وظلت الجماعة اليهودية في إنجلترا مُشكَّلة في أغلبها من السفارد وإن بدأت بعض الجماعات الصغيرة من اليهود الإشكناز القادمين من أمستردام وهامبورج ثم ألمانيا وشرق أوربا الاستقرار في إنجلترا في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر. وكان أغلب اليهود الإشكناز أقل في المرتبة الاجتماعية من السفارد، وعمل قطاع كبير منهم كباعة متجولين في القرى والمناطق الريفية، وبالتالي نمت تجمعات من يهود الإشكناز في كثير من المدن الريفية والموانئ والمراكز الصناعية. وأسَّس الإشكناز المعبد الكبير في لندن عام 1722.
وبدأت حركة حصل بموجبها أعضاء الجماعة اليهودية على حقوقهم المدنية في القرن الثامن عشر حيث صدر عام 1718 قرار بالسماح لليهود المولودين في إنجلترا حتى لو كانوا من أبوين أجنبيين بأن يمتلكوا الأراضي الزراعية. وفي عام 1753، قُدِّم مشروع للبرلمان البريطاني يطالب بمنح اليهود المولودين خارج البلاد حقوق المواطنة نفسها الممنوحة لأبنائهم. لكن هذا المشروع سرعان ما فشل، الأمر الذي دفع كثيراً من أثرياء اليهود إلى التخلي عن اليهودية واعتناق المسيحية. وتذهب بعض التقديرات إلى أن عدد المتنصِّرين من اليهود في القرن التاسع عشر بلغ 29 ألفاً، أي نحو ثُلث يهود إنجلترا. وهذا الرقم دليل أيضاً على تَزايُد اندماج اليهود في المجتمع البريطاني.(11/275)
وأتاحت الحروب النابليونية لبعض العائلات اليهودية الإشكنازية، مثل عائلتي روتشيلد وجولدسميد، احتلال مواقع مرموقة في المجتمع الإنجليزي بفضل خدماتهم المالية المهمة، الأمر الذي أعطى ثقلاً للحركة المطالبة بانعتاق اليهود. وفي الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، سُمح لليهود بالعمل في وظائف مدنية، وعُيِّن أول شريف يهودي عام 1835. ووصلت هذه الحركة إلى قمتها بدخول ليونيل دي روتشيلد البرلمان عام 1858. كما أصبح ابنه ناثانيل دي روتشيلد أول يهودي بريطاني يحصل على لقب لورد عام 1885. وفي عام 1890، تم إلغاء آخر القيود الدينية على اعتلاء مناصب ووظائف سياسية، وبالتالي أصبح انعتاق اليهود كاملاً. واحتل بعض أعضاء الجماعة مواقع ومراكز مهمة في الإدارات والوزارات البريطانية اللاحقة.
ولكن، مع نهاية القرن التاسع عشر، تغيَّر التكوين الإثني ليهود إنجلترا نتيجة تَدفُّق جحافل يهود اليديشية من شرق أوربا ووسطها على إنجلترا، وغيرها من الدول، بسبب تَعثُّر التحديث. وفيما يلي إحصاء بعدد يهود إنجلترا من عام 1690 حتى عام 1985:
السنة / عدد أعضاء الجماعة اليهودية
1690 / 350 - 400
1734 / 6000
1753 / 8000
1800 / 20.000
1830 / 27.000
1845 / 35.000
1849 / 40.000
1851 / 35.000
1853 / 25.000
1880 / 60.000
1890 / 100.000
1900 / 160.000
1910 / 242.000
1920 / 297.000
1930 / 333.000
1940 / 385000
1950 / 450.000
1960 / 450.000
1970 / 410.000
1985 / 330.000(11/276)
وهكذا، فبينما كان يوجد في عام 1853 نحو 25 ألف يهودي في إنجلترا، وصل عددهم إلى 242 ألفاً عام 1910، أي بزيادة نحو عشرة أضعاف خلال ستين عاماً في مجتمع متجانس مثل المجتمع الإنجليزي. ورغم صدور تشريعات تَحُد من هجرتهم، فإن عدد يهود إنجلترا وصل عام 1914، أي عشية وعد بلفور، إلى ما بين 250 ألفاً وإلى 300 ألف نصفهم من يهود اليديشية، أي أن عدد يهود إنجلترا من يهود اليديشية زاد خمسة عشر ضعفاً فيما يقارب أربعين عاماً. وخلق هذا جواً من القلق في إنجلترا، وسادت شائعات تقول إن عدد المهاجرين بلغ 750 ألفاً.(11/277)
وكان يهود اليديشية تجاراً صغاراً متخلفين يحملون معهم إحساساً جيتوياً عميقاً بعدم الأمن والطمأنينة. وأدَّى تواجدهم بهذه الأعداد الضخمة إلى ازدياد البطالة وازدحام المدن والجريمة. وفي بداية الأمر انخرط يهود اليديشية في الأعمال اليدوية شبه الماهرة، وخصوصاً في مجال صناعة الملابس الجاهزة. وكان الطلب على الملابس الجاهزة الرخيصة قد بدأ يزداد نسبياً في إنجلترا وغيرها من الدول الصناعية الغربية مع تنامي الطبقات المتوسطة في هذه البلاد. وكان ميراث يهود اليديشية، باعتبارهم جماعة وظيفية وسيطة، يؤهلهم لدخول هذه المجالات الجديدة والهامشية والتي كانت مازالت تتَّسم بقدر من المخاطرة وتحتاج إلى خبرات تجارية. فعملوا في «ورش العرْق» ، وهي مصانع لم تكن ظروف العمل فيها إنسانية وكان العمال يعملون فيها ساعات طويلة. وأحضروا معهم أطفالهم الذين كانوا يشكِّلون عبئاً ضخماً على المؤسسات الصحية والتعليمية. وكانت ثقافتهم يديشية أساساً ويتحدثون هذه اللغة في الشوارع، كما كانت لهم مطابعهم وجرائدهم ومعابدهم وحاخاماتهم. ولم تكن لهم هوية سياسية أو وضع قانوني محدَّد. كل هذا يناقض وضع يهود إنجلترا السفارد، أو حتى الإشكناز الذين تم صبغهم بالصبغة الإنجليزية والذين كانوا جزءاً من الأرستقراطية المالية وكانت أعدادهم صغيرة وكانوا مندمجين في مجتمعهم الإنجليزي يتحدثون بلغته، ويتمتعون بحقوقهم السياسية والمدنية والدينية الكاملة. وأدَّى هذا الوضع إلى توتر العلاقات بين الفريقين، إذ كان اليهود الإنجليز يعتبرون اليهود المتحدثين باليديشية عنصراً غريباً متخلفاً وعنصرياً يهدد مواقعهم الطبقية ومكانتهم الاجتماعية. ويضاف إلى هذا أنهم أحضروا معهم المسألة اليهودية من شرق أوربا. وكان يهود اليديشية بدورهم ينظرون إلى اليهود الإنجليز باعتبارهم باردين ومندمجين في مجتمعهم، منعزلين تماماً عن الحركات السائدة بين أعضاء الجماعات اليهودية في شرق(11/278)
أوربا (الصهيونية والحسيدية والتنويرية) بين يهود الشرق. ولذا، ظل الفريقان كلٌّ منهما بمعزل عن الآخر، كما أنهم لم يتزاوجوا فيما بينهم.
وأدَّى وفود العناصر اليديشية إلى قيام محاولات لوقف سيل الهجرة عن طريق تأليف لجنة ملكية لدراسة القضية. ومما زاد الجو توتراً، بالنسبة إلى الجماعة اليهودية، ظهور إحساس بين العناصر الاشتراكية الراديكالية بأن اليهود يشكلون جزءاً مهماً من السياسة الإمبريالية الإنجليزية، ومن هنا كان أعداء الإمبريالية أعداء لليهود. وكان عدد اليهود بين المستوطنين الإنجليز في جنوب أفريقيا كبيراً، وبعضهم كان على علاقة قوية بملنر ورودس. وقد تحدث جـ. أ. هوبسون (الزعيم الاشتراكي وأهم المثقفين الإنجليز المعارضين للإمبريالية) عن مجموعة صغيرة من الممولين الدوليين «ألمان في أصلهم ويهود في عنصرهم» حققوا نفوذاً قوياً في جوهانسبرج. وقد وصفهم بأنهم الحثالة الحقيقية لأوربا، يسيطرون على حقول الذهب ويحتكرون صناعة الديناميت وتجارة الكحول السرية. كما يتحكمون مع سيسل رودس في الصحافة، ويتلاعبون بسوق الرقيق، ويديرون الأعمال التجارية الأساسية في كل من جوهانسبرج وبريتوريا. ويُلاحَظ أن أعداداً كبيرة أيضاً من يهود إنجلترا، وخصوصاً يهود اليديشية، انخرطوا في صفوف الحركات اليسارية والعمالية والعدمية. وأدَّى هذا إلى ارتباط أعضاء الجماعات اليهودية بأقصى اليمين والرجعية، وبأقصى اليسار والثورية، في وقت واحد.
في هذا الجو، شُكلت لجنة خاصة لمناقشة هجرة يهود شرق أوربا. وقدمت حكومة بلفور، الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء آنذاك، مشروع قانون عام 1902 يُسمَّى «قانون الغرباء» الذي ووفق عليه عام 1905. ودافع رئيس الوزراء عن المشروع فأشار إلى أنه لا يمكن تَجاهُل مسألة العرْق بأية حال في أمور الهجرة، كما أشار إلى المشاكل التي حاقت بإنجلترا نتيجة الهجرة اليهودية مؤكداً ضرورة الحد منها.(11/279)
وفي هذا الإطار، طُرحت الفكرة الصهيونية، فعارضها اليهود الإنجليز وأيدها يهود اليديشية. وزار هرتزل إنجلترا لأول مرة عام 1895 وألقى خطبة في حيّ إيست إند عن موضوع الهجرة، وكانت هذه أول مواجهة حقيقية بينه وبين يهود اليديشية.
ثم عُقد المؤتمر الصهيوني الرابع (1900) في لندن. وحيث إن يهود إنجلترا الأصليين كانوا من كبار معارضي المشروع الصهيوني، توجه هرتزل أساساً إلى يهود اليديشية، كما وضع نصب عينيه الوصول إلى السلطات الحاكمة مباشرة لعرض المشروع الصهيوني كرقعة تلتقي فيها المصالح العنصرية والاستعمارية بالرؤية الصهيونية. وفي عام 1902، نجح أحد أصدقاء هرتزل في دعوته للمثول أمام اللجنة الملكية، حيث قدَّم حلاًّ صهيونياً مفاده تحويل الهجرة من إنجلترا إلى أية بقعة أخرى خارج أوربا. وانطلاقاً من هذا، عُرض مشروع شرق أفريقيا، ثم صدر وعد بلفور الذي جاء انتصاراً للمنظمة الصهيونية على يهود إنجلترا.
وبعد صدور وعد بلفور، تغيَّرت الأوضاع كثيراً، ذلك أن تأييد الصهيونية لم يَعُد تأييداً لحركة قومية غربية وإنما أصبح تأييداً للمصالح الإمبريالية البريطانية. وبذا، اختفت معارضة الصهيونية بين صفوف اليهود الإنجليز، كما أن العناصر اليديشية نفسها بدأت تصطبغ بالصبغة البريطانية، وخصوصاً أنهم لم يجدوا أية عراقيل قانونية تقف في طريقهم نحو الاندماج.
ومع صعود النازية في ألمانيا، هاجر ما بين 40 و50 ألف يهودي من ألمانيا ووسط أوربا إلى إنجلترا. ورغم أن هذه الهجرة كانت أقل في حجمها من هجرة يهود اليديشية إلا أن المهاجرين الألمان كانوا أكثر ثراء، وتشير التقديرات إلى أنه تم تحويل مبالغ ضخمة من ألمانيا إلى بريطانيا. كما أعاد المهاجرون تأسيس أعمالهم المالية والتجارية في إنجلترا، وخصوصاً في مجالات المنتجات الصيدلية والملابس الثمينة وبعض الصناعات الخفيفة الأخرى، وأصبحت لندن مركز تجارة الفراء بدلاً من ليبزيج.(11/280)
إنجلترا في الوقت الحاضر
England at the Present
كان يهود إنجلترا آخذين في التناقص بسبب الاندماج والهجرة رغم وصول أعداد كبيرة من يهود ألمانيا إلى إنجلترا في فترة الحرب العالمية الثانية. وبلغ عدد يهود إنجلترا 430 ألفاً في أوائل الخمسينيات ولكنه تناقص إلى 320 ألفاً عام 1989 (من مجموع عدد السكان البالغ 65.861.000) ، وكان معظمهم يتركز في لندن (بنسبة 60%) والبقية في مانشستر وليدز وجلاسجو. وفي عام 1992 بلغ عدد يهود إنجلترا 298.000 يوجد 200 ألف منهم في لندن.
ومما يُذكَر أن السفارة الإسرائيلية في بريطانيا أشارت عام 1988 إلى أن هناك حوالي 30 ألف إسرائيلي مقيم في إنجلترا، خمسة آلاف منهم مسجلون كاحتياطيّ في الجيش البريطاني، أي أنهم اكتسبوا المواطنة البريطانية. وبهذا المعنى يمكن الحديث عن «دياسبورا إسرائيلية» في إنجلترا، وأن عدد الهاربين من صهيون لا يقل كثيراً عن عدد الهاربين من جحيم النازية.(11/281)
ويعاني يهود إنجلترا من ظاهرة موت الشعب اليهودي، أي تَناقُص عددهم مع احتمال اختفائهم. وفي حالة إنجلترا، يتبدَّى هذا في تَزايُد متوسط الأعمار بين أعضاء الجماعة اليهودية عنه على المستوى القومي وتَزايُد نسبة الوفيات بينهم عن نسبة الوفيات على المستوي القومي أيضاً. ففي عام 1984، كان معدل الوفيات بين اليهود 15 من كل ألف مقابل 11.8 لكل السكان. ويزيد عدد الوفيات على عدد المواليد بمعدل 1300 حالة سنوياً. ويبدو أن ظاهرة الإحجام عن الإنجاب، وكذلك عدم الخصوبة التي يتسم بها يهود العالم (الغربي بالذات) سائدة في إنجلترا. ولذا، فإن الزيادة الطبيعية لا تؤدي إلى تعويض الأعداد التي تفقد، كما أن عدد اليهود يتناقص بسبب تَصاعُد معدلات العلمنة والاندماج، وهما أمران مرتبطان أحدهما بالآخر تماماً. ونسبة الزواج المختلط مرتفعة إلى حد يصل إلى 40 ـ 50%. كما أن عدد الزيجات اليهودية أخذ في التناقص، إذ سُجِّل في عام 1960 نحو 3664 حالة زواج، ثم تناقص العدد ليصبح 1153 عام 1984 ثم 1.031 فقط عام 1992. ويُلاحَظ تَزايُد نسبة الطلاق بين أعضاء الجماعة اليهودية إذ بلغت نحو 35%. وربما كانت النسبة العامة في إنجلترا لا تختلف عن ذلك كثيراً، ولكنها تكتسب دلالة خاصة بالنسبة إلى عدد يهود إنجلترا إذ أن الطلاق مؤشر على تَفسُّخ الأسرة اليهودية وهي الإطار الذي احتفظ من خلاله أعضاء الجماعات اليهودية المختلفة بهوياتهم. ويعتبر يهود إنجلترا أنفسهم يهوداً من الناحية الدينية وحسب، وبريطانيين من الناحية العرْقية. ومن المفارقات أن هذا التصور يساعد على تَزايُد الاندماج لأن الأمور الدينية، في المجتمعات العلمانية، تُعتبَر أموراً خاصة للغاية لا تحدد سلوك الأفراد إلا في أضيق الحدود ولقد شبهها ماكسيم رودنسون بالانضمام إلى ناد للعب الشطرنج. وبالتالي، تصبح هوية اليهودي البريطاني هوية بريطانية بالدرجة الأولى. ومن بين العناصر الأخرى التي تساهم(11/282)
في تناقص عدد يهود إنجلترا هجرتهم خارجها. ففي عام 1971، كان يوجد 44 ألف يهودي، أي 12% من جملة يهود إنجلترا، خارجها. وكان هؤلاء المهاجرون من مواليد إنجلترا، ولم يكونوا من العناصر المهاجرة حديثاً التي تستقر بعض الوقت ثم تستأنف الهجرة بعد فترة وجيزة.
وقد تغيَّر البناء الوظيفي والمهني ليهود إنجلترا، فتركت أعداد كبيرة منهم الأعمال اليدوية شبه الماهرة، وبدأوا ينخرطون بأعداد متزايدة في الوظائف والمهن التي يصبح اليهودي هو صاحب العمل فيها (مثل أصحاب المحال الصغيرة ومصففي الشعر وسائقي التاكسيات) . وبلغت نسبة أعضاء الجماعة اليهودية العاملين في مثل هذه المهن نحو 15% من جملة أعضاء الجماعة اليهودية في إنجلترا (6% على المستوى القومي) . وبطبيعة الحال، زاد عدد اليهود الذين يدخلون المهن والوظائف الإدارية، كما هو الحال مع الجيل الثالث من المهاجرين في كل أنحاء العالم الغربي. وتناقص عدد اليهود في قطاع المال، وزاد عددهم في قطاع الصناعات الاستهلاكية، مثل الخياطة والملابس، بسبب الميراث الاقتصادي الشرق أوربي. وفي الستينيات، تَركَّز 20% من جملة الذكور اليهود العاملين في صناعة النسيج، و7 ـ 8% في قطاع الملابس الجاهزة والأثاث و22% في المهن. وهذا هو النمط العام السائد في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وفرنسا. وكل هذا يعني أن عدد العمال اليهود آخذ في التناقص وأنهم لم يعودوا جماعة وظيفية وسيطة وإنما بدأوا يتحولون إلى طبقة وسطى، وهذا أمر يصاحبه تزايد في نسبة الاندماج.(11/283)
وتناقص عدد أعضاء الجماعة اليهودية الذين يعلنون ارتباطهم بالعقيدة اليهودية، فقد ذكر 110 آلاف يهودي عام 1977 أنهم أعضاء في هذا المعبد اليهودي أو ذاك (أي ثلث أعضاء الجماعة اليهودية مقابل النصف في الولايات المتحدة) . وتناقص العدد في التسعينيات بسبب تَزايُد معدلات العلمنة وعناصر أخرى. وينقسم اليهود، من الناحية الدينية، إلى سفارد وإشكناز، وإلى أرثوذكس (معتدلين ومتطرفين) وإصلاحيين. والتنظيم الديني للسفارد هو أبرشية اليهود الأسبان والبرتغاليين، وهي أقدم التنظيمات (أُسِّست عام 1657) . يضم هذا التنظيم الأرستقراطية السفاردية القديمة التي كانت تمنع الإشكناز من الانضمام إليها. أما الأغلبية الإشكنازية، فنظمت نفسها بطريقة إنجليزية يهودية أنجليكانية، فلم تظهر حركة إصلاح ديني جذرية على الطريقة الألمانية، وإنما ظل الإصلاح الديني على الطريقة الإنجليزية الأنجليكانية، فتم تعديل الطقوس حتى تصبح أكثر لياقة وفخامة من منظور بريطاني، وظل اليهود هناك يهوداً أرثوذكس، ولكن معتدلين، تماماً كالكنيسة الأنجليكانية، أي كاثوليكية بدون البابا. وثمرة هذه العملية هو ظهور جماعة يهودية تتخذ شكل هيئة أرثوذكسية رسمية تتبع مؤسسة رسمية هي المعبد الموحَّد ومركزها لندن، وهي التي تُعيِّن الحاخام الأكبر لبريطانيا. والمعبد الموحَّد هيئة أرثوذكسية معتدلة، فهي تتبع المعايير الأرثوذكسية داخل المعبد ولكنها لا تطبقها خارجها. ولا يصاحب هذه الهوية أي تعبير حيوي عنها في المجالات الاجتماعية أو الثقافية. ولم تَعُد هذه المواقف المعتدلة تُرضي اليمين أو اليسار، ولذا أسس الأرثوذكس الحقيقيون هيئاتهم الدينية المستقلة. فأسس المهاجرون من يهود اليديشية اتحاد المعابد (1887) . والاتحاد له محكمته الشرعية (بيت دين) الخاصة. ولكن هناك اتحاد أكثر أرثوذكسية وهو اتحاد الأبرشيات الأرثوذكسية العبرية الذي أُسِّس عام 1916. ولكن لا ينتمي سوى 3.5% من يهود(11/284)
إنجلترا لهذين الاتحادين، فالغالبية العظمى تنضم إلى المعبد الموحَّد (34018 عام 1992) أو إلى الاتحادين الإصلاحيين، وهما معابد بريطانيا العظمى الإصلاحية واتحاد المعابد الليبرالية والتقدمية (26 ألفاً عام 1992) .
ولا يمكن الحديث عن صوت يهودي في إنجلترا، فعدد أعضاء الجماعة اليهودية لا يزيد على 0.6% من عدد السكان، أي أنهم لا يشكِّلون جماعة ضغط من الناحية العددية أو حتى من الناحية الاقتصادية بحيث يمكنهم التأثير في مسار الانتخابات، كما أن أصواتهم موزعة بين عدة دوائر. والدائرة الوحيدة التي يُوجَد فيها تَركُّز يهودي نوعاً ما هي دائرة هندون الشمالية التي لم تنتخب مرشحاً يهودياً وإنما انتخبت مارجريت تاتشر. ويبلغ عدد الأعضاء اليهود في البرلمان الإنجليزي (عام 1974) ستة وأربعين عضواً وانخفض إلى ثمانية وعشرين عام 1983 من أصل 650 عضواً. والنواب اليهود يمثلون دوائر انتخابية لا يُلاحَظ فيها وجود يهودي غير عادي.(11/285)
وقد يتوهم البعض أن انخفاض عدد النواب اليهود في البرلمان الإنجليزي سيؤدي حتماً إلى ضعف النفوذ الصهيوني أو اليهودي، ولكن هذا مناف للحقيقة. فزيادة أو نقصان عدد النواب اليهود لا يؤثر من قريب أو بعيد على سياسة المملكة المتحدة تجاه العالم العربي. وكما قال أحد المعلقين اليهود البريطانيين، فإن أعضاء الجماعة اليهودية في إنجلترا مندمجون في الطبقة الوسطى ويصوتون مثلها، وبالتالي لا يمكن الحديث عن صوت يهودي. ومن ثم، فإننا نجد أن أعداداً متزايدة بين يهود إنجلترا تنضم لحزب المحافظين وتؤيد سياسته، شأنهم في هذا شأن أعضاء الطبقة الوسطى في المجتمع البريطاني. ومن المعروف أن أغلبية يهود إنجلترا الساحقة كانت معادية للصهيونية في بداية القرن، ومع هذا أصدرت وزارة لويد جورج وعد بلفور في عام 1917. بل إن الحكومة البريطانية نصحت أعضاء الجماعة اليهودية بعدم التهييج ضد الصهيونية التي أصبحت مصالحها من مصالح الدولة الإمبراطورية العليا.
وأهم المؤسسات التنظيمية للجماعة اليهودية في إنجلترا هي ما يلي:
1 ـ مجلس النواب The Board of Deputies واسمه الكامل هو: لجنة لندن للنواب اليهود البريطانيين London Committee of Deputies of British Jews. وهو ممثل الجماعة اليهودية في بريطانيا، وأصبح منذ عام 1975 الجهة الممثلة ليهود إنجلترا لدى المؤتمر اليهودي العالمي. وتأسس هذا المجلس بشكله الحالي في منتصف القرن التاسع عشر، ويضم 600 نائب منتخبين من قبَل المعابد اليهودية وبعض المنظمات التي لها الحق في تعيين النواب.
ويضم المجلس عدة أقسام تتولى رعاية شئون الجماعة اليهودية في إنجلترا، وتشمل: الدفاع، والعلاقات مع إسرائيل، والشئون الخارجية، والتعليم، والشئون القانونية والبرلمانية، والعلاقات العامة والمحاضرات، والذبح الشرعي، ووحدة أبحاث مخصصة لجمع البيانات الإحصائية والسكانية الخاصة بالجماعة اليهودية في إنجلترا.(11/286)
2 ـ الجمعية الإنجليزية اليهودية Anglo Jewish Association. تأسست في عام 1871، وتركز نشاطها في الشئون الخارجية حيث عملت على دعم نشاط الأليانس إسرائيليت، وشكَّلت بالتعاون مع مجلس النواب (عام 1878) اللجنة الخارجية لرعاية المصالح اليهودية في الخارج التي تم حلها بعد وصول عناصر مؤيدة للصهيونية إلى رئاسة مجلس النواب عام 1943.
وظلت هذه المنظمة معارضة للصهيونية باعتبار أن أعضاء الجماعة اليهودية في بريطانيا مواطنون بريطانيون بالدرجة الأولى يتجه ولاؤهم لدولتهم القومية التي يعيشون فيها. وظل هذا تَوجُّهها رغم تبنيها سياسة ودية تجاه إسرائيل بعد تأسيسها.
3 ـ المجلس اليهودي لخدمات الرفاه الاجتماعي Jewish Welfare Board. تأسَّس عام 1859 تحت اسم مجلس الأوصياء Board of Gaurdians. وهو الجهة اليهودية الأساسية العاملة في المجالات الخيرية ومجال الخدمة الاجتماعية.
4 ـ جمعية الشباب اليهودي Association of Jewish Youth وهي المنظمة الشبابية الأساسية للجماعة اليهودية في إنجلترا.
5 ـ المنظمات الخاصة بجمع التبرعات وتدبير الموارد المالية:
ـ الصندوق القومي اليهودي The Jewish National Fund.
ـ النداء الإسرائيلي الموحَّد Joint Israel Appeal.
وتحتفظ جماعة أبناء العهد (بناي بريت) بشبكة من المحافل في إنجلترا وأيرلندا.
أما المنظمات الصهيونية، فهي:
1 ـ الاتحاد الصهيوني لبريطانيا العظمى وأيرلندا The Zionist Feder ation of Great Britain and Ireland.(11/287)
تأسَّس الاتحاد الصهيوني في 6 مارس عام 1898 في مؤتمر كلاركويل Clerkwell Conference وهو يشارك بشكل مباشر في جميع الأنشطة الصهيونية، كما لعب دوراً كبيراً في تأسيس دولة إسرائيل. ويضم الاتحاد نحو 700 جمعية ومؤسسة مشتركة في عضويته، كما أنه يمارس أنشطته من خلال مجموعة من اللجان التي تعالج النواحي المختلفة للحياة الصهيونية العليا. وتنسق بين أعمال هذه اللجان جميعاً لجنة تنفيذية قومية ولجنة أخرى تتكون من أعضاء مشرفين يتم اختيارهم من بين كبار اليهود في بريطانيا.
ورئيس الاتحاد الصهيوني هو جـ. إدوارد سيف J. Edward Sieff وهو من الأسرة التي تملك محلات «ماركس آند سبنسر Marks and Spencer» . وبالإضافة إلى ذلك، فإن هناك لجنة عليا خاصة هي اللجنة الاقتصادية لإسرائيل، وتهدف تلك اللجنة إلى تنظيم جمع المعونات المالية لإسرائيل.
2 ـ المنظمات الصهيونية المحلية: وتتوزع المنظمات الصهيونية المحلية والإقليمية على النحو التالي:
ـ منظمات اجتماعية يهودية.
ـ المنظمات الصهيونية في منطقة لندن.
ـ منظمات صهيونية إقليمية أخرى.
ويُلاحظ المراقب لأنشطة المنظمات الصهيونية في بريطانيا أنها تتركز في مدينة لندن بالأساس، ويرجع ذلك إلى ضخامة عدد اليهود في المدينة.(11/288)
الباب السادس: ألمانيا
ألمانيا من العصور الوسطى حتى عصر النهضة
Germany from the Middle Ages to the Renaissance
يعود استقرار بعض أعضاء الجماعات اليهودية في ألمانيا إلى الحملات الرومانية، وكوَّنت الجماعات اليهودية الأولى جزءاً من المدن الرومانية العسكرية على نهري الراين والدانوب (وورمز وسبير) . وكان أول وأهم هذه المعسكرات معسكر كولونيا (وهي من كلمة لاتينية تعني مستعمرة، وكلمة «كولونيالية» أي «استعمار» مشتقة من الكلمة نفسها) . ثم استوطن يهود آخرون في ألمانيا أثناء حكم شارلمان والإمبراطورية الكارولنجية. ويَرد في القرن العاشر الميلادي ذكر تجمعات يهودية في مدن مثل كولون. كما كانت تُوجَد تجمعات في أوجسبرج وورمز ومينز.
وقد كان أعضاء الجماعات اليهودية إبّان حكم الإمبراطورية الكارولنجية تحت حماية الإمبراطور، يتبعونه ويقدم هو لهم المواثيق والحماية والمزايا. وكانت علاقة الكنيسة بهم، وخصوصاً الأساقفة، طيبة على وجه العموم. وكان لليهود رئيسهم الديني الدنيوي الذي كان يُسمَّى «الآرش سينا جوجوس» أو رئيس المعبد، كما كان يُطلَق عليه «ابيسكوبوس جيود وروم» أو «أسقف اليهود» .....(11/289)
وأثناء حملة الفرنجة الأولى قام الأساقفة والملوك بحماية أعضاء الجماعات اليهودية من السخط الشعبي عليهم، فأصدر هنري الرابع عدة مواثيق عام 1090 تؤكد الحقوق التي حصلوا عليها في العصر الكارولينجي بشأن حماية ممتلكاتهم وأرواحهم والتي تؤكد أيضاً حرية السفر والعبادة بالنسبة لهم. وكان أعضاء الجماعات اليهودية مُعْفَيْنَ من المكوس والضرائب التي تُفرَض على المسافرين، وكان لهم حق التقاضي فيما بينهم وحق الفصل في الأمور اليهودية المختلفة مثل الزواج والطلاق والتعليم، أي كانت لهم إدارتهم الذاتية. وسُمح لهم بالاستمرار في تجارة الرقيق وأن يقيموا في أماكن خاصة بهم كما هو الحال مع الغرباء كافة. وعادةً ما كانت هذه الأماكن في أحسن موقع بالمدن على الشارع الرئيسي أو بجوار الكوبري الذي يؤدي إلى المدينة والذي يمثل عصبها التجاري. وكان أعضاء الجماعات اليهودية يُعَدُّون عنصراً بالغ الفائدة والنفع للحكام والأمراء والأساقفة والأباطرة. ويظهر ذلك عام 1084 في واحدة من أولى الوثائق التي ضمنت لليهود حقوقهم وامتيازاتهم، وهي خطاب الأسقف الأمير حاكم سبير، الذي دعا اليهود إلى الاستيطان في مدينته كجماعة وظيفية استيطانية، حتى يمكنه أن يحوِّلها من قرية إلى مدينة وأن يخرجها من الاقتصاد الزراعي ويدخلها الاقتصاد التجاري. وأُعطي اليهود الحق في أن يتحصنوا داخل المدينة منعاً لأية هجمات قد تقع عليهم. وحينما اندلعت الاضطرابات ضد أعضاء الجماعة، إبّان حملة الفرنجة، أرسلوا إلى هنري الرابع الذي كان في زيارة إلى إيطاليا، فأصدر أمره إلى الأدواق والأساقفة في ألمانيا بحمايتهم. ومع هذا، استمرت الاضطرابات، وذبح المتظاهرون أحد عشر يهودياً في سبتمبر 1096، فتدخَّل الأسقف واتخذ إجراءات مضادة. ويُقال إن عدد اليهود الذين ذُبحوا في ألمانيا أساساً، وكذلك في غيرها من بلاد أوربا إبّان هذه الحملة، بلغ اثنى عشر ألف يهودي. وهو عدد مُبالَغ فيه.(11/290)
وحينما عاد هنري الرابع من إيطاليا، سُمح لليهود الذين تنصروا عنوة بالعودة إلى دينهم، وأمر بمعاقبة أحد الأساقفة ممن صادروا ممتلكاتهم. كما أصدر قراراً عام 1103 بأن عقوبة الهجوم على أعضاء الجماعات اليهودية أو ممتلكاتهم هي الإعدام، وأن هدنة الرب التي أُعلنت في ذلك الوقت تنطبق على اليهود انطباقها على المسيحيين، وأن اليهود يتمتعون بالحماية نفسها التي يتمتع بها القساوسة.
ولا يُعرَف عدد يهود ألمانيا في هذه الفترة على وجه الدقة، ولكن من المعروف أن بعض الجماعات كان يصل عددها إلى ألفين وأنهم تركزوا أساساً على الشاطئ الغربي لنهر الراين في منطقة اللورين، وفي المراكز التجارية مثل كولونيا ومينز وسبير وورمز، وفي المراكز الدينية والسياسية المسيحية مثل براغ. وكانوا يعملون أساساً بالتجارة الدولية، ولكنهم بدأوا في هذه الفترة بالعمل في الربا أيضاً. وتمكنت السلطات الحاكمة من حماية اليهود إبّان حملة الفرنجة الثانية.(11/291)
وأصبحت حماية أعضاء الجماعة اليهودية جزءاً من القانون العام، فنعموا بشيء من السلام تحت حماية الإمبراطور، ومنح فريدريك الأول اليهود ميثاقاً لحماية إحدى الجماعات اليهودية عام 1157 استُخدم فيه مصطلح «أقنان بلاط» لأول مرة (وإن كان المفهوم قد ظهر قبل ذلك التاريخ) . وأدَّى هذا الوضع إلى ازدياد التصاق أعضاء الجماعة اليهودية بالسلطة الحاكمة. ولكن حمايتهم بشكل كامل لم تكن أمراً ممكناً لأن العداوة ضدهم كانت مسألة متأصلة ذات طابع جماهيري عام، فاليهودي هو الممثل المباشر الواضح للسلطة، كما أن إبهام وضعه جعل منه فريسة سهلة. وهو إلى جانب ذلك يقطن بين الجماهير ويتحرك بينها (على عكس أعضاء الأرستقراطية) . ومن ثم، كان اليهودي أضعف الحلقات في سلسلة القمع. وقد اشتغل أعضاء الجماعة اليهودية بالربا، وحدد مرسوم الدوق فريدريك الثاني في النمسا عام 1244 الفائدة على القروض بنحو 173.5%. وكانت القروض تُمنَح بضمان رهونات يستولى عليها المرابي عند فشل المدين في الدفع، الأمر الذي جعل الجماهير تتهمهم بامتصاص دم الشعب، ومن هنا جاءت تهمة الدم. ولم يكن حق المرابي يسقط في السلعة المرهونة لديه إن ثبت أنها مسروقة، شريطة أن يثبت أنه لم يكن يعرف أنها مسروقة، مع أن هذا مناف للقانون الألماني. ومن ثم، ارتبط أعضاء الجماعة اليهودية باللصوص والتجارة غير الشرعية.
وظهرت في هذه الفترة بيوتات المال الإيطالية والقوى التجارية المحلية التي زاحمت اليهود. فبدأ وضعهم في التدهور، وخصوصاً أن الكنيسة بدأت هي الأخرى في محاربة "المرض اليهودي"، أي الربا. وعُقد المجمع اللاتراني الرابع عام 1215، وهو المجلس الذي حرَّم الربا وفرض على اليهود ارتداء زي خاص بهم وتعليق الشارة اليهودية.(11/292)
ومع بداية الحملة الثالثة من حملات الفرنجة، بدأ التهييج ضد أعضاء الجماعة اليهودية. فبذل فريدريك الأول قصارى جهده لوقف الثورة الشعبية، وأعلن أن جريمة قتل اليهودي عقوبتها الإعدام، أما إلحاق الأذي به فعقوبته قطع الذراع.
