جمعية أحباء صهيون. وبحلول عام 1890، كان هناك فروع لجمعية أحباء صهيون في نيويورك وشيكاغو وبلتيمور وبوسطن وميلووكي وفلادلفيا وكليفلاند. وتكوَّنت جمعيات العودة لصهيون على يد آدم روزنبرج بغرض شراء أرض في فلسطين والإعداد لعودة اليهود إلى هناك. وفي عام 1896، طرح البروفسير بول هاوبت من جامعة جون هوبكنز خطة ترمي إلى توجيه المهاجرين اليهود القادمين من شرق أوربا إلى بلاد بين النهرين وسوريا. وأيده في هذه الخطة العديد من الشخصيات اليهودية البارزة مثل سيروس أدلر وماير سولزبرجر وأوسكار شتراوس. في هذه الأثناء، قام هرتزل بالإعداد لمؤتمره الصهيوني الأول (1897) وحضره أربعة من اليهود الأمريكيين.
وفي 13 نوفمبر 1897، كوَّنت الجمعيات الصهيونية في نيويورك اتحاد صهاينة نيويورك بغرض تكوين منظمة على مستوى الأمة كلها. وقد عُقد مؤتمر لمندوبين من منظمات مماثلة في 4 يوليه 1898 في نيويورك ونتج عن المؤتمر تكوين اتحاد الصهاينة الأمريكيين. وقد رأس منظمة نيويورك ريتشارد جوتهيل. وتكوَّنت جمعية أخرى تحت اسم «عصبة الجمعيات الصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية الشمالية» ، ثم اتحدت المنظمات لتكوين اتحاد صهاينة نيويورك الكبرى وما حولها. وعندما تكوَّن الاتحاد الأمريكي، تولَّى رئاسته جوتهيل، وكان أمينه الأول هو ستيفن وايز.(16/305)
وقد عارض الصهيونيةَ (في البداية) اليهودُ من الطبقات العليا والحاخامات الإصلاحيون الذين أصدروا بياناً في يوليه 1897 أدانوا فيه المحاولات الرامية لإنشاء دولة يهودية. كما واجهت الحركة الصهيونية معارضة من قبَل اليهود الاشتراكيين الذين انخرطوا في الحركات النقابية الأمريكية التي كانت قوية في بداية القرن، وكان هؤلاء ينظرون للصهيونية على أنها أيديولوجيا رجعية تهدف إلى فرض سيطرة البورجوازية على الطبقة العاملة. ورفضوا أيضاً سيطرة من أسموهم بالألمان على المهاجرين من أوربا الشرقية.
وقد أصدر الاتحاد عام 1901 جريدة المكابي برئاسة لويس ليبسكي، وشارك جوتهيل في المجلس الاستشاري الأول للصندوق الاستيطاني اليهودي. ودعا الاتحاد إلى شراء أسهم في الصندوق القومي اليهودي، كما قدَّم مساعدات مادية ضخمة للمستوطنات وساهم في إنشاء المدرسة العليا بهرتزليا وتخنيون حيفا ومدرسة بيزالال وغيرها.
وقد ارتحل دي هاس موفَداً من قبَل اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية ليقوم بقيادة الاتحاد الصهيوني في الولايات المتحدة. فعلى ما يبدو لم يكن الأداء في تلك الآونة مرضياً للقيادة. واستقر دي هاس في بوسطن ليعمل بدءاً من 1902 كأول محترف صهيوني، يعمل أميناً للاتحاد، ونجح دي هاس في ضم شخصية يهودية مرموقة للحركة هو القاضي لويس برانديز. وقد أدَّى انتقال دي هاس إلى استقالة جوتهيل الذي عانت الحركة في عهده من صعوبات مالية ضخمة، وأُسندت رئاسة الحركة إلى هاري فردنفالد. وفي بداية 1905، استقال دي هاس من الأمانة وتَسلَّمها يهودا ماجنيس، وكان هذا إيذاناً بازدياد التوجه التوطيني قوة بحيث رأت القيادات الجديدة أن الصهيونية هي بعث ونهضة القيم اليهودية القديمة وضبط للاندماج. ولم يكن هؤلاء ينفون أهمية أرض إسرائيل بيد أنهم لم تكن عندهم أية نية للاستيطان فيها.(16/306)
والواقع أن القادة الصهاينة الاستيطانيين رأوا الأهمية المتزايدة للولايات المتحدة وبدأوا في توثيق علاقاتهم بها، فقام كلٌّ من شماريا ليفين وبن جوريون وسوكولوف وبن زفي بزيارات قصيرة وأحياناً طويلة للولايات المتحدة بغرض توطيد علاقاتهم مع أعضاء الجماعات اليهودية وإشاعة الأفكار الصهيونية بينهم. هذا، وقد وصل عدد أعضاء الاتحاد الصهيوني الأمريكي عشية الحرب العالمية الأولى إلى 21.000 عضو، وهو عدد صغير للغاية بالنسبة لعدد أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة البالغ عددهم حوالي ثلاثة ملايين، خصوصاً أن كثيراً من الأعضاء لا تتجاوز عضويتهم في المنظمة الصهيونية دفع رسوم العضوية (الشيقل) . وكانت توجد تحت مظلة الاتحاد 88 جمعية صهيونية محلية ومتخصصة، ومن هذه الجمعيات منظمة أبناء صهيون والشباب اليهودي وعصبة التحالف الصهيوني الجامعي، هذا غير منظمة الهاداساه أو منظمة النساء الصهيونيات الأمريكية عام 1912برئاسة هنرييتا سيزولد. ومن رؤساء المنظمات الصهيونية الشبابية والجامعية، نذكر فليكس فرانكفورتر وماكس هيلر وهوراس كالن. وقد تأسَّست أول جمعية عمالية صهيونية في أمريكا عام 1903، وكانت تهدف إلى إبعاد اليهود عن الأوساط الاشتراكية. وأُصدرت صحيفة باليديشية منذ عام 1905، ومن أهم وأبرز قياداتها حاييم جرينبرج.(16/307)
وقد أُجريت عام 1911 انتخابات الاتحاد الصهيوني الأمريكي، وقد فاز فيها اليهود المهاجرون من شرق أوربا بكل مقاعد اللجنة التنفيذية وترأس اللجنة لويس ليبسكي وكان هذا إيذاناً بسيطرة التوطينيين العماليين تماماً وإنهاء تواجد الألمان والصهاينة الثقافيين. وشهد عام 1911 أيضاً تكوين منظمة مزراحي أمريكا على يد مائير بار إيلان وهي المنظمة التي صارت بمرور الزمن الأساس المادي لمنظمة المزراحي العالمية نظراً لقوتها المالية والعددية والتنظيمية. وهذا دليل على تنامي أهمية الحركة الصهيونية الأمريكية في الحركة الصهيونية العالمية، كما أنه أيضاً دليل مهم على التوجه الديني لليهود الأمريكيين في الإطار التوطيني، أي أن المزراحي أتاحت للمتدين الأمريكي اليهودي حلاًًّ رائعاً يمكِّنه من البقاء في أرض الميعاد الحقيقية (أي الولايات المتحدة) وإرضاء تطلعاته الدينية والروحية نحو أرض الميعاد المُتخيَّلة في فلسطين والتي لا ينوي الذهاب إليها.(16/308)
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، حدثت تحولات مهمة في الحركة الصهيونية نتيجة إعلان ويلسون تأييده وعد بلفور وقبول برانديز رئاسة الحركة الصهيونية الأمريكية. وجذبت هذه الشخصية المرموقة العديد من الشخصيات اليهودية البارزة للحركة مثل برنارد فلكسنر ولويس كيرشكين. وأدَّى هذا إلى تَحسُّن الوضع المالي للاتحاد وزيادة العضوية فيه وازدياد قوة الضغط السياسي له. وقد كان برانديز مؤمناً بفكرة أن الولايات المتحدة الأمريكية هي تجسيد للتعددية الثقافية على الأرض وهي أمة الأمم، ومن ثم فلا تَعارُض بين الأمريكية والصهيونية، أي لا تعارُض بين الانتماء لأمريكا والانتماء لأرض الميعاد. وقد عبَّر برانديز بذلك عن الفكر التوطيني الأمريكي وبلوره وساعد على استمراره وكسب الأنصار له. وقد استقال برانديز من منصبه كرئيس للاتحاد عام 1916 بعد توليه منصب قاض في المحكمة الدستورية العليا، بيد أنه استمر في قيادة الاتحاد من خلال الشخصيات المؤثرة من حوله مثل دي هاس وكالن وفرانكفورتر وغيرهم. وفي عام 1917، أعاد الاتحاد تنظيم فروعه وجمعياته في المنظمة الصهيونية الأمريكية التي أُقيمت على أساس إقليمي. وكان القاضي برانديز رئيساً فخرياً، والقاضي جوليان ماك رئيساً للمنظمة، وكل من ستيفن وايز وهاري فردنفالد نائبين للرئيس. وقد مهد هذا التحول الطريق للاتصالات التي تمت على أعلى المستوىات بين الصهاينة (من خلال برانديز) وبين حكومة الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، ومن ثم حظي وعد بلفور فور صدوره بموافقة وترحيب الحكومة الأمريكية.(16/309)
ورغم معارضة كثير من أعضاء الجماعات اليهودية، ونتيجة تنامي قوة الصهاينة (ارتفع عدد الصهاينة إلى 150 ألفاً) وإحساسهم بتأييد الحكومة الأمريكية لهم، اقترح القادة الأمريكيون الصهاينة إقامة مؤتمر يهودي أمريكي عن طريق الانتخاب الديموقراطي لمناقشة مشكلات اليهود فيما بعد الحرب وضمن ذلك إقامة وطن قومي في فلسطين وغيرها. وقد عُقد هذا المؤتمر في 15 ديسمبر 1918 في فيلادلفيا، وقد تبنَّى قراراً يطالب عصبة الأمم بتولية بريطانيا العظمى مهام الانتداب على فلسطين. وتَطوُّع عدة آلاف من الشباب الأمريكي اليهودي للسفر إلى فلسطين، بيد أن العدد الحقيقي لم يتعد 50 فرداً هم الذين استقروا هناك. وهذا مؤشر آخر على طبيعة الفكرة الصهيونية بالنسبة لليهودي الأمريكي، فالمواطن الأمريكي اليهودي يحس بأن ما يدفعه للصهاينة من تبرعات هو الضريبة التي على أساسها يكتسب انتماءه الروحي والفكري وإحساسه بالهوية. وبعد الحرب، قام برانديز بزيارة فلسطين وصاغ خططاً عديدة لإدارة الاستيطان الصهيوني على أسس رأسمالية رشيدة، ومن خلال لجان تكنوقراطية، أي أنه كان يحاول أن يفرغ الاستيطان الصهيوني من خصوصيته الإحلالية وبالتالي حاجته للدعم المالي والمعنوي الدائم، وهو الأمر الذي أدرك المستوطنون استحالته فحدث صراع بين برانديز ووايزمان. وقد اقترح وايزمان إنشاء صندوق قومي يهودي لتمويل الاستيطان اليهودي في فلسطين وتحسين الاقتصاد اليهودي هناك، وكذلك لإقامة مؤسسات تربوية وتعليمية وعلمية هناك تدار مركزياً من المقر الرئيسي للمنظمة الصهيونية، وقد رفض برانديز ومجموعته قبول هذه الرؤية.(16/310)
وقد قاد المعارضة هذه المرة لويس ليبسكي (تلميذ دي هاس) وصار رئيساً للمنظمة ومعه كل من أبراهام جولدبرج وإيمانويل نيومان وموريس روزنبرج، وأدَّى هذا إلى انسحاب برانديز وأتباعه الأقربين من المنظمة الأمريكية وركزوا جهودهم على تنمية المجتمع اليهودي في فلسطين اقتصادياً عن طريق مؤسسة فلسطين الاقتصادية التي أنشأوها. وبالمقابل، قام ليبسكي بإنشاء فرع للكيرين هايسود في أمريكا واختير نيومان مديراً له والمحامي صمويل أونترماير رئيساً له. لكن خروج برانديز شكَّل ضربة قوية للمنظمة الأمريكية رغم كل شيء حتى أن عضويتها انخفضت إلى 800 عضو بحلول عام 1929. وقد ارتبط هذا أيضاً بانخفاض التبرعات، وتَدهور الوضع المادي للطبقة الوسطى الأمريكية مع الكساد العظيم (ومعظم أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة من أبناء هذه الطبقة) .
وقد أصبحت الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة، نظراً لحجمها وقدرتها المالية والاجتماعية، المساهم الأول في تطوير الخطط الاستيطانية في فلسطين. وقد بلغت التبرعات التي قدَّمتها المنظمة الصهيونية الأمريكية في الفترة بين عامي 1929 و1939 مبلغ 100 مليون دولار أمريكي. وساعد الصهاينة الأمريكيون في عملية التهجير غير الشرعي لليهود، وهو ما يعكس تنامي قوتهم في الحركة العالمية وتناقص قوة الأوربيين والبريطانيين على وجه الخصوص. وفي عام 1939 رفضت الولايات المتحدة الكتاب الأبيض الذي حدَّد هجرة اليهود إلى فلسطين وقامت بالضغط من أجل فتح أبواب فلسطين (في الوقت الذي أوقفت فيه الهجرة اليهودية إلى الولايات المتحدة) .(16/311)
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، شُكِّلت لجنة طوارئ برئاسة ناحوم جولد مان وصارت هذه اللجنة أهم منبر سياسي للصهيونية الأمريكية، وأُعيدت تسميتها باسم «لجنة الطوارئ الصهيونية الأمريكية» . وقد أصدرت بياناً نوهت فيه بأن الاحتجاج على الكتاب الأبيض البريطاني عام 1939 يجب ألا يقتصر على الاجتماعات والمؤتمرات بل يجب أن يكون هناك موقف إيجابي لبرنامج عملي لفلسطين في فترة ما بعد الحرب. ولهذا الغرض، أقام الصهاينة الأمريكيون مؤتمراً في فندق بيلتمور بنيويورك في الفترة بين 9 ـ 11 مايو 1942، وكانت نتيجة هذا المؤتمر المقررات التي عُرفت باسم مقررات أو برنامج بلتيمور القاضي بوجوب فتح فلسطين أمام الهجرة اليهودية والاستيطان اليهودي تحت رعاية وسلطة الوكالة اليهودية ووجوب تحويلها إلى كومنولث يهودي على أساس وجود أغلبية يهودية، ويجب دمج الكومنولث في بنية العالم الديموقراطي الجديد. وصار هذا البرنامج، الذي يستخدم مفردات لغة الخطاب الأمريكي حول العالم الديموقراطي الجديد والحرية، الحل الصهيوني الرسمي لمشكلة فلسطين.
ويعطينا مؤتمر بلتيمور والبرنامج الذي نجم عنه دلالة قوية على ارتباط الحركة الصهيونية بالتشكيل الاستعماري الغربي، فمع تغيُّر مركز الثقل الإمبريالي من بريطانيا وانتقاله إلى أمريكا، ازدادت أهمية الولايات المتحدة وبالتالي الحركة الصهيونية التوطينية فيها. ومع اندلاع الحرب ووضوح أن الولايات المتحدة في سبيلها إلى وراثة كل القوى الإمبريالية الأوربية، كان هذا البرنامج بمنزلة تدشين للصداقة والعلاقة الوثيقة بين القوة الإمبريالية الصاعدة والحركة الصهيونية التي تبحث عن راع إمبريالي. وقد شهدت تلك الفترة أيضاً ازدياد أهمية رؤساء الحركة الصهيونية في أمريكا حتى أنهم صاروا يُعامَلون كرؤساء الدول ورؤساء الحكومات، وقد أعطاهم هذا انطباعاً موهوماً بأن هذا هو ما سيحدث لو أُنشئت الدولة.(16/312)
وقد دعا ستيفن وايز وناحوم جولدمان الجمعيات اليهودية الأمريكية إلى إرسال مندوبين إلى مؤتمر تمهيدي في بتسبرج في يناير 1943 لطرح خطة عمل مشتركة بصدد مصير فلسطين بعد الحرب. وطالب هؤلاء بتشكيل جيش يهودي يحارب إلى جانب قوات الحلفاء وأرسلوا عريضة إلى الرئيس روزفلت مطالبين إياه بالضغط على الحكومة البريطانية للعمل على إنشاء وطن قومي لليهود بعد الحرب بما في سلطتها من صلاحيات الانتداب. وفي 23 أغسطس عام 1943 عُقد المؤتمر الأمريكي اليهودي بحضور اللجنة الأمريكية اليهودية ولجنة العمل اليهودية وهما منظمتان غير صهيونيتين. ورأس لجنة فلسطين في المؤتمر الحاخام أبا هليل سيلفر. وقد استخدم سيلفر موهبته الخطابية لإثارة حماس الحضور، وتمت الموافقة بالإجماع تقريباً على قرار يطلب فتح أبواب الهجرة أمام اليهود إلى فلسطين للاستيطان هناك تحت إدارة الوكالة اليهودية (وذلك من أجل الوصول إلى أغلبية يهودية في فلسطين لخلق الكومنولث اليهودي المنشود) .
وقامت لجنة الطوارئ بشن حملة مكثفة واسعة النطاق لجمع التأييد للمشروع الصهيوني في أنحاء الولايات المتحدة كافة وقد أحرزت تلك الحملة نجاحاً منقطع النظير. وظهر هذا النجاح في تشكيل لجنة رأي عام أمريكية تؤيد برنامج بلتيمور هي اللجنة الأمريكية المسيحية من أجل فلسطين التي شُكِّلت بمبادرة من الصهاينة عام 1946 عن طريق اندماج لجنة فلسطين الأمريكية والمجلس المسيحي من أجل فلسطين، وقد شملت هذه اللجنة في عضويتها 20 ألف فرد في كل مجال من مجالات الحياة.(16/313)
وفي المؤتمر الصهيوني الثاني والعشرين (1946) ، قام بن جوريون وأبا هليل سيلفر بمعارضة محاولات وايزمان الرامية إلى الرضوخ للسياسة البريطانية ونجحا في كسب تأييد المؤتمر، وهو ما أدَّى إلى استقالة وايزمان. وتبوأ بن جوريون رئاسة المجلس التنفيذي للوكالة اليهودية وأصبح سيلفر رئيساً للفرع الأمريكي للوكالة. وهكذا بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الحركة الصهيونية استمرت حتى تكوين دولة إسرائيل عام 1948 وتميَّزت هذه المرحلة بالتعاون بين الصهاينة الاستيطانيين في فلسطين والصهاينة التوطينيين الأمريكيين.
وقد استمرت مرحلة التعاون هذه فترة عامين، فبعد إعلان الدولة وجد التوطينيون أنفسهم بدون سلطة حقيقية. بل إن بن جوريون طالب بأن تتسع دائرة التأييد لتشمل كل اليهود ومنهم غير الصهاينة، الأمر الذي هدد المنظمة الصهيونية نفسها. وقد عارض أبا هليل سيلفر هذا بشدة وأصر على أن دور المنظمة بعد إنشاء الدولة لا يقل خطورة عن دورها قبله. ووصل هذا الخلاف إلى ذروته في فبراير عام 1949 عندما استقال إيمانويل نيومان وأبا هليل سيلفر من منصبيهما في الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية الأمريكية. وهكذا أُحكمت قبضة الاستيطانيين بالكامل على المنظمة التي أصبحت مهمتها الوحيدة جَمْع المال لمصلحة دولة إسرائيل.
ويجب أن نضع في الاعتبار دائماً أن الحركة الصهيونية واجهت معارضة شديدة في البداية من أعضاء الجماعات اليهودية، ولم تحقق نجاحها إلا بعد أن تأكد يهود أمريكا من أن الصهيونية والمصالح الأمريكية شيء واحد، أي أن صهيونية يهود أمريكا نابعة من أمريكيتهم لا من يهوديتهم. كما يمكن القول بأن الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة، رغم تشنجها الواضح، هي من النوع التوطيني وحسب، إذ لا يهاجر إلا قلة قليلة.
تاريخ الصهيونية في العالم العربي
History of Zionism in the Arab World(16/314)
مرّ النشاط الصهيوني في البلدان العربية بثلاث مراحل تاريخية رئيسية تعكس في مجملها مراحل تَطوُّر المشروع الصهيوني بوجه عام والتيارات المختلفة التي تموج بها الحركة الصهيونية:
المرحلة الأولى: وتمتد منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى بداية الحرب العالمية الأولى. وشهدت هذه الفترة بدايات هجرة جماعات من يهود أوربا إلى خارج فلسطين وتوطُّنهم هناك، وقد اتخذت في أول الأمر طابع موجات منظمة تشرف عليها جمعيات أحباء صهيون في روسيا وتحيطها بدعاية تستند إلى ديباجات دينية روحية من قبيل "الحنين إلى أرض الميعاد" و"العودة إلى صهيون". واكتسبت حركة الاستيطان اليهودي في فلسطين زخماً جديداً بنجاحها في الحصول على مساعدات مالية من بعض أقطاب الرأسماليين الأوربيين من أعضاء الجماعات اليهودية، أمثال البارون دي روتشيلد والبارون دي هيرش الذين رأوا في ذلك فرصة لتوسيع نطاق نفوذهم واستثماراتهم من جهة والتخلص من الفائض البشري اليهودي في أوربا من جهة أخرى.
وانصرف النشاط الصهيوني التنظيمي في ذلك الوقت إلى إقامة مؤسسات اقتصادية لتمويل عملية الاستيطان في فلسطين؛ مثل شركة تنمية أراضي فلسطين وجمعية استعمار فلسطين، والصندوق القومي اليهودي. وذلك بالإضافة إلى مد نشاط المنظمة الصهيونية العالمية إلى فلسطين، من خلال تأسيس مكتب فلسطين للإشراف على عمليات الاستيطان وتوفير سبل الاستقرار والعمل للمهاجرين الجدد. ومن جهة أخرى، بُذلت مساع لتشكيل منظمات صهيونية في بلدان عربية أخرى بغرض تقديم الدعم المادي والمعنوي لمشاريع الاستيطان اليهودي في فلسطين. ومن أبرز هذه المنظمات فرع حركة أجودات صهيون في تونس، وفرع الفيدرالية الصهيونية الفرنسية في المغرب، وجمعية باركوخبا، وجمعيات أبناء صهيون، وأندية المكابي في مصر، وجمعيات الرواد (حالوتسيم) في سوريا ولبنان.(16/315)
كما شهدت هذه الفترة ظهور تيار الصهيونية الإقليمية الذي كان يرى ضرورة البحث، ولو مرحلياً، عن مناطق أخرى خارج فلسطين لتوطين يهود أوربا فيها، وذلك تمشياً مع مقتضيات المشاريع الاستعمارية الغربية وما تتطلبه مصالح القوى الاستعمارية الرئيسية آنذاك. وانعكس ذلك على تَوجُّه النشاط الصهيوني في المنطقة العربية حيث قامت عدة محاولات استيطانية خارج فلسطين، أبرزها مشروع العريش بمصر، وكوستي في السودان، وبرقة في ليبيا، والأحساء في شبه الجزيرة العربية.
والمُلاحَظ أن يهود البلدان العربية ظلوا خلال هذه الفترة بعيدين عن حساب الدوافع الصهيونية للاستيطان اليهودي خارج أوربا. ولعل هذا يرجع إلى أن المشروع الصهيوني في بدايته كان يُعرِّف اليهودي باعتباره «الإشكنازي» فحسب، ومن ثم ظل يهود العالم العربي (من السفارد والشرقيين) بمنأى عن نطاق المخطط الصهيوني الرامي إلى تخليص أوربا من يهودها. يُضاف إلى ذلك أن أوضاع الجماعات اليهودية في العالم العربي لم تواجه آنئذ لحظات تأزم عميق على غرار تلك التي شهدتها الجماعات اليهودية في أوربا، والتي يُطلَق على سماتها عموماً اسم «المسألة اليهودية «.(16/316)
المرحلة الثانية: وتمتد منذ صدور وعد بلفور عام 1917 وحتى قيام دولة إسرائيل عام 1948. وشهدت هذه الفترة تكثيف أنشطة الاستيطان اليهودي في فلسطين، بدعم سياسي ومالي كامل من جانب بريطانيا التي كانت تمثِّل القوة الاستعمارية الرئيسية آنذاك. وتبع ذلك اتساع أنشطة المنظمات الصهيونية في البلدان العربية بتياريها الأساسيين: الاستيطاني الرامي إلى تشجيع هجرة يهود أوربا إلى فلسطين وبناء المؤسسات اللازمة لاستقرارهم هناك، والتوطيني الذي ينحصر دوره في تمويل عمليات الاستيطان ودعمها سياسياً ودعائياً. ففي فلسطين، اتسع نشاط مكتب فلسطين والصندوق القومي اليهودي، كما بُذلت محاولات لعقد لقاءات بين ممثلي الحركة الصهيونية والقادة العرب المحليين، بغرض امتصاص الغضب العربي على مخطط استعمار فلسطين ومن ثم توفير مناخ ملائم لمواصلة هذا المخطط. إلا أن هذه المحاولات قُوبلت برفض كامل من الجانب العربي الذي كان يدرك خطورة النشاط الصهيوني، وهو ما تمثَّل في مقررات المؤتمر العربي الأول (1913) الذي أكد عروبة فلسطين وكشف حقيقة الدعاية الصهيونية الزائفة عن المستوطنين اليهود باعتبارهم رواد تنوير وتحديث وعن إمكان التعايش بين المستعمرين وضحاياهم من العرب. وفي مصر، تمثَّلت أهم أنشطة المنظمات الصهيونية في تمويل وتدريب الفيلق اليهودي المعروف باسم «فرقة البغالة» ، والتي شُكِّلت إثر اندلاع الحرب العالمية الأولى كجزء من القوات البريطانية المقاتلة، حيث كانت الفرقة تتلقى تدريبات في معسكر القباري بالإسكندرية، وساهم في تمويلها عدد من كبار التجار اليهود في مصر؛ فيكتور النجار ورافائيل هراري ومنسَّى وجاتينيو وقطاوي، وغيرهم. ومن ناحية أخرى، اندمجت معظم المنظمات والجمعيات الصهيونية في مصر لتُشكِّل فرعاً للمنظمة الصهيونية العالمية يشرف عليه ليون كاسترو، وتفرعت عنها عدة جمعيات وبصفة خاصة في الإسكندرية. وفي العراق، ساعدت سلطات الانتداب(16/317)
البريطاني في إضفاء الصفة القانونية على المنظمات الصهيونية التي كانت تمارس عملها سراً في ظل حكم الدولة العثمانية، إذ أُشهرت في عام 1921 منظمة صهيونية باسم «اللجنة الصهيونية في بلاد الرافدين» أقامت لنفسها فروعاً في عدة مدن عراقية، إلا أن الاعتداءات الصهيونية على عرب فلسطين في عام 1929 (فيما عُرف باسم «حادث البراق» ) حدت بالحكومة العراقية إلى حظر نشاط جميع المنظمات الصهيونية هناك.
وشهدت سنوات الحرب العالمية الثانية ظهور منحى جديد في النشاط الصهيوني داخل البلدان العربية إذ بدأت مساع لتهجير أعداد من اليهود العرب إلى فلسطين، ولا سيما من البلدان التي توجد بها جماعات يهودية كبيرة العدد نسبياً مثل العراق واليمن والمغرب. وكان الدافع الأساسي لهذا الاهتمام هو الحاجة إلى المادة الاستيطانية لتدعيم المخطط الصهيوني في فلسطين، إلا أن ثمة عوامل أخرى شجعت هذا الاتجاه من بينها الإجراءات التي اتخذتها بعض الحكومات العربية لكبح النشاط الصهيوني في بلدانها وما تبع ذلك من مصادمات من قبيل حوادث الفرهود في العراق عام 1941. وبالإضافة إلى عمليات تهجير اليهود العرب، اتجه النشاط الصهيوني في البلدان العربية إلى دعم جهود تهجير يهود أوربا إلى فلسطين عن طريق إقامة مراكز لتجمُّعهم تمهيداً لنقلهم إلى فلسطين.(16/318)
المرحلة الثالثة: وتمتد من قيام دولة إسرائيل عام 1948 وحتى اندلاع حرب عام 1967. واتسمت هذه الفترة بتنامي نشاط المنظمات الصهيونية في تهجير يهود البلدان العربية إلى فلسطين واتجاهها إلى انتهاج أساليب عنيفة لتحقيق المخطط الصهيوني استهدفت في كثير من الأحيان يهود البلدان العربية أنفسهم للإيعاز بأنهم ليس بمقدورهم العيش في المحيط العربي. ومن هذه الأساليب، مثلاً، إلقاء قنبلة على مقهى دار البدع في بغداد والذي كان ملتقى كثير من اليهود، وذلك عشية عيد الفصح عام 1950، وتفجير قنبلة في المركز الثقافي الأمريكي في العراق بعد فترة وجيزة. وحتى لا نخلق انطباعاً خاطئاً بأن معظم أعضاء الجماعات اليهودية في العالم العربي كانوا منخرطين في سلك النشاط الصهيوني، لابد أن نشير إلى وجود حركات يهودية معادية للصهيونية بين الجمهور من أعضاء الطبقات الثرية المرتبطين بمصر اقتصادياً وثقافياً، كما أن كثيراً من اليهود من أعضاء الطبقات الأقل ثراءً كانوا متشبعين بالثقافة المصرية والعربية والإسلامية ولم تكن الصهيونية تعنيهم من قريب أو بعيد (ويمكن أن يعود القارئ إلى الباب المعنون «العالم العربي منذ القرن التاسع عشر» )(16/319)
الباب الثانى: الإرهاصات الصهيونية الأولى: حملات الفرنجة (الصليبيين)
الصليبيون (الفرنجة)
The Crusaders
«الصليبيون» ترجمة لكلمة «كروسيدرز Crusaders» المشتقة من كلمة «كروس cross» ، ومعناها «صليب» . وهي عبارة تُستخدَم في الخطاب السياسي والتاريخي في الغرب للإشارة إلى الفرنجة الذين شنوا عدة حملات على العالم العربي والإسلامي في القرن الثاني عشر، وقد تَبنَّى كثير من العرب المحدثين هذا المصطلح. ونحن نستخدم في هذه الموسوعة عبارة «حروب الفرنجة» للإشارة إلى الحملات الغربية التي جُرِّدت ضد الشرق الإسلامي لنهبه، ولم تكن المسيحية سوى ديباجة سطحية استخدمها الغزاة ولا علاقة لها برؤيتهم للكون، ونستخدم عبارة «حملة صليبية» للإشارة إلى الحملات التي كانت تُجرِّدها الكنيسة ضد فرق المهرطقين في جنوب فرنسا وغيرها من المناطق، فهذه حملات كانت تتم باسم المسيحية ولصالحها. ونحن نعتبر حملات الفرنجة تعبيراً عن الإرهاصات الصهيونية الأولى.
حملات الفرنجة والجماعات اليهودية في غرب أوربا وفلسطين
The Crusades and the Jewish Communities in Western Europe and Palestine
تُسمَّى «حروب الفرنجة» في الخطاب الغربي «الحروب الصليبية» نسبة إلى الصليب. وهو مصطلح يُطلَق على الحروب التي شنها حكام أوربا المسيحية الإقطاعية لاحتلال فلسطين إبان العصور الوسطى. وهي حروب كانت تساندها حركة سياسية واجتماعية ضخمة قادتها النخبة الحاكمة (الكنيسة والنبلاء) ووجدت صدى عميقاً لدى الجماهير الشعبية التي انضمت إليها بأعداد ضخمة لم تضعها النخبة الحاكمة نفسها في الحسبان.(16/320)
ويرى د. سعيد عاشور أن الفرنجة أو من يقال لهم «الصليبيون» هم من جموع المسيحيين الغربيين الكاثوليك الذين خرجوا من بلادهم في شتى أنحاء الغرب الأوربي، واتخذوا الصليب شعاراً لهم لغزو ديار الإسلام، وبخاصة منطقة الشرق الأدنى وبلاد الشام حيث الأراضي المقدَّسة. ومعنى هذا أن المسيحيين الشرقيين من روم وأرمن وسريان وأقباط ونحوهم لا يدخلون في دائرة مصطلح «الصليبيين» لأن هؤلاء من أهل البلاد (وليسوا وافدين عليها من الخارج) ربطتهم بالأرض التي ينتمون إليها روابط أصيلة جذرية ترجع إلى ما قبل الإسلام. وعاش معظمهم قبل الحركة الصليبية تحت مظلة الإسلام يتمتعون بما كفلته لهم هذه الديانة من حقوق ويؤدون ما فرضته عليهم من واجبات. ومن ثم نفضل استخدام مصطلح «فرنجة» في هذه الموسوعة بدلاً من «الصليبيين» . ولكننا نستخدم مصطلح «صليبيين» أحياناً للإشارة إلى الحملات الصليبية التي جرَّدتها الكنيسة ضد الهرطقات المختلفة، أو للتعبير عن المنظور الغربي لحملات الفرنجة.
وتشير المصادر المعاصرة إلى الصليبيين باعتبارهم «الفرنجة» أو «الفرنج» . وهذا يعود إلى أن المكون البشري لهذه الحركة الاستيطانية الغربية لم يكن متجانساً عرْقياً، ورغم هذا فإن الفرنجة سكان بلاد الغال (غاليا) التي عُرفت فيما بعد باسم «فرنسا» كانوا أكثر إقبالاً من غيرهم على المشاركة في الحركة الاستيطانية. وتشير بعض المصادر اليهودية إلى الفرنجة بكلمة «إشكناز» وهي الكلمة التي استُخدمت فيما بعد للإشارة إلى يهود أوربا، خصوصاً ألمانيا وبولندا.(16/321)
وحروب الفرنجة جزء من المواجهة التاريخية العامة بين الحضارة الغربية وحضارة الشرق الأدنى والتي تعود بجذورها إلى بداية ظهور الحضارة الغربية نفسها حين وصلت شعوب البحر (الفلستيون) من كريت وبحر إيجة إلى ساحل مصر، ثم استقروا في ساحل أرض كنعان بعد أن صدهم المصريون. وحينما هيمن الفرس على الشرق الأدنى، أخذت المواجهة شكل اشتباك عسكري بينهم وبين الدول المدن اليونانية التي صدت الغزو الفارسي. ثم قام الإسكندر الأكبر بغزو الشرق وأسس الإمبراطورية اليونانية التي انقسمت إلى ثلاث امبراطوريات بعد موته. كما هيمن الرومان بعد ذلك على معظم الشرق الأدنى القديم. وقد انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين: الإمبراطورية الشرقية (البيزنطية) ، والامبراطورية الغربية. ومع وصول الإسلام وقيامه بفتح المنطقة وتوحيدها، وتحويله البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة عربية إسلامية، انحسر نفوذ العالم الغربي وأصبح محصوراً داخل القارة الأوربية. بل إن الجيب البيزنطي المتبقي على أرض الشرق في آسيا الصغرى كان قد بدأ يقع تحت هجمات السلاجقة وهي الهجمات التي أدَّت في نهاية الأمر لسقوط الدولة البيزنطية، وكذلك القسطنطينية، على يد العثمانيين. وقد هُزم جيش بيزنطي بقيادة الإمبراطور رومانوس ديجينيس هزيمة ساحقة على يد السلاجقة بقيادة ألب أرسلان في مانزيكريت في أرمينيا. ثم استمر التوسع السلجوقي، فتم الاستيلاء على أنطاكية عام 1085، الأمر الذي اضطر الإمبراطور أليكسيوس كومنينوس إلى أن يطلب العون من الغرب حيث لم يجد آذاناً صاغية وحسب بل شهية مفتوحة. ويعود هذا إلى مركب من الأسباب المادية والمعنوية:(16/322)
1 ـ يُلاحَظ أن الاقتصاد الغربي بمعظم مؤسساته تساقط على أثر سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية وتردَّى إلى حالة من الاقتصاد البدائي والطبيعي. ولكنه بدأ يصحو من كبوته ابتداءً من القرن التاسع الميلادي، فشهدت الفترة التي سبقت حروب الفرنجة شيئاً من الانتعاش الاقتصادي، وكانت هناك محاولات ترمي لزيادة الرقعة الزراعية عن طريق اجتثاث الأشجار وتسهيل حركة التجارة وتنظيم الأسواق الدولية والمحلية. وقد ساعدت تلك الحروب بدورها على هذا الانتعاش الاقتصادي، ذلك أن التاجر المسيحي تبع المقاتل الفرنجي بعد أن ترك كثيراً من خوفه من الطرق المجهولة وعاد بالسلع من الشرق بعد أن كان التاجر اليهودي يحتكر هذه العملية تقريباً من خلال شبكة الاتصالات الدولية اليهودية الخاصة به. كما أن الملوك والنبلاء والفرسان العائدين استعذبوا مذاق السلع الترفيهية الشرقية وهو ما كان يعني ظهور سوق لها في الغرب ونشاط للتجارة الدولية.(16/323)
2 ـ تزايد نفوذ المدن الإيطالية التجارية بخاصة البندقية وجنوا وبيزا، وأصبح لها أساطيلها التجارية الضخمة التي فكت الهيمنة الإسلامية على البحر الأبيض المتوسط. وقام الجنويون والبيزيون بطرد المسلمين من قواعدهم في جنوب إيطاليا وجزيرة كورسيكا في القرن العاشر الميلادي، وهيمنوا على غربي المتوسط في القرن الحادي عشر الميلادي. بل حاولت المدن الإيطالية تأمين موطئ قدم لها على ساحل المتوسط ذاته، فعبأت كل من جنوة وبيزا أسطولاً هاجم تونس عام 1087، واضطر أمير تونس بعدها إلى أن يفرج عن الأسرى المسيحيين وأن يدفع تعويضاً ويعفي التجار الجنويين والبيزيين من ضرائب الاستيراد. وكان لمدينة البندقية نشاطها أيضاً، فقد هيمنت على البحرين الأدرياتيكي والإيجي في بداية القرن الحادي عشر الميلادي ووصلت إلى البحر الأسود. ولا شك في أن حروب الفرنجة ساهمت في العملية المتصاعدة الهادفة إلى فك الحصار الذي فرضه المسلمون على تجارة الشرق، وأعطت المدن الإيطالية موطئ قدم في مواقع مهمة من شرق المتوسط. وقد حصلت هذه المدن على امتيازات وتسهيلات تجارية ضخمة داخل الممالك الخاضعة للفرنجة في الشام وفلسطين.
3 ـ يُلاحَظ أن أوربا شهدت تزايداً في عدد السكان مع نهاية القرن العاشر الميلادي واستمر التزايد حتى القرن الثالث عشر الميلادي وهو تزايد لم تواكبه بالضرورة زيادة في الرقعة الزراعية، ومن هنا بدأت السلطات الدنيوية في تحريم امتلاك اليهود للأراضي الزراعية وهو حظر طُبِّق على الكنائس والأديرة.(16/324)
4 ـ يدور النظام الإقطاعي الغربي حول نشاطين أساسيين: الزراعة والقتال. وكما بيَّنا، كان النظام الإقطاعي يواجه تَناقُص الرقعة المزروعة. ومن القواعد الأساسية في الإقطاع الغربي أن الابن الأكبر وحده هو الذي يرث الضيعة، أما بقية إخوته فلم يكن أمام أيٍّ منهم فرصة سوى محاولة البحث عن وريثة غنية يقترن بها، أو أن ينخرط في سلك الكنيسة أو يتوجه إلى المهن الأخرى مثل القتال.
5 ـ كان هناك ما يشبه المجاعة في غرب أوربا، وخصوصاً في فرنسا، من القرن العاشر حتى أواخر القرن الحادي عشر الميلاديين. وربما كانت هذه المجاعة وراء النشاط الاقتصادي الذي شهدته الفترة، وكذلك سوء حال الفلاحين والأقنان. وتُشكِّل الحروب والمشاريع الاستيطانية وسيلة تقليدية للتخلص من العناصر المشاغبة التي لا مكان لها في المجتمع (من نبلاء بلا أرض، إلى تجار يبحثون عن مزيد من الأرباح، وفلاحين جوعى ومجرمين ولصوص) وذلك حتى يحقق المجتمع الغازي استقراراً اجتماعياً داخلياً. ويبدو أن عدد الأطفال غير الشرعيين كان يتزايد في أوربا، وكانت حروب الفرنجة وسيلة للتخلص منهم، وقد أخذت إحدى الحملات التي خرجت من أراجون عام 1269 اسم «حملة الأطفال غير الشرعيين» .
6 ـ تمتعت أوربا بشيء من الاستقرار السياسي، وتزايدت إمكاناتها ومقدرتها على تجريد حملات ضخمة كما بدا بوضوح مع الفتح النورماندي لإنجلترا وإيطاليا وصقلية في بدايات القرن الحادي عشر، وقد تزايدت حدة حركة استرداد إسبانيا في القرن الحادي عشر الميلادي حين قام ألفونسو السادس (من ليون) بالاستيلاء على طليطلة عام 1085. وابتداءً من القرن العاشر الميلادي، بدأ التوسع الألماني نحو الشرق والشمال وهي حركة لم تتوقف إلا في القرن الثالث عشر الميلادي.(16/325)
7 ـ حدث بَعْث ديني حقيقي في بداية القرن العاشر الميلادي. ويمكن القول بأن حروب الفرنجة تعود إلى ما يُسمَّى «الإصلاح الكلوني» وهي حركة إحياء دينية بدأت عام 910 في مدينة كلوني بفرنسا، وأكدت تَفوُّق سلطة الكنيسة على السلطة الدنيوية. وقد تزامنت حروب الفرنجة مع المجامع اللاترانية الأربعة في أعوام 1123، 1139، 1179، 1215 على التوالي. وهي المجامع التي بلورت موقف الكنيسة من عدة قضايا، منها تحريم الربا وتحديد وضع اليهود وكثير من علاقات الكنيسة بالسلطة الدنيوية. ولعبت الكنيسة دوراً أكثر نشاطاً في الحياة الدنيوية، وأخذت تؤكد نفسها بشكل أكثر جرأة. وقد أُعيدت صياغة البنية الكهنوتية وهو ما سمح للبابوات بأن يلعبوا دوراً أكثر فعالية. ووجدت الكنيسة في حروب الفرنجة فرصة مواتية لزيادة نفوذها وتسريب طاقة الأمراء والملوك القتالية إلى الشرق، ولتحقيق السلام والاستقرار في الغرب المسيحي. ومما له دلالته أن مجلس كليرمون (عام 1095) ، الذي اتخذ القرارات التي بدأت حملات الفرنجة على الشرق، جدد ما يُسمَّى «هدنة الرب» في الغرب! وقد وجدت الكنيسة الرومانية أن تجريد حملة تحت سلطتها، لمساعدة الدولة البيزنطية، قد يسرع بتحقيق حلم روما القديم بإخضاع الكنيسة البيزنطية.(16/326)
8 ـ شهدت الفترة التي سبقت حروب الفرنجة تزايد حركة الحج. وكانت أهم المزارات روما حيث يُوجد ضريح لكلٍّ من بطرس وبولس، وكذلك ضريح سنتياجو دي كومبوستلا في شمال غربي إسبانيا. ولكن أهم المزارات جميعاً كانت هي القدس حيث تضم كنيسة القيامة. ولم يكن الحج عملاً من أعمال التقوى وحسب، وإنما أصبح وسيلة للتكفير عن الذنوب. بل كان القساوسة يوصون، في بعض الأحيان، بالحج لمن يرون أنه اقترف إثماً فاحشاً. وكان الحجاج يرجعون بقصص عن مدى ثراء الشرق، كما أنهم كانوا يتحدثون أيضاً عن المتاعب التي تجشموها والأهوال التي لاقوها. ولا شك في أن حديثهم هذا كان له أساس من الصحة حيث إن المنطقة لم تكن تنعم بالهدوء أو الاستقرار، وخصوصاً أن السلاجقة كانوا قد بدأوا في شن هجومهم على الدولة البيزنطية. ولكن مما لا شك فيه أنه كان هناك عنصر مبالغة، فالعائدون كانوا يريدون إبراز بطولتهم، وكان الوجدان الشعبي يتلقف هذه القصص ويضخمها، وخصوصاً أن المستوى الثقافي لجماهير أوربا آنذاك كان متدنياً إلى أقصى حد.
9 ـ يبدو أن حركة استرداد إسبانيا من المسلمين، وتَفاعُل المسيحيين مع المسلمين إبان حرب الاسترداد، قد تركا أثرهما في الرؤية المسيحية للحرب، إذ تأثر العالم المسيحي بفكرة الجهاد الإسلامي، فبدا أن الحرب للدفاع عن المجتمع المسيحي، ولاسترداد القدس، ليست حرباً عادلة وحسب وإنما حرب مقدَّسة أيضاً. ويبدو أن نشوء جماعات من الرهبان المحاربين مثل فرسان الهيكل وفرسان الإسعاف (الداوية والإسبتارية) هو صدى لفكرة المرابطين الإسلامية.(16/327)
10 ـ من الأفكار المسيحية الشعبية الراسخة، ما يُطلَق عليه العقائد أو الأحلام الألفية، وتتمثل هذه الأفكار في الإيمان بأن الدورة الكونية أو التاريخية تستغرق ألف عام في العادة، وأن عام ألف أي بداية القرن الحادي عشر الميلادي سيشهد نهاية العالم والتاريخ، كما سيشهد عودة المسيح. وقد سادت هاتان الفكرتان أوربا في العصور الوسطى، وهما من الأفكار التي ازدادت شيوعاً إبان تفاقم الأزمات الاجتماعية وازدياد البؤس بين الجماهير. ويقول العلماء إن تاريخ نهاية العالم لم يكن محدداً بهذه الدقة، وأن الأحلام الألفية استمرت خلال القرن الحادي عشر الميلادي كله وحتى بعد ذلك التاريخ. ومن الأساطير الألفية التي شاعت أن الإمبراطور الأخير سيكون هو ملك الفرنجة خليفة شارلمان، وأنه هو الذي سيقود المؤمنين إلى القدس لينتظر العودة الثانية للمسيح ليؤسس مملكة السلام والعدل ويحكم العالم من صهيون، أي القدس، وما القدس الدنيوية سوى رمز للقدس الأخروية!
11 ـ واجهت الكنيسة، ابتداءً من القرن الحادي عشر الميلادي، ظهور هرطقات في جنوب فرنسا، فظهر الكاثاري في بداية الأمر ثم تبعهم أصحاب الهرطقة الألبيجينية. وهذه الجماعات كانت جماعات ثنوية تؤمن بوجود إلهين: إله الخير وإله الشر. وكان بعضهم يذهب، شأنه شأن الغنوصيين، إلى أن هذا العالم من خلق الإله الصانع (الشرير) ، كما كانوا ينزعون منزعاً واحدياً روحياً ينكر أية حقيقة للمادة. وقد جردت الكنيسة أول حملة صليبية ضدهم عام 1208، وتبع ذلك تأسيس محاكم التفتيش الرومانية (مقابل محاكم التفتيش الإسبانية) عام 1233. ولا شك في أن أحساس الكنيسة بأنها مهددة ساهم في تصعيد حمى الحرب.(16/328)
وقد استخدمنا كلمة «مركب» للإشارة إلى الأسباب التي أدَّت إلى حروب الفرنجة حتى لا نتوهم أن هناك بنية تحتية من الدوافع الاقتصادية والاجتماعية تغطيها قشرة من الأكاذيب أو التبريرات الدينية. فالنفس البشرية لا تتحرك بهذه الطريقة الآلية إذ تتداخل في عقل الإنسان أنبل الدوافع وأكثرها خسة في آن واحد، فالفلاح المسيحي الذي حمل صليبه وفأسه كان مدفوعاً برغبة دينية حقيقية، وإن كان هذا لا ينفي أيضاً وجود دوافع مادية. فهو حين كان يفعل ذلك، كان يهرب من الفاقة والدَّيْن ويحمل في وجدانه أحلام الثراء والخلاص.
وحين دعا البابا إربان الثاني (1088 ـ 1118) ، وكان فرنسياً (أي من الفرنجة) لمجلس في كليرمون في 18 نوفمبر 1059، حضره أساقفة من جنوب فرنسا، كما حضره آخرون من شمالها ومن أماكن أخرى. وألقى البابا خطاباً أشار فيه إلى بؤس الكنيسة البيزنطية، وتهديد الحجاج المسيحيين، وتدنيس الأماكن المقدَّسة. وحث هؤلاء الذين يعكرون السلام في الغرب على أن يوجهوا قواهم القتالية لخدمة غرض مقدَّس، كما أشار إلى إمكانات الحصول على الثروة من أرض تفيض باللبن والعسل، فصاح الجميع باللاتينية «ديوس وولت deus volt» ، أي «الله يريد ذلك» . ثم تتالت الأحداث وجاء المتطوِّعون من كل أنحاء أوربا، ولكنهم جاءوا أساساً من الأراضي الفرنسية وشبه الفرنسية مثل اللورين وجنوب إيطاليا وصقلية. ولكن، لماذا كان أعضاء الجماعات اليهودية بالذات هدفاً أساسياً لهجمات الفرنجة؟(16/329)
لا يمكن تفسير هذه الظاهرة إلا بالعودة لمركب آخر من الأسباب. وقد أسلفنا الإشارة إلى الطابع الشعبي لحملات الفرنجة وكيف انضم إليها المعدمون والفقراء. فهذه العناصر الشعبية لم يكن من الممكن التحكم فيها وضبطها كما هو الحال مع الجيوش النظامية. ولكن، وهذا هو الأهم، لابد أن نتذكر أن وجود الجماعات اليهودية داخل التشكيل الحضاري الغربي الوسيط كان يستند إلى مواثيق تمنحهم الكثير من المزايا باعتبارهم أقناناً تابعين للخزانة الملكية. فهم، إذن، كانوا جزءاً من الطبقة الحاكمة أو جماعة وظيفية وسيطة تابعة للحاكم تمتص الأموال الزائدة في المجتمع عن طريقها. ورغم أن اليهود لم يراكموا ثروات حقيقية إذ أن الأموال التي كانوا يجمعونها كانت تصب كلها في الخزانة الملكية (باعتبار أنهم وكل ما يملكون ملكية للملك) ، إلا أن آليات الاستغلال في المجتمع الوسيط لم تكن واضحة، على الأقل بالنسبة إلى الجماهير الشعبية، وكان اليهودي هو الجزء الواضح والمباشر والمتعيِّن في عملية الاستغلال. كما أن اليهودي، على عكس النبيل الإقطاعي أو الإمبراطور، كان قريباً من هذه الجماهير حيث يمكنها الوصول إليه في الجيتو رغم أنه كان موضوعاً تحت الحماية الملكية. كما أنه كان أحياناً مباحاً، بمعنى أن الحماية الملكية كانت تُرفَع عنه ويُلقَى به كبش فداء للجماهير. ويُلاحَظ أن اليهود كانوا يشكلون أحياناً عنصراً غريباً لا من الناحية الطبقية أو الدينية وحسب وإنما من الناحية الإثنية أيضاً.(16/330)
وكما أسلفنا، فقد سبقت حروب الفرنجة بعث اقتصادي، وظهور الجمهوريات الإيطالية وقوى بورجوازية مسيحية أخرى (دولية ومحلية) بدأت تُزاحم اليهود وتحاول الحد من قوتهم. فمنعت البندقية، قبل حروب الفرنجة، نَقْل التجار اليهود على سفنها، كما اتخذت العصبة الهانسية إجراء مماثلاً للحد من التجارة اليهودية. وقبل أن يحل القرن الثاني عشر الميلادي سُنَّت قوانين تحد من نشاط اليهود التجاري في الداخل.