وأخذ الاحتجاج الشعبي شكل تهمة الدم واتهام اليهود بتسميم الآبار. أما تهمة الدم، فهي ولا شك تعبير عن إحساس الجماهير بأن اليهود يمتصون دم ضحاياهم، أي ثروتهم. أما تسميم الآبار، فعلَّق عليها أحد المؤرخين المعاصرين بقوله: «إن السم اليهودي الحقيقي هو ثروتهم» ، وهو ما يبيِّن الطابع الشعبوي لهذه الاتهامات. ولعبت الكنيسة دوراً مهماً في حماية اليهود، كما قام الإمبراطور فريدريك الثاني بالتحقيق في إحدى تهم الدم المنسوبة لأعضاء الجماعة اليهودية، وأصدر عام 1236 حكماً ببراءة المتهمين، وأُلحق بحكم البراءة قراراً يجدد الحقوق الممنوحة لليهود بمقتضى قرارات هنري الرابع. ولم يكن القرار يشير إلى يهود إمارة أو اثنتين وإنما كان يشير إلى يهود ألمانيا كافة باعتبارهم أقنان بلاط. وهذا يعني أن اليهود، وكل ما يملكون، أصبحوا من الناحية القانونية ملكاً للإمبراطور وغير خاضعين لأية سلطة أخرى داخل المجتمع. ولخَّص أحد اليهود وضع اليهود كعنصر مالي تجاري حر تابع للإمبراطور بقوله: "إن اليهود غير مرتبطين بأي مكان خاص مثل غير اليهود، وهم فقراء ولكنهم مع هذا لا يباعون كعبيد". ويظهر مدى نفع اليهود في أنهم ساهموا بما يزيد على 12% من دخل الخزانة الإمبراطورية كله عام 1238، و20% من الضرائب التي حصلت في المدن الألمانية، وذلك رغم قلة أعدادهم، إذ كانوا لا يزيدون على 1% أو أقل من مجموع السكان.(11/293)
وتغيَّر الوضع بعد القرن الرابع عشر، فبعد أن كان أعضاء الجماعات اليهودية يعملون أساساً في التجارة، بدأوا يتوجهون إلى الربا بشكل أكثر وضوحاً. فبعد إصلاح كلوني الذي حرَّم على الأديرة ورجال الدين أن يشتركوا في أعمال الصيرفة والربا، اتسع نطاق اشتغال أعضاء الجماعات اليهودية بهذه الوظيفة وأصبحوا عنصراً مهماً كمرابين يتقاضون فائدة تصل أحياناً إلى 43.5 %. ويُلاحَظ أن الإمبراطور تشارلز الرابع قد نقل عام 1356 حقه في حماية اليهود إلى الأمراء المنتخبين (أي الذين لهم حق انتخاب الإمبراطور) وأصدر مرسوماً آخر عام 1548 يمنح جميع الأمراء ومدن الراين حق حماية اليهود (أي حق امتلاكهم في واقع الأمر) . وبدأ الأمراء والأساقفة يُعيِّنون اليهود للقيام بالأعمال المصرفية. وصاحب ذلك تَصاعُد الهجمات الشعبية على أعضاء الجماعات اليهودية. وقامت ثورات الفلاحين ضدهم (1335 ـ 1337) في عدة مقاطعات ألمانية. وكانت هذه إرهاصات الثورة الكبرى التي اندلعت ضدهم مع انتشار الطاعون أو الموت الأسود في الفترة من 1341 إلى 1349، وهي فترة انتشر فيها أيضاً توجيه تهمتي الدم وتسميم الآبار إليهم. وقامت بعض الجماعات الألمانية بدفع تعويض للإمبراطور نظير السماح لهم بالتخلص من اليهود. وبدأت في تلك المرحلة هجرة يهود ألمانيا إلى بولندا. وشهد القرن الخامس عشر استمراراً للعلاقة الوثيقة (علاقة الملكية) بين الإمبراطور والأمراء من جهة وأعضاء الجماعة اليهودية من جهة أخرى، بما يتضمنه ذلك من حق الملك في حمايتهم أو استغلالهم. ودافع الملك عن حقه هذا فأصدر مراسيم مختلفة، كما فعل الإمبراطور تشارلز الخامس (1519 - 1556) الذي زاد الضرائب المفروضة عليهم، ولكنه في الوقت نفسه سمح لهم بزيادة الفائدة التي يتقاضونها.
ألمانيا منذ عصر النهضة
Germany since the Renaissance(11/294)
بحلول القرن السادس عشر، كانت السلطة المركزية في ألمانيا قد اختفت تقريباً، فتم عزل أعضاء الجماعات اليهودية داخل الجيتوات، وفرضت عليهم قوانين مهينة وطُردوا من كثير من المدن والإمارات الألمانية. ولكن، مع هذا، لم يتم طردهم تماماً من كل ألمانيا. فكان بوسعهم الانتقال إلى إحدى الإمارات التي تحتاج إلى خدمتهم.
وشهدت هذه الفترة بدايات ظهور الرأسمالية التجارية التي سبَّبت شقاء للجماهير لم يدركوا مصدره. وكان اليهودي هو الرمز الواضح مرة أخرى لهذا الشقاء. كما أن الطبقات التجارية الصاعدة من سكان المدن دخلت في صراع مع الأمراء ورجال الكنيسة. وكان اليهودي هو حلبة الصراع، فحاول كل طرف الاستفادة من اليهود باعتبارهم عنصراً تجارياً. وكانت العناصر التجارية المحلية ترى في اليهودي غريماً لها، وخصوصاً أنه كان أداة في يد النبلاء. وظهر مارتن لوثر في تلك المرحلة، فطرح رؤيته الخاصة بضرورة تنصير اليهود. ومع نهاية القرن السادس عشر، لم يبق سوى بضع جماعات يهودية في فرانكفورت وورمز وفيينا وبراغ.
وتركت حرب الثلاثين عاماً (1618 ـ 1648) أثرها العميق في يهود ألمانيا، فبعد انتهائها، أصبحت ألمانيا مجموعة غير متماسكة من الدويلات المستقلة تحت حكم حكام مطلقين في حاجة إلى السكان والمال، وهي دويلات (إمارات ودوقيات) ذات تَوجُّه مركنتالي ترى أن مصلحة الدولة هي المصلحة العليا التي تَجب القيم والمثل الأخرى كافة. وكان أعضاء الجماعة اليهودية عنصراً أساسياً في عملية إعادة البناء والبعث التجاري ومصدراً أساسياً للضرائب، كما أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من النظام الاقتصادي الجديد.
وشهد القرن السابع عشر كذلك استقرار يهود المارانو في هامبورج حيث أسسوا بنك هامبورج، وبدأت هجرة يهود شرق أوربا من بولندا، بعد هجمات شميلنكي، حيث استوطنت أعداد منهم في هامبورج وغيرها من المدن.(11/295)
وظهرت تجمعات يهودية في داساو ومانهايم وليبزيج ودرسدن. وفي داخل هذا الإطار، ظهر يهود البلاط الذين ساعدوا الدويلات والإمارات التي كانوا يتبعونها على تنظيم أمورها المالية واستثماراتها، ورتبوا لها الاعتمادات اللازمة لمشاريعها وحروبها ولتمويل مظاهر الترف التي كانت تُشكِّل عنصراً أساسياً بالنسبة للحكام المطلقين. وكان يهود البلاط في منزلة وزير الخارجية والمالية ورئيس المخابرات. فكانوا يقومون بجمع المعلومات، كما كانوا أداة مهمة في يد الحكام المطلقين الألمان لابتزاز جماهيرهم وزيادة ريع الدولة. وكان يهودي البلاط (وهو عادةً قائد الجماعة اليهودية) يُعَدُّ عنصراً موالياً للدولة مكروهاً من جماهيرها، وهو ما جعل وضع الجماعة ككل محفوفاً بالمخاطر.(11/296)
ومع بدايات القرن الثامن عشر، وظهور جهاز الدولة القوي، لم تَعُد هناك حاجة إلى يهود البلاط ولا إلى الجماعات اليهودية كجماعة وظيفية وسيطة. وبدأت محاولات ضبط اليهود وتحديثهم، فأصدرت الدويلات الألمانية المطلقة، وبروسيا، نظماً مختلفة للإشراف على اليهود لتنظيم سائر تفاصيل حياتهم ولاستغلالهم. وكانت هذه القوانين تنظم حقوقهم وامتيازاتهم كما تحدد دخولهم، ومدى أحقيتهم في الاستيطان، ومدة بقائهم، وعدد الزيجات التي يمكن أن تتم، وعدد الأطفال المصرح لهم بإنجابهم، ومسائل الوراثة وطرق إدارة الأعمال، وسلوكهم، وضرائبهم، وحتى السلع التي يحق لهم شراؤها. ولعل القوانين التي صدرت في بروسيا هي خير مثل على ذلك، إذ تم تقسيم أعضاء الجماعة حسب مرسوم فريدريك الثاني (الأكبر) ، الصادر عام 1750، إلى أقسام حسب وضعهم في المجتمع. وكانت أعلى الطبقات طبقة اليهود المتميِّزين بشكل عام الذين يتمتعون بكل الحقوق التي يتمتع بها المواطنون، تليها طبقة المتمتعين بحماية عامة، وهؤلاء كانوا يتمتعون بكثير من الحقوق ولكنهم لم يكن من حقهم توريثها إلا للابن الأكبر دون بقية الأولاد، ثم طبقة اليهود المتمتعين بحماية خاصة ولا يمكنهم توريث حقوقهم لأحد. أما اليهود الذين كانوا يتمتعون بتسامح الدولة، فكان لا يُسمح لهم بالزواج وكان عليهم ترك بروسيا عند رغبتهم في الزواج.
وبدأت الدويلات الألمانية في تلك المرحلة محاولة دمج وتحديث أعضاء الجماعة اليهودية، فأصدر فريدريك الأكبر ميثاقاً يضمن لهم حق العبادة. وشجع كثير من الإمارات أعضاء الجماعات اليهودية، وخصوصاً المارانو، على الاستيطان فيها لتنشيط التجار. وصاحب ذلك استصدار قوانين تحمي حقوقهم الاقتصادية والسياسية والدينية.(11/297)
وتأثر وضع يهود ألمانيا بالثورة الفرنسية التي عَجَّلت بعملية إعتاقهم. وبعد سقوط نابليون، تقهقر وضعهم قليلاً. ولكنهم مُنحوا حقوقهم إبّان القرن التاسع عشر، وزاد اندماجهم بدرجة كبيرة. وظهرت بعد ذلك حركة التنوير، واليهودية الإصلاحية، والاتجاهات اليهودية الأخرى. ومع منتصف القرن، كان اليهود قد حصلوا على معظم حقوقهم. وفي الفترة من 1871 إلى 1914، كانوا قد حصلوا على حقوقهم كاملة واندمجوا في المحيط الثقافي تماماً، فتنصرت نسبة عالية من مثقفيهم، مثل هايني ووالد كارل ماركس وأولاد مندلسون وغيرهم، واختفت أعداد كبيرة منهم عن طريق الزواج المختلط.
وكان إتمام دمج يهود ألمانيا وتحديثهم على نمط يهود الغرب ممكناً. فيهود ألمانيا كانوا يعتبرون أنفسهم من يهود الغرب باعتبار أن يهود شرق أوربا هم يهود الشرق، كما أن ارتباط يهود أوربا بالثقافة الألمانية كان أمراً واضحاً. ولكن ثمة ظروفاً خاصة بهم وببنية المجتمع الألماني أدَّت في نهاية الأمر إلى تصفيتهم وتصفية يهود أوربا خارج الاتحاد السوفيتي، وهي الظروف التي أدَّت إلى الإبادة.
وفي عام 1948، كان عدد أعضاء الجماعة اليهودية في ألمانيا عشرين ألفاً فقط، بلغ عام 1992 نحو 50.000 من مجموع عدد السكان البالغ 80.606.000. ويبدو أن الزيادة ناجمة عن هجرة أعداد كبيرة من اليهود مرة أخرى إلى ألمانيا، من بينهم أعداد كبيرة من الإسرائيليين الذين تركَّزوا في مهن مشينة مثل الاتجار بالمخدرات والبغاء.
ونشير هنا إلى بعض التنظيمات والمؤسسات الخاصة بأعضاء الجماعة اليهودية في ألمانيا:
أ) المجلس المركزي لليهود في ألمانيا. وهي المنظمة المركزية للجماعة اليهودية في ألمانيا والجهة التي تمثلهم لدى المؤتمر اليهودي العالمي ومقرها دوسلدورف. وتقوم برعاية المصالح السياسية للجماعة ورعاية المسائل الخاصة بالتعويضات، كما تهتم بمراقبة أي علامات قد تشير إلى احتمال بعث النازية.(11/298)
ب) النداء اليهودي الموحَّد. وهي المنظمة الأساسية المسئولة عن جمع التبرعات وتدبير الموارد المالية ومقرها فرانكفورت.
جـ) المجلس المركزي لخدمات الرفاه الاجتماعي ليهود ألمانيا، ومقرها فرانكفورت. وهي المنظمة الأساسية العاملة في المجالات الخيرية ومجال الخدمة الاجتماعية.
د) مؤتمر حاخامات ألمانيا الغربية. وهو الإطار الذي يضم الحاخامات الذين يقومون بمهامهم الدينية بين أعضاء الجماعة اليهودية في تجمعاتهم المختلفة.
أوتو فون بسمارك (1815-1898)
Otto (Von) Bismark(11/299)
رجل دولة بروسي، موحِّد ومؤسس الإمبراطورية الألمانية وأول رئيس وزراء لها. اتسم بسمارك بدهائه السياسي وبقدراته الفائقة على المناورة السياسية، سواء في الداخل أو الخارج. وكانت الدولة في نظر بسمارك هي القوة، كما أن الحرب (على حدّ قول القائد والكاتب الحربي البروسي كلاوزفتز) ما هي إلا استمرار للسياسة بأشكال أخرى. فكلما ازدادت أطماع السياسة ازداد نطاق التسلُّح، وكلما ازداد نطاق التسلح اتسعت مجالات السياسة. وكان بسمارك يسعى إلى توحيد الولايات الألمانية المختلفة في إطار دولة ألمانية حديثة موحَّدة تضم الشعب الألماني. وكانت جذوره الإقطاعية، وميراثه من المبادئ المحافظة القوية، تضعه على نقيض التيارات الليبرالية، وإن تحالف معها لفترة لاستيعاب خطرها من جهة ولتحقيق أغراضه السياسية من جهة أخرى. وظل بسمارك مؤمناً بأن مستقبل الدولة الألمانية سيتشكل في ظل نظام عسكري صارم، ورفض أن يكون للبرلمان أية سلطة حقيقية على الجيش أو أن يشارك البرلمان في وضع سياسة الدولة. وخاضت بروسيا تحت قيادته عدة حروب أثبتت من خلالها إمكان تحقيق نتائج إيجابية من خلال تطبيق العلوم والأساليب البروسية في فن الحرب، كما أنذرت هذه الحرب بظهور عصر تتقرر فيه أحداث التاريخ العظمى بالقدرة النسبية للدول على استخدام مواردها الفنية والعلمية، فيكون تسيير دفة الحرب شبيهاً أكثر فأكثر بإدارة عمل صناعي واسع النطاق متشعب الفروع.(11/300)
أسَّس بسمارك عام 1866، بمقتضى الدستور الجديد لذلك العام، مجلس نواب سُمي «الرايخستاج» . وحقق الليبراليون الوطنيون الأغلبية في البرلمان. لكنه، ورغم معاداته لليبرالية، تَعاوَن معهم مقابل مساندتهم له ولسياسته الخارجية والداخلية، وخصوصاً سياسته ضد الكنيسة الكاثوليكية. وتزايدت مخاوف بسمارك من الكاثوليك بعد أن حصل حزب ديني كاثوليكي معاد لبسمارك على 58 مقعداً في البرلمان. وانتهج بسمارك سياسة معادية لهم فيما عرف بالكولتوركامبف Kulturkampf، أي الصراع الحضاري، حيث اشتد الصراع بين الدولة من جهة ورجال الدين الكاثوليك من جهة أخرى حول السيطرة على التعليم. وكان لهذا الصراع غرض آخر أيضاً بالنسبة لبسمارك وهو تعزيز وحدة الإمبراطورية الجديدة من خلال خلق عدو مشترك، وخصوصاً في غياب العدو الخارجي. وكان من بين الليبراليين الذين أيَّدوا بسمارك في سنواته الأولى نواب يهود أمثال إدوارد لاسكر ولودفيج بامبرجر وغيرهما. وقد كان لهذا الأخير دور مهم في السياسات المالية للحكومة الألمانية ودور مهم في تطوير البنك المركزي.(11/301)
ورغم أن بسمارك كان يُتَّهم أحياناً بمعاداة اليهود، إلا أن جميع مواقفه تجاه اليهود وعلاقاته بالشخصيات اليهودية ارتبطت باعتبارات المصالح السياسية أو الاقتصادية المتبادلة. وربطته صداقة بأحد أفراد أسرة روتشيلد، كما كانت له علاقة خاصة مع المفكر الاشتراكي الألماني فرديناند لاسال نظراً لموقفهما المشترك المعارض لليبرالية. ولكن أهم علاقات بسمارك المالية كانت مع المموِّل الألماني اليهودي جيرسون بليخرودر الذي استفاد بخبراته المالية إلى درجة أنه اتُهم عام 1875، بسبب صداقته هذه، بأنه "جعل اليهود وشركاءهم الطبقة الحاكمة في ألمانيا". وقد حصل أعضاء الجماعة اليهودية في ألمانيا على كامل حقوقهم المدنية في ظل رئاسة بسمارك للحكومة. كما أيَّد بسمارك في مؤتمر برلين (1878) القرارات الرامية لحماية حقوق أعضاء الجماعات اليهودية في دول البلقان، وتم ذلك في إطار اعتبارات العلاقات والمصالح الدولية. كان بسمارك يستاء من يهود بولندا (وهو شعور شاركه فيه يهود ألمانيا تجاه يهود شرق أوربا ذوي الثقافة اليديشية المغايرة) . إلا أن موقفه هذا نبع من استيائه من كل ما هو بولندي. وكان بسمارك مؤمناً بأن الطموحات القومية البولندية تشكل التهديد الأكبر لوجود بروسيا ووحدة ألمانيا، ولكن ابتداءً من عام 1878 فَقَد بسمارك تأييد الليبراليين له ومن بينهم أعضاء الجماعة اليهودية بعد أن بدأ في انتهاج سياسة محافظة، وخصوصاً في مجال التجارة الخارجية، حيث أقر عام 1879 مبدأ الحماية الجمركية على السلع الزراعية والصناعية. وكان تدهور أسعار السلع الزراعية يهدد مكانة الطبقة الأرستقراطية الريفية التي ينتمي إليها بسمارك والتي كان يريد الحفاظ على سيادتها، كما كان يريد الحفاظ على العمال الزراعيين الذين كانوا يشكِّلون المصدر الأساسي لخيرة جنود الجيش الألماني، وذلك بالإضافة إلى أن الصناعة في ألمانيا كانت قد تطوَّرت إلى حدٍّ كبير، وبالتالي، ارتفعت(11/302)
الأصوات المطالبة بالحماية. واستغل بسمارك محاولة اغتيال وليام الأول عام 1878 لشن سياسة قمعية ضد الاشتراكيين، وللقيام بمحاولة لتدمير الليبراليين الوطنيين كقوة سياسية. فوضع قانوناً صارماً معادياً للاشتراكيين يضعهم تحت رحمة الشرطة، كما بدأ في التعاون مع الحزب الديني الكاثوليكي وفي رفع الإجراءات السابقة التي اتُخذت ضد الكاثوليك، وخصوصاً أن قاعدة هذا الحزب من الفلاحين الألمان كانت معادية لليبرالية ومعادية للتجارة الحرة. وتحول الاشتراكيون في ظل التوجه الجديد إلى العدو المشترك الذي وُجِّه إليه السخط الشعبي. ولم يعتمد بسمارك على القمع فقط لضرب الحزب الديموقراطي الاشتراكي، بل كان أول رجل دولة أوربي يطور نظاماً شاملاً للتأمين الاجتماعي، وبالتالي حرم الحزب الذي كان ينمو نمواً مطرداً من مقدرته على إثارة الفقراء وإذكاء سخط المحرومين. وبالإضافة إلى ذلك، كان بسمارك يعي أنه إذا أراد الإبقاء على بنَى نظمه ومؤسساته سلمياً، فإن عليه تخفيف معاناة الطبقات العاملة، وقد كان ذلك يتفق مع رؤيته الأبوية لدور الدولة.
صاحب توسع ألمانيا الصناعي والتجاري تَزايُد المطامع الاستعمارية، وتكوَّنت عام 1883 الشعبة الاستعمارية في الرايخستاج، ونجح بسمارك خلال عام واحد فقط في الحصول لألمانيا على مستعمرات في مناطق عديدة من أفريقيا. ولكن، مع دخول ألمانيا حلبة الاستعمار، تضاعفت فرص الاحتكاك بينها وبين إنجلترا التي كانت تمتلك العديد من المستعمرات في أنحاء العالم. وقد استغل بسمارك هذه الخلافات مع إنجلترا كقضية محورية لانتخابات عام 1884. وفي هذه الفترة، بدأت تُطرَح حلول للمسألة اليهودية داخل التشكيل الاستعماري، ومن ثم بدأ الحديث عن فلسطين باعتبارها مجالاً حيوياً لأوربا يمكن إلقاء اليهود فيه.(11/303)
أقام بسمارك عام 1872 التحالف الإمبراطوري الثلاثي مع روسيا والإمبراطورية النمساوية المجرية. وفي عام 1879، أبرم معاهدة سرية مع النمسا، وانضمت إليها إيطاليا عام 1882، ثم أبرم معاهدة سرية أخرى مع روسيا عام 1887. وكانت هذه التحالفات تهدف إلى منع اندلاع حرب بين روسيا والإمبراطورية النمساوية المجرية حول دول البلقان قد تتورط فيها ألمانيا، كما كانت موجهة أيضاً إلى فرنسا التي اعتبرها بسمارك عدو ألمانيا الأخطر، نظراً لرغبتها في الانتقام لهزيمتها أمام ألمانيا. وانتهج بسمارك سياسة تهدف إلى عزل فرنسا في أوربا، واستغل المطامع الاستعمارية الأوربية كأداة لدبلوماسيته المعادية لفرنسا، فشجع فرنسا على استعمار تونس لتحتك بإيطاليا، وشجع إنجلترا على استعمار مصر كي تدخل في صراع مع فرنسا. ورغم أنه كان ملكياً في ألمانيا، إلا أنه شجع النظام الجمهوري في فرنسا حيث كان يراه أضعف جميع أشكال الحكم وأسوأها، وأنه سيخلق فجوة عقائدية بين فرنسا من جهة وبين الإمبراطوريتين الروسية والنمساوية المجرية من جهة، الأمر الذي يُضعف احتمالات تحالفهما معها ضد ألمانيا.(11/304)
وقد أقيل بسمارك من منصبه عام 1890 بعد أن جاء الإمبراطور الشاب وليام الثاني الذي قال:"ليس هناك غير سيد واحد في هذه المملكة هو أنا". ولا شك في أن بسمارك كان شخصية فذة، رسَّخ، خلال ثمان وعشرين سنة من إدارته الدولة بنجاح، قواعد مهمة في السياسة والعلاقات الدولية شكلت ميراث الدول الأوربية والغربية بصفة عامة. فقد أشعل الحروب ودبر المؤامرات وأقام التحالفات وأبرم المعاهدات وآمن بالقوة باعتبارها أساساً في العلاقات الدولية وآمن بسياسة الخداع والمناورة بعيداً عن اعتبارات الحق والأخلاق، إلا أنه آمن في الوقت نفسه بفن الممكن فلم يسع إلى السيطرة على أوربا ولكن إلى تحقيق التوازن بين القوى الكبرى واللعب على التناقضات فيما بينها بمهارة فائقة بما يحقق في نهاية الأمر مصالح الإمبراطورية الألمانية.
الباب السابع: النمسا وهولندا وإيطاليا
النمسا
Austria
يعود استقرار أعضاء الجماعات اليهودية في النمسا إلى أيام الغزو الروماني. ومع العصور الوسطى، أصبح تاريخ يهود النمسا هو تاريخ يهود فيينا. وتحدَّد ووضع اليهود بوصفهم أقنان بلاط وجماعة وظيفية وسيطة في تلك الآونة شأنهم في هذا شأن كل الجماعات اليهودية في أوربا. وقد أصدر الدوق فريدريك الثاني (عام 1244) ميثاقاً يمنح اليهود مزايا ويحدد حقوقهم كيهود بلاط، وأصبح هذا الميثاق نموذجاً للمواثيق المماثلة في المجر وبوهيميا وسيليزيا وبولندا.
ومع صدور الفرمان الذهبي عام 1356، وُضع اليهود تحت حماية الحكام الإمبراطوريين المنتخبين «إليكتورز Electors» ، فأصبح لهم حق فرض الضرائب على أعضاء الجماعات اليهودية وحمايتهم أو طردهم دون تَدخُّل الإمبراطور. وطُرد اليهود جميعاً من النمسا عام 1421، ولكنهم مع هذا لم يختفوا تماماً.(11/305)
سمح فريدريك الثالث (1440 ـ 1493) لليهود بالعودة، ولذا سُمِّي «ملك اليهود» .ولكن ماكسيميليان الأول (1493 ـ 1519) أصدر أمراً بطردهم، وخصوصاً أن بعض المقاطعات وعدت بتعويض الإمبراطور عما سيحيق به من خسائر مالية نتيجة لذلك، وظل هذا هو النمط العام السائد: يُطرَد أعضاء الجماعات اليهودية من بعض المقاطعات فيدخلون غيرها، ثم يُسمَح لهم بالعودة، وهكذا.
وفي القرن السابع عشر، ظهر يهود البلاط ومن أهمهم سامسون فرتايمر وصموئيل أوبنهايمر. وظل وضع الجماعة اليهودية كجماعة وظيفية وسيطة قائماً ولكن قلقاً، وقد وصفتهم الإمبراطورة ماريا تريزا بأنهم «وباء» وبأنهم «مرابون غشاشون» ، وفرضت عليهم ضرائب ثقيلة. كما أصدرت عام 1744 أمراً بطردهم من بوهيميا حينما انتشرت شائعة بأنهم خانوا النمسا أثناء حربها مع فريدريك الأكبر إمبراطور بروسيا. ولكن السلطات المحلية وجدت أن لليهود نفعاً كبيراً، فتوسطت لإلغاء قرار الطرد، وتم ذلك فعلاً عام 1748.
وفي عام 1760، أصدرت ماريا تريزا مرسوماً بأن يرتدي اليهود غير الملتحين شارة اليهود ولكنها منعت تعميد الأطفال بالقوة. ويبدو أن محاولة إصلاح اليهود بدأت في عهدها، فأصدرت أمراً بتيسير عملهم كصباغين وجواهرجية وبائعي ملابس يصنعونها بأنفسهم، وإن كان من الواضح أن هذه هي بعض الحرف التي عملوا فيها نظراً لارتباطها بالوظائف التي تضطلع بها الجماعة الوظيفية الوسيطة.(11/306)
وبدأت المحاولات الجادة لدمج اليهود والقضاء على عزلتهم وخصوصيتهم في عهد جوزيف الثاني الذي أصدر عام 1782 براءة التسامح، وهي من أهم الوثائق في تواريخ الجماعات اليهودية في الغرب والتي تهدف إلى تحويل اليهود إلى عنصر نافع للدولة. وقد مُنح اليهود بالفعل حقوقهم الكاملة عام 1867، فأُتيحت لهم فرص التعليم والحراك الاجتماعي. ثم تصاعد دمج اليهود في المجتمع النمساوي وفي كل أرجاء الإمبراطورية النمساوية المجرية، فاشترك كبار المموِّلين اليهود ومن بينهم أسرة روتشيلد في عملية التصنيع، وانتُخب أعضاء يهود في المجالس النيابية، وأُعيد تنظيم الجماعة اليهودية بحيث أصبح لكل منطقة جماعة يهودية واحدة بغض النظر عن الخلافات الدينية بين أعضائها.
ووصلت أعداد كبيرة من يهود اليديشية من المجر وجاليشيا وبكوفينا إلى النمسا، واستوطنوا فيينا التي تزايد عدد سكانها من اليهود لهذا السبب. وقد كان عدد يهود فيينا عام 1846 نحو 3.739، زاد إلى 9.731 عام 1850 وإلى 15.000 عام 1854. وفي عام 1923، كان عددهم 201.513. وساعد هذا الوضع على ظهور الصهيونية التوطينية. وكانت فيينا المدينة التي يعمل فيها هرتزل مؤسِّس الصهيونية، والتي قضى فيها معظم حياته. كما أدَّى تزايد اليهود إلى تزايد معدلات معاداة اليهود، فظهرت أحزاب معادية لليهودية مثل الحزب الاجتماعي المسيحي الذي كان زعيمه كارل ليوجر. ولكن الحكومة اتخذت موقفاً معادياً لهذه الأحزاب.(11/307)
وبعد الحرب العالمية الأولى، كان عدد اليهود 300 ألف منهم 201.011 في فيينا. وكان أعضاء الجماعة اليهودية يشكلون الأغلبية في عدة قطاعات استهلاكية، فكانت نسبتهم تتراوح بين 100% و65% من مالكي المصارف والمطاعم وتجارة الخمور والأحذية والفراء والمنسوجات والأخشاب وصناعة الأثاث والصحف وشركات الإعلانات ومحطات الإذاعة وقطاع السينما وصالونات التجميل. وتركزوا كذلك في تجارة البترول والزيوت والقبعات. وكانت النسبة تصل أحياناً إلى 94% (المطاعم) بل إلى 100% (تجارة الخردة) . وتركزوا كذلك في مهن بعينها دون غيرها، فكانوا يشكِّلون 70% من جملة العلماء و51% من جراحي الأسنان والأطباء و23% من أساتذة الجامعة (منهم 45% في كليات الطب) و62% من جملة المحامين و55% من جملة الصاغة.
كان هذا هو الوضع الاقتصادي الذي تَحدَّث عنه هرتزل حينما وصف اليهود بأنهم طبقة وسطى ومثقفون، وهو ما يبين جهله الشديد بوضع يهود شرق أوربا أي يهود اليديشية. وقد بيَّن إحصاء عام 1923 أن عدد اليهود في النمسا هو 220.208، أما إحصاء عام 1934 فيبين أن عددهم هو 191.481، أي 2.8% من جملة السكان، أي أن عدد اليهود نقص 28.727 في نحو عشرة أعوام. ولعل هذا كان بسبب تناقص نسبة المواليد. وكان عدد المواليد في فيينا 2.733 نسمة عام 1923، هبط إلى 1.362 عام 1928 ثم إلى 900 عام 1933 وإلى 757 عام 1936. وفي الوقت نفسه، زاد معدل الوفيات، ففي عام 1923 كان عدد الوفيات 2.571 في فيينا، زاد إلى 2.669 عام 1928 وإلى 2.689 عام 1933 وإلى 2.751 عام 1936، أي أن عدد الوفيات زاد عن عدد المواليد بنحو ألفي نسمة عام 1936. وهذه الأرقام قد تفيد في تحديد عدد ضحايا الإبادة الحقيقي.(11/308)
وبعد الحرب العالمية الثانية، بلغ عدد يهود النمسا نحو 12 ألفاً. ويبلغ عددهم في الوقت الحاضر 3000 من مجموع السكان البالغ عددهم 7.805.000، وهم مندمجون تماماً في مجتمعهم. ومن أهم يهود النمسا المستشار كرايسكي، وهو يهودي معاد للصهيونية. ويقوم كثير من يهود الاتحاد السوفيتي بالتوقف في النمسا وتغيير مسارهم، فيتجهون إلى الولايات المتحدة بدلاً من إسرائيل.
وتضم النمسا تنظيمات ومؤسسات ينتظم فيها أعضاء الجماعة اليهودية من أهمها: اتحاد الجماعات اليهودية في النمسا. وهي المنظمة المركزية التي تمثل الجماعات اليهودية المختلفة في النمسا، والجهة التي تمثلهم لدى المؤتمر اليهودي العالمي. كما تُوجَد منظمات صهيونية مختلفة.
وتضم فيينا المعبد اليهودي الأساسي، كما توجد حجرات مخصصة للعبادة للجماعة السفاردية والجماعات الأرثوذكسية. كما توجد معابد أخرى في مدن بادن ولنز وسالزبورج. ويترأس الجماعة اليهودية من الناحية الدينية كبير الحاخامات، إلا أنه لا يحظى باعتراف الجماعة الأرثوذكسية.
هولندا
Holland(11/309)
كانت هولندا في العصور الوسطى في الغرب جزءاً من الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة. ولذا، كان وضع أعضاء الجماعة اليهودية فيها يشبه وضعهم في مختلف أرجاء أوربا، أي أقنان بلاط وجماعة وظيفية وسيطة. ويبدأ التاريخ الحقيقي للجماعة اليهودية بوصول يهود المارانو (السفارد) مع نهاية القرن السادس عشر الميلادي. وقد استقرت أغلبية المارانو في أمستردام، ولم يتم الاعتراف بهم كمواطنين هولنديين في بادئ الأمر. إلا أنهم، بعد قليل، أُعطوا حقوقهم كافة وتمتعوا بدعم هولندا خارج حدودها. بل إن السلطات الهولندية كانت تفضل اليهود على الكاثوليك، ولذا سُمِّيت أمستردام «القدس الثانية» . ولحق بالسفارد أعداد من الإشكناز ابتداءً من عام 1620 إلى أن فاقوهم عدداً وإن ظلوا في الوضع الأدنى طبقياً واجتماعياً وفكرياً. وأصبحت الجماعة اليهودية في أمستردام أكبر جماعة يهودية في غرب أوربا، بلغ عددها عشرة آلاف، وكان ثقلها الاقتصادي يفوق ثقلها العددي. وكان يهود المارانو، رغم طردهم من شبه جزيرة أيبريا، تربطهم علاقة قوية بوطنهم الأم، وكانوا يجيدون الإسبانية والبرتغالية وبعض اللغات الأوربية الأخرى. ولذا، كانوا يتاجرون مع إسبانيا والبرتغال ويمثلونهما في كثير من أنحاء أوربا، ويشكلون حلقة اتصال مهمة بين شقي أوربا البروتستانتي والكاثوليكي، بل كانت شبكة التجارة اليهودية تمتد لتشمل الدولة العثمانية وموانئ البحر الأبيض المتوسط التي كان فيها عنصر سفاردي ماراني قوي. كما كان يوجد يهود سفارد في العالم الجديد، في البرازيل وسورينام وغيرهما، وكذلك في جزر الهند الغربية وفي أجزاء من أفريقيا، وهو ما وسع نطاق الشبكة. كما ازدادت الحلقة اتساعاًً من خلال يهود الأرندا في بولندا ويهود البلاط في وسط أوربا. لكل هذا، لعب أعضاء الجماعة اليهودية دوراً اقتصادياً مهماً تميل بعض الدراسات إلى المبالغة في أهميته. وكان من بين اليهود من يعمل بالربا وتجارة الجملة(11/310)
والتجارة الدولية، وكذلك تجارة الماس والتبغ والحرير والرقيق. وقد أصبحت أمستردام مركزاً للتجارة بسبب عدة عناصر من بينها وجود عدد كبير من اليهود السفارد فيها. كما كانوا يشتغلون بالشئون المالية في شركات تأمين ومصارف، وكسماسرة ويهود بلاط (وحينما ذهب وليام الثالث ليعتلي عرش إنجلترا، اقترض نحو مليوني جلدر من أحد يهود البلاط السفارد) . وكان بينهم طابعو كتب وأصحاب معامل تكرير سكر. كما كان منهم الأطباء والصيادلة. وبلغ نفوذ أعضاء الجماعة المالي من قوته حد أن سوق الأسهم كانت تغلق يوم السبت. ولذا، أصبحت المضاربة في الأسهم من أهم نشاطاتهم، حتى أن أحد اليهود وصف النبي أيوب بأنه أول من تاجر بالأسهم، فالأسهم تصعد أسعارها وتهبط دائماً دون سبب واضح، ولذا كان عليه التحلي بالصبر والإذعان لقوانين لا يفهمها (وهذا يشبه إلى حدٍّ كبير حديث إسبينوزا، ابن مدينة أمستردام، عن الضرورة ووهم الحرية، وعن تحقيق الحرية من خلال الإذعان لقوانين الطبيعة الصارمة) .