ومن الحقائق التي تستحق الذكر أن كبار المموِّلين اليهود قد اشتركوا في تمويل بعض حملات الفرنجة عن طريق إقراض الملوك أو النبلاء الإقطاعيين الذين اشتركوا في تلك الحملات أو قاموا بتجريدها. وقد اضطر هؤلاء إلى رهن ضياعهم لدى المرابين اليهود لتدبير الأموال اللازمة. كما أن كثيراً من صغار النبلاء بل بعض الحرفيين والتجار كانوا مدينين لليهود. لكل هذا، كان من مصلحة كثير من القطاعات الاقتصادية الهجوم على اليهود كوسيلة للتخلص من الأعباء المالية، ويرجع ذلك إلي أن الكنيسة كانت إما تجمد الفوائد على الديون أو تلغيها كليةً بالنسبة لمن يشترك في الحملة وذلك كنوع من المساهمة في عملية التعبئة. ومن هنا، كان الشعار الذي طرحه الفرنجة هو أن حملاتهم لابد أن تبدأ في أوربا ضد اليهود.(16/331)
وقد أشرنا إلى الصراع بين الكنيسة والسلطة الحاكمة الدنيوية من قبل. ورغم أن علاقة الكنيسة بالطبقة الحاكمة كانت وثيقة، ورغم أن الكنيسة كانت تُزوِّد اليهود بالحماية، فإن ثمة مسافة كانت تفصل بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية، وكثيراً ما كان اليهود يشكلون رقعة الصراع. فكانت الكنيسة، لتزيد من شرعيتها وتقوِّض شرعية السلطة الدنيوية، تهاجم اليهود برغم حمايتها لهم. وهذا لا يتناقض بتاتاً مع موقف الكنيسة الذي كان ينبع من مفهوم الشعب الشاهد الداعي إلى ضرورة حماية بقاء اليهود كجماعة دينية عاصرت منشأ الكنيسة وتحمل العهد القديم الذي يتنبأ بمقدم المسيح، وبذلك تقف شاهداً على صدق الكنيسة. ولكن أعضاء هذه الجماعة يجب أن يظلوا، مع ذلك، أو ربما بسبب ذلك، في حالة ضعة دائمة ليقفوا شاهداً على عظمة الكنيسة. لكن الهجوم المسيحي الحقيقي قاده صغار رجال الدين من رهبان فقراء ووعاظ جائلين، أي قادة المسيحية الشعبية الذين كانوا يتصرفون حسبما يمليه عليهم المنطق المطلق للخطاب الديني الذي صاغته المسيحية الحاكمة، ومن هنا سادت فكرة أنه إذا كان الهدف من الحملات هو استعادة القدس والقضاء على الكفرة في أقصى بلاد الأرض، فلم لا نبدأ بتنظيف منزلنا من قتلة المسيح؟(16/332)
وثمة عنصر مهم مرتبط بسابقه لا تذكره الأدبيات الغربية في الموضوع، وهو ارتباط اليهود بالمسلمين في الوجدان الغربي آنذاك، فأكثر من نصف يهود العالم كانوا موجودين داخل التشكيل الحضاري الإسلامي. كما أن ثقافة الجماعات اليهودية داخل هذا التشكيل كانت ثقافة عربية إسلامية، وكان الفكر العقلاني الإسلامي قد ترك أثراً عميقاً في الفكر الديني اليهودي الذي وصل إلى قمته في أعمال موسى بن ميمون. وقد وجدت هذه الأفكار طريقها إلى كتابات اليهود في الغرب ومنها إلى الفكر الديني المسيحي، وقامت مناظرات بشأنها حتى قبل موسى بن ميمون. وقد اعتبرت الكنيسة أن هذه العقلانية تهدد الإيمان الديني من أساسه، وبالتالي كان يُنظَر إلى اليهود على أنهم أداة الفكر الإسلامي. كما أنه إبَّان عملية فَتْح الأندلس، ثم بعد ذلك إبَّان استردادها على يد الإسبان (وهي عملية بدأت قبل حروب الفرنجة واستمرت بعدها) ، كانت هناك قطاعات كبيرة من الجماعة اليهودية تقف إلى جوار المسلمين، سواء مع الفتح الإسلامي أو ضد الغزو المسيحي، وتعمل كجواسيس لصالح المسلمين (والعكس صحيح أيضاً) . كما أن من الثابت الآن أن بعض أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب كانوا يعملون جواسيس لصالح العالم الإسلامي، وكانوا يزودونه بالمعلومات عن حجم التجهيزات العسكرية الفرنجية. لكن الوجدان الشعبي يروِّج دائماً لجزء من الحقيقة. وانتشرت الاتهامات بأن اليهود يخونون المسيحيين لصالح المسلمين منذ القرن التاسع المبلادي. وبالإضافة إلى كل هذا، كان يُنظَر إلى كلٍّ من المسلم واليهودي، من منظور مسيحي مطلق، على أنهما كافران لأنهما يرفضان عقيدة التثليث. بل إن هناك كتابات مسيحية وسيطة تتهم المسلمين بصلب المسيح. وهناك رسوم لحادثة الصلب وقد وقف النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) وهو يضرب المسيح. ويجب أن نضيف أن محاولة الكنيسة القضاء على الهرطقات في جنوب فرنسا زادت الحمية والغيرة ضد اليهود(16/333)
واليهودية.
لكل هذا، كان من المتوقع أن تهاجم قوات الفرنجة الجماعات اليهودية في الغرب، وهذا ما حدث بالفعل في فرنسا واللورين وحوض الراين، ثم في بوهيميا وأخيراً إنجلترا. وقد جُرِّدت الحملة الأولي (1096 ـ 1099) التي دعا إليها إربان الثاني في مؤتمر كليرمون، وهي الحملة الوحيدة التي حققت بعض النجاح لأنها أخذت المسلمين على حين غرة. وقد بدأت الحملة بما يُسمَّى «حملة الفلاحين الشعبية» التي قادها بطرس الراهب والفارس ولتر المفلس، وقد ضمت في صفوفها حشداً كبيراً من الفلاحين وصغار الفرسان بلغ ما بين 15 و 20 ألفاً اتجهوا إلى القسطنطينية ومنها إلى الأراضي المقدَّسة. ولكن جيشاً تركياً تصدى لهم في آسيا الصغرى وسحقهم عام 1096 وقتل أعداداً كبيرة منهم وأسر أعداداً أخرى بيعت رقيقاً. وقد جُرِّدت بعد ذلك حملة الأمراء التي استفادت من حملة الفلاحين حيث تَوهَّم الأتراك، بناءً على تجربتهم مع جيش الفلاحين، أن قدرات أوربا القتالية متدنية. وقد نجحت الحملة الأولى في تأسيس أربع ممالك للفرنجة على النمط الإقطاعي الغربي.(16/334)
وقد قام الإقطاعيون والأساقفة بحماية يهود فرنسا. أما في ألمانيا، فقد شعر أعضاء الجماعة اليهودية بالخطر المحدق بهم وأرسلوا إلى الإمبراطور هنري الرابع الذي كان يزور روما آنذاك يستغيثون به، ولكن الغوث لم يصلهم. ووقع الهجوم عليهم في عدة أماكن من بينها مينز وورمز وكولونيا. ويُقال إنه قُتل اثنا عشر ألف يهودي، وهو رقم مبالغ فيه جداً، وأنه تم تحطيم كثير من مراكز تَجمُّعهم ونُهبَت ممتلكاتهم، كما فُرض على كثير منهم التنصر في ألمانيا وبوهيميا. ولكن، حينما عاد الإمبراطور، فرض عقوبات على المشتركين في أحداث الشغب وعلى المسئولين الذين لم يزوِّدوا اليهود بالحماية الكافية، وصرح لمن عُمِّد من اليهود قسراً بالعودة لدينه، وأعاد إليهم ممتلكاتهم. بل إنه اتخذ خطوة حاسمة عام 1103 حين أصدر قراراً بأن يتمتع اليهود بالحماية نفسها التي يتمتع بها القساوسة. أما في فلسطين، فقد قام الفرنجة بذبح اليهود الحاخاميين والقرائين (بل المسيحيين الشرقيين) بعد استيلائهم على القدس، وإن كان قد سُمح لليهود بعد ذلك بأن يعيشوا داخل حدود ممالك الفرنجة.(16/335)
أما الحملة الثانية (1146 ـ 1147) التي جُرِّدت لغوث ممالك الفرنجة واسترجاع ما استولى عليه عماد الدين زنكي عام 1044، والتي بشر بها القديس برنارد وقادها الإمبراطور كونراد الثالث، فقد بدأت بالهجوم على تجمعات يهود فرنسا. وأعلن البابا إيوجنياس الثالث إلغاء الفوائد على ديون المتطوعين للقتال، الأمر الذي أضر بالوضع المالي لأعضاء الجماعات اليهودية. ويمكن القول بأن الطبقة الحاكمة نجحت هذه المرة في تزويد الجماعات اليهودية بالحماية المطلوبة، ولم تقع سوى عدة مذابح قليلة راح ضحيتها أعداد صغيرة لا تُذكَر. وقد فشلت الحملة فيما كانت تهدف إليه. وبعد الحملة الثانية، شهدت المنطقة فترة توازن استمرت طوال أعوام 1131 ـ 1174. ولكن بعد ذلك التاريخ، أخذ المسلمون بزمام المبادرة إلى أن قضوا على جيوب الفرنجة.
أما الحملة الثالثة (1189 ـ 1192) ، فكان على رأسها فريدريك الأول (بارباروسا) إمبراطور ألمانيا، وفيليب الثاني ملك فرنسا، وريتشارد قلب الأسد ملك انجلترا. وكان الحماس لها كبيراً في إنجلترا وأدَّت إلى هجمات على أعضاء الجماعة اليهودية فيها. أما بالنسبة إلى الحملات الأخرى التي تم تجريد آخرها عام 1250، فلم تُصب أعضاء الجماعات اليهودية بأذى كبير. ويعود هذا إلى تزايد سلطة الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة، وخصوصاً في زمن فريدريك الثاني، فنجحت في فرض سلطتها وحماية أعضاء الجماعات اليهودية، وإن كانت حملة 1320 التي يُقال لها «حملة الرعاة» قد هاجمت اليهود في شمال إسبانيا وجنوب فرنسا.(16/336)
ولا يُعرَف عدد الضحايا من أعضاء الجماعات اليهودية على وجه الدقة لأن التقارير المعاصرة تميل إلى المبالغة والتهويل، ولكن يمكن القول بأنه كان بين خمسة آلاف واثنى عشر ألفاً، وهو ليس بالعدد الذي يُستهان به برغم صغر حجمه بمقاييس أيامنا هذه. ففي بعض التقديرات، لم يكن يزيد عدد يهود إنجلترا بأسرها على أربعة آلاف، ولم يكن يزيد عدد يهود أوربا المسيحية كلها على نصف مليون يهودي وربما أقل، وقد كانوا متمركزين أساساً في المدن أو في البقاع التي كانت تكتسب طابعاً حضرياً. وربما لم تكن المبالغة مقصودة وإنما راجعة إلى خلل في طريقة الرصد والملاحظة. فقد «اختفت» أعداد من اليهود بعض الوقت، فحُسبوا في عداد القتلى، بينما كان اختفاؤهم في واقع الأمر مؤقتاً، إذ أنهم كانوا قد تركوا أماكن إقامتهم أثناء الاضطرابات، ثم عادوا إليها بعد سكونها. وعاد أعضاء الجماعة اليهودية في سبير ومينز وكولونيا وغيرها من المدن الألمانية بعد أن كانوا قد تركوها. والوضع نفسه ينطبق على يهود إنجلترا.
بل يُلاحَظ تزايد العدد الكلي ليهود أوربا خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين. ومع حلول القرن الثالث عشر الميلادي، كانت أغلبية يهود العالم تعيش في أوربا لأول مرة في التاريخ. وربما يعود هذا إلى أن نتائج المذابح لم تكن بالضخامة التي تنسبها إليها روايات المعاصرين (وإن كان آرثر كوستلر يُفسِّر ظاهرة تزايد أعداد اليهود بالإشارة إلى ما يسميه «الشتات الخزري» في أرجاء أوربا) .(16/337)
وتميل التواريخ الصهيونية إلى تسجيل المذابح التي تعرض لها أعضاء الجماعات اليهودية دون وضعها في سياقها التاريخي السليم، ودون ذكر المذابح الأخرى التي ارتُكبت ضد قطاعات إثنية وطبقية أخرى في المجتمع، فيبدو الأمر وكأن الشر مُوجَّه ضد اليهود وحدهم. وهذا ما فعلته التواريخ الصهيونية بالهولوكوست، أي إبادة اليهود على يد النازي، حيث تُغفل الدراسات إبادة الغجر والسلاف ويتم التركيز على اليهود وحدهم. ولكن من الثابت تاريخياً أن عُنْف حملات الفرنجة لم يكن قط مقصوراً على اليهود، فقد قتل الفرنجة سبعين ألف مسلم في الحملة الأولى وحدها. أما بالنسبة إلى المسيحيين الشرقيين الذين جاء الفرنجة لتحريرهم، فقد حوَّلهم الفرنجة إلى ما يشبه أرقاء أرض، وفرضوا عليهم سلطة إقطاعية أشد قسوة مما كان سائداً وقتئذ في أوربا، حتى أخذ سكان البلاد المسيحيون ينظرون بعين الحسرة إلى حكم المسلمين ويعدونه من العصور الذهبية التي مرَّت بالبلاد. وقد نهب الفرنجة القسطنطينية ثم استولوا عليها. بل يُقال إنهم أنهكوا قواها تماماً وهو ما سهَّل سقوطها في نهاية الأمر في يد العثمانيين. ولم تَسلَم مدن أوربا المسيحية ذاتها من هجماتهم ونهبهم وانتهاكاتهم. بل نجد أن الفرنجة أنفسهم وقعوا ضحية العنف السائد في تلك الحقبة الزمنية، ففي حملة الأطفال عام 1212 (بعد الحملة الرابعة) ، تجمَّع نحو ثلاثين ألف طفل في حملة للفرنجة، وتطوَّع تاجران من مارسيليا بنقلهم إلى الأرض المقدَّسة، ولكنهم بدلاً من ذلك باعوهم لتجار العبيد!
ويجب أن نبحث عن الأثر الحقيقي لحروب الفرنجة في الجماعات اليهودية لا في المذابح التي ارتُكبت ضدهم، أياً كانت قسوتها، وإنما في بعض التطورات الأخرى ذات الطابع البنيوي التي لحقت بالمجتمع الغربي. والواقع أنها وإن لم تمس أعضاء الجماعات اليهودية مباشرة، فقد كان لها أعمق الأثر في السنوات والقرون التي أعقبت حملات الفرنجة.(16/338)
ومن أهم نتائج حملات الفرنجة، أنها زادت قوة السلطة الدنيوية، وخصوصاًَ قوة الملوك. فقد تم تحويل الطاقة العسكرية للبارونات والنبلاء إلى حملات الفرنجة الأمر الذي أنهك قواهم وأضعفهم داخل أوربا نفسها. كما أن السلطات الدنيوية نجحت في فرض ضرائب مباشرة على النبلاء ورجال الدين والطبقة الوسطى، واستمرت في ذلك بعد انتهاء الحملات الأمر الذي كان يُعَدُّ تعزيزاً لنفوذ الملك على حساب الكنيسة وعلى حساب النبلاء. ومن العوامل الأخرى التي زادت نفوذ السلطة الدنيوية، تزايد الحس القومي بين القطاعات البشرية المختلفة ممن يتحدثون اللغة نفسها ولهم الثقافة نفسها، وكان هذا يُعدُّ تطوراً جديداً في تاريخ مجتمعات القارة الأوربية.
ومن النتائج المهمة الأخرى أن حملات الفرنجة أدَّت إلى تشجيع التجارة واتساع نطاقها، فقد أصبح لأوربا قواعد تجارية وموانئ جديدة في البحر الأبيض المتوسط تَصلُح نقطة انطلاق لتجارة دولية كبيرة. كما طورت أوربا مقدرتها على بناء سفن أكبر حجماً، فالطريق البحري هو الطريق الأساسي الذي كان يربط بين الفرنجة وأرض المعركة. ومن خلال حروب الفرنجة زاد التعامل بالأوراق والاعتمادات المالية، الأمر الذي شجع على نشوء نظام مصرفي دولي. ويمكن القول أيضاً بأن أفق الإنسان الغربي قد اتسع جغرافياً وتاريخياً نتيجة الانتقال من قارة إلى أخرى، وازدادت البورجوازيات المسيحية المحلية الوليدة جرأة، كما تزايد نشاط الجمهوريات المدن الإيطالية بشكل ملحوظ.(16/339)
وقد أدَّت كل هذه التطورات الاقتصادية المهمة إلى انسحاب أعضاء الجماعات اليهودية تدريجياً من التجارتين الدولية والمحلية اللتين كانتا مرتبطتين إلى حدٍّ كبير وإلى اتجاهها نحو الاشتغال بالربا، وهو الأمر الذي زاد من كراهية الطبقات الشعبية لهم وزاد من هامشيتهم داخل المجتمع الغربي الوسيط. ولكن السلطة الدنيوية كانت تزداد قوة كما بيَّنا، وأدَّى ذلك إلى تَزايُد اعتماد اليهود على النخبة الحاكمة، والملك بالذات، إذ أصبح وجودهم يستند إلى الحماية التي تدعمهم بها هذه الطبقة، فتحوَّلوا من جماعة وظيفية وسيطة تخدم معظم أعضاء المجتمع إلى جماعة وظيفية عميلة معزولة عن المجتمع تُستخدَم أداةً في يد الطبقة الحاكمة. وهذا الوضع يختلف عن وضع اليهود في الأعوام الألف الأولى بعد الميلاد، حيث كانت هناك درجة أعلى من الاختلاط بين اليهود والمسيحيين، وكان الجيتو مجرد مكان للإقامة، بل إنه كان يُعَدُّ إحدى المزايا التي كان يحصل اليهود عليها ضمن ما يحصلون عليه من حقوق ومزايا. ولكن، مع تغيُّر وضعهم، زادت العزلة بين الفريقين وأصبح الجيتو المكان الذي يُعزلون فيه. وقد كرست هذا الوضع قرارات مجمعي المجلس اللاتراني الثالث والرابع، وهي عزلة ظلت تتعمق حتى القرن الثامن عشر الميلادي ـ عصر الإعتاق. ويُقال إن صيحة «هب هب hep hep» التي كان يطلقها المعادون لليهود، في اضطرابات عام 1819 وبعدها، هي نفسها الصيحة التي كان يرددها الفرنجة وأن الكلمة اختصار للعبارة اللاتينية «يروشاليم إست برديتا Yerushal» أي: «لقد سقطت القدس» . ومن نتائج حروب الفرنجة على اليهود أيضاً، بداية الاستقرار اليهودي في شرق أوربا الذي ظل يتزايد إلى أن أصبحت الجماعة اليهودية هناك أضخم كتلة بشرية يهودية في العالم.(16/340)
ومن الحقائق الأخرى التي ينبغي الإشارة إليها ما نسميه تصاعُد الحمَّى المشيحانية، أي الرغبة في العودة إلى صهيون (أي فلسطين) والاستيلاء عليها وتحويلها إلى وطن قومي يهودي. إذ من المعروف أن الشريعة اليهودية تحرِّم على اليهود العودة إلى فلسطين وعلى اليهودي أن ينتظر بصبر وأناة إلى أن يشاء الإله ويرسل الماشيَّح، فيحق له حينئذ أن يعود. ويرى كثير من المؤرخين أن حمَّى العودة ورَفْض الانتظار بدأت بين اليهود بحملات الفرنجة ووصلت إلى قمتها مع الحركة الصهيونية التي حققت النجاح لأنها جندت النزعة الاستعمارية في المجتمع الغربي وتحالفت معها ووضعت نفسها تحت تصرفها. وما يهمنا هنا من الحركات المشيحانية حركة الماشيَّح الدجال (داود الرائي) المولود عام 1135 إذ يبدو أن هجمات الفرنجة على فلسطين، والفوضى التي أعقبتها، طرحت إمكانية العودة وتحرير القدس في مخيلة بعض أعضاء الجماعات اليهودية. وقد تركزت دعوة داود الرائي هذا في آمد (في جبال كردستان) على الطريق الإستراتيجي الموصل بين مملكة الخزر اليهودية التركية وممالك الفرنجة. ولعل شيئاً من ذكرى إمبراطورية الخزر وأمجادهم كان لا يزال عالقاً بذهن داود الرائي وأتباعه.(16/341)
وقد تصاعدت الحمَّى المشيحانية مرة أخرى في القرن السادس عشر الميلادي إذ يبدو أن البابا كليمنت السابع (1524) عاودته الأحلام الاستيطانية الاسترجاعية، وكان يتصوَّر أن بإمكانه دَعْم طريق الكنيسة مرة أخرى واستعادة شيء من نفوذها عن طريق تجريد حملة صليبية. وقد أدرك هذه الحقيقة ماشيَّح دجال آخر يُسمَّى ديفيد رءوبيني، فادَّعى أنه ابن ملك يُدعى سليمان وأخ لملك يُدعى يوسف يحكم بعض الجماعات والقبائل اليهودية في خيبر بالقرب من المدينة المنورة. وقد أخبر رءوبيني البابا أن أخاه يتبعه ثلاثمائة ألف جندي مدربين على الحرب وأنهم لسوء الحظ ينقصهم السلاح، وطلب إلى البابا تزويدهم بما ينقصهم حتى يمكنهم طَرْد المسلمين من فلسطين. وقد استقبله البابا استقبالاً حسناً في بادئ الأمر، بل نجح في مقابلة ملك البرتغال وفي التأثير عليه. وفي تصوُّرنا أن هذه هي أول مرة يتحول فيها المشروع الصليبي للفرنجة إلى مشروع صهيوني وتقبل فيها المؤسسات الغربية استخدام المادة البشرية اليهودية المقاتلة بدلاً من المادة المسيحية. وقد تركت حروب الفرنجة تأثيراً عميقاً في إدراك الوجدان الغربي لفلسطين أو العرب، فأصبحت فلسطين الأرض المقدَّسة التي لابد أن تُسترجَع ليُوطَّن فيها عنصر مسيحي غربي، وأصبح العرب (أهل فلسطين) هم الغرباء الذين يجب استبعادهم. وقد أصبحت هذه الصيغة هي الصيغة التي تمت علمنتها فيما بعد لتصبح الصهيونية.
التشابه بين حملات الفرنجة والمشروع الصهيوني
Similarity between the Crusades and the Zionist Project(16/342)
رغم أن حروب الفرنجة ظاهرة مرتبطة بالتشكيل الحضاري الغربي في العصر الوسيط، فقد ساهمت هذه الحروب وبعمق في صياغة الإدراك الغربي لفلسطين والعرب. ولا يملك الدارس إلا أن يُلاحظ عمق التشابه بين المشروع الفرنجي والمشروع الصهيوني الإسرائيلي، وهذا أمر متوقع لأن كليهما جزء من المواجهة المستمرة بين التشكيلين الحضاريين السائدين في الغرب والشرق العربي، كما أن حملات الفرنجة هي نقطة انطلاق أوربا نحو التوسع والإصرار على بسط سيطرتها على الخارج. والواقع أن حملات الفرنجة احتوت بذور كل أشكال الإمبريالية الأوربية التي حكمت فيما بعد حياة جميع شعوب العالم (على حد قول أحد مؤرخي حملات الفرنجة الغربيين) . ولهذا، أصبحت حملات الفرنجة صورة مجازية أساسية في الخطاب الاستعماري الغربي، وأصبحت ديباجاتها هي نفسها ديباجة المشروع الاستعماري الغربي. وقد رأى كثير من المدافعين عن المشروع الصهيوني، من اليهود وغير اليهود، أنه استمرار وإحياء للمشروع الصليبي أي الفرنجي ومحاولة وَضْعه موضع التنفيذ من جديد في العصر الحديث. فقد ألَّف سي. آر. كوندر عام 1897، وهو صهيوني غير يهودي ومؤسس صندوق استكشاف فلسطين، كتاباً عن تاريخ المملكة اللاتينية في القدس أشار فيه إلى أن الإمبريالية الغربية قد نجحت فيما أخفقت فيه الحملات الصليبية أي حملات الفرنجة. والواقع أن تصوُّره هذا يشبه في كثير من الوجوه تصوُّر الصحافة البريطانية وكذلك تصوُّر بعض أعضاء النخبة الحاكمة في بريطانيا بأن هجوم أللنبي على القدس يساوي حملة صليبية أخرى. وقد صرح لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، والذي أصدرت وزارته وعد بلفور، أن أللنبي شن وربح آخر الحملات الصليبية وأعظمها انتصاراً. ويمكننا أن نقول إن المشروع الصهيوني هو نفسه المشروع الفرنجي بعد أن تمت علمنته، وبعد أن تم إحلال المادة البشرية اليهودية التي تم تحديثها وتطبيعها وتغريبها وعلمنتها محل المادة البشرية(16/343)
المسيحية.
وقد لاحَظ روبرت برنارد سولومون، وهو ضابط إنجليزي رأس الاتحاد الصهيوني البريطاني، أوجه التشابه بين المشروعين الفرنجي والصهيوني في دراسة له نشرها في جويش ريفيو عام 1912 تحت عنوان "مستعمرات القرن الثاني عشر في فلسطين" حيث أكد أن المشكلات التي واجهها المستوطنون الفرنجة ونجحوا في التغلب عليها تشبه من نواح كثيرة تلك المشكلات التي تواجه المستوطنين الصهاينة في فلسطين ثم أخذ في تعداد هذه النواحي. كما أشار إلى العوامل التي أدَّت إلى انهيار ممالك الفرنجة بعبارة "المؤثرات الشرقية التي أدَّت إلى الانحلال" ليحذر المستوطنين الجدد منها. وسنحاول حَصْر جوانب الشبه بين التجربتين الفرنجية والصهيونية، وتصنيفها تحت رؤوس موضوعات قد تكون متداخلة ولكنها مع هذا تيسر لنا عملية تقسيم هذه الأوجه والتعامل معها.
ولعل نقطة التشابه الأساسية ذات طابع جغراسي ففلسطين هي النقطة المستهدفة في كل من المشروعين الفرنجي والصهيوني. ويبدو أن فلسطين مستهدفة دائماً من صناع الإمبراطوريات إذ أنها تُعَدُّ مفتاحاً أساسياً لآسيا وأفريقيا، وتُعدُّ معبراً على البحرين الأحمر والأبيض، وتقف على مشارف الطرق البرية التي تؤدي إلى العراق وإيران، وهي أيضاً معبر أساسي لشطري العالم الإسلامي. وفلسطين في واقع الأمر ليست سوى جزء من ساحل طويل يضم سوريا ومصر، يشكل فاصلاً بين البحر المتوسط في الغرب والمحيط الهندي في الشرق. ويُعد هذا الموقع، بالتالي، فاصلاً بين مراكز النشاط في أوربا الغربية والشرق الأقصى. كل هذا يبين تشابك المصير بين سوريا ومصر من جهة وفلسطين من جهة أخرى، وخصوصاً أن كثافة مصر السكانية جعلتها دائماً المرشحة لقيادة المنطقة بأسرها في صراعها ضد الغزوات الغربية. ويلاحظ أن كلاًّ من المشروعين الفرنجي والصهيوني اكتشف أنه لحسم الصراع لصالحه، فلابد من ضرب مصر أو على الأقل تحييدها.(16/344)
والواقع أن الغزاة الاستيطانيين عادةً ما يسلكون طريق البحر، ثم تستقر الجيوب الاستيطانية على الساحل أو تحتفظ بركيزتها الأساسية فيه كما حدث في جنوب أفريقيا والجزائر. وكذلك، فإن الغزوتين الفرنجية والصهيونية سلكتا الطريق البحري نفسه واحتلتا أجزاء من نفس الشريط البحري، وإن كان الشريط الذي احتله الفرنجة أكثر طولاً من الشريط الذي احتله الصهاينة.
أما من الناحية التاريخية، فيمكن القول بأن ثمة تشابهاً بين وَضْع العالمين العربي والإسلامي في القرن الحادي عشر ووضعهما في أواخر القرن التاسع عشر، فقد كانا في حالة انقسام وتراجع وتجزئة. فالخلافة الفاطمية في مصر كانت في حالة مواجهة مع الخلافة العباسية في العراق، وقد اقتسمتا فيما بينهما العالم الإسلامي. وكان النظامان العباسي والفاطمي يعانيان من الصراعات الداخلية والمؤامرات. وهما، في هذا، يشبهان النظام السياسي العربي المعاصر، المتجزئ، المنقسم على نفسه، المتصارع مع ذاته.
والغزوتان الفرنجية والصهيونية تهدفان إلى حل بعض مشاكل المجتمع الغربي وتخفيف حدة تناقضاته. فالمجتمع الوسيط الغربي كان يخوض عملية بَعْث اقتصادي فتحت شهيته للاستيلاء على طرق التجارة المتجهة إلى الشرق. وهذا يشبه من بعض الوجوه، وإن كان بدرجة أقل، انفتاح شهية رجل أوربا الشره في القرن التاسع عشر الميلادي الذي لم يهدأ له بال إلا بعد أن وقع العالم كله في قبضته. وقد استخدمت أوربا كلا المشروعين، الفرنجي والصهيوني، في التخلص مما أطلق عليه في القرن التاسع عشر الميلادي «الفائض البشري» ، أي العناصر التي لم تستطع أن تحقق الحراك الاجتماعي داخل مجتمعاتها ولذا كانت تهدِّد السلام الاجتماعي ولم يكن هناك مفر من تصديرها للشرق حتى يحقق الغرب سلاماً اجتماعياً داخلياً. فالمشروع الفرنجي كان يهدف أيضاً إلى تخليص أوربا من فائضها البشري الذي كان يهدد سلامها الاجتماعي حسب تصوُّر البعض على الأقل.(16/345)
ومن نقط التشابه الأخرى أن المشروعين الفرنجي والصهيوني مشروعان استعماريان من النوع الاستيطاني الإحلالي. فالمشروع الفرنجي كان يهدف إلى تكوين جيوب بشرية غربية وممالك فرنجية تدين بالولاء الكامل للعالم الغربي. ولذا، لم تأت الجيوش وحسب، وإنما أتى معها العنصر البشري الغربي المسيحي ليحل محل العنصر البشري العربي الإسلامي. وهو في هذا لا يختلف عن المشروع الصهيوني إلا في بعض التفاصيل. فغزو فلسطين تم أولاً على يد القوات البريطانية، ثم حَضَر المستوطنون الصهاينة بعد ذلك بوصفهم عنصراً يقوم بالزراعة والقتال. وقد كانت المؤسسات الاقتصادية للفرنجة، مثلها مثل قرينتها الإسرائيلية، تتسم بطابع عسكري. كما أن التنظيم الاقتصادي التعاوني لم يكن مجهولاً لدى الفرنجة. ويمكن القول بأن دويلات الفرنجة، مثلها مثل الدولة الصهيونية، كانت ترسانات عسكرية في حالة تأهب دائم للدفاع عن النفس وللتوسع كلما سنحت لها الفرصة. ويُلاحَظ أن كلاًّ من ممالك الفرنجة والدولة الصهيونية، بسبب طبيعتها الإحلالية، خلقت مشكلة لاجئين. كما يُلاحَظ أن هؤلاء اللاجئين تحوَّلوا إلى وقود جنَّد سكان المنطقة ضد الدولة القلعة.(16/346)
ومن المعروف أن الكيانات الاستيطانية لا تفقد صلتها قط بالوطن الأم بل تعتمد عليه اعتماداً يكاد يكون كاملاً لأنها، بسبب تناقضها الجوهري مع البيئة المحلية التي تلفظها، تستمد مقومات الحياة من دعم عسكري ومالي وهوية ثقافية ومادة بشرية من وطنها الأصلي. وهذه سمة أساسية في الكيانين الفرنجي والصهيوني، مع تنويعات فرعية تنصرف إلى التفاصيل لا الجوهر. فمثلاً اعتمدت ممالك الفرنجة على كل أوربا كمصدر للدعم، ولكن اعتمادها كان على فرنسا بالدرجة الأولى. وكذلك، فإن الدولة الصهيونية التي اعتبرت أوربا قاعدتها الإستراتيجية واعتمدت على معظم دول العالم الغربي الرأسمالي مع التركيز على بلد واحد هو إنجلترا ثم فرنسا لفترة قصيرة وأخيراً الولايات المتحدة منذ منتصف الستينيات. ومع سقوط الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي تطرح الدولة الصهيونية نفسها باعتبارها قاعدة للحضارة الغربية كلها في مواجهة العالم الإسلامي. ويشير أحد الدارسين الإسرائيليين إلى أنه كان هناك جباية فرنجية موحدة تماماً مثل الجباية اليهودية الموحَّدة.(16/347)
وقد جاءت المادة البشرية لكلا المشروعين من العالم الغربي. ولكنهما، مع هذا، لم يحققا التجانس العرْقي المطلوب لتحقيق شيء من التوازن داخل التجمُّع الاستيطاني، فتولدت درجة عالية من التوتر. فممالك الفرنجة كانت تضم في بادئ الأمر عنصراً فرنسياً غالباً بالإضافة إلى عنصر إيطالي انقسم بدوره إلى جنوي وبندقي نسبة إلى جنوة والبندقية. ولكن عناصر أخرى انضمت إلى هذين العنصرين، مثل: الأرمن وبعض العناصر المسيحية المحلية والمسلمين الذين تنصروا. كما أن ممالك الفرنجة نفسها استوعبت، بمرور الزمن، العناصر الثقافية من البيئة المحلية. ولكن، ومع هذا، يمكن القول بأن ممالك الفرنجة احتفظت بقدر من التجانس أعلى كثيراً مما حققه الكيان الصهيوني. فهذه الممالك ظلت فرنجية (فرنسية) ، كما أن أعضاء النخبة الحاكمة التي كانت عناصرها الأساسية من الفرنجة ظلت متماسكة، وكذلك كانت الهوية الثقافية مستمدة من فرنسا. ويلاحظ أن أوربا في ذلك الوقت لم تكن قد انقسمت بعد إلى كيانات قومية لكل منها لغتها، وكانت اللاتينية لغة العبادة والفكر. وكان التشكيل الحضاري يتمتع بشيء من الوحدة الثقافية، على الأقل، بالقياس إلى فترة التفتت القومي التي بدأت بعصر النهضة.(16/348)
وقد حاول التجمع الصهيوني أن يحتفظ بهوية إشكنازية متجانسة تستند إلى تجربة شرق أوربا. ولكن أوربا، في القرن التاسع عشر الميلادي، كانت ذات تشكيل حضاري مقسم إلى كيانات قومية مختلفة تتحدث لغات مختلفة، فجاء يهود من المجر ورومانيا وألمانيا وإنجلترا وفرنسا، كلٌّ يتحدث لغته. وجاء من شرق أوربا نفسها أنواع غير متجانسة، فثمة يهود جاءوا من بولندا يتحدثون البولندية، وآخرون جاءوا من رومانيا يتحدثون الرومانية، ومن روسيا جاء من يتحدث الروسية إلى جانب الأغلبية التي تتحدث اليديشية. كما كان النسق الديني اليهودي في حالة تفتُّت وتراجُع ومن ثم نجد أن هناك يهوداً أرثوذكس ويهوداً إصلاحيين أو محافظين أو قرّاءين ... إلخ. ثم اجتاحت التجمع الصهيوني الكثافة السكانية الوافدة من العالمين العربي والإسلامي التي غيَّرت بنيته السكانية وتوجُّهه الثقافي بحيث أصبحت أغلبية العنصر اليهودي شرقية تحكمها أقلية إشكنازية. ولكن الدولة الصهيونية تحاول مع هذا أن تحتفظ بالتوجه الإشكنازي للمجتمع، إذ يتضح هذا في تشجيع الهجرة من الاتحاد السوفيتي وفي المناخ الثقافي الذي تفرضه المؤسسة الحاكمة، وهذا الوضع يُولِّد الكثير من التوتر.
ويُلاحظ الصحفي الإسرائيلي يوري أفنيري أن كلاًّ من التجمعين الفرنجي والصهيوني تكوَّن من ثلاث طبقات ذات طابع عرْقي: الطبقة الحاكمة من المسيحيين الغربيين في دويلات الفرنجة يقابلها اليهود الإشكناز في الدولة الصهيونية. ثم يأتي في المرتبة الثانية مواطنو الدرجة الثانية من المسيحيين الشرقيين في دويلات الفرنجة يقابلهم اليهود الشرقيون في الدولة الصهيونية. وأخيراً يأتي مواطنو الدرجة الثالثة وهم المسلمون واليهود وبعض المسيحيين العرب في دويلات الفرنجة، والمسلمون والمسيحيون العرب في الدولة الصهيونية.(16/349)
والمجتمع الاستيطاني مجتمع مزروع أو مشتول في العادة، فهو يأخذ شكل الدولة الجيتو أو الدولة القلعة. ونشير له الآن بأنه الدولة الشتتل. والشتتل هي المدن الصغيرة التي أسسها النبلاء البولنديون (شلاختا) في أوكرانيا لأعضاء الجماعات اليهودية ليقوموا بدورهم الذي أوكل إليهم في جمع الضرائب والإيجارات والإشراف على إدارة ضياع هؤلاء النبلاء حيث كانت تحميهم القوة العسكرية البولندية. وهذا المجتمع منعزل عن بيئته وينصرف جزء كبير من نشاطه إلى عملية القتال ضد السكان المحليين. وهذه مسألة ليست عرضية وإنما هي مسألة جوهرية وتنبع من الوظيفة نفسها. والعالم الغربي يزود الجيوب الاستيطانية بالعون ومقومات الحياة حتى تظل ركيزة لنشاطاته الإمبريالية والتوسعية. وينطبق هذا الوضع على الجيبين الفرنجي والصهيوني، وإن كان يبدو أن الدعم الغربي للجيب الصهيوني يفوق الدعم الغربي للجيب الفرنجي. ولعل هذا يعود إلى أن الغرب أدرك وظيفة الجيب الصهيوني كاستثمار إستراتيجي يأتي بعائد اقتصادي غير مباشر عن طريق تهدئة المنطقة وليس كاستثمار اقتصادي يأتي بعائد اقتصادي مباشر. وربما لم تكن لدى أوربا في العصور الوسطى الرؤية الإستراتيجية الشاملة التي يمتلكها الغرب في الوقت الحاضر.(16/350)
ويبدو أن أزمة التجمُّع الفرنجي لا تختلف عن أزمة التجمع الصهيوني. فيُلاحَظ أن الكيان الفرنجي كان يعاني من أزمة سكانية لا تختلف كثيراً عن أزمة المستوطن الصهيوني، وذلك نظراً لانخفاض عدد سكان أوربا عام 1300 بعد انتهاء فترة تزايد السكان، الأمر الذي أدَّى إلى عدم مجيء المزيد من المادة البشرية، كما كان الكيان الفرنجي يعاني من تناقص نسبة المواليد. وكان كثير من الأراضي التي ضمها الفرنجة يزرعها سكانها الأصليون العرب. بل إن بعض الأقنان الذين جاءوا مع حملات الفرنجة اشتغلوا بأعمال أخرى غير الزراعة، نظراً لعدم درايتهم بالتربة وربما لتفتُّح فرص اقتصادية أخرى بحيث أمكنهم العمل في التجارة. ويشبه هذا زحف العرب التدريجي على الزراعة داخل المُستوطَن الصهيوني وضمن ذلك الكيبوتسات، وتحوُّل المستوطنين الصهاينة إلى مهام أخرى غير الزراعة.(16/351)
ولا تنحصر نقاط التشابه بين المشروعين الفرنجي والصهيوني في الظروف الاجتماعية والجغرافية المحيطة بكل منهما، ولا في بنية الكيانين فقط، وإنما تمتد نقاط التشابه هذه لتضم الديباجات والقصد. فقد قُدِّمت تبريرات للمشروعين وتم الدفاع عنهما عن طريق ديباجات دينية تستخدم الرموز الدينية وتوظفها في عملية التعبئة العسكرية. والرموز الدينية المستخدمة هي في واقع الأمر رموز عرْقية أو إثنية أو قومية رغم طلائها الديني اللامع. ويتبدَّى هذا في واقع أنه لا حملات الفرنجة ولا الحملة الصهيونية تحتكم إلى القيم الأخلاقية المسيحية أو اليهودية، ولا يوجد لدى أيٍّ منهما استعداد لأن يُقيِّم سلوك المقاتلين التابعين لها من منظور مسيحي أو يهودي. فلم يكن الصليب في الحروب التي يُقال لها «صليبية» رمزاً للنسق الديني المسيحي وإنما كان رمزاً للهوية الإثنية الغربية المغرقة في الدنيوية، كما أن نجمة داود كان يستخدمها الصهاينة الذين لا يعرفون إلا القليل عن الدين اليهودي والذين لا علاقة لهم بالنسق الديني اليهودي. فالحملات التي يُقال لها «صليبية» ، أو تلك التي يُقال لها «صهيونية» ، هي إذن تعبير عن قوى غير دينية استولت على الرموز الدينية ووظفتها مثلما استولت فيما بعد على الأراضي وقتلت أصحابها.
ومن هنا كانت عنصرية الديباجات الصليبية والصهيونية. ومن هنا أيضاً كان تمييزها الحاد بين البشر وتقسيمهم إلى أدنى وأعلى، أو حاضر وغائب، أو فئة لها كل الحقوق وفئة لا حقوق لها على الإطلاق ... إلخ. وهذا مختلف تماماً عن إيمان الديانات التوحيدية الثلاث بالمساواة بين البشر والتي تصدُر عن الإيمان بأننا نولد جميعاً من آدم وآدم من تراب.(16/352)
ويُلاحَظ أن ديباجات الفرنجة والصهاينة ترى غزو فلسطين في إطار فكرة أن الغزاة شعب مقدَّس أو مختار. وكان يسيطر على كل من الفرنجة والصهاينة تفكير نخبوي يجعل زعماءهم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم طلائع شعوبهم التي ستحمل السلام لتخلِّص الأرض المقدَّسة، وأن هذه الحملة العسكرية إن هي إلا خروج ثان يشبه خروج العبرانيين من مصر إلى كنعان. وقد ارتبطت الديباجات في كلا المشروعين بالأحلام الألفية في استرجاع فلسطين بعد عودة المسيح أو تمهيداً لعودته.
مركزية حملات الفرنجة في الوجدان الصهيوني/الإسرائيلي
Centrality of the Crusades in the Israeli Zionist Imagination(16/353)
نظراً للتشابه بين المشروعين الفرنجي والصهيوني، ونظراً لأن كليهما اتخذ فلسطين ساحة لتنفيذ أحلامه، نجد أن الوجدان الصهيوني منشغل إلى أقصى حد بالمشروع الفرنجي، وخصوصاً أن الفرنجة قد رحلوا ولم يتركوا شيئاً خلفهم سوى بعض القلاع التي يزورها السائحون ويدرسها علماء الآثار من الإسرائيليين والعرب. ويحاول الدارسون الصهاينة أن ينظروا إلى مشروع الفرنجة من منظور ما يسمونه «التاريخ اليهودي» وكأن حملات الفرنجة جُرِّدت بالدرجة الأولى ضد اليهود، تماماً مثلما يمنحون الجماعات اليهودية مركزية في كل الأحداث التاريخية. وتتحدث الكتابات الصهيونية الإسرائيلية عن ضحايا حملات الفرنجة وكأنهم الضحايا الوحيدون، بل تدَّعى بعضها دوراً يهودياً مستقلاًّ في صد الفرنجة، وهو الأمر الذي يتنافى تماماً مع حقائق التاريخ، ومع ما ورد في كتابات بعض الرحالة اليهود المعاصرين مثل بنيامين التويطلي، فإن مدينة صور كانت (في عام 1170) تضم خمسمائة يهودي على حين كانت كلٌّ من عكا وقيصرية تضم مائتين، وكانت عسقلان تضم مائتي يهودي حاخامي. وتشير موسوعة التاريخ اليهودي إلى أن هذه هي الجماعات اليهودية الكبيرة! ويذكر العالم اليهودي الإسباني موسى بن نحمان (نحمانيدس) أنه وجد في القدس عام 1267 يهوديين اثنين فقط.
ولكن أهم جوانب الاهتمام الصهيوني الإسرائيلي بالكيان الفرنجي هو دراسته من منظور الصراع العربي الإسرائيلي، بمعنى عَقْد الدراسات المقارنة في مشاكل الاستيطان ومشاكل الموارد البشرية والعلاقات الدولية فضلاً عن محاولة فَهْم عوامل الإخفاق والفشل التي أودت بالكيان الفرنجي. وهناك من يهتم بدراسة المقومات البشرية والاقتصادية والعسكرية للكيان الفرنجي، ومن يهتم برصد العلاقة بين هذا الكيان والكيان الأوربي المساند له. وقد وجَّه فريق من الباحثين اليهود اهتمامه لدراسة مشكلات الاستيطان والهجرة.(16/354)
ولكن الاهتمام لا يقتصر على الدوائر الأكاديمية، فنجد أن شخصيات سياسية عامة مثل رابين وديان وأفنيري يهتمون بمشاكل الاستيطان والهجرة. ففي سبتمبر 1970، عقد إسحق رابين مقارنة بين ممالك الفرنجة والدولة الصهيونية حيث توصَّل إلى أن الخطر الأساسي الذي يهدد إسرائيل هو تجميد الهجرة، وأن هذا هو الذي سيؤدي إلى اضمحلال الدولة بسبب عدم سريان دم جديد فيها. ويعقد أفنيري في كتابه إسرائيل بدون صهيونية (1968) مقارنة مستفيضة بين ممالك الفرنجة والدولة الصهيونية لا تختلف كثيراً عن المقارنة التي عقدناها في الجزء الخاص بهذا الموضوع والذي استفدنا فيه بتحليله الذكي. ولكن أفنيري يخلص إلى أن المقارنة درس لابد أن يتعلم منه الصهاينة، فإسرائيل مثل ممالك الفرنجة مُحاصَرة عسكرياً لا لأن هذا هو المصير الموعود (الذي لا مفر منه) كما يتصور بعض الصهاينة، وإنما هي مُحاصَرة عسكرياً لأنها تجاهلت الوجود الفلسطيني ورفضت الاعتراف بأن أرض الميعاد يقطنها العرب منذ مئات السنين.(16/355)
وقد عاد أفنيري إلى الموضوع، عام 1983، بعد الغزو الصهيوني للبنان، في مقال نشر في هاعولام هزه بعنوان "ماذا ستكون النهاية" فأشار إلى أن ممالك الفرنجة احتلت رقعة من الأرض أوسع من تلك التي احتلتها الدولة الصهيونية، وأن الفرنجة كانوا قادرين على كل شيء إلا العيش في سلام، لأن الحلول الوسط والتعايش السلمي كانا غريبين على التكوين الأساسي للحركة. وحينما كان جيل جديد يطالب بالسلام كانت مجهوداتهم تضيع سدى مع قدوم تيارات جديدة من المستوطنين، الأمر الذي يعني أن ممالك الفرنجة لم تفقد قط طابعها الاستيطاني. كما أن المؤسسة العسكرية الاقتصادية للفرنجة قامت بدور فعال في القضاء على محاولات السلام، فاستمر التوسع الفرنجي على مدى جيل أو جيلين. ثم بدأ الإرهاق يحل بهم، وزاد التوتر بين المسيحيين الفرنجة من جهة وأبناء الطوائف الشرقية من جهة أخرى، الأمر الذي أضعف مجتمع الفرنجة الاستيطاني، كما ضعف الدعم المالي والسكاني من الغرب. وفي الوقت نفسه، بدأ بعث إسلامي جديد، وبدأت الحركة للإجهاز على ممالك الفرنجة، فأوجد المسلمون طرقاً تجارية بديلة عن تلك التي استولى عليها الفرنجة. وبعد موت الأجيال الأولى من أعضاء النخبة في الممالك، حل محلهم ورثة ضعفاء في وقت ظهرت فيه سلسلة من القادة المسلمين العظماء ابتداءً من صلاح الدين ذي الشخصية الأسطورية حتى الظاهر بيبرس. وظل ميزان القوى يميل لغير صالح الفرنجة، كما لم يكن هناك ما يوقف هزيمتهم النهائية. وقد ترك هذا الحدث التاريخي بصماته وآثاره في وعي شعوب المنطقة حتى اليوم.
والواقع أن اهتمام المستوطنين الصهاينة بممالك الفرنجة تعبير عن إدراك أوَّلي لطبيعة دورهم في المنطقة كدولة وظيفية تكون مجرد أداة في يد قوى عظمى خارجية، وهو إحساس يشوبه قسط كبير من القدرية والعدمية الناجمة عن إحساس الأداة بأنها لا تمتلك ناصية أمورها ولا تسيطر على مصيرها أو قدرها.(16/356)
الباب الثالث: صهيونية غير اليهود المسيحية
الصهيونية الغربية
Western Zionism
«الصهيونية الغربية» مصطلح قمنا بسكه لنشير به إلى الحركة الصهيونية لنبين أنها حركة ليست عالمية وإنما حركة غربية تضرب بجذورها في التشكيل الحضاري والسياسي والغربي. والصهيونية الغربية تَصدُر عن الصيغتين الصهيونيتين الأساسية والشاملة، ويمكن أن نقسِّم الصهيونية الغربية إلى قسمين:
أ) صهيونية غير اليهود: وهي صهيونية الذين توصلوا إلى الصيغة الصهيونية الأساسية وهم ينظرون لليهود باعتبارهم مادة تُنقَل، ويطلق عليها البعض «صهيونية الأغيار» ، وإن كانت ديباجتها مسيحية فإنهم يطلقون عليها «صهيونية مسيحية» .
ب) صهيونية اليهود في الغرب: وهي صهيونية اليهود الذين تبنوا الصيغة الصهيونية الأساسية. وهذه نقسمها إلى صهيونية يهود غرب أوربا التوطينية وصهيونية يهود شرق أوربا الاستيطانية. والصهيونية الأولى قد تنتمي من الناحية البنيوية إلى صهيونية غير اليهود، فهي تنظر إليهم من الخارج.
وإذا كان ثمة فارق بين صهيونية غير اليهود وصهيونية اليهود، فهو يكمن في المنظور والديباجات ولا ينصرف قط إلى الصيغة الأساسية نفسها، فاليهود بالنسبة إلى الصهاينة اليهود وغير اليهود شعب عضوي منبوذ من أوربا يجب أن يُنقَل خارجها ليُوظَّف لصالحها. وبينما ينظر الصهاينة غير اليهود إلى اليهود من الخارج باعتبارهم مجرد مادة بشرية تُوظَّف لصالح الغرب (أي على أنهم مجرد موضوع أو وسيلة لا قيمة لها في حد ذاتها) ، فإن الصهاينة اليهود ينظرون إلى اليهود من الداخل باعتبارهم شيئاً مقدَّساً، أي أنهم يهوِّدون الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة من خلال إسقاط مصطلحات الحلولية الكمونية اليهودية عليها والعودة إلى الثالوث الحلولي: شعب ـ أرض ـ قوة ما (الإله ـ روح الشعب ـ التوراة والتراث) تسري في العنصرين وتحل فيهما وتربط بينهما.(16/357)
وإذا كان الشعب اليهودي مجرد وسيلة (كما يرى الصهاينة غير اليهود) ، فهو من منظور الصهاينة اليهود وسيلة مهمة تُوظَّف في إطار كوني أو تاريخي ضخم بسبب مركزية الشعب اليهودي. ولنا أن نلاحظ أن كثيراً من الصهاينة غير اليهود قد تَقبَّلوا الرؤية الحلولية الكمونية اليهودية وأن كثيراً من الصهاينة اليهود يقبلون الرؤية النفعية، وأصبح من المألوف أن تمتزج الرؤية الحلولية بالرؤية المادية النفعية، وهذا ممكن في إطار الحضارة الغربية العلمانية الحديثة حيث يَحلُّ المطلق في المادة ويصبح من الممكن (من خلال الصيغة الهيجلية) التعبير عن الأمور المادية بطريقة روحية وعن الأمور الروحية بطريقة مادية. وثمرة هذا المزج هو النظر إلى فلسطين باعتبارها أرض الميعاد وباعتبارها كذلك موقعاً ذا أهمية اقتصادية وإستراتيجية بالغة، وإلى الشعب اليهودي باعتباره شعباً مختاراً يقف في مركز الكون، حجر الزاوية في عملية الخلاص، وفي الوقت نفسه باعتباره مادة استيطانية تخدم الحضارة الغربية. وإسرائيل هنا هي أداة الإله الطيعة، وهي في الوقت نفسه العميل المطيع للحضارة الغربية.
صهيونية الأغيار
Gentile Zionism
«صهيونية الأغيار» ترجمة لمصطلح «جنتايل زايونيزم Gentile Zionism» ، وهو مصطلح شائع في اللغات الأوربية يشير إلى غير اليهود الذين يتبنون الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة. ونحن نفضل استخدام مصطلح «صهيونية غربية» ، أو «صهيونية» فقط، بمعنى «صهيونية غربية» ، ونشير إلى «الصهيونية ذات الديباجة المسيحية» وإلى «صهيونية غير اليهود العلمانية» بمعنى أنها صهيونية غربية يتبناها بعض مواطني العالم الغربي ويدافعون عنها، إما من منظور مسيحي أو من منظور علماني.
صهيونية غير اليهود
Gentile Zionism
انظر» صهيونية الأغيار «.
الصهيونية المسيحية
Christian Zionism(16/358)
«الصهيونية المسيحية» مصطلح انتشر في اللغات الأوربية وتسلَّل منها إلى اللغة العربية، حيث تتم ترجمة كل المصطلحات بأمانة شديدة وتبعية أشد دون إدراك مضامين المصطلح، ومن ثم فإننا لا نعرف إن كان هذا المصطلح يعبِّر عن موقفنا بالفعل وعن رؤيتنا للظاهرة أم لا. والواقع أن مصطلح «الصهيونية المسيحية» يضفي على الصهيونية صبغة عالمية تربطها بالمسيحية ككل، وهو أمر مخالف تماماً للواقع، إذ ليس هناك صهيونية مسيحية في الشرق. بل إن أوائل المعادين للصهيونية بين عرب فلسطين كانوا من العرب المسيحيين، وأول مفكر عربي تنبأ بأبعاد الصراع العربي ـ الصهيوني وبمدى عمقه هو المفكر المسيحي (اللبناني الأصل الفلسطيني الإقامة) نجيب عازوري. كما أن الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية تعارضان الصهيونية على أساس عقائدي ديني مسيحي. وإن حدث تقارب ما (كما هو الحال مع الفاتيكان) ، فإن ذلك يتم مع دولة إسرائيل ولاعتبارات عملية خارجة عن الإطار الديني العقائدي إلى حدٍّ كبير. بل هناك في الغرب المسيحي البروتستانتي عشرات من المفكرين المسيحيين الذين يرفضون الصهيونية على أساس ديني مسيحي أيضاً. ولذا، فإن مصطلح «الصهيونية المسيحية» غير علمي نظراً لعموميته ومطلقيته. ومن هنا، فإن الحديث يجري هنا، في هذه الموسوعة، عن «الصهيونية ذات الديباجة المسيحية» ، فهي صهيونية غير مسيحية بأية حال، بل صهيونية استمدت ديباجتها (عن طريق الحذف والانتقاء) من التراث المسيحي دون الالتزام بهذا التراث بكل قيمه وأبعاده، ودون استعداد منها لأن يُحكَم عليها من منظوره الأخلاقي (ويمكنها أن تستخدم ديباجات إلحادية دون أن يتغيَّر مضمونها أو بنيتها الفكرية الأساسية) . وفي تصوُّرنا أن هذا هو الفارق بين أية عقيدة دينية وأية عقيدة علمانية، فالمؤمن بعقيدة دينية يؤمن بمجموعة من القيم المطلقة المتجاوزة لإرادته (فهي ليست من إبداعه ولا من إبداع غيره من البشر) ، ومن ثم يمكن(16/359)
تقييمه وتقييم سلوكه من منظور هذه القيم. أما العقيدة العلمانية، فهي مجموعة من القيم النسبية المتغيرة، ولا يمكن أن يُحاكَم الإنسان العلماني من منظورها إذ بوسعه أن يرفضها ويتنكر لها ويعدِّلها بما يتفق مع مواقفه المتغيِّرة واحتياجاته المتطورة وأهوائه المتجددة ورغباته التي لا تنتهي.
الصهيونية ذات الديباجة المسيحية
Zionism and Christian Apologetics
«الصهيونية ذات الديباجة المسيحية» هي دعوة انتشرت في بعض الأوساط البروتستانتية المتطرفة لإعادة اليهود إلى فلسطين. وتستند هذه الدعوة إلى العقيدة الألفية الاسترجاعية التي ترى أن العودة شرط لتحقيق الخلاص، وهي تضم داخلها هذا المركب الغريب من حب اليهود الذي هو في واقع الأمر كره عميق لهم، تماماً مثل الصيغة الصهيونية الأساسية: شعب عضوي منبوذ نافع يُنقَل خارج أوربا ليُوظَّف لصالحها.
وأفكار الصهيونية ذات الديباجة المسيحية جزء لا يتجزأ من فكر الإصلاح الديني (وخصوصاً في أشكاله المتطرفة) برفضه التفسير المجازي للكتاب المقدَّس وفتحه الباب على مصراعيه لفكرة الخلاص الفردي خارج الكنيسة وللتفسير الفردي للنصوص المقدَّسة، بحيث أصبح المسيحي هو نفسه الكنيسة والكتاب المقدَّس، يفرض عليهما ما يشاء من قيم ورؤى، وهو ما يعبِّر عن تَصاعُد معدلات الحلول والعلمنة وانتشار ما نسميه «الرؤية المعرفية الإمبريالية» . وقد انتشر الفكر الصهيوني ذو الديباجات المسيحية في أواخر القرن السادس عشر؛ عصر الثورة العلمانية الشاملة والثورة التجارية والحركة الاستيطانية الغربية ونشوء الرأسماليات الأوربية الباحثة عن مصادر الثروات والمواد الخام وعن أسواق لتصريف سلعها. وكانت أهم مراكز الصهيونية ذات الديباجة المسيحية إنجلترا بعد أن تحوَّلت عن الكاثوليكية ونفضت النفوذ الإسباني عنها وأصبحت واحدة من أهم القوى الاستعمارية (ومع هذا، يُلاحَظ أن إنجلترا لم يكن فيها يهود تقريباً) .(16/360)
ويمكننا هنا أن نذكر بعض المفكرين الصهاينة، مثل توماس برايتمان وسير هنري فنش، الذين طرحوا تفسيراً حرفياً للعهد القديم وطالبوا بعودة اليهود إلى فلسطين. كما يمكن الإشارة إلى فيليب دي لانجالري (الفرنسي) . وقد ظهرت عشرات المقالات التي تعالج هذا الموضوع وتتخذ موقفاً مماثلاً. وزاد هذا الموقف عمقاً باستيلاء المتطهرين (البيوريتان) على الحكم فكتب إنجليزيان بيوريتانيان نداء يطلبان فيه إعادة اليهود لإنجلترا وذلك حتى يتشتَّتوا في كل بقاع الأرض. فالشتات الكامل ـ حسب الأسطورة ـ هو شرط عودتهم لأرضهم، على أن تكون عودتهم على "سفن إنجليزية" (ولنتذكر هنا قانون الملاحة المركنتالي، الصادر عام 1651، الذي أصدرته حكومة كرومويل والذي تم بمقتضاه استبعاد السفن الهولندية من حَمْل التجارة البريطانية، ولذا أصبح حَمْل سلع من أفريقيا أو آسيا غير ممكن إلا على سفن إنجليزية) .
وتُعَدُّ هذه أول مرة في تاريخ العالم المسيحي التي يطرح فيها بشر مشروعاً بشرياً لإنجاز ما كان يُعتقَد حتى ذلك الوقت أنه أمر سيتم بتَدخُّل العناية الإلهية. وقد أدلى كرومويل بدلوه فدافع عن عودة اليهود لإنجلترا بسبب نَفْعهم وإمكانية استخدامهم كجواسيس له. ويُلاحَظ أن الصيغة الصهيونية الأساسية هي النموذج الأساسي الكامن في كل هذه الكتابات.
ويُلاحَظ أن الصهيونية ذات الديباجة المسيحية تأخذ شكلاً دينياً استرجاعياً صريحاً وشكلاً تبشيرياً بين اليهود، وهي تنظر لليهودية من الخارج تماماً، فاليهود لا يزالون مجرد أداة للخلاص، وهم قتلة المسيح الذين يجب تنصيرهم وهدايتهم. ودعاة الصهيونية ذات الديباجة المسيحية شخصيات ليست سوية تماماً، معظمهم بعيدون عن مركز صناعة القرار. ومع هذا، يُلاحَظ أن الأبواب كانت دائماً مفتوحة أمامهم.(16/361)
وقد قامت جمعيات مسيحية تبشيرية عديدة مهمتها نشر المسيحية بين اليهود وهدايتهم واسترجاعهم إلى فلسطين إعداداً للخلاص. وأهم جمعية صهيونية مسيحية هي جمعية لندن لنشر المسيحية بين اليهود الإنجليز ويهود الدولة العثمانية (1809) ، وكان يشار إليها على أنها جمعية اليهود ( «جوز سوسياتي Jews' Society» ) . كما تم تأسيس جمعية التبشير الكنسية التي ازدهرت إلى درجة أن ميزانيتها بلغت 26ألف جنيه عام 1850، وكان يتبعها 32 فرعاً في لندن والقدس وغيرهما من المدن، وأصبحت المنبر الأساسي للصهاينة من المسيحيين مثل لورد شافتسبري السابع.
ومع تَصاعُد معدلات العلمنة وتزايد النزعة الرومانسية (الحلولية العضوية) ، بدأت الديباجات الدينية تبهت بالتدريج وبدأت تحل محلها ديباجات علمانية عقلانية نفعية تدور في إطار مفهوم الشعب العضوي المنبوذ مجرداً من كل الديباجات المسيحية. ومع ظهور محمد علي في مصر، وبداية التفكير في توظيف الدولة العثمانية كي تصبح سداً ضد الزحف الروسي الأرثوذكسي أو في اقتسامها، أصبحت الصهيونية ذات الديباجة المسيحية هامشية (رغم شعبيتها) إذ نجد أن أعضاء النخبة الحاكمة يستخدمون الصيغة الصهيونية الأساسية مع ديباجات نفعية علمانية (صهيونية غير اليهود) .(16/362)
ولا يعني ظهور الصهيونية ذات الديباجة الرومانسية العضوية أو العلمانية العقلية (المادية الشاملة) أن الصهيونية ذات الديباجة المسيحية الواضحة اختفت أو حتى توارت. فالعكس هو الصحيح، إذ أن هذه الديباجة استمرت في التمتع بذيوع لا تعادله أية ديباجة أخرى، رغم تزايد علمنة المجتمع الغربي، بل إن النزعة الرومانسية قد أعطتها حياة جديدة وزادتها حيوية ودينامية. ويتضح ذلك في أن القرن التاسع عشر شهد بعثاً مسيحياً متمثلاً في الحركة الإنجيلية (أي المبشرة بالإنجيل) التي كانت تهدف إلى بَعْث القيم المسيحية بين صفوف الطبقة العاملة والفقراء والتبشير بين اليهود. كما يتضح في استمرار كثير من الصهاينة غير اليهود (العلمانيين) في استخدام ديباجات مسيحية. بل يمكن القول بأن الديباجة الأكثر شيوعاً مزيج من الديباجتين العلمانية النفعية والمسيحية كما هو الحال مع شافتسبري وبلفور.
ومن أهم الصهاينة الذين استخدموا ديباجات مسيحية وليام هشلر الذي قام بتقديم هرتزل لأعضاء النخبة الحاكمة في أوربا، وأورد ونجيت (الضابط البريطاني الذي ساهم في أعمال الإرهاب ضد العرب) ، ونيبور رينهولد رجل الدين البروتستانتي.
ويمكن القول بأن المشروع الاستيطاني الغربي بشكل عام (في فلسطين وغيرها) استخدم ديباجات صهيونية مسيحية توراتية لتبرير عملية غزو العالم فأصبحت كل منطقة يتم غزوها هي أرض كنعان (فلسطين) وأصبح سكانها الأصليون كنعانيين ومن ثم يمكن إبادتهم. وقد استُخدمت هذه الديباجات في استعمار الأمريكتين وجنوب أفريقيا.(16/363)
وقد بدأت الصهيونية ذات الديباجة المسيحية تتمتع ببعث جديد بعد إنشاء الدولة الصهيونية. وبدأت الفكرة الاسترجاعية تنتشر بشكل كبير في الأوساط البروتستانتية المتطرفة (الأصولية) في الولايات المتحدة (ومنهم بعض رؤساء الولايات المتحدة مثل كارتر وريجان) والتي تُصر على أن دولة إسرائيل هي تحقق النبوءة حرفياً في العصر الحديث وهي بُشرى الألف سنة السعيدة، أي أن الحلول أو التجسد الذي حدث مرة واحدة وبشكل مؤقت في التاريخ من منظور كاثوليكي، أصبح حلولاً حرفياً ودائماً ومادياً في شكل الدولة الصهيونية وفي أحداث التاريخ الحديث. لذلك، نجد أن الاسترجاعيين المُحدَثين يستغرقون في التفسيرات الحرفية. وعلى سبيل المثال، فإن جيري فالويل يشير إلى أن كتاب حزقيال يشير إلى أرض معادية للماشيَّح هي «روش» ، وهي أرض بها مدينتان هما «ميشيسن وتوبال» ، وتصبح روش «روسيا» وتصبح ميشسن «موسكو» وتوبال «تيبولسك» . وستقوم روش بغزو إسرائيل ونهبها (حسب سفر حزقيال) ، ولذا فإن فالويل يفسر هذا بأن روسيا ستقوم بغزو إسرائيل للحصول على الغنائم. وكلمة «النهب» يقابلها في الإنجليزية كلمة «سبويل spoil» ، فإن حذفنا أول حرفين فإنها تصبح «أويل oil» ، أي البترول، وهنا تصبح الأمور شديدة البساطة (وهذه الطريقة في التأويل ذات جذور قبَّالية، كما يُلاحَظ هنا أيضاً الثنائية الصلبة التي تتبدَّى في التأرجح بين التفسير الحرفي الجامد الذي يصر على معنى واحد مباشر والتأويل السائل الذي يفرض أي معنى على النص) . ويقوم هؤلاء الاسترجاعيون بحوسلة إسرائيل بشكل حاد. وعلى سبيل المثال، فإن تيري ريزنهوفر (المليونير الأصولي الأمريكي الذي يقوم بتمويل عملية إعادة بناء الهيكل) يرى أن السلام بين إسرائيل وجيرانها مسألة مستحيلة. وبصفة عامة، فإن الرؤية الاسترجاعية ترى أن هرمجدون نبوءة حتمية لابد أن تتحقق. بل يرى الاسترجاعيون ضرورة تحريك الأمور باتجاه الحرب لإضرام الصراع(16/364)
والتعجيل بالنهاية (ولذا، فإن موقفهم من مفاوضات السلام أكثر تشدداً من موقف أكثر صقور إسرائيل تشدداً) . ولا يختلف الأمر كثيراً بشأن حدود أرض الميعاد، فهذه الحدود مُعطَى ثابت مقدَّس لا يمكن التفاوض بشأنه. كما أن حدود إسرائيل التي يتخيلها الاسترجاعيون أكثر اتساعاً من حدود إسرائيل الكبرى التي يتخيلها أكثر الصهاينة تطرفاً. فحدودها، حسب الرؤية الاسترجاعية، تضم الأردن وأجزاء من مصر ولبنان ومعظم سوريا (وضمنها دمشق) . أي أن الاسترجاعيين يرون ضرورة سفك الدم اليهودي تحقيقاً لرؤيتهم لنبوءات الكتاب المقدَّس.
والواقع أن هذا المفهوم لا يختلف كثيراً عن مفهوم آرثر بلفور (صاحب الوعد المشهور) الذي أرسل اليهود إلى فلسطين ليكونوا قاعدة أمامية للحضارة الغربية، تُنزَف دماؤهم دفاعاً عن الحضارة التي نبذتهم. وهكذا، فإن الرؤية الاسترجاعية رؤية معادية تماماً لليهود وترى أن هلاكهم طريق الخلاص والبوابة الحتمية لانتشار المسيحية! وغني عن القول أن الرؤية الاسترجاعية رؤية حرفية علمانية لا علاقة لها بالرؤية المسيحية كما عرَّفها آباء الكنيسة ومفسروها الدينيون، وهي تعبير عن تهويد المسيحية أي علمنتها من الداخل. وقد عُقد المؤتمر الصهيوني المسيحي الأول في أغسطس 1985 في الصالة نفسها التي عُقد فيها المؤتمر الصهيوني الأول في بازل (1897) ، وحضره 589 مندوباً أتوا من 27 دولة.
ومن أهم المنظمات الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة:
1 ـ منظمة الأغلبية الأخلاقية، وزعيمها الروحي القس جيري فولويل (ولعلها أهم المنظمات) .
2 ـ مؤسسة بات روبرتسون.
3 ـ منظمة السفارة المسيحية الدولية ـ القدس.
4 ـ المؤتمر القومي للقيادات المسيحية من أجل إسرائيل.
5 ـ المائدة المستديرة الدينية.
الأحلام والعقائد الألفية
Millenarianist Dreams and Doctrines(16/365)
«الألفية» ترجمة لكلمة «ميلينيريانزم» الإنجليزية المأخوذة من الكلمة اللاتينية «ميلينياروس» ومعناها «تحتوي على ألف» . وثمة نزوع إنساني عام لفرض نظام عام على أحداث التاريخ، وهو عادةً نظام رياضي هندسي صارم. ومن ثم، فقد ظهر الإيمان في كثير من الحضارات بأن العالم يشهد، في نهاية كل ألف من السنين، انتهاء دورة زمنية، وتصاحب هذه النهاية عادةً أحداث ضخمة. بل تذهب هذه الرؤية إلى أن التاريخ كله سيكون في نهاية ألف معينة. والفكرة الألفية متواترة في كثير من الحضارات. ويُقال إن حروب الفرنجة كانت نتيجة تصاعُد الحمى الألفية. وقد كتب الشاعر الأيرلندي وليام بتلريتس في نهاية القرن التاسع عشر قصائد ذات طابع ألفي. ولعل آراء فوكوياما (الموظف بوزارة الخارجية الأمريكية) عن نهاية التاريخ، ذات طابع ألفي هي الأخرى (مع انتهاء القرن العشرين، أي في نهاية الألف الثانية بعد الميلاد) . كما أن العراف نوستراداموس من قبله وضع مخططاً يتنبأ فيه بنهاية التاريخ في إحدى الدورات الألفية. وللعقيدة الألفية جذور شعبية في العادة، تماماً مثل النزعات المشيحانية المختلفة التي تعبِّر عن تزايد معدلات الحلولية وضيق بالحدود وعن نفاد صبر بشأن العملية التاريخية وبالخلاص التدريجي.
والعقيدة الألفية تعود جذورها إلى اليهودية، ولكنها أصبحت فكرة مركزية في المسيحية البروتستانتية إذ يؤمن كثير من المسيحيين البروتستانت بأنه حينما يعود المسيح المخلِّص (أو الماشيَّح حسب الرؤية اليهودية) (الذي يُشار إليه فيها بـ «الملك الألفي» ) سيحكم العالم (باعتباره الملك المقدَّس) هو والقديسون لمدة ألف عام يشار إليها أحياناً باسم «أيام الماشيَّح» أو «أيام المسيح» ، وهي فترة سيسود فيها السلام والعدل في عالم التاريخ والطبيعة وفي مجتمع الإنسان والحيوان.(16/366)
وعقيدة الملك المقدَّس هذه لم يأت لها أي ذكر في العهد القديم ويبدو أنها مجرد صدى في الوجدان العبراني لمؤسسة الملكية المقدَّسة العبرانية. وما حدث هو أن مؤسسة الملكية المقدَّسة اختفت مع انهيار الدويلات العبرانية ولم تتم استعادتها حتى بعد عودة اليهود بأمر قورش الفارسي. فأسقط الوجدان العبراني فكرة الملك المقدَّس على المستقبل أصبحت جزءاً من الأفكار الأخروية (وتتحدث جماعة قمران عن الزوج المشيحاني) : الماشيَّح بن هارون الكهنوتي والماشيَّح بن داود الملكي، ثم ظهر فيما بعد الماشيَّح بن يوسف والماشيَّح بن داود.(16/367)
وقد ظهرت العقيدة الألفية في كتابات معلمي المشناه (تنائيم) وفي الكتب الخارجية أو الخفية (أبوكريفا) . بل إن كتب الرؤى (أبوكاليبس) ، ومعظم الأفكار الأخروية، والكتب المنسوبة (سيود إبيجرفا) ، والأحلام الأخروية، وسائر الأساطير الخاصة بآخر الأيام ونهاية الزمان، تدور جميعاً حول هذه العقيدة. وتظهر العقيدة الألفية في العهد الجديد في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي الذي يشبه سفر دانيال في كثير من الوجوه والذي يدور حول عودة المسيح الثانية وحُكْمه العالم لمدة ألف عام. والنص، مثل كل كتب الرؤى، مركب مضطرب تنثال فيه صور الحشر الأخروية وتتداخل. والنص يتحدث عن تقييد الشيطان ثم حكم المسيح للعالم مع قديسيه لفترة تمتد لمدة ألف عام (ويبدو أن الألف عام هذه لا علاقة لها بيوم البعث أو يوم القيامة أو الفردوس السماوي إذ هي نوع من الفردوس الأرضي الذي سيتحقق الآن وهنا قبل يوم الحساب) . بعد ذلك يُطلَق الشيطان من سجنه لهجمة أخيرة، ولعله عند هذه اللحظة يظهر المسيح الدجال (بالإنجليزية: «أنتي كرايست anti-Christ» وهي كلمة تعني حرفياً: ضد المسيح) فتدور المعركة الفاصلة النهائية. ويُلاحَظ أن المسيح الذي يعود هذه المرة ليس هو مسيح الأناجيل المعروف لدينا الذي يشيح بوجهه عن مملكة الأرض والذي يعرف أنه سيُصلَب فداءً للبشر، وإنما هو مسيح عسكري يجيئ راكباً حصاناً أبيض و"عيناه كلهيب نار" و"متسربل بثوب مغموس بدم" و"من فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الأمم، وهو سيرعاهم بعصاً من حديد" (رؤيا يوحنا 19/11 ـ 16) . فهو إذن مسيح جدير بالرؤية المعرفية الإمبريالية، يشبه جيوش أوربا التي داست الأرض ولوثت البيئة وثقبت الأوزون. وهو مسيح سيقتحم التاريخ عنوة ويدخل المعركة النهائية، معركة هرمجدون، ضد ملوك الأرض الذين يساعدهم الشيطان، فيُلحق بهم جميعاً الهزيمة النكراء. ثم يبدأ المسيح حكمه (الثاني) والنهائي، ويبعث كل البشر، المحسن منهم والسيِّئ (إذ يبدو(16/368)
أنه في حكمه الأول لم يبعث سوى القديسين) وذلك لمحاسبتهم ومجازاتهم. وينتهي الزمان ويبدأ حكم مدينة الإله وتختفي مدينة الأرض. وتختلط بكل هذا أقوال عن يأجوج ومأجوج وعلامات الساعة والنهاية، كما أن هناك العديد من الروايات الأخرى التي لا تقل اختلاطاً عن تلك التي لخصناها.
وأهم النقط التي يدور حولها الخلاف بين الروايات المختلفة هو: متى تكون النهاية النهائية، هل تكون بعد عودة المسيح أم قبلها؟ وما علامات هذه العودة الثانية، أهي مزيد من الشر والتدهور أم الخير والتقدم؟ ويُقسَّم الألفيون، أي المؤمنون بالعقيدة الألفية، إلى قسمين حسب رؤيتهم لزمن ظهور المملكة الألفية:
أ) أنصار ما قبل الألف: وهؤلاء يؤمنون بأن الملك الألفي أي المسيح سيأتي فجأة ويبدأ مملكة الألف عام التي سيسود فيها العدل والسلام، وهذه الرؤية هي الأكثر شيوعاً. وعلامة النهاية عند هؤلاء تكون عادةً انهيار الحضارة وتدهورها. وعندما ترد كلمة «ألفية» دون إضافات أو تحفظات فهي تشير عادةً إلى العقيدة ما قبل الألفية.
ب) أنصار ما بعد الألف: وهؤلاء يرون أن الملك الألفي سيأتي بعد الألف عام التي سيسود فيها السلام والمحبة وتعم فيها النعمة بسبب أن المسيحيين سيتخذون موقفاً أخلاقياً ويطيعون إلههم. وستكون العودة الثانية للمسيح هي ذروة هذه المرحلة، فهو سيأتي ليبعث الموتى ويحاسبهم على أفعالهم، وهذا هو يوم القيامة أو الحساب الأخير. وعلامة النهاية هنا هي شيوع السلام والمحبة والرخاء في الأرض.(16/369)
والخلافات هنا عميقة وبنيوية، فما قبل الألفيين يرون أن التغير فجائي ناجم عن تَدخُّل أو تجسُّد إلهي في التاريخ دون محاولة من جانب البشر، فهم عنصر سلبي في الدراما الكونية، وسيصاحب تَدخُّل الخالق مذابح وحروب. أما ما بعد الألفيين، فيرون أن التغيُّر تدريجي، وأنه ناجم عن أن المسيحيين سيقومون بتغيير أنفسهم وتحسين دنياهم. والذروة التي يصل إليها التاريخ تدريجياً هي إذن تعبير عن فعل إنساني أخلاقي وليس مجرد تجسُّد فجائي للإله في التاريخ. فالإنسان ليس عنصراً سلبياً في الدراما الكونية، بل هو فاعل لا يخضع للحتميات. وقد تزاوجت هذه الرؤية، فيما بعد، مع فكر عصر الاستنارة وعقيدة التقدم، وتمت علمنتها بحيث أصبح تقدُّم المسيحيين التدريجي هو التقدم التدريجي للعلوم، وأصبحت عودة المسيح (والحكم الألفي) هي هذه أو تلك النقطة في التاريخ. والواقع أن هذا الفكر يصل إلى قمته في منظومة هيجل، بل في كل المنظومات العلمانية الهيجلية.
ومن الواضح أن الفكر الأخروي الإسكاتولوجي المسيحي الألفي يتأرجح بين الحلولية المادية (مملكة المسيح في هذا الزمان) والتوحيد الذي ينزِّه الإله عن الطبيعة والتاريخ (المملكة السماوية خارج التاريخ) . فبينما تسد الصيغة الأولى أية ثغرات أو ثنائيات، نجد أن الثانية تؤكدها وتحتفظ بقدر من الثنائية الفضفاضة (ومع هذا تتم تصفيتها من خلال عقيدة التقدم والتجسد التدريجي من خلال التاريخ (.(16/370)
وقد اقترنت العقيدة الألفية، منذ البداية، بظهور العقلية التجارية والعلمية والمادية، ومن ثم فإنها قد ارتبطت بالتفسير الحرفي لكل عبارات العهد القديم ورفضت التفسيرات الكاثوليكية المجازية التي طورتها الكنيسة عبر العصور الوسطى لتُخلِّص الكتاب المقدَّس، وخصوصاً العهد القديم، من العناصر المادية والوثنية فيه. وقد اضطرت الكنيسة إلى قبول هذا الكتاب لأنها اعتبرت نفسها «إسرائيل فيروس» أي «إسرائيل الحقيقية» ـ أي الشعب اليهودي باعتباره جماعة مقدَّسة (جماعة يسرائيل) . وفي بداية العهد المسيحي، كان هناك اتجاه لإلغاء العهد القديم وعدم اعتباره ضمن الكتب القانونية، إذ أن تبنيه كان يعني إلغاء مركزية وقدسية ومصداقية رؤية اليهود تاريخياً ودينياً. ولكن الكنيسة رفضت هذا الاتجاه، إذ أن حَذْف العهد القديم كان يعني في واقع الأمر حرمان الكنيسة من حقها في أن ترث جماعة يسرائيل، وهو ما يتنافى مع العقيدة المسيحية ومع رؤيتها لنفسها. ومهما يكن الأمر، فإن الكنيسة حاصرت العناصر الوثنية في العهد القديم وحاولت تحييدها عن طريق التفسيرات المجازية والرمزية. ولكن، مع عصر النهضة والإصلاح الديني، بدأت التفسيرات الحرفية والفردية (الألفية) للعهد القديم تنتشر، وذهب الألفيون إلى أن ما ورد في العهدين القديم والجديد نبوءات حرفية عن المستقبل (على عكس الرؤية المسيحية التقليدية التي تذهب إلى أن آيات الكتاب المقدَّس إما آيات عن أحداث وقعت في الماضي أو نبوءات وردت ثم تحققت) . فيرى الألفيون، على سبيل المثال، أن العبارات التي وردت عن خراب أورشليم (القدس) تشير إلى حروب عام 1967 أو عام 1948. أما الرؤية المسيحية التقليدية، فتذهب إلى أنها تحققت بالفعل عام 70 ميلادية على يد تيتوس.(16/371)
والعقيدة الألفية، في كل مفاهيمها، تدور حول تجسُّد الإله في التاريخ بشكل فعلي فجائي، وحول تَدخُّله فيه حتى يمكن مشاهدته في آثاره الفعلية، وفي كل الشواهد المادية التي يمكن إدراكها بالحواس الخمس الآن وهنا في مملكة الأرض، أي أنها رؤية مادية للواقع. وقد استفاد الألفيون من التأملات القبَّالية الخاصة بحساب نهاية الأيام وموعد وصول الماشيَّح. وبهذا المعنى، تكون العقيدة الألفية تعبيراً عن تهويد المسيحية.
وقد أدركت الكنيسة الكاثوليكية منذ البداية خطورة العقائد الألفية (التي حملت راياتها العناصر الغنوصية واليهودية والوثنية الشعبية) على العقيدة المسيحية. وقد وصفت الكنيسة العقيدة الألفية بأنها "عقيدة على طريقة اليهود" أي تشبه الفكر المشيحاني اليهودي. وقد حاول القديس أوغسطين محاصرة ذلك المفهوم الواحدي الكوني المعادي للتاريخ والحدود، وحاول أن يحاصر الحلولية التي يَصدُر عنها ويحوِّلها إلى ما نسميه «حلولية مؤقتة شخصية منتهية» تحققت في لحظة نزول الإله باعتباره الابن ثم صلبه وقيامه، ومع قيامه تنتهي اللحظة الحلولية ويُستأنَف التاريخ الإنساني. وقد بيَّن القديس أوغسطين أن الكنيسة الكاثوليكية هي مملكة المسيح، وأنها التجسيد التام للعصر الألفي، وأنها حالة روحية وصلت إليها الكنيسة في عيد العنصرة، أي بعد موت وبعث المسيح. وهذا لا يعني انتهاء الفوضى في الطبيعة والتاريخ، بل إن الفوضى ستستمر إلى نهاية الزمان حتى يعود المسيح ثانيةً، وهي العودة التي سوف تتم في وقت لا يمكن التنبؤ به، أي يتم خارج التاريخ (في يوم القيامة) . وقد واكب تلك الرؤية تقديم التفسير المجازي للعهد القديم بحيث تصبح كل القصص والأحداث فيه رموزاً لحالات روحية وأخلاقية.(16/372)
ولكن كثيراً من الفرق الغنوصية المهرطقة، وهم من أعداء الكنيسة، استمروا في الدفاع عن العقيدة الألفية. غير أن مثل هذه الجماعات اضطرت إلى أن تكون سرِّية بسبب ما كان يقع عليها من اضطهاد من قبل الكنيسة في روما والتي وصفت تعاليمها بأنها كفر. وقد بُعثت الفكرة من جديد مع الإصلاح الديني ومع استرجاع النزعة الحلولية الذي تزامن أيضاً مع هيمنة القبَّالاه على اليهود وانتشارها في الأوساط الدينية الغربية. ورغم أن لوثر وكالفن تمسكا بتعاليم أوغسطين حول هذه الفكرة، فإنها أخذت تتسرب إلى الجماهير وتستقطب أعداداً كبيرة منهم، ثم صارت فكرة محورية في عقول كثير من غلاة البروتستانت، وهو أمر منطقي يتسق مع بنية الفكر البروتستانتي ومع تَصاعُد معدلات الحلولية والعلمنة داخل النسق الديني المسيحي لما بعد الإصلاح الديني. وتُعَدُّ العقيدة الاسترجاعية من أهم تجليات العقيدة الألفية.
ومما ينبغي ذكره أن العقائد الألفية بتأكيدها مركزية فكرة نهاية التاريخ قد تأخذ شكلاً فاشياً متطرفاً، يطالب بتطهير النسق تماماً من العناصر الغربية، فترى اليهود باعتبارهم شعباً عضوياً منبوذاً وحسب ولا داعي لتوظيفه ويمكن الاكتفاء بالتخلص منه.(16/373)
وتظهر الكراهية العميقة لليهود عند أتباع حركة تُسمَّى «الهوية المسيحية» وهي جماعة ألفية تنادي بنبذ (بل إبادة) كل العناصر البشرية المختلفة الأخرى (أى غير البيضاء غير البروتستانيتة) داخل المجتمع الأمريكي: السود والكاثوليك واليهود. ويرى أتباع هذه الحركة الألفية أنهم هم إسرائيل الحقيقية وأن شعوب شمال أوربا هم قبائل يسرائيل العشرة المفقودة. ويُلاحَظ أن النزعة الوثنية المادية الكامنة في العقيدة الألفية الاسترجاعية تظهر بشكل واضح في أدبيات هذه الحركة. فهم يرفضون المسيحيين السود وكل الكاثوليك في الوقت الذي يقبلون فيه أتباع العبادات الوثنية النوردية، كما يعادون إسرائيل ويسمون حكومة الولايات المتحدة «زوج ZOG» وهي اختصار لعبارة «زايونست أوكيوبيشن جوفرنمنت Zionist Occupation Government» أي "حكومة الاحتلال الصهيونية". ويُعدُّ أتباع هذه الحركة أنفسهم لمعركة هرمجدون فيتدربون على السلاح ويقومون بتخزينه. وعلى أية حال، فإن العداء الصريح الذي تبديه هذه الحركة لليهود هو العداء الذي تشعر به أيٌّ من الحركات القومية العضوية تجاه الآخر، فهي حركات تدور في إطار حلولية بدون إله أو في إطار وحدة الوجود حيث يحل الإله في الشعب ويصبح الشعب في قداسة الإله أو أكثر قداسة منه، فهو يحوي داخله ركيزته النهائية ومصدر قداسته، والآخر يقع خارج دائرة القداسة، ولذا فهو مباح.
وقد لاحظ المؤرخون أن الرايخ الثالث في الفكر الألماني (الذي سيستمر ألف عام) يقع داخل هذا النمط، فالدولة النازية تحوي داخلها ركيزتها النهائية، أي أن المطلق لا يتجاوزها وإنما هو كامن فيها ومتجسد من خلالها. وكان الغجر والسلاف وأعضاء الجماعات اليهودية يقعون خارج دائرة القداسة العضوية.
ومن المعروف أن الأساطير والعقائد الألفية والاسترجاعية غير معروفة لدى المسيحيين الشرقيين، كما أنها ليست موضع حوار أو مناظرة بينهم.
العقيدة الاسترجاعية
Restorationism(16/374)
«العقيدة الاسترجاعية» هي الفكرة الدينية التي تذهب إلى أنه كيما يتحقق العصر الألفي، وكيما تبدأ الألف السعيدة التي يحكم فيها المسيح (الملك الألفي) ، لابد أن يتم استرجاع اليهود إلى فلسطين تمهيداً لمجيء المسيح. ومن هنا، فإن العقيدة الاسترجاعية هي مركز وعصب العقيدة الألفية. ويرى الاسترجاعيون أن عودة اليهود إلى فلسطين هي بشرى الألف عام السعيدة، وأن الفردوس الأرضي الألفي لن يتحقق إلا بهذه العودة. كما يرون أن اليهود هم شعب الله المختار القديم أو الأول (باعتبار أن المسيحيين هم شعب الله المختار الجديد أو الثاني) . ولذا، فإن أرض فلسطين هي أرضهم التي وعدهم الإله بها، ووعود الرب لا تسقط حتى وإن خرج الشعب القديم عن الطريق ورفض المسيح (وصلبه) . ولذا، فإن كل من يقف في وجه هذه العودة يُعتبَر من أعداء الإله ويقف ضد الخلاص المسيحي، فأعداء اليهود هم أعداء الإله.
ويُلاحَظ هنا أن الفكر الحلولي اليهودي يجعل اختيار الإله لليهود ليس منوطاً بفعلهم الخير وتحاشيهم الشر، فهي مسألة عضوية حتمية تتجاوز الخير والشر. كما أن جَعْل الخلاص مسألة مرتبطة باليهود، ومَنْح اليهود مركزية في رؤيا الخلاص، هو جوهر القبَّالاه اللوريانية التي تجعل خلاص الإله من خلاص اليهود، إذ يستعيد ذاته المبعثرة من خلالهم.
ومن الواضح أن العقيدة الاسترجاعية، شأنها شأن العقيدة الألفية، تفترض استمراراً كاملاً ووحدة عضوية بين اليهود في الماضي والحاضر والمستقبل، ومن ثم فهي تنكر التاريخ تماماً. والاسترجاعيون عادةً حرفيون في تفسير العهد القديم، وهذا أمر أساسي لتأكيد الاستمرار، فهم لا يرون إلا دالاً واحداً ثابتاً مرتبطاً بمدلول واحد ثابت لا يتغيَّر.(16/375)
ولكن هذا التقديس لليهود يُضمر كرهاً عميقاً لهم ورفضاً شاملاً لهم ولوجودهم، ذلك أن بنية العقيدة الاسترجاعية هي نفسها بنية فكرة الشعب العضوي المنبوذ، شعب مختار متماسك عضوي يرفض الاندماج في شعب عضوي آخر، ولذا لابد من نبذه! ويمكن أن نلخص هذا الكره وذلك الرفض في العناصر التالية:
1 ـ يذهب الاسترجاعيون إلى أن اليهود أنكروا المسيح وصلبوه، وأن عملية استرجاعهم إن هي إلا جزء من عملية تصحيح لهذا الخلل التاريخي وجزء من عملية تطهيرهم من آثامهم. فاليهود ليسوا مركز الخلاص بل هم مركز الخلل وسببه. والواقع أنهم مركز الخلاص لأنهم بإنكارهم المسيح أصبحوا مركز الخلل وسببه الأساسي (وهذا هو المعادل الديني لفكرة الشعب العضوي المنبوذ) . والخلاص لا يمكن أن يتم إلا بتطهير مركز الخطيئة. ولعل هذا التركيز على أن اليهود أصل الخطيئة يُفسِّر أن المسيح الدجال سيكون يهودياً (من سوريا) ، وأنه هو الذي سيقود ملوك الأرض ضد المسيح في المعركة الأخيرة (هرمجدون) .(16/376)
2 ـ تذهب العقائد الألفية والاسترجاعية إلى أن عملية الخلاص النهائي ستصاحبها معارك ومذابح تصل ذروتها في معركة واحدة أخيرة (هرمجدون) ، وهي معارك سيروح ضحيتها ثلثا يهود العالم وستخرب أورشليم (القدس) . بل إنه كلما ازداد العنف ازدادت لحظة النهاية اقتراباً، فكأن التعجيل بالنهاية لا يتم هنا من خلال فعل أخلاقي يقوم به المسيحيون وإنما من خلال تقديم قربان مادي جسدي للإله (هولوكوست) يُشوَى بأكمله. بل إن أبعاد هذه المذبحة ستكون أوسع مدىً من المحرقة النازية، فكأن العقيدة الاسترجاعية هي عكس العقيدة المسيحية. ففي العقيدة المسيحية، يأتي المسيح ويُنزَف دمه ويُصلَب ويُهزَم، فهو قربان يُقدِّمه الإله فداءً للبشر بأسرهم، قربان لا حاجة بعده إلى قرابين. أما العقيدة الاسترجاعية فتذهب إلى أن المسيح قائد عسكري يدخل المعارك ويثخن في الأعداء ثم ينتصر. واليهود هم الذين سينزفون، وهم قربان الرب الذي لا حاجة بعده إلى قرابين، ولذلك فإن ذَبْحهم (أو صَلْبهم) يشير إلى النهاية الألفية السعيدة. كما أن اليهود، حسب الرؤية المسيحية التقليدية، كانوا دعاة القومية، على حين أن المسيح هو داعية العالمية. أما هنا، فإن العكس هو الصحيح، فاليهود هم مركز خلاص العالم والمسيح هو القائد القومي الذي سيؤسس مملكته في صهيون.
3 ـ انتهت حياة المسيح الأولى بإنكار اليهود له وصلبه، أما حياته الثانية فستنتهي بإعلان انتصاره وبالتدخل في آخر لحظة لإنقاذ البقية الباقية من اليهود (وإعادتهم إلى أرضهم) ، فيخر اليهود أمام المسيح ويعترفون بألوهيته ويقابلونه باعتباره الماشيَّح المنتظَر ويتحولون إلى دعاة تبشير بالمسيحية ينشرون الإنجيل في العالم، أي أن المسيح سينجح في إقناع اليهود بما فشل في إقناعهم به أول مرة. وحينما يحدث ذلك، تكون الدائرة الحلولية قد اكتملت وتمت هداية العالم بأسره.(16/377)
4 ـ العقيدة الاسترجاعية عقيدة تُحوسل اليهود تماماً، أي تُحوِّلهم إلى وسيلة أو أداة نافعة وأساسية لخلاص المسيحيين ولكنها لا قيمة لها في حد ذاتها، فهم يستمدون قيمتهم من مقدار أدائهم لوظيفتهم ومقدار تعجيلهم بعملية الخلاص المسيحية.
فبنية الصيغة الاسترجاعية (شعب عضوي منبوذ يمكن توظيفه) هي نفسها الصيغة الصهيونية الأساسية، وعلى هذا فإن الفكر الصهيوني في شكله الديني والعلماني فكر استرجاعي.
هرمجدون
Armageddon(16/378)
«هرمجدون» (أو: آرمجدون) كلمة مكونة من كلمتين: «هار» بمعنى «تل» و «مجدو» اسم مدينة في فلسطين ( «مجيدو» ) والتي تقع بالقرب منها عدة جبال ذات أهمية إستراتيجية، وهو ما جعل المدينة حلبة لكثير من المعارك العسكرية في العالم القديم. وهرمجدون هي الموضع الذي ستجري فيه المعركة الفاصلة والنهائية بين ملوك الأرض تحت قيادة الشيطان) قوى الشر) ضد القوى التابعة للإله (قوى الخير) في نهاية التاريخ، وسيشترك فيها المسيح الدجال حيث سيُكتَب النصر في النهاية لقوى الخير وستعود الكنيسة لتحكم وتسود مع المسيح على الأرض لمدة ألف سنة، وبعدها ستأتي السماوات الجديدة والأرض الجديدة والخلود. وقد ورد ذكر هرمجدون مرة واحدة في العهد الجديد (رؤيا يوحنا اللاهوتي 16/6 "فجَمَعهم إلى الموضع الذي يُدعَى بالعبرانية هرمجدون") . ويرتبط كل هذا بعودة اليهود إلى أرض الميعاد مرة أخرى، فهذا شرط الخلاص (وإن كان يرتبط أيضاً بهلاك أعداد كبيرة منهم تبلغ ثلثي يهود العالم) . وهرمجدون هي الصورة المجازية الأساسية في العقائد الألفية الاسترجاعية البروتستانتية. وهي تتواتر في الخطاب الغربي السياسي الديني (خصوصاً في الأوساط البروتستانتية المتطرفة واليهودية الصهيونية) لوصف المعارك بين العرب والصهيونية، أو لوصف أي صراع ينشب في الشرق الأوسط، أو حتى في أية بقعة في العالم، كما يتم إدراك الصرع العربي الإسرائيلي من خلال هذه الصورة المجازية (هرمجدون) . وكثيراً ما يشير بعض رؤساء الجمهورية في الولايات المتحدة إلى هذه الصورة المجازية في تصريحاتهم الرسمية. ولا يمكن الحديث هنا عن أي تأثير يهودي أو نفوذ للوبي الصهيوني، فمثل هذه المصطلحات المشيحانية متأصلة في الخطاب الديني البروتستانتي منذ عصر النهضة الغربية، وذلك نظراً لتصاعد معدلات العلمنة والحلولية والحرفية التي تصر على أن ترى كل التعبيرات والأحداث المجازية في العهدين القديم والجديد كنبوءات تاريخية لابد(16/379)
أن تتحقق بحذافيرها.
المسيح الدجال
Anti-Christ
«المسيح الدجال» هي الترجمة العربية للكلمة الإنجليزية «أنتي كرايست» والتي تعني حرفياً «ضد المسيح» . وعقيد المسيح الدجال عقيدة مسيحية أخروية ظهرت مع بدايات المسيحية، وزادت أهميتها مع الإصلاح الديني، وهي عقيدة صهيونية بصورة ملموسة إذ أنها تضع اليهود في مركز الدراما الكونية الخاصة بخلاص العالم، وهي أيضا عقيدة معادية لليهود إذ أن مركزيتهم نابعة من كونهم تجسيد للشر في التاريخ، ومن ثم فإن تنصُّرهم (ونهاية التاريخ) شرط أساسي للخلاص.
وتذهب هذه العقيدة إلى أن المسيح الدجال شخصية كافرة قاسية طاغية، وهو ابن الشيطان (بل لعله هو نفسه الشيطان المتجسد) . ومن علاماته أنه توجد في أقدامه مخالب بدلاً من الأصابع. أما أبوه، فيُصوَّر على هيئة طائر له أربعة أقدام ورأس ثور بقرون مدببة وشعر أسود كثيف.
والمسيح الدجال ابن امرأة يهودية، وسيأتي من قبيلة دان (فاستناداً إلى نبوءة يعقوب، فإن دان سيكون ثعباناً في الطريق، واستناداً إلى كلمات إرميا فإن جيوش دان ستلتهم الأرض. كما أن الإصحاح السابع في رؤيا يوحنا لم يذكر قبيلة دان عندما ذكر القبائل العبرانية) . ويتواتر الآن في الأوساط المسيحية الحرفية أن المسيح الدجال سيكون يهودياً من سوريا. ويُقال إن المسيح الدجال سيظهر في الشرق الأوسط في نهاية الأيام وهو العدو اللدود للمسيح وسيسبق ظهوره عدد من الدجالين، وأنه سيدَّعي أنه المسيح ويصدقه الكثيرون، وخصوصاً أنه قادر على الإتيان ببعض المعجزات (ولذا، فهو يسمَّى «قرد الإله» أي الذي سيقلد الإله كما تقلد القردة البشر) وسيطيعه الرعد وتحرس الشياطين له بعض كنوز الأرض (التي سيستخدمها في غواية البشر) .(16/380)
وسيقوم الدجال ببناء الهيكل وسيهدم روما (مقر البابا) وسيُحيي الموتى وسيحكم الأرض مع الشيطان لمدة يُقال إنها ستصل إلى خمسين عاماً، وإن كان الرأي الأغلب أن فترة حكمه لا تتجاوز ثلاثة أعوام ونصفاً وسيساعده اليهود في كل أفعاله. وعندما يصل البؤس إلى منتهاه، سيتدخل الإله فتنفخ الملائكة في البوق معلنة حلول يوم القيامة وسينزل المسيح (عودة المسيح الثانية) لينقذ البقية الباقية الصالحة. وستدور معركة كونية هي معركة هرمجدون ويَلقَى ثُلثا اليهود حتفهم أثناءها. وسيعود إلياهو وإنوخ وسيأمر الدجال بقتلهم، ولكنهم قبل أن يلاقوا حتفهم سينصرون اليهود الذين سيقبلون المسيح باعتبارهم أفراداً (لا شعباً) . وسيخرج من فم المسيح سيفٌ ذو حدين سيصرع به المسيح الدجال ويحكم العالم بالعدل لمدة ألف عام (أو إلى ما لا نهاية) حيث ينتشر السلام والإنجيل في العالم.
وكثيراً ما كان الدجال يُقرَن بالماشيَّح الذي ينتظره اليهود. ويذهب الحرفيون إلى أن إنشاء دولة إسرائيل علامة على أن موعد عودة المسيح قد دنت ومن ثم لحظة هداية اليهود، كما يَقرن الوجدان البروتستانتي الدجال ببابا روما وبأية شخصية تصبح تجسيداً للآخر (دعاة الاستنارة ـ قيصر ألمانيا ـ لينين ـ هتلر ـ جمال عبد الناصر) .
وعقيدة الدجال هي عقيدة حلولية تُلغي الزمان وتُلغي المسافة التي تفصل بين الخالق والمخلوق، ثم تُلغي الآخر تماماً وتُخرجه من دائرة القداسة والتوبة والهداية. والآخر هنا هو اليهود، والدجال هو رمزهم.
والعقيدة هي بلورة لكثير من جوانب الموقف الغربي من اليهود فالحضارة الغربية تضع اليهود (الشعب العضوي المقدَّس المنبوذ) في مركز الكون حيث يتم القضاء عليهم بطريقتين: إما عن طريق الإبادة (الهولوكوست) في معركة هرمجدون (أو في معسكرات الغاز والإبادة) ، أو عن طريق التنصير (أو عمليات الاندماج المكثفة في الولايات المتحدة وغيرها: الهولوكوست الصامت) .
فرسان الهيكل(16/381)
Knight Templars
جمعية استيطانية صهيونية ذات ديباجة مسيحية. واشتقت الجمعية اسمها من جماعة فرسان الهيكل الأولى، وهم جماعة من الفرسان الرهبان ظهروا في فلسطين عام 1118 بعد وصول حملات الفرنجة لأرض الشام بما لا يزيد على عشرين عاماً، وكوَّنوا جماعة وظيفية قتالية استيطانية في العالم الإسلامي، وجماعة وظيفية مالية وسيطة في العالم الغربي. وقد كانت العلاقة بين العالم المسيحي في العصور الوسطى وجماعة فرسان الهيكل علاقة نفعية. وقد دخل الفرسان صراعاً مع كل من الكنيسة والسلطة الزمنية، لكن كلاًّ منهما تَحمَّل استقلالية الفرسان على مضض طالما كانت ثمة وظيفة لهم. وبانتفاء الغرض الذي قامت من أجله جماعة فرسان الهيكل، ومع فقدانها وظيفتها بعد سقوط عكا في يد المسلمين عام 1292، لم يَعُد هناك مجال للاستمرار في العلاقة فهجمت السلطة الزمنية (بتشجيع من الكنيسة) على الفرسان واتهمتهم بالهرطقة وقامت بتعذيبهم ومصادرة أموالهم وتشريدهم وقُتل رئيسهم جاك دي مولاي عام 1312 بأمر من فيليب الجميل ملك فرنسا وبمباركة من البابا كلمنت الخامس، واستولى فيليب الجميل على ثروة فرسان الهيكل وتمكَّن من إضعاف سلطة النبلاء وتقوية الدولة.(16/382)
وتعود جمعية فرسان الهيكل الحديثة إلى حركة الأتقياء التي ظهرت في ألمانيا في القرن السابع عشر كحركة إصلاحية في الكنيسة الإنجيلية أكدت دراسة الكتاب المقدَّس وأكدت الإلهام الديني المباشر والذاتي. وقد استمرت هذه الحركة حتى القرن 19 وتركزت حول تيوزوفن بنجل الذي بشَّر بقيام مملكة الرب وعودة المسيح إلى الأرض في أعقاب كوارث مريعة سببها الابتعاد عن الروح المسيحية. وتَوقَّع بنجل عودة المسيح عام 1836 بعد ظهور المسيح الدجال متمثلاً في شخص نابليون بونابرت. وعندما حلت مجاعة بمملكة فورتمبرج عام 1817، دعا بنجل أتباعه إلى الهجرة إلى الشرق، فهاجر آلاف الفلاحين من هذه المملكة إلى جنوب روسيا حيث رحب بهم قيصر روسيا ألكسندر الأول.
وقد رأت مملكة فورتمبرج في هجرة مواطنيها خطراً يتهددها، ولذا لجأت إلى إنشاء جمعيات خاصة للمتدينين ذات استقلال ذاتي. وكانت أولى تلك الجمعيات تحت رئاسة جوتليب هوفمان والد كريستوف هوفمان مؤسس جمعية الهيكل الألمانية، الذي وجد أن ازدياد نفوذ الاتجاهات الليبرالية والثورية في البرلمان القائم في فرانكفورت دليل قاطع على سيطرة الاتجاهات الشيطانية بسبب فشل الكنيسة الإنجيلية في رسالتها. ولذا، دعا هوفمان إلى إقامة كنيسة جديدة مستقلة، وساعده في هذا صديقاه جورج ديفيد هارديج وعمانويل باولوس.
ومع اندلاع حرب القرم عام 1853، اعتقد هوفمان أن الوقت قد حان لإقامة مملكة الرب وسَلْخ أرض الميعاد في فلسطين عن الإمبراطورية العثمانية المتداعية وجَعْلها موطناً لشعب الله المختار تنفيذاً للوعود التوراتية. وقد فسَّر هوفمان هذه الوعود بأنها ليست لليهود ولكن للشعب المسيحي الإنجيلي.(16/383)
ومن ثم، شكَّل هوفمان جمعية تحت اسم «أصدقاء القدس» عام 1854 دعت إلى اتخاذ الوسائل والتدابير لوضع مشروعه موضع التنفيذ. وطرح هارديج فكرة السعي لدى البرلمان الألماني في فرانكفورت من أجل التأثير على السلطان العثماني للسماح للألمان باستيطان فلسطين واستعمارها من أجل إيجاد عمل للمتعطلين من الألمان، وكان شعاره هو "ينبغي إيجاد عمل للشعب الألماني" (أي أنه اكتشف الحل الاستعماري لمشاكل أوربا، وهو تصديرها للشرق) . وقد تبنت الجمعية اقتراح هارديج بالإجماع.
وبناءً على ذلك، كتب هوفمان مشروع دستور للجمعية الجديدة أسماه «مشروع دستور شعب الله» وسُمِّيت الجمعية «جمعية تجميع شعب الإله في القدس» . ثم قام هوفمان وهارديج برحلات عديدة في أوربا للدعوة لهذه الجمعية حيث لاقت دعوتهم بعض القبول وتبرعت بعض الأسر الثرية بالأموال لشراء الأراضي لتكون مواضع لتجميع شعب الإله قبل الانطلاق لاستعمار فلسطين. وقد أدَّت المجاعة التي أصابت فورتمبرج إلى انضمام العديد من الأنصار إلى الجمعية.
ومع انتهاء حرب القرم عام 1856 وعدم انهيار الإمبراطورية العثمانية كما تَوقَّع هوفمان، شنت الكنيسة الإنجيلية حملة شديدة على الجمعية، الأمر الذي أدَّى إلى تَقلُّص عدد أعضائها تدريجياً.
وقد دخل هوفمان وأنصاره، نتيجة هذا الهجوم الشرس، معركة كبرى مع الكنيسة الإنجيلية، وهو ما أدَّى إلى طردهم منها عام 1859. ولهذا، فقد أنشأوا طائفة دينية خاصة بهم دعاها هوفمان «الهيكل الروحي» . وقد أدَّى انشقاق الجماعة إلى اشتداد الحملة الكنسية عليها الأمر الذي أدَّى إلى انفضاض الأتباع عنها. لكنها استطاعت أن تستمر وتحافظ على كينونتها، بفضل وجود أتباع كثيرين لها بين المهاجرين الألمان في أمريكا الشمالية وجنوب روسيا.(16/384)
وقد أُعيد تنظيم الجماعة عام 1861 تحت اسم «جماعة الهيكل الألمانية» وكان شعارها "من أجل تجديد الحياة الدينية والاجتماعية لشعب الإله". وكان من الطبيعي أن تتم عملية التجديد هذه من خلال صيغة صهيونية واضحة: خروج الشعب المختار، أو البقية الصالحة، من أرض السبي والمنفى (أوربا التي تسودها الآثام الأخلاقية والبطالة) ـ دخول أرض الميعاد أو صهيون (استعمار فلسطين) ـ قيام مجتمع مثالي (صهيوني) يتسم بصفتين: أن يكون طابعه ألمانياً فاقعاً وسُمِّيت إحدى المستعمرات «فالهالا» ، أي قاعة الآلهة التيوتون التي يقيمون فيها الولائم بعد أن يقضوا يومهم في الحرب والقتال، كما سُمِّيت مستوطنة أخرى «فيلهلما» ، أي «الوليامية» (نسبة إلى فلهلم أو وليام قيصر ألمانيا) ، وأن يتسم المجتمع المثالي الجديد أيضاً بأنه مستقل عن المحيط العربي، فيكون مجتمعاً صهيونياً استيطانياً وربما إحلالياً غير يهودي. وسيقوم المجتمع الجديد بتمثيل مصالح ألمانيا في الشرق، وستقوم هي بحمايته، أي أن المجتمع الجديد دولة وظيفية.(16/385)
وقد أنشأت الجمعية علاقات وثيقة مع جمعيات صهيونية غير يهودية مماثلة في أوربا بغرض استعمار فلسطين، من أهمها العلاقة بين هارديج وهنري دوتان السويسري مؤسس الصليب الأحمر والذي أسَّس جمعية تحت اسم "جمعية العمل الدولي من أجل تجديد فلسطين" وكانت تدعو إلى هيمنة المسيحيين (أي الاستعمار الغربي) على فلسطين عن طريق الاستيطان السلمي (أي التسلل) . ولهذا، فقد سعى دوتان لدى السفير العثماني في باريس (جمال باشا) ولدى الوزير الفرنسي المفوض في إستنبول (المسيو بوريه) من أجل الضغط على الباب العالي للسماح للمستعمرين الألمان من جمعية فرسان الهيكل بشراء الأراضي في فلسطين والاستقرار بها. وقد أدَّت ضغوط دوتان إلى موافقة الباب العالي على هذا عام 1868، وقام دوتان بإبلاغ هارديج بهذا الانتصار. ومن ثم، سافر هوفمان وهارديج مع أسرتيهما إلى فلسطين والتقيا في الطريق مع العديد من الدبلوماسيين الأوربيين الذين زودوهما بنصائح عن كيفية التعامل مع الباب العالي وبينوا لهما ضرورة عدم التجنس بالجنسية العثمانية حتى يتمتعوا بالحماية الأوربية (كما فعل المستوطنون الصهاينة اليهود بعدهم) . وكان أحد الأسباب التي شجعت هوفمان وهارديج على البدء بمشروعهما الاستيطاني هو القانون العثماني الذي صدر في 1867 مبيحاً للأجانب حق تملك الأرض في المدن والريف في الولايات العثمانية كافة.