ولكن الإحصاءات تبيِّن أن قوتهم كانت محدودة فهم لم يمتلكوا سوى 2% من مجموع الثروات التي كان يمتلكها أثرياء هولندا آنذاك. ومن أشهر يهود السفارد منَسَّى بن إسرائيل وديفيد دي بنتو أكبر المساهمين في شركة الهند الشرقية الهولندية والذي اشتهر بكتاباته عن الاقتصاد والمال التي سماها سومبارت "نشيد الأنشاد الخاص بنظام الدين العام والملكية". وقد أسس سومبارت نظريته عن علاقة اليهود بنشأة الرأسمالية، بدراسته لدور يهود السفارد (المارانو) في أوربا على وجه العموم وهولندا على وجه التحديد.(11/311)
وكان للإشكناز دور اقتصادي أيضاً، ولكنه مختلف بعض الشيء. فلم تكن لهم علاقات دولية مثل السفارد، ولم تكن لديهم الخبرات أو رءوس الأموال المطلوبة، فكانوا تجار عملة ووسطاء. ونشطوا في صناعة الحرير وتجارة التبغ والماس وتجارة القطاعي إذ كانوا يشترون بضائع شركة الهند الشرقية وأصبحوا من أهم مستوردي الماس، وكان من بينهم طابعو وموزعو الكتب. وتزايدت ثروة الإشكناز واتسع نطاق تجارتهم في العملة والسلع. ولكن السفارد ظلوا، مع هذا، يتمتعون بالثروات الكبيرة والمستوى الثقافي الرفيع والمكانة الاجتماعية. وكان يهود هولندا من أكثر اليهود حداثة في العالم، فكان هناك تَزايُد في الزواج المُختلَط بالهولنديات. ويُلاحَظ أن رؤساء الجماعة اليهودية كانوا يرتدون أزياء الهولنديين نفسها بل ويسمحون لهم برسمهم. وحينما سمح إسبينوزا لرمبرانت بأن يرسمه، لم يكن إسبينوزا يقوم بفعل غير عادي من منظور الجماعة اليهودية. ومن الواضح أن يهود أمستردام كانوا قد استوعبوا التراث الحضاري الهولندي في عصرهم وتمثلوه واستوعبوه واستوعبهم، وهي ظاهرة عامة بين أعضاء الجماعات اليهودية في كثير من الحقب التاريخية. وكان يهود هولندا يتحدثون الهولندية إلى جانب لغات أخرى (الإسبانية والبرتغالية بالنسبة للسفارد، واليديشية بالنسبة للإشكناز) . وقام اليهود السفارد بنقل الأعمال الأدبية والفكرية الغربية إلى اللغات واللهجات التي يتحدثون بها. كما شكلوا نخبة تجارية مالية دولية تحتفظ بمسافة بينها وبين الإشكناز (من شرق أوربا) . وكان الإشكناز والسفارد لا يتزاوجون فيما بينهم. ولم يكن بمقدور الإشكناز الحصول على مقاعد دائمة في المعبد السفاردي، بل كان معظمهم يعملون خدماً وكانت تُوجَد بطبيعة الحال نسبة من الفقراء السفارد.(11/312)
ويُلاحَظ كذلك أن اليهودية، كنسق ديني وكمؤسسة، كانت في حالة تَراجُع وتآكُل، فالقبَّالاه اللوريانية كانت قد سيطرت على معظم يهود أوربا، وهي صيغة حلولية مادية استوعبها يهود هولندا، وخصوصاً السفارد (ومن بينهم إسبينوزا) ، فأثرت في رؤيتهم للعالم بشكل عميق. ولكن مع تدهور وضع هولندا الاقتصادي (بظهور القوة الإنجليزية) ، تدهور وضعهم أيضاً. وازداد التدهور مع الأزمة الاقتصادية في الفترة 1772 ـ 1773. وتسبَّبت الحرب مع إنجلترا في دمار شركة الهند الشرقية الهولندية التي كان كثير من اليهود يمتلكون أسهماً فيها. وتزايد الانهيار مع حرب الثلاثين عاماً. وفي نهاية الأمر، أدَّى وصول قوات فرنسا الثورية إلى قطع علاقة يهود هولندا مع الشبكة التجارية اليهودية، وهو ما أدَّى إلى دمارهم تماماً. وعلى كلٍّ، كانت التجارة الدولية في أوربا قد بدأت تأخذ شكلاً ضخماً ومركباً تجاوز قدرات الشبكة اليهودية التي لم يكن بمقدورها أن تستوعب حركة البضائع على هذا النطاق الضخم.(11/313)
وكان يرأس الجماعة اليهودية السفاردية مجلس الماهاماد الذي سيطر على اليهود بيد من حديد، حيث كانت له صلاحيات مثل تلك التي كانت تتمتع بها محاكم التفتيش بل كان يسلك سلوكها، وربما تكون خلفية السفارد الإسبانية قد لعبت دوراً في ذلك. ويُلاحَظ انتشار القبَّالاه اللوريانية في هولندا. ولذا، حينما ظهر الماشيَّح الدجال (شبتاي تسفي) تبعته أعداد كبيرة من السفارد، وأدَّى فشل حركته إلى خيبة الأمل وإلى المزيد من التفسخ. ويمكن القول بأن انتشار الفكر القبَّالي الحلولي وثراء يهود أمستردام هو الخلفية الاجتماعية والفكرية لفلسفة إسبينوزا، وهو أول مفكر غربي في العصر الحديث من أصل يهودي ترك اليهودية ولم يتبن ديناً آخر. وبذا، فإنه يعد أول يهودي علماني بل أول فيلسوف علماني. وحينما وصلت جيوش فرنسا الثورية عام 1796 وأسَّست الجمهورية الباتفية، لم يتغير وضع أعضاء الجماعة اليهودية الذين كانوا يتمتعون بكل حقوقهم.(11/314)
وفي أوائل القرن التاسع عشر، لم يكن الوضع الاقتصادي في هولندا مستقراً، فتدهور حال أعضاء الجماعة. ومما يدل على هذا التدهور أن كثيراً من اليهود السفارد (في أمستردام) صُنِّفوا باعتبارهم فقراء. ويمكن افتراض أن الصورة العامة في بقية هولندا لم تكن مختلفة كثيراً إن لم تكن أسوأ. وكان عدد اليهود في هولندا عام 1780 ثلاثين ألفاً، منهم ثلاثة آلاف سفاردي، زاد إلى ثلاثة وخمسين ألفاً عام 1810، وكانت الزيادة كلها إشكنازية. ومع عام 1889، وصل عدد يهود هولندا إلى ثلاثة وثمانين ألفاً، منهم 5.070 من السفارد. وبلغ عددهم 106.409عام 1909، منهم 6624 من السفارد. وبلغ عددهم 139.687 عام 1941. أما في عام 1946، أي بعد الحرب، فبلغ عدد اليهود ثلاثين ألفاً من بينهم ثمانية آلاف ممن تزوجوا زيجات مُختلَطة. وانخفض عددهم إلى 26.623 عام 1954، أي خلال ثمانية أعوام. كان يعيش منهم 14.068، أي أكثر من نصفهم، في أمستردام. ويُعزَى النقص إلى العزوف عن الإنجاب وإلى انخفاض عدد المواليد وارتفاع نسبة الوفيات. كما يُعزَى هذا النقص إلى الهجرة، إذ هاجر خلال هذه الفترة 4492 يهودياً من هولندا (لم يهاجر منهم سوى 1399 إلى إسرائيل) . وأدَّت التعويضات الألمانية إلى تغيير البناء الطبقي ليهود هولندا تماماً، إذ تحوَّل أعضاء الطبقة العاملة منهم إلى أثرياء، وهذا ما أدَّى إلى تزايد معدل الاندماج والعلمنة.
وبلغ عدد اليهود عام 1968 اثنين وعشرين ألف يهودي، أغلبيتهم في أمستردام. أما في عام 1992، فبلغ عددهم نحو خمسة وعشرين ألفاً من مجموع السكان البالغ 15.270.000 نسمة. وهم يُعتبَرون، بهذا، أقلية صغيرة لا وزن لها ولا نفوذ وفي طريقها إلى الاختفاء.
وتوجد في هولندا بعض التنظيمات والمؤسسات التي ينتظم فيها أعضاء الجماعة اليهودية من أهمها:
ـ الجماعة اليهودية الإشكنازية.
ـ الجماعة اليهودية السفاردية.
ـ اتحاد الجماعات اليهودية التقدمية.(11/315)
ـ منظمة العمل الاجتماعي اليهودي التي تعمل في المجالات الصحية والخدمة الاجتماعية.
وتتبع كل من الجماعتين (الإشكنازية والسفاردية) الحاخامية الكبرى. وأغلب المعابد اليهودية موجودة في أمستردام، منها معابد أرثوذكسية إشكنازية ومعبد سفاردي ومعبد ليبرالي إصلاحي.
إيطاليا
Italy
يعود تاريخ أعضاء الجماعة اليهودية في إيطاليا إلى الفترة الرومانية القديمة. إذ كانت تُوجَد فيها جماعة يهودية منذ القرن الثاني قبل الميلاد، قبل أن يقوم تيتوس بهدم الهيكل عام 70 ميلادية. وكان أعضاء هذه الجماعة يتحدثون اليونانية، ولكنهم اصطبغوا مع بداية العصور الوسطى بالصبغة اللاتينية. ويرد ذكر اليهود في الأدب اللاتيني وفي بعض كتابات المؤرخين الرومان. ولم تتأثر الجماعة اليهودية في روما كثيراً بما حدث في فلسطين ولكنها تأثرت حين قامت الإمبراطورية الرومانية بتبني المسيحية ديناً في القرن الرابع الميلادي، فتحولت إلى جماعة وظيفية وسيطة، وعُرِّف وضع أعضائها بأنهم " أقنان بلاط تحت الحماية الملكية " أو تحت حماية الأفراد، واضطلعوا بوظيفة التجار والمرابين في كثير من المدن الإيطالية مثل نابولي. وتدهور وضعهم في القرن العاشر الميلادي بظهور المدن/الدول البحرية الإيطالية (مثل البندقية وجنوة) ، وبيوت المال المسيحية القوية (مثل اللومبارد والكوهارسين) التي كانت تتمتع بدعم السلطات الحاكمة.(11/316)
ومع هذا، كانت للجماعة اليهودية في إيطاليا خصائص فريدة تميزها عن بقية الجماعات اليهودية في الغرب. فهناك، أولاً، الوجود المستمر وغير المنقطع لليهود في داخل إيطاليا، كما استوعب أعضاؤها اللغة الإيطالية والحضارة السائدة. ولم يُطرَد يهود إيطاليا كما حدث ليهود إنجلترا أو فرنسا إذ كانوا حينما يُطرَدون من مدينة إيطالية يجدون مدناً أخرى ترحب بهم. ومع هذا كانوا يُطرَدون من المناطق الإيطالية الخاضعة لحكم الأجانب (الفرنسيين والأسبان) ، كما حدث ليهود صقلية التي خضعت لحكم الأسبان. ولم تتسم الحياة اليومية لأعضاء الجماعة بالاضطهاد أو التمييز الذي كان يسم الحياة في العصور الوسطى، بل كانت العلاقة مع السكان طيبة على وجه العموم. ومن الطريف أن إيطاليا هي مركز البابوية، ومع هذا لم تنجح السلطة البابوية في تنفيذ سياستها تجاه اليهود. بل إن محاكم التفتيش التي تأسست في روما لم يكن تعقبها لليهود داخل إيطاليا محموماً كما كان الحال أحياناً خارجها. ولذا، اندمج أعضاء الجماعة اليهودية في محيطهم الحضاري الكاثوليكي، وأصبحت لغة العبادة في المعبد هي الإيطالية المطعمة بكلمات عبرية منذ عام 1200. ومن ثم يُعتبَر أعضاء الجماعة اليهودية في إيطاليا جماعة مستقلة بذاتها ولا تُصنَّف ضمن الكتل اليهودية الثلاث الأساسية: الإشكناز، والسفارد، ويهود العالم الإسلامي وضمن ذلك اليهود المستعربة، وإنما يُنظَر إليها باعتبارها كتلة مستقلة.(11/317)
اجتذبت إيطاليا كثيراً من أعضاء الكتل الكبرى، فهاجر إليها الإشكناز، حيث وصلت حركة الهجرة إلى الذروة عام 1400، واستقروا في شمالها. وهاجر إليها السفارد بعد عام 1391، ووصلت حركة الهجرة ذروتها عام 1492. كما استقر بعض اليهود المستعربة في صقلية. ولم يندمج هؤلاء على الفور بل احتفظ كل بخصائصه. وقد كانوا يكرهون بعضهم بعضاً كراهية المسيحيين لليهود والأتراك (أي المسلمين) على حد قول ليو دي مودينا، ولذا كان يُشار إلى اليهود بأنهم «تراي ناسيوني» أي الأمم الثلاث. وبلغت العداوة درجة أن اليهود الأصليين كانوا أحياناً يستعْدون السلطات على المهاجرين الجدد ويطلبون طردهم (وهذا نمط تكرَّر في كل الجماعات اليهودية، وآخر تعبير عنه هو الحركة الصهيونية التي أسسها يهود الغرب المندمجون لترحيل يهود اليديشية بعيداً عنهم) . ولكن، بعد عصر النهضة، اندمجت الجماعات اليهودية كافة في جماعة واحدة واصطبغوا بالصبغة الإيطالية.
ظهر بين يهود إيطاليا أدباء يكتبون بالإيطالية والعبرية متأثرين تماماً بمحيطهم الحضاري، من بينهم عمانوئيل هارومي أي «الرومي» (1270 ـ 1330) والذي كان يُعرَف أيضاً باسم عمانوئيل داجوبيو الذي كتب أشعاراً بالإيطالية وتعليقات على التوراة. وبعد عصر النهضة، ظهر عدد من الكُتَّاب من بينهم يهودا ابرابانيل المعروف باسم ليو هبرايوس أو ليو العبراني، وكان شاعراً وفيلسوفاً وعالماً كتب عدة كتب بالإيطالية من أهمها حوار عن الحب وهو كتاب ينتمي إلى كتب الحب (قواعده وطرقه) التي انتشرت إبان عصر النهضة في أوربا. وقد أحرز كتاب ليو العبراني شعبية غير عادية، فتُرجم إلى عدة لغات.(11/318)
ويتجلى اندماج يهود إيطاليا الكامل في محيطهم الحضاري في انصرافهم عن العقيدة اليهودية وفي تعديلها وإصلاحها بما يتفق مع معايير الحضارة المحيطة بهم. فنجد أن معمار المعبد اليهودي في روما كان يشبه معمار الكنائس، وكان يزينه تمثال نصفي لموسى وصور للملائكة والحيوانات والأشخاص. وكانت المواعظ تُعطَى بالإيطالية تقليداً للمواعظ المسيحية ومتأثرة بها أكثر من تأثرها بالتلمود. كما كان الحاخامات يشيرون في مواعظهم إلى المؤلفين الكلاسيكيين الوثنيين مثل أرسطو وشيشرون. وتُرجم كتاب الصلوات إلى الإيطالية. بل كانت بعض المعابد تغني القصائد الدينية اليهودية فيها على ألحان إيطالية. وتحوَّل عيد النصيب إلى الكرنفال الإيطالي، فكان اليهود يلبسون الأقنعة ويتمتعون بالحريات المتطرفة التي كان يتمتع بها الإيطاليون في مثل هذه المناسبات، كما كانوا يعرضون مسرحيات على النمط الإيطالي داخل الجيتو. وانتشرت الحرية الجنسية بينهم، وزاد عدد الأطفال غير الشرعيين والزيجات المُختلَطة. وأصبح كثير من نساء اليهود إما عشيقات لأعضاء النخبة الحاكمة المسيحية أو عاهرات. وحتى نبيِّن مدى انتشار الإباحية بين أعضاء الجماعة، يمكن أن نشير إلى فلورنسا التي كان عدد أعضاء الجماعة فيها لا يزيد على مائة أسرة. ومع هذا كان عدد القضايا التي رُفعت ضدهم ثمان وثمانون قضية من بينها أربع وثلاثون قضية لها علاقة بالسلوك الأخلاقي والآداب، وسبع عشرة قضية لها صلة بالمقامرة. ولابد أن هذه الإحصاءات لا تبين الصورة الحقيقية، إذ تُوجَد ولا شك حالات لم يتم الإبلاغ عنها. ويمكن القول بأن المجتمع اليهودي الصغير في إيطاليا كان انعكاساً كاملاً للمجتمع الكبير، كما أن الأنماط الاجتماعية والأخلاقية السائدة بين الجماعة اليهودية لم تختلف كثيراً عن تلك السائدة في المجتمع.(11/319)
ومع عام 1545، وبداية الإصلاح المضاد الذي قامت به الكنيسة الكاثوليكية، فُرض على اليهود في روما ملازمة الجيتو (بعد أن كان الجيتو ميزة يتمتعون بها) . ويُطلَق على هذه الفترة «فترة الجيتو» . ولكن، مع هذا، استمر المؤلفون اليهود في وضع مؤلفاتهم الدينية والدنيوية بالعبرية والإيطالية. ومن أهم المؤلفين اليهود ليو دي مودينا وسيمون لوتساتو الذي يَعُده بعض المؤرخين مؤسس الأدب المكتوب بالعبرية. ولكن يُلاحَظ أن هذه المؤلفات ليست لها أهمية كبيرة من منظور غربي أو إنساني عام.
ومما تقدَّم، يمكن القول بأن أعضاء الجماعة اليهودية في إيطاليا كانوا جزءاً من محيطهم الحضاري، ومن ثم كان موقفهم من اليهودية الحاخامية موقفاً نقدياً، موقف من ينظر إليها من الخارج. كما لم تكن مُثُل التنوير والإصلاح غريبة عليهم. ولذا، فحينما ظهرت حركة التنوير في ألمانيا، لم تترك أثراً عميقاً فيهم لأنها لم تكن تمثل شيئاً جديداً.
انتهت هذه الفترة بإعتاق أعضاء الجماعة أثناء حروب الثورة الفرنسية ابتداءً من عام 1796. وأُلغيت حقوق اليهود مع سقوط نابليون، ولكنها تأكدت مرة أخرى مع تأسيس إيطاليا الموحَّدة (1840 ـ 1870) . وظهرت حركة تنوير يهودية في إيطاليا، من أقطابها حاييم لوتساتو. ومع تَزايُد إعتاق اليهود، تزايدت معدلات اندماجهم في المجتمع. ولم يتأثر هذا الوضع كثيراً بوصول موسوليني والفاشيين إلى السلطة إذ أن موسوليني كان متعاطفاً مع المشروع الصهيوني، وكان يتصور أن بوسعه تحويل اليهود إلى عنصر ممالئ له يوظفه في خدمة مشروعه الاستعماري بل في خدمة الفاشية.(11/320)
وبلغ عدد يهود إيطاليا واحداً وعشرين ألفاً عام 1600، و31.400 عام 1800، وبلغ سبعة وثلاثين ألفاً عام 1840، زاد إلى 42.963 عام 1901، وبلغ عام 1931 ستة وأربعين ألفاً. ولكن عددهم أخذ في التناقص بعد ذلك، ففي الفترة (1931 ـ 1935) كان عدد اليهود يتناقص بمعدل 5.28 في الألف، كما تزايدت معدلات الاندماج والتنصر والزواج المُختلَط. ويذكر روفائيل باتاي أن عدد يهود إيطاليا انخفض إلى خمسة وثلاثين ألفاً عام 1939، ثم وصل العدد إلى 29.117 يهودياً إيطالياً. ومع هذا، انضم إليهم 26.300 مهاجر، وبذلك ارتفع العدد إلى 55.417 في الأربعينيات. وبلغ العدد عام 1956 نحو 27.705، ووصل إلى خمسة وثلاثين ألفاً عام 1967. وتناقص عدد اليهود حتى وصل إلى 31.000 عام 1992 من مجموع السكان البالغ عددهم 57.826.000 نسمة. ومعظم يهود إيطاليا مركزون في روما وميلانو، ولا يختلف بناؤهم الوظيفي والمهني عن بقية الجماعات اليهودية في أوربا. ففي عام 1931، كان 34.3% منهم تجاراً، و52.2% من عمال الياقات البيضاء، و10.8% مهنيين. ولا يزال معدل الزواج المُختلَط بينهم مرتفعاً للغاية، كما لا تزال معدلات الاندماج والعلمنة آخذة في التزايد. والجماعة اليهودية جماعة مسنة تعيش في المدن، وكل هذا يعني تَزايُد الإحجام عن الإنجاب وتَناقُص الخصوبة، الأمر الذي يؤدي إلى موت الشعب اليهودي.
والمنظمة التي تنظم أعضاء الجماعة اليهودية في إيطاليا هي اتحاد الجماعة اليهودية الإيطالية. ويترأس الجماعة اليهودية من الناحية الدينية كبير الحاخامات والمجلس الحاخامي. وأغلبية المعابد اليهودية سفاردية، إلا إنه يوجد عدد قليل من المعابد الأرثوذكسية الإشكنازية.(11/321)
الباب الثامن: بولندا قبل التقسيم (ظهور يهود اليديشية)
يهود اليديشية أو يهود شرق أوربا
Yiddish or East European Jews....
«يهود اليديشية» مصطلح نستخدمه في معظم الأحيان بدلاً من مصطلح «يهود شرق أوربا» . وهذا المصطلح الأخير هو المصطلح الشائع في الدراسات التي تتناول الجماعات اليهودية، وهو مصطلح مطاط غير محدَّد ولكنه يشير عادةً إلى الجماعات اليهودية الموجودة شرق ألمانيا، (في بولندا وروسيا) . ولذا، فهو لا يتفق بالضرورة مع الحدود السياسية المعروفة بمنطقة شرق أوربا في الوقت الحالي والتي تضم، على سبيل المثال، رومانيا وتشيكوسلوفاكيا. وأصل المصطلح ألماني، ويعبِّر عن إحساس يهود ألمانيا بأنهم ينتمون إلى الغرب، أي غرب أوربا، وأنهم يختلفون عن يهود الشرق. وقد انتشر المصطلح مع القرن التاسع عشر وبداية حركة القومية السلافية.
ونحن نفضل استخدام مصطلح «يهود اليديشية» الذي استخدمه يهود إنجلترا، من السفارد وغيرهم، للإشارة إلى المهاجرين الجدد من روسيا وبولندا. ويهود اليديشية يشكلون أغلبية يهود العالم، وتعود أصولهم إلى القرن الثاني عشر، مع حروب الفرنجة، حين بدأت تهاجر جماعات من اليهود الألمان، مع التجار الألمان، واستوطنت بولندا بدعوة من حكامها لتشجيع حركة التجارة وحملت معها لغتها وثقافتها الألمانية. وقد دخلت على لغتهم الألمانية بعض الكلمات السلافية والعبرية، ثم كتبوها بالحروف العبرية حتى أصبح يُشار إليها باللغة اليديشية، وهي في واقع الأمر لهجة ألمانية وحسب. وأصبحت هذه اللهجة، التي يُقال لها لغة، سمتهم الثقافية الأساسية التي حملوها معهم أينما ذهبوا ومن هنا كانت التسمية. ويذهب آرثر كوستلر إلى أن أصل يهود اليديشية ما يسميه هو «الدياسبورا الخزرية» ، أي تشتُّت أو انتشار يهود الخزر واستقرار أعداد منهم في شرق أوربا.(11/322)
وينقسم يهود اليديشية إلى تقسيمات فرعية مثل يهود البولاك والليتفاك والجاليسيانر، وهي كلمات يديشية تعني «البولندي والليتواني والجاليشي» . (كانت جاليشيا وليتوانيا أجزاء من بولندا) . وثمة اختلافات دقيقة بين الأنواع الثلاثة لها دلالاتها، ولكن هناك وحدة أساسية وخصوصية يستمدها أعضاء الجماعة اليهودية من وجودهم داخل التشكيل السياسي الحضاري البولندي بوصفهم جماعة وظيفية وسيطة تضطلع بوظائف المال والتجارة وبمهن وحرف معيَّنة. والجماعات الوظيفية عادةً ما تحتفظ بعزلتها وبسماتها الإثنية (التي أحضرتها معها من وطنها الأصلي، وهو ألمانيا) حتى يتسنى لها الاضطلاع بوظيفتها في المجتمع التقليدي التي وفدت إليه. وكان يهود شرق أوربا يتحدثون اليديشية في وسط يتحدث إما البولندية وإما الأوكرانية، ويرتدون أزياء مميَّزة، ويؤمنون باليهودية في وسط يؤمن بالمسيحية. وقد عاشوا في مدن صغيرة تُسمَّى «شتتل» وفرت لهم تربة يهودية يديشية معزولة نسبياً عن عالم الأغيار. ولكن عقيدتهم اليهودية نفسها، بدأت تدخلها عناصر صوفية بتأثير القبَّالاه وبتأثير المسيحية الأرثوذكسية الشعبية والهرطقات الدينية المختلفة التي وجدوها بين الفلاحين السلاف.
ومما يجدر ذكره أن المستوى المعيشي ليهود اليديشية حتى بداية القرن الثامن عشر، كان مرتفعاً قياساً إلى عامة الشعب من الفلاحين والأقنان، بل إلى أعضاء الطبقات الوسطى الهزيلة في بولندا. وكان لا يفوقهم في مستواهم المعيشي سوى النبلاء البولنديين (شلاختا) . بل إن النخبة الثرية بين اليهود كانت تعيش في مستوى اقتصادي يفوق صغار النبلاء. ولكن بعد ذلك التاريخ، ونتيجة تحولات عديدة، أخذ مستواهم الاقتصادي ينحدر.(11/323)
وتعرَّض تَماسُك يهود اليديشية لعدة هجمات وضربات من الخارج كانت أولاها هجمات شميلنكي عام 1648، التي بدأت تُخلخل وضع الجماعة اليهودية، ثم كانت الضربة الثانية تقسيم بولندا (الأول والثاني والثالث) في الفترة 1772 ـ 1795 والذي انتهى باختفاء بولندا عام 1795 بوصفها وحدة سياسية مستقلة، وبتقسيمها بين الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية النمساوية وألمانيا (بروسيا) . وكانت الأراضي التي ضمتها روسيا تضم أكبر عدد من يهود اليديشية.
وكانت البلاد الثلاثة التي اقتسمت بولندا فيما بينها بلاداً زراعية متخلفة. ومع هذا، بدأت تظهر فيها، بتشجيع من الملكيات المطلقة، اتجاهات نحو التصنيع. ورغم ضعف النظام الإقطاعي، فإن الأرستقراطية الزراعية ظلت ممسكة بزمام السلطة. وشهدت هذه الفترة حركة تحرير الأقنان في روسيا، الأمر الذي أدَّى إلى خلل في الأوضاع الاجتماعية، وخصوصاً أن الرقعة الصالحة للزراعة لم تكن واسعة، وهو ما أدَّى إلى زيادة الصراعات الاجتماعية وإلى ظهور توترات بين النبلاء والفلاحين. وقد ازداد بؤس الفلاحين وزاد تعاطيهم للخمور. ومع تركز أعضاء الجماعة اليهودية في صناعة الخمور، وجدوا أنفسهم في مركز الأزمة الاجتماعية، وأشارت أصابع الاتهام إليهم باعتبارهم مسئولين عن بؤس الفلاحين. وقد كانت حكومات البلاد الثلاثة، التي اقتسمت بولندا وسكانها اليهود فيما بينها، يحكمها حكام مطلقون مستنيرون (فريدريك الثاني في بروسيا، وجوزيف الثاني في النمسا، وكاترين الثانية في روسيا) ، فتبنت هذه الحكومات مقياس مدى نفع اليهود وإمكانية إصلاحهم وتقليل عزلتهم. فتم تقسيمهم إلى نافعين وغير نافعين. وكان الهدف هو إصلاح اليهود، وزيادة عدد النافعين بينهم، وطرد الضارين منهم أو منع زيادة عددهم. وارتبطت هذه العملية بعملية إعتاق اليهود، فلم يكن يُعتَق منهم سوى النافعين.(11/324)
ومن السمات المشتركة الأخرى لهذه البلاد ظهور القوميات العضوية فيها جميعاً التي تدور حول مفهوم الشعب العضوي (فولك) ، وهي قوميات تنبذ الأقليات ولا تفتح أمامها فرصة الاندماج، كما حدث في إنجلترا وفرنسا وغرب أوربا بشكل عام. فالقوميات العضوية تنكر إمكانية تحول الإنسان واندماجه إذ أن الشخصية والهوية، حسب تصورها، ليست مكتسبة وإنما موروثة، وتكاد تكون بيولوجية.
وتتميَّز الدول الثلاث بأن الدولة المركزية فيها كانت مطلقة ومستنيرة على عكس البيروقراطيات التابعة لها، التي كانت متخلفة وغير مستنيرة بالمرة ومليئة بالأحقاد ضد الأقليات، وخصوصاً في ظروف التحول الاجتماعي. ولذا، فحينما حاولت الدولة إصلاح اليهود بإصدار قرارات كانت البيروقراطية تعوق تنفيذ هذه القرارات.
ولقد تلقَّى يهود اليديشية هذه الضربات من الخارج، في مرحلة كانت اليهودية تمر فيها بأخطر أزماتها الداخلية ابتداءً من القرن الثامن عشر. فقد رجَّت المناظرة الشبتانية الكبرى أرجاء العالم اليهودي، وظهرت الحركة الفرانكية والحسيدية التي تحدت سلطة مؤسسات اليهودية الحاخامية. ونشب صراع حاد بين الحسيديين والمتنجديم، كما كانت التوترات الاجتماعية على أشدها داخل الجماعة.
ومما أدَّى إلى تفاقم الأوضاع السيئة، الانفجار السكاني الذي حدث بين يهود العالم الغربي، وخصوصاً يهود اليديشية، إذ زاد عدد يهود العالم، في الفترة 1850 ـ 1935 ستة أضعاف. وحيث لم يكن يهود الغرب يتزايدون، بل كانوا آخذين في التناقص، فإن نسبة الزيادة بين يهود اليديشية كانت في واقع الأمر أكثر من ستة أضعاف.(11/325)
ولكل ما تقدَّم، بدأت وحدة يهود اليديشية وخصوصيتهم في التداعي ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر. واستغرقت هذه العملية مرحلة زمنية طويلة (امتدت حتى منتصف القرن العشرين) وانتهت باختفاء اللغة والثقافة اليديشية ودمج أعضاء الجماعات اليهودية في مجتمعاتهم حضارياً واقتصادياً وتَحوُّلهم من جماعة وظيفية وسيطة في المجتمع الروسي والبولندي إلى أعضاء في الطبقات الوسطى وغيرها من الطبقات في المجتمعات التي ينتمون إليها، وهذه المرحلة الزمنية هي في واقع الأمر مرحلة المسألة اليهودية التي كانت مسألة يهود شرق أوربا بالدرجة الأولى.
هاجرت أعداد كبيرة من يهود اليديشية، وخصوصاً في الفترة 1881 ـ 1914، فبلغت نحو 2.750.000؛ ذهب منهم 350 ألفاً إلى أوربا، وخصوصاً ألمانيا وفرنسا، و200 ألف إلى إنجلترا، و115 ألفا إلى الأرجنتين، و100 ألف إلى كندا و40 ألفاً إلى جنوب أفريقيا، ومليونان (أي حوالي 85%) إلى الولايات المتحدة. وهم بذلك يكّونون الأغلبية الساحقة من يهود تلك البلاد التي كانت تضم جماعات يهودية صغيرة جداً قبل وفود يهود اليديشية. وأدَّى وفودهم إلى زيادة معدلات معاداة اليهود نظراً لتخلفهم وتميزهم الوظيفي والإثني.(11/326)
ومن هنا كان رد الفعل العنصري في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا، الأمر الذي أدَّى إلى طرح الفكرة الصهيونية في إنجلترا في بداية الأمر، ثم بقية دول غرب أوربا ومنها إلى وسطها فشرقها. قام هرتزل بزيارته الأولى إلى إنجلترا لمناقشة موضوع يهود اليديشية وكيفية التخلص منهم أو حل مسألتهم، وفي هذا المناخ وُلد وعد بلفور. أما في الولايات المتحدة التي هاجر إليها الملايين، فكانت تُوجَد أمام المهاجرين من يهود اليديشية مجالات للعمل، ولذلك لم تحدث توترات اجتماعية. وقد تزايد عددهم حتى أصبحوا العنصر الغالب بين أعضاء الجماعة اليهودية هناك. وكان يهود اليديشية العنصر اليهودي الغالب في الإمبراطورية النمساوية المجرية وألمانيا. وغني عن القول أن يهود اليديشية كانوا هم أيضاً العنصر الغالب في الاتحاد السوفيتي حيث كانت تُوجَد جماعات يهودية أخرى مثل يهود جورجيا ويهود الجبال.
اختفت اليديشية تقريباً مع نهاية الثلاثينيات من هذا القرن، واختفى يهود اليديشية واختفت المسألة اليهودية معهم. أما أبناؤهم وأحفادهم فتم دمجهم في مجتمعاتهم. ومن هنا يُشار الآن إلى المهاجرين اليهود السوفييت إلى إسرائيل والولايات المتحدة بأنهم «الروس» لأن معظمهم يتحدث الروسية، كما أنهم روس من الناحية الثقافية.(11/327)
ومن الملاحظات الجديرة بالذكر أن جميع الحركات الإصلاحية في العقيدة اليهودية، أو بين أعضاء الجماعات اليهودية، كان مصدرها دائماً وسط أوربا داخل صفوف اليهود الذين يتحدثون الألمانية في ألمانيا والنمسا. فحركة التنوير كان زعيمها مندلسون الألماني. وظهرت اليهودية الإصلاحية وكذا علم اليهودية في ألمانيا، كما أن الصهيونية نفسها، في أطروحاتها الأولى التي طرحها كل من موسى هس وماكس نوردو وتيودور هرتزل حمل لواءها ألمان. وكانت اللغة الرسمية للمؤتمرات الصهيونية هي الألمانية. ونظراً لأن الكثافة البشرية اليهودية كانت متركزة في شرق أوربا، فإن هذه الأفكار والحركات الفكرية كانت تظل مجرد أطروحات فكرية إلى أن تصل ليهود اليديشية الذين كانوا يحولونها إلى حركات سياسية وثقافية حقيقية. ويظهر هذا في تاريخ كل من حركتي التنوير والصهيونية. فالقيادات والزعامات كانت في البداية من أصل ألماني، لكن المفكرين والزعماء من يهود اليديشية بدأوا يستولون عليهما بالتدريج، وظهرت حركة تنوير يديشية وأدب يديشي وقومية يديشية (إن صح التعبير) دعا إليها دبنوف منطلقاً من مفهوم اصطلاح «قومية الدياسبورا» . وفكرة القومية اليديشية تَصدُر عن تجربة يهود اليديشية في أواخر القرن التاسع عشر، حين أصبح لهم ما يشبه الهوية القومية المستقلة التي استمدوها من وجودهم في وضع معيَّن داخل الحضارتين الروسية والبولندية إبان مرحلة الانتقال من وضعهم المتميِّز كجماعة وسيطة إلى أن تم دمجهم وصهرهم، وهي مرحلة اتسمت بتَعثُّر عملية التحديث في شرق أوربا. وهي تجربة تكاد تكون فريدة في تواريخ الجماعات اليهودية، ويتمثل تفردها في وجود كتلة بشرية يهودية بهذه الضخامة داخل رقعة أرض متصلة (منطقة الاستيطان) تتحدث لغة مختلفة عن لغة البلد الذي تعيش فيه.(11/328)
وظهر حزب البوند ليعبِّر عن هذا الوضع الطبقي وشبه القومي المتميز. وحينما أسس الاتحاد السوفيتي منطقة بيروبيجان، فإنه كان يتحرك في إطار القومية اليديشية، ولم تنجح التجربة بسبب اختفاء اليديشية وثقافتها، واختفاء أية معالم للخصوصية اليديشية.
أما فيما يتصل بالصهيونية، فقد تولت العناصر اليديشية قيادتها ابتداءً من المؤتمر الحادي عشر عام 1913. وظل هذا العنصر هو المهيمن حتى إعلان الدولة الصهيونية، وتكوَّن منه عصب النخبة الحاكمة فيها. كما أنه يشكل ما يُسمَّى «الحرس القديم» ، ومن صلبه جاء جيل الصابرا. ويبلغ تعداد يهود شرق أوربا في الوقت الحالي (ما عدا كومنولث الدول المستقلة، أي الاتحاد السوفيتي سابقاً) 88.600. ولأول مرة في التاريخ الحديث يزيد عدد يهود غرب أوربا (دعاة الصهيونية التوطينية) عن يهود شرقها (المادة البشرية الاستيطانية) فيهود غرب أوربا يبلغ عددهم 1.036.300 أما يهود شرق أوربا (وضمن ذلك كومنولث الدول المستقلة) فهو 868.400.
يهود شرق أوربا
East European Jews
انظر: «يهود اليديشية» .
بولندا حتى القرن السادس عشر
Poland, to the Sixteenth Century(11/329)
كانت حدود بولندا عبر تاريخها غير مستقرة لعدة أسباب من بينها موقعها الجغرافي بين القبائل الألمانية والقبائل الليتوانية والسلاف. ثم إنها واقعة على الحدود بين ثلاث دول عظمى (ألمانيا والنمسا وروسيا) ، بل على حدود الدولة العثمانية في نهاية القرن السابع عشر. كما أن غياب أية عوائق طبيعية تحيط بها، وكونها أساساً أرضاً مستوية يجعلها عرضة للغزوات المستمرة. ولم يكن العنصر السكاني في بولندا متجانساً، فالعناصر غير البولندية كانت تشكل نسبة مئوية كبيرة تصل أحياناً إلى أكثر من الثلث. وبولندا، بذلك، فريدة بين دول العالم الغربي التي تتسم بتجانسها السكاني الشديد. ويُلاحَظ أن تاريخ بولندا السياسي العاصف وكذلك موقعها كمعبر وساحة للصراع بين القوى يجعلانها تشبه فلسطين قبل الفتح الإسلامي من بعض الوجوه. ولا يمكن دراسة تاريخ الجماعة اليهودية في بولندا إلا بأخذ كل هذه العناصر في الاعتبار.
وإذا كانت حدود بولندا غير مستقرة، فإن مصطلح يهود بولندا نفسه غير واضح، فهو مصطلح فضفاض للغاية له معنيان أساسيان:
1 ـ المعنى الضيق: اليهود الذين يقطنون بولندا الكبرى (بوزنان) والصغرى (كراكوف) ، وهي الأجزاء الأساسية في بولندا.
2 ـ المعنى الواسع: اليهود الذين كانوا يعيشون في المنطقة الشاسعة التي كانت تضمها مملكة بولندا وليتوانيا المتحدة.
وبالتالي، فإن هذا المعنى الأخير يشير إلى اليهود الذين وقعوا تحت الحكم البروسي والروسي والنمسوي بعد تقسيم بولندا، وهذا هو التعريف الذي سنأخذ به. وهو، بهذا المعنى، مرادف تقريباً لمصطلح «يهود اليديشية» .
ولم يكن يهود بولندا عنصراً واحداً متجانساً بل كان يُشار إلى أقسام ثلاثة أساسية منهم باليديشية «البولاك» ، وهم: يهود بولندا، و «الليتفاك» وهم يهود ليتوانيا الذين كانت معظم القيادات الصهيونية منهم، و «الجاليسيانر» . وهم يهود جاليشيا.(11/330)
ويعود تاريخ بولندا إلى القرن العاشر حين قامت أسرة بياست بتوحيدها. ويُعَدُّ عام 966 عام تأسيس بولندا إذ اعتنق مايسكو الأول (963 ـ 992) فيه المسيحية. وخضعت بولندا لنفوذ الكنيسة الكاثوليكية في روما عام 990 حتى لا تخضع للكنيسة الألمانية.
وأدَّى الغزو التتري لبولندا في 1241 ـ 1242 إلى تدميرها تماماً، كما قام الليتوانيون الوثنيون بالغارات عليها. وفقدت بولندا كثيراً من أراضيها، ولكنها استعادت وحدتها، مع بداية القرن الثالث عشر، وبدأت حركة لإعادة بناء الاقتصاد وتشييد المدن. ففي حكم كاسيمير الثالث ـ الأعظم (1333 ـ 1370) ، تم بناء سبع وأربعين مدينة جديدة. وأقيمت في المدن مبان حجرية على النمط القوطي، كما شيدت قلاع حجرية للدفاع عن المدن. ولذا، يشار إلى كاسيمير في التاريخ البولندي بأنه «وجد بولندا خشباً وتركها حجراً» . وقد عُيِّن كاسيمير حاكماً ملكياً لكل مقاطعة يُسمَّى باللاتينية «ستاروستا كابيتانيوس Starosta Capitanus» ، ويُسمَّى بالبولندية «فويفود» ، وظل هذا أهم المناصب الإدارية مدة 470 عاماً. وجمع كاسيمير القوانين وصنفها في القانون البولندي (إيوس بولونيكم Ius Polonicum) والقانون التيوتوني (إيوس تيوتونيكم Ius Teutonicum) . وكان الأول يطبق على النبلاء والثاني على سكان المدن. ووسع كاسيمير أطراف مملكته، وأصبحت إمبراطورية تعددية تضم بولنديين كاثوليك وألمان وروثينيان (سكان أوكرانيا، أو روثينيا، الأصليون) ، كما ضمت الأرثوذكس والفلمنك واليهود والأرمن والتتر المسلمين واليهود القرّائين ممن كانوا من أصل خزري ويتحدثون التركية، أي أن السكان كانوا يتبعون عدداً كبيراً من الديانات وكانوا يتحدثون اثنتى عشرة لغة. وتأسست أسرة ياجيلون (1386 ـ 1572) حينما تُوِّجت يادفيجا «ملكاً» لبولندا عام 1384 وتزوجت من دوق ليتوانيا الوثني الذي اعتنق المسيحية بعد موتها. وقد ظلت الوحدة أساساً وحدة بين أسرتين مالكتين(11/331)
ولكنها مع ذلك أدَّت إلى تحويل بولندا إلى دولة كبيرة بلغت أربعة أضعاف حجمها الأصلي. وتُعَدُّ إمبراطورية ياجيلون أكثر تعددية من سابقتها إذ ضمت عناصر سكانية جديدة. وأدَّى الاتحاد إلى حماية بولندا من هجمات التتار، ولكنه كان يعني أيضاً الاشتباك مع فرسان التيوتون الذين كانوا يهددون ليتوانيا. وقد ضمت بولندا روسيا الحمراء (جاليشيا) وبودوليا، وأكدت سيادتها على دوقية مولدافيا، وامتدت حدودها من بحر البلطيق إلى البحر الأسود، أو «من البحر إلى البحر» . ومع سقوط القسطنطينية في يد القوات العثمانية عام 1453، أصبحت بولندا معبراً أساسياً للتجارة بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، وخصوصاً أنها كانت تضم كثيراً من الأنهار التي تربط بين أراضيها وموانيها على البلطيق وتسهل انتقال السلع. وبذلك سيطرت بولندا على تجارة أوربا الدولية.
عاش اليهود في بولندا منذ القرن التاسع. لكن مصدرهم غير معروف على وجه الدقة، هل جاءوا من ألمانيا وبوهيميا أم من الإمبراطورية البيزنطية وكيف؟ والأرجح أن بعض يهود الخزر انضموا إليهم، بل ويذهب آرثر كوستلر إلى أن معظم يهود بولندا، في واقع الأمر، من أصل خزري. وكان المستوطنون الأوائل من التجار. وتدل النقوش العبرية التي ظهرت على بعض العملات على مدى أهميتهم في عالم المال.(11/332)
ويبدأ الوجود اليهودي الحقيقي في بولندا بعد الغزو التتري الذي أفرغ بعض المناطق من سكانها. وفي محاولتهم إعادة تعمير بلدهم قام ملوك بولندا، بتشجيع تجار ألمانيا على الهجرة لتأسيس مدن تتبع قانون ماجدبرج الألماني (الأمر الذي كان يعني استقلالها النسبي) وأُصدرت لهم المواثيق حسب هذا القانون. وكان من بين المهاجرين الألمان تجار يهود هاجروا ومعهم لغتهم الألمانية (التي أصبحت اليديشية فيما بعد) والتلمود والطقوس الإشكنازية في العبادة. ومما شجع اليهود على الهجرة إلى بولندا، تدنِّي وضعهم في أوربا الغربية إبّان حروب الفرنجة، وفقدانهم وظيفتهم كتجار، وتَحوُّلهم إلى مرابين وتجار صغار. كما أن بولندا كانت البلد الوحيد تقريباً في أوربا الذي لا يتوقف فيه حق المواطنة على الانتماء إلى الكنيسة، كما كان الحال في بقية أوربا. وقد أصدر بوليسلاف التقي ميثاقاً عام 1264 يعرف باسم «ميثاق كاليسكي» لتنظيم الأحوال القانونية لأعضاء الجماعة اليهودية وتحديد إطار التعامل الاقتصادي والثقافي بينهم وبين المسيحيين، وكذلك حمايتهم وحماية أملاكهم. وكان هذا الميثاق نفسه ميثاقاً مهاجراً مثل الجماعة اليهودية، إذ كان على نمط ميثاق فريدريك الثاني دوق النمسا والمواثيق المماثلة التي مُنحت لأعضاء الجماعة في وسط أوربا في بوهيميا والمجر. وضمن لهم الميثاق حرية الإقامة في أي مكان والحرية الدينية وحرية الاتجار وحرية التقاضي، كما حرَّم اتهام اليهود بتهمة الدم دون سند قوي. ثم قام كاسيمير الثالث بتوسيع نطاق هذا الميثاق عام 1334 بحيث أصبح يتمتع به يهود روسيا البيضاء وبولندا الصغرى ثم يهود ليتوانيا (1388) وسائر يهود المملكة. وأُعفي اليهود من الخدمة العسكرية، ولم يكن عليهم تزويد الجنود بالمؤن في زمن الحرب، ولكن كان يتعين عليهم دفع ضريبة إضافية نظير ذلك، وهو الوضع الذي استمر حتى تقسيم بولندا. وفي حالة التقاضي، لم يكن للبلديات أو الكنيسة سلطة(11/333)
قضائية عليهم، إذ كانوا خاضعين للملك مباشرة من خلال وكيله أي الحاكم الملكي (فويفود) . وكان الحاكم الملكي يضطلع بنفسه بوظيفة قاضي اليهود، أو يُعيِّن أحد النبلاء للقيام بهذه المهمة. وكل هذه القوانين تفترض أن اليهود جماعة متماسكة، وطبقة اجتماعية منفصلة عن كل الطبقات الأخرى تتمتع بوصاية التاج مباشرة وتقوم أساساً بالعمليات المالية، وخصوصاً جمع الضرائب والإقراض. ومعنى هذا أن أعضاء الجماعة اليهودية أصبحوا أقناناً للبلاط الملكي برغم أن هذا المصطلح نفسه لم يكن مستخدماً.
ولعب أعضاء الجماعة اليهودية نتيجةً لذلك دوراً مهماً في اقتصاد بولندا. وتُوجَد إشارات إلى أنهم كانوا يشتغلون بالزراعة وأنهم امتلكوا الضياع وأداروها. ولكن دورهم الأساسي كان في تطوير الاقتصاد النقدي والتجاري، فكانت معظم التجارة الداخلية والدولية في يدهم، وكانوا يُصدِّرون المحاصيل الزراعية المحلية مثل: الماشية والحبوب والجلود والأخشاب وخيوط القنب، وكانوا يستوردون السلع المصنوعة من الغرب وسلعاً أخرى مثل: التوابل والأصباغ والحرير والمنسوجات القطنية من الشرق. كما احتفظوا بعلاقات تجارية نشيطة مع ألمانيا والدولة العثمانية ومدن شبه جزيرة القرم وجنوا والبندقية. وكانوا إما منافسين للنبلاء في التجارة الدولية أو وكلاء لهم، وأصبحوا ملتزمين بجمع الضرائب، كما استأجروا مناجم الملح. وكان الإقراض بالربا من أهم وظائفهم. ومع هذا، لم تكن هذه الوظيفة حكراً عليهم. كما كان يوجد بين اليهود جزارون وخياطون. وقد بلغ ازدهار اليهود في بولندا درجة أن أحد الحاخامات فسَّر اسمها (من قبيل اللعب بالألفاظ) فقال: إن بولندا بالعبرية هي «بوه لين» ، أي «هنا ستستريح» .(11/334)
أدَّى استقلال أعضاء الجماعة اليهودية، وتمتعهم بحماية التاج، وتنظيمهم كجماعة تجارية، إلى تَحوُّلهم إلى طبقة ثالثة لها نشاطها وحيويتها ووجودها الملحوظ في كل المجالات التجارية والمالية. ووجد التجار البولنديون أن من الصعب التنافس مع التجار من أعضاء الجماعة اليهودية، وخصوصاً أنهم كثيراً ما كانوا يجدون ثغرات في القانون يتسللون منها، كما كانت لهم شبكة اتصالات بتجار آخرين خارج بولندا، الأمر الذي يَسَّر لهم عملية التصدير والاستيراد. كما كان التجار اليهود يتسمون بالجسارة التي تقترب من الوقاحة في عملية التسويق، فكانوا لا يتورعون عن الذهاب إلى منازل الزبائن، وكان هذا يُعدُّ أمراً مشيناً حينذاك لا يليق بتاجر يحترم نفسه. كما كانوا يحتكرون بعض المواد الخام التي يحتاج إليها الحرفيون، ويستوردون من الخارج سلعاً أرخص من السلع المنتجة محلياً. وأدَّى هذا الوضع إلى ظهور التوترات بينهم وبين معظم الطبقات الأخرى في المجتمع. فحاول التجار الألمان والبولنديون الحد من نطاق التجارة اليهودية، كما أن البلديات كانت تقف ضد توسيع حدود الجيتو، كما حدَّت من عدد البيوت التي يمكنهم تَملُّكها. كما أن الكنيسة الكاثوليكية كانت تطالب بعزلهم عن المجتمع المسيحي. وانعكس ذلك الصراع في شكل توجيه اتهامات الدم وتدنيس خبز القربان إلى اليهود. وفي عام 1454، تعرَّض التجار في بعض المدن لبعض الهجمات، وخصوصاً في الأماكن التي كانوا يمثلون فيها منافسة اقتصادية للتجار المحليين، ثم طُردوا من وارسو عام 1483 ومن كراكوف بعد ذلك بفترة وجيزة.(11/335)
ويُلاحَظ أن هذه الفترة شهدت ظهور طبقة النبلاء البولنديين (شلاختا) التي قُدِّرت لها السيطرة في مراحل لاحقة على الحياة السياسية في بولندا وارتبط بها أعضاء الجماعة اليهودية ارتباطاً كاملاً. ولكن السلطة المركزية الملكية نجحت في هذه المرحلة في تأكيد نفسها والسيطرة على بولندا والمجتمع البولندي. ولأن اليهود، كجماعة وظيفية وسيطة، يرتبطون دائماً بالطبقة الحاكمة، فإننا نجد أنهم كانوا تابعين للتاج في هذه الفترة وأن علاقتهم بالنبلاء كانت أحياناً كثيرة تتسم بالعداء.
بولندا من القرن السادس عشر حتى انتفاضة القوزاق
Poland, from the Sixteenth Century to the Uprising of the Cossacks
كان يوجد في بولندا وليتوانيا في نهاية القرن الخامس عشر نحو ستين جماعة يهودية. وبلغ عدد اليهود الإجمالى فيها 16 ألفاً، منهم 13 ألفاً في المدن و3 آلاف في القرى. وقد تحسَّن وضعهم حينما اعتلى الملك ألكسندر (1501 ـ 1506) العرش، فبعث ميثاق بوليسلاف الثاني لليهود وجعله جزءاً من قوانين بولندا عام 1506. وفي العام الذي سبقه، فرض النبلاء البولنديون (شلاختا) على الملك أن يقبل أن يكون البرلمان (سييم) مصدراً وحيداً للتشريع.
وتحت حكم سيجسموند الأول (1506 ـ 1548) ملك بولندا ودوق ليتوانيا، انتشرت البروتستانتية في بولندا الأمر الذي أدَّى إلى خلق جو من التعددية والتسامح. واستمر سيجسموند في سياسة تشجيع التجارة، فأصدر مراسيم تؤكد المزايا التي حصل عليها أعضاء الجماعة اليهودية. وأكد سيجسموند الثاني (1548 - 1572) حقوق أعضاء الجماعة اليهودية، وزادت أهمية الدور الذي كانوا يلعبونه في الأعمال المالية كملتزمي ضرائب وصيارفة يعملون في الأمور المالية، وكان منهم عدد كبير من الأطباء.(11/336)
وكان أعضاء الجماعة اليهودية حتى ذلك التاريخ يعتمدون اعتماداً كاملاً على الملك، فكانوا يحصلون منه على المزايا والامتيازات ويتبعونه بشكل مباشر، وكان هو يزودهم بالحماية من بطش الطبقات المعادية لهم. وكانت مجالس القهال الإطار التنظيمي الذي مارس اليهود من خلاله الإدارة الذاتية. وازدادت قوة القهال الاقتصادية وتم تنظيمها في إطار مجالس البلاد الأربعة، وهو ما أدَّى إلى زيادة مقدرتها على التنافس مع المدن البولندية. وأدَّى وضع أعضاء الجماعة اليهودية المتميِّز، بقربهم من الملك، إلى زيادة التوتر بينهم وبين الكنيسة وطبقات المجتمع الأخرى سواء طبقة النبلاء (شلاختا) أو سكان المدن أو الكنيسة. وفي منتصف القرن السادس عشر، بعد موت سيجسموند الثاني، تحوَّلت بولندا إلى «جمهورية ملكية» يُنتَخب فيها الملك من قبل برلمان يضم كل النبلاء ولا يرث أبناؤه العرش. وكانت معظم القرارات تُتَخذ داخل البرلمان، وانتقلت السلطة الفعلية إلى أيدي كبار النبلاء. وتزامن هذا التطور مع ظهور الملكيات المطلقة في أوربا التي أسَّست حكومات مركزية قوية تُعَدُّ نواة الدولة القومية الحديثة. وهذه الحكومات اهتمت بالتجارة المحلية والدولية وشجعتها فيما يُعدُّ تعبيراً عن الثورة التجارية التي خرجت من رحمها حركات الاكتشاف والاستعمار من إسبانيا والبرتغال ثم إنجلترا وهولندا وفرنسا، الأمر الذي حوَّل طريق التجارة وجعل الدول الأطلسية مراكز للتجارة العالمية. وقد أدَّى ذلك إلى اضمحلال المدن البولندية في بادئ الأمر ثم إلى اضمحلال بولندا نفسها.(11/337)
وازدادت الدول المحيطة ببولندا قوة في تلك الحقبة أيضاً، كما كان هناك السويد والإمبراطورية النمساوية التي كان لها أطماع في الأراضي البولندية. ولكن بزوغ نجم بروسيا من ناحية، وتَعاظُم القوة الروسية من ناحية أخرى، كانا العنصر الحاسم في مسار التاريخ البولندي إذ أن التفكك الذي أصاب بولندا كان يقابله تَزايُد في تماسك الكتل السياسية المحيطة وتَعاظُم قوتها. لذا، لم يكن من الغريب أن يتم تقسيم بولندا في أواخر القرن الثامن عشر وأن تختفي تماماً ككيان سياسي مستقل خلال القرن التاسع عشر كله.
وقد انتُخب الدوق ستيفن باثوري (1576 - 1586) ملكاً لبولندا، فكان ثاني الملوك المنتخبين. ورغم أنه كان متعصباً دينياً وصديقاً لليسوعيين، فإنه تَبَنَّى سياسة التسامح تجاه اليهود وأكد كل المواثيق الممنوحة لهم، وأصدر عام 1576 قرارات تُحرِّم تهمة الدم. ورغم استمرار سياسة التسامح هذه، استمر تدهور وضع أعضاء الجماعة اليهودية، وزادت محاولات الحد من نشاطهم التجاري والحرفي، وبدأت المدن تعطي نفسها السلطة القضائية على اليهود فأصدرت قرارات للحد من حرية إقامتهم فيها. وفي عام 1633 أُسِّس أول جيتو. ونتيجة ضعف نفوذ الملك، وتَصاعُد نفوذ النبلاء (شلاختا) ، أصبح هؤلاء حماة الجماعة اليهودية واقترنت مصالح الأرستقراطية الاقتصادية بأعضاء الجماعة. وأدَّى هذا التقارب بين النبلاء واليهود إلى تغيير وضع يهود بولندا بشكل جوهري، وهو الوضع الذي وسمهم بميسمه. ولا يمكن فهم التطورات اللاحقة التي أدَّت إلى ظهور الصهيونية إلا بفهم طبيعة هذا التحول.(11/338)
كان النبلاء في بولندا، برغم سطوتهم وقوة نفوذهم، يتبعون قوانين جامدة، فكانوا يتمتعون بمكانتهم (إذا كانوا من صلب إحدى الأسر النبيلة) ماداموا لا يعملون بالتجارة، وكان اشتغالهم بالتجارة يعني فقدانهم مكانتهم ووضعهم. ولذا، كان يوجد نبلاء فقراء (النبلاء الحفاة) معدمون يفضلون الجوع والفاقة على العمل بالتجارة. وأدَّى ذلك إلى التحالف بين قطاعات منهم وبين اليهود كعنصر تجاري نشيط يمتلك الخبرات والأموال المطلوبة للأعمال التجارية. وبلغت أهمية أعضاء الجماعة اليهودية درجة كبيرة حتى أنه حينما فكرت أعداد منهم في الهجرة إلى الدولة العثمانية في القرن السادس عشر، منعهم ملك بولندا بالإقناع والقوة.(11/339)
ولم يكن أعضاء الجماعة اليهودية يشكلون أية خطورة على النبلاء لأنهم لم يكن بوسعهم، كعنصر غريب أجنبي، المطالبة بنصيب في السلطة السياسية يتناسب مع وزنهم الاقتصادي، وذلك على عكس العناصر البورجوازية المحلية التي عادةً ما تطالب بمزيد من الحقوق كلما تزايدت قوتها الاقتصادية. وشهدت الفترة 1539ـ 1549 قيام النبلاء الإقطاعيين بتوزيع السلطة القانونية على أعداد كبيرة من اليهود الذين لم يعودوا تحت الحماية الملكية. وبلغ عدد اليهود الذين يعيشون على أراض يملكها النبلاء الإقطاعيون ما يزيد على نصف أعضاء الجماعة الذين أصبحوا منقسمين إلى نصفين: يهود النبلاء ويهود الملك. وكان لكليهما إطاره القانوني. ولكن عدد يهود النبلاء أخذ في الزيادة، ومع منتصف القرن الثامن عشر، بلغ عددهم ثلاثة أرباع يهود بولندا. فكان إذا طردت إحدى المدن الملكية اليهود منها انتقلوا إلى مدن النبلاء أو إلى جيوب شبه حضرية داخل ضياع النبلاء. وبدأ أعضاء الجماعة اليهودية يستقرون في مدن صغيرة أسسها النبلاء، فكانوا يمنحونهم حق السكنى فيها نظير الدفاع عنها، وهي المدن التي عُرفت باسم «الشتتل» . وكان سكان هذه المدن من اليهود أساساً. والواقع أن التطور الأساسي الذي ربط مصير أعضاء الجماعة اليهودية بالنبلاء البولنديين هو إبرام اتحاد برست ليتوفسك (ويُسمَّى أيضاً اتحاد لوبلين) عام 1569 بين ليتوانيا وبولندا. وهو الاتفاق الذي حوَّل الوحدة الإسمية (وحدة الأسرتين المالكتين) بين البلدين إلى وحدة حقيقية. وقامت بولندا بضم أوكرانيا نتيجة هذه الوحدة. وكانت أوكرانيا، حتى ذلك الوقت، تُسمَّى «روثينيا» . أما كلمة «أوكرانيا» فتعني «منطقة الحدود» ، وتمتد من جاليشيا إلى نهر الدون حتى البحر الأسود، وتقع بين روسيا وبولندا والدولة التترية في القرم.(11/340)
وكانت أوكرانيا النقطة التي التقت فيها عناصر عديدة غير متجانسة أهمها النبلاء البولنديون الإقطاعيون الكاثوليك والفلاحون الأوكرانيون الأرثوذكس والتجار اليهود غير المنتمين لهذا أو ذاك، إلى جانب الغجر والتتار وبعض الأرمن. ثم بدأت عملية استيطان بولندية في أوكرانيا، وكانت تتطلب خبرات ورؤوس أموال كبيرة لاستصلاح الأراضي وتأمين الطرق، الأمر الذي أدَّى إلى ظهور ما نسميه «نظام الإقطاع الاستيطاني» . وكانت حاجة النبلاء الإقطاعيين إلى المال تزداد يوماً بعد يوم، فكانوا يقترضون من اليهود. وأدَّى هذا كله إلى ظهور نظام الأرندا (الاستئجار) كشكل أساسي من أشكال الإقطاع الاستيطاني. فكان النبيل الإقطاعي يستدين من المرابي اليهودي مبالغ طائلة للوفاء باحتياجاته بضمان ضيعته وغلتها وعوائدها. وبالتدريج، اضطلع أعضاء الجماعة اليهودية بعملية استئجار المزرعة وإدارتها نيابةً عن النبيل الإقطاعي الغائب في وارسو، والذي كان يترك زمام الأمور في يد الوكيل. وكانت مدة عقود الإيجار تصل أحياناً إلى عدة سنوات. وأدَّى هذا إلى تَحوُّل الأرندا إلى نظام استثمار تجاري استغلالي لا تخفف من حدته الروابط الإقطاعية بما تحمل من مسئولية أخلاقية مباشرة من النبيل الإقطاعي تجاه فلاحيه وأقنانه وتراث ثقافي وديني مشترك، فهو إقطاعي في علاقاته الاقتصادية الأساسية بين النبيل والأقنان، ولكنه إقطاع بلا علاقات اجتماعية أو ثقافية إقطاعية، إذ أن الطبيعة الاستيطانية للنظام ووجود عنصر سكاني غريب يكون بمنزلة همزة الوصل بين الإقطاعي وفلاحيه قضيا على احتمال قيام مثل هذه العلاقات المباشرة وقضيا على الرقعة الثقافية والدينية المشتركة. ولا شك في أن النبلاء البولنديين كانوا ينظرون إلى أعضاء الجماعة كعنصر ريادي استيطاني كفء ونافع يساهم في تعمير المناطق غير المأهولة بالسكان وكأداة تُستخدَم لتنشيط الاقتصاد الزراعي الخامل وإدخال بعض النشاطات التجارية فيه حتى(11/341)
يزيد ريع الأراضي الزراعية.
لكل ما تقدَّم، أصبحت السلطة المباشرة شبه المطلقة في يد اليهودي الذي كان يدير الضيعة، فهو الذي يُطبِّق القانون ويقرر العقوبات والغرامات وينفذها بمساعدة الجنود البولنديين. وكان الملتزم أو الأرنداتور اليهودي يحصل على كل الامتيازات الممكنة مثل إدارة الحانات وطواحين الغلال ومعامل الألبان ومعامل التقطير وصناعة الكحول ومناجم الملح وقطع الأخشاب وصنع الغراء ودبغ الجلود وصنع الصابون. كما كانوا يجمعون ضرائب المرور على الكباري والبوابات. بل لم تكن إقامة الصلوات الأرثوذكسية ممكنة إلا بعد العودة للوكيل اليهودي إذ لم يكن بمقدور القساوسة الحصول على مفتاح الكنيسة أو استعارة ردائهم الكهنوتي لإقامة شعائر الصلاة إلا بعد دفع ضريبة. وكان اليهود يشترون أيضاً المحصولات من الفلاحين. ولأنهم كانوا يمتلكون وسائل النقل النهري، فقد كانوا هم أيضاً الذين يقومون بنقلها. وكان أعضاء الجماعة اليهودية هم أيضاً تجار القرية الذين يبيعون الفلاحين ما يريدونه من السلع الضرورية مثل الملح والسلع التَرَفية. وأصبح بعض يهود بولندا وروسيا من كبار تجار الأخشاب والحبوب في أوربا. ونشأت علاقة قوية بين يهود البلاط في دول أوربا الوسطى، ويهود الأرندا إبّان حرب الثلاثين عاماً، حيث كان يهود البلاط يستوردون الحبوب من بولندا. وكان يهود الأرندا يقومون بتدبير الغلال المطلوبة التي كانت تتزايد حاجة أوربا إليها. وهذا يبين كيف كانت العلاقات بين الجماعات اليهودية تسهل اتصالاتهم وتجعلهم شبكة قوية ووحيدة للتجارة الدولية.(11/342)
وساهم الوضع الاقتصادي العام في أوربا آنذاك في تحسين وضع بولندا، إذ كان سكان أوربا الغربية آخذين في الزيادة وهو ما اضطر دول هذه المنطقة إلى استيراد كميات كبيرة من الحبوب. واستفادت بولندا من هذا الوضع، فأصبحت في الفترة من 1577 إلى 1654 بمنزلة المصدر الأساسي للقمح في أوربا. فكان يتم تصدير القمح البولندي إلى فرنسا وإنجلترا وإسبانيا وإيطاليا، وأحياناً إلى العالم الإسلامي من خلال أمستردام حيث كانت هناك أهم بورصة لبيع الحبوب. وأصبحت جدانسك أهم مدينة تجارية في أوربا بعد أمستردام إذ كانت تُصدِّر مواد عديدة مثل الحبوب والأخشاب والكتان والقنب والبوتاس والماشية.
واحتكر النبلاء البولنديون هذه السلع وطوروا ضياعهم لإنتاجها فشددوا قبضتهم على الأقنان وحولوهم إلى عبيد تقريباً. فكان كبار النبلاء الإقطاعيين يمتلكون الأرض في أوكرانيا ويؤجرونها، والألمان يديرون الموانئ على بحر البلطيق، والهولنديون يمتلكون السفن البحرية لنقل السلع. أما أعضاء الجماعة اليهودية، فقاموا ببقية العملية ومن بينها نقل المحاصيل بوسائل النقل النهري التي كانوا يمتلكونها. وقبل اتحاد ليتوانيا وبولندا عام 1569، كان لا يوجد سوى أربعة وعشرين تجمعاً يهودياً في أوكرانيا لا يزيد عدد أعضائها على أربعة آلاف. ولكن، مع حلول عام 1648، كان عدد التجمعات 115 تجمعاً يبلغ عدد سكانها 51.325، أي أن أعضاء الجماعة اليهودية زاد عددهم 13 مرة خلال ثمانين عاماً. ونظراً لأن أعضاء الجماعة اليهودية لم يكونوا مسلحين، فقد كانت تساندهم فرق مسلحة بولندية حتى يمكنهم الاستمرار في استغلال الفلاحين.(11/343)
وأصبح أعضاء الجماعة اليهودية بعلاقتهم القوية مع النبلاء والقوى التجارية الدولية محميين من تقلبات المجتمع الإقطاعي ومن غش وخداع البلديات والموظفين الملكيين، ووجدوا المناخ المستقر الذي يحتاج إليه النشاط التجاري والمالي دون ضغوط وتهديد. وتَحسَّن وضعهم ودخلوا دورة اقتصادية جديدة. وربما يُفسِّر سبب بقاء واستمرار الجماعة اليهودية وسبب استمرار أعضائها أهم عنصر في الاقتصاد النقدي رغم عمليات الطرد في أواخر القرن الخامس عشر. وقد ازدهرت الدراسات الدينية بحيث أصبحت بولندا مركز الدراسات التلمودية لا في العالم الغربي فقط وإنما في العالم بأسره. ولكنهم رغم ازدهارهم، بل وبسببه، ظلوا في نهاية الأمر عنصراً تجارياً إدارياً غريباً يعيش في بيئة فلاحية، وتحولوا إلى أداة استغلال كاملة مباشرة في يد الأرستقراطية الإقطاعية الغائبة المستفيدة من هذا الاستغلال، ومَثَّل هذا وضعاً متفجراً يتسم بعدم الاستقرار.
تسبَّب نظام الأرندا في عزل أعضاء الجماعة اليهودية داخل الشتتلات وإلى تَزايُد غرورهم تجاه الفلاحين، كما تزايد اعتمادهم على السلطة الحاكمة، وعلى القوة العسكرية البولندية. وكان القانون البولندي، بسبب الوضع المتفجر، يُلزم رب العائلة اليهودية بالاحتفاظ ببنادق بعدد الذكور، وبثلاث خرطوشات وثلاثة أرطال من البارود.(11/344)
وكان أعضاء الجماعة اليهودية يبنون معابدهم على هيئة حصون تُوجَد بحوائطها كوات تخرج منها فوهات البنادق وتُنصَب فوقها المدافع ضد الأقنان والعبيد. ومع نهاية القرن السادس عشر، كان عدد كبير من يهود بولندا الموجودين في أوكرانيا يقوم بعملية الاستغلال هذه ويشكل جسماً غريباً يتحدث أعضاؤه اليديشية (في وسط سلافي) ويؤمنون باليهودية ويمثلون النبلاء البولنديين الكاثوليك (في وسط أوكراني أرثوذكسي) ويقومون بأعمال تجارية (في وسط زراعي فلاحي) مستغرقين إما في الدراسات التلمودية التي أصبحت شكلية وخالية من المضمون والروح منفصلة عن الحياة وإما في التأملات القبالية التي تمنح اليهود مركزية في الكون لا أساس لها في الواقع. وتواجد أعضاء الجماعة اليهودية بأعداد كبيرة في مدنهم التجارية الصغيرة (الشتتلات) الأمر الذي كرَّس عزلتهم بشكل يكاد يكون كاملاً. ويُلاحَظ مدى تَداخُل الانتماء الإثني والديني والطبقي في أوكرانيا وبولندا. ولعل هذا الوضع يشكل الأساس المادي لمقولة أبراهام ليون الخاصة بالشعب/الطبقة، ولبعض المقولات الصهيونية كقولهم " من الطبقة إلى الأمة "، ولحديث بوروخوف عن الهرم الإنتاجي المقلوب عند اليهود. ولكننا نفضل استخدام مفهوم الجماعة الوظيفية (المالية/الاستيطانية) في هذه الحالة.
ومن المفارقات التي تستحق التأمل أن يهود الشتتل كانوا بمنأى عن الثقافة اليهودية الرفيعة (مقابل الثقافة الشعبية) التي كانت توجد مراكزها في المدن حيث كانت توجد المدارس التلمودية العليا (اليشيفات) . وقد بدأوا يتفاعلون مع محيطهم الثقافي واستوعبوا كثيراً من العادات والمعتقدات الفلاحية الشعبية المسيحية السلافية. وكان لهذا أعمق الأثر في التطور اللاحق لليهودية إذ أن الدراسات التلمودية الجافة لم تَعُد تلائم هذا الجو المشبع بالأساطير والخرافات.(11/345)
وقد أخذ عدد أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا في التزايد خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر زيادة كبيرة، فكان عددهم عام 1500 يتراوح بين 25 و30 ألفاً من مجموع خمسة ملايين بولندي. وفي عام 1575، زاد عدد سكان بولندا إلى سبعة ملايين نسمة. ولكن عدد أعضاء الجماعة اليهودية زاد إلى 150 ألفاً. ومع منتصف القرن السابع عشر، بلغ عددهم 350 ألفاً (ويُقال 500 ألف) يشكِّلون 5% من مجموع سكان بولندا. وحتى عام 1550، لم يكن هناك يهود يعيشون بشكل قانوني في إنجلترا أو فرنسا أو هولندا أو إسبانيا أو البرتغال أو الدول الإسكندنافية أو إمارة موسكوفي. وكان يهود أوربا كافة مركزين أساساً في بولندا وبعض أجزاء من ألمانيا أو إيطاليا بحيث كان يوجد، في القرن السابع عشر، مركزان أساسيان في العالم لليهود: أحدهما في الإمبراطورية العثمانية وهو الذي استوعب العديد من اليهود الذين طردوا من أوربا الغربية وشبه جزيرة أيبريا، وثانيهما في بولندا وليتوانيا. واستمر يهود بولندا في الزيادة، حتى أن أغلبية يهود العالم في بداية القرن العشرين كانت من نسل يهود بولندا.
النبلاء البولنديون (شلاختا)
(Polish Nobility (Szlachta(11/346)
«شلاختا» كلمة بولندية معناها «نبلاء» . والشلاختا تركيب طبقي فريد يستمد تفرده من طبيعة التشكيل السياسي الحضاري البولندي. وظهرت بولندا بوصفها وحدة سياسية بعد أن قام ملوك أسرة بياست (966 ـ 1386) بتوحيد أقاليمها. وحافظت أسرة ياجيلون (1386 ـ 1572) على هذه الوحدة من خلال حكومة ملكية تتمتع بشيء من المركزية، وتفرض سلطتها على كل أطراف المملكة، وتتبع سياسة موحَّدة تجاه تطوير المجتمع وتعمير البلاد في الداخل وعمليات صد الغزاة وتوسيع رقعة البلاد في الخارج. وشهدت هذه الفترة توسيع رقعة بولندا حتى أصبحت أكبر دول أوربا وأقواها، تمتد من البحر إلى البحر، من بحر البلطيق إلى البحر الأسود. وفي محاولة تطوير البلاد، قام ملوك بولندا بتشجيع عناصر أجنبية (الألمان واليهود والأرمن) على الاستيطان وتشييد مدن تُحكَم بالقانون الألماني (قانون ماجدبرج) . واستقرت في هذه المدن أيضاً عناصر بولندية محلية صبغت هذه المدن بالصبغة البولندية. وكانت هذه المدن تتبع الملك مباشرة (ولذا سُمِّيت «مدن التاج» ) وكانت ذات شخصية اعتبارية مستقلة ولمجالسها البلدية صلاحيات كثيرة. وإلى جانب سكان المدن، كان يوجد الفلاحون الذين يعيشون داخل نظام الإقطاع البولندي كأقنان عليهم أن يعملوا في مزارع النبيل الإقطاعي. كما كان يُوجَد عدد كبير من الفلاحين الأحرار الذين يستأجرون الأرض من النبيل الإقطاعي. ولم تكن سلطة النبلاء (على الأقنان أو الفلاحين) مطلقة في بداية الأمر إذ كانت لهم أيضاً مجالسهم المستقلة ومحاكمهم، وكانت بعض القرى قد نجحت في الحصول على الحقوق والمزايا التي منحها القانون الألماني للمدن. بل إن بعض الفلاحين الأحرار كانوا ضمن العناصر الأجنبية التي استقرت خلال محاولة تعمير بولندا.(11/347)
أما أهم الطبقات، من منظور التطور السياسي اللاحق لبولندا، ومن منظور تبلور المسألة اليهودية في شرق أوربا وظهور الصهيونية، فهي طبقة النبلاء. وهي طبقة لم تكن قط تابعة للملك وإن كان قد نجح بعض الوقت في فرض سلطته عليها. وإذا كان التطور اللاحق في معظم أرجاء أوربا هو تَعاظُم سلطة الملك داخل النظام الإقطاعي وتقليم أظافر النبلاء الإقطاعيين وتأسيس الدولة المطلقة تحت حكم الملوك المطلقين، فإن العكس هو الذي حدث في بولندا إذ تعاظم نفوذ النبلاء حتى أصبحوا الحكام الحقيقيين وأصحاب القرار في الدولة البولندية. وظهر أول اتحاد لهم في منتصف القرن الرابع عشر، وكونوا مجلس شورى للملك (1385 ـ 1493) ، ثم نجحوا في الفترة 1422 ـ 1433 في تدعيم امتيازاتهم، كالإعفاء من الضرائب وعدم سجن أي منهم إلا بعد المحاكمة. وتحوَّل مجلس شورى الملك عام 1493 إلى مجلس تشريعي يُسمَّى السييم أو البرلمان. وفي عام 1505، ساد العرف القائل «نيهيل نوفي nihil novi» (وهي عبارة لاتينية تعني «لا تجديد» ) ، الأمر الذي يعني تأكيد حق برلمان النبلاء وحده في إصدار القوانين والتشريعات. ومن خلال البرلمان (سييم) ، تَمكَّن النبلاء من تقويض دعائم النظام الملكي المركزي تماماً حتى تحولت بولندا من مملكة يحكمها ملك إلى مملكة تحكمها طبقة اجتماعية هي طبقة النبلاء.(11/348)
ولعل تَزايُد نفوذ النبلاء يعود إلى سمة فريدة في بولندا بين الدول الغربية، وهي تعددية الإمبراطورية البولندية إثنياً وجغرافياً ودينياً، وهي تعددية زادت بعد توحيد ليتوانيا وبولندا عام 1386 باتحاد الأسرتين الملكيتين في البلدين. وكانت بولندا تضم بولنديين كاثوليك يتحدثون الألمانية، وليتوانيين يتحدثون لغتهم، ويهود يتحدثون اليديشية، وألمان يتحدثون الألمانية، وأرمن مسيحيين يتحدثون الأرمنية، وتتراً مسلمين يتحدثون لغتهم، وغير هؤلاء كثيرون، حيث بلغ عدد اللغات اثنتى عشرة لغة. كما وُجدت في بولندا الديانات التوحيدية الثلاث، وكذلك معظم الشيع المسيحية: الأرثوذكسية والكاثوليكية والأرمنية والبروتستانتية، ومثل هذه التعددية تتطلب إطاراً إدارياً فضفاضاً.(11/349)
وانتهى حكم أسرة ياجيلون بتوقيع اتحاد لوبلين (برست ليتوفسك) عام 1569، والذي حوَّل الوحدة بين بولندا وليتوانيا من وحدة ملكية (من خلال الأسرة المالكة) إلى وحدة حقيقية بين البلدين. ولكن كان يُوجَد في كل من البلدين طبقتان من النبلاء، لكلتيهما مصالحها وظروفها التي لا تنوي التنازل عنها. ولإنجاز الاتحاد، كان لابد أن تتنازل السلطة المركزية الملكية عن كثير من سلطاتها الأمر الذي أدَّى إلى تَزايُد ضعف السلطة المركزية وتَزايُد نفوذ النبلاء. وبعد أن اتحدت مملكة بولندا ودوقية ليتوانيا، احتفظت كل منهما بقوانينها وإدارتها، ولكن أصبح لها حكومة واحدة تحت حكم ملك واحد ينتخبه البرلمان (سييم) . وقد سموا هذا الكيان «ريس بوبلكا res publica» وهي كلمة لاتينية معناها «الجمهورية» ، وأُطلَق عليها «جمهورية بولندا وليتوانيا المتحدة» ، أي أن المملكة الجديدة تحوَّلت من ملكية تتحكم فيها طبقة اجتماعية إلى جمهورية ملكية أي جمهورية يحكمها ملك منتخب، وهو أمر فريد في العالم الغربي وربما في العالم بأسره. وكان الملك يُنتخَب انتخاباً مباشراً من قبَل النبلاء. ولم يكن يتم تتويج الملك إلا بعد أن يُقسم على أنه سيلتزم بميثاق يحوي العديد من البنود، مثل: قبوله بأن يُختار الملك بالانتخاب وأن عليه دعوة البرلمان للاجتماع والموافقة على أن يقوم ستة عشر سناتوراً بالرقابة على السياسة الملكية وأن يحافظ على امتيازات النبلاء وحقهم في الموافقة على فرض الضرائب وإعلان الحروب وتوقيع المعاهدات. ومن ثم كانت السيادة الكاملة للنبلاء، وأصبح الملك مثل المدير الذي يتم التعاقد معه لتنفيذ خطة محددة موضوعة له. وكانت سلطة ملك بولندا أقل كثيراً من سلطة ملك إنجلترا الذي كان يملك ولا يحكم، فهذا كان لا يملك ولا يحكم. ووصل نظام الجمهورية الملكية إلى قمة سخفه في نظام الليبروم فيتو librum veto (وهي عبارة لاتينية تعني «الفيتو الحر» ) وهو نظام يعطي لأي عضو(11/350)
في البرلمان حق الفيتو وهو ما كان يعني ضرورة أن تَصدُر القرارات بالإجماع. وقد أصاب هذا النظام البرلمان بالشلل وزاد تفكك بولندا وتحوُّلها إلى أقسام يحكم كلاًّ منها نبيل أو ربما يتحكم فيه.