وعند وصولهما إلى حيفا عام 1868، قام هوفمان وهارديج بالتحايل على رفض الباب العالي الموافقة لهما على شراء الأراضي في حيفا عن طريق وسيط عثماني، وبدأ عام 1869 في بناء أول مستعمرة ألمانية في فلسطين من البحر حتى سفح جبل الكرمل (افتُتحت رسمياً عام 1870) .
وقد حرص هوفمان وأتباعه على بناء المستعمرة على النسق الأوربي مع المحافظة على علاقاتهم بالوطن الأم في ألمانيا. وقد نمت تلك المستعمرة حتى وصل عدد سكانها عام 1914 إلى 750 نسمة.(16/386)
وقد أنشأ فرسان الهيكل الألمان مستعمرات أخرى مثل: مستعمرة يافا (1869) ومستعمرة سارونا على طريق تل أبيب ـ يافا (1871) ، ومستعمرة ريفايم (1872) التي صارت مقر إدارة الجمعية (1878) ، ومستعمرة فالهالا (1892) ، ومستعمرة فيلهلما (1902) . وقد كان نشاط المستعمرات زراعياً بالدرجة الأولى في بداية الأمر، ولكن المستوطنين اتجهوا بالتدريج نحو التجارة والصناعة وانصرفوا عن الزراعة، فأنشأوا العديد من الورش والمعامل حتى أصبحوا محور الحياة الاقتصادية في حيفا وأدخلوا أنشطة ثقافية متعددة مثل الأمسيات الموسيقية والمسرح والنوادي الرياضية وأوجه الثقافة الأوربية كافة.
وكانت علاقة المستوطنات بالوطن الأم علاقة شد وجذب. وثمة عوامل كانت تضغط على ألمانيا باتجاه تقديم العون للمستعمرين الألمان في فلسطين: الرأي العام الألماني، والبلاط القيصري، ووزارة خارجية فورتمبرج، والبحرية الألمانية. ولكن العوامل الأقوى هنا هي التي أدَّت إلى ابتعاد الوطن الأم عن المستوطنات. فمصالح الوطن الأم عادةً ما تكون ذات نطاق عالمي، فمسرح نشاطها هو العالم بأسره أما المستوطنات فتدور في إطار مصالحها الضيقة المباشرة. فمع عام 1871، وبعد تحقُّق الوحدة الألمانية التي تلت انتصار ألمانيا على فرنسا، تحولت ألمانيا إلى دولة عظمى في أوربا وبدأ الاهتمام بالحصول على مستعمرات أفريقية، واتجهت السياسة الألمانية إلى التحالف مع العثمانيين في مواجهة الإنجليز والروس، ولذا لم تحاول ألمانيا دَعْم فرسان الهيكل كثيراً. ومن ثم، أخذت الدعوة للهجرة من ألمانيا تتوقف، وخصوصاً بعد تَحسُّن الأحوال الاقتصادية في ألمانيا نفسها، وانتهت تماماً بحلول عام 1875. وقد أدرك المستوطنون هذا وتوقفوا عن السعي لتحقيق غايتهم المنشودة وهي تجميع شعب الإله في القدس وإقامة مملكة الرب، وتَركَّز اهتمامهم على تحسين أحوالهم المعيشية.(16/387)
ودبت الخلافات بين المؤسسين حتى انفصل هارديج عام 1874 وشكَّل رابطة الهيكل. وكانت العلاقة بين المستوطنين وبين السكان العرب متوترة (كما هو الحال دائماً بين أي مستوطنين غربيين وأصحاب الأرض الأصليين) . وقد حدثت مشادة بين عربي ومستوطن ألماني، فقتل المُستوطنُ العربي، وانتقم أهله له، وهو ما دعا المستوطنين إلى طلب حماية ألمانيا التي سارعت بإرسال بارجة حربية لشواطئ فلسطين في سابقة لم تحدث من قبل. ولكن التوتر بين المستوطنين والسكان الأصليين أدَّى إلى مزيد من تقليص الدعم الألماني للمستوطنين، وذلك نظراً لأن ألمانيا كانت تود تحسين علاقاتها مع الباب العالي. وقد صدرت تعليمات مشددة من الخارجية الألمانية باعتبار المستوطنين ليسوا ألماناً، ما لم يرسلوا أبناءهم لأداء الخدمة العسكرية. وبعدئذ، حاول المستوطنون الألمان، أكثر من مرة، لفت نظر الحكومة الألمانية إلى أهمية فلسطين وإلى الضرر الذي قد يلحق بألمانيا إن وقعت فلسطين تحت السيطرة الفرنسية، بيد أن موقف الحكومة الألمانية كان مخيباً لآمال المستوطنين. وقد اتخذت جماعة فرسان الهيكل موقفاً معادياً من المستوطنين اليهود لاعتبارات عدة دينية وسياسية واقتصادية. فمن الناحية الدينية، رفض هوفمان اعتبار اليهود شعب الإله لأنهم غارقون في الدنس، ومن الناحية الاقتصادية اعتبرهم فرسان الهيكل منافسين خطرين، ومن الناحية السياسية خشي فرسان الهيكل من سيطرة اليهود على مقدرات الحياة في فلسطين لحُسْن تنظيمهم وقدراتهم المالية.(16/388)
وفي المقابل، استفاد الصهاينة من تجربة فرسان الهيكل في كيفية بناء المستوطنات والتنظيم على النسق الأوربي وطالبتهم الجرائد الصهيونية باتخاذ موقف متسامح ومتفهم للمصالح المشتركة بين اليهود والألمان. وقد ساعد على تحسُّن العلاقة، ولو لفترة قصيرة جداً، أن الحركة الصهيونية قبل وعد بلفور كانت تتطور في ألمانيا والتزم فرسان الهيكل بالسياسة الألمانية الرسمية في دَعْم الصهاينة في محاولة منهم للتقرب من الحكومة الألمانية. ولكن الحرب العالمية الأولى جاءت واتجه الصهاينة إلى الحلفاء ضد دول الوسط، وبعدئذ سقطت فلسطين في أيدي الإنجليز لتُنهي كل علاقة طيبة بين فرسان الهيكل والصهاينة، بل لتنهي المستعمرات الألمانية في فلسطين.
ومن الأمور التي قد تكون طريفة ودالة في آن واحد أن بقايا فرسان الهيكل قد أصبحوا نواة الحزب النازي في فلسطين في الثلاثينيات واختفوا تماماً مع سقوط النازية.
وأهمية جمعية فرسان الهيكل تَكمُن في أنها تُبلوِّر النموذج الصهيوني بشكل لم يتحقق من قبل ربما لن يتحقق من بعد (بسبب صغر حجم التجربة) .
1 ـ فكما بيَّنا، يدور فرسان الهيكل داخل الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة: خروج من أوربا ـ دخول في فلسطين ـ توظيف المادة البشرية المنقولة ـ إنشاء الدولة الوظيفية ـ دولة راعية تقوم الدولة الوظيفية على خدمتها.
2 ـ تتشابه الديباجات بين تجربة الصهاينة وتجربة فرسان الهيكل بشكل مدهش فهي ديباجات حلولية كمونية يتداخل فيها المقدَّس والنسبي والتوراتي والعسكري بشكل شبه كامل.
3 ـ كلتا التجربتين الصهيونية اليهودية والصهيونية الألمانية ترى نفسها استمراراً لتجربة الفرنجة.
4 ـ العنف العسكري هو آلية حتمية لكلتا التجربتين لأن السكان الأصليين رفضوا المستوطنين.
5 ـ العلاقة بين المستوطنين (الهيكليين والصهاينة) والدولة الراعية هي علاقة نفعية هي علاقة المرتزق بولي نعمته.(16/389)
6 ـ التجربة الصهيونية الألمانية (غير اليهودية) تسبق التجربة الصهيونية اليهودية (وهي في هذا تعبير عن أسبقية الصهيونية ذات الديباجات المسيحية وصهيونية غير اليهود العلمانية على الصهيونية ذات الديباجة اليهودية) .
7 ـ من الأمور التي تستحق التأمل التشابه الكامل بين الصهيونيتين رغم اختلاف الشخصيات التي قامت بتنفيذ كل منهما: ففرسان الهيكل "مسيحيون" والصهاينة "يهود". ولعل هذا يعود إلى أن إشكالية الصهيونية هي إشكالية كامنة على المستوى الحضاري والمعرفي في الحضارة الغربية، ولذا فهي نموذج نهائي قادر على التهام أشكال الخطاب الديني المختلفة (يهودياً كان أم مسيحياً) لتعيد إنتاجه على هيئة مشروع لا ديني يستخدم ديباجات دينية.
المورمون
Mormons (Latter-Day Saints)
«المورمون» حركة دينية شبه مسيحية، مركزها الرئيسي مدينة سولت ليك في ولاية أوتاه، واسمها الحقيقي هو «كنيسة المسيح عيسى، قديس آخر الأيام» . وهي حركة ذات طابع حلولي كموني واضح. وتوجد مجموعات متفرقة منفصلة من المورمون في مدينة إندبندانس في ولاية ميسوري ومدينة بيرليختون في ولاية ويسكونسين.
والخلفية الاجتماعية والتاريخية لنشوء حركة المورمون مهمة لفهم عقائدهم، فقد بدأت في عشرينيات القرن الماضي وهي فترة توسُّع اقتصادي ضخم في الولايات المتحدة الأمر الذي خلق ردة فعل لدى ضحايا التقدم وتزايدت الدعوات الإنجيلية.(16/390)
وقد نشأ جوزيف سميث (1805 ـ 1844) مؤسس الحركة في أسرة تبحث عن الحراك الاجتماعي استقرت في نيويورك لهذا السبب. وفي هذا الجو الذي يتسم بالسيولة بدأ سميث بحثه عن الكنيسة الحقيقية أو الصحيحة. وفي ربيع 1820، في سن الرابعة عشرة، تَلقَّى وحياً من الرب من خلال ملاك يُدعَى موروني (ومن هنا التسمية التي اشتهروا بها) بألا ينضم لأيٍّ من الكنائس القائمة لأنها كلها "خاطئة". ثم تَلقَّى وحياً آخر بأن الرب اختاره ليكون أداته لاستعادة الكنيسة الحقيقية أو الصحيحة بعد أن أفسدها أفراد لا عصمة لهم انحدروا إلى الشر والفساد. فقد هداه الملاك إلى أن يذهب إلى تل على مقربة من مزرعة أبويه حيث عثر على صحائف ذهبية فترجمها ونشرها عام 1830 تحت عنوان كتاب المورمون وهو التاريخ المقدَّس لثلاث قبائل هاجرت إلى أمريكا الشمالية (600 ق. م) أي قبل صول كولومبوس، وبعد حروب طويلة انقسمت القبائل إلى قسمين: النفايت (Nephite) واللامانايت (Lamanite) وهم أسلاف الهنود الحمر. وحسبما جاء في كتاب المورمون زار المسيح أمريكا بعد صلبه وعلمهم الإنجيل وأسَّس كنيسة لإقناع اليهود والأغيار أن عيسى هو المسيح، الإله الخالد الذي يكشف عن نفسه لكل الأمم (وهكذا تصبح الولايات المتحدة موضع الحلول والكمون) .
وقد أعلن سميث أن كتاب المورمون هو كتاب مُكمِّل للإنجيل وليس بديلاً له. ومع هذا فإن المورمون ينظرون إليه باعتباره كتاباً مقدَّساً.(16/391)
وقد كان سميث يرى أن الكتب المقدَّسة ليست كافية في حد ذاتها لاستعادة الحقيقة المطلقة فالجنس البشري يحتاج إلى سلطة إلهية (شرعية إلهية) وقد اختفت مثل هذه السلطة بعد الأيام الأولى للمسيحية. ولكنها ظهرت مرة أخرى عام 1829 في شخص سميث ومساعده أوليفر كودري. وهكذا عادت الكنيسة الحقيقية الصحيحة التي يقودها مجموعة من الكهنة ذوي الصلاحية الإلهية الذين يتمتعون بقدر عال من العصمة. وفي عام 1833 طوَّر سميث العقيدة المورمونية بعد نشر كتاب الوصايا والعقائد والمواثيق وقد طلب من القديسين (أعضاء الكنيسة) أن يتجمعوا في جماعات وبنوا هيكلاً هو المركز الحرفي والمجازي المقدَّس للجماعة. وحسب ادعاءات الجماعة ظهر عيسى وموسى وإلياس وإلياهو لسميث وكوردي في المعبد عام 1836 وبدأ تأسيس مملكة الرب التي لا تُفرِّق بين المقدَّس والنسبي ويحكمها الكهنة (تماماً كما هو الحال في مملكة يسرائيل القديمة) وقد حقق سميث نجاحات كثيرة في حركته التبشيرية وفكَّر في ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية.(16/392)
وبدأت تتبلور بعض العقائد التي تبتعد في جوهرها عن المسيحية ومن هذه العقائد إيمان المورمون بأن الإله ليس ثالوثاً مقدَّساً (كما يؤمن المسيحيون) وإنما ثلاثة آلهة، وأن الإله الأب كان في يوم من الأيام إنساناً وصل إلى الألوهية. وكما يقول لورنزو سنو (أحد "أنبياء المورمون" عام 1901) و"كما هو الإنسان الآن، كان الإله يوماً، وكما هو الإله الآن سيصبح الإنسان"، وهي عبارة لا تختلف كثيراً عن عبارة فتشينو الهرمسي إن الإله قد أصبح إنساناً كي يصبح الإنسان إلهاً (ولذا فكل من يتزوج زواجاً توافق عليه الكنيسة، سيصبح إلهاً في العالم الآخر) وكل من يتبع المورمونية في نهاية الأمر سيصبح هو الآخر إلهاً. ومن الواضح أن المنظومة المورمونية منظومة حلولية كمونية متطرفة لا تفرق بين الخالق والمخلوق. وهنا نجد ما سماه أحد الدارسين «ميتافيزيقا المادية» ، أي عدم الاعتراف بالخلق من العدم، أي أن الإله خَلَق العالم من مادة قديمة (على عكس الديانات التوحيدية التي تصر دائماً على الإيمان بالخلق من العدم) وهم يؤمنون بنوع من الوجود الروحي قبل الميلاد (وليس بتناسخ الأرواح) إذ يوجد ما يُسمَّى الإنسان الأزلي أو الأول، وهو إنسان وُجد قبل الخلق كجزء من الخالق، بل إنه هو نفسه الخالق (تماماً كما هو الحال في النظم الغنوصية) . وينقسم العالم الآخر إلى ثلاثة أقسام (كما هو الحال في الكاثوليكية) قسم أعلى يحتله المؤمنون والثاني لغير المؤمنين والثالث للشيطان وأتباعه. وأعضاء المورمون ممن يودون أن يدخل أسلافهم الجنة يمكنهم تعميدهم بأثر رجعي، ولذا يهتم المورمون بالسلالات وشجرة العائلة.(16/393)
ويُلاحَظ أن النزعة المشيحانية تحوي داخلها تيارين متناقضين: نزعة عميقة وواحدية معادية للحداثة ونزعة لا تقل عمقاً أو واحدية مؤيدة لها، وهو تناقض يوجد داخل المشيحانية المورمونية. ولكن هذا الصراع حُسم عام 1890 لصالح التحديث إذ أصدر الرئيس الثالث للجماعة (ويلفورد وودروف) مانفستو بمنع تعدُّد الزوجات إذ كان هذا يعني التخلي عن فكرة الكنيسة الصحيحة ودخول التيار الأمريكي الذي يقبل التعددية النسبية. وبدأ المورمون تأكيد عناصر أخرى هي مصدر للتماسك مثل عدم شرب الكحول والشاي والقهوة وارتداء أزياء معينة والابتعاد عن الممارسات الجنسية الإباحية، كما أكدوا الإيمان بالتقدم اللانهائي للإنسان (ونهاية التقدم أن يصبح الإنسان إلهاً) . وهذه القيم هي عبارة عن بعث الأخلاقيات والقيم البروتستانتية التي هي عبارة عن زهد داخل الدنيا يساعد على الانضباط وتوحيد حياة الإنسان وتكثيف طاقتها وتوجيهها بشكل رشيد حتى يمكن غزو العالم، كل هذا يعني في واقع الأمر التكيف مع مرحلة الرأسمالية التنافسية في الولايات المتحدة.(16/394)
ورغم أن سميث كان يرى أن الولايات المتحدة موضع الكمون والحلول إلا أنه لم يكن يحصره فيها، فقد كان يرى أن فلسطين هي الأخرى موضع حلول وكمون ولذا كان يرى أن ثمة ضرورة لتجميع اليهود في فلسطين باعتبارها أرض إسرائيل، وذلك من أجل تحقيق الوعد للمؤمنين الجدد الذين يجب عليهم التجمُّع في أرض الميعاد الجديدة، مورمون في أمريكا ويهود في فلسطين. وقد كان اهتمام سميث بفكرة عودة اليهود كبيراً لدرجة أنه أنشأ مع أتباعه، عام 1836، مدرسة لتعليم اللغة العبرية بدون معلم لدراسة التوراة بلغتها الأصلية وأيضاً للتبشير بين اليهود بلغتهم الأصلية من أجل إرسالهم لفلسطين. وقد أرسل سميث أحد أنصاره (أرسون هايد) في رحلة تبشيرية دينية لأوربا وفلسطين لنشر دعوة المورمون في الأوساط اليهودية الأوربية عام 1841. وقد قوبلت دعوة هايد بالرفض من قبَل حاخام هولندا. وأرسل هايد لسميث رسالة يخبره فيها بضرورة استخدام القوة السياسية والضغوط الحكومية لإعادة الشعب اليهودي إلى أرضه، وأن إنجلترا مُقدَّر لها أن تلعب هذا الدور لتحقيق هذا المشروع العظيم. وأعرب هايد عن تفاؤله لأن هذه الأرض المباركة ستصير خصبة وعامرة عندما يمتلكها أصحابها الحقيقيون.(16/395)
وبعد مقتل سميث عام 1844 (على يد بعض أتباعه ممن رفضوا آراءه المتطرفة) ، تصاعدت النزعة الصهيونية بين المورمون كما هو الحال مع الصهاينة وغيرهم من ذوي الديباجة المسيحية فبعد أن قضت الدول الغربية على تجربة محمد علي في التجديد الحضاري عام 1840، ساد الإحساس بأن سقوط الدولة العثمانية يبدو وشيكاً وأن اليهود أصبح مقدراً لهم أن يلعبوا دوراً في الشرق العربي الإسلامي. وقد أصدر خليفة سميث بريجهام يونج ومجلس الحكماء الإثنى عشر بياناً لكل ملوك العالم ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية، ولكل حكام الأرض وشعوبها، يدعون فيه إلى إصدار أمر باسم المسيح لليهود المشتتين بين كل شعوب الأرض بإعداد أنفسهم للعودة إلى القدس (فلسطين) وبإعادة بناء هذه المدينة والهيكل المكرس للإله، وكذلك تنظيم وإقامة دولتهم الخاصة وحكومتهم وذلك تحت إدارة قضاتهم وحكامهم ومشرعيهم في هذا البلد: "وليكن معلوماً لليهود أننا نحمل مفاتيح القداسة والمملكة التي سيعودون قريباً إليها، ولذا فإن عليهم أيضاً أن يندموا ويتوبوا ويُعِّدوا أنفسهم لإطاعة أحكام الرب".
وقد لعب المورمون في الولايات المتحدة دوراً مهماً في التبشير بالعقائد الصهيونية وبأفكار عودة اليهود وتجميعهم في فلسطين. وعبَّر ويلفورد وودروف عن إيمانه باقتراب الزمان الذي يقوم فيه أثرياء اليهود باستخدام ثرواتهم لتجميع الشعب المشتت وشراء أراضي أجدادهم في القدس وإعادة بناء المدينة المقدَّسة والهيكل. وفي عام 1899، وبعد المؤتمرين الصهيونيين الأول والثاني (1897، 1898) ، نشر د. تانر عميد كلية الزراعة بجامعة ولاية يوتاه مقالة افتتاحية طويلة في جريدة المورمون يحث فيها أغنياء اليهود على رعاية الحركة الناشئة لأن المشكلة الاقتصادية ستطل برأسها لا محالة والاعتبارات العملية ينبغي عدم إغفالها. ويؤكد تانر أن العديد من اليهود لن ينتظروا قرار السلطان التركي.(16/396)
ومع صدور وعد بلفور، أعرب المورمون عن فرحهم الشديد لتحقيق الوعد وجَمْع شمل اليهود في فلسطين وذلك لتحقيق ملكوت السموات. وقد سافر اثنان من قادة المورمون إلى فلسطين بمناسبة الذكرى الرابعة لصدور وعد بلفور، وعبَّرا عن دهشتهما مما شاهداه من مظاهر الرفض المسيحي والإسلامي لحركة الاستيطان اليهودي، كما أعلنا أن الأمريكيين يحبذون عودة اليهود لفلسطين لأنهم مسيحيون مخلصون!
وثمة تَشابُه بنيوي ملحوظ بين حركة المورمون والحركة الصهيونية، فكلتا الحركتين تقومان على فكرة حلول الإله في شعب أو جماعة، سواء كانت هذه الجماعة هي اليهود في حالة الصهيونية أو الأوربيين البيض الشقر في حالة المورمون. وكلتا الجماعتين تؤمن بفكرة العودة المقدَّسة أو بأن ثمة شعباً تائهاً مشتتاً يبحث عن أرض الميعاد. وفي حالة المورمون، كانت هذه الأرض هي ولاية يوتاه حيث تنص تعاليم سميث، نبي الحركة، على أن أمريكا هي صهيون الحقيقية كما رأينا. ومن ثم، فإن رؤية المورمون تفترض غياب السكان الأصليين. ومعنى ذلك أنها رؤية إبادية تُغيِّب الآخر، تماماً مثل الرؤية الصهيونية للفلسطينيين. وقد أفلت الفلسطينيون من الإبادة لأسباب كثيرة من بينها أنهم ينتمون لتشكيل حضاري مُركَّب ويتمتعون بمستوى تعليمي عال وكثافة سكانية. ولهذا، فإن الصهاينة لم يستطيعوا سوى طردهم من فلسطين، أما قبائل الساليش التي كانت تقطن يوتاه فلم تفلت من هذا المصير إذ أبيد معظمهم. ويتبدَّى التشابه البنيوي بين المورمون والصهاينة في أجلى صوره في عملية اختيار المورمون ليوتاه والبحيرة المالحة لبناء مدينتهم ومستوطَنهم، فلقد وجدوا في هذه البقعة بحيرة مالحة يغذيها نهر حلو وينبع النهر من بحيرة أخرى. وعلى الفور، رأوا التشابه الشكلي مع الأردن والبحر الميت وبحيرة طبرية، حتى أنهم سموا النهر باسم الأردن.(16/397)
ويمكن القول بأن الأفكار المشيحانية التي تُوجِّه حركة المورمون تقود لا محالة إلى تأييد الفكر الصهيوني من منطلق احتقار اليهود، وحوسلتهم باعتبارهم جزءاً من متتالية الخلاص المسيحية، ومن هنا الرغبة في تنصيرهم وإبادة جرثومة الشر الموجودة في العالم إيذاناً بحلول السلام ونهاية التاريخ.
وفي إحدى أدبيات المورمون نقرأ أن "ثمة غريزة موروثة تقود اليهود نحو هذا الهدف [أي الذهاب إلى فلسطين] بيد أنهم لا يعرفون سبب هذا فهم وسيلة وليسوا غاية". ولكن السبب واضح لنا، فهم سيذهبون "للإعداد وللترحيب بعودة ابن الرب وملك الملوك وسيد الأسياد وأمير السلام الذي سيضع قدمه على الجبل فيقسمه شطرين". وعلاقة المورمون بالحركة الصهيونية تُذكِّرنا بأولئك الصهاينة غير اليهود الذين يودون جمع اليهود في مكان واحد ليَسهُل إفناؤهم أو تنصيرهم. فموقف المورمون المتعاطف مع الصهاينة يعبِّر عن رغبة عميقة في التخلص من اليهود.
وإذا كان صهاينة أوربا من غير اليهود يفكرون في التخلص من اليهود باعتبارهم عنصراً بشرياً فائضاً يهدد الأمن الاجتماعي ويمكن نَقْله خارج أوربا وتوظيفه لصالحها، فإن موقف المورمون من اليهود كان أكثر جذرية. فالمورمون أصحاب رؤية حلولية كمونية يدورون في إطار ثالوث مقدَّس: إله يحل في المورمون (ومن ثم فهُم شعب مختار) وفي أرضهم (أمريكا، أرض الميعاد) .
وجماعة المورمون لها حركة تبشيرية قوية إذ أن أعضاء الكنيسة من الذكور لابد أن يقوموا بخدمة تبشيرية تصل أحياناً لمدة عام (ويبلغ عدد المبشِّرين المورمون 48 ألفاً) ولذا ارتفعت عضوية الكنيسة من 5.6 مليون عام 1984 إلى 9 مليون. ويعيش منهم 4.6 مليون في الولايات المتحدة وكندا. ولكن قصة نجاح المورمون الحقيقية في أمريكا اللاتينية (2.7 مليون) . وتبلغ ميزانية الكنيسة 8 مليون دولار.(16/398)
وقد حاول المورمون مؤخراً أن يؤسسوا جامعة في إسرائيل لتكون مركزاً للتبشير برسالة المورمون وعقيدتهم، وقد اعترض على ذلك كثير من أعضاء المؤسسة الدينية اليهودية في إسرائيل ولكن المورمون نجحوا في نهاية الأمر، من خلال ضغوط مارسوها على الكونجرس الأمريكي.
ويرى الناقد الأدبي الأمريكي اليهودي هارولد بلوم أن حركة المورمون حركة دينية غنوصية، وأنها تعبِّر عن جميع العقائد الدينية السائدة في الولايات المتحدة، أي أنها العقيدة الدينية النماذجية الأمريكية، عقيدة الإنسان المتأله.
شهود يهوه
Jehovah's Witnesses
«شهود يهوه» جماعة دينية مسيحية بروتستانتية اسمها الأصلي هو Watchtower Bible and Tract Society يؤمن أتباعها بعدد من الأفكار المشيحانية الصهيونية. ويعود اسم الجماعة الشائع إلى إيمانها بأن اسم الإله الحقيقي هو «يهوه» وأن الاسم الحقيقي للمسيحيين هو «شهود» . نشأت الحركة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1872 في مدينة بتسبرج بولاية فيلادلفيا على يد رجل أعمال شاب يدعى تشارلز راسل (1852 ـ 1916) كان ينتمي لجماعة الأدفنتست، وهي جماعة بروتستانتية تدور أفكارها حول أطروحة عودة المسيح (فهم الأدفنتست أو المؤمنون بالعودة) وتنصير اليهود باعتبارهم أس الشر وجرثومة الفساد التي نمت في العالم.
ولقد واكب ظهور حركة شهود يهوه نهاية الحرب الأهلية الأمريكية التي شهدت دمار الجنوب وإخضاعه لسيطرة الشمال. وبذا، وُجدت تربة خصبة لنمو الأفكار المشيحانية عن الخلاص ونهاية العالم في جو الإحباط والدمار الذي تلا الحرب.
وقد أسس راسل جماعة لدراسة التوراة ونشر عام 1874 على نفقته الخاصة كتيب غرض عودة الرب وكيفيتها الذي يزعم فيه كاتبه أنه كشف للعالم الخطة التي رسمها الرب للبشرية.(16/399)
وفي عام 1879، قامت الجماعة بتأسيس مجلة برج صهيون وبشير مجيئ المسيح الشهرية التي ازداد توزيعها بمرور الوقت. وقد انخرط راسل في حسابات معقدة مستمدة من التوراة لمعرفة وقت عودة المخلِّص وبداية العهد الألفي وتخليص العالم من الشر ونهاية التاريخ وهي الأفكار التي تمثل حجر الزاوية في كل الأنساق الحلولية. وقد حدد راسل عام 1914 لعودة اليهود. وفيما بعد، أعلن أتباعه أنه كان يقصد الإشارة لوعد بلفور الذي صدر عام 1917.
وصاغ راسل نظرية دينية تقوم على منظومة تمرُّد الشيطان وخداعه لآدم وحواء ودفعهما للخطيئة ومحاربته للرب. وبعدئذ، سيطر الشيطان أو قوة الشر على العالم فيما أسماه راسل «إمبراطورية الشر» (المصطلح الذي يتواتر في الخطاب السياسي الأمريكي) .
كل هذا يعني في واقع الأمر أن حُكم المسيح الألفي أصبح وشيكاً وأن معركة هرمجدون بين قوى الخير والشر وشيكة وسيُهزَم الشيطان ويُحطم الأشرار إلى الأبد. أما من يرضى عنهم يهوه فنصيبهم هو الخلود. هذا يعني أن هناك من الأحياء الآن الذين لن يموتوا قط وسيحيون هذه الحياة الخالدة في العصر الألفي. وكما قال أحد قادة شهود يهوه "يوجد ملايين من الأحياء الآن لن ينال منهم الموت". وترى جماعة شهود يهوه أنه يوجد 144 ألف من المؤمنين عميقي الإيمان عبر التاريخ سيولدون كأبناء الإله الروحانيين وسيشاركون في حكم العالم مع المسيح. ومملكة المسيح ليست مفارقة للأرض فالمملكة الألفية ستؤسَّس هنا وهي مملكة كل ما فيها مثالي إذ ستمتلئ الدنيا عدلاً بعد أن امتلأت جوراً، بل إن الطبيعة المادية ذاتها ستتغيَّر، كما هو الحال في الرؤى المشيحانية.(16/400)
وعلى عضو جماعة شهود يهوه أن يظل بمنأى عن الدنيا الفاسدة وألا يطيع تلك القوانين والممارسات العلمانية، وأن يتبع تفسير الجماعة للإنجيل، وبناءً عليه يجب عدم استخدام الصور في العبادة وعدم المشاركة في الحوار بين الأديان وألا يسمح عضو الجماعة بنَقْل دم له وألا يُحيِّي العلم القومي لأية دولة ولا يُقسم يمين الولاء لأية أمة من أمم الأرض (وقد أدَّى هذا إلى اضطهاد أعضاء الجماعة وإلى مقتل بعضهم) .
ويؤمن الشهود بالثالوث المسيحي، ولكن الأب يهوه يشغل مكانة عالية تفوق مكانة الابن. ومع هذا يشغل الابن مكانة خاصة فهو أول مخلوقات الإله، دفع حياته تكفيراً عن خطايا البشر وقد مات على الخازوق (لا الصليب) ورُفع كروح خالدة، وهو موجود في العالم على هيئة الروح. والابن هو المركز الذي يتجمَّع حول الشهود في صلاتهم، فهم يصلون ليهوه من خلال المسيح.
ورغم أن الشهود يؤمنون بالميلاد بدون دنس إلا أنهم لا يحتفلون بعيد الكريسماس باعتبار أنه من أصول وثنية ولا يعترفون بالصوم الكبير ولا عيد الفصح، والتعميد عن طريق شهود يهوه يتم من خلال إغراق الجسد كله في الماء. وهم لا يُصلّون يوم الأحد إذ يقولون إن إقامة شعائر السبت تنطبق على اليهود وحدهم وأنه تم نَسْخها من خلال المسيح. ومع هذا يقبل الشهود يوم الأحد كيوم راحة وتغيير (كمحاولة للتكيف مع المعايير الاجتماعية السائدة وليس على أساس عقائدي) . ولا توجد طبقة كهنوتية عند شهود يهوه ويجتمع أعضاء الجماعة فيما يُسمَّى «صالات المملكة» للدراسة والتعميد، كما يجتمعون في منازل الأعضاء.(16/401)
ويُلاحَظ أنه بعد موت راسل عام 1916 حدث تَحوُّل عميق في الحركة ظهرت آثاره عام 1931. فقد تبنَّت الحركة في هذه المرحلة اسمها الجديد (شهود يهوه) وتسنَّم رئاستها محام بروتستانتي معمداني هو جوزيف رذرفورد تَبنَّى آراءً أكثر تطرفاً من المجتمعات العلمانية. إذ أعلن نهاية زمن الأغيار وأن الشيطان قد أصبح الحاكم الحقيقي والفعلي لكل حكومات الأرض وأن عصبة الأمم أصبحت ألعوبة في يد الشيطان.
وينعكس هذا التطور على موقف الجماعة من اليهود ومن المُستوطَن الصهيوني. ففي المرحلة الأولى كان راسل يذهب، وفقاً لحساباته، إلى أن اليهود سيلعبون دوراً حاسماً في صراع الرب ضد الشيطان حيث اصطفى الرب إسرائيل أو اليهود وأعطاهم حكماً دينياً ليكونوا شعبه المختار. لكن اليهود عصوا الرب، فعاقبهم بالنفي والشتات، وسيستمر هذا النفي مدة من الزمان تساوي سبعة أمثال خطاياهم كما ورد في التوراة. وبعدئذ، يعود اليهود إلى أرض إسرائيل، وتعود صهيون لأهلها، ويسامح الرب شعبه المختار. وقد دعا راسل اليهود إلى العودة لأرض إسرائيل كخطوة أولى نحو إقامة مملكة الرب على الأرض. وقد ازداد نمو حركة راسل بسرعة مع نهاية القرن واتصل بالقيادات الصهيونية وأبدى إعجابه الشديد بهرتزل وسماه «رجل الأقدار» . وقد زار راسل فلسطين عدة مرات وتقابل مع قادة الصهاينة الاستيطانيين هناك، وزاد دعايته للهجرة اليهودية إلى فلسطين وأعرب عن اعتقاده أن فلسطين تستطيع أن تستوعب ضعف عدد اليهود في الأرض، ولكنه أعرب في الوقت نفسه عن شكه في إمكانية هجرتهم جميعاً واقترح "هجرة الفقراء المخلصين باستخدام أموال الأغنياء". ولا يخفي الفكر الاستيطاني التوطيني الذي يقدمه راسل ولا تَطابُقه مع الفكر الصهيوني، وخصوصاً الفرع الأمريكي للمنظمة الصهيونية العالمية. وقد قابل جاكوب دي هاس محرر جريدة الجويش أدفوكيت في بوسطن راسل، وأعرب عن إعجابه به وأشار إلى أن آراءه تشبه كثيراً آراء اليهودية(16/402)
الحسيدية، بل سماه «أول محبي اليهود» .
هذا الموقف المتعاطف تراجع مع تسنُّم رذرفوره قيادة الحركة فقد أفزعه أن الصهاينة اتجهوا للتعاون مع المؤسسات العلمانية، ولذا قام بتحذيرهم من خطر الابتعاد عن حظيرة الرب. وقد حدَّد رذرفورد عام 1925 بوصفه عاماً حاسماً في بناء مملكة الرب. وعندما مرّ العام دون حدوث شيء يذكر، تذرَّع الأتباع بواقعة إقامة الجامعة العبرية (فالنسق الحلولي الكموني لا يعدم العثور على الشواهد التي يتم تأويلها من خلال ليّ عنق الواقع حتى يتفق مع النموذج المطروح) .
وشهد عام 1931 تحولاً كاملاً في حركة شهود يهوه، فقد أعلن رذرفورد أن اليهود باتجاههم المستمر نحو العلمنة وتخليهم عن الحكومة الدينية قد نقضوا، وإلى الأبد، عهدهم مع الرب، وأصبح شهود يهوه هم الشعب المختار الروحي الوحيد. ودعا رذرفورد اليهود إلى نبذ المؤسسات الدولية والانضمام لحركة شهود يهوه. وبعدئذ انقلب من محب لليهود إلى معاد لهم. وعلى كلٍّ لا تقبل الأيديولوجيات التي تدور حول مركب الشعب المختار شعباً مختاراً آخر، إذ لا يمكن أن يوجد أكثر من شعب مختار واحد، ومن هنا جذور الصراع بين شهود يهوه والصهاينة، وهو لا يختلف كثيراً عن معركتهم مع النازيين. وقد سُئل هتلر مرة عن سبب عدائه لليهود، فكانت إجابته واضحة ومباشرة: "لا يمكن أن يكون هناك شعبان مختاران. ونحن وحدنا الشعب المختار، فهل هذه إجابة شافية عن السؤال؟ ". ولذا عادى النازيون كلاًّ من اليهود وشهود يهوه (باعتبارهم شعوباً مختارة) ، بل اتهم النازيون حركة شهود يهوه بأنها ألعوبة يهودية في إطار المؤامرة اليهودية المستمرة من أجل حكم العالم. وبعد إقامة دولة إسرائيل، أصبحت دولة إسرائيل بالنسبة لأتباع شهود يهوه قلعة أخرى من قلاع الشيطان على الأرض.(16/403)
وحركة شهود يهوه حركة تبشيرية قوية لها نشاط ملحوظ في إسرائيل وتحارب الحكومة الإسرائيلية ضدها. وقد وصل عدد أعضاء جماعة شهود يهوه في العالم إلى ما يزيد عن 2 مليون فرد في حوالي مائتي بلد.
ومما يجدر ذكره أن الجماعة بدأت تُهدئ قليلاً نزعتها المشيحانية فأعلن قادتها أن كل النبوءات السابقة القائلة بأن هرمجدون والحقبة الألفية وشيكة كانت مجرد نبوءات وليست عقائد مستقرة.
الباب الرابع: صهيونية غير اليهود العلمانية
صهيونية غير اليهود العلمانية
Gentile Secular Zionism
«صهيونية غير اليهود» اصطلاح نستخدمه للإشارة لما يُسمَّى «صهيونية الأغيار» ونضيف أحياناً كلمة «علمانية» حتى نميِّزها عن صهيونية غير اليهود ذات الديباجة المسيحية، وإن كنا عادةً لا نفعل ذلك ونكتفي بالحديث عن «صهيونية غير اليهود» من قبيل إطلاق العام والشائع على الخاص. وقد تدثرت الصيغة الصهيونية الأساسية بديباجات مسيحية عندما ظهرت في الغرب في القرن السابع عشر. ومع تزايد معدلات العلمنة، ابتداءً من القرن الثامن عشر، ومع انتشار الفلسفات النفعية والعقلانية، بدأت الديباجة المسيحية في الضمور والتواري وتم تسويغ الصهيونية انطلاقاً من الرؤية المعرفية الإمبريالية وأطروحاتها المادية. ومع هذا، فعادةً ما كانت الديباجات العلمانية والدينية تختلط، ولذا كانت تطرح ضرورة توطين اليهود في فلسطين لتحقيق الخلاص ولحماية الطريق إلى الهند.(16/404)
ويُلاحَظ أنه في الفترة الممتدة من القرن الثامن عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر، بدأت صهينة الوجدان الغربي فبلور الفكر الألماني الرومانسي فكرة الشعب العضوي (الفولك) ، وأصبح هناك «شعب عضوي ألماني» و «شعب عضوي إنجليزي» و «شعب عضوي يهودي» . ويرد اليهود في كتابات هردر وكانط وفخته باعتبارهم شعباً عضوياً. كما تتواتر الفكرة نفسها في كتابات المؤلفين الرومانسيين الغربيين، وخصوصاً في بريطانيا (مثل بايرون وولتر سكوت مثلاً) . ولكن الشعب العضوي اليهودي لا ينتمي إلى أوربا ولا للحضارة الغربية، فهو شعب عضوي منبوذ لابد من نَقْله. وقد تبلورت في أوائل هذه المرحلة فكرة نَفْع اليهود وإمكانية إصلاحهم وتوظيفهم، أي أن الصيغة الصهيونية الأساسية زادت تبلوراً ووضوحاً. وقد عبَّر فلاسفة حركة الاستنارة، مثل جون لوك وإسحق نيوتن، عن نزعة صهيونية أساسية في كتاباتهم.
وفي كتاب له صدر عام 1749 صنَّف الفيلسوف ديفيد هارتلي اليهود ضمن الهيئات السياسية باعتبارهم "كياناً سياسياً موحداً ذا مصير قومي مشترك رغم تَشتتُّهم الحالي". وقد تبنَّى الحجج الدينية النبوئية الشائعة وأضاف لها تفسيرات دنيوية. كما أن جوزيف بريستلي صوَّر فلسطين أرضاً "غير مأهولة بالسكان، أهملها مغتصبوها الأتراك ولكنها مشتاقة ومستعدة لاستقبال اليهود العائدين". ولم يكن الفكر الرومانسي أقل حماسة من الفكر الاستناري، بل يمكن القول بأن الفكر الرومانسي أعطى دفعة جديدة للصهيونية فتزايد الحديث عن العبقرية اليهودية والعرْق اليهودي. وقد نادى روسو (الذي ينحدر من أسرة بروتستانتية) بإعادة اليهود لدولتهم الحرة. وكان الفكر الألماني الرومانسي، الذي وُلدت في أحضانه فكرة الشعب العضوي، يتسم بنزعة صهيونية (معادية لليهود) كما يتضح في كتابات هردر وكانط وفخته. كما توجد أصداء صهيونية في أشعار بايرون وروايات وولترسكوت.(16/405)
ويُلاحَظ تزايد الاهتمام باللغة العبرية، كما بدأ الفنانون الغربيون يتناولون الموضوعات اليهودية والعبرية بكثير من الألفة لم تكن معروفة من قبل. وقد نشر دزرائيلي روايتيه ديفيد الراوي (1833) وتانكرد (1847) ، وهما روايتان لهما نزعة صهيونية واضحة. وقد ظهرت رواية جورج إليوت دانيل ديروندا (1876) أهم وثيقة أدبية صهيونية غير يهودية وهي التي تُعدُّ أهم وثيقة أدبية صهيونية غير يهودية والتي وُصفت بأنها مقدمة أدبية لوعد بلفور. ونُشر في الفترة بين 1840 و1880 ما يزيد على 1600 كتاب من كُتب أصحاب الرحلات إلى فلسطين، وقد ساهمت هذه الكتب في تدعيم صورة فلسطين كأرض مُهَملة، وصورت العرب (المسلمين أو البدو) كمسئولين عن هذا الخراب. وأُسِّس صندوق استكشاف فلسطين عام 1865 وكان مركزاً لمؤيدي الاستيطان الصهيوني. ومن أهم العلماء الأثريين فيه سير تشارلز وارن الذي قام بالعديد من الاكتشافات الأثرية وتنبأ بقيام حكم اليهود في فلسطين. كما قام كلود كوندر (1848 ـ 1910) بكتابة دراساته الجغرافية التي كانت تنشرها الصحافة الصادرة بالعبرية.
وقد ظلت النزعة الصهيونية في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر تأخذ طابعاً فكرياً تأملياً أو عاطفياً لأن أوربا كانت في حالة انتقال. كما أن المشاريع الاستعمارية المختلفة كانت متوقفة أو لا تزال في حالة التفاف حول الدولة العثمانية التي كانت قد بدأت في التآكل من الداخل، وإن كانت لا تزال قوية قادرة على حماية رعاياها.(16/406)
ويمكن القول بأن ظهور محمد علي وقَلْبه موازين القوى وتهديده للمشروع الاستعماري الغربي ووضعه حداً لآمال الدول الغربية التي كانت تترقب اللحظة المؤاتية لاقتسام تركة رجل أوربا المريض، أي الدولة العثمانية، يُشكِّل نقطة تحوُّل في تاريخ فلسطين وتاريخ الصيغة الصهيونية الأساسية، إذ تساقطت الأردية الدينية وظهر الواقع المادي النفعي. ويشرح الزعيم الصهيوني حاييم سوكولوف الموقف فيقول إن أوربا عام 1840 اضطرت محمد علي إلى التوقيع على «معاهدة لندن لتهدئة الشرق» ، وبعد ذلك أصبح المنطق السائد في أوربا آنذاك على النحو التالي:
"إذا اتفقت الدول العظمى الخمس على تسوية المسألة الشرقية على أساس استقلال سوريا ... واسترجاع اليهود لها ... حاملين معهم عُدة الحضارة وأجهزتها، بحيث يكونون نواة لخلق مؤسسات أوربية ... تحت رعاية القوى الأوربية الخمس ... فإن ذلك سيساهم في أن تسترجع الدولة العثمانية قوتها ... ومما لا شك فيه أن حالة سوريا محفوفة بعديد من المصاعب نظراً لانقسام سكانها إلى قبائل منفصلة. ولكن هذا لا يُثبت سوى ضرورة إدخال «مادة جديدة» . حتى يتم صَهْر الطبقات كلها في جماعة مترابطة متوازنة. وإذا ما سلمنا بضرورة إدخال مادة جديدة في نسيج سوريا الاجتماعي، فإننا سنسلِّم بالتالي بأن هجرة اليهود إلى سوريا ستزودنا بأكثر المواد قبولاً. وسيتبع ذلك إقامة مؤسسات أوربية. وستجد إنجلترا حليفاً جديداً سيثبت أن الصداقة معه في نهاية الأمر ذات نفع لها في التعامل مع المسألة الشرقية".(16/407)
ويُلاحَظ أن البُعد الجغراسي (الجيوبوليتيكي) الكامن للفكر الصهيوني بين غير اليهود أخذ يزداد حدة وتحدداً، بل أصبح البُعْد الرئيسي. ولم يعد الحل الصهيوني مجرد فكرة فلسفية أو تطلُّع عام. "فالتطورات السياسية [على حد قول سوكولوف] أدَّت إلى ظهور خلفية جديدة للصهيونية. إن قضية استرجاع إسرائيل التي كانت قضية أثيرة لدى العاطفيين وكُتَّاب المقالات والأدباء ... وكل مؤمن بالإنجيل وكل صديق للحرية، أصبحت قضية حقيقية مطروحة [على المستوى السياسي] ". وكما قالت التايمز عام 1840، فإن المسألة أصبحت مطروحة بشكل جدي، بمعنى أن الصهيونية لم تَعُد فكرة هامشية تُتداوَل في الأوساط التبشيرية الإنجيلية وحسب، فعام 1840 هو عام ولادة المسألة الشرقية وهو أيضا عام ولادة الحل الصهيوني للمسألة اليهودية! وقد طُرحت مشاريع صهيونية عديدة في كل مكان في أوربا (في روسيا وبولندا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا) ، فمع بدايات المشروع الاستعماري الألماني قام مولتكه (الضابط في الحرس الملكي البروسي) عام 1939 بنشر كتاب ألمانيا وفلسطين يقترح فيه إنشاء مملكة صليبية هناك لتشجيع اليهود والمسيحيين. وقد وضع بندتو موسولينو، الإيطالي الجنسية، خطة في عام 1851 لتأسيس دولة يهودية في فلسطين. وشهد منتصف القرن التاسع عشر بعثاً مؤقتاً للمشروع الاستعماري الفرنسي المستقل إبّان حكم نابليون الثالث. فقد حصلت فرنسا على امتياز شق قناة السويس عام 1854 ثم جردت حملة عسكرية فرنسية عام 1860 ـ 1861 إلى جبل لبنان عقب الحرب الأهلية بين الدروز والموارنة، وهي الحرب التي كانت في واقع الأمر حرباً على النفوذ بين الإنجليز والفرنسيين. ويُقال إن الهدف من الحملة كان الضغط على السلطان العثماني للموافقة على امتياز قناة السويس. وفي هذا الإطار، ظهرت عدة كتابات فرنسية في الموضوع، أهمها دعوة لاهارن (سكرتير نابليون الثالث) لليهود بالعودة إلى فلسطين حتى يكونوا بمنزلة الوسطاء(16/408)
الذين سيفتحون الشرق للغرب لتأسيس دولة يهودية في فلسطين. وكان هنري دوتان (1820 ـ 1910) ، مؤسس الصليب الأحمر الدولي، مهتماً بالمشروع الصهيوني، حيث حاول منذ عام 1863 حتى عام 1876 إثارة اهتمام الجماعات اليهودية باقتراحاته دون جدوى. وقد أسَّس جمعية الاستعمار الفلسطينية في لندن، واتصل بنابليون الثالث والحكومة العثمانية لعرض فكرته، كما حضر المؤتمرات الدولية للدفاع عنها واشترك في بعض المؤتمرات الصهيونية.
ويُلاحظ سوكولوف أن الكتابات الفرنسية في موضوع الصهيونية تتسم بأنها مجردة أكثر من اللازم. وبدلاً من أن يبيِّن أصحاب هذه الكتابات بشكل محدد الإجراءات التي يجب اتخاذها، فإنهم يكتفون بالتعبير عن الآمال الفارغة ويصوغون اقتراحات ودعاوى غامضة. ولعل هذا يعود إلى أن الفكر الصهيوني في فرنسا لم يكن وراءه لا تاريخ طويل ولا مصالح محددة كما كان الحال مع الفكر الصهيوني في إنجلترا. كما أن فرنسا الكاثوليكية، برفضها التفسير الحرفي للعهد القديم، لم تكن متعاطفة مع هذه الرؤية لليهود.(16/409)
ويُلاحَظ أن صهيونية غير اليهود صهيونية غربية بمعنى الكلمة (روسي ـ بولندي ـ ألماني ـ فرنسي ـ هولندي ـ إنجليزي) وقد أصدرت معظم هذه الدول وعوداً بلفورية أو ما يشبه الوعود البلفورية، ولكن صهيونية غير اليهود تظل ظاهرة بريطانية وبروتستانتية بالدرجة الأولى. والواقع أن أكبر عدد من الصهاينة غير اليهود ظهر بين صفوفهم، مثل الكولونيل جورج جاولر وجيمس فين ووليام بلاكستون وجوزيف تشامبرلين وإيان سمطس وجوسيا ودجوود، ولكن لورد شافتسبري ولورانس أوليفانت يعتبران أهم هؤلاء. وفي محاولة تفسير ذلك، يمكن القول بأن إنجلترا كانت أكبر قوة استعمارية، وأنها البلد الذي انتشر فيه التفسير الحرفي للكتاب المقدَّس، وأنها أخيراً البلد الذي لم يكن فيه يهود حتى أواخر القرن السابع عشر، فكان من الممكن ـ لكل هذه الأسباب ـ تجريد اليهود وتحويلهم عقلياً (ثم فعلياً) إلى وسيلة. كما يُلاحَظ أن هجرة أعضاء الجماعات اليهودية كانت تتم في إطار الاستعمار الاستيطاني الغربي ككل، والأنجلو ساكسوني على وجه الخصوص، ولذا نجد أن معظم المهاجرين اليهود استوطنوا في بلاد مرتبطة بالمشروع الاستيطاني الأنجلو ساكسوني (الولايات المتحدة ـ نيوزيلندا ـ جنوب أفريقيا ـ إسرائيل) .(16/410)
وازدادت الفكرة الصهيونية مركزية في الوجدان السياسي الغربي، ولعل أكبر دليل على هذا أن المفكرين الصهاينة من غير اليهود أصبحوا قريبين من صانع القرار. ويمكن أن نذكر في هذا المضمار وزير البحرية البريطانية هنري إنس (الذي كتب مذكرة عام 1839 موجهة إلى كل دول شمال أوربا وأمريكا البروتستانتية، قام اللورد بالمرستون، رئيس الوزراء، برفعها إلى الملكة فيكتوريا) . كما يمكن أن نذكر في هذا المجال، جورج جولر حاكم جنوب أستراليا. وقد نشرت جريدة جلوب اللندنية (القريبة من وزارة الخارجية) مجموعة مقالات عام 1839/1840 تؤيد فيها مسألة تحييد سوريا (وضمنها فلسطين) وتوطين أعداد كبيرة من اليهود فيها. وقد حازت المقالات موافقة اللورد بالمرستون. وقد نوقش في مؤتمر القوى الخمس الذي عُقد في لندن عام 1840 مسألة تحديد مستقبل مصر. وفي ذلك العام، كتب بالمرستون خطابه إلى سفير إنجلترا في الأستانة يقترح فيه إنشاء دولة يهودية حماية للدولة العثمانية ضد محمد علي. وقدَّم الكولونيل تشرشل عام 1841 مذكرة لموسى مونتفيوري يقترح تأسيس حركة سياسية لدعم استرجاع اليهود لفلسطين لإقامة دولة محايدة (أي في خدمة الدول الغربية) .(16/411)
وفي عام 1845، ظهر كتاب جورج جولر تهدئة سوريا والشرق حيث طرح خطوات عملية لعملية توطين اليهود في فلسطين. كما أن جولد سميد صاحب موسى مونتفيوري في رحلته إلى فلسطين عام 1849، بل أسَّس عام 1852 واحدة من المنظمات الصهيونية الأولى وهي منظمة تشجيع الاستيطان اليهودي في فلسطين التي قدمت المساعدة للقنصل الإنجليزي في القدس في عملية تدريب اليهود المحليين على الزراعة. كما نشر أيضاً اقتراحات عملية تتصل بتأسيس صناعات ترمي إلى زيادة النفوذ الإنجليزي في سوريا. وبعد انتهاء حرب القرم (1853 ـ 1856) ، قُدِّمت إلى مؤتمر القوى العظمى الذي عُقد في باريس مذكرة بشأن توطين اليهود في فلسطين. وقدَّم بنجامين دزرائيلي (الذي تقلَّد رئاسة الوزارة عام 1874) مذكرة غفلاً من اسم واضعها موجهة إلى المندوبين في مؤتمر برلين 1878 تتضمن اقتراحاً ذا طابع صهيوني لحل المسألتين اليهودية والشرقية، ولكن لم يتم توزيعها بسبب معارضة بسمارك (وقد قام المفكر الصهيوني الروسي بيرتس سمولنسكين بترجمة المذكرة إلى العبرية ونشرها) .