وتزامنت عملية تقنين سلطة النبلاء مع عدة عمليات تاريخية داخلية وخارجية:
1 ـ شهدت سبعينيات القرن السادس عشر ازدهار بولندا التجاري نتيجة تحوُّلها إلى معبر للتجارة بين الشرق المسلم والغرب المسيحي، فهي بلد يقع في قلب أوربا ويمتد من بحر البلطيق إلى البحر الأسود، أي من السويد وروسيا وألمانيا وبمحاذاة العديد من بلاد أوربا ووسطها ليصل إلى حدود الدولة العثمانية. وبدأت بولندا في تصدير العديد من السلع الغذائية. واستفاد النبلاء من هذا الوضع إذ احتكروا الاتجار في هذه السلع وراكموا الثروات.
2 ـ شهدت الفترتان من 1496 إلى 1508 ومن 1520 إلى 1532 صدور عدة قوانين شددت قبضة النبلاء على الفلاحين وسلبتهم حريتهم وحولتهم إلى أقنان بحيث أصبحوا ملكية خاصة للنبلاء وأصبحوا مجرد مصدر للعمالة الرخيصة في مزارع البلاد.
3 ـ نجم عن الوحدة بين ليتوانيا وبولندا أن أُتيحت فرصة للاستثمار أمام النبلاء البولنديين في أوكرانيا (1569 ـ 1648) . وانحصر اهتمام النبلاء في ريع ضياعهم في أوكرانيا دون أيِّ إحساس بالمسئولية الإقطاعية تجاه فلاحيهم ودون أية مشاركة في ثقافتهم. وأدَّى هذا إلى تَزايُد استغلال النبلاء للفلاحين في أوكرانيا وخارجها، وتحوَّل نظام الأقنان إلى نظام عبودي إذ لم تكن هناك قوة تقف في وجه النبلاء وتضع حدوداً لاستغلالهم. وقد أصر النبلاء على حقهم المطلق في إقرار الحياة والموت بالنسبة إلى الأقنان. وظل رجال الكنيسة وسكان المدن اليهود (أي الجماعات التي كان يتقرر وضعها بموجب مواثيق ملكية) خارج نطاق تحكُّم النبلاء. واستمر استقلالهم، ولكنهم لم يشتركوا في البرلمان أو في انتخاب الملك باستثناء بعض كبار رجال الكنيسة.(11/351)
وكانت ثقافة الشلاختا تدعو للمساواة التامة بين مختلف النبلاء دون تفرقة على أساس الثروة أو النفوذ. ولم يكن هناك تمييز بين كبار النبلاء والشريحة المتوسطة منهم أو ما كان يُسمَّى «النبلاء الحفاة» أو «سابلة النبلاء» وهو عدد هائل من النبلاء الذين كانوا لا يملكون أرضاً ولا ثروة، ومع هذا كانوا أعضاء في طبقة الشلاختا.
ويُلاحَظ أن طبقة النبلاء، في مختلف بلاد أوربا، كانت لا تزيد على 1 ـ 2% من مجموع السكان. أما الشلاختا، فكانت تصل إلى ما بين 8% و12%. ولذا، كانت تُعَدُّ أكبر طبقة لها حق الانتخاب في أوربا في ذلك الوقت.
ورغم مجموعة القيم الديمقراطية التي تَمسَّك بها أعضاء الشلاختا، أو ربما بسببها، فإنهم كانوا مسئولين إلى حدٍّ كبير عن ضعف بولندا واختفائها في نهاية الأمر. فقد اهتم النبلاء كل بمصلحته الخاصة وهو أمر لم يكن ليَخفَى على الدول المجاورة (ذات الأطماع في بولندا) التي أخذت تتدخل في السياسات الداخلية لبولندا من خلال النبلاء وتتحكم فيها، وهو ما أدَّى إلى تَزايُد النفوذ الأجنبي. وتزامنت هذه المرحلة مع ظهور الملكيات المطلقة ذات السلطة المركزية في بقية أوربا وظهور ألمانيا وروسيا والنمسا كإمبراطوريتين لهما أطماع في بولندا.(11/352)
وحدث تَطوُّر مُتوقَّع داخل طبقة النبلاء ذاتها إذ أخذت شريحة كبار النبلاء (التي كانت تضم حوالي ثلاثمائة أسرة) في التبلور كأقلية تتحكم في طبقة النبلاء نفسها، وفي الوظائف الأساسية في الدولة ومن ثم في بولندا بأسرها. وكانت ثروات كبار النبلاء أكبر من ثروات الملك، كما كانت ضياعهم دولة داخل دولة فعلاً، ويعيش فيها مئات الألوف من الأقنان/العبيد. وكان حجم بعضها أكبر من حجم بعض الدوقيات الألمانية، كما كانت تتبع كل نبيل قوة مسلحة خاصة به لضمان الأمن الداخلي. وتحوَّل صغار النبلاء إلى موال لهم يمتثلون لأوامرهم. وقد أسس النبلاء مدناً خاصة بهم تتنافس مع المدن الملكية وتفوقها في الثروة والنفوذ، وساهموا في إضعاف الطبقة الوسطى إذ استوعبوا ثروات بولندا وركزوها في أيديهم. ومع اكتشاف أمريكا، وصلت إلى أيديهم كميات كبيرة من الذهب تم استيرادها من العالم الجديد. ولكن الثروات التي راكموها لم يُعَد استثمارها في الاقتصاد، بل بُدِّدت في مظاهر الترف، الأمر الذي أدَّى إلى التضخم وعدم الازدهار الاقتصادي.(11/353)
وقد أدَّى كل هذا إلى استقطاب شديد في المجتمع البولندي بحيث كانت تُوجَد من ناحية طبقة الشلاختا التي على رأسها شريحة كبار النبلاء تتحكم في المجتمع بأسره (دون ضوابط) بمساندة القوى الأجنبية أحياناً، وكانت تُوجَد من ناحية أخرى طبقة عريضة من الفلاحين الذين تحولوا بالتدريج إلى أقنان/عبيد، كما كانت تُوجَد طبقة وسطى هزيلة غير قادرة على النمو بسبب سيطرة كبار النبلاء. ومع تَصاعُد نفوذ النبلاء وضعف نفوذ السلطة المركزية الملكية، تزايد اعتماد اليهود على النبلاء ابتداءً من القرن السابع عشر وانتقل مركز الجاذبية بالنسبة إليهم من غرب ووسط بولندا إلى المناطق الشرقية في أوكرانيا وغيرها. ومن منتصف القرن السابع عشر، أصبحوا الطبقة الثالثة، أو الجماعة الوظيفية الوسيطة بين النبلاء والأقنان. وأصبح أعضاء الجماعة اليهودية أداة النبلاء في ممارسة سلطتهم الجائرة غير المستنيرة. فقام اليهود بمهمة إدارة مزارع النبلاء الكبيرة في أوكرانيا وغيرها تساندهم القوة العسكرية البولندية فيما عُرف بنظام الأرندا، وذلك داخل إطار الإقطاع الاستيطاني في مدنهم الصغيرة (شتتل) التي بناها لهم النبلاء. وكذلك أصبح أعضاء الجماعة أداة النبلاء في كبح جماح الطبقة الوسطى، أو سكان المدن البولندية. فالنبلاء كانوا يفضلون التجار اليهود على غيرهم لأنهم كانوا يحققون لهم عائداً أكبر من العائد الذي يحققه التجار البولنديون أو الألمان. وحتى في المدن البولندية، التي كان محظوراً على اليهود السكنى أو الاتجار فيها، كانت منازل النبلاء تقع خارج نطاق قوانين المدينة، ولذا كان بوسع اليهود أن يقيموا فيها كي يقوموا بنشاطهم التجاري لصالحهم ولصالح النبلاء أيضاً. ومما دعم العلاقة بين اليهود والنبلاء أن النبيل الإقطاعي كان محرماً عليه الاشتغال بالتجارة، كما كان يفقد مكانته ووضعه الطبقي إن فعل، ولذا كان مضطراً لاستخدام وسيط تجاري ليضطلع بهذه الوظيفة نيابة(11/354)
عنه.
وازدهرت الجماعة اليهودية بسبب ارتباطها بالنبلاء الذين كانوا يجدون فيها أداة طيعة لا تمثل أية خطورة عليهم بسبب عزلتها عن السكان ولأنها ليست لها مطالب سياسية على عكس الوسطاء المحليين. ويُقال إن بولندا، في هذه المرحلة، كانت السماء بالنسبة لليهود والجنة بالنسبة للنبلاء، ولكنها كانت تمثل جهنم بالنسبة للأقنان، ويمكن أن نضيف وللتجار البولنديين.
ويمكن أن نرى هنا الجذور الحقيقية للمسألة اليهودية إذ أن تحول اليهود إلى أداة استغلال، أو إلى جماعة وظيفية وسيطة، يعني أنهم كانوا يقفون ضد أغلبية طبقات المجتمع لا يرتبط مصيرهم بمصيره، وخصوصاً أن الطبقة التي ارتبطوا بها لم تكن طبقة وطنية بل طبقة مرتبطة بالنفوذ الأجنبي. ولذا، فحينما ظهرت طبقة بورجوازية وطنية في بولندا، لم يكن بإمكان اليهود أن ينخرطوا في سلكها فظلوا خارجها. كما ارتبطوا بطبقة كانت عملياً مسئولة عن ضعف بولندا وتَحوُّلها من دولة عظمى إلى دويلة صغيرة ثم عن اختفائها نهائياً مع بداية القرن التاسع عشر. واختفت طبقة النبلاء مع تقسيم بولندا وتَحوَّل كثير من النبلاء إلى مهنيين.
ونحن نرى أن علاقة كبار النبلاء باليهود كجماعة وظيفية وسيطة وعميلة، تُستخدَم أداة لامتصاص خيرات البلد وفائض القيمة من جماهيره داخل إطار الإقطاع الاستيطاني والأطر الأخرى، تشبه علاقة الولايات المتحدة بالمستوطنين الصهيونيين داخل إطار الاستعمار الاستيطاني الإحلالي.
بولندا من انتفاضة القوزاق إلى التقسيم
Poland, from the Cossack Uprising to the Partition(11/355)
بدأت الفترة التي تُعرَف باسم «الطوفان» في تاريخ بولندا في منتصف القرن السابع عشر، وهي فترة استمرت نحو ثلاثين عاماً. وشهدت المرحلة السابقة الضعف المتزايد لسلطة الدولة المركزية، وضعف الملكية تحت حكم ملوك الساكسون، وزيادة قوة النبلاء البولنديين (شلاختا) الذين كان يدين بعضهم بالولاء لدول أجنبية. وتزامن ضعف السلطة المركزية مع ظهور دول مجاورة قوية مثل السويد أو روسيا التي بدأت تتحدد معالمها كدولة عظمى. وبدأ الطوفان بثورة القوزاق، وهم جماعة حدودية من الجنود وقطَّاع الطرق كونوا فرقاً شبه عسكرية متجولة، بتشجيع من ملوك بولندا لحماية المنطقة من هجمات التتار. ولكنهم أخذوا يتمردون على الحكم البولندي، واندلعت أول انتفاضة لهم عام 1637. وأعقب ذلك فترة جفاف في أوكرانيا سادت عشرة أعوام، وهو ما زاد بؤس الفلاحين وزاد ضغط اليهود عليهم ليفوا بالالتزامات المالية. ثم هبت العاصفة الحقيقية على شكل انتفاضة بوجدان شميلنكي عام 1648 التي اكتسحت البولنديين وأعوانهم من اليهود. ورغم توقيع معاهدة مع بولندا اعترفت فيها باستقلال دولة القوزاق بزعامة شميلنكي، فإن الصراع في المنطقة استمر دون هوادة. ولم يتمكن أي من الفريقين من إحراز انتصار حاسم. وكان شميلنكي، منذ بداية الثورة، قد عقد تحالفات مع روسيا والدولة العثمانية والتتار، كما وقع معاهدة عام 1654 مع روسيا وُضعت بمقتضاها دولة القوزاق الأوكرانية تحت حماية القيصر، وأصبح القيصر بعدها قيصر روسيا الصغرى (أي أوكرانيا) أيضاً. وهنا دخلت روسيا الحروب مع بولندا التي تحالفت مع التتار. وكانت النتيجة أن أوكرانيا عاشت فترة امتدت 32 عاماً من الغزو الأجنبي والحروب الأهلية والتقلبات الاجتماعية. ودخلت القوات السويدية الحرب عام 1655. وشهدت الفترة أيضاً هجمات الهايدماك وهجمات الفلاحين والأقنان تحت قيادة قوزاق من جماعة الزابروجيان من أتباع شميلنكي (مات عام 1657) ، كما شهدت كذلك(11/356)
تصارعاً بين جماعات القوزاق المختلفة. وانتهى الأمر بتقسيم أوكرانيا بين بولندا وروسيا والدولة العثمانية التي ضمت أجزاء من أوكرانيا، من ضمنها بودوليا، ظلت تحت الحكم العثماني حتى عام 1699. ووقعت معاهدة السلام الأزلي بين روسيا وبولندا عام 1686، ومع هذا اندلعت الحرب مرة أخرى ولم تنته إلا عام 1709 حين انتصرت روسيا على السويد وبولندا.
وتحطَّم الاقتصاد البولندي تماماً في هذه المرحلة إذ توقفت تجارة الحبوب من خلال بحر البلطيق وانخفض مستوى المعيشة (كان مستوى معيشة المواطن البولندي عام 1750 أقل منه عام 1550) ، وتدهورت المدن، وفَقَدت ثلاثة أرباع سكانها، وشهدت بولندا أسوأ تَضخُّم في تاريخها. وهبط عدد سكان بولندا إلى أربعة ملايين عام 1668 وهو يعادل 45% من عدد السكان قبل هذا التاريخ، ثم ارتفع العدد إلى أن بلغ 11.420.000عام 1772.
وكانت هذه المنطقة من أوربا تضم نصف يهود العالم تقريباً. وترى الدراسات الحديثة أن التصورات القديمة الخاصة بأن ثورة شميلنكي أبادت عشرات الألوف من اليهود واجتثت مئات الجماعات هي تصورات مبالغ فيها إذ أن أعداداً كبيرة من اليهود هربت ثم عادت بعد استقرار الأمور بعض الشيء. ومع هذا، ثمة اتفاق على أن هذه الهجمات، ثم الصراعات العسكرية والاجتماعية التي تلتها، أدَّت إلى ضعضعة الوجود اليهودي في بولندا وخلقت جواً من الذعر وعدم الطمأنينة.(11/357)
ورغم أن أعضاء الجماعة اليهودية قاموا بمحاولة إعادة البناء بمساعدة الملك جون كاسيمير (1648ـ 1668) ، إلا أن نفوذه كان ضعيفاً، كما أن رأس المال اليهودي كان قد تبدَّد إلى حدٍّ كبير. وكذلك كان عدم الاستقرار سائداً. ولذا، لم تنجح التجربة هذه المرة، وازدادت الأعباء المالية الملقاة على كاهلهم وعلى كاهل مجالس القهال، وبدأ نمط الهجرة الحديثة بين أعضاء الجماعات، الهجرة من البلاد المتخلفة في شرق أوربا إلى البلاد المتقدمة في غربها والهجرة الاستيطانية إلى العالم الجديد.
وفي منتصف القرن الثامن عشر، كان البناء الطبقي والوظيفي لأعضاء الجماعة اليهودية على النحو التالي:
2ـ3% من كبار التجار.
40% من صغار التجار وضمن ذلك مستأجرو الحانات ويهود الأرندا.
33% من الحرفيين.
10% من الحرف المرتبطة بنشاطات الجماعة اليهودية.
15% من الفقراء والعاطلين والمتسولين.(11/358)
وكان معظم الجماهير اليهودية في تلك المرحلة قد ابتعد عن مراكز الدراسات التلمودية والتقاليد الثقافية الحاخامية التي كانت قد بدأت تفقد صلتها بالواقع، وأصبحت غير قادرة على أن الاستجابة للحاجة الروحية لدى الجماهير اليهودية، الأمر الذي أدَّى إلى انتشار القبَّالاه. ورغم أن اليهود كانوا وسطاء ممثلين للإقطاع البولندي، فإنهم اكتسبوا كثيراً من صفات الفلاحين الأوكرانيين والبولنديين بكل خرافاتهم ونزعاتهم الدينية الغيبية، بل تأثروا بتقاليدهم الدينية المسيحية، وخصوصاً بجماعات المنشقين الدينيين الروس وبالخليستي على وجه التحديد. وتزامن ظهور الحركة مع التدهور التدريجي للاقتصاد البولندي إذ طُرد كثير من يهود الأرندا وأصحاب الحانات من القرى والمدن الصغيرة. وتسبَّب كل ذلك في ازدياد تَغلغُل الرؤى القبَّالية، الأمر الذي جعل أعضاء الجماعة اليهودية تربة خصبة للنزعات المشيحانية. ولذلك، ترك شبتاي تسفي أعمق الأثر في بعض قطاعاتهم، وأصبحت بولندا، وخصوصاً بودوليا، مركزاً للحركات الشبتانية والفرانكية على وجه الخصوص.(11/359)
وفي نهاية الأمر، ظهرت الحسيدية في المناطق الزراعية في بولندا التي ضُمَّت فيما بعد إلى روسيا وهي أوكرانيا وروسيا البيضاء. وكانت القيادة الاجتماعية للحركة الحسيدية هي الطبقة الوسطى الصغيرة من بقايا يهود الأرندا ومستأجري الحانات وأصحاب المحال الصغيرة والباعة المتجولين. والحسيدية حركة دينية حلولية تنادي بالتواصل مع الخالق مباشرة، بل الالتصاق به، متجاوزة بذلك المؤسسات الدينية التقليدية، كما أنها تؤكد أهمية التجربة الصوفية والإحساس بالنشوة بشكل يجعلها معادية للنزوع العقلي أو الذهني المجرد للمؤسسات التلمودية. ولكن هذه النزعات نفسها ساهمت في تخفيف البؤس على الجماهير. وأحلَّت الحسيدية التساديك محل الحاخام، والتساديك شكل من أشكال القيادة الكاريزمية في وقت كانت القيادات الحاخامية قد تخلَّت فيه عن مسئوليتها. والتساديك على عكس الحاخام ملتصق بمريديه، يعرف مشاكلهم وبوسعه أن يُدخل على قلوبهم الطمأنينة.
ازداد الصراع بين أعضاء الجماعة والبورجوازية البولندية، فصدرت عام 1720 تشريعات حدَّت من النشاط التجاري لليهود. وهذا الصراع إحدى السمات الأساسية للوجود اليهودي في بولندا، فنتيجةً للتاريخ الاقتصادي المنفصل لأعضاء الجماعة، أي لكونهم جماعة وظيفية وسيطة وأعواناً للأرستقراطية وعملاء لها في إطار الإقطاع الاستيطاني ونظام الأرندا، ونتيجة عزلتهم الحضارية وكونهم عنصراً غريباً مستقلاًّ، كان من الصعب إنشاء تحالف بينهم وبين البورجوازية البولندية، الأمر الذي كان يعني أن يظل اليهود منذ البداية خارج نطاق النضال الثوري. وقد أُلغي مجلس البلاد الأربعة عام 1764. وبلغ عدد يهود بولندا في ذلك العام 749.968 يهودياً (منهم 548.777 في بولندا و201.191 في ليتوانيا) يعيش معظمهم في المدن. وإذا عرفنا أن نصف مليون بولندي فقط كانوا يعيشون في المدن لتبيَّن لنا أن سكان المدن، خصوصاً المدن الصغيرة، كانوا أساساً من اليهود.(11/360)
وقد قُسِّمت بولندا للمرة الأولى عام 1772 ثم قُسِّمت مرة أخرى عام 1793. وحدثت محاولة لإصلاح اليهود كما نُشرت دراسات ومشاريع تهدف إلى تحديث اليهود ودمجهم في الأمة البولندية، وتمت مناقشة المسألة اليهودية في البرلمان البولندي (1788 ـ 1792) ، ولكن قامت معارضة شعبية لعملية الدمج هذه. وشُكِّلت لجنة عام 1790 لبحث المسألة اليهودية قررت وجوب إلغاء ديون القهال أولاً ثم إخضاع أعضاء الجماعة لعملية التنوير.
وأدَّى تقسيم بولندا إلى تقسيم أعضاء الجماعة فيها، فتم ضم عدد من يهود بوزنان إلى بروسيا، وأصبحت جاليشيا تابعة للإمبراطورية النمساوية، وتم ضم يهود المقاطعات الشرقية إلى روسيا.
وحينما اندلعت ثورة كوشتشوكو القومية، اشترك فيها اليهود إلى جانب البولنديين. وكانت مثل هذه اللحظات النادرة من الكفاح الوطني المشترك بوتقة الصهر التي كان يتم من خلالها وإبّانها دمج الجيوب الإثنية والدينية المختلفة في التشكيلات القومية، ولكن لم يُقدَّر لهذه اللحظات أن تتكرر في حالة يهود بولندا. ولم يُقدَّر للاتجاه الاندماجي الاستمرار لعدة أسباب:(11/361)
1 ـ كان الاندماجيون بين اليهود شريحة اجتماعية صغيرة للغاية، تَوجُّهها الثقافي بولندي ويتركز معظم أعضائها في وارسو أو في غيرها من كبرىات المدن. أما الجماهير اليهودية العريضة، فكانت جماهير فقيرة تتحدث اليديشية ولم تتأثر بالقيم التحديثية والقومية الجديدة، كما كانت تعيش داخل مدنها الصغيرة (الشتتل) بمعزل عن الحضارة القومية. وكانت أعداد الجماعة اليهودية في بولندا من الضخامة بحيث أن اليهودي كان يُولَد ويَكبُر ويموت دون أن يضطر إلى الاحتكاك بشكل دائم ويومي مع الحضارة الأم. وأصبحت الجماهير اليهودية ذات ثقافة فلاحية طابعها مسيحي. وحينما نقول ثقافة فلاحية في بولندا، فنحن نقصد أنها ثقافة متخلفة إلى حدٍّ ما، ومنعزلة عن الثقافة العالية وضمن ذلك الثقافة التلمودية نفسها. فانتشرت بين اليهود المعتقدات الشعبية والخرافات، وهو ما جعلهم أقل تَقبُّلاً لمحاولات التحديث والتنوير. ومما ساهم في زيادة الوضع سوءاً الانفجار السكاني بين أعضاء الجماعة اليهودية.
2 ـ ومن أهم العناصر التي أفشلت محاولات الاندماج ميراث الجماعة اليهودية التاريخي والاقتصادي الذي جعلها بمعزل عن التطور القومي البولندي، بل وضعها في مجابهته وجعل يهود بولندا أعداءً لكل الطبقات الأخرى باستثناء بعض قطاعات من طبقة النبلاء. ومعنى هذا أنه كان هناك أساس ثقافي واقتصادي قوي للمواجهة بين البورجوازية البولندية وأعضاء الجماعة اليهودية يحتاج إلى فترة طويلة من الكفاح القومي المشترك حتى يتسنى التوصل إلى أساس مشترك للكفاح والاندماج.(11/362)
كان أعضاء الجماعة مركزين في مناطق حدودية تتصارع عليها دول ذات ثقافات مختلفة بل متصارعة، فكان هناك أولاً بولندا نفسها، ثم روسيا التي كانت تشجع الثقافة الروسية وعمليات الترويس. ومن الناحية الأخرى، كان هناك ألمانيا والنمسا ذات الثقافة الألمانية. وكان اليهود أنفسهم يتحدثون اليديشية وهي رطانة ألمانية دخلت عليها كلمات سلافية. وبعد كل تقسيم، كان يتعيَّن على اليهود، كنوع من الدواعي الأمنية، إعادة صياغة أنفسهم بما يتفق مع ثقافة الدولة المهيمنة. وقد نشأ، على سبيل المثال، صراع داخل شريحة المثقفين اليهود في جاليشيا بين كل من دعاة العبرية والألمانية والبولندية واليديشية. ومثل هذا الجو، الذي لا يتسم بالتحدد الثقافي، لا يساعد كثيراً على تحديد شخصية اليهود الثقافية ولا على الولاء أو الانتماء القومي.
القوزاق
Cossacks
«قوزاق» ، من كلمة «كازاك» ، وهي كلمة تركية مشتقة من كلمة «خزر» ، وكلمة «خزر» مترادفة في لغات شرق أوربا مع «تتري» و «تركي» و «مغولي» و «الساراسين» أي المسلم. ولكنها، مع القرن السادس عشر الميلادي، كانت تشير إلى جماعات من الأقنان السلاف المسيحيين الذين فروا من ضياع النبلاء البولنديين في أوكرانيا واستقروا في أراضي الإستبس على ضفاف نهري الدنيبر والونيستر وفي شبه جزيرة القرم. ويبدو أنهم كانوا من أصل روسي تجري في عروقهم دماء مغولية وتترية، وكانوا يؤمنون بالأرثوذكسية التابعة لبابا روما.(11/363)
وينقسم القوزاق إلى قسمين: القوزاق الأوكرانيون أو قوزاق المدن، وهؤلاء كانوا يعيشون إلى جوار المدن كما كانوا أكثر تحضراً، أما القسم الآخر فكان هو القوزاق الزابروجيان. وهؤلاء كانوا مستقلين تماماً ويعيشون خلف نهر الدنيبر (كلمة «زابروج» تعني «عبر النهر» ) ، وكان تنظيمهم الاجتماعي زراعياً عسكرياً، كما كانوا يعيشون في مراكز محصنة تُسمَّى «السيخ» ، وكانت بمنزلة معسكر وسوق ومركز إداري. وكان السيخ مستقراً نسبياً ويقام في جزر في نهر الدنيبر. وقد كان كل من قوزاق المدن وقوزاق الزابروجيان على علاقة وطيدة.
ومن الإشكاليات الأساسية، التي كانت تواجهها ثورات الفلاحين في دول أوربا، عدم وجود أرض عذراء تمكن زراعتها. ولذا، كانت هذه الثورات تبوء بالفشل. ولكن بالنسبة إلى هؤلاء الفلاحين القوزاق المتمردين، فإن مساحات الإستبس الشاسعة كانت تشكل مجالاً حيوياً لهم. ومكَّنهم ذلك من الإفلات من مصير معظم ثورات الفلاحين، ومن ثم فإنهم نجحوا في تأسيس جمهورية حرة (جمهورية القوزاق الزابروجيان) تخضع للتنظيم العسكري حيث كان كل مواطن جندياً وكان يقود الجيش والجماعة قائد يُسمَّى «أتمان» . ولا ندري أيمكن أن يكون هؤلاء الفلاحون قد أطلقوا على أنفسهم اسم «قوزاق» باعتبار أنهم أحرار مثل التتار، ومن أعضاء القطيع الذهبي مثل المغول، أم أن النبلاء البولنديين سموهم بذلك الاسم احتقاراً لهم. وقد تزايدت صفوفهم بانضمام عناصر من سائر الأنواع والأجناس؛ من فقراء ونبلاء وتتر بل ويهود.(11/364)
استفادت بولندا، في بداية الأمر، من جماعة قوزاق المدن في حماية حدودها ضد هجمات التتار والمغول. ولكن القوة الروسية الصاعدة تبنت قضيتهم وشجعتهم باعتبارهم وسيلة لفصل أوكرانيا عن بولندا التي كانت تستغلها عن طريق الإقطاع الاستيطاني ويهود الأرندا. وتحالف قوزاق المدن وقوزاق الزابروجيان تحت قيادة شميلنكي (أهم قادة القوزاق) الذي قاد الانتفاضة ضد الحكم البولندي ونجح في طرد البولنديين والاستقلال بأوكرانيا التي انضمت إلى روسيا القيصرية. واستخدم القياصرة جيوش القوزاق فيما بعد في غزواتهم وفي عمليات القمع الداخلي. وتُعدُّ جماعات الهايدماك أيضاً من جماعات القوزاق.
الهايدماك
Haidmaks
«هايدماك» من الكلمة التركية «هايدا» بمعنى «ينتقل» . والهايدماك جماعات شبه عسكرية من القوزاق والفلاحين قامت بالهجوم على التجار من سكان المدن في أوكرانيا البولندية في القرن الثامن عشر، وهي منطقة كانت تضم تجمعات يهودية كبيرة. وكانت صفوفهم تضم الأقنان الهاربين من نير الإقطاع البولندي إلى مناطق الإستبس، كما كانت تضم فقراء المدن وأبناء النبلاء الفقراء ورجال الدين وبعض أعضاء الفرق الدينية المهرطقة الهاربين من روسيا وبعض التتر المسلمين بل وبعض اليهود أحياناً. والهايدماك نتاج التفاعلات الاجتماعية في أوكرانيا التي بدأت في نهاية القرن السادس عشر ووصلت إلى قمتها مع الانتفاضة الشعبية التي قادها شميلنكي لذي كان الهايدماك يعتبرون أنفسهم ورثته، ومن هنا كان عداؤهم للاستغلال ولأهل المدن واليهود. وابتداءً من عام 1720، لم يمر عام دون أن تظهر جماعة منهم.(11/365)
وفي عامي 1739 و1750، نجح الهايدماك في الاستيلاء على عدة مدن بولندية صغيرة في المنطقة الشرقية، وقتلوا عدداً من اليهود البولنديين. ولكن أسوأ المذابح وقعت عام 1768 في مدينة أومان حين قُتل عشرون ألف بولندي من بينهم بضعة آلاف من اليهود، ولكن لا يمكن التحقق من دقة هذه الأعداد بسبب التهويل الذي يميل إليه الراصدون المعاصرون لتلك الأحداث.
وقامت الحكومتان البولندية والروسية بمقاومة الهايدماك حتى نجحتا في إخماد نشاطهم في نهاية الأمر. وأدَّت هجمات الهايدماك إلى تحطيم معنويات أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا وإلى إفقارهم وتجذير الإحساس لديهم بعدم الطمأنينة وغياب الاستقرار.
المعبد/ القلعة
Fortress Synagogue
«المعبد/القلعة» هو معبد يهودي كان يُستخدَم للعبادة والقتال. والمعبد/القلعة ظاهرة فريدة في تاريخ الطرز المعمارية لأماكن العبادة، إذ من المحتمل ألا يكون له أي نظير. وقد ظهر في بولندا، وبخاصة في المناطق الحدودية التي تفصل بينها وبين روسيا. وكان أعضاء الجماعة اليهودية يقومون بالعبادة والدراسة في مثل هذه المعابد، التي كانت مصممة بطريقة يمكن استخدامها كحصون وقلاع عسكرية في آن واحد.(11/366)
ونشأت الحاجة لمثل هذا الطراز من المعابد في إطار الإقطاع الاستيطاني البولندي في أوكرانيا. فقد وظَّف النبلاء البولنديون (شلاختا) بعض أعضاء الجماعة اليهودية في عملية اعتصار أكبر قدر ممكن من الأرباح من الفلاحين الأوكرانيين. فأصبحت الجماعة اليهودية جماعة وظيفية من الوكلاء الماليين (أرنداتور) يعيشون في مدن خاصة بهم (شتتلات) منعزلين لغوياً ودينياً واجتماعياً وثقافياً عن جماهير الفلاحين. وكانت الجماعة اليهودية محل سخط الجماهير وغضبها (كما هو الحال مع أعضاء الجماعات الوظيفية، وخصوصاً العميلة) ولذا كانت القوات العسكرية البولندية تقوم بحمايتها من الجماهير ومن الانتفاضات الشعبية المحتملة. ومع هذا كان أعضاء الجماعة اليهودية يتدربون على السلاح، وكان عليهم الاحتفاظ بأسلحة بعدد الذكور القادرين على حملها، وبكمية معيَّنة من البارود (حسبما كانت تنص العقود المبرمة بين النبلاء البولنديين ووكلائهم اليهود) .
وكانت هذه المعابد/القلاع مصممة بطريقة تجعل بالإمكان استخدامها كمكان للعبادة والدراسة وكحصون وقلاع عسكرية. فكانت تُزوَّد بحوائط سميكة للغاية، كما أن المتاريس (حاجز السقف أو الشرفة) مزودة بكوات لتخرج منها المدافع والبنادق، أثناء الاشتباك مع الجماهير. ومن أشهر المعابد/القلاع معبد لتسكLutsk الذي بُني عام 1626 لخدمة الأغراض العسكرية بالدرجة الأولى. وصدر قرار ملكي ببنائه كان ينص على ضرورة أن يلتزم اليهود بتزويد معبدهم هذا بكوات من الجهات الأربع وبالسلاح الكافي (على نفقتهم) ، كما يجب أن يكون المعبد/القلعة مزوداً بعدد من الرجال يكفي لصد الهجمات عليه. وصدر أمر لمعبد ريسيسوف بأن يزود نفسه بالبنادق والرصاص والبارود. وكانت المعابد/القلاع تزود عادةً ببرج مراقبة ضخم (كان يُستخدَم في زمن السلم كسجن يُودَع فيه المجرمون من أعضاء اليهودية) .(11/367)
ونقاط التشابه بين المعبد/القلعة والدولة الصهيونية أمر مثير للغاية، يستحق التأمل لدلالته وطرافته. لكل هذا فنحن نرى أن المعبد/القلعة خير رمز للدولة/القلعة، بل يمكن القول بأن النموذج كان كامناً وحسب في حالة المعبد/القلعة، فأعضاء الجماعات اليهودية كانوا يحملون أساساً رأسمالهم (الربوي) وخبرتهم الإدارية معهم، وكانت عملية القتال موكلة للقوات العسكرية البولندية، وكان الهدف من حمل السلاح دفاعياً ومؤقتاً لحين وصول هذه القوات. أما في حالة الدولة/القلعة فقد اكتملت الأمور تماماًز
وأصبح العنصر البشري العميل يحمل السلاح بالدرجة الأولى (فوظيفته المالية ثانوية بالنسبة لوظيفة الإستراتيجية القتالية) وظهرت الطبيعة العسكرية للدولة المعبد/القلعة. ومع هذا لوحظ أثناء حرب عام 1973 أن القوات الإسرائيلية كانت تشبه تماماً الجماعة اليهودية في أوكرانيا، إذ استمرت في القتال بشكل دفاعي ومؤقت لحين تشغيل الجسر الجوي ووصول الأسلحة المتقدمة من الولايات المتحدة. وفيما يلي نقاط التشابه الأساسية بين المعبد/القلعة والدولة/القلعة:
المعبد/القلعة
عنصر بشري مشتول قام بغرسه عنصر خارجي (النبلاء البولنديون) في منطقة حدودية (أوكرانيا) لخدمة مصلحته المالية ولقمع السكان الأصليين (الشعب الأوكراني)
العنصر المغروس تَحوَّل إلى جماعة وظيفية عميلة تعيش في شتتلات معزولة
كان من المتوقع ألا يذعن العنصر البشري المقهور
كان من الضروري تسليح أعضاء الجماعة الوظيفية
ظهور المعبد/القلعة
انتفاضات مستمرة أهمها انتفاضة شميلنكي
الدولة/القلعة
عنصر بشري مشتول قام بغرسه عنصر خارجي (الإمبريالية الغربية) في منطقة حدودية (فلسطين من وجهة نظر الغرب تقع على الحدود التي تفصل بين الغرب والشرق) لخدمة مصلحته الإستراتيجية والمالية ولقمع السكان ا» لأصليين (الشعب الفلسطيني)
العنصر المغروس تَحوَّل إلى دولة وظيفية عميلة معزولة عما حولها(11/368)
كان من المتوقع ألا يذعن العنصر البشري المقهور
كان من الضروري تسليح الدولة الوظيفية
ظهور الدولة/القلعة
انتفاضات مستمرة آخرها الانتفاضة المباركة عام 1987
الباب التاسع: بولندا من التقسيم حتى الوقت الحاضر
تقسيم بولندا
Partition of Poland
من أهم الأحداث التاريخية التي تقع خارج نطاق ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» ، والتي أثرت في الجماعة اليهودية في شرق أوربا (يهود اليديشية) تأثيراً عميقاً، تقسيم مملكة بولندا في الفترة 1772 ـ 1795. كان التقسيم الأول عام 1772 والثاني عام 1793 والثالث عام 1795. واستغرقت العملية خمسة وعشرين عاماً ثم مرت خمسة وعشرون عاماً أخرى حتى تم تثبيت الحدود.
التقسيم الأول (1772) :
ضمت روسيا المنطقة التي تعرف باسم روسيا البيضاء (بيلوروسيا) في شمال شرق بولندا. أما الأجزاء الجنوبية الغربية المعروفة باسم جاليشيا (أو روسيا الحمراء) ، فضُمَّت إلى النمسا. كما ضمت بروسيا أجزاء من غرب بولندا، ففقدت بولندا بذلك ثُلث أراضيها وخُمس سكانها. وكان هذا يعني أن ثُلث يهود بولندا أصبحوا تحت حكم كل من النمسا وروسيا وبروسيا، وكانت أغلبيتهم في جاليشيا (التابعة للنمسا) .
التقسيم الثاني (1793) :
زادت كل من روسيا وبروسيا ممتلكاتهما، فقسمتا نصف بولندا تقريباً فيما بينهما.
التقسيم الثالث (1795) :
تم تقسيم البقية الباقية من بولندا بين روسيا وبروسيا والنمسا. وأدَّى التقسيمان الثاني والثالث إلى توزيع 800.000 يهودي بين النمسا وبروسيا وروسيا.
التقسيم الرابع (1815) :(11/369)
ظهر نابليون عام 1806 وأسس دوقية وارسو التي اقتطعها من الجزء الذي كان قد ضُمَّ إلى بروسيا عام 1793، ثم ضم إليها أجزاء من المنطقة التي كانت النمسا قد ضمتها. ولكن، في مؤتمر فيينا عام 1815، رُسمت الخريطة السياسية فيما يعتبر التقسيم الرابع، فأبقت النمسا على جاليشيا، وضمت بروسيا ثورن والمناطق المجاورة التي اتحدت مع بقية المناطق البولندية التي ضمتها بروسيا وسميت دوقية بوزنان، وظهرت دولة كراكوف الحرة واستمرت حتى عام 1846 حيث ضمتها النمسا إلى جاليشيا. أما روسيا، فاحتفظت بغنائمها التي حصلت عليها في التقسيمين الأول والثاني وضمت المقاطعات الجنوبية والغربية. أما الجزء الأوسط من بولندا، أي مقاطعة وارسو، فأصبح مملكة بولندا، وهي كيان سياسي شبه مستقل كان يتبع روسيا إلى أن أصبح مقاطعة روسية بعد عام 1831.
التقسيم الخامس (1939) :
بعد الحرب العالمية الأولى، والحرب الروسية ـ البولندية (1920 ـ 1921) ثم معاهدة ريجا بين روسيا وبولندا (مارس1921) ، تقررت حدود بولندا وأصبحت مضمونة بموجب معاهدة عدم الاعتداء السوفيتية البولندية (1932) التي تم تجديدها سنة 1934 لعشرة أعوام. ويرى بعض المؤرخين أن تقسيم بولندا بين ألمانيا وروسيا هو التقسيم الخامس، وهو التقسيم الذي تقرر بناءً على البنود السرية للاتفاق الألماني السوفيتي المؤرخ في 23 أغسطس 1939. وفي أعقاب هذا الاتفاق، غزت القوات الألمانية الأراضي البولندية في الأول من سبتمبر 1939، وغزت القوات السوفيتية شرق بولندا خارقة بذلك معاهدة عدم الاعتداء المجددة عام 1934.
بوزنان
Poznan(11/370)
مدينة في بولندا الكبرى، وبوزنان عاصمة مقاطعة تحمل الاسم نفسه. وفي الألمانية، يشار لكل من المقاطعة والمدينة بكلمة «بوزن» . وقد استقر فيها اليهود منذ أواخر القرن الرابع عشر حيث كانت أحد أهم المراكز اليهودية. وقد نشأت صراعات بين أعضاء الجماعة اليهودية (10% من مجموع سكان المدينة) وبقية السكان الذين حاولوا أن يقفوا ضد تجارة القطاعي اليهودية وأن يحددوا عدد منازل اليهود ويطردوا القادمين الجدد منهم. واستمرت هذه المحاولات حتى بداية القرن السابع عشر. ومع هذا، كانت أحوال الجماعة جيدة بشكل عام، فكانوا يقومون بوظيفة مهمة في المجتمع وكانوا موضوعين تحت حماية الملك.
ومع القرن السابع عشر، بدأ التدهور الحقيقي؛ إذ زادت الضرائب، وبدأ يتوافد تجار ألمان من سيليزيا ليشكلوا منافسة قوية للتجار اليهود، وغرق القهال في الديون (ولم تُحل هذه المسألة إلا في منتصف القرن الـ 19) ، وواجه التجار اليهود صعوبات غير عادية في الأسواق التجارية في فرانكفورت وبراندنبرج وغيرها. وازداد حال اليهود سوءاً خلال الحرب السويدية (1655ـ 1660) ، إذ أدَّى التدهور الاقتصادي إلى زيادة حدة الصراعات الاجتماعية وتَناقُص عدد السكان، وإهمال التعليم الديني.
ولم يختلف الوضع كثيراً في القرن الثامن عشر، فقد ترك اليهود المدينة بأعداد متزايدة، ولم يتمكن من تَبَقَّى منهم أن يفعل أي شيء. وظل هذا الوضع إلى أن ضُمت بوزنان (المدينة والمقاطعة) إلى بروسيا عام 1793. وبذا، كانت بروسيا تضم عام 1807 نحو 200 ألف يهودي. ثم ضمت بوزنان إلى دوقية وارسو التي أسسها نابليون ثم أُعيدت إلى الحكم البروسي عام 1815.(11/371)
وطبَّقت بروسيا، في بداية الأمر، القوانين الصادرة عام 1750 التي كانت تهدف إلى الحد من عدد اليهود والإبقاء على الأثرياء مهنم فقط. ولكن، بعد ذلك، تم التخلي عن هذه السياسة، وتبنت البيروقراطية الألمانية سياسة ممالئة للعنصر اليهودي الذي يتحدث اليديشية باعتباره عنصراً ألمانيا يمكن الاعتماد عليه مقابل العنصر البولندي السلافي.
وتسبَّب ذلك في عزل أعضاء الجماعة عن العناصر البولندية. وحينما أُلغي الاستقلال الشكلي لدوقية بوزنان الكبرى وأصبحت مقاطعة بروسية، أصبح سائر اليهود مواطنين بروسيين لعبوا دوراً أكثر نشاطاً في الحرب الدائرة بين الاتجاه الداعي إلى ألمنتها والاتجاه الداعي إلى صبغها بالصبغة البولندية. وبطبيعة الحال، كان أعضاء الجماعة ضمن مؤيدي الاتجاه الأول. لكل هذا، كانت الحركات البولندية تهاجم اليهود باعتبارهم عناصر ألمانية معادية. وعندما ظهرت المحاولات البولندية القومية للاستقلال الاقتصادي التي أخذت شكل تعاونيات ومصارف ومشاريع اقتصادية أخرى، كان لها اتجاه معاد لليهود. ونتج عن ذلك هجرة يهودية من المدن الصغيرة إلى المدن الكبيرة، وصاحب ذلك انتقال من التجارة المحلية إلى العمل في المصارف والصناعة والمهن. ثم اتجهت الهجرة نحو بروسيا، وخصوصاً برلين وبرسلاو، وأخيراً نحو الولايات المتحدة. وقد تناقص عدد سكان بوزنان اليهود من 76.757 (5.7%) عام 1849 إلى 26.512 (1.26%) عام 1910. وكانت نسبة كبيرة من يهود المدن الألمانية الكبرى من يهود بوزنان. وبعد ضم بوزنان إلى بولندا، بعد الحرب العالمية الأولى، هاجرت البقية الباقية إلى ألمانيا ولم يبق سوى بضعة آلاف.
وتسبَّب وضع بوزنان الحدودي في مشكلتين:
1 ـ فصل العنصر البولندي اليهودي عن الحركة القومية البولندية، وهو ما جعلها معادية لليهود لتعاونهم مع الألمان.(11/372)
2 ـ تسببت هجرة يهود بوزنان، إلى المدن الألمانية الأساسية، في إعادة صبغ يهود ألمانيا بصبغة شرق أوربية. فيهود ألمانيا الأصليون كانوا مندمجين في محيطهم الحضاري تماماً، وكانوا لا يتحدثون سوى الألمانية، كما كانوا يدافعون عن القومية العضوية الألمانية ويتبنون أسلوب الحياة الألماني. أما يهود شرق أوربا، فلم يتم صبغهم بالصبغة الألمانية إلا في مرحلة متأخرة، ولذا كانت هويتهم الألمانية سطحية وضعيفة، بل واحتفظوا بكثير من ملامح شخصيتهم الشرق أوربية اليديشية. كما كانت تنتشر بينهم الأفكار الصهيونية.
تزايد عدد المهاجرين من يهود بوزنان، ويهود اليديشية بشكل عام، حتى أصبح لهم وزن عددي كبير. وأدَّى ذلك إلى إعادة تعريف كلمة «يهودي» في العقل الألماني بحيث تمت المساواة بين يهود اليديشية الغرباء ويهود ألمانيا المندمجين، وأصبح الجميع يهوداً غرباء. ولكن الأهم من ذلك أنهم لم يكونوا غرباء وحسب وإنما كانوا أيضاً «إيست يودين» ، أي يهوداً شرق أوربيين من أصل سلافي. والشعوب السلافية، بحسب النظرة النازية، كانت تُعتبَر المجال الحيوي لألمانيا، كما كانت هدفاً للعنصرية النازية. فكأن هجرة يهود اليديشية، وضمنهم يهود بوزنان، ساهمت في إعادة تصنيف يهود ألمانيا من «العنصر الغريب الذي لابد من دمجه» إلى «العنصر الغريب الذي لابد من نبذه» ، فهو إذن ليس «الغريب» وحسب وإنما هو، أيضاً «الغريم» .
جوزيف بيلسودسكي (1867-1935)
Jozef Pilsudski(11/373)
رجل دولة بولندي وابن أحد فقراء طبقة النبلاء (شلاختا) . وُلد في فلنا (ليتوانيا) ودرس الطب. ناضل منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر من أجل استقلال بولندا عن روسيا القيصرية، وقُبض عليه عام 1887 بتهمة محاولة اغتيال قيصر روسيا الإسكندر الثالث. وفر إلى سيبريا، ولكنه عاد منها وقد ازداد إصراراً على تحرير بولندا، فانضم للحزب الاشتراكي البولندي وأصبح قائداً له وحرَّر مجلته السرية. وفي عام 1909، قُبض عليه مرة أخرى وسُجن في قلعة وارسو، فادَّعى الجنون ببراعة فائقة ونُقل إلى مستشفى عسكري في روسيا حيث فر منها. وحينما اندلعت الحرب الروسية اليابانية، اتجه بيلسودسكي إلى اليابان بحثاً عن مساعدة له في التمرد الشعبي الذي كان ينوي تنظيمه ضد روسيا. وكوَّن نواة الجيش البولندي بأموال سرقها من قطار بريد روسي. وحينما اندلعت الحرب العالمية الأولى، حاربت قواته مع القوات النمساوية والألمانية ضد روسيا، ولكن الألمان رفضوا الاعتراف باستقلال بولندا وألقوا القبض عليه عام 1917. ولكنه أُفرج عنه بعد هزيمة ألمانيا، وعاد إلى بولندا حيث استُقبل استقبال الأبطال في 10 نوفمبر 1918. وبعد أربعة أيام من وصوله، قَبل منصب رئيس الدولة. وبذلك أصبح أول رئيس لدولة بولندا المستقلة في العصر الحديث، وظل يشغل المنصب في الفترة 1918 ـ 1923. وكان بيلسودسكي يهدف إلى إنشاء دولة فيدرالية تضم ليتوانيا وأوكرانيا وبولندا. وحينما قام الجيش الأحمر عام 1920 بهجوم على بولندا، صده بيلسودسكي محققاً النصر لبولندا.(11/374)
وبعد صدور دستور بولندا الجديد عام 1922، عُقدت انتخابات عامة تخلى بيلسودسكي بعدها عن سلطاته وعمل قائداً للجيش. وحينما وصل الحزب اليميني إلى الحكم، استقال بيلسودسكي من منصبه واعتزل الحياة السياسية (مؤقتاً) عام 1923. وحين وجد أن المناقشات البرلمانية التي لا تنتهي ستودي بالدولة الجديدة، استولى على الحكم بدعم من الأحزاب اليسارية، رافضاً منصب رئيس الدولة واكتفى بمنصب وزير الحرب، ولكنه كان القوة المحركة من وراء الستار. وفي عام 1930، تخلى عنه أصدقاؤه اليساريون لتحالفه مع كبار الملاك وبدأوا حملة لإسقاط الديكتاتور، على حد قولهم، فرد عليهم بيلسودسكي بمنتهى العنف إذ ألقى القبض عليهم وحكم بولندا من خلال أعوانه الجدد.(11/375)
احتك بيلسودسكي بأعضاء الجماعة اليهودية في بولندا، وخصوصاً العمال منهم، في مقتبل حياته السياسية. وأسس الحزب الاشتراكي البولندي الذي أصدر مجلة باللغة اليديشية، إلا أنه هاجم حزب البوند بشدة باعتباره يمثل الانفصال الديني والتجاري اليهودي ويفضل الترويس ويعارض الاستقلال البولندي. وعندما استولى بيلسودسكي على السلطة عام 1926، زاد تَدخُّل الدولة في الشئون الداخلية للجماعة اليهودية كما فرضت قيوداً متزايدة على نشاطهم الاقتصادي والاجتماعي. ومما يُذكَر أن وضع الجماعة اليهودية في بولندا كان وضعاً قلقاً نظراً لميراثهم التاريخي المرتبط بطبقة النبلاء (شلاختا) التي استغلت الجماهير البولندية وعملت ضد المصالح القومية للبلاد. وبالتالي، جاء استقلال بولندا ليعمق عزلة الجماعة اليهودية في بولندا ويتجه إلى لفظها. وعزز هذا الاتجاه أيضاً نمو طبقة تجارية بولندية بدأت، ومعها الدولة البولندية، في الاضطلاع بالوظائف الوسيطة التقليدية لأعضاء الجماعة اليهودية. وفي عام 1934. أبرمت حكومة بيلسودسكي معاهدة مع هتلر بعد أن أدرك أن فرنسا غير قادرة على حماية بولندا ضد ألمانيا التي بدأت في إعادة تسليح نفسها. وحاول هتلر إقناع بيلسودسكي بالانضمام إليه في الهجوم على روسيا، ولكن بيلسودسكي رفض، وجدد معاهدة عدم الاعتداء مع روسيا. ومات بيلسودسكي عام 1935 في وارسو.
بولندا بعد التقسيم حتى الحرب العالمية الثانية
Poland, from the Partition to the Second World War
بعد تقسيم بولندا (1772 - 1795) ، تم ضم أغلبية يهود بولندا إلى بلاد أوربية أخرى هي: النمسا وبروسيا وأساساً روسيا. وبحلول عام 1828 كان ثلثا يهود بولندا يعيشون في مدن صغيرة (شتتلات) ويشكلون 50% من سكانها، يعملون تجاراً صغاراً ويمارسون بعض الحرف مثل تقطير الخمور والصناعات المنزلية، وخصوصاً النسيج، دون تَدخُّل كبير من الحكومة المركزية الضعيفة.(11/376)
وبدأت عملية دمج أعضاء الجماعة اليهودية أو تحديثهم مع دخول نابليون بولندا عام 1807 الذي منحهم حقوقهم المدنية وطبق عليهم القرارات نفسها التي طُبقت عليهم في فرنسا وهي أن الحقوق تمنح لليهود بمقدار استعدادهم للاندماج، ولذا حُجبت الحقوق السياسية عنهم لمدة عشرة أعوام تُعَد فترة انتقالية كان عليهم أن يتخلصوا خلالها من سماتهم الخاصة وأن يندمجوا في بيئتهم. ثم عُقد، عام 1815، مؤتمر فيينا الذي حوَّل بولندا إلى مملكة مستقلة تحت حكم القيصر. وكان دستورها يتضمن بنوداً تحمي حقوق اليهود وتزيدها بمقدار اندماجهم في المجتمع. وكتب أحد الأساقفة البولنديين إلى المفكر الألماني اليهودي المستنير ديفيد فرايدلندر يسأله عن أفضل السبل لإصلاح (أي تحديث) يهود بولندا، فاقترح ضرورة تدريب اليهود على الحياة المتحضرة قبل إعطائهم حقوقهم المدنية، أي أنه اقترح عليه عملية التحديث الأوتوقراطي (من أعلى) التي طُبِّقت في روسيا. بعد ذلك، كوَّن بعض اليهود الأثرياء (من التجار المندمجين وأعضاء المهن الحرة) لجنة المؤمنين بالعهد القديم عام 1825 لتطوير التعليم اليهودي، وبالفعل تأسست مدرسة حاخامية حديثة. وعلى مستوى التحديث الاقتصادي، أُلغي القهال عام 1822، كما فُرضت ضريبة على تجار الخمور اليهود (وهذه من بقايا نظام الأرندا) حتى يتركوا هذه الوظيفة التي كانت تسبب سخط الجماهير ضدهم، ولتشجيعهم على الاشتغال بالزراعة. وقد ظهرت طبقة من المثقفين البولنديين اليهود، في وارسو أساساً، انتماؤهم القومي لبولندا أكثر تحدداً ووضوحاً. ومع هذا، لم يحرز أعضاء الجماعة اليهودية نجاحاً كبيراً في مجال محاولة الاندماج بسبب عدم اكتراث البورجوازية البولندية بهم وعدم ثقتها فيهم. كما يُلاحَظ أن اليهود خارج وارسو لم يُظهروا ميلاً كبيراً لعملية الدمج والتحديث. وصدر مرسوم روسي عام 1862 أعطى اليهود حرية بيع وشراء الأرض والمنازل والسكنى أينما شاءوا، وأُبطل(11/377)
القَسَم اليهودي، كما مُنع استخدام العبرية واليديشية لتعميق دمجهم واندماجهم. وحينما اندلع تمرد عام 1863، لم تشترك فيه أعداد كبيرة من اليهود، كما أن يهود ليتوانيا وقفوا ضده. وحينما بدأ الروس في التنكيل بالثوار، لم ينل اليهود منهم أي أذى، الأمر الذي أبعدهم عن الحركة القومية البولندية.
وفي عام 1870، بدأت الحركة القومية البولندية تأخذ طابعاً معادياً لليهود (باعتبارهم جماعة وظيفية مالية) ، فطالبت بصبغ التجارة والصناعة بالطابع البولندي، واتهمت رأس المال اليهودي بأنه غريب وبأن الجماهير اليهودية معادية للحضارة الحديثة جاهلة بها. وتم تأسيس أحزاب قومية شعبية بولندية جعلت الحرب ضد دمج اليهود هدفاً أساسياً لها، كما بدأت تظهر بين أعضاء الجماعة اليهودية الاتجاهات الصهيونية. وتجدر الإشارة إلى أنه، رغم تدني أحوال اليهود بشكل عام، كانت تُوجَد طبقة ثرية تشغل مراكز مهمة في التجارة الخارجية وفي تجارة الأخشاب والغلال وفي المهن الحرة.
ومع الحرب العالمية الأولى، كان وضع يهود روسيا وبولندا متشابهاً في كثير من النواحي، من أهمها الانفجار السكاني. ويُلاحَظ أنه، مع عام 1772، كان في بولندا 70% من يهود العالم وأكثر من 80% من الإشكناز (وهو القطاع الذي أفرز الصهيونية ومعظم الحركات اليهودية الأخرى) . وإذا وضعنا في الاعتبار أن اليهود الأصليين، في معظم دول أوربا، اندمجوا في السكان وكانوا لا يشكِّلون كثافة سكانية حقيقية، وأن أعدادهم تزايدت بسبب هجرة أعداد من يهود اليديشية، فيمكن القول بأن كل الجماعات اليهودية التي ظهرت في الغرب في القرنين الأخيرين هي من فروع يهود بولندا، وهو ما يجعل قول هتلر والأدبيات النازية حقيقياً حيث أعلن أن الجيب اليهودي في بولندا ومنطقة الاستيطان هو «المستودع البولندي الذي يُصدِّر الفائض البشري اليهودي وأنه يشكل البنية التحتية البيولوجية لليهودية العالمية» .(11/378)
وتذكر الموسوعة اليهودية أن أعضاء الجماعة اليهودية كانوا يشكلون 6.8% من مجموع سكان بولندا عام 1816، ثم قفز العدد إلى 13% عام 1897، أي أن كل مائة بولندي كان يُوجَد بينهم ثلاثة عشر يهودياً رغم هجرة أعداد كبيرة منهم إلى خارج بولندا. وتُعدُّ هذه من أعلى النسب التي حققها أعضاء الجماعات اليهودية في العصر الحديث. ورغم صعوبة تحديد الأعداد بدقة، باعتبار أن بولندا كانت مُقسَّمة، فيمكن بالاعتماد على عدة مصادر أن تُقرَّب إلى:
الدولة / سنة 1825 / سنة 1900
روسيا قبل الحرب / 1.600.000 / 5.175.000
بولندا / 400.000 / 1.325.000
أوكرانيا، روسيا الجديدة، بيساربيا / 625.000 / 2.300.000
ليتوانيا وروسيا البيضاء / 350.000 / 1.450.000
جاليشيا /275.000 / 811.000
وقد زاد عدد يهود أوربا ككل في تلك الفترة من 2.730.000 إلى 8.960.500، وبلغ عدد يهود بولندا عام 1939 نحو 3.510.000.
ويمكن فهم عزلة يهود بولندا من الإحصاءات التالية:(11/379)
في منتصف القرن التاسع عشر (حوالي عام 1857) ، كانت هناك 181 مدينة بولندية منها 88 (أي نحو نصفها أو 6.48% منها) تضم أغلبية يهودية مطلقة. كما كان هناك 120 مدينة 40% من سكانها يهود، أي أن 66.2% من مدن بولندا كانت ذات طابع يهودي فاقع. وكان 1.5% 9من مجموع يهود بولندا يعيشون في المدن ويشكلون 33% من سكانها مقابل 16.4 % من المواطنين. وكل هذا يعني استقطاباً كاملاً وعزلة تشبه من بعض الوجوه عزلة يهود الأرندا. لكن الصورة لم تتغير كثيراً مع نهاية القرن التاسع عشر. وفي بوزنان، قفز عدد أعضاء الجماعة اليهودية من 2.775 عام 1865 (أي12.2% من مجموع سكان المدينة) إلى 166.628عام 1910 (أي 40.7% من سكانها) . وفي عام 1897، كان أعضاء الجماعة اليهودية يشكلون أكثر من 50% من السكان في 57 مدينة بولندية من واقع 110 مدن. أما المدن التي كان يشكل اليهود أكثر من 40% من سكانها، فكانت 81 مدينة. وحتى عام 1921، كان اليهود يشكلون 40% من عدد السكان في 99 مدينة (من واقع 196 مدينة) . وتزايدت معدلات الهجرة بسبب الضغوط التي مارستها الحكومة على أعضاء الجماعة اليهودية ليتركوا الريف، وبسبب جاذبية المراكز الصناعية.
لكن تَركز يهود بولندا في المدن يعني أيضاً تركزهم في التجارة وعالم المال. ففي المدن البولندية، كان اليهود يشكلون 90% وأحياناً 100% من التجار والحرفيين. وفي نهاية القرن التاسع عشر، كان 18 مصرفاً (من 26 مصرفاً أساسياً في وارسو) في أيدي اليهود أو المسيحيين من أصل يهودي. وظهرت طبقة ثرية يهودية تستثمر في الصناعة، ولكن أغلبية يهود بولندا العظمى كانوا من صغار التجار الفقراء.(11/380)
ورغم تَشوُّه البناء الطبقي لدى يهود بولندا فإنه، مع منتصف القرن، كان الاندماج الاقتصادي لأعضاء الجماعة يتزايد كما يتضح في الوظائف والمهن التي كانوا يشغلونها. ففي عام 1857، كان 44.7% من جملة اليهود يعملون بالتجارة، مقابل 25% فقط في الحرف اليدوية والصناعات. واختلفت النسبة قليلاً عام 1897 إذ انخفض عدد العاملين بالتجارة إلى 42.6%. ولكن الأهم من هذا أن عدد العاملين في الحرف والصناعات زاد إلى 34.3%، كما زاد عدد التجار غير اليهود من 27.9% من مجموع التجار عام 1862 إلى 37.9% عام 1897.
وظهرت طبقة من المهنيين اليهود، وخصوصاً في وارسو، حققت شيئاً من الحراك الاجتماعي. ولكن، مع تعثُّر التحديث في شرق أوربا، وبعد تطبيق بعض قوانين مايو 1888 الروسية (عام 1891) في بولندا، تم طرد أعضاء الجماعة اليهودية من القرى وحُدِّد النصاب المسموح لهم به. ونتج عن ذلك إغلاق أبواب الحراك الاجتماعي أمام هؤلاء المهنيين اليهود. وقد جاءت من صفوفهم معظم الزعامات الصهيونية واليهودية الأخرى. ويُلاحَظ تَحوُّل أعداد كبيرة من يهود روسيا إلى طبقة عاملة صناعية داخل منطقة الاستيطان، وهي ظاهرة ظل يهود بولندا بمنأى عنها، فقد ظلوا تجاراً صغاراً وكباراً وحرفيين تشكل الطبقة العاملة بينهم نسبة صغيرة إن لم تكن ضئيلة.(11/381)
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، كان أعضاء الجماعة اليهودية محط شك القوات الروسية باعتبارهم متعاطفين مع الألمان. وبالفعل، حينما احتل الألمان بولندا عام 1917، تَحسَّن وضع اليهود قليلاً. واتجه الألمان نحو صبغ يهود بولندا بصبغة ألمانية بسبب زيادة العنصر الألماني في المناطق البولندية التي ضمتها ألمانيا. وصدر مرسوم عام 1916 يتضمن الاعتراف باليهود كطائفة دينية لا كطائفة عرْقية. وعارض الصهاينة هذا المرسوم. ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، وجد اليهود أنفسهم في مفترق الطرق بين البولنديين والليتوانيين (في فلنا) ، وبين البولنديين والأوكرانيين (في لفوف) ، ثم بين البولنديين والبولشفيك خلال حرب عام 1920. ولكن، مع استقلال بولندا (1918 ـ 1939) ، تم توحيد العناصر البولندية اليهودية، التي كانت تعيش تحت حكم ألمانيا وروسيا منذ التقسيم، مع بقية بولندا. وبذا، أصبحت بولندا تضم أكبر تَجمُّع يهودي في أوربا، حيث كان 2.845.000 عام 1921 وزاد، نتيجة ضم بعض أراضي بولندا، إلى 3.137.000 (أي 8.9% من السكان عام 1931) ، ثم وصل إلى 3.300.000مع نهاية هذه الفترة.
وعشية عام 1921، كانت نسبة تركُّز أعضاء الجماعة اليهودية في القطاعات الاقتصادية واضطلاعهم بمهن ووظائف معيَّنة يختلف بشكل جوهري عن النسبة على المستوى القومي، كما هو موضح في الجدول التالي:
المهنة / يهود / غير يهود
الزراعة / 9.8% / 80.7%
الصناعة والحرف اليدوية / 32.2% /7.7%
التجارة والتأمين / 35.1% / 1.5%
النقل / 2.7% / 1.7%
المهن الحرة / 4.4% / 2.3%(11/382)
ويُلاحَظ أن 67.3% من يهود بولندا تركزوا في التجارة والتأمين والصناعة والحرف اليدوية مقابل 2.9% من البولنديين. وكان عدد التجار اليهود لا يزال 20 ضعفاً مقارناً بعدد التجار غير اليهود. وتَملَّك اليهود 74 ألف محل مقابل 123 ألف محل للبولنديين كافة. وكان 76% من اليهود يعيشون في المدن ويشكلون 30% من جملة سكان وارسو و35.5% من سكان لودز و 31.5% من سكان لفوف.
وضمنت معاهدة الأقليات في يونية 1919، التي وقعها الحلفاء المنتصرون ومعهم بولندا، حقوق الأقليات الدينية واللغوية ونصت على مساواتهم ببقية المواطنين، كما أعطت اليهود الحق في إدارة مدارسهم. وتم ضم هذه المعاهدة إلى الدستور البولندي الصادر عام 1921. كما نص دستور عام 1935 على تساوي المواطنين كافة أمام القانون. ولكن الحقوق السياسية تختلف في كثير من الأحيان عن الوضع المتعين، فقد ازداد الوضع الاقتصادي لليهود تدنياً وبدأت الفلسفات الشمولية تسيطر على نظم الحكم في أوربا بأسرها، وخصوصاً في ألمانيا. واستولى جوزيف بيلسودسكي على الحكم في بولندا عام 1926 عن طريق انقلاب. ولم يكن هذا الانقلاب معادياً بالضرورة لليهود، فقد نص دستور عام 1935 على تَساوي المواطنين كافة أمام القانون. ولكن الجو العام، والبنية الثقافية والاقتصادية للمجتمع، كانا يلفظان اليهود، فظهر حزب بولندي متطرف ذو توجهات نازية طالب بمصادرة أموال اليهود وطردهم، وأصبح البرلمان البولندي نفسه منبراً لترديد الدعاية المعادية لليهود كعنصر غريب فائض يجب اجتثاثه من المجتمع البولندي. وزاد النشاط الاقتصادي للطبقة الوسطى البولندية في الثلاثينيات، وحاولت أن تحصل على نصيب متزايد من التجارة والمهن، وقامت بحركات مقاطعة للأعمال التجارية التي يمتلكها يهود بولندا وقفت وراءها الدولة. ولأن عملية التنمية في بولندا كانت تتم من خلال الدولة، أكبر ممول رأسمالي آنذاك، فإن عملية تضييق الخناق على أعضاء الجماعة(11/383)
اليهودية اكتسبت أبعاداً ضخمة، فقامت محاولة لاستبعاد أعضاء الجماعة من سلك الحكومة وبنوك الدولة والاحتكارات التي تمتلكها الدولة، مثل صناعة الطباق، واستبعادهم كذلك من سلك التجارة الخارجية (الذي كان مركزاً في أيديهم) . وقامت حركات مقاطعة أيضاً في المهن الحرة والحرف اليدوية. وبسبب توجهها القومي الواضح، ألقت الكنيسة الكاثوليكية في بولندا بثقلها وراء الحركات الشعبية المناهضة لليهود. وكانت كل هذه الحركات تهدف إلى طرد أعضاء الجماعة اليهودية من قطاعات اقتصادية معيَّنة، وهو أمر ممكن من الناحية النظرية، ولكن لم يقابله اتجاه مماثل نحو خلق فرص اقتصادية جديدة في مجالات أخرى. والواقع أن الهدف كان طرد اليهود ونقلهم لا دمجهم في المجتمع. ومن هنا كان تأييد الحكومة البولندية للحركة الصهيونية ولجهودها الرامية إلى تهجير اليهود إلى فلسطين. وقد بلغ عدد العاطلين عن العمل بين اليهود 300 ألف عام 1938. ولذا، شهدت هذه المرحلة استمرار الهجرة من بولندا، حيث بلغ عدد الذين هاجروا في الفترة 1921 ـ 1937 نحو 395.235 هاجرت أعداد كبيرة منهم إلى فلسطين. ومع هذا بلغ عدد اليهود 3.200 مليون عام 1939 عشية الغزو النازي.
ورغم تردِّي وضع اليهود، فإن العناصر الليبرالية وقفت إلى جانب أعضاء الجماعة، وكان ثمة أحزاب سياسية تنادي بالمساواة أمام القانون انخرطت في سلكها عناصر يهودية. كما يبدو أن معاداة اليهود لم تجد طريقها إلى صفوف الطبقة العاملة البولندية، وخصوصاً العناصر الثورية. ونظم حزب البوند عدة إضرابات من أجل حقوق اليهود أيَّدتها عناصر بولندية مسيحية. ولكن، مع هذا، كان تأييد اليهود الليبراليين والثوريين تأييد أقلية لأقلية. وكما نوهنا من قبل، كان وضع اليهود داخل التشكيل القومي البولندي وضعاً قلقاً يستند إلى تراث تاريخي معاد للجماهير ومصالحها.(11/384)
وقد اتجه المجتمع البولندي، شأنه شأن معظم المجتمعات الأوربية في تلك الفترة، نحو مزيد من التطرف والاستقطاب. ففي مقابل التطرف القومي البولندي، بدأ أعضاء الجماعة اليهودية يتجهون نحو مزيد من الانفصال فكان لهم ما يُسمَّى بالنادي البرلماني اليهودي (وهو جماعة ضغط تضم كل الممثلين اليهود داخل البرلمان البولندي) . وهذه الجماعة كان لها ثقلها ووزنها العددي، ولذا كانت الحكومات البولندية تحاول خطب ودها لضمان تأييدها. وقد سيطر أتباع الصهيونية العامة على هذا النادي، فكانوا يشكلون عام 1922 نحو 50% من جملة النواب اليهود. وازداد الوضع تطرفاً، فمع الثلاثينيات يُلاحَظ أن الصهاينة العماليين والتصحيحيين هم الذين استولوا على القيادة في المؤتمر الصهيوني الثامن عشر (1933) ، وهم عناصر متطرفة من منظور الاندماج في المجتمع البولندي، رافضون له تماماً ولا يرون حلاًّ للمسألة اليهودية إلا بتهجير اليهود من بولندا بل وإخلاء أوربا من فائضها اليهودي، أي أنهم كانوا يشكلون فرقة تطالب بحل نهائي وجذري للمسألة اليهودية. ويُلاحَظ أن الأحزاب الصهيونية في بولندا كانت أقوى الأحزاب الصهيونية في العالم. وإلى جانب الأحزاب الصهيونية، كان يُوجَد حزب البوند الذي أصبح من أهم الأحزاب اليهودية في بولندا إن لم يكن أهمها على الإطلاق، بل إنه كان أكثر قوة من الصهاينة. ولكن يبدو أنه كان يعبِّر عن قوته السياسية من خلال تحالفات مع الأحزاب السياسية (غير اليهودية) الأخرى. وإلى جانب هاتين القوتين، كانت هناك أحزاب دينية تقليدية تحاول الانسحاب من المجال السياسي أو تكتفي بتأييد الوضع القائم.(11/385)
ولم يكن انعدام التجانس مقصوراً على المجال السياسي، وإنما شمل المجال الثقافي كما يتضح من النظم التعليمية اليهودية المنفردة في منتصف الثلاثينيات. وقد كان للحركة الصهيونية شبكة من المدارس تضم مدرسة زراعية للتدريب على الاستيطان ومدارس حضانة وابتدائية وثانوية. كانت لغة التدريس فيها العبرية كما كان عدد الطلبة فيها 44.780 طالباً. وكانت هناك شبكة أخرى تشرف عليها مؤسسة زيشو (الاختصار البولندي لمصطلح: المنظمة المركزية للمدارس اليديشية) وهي شبكة مشبعة بالروح الاشتراكية والثقافية اليديشية، وكانت لغة الدراسة فيها هي اليديشية، وكان عدد الطلبة في هذه الشبكة 15.486 ألفاً. كما كان يوجد عدد من المدارس التجارية لغة الدراسة فيها هي اليديشية. وكان هناك شبكتان من المدارس الدينية يشرف على الأولى منظمة المزراحي (الدينية الصهيونية) تضمان عدة مدارس دينية ابتدائية وثانوية وكليات دراسات دينية عليا، وكانت لغة التدريس في هذه المدارس العبرية والبولندية. وأخيراً، كانت هناك شبكة دينية تتبع المؤسسة الدينية الأرثوذكسية لغة التدريس فيها اليديشية.
وإلى جانب ذلك، كان هناك اليهود الذين التحقوا بالنظام التعليمي الحكومي. وقد تلقَّى هؤلاء الدروس بالبولندية. ففي إحصاء عام 1931، قرَّر 381.300 يهودي أن لغتهم الأصلية البولندية، كما كان هناك أولئك الذين سافروا إلى غرب أوربا للدراسة.
بولندا من الحرب العالمية الثانية حتى الوقت الحاضر
Poland from the Second World War to the Present(11/386)
انحسرت موجة معاداة اليهود بعد الهجوم النازي على براغ عام 1939، وانخرط اليهود في سلك الجيش البولندي للدفاع عن الوطن، وقامت السلطات البولندية بالقبض على زعماء الجماعات المعادية لليهود. وفي العام نفسه، تم تقسيم بولندا إذ ضم الاتحاد السوفيتي رقعة من بولندا تضم ثلث سكانها وعدداً كبيراً من اليهود يبلغ 1.309.000. أما بقية بولندا، فخضعت للنفوذ الألماني. وضمت ألمانيا الجزء الغربي متضمناً مدينة لودز الصناعية. أما باقي بولندا، فكانت تحكمه حكومة بولندية تابعة لألمانيا تُسمَّى «الحكومة العامة» . وكانت المنطقة الأولى تضم 632.000 يهودي، أما منطقة الحكومة العامة فكانت تضم 1.269.000 زاد إلى 1.700.000 عام 1941 (أي 12.1% من السكان) . وتذكر الموسوعة اليهودية أن عدد اليهود الخاضعين لحكم النازي كان يبلغ 2.042.000.