وفي عام 1887، قدم إدوارد كازالت اقتراحاً بتوطين اليهود تحت حماية إنجلترا، وقد دافع عن الفكرة في كتابه وخطبه أثناء حملته الانتخابية حينما رشَّح نفسه للبرلمان. ويمكن القول بأن المشروع الصهيوني كانت ملامحه وأجزاؤه قد تكاملت في عقل كازالت، ولذا نجده يتوجه للتفاصيل الدقيقة وإلى الطابع اليهودي الإثني للاستيطان اليهودي، وإلى قضية الوعي اليهودي ككل، فكان أول من فكَّر في إنشاء جامعة عبرية. وفي نهاية السبعينيات، قام هو وأوليفانت، وانضم إليهما ممثلون عن جماعة البيلو، بالتفاوض مع الدولة العثمانية بشأن مشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين.(16/412)
وفي ذلك الحين، كانت الولايات المتحدة (بتوجُّهها البروتستانتي الحرفي) تمور بالمفكرين الصهاينة غير اليهود مثل مانويل نواه (صاحب مشروع أرارات) ووليام بلاكستون. كما ظهرت فيها جماعات صهيونية مسيحية بعضها متعاطف مع اليهود والبعض الآخر يُكِّن له الحقد والاحتقار من أهمها جماعة شهود يهوه والمورمون. كما كانت توجد جماعة صهيونية مسيحية كان لها مشروعها الاستيطاني المستقل هي جماعة فرسان الهيكل الألمانية.
ومن الأمور المهمة والجديرة بالذكر أن كل هؤلاء الصهاينة غير اليهود توصلوا إلى الصيغة الصهيونية الأساسية، وأضافوا لها الديباجات لتبريرها، وخططوا المشروعات لوضعها موضع التنفيذ دون أية مؤثرات يهودية (فكرية أو غيرها) . وفي كثير من الأحيان، كان ذلك يتم دون أيِّ احتكاك باليهود أو أية معرفة بهم، ففكرهم وُلد من داخل النموذج الحضاري الغربي، وهو ثمرة بنية الحضارة الغربية نفسها ونتاج حركياتها وتطوُّر مصالحها الإستراتيجية. وقد أعلن أحد المؤتمرات الصهيونية أن أبا الصهيونية (الحقيقي) هو الصهيوني غير اليهودي بلاكستون، وهو وصف دقيق ومباشر وليس فيه أية أبعاد مجازية. ولنا أن نلاحظ أن معظم المفكرين الصهاينة غير اليهود كانوا شخصيات غريبة الأطوار، إن لم تكن شاذة ومهزوزة، ومع هذا فإن أفكارهم كانت تجد صدى في الأوساط السياسية الغربية، وهو ما يدل على أن هذه الأفكار تعبِّر عن شيء أصيل وكامن في الحضارة الغربية آنذاك، يتجاوز شذوذ وغرابة أطوار حَمَلة هذا الفكر.(16/413)
ورغم كل هذه النشرات والمقالات والمذكرات، إلا أن هناك إشكالية أساسية كامنة في صهيونية غير اليهود وهي أنها مهما بلغت من تحدُّد وتبلور وحدّة فهي لا تكترث بيهودية اليهود، فما يهمها هو المصالح الإستراتيجية للعالم الغربي (المسيحي) والاعتبارات العملية والنتائج الملموسة. ولذا، كان الصهاينة من غير اليهود ينظرون إلى اليهود من الخارج كأداة تُستخدَم وحسب، وكانوا يتحركون في العالم الغربي لا داخل المحيط اليهودي، ولم يكن بوسعهم بالتالي الوصول إلى المادة البشرية المستهدفة التي كانت تنظر بكثير من الشك إلى عالم الأغيار الذي كان يحاول أن يقضي عليها في الماضي بالذبح، ويحاول الآن القضاء عليها بالإعتاق والعلمانية.
وحديث هؤلاء الصهاينة غير اليهود عن عودة اليهود لم يلق صدىً لدى أعضاء المادة المُستهدَفة إذ أن اليهودية الحاخامية الأرثوذكسية قامت بتحويل فكرة العودة إلى أمر يتحقق في آخر الأيام، أي إلى ضرب من الحلم الديني الذي لا يتحقق إلا في مجال التاريخ المقدَّس لا على مستوى التاريخ الزمني. ولذا، كان اليهود ـ وبخاصة يهود العالم الغربي ـ يرفضون التورط في مشاريع العودة التي تطلق على نفسها اسم «مشاريع قومية» . ولم تلق دعوة نابليون إلى يهود الشرق بالاستيطان آذاناً صاغية. وقد رفض مجلس مندوبي يهود إنجلترا الاقتراح الذي تقدَّم به الكولونيل تشارلز تشرشل لتوطين اليهود في فلسطين والذي حمله السير موسى مونتفيوري إلى المجلس نيابة عنه.(16/414)
وقد شهد منتصف القرن التاسع عشر ظهور اليهودية الإصلاحية بتأكيدها المُثُل الاندماجية ورفضها فكرة العودة الفعلية إلى فلسطين رفضاً تاماً. وعُقد عام 1845 مؤتمر فرانكفورت الشهير الذي حذف من كتب الصلوات جميع التوسلات للعودة إلى أرض الآباء وإحياء دولة يهودية. وحينما عُقد المؤتمر اليهودي الأول عام 1872 لبحث مشكلة يهود رومانيا، لم يتطرق هذا المؤتمر إلى الهجرة اليهودية إلى فلسطين باعتبارها حلاًّ للمسألة اليهودية.
ومن أطرف التعليقات اليهودية على المشاريع الصهيونية غير اليهودية ما نشرته مجلة يهودية ألمانية (ذات طابع اندماجي) إذ قارنت المشاريع الصهيونية الإنجليزية التي نُشرت في الجلوب والتايمز بالمشاريع الفرنسية، وبينت أن الشاعر لامارتين (1790 ـ 1869) الذي كان يشغل منصباً حكومياً آنذاك يقترح تأسيس مملكة مسيحية عند منابع نهر الأردن، وأنه ينوي، إذا ما وقعت القدس تحت الهيمنة الفرنسية، أن يترك العالم بأسره لإنجلترا. ولكن الغريب في الموضوع ـ كما تقول المجلة ـ أن اللورد بالمرستون قد اختار البقعة نفسها لإنشاء دولة يهودية، فبينما كان الشاعر الشهير يحلم بإقامة دولة مسيحية في القدس كان اللورد بالمرستون ينوي إقامة جمهورية يهودية فيها (وحولها) ، وقد حذَّرت المجلة الشباب اليهودي من مثل هذه الدعاوى الصهيونية.(16/415)
ويبدو أن الصهاينة غير اليهود أدركوا أن المادة البشرية المستهدفة لمشاريعهم ترفض مثل هذه المشاريع التي تهدف إلى اقتلاعهم من أوطانهم، ولذا فقد بذلوا جهداً في التوجه إلى الجماعات اليهودية وفي التقارب معها. فكتب الكولونيل كلود كوندر يشجع جهود أحباء صهيون على التسلل إلى فلسطين. ونشر هنري ونتورث مونك (كندي الجنسية) عدة مقالات صهيونية ظهرت في جويش كرونيكل بين عامي 1859 و 1896، وأسهم في تأسيس أولى المستوطنات اليهودية في فلسطين. وعقد مؤتمر للمسيحيين البارزين في مايو 1882 لمناقشة مسألة توطين المهاجرين اليهود من رومانيا وروسيا في فلسطين. وشهدت الفترة نفسها كتابات الأب إغناطيوس التي نُشرت على صفحات مجلة دي فيلت الصهيونية والتي ناشد فيها اليهود الانضمام إلى الحركة الصهيونية.
وكان شافتسبري (أهم الصهاينة غير اليهود) صديقاً لمونتفيوري، أما أوليفانت (أكثرهم دينامية ونشاطاً) فقد اتصل ببعض الجمعيات اليهودية الاستيطانية لتشجيعها، وذهب بنفسه إلى فلسطين للاستيطان فيها بصحبة سكرتيره اليهودي نفتالي هرتز إمبر (مؤلف نشيد الهاتيكفاه) . وبدأت تظهر شخصيات تقف بين الجماعتين اليهودية والمسيحية: مثل دزرائيلي (اليهودي الذي تنصَّر ليدخل الحضارة الغربية) . ويمكننا الإشارة إلى الواعظ البروتستانتي هشلر الذي كان من أكثر الناس حماسة لإرجاع اليهود، فقدَّم العون لهرتزل وساهم في تقديمه للدوق بادن الذي قدَّمه بدوره إلى قيصر ألمانيا.(16/416)
ولكن، ومهما ازداد التقارب بين الصهاينة غير اليهود واليهود، فإن ذلك لم يكن له جدوى وكان ضرورياً أن يحدث شيء تاريخي ضخم يتجاوز حركات الأفراد، وقد كان هذا الشيء هو تعثُّر التحديث في شرق أوربا وتَوافُد الآلاف من يهود اليديشية على غرب أوربا، الأمر الذي أدَّى إلى ظهور هرتزل الذي طوَّر الخطاب الصهيوني المراوغ وجعل بإمكان يهود الغرب قبول العقد الصهيوني الصامت وهو الأمر الذي كُلِّل بإصدار وعد/عقد بلفور.
ويمكن تلخيص إسهام صهيونية غير اليهود كما يلي:
1 ـ تمت صياغة الفكرة الصهيونية بمعظم أبعادها وديباجاتها. ولذا، فإن المفكرين الصهاينة من اليهود حينما ظهروا كانت الصياغات الأساسية جاهزة، وكذلك معظم الديباجات والمشاريع.
2 ـ صهيونية غير اليهود ذات الديباجة المسيحية والرومانسية حوَّلت فلسطين ومن عليها إلى مكان خارج التاريخ، فهي مجرد أرض ليس فيها أي أثر للتاريخ الحقيقي. وبالتالي، فقد أهدرت حقوق سكان فلسطين الفعليين، وأصبحت فلسطين في الوجدان الغربي مكاناً خاوياً ينتظر سكانه الأصليين.
3 ـ خلقت صهيونية غير اليهود (الدينية والعلمانية) المناخ السياسي الملائم لرؤية الأهمية الجغراسية لفلسطين.
4 ـ وضعت صهيونية غير اليهود الأساس للحل الاستعماري الغربي للمسألة اليهودية في شرق أوربا.
5 ـ طرحت صهيونية غير اليهود تفسيراً حرفياً لأحداث التاريخ وافترضت استمراراً حيث لا استمرار. وقد أثَّر ذلك في رؤية اليهود لفلسطين وأسهم في تحويل المفاهيم اليهودية الدينية التقليدية (المجازية) إلى مفاهيم استيطانية استعمارية.(16/417)
6 ـ حينما ظهرت مشكلة المهاجرين اليهود من روسيا وبولندا ورومانيا في أواخر القرن التاسع عشر لم يُنظَر إليها باعتبارها مشكلة إنسانية تتطلب عملية التحديث السريعة، وإنما نُظر إليها باعتبارها مشكلة شعب عضوي مختار أو كتلة بشرية مستقلة أو مادة بشرية فعالة يمكن توظيفها في عملية الخلاص المسيحية أو المشاريع التجارية والاستعمارية الغربية المختلفة.
7 ـ ربطت صهيونية غير اليهود بين المسألتين الشرقية واليهودية وطرحت تصوراً مفاده أن إحدى المشكلتين يمكن حلها من خلال الأخرى.
وأهم الصهاينة غير اليهود هو اللورد بلفور (صاحب الوعد المشهور) الذي كان يستخدم كلاًّ من الديباجات الدينية والديباجات العلمانية.
ومن الأمور الجديرة بالذكر أن تيودور هرتزل، مؤسِّس الصهيونية، لم يكن يميِّز بين الصهاينة اليهود وغير اليهود، بل كان يرى الجميع جزءاً من التاريخ الغربي. ولذا، فهو يشير إلى دزرائيلي وجورج إليوت وموسى هس وليو بنسكر باعتبارهم صهاينة دون تمييز أو تفرقة بين اليهود منهم وغير اليهود.
صندوق استكشاف فلسطين
Palestine Exploration Fund
جمعية أُسِّست عام 1864 تحت رعاية الملكة فكتوريا ملكة إنجلترا، وكان رئيس الجمعية أسقف يورك. وساهمت وزارة الحرب البريطانية بخدمات بعض الضباط، وخصوصاً من المهندسين مثل الكابتن كلود كوندر والكابتن تشارلز وارين (الذي اشتهر فيما بعد في جنوب أفريقيا) والملازم هـ. كتشنر (وهو اللورد كتشنر الذي عُيِّن فيما بعد معتمداً بريطانياً في مصر واشتهر في السودان) ، وت. إ. لورنس.(16/418)
وقد أعلن الصندوق أنه مؤسسة تهتم بالبحث الدقيق والمنظم في الآثار والطوبوجرافيا والجيولوجيا والجغرافية الطبيعية والتاريخ الطبيعي وعادات وتقاليد الأرض المقدَّسة بهدف «التوضيح التوراتي» ، والعبارة الأخيرة مبهمة إلى أقصى حد ولكنها تعني في نهاية الأمر أن البحث العلمي قد وُظِّف في خدمة الأهداف التوراتية، أي «الأهداف الإسترجاعية العسكرية» . وهذا ما وضحه كتاب المدنية والأرض الذي أصدره الصندوق، وهو يتألف من مجموعة من الدراسات كان من أهمها دراسة لوولتر بيسانت بيَّن فيها أن هدف الصندوق هو "الاستعادة": استعادة مجد فلسطين في عهد هيرود، واستعادة بلاد داود بحيث يمكن استعادة أسماء المدن التي دمرها القائد العظيم يوشع بن نون. وكذلك استعادة مكانة القدس ومجدها وأبهتها، واستعادة أسماء الأماكن المذكورة في التوراة (وكل هذا يبين مدى قوة العقيدة الاسترجاعية) .
ويظهر تلاقي البُعْد التوراتي والبُعْد العسكري في الإشارة إلى يوشع بن نون وفي قول المؤلف: "عندما وُضعت الأسماء في أماكنها، أصبح في وسعنا تتبُّع سير الجيوش في زحفها" (ويمكن أن نضيف: وأصبح بإمكان جيوش الغزو الإمبريالي ـ البريطاني والصهيوني ـ أن تعرف طريقها) . وقد ساهم كوندر بمقال في الكتاب نفسه ذي طابع صهيوني ديني عسكري.(16/419)
وقد لَعب الصندوق بالفعل دوراً عظيم الأهمية في مجال تزويد الساسة والعسكريين البريطانيين بالمعلومات الجغرافية والتاريخية والسياسية التي كانوا يحتاجون إليها لمد نفوذهم الاستعماري في المنطقة ولدراسة جدوى المشروع الاستعماري في فلسطين. وقد اعتمد الصندوق في ذلك على العديد من خبراء الآثار والتاريخ والجغرافيا والجيولوجيا والمناخ. وكانت غالبية التقارير والدراسات الصادرة عن الصندوق ذات طابع صهيوني إذ كانت تشير إلى أهمية فلسطين وضرورة عودة اليهود إليها وإقامة كيان استيطاني لهم فيها تحت الحماية البريطانية. فالكابتن وارين نشر عدة مجلدات من أهمها إحياء القدس ومذكرات عملية مسح فلسطين، وذلك بالإضافة إلى كتاب أرض الوعد الذي دعا فيه إلى أن تتولَّى شركة الهند الشرقية تنمية موارد فلسطين، وخصوصاً مواردها الزراعية والتجارية، كما دعا إلى تدريب المستوطنين اليهود على إدارة شئونهم تمهيداً لتَسلُّمهم حكم فلسطين وإدارة شئونها (وهو المخطط الذي نُفِّذ فيما بعد من خلال حكومة الانتداب والوكالة اليهودية) . وشارك الكابتن ويلسون في عدة عمليات بَحْث وتنقيب في بعض المناطق السورية واللبنانية، ولكن جهود الصندوق تركزت في النهاية على مرج ابن عامر ونابلس والقدس والخليل باعتبارها الأماكن التي شهدت تنقلات واستقرار "شعب إسرائيل" (كما ورد في تقريره للصندوق) .(16/420)
وقد أصدر الصندوق، بالإضافة إلى العدد الكبير من الكتب والتقارير، خريطتين دقيقتين: إحداهما لفلسطين الغربية (1880) والثانية لفلسطين الشرقية (1884) . وقد حملت الخرائط الأسماء الحديثة والقديمة بالإضافة إلى إبراز تضاريس البلاد وطبيعتها المناخية. وقد بلغت الخريطتان من الدقة حداً كبيراً حتى سَهُل استعمالهما في عملية تحريك الجيوش البريطانية وانتقالها عبر تلك الأراضي في الحرب العالمية الأولى. وللصندوق متحف في لندن، وهو ينشر مجلة علمية ربع سنوية منذ عام 1869 (أصبحت سنوية منذ عام 1904) ، كما نشر مؤلفات كتشنر وكوندر وغيرهما.
ولم يكن صندوق استكشاف فلسطين الوحيد من نوعه، فبعد خمس سنوات من تأسيسه أسَّس الأمريكيون الجمعية الأمريكية لاستكشاف فلسطين. وفي العام نفسه، أُسِّست جمعية الآثار التوراتية في إنجلترا. وأنشأ الألمان جمعيتين: الجمعية الألمانية للدراسات الشرقية (1897) والجمعية الألمانية للأبحاث الفلسطينية (1877) . وأسس الفرنسيون أيضاً مدرسة لدراسة الآثار. وقد كان الحافز وراء الدراسة في كل هذه الجمعيات توراتياً (صهيونياً) .
هنري فينش (1558 ـ 1625 (
Herny Finch
صهيوني غير يهودي استخدم ديباجات مسيحية. عضو في البرلمان البريطاني، وقانوني بارع. كان مهتماً جداً بالدراسات الدينية ودرس العبرية بتعمُّق.
من كتاباته غير المتصلة بالقانون كتاب شرح نشيد الأنشاد (عام 1615) الذي ناقش فيه ما أسماه «أورشليم الجديدة» . وكتب في عام 1621 أحد كلاسيكيات الصهيونية المسيحية وهو كتابه المعنون بـ الاستعارة العظيمة للعالم أو دعوة لليهود حيث دعا اليهود إلى التمسك بحقهم في الأرض الموعودة وطالب الملوك المسيحيين بأن يصغوا إلى مطالبهم ويرسلوهم إليها. واشترط لتحقيق هذا أن يتحول اليهود إلى المسيحية.(16/421)
وقدَّم فنش تفسيراً حرفياً لنصوص العهد القديم وأعاد تعريف إسرائيل، فتخلى عن التفسير المسيحي بأن إسرائيل هي مفهوم روحي وطرح مفهوماً عرْقياً ("إسرائيل التي انحدرت من صلب يعقوب") . وقد أثارت تلك الآراء انتقاداً شديداً وأدَّت إلى سجنه مع ناشر الكتاب حتى تنصلا من هذه الآراء واعترفا بخطئهما. وقد اعتبر الملك جيمس الأول أن هذا الكتاب إهانة للذات الملكية. ولنا أن نلاحظ أن بنية أفكاره قبَّالية تماماً وتبحث في كيفية تخليص العالم من اليهود من أجل خلق العالم الجديد والتمهيد لعودة المسيح والعهد الألفي الثاني.
فيليب دي لانجالري (1656-1717)
Philippe De Langallerie
صهيوني غير يهودي استخدم ديباجات مسيحية وعلمانية، وهو جنرال فرنسي مغامر كان يحلم بإقامة دولة يهودية. وقد تقلَّب دي لانجالري في الجيوش الأوربية فخدم تحت إمرة النمساويين ثم البولنديين بعد أن عمل في جيش فرنسا، ثم قدَّم عام 1716 عرضاً للأتراك (من خلال سفيرهم في لاهاي بهولندا) بأن يقود جيشاً من الحجاج المتنكرين إلى روما ثم يقتحم الفاتيكان ويلقي القبض على البابا ويسلم روما للأتراك. ومقابل ذلك، يأخذ أحد جزر البحر المتوسط التي كانت تحت سيطرة الأتراك (أو فلسطين الأرض المقدَّسة إن أمكن) من أجل توطين القبائل اليهودية المبعثرة والتائهة في هذه الأرض.
وقد ناشد دي لانجالري التجمعات اليهودية في أمستردام وهامبورج والطونا وغيرها من المدن التجارية في أوربا تعبئة وتجهيز جيش من 10 آلاف رجل. وقد أُعجب القبَّالي ألكسندر سوسكند المتزي بهذا المشروع وعرض على دي لانجالري أن يصير أمين خزانة مشروعه المسمَّى «الحكومة الدينية للكلمة المقدَّسة» .(16/422)
وفي 1716، أُلقي القبض على دي لانجالري بالقرب من هامبورج، وحوكم في فيينا حيث مات في سجنه. وتوضح سيرة حياة هذا الرجل فكرة الارتباط بين الأفكار القبَّالية والمشيحانية من جهة والنزعات الاستعمارية والمادية التي كانت قد بدأت تسود أوربا في تلك الفترة من جهة أخرى.
جوزيف سلفادور (1796-1873 (
Joseph Salvador
طبيب ومفكر فرنسي ذي أب من أصل يهودي إسباني وأم كاثوليكية فرنسية. وُلد في مونبييه حيث درس الطب، لكنه استقر في باريس حيث اشتهر بدراساته في تاريخ الأديان. استخدم سلفادور المنهج النقدي التاريخي في دراساته الدينية الكثيرة، وخصوصاً في دراساته عن المسيح. وقد حاول سلفادور في دراسته المعنونة باريس وروما والقدس أو المسائل الدينية في القرن التاسع عشر أن يضع فكراً تصالحياً يجمع بين اليهودية والمسيحية في نسق ديني إصلاحي تقدُّمي. وقد حرَّمت الكنيسة الكاثوليكية كلا الكتابين. وكان سلفادور يحلم بأن تكون القدس مركز ديانته التجميعية الجديدة. وقد أدَّى تأكيده أهمية القدس ومركزيتها إلى أن يعتبره عدد من المؤرخين الصهاينة، مثل ناحوم سوكولوف وغيره، من أسلاف الصهيونية. بيد أن سلفادور كان يعتقد في قدس روحية سماوية تمثل مركزاً دينياً لحضارة كونية لا بؤرة استقطاب لشعب منبوذ/مختار في آن واحد. وقد تأثر سلفادور في أفكاره بأفكار سان سيمون.
من بين كتبه الأخرى: شريعة موسى أو النسق الديني والسياسي للعبرانيين (1822) وتاريخ السيطرة الرومانية على يهوذا وتدمير القدس (1846 (.
جورج جاولر (1796-1869)
George Gawler
صهيوني غير يهودي يستخدم ديباجات مسيحية وعلمانية. وهو قائد عسكري بريطاني أخذ على عاتقه نشر الأفكار المرتبطة باستقرار اليهود في فلسطين. شارك في معركة ووترلو وصار بعدها حاكماً لمستعمرة جنوب أستراليا (1838 ـ 1841) .(16/423)
وكان الخطاب الديني يختلط بالخطاب السياسي والعسكري في وجدانه، فقد كان يرى أن فلسطين ملك لرب إسرائيل وأن اليهود هم شعبه القومي، وكان يذهب إلى أن العناية الإلهية وضعت سوريا ومصر بين إنجلترا من جهة وبين أعظم مناطق إمبراطوريتها ومراكز تجارتها في الهند والصين، أي أن الوضع الجغراسي (الجغرافي السياسي) المتميز لسوريا ومصر والذي يُمكِّن الإمبراطورية الإنجليزية من توظيفه والاستفادة منه هو جزء من المخطط الإلهي، وكأن الإمبراطورية الإنجليزية امتداد للتاريخ التوراتي المقدَّس. والوضع نفسه ينطبق على الشعب المختار إذ سيتحول إلى مادة استيطانية أو حرس يهودي قومي "ثم يقف على جبال إسرائيل في مستوطنات زراعية عسكرية مزدهرة تحميها ضد المعتدين".
وكان جاولر يعتقد أن توطين اليهود ("أبناء الأرض الحقيقيين") في فلسطين يمثل الحل الأمثل لمشكلة عدم الاستقرار في الشرق الإسلامي، وهو الأمر الذي تنبهت له بريطانيا بشدة بعد الحروب النابليونية، كما يمثل الحل الأمثل للمشكلة اليهودية في أوربا. وقد ربط جاولر بين هذه المستوطنات وبين المصالح البريطانية في المنطقة في كتيبه تهدئة سوريا والشرق: ملاحظات واقتراحات عملية للإسراع بإقامة مستعمرات يهودية في فلسطين وهو العلاج الناجع والمعقول لمآسي تركيا الآسيوية (1845) . وفي كتيبه الآخر تحرير اليهود ضرورة لحفظ الطبيعة البروتستانتية للإمبراطورية ومن أهم دعائم الأمة البريطانية (1847) .(16/424)
وكان جاولر يعتقد، بسبب تجربته الأسترالية، في إمكانية توطين فلسطين (التي كان يراها أرضاً بلا شعب) في غضون بضعة أعوام. وسافر مع السير موسى مونتفيوري إلى فلسطين عام 1849 ونجح في الحث على المشروع وفي بناء مستوطنات زراعية قرب يافا، وقد رفض معظم اليهود البريطانيين أفكار جاولر الاستيطانية. ويُعتبَر جاولر مثالاً كلاسيكياً للصهيونية غير اليهودية التي انتشرت في أوربا مع بداية عصر الاستعمار، وخصوصاً مع نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر. ومن الواضح أنه كان يهدف لحماية المصالح البريطانية في الهند وفي المستعمرات الجديدة عن طريق خَلْق منطقة دفاع من المستوطنين اليهود الموالين للإمبراطورية لمواجهة أعداء الإمبراطورية.
واردر كريسون (1798-1860 (
Warder Cresson
صهيوني مسيحي يهودي، وشخصية محورية في تاريخ الصهيونية. كان كريسون شخصية قلقة، فهو بالمولد من أتباع طائفة الكويكر ثم أصبح من المورمون، وانضم إلى فرق بروتستانتية أخرى، وبدأ اهتمامه باليهودية بعد أن قابل الحاخام الإصلاحي إسحق ليزر.
بذل كريسون جهوداً كثيرة حتى عُيِّن أول قنصل للولايات المتحدة في فلسطين. ولكنه اتُهم بالجنون فأُلغي تعيينه. ولكن القرار لم يَصدُر إلا بعد أن كان كريسون قد رحل إلى فلسطين!
كتب كريسون عدة مقالات ضد جماعة لندن لتنصير اليهود. وفي عام 1848، مع نهاية خدمته كقنصل، اعتنق اليهودية وغيَّر اسمه إلى ميخائيل بوعاز إسرائيل.
وحينما عاد كريسون إلى الولايات المتحدة عام 1849 ليسوي أموره تمهيداً للاستيطان النهائي في فلسطين، حاولت أسرته أن تُوقفه بحجة أنه مجنون، ولكنه كسب القضية المرفوعة ضده. واستوطن فلسطين عام 1851 حيث حاول تأسيس مستوطنة في وادي رفائيم بمساعدة موسى مونتفيوري وآخرين ولكنه فشل في مسعاه. وقد كان كريسون يرتدي ملابس اليهود السفارد الشرقية وتزوج من يهودية سفاردية وعاش حسب التعاليم الأرثوذكسية.(16/425)
ومن مؤلفاته الشاهدان: موسى وإلياهو، وشجرة الزيتون الطيبة، والقدس مركز العالم بأسره ومصدر فرحه (وقد نُشرت جميعاً عام 1849) . كما نشر عام 1852 كتاباً بعنوان مفتاح داود: داود الماشيَّح الحق. وقد بيَّن في كل مؤلفاته أن الوجود اليهودي في فلسطين لابد أن يكون ذا طابع زراعي. وقد تنبأ كريسون بكثير من المشاكل التي واجهها الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، ثم الدولة الصهيونية، مثل معارضة الحاخامات الأرثوذكس إنشاء دولة يهودية ومعارضة السكان الأصليين. وعلى هذا، اقترح إقامة مستوطنات زراعية مسلحة قادرة على القتال وعلى الدفاع عن نفسها (وهذا ما نفَّذه الصهاينة فيما بعد) .
آدم مكيفتش (1798-1855)
Adam Mickiewicz
صهيوني نصف يهودي نصف مسيحي يستخدم ديباجات مسيحية. وهو شاعر بولندي من أصل يهودي (فرانكي) وُلد في ليتوانيا. انخرط في نشاط الحركات الطلابية القومية في جامعة فلنا، فطُرد من البلاد وأُبعد إلى روسيا. وفي عام 1829، سُمح له بالسفر إلى الخارج وبدأ في التنقُّل من بلد أوربي إلى آخر حتى وفاته. كتب كبرى مسرحياته دزيادي (3 أجزاء) عام 1832 حيث نُشرت بالإنجليزية تحت عنوان ليلة الأسلاف (1928) ، وقد رسم فيها صورة لمنقذ بولندا في المستقبل (ويُقال إنه كان يشير إلى نفسه) إذ رأت إحدى الشخصيات في المسرحية في الرؤيا أن المخلِّص سيكون ابن أم أجنبية ويجري في عروقه دم الأبطال القدامى، واسمه «أربع وأربعون» . وكانت أم مكيفتش من أسرة من أتباع جيكوب فرانك، والقيمة الرقمية لهذا الاسم (هي 44. وهذه جميعاً أفكار قبَّالية تعرَّف عليها مكيفتش لا من القبَّالاه اليهودية وإنما من القبَّالاه المسيحية (من أعمال المتصوف المسيحي لوي كلود دي سان مارتن ومن كتابات سويدنبورج ((16/426)
ويرى مكيفتش في أحد أعماله كتب الأمة البولندية والحج البولندي (1842) أن اليهود والبولنديين شعب مختار. ولذا، فإن اليهودي المثالي في ملحمة مكيفتش بان تاديوس (1834) هو وطني بولندي مفعم بالحماس لبولندا. وقد عبَّر مكيفتش عن تعاطفه مع اليهود وعن تطلُّعهم للعودة في موعظة ألقاها في المعبد اليهودي في باريس.
وكان مكيفتش يحلم بتنصير اليهود ولكنه لاحَظ أن يهود فرنسا يتركون اليهودية ويندمجون في المجتمع العلماني ولا يتنصَّرون. وحينما نشبت حرب القرم توجَّه مكيفتش إلى القسطنطينية ليساعد الفرق البولندية للحرب ضد الروس. وحاول تنظيم فرقة يهودية تُقيم الشعائر اليهودية، وكان مساعده الأساسي في ذلك طبيب فرنسي يهودي، وكان هو ومساعده يتصوران أن مثل هذه الفرقة اليهودية قد تكون بمنزلة الخطوة الأولى نحو بَعْث الأمة اليهودية. ولكن مكيفتش مات قبل أن يُكمل مهمته. والواقع أن مكيفتش مثل جيد لتداخل التراث القبَّالي اليهودي والتراث المسيحي بحيث تصبح التفرقة بين أيٍّ منهما مستحيلة، كما أنه يبين كيف أن النزعة الفرانكية المشيحانية العسكرية تحوَّلت إلى مشروع استيطاني.
إرنست لاهاران (؟ -؟ (
Ernest Laharanne
صهيوني غير يهودي يستخدم ديباجات علمانية. وكان محرراً لصحيفة جمهورية النزعة أيَّدت فكرة التجارة الحرة وعمل كأمين لنابليون الثالث. وقد انتعشت الصهيونية غير اليهودية أيام إمبراطورية نابليون الثالث (1852 ـ 1870) عندما تجددت النشاطات الاستعمارية على نطاق أشد. وكان لنابليون الثالث طموحات في الشرق الأوسط. وقد أقحم فرنسا في حرب القرم مع روسيا متذرعاً بحماية الرهبان الكاثوليك في الإمبراطورية العثمانية. وقد شاع أن نابليون الثالث كان يفكر في تنصيب أحد أفراد أسرة روتشيلد ملكاً على القدس (ولكن رد فعل صحافة أعضاء الجماعة اليهودية لهذه الشائعة كان سلبياً إلى أقصى حد) .(16/427)
كتب لاهاران كتيبه المعنون بـ المسألة الشرقية الجديدة ـ إمبراطورية مصر والعرب: إعادة تكوين القومية اليهودية عام 1860 يخبر فيه اليهود بأن فرنسا قد حررتهم وجعلتهم مواطنين وإخوة ويخبرهم أيضاً أنهم شعب ذو شخصية عبقرية مستقلة، فهو شعب عضوي لم يندمج في الحضارة الغربية لأنه مرتبط بالشرق حيث يجب أن يذهبوا حاملين "أنوار أوربا" ليكونوا بمنزلة الوسطاء الذين سيفتحون الشرق للغرب عن طريق تكوين دولة يهودية في الأرض الواقعة بين مصر وتركيا، تحت رعاية فرنسا، وبمؤازرة رجال البنوك والتجار اليهود في العالم، ويجرى اكتتاب مالي يهودي عام يتيح لليهود المجال "لشراء وطنهم القديم" من الدولة العثمانية. وقد بيَّن لاهاران الفوائد التي ستعود على الغرب من توطين اليهود في فلسطين: "طريق جديد ومُعبَّد للحضارة الغربية وأسواق جديدة للصناعة الغربية". وقد استمر لاهاران في الدعوة لهذه الفكرة بحماس شديد وربط بينها وبين الأفكار القومية التي كانت تلاقي إعجاب نابليون الثالث ورجال بلاطه الاستعماريين.
ولاهاران، شأنه شأن كل دعاة المشروع الصهيوني، يهاجم العرب (سكان فلسطين الأصليين) ليبرر عملية الغزو (ومع هذا كان لاهاران أحد ضيوف الشرف لدى الخديوي إسماعيل في حفل افتتاح قناة السويس عام 1869) .
ولاهاران نموذج للمفكر الاستعماري المليء بالمتناقضات الذي يحاول بشتى الطرق العملية الوصول لهدفه الأوحد وهو السيطرة والغزو وتحقيق أقصى منفعة مادية على حساب الآخرين وباستغلال الآخرين عرباً كانوا أم يهوداً.
وهو أيضاً مثال للارتباط بين الفكر القومي الأوربي في القرن التاسع عشر والفكر الاستعماري، وللرؤية القومية في إطار التوسع والغزو والإمبراطورية العظمى التي كان يمثلها نابليون الثالث. وقد قرأ المفكر الصهيوني العمالي موسى هس كتاب لاهاران وأُعجب به.
لورد شافتسبري (1801-1885 (
Lord Shaftesbury(16/428)
هو أنتوني أشلي كوبر، لورد شافتسبري السابع. واحد من أهم الشخصيات الإنجليزية في القرن التاسع عشر، ومن أهم المصلحين الاجتماعيين. يقول عنه المؤرخ الإنجليزي تريفليان إنه كان يُعَدُّ أحد أهم أربعة أبطال شعبيين في عصره. وقد كان شافتسبري، بالإضافة إلى هذا، شقيق زوجة رئيس الوزراء بالمرستون الذي كان يثق فيه تماماً ويأخذ بمشورته. وقد كان شافتسبري زعيم حزب الإنجيليين. ولذا، فإننا نجد أن اليهود كانوا أحد الموضوعات الأساسية في فكره كما كانوا محط اهتمامه الشديد. وكان خطاب شافتسبري خليطاً مدهشاً من العناصر الاجتماعية والأساطير الدينية حيث تَداخَل في عقله الوقت الحاضر والزمان الغابر والتاريخ المقدَّس، وقد كان هذا الخطاب يَصدُر عن فكرة الشعب العضوي المنبوذ بشكل لم يتحقق كثيراً في كتابات أي صهيوني آخر (يهودياً كان أم غير يهودي) . ينظر شافتسبري إلى اليهود من داخل نطاق العقيدة الألفية والاسترجاعية بعد علمنتها تماماً، فاليهود يكوِّنون بالنسبة إليه شعباً عضوياً مستقلاًّ وجنساً عبرياً يتمتع باستمرار لم ينقطع، ولكنهم لهذا السبب أصبحوا جنساً من الغرباء (المنبوذين) المتعجرفين سود القلوب المنغمسين في الانحطاط الخلقي والعناد والجهل بالإنجيل. وهم ليسوا سوى "خطأ جماعي". ولكل هذا، عارض شافتسبري مَنْح اليهود حقوقهم المدنية والسياسية في إنجلترا.(16/429)
ولكن ثمة علاقة عضوية بين هذا الشعب وبين بقعة جغرافية محددة هي فلسطين. ولهذا، فإن بَعْثهم لا يمكن أن يتم إلا هناك. كما أن عودتهم إلى هذه البقعة أمر ضروري حتى تبدأ سلسلة الأحداث التي ستؤدي إلى العودة الثانية للمسيح وخلاص البشر. وبرغم الديباجات الدينية فإن شافتسبري، شأنه شأن مسيحيي عصره العلمانيين، كان يؤمن بأن الوسيلة الإنسانية يمكن أن تحقق الأهداف الربانية (وهذا عكس الموقف المسيحي واليهودي التقليدي) . وقد عبَّر شافتسبري عن هذه الازدواجية في الخطاب في عبارته: "إن أي شعب لابد أن يكون له وطن، الأرض القديمة للشعب القديم"، وهي صيغة علمانية خافتة لشعار "الأرض الموعودة للشعب المختار". ثم طوَّر هذا الشعار ليصبح "وطن بلا شعب لشعب بلا وطن"، فهو إذن صاحب الشعار الصهيوني الشهير.
وقد نشر شافتسبري عام 1838 في مجلة كوارترلي ريفيو (وهي من أكثر المجلات نفوذاً في ذلك العصر) عرضاً لكتب أحد الرحالة إلى فلسطين. وقد بدأ المقال بالديباجة الدينية المعتادة عن قضية اليهود ثم تناول بعد ذلك تربة فلسطين ومناخها باعتبارها مناسبة لنمو محصولات تتطلبها احتياجات إنجلترا مثل القطن والحرير وزيت الزيتون. ويبين شافتسبري أن كل المطلوب لإنجاز هذه العملية هو رأس المال والمهارة، وكلاهما سيأتي من إنجلترا، وخصوصاً بعد تعيين قنصل لإنجلترا في القدس إذ سيؤدى وجوده إلى زيادة أسعار الممتلكات. ثم يقترح عند هذه النقطة توظيف اليهود على أن يكون القنصل البريطاني الوسيط بينهم وبين الباشا العثماني، حتى يصبحوا، مرة أخرى، مزارعين في يهوذا والجليل. وهذا الاقتراح يحوي بعض عناصر الصيغة الصيهونية الأساسية (شعب عضوي منبوذ ـ نافع ـ ينقل خارج أوربا ـ لتوظيفه لصالحها ((16/430)
ولكن أهم وثائق الصهيونية غير اليهودية وأكثرها شفافية (إذ تتضح فيها الصيغة الصهيونية الأساسية بكل وضوح وجلاء) هي الوثيقة التي قدَّمها شافتسبري إلى بالمرستون (25 سبتمبر 1840) لاسترجاع اليهود وحل المسألة الشرقية وتطوير المنطقة الممتدة من جهة الرافدين حتى البحر الأبيض المتوسط (وهي البلاد التي وعد الإله بها إبراهيم حسب أحد تفسيرات الرؤية التوراتية) . ويؤكد شافتسبري في مقدمة المذكرة أن المنطقة التي أشار إليها آخذة في الإقحال بسبب التناقص في الأيدي العاملة، ولذا فهي تتطلب رأس مال وعمالة. ولكن رأس المال لن يأتي إلا بعد توفير الأمن. ولهذا، فلابد أولاً من اتخاذ هذه الخطوة، ثم يشير بعد ذلك إلى أن حب اختزان المال والجشع والبخل ستتكفل بالباقي، فهي من أهم دوافع الإنسان (الوظيفي) ، ولذا فهي ستدفع به إلى أية بقعة يمكن أن يحقق فيها أرباحاً (ومثل هذه الضمانات ستشجع كل محب للمال عنده الحماس التجاري، أي أعضاء الجماعات الوظيفية ((16/431)
كل هذه المقدمات العامة تقود شافتسبري إلى الحديث عن «العنصر العبري» أو الشعب العضوي المنبوذ (باعتباره جماعة وظيفية استيطانية) ثم يقترح أن القوة الحاكمة في الأقاليم السورية (دون تحديد هذه القوة) لابد أن تحاول وَضْع أساس الحضارة الغربية في فلسطين وأن تؤكد المساواة بين اليهود وغير اليهود فيها. وتحصل هذه القوة على ضمانات الدول العظمى الأربع عن طريق معاهدة ينص أحد بنودها على ذلك، وسوف يشجع هذا الوضع الشعب اليهودي العضوي المعروف بعاطفته العميقة نحو فلسطين حيث يحمل أعضاؤه ذكريات قديمة في قلوبهم نحوها. وهذا الشعب اليهودي العضوي "جنس معروف بمهاراته وثروته المختبئة ومثابرته الفائقة. وأعضاء هذا الجنس يمكنهم أن يعيشوا في غبطة وسعادة على أقل شيء، ذلك أنهم ألفوا العذاب عبر العصور الطويلة. وحيث إنهم لا يكترثون بالأمور السياسية، فإن آمالهم تقتصر على التمتع (بالأموال) التي يمكنهم مراكمتها ... إن عصوراً طويلة من العذاب قد غرست في هذا الشعب عادتي التحمل وإنكار الذات". ويضيف شافتسبري: "إذا رأينا عودتهم في ضوء استعمار فلسطين، فإن هذه الطريقة هي أرخص الطرق وأكثرها أمناً في الوفاء بحاجات هذه المناطق غير المأهولة بالسكان. وهم سيعودون على نفقتهم الخاصة دون أن يُعرِّضوا أحداً ـ سوى أنفسهم ـ للخطر"، أي أنهم أداة آمنة كفء وسيخضعون للشكل القائم للحكومة، فهم لم يصوغوا أية نظرية سياسية مُسبَقة يهدفون إلى تطبيقها. وقد تم ترويضهم في كل مكان تقريباً على الخضوع الضمني (الهادئ) للحكم المطلق ولا تربطهم رابطة بشعوب الأرض، ولذا لابد لهم من الاعتماد على قوة ما… وسيعترف اليهود بملكية الأرض لأصحابها الحقيقيين… حيث سيكتفون بالحصول على الفائدة من خلال الطرق المشروعة مثل الإيجار والشراء، ولن يتطلب المشروع أية اعتمادات مالية من القائمين على المشروع، ولهذا فإن ثمرتها ستعود على العالم المتحضر (أي الغربي) بأسره.(16/432)
ورغم أن هذه المذكرة قد كُتبت قبل عشرين عاماً من ميلاد هرتزل، فإن كل ملامح المشروع الصهيوني موجودة فيها، وخصوصاً فكرة توظيف وضع اليهود الشاذ داخل المجتمعات الغربية لخدمة هذه المجتمعات، وذلك عن طريق نَقْلهم ليصبحوا كتلة عضوية واحدة لا تخدم دولة غربية واحدة وإنما الغرب بأسره.
وفي عام 1876، كتب شافتسبري مقالاً آخر يطرح فيه مرة أخرى أفكاره الصهيونية بدقة ووضوح بالغين، فقد أكد أن سوريا وفلسطين ستصبحان شديدتي الأهمية من الناحيتين الجغرافية والتجارية بعد فترة وجيزة. وبعد الحديث عن الأمجاد الغابرة القديمة، يتساءل شافتسبري فيقول: من تجار العالم بالدرجة الأولى؟ والسؤال مجرد سؤال خطابي، لكن الإجابة معروفة، ثم يستطرد: "إن فلسطين في حاجة إلى السكان ورأس المال، وبإمكان اليهود أن يعطوها الشيئين معاً، وإنجلترا لها مصلحة في استرجاعهم لأنها ستكون ضربة لإنجلترا إن وُضع منافسوها في سوريا. لكل هذا، يجب أن تحتفظ إنجلترا بسوريا لنفسها كما يجب أن تدافع عن قومية اليهود وتساعدهم حتى يعودوا فيكونوا بمنزلة الخميرة لأرضهم القديمة. إن إنجلترا أكبر قوة تجارية وبحرية في العالم، ولهذا فلابد لها أن تضطلع بدور توطين اليهود في فلسطين ... وهذه ليست تجربة مصطنعة ... إنها الطبيعة ... إنه التاريخ".
ويُلاحَظ أن الديباجة الدينية هنا قد اختفت تماماً وأن الديباجة الجغراسية (موازين القوى ـ الإمبراطورية ـ الموقع الجغرافي ـ الأهمية التجارية العسكرية) هي الأهم.(16/433)
وقد قام شافتسبري بعدة محاولات لتحويل صهيونيته الفكرية إلى صهيونية سياسية، فتحدَّث مع بالمرستون عن استخدام اليهود كرأس حربة لبريطانيا في الشرق الأوسط. ففتح بالمرستون قنصلية في القدس (وهذه بداية الصهيونية الاستيطانية) بناءً على إلحاحه على ضرورة مقاومة مصالح الدول الأخرى وحتى تجد بريطانيا من تحميه (فقد كانت فرنسا تحمي الكاثوليك وكانت روسيا تحمي الأرثوذكس) . وعُيِّن وليام ينج قنصلاً لتقديم الحماية لليهود والطوائف المسيحية، وهكذا قُدِّمت الحماية (أي التبعية لإنجلترا) لأي يهودي دون التثبت من أصله. وقد وافق الروس بين عامي 1847 و 1849 على أن يقوم الإنجليز بحماية اليهود الروس، المادة البشرية التي ستستخدمها الصهيونية الغربية. وكما يقول سوكولوف، فإن حماية اليهود جزء من اهتمام إنجلترا السياسي بالمسألة الشرقية.
كما أن شافتسبري حث بالمرستون على أن يكتب للسفير البريطاني في إستنبول عن فكرة الدولة اليهودية. وقد تحرَّك بالمرستون بناء على نصيحة شافتسبري وأرسل خطاباً بهذا المعنى. وحتى بعد أن ترك بالمرستون الوزارة، استمر شافتسبري في نشاطه. وبدأ في وَضْع الأساس العملي لتحقيق حلمه في استرجاع اليهود إلى فلسطين تحت رعاية إنجلترا البروتستانتية، فساهم في جهود تأسيس أسقفية ألمانية إنجليزية تهدف إلى استرجاع اليهود. وقد اختير حاخام يهودي مُتنصِّر أسقفاً لها. وكان شافتسبري يَعُدُّ هذا تتويجاً لجهود جمعية اليهود، ذلك أن تأسيس الأسقفية كان بمنزلة العلامة على ابتداء عودة اليهود.(16/434)
وقد أصبح شافتسبري رئيساً لصندوق استكشاف فلسطين. ورغم أنه يؤكد في كتاباته دائماً أن روح العودة موجودة عند اليهود منذ ثلاثة آلاف عام، وأن الأمة اليهودية أمة عضوية تحن إلى وطنها ولابد أن تحصل علىه، إلا أنه يُلاحَظ أن اليهود الحقيقيين الذين يقابلهم في الحياة تنقصهم الوحدة التي يفترض هو وجودها حسب رؤيته الإنجيلية الحرفية. وعلى كلٍّ، فإنه يذكر في أحد خطاباته إلى بالمرستون أن اليهود "غير متحمسين للمشروع الصهيوني، فالأغنياء سيرتابون فيه ويستسلمون لمخاوفهم، أما الفقراء فسيؤخرهم جَمْع المال في بلاد العالم، وسوف يفضل بعضهم مقعداً في مجلس العموم في بريطانيا على مقعد تحت أشجار العنب والتين في فلسطين. وقد تكون هذه أحاسيس بعض الإسرائيليين الفرنسيين، أما يهود ألمانيا الكفار فيُحتَمل أن يرفضوا الاقتراح".
وعلى هذا، فإن شافتسبري قد اكتشف المشكلة الأساسية في الصيغة الصهيونية الأساسية وهي أن المادة البشرية المُستهدَفة لن تخضع بسهولة لأحلامه الإنجيلية الحرفية الاستيطانية ولن تقبل ببساطة أن يتم انتزاعها من أوطانها.
جيمس فين (1806-1872 (
James Finn
صهيوني غير يهودي كان يعمل قنصلاً بريطانياً في القدس من 1845 حتى 1862. كان من رواد الدعوة لتوطين اليهود في فلسطين واعتاد مصادقة اليهود ووَضْعَهم تحت الحماية البريطانية. ففي عام 1849 أقنع وزارة الخارجية البريطانية بأن تزود يهود روسيا (في فلسطين) بالحماية بعد أن رفضت الدولة الروسية أن تفعل ذلك. وقد انفق أموالاً كثيرة على تمويل مزارع ومشروعات استيطانية يهودية، ولكنه أفلس بعد فترة، كما اشترك في نشاطات تبشيرية وحاول توطين بعض اليهود المتنصرين في قرية بيت لحم لكنه تخلى عن هذا المشروع عام 1864 بسبب رفض اليهود المشاركة في أيٍّ من هذه المشاريع. وكانت زوجته هي الأخرى متحمسة للمشروع الصهيوني، ولذا أسست جمعية تشجيع العمل الزراعي اليهودي في الأرض المقدَّسة.(16/435)
ألَّف فين عدة كتب عن اليهود نشرتها زوجته منها تقليب الأزمنة (1876) ، ويهود الصين (1849) ، ومستعمرة اليهود اليتيمة في الصين (1872) ، والسفارد (1841 (
تشارلز تشرشل (1807-1869 (
Charles Churchill
ضابط إنجليزي صهيوني من أوائل من دعوا إلى عودة اليهود إلى فلسطين. وهو من أسرة تشرشل الإنجليزية الشهيرة التي عملت في خدمة التاج البريطاني فترة طويلة، سواء في الجيش البريطاني أو في شركة الهند الشرقية.
وُلد في مدراس بالهند عام 1807، والتحق بالجيش البريطاني منذ شبابه المبكر (1827) وخدم في البرتغال وإسبانيا في الفترة بين عامي 1827 و 1836 حيث شارك في الحروب الأهلية التي اندلعت في شبه جزيرة أيبريا، وترقَّى في سلك الجندية سريعاً.
شهدت تلك الفترة صعود قوة مصر إبان عهد محمد علي حيث ساعدت القوات المصرية السلطان العثماني على إخماد ثورة اليونان رغم تَعرُّض الأسطول المصري حديث العهد للغرق في نافارين بعد هجوم أساطيل الدول الأوربية عليه. وبعد انتصار القوات المصرية على القوات العثمانية عام 1838 وتسليم فوزي باشا قائد الأسطول العثماني سفنه لمحمد علي، اجتمعت الدول الأوربية في لندن وأرسلت إنذاراً لمحمد علي للانسحاب من الأراضي العربية التي كانت تابعة لتركيا في سوريا والحجاز وكريت واليمن. وقد رفض محمد علي الإنذار، فأرسلت الدول الأوربية مجتمعة حملة على بيروت عام 1840. وفي 3 نوفمبر 1840، سقطت عكا، وكان تشارلز هنري تشرشل أحد الضباط المشاركين في الحملة. وقد تزامنت هذه الأحداث مع قضية داخلية صغيرة، إلا أن ما يدور في المنطقة نفسها جعلها قضية كبيرة ألا وهي الحادثة التي سُمِّيت بـ «قضية دمشق» . فقد اختفى راهب كاثوليكي وخادمه، وقام القنصل الفرنسي المعادي لليهود بإثارة حاكم دمشق ضد مجموعة من العائلات اليهودية على اعتبار أن اليهود قد قتلوا الراهب وخادمه، ووجهت لليهود تهمة الدم.(16/436)
وقام شريف باشا حاكم دمشق بسَجْن هؤلاء اليهود. وقد أرسلت بريطانيا بعثة برئاسة سير موسى مونتفيوري لمصر حيث نجحت تلك البعثة في تحرير السجناء بالضغط على محمد علي، وخصوصاً مع وصول القوات الأوربية إلى الشام.
وفي هذه الأثناء أيضاً، قام روبرت بيل ولورد بالمرستون (عضوا البرلمان البريطاني) بالدعوة لإرسال اليهود إلى فلسطين، وخصوصاً بعد تحرير الأراضي المقدَّسة من أيدي المسلمين. وانتشرت في إنجلترا الدعوة إلى إعادة "شعب إسرائيل إلى أرض إسرائيل" سواء من منطلق استعماري أو من منطلق ديني أصولي (حرفي) حيث تُعتبر عودة اليهود بداية الخلاص.
وقد لاقت تلك الدعاوى هوى في نفس تشرشل. ومع عودة مونتفيوري، تقابل الرجلان في مالطة. وأعرب تشرشل في هذه المقابلة عن إحساسه العميق بأن الأقدار قد رتبت هذا اللقاء في هذا المكان بالذات في إشارة واضحة لفرسان حملات الفرنجة وغزوهم فلسطين. وقد حمَّله مونتفيوري رسائل وخطابات أمان إلى يهود دمشق. وفي دمشق دعاه رئيس الجماعة اليهودية التاجر والمالي الكبير روفائيل فارحي إلى حفل استقبال كبير حيث ألقى تشرشل كلمة عبَّر فيها عن رغبته وأمله بل يقينه في أن "هذه الوديان والسهول الجميلة التي يقطنها الآن العرب الجوالون وبسببهم تعاني من الخراب بعد أن كانت مثالاً للوفرة والرخاء وتملأ أرجاءها أغاني بنات صهيون، ستعود لإسرائيل في ساعة قريبة حيث إن اقتراب الحضارة الغربية من هذه الأرض يمثل فجر نهضتها الجديدة. فلتستعد الأمة اليهودية مكانتها بين الشعوب، وليُثبت أحفاد المكابيين أنهم مثل أسلافهم العظماء".(16/437)
وقد كتب تشرشل خطاباً لمونتفيوري في الفترة نفسها يطلب فيه أن يأخذ اليهود زمام الموقف في أيديهم وأن يبادروا باتخاذ الخطوات الأولية نحو الاستيطان وأن على جميع اليهود تأييد مشروع الاستيطان، وخصوصاً أن القوى الأوربية ستساعدهم في مساعيهم. كما بيَّن تشرشل في خطابه أن مساندة إنجلترا للدولة العثمانية هو زيفٌ كبير وأنه يجب إنقاذ فلسطين من براثنهم. ويمكن القول بأن خطاب تشرشل يشبه إلى حدٍّ كبير خطاب نابليون بونابرت لليهود عام 1799، وهذا طبيعي فقد كان الكولونيل البريطاني الشاب معجباً للغاية بالكورسيكي المغامر وكان يرى في نفسه أحياناً المقدرة على تحقيق هذه الطموحات التي لم يحققها نابليون، وخصوصاً مع إحساسه بأن البريطانيين قد حققوا ما فشل فيه الفرنسيون ألا وهو غزو عكا. من ثم، فقد تكلَّم باسم حكومة جلالة الملكة مستخدماً خطاباً قريباً من خطاب نابليون. ومع هذا، يمكن القول بأن خطاب تشرشل أكثر علمانية من خطاب نابليون إذ يُلاحَظ أن الديباجات الدينية فيه خافتة وباهتة للغاية.
وقد أثارت كلمة تشرشل ضجة كبيرة في الأوساط السياسية اليهودية الأوربية نشرتها جرائد يهودية ألمانية ووصفها البعض بأنها "بداية حقبة جديدة وخاتمة سعيدة لملحمة دمشق". وكثُر ظهور أفكار مشابهة في كل أنحاء أوربا داعية شعب صهيون للنهوض وإقامة الهيكل في شكل أفخم من ذي قبل.(16/438)
وبدأ تشرشل على الفور في اتخاذ خطوات عملية تتعلق بتنفيذ رؤيته، فنصَّب نفسه (وهو القائمقام البريطاني) حامياً لليهود في دمشق حيث بدأ يعاملهم بوصفهم نواة الأمة اليهودية المُتخيَلة. ولأنه لم يقابل نجاحاً وسط صفوف يهود سوريا والشام عامة، توجَّه إلى يهود أوربا فأرسل خطاباً للسير مونتفيوري طالباً منه المساعدة لإنقاذ اليهود من آلامهم وتعبئتهم للهجرة إلى فلسطين باعتبار هذا حلاًّ سعيداً للمسألة الشرقية. ووضع في هذا الخطاب خطة توطينية استيطانية كاملة حيث يساهم يهود أوربا الأغنياء في توطين أقرانهم الفقراء في فلسطين، وأوضح أنه في مثل هذه المشروعات الضخمة يضحي المرء بكل عزيز لديه من مال ونفس. كما أكد أن البدو والأعراب قاطني هذه المنطقة لن يشكلوا عقبة كبيرة في وجه المشروع، بل إن المشروع سيمثل قلعة تدرأ خطر هجمات البدو أو أطماع الطامحين أمثال محمد علي.
ورغم أن مونتفيوري تحمَّس شخصياً للمشروع إلا أن مجلس ممثلي يهود بريطانيا تغاضى عنه. وفي هذه الأثناء، انعقد مؤتمر لندن لتقرير مصير الشرق حيث قرر قصر حكم محمد علي على مصر فقط، وعودة الشام وباقي الأراضي العربية للحكم التركي. وكانت قرارات مؤتمر لندن مخيبة جداً لآمال تشرشل الذي كان قد أصبح قنصل بريطانيا في دمشق. ورغم خيبة أمله وإحباطه، إلا أنه استمر في أداء دوره كحام لليهود ومدافع عنهم، الأمر الذي أثار حفيظة حاكم دمشق التركي، وظهر العداء بينهما بوضوح في خطاب أرسله تشرشل للقنصل البريطاني في بيروت أعرب فيه عن اعتقاده بأن عودة الترك لحكم دمشق والشام هو انتصار للرجعية المسلمة.(16/439)
وبالمقابل، اتهمه الحاكم التركي بسوء السلوك وإثارة الاضطرابات والتخابر مع الدروز، وقد أدَّى هذا إلى إعادته إلى إنجلترا. ولكن هذا أتاح له فرصة أخرى للقاء السير مونتفيوري الذي اعتذر بأن مؤتمر لندن عرْقل خطة عودة اليهود لفلسطين التي اقترحها تشرشل. لكن تشرشل أخبره بأن ثمة خطة بديلة لها. وأرسل تشرشل للسير مونتفيوري خطاباً مفصلاً يتضمن هذه الخطة اقترح فيه خَلْق منصب خاص لمعتمد بريطاني لشئون اليهود، كما طالب يهود أوربا وبريطانيا بالضغط لخلق مثل هذا المنصب، ودعا إلى تكوين منظمة يهودية خاصة تمثل الشعب اليهودي تمثيلاً دبلوماسياً وسياسياً. كما عبَّر تشرشل عن أمله في أن يؤدي هذا إلى الإسراع بخلاص الشعب اليهودي. وكان رد مونتفيوري على هذه المقترحات سلبياً جداً حتى أنه لم يذكرها في مذكراته بل لم يُشر إليها. في المقابل، عندما أبدى تشرشل رغبته في العودة إلى الشام، سلمه مونتفيوري، وهو المالي الكبير، مبلغاً من المال لمساعدة يهود الشرق. لكن هذا الرفض المؤدب من قبَل مونتفيوري الاندماجي لخطط تشرشل التوطينية كان نهاية المشاريع الصهيونية عند تشرشل.
وعاد تشرشل إلى بيروت عام 1842 وتزوج سيدة لبنانية واستقر هناك حيث عمل بالتجارة والمضاربات العقارية. وكانت له علاقات طيبة مع الدروز والمارونيين وتزوجت بناته من أفراد من أسرة شهاب الشهيرة.
وألَّف تشرشل كتاباً بعنوان جبل لبنان عام 1852 دعا فيه الحكومة البريطانية لمساعدة اللبنانيين على التخلص من الحكم التركي.(16/440)
وتَدخَّل تشرشل في السياسة الداخلية اللبنانية والصراعات بين الدروز والمارونيين مُتقلِّباً بين الفرقتين حسب قوة كل منهما. ومع مذابح عام 1860، أصدر تشرشل كتاباً آخر بعنوان الدروز والمارونيون تحت الحكم التركي من 1840 حتى 1860 اتهم فيه الدول الأوربية بالتقاعس عن أداء مهمتها لإنقاذ المنطقة من حكم الأتراك. وقد تعرَّف تشرشل في هذه الآونة إلى شخصية كان لها أثر كبير فيما بقى له من أيام هي الأمير عبد القادر الجزائري الذي ساهم بجهد كبير في إنهاء مذابح الشام عام 1860. وألَّف تشرشل عنه كتابه الأخير حياة عبد القادر الذي نُشر عام 1867 بإهداء للإمبراطور نابليون الثالث. وكان هذا الإهداء محيراً للجميع، فعبد القادر الجزائري كان عدو فرنسا اللدود كما كان تشرشل نفسه. ولكن يبدو أن خيبة أمل تشرشل في مشاريعه التوطينية والاستعمارية على يد البريطانيين هي التي دعته لهذا الإهداء. وتُوفي تشرشل عام 1869 في لبنان.
وتُمثِّل شخصية تشرشل وحياته الصاخبة نموذج عصره أصدق تمثيل، حيث اختلطت الأحلام الاستعمارية بالرؤى المشيحانية.
ولكن، لم يكن بإمكان تشرشل أن يحقِّق أحلامه وطموحاته المشيحانية الاستعمارية والدولة الإسلامية العثمانية ما زالت موجودة وقوية إلى حدٍّ ما. إلا أن هذا لم يمنعه من الاستقرار في الشرق ومواصلة محاولة لعب دور داخل في سياسته.
والجدير بالذكر أن الصهاينة المحدثين يعتبرون تشرشل أحد الآباء الأوائل للحركة الصهيونية، وهو بالفعل كذلك، فخطبه وكتاباته تضم كل أبعاد الفكر الصهيوني، أما تحركاته الدبلوماسية فتحمل كل سمات التحركات الصهيونية فيما بعد، من إدراك ضرورة البحث عن راع استعماري للمشروع الصهيوني إلى ضرورة ضرب الدولة العثمانية. كما أنه أدرك الطبيعة الوظيفية للدولة الصهيونية، وضرورة محاولة الاستفادة من الأقليات في المنطقة، وأدرك أيضاً ضرورة أن يكون هناك صهيونيتان: صهيونية استيطانية وصهيونية توطينية.(16/441)
بنديتو موسولينو (1809-1885 (Benedetto Musolino
صهيوني غير يهودي يستخدم ديباجات علمانية، وسياسي إيطالي ورجل دولة تنبأ بعودة اليهود إلى فلسطين. وُلد في بيزو، وعاش شبابه منفياً، ثم انضم لجيش غاريبالدي وخدم كعضو في برلمان إيطاليا منذ عام 1861. ألَّف سبعة كتب في الفلسفة والقانون والعدالة الاجتماعية. زار فلسطين أربع مرات وحرَّر كتاباً بعنوان القدس والشعب العبراني (1851) حث فيه بريطانيا على إقامة إمارة يهودية في فلسطين تحت التاج العثماني، وذلك كحل للمسألة اليهودية في أوربا. وقام موسولينو بصياغة دستور نظام حكم هذه الإمارة حيث العبرية لغتها الرسمية واليهودية ديانتها، وهو يمنح حق الانتخاب لأولئك المتكلمين بالعبرية فقط، كما تُمنَح الجنسية لليهود الذين يستوطنون هذه الإمارة، وكذلك لغير اليهود الذي يطلبون ذلك. وتضمن الإمارة حق العمل وحرية التعبير، وتشرف شركة قومية على توطين اليهود فيها. وقد حاول موسولينو أن يثير اهتمام عائلة روتشيلد بمشروعه دون جدوى.
جورج إليوت (1819-1880 (
George Eliot
صهيونية غير يهودية تستخدم ديباجات عضوية رومانسية، واسمها الحقيقي هو ماري آن إيفانس. تدل كتابات جورج إليوت الأولى على أنها، مثل معظم الصهاينة غير اليهود، بدأت حياتها الفكرية برفض اليهود وتراثهم، فهي ترى أن "كثيراً من أساطيرهم الأولى، وكذلك كل أحداث تاريخهم، تعاف النفس منها إلى أقصى مدى ... إن كل شيء يهودي هو شيء وضيع على وجه الخصوص" (من خطاب لها عام 1848) .(16/442)
ومن الواضح أن جورج إليوت تنطلق من مفهوم الشعب العضوي المنبوذ. ولذا، فقد نشرت رواية دانيل ديروندا (1876) وهي رواية ذات طابع صهيوني عن يهودي يكتشف هويته (أو بتعبير أدق ما يتصوره جذوره العرْقية اليهودية) ويرى أن لا خلاص له إلا من خلال الحل الصهيوني، أي من خلال الهجرة وتأسيس دولة يهودية. وتقدِّم الرواية صورة إدراكية جديدة لليهودي باعتباره بطلاً لتحل محل الصورة الإدراكية القديمة لليهودي باعتباره تاجراً أو مرابياً. وقد جاء في الرواية دعوة إلى مشروع صهيوني يموِّله أغنياء اليهود ويتم الإعلام عنه بكفاءة، بحيث ينظم اليهود أنفسهم بهدف "تأسيس كيان يهودي ... مركز عضوي للعرْق اليهودي". يتم ذلك عن طريق هجرة عظمى ثانية تتحرك من خلالها روح الإنجاز السامية، ليصبح اليهود أمة مثل كل الأمم. وهذا هو المشروع الصهيوني لإفراغ أوربا من اليهود عن طريق تهجيرهم خارجها، وهو، في جوهره، مشروع معاد لليهود. وبطل القصة قد تم ـ على ما يبدو ـ رسم شخصيته بوحي من شخصية الضابط البريطاني جولد سميد الذي اكتشف هويته اليهودية في العشرينيات من عمره وذهب إلى فلسطين "ليحيي المركز العضوي" لشعبه!(16/443)
والواقع أن دانيل ديروندا من أهم وثائق الصهيونية غير اليهودية، ربما لا يعادلها في الأهمية سوى مؤلف أوليفانت أرض جلعاد. ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى أن كلاسيكيات الصهيونية غير اليهودية تسبق كلاسيكيات الصهيونية اليهودية بسنوات. وقد أثرت هذه الرواية تأثيراً عميقاً في رواد الفكر والأدب الصهيوني مثل بن يهودا وبيريتس وسمولنسكين وجوردن وليلينبلوم، وقد تُرجمت القصة إلى العبرية وانتشرت بين يهود ألمانيا وغيرهم من الجماعات اليهودية. ووُصفت بأنها "وعد بلفور الأدبي". لكن معظم النقاد يرون أن هذه الرواية ليست من أعظم روايات إليوت، وأن مضمونها الصهيوني متضخم إلى حدٍّ كبير. كما أن كثيراً من أعضاء الجماعة اليهودية في إنجلترا رفضوا فكرة العودة القومية، إذ كانوا يرون أنفسهم شعباً بالمعنى الروحي وحسب.
جولدوين سميث (1823-1910 (
Goldwin Smith
مؤرخ ومصلح تربوي بريطاني، وهو نموذج جيد لليبرالي الصهيوني غير اليهودي المعادي لليهود. كتب سميث مقالاً عام 1878 بيَّن فيها أن اليهودية دين قَبَلي منغلق، وأن تمسُّك اليهود باليهودية في شتاتهم زادهم تعصباً. وأضاف أن هذا الدين فَقَد مضمونه الأخلاقي ولم يبق منه سوى العنصر، أي أن تمسُّك اليهود بدينهم هو في واقع الأمر تعصُّب للعرْق. واليهود شعب عضوي متماسك، ولكنه شعب عضوي منبوذ فهو محط بُغض الشعوب. وليس بإمكان اليهود أن يصبحوا مواطنين صادقين في انتمائهم لأوطانهم في دول أوربا التي تستضيفهم. ولذا، يشكل وجودهم خطراً سياسياً على البلد الذي يحلون فيه (وهذه أطروحة أساسية في الأدبيات الصهيونية والمعادية لليهود (
وكمعظم صهاينة عصره (من اليهود وغير اليهود) كان سميث يرى أن المسألة الشرقية يمكن حلها من خلال رَبْطها بالمسألة اليهودية. فهو يرى إمكانية أن يعود بعض اليهود «شديدي العزلة» (أي يهود اليديشية) من شرق أوربا إلى فلسطين. وستنجز هذه العملية أمرين:(16/444)
1 ـ سيساعد انسحاب الفائض البشري اليهودي المجتمعات الغربية على دَمْج العنصر اليهودي الأكثر اندماجية في المجتمع الأوربي.
2 ـ سيتحدد وضع اليهود كقومية منفصلة منعزلة (كما هو الحال في اليونان) تقوم بملء الفراغ الذي سيخلقه حل الدولة العثمانية.
ولنا أن نلاحظ أن سميث قد اكتشف ظاهرة الصهيونيتين التوطينية والاستيطانية، وأنه وضع يده على كثير من الأطروحات الصهيونية الأساسية وذلك قبل أن ينشر هرتزل كتابه دولة اليهود.
إدوارد كازالت (1827-1883 (
Edward Cazalet
صهيوني غير يهودي يستخدم ديباجات علمانية وهو رجل صناعة بريطاني. كان يمتلك عدة مصانع في روسيا القيصرية، ولكنه كان على معرفة بمسألة يهود شرق أوربا اليهودية فألَّف كتيباً بعنوان سياسة إنجلترا في الشرق: علاقتنا مع روسيا ومستقبل سوريا (1879) بيَّن فيه كيف يمكن حل المسألة الشرقية والمسألة اليهودية من خلال الربط بينهما. وقد بيَّن كازالت أن السكان العرب غير صالحين من الناحية الحضارية والخلقية لأن يكونوا أسياد مصيرهم. وهذه هي الحجة الإمبريالية التقليدية لإثبات أن ثمة فراغاً في الشرق العربي، يمكن أن تملأه القوة الإمبريالية بمعرفتها. وبالفعل، اقترح كازالت أن تقوم الإمبراطورية الإنجليزية بتوطين اليهود في فلسطين وسوريا تحت الحماية البريطانية باعتبارهم مادة بشرية يمكن من خلالها تنمية المنطقة اقتصادياً.(16/445)
وقد أرسل كازالت عام 1881 يهودياً يُدعى جيمس ألكسندر للقسطنطينية ليتفاوض على إقامة خط سكك حديدية من سوريا إلى بلاد ما بين النهرين على أن تُخصَّص الأراضي المجاورة للخط الحديدي للاستيطان، وكانت خطته هي استقدام عمال يهود وتوطينهم في تلك الأراضي. وقد حصل كازالت على دعم دزرائيلي لمشروعه بهدف تفويت الفرصة على كلٍّ من الألمان والفرنسيين الذين كانوا يطمعون في القيام بهذه المهمة. واستمرت المباحثات عدة أعوام، ولكنها مع الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882 انتهت إلى لا شيء حيث لم تَعُد هناك حاجة لمثل هذه الخطة مع استقرار الطريق للهند بعد احتلال مصر.
لورانس أوليفانت (1829-1888 (
Laurence Oliphant
صهيوني غير يهودي، ومفكر يستخدم ديباجات علمانية. وهو أحد أصدقاء لورد شافتسبري السابع. عمل في السلك الدبلوماسي البريطاني بعض الوقت (في الشئون الهندية) ، كما كان عضواً في البرلمان الإنجليزي. وينطلق أوليفانت، شأنه شأن معظم الصهاينة، من فكرة الشعب العضوي المنبوذ ليدور داخل نطاق الفكر الألفي الاسترجاعي، فاليهود جنس مستقل يتسم أعضاؤه بالذكاء في الأعمال التجارية وبالمقدرة على جَمْع المال، ولكن وجودهم داخل الحضارة الغربية أمر سلبي لأن جذورهم في فلسطين.(16/446)
وكان أوليفانت (منطلقاً من الصيغة الصهيونية الأساسية) يرى، مثل كثير من السياسيين البريطانيين في عصره، ضرورة إنقاذ الدولة العثمانية من مشاكلها المستعصية حتى تقف حاجزاً ضد التوسع الروسي. ويمكن أن يتم ذلك عن طريق إدخال عنصر اقتصادي نشيط في جسدها المتهاوي ووجد أن اليهود هم هذا العنصر. ولذلك، دعا أوليفانت بريطانيا إلى تأييد مشروع توطين اليهود لا في فلسطين وحسب وإنما في الضفة الشرقية للأردن كذلك. وكان المشروع يتلخص في إنشاء شركة استيطانية لتوطين اليهود برعاية بريطانية وبتمويل من الخارج على أن يكون مركزها إستنبول (وقد لاحَظ بن هالبرن ـ وهو أحد مؤرخي الصهيونية المُحدَثين وأحد المؤيدين لها ـ أوجه الشبه بين هذه الخطة واقتراحات هرتزل فيما بعد (
وكانت صهيونية أوليفانت تتسم بالعملية والحركية إذ لم يكتف بطَرْح أفكاره، بل اتجه إلى فلسطين للبحث عن موقع مناسب للمُستوطَن المُقتَرح، واختار منطقة شرق الأردن شمالي البحر الميت (وتُسمَّى هذه المنطقة «جلعاد» في العهد القديم) ثم اتجه إلى إستنبول مع إدوارد كازالت (المموِّل الإنجليزي) لعَرْض مشروع سكة حديد وادي الفرات، وقدما طلباً إلى السلطان بإعطاء اليهود قطعة من الأرض بعرض ثلاثة كيلومترات على حافتي الطريق المقترح.(16/447)
وكانت تربط أوليفانت علاقة بعدد من الزعماء الصهاينة من اليهود في شرق أوربا مثل بيرتس سمولنسكين وأهارون ديفيد جوردون. وقد حضر مؤتمر فوكساني في رومانيا، الذي عُقد في 30 ديسمبر 1881 لمناقشة هجرة اليهود واستيطانهم في فلسطين. وكان لظهوره فعل السحر، وانتشرت آراؤه بشأن توطين اليهود في فلسطين بدلاً من الولايات المتحدة حيث كان اليهود يتهددهم الاندماج. وقام أعضاء جماعة البيلو بالاتصال به، وكتب له بعض أحباء صهيون يخبرونه بأن الخالق وحده هو الذي وضع في يده صولجان قيادة اليهود، وسموه «المخلِّص الماشيَّح» أو «قورش الثاني» . ويبدو أنه لم يكن بعيداً عن تأسيس جماعة بيلو. وقد قام أوليفانت بطرح مشروع جماعة البيلو على السلطان العثماني للحصول على قطعة أرض في فلسطين، وحضر أحد مؤتمرات جماعة أحباء صهيون، كما عارض الجهود التي كانت تبذلها جماعة الأليانس لتهجير اليهود إلى الولايات المتحدة لإنقاذهم، وقام بجَمْع توقيعات من اليهود على عريضة يؤكدون فيها رغبتهم في الهجرة إلى فلسطين لا إلى غيرها من البلدان. وبالفعل، نجح أوليفانت في تهجير سبعين يهودياً من أصحاب الحرف إلى فلسطين.(16/448)
وفي عام 1880، نشر أوليفانت كتابه أرض جلعاد الذي نادى فيه بضرورة توطين اليهود في فلسطين، كما شرح أبعاد فكره الصهيوني الذي أسلفنا الإشارة إليه. ومن القضايا الأساسية في الكتاب، مشروعه الخاص بسكان البلاد من العرب. فبعد أن عبَّر أوليفانت عن عدم تعاطفه مع العرب باعتبارهم مسئولين عن إفقار فلسطين، قسَّمهم إلى قسمين: بدو وفلاحين. واقترح طرد البدو ووَضْع الفلاحين في معسكرات مثل معسكرات الهنود في كندا، على أن يتم استخدامهم كمصدر للعمالة الرخيصة تحت إشراف اليهود. وقد ترجم سوكولوف الكتاب إلى العبرية عام 1886 ووزع منه 12 ألف نسخة، وهو رقم قياسي بالنسبة إلى المنشورات العبرية في ذلك الوقت، بل يُقال إنه كان أكثر الكتب المكتوبة بالعبرية شيوعاً. وقد عاد أوليفانت إلى فلسطين واستقر فيها مع سكرتيره اليهودي نفتالي إمبر مؤلف نشيد «هاتيكفاه» ، أي «الأمل» (وهو نشيد الحركة الصهيونية الذي أصبح النشيد الوطني الإسرائيلي فيما بعد) . وكان أوليفانت يهدف إلى مساعدة المستوطنين الصهاينة وإلى كتابة مجموعة من المقالات عن المستوطنات الصهيونية. وقد ألَّف بالفعل كتاباً آخر بعنوان حيفا أو الحياة في فلسطين الحديثة، ومات في هذه المدينة الفلسطينية عام 1888 (أما سكرتيره الصهيوني اليهودي فلم ترق له الحياة في فلسطين وهاجر منها إلى الولايات المتحدة ((16/449)
ولا يعبِّر أوليفانت عن كرهه للشعب العضوي المنبوذ ولا عن رغبته في التخلص منه عن طريق التشهير به أو التبشير بين أعضائه كما كان شافتسبري يفعل أحياناً، وإنما عن طريق طَرْح مشروع متكامل للتهجير يتبناه اليهود بأنفسهم. كما أنه عمل على تخليص صهيونية غير اليهود من ديباجتها الدينية وإعطائها ديباجاتها العملية العلمية العلمانية، بحيث أصبح بالإمكان تداولها بين أكبر عدد ممكن من المسيحيين واليهود والعلمانيين. كما أن أوليفانت نجح في التمييز بين النزعات الصهيونية التوطينية الخيرية التي قام بها يهود الغرب المندمجون لإنقاذ يهود الشرق والتخلص منهم وبين الرؤية الصهيونية الاستيطانية التي لا تحاول إنقاذ اليهود كبشر وأفراد وإنما تنطلق من فكرة الشعب العضوي المنبوذ الذي لا مكان له في العالم الغربي ويمكن توظيفه وحوسلته لصالح الغرب عن طريق توطينه في فلسطين (وقد مرّ على هرتزل عدة سنوات وعلى يهود شرق أوربا عدة عقود قبل إدراك هذه الحقائق (
وتتميَّز صهيونية أوليفانت عن صهيونية شافتسبري باقترابها من اليهود ومحاولة التوجه إليهم وتجنيدهم. ولعل ظروف المرحلة قد ساعدته على ذلك باعتبار أن محاولات التحديث في شرق أوربا كانت في أربعينيات القرن، حينما بدأ شافتسبري نشاطه، لا تزال في بدايتها الناجحة ولم تكن قد تعثَّرت بعد، بينما بدأ أوليفانت نشاطه الصهيوني مع بدايات التعثر. وتجدر ملاحظة أن أوليفانت يتحرك في صفوف اليهود بألفة شديدة لم نشهدها من قبل بين الصهاينة غير اليهود.
دانييل موردوفتسيف (1830-1905 (
Daniel Mordovtsev(16/450)
كاتب روسي صهيوني غير يهودي بشَّر بعودة اليهود لفلسطين. وموردوفتسيف أحد قادة الحركة القومية الأوكرانية المعروفة بعدائها العميق لليهود لأسباب تاريخية من أهمها اشتغال اليهود بالأرندا. عمل حتى عام 1866 في وظائف حكومية مختلفة، وبعدئذ انخرط في كتابة الأعمال الأدبية. زار فلسطين عام 1881 وقابل عدداً من المهاجرين اليهود الذين هربوا من مذابح أوديسا وطالب دول العالم مراراً وتكراراً بإعادة اليهود إلى فلسطين، وقد ازدادت نشاطات موردوفتسيف في هذا الصدد بعد مذابح أوائل الثمانينيات وتعثُّر التحديث. وقد ألَّف موردوفتسيف عدة قصص عن اليهود منها لماذا؟ وبين المطرقة والسندان، وهيرود. وقد أبدى تأييداً شديداً للحركة الصهيونية عند ظهورها.
فيليب نفلينسكي (1841-1899 (
Philippe Newlinski
صهيوني غير يهودي، بولندي الجنسية. كان يعمل صحفياً (رغم أصوله الأرستقراطية) ودبلوماسياً. ومن خلال عمله في السفارة النمساوية المجرية في القسطنطينية تعرَّف إلى العثمانيين وعرف الوضع في تركيا ودول البلقان. عاد إلى عمله الصحفي عام 1880 وأسس في فيينا جريدته الخاصة رسالة الشرق. وقد تعرَّف إلىه هرتزل عام 1896 وجنده للدعوة إلى الأهداف الصهيونية، وكان يدفع له لقاء جهوده وتعبه، ولكنه بعدئذ تحمَّس للدعوة الصهيونية وأصبح مستشار هرتزل الموثوق به. حاول نفلينسكي أن ينظم لقاءً بين هرتزل والسلطان العثماني لكنه فشل، ونجح فقط في أن يجعل البلاط العثماني يُقلِّد هرتزل نيشاناً. ولكنه نجح في تنظيم لقاء بين ولي عهد بلغاريا وهرتزل، وكذلك نجح في مقابلة ملك صربيا وإقناعه بفكرة توطين اليهود في فلسطين. وحاول أن يكسب تأييد الفاتيكان وبسمارك للقضية الصهيونية.(16/451)
لم يحضر نفلينسكي المؤتمر الصهيوني الأول (1897) بسبب المرض، لكنه حضر المؤتمر الثاني (1898) وخصص عموداً في جريدته الأخبار الصهيونية. أرسله هرتزل عام 1899 لمقابلة السلطان العثماني ولكنه مات أثناء عودته من المهمة. ولم يلاق نفلينسكي أية صعوبة في مقابلة الشخصيات الأوربية المهمة وإقناعها بالمشروع الصهيوني، إذ كانت أوربا والغرب في أواخر القرن التاسع عشر وبداية التقسيم الإمبريالي للعالم على استعداد تام لتَقبُّل الأفكار الصهيونية. فالمشاكل الاجتماعية الداخلية كانت آخذة في التفاقم وأعداد اليهود كانت آخذة في التزايد، وكان الاستعمار آخذاً في التوسع والتوحش وكانت الدولة العثمانية على وشك السقوط.
ويليام بلاكستون (1841-1935)
William Blackstone
صهيوني غير يهودي، يستخدم ديباجات مسيحية وعلمانية، وهو رجل أعمال أمريكي من شيكاغو. أنفق الملايين على التبشير، وتزَّعم حملة لعودة اليهود إلى فلسطين تمهيداً لعودة السيد المسيح وبداية العهد الألفي الذهبي. وكان لكتابه يسوع قادم (1878) أثر كبير في الأوساط الشعبية البروتستانتية الأمريكية الإنجيلية، وكان من أكثر الكتب رواجاً إذ بيع منه أكثر من مليون نسخة وترجم إلى 84 لغة منها العبرية. وكان عدد الزعماء المسيحيين الذين أثار الكتاب انتباههم يفوق عدد من أثَّر فيهم أي كتاب آخر نُشر طوال عشرات السنين. وتعود أهمية بلاكستون إلى أنه نقل الصهيونية ذات الديباجة المسيحية من عالم التبشير والعقيدة إلى عالم الممارسة السياسية.(16/452)
زار بلاكستون فلسطين عام 1888/1889 ونظم بعدئذ اجتماعاً يهودياً مسيحياً من أجل نشر الأفكار الصهيونية. وأرسل عام 1891 مذكرة (التماساً) إلى الرئيس هاريسون بعنوان "فلسطين لليهود" يحثه فيها على إعادة فلسطين لليهود باعتبار أن هذا هو الحل الرئيسي لمشكلة مذابح واضطهاد اليهود في روسيا القيصرية وتَزاحُم المهاجرين اليهود في البلاد الأوربية. وقد طلبت المذكرة من الرئيس الأمريكي أن يستخدم وساطته مع الدول الغربية والدولة العثمانية لعقد مؤتمر دولي لمناقشة حق اليهود في فلسطين. وقد وقع على الالتماس 413 شخصية يهودية ومسيحية مرموقة في الولايات المتحدة. ويُعَدُّ هذا بداية تشكيل جماعة الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة، ومما له دلالته أن صهيونياً غير يهودي هو العقل المدبر وراءها. وقد احتج الحاخام الإصلاحي إميل هيرش على هذا الالتماس وأعلن أن اليهود المحدثين لا يودون أن يعودوا إلى فلسطين ليكونوا أمة يهودية. ويبدو أن بلاكستون كان يتوقع مثل هذا الاحتجاج، ولذا ضمَّن مذكرته (التماسه) تحذيراً من اليهود الاندماجيين الذين يدعون للاندماج في مجتمعاتهم. وقد أرسل بلاكستون (عام 1916) مذكرة مماثلة للرئيس ويلسون. واشترك عام 1918 في مؤتمر اتحاد الصهاينة الأمريكيين في فيلادلفيا، الذي أعلن أن بلاكستون هو "أبو الصهيونية". وقد كان أعضاء المؤتمر محقين تماماً في ذلك، فنشاطه الصهيوني يسبق نشاط هرتزل ومؤلفاته كثيراً.
ويليام هشلر (1845-1931 (
William Hechler(16/453)
صهيوني مسيحي وُلد في الهند حيث كان أبوه يعمل مبشراً مسيحياً إنجيلياً. عمل عام 1871 مبشراً في نيجيريا، ثم عمل عام 1874معلماً لأطفال فريدريك دوق بادن الأعظم عم القيصر فيلهلم الثاني قيصر ألمانيا. اشترك هشلر عام 1882 في اجتماع عقده بعض المسيحيين المرموقين لمناقشة إمكانية توطين المهاجرين من يهود اليديشية في فلسطين ثم ارتحل إلى القسطنطينية حاملاً رسالة إلى السلطان العثماني من الملكة فيكتوريا تطلب فيها السماح بتوطين يهود روسيا في الأراضي المقدَّسة.
تعرَّف إلى هرتزل من كتابه دولة اليهود وهو واعظ بالسفارة البريطانية في فيينا، فأرسل خطاباً إلى دوق بادن يوصيه فيه بهذا الكتاب قائلاً: "إنه أول محاولة عملية وموضوعية وجادة لتعليم اليهود كيف يتحدون من جديد لتكوين أمة في أرض الميعاد التي وعدهم الإله بها". وبعدئذ كرَّس هشلر جهوده لإقامة علاقة بين هرتزل وكلٍّ من دوق بادن والقيصر.
وثمة بُعد آخر لصهيونية هشلر، فقد كان مولعاً بالحسابات الرامية إلى تحديد نهاية العالم وبداية العهد الذهبي الألفي وتحوُّل اليهود إلى المسيحية. وقد ضمَّن هذه الحسابات كتابه استرجاع اليهود لفلسطين حسب تعاليم الأنبياء (1884) . ومن خلال حسابات الأرقام وما تصوَّره من قوة الحروف الرقمية في بعض النبوءات التوراتية والقبَّالية، توصَّل إلى أن عودة اليهود ستكون بين عامي 1897 و 1898. وقد كتب مقالاً مطولاً في جريدة دي فيلت الصهيونية حول استنتاجاته النهائية والحاسمة عن الخلاص الأبدي الوشيك، وأكد اقتناعه بأن الصهيونية هي الحل النهائي للوصول إلى الخلاص.(16/454)
حضر هشلر المؤتمر الصهيوني الأول (1897) ، وشكره هرتزل علناً على هذا ثم سافرا سوياً إلى فلسطين عام 1898 حيث قابلا قيصر ألمانيا وقدم له هشلر ألبوماً مصوراً عن المستوطنات اليهودية. وقد فشلت جهود هشلر للوساطة بين هرتزل وألمانيا نظراً للعلاقة الوثيقة والتحالف القائم بين الإمبراطورية العثمانية والألمان. ومن ثم، فقد أراد إقامة جسر آخر بين الصهاينة وبين الحكومات الأوربية، فحاول تنظيم مقابلة لهرتزل مع قيصر روسيا (عدو العثمانيين اللدود) من خلال شقيق زوجة القيصر.
كان هشلر يحتفظ في منزله بمتحف صهيوني من مقتنياته عربة مونتفيوري، وبعد موته أوصى بالمتحف لمتحف أرض إسرائيل. وقد تم نَقْل المتحف وعُرض في القدس.
ونلاحظ أن هشلر هو التجسيد الكامل للفكر الصهيوني ذي الديباجة المسيحية، فتربيته المسيحية القبَّالية تجعله يعتقد في القدرة السحرية للأفكار، وضرورة التنفيذ الحرفي للنبوءة، فالعهد القديم لا يحوي صوراً مجازية أو مجاز، وإنما هو نص مقدَّس لابد من تنفيذه حرفياً، وكان اهتمامه باليهود من قبل الخطوات التمهيدية للتخلص منهم، فلابد من عودتهم إلى أرض الميعاد ليأتي المسيح ثانيةً ويخلِّصهم من الشر الكامن فيهم عضوياً.
ونلاحظ أيضاً أن الجو العام في أوربا كان مهيئاً جداً لسماع الأفكار الغيبية المشيحانية (البلهاء) عند هشلر، وقد كان من السهل عليه مقابلة ملكة إنجلترا وقيصر ألمانيا وقيصر روسيا بل الحصول على وعود منهم. ومن ثم، فإننا نستطيع أن نرى بوضوح طبيعة هذه الفترة في تاريخ الحضارة الغربية التي سادها خليط من الأفكار العرْقية والعلمية والقبَّالية هيمنت فيها الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية التي تجعل الآخر أداة وضحية.
تشارلز سكوت (1846-1932 (
Charles Scott(16/455)
صهيوني غير يهودي وصحفي بريطاني وُلد في اسكتلندا، وكان يمتلك صحيفة المانشستر جارديان ويعمل رئيساً لتحريرها، وكان عضواً ليبرالياً في البرلمان (1895 ـ 1906) . قابل ايزمان عام 1914 وقدمه للويد جورج وهربرت صمويل وعدد آخر من الساسة البريطانيين، ومن ثم فقد ساعد وايزمان وأصدقاءه في مداولاتهم مع الحكومة البريطانية التي أدَّت إلى صدور وعد بلفور.
كتب سكوت خطاباً لهاري ساخر يشرح فيه موقفه من الصهيونية فقال: "يجب أن نجعل اليهودي يهودياً كاملاً [وهو ما يعني أن وجوده في أي بلد خارج فلسطين يجعله يهودياً ناقصاً، فهو عضو في شعب عضوي منبوذ] . ولا يمكن إنجاز هذا الأمر إلا بأن يُحسِّن صورته في عينيه وفي عيون العالم [وهو ما يعني أن صورته غير مرضية على الإطلاق بالنسبة للعالم وبالنسبة لنفسه، أي أنها غير مرضية بشكل موضوعي] ". ويرى سكوت أن الوقت قد حان لتنفيذ هذا المشروع. وبعد أن دخلت تركيا الحرب العالمية الأولى، أكد سكوت أهمية فلسطين بالنسبة للمصالح البريطانية (الدولة الوظيفية (
كلود كوندر (1848-1910)
Calaude Conder
ضابط بريطاني كان مسئولاً عن عملية مسح شمال فلسطين بالنيابة عن صندوق استكشاف فلسطين (وكان يُعَدُّ أحد مؤسسيه) مع تشارلز وارين. وقد ألَّفا معاً كتاباً من عدة أجزاء عنوانه مسح فلسطين الغربية. وقد قام العرب بالهجوم عليه وإصابته بالقرب من صفد عام 1875. وفي دراسته السابقة ركز كوندر على دراسة مصادر المياه فيها والتثبت من أماكن هذه المياه وحجمها، فقام هو والملازم كتشنر (اللورد كتشنر فيما بعد) بمَسْح منطقة الخليل.(16/456)
لم يكن نشاط كوندر (أو سير تشارلز وارين) علمياً محايداً، ولم يَقصُر نشاطه على التنقيب، بل كانت له ميول صهيونية واستعمارية واضحة. فقد أبدى اهتماماً بمشاريع السكك الحديدية المرتبطة تماماً بالمشروع الاستعماري. وكان يذهب إلى أن الهدف من تأسيس صندوق استكشاف فلسطين هو توضيح ما جاء في التوراة، وهي عبارة تعني عادةً التفسير الحرفي العسكري للتاريخ المقدَّس الذي ورد في التوراة. ومن أهداف الصندوق الأخرى ـ حسب تصوُّره ـ مساعدة اليهود الذين سيكونون سكان البلاد في المستقبل، إذ سيزودهم الصندوق بالحقائق الثابتة عن طاقات وإمكانيات البلاد. وقد تَعاوَن كوندر بالفعل مع أحباء صهيون ولورنس أوليفانت. وساهم في عملية بعث التسميات التوراتية القديمة وتحديد مواقعها الحديثة. وفي عام 1892 قام بحملة تأييد للاستيطان اليهودي في فلسطين وذلك لتخفيف أثر ازدياد هجرة يهود شرق أوربا إلى إنجلترا. أما سير تشارلز وارين فكان ينادي بأن فلسطين تصلح لاستيعاب عشرة ملايين مستوطن يهودي (من فائض أوربا اليهودي ولا شك)
كَتب كوندر عدة كُتب، من أهمها كتاب عن تاريخ المملكة اللاتينية ُينوِّه فيه بأن الحملات الصليبية (أي حملات الفرنجة) حملات متحضرة وإلى أن مملكة القدس كانت نموذجاً للحكم العادل والمعتدل (تماماً مثل الحكم البريطاني في الهند) ، أي أنه وضع حملات الفرنجة في إطارها الاستعماري. وكان يذهب إلى أن الاستعمار الإنجليزي قد أكمل ما فشل فيه الفرنجة، فقد عادت قبرص إلى الأمة التي غزتها أيام ريتشارد قلب الأسد، ونجح الإنجليز فيما أخفق فيه الملك لويس باحتلالهم مصر، ولم يَعُد الشرق قادراً على صد الهجمات التجارية أو العسكرية الغربية، أي أن الوقت قد حان لعودة اليهود إلى فلسطين مع انتشار الاستعمار الغربي الأنجلو ساكسوني!(16/457)
وقد أصدر صندوق استكشاف فلسطين كتاباً بعنوان المدينة والأرض (1892) ساهم فيه كوندر بدراسة عنوانها «مستقبل فلسطين» يعرض فيها مشروعاً صهيونياً مؤكداً فيه أن العنصر الفعال الوحيد القادر على النهوض بفلسطين وبمدينة القدس هم اليهود. وأشار إلى أن نهضة يهودية قد بدأت في الأرض المقدَّسة، فبعد أن كان عدد اليهود لا يتجاوز المئات عام 1793 أصبح عددهم أربعين ألفاً عام 1892، ولم يعودوا أقلية مضطهدة جبانة وإنما أصبحوا يسيطرون على التجارة في القدس. وتنبأ كوندر بزيادة المستوطنات الزراعية اليهودية. وكلما ازداد رأس المال الأوربي والمستوطنون الأوربيون ازداد استقلال فلسطين عن الدولة العثمانية وسيعود اليهود باعتبارهم عرْقاً مستقلاً يعتمد على نفسه وهي عودة لا تعارضها الحكومات الغربية وإنما تنظمها. وإن أعاق أحد هذه العودة فينبغي حلها في قرقميش ومجدو (هرمجدون) ، أي بقوة السلاح. وهكذا تلتقي التوراة بالسيف، كما هو الحال دائماً في الخطاب الصهيوني ذي الديباجات المسيحية.
إيان سمطس (1870-1970 (
Jan Smuts(16/458)
صهيوني غير يهودي وسياسي ومحارب ومفكر من جنوب أفريقيا. شارك في حرب البوير (1904 ـ 1905) ثم شارك في حكومة الحرب البريطانية في الحرب العالمية الأولى. كان صديقاً شخصياً لحاييم وايزمان وداعية صهيونياً كبيراً. عمل على استصدار وعد بلفور لتحويل فلسطين إلى وطن لليهود وعلى فرض الانتداب على فلسطين. وكان سمطس يَعتبر وعد بلفور أعظم ما خرجت به الحرب من إنجازات. وقد ساعد على إنشاء الفيلق اليهودي وقال لجابوتنسكي عام 1917: "إن أحسن فكرة سمعتها في حياتي هي أن على اليهود أن يحاربوا من أجل أرض إسرائيل". وكان سمطس يعتقد أن الحركة الصهيونية تجسيد جديد لدولة جنوب أفريقيا التي حارب من أجلها عام 1904. وكان سمطس عنصرياً عنيفاً شرساً حين تولَّى رئاسة الوزارة في جنوب أفريقيا (1919 ـ 1924، 1939 ـ 1948) ، فطبَّق أشد قوانين العزل العنصري قسوة وذُبح على يديه الآلاف من السود والملونين (فجنوب أفريقيا أرض بلا شعب، تماماً مثل فلسطين بالنسبة للصهاينة) . اعترف سمطس بدولة إسرائيل فور إعلانها. ولا نستطيع أن نقول إن ثمة فكراً محدداً لسمطس، ولكن يُلاحَظ أن عنصريته التي تترجم نفسها إلى رفض للآخر (الذي يقع خارج نطاق القداسة) تضرب بجذورها في نسق حلولي عضوي، فهو يأخذ بالتفسيرات الحرفية للعهد القديم ويوظفها في تبرير استيطان الرجل الأبيض في أفريقيا واليهودي في فلسطين.
جوسيا ودجوود (1872-1943 (
Josiah Wedgwood
سياسي بريطاني صهيوني غير يهودي، وهو أول بارون من أسرة ودجوود. كان عضواً في البرلمان عن حزب الأحرار منذ 1906 وحتى 1919، ومنذ 1919 عن حزب العمال، وكان صديقاً لجابوتنسكي. شارك في الجهود السياسية التي أدَّت إلى وعد بلفور، وكان يرى أن الصهيونية حركة ستعيد لليهود "تلك الثقة القومية الجماعية التي يبدو أنهم يفتقرون إليها".(16/459)
وأثَّر ودجوود في البعثة الأمريكية في مؤتمر السلام في فرساي وسافر بين الحربين في عدة مهمات صهيونية. ورأى ودجوود أنه ينبغي إقامة دولة يهودية حدودية على ضفتي الأردن.. تصير عضواً في الكومنولث البريطاني. وقال: لو تخلت الحكومة البريطانية عن الصهيونية لإرضاء العرب، فسوف يكون هذا ضد مصالحها الحقيقية، وعلى اليهود أن يحاربوا هذا بكل الطرق المتوافرة لديهم، مشروعة كانت أم غير مشروعة.
في عام 1926، قام ودجوود بجولة في الولايات المتحدة من أجل الصندوق التأسيسي الفلسطيني، وقد نشر فيما بعد أحاديثه هناك في كتيب بعنوان فلسطين: الحرب من أجل الحرية والمجد اليهوديين. وفي عام 1928 نشر كتابه فلسطين: الحكم السابع دعا فيه إلى إقامة سلطة يهودية ذات إدارة ذاتية في فلسطين، على أن تكون جزءاً من الإمبراطورية البريطانية. وفي عام 1929، أسَّس لجنة الحكم السابع التي انضم إليها عدد من أعضاء البرلمان.
عبَّر ودجوود الأفكار الصهيونية ودافع عنها في مجلسي العموم واللوردات، كما شجع الهجرة غير الشرعية إلى فلسطين من أجل توطين أبناء "موسى والأنبياء" فيها. ومن أغرب الجوانب في فكر ودجوود نظرته للصلة بين البريطانيين واليهود. فكلاهما ـ في رأيه ـ يعمل بالربا، وأعضاء الشعبين "يتجولون" بين الشعوب الأخرى تجاراً، ويكنون الاحتقار لمن يتعاملون معهم. ومن ثم، فهم لا يتمتعون بمحبة الآخرين، وعلى استعداد دائم لاستخدام كتبهم المقدَّسة لتبرير كل ما يحتاجون إلى تبريره في علاقتهم بالجنس البشري. ويُلاحَظ أن أفكار ودجوود رغم حماسها الشديد في تأييد الصهيونية لا تخلو من نظرة احتقار لليهود.
هربرت سايدبوثام (1872-1940 (
Herbert Sidepotham(16/460)
صهيوني غير يهودي. توصَّل إلى الصيغة الصهيونية الأساسية دون معرفة سابقة بأي يهود، كان يعمل محرراً في المانسشتر جارديان مع تشارلز سكوت. نشر عدة مقالات في المجلة كانت أهمها في 22 نوفمبر 1915 حيث بيَّن أهمية فلسطين، وقد كتب هذه المقالات في وقت بدأ فيه التفكير في تقسيم الدولة العثمانية، فأبرز أهمية فلسطين. وقد اشترك في تأسيس مجلة فلسطين التي كانت تهدف إلى تعريف أعضاء النخبة في إنجلترا بفلسطين. وقد أثارت مقالاته في الجارديان انتباه وايزمان الذي التقى به عام 1916. ويدور فكر سايدبوثام في إطار فكرة الشعب العضوي المنبوذ، فهو يستخدم اصطلاحي «يهودا» و «السامرة» للإشارة إلى فلسطين. والواقع أن هذا ينبع من تصوُّره أن فلسطين ليس لها وجود قومي أو جغراسي مستقل عن اليهود. وبالنسبة إليه، فإن فلسطين ليست مهمة بالنسبة لليهود الذين يعيشون فيها وحسب، وإنما هي كذلك بالنسبة لكل يهود العالم ـ أي الشعب اليهودي ـ هذا الشعب القديم العريق صاحب الحضارة المرتبطة عضوياً بفلسطين. بل إن حضارة هذا الشعب هي الحضارة الطبيعية الوحيدة التي يمكن أن تنشأ هناك، الأمر الذي يعني هامشية الحضارة العربية غير اليهودية. ولذا، يذهب سايدبوثام إلى أن بلفور، حين أطلق مصطلح «وطن قومي» على فلسطين، فهو لم يكن يعطي اليهود شيئاً يخص شعباً آخر.
هذا هو الشعب العضوي، ولكن الشعب العضوي المرتبط بفلسطين شعب منبوذ. فحضارته هي وحدها التي يمكن أن تحل محل الحضارة التركية، وهذا هو سر نَفْع اليهود إذ يمكن توطينهم داخل إطار الدولة الوظيفية في فلسطين ذات الأهمية الإستراتيجية والسياسية بالنسبة لإنجلترا.(16/461)
ولكل هذا، يلخص سايدبوثام مواقف صهيونية غير اليهود بشكل مدهش في قوله: "إن الحجة من أجل الصهيونية قوية جداً بالنسبة لأمتنا (الإنجليزية) حتى أن الواجب ليدعونا أن نوجدها لو لم تكن موجودة بيننا"، وهو يعني هنا أن اليهود كمادة استيطانية شيء يوجد في عقل أوربا وفي رؤيتها الإمبريالية للكون واليهود.
وماذا عن السكان الأصليين، أي العرب؟ يُلاحَظ تغييب العرب تغييباً تدريجياً في مصطلح سايدبوثام. وفي حديثه عن علاقة الشعب العضوي بفلسطين تتقرر نهاية العرب المحتومة حينما يشير سايدبوثام إلى ما يسميه عرب فلسطين البدائيين ... فهم جنس أكثر ضعفاً وتنوعاً من "عرب اليمن والحجاز" (وكلمة «تنوع» هنا تعني «عدم التجانس» ، وعدم التجانس كان يُعدُّ عيباً أكيداً من منظور القومية العضوية (
رينهولد نيبور (1892-1971 (
Reinhold Niebuhr
رجل دين بروتستانتي أمريكي له دراسات اجتماعية مهمة. صاغ نيبور أفكاره الأخلاقية والدينية في الفترة هي 1941 ـ 1943 في مجموعة مقالات ومحاضرات أهمها طبيعة ومصير الإنسان أو ما عُرف باسم» محاضرات جيفورد «
وقد أعلن نيبور غير مرة أن واقعيته ذات الطبيعة المشيحانية قد غذتها قراءات أقوال الأنبياء العبرانيين، وقال: "لقد عملت كرجل دين مسيحي على تقوية المحتوى العبراني النبوءاتي للمنهج المسيحي". وعبَّر نيبور عن مفهومه لليهودية ورفضه الحاسم للنشاط التبشيري المسيحي بين اليهود في الفصل السابع من كتابه أمريكا التقية والعلمانية (1958) . وقد دعا، منذ عام 1941، لإقامة وطن قومي لليهود، وخصوصاً اللاجئين الأوربيين، وذلك رغم ترحيبه باللاجئين في أمريكا. وقد منحته الجامعة العبرية في القدس درجة الدكتوراه الفخرية عام 1967. ويطلق عليه تشومسكي "مُنظِّر العنصرية الأمريكية الأول".
تشارلز وينجيت (1903-1944 (
Charles Wingate(16/462)
ضابط بريطاني صهيوني مسيحي، وُلد في الهند لعائلة ذات تاريخ في عمل الإرساليات المسيحية. بعد انضمامه للجيش في سن العشرين أُرسل عام 1927 إلى السودان حيث بقي حتى عام 1933، وتعلَّم أثناء ذلك اللغة العربية ولكنه لم يستطع قط التغلب على كراهيته العميقة للإسلام والقرآن، وكان جده مبشراً. وفي عام 1936، نُقل إلى فلسطين كضابط مخابرات، لدراسة الموقف السياسي والعسكري، وهناك ظهر حماسه الشديد للصهيونية، ولكنه كان كمعظم الصهاينة غير اليهود ممن يفسرون أحداث العهد القديم تفسيراً حرفياً عسكرياً كأنها حدثت بالأمس (على حد قول بن جوريون) . وقد أشرف على تنظيم وتدريب الفرق الليلية الخاصة التابعة للهاجاناه وكانت له دراية خاصة بأساليب التعذيب وحصل لقاء ذلك على وسام الخدمة المتميِّزة البريطاني. كما ساهم في تطوير عمل المخابرات الصهيونية حيث أمد مصلحة المعلومات ببيانات وافية عن أوضاع الفلسطينيين وأبرز قياداتهم المناهضة للاستيطان الصهيوني والاحتلال البريطاني. وقام وينجت بدور مهم في تطوير الأساليب التي استخدمها الصهاينة في حملاتهم الإرهابية ضد الفلاحين الفلسطينيين، وقد تركت أساليبه غير التقليدية بصمات واضحة على العمل العسكري الصهيوني فيما بعد. وبلغ اعتناقه الصهيونية درجة إعرابه عن ضيقه لعدم اتخاذ الحركة الصهيونية مواقف أكثر تحقيقاً لأهدافها، ولهذا أطلق عليه الصهاينة اسم «الصديق» و «لورانس يهودا» .(16/463)
وفي ربيع 1938، أدلى وينجت بشهادة أمام لجنة ودهيد في القدس فذكر أن أي تَقدُّم قام به العرب في فلسطين إنما يرجع لليهود، وأن دولة صهيونية صناعية حديثة تحت الحماية البريطانية سوف تحمي الوجود البريطاني في المنطقة، وستمثل خير أمل للعالم الغربي. وقد نُقل وينجت من فلسطين عام 1939، وعند عودته إلى بلاده التقى بعدد من كبار القادة العسكريين البريطانيين وعبَّر لهم عن رأيه بأن الطريقة الوحيدة أمام بريطانيا لاستعادة السلام في فلسطين هي أن تَتبنَّى سياسة ممالئة للصهيونية.
ومع نشوب الحرب العالمية الثانية، رغب وينجت في تولِّي قيادة جيش يهودي وعرض تكوين جيش من 60.000 مقاتل يهودي يتولَّى طرد إيطاليا من شمال أفريقيا، إلا أن عرضه لم يلق موافقة. وقد عمل وينجت عامي 1940 و 1941 قائداً لقوات خاصة في إثيوبيا، ثم أُرسل إلى الهند لتنظيم فرقة تتولَّى القيام بعمليات خلف الخطوط اليابانية في بورما. وقد قُتل وينجت في حادث طائرة ببورما، ويُطلَق اسمه الآن على عدة أماكن في إسرائيل (قرية للأطفال ـ كلية التربية البدنية ـ ميدان في القدس ـ غابة أقامها الصندوق القومي اليهودي) .(16/464)
الباب الخامس: الصهيونية التوطينية
الصهيونية التوطينية: تعريف
Settlement Zionism: Definition
» الصهيونية التوطينية «هي صهيونية اليهودي الذي يرفض الهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها، ومع هذا يستمر في الادعاء بأنه صهيوني وتأخذ "صهيونيته" المزعومة شكل دَعْم الدولة الصهيونية مالياً وسياسياً والمساهمة في توطين اليهود الآخرين. ونحن نضع «الصهيونية التوطينية» مقابل «الصهيونية الاستيطانية» . وتاريخ الصهيونية التوطينية منفصل إلى حدٍّ كبير عن تاريخ الصهيونية الاستيطانية، كما أن جماهير الأولى مختلفون بشكل جوهري عن جماهير الثانية. وترجمة كلمة «توطينية» باللغة الإنجليزية صعبة بعض الشيء ويمكن أن تكون «ستلنج Settling» بمعنى «من يقوم بتوطين آخر» ، ولكننا ترجمناها بكلمة «ستلمنت Settlement» نظراً لسلاستها، ونظراً لأنها استُخدمت بهذا المعنى في أسماء المنظمات الصهيونية التوطينية على أن نترجم كلمة «صهيونية استيطانية» بـ «ستلركولونيال زايونيزم Settler Colonial Zionism» .