وقد حول النازيون التمييز العنصري إلى عملية منهجية منظمة من خلال مجموعة من القوانين تم إصدارها لهذا الغرض. وكان كثير من هذه القوانين تهدف إلى تسخير قطاعات الشعب البولندي كافة لخدمة النظام النازي، ولكننا سنقتصر هنا على الإشارة إلى تلك القوانين التي تخص أعضاء الجماعة اليهودية. وقد صدر مرسوم عام 1939 فرض أعمال السخرة على اليهود وتم بمقتضاه تكوين فرق عمالة يهودية. وكان على اليهود الذين يزيد عمرهم على عشرة أعوام أن يعلقوا نجمة داود. كما صودرت أموال عديد من اليهود.
ولكن أهم أعمال النازيين في هذا المضمار تأسيس جيتو وارسو، وكان مؤسسة من مؤسسات الحكم الذاتي ينطلق من الإيمان الصهيوني بأن اليهود شعب عضوي وأن اليهودي يهودي بالمولد وليس بالعقيدة (تعريف قوانين وورمبرج وقانون العودة) وكانت علاقة الدولة النازية بجيتو (دويلة) وارسو علاقة استغلال استعمارية لا تختلف كثيراً عن علاقة إنجلترا بمصر أو علاقة الدولة الصهيونية بالضفة الغربية.(11/387)
وقامت حركة مقاومة بولندية قوية ضد النازيين اشترك فيها أعداد من اليهود، ونظمت انتفاضة جيتو وارسو في أبريل عام 1943. ولكن، يبدو أن الصهاينة لم يشتركوا في هذه الانتفاضة بصورة كافية بدعوى أن حل مشكلة اليهود لا يتم داخل إطار الوطن الأم وإنما عن طريق الهجرة إلى فلسطين.
ومع نهاية الحرب، بلغ عدد يهود بولندا 250.000 (وفي إحصاء آخر أنهم كانوا أقل من ذلك بكثر) ، وحلت الأحزاب الصهيونية البولندية والبوند عام 1949، سُمح للصهاينة بالهجرة، وبدأت نقط التجمع السكانية اليهودية في الاختفاء. ورغم إعادة توطين 25 ألف يهودي بولندي من الذين فروا من بولندا إلى الاتحاد السوفيتي إبّان الحرب، إلا أن أبواب الهجرة إلى إسرائيل فُتحت، فهاجر 140 ألفاً بين عامي 1948 و 1958 (ويتضمن هذا الرقم اليهود ممن أُعيد توطينهم في بولندا بعد فرارهم إلى الاتحاد السوفيتي إبان الحرب) . وتمت تصفية الجماعة اليهودية نهائياً بين عامي 1968 و1969 حين هاجرت أعداد كبيرة منهم إلى إسرائيل والولايات المتحدة، بحيث لم يبق في بولندا سوى ستة آلاف يهودي.
ويبلغ عدد يهود إسرائيل من أصل بولندي نحو 470 ألفاً؛ منهم 170 ألفاً هم من هاجروا قبل عام 1948 (ونسلهم) ، والباقون (300 ألف) هم من هاجروا بعد ذلك التاريخ. ومعظم أعضاء النخبة السياسية الحاكمة في إسرائيل من أصل بولندي، أي من يهود اليديشية، فمنهم بن جوريون وبيجين وشامير وبيريس. وإذا أضفنا إلى هؤلاء أعضاء النخبة من أصل روسي، وهم أيضاً من يهود اليديشية، فيمكن القول بأن نخبة من يهود اليديشية تحكم إسرائيل.(11/388)
وقد استفادت البقية الباقية من أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا من جو الانفتاح السياسي والاقتصادي في شرق أوربا، ومن الدعم الغربي لنقابة التضامن. ولكن جو الانفتاح أدَّى أيضاً إلى تَصاعُد القومية البولندية وثيقة الصلة بالكاثوليكية وهو ما أدَّى إلى الصدام مع الجماعة اليهودية داخل وخارج بولندا، وخصوصاً بشأن قضية الإبادة، إذ تحاول المؤسسة الصهيونية احتكار رموز الإبادة وفرض مضمون صهيوني عليها، الأمر الذي يرفضه البولنديون الذين ذاقوا الأمرَّين من النازي، ربما بدرجة تفوق ما لحق بأعضاء الجماعات اليهودية.
ومن التنظيمات والمؤسسات التي ينتظم فيها أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا:
أ) المجلس المركزي للجمعية الثقافية والاجتماعية ليهود بولندا واختصاره TSKZ. وترسل الجماعة اليهودية مراقبين لاجتماعات المؤتمر اليهودي العالمي.
ب) أما المنظمة الدينية الأساسية فهي الجمعية الموسوية الدينية. وهناك أربعة معابد يهودية، ولكن لا يوجد حاخامات محليون، ولذلك يتم إحضار حاخامات من الخارج (في الغالب من المجر) لإجراء الشعائر الدينية في الأعياد الدينية المهمة.(11/389)
الباب العاشر: روسيا القيصرية حتى عام 1855
روسيا من القرن التاسع حتى التقسيم الأول لبولندا
Russia, from the Ninth Century to the First Partition of Poland....
يعود وجود الجماعات اليهودية في روسيا إلى القرن التاسع الميلادي حين توسعت مملكة الخزر اليهودية في وادي الفولجا ومناطق أخرى من روسيا. وقد اشترك يهود الخزر، حسبما ورد في الموروثات الشعبية الروسية، في المناظرة الدينية التي عقدت بين ممثلي الديانات التوحيدية الثلاث عام 986 أمام أمير كييف وقد اعتنق بعدها المسيحية وأصبحت الأرثوذكسية هي الدين الرسمي لروسيا. وبعد أن استقر اليهود في المدينة باعتبارها مركزاً تجارياً يربط بين منطقة البحر الأسود وآسيا وغرب أوربا وأصبح لهم جيتو خاص بهم، قوبلوا بعداوة شديدة من بلد اعتنق المسيحية لتوه ويضم طبقة تجار بدائية للغاية.
وبعد غزو التتار لروسيا في القرن الثالث عشر وتدهور إمارة كييف، زاد النشاط التجاري لأعضاء الجماعة لأن الإمبراطورية التترية جمعت الجماعات اليهودية كافة داخل إطار سياسي واحد سهَّل عملية انتقالهم. كما يبدو أن التتار كانوا يعتبرون اليهود من ذوي القربى باعتبار أن الجميع من أصل تركي.
وفي القرن الخامس عشر، ظهرت فرقة متهودة بين الروس في مدينة نوفجورود. ورغم أنه تم القضاء عليها، فإنها عمقت مخاوف المؤسسة الدينية الأرثوذكسية من اليهود. واستمرت الحركة التجارية لأعضاء الجماعة اليهودية، مع هذا، من وإلى روسيا.(11/390)
وكان إيفان الرهيب (1533 ـ 1584) أول حاكم روسي يقرر طرد أعضاء الجماعة اليهودية من روسيا، ويعود هذا إلى رغبته في استبعاد أية عناصر تجارية أجنبية. وبعد الفترة التي تُعرف باسم «زمن المتاعب» في التاريخ الروسي (1598 ـ 1613) والتي شهدت اعتلاء أمير بولندي العرش الروسي، ونشوب حرب أهلية، زاد عمق الرفض الروسي لليهود حيث إن مغتصبي العرش من البولنديين أحضروا معهم كثيراً من صنائعهم اليهود. لكل هذا، مُنع أعضاء الجماعات اليهودية من دخول روسيا إلا لأسباب خاصة مثل حضور سوق تجاري أو غيره من الأسباب. وظل هذا الحظر أحد ثوابت السياسة الروسية حتى تقسيم بولندا في أواخر القرن الثامن عشر.(11/391)
ولعل خوف روسيا القيصرية من أعضاء الجماعات اليهودية هو خوف العناصر الزراعية التقليدية من عنصر غريب له علاقات دولية واسعة في دولة جديدة لم تكن سلطتها قد تدعمت بعد (ولم تتدعم لمدة طويلة نظراً لترامي أطراف البلاد ونظراً لأنه عنصر تجاري له مصالحه المالية الخاصة التي لا تتفق بالضرورة مع مصالح الدولة) . كما أن هناك قوى اجتماعية داخل روسيا لم يكن في صالحها البتة السماح لليهود بالاستقرار، من أهمها التجار الروس الذين كانوا يرزحون تحت عبء الضرائب والذين كان عليهم أن يدخلوا منافسة غير متكافئة مع بعض أعضاء طبقة النبلاء الذين اشتغلوا بالتجارة والذين كانوا يتمتعون بمزايا عديدة وبمساندة البيروقراطية الحكومية. بل كان هؤلاء التجار يجدون أنفسهم (أحياناً) في منافسة مع الفلاحين الذين كانوا يشتغلون بالتجارة والصناعات المنزلية، كل هذا داخل سوق محدودة مكبلة بالقوانين الإقطاعية الاستبدادية التي لا حصر لها. وإذا أضفنا إلى هذا كله أن الحجم المالي للتجار الروس كان صغيراً في معظم الأحوال، لأدركنا سبب وقوف التجار الروس ضد دخول العنصر اليهودي التجاري النشيط الذي لا تكبله القيم المسيحية أو القوانين الطبقية والذي يتحكم في رأسمال سائل لا بأس به. ووجد هذا الموقف صدى في نفس حكومة كانت تكتسب شيئاً من شرعيتها باعتناقها الأرثوذكسية. ورغم أن الفكر المركنتالي وجد طريقه إلى روسيا في مرحلة لاحقة، إلا أن التجار استمروا في معارضة نشاط اليهود التجاري وفي المطالبة بالحد منه حتى اندلاع الثورة البلشفية.
ومن الثوابت الأخرى التي كانت عنصراً قوياً ومحدداً في السياسة الروسية القيصرية أن اليهود كانوا يشكلون عنصراً متحركاً غير مستقر على رقعة أرض مقصورة عليهم، كما هو الحال مع الشعوب والأقوام والأقليات والطوائف الأخرى داخل الإمبراطورية، الأمر الذي خلق لهم وضعاً خاصاً ومشاكل معينة.(11/392)
وقد ضمت روسيا مقاطعة روسيا البيضاء في أول تقسيم لبولندا عام 1772، وضمت في التقسيم الثاني منطقة منسك في الشمال وفولينيا (في مقاطعة كييف) ومنطقة بودوليا في الجنوب، أي أنها ضمت بذلك أوكرانيا كلها. ثم ضمت في التقسيم الثالث ليتوانيا. وقد ضمت كل هذه المقاطعات (وضمن ذلك كورلاند وبيالستوك التي حصلت عليهما روسيا فيما بعد) إلى روسيا نفسها، بينما أصبحت بولندا المركزية (التي كانت تضم نحو ثلاثة أرباع دوقية وارسو النابليونية) تكوِّن ما يُسمَّى «بولندا المؤتمر» أو «بولندا الروسية» (وكان اسمها الرسمي «مملكة بولندا» حتى عام 1830 كما كان لها دستورها الخاص) . وكانت هذه المقاطعات تضم أغلبية يهود شرق أوربا (يهود اليديشية) الذين انطلقوا من هذه المناطق بعد ضمها، واستوطنوا المناطق الجنوبية من روسيا وساحل البحر الأسود ومقاطعة بيساربيا، وهي مناطق كانت تابعة للدولة العثمانية، وقامت روسيا بضمها باسم «روسيا الجديدة» (كانت توجد جماعات يهودية أخرى فيها ولكنها كانت جماعات صغيرة للغاية ولم يكن لها مسألة يهودية فقد كانت مندمجة تماماً في محيطها الحضاري) . ولذا فرغم وجود جماعات يهودية إلا أننا نتحدث في معظم الوقت عن «الجماعة اليهودية» وحسب، وتعني «يهود اليديشية» لأنهم كانوا الأغلبية الساحقة وكذلك كانوا أصحاب «المسألة اليهودية» . كما تسللت مجموعات صغيرة من اليهود إلى وسط روسيا نفسها.(11/393)
وكان وضع أعضاء الجماعة اليهودية في المناطق البولندية متميِّزاً تماماً من الناحية الثقافية والاجتماعية والوظيفية. إذ كانت أعداد كبيرة منهم تعمل بنظام الأرندا (استئجار عوائد القرى وضمنها الضرائب والمطاحن والغابات والحانات من النبلاء البولنديين الغائبين) كما كان بين اليهود تجار وأصحاب حوانيت وباعة جائلون. وكان الباقون حرفيين يعملون للنبيل الإقطاعي والفلاح. وحسب التقديرات، كان التركيب الوظيفي لليهود على النحو التالي: 1% فقط كانوا يعملون في الزراعة، و3% في الأعمال الدينية، و30% يعملون في نظام الأرندا، و30% يعملون في التجارة والرهونات، و15% في الحرف المختلفة.
وكان من أهم الوظائف التي يضطلع بها اليهود، والتي أصبحت جزءاً أساسياً من مشكلتهم، تقطير الخمور وبيعها في الحانات التي استأجروها من النبلاء في إطار نظام الأرندا. كما يُلاحَظ أن التجارة اليهودية كانت تجارة طفيلية، وكان التجار اليهود يشتغلون بتهريب البضائع ويتهربون من الضرائب نظراً لوجودهم في المنطقة الحدودية وبسبب استخدامهم اليديشية وسيلة للتفاهم، الأمر الذي يسَّر لهم عمليات التهريب والتهرب والتلاعب بالأسعار. ومع هذا، ظلت نسبة كبيرة من أعضاء الجماعة تعاني من الفاقة، فكان هناك 21% منهم بدون وظيفة محدَّدة.(11/394)
ولكن لم يكن التميز وظيفياً أو طبقياً وحسب وإنما كان ثقافياً ولغوياً. وأعضاء الجماعة اليهودية كانوا يشكلون جماعة وظيفية وسيطة يدين أعضاؤها باليهودية ويتحدثون اليديشية ويمثلون المصالح المالية للنبيل البولندي الذي يتحدث البولندية ويدين بالكاثوليكية بين الفلاحين والأقنان الأوكرانيين الذين يتحدثون الأوكرانية ويدينون بالمسيحية الأرثوذكسية. وأعضاء الجماعة الوظيفية اليهودية هم عنصر ألماني يعيش في وسط سلافي، ويظهر تميزهم حتى في الطريقة التي كانوا يحلقون بها رؤوسهم (واللحية والسوالف) وفي أزيائهم المتميِّزة (كفتان) وفي أسمائهم. كما تظهر عزلتهم في نظامهم التعليمي المقصور عليهم، وفي الشتتلات التي أسسها لهم النبلاء الإقطاعيون البولنديون (وهي مدن صغيرة تضم التجار والوكلاء والحرفيين اليهود) . وكان اليهود يكوِّنون أغلبية السكان في هذه المدن الصغيرة، وهو ما كان يعني عدم احتكاكهم بالسكان. كما كانت تعيش أعداد كبيرة منهم في بعض القرى. كانت هذه الكتلة البشرية اليديشية اليهودية على وشك الزيادة الهائلة إثر انفجار سكاني لم تعرف الجماعات اليهودية مثيلاً له في التاريخ. وهي برغم عزلتها، لم تكن متماسكة، إذ كانت الصراعات الاجتماعية قد بدأت تترك أثرها في مؤسسة القهال، وهي منازعات أخذت شكل الصراع بين الحسيديين ومعارضيهم من أعضاء المؤسسة الحاخامية الذين أُطلق عليهم المتنجديم. وكانت المنطقة التي ضمتها روسيا تضم أهم مناطق تركز الحسيديين وأهم المدارس التلمودية العليا (يشيفا) الخاصة بالمتنجديم في ليتوانيا. وضمت روسيا، كما تَقدَّم، بودوليا التي كانت مركز الحركة الفرانكية والحسيدية. وحينما دخلتها القوات الروسية، أطلقت سراح فرانك، وكانت اليهودية الحاخامية قد دخلت أزمتها الكبرى. وفجأة، وجدت هذه الكتلة البشرية نفسها تابعة لتشكيل اقتصادي سياسي حضاري جديد (روسيا القيصرية) ، تشكيل كان يرى دائماً ضرورة نبذهم والتخلص(11/395)
منهم، تسيِّره حكومة استبدادية متخلفة لا تسمح بالتعددية الدينية أو الفكرية أو المهنية، سياستها في جوهرها هي سياسة الملوك المطلقين المستبدين المستنيرين على نحو ما كان في وسط أوربا والنمسا وألمانيا (أي التحديث بالقوة ومن فوق) . ولم تكن لدى هذه الحكومة أية خبرة باليهود أو مشاكلهم، كما أن روسيا نفسها كانت على عتبات انفجارات اجتماعية ضخمة نتيجة عملية التحديث والعلمنة التي كانت تخوضها (وهي انفجارات أدَّت في نهاية الأمر إلى قيام الثورة البلشفية) . وتاريخ المسألة اليهودية في روسيا هو تاريخ الاحتكاك بين الكتلة البشرية اليهودية المنعزلة، بكل تَخلُّفها ومشاكلها وتَميُّزها من جهة، والبيروقراطية القيصرية المتخلفة بكل وحشيتها وتَعصُّبها وانعدام كفاءتها من الجهة الأخرى.
وظلت المشكلة قائمة دون حل. وكلما احتدمت الأزمة، كانت الحكومة الروسية تشكل لجنة لدراسة الموقف لترفع بدورها توصياتها للحكومة. وكانت هذه التوصيات تستند في معظم الأحيان إلى فلسفات شمولية مطلقة، وتنبع من جهل عميق بآليات الظواهر الاجتماعية ويتولى تنفيذها جهاز تنفيذي متعصب جاهل فاسد يتسم بعدم الكفاءة. وظل التناقض الأساسي في سياسة الحكومة القيصرية بين رغبتها في التحديث والتنمية الاقتصادية من جهة والشكل الاستبدادي السياسي الذي يُفشل كل المحاولات التي تستهدف حل المسألة اليهودية من جهة أخرى. وقد تعثر تماماً تحديث اليهود بل تحديث المجتمع ككل، في أواخر القرن التاسع عشر، واحتدم التناقض بين الحقيقة الاجتماعية والشكل المتكلس، الأمر الذي نجمت عنه مجموعة من الاضطرابات والثورات انتهت بالثورة البلشفية التي حلت المسألة اليهودية والمسائل القومية الأخرى بطريقة نوعية مختلفة.
روسيا من تقسيم بولندا حتى عام 1855
Russia, from the Partition of Poland to1855(11/396)
أدَّى تقسيم بولندا إلى ضم أجزاء كبيرة منها إلى روسيا، وبذلك ضمت روسيا أجزاء كبيرة من الكتلة البشرية اليهودية اليديشية. ولأن النبلاء البولنديين كان محرماً عليهم التجارة (حيث تفرغوا لأعمال السياسة والحرب) ، وكان الأقنان ملتصقين بالأرض، كما كانت طبقة التجار ضعيفة للغاية، اضطلع اليهود بوظيفة طبقة التجار والحرفيين وأصبحوا جماعة وظيفية وسيطة. هذا على عكس روسيا إذ لم تكن التجارة هناك مهنة وضيعة، وكانت هناك طبقة من الحرفيين تزداد قوة. كما كانت الحكومة نفسها تقوم بالتجارة ويضطلع بعض النبلاء بالوظيفة نفسها.
وكانت روسيا، من الناحية الاقتصادية، مستعمرة إنجليزية أو منطقة نفوذ للاقتصاد الإنجليزي. وبعد الحصار الذي فرضه نابليون على إنجلترا على نطاق القارة كلها، حدث تَقدم صناعي وتجاري نظراً لاضطرار روسيا إلى الاعتماد على نفسها. وعلى سبيل المثال، كانت روسيا تملك عام 1804 نحو 199 مصنع قطن زاد إلى 423 عام 1814، وزادت واردات القطن من الولايات المتحدة من 204 أطنان عام 1809 إلى 3787 طناً عام 1811.(11/397)
ومن كل هذه الحقائق، يمكن القول بأن الاقتصاد الروسي لم يكن في حاجة إلى أعضاء الجماعة اليهودية. ومع هذا، تم ضمهم نتيجة توسُّع الدولة القيصرية. ولم تكن المسألة اليهودية المسألة الوحيدة التي جابهتها الحكومة القيصرية، فقد كان هناك مسألة إسلامية ومسألة تترية ومسألة بولندية ومسألة أوكرانية، إذ كانت الإمبراطورية القيصرية مترامية الأطراف تضم مئات الأقليات والتشكيلات الحضارية المختلفة التي كانت تحاول أن تفرض عليها ضرباً من الوحدة حتى تتمكن الحكومة المركزية من التعامل معها. وقسَّمت الحكومة القيصرية هذه الأقليات إلى قسمين أساسيين: الأقليات السلافية (أوكرانيا وبولندا وغيرهما) ، والأقليات غير السلافية. وكان يُطلَق على الأقليات غير السلافية مصطلح «الإينورودتسي inorodtsy» . وهذه كلمة روسية كانت تشير في بادئ الأمر إلى قبائل السكان الأصليين التي تقطن سيبيريا، ثم اتسع نطاق الكلمة الدلالي فأصبحت تشير إلى كل الشعوب غير السلافية. وكانت السياسة العامة تهدف إلى ترويسهم. وغني عن البيان أن إجراءات الترويس، بالنسبة للأقليات غير السلافية، كانت أكثر راديكالية وعنفاً، وخصوصاً إذا كانت تلك الأقليات لا تدين بالمسيحية (ومع هذا ينبغي الإشارة إلى أن اللون أو العرْق بدأ يكتسب دلالة محورية مع تصاعد معدلات العلمنة في الإمبراطورية الروسية وتعمُّق الرؤية العرْقية. وحيث إن يهود اليديشية كانوا من البيض، ومع تَزايُد معدلات ترويسهم، أُعيد تصنيفهم بحيث أصبحوا «روساً» ووُطنوا على هذا الأساس في روسيا الجديدة وفي الخانات التركية التي ضمتها روسيا وذلك باعتبارهم عنصراً روسياً استيطانياً) . ومهما كان الأمر، فإن الإمبراطورية القيصرية كانت «سجناً للشعوب» .(11/398)
وقد بدأت الحكومة القيصرية علاقتها بأعضاء الجماعات اليهودية بالاعتراف بالقهال وبصلاحياته الدينية والقضائية، كما تم الاعتراف بالجماعة اليهودية (اليديشية) بوصفها جماعة مستقلة في المدن والقرى. وفي عام 1783، صُنِّف اليهود ضمن سكان المدن وأصبحت لهم حقوق غير اليهود نفسها (مثلاً: انتخاب مجالس المدن والبلديات وحق التمثيل فيها) .
واستقر بعض التجار اليهود في موسكو وسمولنسك، فدخلوا في منافسة مع التجار المسيحيين بطرق شرعية وغير شرعية. وحينما اشتكى تجار موسكو من هذا الوضع، صدر فرمان عام 1791 يحظر على اليهود الاتجار خارج روسيا البيضاء. ويُعَدُّ هذا الفرمان الأساس القانوني لمنطقة الاستيطان، وقد سُمح لمجالس القهال بأن تستمر في عملها بكل صلاحياتها.(11/399)
وشهدت هذه المرحلة قيام روسيا بضم بعض الإمارات الإسلامية التابعة لتركيا على ساحل البحر الأسود، وسُمِّيت هي ومناطق أخرى باسم «روسيا الجديدة» . ولما كان أعضاء الجماعات اليهودية يُنظَر إليهم، في التشكيل الحضاري الغربي، باعتبارهم عنصراً ريادياً حركياً وجماعة وظيفية استيطانية يمكن استخدامها في مثل هذه العملية، كما فعل شارلمان من قبل وكما فعلت القوات المسيحية في إسبانيا والنبلاء البولنديون في أوكرانيا والاستعمار الغربي في فلسطين فيما بعد، قامت الحكومة القيصرية بتشجيعهم على الاستيطان في المناطق الجديدة، باللجوء إلى طريقة الطرد والجذب، فضوعفت الضريبة المفروضة على التجار اليهود في الإمبراطورية، بينما أُعفي المستوطنون في روسيا الجديدة من الضرائب كافة. واستثنى هذا المرسوم اليهود القرّائين، وكان هذا أيضاً أحد ثوابت السياسة القيصرية تجاه اليهود. وفي الوقت نفسه، تفاقمت مشكلة السُكْر بين الفلاحين، وساعدت المجاعة التي وقعت عام 1797 على تعميق المشكلة. ورغم أن اليهود كانوا السبب الواضح والمباشر أمام الجميع (إذ أن أغلبية صانعي الخمر وبائعيها كانوا من اليهود، كما أنهم هم الذين كانوا يديرون معظم الحانات) ، إلا أنهم لم يكونوا في واقع الأمر السبب الحقيقي لإدمان الفلاحين الروسيين المشروبات الكحولية. وشُكِّلت لجنة لبحث المسألة اليهودية في روسيا برئاسة الشاعر الروسي السناتور جافريل ديرجافين (1743 - 1816) الذي رأى أن اليهود يستغلون الفلاحين الروس وأن عزلتهم الطبقية والحضارية هي سبب العداء ضدهم. وبناء على ذلك، طالب ديرجافين بضرورة ترويسهم بالقوة وتغيير بنائهم الاقتصادي والوظيفي حتى يتسنى استيعابهم كيهود نافعين في المجتمع الروسي. ووضع بذلك الإطار الأساسي لجميع المحاولات التي بذلتها الحكومة القيصرية لحل المسألة اليهودية.(11/400)
وبعد أن اعتلى ألكسندر الأول العرش (1801 ـ 1825) ، شُكِّلت لجنة تدعى مجلس الشئون اليهودية التي أصدرت قراراتها عام 1804، والتي سمىت «قانون اليهود الأساسي» أو «دستور اليهود» . وجاء ضمن هذه القرارات أن اليهود يجب نقلهم خارج المناطق الزراعية بين عامي 1807 و 1808، كما أوصت القرارات بضرورة إبعادهم عن استئجار الحانات أو استئجار الأراضي الزراعية بهدف الربح (حتى يمكن تحويلهم إلى عنصر اقتصادي منتج) . ولتنفيذ هذا المخطط، وُضع تحت تصرفهم بعض أراضي القيصر، وأُعفي المزارعون اليهود من الضرائب لمدة تتراوح بين خمسة وعشرة أعوام، كما أنهم لم يُصنَّفوا كأقنان مرتبطين بالأرض، بل احتفظوا بحقوقهم في حرية الحركة والسكنى. ووعدت الحكومة كذلك بتقديم العون للمصانع التي تقوم باستئجار العمال والحرفيين من أعضاء الجماعة اليهودية. وسُمح للعاملين بالصناعة من أعضاء الجماعة اليهودية أن يستقروا داخل روسيا، وضمن ذلك موسكو وسانت بطرسبرج. كما حدَّ القانون الأساسي من سلطة القهال، وأصبح تنظيم الأمور الدينية والعبادات من اختصاص الحاخامات الذين كان يتم اختيارهم دون الرجوع إلى القهال. ولم تتجاوز صلاحيات القهال، في القانون الأساسي، تحديد الضرائب وجمعها وإحصاء عدد السكان اليهود. وتقرر ألا يوجد سوى قهال واحد في كل مدينة، كما سُمح لكل فرقة دينية بأن يكون لها معبدها اليهودي وحاخامها الخاص (الأمر الذي أدَّى إلى تحسين وضع الحسيديين) وفُتحت أبواب المدارس الحكومية العلمانية أمام أعضاء الجماعة اليهودية. وتقرر أنه ما لم يرسل اليهود أولادهم فإنه سيتم فتح مدارس يهودية علمانية خاصة على حساب أعضاء الجماعة اليهودية. وأصبح من شروط شغل وظيفة حاخام، أو عضوية مجلس إدارة القهال أو البلدية، معرفة الألمانية أو الروسية أو البولندية. كما تقرر أن يكتب أعضاء الجماعة جميع وثائقهم وأوراقهم التجارية بإحدى اللغات الثلاث دون العبرية أو اليديشية. وأكد(11/401)
القانون حق اشتراك اليهود في الانتخابات الخاصة بالحكومات المحلية ومُنع ارتداء الأزياء اليهودية التقليدية وقص الشعر على الطريقة اليهودية وترك السوالف، وأصبح توجيه تهمة الدم جريمة يعاقب عليها القانون (1818) . وكانت استجابة الجماعات اليهودية سلبية إلى أقصى درجة، وصاموا حداداً على صدور هذه القرارات بل اقترحت بعض القهالات تأجيل الإصلاحات إلى فترة تتراوح بين خمسة عشر وعشرين عاماً.
ولم تنجح الحكومة القيصرية في تنفيذ توصيات اللجنة بسبب ضعف البيروقراطية وفساد النظام الإداري (فكثيراً ما كان الموظفون يتقاضون الرشاوى ويتغاضون عن تعليمات الحكومة) ، وبسبب عدم الثقة المتبادل بين الحكومة وأعضاء الجماعة اليهودية. كما أن القرارات الخاصة بنقل أعضاء الجماعة اليهودية من القرى لم تكن واقعية إذ أن وجودهم فيها لم يكن أمراً من اختيارهم وإنما كان واقعاً اجتماعياً فرضته عليهم ظروفهم والظروف الاقتصادية المحيطة بهم، فقد كان أعضاء الجماعة يقومون في واقع الأمر بوظيفة مهمة بالنسبة للريف الروسي حتى ولو كانت لهذا جوانب سلبية من الناحية الاجتماعية. وعلى كل حال، لم تُتَخذ خطوات تنفيذية لطرد اليهود من القرى إلا عام 1822، وخصوصاً في مقاطعة بيلوروسيا أي روسيا البيضاء. ولكن كثيراً ما كان يتم طرد اليهود دون تأمين الأرض الزراعية لهم، الأمر الذي كان يعني محاولة تغيير وضع اليهود الوظيفي فشلاً مؤكداً. بل كان يتم أحياناً تأمين الأرض ثم يصل المستوطنون ليكتشفوا أنه لا توجد تسهيلات للسكنى أو الري أو الصرف.(11/402)
وتوقف كثير من الإصلاحات أثناء الحرب الروسية الفرنسية حين قام نابليون بغزو روسيا. وقد وقف أعضاء الجماعة اليهودية أثناء هذه الحرب، إلى جانب الحكومة الروسية، لأن المؤسسة الحاخامية كانت تعتبر نابليون عدو اليهودية اللدود، بل قام اليهود بالتجسس لحساب الحكومة القيصرية على القوات الفرنسية (وإن كان هذا لم يمنع وجود بعض حالات متفرقة قام فيها اليهود الروس بالتجسس على روسيا لحساب الفرنسيين) .
وفي أواخر حكم ألكسندر الأول، كانت هناك محاولة لتنصير اليهود عن طريق الوعد بإعتاقهم وإعطائهم حقوقهم السياسية. وكان العقل المدبر وراء هذه الفكرة هو لويس واي، رئيس جمعية الكتاب المقدَّس في إنجلترا الذي أسَّس جمعية المسيحيين الإسرائيليين عام 1817 تحت رعاية الإمبراطور. ثم صدر قرار بمنع اليهود من استئجار خدم مسيحيين ومن السكنى في منطقة طولها خمسون فرسخاً (نحو 33 ميلاً) على الحدود، ولم يستثن من ذلك سوى ملاك الأراضي.(11/403)
وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ الجماعة اليهودية باعتلاء نيقولا الثاني العرش (1825 - 1855) ، وهذا بعد إخماد الثورة المعروفة باسم «ثورة الديسمبريين» ، وهم مجموعة من النبلاء المتأثرين بالأفكار الغربية، وكان من بينهم صاحب الأفكار اليعقوبية بول بستل، وهو صاحب مشروع صهيوني لحل المسألة اليهودية. وقد صعَّد نيقولا سياسة الترويس والدمج القسرية، فصدر مرسوم عام 1827 بفرض الخدمة العسكرية على يهود روسيا، وكانوا قبل ذلك يدفعون ما يشبه البدل النقدي، وكانت فترة الخدمة في الجيش الروسي تستمر خمسة وعشرين عاماً، وأوكل للجماعة اليهودية نفسها أن تقوم باختيار الفتيان الذين يتم تجنيدهم، وكانت كل جماعة يهودية تعين خطافين ليمسكوا الفتيان (من أبناء الفقراء في العادة) لتسليمهم إلى الحكومة، وهو ما زاد حدة الصراعات الاجتماعية. ويُلاحَظ أن هذا القانون لم يُطبَّق على يهود بولندا وحسب وإنما كان يُطبَّق على الروس كافة من مسيحيين وغيرهم. وكان الاختلاف الوحيد في عدد المجندين، فبينما كانت النسبة 7 من ألف بين المسيحيين، كانت 10 من ألف بين غير المسيحيين. وأُعفي المثقفون والتجار والحرفيون من الخدمة العسكرية نظير ألف روبل، كما أعفي العاملون في القطاع الزراعي في مرحلة لاحقة. وكان الهدف من الخدمة العسكرية هو مزيد من الدمج والترويس القسريين. ومع هذا، كان نظام التجنيد قاسياً بل غير إنساني، وذلك لصغر سن المجندين على وجه الخصوص. ولكن لم يُجنَّد في نهاية الأمر سوى عدد صغير من أعضاء الجماعة اليهودية يتراوح بين 26 و60 ألفاً في فترة 28 سنة. فإذا أخذنا بالمتوسط وهو 45 ألفاً، فإن هذا يعني أن عدد المجندين لا يزيد على ألف وخمسمائة مجند في السنة من مجموع يهود روسيا البالغ عددهم آنذاك ثلاثة ملايين.(11/404)
ثم صدر قرار عام 1835 لم يكن مختلفاً في جوهره عن قرار عام 1804، فأُعيد بمقتضاه تحديد منطقة الاستيطان. وحرَّم القانون استئجار الخدم المسيحيين، وحظر على أعضاء الجماعة اليهودية الزواج المبكر، وحدَّد الحد الأدنى لسن الزواج بثماني عشرة سنة للذكور وست عشرة سنة للإناث، كما حظر استخدام اليديشية أو العبرية في الأعمال التجارية وغيرها من النشاطات. وحُدِّدت المهن التي يُسمح لأعضاء الجماعة اليهودية أن يعملوا فيها، كما حُرِّم عليهم (عام 1825) دخول القرى.
وأبقى القانون على القهال ليقوم بجمع الضرائب وتطبيق القوانين الروسية، وليصبح مسئولاً عن الأمور الدينية والخيرية، وصرح ببناء المعابد شريطة أن تكون على مسافة معقولة من الكنائس، واعتُبر الحاخامات موظفين حكوميين لا تقتصر مهمتهم على الجوانب الدينية فأصبح من واجبهم الرقابة على الجوانب الأخلاقية العامة وعلى أداء أعضاء الجماعة اليهودية لواجباتهم المدنية للدولة والمجتمع. وفُتحت أمام أعضاء الجماعة اليهودية أبواب المدارس العامة، وفُرضت الرقابة على كتبهم (عام 1836) .