الصهيونية التوطينية: تاريخ
Settlement Zionism: History
«الصهيونية التوطينية» مصطلح قمنا بسكه لنشير إلى الصهيوني الذي يؤمن بأن الصيغة الصهيونية الأساسية (َقْل بعض أو كل يهود أوربا خارجها) تنطبق على يهودي أو صهيوني آخر ولا تنطبق عليه هو شخصياً. وتقف صهيونية مثل هذا الصهيوني عند حد الدعم المالي والسياسي للمشروع الاستيطاني دون الهجرة بنفسه، أي أنه يتخلى عن التطبيق الفعلي لأحد أهم جوانب الصهيونية (الاستيطانية) دون التخلي عن تأييده ودعمه. ولذا، فإن الصهيونية التوطينية هي أهم أشكال التملص اليهودي من الصهيونية. والواقع أن تاريخ الصهيونية التوطينية مواز تماماً لتاريخ الصهيونية الاستيطانية وينقسم إلى مرحلتين أيضاً: مرحلة ما قبل هرتزل وبلفور وما بعدها.
المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل هرتزل وبلفور.
1 ـ صهيونية غير اليهود: وهي صهيونية توطينية بطبيعتها، إذ أن المادة البشرية المُستهدَفة هي اليهود وهم جماعة لا ينتمي إليها الصهيوني غير اليهودي.(16/465)
2 ـ صهيونية الأثرياء اليهود المندمجين وتُسمَّى أيضاً الصهيونية الخيرية: تبنَّى بعض أثرياء الغرب الصيغة التوطينية بهدف إبعاد يهود اليديشية المهاجرين إلى بلدهم. وقد أُسِّست مؤسسات توطينية لهذا الهدف.
ثم ظهر هرتزل وطوَّر الخطاب الصهيوني المراوغ وطرح صيغته الصهيونية والعقد الصهيوني الصامت الذي يسمح للصهاينة التوطينيين من الغرب والاستيطانيين من يهود اليديشية من الشرق بالانخراط في حركة سياسية واحدة (رغم تباين الأهداف) تحت مظلة الإمبريالية الغربية. ويتبنَّى الجميع (الصهاينة اليهود والصهاينة غير اليهود التوطينيون والاستيطانيون) الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، ويُسقط عليها اليهود منهم الخطاب الحلولي الكموني العضوي. وقد أخذ وعد بلفور في الاعتبار هذا الانقسام حين أسقط كلمة «الجنس اليهودي» وحين أكد أن الوعد لم يخل بالحقوق والأوضاع القانونية التي يتمتع بها اليهود في أية دولة أخرى.
المرحلة الثانية: مرحلة ما بعد هرتزل وبلفور.(16/466)
أصبحت الصهيونية التوطينية هي صهيونية الشتات أو الدياسبورا إذ تحوَّلت الصهيونية التوطينية من صهيونية الأثرياء إلى صهيونية كل صهاينة العالم الغربي، وأصبحت مهمتهم العمل من أجل دعم المُستوطَن الصهيوني (مالياً وسياسياً) . وقد كانت هناك توترات بين الاستيطانيين والتوطينيين في هذه المرحلة ولكنها ظلت تحت السطح بسبب حاجة المستوطنين للتوطينيين، وبسبب انشغالهم في قضية الاستيطان وطَرْد العرب وبسبب عجزهم عن الحركة بسهولة بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم وفي أروقة الحكومات الغربية. وبعد عام 1913 (المؤتمر الصهيوني الحادي عشر) ، تتغير الصورة بعض الشيء، إذ يصبح الاستيطانيون (من شرق أوربا) قادة الحركة الصهيونية بلا منازع وتكتسب صهيونية الدياسبورا مضموناً جديداً وهو قضية الهوية إذ يصبح تقسيم العمل كما يلي: يدعم الصهاينة التوطينيون المُستوطَن الصهيوني ويصبح هو مركزاً للهوية اليهودية وركيزة أساسية لها.
وفي هذه الموسوعة، حينما تكون الإشارة للصهيونية التوطينية، فإن الإشارة تكون عادةً للمرحلة الثانية التي تتضمن الدعم المالي والضغط السياسي من أجل المُستوطَن الصهيوني وتدعيم هوية يهود الخارج. وينقسم الصهاينة التوطينيون إلى اثنيين دينيين وإثنيين علمانيين.
الصهيوني اليهودي غير اليهودي
Non-Jewish Jewish Zionist(16/467)
«الصهيوني اليهودي غير اليهودي» مصطلح قمنا بصياغته لوصف بعض زعماء الحركة الصهيونية في مرحلة تأسيسها، كما يمكن استخدامه لوصف كثير من جماهير الصهيونية في الوقت الحالي. و «اليهودي غير اليهودي» هو يهودي فقد الإيمان الديني، ومن ثم فإنه لا يمارس شعائر دينه، كما أنه اندمج تماماً في مجتمعه بحيث لم يَعُد يتسم بأية سمات إثنية يمكن أن يُطلَق عليها «يهودية» إذ لم يبق من هذه الهوية إلا قشرة رقيقة لا أهمية لها، ولكنه رغم ذلك يُصنَّف باعتباره يهودياً إما لأن الآخرين يقومون بتصنيفه كذلك رغماً عنه أو لأنه يدَّعي ذلك.
ونحن نذهب إلى أن مؤسسي الحركة الصهيونية من ذوي الخلفية الألمانية (هرتزل ونوردو ونوسيج) هم يهود غير يهود فقدوا كل ما يربطهم باليهودية، ولكنهم وجدوا أنفسهم، بسبب هجرة يهود اليديشية، قد أُعيد تصنيفهم كيهود. وبدأ الهمس بشأن تهديد «اليهود» للأمن القومي، ولذا فقد بدأ هؤلاء في البحث عن حل لمسألتهم اليهودية التي فُرضت عليهم فرضاً. وقد كانت الصيغة الصهيونية الأساسية مطروحة في أوربا، فقام هرتزل باكتشافها واكتشاف الإمبريالية كآلية لتنفيذها وطوّر صياغته الهرتزلية المراوغة التي جعلت بإمكان يهود شرق أوربا قبول الصيغة الأساسية الشاملة وتهويدها. وكان بإمكان هرتزل اليهودي غير اليهودي أن يلعب هذا الدور لأنه كان يُعَد يهودياً في نظر عالم غير اليهود (بسبب القشرة اليهودية المتبقية) ، كما كان يُعَد غربياً من قِبل يهود شرق أوربا إذ لم يروا فيه شيئاً يهودياً. ولذا، أمكن هرتزل أن يقوم بدور الجسر الموصل بين هذين العالمين.(16/468)
ورغم الاختلاف بين هرتزل وأثرياء الغرب المندمجين، فإن هؤلاء أيضاً كانوا صهاينة يهوداً غير يهود وجدوا أنفسهم مشغولين بحل المسألة اليهودية رغم أنفهم ومتورطين في الحلول الصهيونية. ويُلاحَظ أن القيادة الصهيونية اليهودية غير اليهودية كانت دائماً مشغولة بإفراغ أوربا من اليهود وفي أسرع وقت وكانت لا تكترث إلا قليلاً بطبيعة الدولة الوظيفية المزمع إنشاؤها بتوجهها الإثني أو الديني أو العقائدي.
ويمكن القول بأن صهيونية هؤلاء اليهود غير اليهود لا تختلف كثيراً عن صهيونية غير اليهود، فكلاهما ينظر للمادة البشرية المُستهدَفة من الخارج، وكلاهما يحاول تخليص أوربا منها وتوظيفها لصالحها ولا يرى لها أية قيمة في حد ذاتها. وحينما تم تهويد الصيغة الصهيونية الأساسية واستبطنتها المادة البشرية، استولت القيادات من يهود شرق أوربا على المنظمة الصهيونية وتخلَّى الصهاينة اليهود غير اليهود عن القيادة بالاستمرار في الدعم المالي والمعنوي، شأنهم في هذا شأن دول العالم الغربي.(16/469)
وبعد تأسيس الدولة، وبعد استيلاء الصهيونية على مقاليد الأمور بالنسبة للجماعات اليهودية والغرب، حَدَث تطوُّر من نوع آخر إذ ظهر في الغرب اليهودي غير اليهودي مدَّعي اليهودية. وقد انضمت أعداد كبيرة من هؤلاء للحركة الصهيونية للحفاظ على بقايا هويتهم. وقد قبلتهم الحركة الصهيونية حتى يمكنها الاستمرار في ابتزازهم مالياً وتوظيفهم في دعم المُستوطَن الصهيوني وفي الضغط السياسي من أجله. ومثل هؤلاء الصهاينة اليهود غير اليهود على استعداد تام للقيام بهذه المهمة ما دامت لا تؤدي إلى وضع ولائهم لأوطانهم موضع الشك وما دامت لا تضطرهم إلى الهجرة، وهو ما يعني أن نشاطهم الصهيوني يدور في نطاق المصالح الغربية والعقد الاجتماعي الغربي. ولذا، يمكن القول بأن صهيونية اليهود غير اليهود (رغم اختلاف جذور اليهودية المزعومة من القسر الخارجي إلى الادعاء الذاتي) لم تتغيَّر، وهي امتداد غربي داخل اليهود واليهودية وليست امتداداً يهودياً داخل الحضارة الغربية.
صهيونية الصالونات
Salon Zionism
«صهيونية الصالونات» اصطلاح سكه المفكر الصهيوني العمالي بوروخوف، ويشير إلى صهيونية أعضاء الطبقة الوسطى اليهود الذين لا يوجد لديهم حافز قوي لتأسيس الدولة الصهيونية، ولذا فهم يتحدثون عنها ولكنهم، بسبب موقعهم الطبقي، لن يبحثوا بشكل جذري عن طريقة عملية لتأسيسها. ولم يجد المصطلح رواجاً ولم يستخدمه أحد في الأدبيات الصهيونية رغم أهميته، وهو يكاد يرادف مصطلح «الصهيونية التوطينية» .
صهيونية أثرياء الغرب اليهود المندمجين (لتوطينية (
Settlement Zionism of the Assimilated Wealthy Jews of Western Europe(16/470)
«صهيونية أثرياء الغرب» شكل من أشكال الصهيونية التوطينية (بين اليهود في مرحلة ما قبل هرتزل وبلفور) ظهرت بين أثرياء الغرب اليهود المندمجين. وقد كان هؤلاء الأثرياء بمنزلة قيادة ليهود العالم بسبب نفوذهم المستمد من ثروتهم وتواجدهم في مواقع مهمة داخل التشكيل الحضاري الغربي، فهم كانوا لا يزالون يلعبون دور الوسيط (شتدلان) التقليدي، ويتشفعون لأعضاء الجماعات اليهودية عند الحكام والسلطات الرسمية. ولعل حادثة دمشق وتدخُّل موسى مونتفيوري من أهم الأمثلة على ذلك.(16/471)
ومع النصف الأخير من القرن التاسع عشر، تدفَّق يهود اليديشية من شرق أوربا على غربها وتحوَّلت القضية بالتدريج من مجرد تشفُّع لهذا اليهودي أو تلك الجماعة إلى قضية توطين اليهود في أماكن متفرقة من العالم، أي أنها أصبحت قضية الصهيونية التوطينية. والواقع أن تبنِّي أثرياء الغرب المندمجين أحد أشكال الصهيونية ينم عن تناقض عميق، إذ أن طبيعة وضعهم في مجتمعاتهم كان يستند إلى تصوُّر أنهم أعضاء أقلية دينية وحسب لا يربطهم بأعضاء الجماعات اليهودية الأخرى سوى رباط واه، وأن ولاءهم يتجه لأوطانهم بالدرجة الأولى والأخيرة، وأن هويتهم القومية (الإنجليزية أو الفرنسية مثلاً) لا علاقة لها بانتمائهم الديني ولا تتأثر به. وهم في اندماجهم هذا يُعدُّون مثلاً حياً لانتصار المُثُل الليبرالية وعلى مدى عظمة الحضارة الغربية. ولكنهم بتورُّطهم في مشروع صهيوني (حتى لو كان توطينياً) ، يقرون ضمناً بوحشية الحضارة الغربية التي تقتلع أعضاء الأقليات التي تعيش بين ظهرانيها وبفشل المُثُل الليبرالية ومُثُل الاندماج والتحديث. ولكن أثرياء الغرب المندمجون وقعوا في هذا المأزق لأسباب خارجة عن إرادتهم، فرغم عدم تَماثُل تجربة أثرياء الغرب مع التجربة اليديشية الحضارية والسياسية، ورغم أن مصير أعضاء كل جماعة كان مرتبطاً تماماً بالحركيات التاريخية لمجتمعهم، ومع تعثُّر التحديث في شرق أوربا (وهو تعثُّر صاحَبه انفجار سكاني حاد بين أعضاء الجماعات اليهودية) خرج مئات الألوف بل الملايين من اليهود الفائضين من شرق أوربا ووصلت جحافلهم إلى النمسا وفرنسا وشواطئ بريطانيا. وقد هدَّد هؤلاء اليهود المواقع الطبقية والمكانة المتميِّزة الجديدة التي كان يشغلها يهود الغرب المندمجون. بل يُقال إنهم كانوا يهددون الأمن الاجتماعي للدول التي يهاجرون إليها. وهنا حدث التشابك بين «مصير» يهود شرق أوروبا وأثرياء يهود الغرب (و «تشابك المصير» يختلف عن وحدة المصير التي(16/472)
يتحدث عنها الصهاينة) ، فيهود الغرب نظروا إلى القادمين على أنهم (على أسوأ تقدير) خطر يتهددهم أو على أنهم (على أحسن تقدير) إخوة في الدين سيئو الحظ يستحقون الإحسان. وقد عبَّر ذلك عن نفسه من خلال مشاريع صهيونية توطينية يمولها يهود الغرب لإغاثة يهود الشرق وللتخلص منهم في الوقت نفسه.
وقد كان أثرياء اليهود في الغرب، مثل روتشيلد وهيرش ومونتفيوري، على استعداد لتمويل مشروعات لتوطين يهود شرق أوربا في أية بقعة خالية (أو يُتصوَّر أنها خالية) خارج أوربا (مثل الأرجنتين) وظهرت المؤسسات التوطينية اليهودية المختلفة التي كان يدعمها هؤلاء الأثرياء (مثل الأليانس وجمعية الإغاثة التي كانت تهدف إلى توطين اليهود في مختلف أنحاء العالم وإلى تحسين أحوال أعضاء الجماعات اليهودية، وخصوصاً في شرق أوربا في أوطانهم بما يكفُل عدم هجرتهم) . وكانت هذه المؤسسات تقوم بتدريب أعضاء الجماعات اليهودية حتى يمكنهم إما التكيف مع الأوضاع الاقتصادية الجديدة في أوطانهم الأصلية أو العمل في مهنة جديدة تحتاج إليها الأوطان الجديدة التي وُطِّنوا فيها.
ويجب تأكيد أن هذه المشاريع والمساعدات التي يمكن أن نطلق عليها «الصهيونية الخيرية» أو «صهيونية الإغاثة والإنقاذ» كانت تتسم بما يلي:
1 ـ قلّصت الصهيونية التوطينية نطاق اهتمامها، فهي لا تهتم باليهود ككل، وإنما بيهود شرق أوربا وحسب، وخصوصاً الفقراء الذين يتم توجيه عملية الإنقاذ والإغاثة إليهم وحدهم (أما يهود الغرب أنفسهم فيتم إنقاذهم من يهود اليديشية. وقد لاحَظ هرتزل أن الصهيونية التوطينية تتضمن نزعة معادية لليهود ((16/473)
2 ـ تتم عملية الإنقاذ بشكل عملي برجماتي خارج أي مشروع قومي أو سياسي يهودي مستقل، فالصهيونية التوطينية معادية لما يُسمَّى «القومية اليهودية» ، ولذا فإن مشاريعها لم تكن مرتبطة بفلسطين أو أرض الميعاد ولا بالأفكار الدينية اليهودية التقليدية ولا باللغة العبرية، وكانت الأليانس (على سبيل المثال) تدافع عن استخدام الفرنسية.
3 ـ يُلاحَظ أن كل شخصية، وكل جمعية صهيونية خيرية، كانت تتبع في نشاطها الدولة الأوربية التي تنتمي إليها، فالأليانس كانت تتبع فرنسا وتحاول الدفاع عن المصالح والثقافة الفرنسية، على عكس جمعية الإغاثة التي كانت تحاول الدفاع عن المصالح والثقافة الألمانية، وبهذا يؤكد الصهاينة التوطينيون انتماءهم الكامل لأوطانهم.
4 ـ لا يمكن إنكار أن روتشيلد، أو غيره من أثرياء الغرب، استفادوا كأفراد من نفوذهم في العالم الغربي ومن علاقتهم مع الحكومات الاستعمارية المختلفة في عملية شراء الأرض لتوطين الفائض اليهودي من شرق أوربا. ولكن هذا لا يغيِّر بتاتاً التوجُّه الكلي ذا الطابع الخيري الإغاثي الذي ينفر من الإطار العقائدي الصهيوني.
5 ـ لما كانت عملية التوطين عملية إنقاذ وإغاثة بدون ديباجة قومية، فإنها ستتم في أية بقعة من العالم) لأرجنتين أو شرق أفريقيا أو فلسطين) ، وبشكل قانوني عن طريق شراء الأرض. ولم يول صهاينة الغرب المندمجون مشكلة السكان الأصليين أي اهتمام لأن الأمر لم يكن يعنيهم كثيراً، ولأن اهتمامهم كان ينصب بالدرجة الأولى على تخليص أوربا من فائضها اليهودي وتوطينه في أي مكان وبأية شرط (تجدُر الإشارة هنا إلى أنه، على مستوى الممارسة، كان مندوبو روتشيلد وجماعة أحباء صهيون يشترون الأرض في فلسطين ويطردون سكانها منها ويوطنون فيها اليهود ((16/474)
ويمكننا أن نقول إن أولى الاتجاهات الصهيونية بين اليهود هي صهيونية الأثرياء المندمجين في غرب أوربا. وقد توجَّه إليهم صهاينة شرق أوربا التسلليون. ويمكن أن نضع داخل هذا الإطار محاولات السير موسى مونتفيوري، والبارون موريس دي هيرش المليونير اليهودي الذي ساهم بتبرعات سخية للأليانس وموَّل مشروعات توطين اليهود في الأرجنتين وغيرها من البلدان وأسَّس جمعية الاستيطان اليهودي (إيكا) لهذا الغرض، وإدموند جيمس دي روتشيلد، وجمعية الإغاثة اليهودية في ألمانيا، وجمعية الأليانس، والمحاولات المختلفة الرامية إلى توطين اليهود في الأرجنتين والبرازيل.
وقد ظهرت عدة مؤسسات توطينية استمرت في نشاطها حتى الحرب العالمية الثانية. بل لا يزال بعضها يمارس نشاطه في الوقت الحالي رغم اعتراض المنظمة الصهيونية العالمية.
ورغم أن يهود الغرب وأثرياءهم هم الذين مولوا عمليات التوطين الأولى، فإنهم لم يكونوا قط مرشحين لقيادة الحركة الصهيونية لعدة أسباب:
1 ـ لم يوافق هؤلاء اليهود قط على المضمون القومي للتوطين الذي كان يهود الشرق يحاولون فرضه.
2 ـ بعد أن أصبح المشروع الصهيوني جزءاً لا يتجزأ من المشروع الاستعماري الغربي، رضخ يهود الغرب للأمر الواقع. ولكنهم آثروا، مع هذا، الاحتفاظ بمسافة بينهم وبينه، فهم في نهاية الأمر مستفيدون من المُثُل الليبرالية السائدة في مجتمعاتهم، وهي مُثُل تتناقض مع المُثُل التي ينطلق منها المشروع الصهيوني.
3 ـ لم يكترث يهود الغرب بيهودية المشروع الصهيوني، فما كان يعنيهم أساساً هو إبعاد يهود شرق أوربا عنهم. وهم، في هذا، كانوا أقرب للصهاينة غير اليهود منهم للصهاينة من اليهود، ولذا فهم صهاينة يهود غير يهود.(16/475)
4 ـ لم تكن هذه القيادات تعرف شيئاً عن المادة البشرية اليهودية المستهدفة التي كان يُراد نَقْلها إلى فلسطين، كما لم تكن تدرك لغتها ولا طموحاتها أو آلامها، ولذا فقد كانت تنظر إليها من الخارج شأنها في هذا شأن صهيونية غير اليهود.
5 ـ كانت قوة أثرياء الغرب في نهاية الأمر محدودة، فقد كانوا يملكون أن يتوسطوا لدى السلطان العثماني ليُحسِّن أحوال اليهود أو ليمنحهم قطعة أرض، ولكن لم يكن بوسعهم أن يطلبوا لليهود أرضاً ينشئون عليها دولة، كما أنهم لم يكن عندهم أي إدراك لحتمية الاستعانة بالإمبريالية في أية عملية توطينية.
وحينما ظهرت الصهيونية التسللية، حاول الصهاينة التسلل إلى فلسطين لإنشاء دولة يهودية دون مظلة إمبريالية (أي أن التسلليين ـ رغم اختلاف مقاصدهم عن مقاصد أثرياء اليهود في الغرب ـ وقعوا في الخطأ نفسه، فقد نظروا إلى قضية الاستيطان دون إدراك حتمية الاستعانة بالإمبريالية) . ولذا، فقد توجَّهت الصهيونية التسللية إلى روتشيلد وغيره طالبة منهم العون. ولعل عدم إدراك حتمية الاستعانة بالإمبريالية في عملية الاستيطان والتوطين هي الرقعة المشتركة بين التسلليين وأثرياء الغرب المندمجين، وذلك رغم أن التسلليين استيطانيون والأثرياء توطينيون. ثم ظهر هرتزل الذي أدرك حتمية الاستعانة بالإمبريالية الغربية لإنشاء الدولة اليهودية، فتخطى يهود الغرب وأثرياءهم وتسلليي الشرق، وتوجَّه إلى الدول الاستعمارية مباشرةً فسقطت القيادة في يده منذ البداية.(16/476)
ويتفق هرتزل مع أثرياء الغرب التوطينيين في عدم اكتراثه بمشاكل الهوية والوعي، فهو ينظر إلى يهود اليديشية من الخارج تماماً كما ينظر إليهم أثرياء الغرب. ولكنه، مع هذا، طوَّر الصيغة المراوغة التي تركت الباب مفتوحاً أمامهم ليلقوا بالصدقات على الاستيطانيين دون أن تطأ أقدامهم أرض الميعاد نظير ألا يهاجمهم أحد أو يتهمهم بالتنكر ليهوديتهم. والواقع أن هذا جزء من العقد الصهيوني الصامت.
ومع صدور وعد بلفور، دخلت الصهيونية التوطينية مرحلة جديدة تماماً، فقد سقطت تهمة ازدواج الولاء إذ تحولت الصهيونية نفسها إلى مشروع تابع للحضارة الإمبريالية الغربية، وتأييد مثل هذا المشروع يمكن أن ينبع من الولاء للوطن الأم ولا يتناقض مع وطنية المرء، وهذا ما كان يعنيه برانديز حين قال: "كي أصبح مواطناً أمريكياً صالحاً، يجب أن أصبح يهودياً أفضل، وكي أصبح يهودياً أفضل يجب أن أصبح صهيونياً"، ذلك أن الصهيونية واليهودية والوطنية الأمريكية أمور مترادفة بالنسبة له ولصهاينة الغرب التوطينيين، ومن ثم أصبح بالإمكان اندماج الصهيونية الدبلوماسية الاستعمارية وصهيونية الأثرياء المندمجين لتظهر صهيونية الشتات التوطينية.
موسى مونتفيوري (1784-1885 (
Moses Montefiore(16/477)
ثري ومالي بريطاني يهودي، زعيم الجماعة اليهودية في إنجلترا، ومن كبار المدافعين عن الحقوق المدنية لليهود في إنجلترا والعالم. وُلد في بريطانيا لأسرة إنجليزية ذات أصول إيطالية سفاردية استقرت في إنجلترا في القرن الثامن عشر. وبدأ عمله كسمسار في بورصة لندن حيث حقق ثراءً سريعاً. وقد ارتبط بعائلة روتشيلد المالية الثرية من خلال المصاهرة، الأمر الذي ساعده في مجال أعماله. وقد كان مونتفيوري من أوائل المشاركين في تأسيس البنوك الصناعية بالتعاون مع المؤسسة الإنجليزية ـ الأمريكية العاملة في مجال الماس والمال والتي اشترك في تأسيسها إرنست أوبنهايمر اليهودي الثري رجل الصناعة والمال في جنوب أفريقيا. وقد حقق مونتفيوري ثروة طائلة من خلال أعماله، وهو ما مكَّنه من اعتزال العمل عام 1824. وقد كان مونتفيوري ثاني يهودي يتولى منصب عمدة لندن وأول يهودي يحصل على لقب «سير» .(16/478)
وقد كرَّس مونتفيوري جهوده بعد ذلك للقضايا المرتبطة بأوضاع الجماعات اليهودية في شرق أوربا والعالم الإسلامي، وزار فلسطين سبع مرات، وقدم لمحمد علي باشا عام 1838 خطة لتوطين اليهود في فلسطين تتضمن توفير وضع متميِّز لليهود وقدر كبير من الاستقلال الذاتي وتنمية المشاريع الزراعية والصناعية في فلسطين حتى يحقق اليهود الاعتماد على الذات. وفي المقابل، اقترح مونتفيوري تأسيس البنوك في المدن الرئيسية في المنطقة لتقدِّم التسهيلات الائتمانية للمنطقة بأكملها. وقد ساهم مونتفيوري في تأسيس بعض المستوطنات الزراعية في الجليل ويافا، وأسَّس أول حي يهودي خارج أسوار مدينة القدس القديمة، كما أسس بعض المشاريع الصناعية. وقد التقى بمحمد علي مرة أخرى في القاهرة عام 1840 لبحث قضية دمشق، إلا أن مشاريعه في فلسطين تعثرت بعد خروج محمد علي من فلسطين تحت ضغط القوى العظمى في تلك الفترة. ومع ذلك، نجح في إقناع السلطان العثماني بمنح الامتيازات التي كان يتمتع بها الأجانب لليهود في جميع أرجاء الإمبراطورية العثمانية، وهو ما ساهم بدون شك في تحويلهم إلى عنصر أجنبي منبتّ الصلة بالمنطقة وذي قابلية خاصة للتحول إلى جماعة وظيفية استيطانية.
وقد اهتم مونتفيوري أيضاً بأوضاع الجماعات اليهودية في شرق أوربا، فزار روسيا عامي 1846 و1872 لبحث حالتهم مع الحكومة القيصرية، كما زار المغرب عام 1863 ورومانيا عام 1867 للغرض نفسه.(16/479)
وقد اكسبته جهوده لصالح الجماعات اليهودية، ومهاراته وحنكته الدبلوماسية، وقدرته على الوصول إلى الحكام المناسبين، مكانة واحتراماً كبيراً، خصوصاً لدى الحكومة البريطانية حيث كان كثير من نشاطاته متفقة مع السياسات الاستعمارية البريطانية. وكان تأييده للاستيطان اليهودي في فلسطين، شأنه شأن معظم الأثرياء اليهود المندمجين في الغرب، يهدف إلى تحويل تيار الهجرة المتدفق من شرق أوربا على غربها بعيداً عنها، لأن هذا التيار كان يهدد وضعه الطبقي والحضاري في إنجلترا. ولذلك، كان من أهم اهتماماته تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج، عن طريق رَبْطهم بالأرض ومهنة الزراعة وإنشاء المستوطنات الزراعية وإدخال العلوم العصرية في المدارس اليهودية في شرق أوربا.
وقد واصل ابن أخته يوسف سيباج مونتفيوري (1822 ـ 1903) نشاط خاله في فلسطين، وتولَّى منصب نائب رئيس حركة أحباء صهيون. وقد أُعيد دفن جثمان مونتفيوري وزوجته في إسرائيل عام 1973.
موريس دي هيرش (1831-1896 (
Maurice de Hirsch(16/480)
ثري ألماني يهودي، ومؤسس جمعية الاستيطان اليهودي، وأول من فكر في إعادة توطين اليهود على نطاق واسع. وقد وُلد هيرش لعائلة يهودية ثرية ومرموقة وكان والده من يهود البلاط. وقد تلقى في صباه دراسة دينية وتعلَّم العبرية. وفي بروكسل، اشتغل في مؤسسة مصرفية كبيرة مملوكة لعائلة يهودية مالية ذات مكانة مرموقة في بلجيكا، هي عائلة بيسخوفشايم. وقد ارتبط هيرش بهذه العائلة من خلال الزواج، وهو ما سهَّل له البدء في مشاريع تمويل بناء السكك الحديدية في تركيا والنمسا ودول البلقان. وقد كان للمموِّلين اليهود بصفة عامة (في القرن التاسع عشر) دور مهم في تمويل بناء السكك الحديدية في أوربا وهو مجال كان لا يزال في بداياته، وبالتالي كان ينطوي على كثير من المجازفة. إلا أن تراث اليهود كجماعة وظيفية، وتَشعُّب خبراتهم وعلاقاتهم المالية، أهَّلهم لدخول هذه المجالات الجديدة وتحقيق قدر كبير من النجاح. وقد حقق هيرش من خلال نشاطه في هذا المجال، وأيضاً من خلال نشاطه في المضاربات على سلعتي السكر والنحاس، ثروة طائلة في عام 1890، وإن كانت الشبهات تحيط بمصادر الجانب الأعظم من هذه الثروة. وليس أدل على ذلك من الفضيحة المالية التي تفجرت عقب نجاح هيرش عام 1869 في إبرام صفقة مع الدولة العثمانية للحصول على امتياز إنشاء وتشغيل شبكة خطوط حديدية في البلقان، حيث كُشف النقاب آنذاك عن الأساليب الملتوية التي لجأ إليها هيرش للحصول على الصفقة، ثم أشكال التلاعب في تنفيذ المشروع نفسه.(16/481)
وقد كان هيرش واعياً بالمسألة اليهودية في شرق أوربا، فاهتم بنشاط الأليانس إسرائيليت يونيفرسل التعليمي، وتبرع لها بمبلغ مليون فرنك، ثم خصص لها صندوقاً يوفر لها عائداً سنوياً كبيراً. كما قدم للحكومة الروسية مبلغ مليونين من الجنيهات لإنشاء نظام تعليمي حديث، إلا أن تبرعه رُفض نظراً لإصراره على فرض الوصاية على هذا المشروع. فقام بتأسيس جمعية الاستيطان اليهودي (إيكا) برأسمال قدره مليونين من الجنيهات دفعها كلها تقريباً. وكانت الجمعية تهدف إلى تهجير وتوطين اليهود في كندا والولايات المتحدة والأرجنتين والبرازيل وتحويلهم إلى قطاع اقتصادي منتج عن طريق تعليمهم الزراعة والحرف المختلفة. ويمكن فَهْم اهتمام هيرش سواء بتعليم يهود شرق أوربا أو بإعادة توطينهم في ضوء حقيقتين: أن الهجرة من الشرق كانت تهدد وَضْع يهود الغرب المندمجين، وهو ما دفع هؤلاء إلى محاولة إبعاد هذه الهجرة من أوربا إما عن طريق إعادة توطين اليهود في دول أخرى، ومن ناحية أخرى عن طريق إعادة تعليمهم حتى يكتسبوا خبرات صناعية وزراعية تؤهلهم للانضمام للمجتمع الأم الذي لم يَعُد بحاجة إلى اليهودي بخبراته القديمة. كما أن حركة توطين اليهود كانت تتم في إطار اهتمام أوربا بإنشاء مجتمعات استيطانية في الدول المختلفة في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية كجزء من سياسة التوسع الاستعماري. ـ(16/482)
وقد حاول أحباء صهيون وهرتزل أن يطلبوا من هيرش العون لمشاريعهم ولكنه اعتبر محاولة إنشاء دولة صهيونية في فلسطين مجرد وهم كبير. ومع ذلك، فقد ظل على إيمانه بإمكانية تحويل يهود أحياء الجيتو في شرق أوربا إلى شعب زراعي. وقد استمرت جمعية الاستيطان اليهودي في نشاطها بعد وفاته، لكن صندوقها تحوَّل لخدمة الاستيطان في فلسطين. وفي عام 1923، تم دَمْج مؤسستي روتشيلد وهيرش تحت اسم بيكا (هيئة الاستيطان اليهودي في فلسطين) وبلغ مجموع ما امتلكته هذه المؤسسة الموحَّدة خلال ربع قرن (1922 ـ 1948) ما مساحته 45 ألف دونم، أو ثلث ما كان بحوزة اليهود من أراض عند إعلان قيام إسرائيل.
بنيامين بيشوتو (1834-1890 (
Benjaminn Peixotto(16/483)
محام ودبلوماسي أمريكي يهودي. وُلد في نيويورك لعائلة يهودية سفاردية هاجرت إلى الولايات المتحدة في أوائل القرن التاسع عشر قادمة من أمستردام. عاش في كليفلاند، واشتغل في تجارة الملابس، كما درس القانون ونشط في السياسة وساهم بالافتتاحيات السياسية في إحدى صحف كليفلاند المحلية. كما نشط في مجال شئون الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة، فانضم إلى منظمة أبناء العهد (بناي بريت) عام 1863 وانتُخب رئيساً للمحفل الأعلى في العام نفسه واحتفظ بهذا المنصب لمدة أربع دورات. وكان بيشوتو وراء جهود المحفل لإقامة ملجأ للأيتام اليهود في كليفلاند عام 1869. كما كان من مؤسسي اتحاد الطوائف الأمريكية العبرية وجريدة منوراه منثلي. وتعود أهمية بيشوتو إلى أنه اختير أول قنصل عام أمريكي لدى رومانيا بعد أن رشحه الرئيس الأمريكي يوليسس جرانت لهذا المنصب عام 1870 وذلك بإيعاز من بعض أثرياء اليهود الأمريكيين، وخصوصاً عائلة سليجمان المالية الثرية. وقد جاء ذلك بعد تدهور أوضاع الجماعة اليهودية في رومانيا وتزايد حدة الاضطهاد ضدهم، فكان الغرض من إرسال بيشوتو الضغط على الحكومة الرومانية لإعتاق اليهود وتحسين أوضاعهم. ونظراً لأن الحكومة الأمريكية لم توفر التكاليف المادية لهذا المنصب، فقد تكفَّلت بها مجموعة من الأثرياء اليهود الأمريكيين ومنظماتهم الإسرائيلية وعدد من الشخصيات اليهودية الفرنسية والإنجليزية البارزة وعلى رأسهم سير فرانسيس جولد سميد. وفي رومانيا، نجح بيشوتو في إقامة علاقة طيبة مع الأمير شارل حاكم البلاد. وبادر بتأسيس مدارس يهودية وجمعيات ثقافية. كما حاول بيشوتو توحيد يهود رومانيا داخل إطار واحد، فأسَّس منظمة «جماعة صهيون» التي ارتبطت فيما بعد بمنظمة أبناء العهد (بناي بريت) . وخلال السنوات الخمس التي أمضاها بيشوتو في رومانيا، تقلَّص عدد الهجمات ضد اليهود وكذلك القوانين المناهضة لهم. كما لعب بيشوتو دوراً مهماً(16/484)
بالتعاون مع بعض الشخصيات اليهودية الأوربية البارزة في الدعوة إلى انعقاد مؤتمر بروكسل عام 1872 الذي بحث أوضاع الجماعات اليهودية في دول البلقان.
والواقع أن إرسال بيشوتو إلى رومانيا وجهوده فيها، والدعم المادي والسياسي الذي توافر له من قبَل كبار الشخصيات اليهودية الأمريكية والأوربية، لم يكن بدافع إنساني محض أو بدافع إنقاذ بني جلدتهم من يهود رومانيا ودول البلقان، فقد كان الدافع الأساسي والأهم تحسين أوضاع الجماعات اليهودية في رومانيا وفي شرق أوربا بشكل عام في ظل التدهور الاقتصادي والاجتماعي الذي كانت تشهده هذه المنطقة حتى لا تتدفق هجرتهم إلى غرب أوربا والولايات المتحدة بما قد يسفر عنه ذلك من تهديد للأوضاع الطبقية والمراكز الاجتماعية لأثرياء اليهود المندمجين. وتأكيداً لذلك، عندما اقترح بيشوتو فَتْح باب الهجرة أمام يهود رومانيا إلى الولايات المتحدة قوبل بهجوم شديد من المجموعات اليهودية الغربية التي كانت تدعمه ثم أعلنت رفضها التام والقاطع لهذه السياسة. كما أن يهود رومانيا أنفسهم عارضوا مثل هذا القرار الصهيوني لأنه يضع حقوقهم السياسية في وطنهم موضع التساؤل. وبطبيعة الحال، كانت القوة الوحيدة التي أيَّدت جهود بيشوتو هي الحكومة الرومانية المعادية لليهود.
إدموند دي روتشيلد (1845-1934 (
Edmond de Rothschild
أحد زعماء الفرع الفرنسي لعائلة روتشيلد المالية اليهودية، وهو أحد الأبناء الخمسة لجيمس ماير دي روتشيلد (1792 ـ 1868) مؤسس فرع العائلة في فرنسا. ترجع أهميته لمساهمته الكبيرة في المشاريع الاستيطانية اليهودية في فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.(16/485)
بدأ اهتمام إدموند جيمس روتشيلد بقضية يهود اليديشية وبعملية توطين اليهود في فلسطين في الثمانينيات من القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي شهدت هجرة أعداد كبيرة من يهود شرق أوربا إلى غربها وإلى الولايات المتحدة وغيرها من الدول الاستيطانية، عقب تعثُّر عملية التحديث في شرق أوربا ثم توقُّفها. وقد تحمَّس روتشيلد وغيره من أثرياء اليهود المندمجين في أوربا للمشروع الصهيوني نظراً لتخوفهم مما قد يخلقه تدفُّق هذه الأعداد الكبيرة من يهود شرق أوربا ذوي الثقافة اليديشية الشرق أوربية المتميِّزة (والمتخلفة في نظرهم) والتقاليد الدينية المحافظة ذات الطابع اليهودي الواضح على غرب ووسط أوربا. فوصول مثل هذه الجماعات من يهود اليديشية كان يمثل تهديداً لمكانتهم الاجتماعية ومواقعهم الطبقية، وبالتالي فقد تبنوا ما نسميه «الصهيونية التوطينية» ، أي محاولة يهود العالم الغربي المندمجين توطين يهود آخرين (عادةً من شرق أوربا) في فلسطين. وقد عبَّر روتشيلد نفسه عن هذه المفارقة في ملاحظة طريفة ذكية، إذ سُئل مرة عن الوظيفة التي يود أن يشغلها عند تأسيس الدولة الصهيونية فقال: "سفيرها في باريس بالطبع".(16/486)
ولم يكن روتشيلد مؤيداً أول الأمر لصهيونية هرتزل السياسية، وقد اتسمت أول مقابلة بينهما في باريس عام 1896 بالفتور الشديد، بل كان يرى أن هرتزل ليس إلا شنورر، أي متسول مثل آلاف المتسولين من شرق أوربا الذين كانوا يتدفقون على وسطها وغربها. كما أن روتشيلد كان يذهب إلى أن المشروع الصهيوني برمته مشروع غير عملي، وأن فلسطين لن تستطيع استيعاب هجرة جماعية ضخمة. وكان يرى أنه بالرغم من حاجة السلطان العثماني إلى النقود إلا أنه لن يمنح فلسطين للصهاينة لتأسيس دولة فيها، وأنه سيكتفي بإعطاء بعض الوعود الغامضة التي لا قيمة لها. كما كان يخشى من أن تثير إقامة دولة يهودية مشاعر معادية لليهود وتؤدي إلى المطالبة بطرد اليهود من البلاد التي يعيشون فيها. لكل هذا، كان روتشيلد يفضل أن تتم عملية الاستيطان في فلسطين بشكل هادئ وتدريجي. إلا أنه مع توسُّع الاستيطان اليهودي في فلسطين، والذي تم تحت رعايته، ونجاح المشاريع المختلفة التي أسسها هناك، توطدت علاقته بالمنظمة الصهيونية، وخصوصاً بعد الحرب العالمية الأولى، حيث استخدم نفوذه للحصول على موافقة فرنسا على وعد بلفور وعلى إدخال فلسطين تحت الانتداب البريطاني.
كما أن عملية توطين اليهود في فلسطين كان لها بعدها السياسي، فروتشيلد كان مرتبطاً بالمصالح الرأسمالية الإمبريالية الفرنسية التي كانت تريد توسيع رقعة نفوذها في الشرق وكانت تفكر بحماس شديد في التركة التي سيتركها رجل أوربا المريض (الدولة العثمانية) . والمشروع الصهيوني هو في نهاية الأمر جزء من المخطط الإمبريالي لاقتسام الإمبراطورية العثمانية.(16/487)
وقد بدأ روتشيلد اهتمامه بأعمال الاستيطان اليهودي في فلسطين بعد أن توجهت إليه حركة أحباء صهيون التي كانت تتولى أعمال الاستيطان في فلسطين في تلك الفترة، كما توجَّه إليه زعماء مستوطنة ريشون لتسيون التي كانت تعاني أزمة مالية حادة مطالبين إياه بتقديم دعمه المالي لنشاطهم في فلسطين. وبالفعل، ما كان بوسع المستوطنات الأولى التي أقيمت في فلسطين الاستمرار لولا معونات روتشيلد. وقد وصل إنفاقه على المستوطنين خلال الفترة بين 1883 و 1899 نحو 1.600.000 جنيه إسترليني في حين كان إسهام حركة أحباء صهيون 87.000 جنيه إسترليني فقط. وقد اشترى روتشيلد أرضاً في فلسطين أواخر عام 1883 لإقامة مستوطنة زراعية نموذجية لحسابه الخاص أطلق عليها اسم والدته. كما أسس عدة صناعات للمستوطنين الصهاينة مثل صناعة الزجاج وزيت الزيتون، وعدداً من المطاحن في حيفا، وملاحات في عتليت، كما ساهم في تأسيس هيئة كهرباء فلسطين عام 1921. إلا أن أهم الصناعات التي أقامها وأوسعها نطاقاً كانت صناعة النبيذ التي كان يسعى روتشيلد إلى ربطها بصناعة النبيذ المملوكة لعائلة روتشيلد في فرنسا.(16/488)
وقد وصل حجم رعاية روتشيلد ودعمه للمستوطنات إلى الحد الذي أكسبه لقب «أبو اليشوف» أي أبو المُستوطَن الصهيوني. وحينما اختلف المستوطنون الصهاينة، حذَّرهم ليو بنسكر، أحد زعماء ومفكري حركة أحباء صهيون، قائلاً "إن مفاتيح المُستوطَن الصهيوني توجد في باريس". وكان روتشيلد يحكم المستوطنات من خلال جهاز بيروقراطي يشغله موظفون فرنسيون من اليهود وغير اليهود يراقب عمليات إنفاق أموال روتشيلد واستثمارها ويقدم الخبرات للمستوطنين في المجال الزراعي. وقد كانت هذه الرعاية البيروقراطية للمستوطنات مصدر مشاكل كثيرة ومثاراً للانتقادات الحادة نظراً لما كانت تثيره من خلافات بين المستوطنين من ناحية والموظفين الفرنسيين من ناحية أخرى. وقد دفع ذلك زعماء أحباء صهيون وزعماء المستوطنات إلى مطالبة روتشيلد بإنهاء هذا النظام عام 1901. وكان روتشيلد قد حوَّل إدارة مشاريعه في فلسطين عام 1899 إلى جمعية الاستيطان اليهودي وقدَّم لها منحة قدرها 4000.000 فرنك من أجل أن تموِّل نفسها ذاتياً. وفي عام 1924، أسس جمعية الاستيطان اليهودي في فلسطين والتي ترأسها ابنه جيمس أرماند (1878 ـ 1957) . وقد أسَّس روتشيلد من خلال هذه الهيئة أكثر من 30 مستوطنة في جميع أنحاء فلسطين، ووصل حجم إنفاقه على هذه المشاريع بعد عام 1900 نحو 7.000.000فرنك ذهبي.(16/489)
وإلى جانب المشاريع الاقتصادية، امتد نشاط روتشيلد إلى مجال التعليم حيث قدَّم دعماً مالياً عام 1923 للمدارس الصهيونية في المُستوطَن الصهيوني والتي كانت تواجه أزمة مالية، كما أمد حاييم وايزمان بالمعونة اللازمة لإنشاء الجامعة العبرية في القدس. وفي عام 1929، عُيِّن روتشيلد رئيساً فخرياً للوكالة اليهودية التي كانت قد أُنشئت قبل ذلك بسنوات قليلة. ولا شك في أن دعم روتشيلد وغيره من الأثرياء اليهود للحركة الصهيونية، بصرف النظر عن النوايا أو المصالح الذاتية، كانت مسألة أساسية، لولاها ما قامت للحركة قائمة ولما استطاعت أن تضرب بجذورها في أرض فلسطين.
ويُعتبر روتشيلد نمطاً متكرراً له دلالة عميقة:
1 ـ فهو من يهود العالم الغربي الذين حققوا حراكاً اجتماعياً ووصلوا إلى قمة المجتمع، ثم جاءت أفواج يهود اليديشية من شرق أوربا فهددوا مواقعهم الطبقية، ومن ثم تحوَّل يهود العالم الغربي إلى صهاينة توطينيين.
2 ـ تأييد روتشيلد للمشروع الصهيوني لم يكن تعبيراً عن هويته اليهودية أو جوهره اليهودي وإنما هو تعبير عن انتمائه الكامل للحضارة الغربية وللتشكيل الاستعماري الغربي. كما أن صهيونيته هي تعبير عن انتمائه الغربي وعن اندماجه في الحضارة الغربية، فالمشروع الصهيوني لا يمثل أيَّ تحدٍّ للمشروع الاستعماري الغربي، فالأول هو الجزء الأصغر أما الثاني فهو الكل الأكبر. ويُلاحَظ أن روتشيلد كان يعارض المشروع الصهيوني في بادئ الأمر ثم أيده بعد ذلك. والواقع أنه، في معارضته ثم في تأييده، ينطلق من انتمائه للتشكيل الحضاري الغربي ومن محاولة خدمة المصالح الغربية.
3 ـ قام روتشيلد بدعم المشروع الصهيوني، ولكنه دعم لم يكن يهدف إلى تأكيد استقلالية هذا المشروع إذ ظلت المفاتيح في باريس ولندن، بل يُلاحَظ تزايد اعتماد المشروع على الغرب ثم انتقال مفاتيحه إلى واشنطن.
صهيونية الشتات
Diaspora Zionism(16/490)
«صهيونية الشتات» أو «صهيونية الدياسبورا» هي الصهيونية التوطينية في مرحلة ما بعد هرتزل وبلفور.
الصهيونية التوطينية بعد بلفور
Settlement Zionism after Balfour
«الصهيونية التوطينية» مصطلح نستخدمه للإشارة لإيمان بعض الصهاينة أن الجانب الاستيطاني في الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة ينطبق على يهودي أو صهيوني آخر غيره وهي تشير إلى كلٍّ من صهيونية أثرياء الغرب المندمجين (ما قبل هرتزل) ودعاة الصهيونية الدبلوماسية الذين لا ينوون الاستيطان في فلسطين. كما تشير إلى ما يسمَّى «صهيونية الشتات» أو «صهيونية الدياسبورا» ، في مرحلة ما بعد هرتزل وبلفور. وحينما نستخدم المصطلح دون تخصيص، فإننا عادةً ما نشير إلى «الصهيونية التوطينية في مرحلة ما بعد بلفور» .
ونحن نضع «الصهيونية التوطينية» مقابل «الصهيونية الاستيطانية» . ولم تكن هناك فلسفة واضحة وراء صهيونية أثرياء الغرب المندمجين، فقد تبنوا الحل الصهيوني لأسباب نفعية عملية واضحة (تحويل سيل الهجرة عن بلادهم لأية بقعة أخرى في العالم) وكان انتماؤهم لأوطانهم أمراً واضحاً تماماً، ولذا فإنهم لم يكونوا في حاجة إلى أية اعتذاريات أو أنساق فلسفية أو فكرية لتبرير التناقض الكامن في موقفهم كصهاينة توطينيين يعيشون في أوطانهم ويسعدون بحياتهم فيها. وينطبق الموقف نفسه على دعاة الصهيونية الدبلوماسية.(16/491)
ولكن الوضع مختلف تماماً بالنسبة إلى الصهاينة التوطينيين بعد هرتزل وبلفور، وازداد الأمر حدة بعد إعلان الدولة الصهيونية إذ كيف يتأتى لأحد أن يُسمِّي نفسه صهيونياً (متشدداً في بعض الأحيان) ثم يضرب خيامه في باريس ولندن ونيويورك. ولذا، فقد حاول بعض مفكري الصهيونية التوطينية تطوير رؤية متكاملة لوضعهم كصهاينة يرفضون الهجرة، فحاولوا المزاوجة بين المُثُل الصهيونية التي ترى اليهود شعباً عضوياً منبوذاً معرضاً لكراهية الأغيار الأزلية من جهة، وبين مُثُل حركة الاستنارة التي ترى أن كل الناس متشابهون ومتساوون من جهة أخرى. وهذه المحاولة هي محاولة لاكتشاف رقعة واسعة مشتركة بين المثل الأعلى الصهيوني الذي يؤمن به التوطينيون والمُثل العليا الليبرالية التي تسيطر على المجتمعات التي يعيشون فيها. ولذا، نجد أن المحاولة تتلخص في رفض الرؤية الحلولية الكمونية العضوية أو تقليص مجالها لتحل محلها أو تكملها رؤية نسبية تعددية ترى أن كل الأمور متساوية.
ينطلق مفكرو الصهيونية التوطينية من أن الصهيونية لا تعادي حركة التنوير اليهودية وإنما هي امتداد لها، فالصهيونية تهدف إلى بعث الحياة اليهودية على أسس علمانية، أي على الأسس نفسها التي تُبنَى عليها المجتمعات الغربية. إن الصهيونية تؤيد الانعتاق الذي نادت به حركة التنوير الأوربية وتُطبِّقه على اليهود، والقومية اليهودية إن هي إلا قومية واحدة بين عديد من القوميات التي لها برنامج معيَّن يهدف إلى البعث القومي، واليهود إن هم إلا شعب تاريخي مثل بقية الشعوب، ليس أسوأ وليس أفضل منها.(16/492)
ويذهب هوارس ماير كالن، أحد أهم مفكري الصهيونية التوطينية، إلى أن مكان اليهودية ووظيفتها في الحياة اليهودية يشبهان مكان ووظيفة أي دين آخر في أية حياة قومية أخرى. ويطالب كالن بضرورة تحرير اليهودية من الحلولية الوثنية وضرورة اكتشاف الدوافع الأخلاقية والروحية الدائمة والكامنة وراء الطقوس اليهودية المختلفة، أي أنه يحاول اكتشاف الإنساني والعالمي وراء الطقوس الدينية الحلولية. وينظر كالن إلى التراث اليهودي نظرة تاريخية، كما يرى أن جوهر النمو هو في استمرار التغير، وذلك على عكس الصهاينة الذين يؤكدون الاستمرار أو حتى التكرار. ولذا، يجب أن يظل اليهود واعين بالتغيرات التي حدثت في معرفة العالم الطبيعي، وفي فكرة الإله، وفي القيم الأخلاقية التي تميِّز عالم الإنسان العصري عن عالم الإنسان القديم. والواقع أن تأكيد كالن العنصر التاريخي يتبدَّى في إصراره على أن البعث اليهودي يتطلب بحثاً في الخلفية التاريخية، وفي جميع جوانب العالم الفكري الذي وُجدت إسرائيل القديمة ضمنه، وفي ضرورة إعادة التركيب الاجتماعي للشعب اليهودي حتى يتسنى لليهود أن يحتلوا مكاناً (وليس مكانة خاصة) داخل إطار المجتمع العصري، أي أنه يُعلمن الشعب اليهودي ليصبح شعباً مثل كل الشعوب الأخرى. ويحاول الحاخام سيلفر أن يُعلمن أو يقلل من حرارة فكرة الماشيَّح والعودة في نهاية التاريخ التي تستند إليها الصهيونية الاستيطانية، فيصف اليهود بأنهم شعب يواجه المستقبل دون مركبات وهمية مشيحانية، ولكن ليس بدون أمل أبداً، أي أن توقعاتهم ستكون توقعات إنسانية محدَّدة. ويستطرد الحاخام سيلفر قائلاً: "إن اليهود سوف يستمرون في مقاومة قوى الظلام ... ولكننا سنفكر في ذلك بأمل يشبه فكرة الماشيَّح بين شعبنا الذي هو مزيج من الأمل والشك. سنتصرف كشعب نضج نهائياً ولا يحاول أن يهرب إلى الوهم أو الغرور الذاتي".(16/493)
وموقف الصهاينة التوطينيين من معاداة اليهودية يتسم بالعملية، وتحليلهم لهذه الظاهرة يبتعد عن المغالاة الصهيونية التي تضفي صفة الإطلاق عليها. فينقد الحاخام كابلان المفكرين التربويين اليهود الذين يتصورون أن معاداة اليهود ليست مجرد جنون عابر وإنما مرض مزمن. أما الحاخام هليل سيلفر فيميِّز بين نوعين من معاداة اليهود (وهذه ظاهرة جديدة أيضاً لأن المطلق لا يتحمل التصنيف) ، فهناك المعاداة الاستثنائية لليهود التي مارسها النازيون كما أن هناك معاداة اليهود العادية التي تُسمَّى «تَحامُل» (وهذه هرطقة من وجهة نظر صهيونية تقليدية) . ويرى الحاخام سيلفر، أن مثل هذا التحامل سيبقى عاملاً ثابتاً في الحياة اليهودية في أمريكا. ويمكن أن نضيف أن الحاخام سيلفر ساوى بين الضغوط التي يتعرض لها اليهود كأقلية في أمريكا والضغوط التي تتعرض لها أية أقلية عرْقية أو دينية أخرى في العالم، فيطالب اليهود بأن يعتادوا مواجهة مشاكلهم كأقلية بشكل واقعي، ومعنى هذا أن التقسيم الثنائي الصلب للعالم كيهود وأغيار قد خفتت حدته.(16/494)
ويرى مفكرو الصهيونية التوطينية أن حركة الاستنارة في الولايات المتحدة حققت نجاحاً كاملاً، وحقق اليهود اندماجاً واضحاً، وليس لديهم ما يدفعهم للعودة إلى أرض الميعاد. فظروفهم طيبة جداً، كما أنهم ليسوا ضحية للاضطهاد العنصري، وكذلك فإن أمريكا ليس لها تاريخ مسيحي طويل يلعب فيه اليهود دور الشرير وقاتل الرب (بل إن التجار اليهود أسهموا في حرب الاستقلال الأمريكية نفسها) . ويبحث الحاخام سيلفر تواريخ الجماعات اليهودية، ليجد بعض السوابق التاريخية التي يمكنه عن طريقها أن يُعدِّل ويهذِّب الأسطورة الصهيونية المطلقة وقراءتها المتحيزة للتاريخ. وهو يجد هذه الحقائق والوقائع بالفعل، فيبين أن اليهود منذ قديم الأزل عاشوا داخل وخارج فلسطين. ففي القرن الأول قبل الميلاد، وذلك قبل تحطيم الهيكل الثاني على يد الرومان، كانت أغلبية اليهود تعيش خارج فلسطين: خمسة ملايين ونصف يعيشون خارجها بينما كان تعداد يهود الدولة يبلغ مليونين ونصف فقط. ومع هذا، ظل اليهود الذين يعيشون خارج فلسطين يهوداً.
والوضع نفسه يسري على يهود العالم الذين سيتخذون الموقف نفسه من دولة إسرائيل، فيهود إسرائيل سيظلون إسرائيليين، أما يهود الولايات المتحدة فسيظلون أمريكيين. وعلى كلٍّ، لا تستطيع إسرائيل أن تضم كل يهود العالم. بل إن الحاخام سيلفر يحاول أن يضفي طابعاً صوفياً على ظاهرة بقاء اليهود في الشتات (أنحاء العالم) بعد ظهور إسرائيل، وذلك بتأكيده أن المنفى ليس مصدر بلاء خالص بل هو حقيقة ينبغي الترحيب بها.(16/495)
ويهاجم كابلان الصهاينة الذين يحاولون فَرْض نظرية تربوية تهدف إلى تنمية الحنين لدى الطفل اليهودي للهجرة وإلى غَرْس الإحساس في وجدانه بأنه لا يمكنه أن يحيا حياة سوية في الدياسبورا ولا يمكنه الاحتفاظ بهوية مستقلة. والواقع أن هذه المفاهيم لها نتائج هدامة على سعادة الطفل وعلى شخصيته (كما يقول كابلان) ، فهي تطلب منه أن يحيا حياة غير عادية دون أن تفسر له الأسباب. ويشير كابلان إلى أن الافتراض الصهيوني بأن اليهودي من المستحيل أن يشعر وكأنه في وطنه ضمن بيئة غير يهودية هو افتراض مبني على اليأس أو على الاستسلام والقدرية. ولذا، فإن على اليهودي التوطيني أن يشعر (حينما يذهب لزيارة أرض إسرائيل لخدمة شعبها) تماماً مثل أي أمريكي يقوم بعمل تبشيري أو ثقافي خدمة لمختلف الشعوب في الشرق الأقصى.
تدور الصهيونية التوطينية حتى الآن في إطار فكر حركة الاستنارة الليبرالي التعاقدي (وفي إطار صورة مجازية ذرية آلية) . ولكن الصورة المجازية العضوية تبدأ في الظهور، فالانعتاق ليس انعتاق أفراد وحسب وإنما ينبغي أن يتم بشكل جماعي قومي. فالانعتاق هو منح الحرية للفرد والجماعة في آن واحد، حتى يتسنَّى للفرد أن يعبِّر عن نفسه من خلال حياته المشتركة مع مجموعته القومية. والصهيونية ليست ضد الاندماج وإنما هي ضد الاندماج الذي يؤدي إلى فقدان الذات والانصهار الكلي للأقليات. ولذا، فإن الرؤية النهائية هي رؤية مبنية على التنوع تؤيد انسجام وتنظيم الجماعات العضوية المختلفة بشكل تعاوني لإيجاد حياة مشتركة، ولكنها لا تؤيد دَمْج الفوارق لتزول وتصبح ذاتاً واحدة. والتأرجح هنا، بين الرؤية التعاقدية الآلية والرؤية العضوية، هو محاولة للتوصل إلى عقد اجتماعي بين أقليات أو قوميات عضوية تود كل واحدة منها الاحتفاظ بإثنيتها مع انتمائها إلى المجتمع الأمريكي، فكأن الإثنية جزء من كل، وهي الرؤية التي يستند إليها العقد الاجتماعي الأمريكي.(16/496)
وتستمد كل أقلية في المجتمع الأمريكي إثنيتها من الوطن الأصلي، كما أن العقد الاجتماعي الأمريكي يسمح بالحفاظ بهذه الإثنية وتنميتها ما دامت لا تتعارض مع مصلحة الدولة (ولعل هذا هو ما يُفسِّر إصرار الزعماء الصهاينة على أن تكون المصالح الأمريكية والإسرائيلية متماثلة حتى يتسنى لهم استغلال الأغلبية العظمى من يهود العالم الموجودين في الولايات المتحدة) . وقد صرح برانديز، عام 1912، بأن تعددية الولاء مرفوضة إذا كانت الولاءات متعارضة، ولكنه أكد أن هذا الوضع لا ينطبق على الصهيونية. ثم ذهب إلى حد التصريح بأن الولاء لأمريكا يتطلب أن يعتنق كل يهودي أمريكي العقيدة الصهيونية، مع أنه يعلم تماماً أنه لا هو، ولا حتى نسله، يمكن أن يعيشوا في فلسطين، وهذا أمر مفهوم طبعاً في إطار تماثل المصالح بين الدولة الصهيونية والدولة الأمريكية، وهو في هذا لا يختلف عن أي مواطن أمريكي آخر.
وقد نجح الصهاينة التوطينيون في أن يعيدوا صياغة رؤيتهم لإسرائيل وعلاقتهم بها، فقد أصبحوا أقلية يهودية عضوية تنتمي إلى أمريكا وتنظر إلى إسرائيل باعتبارها الوطن الأصلي وباعتبارها مركزاً روحياً وركيزة للهوية. ومعنى هذا أنه تم تبنِّي الصيغة الصهيونية الإثنية (العلمانية) ، ومن ثم فإن الصهاينة التوطينيين لهم مركزان: أحدهما سياسي في الولايات المتحدة، والآخر إثني في إسرائيل. ولهذا، فإنهم يطالبون بفصل الدين عن الدولة في الولايات المتحدة ولكن بعضهم يحتج على انتشار العلمنة في الدولة اليهودية. ولكن مشكلة مثل هذا الصيغة أن الوطن الأصلي هو الوطن الذي يهاجر الإنسان منه لا إليه، ولذا فالتوطينيون قد أعطوا أساساً فلسفياً تاريخياً لتوطينيتهم ولتملصهم من الصهيونية.(16/497)
وقد أدرك الصهاينة الاستيطانيون منذ البداية ضرورة تَقبُّل هذا النوع من الصهيونية حتى يستفيدوا من دعم يهود الغرب الأثرياء، وأصبح هذا القبول جزءاً من العقد الصامت بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية بخصوص يهود العالم. ولذا، نجد أن الفيدرالية الصهيونية في نيويورك تعلن (عام 1899) عن ولائها للولايات المتحدة وأن هدفها هو دَعْم الصهيونية، من قبيل التعاطف وحسب. وقد ساعدت الصياغة الهرتزلية المراوغة على إنجاز هذا.
وبعد وعد بلفور، أصبح مجال نشاط الصهيونية التوطينية العالم كله (خارج فلسطين) ، مهمتها الأساسية دعم النشاط الاستيطاني سياسياً ومالياً، وضمان استمرار الدعم الإمبريالي عن طريق الترغيب والترهيب. وتقوم الصهيونية التوطينية بتجنيد يهود الغرب لهذا الغرض، كما تقوم بتحقيق المفهوم الصهيوني الخاص بغزو الجماعات والقضاء على أية معارضة قد تنشأ في صفوفها. وحيث إن الغرب لم يعد يواجه مشكلة فائض يهودي ينبغي التخلص منه (وخصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية) ، وحيث إن المُستوطَن الصهيوني يواجه أزمة طاقة بشرية، فقد أصبحت إحدى مهام الصهيونية التوطينية البحث عن مهاجرين.(16/498)
وقد تحاول الصهيونية التوطينية قدر استطاعتها ألا تتدخل في الأمور السياسية والاقتصادية والدينية الخاصة بالمُستوطَن الصهيوني، وإن كانت تتدخل في الأمور التي تخصها مثل قضية الهوية اليهودية. كما يُلاحَظ أن الولايات المتحدة (الدولة الراعية والتي تضم أكبر جماعة يهودية في العالم وأكثرها نفوذاً) تستخدم الصهاينة التوطينيين في الضغط والتأثير على الدولة الصهيونية. وبوسع هذه الصهيونية التوطينية أن تستوعب أية ديباجات سياسية (اشتراكية ـ ليبرالية ـ فاشية) . وقد كانت الصهيونية العمومية الاتجاه الذي يقوم بتنظيم الصهاينة التوطينيين. ولا يزال هناك اتحاد الصهاينة العموميين، ولكن منظمات صهيونية أخرى تشاركه هذه المهمة في الوقت الحالي، من أهمها منظمة الهاداساه في الولايات المتحدة. كما أن فروع المنظمة الصهيونية في أنحاء العالم تسهم بشكل أساسي في نشاط الصهيونية الخارجية.
وقد جعلت الصهيونية الإثنية الدينية والعلمانية كل يهود العالم داخل وخارج إسرائيل مجالاً لها، ولذا نجد أن الصهاينة التوطينيين ينقسمون إلى دينيين وعلمانيين، شأنهم في هذا شأن المستوطنين الصهاينة (وإن كانت الأغلبية الساحقة للصهاينة التوطينيين علمانية)
وبطبيعة الحال، ورغم العقد الصامت، هناك لحظات من الصراع بسبب اختلاف أهداف كلٍّ من الصهيونية التوطينية والصهيونية الاستيطانية. ولعل أشرس هذه اللحظات هي التي شهدت الصراع بشأن معاهدة الهعفراه (النقل) ، حيث وجد الاستيطانيون أن من صالحهم توقيع معاهدة مع ألمانيا النازية لضمان تدفُّق رأس المال والمهاجرين، وهو ما كان يعني ضَرْب المقاطعة اليهودية للبضائع النازية، بينما رأى التوطينيون ضرورة الاستمرار في المقاطعة. وبعد إنشاء الدولة، ظن الصهاينة التوطينيون أنهم سيستمرون في إدارة دفة المنظمة الصهيونية العالمية وفي الإشراف على الدولة كما كانوا يفعلون حتى عام 1948.(16/499)
ولكن الصهاينة الاستيطانيين كانوا قد فرغوا من عملية الاستيلاء على الأرض وطَرْد سكانها، ولذا فقد دخلوا صراعاً مع الصهاينة التوطينيين واستولوا على المنظمة تماماً. وقد استمرت عملية التهميش حتى أصبحوا يقنعون بدور ثانوي لأقصى حد.
والصهيونية الاستيطانية لا تهدف إلى إنقاذ اليهود وإنما تهدف إلى توظيفهم في خدمة الصهيونية، ولذا فكثيراً ما يحاول الصهاينة الاستيطانيون إفشال محاولات يهود العالم إنقاذ أنفسهم بالهجرة إلى أي مكان، وإغلاق الأبواب دونهم حتى يضطروا للهجرة إلى فلسطين. ولذا، يُلاحَظ أن الصهيونية التوطينية ظهرت مرة أخرى أثناء الاضطهاد النازي كقوة مستقلة إذ أن الصهيونية الاستيطانية ركزت على تهجير العناصر البشرية القادرة على المساهمة في بناء المُستوطَن الصهيوني إلى فلسطين وأهملت الآخرين.
كما أن موقف الدولة الصهيونية من المهاجرين السوفييت وإغلاقها أبواب الولايات المتحدة دونهم هو تعبير عن التناقض نفسه. وتحاول الدولة الصهيونية أحياناً إحراج التوطينيين والتقليل من شأنهم، ولذا قُدِّم اقتراح في المؤتمر الصهيوني الثامن والعشرين في القدس (1972) بأن الزعيم الصهيوني الذي لا يهاجر إلى إسرائيل خلال أربع سنوات من انتخابه لا يُنتخَب مرة أخرى. وقد أثار هذا الاقتراح ما يشبه الثورة، وهددت منظمة الهاداساه بالانسحاب إذا تمت الموافقة علىه.
ويمكن إيجاز السمات الأساسية للصهيونية التوطينية فيما يلي:
1 ـ يتبنَّى اليهودي الشعارات الصهيونية كافة ويدافع عنها (قولاً) بحماس شديد.
2 ـ على مستوى الممارسة، لا يُتوقَّع من هذا اليهودي أن يهاجر بنفسه ويستوطن في فلسطين. ويُطلَب منه أمران اثنان:(16/500)
أ) دَفْع بعض الأموال (المعفاة من الضرائب) لدعم الاستيطان الصهيوني وللمساعدة في توطين اليهود (يهود شرق أوربا بالأساس) : مثل شراء سندات إسرائيل ودفع التبرعات للجامعة العبرية. وكثيراً ما يرفض الصهاينة التوطينيون الدفع، وهنا تلجأ الصهيونية الاستيطانية إلى ابتزازهم عن طريق تصعيد إحساسهم بالذنب وتوليد الإحساس عندهم بالحاجة النفسية إلى الصهيونية. ومن المعروف أن الولايات المتحدة لا تمانع في تدفُّق هذه المعونات اليهودية على إسرائيل، قاعدتها الإستراتيجية الأساسية في الشرق العربي، دون أن تتكبد هي أي عناء أو تكاليف.
ب) أن يقوم الصهيوني التوطيني بالضغط على حكومته من أجل إقرار مصالح الدولة الصهيونية، ولا يمنع الأمر من حضور بعض التظاهرات أو إرسال خطابات لممثله في الكونجرس تطالبه بالتصويت لصالح مشاريع القرارات التي تخدم مصلحة إسرائيل. ولكن كل هذا يتم في إطار التعبير عن الإثنية اليهودية الأمريكية التي لا تتعارض مع المصالح القومية الأمريكية، أي أنها لا تتم في إطار المصالح القومية اليهودية. وعلى كلٍّ هذه مسألة محسومة تماماً، فالدولة الصهيونية جزء أساسي من المشروع الإمبريالي الغربي. وإن حدث تَعارُض في المصالح، كما حدث في واقعة بولارد، فإن يهود الولايات المتحدة يحددون ولاءهم وبشكل واضح مع دولتهم.(17/1)
3 ـ يستمد اليهودي هويته المتعينة من مجتمعه العلماني الاستهلاكي، فهو أمريكي يهودي. ولكن هذه الهوية لا تستبعد بعض عناصر إثنية غير أمريكية، والواقع أن العقد الاجتماعي في العالم الغربي لا يرفض مثل هذا التنوع السطحي. وتتحقق هذه الهوية اليهودية من خلال دَفْع التبرعات (ولهذا، فإنها تُسمَّى «يهودية دفتر الشيكات» ) ، وكذلك من خلال الاحتفاظ ببعض الزخارف اليهودية التي لا تسبِّب الحرج لليهودي المندمج ولا تفرض عليه أية التزامات. وهذه الهوية اليهودية ستتدعم من خلال النظر لإسرائيل باعتبارها مركز الثقافة اليهودية وركيزتها الأساسية. والصهاينة التوطينيون يحتاجون إلى مثل هذا المركز في مجتمعاتهم العلمانية حيث يجابه الإنسان تآكل هويته وافتقاد المعنى بسرعة.
4 ـ تتحول إسرائيل من صهيون (التي يدور حولها الحلم المشيحاني بالعودة) إلى مسقط رأس اليهود، تماماً مثل أيرلندا بالنسبة إلى الأمريكيين الأيرلنديين وإيطاليا بالنسبة إلى الأمريكيين الإيطاليين والعالم العربي بالنسبة إلى الأمريكيين العرب. فكأن إسرائيل أصبحت الدولة التي يهاجر اليهودي منها لا إليها، وهو ما يعني أن الأسطورة الكامنة في الصهيونية التوطينية تقف على النقيض من الصهيونية الاستيطانية.
5 ـ يستطيع الصهيوني التوطيني أن يتبنَّى أية عقيدة سياسية تروق له وأن يؤيد أي حزب داخل إسرائيل. ويمكننا أن نقول إن معظم الرأسماليين اليهود في العالم الغربي من أتباع الصهيونية التوطينية. ولعل أقصى تعبير عن هذا الاتجاه هو ظهور كتاب هوارد ساخار الدياسبورا الذي لا يتضمن أي فصل عن الولايات المتحدة وكندا، فهما وطنان قوميان لليهود أما إسرائيل فهي الوطن الأم.(17/2)
والصهيونية التوطينية شكل من أشكال التملص من الصهيونية الاستيطانية. ولعل أكبر أشكال التملص أن أقلية (فقط) من الشعب اليهودي هي التي تعيش في إسرائيل. فعدد سكانها لا يزيد على أربعة ملايين من مجموع يهود العالم البالغ عددهم 12 مليوناً. وإذا كانت نسبة يهود المُستوطَن تتزايد بالنسبة إلى يهود العالم، فإن هذا ليس بسبب الهجرة وإنما بسبب تناقص عدد يهود العالم، وكذلك بسبب تزايد نسبة التكاثر بين المستوطنين بالقياس إلى نسبتها بين أعضاء الجماعات. وكما قال أحد المثقفين الفرنسيين، فإن أقلية (فقط) من اليهود هي التي تختار، أو اختارت إسرائيل، وهو ما يكشف عن حقيقة مهمة، وهي أن الأغلبية قد اختارت الشتات. ولعل هذا يفسر سبب بقاء إسرائيل بدون الأعداد الكبيرة من المنفيين من أبنائها الذين من أجلهم أُنشئت الدولة.
وقد تذمَّر أحد الزعماء الصهاينة البارزين من أن اليهود الأمريكيين ينظرون إلى إسرائيل كما لو كانت «ديزني لاند» ، أي كمدينة ملاه يهودية أو متحف يهودي، وسماه آخر «فندق صهيون» ، أي مجرد مكان يؤمه الجمهور من أجل الاستمتاع والإثارة والثرثرة. وكما قال المثقف الفرنسي (المشار إليه) ، مستخدماً صورة مجازية تشبه صورة ديزني لاند المجازية، فإن معظم اليهود لا يُظهرون حماساً كبيراً للذهاب إلى إسرائيل إلا لمجرد قضاء إجازة هناك. وتدل الإحصاءات على أن اليهود لا يجدون أن صهيون مكان مسلٍّ بالقدر الكافي. ولذا، فنسبة السياح اليهود التي تذهب إلى بلاد أخرى غير أرض الميعاد تفوق كثيراً نسبة الذين يذهبون إلى إسرائيل. وقد وصف أحدهم هذا الضرب من الصهيونية بأنه مثل فرَق الأنشاد العسكرية التي تقف على المسرح (أو في أي مكان) وتغني بأعلى صوتها "إلى الأمام، إلى الأمام"، دون أن تبرح مكانها.(17/3)
وهناك بعض النوادر التي تعبِّر عن موقف الصهاينة التوطينيين. فيقال، على سبيل المثال، يقال إن البارون إدموند دي روتشيلد، وهو كبير أثرياء اليهود التوطينيين، الذي كان وعد بلفور خطاباً موجهاً إليه، سُئل عن المنصب الذي يريد أن يتبوأه في الدولة اليهودية فقال: منصب سفير الدولة في باريس أو لندن. وقد عرَّف أحدهم الصهيوني التوطيني (مقابل الاستيطاني) بأنه يهودي يأخذ تبرعات من يهودي آخر ويرسل بيهودي ثالث إلى أرض الميعاد. واليهوديان الأول والثاني من يهود العالم الغربي، أما الثالث فهو من يهود اليديشية. ولا يزال هذا هو النمط السائد في العالم، فيهود الاتحاد السوفيتي هم الذين يهاجرون إلى إسرائيل، أما يهود العالم الغربي فيكتفون بالتصفيق والدعم المالي والسياسي ويلزمون بيوتهم مكيفة الهواء.(17/4)
وقد لاحَظ بن جوريون أن كثيراً من المفاهيم والمصطلحات يتم الحفاظ عليها واستخدامها حتى بعد أن تفقد دلالتها، كما أن مصطلح «صهيوني» لا يمثل أي استثناء من القاعدة. وقد وصف الزعيم الصهيوني سلوك بعض اليهود الذين يصرون على تسمية أنفسهم «صهاينة» في الوقت الذي يتجاهلون فيه المقولة الصهيونية الأساسية، أي الهجرة، بأنه نوع من أنواع التزييف. وأصدق مثل على ذلك (في تصوُّره) يهود الولايات المتحدة (أي الأغلبية العظمى من يهود العالم) الذين لا يبدون أي استعداد للهجرة. ومع ذلك، فإنهم يصرون على تسمية أنفسهم صهاينة. ولكن مثل هذا الموقف ـ على حد قوله ـ شيء سخيف. وقد وصف ليفي أشكول الصهيونية التوطينية الوصف الذي تستحقه، باعتبارها قولاً معادياً للقومية (أي الصهيونية) ترتدي ثوباً لفظياً قومياً (أي صهيونياً) . بل قد اكتشف بن جوريون أن هذه الصهيونية إن هي إلا غطاء كثيف يغطي به الصهاينة التوطينيون الاندماج المتزايد الذي يتم على مستوى الفعل، فكأن الصهاينة التوطينيين يطلقون الديباجات اللفظية الجهورية التي تخبئ النكوص الحقيقي المعادي للصهيونية الاستيطانية.
وقد اقترح بن جوريون تسمية هؤلاء الصهاينة الذين لا ينوون، لا هم ولا نسلهم، الاستيطان في إسرائيل «أصدقاء إسرائيل» أو «أصدقاء صهيون» . ويبدو أن حركة الصهيونية التوطينية قد بدأت تجتاح المُستوطَن الصهيوني نفسه، إذ نزحت أعداد ضخمة منه مهاجرة إلى الولايات المتحدة وتشكل دياسبورا إسرائيلية تنخرط في النشاط الصهيوني! وسوف نجد أن معظم المفكرين والمؤلفين والكُتَّاب اليهود، الذين يعيشون في العالم الغربي، يُظهرون تعاطفاً مع الصهيونية التوطينية. ومن أهم مفكري الصهيونية التوطينية كالن وسيلفر وكابلان. ويمكن أن نعتبر ناحوم جولدمان واحداً منهم. ويُعتبر برانديز من أهم القيادات السياسية التوطينية.
لويس برانديز (1856-1941 (
Louis Brandeis(17/5)
أحد زعماء الصهيونية التوطينية في الولايات المتحدة. وُلد في الولايات المتحدة لأبوين مهاجرين من تشيكوسلوفاكيا من أصل ألماني ومن أتباع اليهودية الإصلاحية (وكانت أمه من أسرة من أتباع يعقوب فرانك) . لم يتلق برانديز أي تعليم ديني تقليدي إذ دخل مدرسة ألمانية في الولايات المتحدة ثم التحق بجامعة هارفارد. وقد حقق برانديز، شأنه شأن معظم الأسر الأمريكية اليهودية من أصل ألماني، معدلات عالية من الاندماج. ورُشِّح للوزارة عام 1914، ولكن ترشيحه رُفض لا بسبب يهوديته وإنما لأن بعض القوى المالية التي كانت لا توافق على آرائه المعادية للاحتكار كانت تخشى تعيينه. ألف برانديز كتاباً بيَّن فيه كيف أن المصالح المالية تتحكم في السياسة، وفي عام 1916، رشحه الرئيس ويلسون لعضوية المحكمة العليا الأمريكية (وكانت هذه أول مرة يُرشَّح فيها يهودي لهذا المنصب) . وقد أثار ترشيحه عاصفة، لا لأنه يهودي وإنما بسبب أفكاره الراديكالية. وقد تم تعيينه في نهاية الأمر ليظل في منصبه حتى تقاعد عام 1939.
ويُعَدُّ برانديز من المصلحين الاجتماعيين في الولايات المتحدة، فقد شن حرباً ضد الاحتكارات، وعمل من أجل تحديد ساعات عمل المرأة. وكان يرى ضرورة أن يكون النظام الرأسمالي مُكوَّناً من وحدات صغيرة متنافسة. وكان برانديز يؤمن بأن القانون يجب ألا يكون أمراً ثابتاً أو نهائياً، وإنما يجب أن يُعاد تفسيره دائماً حسب الملابسات التاريخية، ولا يختلف فكره في الواقع كثيراً عن الفلسفة التي استند إليها برنامج نيو ديل New Deal الذي تم تطبيقه بعد عام 1933.(17/6)
ويرجع اهتمام برانديز بالصهيونية إلى خبرته في نيويورك حيث شهد بعض آثار الاستغلال الموجه ضد عمال النسيج من يهود اليديشية، وهو استغلال تتعرض له عادةً جماعات المهاجرين الذي يتحولون إلى عمالة رخيصة. ولكن يبدو أن برانديز تصوَّر أن معاداة اليهود لعبت دوراً في عملية الاستغلال هذه. كما التقى برانديز بجيكوب دي هاس، سكرتير هرتزل الذي عرَّفه بالفكر الصهيوني. وقد كان برانديز من المؤمنين بأن هناك تماثلاً كاملاً بين المثل العليا الأمريكية والصهيونية وأن كلاً منهما يغذي الآخر، ولذا فلا يوجد مجال لازدواج الولاء بالنسبة ليهود أمريكا إن تبنَّوا العقيدة الصهيونية. فمُثُل أمريكا (على حد قوله) هي نفسها مُثُل اليهود عبر تاريخهم. وكي يصبح الأمريكي اليهودي أكثر يهودية عليه أن يصبح صهيونياً. ومن ثم فعلى كل يهودي أمريكي أن يساعد المُستوطَن الصهيوني رغم أنه يعرف أنه لا هو ولا نسله سيعيشون هناك قط. وقد طالب برانديز بإعادة صياغة فلسطين ( «أرض الأجداد» على حد قوله) لا باعتبارها مكاناً للاستيطان وإنما باعتبارها مركزاً تُشعُّ منه الروح اليهودية وتعطي اليهود المبعثرين في كل أنحاء العالم هذا الوحي الذي ينبع من ذكريات ماض عظيم وأمل مستقبل عظيم. وببساطة شديدة، فإن كل هذه العبارات الرنانة تعني أن يهود أمريكا أمريكيون حققوا الاندماج في مجتمعهم في وطنهم القومي أما فلسطين فهي الوطن الأم الذي يساعدهم على الحفاظ على هويتهم ولكنهم لن يهاجروا إليه قط، فهذا أمر مقصور على اليهود الآخرين، عادةً يهود اليديشية.(17/7)
انضم برانديز للمنظمة الصهيونية عام 1912 في لحظة حرجة، إذ أن الحرب العالمية كانت قد همَّشت المنظمة في أوربا تماماً فاضطلع صهاينة أمريكا بمهمة دعم المُستوطَن الصهيوني، وخصوصاً أن الولايات المتحدة بدأت تتبوأ مكان القيادة. فتم تنظيم لجنة تنفيذية مؤقتة لشئون الصهيونية العامة في الولايات المتحدة (1914 ـ 1918) وعُيِّن برانديز رئيساً لها، غير أنه رفض رئاسة المنظمة الصهيونية العالمية واكتفى بأن يكون رئيساً فخرياً لها في الفترة 1920 ـ 1921. وقد ساهم برانديز في تحديد اتجاه عملية دعم وغوث المُستوطَن الصهيوني، كما ساهم في توسيع المنظمة الصهيونية وزار فلسطين بين عامي 1917 و 1919. وترأس برانديز الوفد الأمريكي في مؤتمر لندن الصهيوني عام 1920، وهو أول اجتماع للمنظمة الصهيونية بعد الحرب العالمية الأولى.(17/8)
ساهمت اللجنة التنفيذية المؤقتة في إدارة المُستوطَن الصهيوني وفي إرسال العون للمستوطنين، وقامت البحرية الأمريكية أيضاً بالمساعدة في ذلك. وكان السفير الأمريكي في القسطنطينية على اتصال دائم بالمُستوطَن الصهيوني بإيعاز من برانديز. ويمكن القول بأنه حتى دخول الولايات المتحدة الحرب عام 1917 كانت اللجنة التنفيذية المؤقتة هي الدعامة الأساسية للمُستوطَن. وقد نجح برانديز في الاحتفاظ بحياد المنظمة الصهيونية أثناء الحرب متبعاً في ذلك السياسة الأمريكية. وكانت قيادة الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة آنذاك من أصل ألماني، ولذا كانت عواطفهم تتجه نحو ألمانيا وحاولوا دَفْع المنظمة نحو اتخاذ خط ممالئ للوطن الأصلي، ولكن برانديز نجح في وقف هذا الاتجاه. ولكن، مع انتصار الحلفاء، قرر برانديز تعديل السياسة الصهيونية واتصل بالرئيس ويلسون الذي عبَّر عن تعاطفه مع الصهيونية، ثم اتصل بالسفيرين الفرنسي والإنجليزي في واشنطن وعرض عليهما المشروع الصهيوني. وقد رتب الرئيس ويلسون لاجتماع بين بلفور وبرانديز. وفي هذه الآونة أيد برانديز إنشاء الفيلق اليهودي. ولعب دوراً في حث الحكومة الأمريكية على قبول وعد بلفور.
قام برانديز بعد ذلك بإعداد ما يُسمَّى «برنامج بتسبرج» (1918) الذي دعا إلى الملكية العامة للأرض في فلسطين (لمنع السمسرة والمضاربة) وإلى الموارد الطبيعية والمرافق وإلى تشجيع الخطوات التعاونية في تطوير الزراعة والصناعة. وفي عام 1920، عشية مؤتمر سان ريمو الذي أعلن الوصاية البريطانية على فلسطين، نجح برانديز في التأثير على ويلسون لتعديل حدود فلسطين الشمالية بحيث اختلفت عن تلك التي نص عليها اتفاق سايكس بيكو.(17/9)
وبعد مؤتمر سان ريمو، ظهرت التناقضات بين برانديز بنزعته التوطينية واتجاهاته الاندماجية من جهة، ومن جهة أخرى ممثلي الصهيونية الاستيطانية التي تحاول أن تستفيد من كل يهود العالم ولا تتركهم وشأنهم، وكذلك ممثلي الصهيونية الإثنية (الدينية والعلمانية) التي تحاول أن تفرض على يهود العالم هوية يهودية محددة تتناقض مع طموحاتهم الأمريكية نحو الاندماج الكامل (وهو التناقض الذي سماه أحد الصهاينة «الصراع بين واشنطن ومنسك» )
وقد قدَّم برانديز عدة اقتراحات جوهرها فك الاشتباك تماماً بين صهاينة الخارج التوطينيين وصهاينة الداخل المستوطنين بحيث يصبح كل فريق فيهم حراً تماماً عن الآخر، على أن يتم التواصل بينهم من خلال حكومة الانتداب (الممثل الرسمي للاستعمار الغربي) . ويظهر مدى إلحاح رغبة برانديز في فك الاشتباك بين التوطينيين والاستيطانيين في تأييده مشروع نوردو الخاص بنقل عدد ضخم من اليهود إلى فلسطين لخلق أغلبية سكانية فورية تتمتع بعد قليل بالسيادة الكاملة على أن تتم العملية برمتها تحت إشراف حكومة الانتداب وداخل إطار المصالح الغربية.
ويتلخص اقتراح برانديز في محاولة تحديد مهمة الصهاينة التوطينيين ونطاق عملهم على المستويين الدولي الخارجي والفلسطيني الداخلي:
1 ـ في المجال الدولي، كان برانديز يرى أن مهمة الصهيونية السياسية أو الدولية قد انتهت تماماً مع صدور وعد بلفور إذ أن حكومة الانتداب ستستوعب كل مهام الصهيونية السياسية الدولية. ولذا، يستطيع الصهاينة التوطينيون إسقاط هذا الجانب من نشاطهم. ويجب على كل قيادات الحركة الصهيونية (باستثناء سوكولوف ووايزمان) تَرْك النشاط الاستيطاني والدولي وأن يركزوا على محاولة تأسيس منظمة صهيونية قوية ليس لها طابع سياسي تضم اليهود غير الصهاينة الذين ينضمون إليها في إطار حكومة الانتداب بهدف جَمْع رأسمال يموِّل المشاريع التي ليس لها عائد.(17/10)
2 ـ أما على الصعيد الفلسطيني، فقد اقترح برانديز أن تمثل المنظمة الصهيونية في فلسطين مجموعة تكنوقراطية بعيدة تماماً عن السياسة، متخصصة في المشاريع التي ليس لها عائد مثل الصحة العامة والزراعة (إصلاح الأراضي) والصناعة، وتتخذ قراراتها خارج أي إطار عقائدي ولا تلتزم إلا بالعمل داخل نطاق حكومة الانتداب. ويقوم المستوطنون من الناحية السياسية بتمثيل أنفسهم من خلال مجالس تمثيلية تشرف عليها حكومة الانتداب، وبذا تنتفي العلاقة المباشرة مع يهود وصهاينة العالم. ولا يختلف الأمر كثيراً من الناحية الاقتصادية إذ طالب برانديز بأن يصبح المستوطنون مستقلين تماماً يديرون شئونهم على أسس رأسمالية سليمة بهدف أن يصبحوا معتمدين على أنفسهم ومكتفين بذاتهم ويشجعوا الاستثمارات الفردية الرأسمالية.
إن جوهر اقتراح برانديز هو إسقاط الخصوصية الصهيونية من المشروع الاستعماري الصهيوني وتحويله إلى مشروع استعماري غربي لا يختلف من قريب أو بعيد عن المشاريع الأخرى. ومن ثم لا يتحرك التوطينيون إلا في نطاق حكومة الانتداب ولا يتحرك الاستيطانيون إلا في النطاق نفسه ولا يلتقي الطرفان إلا داخله.
ولم يوافق وايزمان وقيادات يهود اليديشية وممثلي الصهيونية الاستيطانية على اقتراحات برانديز للأسباب التالية:
1 ـ ذهب وايزمان إلى أن برانديز لا يعرف طبيعة الاستيطان الذي يتطلب الدعم الدائم، ومن ثم فإن إدارة المشروع الصهيوني الاستيطاني على أسس رأسمالية سيطيح به.
2 ـ ما بين مؤتمر سان ريمو وإعلان الدولة كان الاستيطانيون يعرفون أنهم يحتاجون إلى دعم الصهاينة التوطينيين سياسياً ومالياً، وهو ما يحاول برانديز وضع نهاية له.(17/11)
3 ـ إسقاط الديباجات القومية اليهودية كان يُعَدُّ ضربة في الصميم لمحاولة تأكيد الصلة بين المستوطنين ويهود العالم، وهي صلة كان يحرص عليها المستوطنون لتوظيفها لصالحهم. ولذا أصر الاستيطانيون على أن تظل المنظمة الصهيونية العالمية منظمة للشعب اليهودي بأسره تعبِّر عن إرادة هذا الشعب ومن ثم يمكنها أن تبتز أمواله.
وقد وُصف مشروع برانديز بأنه «صهيون بدون صهيونية» أي أنه مشروع استيطاني في فلسطين ليست له خصوصية يهودية (وهو خلاف «الصهيونية بدون صهيون» وهي الصهيونية الإقليمية) . ويمكن القول بأن الاستيطانيين أدركوا أن طبيعة المرحلة تتطلب استمرار التشابك بينهم وبين التوطينيين ويهود العالم. ولذا، فقد سمحوا بدخول العناصر غير الصهيونية إلى الوكالة اليهودية لكن داخل الإطار الصهيوني، وتم تأسيس الصندوق التأسيسي (كيرين هايسود) وأُنفقت بعض أمواله المخصصة للأعمال الخيرية والمشاريع التي لا عائد لها على مشاريع استثمارية، فاعترض برانديز فيما يُسمَّى «مذكرة زبلاند» التي قدِّمت للمنظمة الصهيونية في أمريكا (1921) . وقد رُفضت اقتراحات برانديز وأُخذ بوجهة نظر وايزمان، فاستقال برانديز (هو وبعض الصهاينة) وقطع علاقته بالمنظمة الصهيونية، ولكنه ظل يمارس ما سماه «النشاط التعاوني» وأسس شركة فلسطين الاقتصادية لتصب فيها الهبات والمنح (ومعنى ذلك أنه استمر في نشاطه الخيري التوطيني) . وقد أدلى برانديز ببعض التصريحات التي يُفهَم منها رفضه الرؤية الصهيونية بقضها وقضيضها. وقد سُمِّيت جامعة برانديز باسمه.(17/12)
ويمكن القول بأن برانديز أدرك طبيعة المشروع الصهيوني من البداية وأنه جزء من المشروع الاستعماري الغربي، كما أدرك طبيعة العلاقة بين الاستيطانيين والتوطينيين، وكل ما في الأمر أنه طرح رؤيته في مرحلة مبكرة للغاية. ولكن التطورات اللاحقة سواء في المُستوطَن الصهيوني أو بين الصهاينة التوطينيين أثبتت صدق رؤيته، إذ أن الدولة الصهيونية أصبحت جزءاً أساسياً من المشروع الاستعماري الغربي، مدينة له بوجودها واستمرارها، وهي لا تعتمد على مساعدات يهود العالم التي لا تشكل سوى نسبة مئوية ضئيلة من المساعدات التي تصلها من الولايات المتحدة. والعلاقة بين الصهاينة المستوطنين والصهاينة التوطينيين تتم في إطار المصالح والأولويات الإستراتيجية الغربية.
فرانز أوبنهايمر (1864-1943 (
Franz Oppenheimer
عالم اجتماع واقتصاد ألماني وصهيوني توطيني، ورائد فكرة إقامة مستوطنات زراعية تعاونية للمستوطنين اليهود في فلسطين. وُلد في برلين لأب كان يعمل حاخاماً إصلاحياً، ودرس الطب ومارسه حتى عام 1896 ثم تحوَّل اهتمامه إلى دراسة العلوم الاجتماعية فحصل عام 1908 على درجة الدكتوراه فيها وعمل محاضراً في جامعة برلين (1909 ـ 1917) ثم أستاذاً لعلم الاجتماع والنظرية الاقتصادية في جامعة فرانكفورت (1919 ـ 1929) . وقد استقر في الولايات المتحدة منذ عام 1938 وحتى وفاته.(17/13)
وقد عارض أوبنهايمر نظرية مالتوس السكانية، وكذلك مفاهيم ماركس الاقتصادية، وسعى إلى تقديم بديل يجمع بين الأفكار الاشتراكية الإصلاحية والأفكار الليبرالية الاجتماعية وهو ما أسماه «الاشتراكية الليبرالية» . ويرى أوبنهايمر أن السبيل إلى تلافي الصراع الاجتماعي الناجم عن التفاوتات الجائرة بين الناس يتمثل في القضاء على الملكية الاحتكارية للأرض الزراعية التي تؤدي إلى تَسارُع هجرة الريفيين إلى المناطق الحضرية ومن ثم إلى خَلْق جيش من العمال. ويقترح أوبنهايمر أن يُستبدَل بالملكية الاحتكارية نظام تعاوني يقوم على إعادة توزيع الأرض على عدد أكبر من الفلاحين المستقلين، وهو ما يؤدي إلى استعادة التنافس الحر وبالتالي تحقيق "الاشتراكية الليبرالية".
أما اهتمام أوبنهايمر بالصهيونية وشئون اليهود، فيرجع إلى عام 1902 عندما التقى بهرتزل الذي طلب منه صياغة الجوانب الاقتصادية والزراعية في البرنامج الصهيوني. وقد نفَّذ أوبنهايمر تلك المهمة وتقدَّم باقتراحاته إلى المؤتمر الصهيوني السادس (1903) الذي أقرها. وفي عام 1911، قام مكتب فلسطين التابع للجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية بإنشاء مستوطنة تعاونية في يافا استناداً إلى أفكار أوبنهايمر. ورغم فشل المشروع، فإن مكتب فلسطين كان الأساس الذي قامت عليه المستوطنات الزراعية التعاونية التي أقامها المستوطنون اليهود في فلسطين والتي تُعرَف باسم «الموشاف» .
إلا أن أوبنهايمر لم يكن متحمساً للدعاوى القومية للحركة الصهيونية فهو صهيوني توطيني يرى المشروع الصهيوني باعتباره وسيلة للتخلص من الفائض البشري اليهودي وحسب. وقد أدَّى هذا إلى ابتعاده عن أية مشاركة رسمية في الأنشطة الصهيونية منذ عام 1913. وقد وضع عدة مؤلفات تعرض أفكاره الاقتصادية والإصلاحية وأبرزها الدولة (1907) ، ومنهج علم الاجتماع (1922 ـ 1935)
ليو موتزكين (1867-1933 (
Leo Motzkin(17/14)
قائد صهيوني روسي وُلد في قرية كييف ونشِّيء تنشئة يهودية تقليدية في أسرة ثرية. أرسلته أسرته ليدرس في برلين في سن الخامسة عشرة. وفي برلين، أسَّس عام 1889، مع فيكتور جيكوبسون وشماريا ليفين وغيرهما، الجمعية الأكاديمية اليهودية الروسية التي انضم إليها وايزمان فيما بعد. ساعد هرتزل في تنظيم المؤتمر الصهيوني الأول (1897) ، وساهم في صياغة برنامج بازل، وقد كلفه المؤتمر الأول بعمل بَحْث عن المستوطنات اليهودية في فلسطين قدمه للمؤتمر الثاني (1898) . غادر برلين مع اندلاع الحرب العالمية الأولى (لأنه كان يعتقد أن الحلفاء سينتصرون) ، وترأس مكتب كوبنهاجن. وقد استقر في باريس بعد الحرب إلى آخر أيامه.
كان من أشد المتحمسين للغة العبرية ومن أوائل من تحدثوا بها في المؤتمرات الصهيونية وكان أيضاً ممن يعتقدون أن الكفاح من أجل حقوق اليهود في بلاد الشتات أو الدياسبورا من أهم واجبات الحركة الصهيونية. ولذا، فقد ساهم موتزكين مع كلٍّ من ستيفن وايز وناحوم جولدمان في تأسيس المؤتمر اليهودي العالمي.
برنارد لازار (1870-1903) Bernard Lazare
كاتب وصحفي فرنسي بدأ حياته مدافعاً عن الحركات الاشتراكية والفوضوية. وقد كتب عدة مقالات في مجلات دورية كانت فيما بعد أساساً لكتابه معاداة اليهود: تاريخها وأسبابها الذي صدر عام 1894. وقد تضمَّن هذا الكتاب فقرات من النقد الشديد لبعض القطاعات اليهودية واعتبر أن اليهود هم أنفسهم سبب العداء الذي يتعرضون له. وكان لازار يرى أن معاداة اليهود يمكنها أن تلعب دوراً بنَّاءً في الفكر الاشتراكي وأن كُره الناس للرأسمالية اليهودية سيؤدي إلى النفور من الرأسمالية في جميع أشكالها.(17/15)
لكن موقف لازار تغيَّر تماماً بالنسبة للمسألة اليهودية بعد قضية دريفوس. فهبَّ لنصرة الضابط الفرنسي وحارب من أجل رد اعتباره، ونشر عدة كتب محاولاً إظهار براءته. وقد انتُخب لازار نتيجة موقفه الجديد في لجنة العمل في المؤتمر الصهيوني الثاني، ولكن لم يكن لديه اقتراح بمكان معيَّن تُنشأ فيه الدولة الصهيونية المُقترَحة. كما أنه، من ناحية ثانية، هاجم بشدة الداعين للاندماج كنوع من الحل.
وقد اختلف لازار بعد ذلك مع هرتزل بشأن إقامة الصندوق القومي اليهودي لتمويل الاستيطان اليهودي في فلسطين، معارضاً أن تتحول حركة البعث اليهودي إلى ما أسماه «العملية الرأسمالية» ، وأنهى علاقته بالحركة الصهيونية. وقد مات لازار شبه منسي، وكتب مرثيته الكاتب الكاثوليكي شارل بيجي.
جيكوب دي هاس (1872-1937 (
Jacob de Haas
كاتب وقائد صهيوني وُلد في لندن من أصل هولندي. انخرط في شبابه في الحركة الصهيونية. ومع صدور كتاب هرتزل دولة اليهود، بدأ في مراسلته، وكان واضحاً له منذ البداية أن هدف الحركة الصهيونية هو توطين اليهود في فلسطين من أجل إقامة دولة يهودية هناك. عمل أميناً للمؤتمر الصهيوني الأول (1897) ثم سافر عام 1902 إلى الولايات المتحدة بناء على طلب هرتزل حيث استقر هناك، وصار أميناً لاتحاد الصهاينة الأمريكيين حيث استمر في ذلك المنصب من 1902 إلى 1905.(17/16)
استقال بعدئذ لاختلافه مع القيادة الصهيونية في الولايات المتحدة وانتقل إلى بوسطن ليحرر مجلة جويش أدفوكيت. قابل برانديز ونجح في ضمه للحركة الصهيونية وإقناعه بتولي قيادة الاتحاد، وكانت علاقتهما بعد ذلك قوية جداً. ومع انتخاب برانديز عام 1916 كعضو في المحكمة الدستورية العليا بالولايات المتحدة، أصبح دي هاس المنفذ الرئيسي لأفكاره في الحركة الصهيونية في أمريكا، ومع تأسيس المنظمة الصهيونية الأمريكية عمل قائداً لها من عام 1918 وحتى عام 1921، ولكنه ترك قيادتها مع هزيمة الكتلة البرانديزية وتزعَّم حركة «العودة إلى هرتزل» ، وكان من مناصري الصهيونية العامة ومعجباً بفلاديمير جابوتنسكي، فانضم عام 1935 إلى المنظمة الصهيونية الجديدة. وتُوفي دي هاس في نيويورك عام 1937.
ستيفن وايز (1874-1949 (
Stephen Wise
حاخام أمريكي إصلاحي وقائد صهيوني توطيني. وُلد في بودابست وارتحل مع أسرته إلى الولايات المتحدة وعمره 17 شهراً. أصبح حاخاماً عام 1900، وحصل على الدكتوراه من جامعة كولومبيا عام 1902. وعُرض عليه عام 1906 منصب حاخام معبد عمانويل في نيويورك الذي كان يُعتبَر أهم الأبرشيات، ولكن ظهر نزاع بينه وبين لويس مارشال رئيس الأبرشية حول مدى حرية التعبير إذ أصر مارشال أن حاخام الجماعة لابد أن يخضع لقرارات مجلس أمنائها في الأمور الحيوية المهمة. وقد رفض وايز هذا الرأي وأسَّس المعبد الحر في نيويورك وظل يعمل حاخاماً لهذا المعبد حتى وفاته.(17/17)
والأساس الذي انبنى عليه هذا المعبد هو أن يعبر الحاخام عن آرائه بحريته الكاملة، وأن يكون نظام الجلوس في مقاعد المعبد حراً تماماً أيضاً غير مقيد بمقدار تبرع المصلي. فمن المعروف أن مقاعد المعابد كانت تُباع للمصلين وكانت قيمة المقاعد تزداد بمقدار مدى القرب أو البُعْد عن لفائف التوراة، وكلما ازداد المقعد قرباً من هذه النقطة ازدادت قيمته. وقد نجم عن ذلك أن المقاعد الأمامية كانت دائماً مخصَّصة للأثرياء وكانت المقاعد الخلفية مخصَّصة للمُعدَمين ومقاعد الوسط لمتوسطي الحال، أي أن طريقة الجلوس في المعبد كانت تعكس البناء الطبقي للجماعة اليهودية.
وقد بدأ النشاط الصهيوني لوايز في تسعينيات القرن التاسع عشر. كان وثيق الصلة بتيودور هرتزل حيث التقيا في بازل في المؤتمر الصهيوني الثاني (1898) . وقد كان من قبل يشغل منصب أمين الحركة الصهيونية في أمريكا. وفي مؤتمر السلام في فرساي، تحدَّث وايز بلسان الحركة الصهيونية. وأسس، مع آخرين، المؤتمر اليهودي الأمريكي عام 1916، وكان نائباً لرئيسه في الفترة 1922 ـ 1925، ثم ترأسه بين عامي 1936 و1949. وفي هذه الفترة، عمل على إفشال المؤتمر اليهودي العالمي الثالث والمؤتمر الذي دعا إليه المموِّل الأمريكي اليهودي أُنترماير، وقد كانا يحاولان تنظيم حركة المقاطعة اليهودية للنازية في وقت كانت الحركة فيه آخذة في التنامي. وقد قام بذلك حتى تستطيع الحركة الصهيونية الاستمرار في التعاون مع النظام النازي من خلال اتفاقية الهعفراه.
ورغم حربه الشرسة ضد يهود العالم لصالح المستوطنين، كان وايز صهيونياً توطينياً من الدرجة الأولى. فبعد إعلان الدولة لم يهاجر إليها، ولعله لو طال به العمر لاصطدم ببن جوريون ولتم القضاء على نفوذه كما حدث مع بقية القيادات الصهيونية التوطينية التي كانت تتصوَّر أن بوسعها التحكم في المُستوطَن الصهيوني من خلال المنظمة.
إدموند فليج (1874-1963)
Edmond Fleg(17/18)
شاعر وكاتب مسرحي وقاص فرنسي، لعب دوراً مهماً في الفكر الصهيوني، وقد وُلد في جينيف، وكان في سنوات تكوينه الأولى متباعداً عن اليهودية نفسياً وفكرياً إذ نشأ في أسرة مندمجة، وتعلَّم في مدارس وجامعات غير يهودية في أوربا ومن بينها السوربون. وفي عام 1914، انضم إلى الكتيبة العسكرية الفرنسية للأجانب، واشترك في الحرب العالمية الأولى، وحصل بعد عامين على الجنسية الفرنسية، ثم عاد إلى باريس والتحق بالخدمة المدنية وواصل دراسته. وكان فليج ـ بالاشتراك مع المؤرخ جول إسحق ـ من مؤسسي إحدى الحركات من أجل الإخاء المسيحي ـ اليهودي، وكتب في مستهل حياته عدة مسرحيات ناجحة شعبياً، لا علاقة لها باليهودية، مثل فاوست (1937) . ثم حدث التحول في حياته نتيجة هزة نفسية تعرَّض لها عقب قضية دريفوس، إذ شعر فجأة بيهوديته (على حد قوله) ، فانكب على دراسة جادة لما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» ، وقدَّم للقارئ الفرنسي على مدى أربعين سنة أعمالاً تدور حول موضوعات يهودية.
بدأ اهتمام فليج بالصهيونية وشارك في بلورة فكرها والدعاية لها بعد حضوره المؤتمر الصهيوني الثالث (1899) . ومن أهم أعماله الأدبية لماذا أنا يهودي (1928) ، وهو تحليل لعودته إلى اليهودية وصف فيه التجربة التي مر بها، وإن كان التحليل في نهاية الأمر لا يجيب على أي تساؤل ولا يحل أي تناقض.(17/19)
وفي كتاب فلسطين أرض الميعاد يعبِّر فليج عن أمله في إحياء الروح اليهودية وإنشاء الدولة الجديدة وإن كان يتساءل عن جدوى إقامة وطن لليهود في فلسطين ما دام مصيرهم سيكون مهدداً فيها كما هو الحال في كل مكان، وهل يستطيع هذا الجيتو الجديد أن يحل مشكلة اليهود؟ أما المجموعة الشعرية اسمعي يا إسرائيل فهي ملحمة شعرية تقص تاريخ الشعب اليهودي حتى إعلان إسرائيل، بدأها عام 1906 واستمر في كتابتها والإضافة لها عبر حياته ولم تُنشر إلا عام 1954 وهي تُعتبَر صورة يهودية مطابقة لعمل فيكتور هيجو الأدبي أسطورة الأجيال.
وقد كان لفليج تأثير في الأدب الفرنسي ذي الطابع اليهودي، كما حاول جاهداً في كتاباته إظهار التوافق بين الثقافة الغربية والقيم اليهودية. ورغم اهتمام فليج باليهودية والصهيونية، فإنه كان أساساً من الصهاينة التوطينيين الذين يدافعون عن الصهيونية كمثل أخلاقي أعلى وحركة لحل مشاكل اليهود الآخرين.
فيلكس فرانكفورتر (1882-1965 (
Felix Frankurter
صهيوني توطيني كان يعمل قاضياً بالمحكمة الدستورية العليا الأمريكية. وُلد في فيينا عام 1882، ثم هاجر مع أبويه إلى الولايات المتحدة عام 1894. تخرَّج في كلية الحقوق في جامعة هارفارد عام 1906 وأصبح مساعد المدعي العام الأمريكي في نيويورك. وأصبح مساعداً لوزير الحرب الأمريكي عام 1911. وكان أستاذاً للقانون الإداري بهارفارد حتى تم اختياره قاضياً بالمحكمة الدستورية العليا عام 1939. وأخيراً، كان المستشار القانوني للوفد الصهيوني الأمريكي لمؤتمر السلام في باريس، وشارك مشاركة فعالة في مفاوضات فيصل/ وايزمان. وقد ابتعد فرانكفورتر عن المشاركة في النشاطات الصهيونية بعد استقالة برانديز ولكنه استمر في النشاط الصهيوني التوطيني والإثني من خلال عضويته في مجلس مديري أصدقاء الجامعة العبرية في القدس. وكان فرانكفورتر صديقاً شخصياً لروزفلت. وتُوفي في نيويورك عام 1965.(17/20)