ويبدو أن الحكومة القيصرية بدأت تشعر في هذه المرحلة بأن ما سمته الروح التلمودية (وليس اليهودية نفسها) هو سبب عزلة اليهود. ولذا، قامت الحكومة باستشارة أثرياء اليهود الروس باعتبارهم خبراء في الشئون اليهودية، كما طلبت العون من المفكرين اليهود دعاة التنوير ومن يهود الغرب الذين تم تحديثهم. وكانت نتيجة المشاورات والمداولات مؤيدة لموقف الحكومة. وكان أهم داعية لهذه السياسة وزير التعليم أوفاروف وكان كثير من دعاة التنوير اليهود يتفقون معه، من بينهم إسحق بير ليفينسون في كتابه التعليم في إسرائيل (عام 1828) . وأُغلق كثير من المطابع العبرية بهدف الحرب ضد الخرافات الحسيدية والتعصب الناجم عن دراسة التلمود. ويُلاحَظ أن موقف الحكومة القيصرية من القرّائين كان متسامحاً للغاية لأنهم لا يؤمنون بالتلمود.(11/405)
واتجهت الحكومة الروسية أيضاً نحو علمنة التعليم اليهودي، وحاولت تطبيق المشروع الذي طرحه ليفينسون في كتابه. ولتحقيق هذا الهدف، استدعت التربوي الألماني اليهودي ماكس ليلينتال (1815 ـ 1882) حتى يمكنه أن يقرب فكرة التعليم العلماني ليهود روسيا وليؤكد لهم حسن نية الحكومة. وكان ليلينتال يعمل مدرساً في إحدى المدارس التي أسسها دعاة التنوير اليهود في ريجا. فقام برحلة استطلاعية، ولكنه قوبل بعداوة شديدة من الجماهير اليهودية التي سمته «الحليق» ، أي الذي حلق لحيته وسوالفه. وكان كثير من دعاة التنوير اليهود يرون أن تحديث الجماهير اليهودية لا يمكن أن يتم بالطرق الديموقراطية، وأنه لابد من استخدام نوع من القسر والإرهاب، وأيَّدهم في ذلك أعضاء البيروقراطية الروسية. وأوصى ليلينتال بإغلاق المدارس الدينية التقليدية ومنع المدرسين التقليديين من التدريس واستجلاب مدرسين من الخارج. وتم بالفعل تأسيس مدارس علمانية يهودية مُوِّلت من ضريبة الشموع (شموع السبت) ، وقام بالتدريس في هذه المدارس مسيحيون ويهود من دعاة التنوير، وأُسِّست مجموعة من المدارس لتدريب حاخامات ومدرسين يهود، وكانت هذه المدارس الإطار الذي تم فيه تدريب وتعليم أعداد كبيرة من دعاة التنوير المتحدثين بالروسية والذين لعبوا دوراً مهماً في الحركات الاندماجية والثورية والعدمية.(11/406)
وتبع ذلك إلغاء القهال (عام 1844) مع الإبقاء على إطار تنظيمي إداري عامّ. واستمر المسئولون عن التجنيد وكذلك جامعو الضرائب في أداء عملهم. وابتداءً من عام 1851، بدأت الحكومة الروسية تنهج النهج الألماني في تقسيم أعضاء الجماعات اليهودية إلى يهود نافعين ويهود غير نافعين. وكان الفريق الأول يضم كبار التجار والحرفيين والمزارعين الذين كانوا يتمتعون بمعظم حقوق المواطن الروسي. أما الفريق الثاني الذي كان يضم بقية اليهود من صغار التجار وأعضاء الطبقات الفقيرة، فكان الأمر بالنسبة إليهم مختلفاً إذ كان عليهم أداء الخدمة العسكرية حيث كان بوسعهم أن يتعلموا بعض المهن النافعة، فإن تعلموها صُنفوا ضمن النافعين وأُعفوا من الخدمة العسكرية. ونجحت السياسة بشكل محدد إذ أُقيمت أربع عشرة مستوطنة زراعية في خرسون، وعدد مساو في إيكاترينوسلاف، وخمس وأربعون مستوطنة في كييف، كما أُقيمت عدة مستوطنات في بيساربيا بلغ عدد سكانها خمسة وستين ألف يهودي. وقام سير موسى مونتفيوري بزيارة روسيا في هذه الفترة في إطار محاولة الحكومة القيصرية أن تُوسِّط يهود الغرب المندمجين في إقناع يهود روسيا بتقبُّل عمليات الدمج والتحديث والترويس. ويمكن القول بأن هذه العمليات لم تحقق كثيراً من النجاح.
ألكسندر الأول (1801-1825)
Alexander I
أحد قياصرة روسيا. في عهده بدأت الحكومة القيصرية في محاولة إيجاد حل للمسألة اليهودية في روسيا بعد ضم أجزاء من بولندا. فشكلت لجنة لدراسة القضية والتوصية ببعض الحلول. وشهد عهده عدة محاولات لدمج اليهود وترويسهم.
نيقولا الأول (1825-1855)
Nicholas I
قيصر روسي حاول دمج اليهود في المجتمع الروسي عن طريق إصلاحات تُفرَض عليهم من الخارج، لكن سياسته لم تُحرز نجاحاً كبيراً.
منطقة الاستيطان اليهودية في روسيا
Pale of Settlement(11/407)
«منطقة الاستيطان» ترجمة للعبارة الروسية «كرتا أوسدلوستي Cherta Osedlosti» حيث تُترجم كلمة «كرتا» إلى «نطاق» أو «حدود» أو ربما «حظيرة» وهي الترجمة الدقيقة. ولأن هذا النطاق كان يتسع ويضيق، فتضم إليه مناطق وتستبعد أخرى، فإننا نفضل استخدام كلمة «منطقة» .
ومنطقة الاستيطان هي منطقة داخل حدود روسيا القيصرية لم يكن يُسمَح لمعظم أعضاء الجماعة اليهودية بالسكنى أو الاستقرار خارج المدن الواقعة فيها. وكانت الحكومة القيصرية تقوم بفرض مثل هذه القيود وهو أمر كان يُعَد جزءاً أساسياً من سياستها العامة ومن موقفها من حرية الأفراد في التنقل، وهي سياسة لم تكن تُطبَّق على أعضاء الجماعة اليهودية وحسب وإنما كانت تُطبَّق على معظم سكان روسيا سواء أكانوا من الأقنان أم كانوا سكان مدن أو تجاراً. فكان على هذه القطاعات، التي تشكل أغلبية السكان، البقاء في مواطن استيطانها لا تغادرها إلا لسبب محدد وبإذن خاص. ويبدو أن هذه القوانين صدرت بسبب طبيعة روسيا كإمبراطورية مترامية الأطراف تُوجَد بها مناطق شاسعة غير مأهولة بالسكان، الأمر الذي جعل بوسع أي مواطن أن يترك محل إقامته ليستوطن إحدى المناطق غير المأهولة بعيداً عن سلطة الحكومة. ولما كانت الحكومة المركزية ضعيفة نظراً لرغبتها في تدعيم أسس الإمبراطورية وضمان شيء من الثبات، ظهرت فكرة ربط المجموعات البشرية بمواطن محددة كما حدث مع الفلاحين حينما تم تحويلهم إلى أقنان، ثم مع أعضاء الجماعة اليهودية حين تم ضم أعداد كبيرة منهم إلى الإمبراطورية بعد تقسيم بولندا.(11/408)
ولكن، إلى جوار هذه الأسباب العامة المتعلقة بسياسة روسيا القيصرية تجاه رعاياها، هناك أسباب خاصة بيهود روسيا من أهمها الصراع الاجتماعي الناشب بين التجار اليهود الذين كانوا يشتغلون بتقطير الخمور وبيعها وبأعمال الرهونات والالتزام من جهة، والفلاحين السلاف الذين كانوا يتعاطون الخمر بشراهة (ربما بسبب تزايد بؤسهم) وضعف النظام الإقطاعي من جهة أخرى. وكانت البيروقراطية الروسية متخلفة غير مدركة لأبعاد المشكلة الاجتماعية في الريف الروسي أو البولندي. ولذا، أُلقي باللوم على أعضاء الجماعة اليهودية باعتبارهم مسئولين عن سُكْر الفلاحين وإفقارهم. كما كان تجار روسيا يجأرون بالشكوى دائماً من العناصر اليهودية التجارية التي تلجأ إلي الغش والتهريب لتحقيق الربح. لكل هذا، حُظر على أعضاء الجماعة اليهودية أن يتحركوا خارج تلك المناطق التي ضُمَّت من بولندا، ولكنهم مُنحوا حق الاستيطان في المناطق التي ضُمَّت من تركيا في أواخر القرن الثامن عشر باعتبارهم عنصراً استيطانياً نافعاً، وهي التي كانت تقع أساساً حول البحر الأسود وسُمِّيت «روسيا الجديدة» . وقد ضمَّت منطقة الاستيطان منطقة كبيرة امتدت من ليتوانيا وبحر البلطيق في الشمال إلى البحر الأسود في الجنوب، ومن بولندا وبيساربيا في الغرب إلى روسيا البيضاء وأوكرانيا في الشرق، وتضم خمساً وعشرين مقاطعة تشكل مساحة قدرها مليون كيلو متر مربع، أي ما يساوي مساحة فرنسا تقريباً. وكان أعضاء الجماعة اليهودية يشكلون نحو 11.6% من سكان منطقة الاستيطان عام 1897، وبلغ عددهم 4.899.427من مجموع يهود روسيا البالغ عددهم 5.054.300، ويُلاحَظ أنه كان يوجد 161.500 فقط من يهود الجبال وجورجيا، وهم ليسوا من يهود اليديشية، أي أن منطقة الاستيطان كانت تضم أغلبية يهود روسيا الذين كان معظمهم يتحدث اليديشية.
وكانت منطقة الاستيطان تتكون من ثلاث مناطق تتميَّز الواحدة عن الأخرى تماماً:(11/409)
1 ـ ليتوانيا وبيلوروسيا أو روسيا البيضاء: وتضم جرودنو منسك وفلنا وفايتبسك (بوكوتسك سابقاً) وكوفنو وموجيليف.
2 ـ أوكرانيا: وتضم فولينيا وبودوليا ومقاطعة كييف (ماعدا مدينة كييف) وتشرينجوف وبولتافا.
3 ـ روسيا الجديدة: وتضم خرسون (ماعدا مدينة نيقولاييف) وإيكاتيرينوسلاف وتاوريدا (القرم) وبيساربيا التي تضم أوديسا، أهم مدن اليهود في روسيا.
واستقرت حدود المنطقة عام 1835. وكانت منطقة الاستيطان تضم رسمياً كل المناطق التي ضمت من بولندا ما عدا مقاطعات وسط بولندا والتي ظلت رسمياً خارج النطاق وداخله من الناحية الفعلية.(11/410)
وكانت منطقة الاستيطان تضم أوكرانيين وبولنديين وروسيين وليتوانيين ومولدافيين وألماناً. وكان لكل جماعة قاعدتها الإقليمية أو أرضها المتركزة فيها ما عدا أعضاء الجماعة اليهودية والألمان. ومن هنا ظهرت إحدى السمات الخاصة للمسألة اليهودية في روسيا. وقد قررت الحكومة القيصرية (عام 1843) ، لاعتبارات أمنية، عدم السماح لأعضاء الجماعة اليهودية بالسكنى على مسافة 50 فرسخاً (نحو 33 ميلاً) من الحدود. وحسب القانون الصادر لتنظيم منطقة الاستيطان، لم يُسمَح لليهود بالانتقال خارجها ولم يُسمح لهم بالدخول إلى وسط روسيا إلا مدة ستة أسابيع للقيام بأعمال محدَّدة على أن يرتدوا الأزياء الروسية. وكان متاحاً لتجار الدرجة الأولى أن يمكثوا ستة أشهر، كما كان مسموحاً لتجار الدرجة الثانية أن يمكثوا ثلاثة أشهر. ومع حكم ألكسندر الثاني، بدأت الحكومة القيصرية في تخفيف القيود عن بعض العناصر اليهودية النافعة والمندمجة، وذلك بهدف تحويل اليهود إلى قطاع منتج مندمج في المجتمع. فسُمح لتجار الفئة الأولى (عام 1859) بأن يستوطنوا خارج منطقة الاستيطان، وكذلك لخريجي الجامعات عام 1861 وللحرفيين عام 1865، كما سُمح للمشتغلين بالطب عام 1879 وللجنود المُسرَّحين بهذه الميزة. ولم يزد العدد المسموح لهم بها حسب تعداد 1897 على مائتي ألف يهودي.
وكان من بين الفئات المسموح لها بمغادرة منطقة الاستيطان الفتيات اليهوديات اللائي كن يعملن بالبغاء، فكان بوسع الفتاة أن تنتقل إلى موسكو أو أية مدينة أخرى لتمارس هذه الوظيفة وتحقق قدراً من الحراك الاجتماعي والجغرافي دون أن يكون في إمكان أسرتها اللحاق بها.
وقد حوَّل هذا منطقة الاستيطان إلى أهم مصدر للبغايا في العالم حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى وربما حتى الثلاثينيات من هذا القرن. وتم توسيع منطقة الاستيطان عام 1879 بضم مملكة بولندا إليها رسمياً، وأُبطل العمل على الحدود بقانون الخمسين فرسخاً.(11/411)
وكان 11.6% من سكان منطقة الاستيطان من أعضاء الجماعة اليهودية موزعين في القرى والمدن. وكان عددهم 4.900.000 (يشكّلون حوالي 94% من كل يهود روسيا) . وبعد عمليات الطرد من القرى، أصبح أعضاء الجماعة اليهودية مركزين أساساً في المدن. فمع بداية القرن التاسع عشر، كان 10 - 15% من سكان المدن داخل منطقة الاستيطان يهوداً، وكان أكبر تجمُّع يهودي يضم عشرة آلاف. ولكن، مع نهاية القرن، كان مليون ونصف مليون يهودي (أي ثلث اليهود في منطقة الاستيطان) من سكان المدن، وكانوا يشكلون 30% من مجموع السكان فيها وكانوا يشكِّلون 50% من مجموع سكان كثير من المدن. وكانت حوالي 41 جماعة يهودية تتكون كل منها من عشرة آلاف نسمة. وفي إحصاء عام 1897، بلغت نسبة أعضاء الجماعة اليهودية من ساكني المدن 78% (حوالي 3.800.000) . وأدَّى الانفجار السكاني إلى ازدياد الازدحام داخل منطقة الاستيطان. ومع نهاية القرن التاسع عشر، كان 94% من مجموع يهود روسيا يعيشون في منطقة الاستيطان.(11/412)
وتختلف نسبة عدد السكان اليهود إلى مجموع السكان، كما تختلف درجة تَركُّزهم في المناطق الحضرية، ومعدلات التصنيع والتحديث، من منطقة إلى أخرى. فكثير من الصناعات داخل منطقة الاستيطان كان يملكها يهود، وكان نصفها تقريباً في صناعة النسيج ثم في صناعة الأخشاب والتبغ والجلود أي في صناعات خفيفة. وكان الصراع الطبقي محتدماً، كما كانت العلاقة بين صاحب العمل والعمال اليهود تحكمها علاقات السوق الرأسمالية وليس التضامن الديني أو الإثني. ولذا، فكثيراً ما كان صاحب العمل اليهودي يفضل عمالاً غير يهود لأنهم عمالة رخيصة ولا يمثلون أية ضغوط اجتماعية عليه ليعاملهم بطريقة خاصة ويعطيهم إجازات في الأعياد اليهودية. ولكن الرأسماليين من يهود روسيا كانوا مضطرين على وجه العموم إلى استئجار عمال يهود بسبب وجودهم بأعداد كبيرة في المدن. وكانت نسبة اليهود العاملين في التجارة هي 38.6% من مجموع اليهود. أما نسبة العاملين في الحرف (أساساً في الخياطة وصناعة الأحذية) فكانت 35.4%، وكان 72.8% من جملة التجار في منطقة الاستيطان من أعضاء الجماعة اليهودية وكذلك 31.4% من الحرفيين.
وكانت الحركة الحسيدية منتشرة في صفوف يهود روسيا، وكذلك الحركات الثورية العدمية، كما ظهرت طبقة وسطى يهودية اكتسبت الثقافة الروسية. وكان نظام التعليم اليهودي التقليدي لا يزال قائماً إلى جانب المدارس العلمانية المختلفة. ومع أن الأغلبية كانت تتحدث اليديشية، فإن تعلَّم اللغة الروسية بشكل جدي بدأ يقطع أشواطاً كبيرة، كما فُتحت مدارس لتعليم العبرية بتأثير الحركة الصهيونية.(11/413)
وقد صدرت عام 1881 قوانين مايو التي منعت إنشاء أية مستوطنات خارج مدن منطقة الاستيطان، وتقرر أن اليهود الذين يعيشون في بعض قرى منطقة الاستيطان يحق لهم السكنى في هذه القرى دون غيرها. وأُعطي الفلاحون حق طرد أعضاء الجماعة اليهودية الذين يعيشون بين ظهرانيهم. وأحياناً كان يُحظَر على اليهود الإقامة في بعض المدن، مثل روستوف ويالطا، كما طُرد آلاف الحرفيين اليهود من موسكو إلى منطقة الاستيطان. وكانت هذه القرارات تعبيراً عن تَعثُّر التحديث في روسيا. وقد بُدئ في تخفيف حدة هذه القيود ابتداءً من عام 1903 بسبب الضغوط على الحكومة الروسية، فصُرِّح لأعضاء الجماعة اليهودية بالاستيطان في بعض القرى التي اكتسبت شكلاً حضرياً، وصدرت تعليمات عام 1904 تصرِّح لهم بالاستيطان خارج مناطق الاستيطان، وأيضاً بالاستقرار في المناطق الزراعية الواقعة في نطاق هذه المناطق.
وقدَّمت العناصر الديموقراطية في الدوما (البرلمان) الروسي عام 1910 مشروع قرار لإلغاء منطقة الاستيطان، ولكن العناصر الرجعية وقفت ضده، وأُلغيت المنطقة نهائياً بعد الثورة البلشفية.
والواقع أن تاريخ التجمع اليهودي، داخل منطقة الاستيطان، من أهم فصول تجربة يهود شرق أوربا في القرن التاسع عشر، وذلك للأسباب التالية:
1 ـ لاقى التجار والحرفيون اليهود منافسة شديدة من التجار والحرفيين المحليين، كما أن التحولات الاجتماعية التي كان يخوضها المجتمع الروسي أدَّت إلى تحوُّل أعداد كبيرة من اليهود إلى أعضاء في الطبقة العاملة. ولعل هذا التطور كان مهماً للغاية من منظور عملية الدمج والتدريب التي قامت بها الحكومة السوفيتية فيما بعد.
2 ـ كانت الأوضاع الاجتماعية السيئة، التي صاحبت التآكل في القيم التقليدية اليهودية، من العناصر الأساسية التي جعلت أعضاء الجماعة اليهودية مرتعاً خصباً للأفكار الثورية والحركات القومية العلمانية.(11/414)
3 ـ أدَّى الانفجار السكاني وإغلاق أبواب الحراك الاجتماعي إلى هجرة اليهود بأعداد متزايدة إلى غرب أوربا والولايات المتحدة. وكانت مدينة برودي على حدود منطقة الاستيطان المحطة التي هاجر منها الملايين.
4 ـ أدَّى تَركُّز أعضاء الجماعة اليهودية داخل مناطق بعينها، وبالذات داخل المدن، إلى احتفاظهم بشيء من هويتهم الإثنية اليديشية إذ كان بمقدورهم أن يتحدثوا، فيما بينهم، باليديشية وأن يقرأوا الصحف المكتوبة بتلك اللغة داخل الجيتو الكبير، فنشأ أدب يديشي داخل مناطق الاستيطان، كما ظهرت بدايات الحركة الصهيونية (أحباء صهيون) بين يهود روسيا، وكذلك حركات مثل البوند وفكر قومية الدياسبورا (أو القومية اليديشية) ، وكلها محاولات للتعبير عن هذه الهوية بشكل أو آخر. ويميل بعض المؤرخين اليهود مثل جرايتز ودبنوف إلى أن يصوروا منطقة الاستيطان وكأنها وطن قومي يهودي في المنفى له شخصيته القومية المحددة.
ولكل هذا، مع قيام الثورة البلشفية، وإلغائها منطقة الاستيطان، وفتحها كل روسيا أمام اليهود للاستقرار فيها، وإتاحتها فرص الحراك الاجتماعي والتنوع الوظيفي والاقتصادي، هاجر الألوف من اليهود إلى داخل روسيا. وبالتالي، نجح الاتحاد السوفيتي في القضاء على الأساس السكاني والحضاري للهوية اليهودية اليديشية وهو ما أدَّى إلى اختفاء هذه اللغة بحيث يمكننا أن نقول إنها تكابد الآن سكرات الموت.
أوديسا
Odessa(11/415)
مدينة بناها القياصرة على البحر الأسود مكان مدينة تركية صغيرة كانت تُسمَّى «خاتجيبي» استولت عليها القوات الروسية عام 1789 ولم يكن بها حينذاك سوى ستة من اليهود. وفي محاولة لتطوير المدينة، شجعت الحكومة القيصرية كل العناصر البشرية على الاستيطان فيها، فأصبح الأقنان الذين استقروا فيها مستأجرين أحراراً. وأصبحت أوديسا المركز التجاري الصناعي لجنوب روسيا أو روسيا الجديدة. وكانت أهم السلع التي تصدَّر منها الحبوب. فزاد حجم الصادرات خمس مرات. وأُسِّست فيها جامعة، عام 1865، وعدد من المسارح بل ودار للأوبرا.(11/416)
واجتذبت أوديسا أعداداً كبيرة من الأجانب حتى أنهم كانوا يشكلون ثلاثة أرباع السكان حتى عام 1819. وفي عام 1850، كان مجموع السكان 90 ألفاً منهم عشرة آلاف أجنبي. وقد تخصَّص كل عنصر بشري في نشاط اقتصادي ما، فكان اليونانيون والإيطاليون والألمان من تجار الجملة، وكان الفرنسيون يشتغلون بتجارة الخمور وتجارة التجزئة، كما كان اليهود القرّاءون يشتغلون في تجارة التبغ والسلع الشرقية، أما اليهود الحاخاميون فاضطلعوا بعدة وظائف تجارية ومالية تتداخل مع الوظائف الاقتصادية للأقليات الأخرى. وكان الجو الأممي (كوزموبوليتاني) في المدينة متطرفاً بمعنى الكلمة حتى أن أسعار تحويل العملات كانت تُكتَب باليونانية وكانت لغة الحديث بين الناس الفرنسية، وكانت علامات الطرق تُكتَب بالإيطالية والروسية، وكانت الفرق المسرحية تُقدِّم المسرحية الواحدة بخمس لغات مختلفة (وهي تشبه إلى حدٍّ ما في هذا الإسكندرية قبل قيام ثورة 1952) . وقد ساد الفكر المركنتالي سيادة تامة في أوديسا حتى بين صفوف البيروقراطية الروسية. فالهدف الذي حددته الحكومة لهم هو تحويل المدينة إلى ميناء تُصدّر منه روسيا صادراتها الزراعية، وخصوصاً القمح. ولذا، حكَّمت البيروقراطية مفاهيم المنفعة وقيمها وهو ما أدَّى إلى تَناقُص تعصبها ضد أعضاء الجماعة اليهودية والأجانب بسبب نفعهم. لكل هذا، كانت أوديسا نقطة جذب لأعداد كبيرة من يهود روسيا من جميع الطبقات الذين كانوا يرفضون الجيتو واليهودية الحاخامية والذين كانوا يشعرون بالرغبة في الهرب من منطقة الاستيطان. بل استقر في أوديسا مهاجرون يهود من جاليشيا وألمانيا، ليتمتعوا بالحريات التي مُنحت لأعضاء الجماعة اليهودية فيها وبالجو الأممي. ولذا، تزايد عدد اليهود من 10% من كل السكان عام 1795 إلى 20% (12 ألف يهودي) عام 1840 ثم إلى 34.4% (165 ألفا) عشية الحرب العالمية الأولى.(11/417)
وأصبحت أوديسا مركزاً لثاني أكبر تجمُّع يهودي في الإمبراطورية الروسية بعد وارسو عاصمة بولندا التابعة لروسيا آنذاك. وكان أعضاء الجماعة اليهودية جزءاً عضوياً من اقتصاد المدينة الجديدة، فساهموا في نموها الاقتصادي حتى بلغت نسبة أعضاء الجماعات اليهودية 56% من أصحاب الحوانيت الصغيرة و63% ممن يعملون في الحرف اليدوية وتصدير الحبوب والصيرفة والصناعة الخفيفة. وكان يوجد عدد كبير منهم في المهن الحرة. وفي عام 1910، كان 80% من تجارة تصدير الحبوب يمتلكها أعضاء الجماعات اليهودية الذين كانوا يمتلكون 50% من تجارة الجملة بشكل عام. كما كان يوجد عدد كبير من العمال اليهود (يشكلون ثلث عدد اليهود) انتشرت بينهم الحركات الثورية. وساد الاندماج واكتساب الصبغة الروسية، وظهرت طبقة من المثقفين اليهود الذين تبنوا مُثُل الحضارة الروسية والذين كان بوسعهم تحقيق درجة كبيرة من الحراك الاجتماعي في جو ثقافي منفتح. وتَدعَّم هذا الاتجاه نحو الانفتاح حينما صدرت قوانين ألكسندر الثاني عام 1860 التي حُرِّر بمقتضاها الأقنان وسُمح لأعضاء الجماعة اليهودية بدخول الجامعات.(11/418)
وتعاظم نفوذ العناصر الليبرالية الداعية إلى التنوير حتى أصبحت أوديسا أول مدينة يتولى قيادة الجماعة اليهودية فيها دعاة التنوير الذين تعاونوا مع السلطات لضرب المؤسسة الدينية اليهودية وللقيام بعمليتي الترويس والدمج. ففُتح العديد من المدارس اليهودية وكانت لغة التدريس فيها الروسية، كما كانت الموضوعات التي تُدرَس فيها موضوعات علمانية عامة، ولم تشغل الموضوعات اليهودية سوى مرتبة ثانوية. ودخل العديد من الأطفال اليهود المدارس الحكومية الروسية. وإلى جانب هذا، أُسِّست في أوديسا أول مدرسة عبرية على النمط الغربي، وهذا يعكس التناقض الأساسي الكامن في حركة التنوير في روسيا التي كانت تدعو إلى الاندماج في المجتمع ولكنها كانت تدافع في الوقت نفسه عن الأشكال اليهودية التقليدية. وقد بلغ عدد الطلبة اليهود في مدارس أوديسا ثلاثة أضعاف النسبة داخل منطقة الاستيطان. وأُسِّست فيها جمعية نشر الثقافة بين يهود روسيا التي كانت تهدف إلى ترويس أعضاء الجماعة.
واشتهرت أوديسا بتراخي أهلها عن إقامة الطقوس والشعائر وتخليهم عن القيم الدينية اليهودية (بل عدم الاكتراث بها في كثير من الأحيان) حتى كان يُضرَب بها المثل: "إن نار جهنم تشتعل حول أوديسا على مسافة عشرة فراسخ".(11/419)
وكان مصير أوديسا مثل مصير حركة التنوير في روسيا، فمع تعثُّر التحديث حدث هجوم (بوجروم) على اليهود عام 1817 بسبب صراعهم مع جماعة وظيفية أخرى وهي الجماعة اليونانية. ولم يُحسَم التناقض داخل حركة التنوير في روسيا لصالح الاندماج كما حدث في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، ولذا نجد أن بعض شرائح دعاة التنوير من مثقفي الطبقة الوسطى يتبنون الحل الصهيوني، فصدرت في أوديسا نداءات ليلينبلوم وبنسكر بعد أن شهدت نشاطاتهم الاندماجية من قبل. وأصبحت المدينة مركزاً لجماعة أحباء صهيون وجمعية بني موسى التي أنشأها آحاد هعام، وارتبطت بأسماء كثير من الزعامات الصهيونية مثل أوسيشكين وديزنجوف وبياليك وجابوتنسكي. كما صدر فيها عدد كبير من المجلات الأدبية العبرية، فأصبحت المدينة مركزاً للثقافة العبرية ولنشرها. وكانت تُنشر فيها مجلة آحاد هعام هاشيلواح.
وبعد الثورة البلشفية، استمر عدد اليهود في الزيادة إذ بلغ 180 ألفاً عام 1931، ولكن نسبتهم إلى عدد السكان أخذت في الانخفاض فأصبحوا يشكلون 29.8%. ولا يزال يوجد بعض أعضاء الجماعة اليهودية في أوديسا، ولكن أعدادهم آخذة في التناقص.
وهذا يتفق، في واقع الأمر، مع النمط العام لتطور الجماعة اليهودية، فمع تَزايُد التصنيع زاد انتشار أعضاء الجماعة وانتقلت أعداد كبيرة منهم من المناطق السكنية القديمة إلى المناطق الصناعية الجديدة.
الترويس
Russification(11/420)
«الترويس» مصطلح نُحت من لفظة «روسيا» ، وهو على صيغة المصدر من الفعل المنحوت «روَّس» . ويشير هذا المصطلح إلى صبغ الأقليات الدينية والعرْقية والإثنية في الإمبراطورية القيصرية بالصبغة الروسية، وهو جزء من عملية التحديث والتوحيد التي قامت بها الإمبراطورية الروسية والتي حاولت من خلالها فرض سلطة الحكومة المركزية على كل جوانب الحياة الخاصة والعامة للمواطنين بحيث يصبح انتماؤهم لها كاملاً وولاؤهم نحوها غير منقوص. وقد كانت الجماعة اليهودية إحدى هذه الأقليات، فحاولت الحكومة القيصرية أن تشجعهم أو ترغمهم على أن يغيِّروا لغتهم اليديشية ويتحدثوا الروسية أو البولندية أو الألمانية، وأن يستبدلوا بأزيائهم أزياء غربية حديثة ويرسلوا أولادهم إلى مدارس روسية علمانية أو مدارس روسية يهودية مختلطة. وعملية الترويس، في جوهرها، عملية تحديث وعلمنة، وهي تتداخل مع عمليات أخرى مثل «التطبيع» و «تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج» . وقد نشأت جمعيات مثل جمعية نشر الثقافة الروسية بين اليهود الروس في أوديسا لتشجيع هذا الاتجاه. كما أن تجنيد الشباب اليهودي في الجيش الروسي في سن مبكرة كان من أنجع الوسائل.(11/421)
ومع هذا، فإن كل هذه المحاولات باءت بالفشل إلى حدٍّ كبير لأن عملية الترويس كانت في جوهرها عملية إعلامية سطحية لم تواكبها تحولات بنيوية في المجتمع تفتح السبل أمام أعضاء الجماعة اليهودية ممن يرغبون في اكتساب الهوية الروسية المطروحة أمامهم. ولكن، بعد الثورة البلشفية، حدثت هذه التحولات البنيوية ومن ثم تصاعدت عملية الترويس. ويُلاحَظ أن هذه العملية، التي بدأت كجزء من مخطَّط فُرض بشكل فوقي، أصبحت حركية تلقائية نابعة من داخل الجماهير اليهودية في روسيا وغير مفروضة عليهم. فانصرافهم عن اللغة اليديشية تعبير عن الرغبة الإنسانية العامة في الحراك الاجتماعي حتى لو كان على حساب الهوية. وقد استمرت هذه العملية إلى أن اختفت اليديشية تقريباً وتروَّس يهود اليديشية، ومن ثم يُشار الآن إلى المهاجرين السوفييت إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، بأنهم «الروس» وحسب. وعملية الترويس، في مراحلها التلقائية (أي حينما لا تحتاج إلى أي قسر خارجي) لا تختلف عن أمركة أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة أو أيٍّ من مختلف عمليات الدمج الحضاري التي يمر بها أعضاء الأقليات الإثنية والدينية المختلفة.(11/422)
الباب الحادى عشر: روسيا القيصرية حتى اندلاع الثورة
روسيا من عام 1855 حتى عام 1881
Russia, from 1855 to 1881....
تغيَّرت الصورة كثيراً مع اعتلاء ألكسندر الثاني (1855 ـ 1881) العرش إذ تميَّز حكمه بأن حركة التحديث في روسيا خطت خطوات واسعة واتخذت شكلاً ليبرالياً بعد هزيمة روسيا في حرب القرم. فعلى سبيل المثال، تم تحديث النظام القضائي عام 1864 ونظام البلديات عام 1870 وكذلك نظام التجنيد، بل بدأ الحديث عن قيام حكومة دستورية. ولعل أهم القرارات قرار إلغاء نظام الأقنان عام 1861 الذي صدر نزولاً على إرادة النبلاء الإقطاعيين الذين ظهرت بينهم تطلعات نحو الانتقال إلى صفوف البورجوازية الكبيرة سواء من خلال إقامة المزارع الحديثة ورسملة الزراعة أو من خلال التوجه للعمل في المجالات التجارية والصناعية.
ويشكل هذا القرار أخطر منعطف في تاريخ المجتمع الروسي حيث شهدت هذه الفترة زيادة معدلات التصنيع والتحديث بشكل كبير، فمُدت السكك الحديدية وفُتحت أبواب الحراك الاجتماعي أمام الكثيرين، ولكن بدأت أيضاً معالم أزمة النظام القيصري في الظهور. لقد حرَّرت الدولة الروسية الأقنان ولكنها لم توفر لهم أرضاً، وبدأت القرى تقذف الملايين إلى المدن ليعيشوا تحت ظروف اقتصادية أشد وأقسى مما كانت عليه في عهد الإقطاع. ولم تكن هناك أية مؤسسات وسيطة (الأسرة أو الكنيسة) لتحميها وتوفر لها شيئاً من الطمأنينة النفسية (الحقيقية أو الوهمية) . كما أن هؤلاء الملايين كانوا يتقاضون أجوراً منخفضة لم تكن تفي بحاجاتهم بقدر ما كانت تؤدي إلى التراكم الرأسمالي السريع الذي كان يؤدي بدوره إلى تَصاعُد عملية التحديث وازدياد إفقار الجماهير وانتشار الحركات الثورية وزيادة الأوتوقراطية من جانب النظام السياسي، وهي الحلقة المفرغة التي أدَّت في نهاية الأمر إلى الثورة البلشفية.(11/423)
وقد فُتحت أبواب الحراك الاجتماعي والاقتصادي أمام أعضاء الجماعة اليهودية وغيرهم من القطاعات والأقليات في المجتمع. ورُبطت عملية إعتاق اليهود بمدى تحوُّلهم إلى عنصر نافع وعنصر اقتصادي منتج. ولتشجيع أعضاء الجماعة على تَقبُّل التحديث والترويس، قامت الحكومة بتوسيع نطاق حقوق اليهود النافعين، وخصوصاً حق السكنى في روسيا بأكملها، خارج منطقة الاستيطان بالنسبة للتجار الأثرياء الذين يُعتبَرون تجاراً من الدرجة الأولى (عام 1859) ولخريجي الجامعة (عام 1861) والحرفيين (عام 1865) والجنود اليهود المُسرَّحين (عام 1867) . ومن الأشياء المؤسفة أن العاهرات كن يُعتبَرن نافعات وهو ما شجع كثيراً من الفتيات اليهوديات، داخل منطقة الاستيطان، على امتهان البغاء كوسيلة للحراك الاجتماعي والجغرافي. وصُرح ليهود منطقة الاستيطان بالسكنى في بولندا عام 1868. وفي عام 1879، أصبح لكل من يعمل بمهنة الطب حق السكنى في أي مكان. ووُسع نطاق منطقة الاستيطان نفسها فأُبطل العمل بالقانون الذي يحظر على أعضاء الجماعة اليهودية السكنى في المنطقة الممتدة خمسين فرسخاً داخل الحدود.
وفي عام 1856، أُلغيت القوانين الخاصة بتجنيد أعضاء الجماعة اليهودية والعقوبات الخاصة التي كانت تُوقَّع عليهم، وتمت مساواتهم ببقية الشعب الروسي. وفي عام 1874، اعتُمد نظام التجنيد الإجباري العام لمدة أربع سنوات ولم يَعُد مقصوراً على الفقراء، وانضم آلاف الشباب اليهودي إلى الجيش ومُنحوا حقوقاً ومزايا عديدة، كما خُفِّضت مدة خدمة المجندين الذين أنهوا دراستهم من أربع سنوات إلى سنة واحدة.(11/424)
وفي حقل التعليم، بعد فشل تجربة أوفاروف، أُغلقت المدارس اليهودية الحكومية عام 1873 ماعدا مائة مدرسة، وفُتحت المدارس الحكومية المعادية أمام أعضاء الجماعة اليهودية واعتبرت هذه الطريقة الأسلوب الأمثل لعملية الترويس. وأخذ عدد اليهود الذين التحقوا بهذه المدارس في التزايد. كما فتحت الجامعات أبوابها لهم، فزاد عدد الطلبة اليهود في الجامعات بين عامي 1853 و1872 من 1.25% من مجموع الطلبة إلى 13.2%.
وظهر فكر حركة التنوير الذي كان من أقطابه ليفنسون ومابو ويهودا ليب جوردون. وكانوا في البداية معارضين لليديشية على النمط الألماني، لكن بعضهم تبناها كلغة قومية لا كلغة دينية. وظهر أدب يديشي من أعلامه منديل موخير سفاريم وغيره. وظهرت مطبوعات يهودية بالعبرية واليديشية والروسية. وتركت الثقافة اليهودية الروسية العلمانية الجديدة أعمق الأثر في أعضاء الجماعة اليهودية، حتى وصل ذلك الأثر إلى المدارس الدينية نفسها.(11/425)
ونشأ إحساس عام لدى يهود روسيا بأن الحكومة تأخذ مسألة الدمج بشكل جدي ومعقول، فاشتركوا في الحياة الروسية العامة، وظهر من بينهم عازفون موسيقيون، كما نشأت طبقة من التجار الأثرياء والمثقفين الداعين إلى الدمج والترويس. وقد أسَّسوا جمعية نشر الثقافة الروسية بين يهود روسيا عام 1863. وقام كبار المموِّلين اليهود ببناء الطرق والقلاع والسكك الحديدية وبتزويد الجيش بالتموين والغذاء، وامتلكوا المناجم وصناعات الطعام والنسيج وتصدير الأخشاب، وساهموا في تأسيس شبكة المصارف الجديدة في روسيا. وكانت هذه الطبقة تتركز في سانت بطرسبرج وموسكو وأوديسا ووارسو. وكان من أقطابها أسرتا جونزبرج وبولياكوف اللتان اعتبرتا نفسيهما قيادة الجماعة اليهودية. وارتبطت هذه الطبقة بالمثقفين اليهود الروس من المشتغلين بالمهن الحرة ومحرري الصحف والعلماء والكتاب. وكانت ثقافة هذه الطبقة والشرائح المحيطة بها روسية تماماً. ويُلاحَظ أن عدداً كبيراً من الشباب اليهودي بدأوا في هذه المرحلة يعملون ضباطاً في الجيش الروسي.
وساهمت هذه الجيوب الحديثة في عملية تحديث بقية يهود روسيا، إذ كانوا يرفضون الحديث باليديشية كما كانوا يتعاونون مع الحكومة في عملية التحديث، ويساهمون في نشر الثقافة الروسية بين اليهود. ولكنهم، مع هذا، ونظراً لوضعهم الطبقي المتميِّز، كانوا منعزلين عن بقية الجماهير اليهودية التي كانت تدفع وحدها ثمن التحديث بينما كانوا يجنون هم ثمراته.(11/426)
ومما ساعد على ازدهار أعضاء الجماعة اليهودية داخل منطقة الاستيطان أن هذه المنطقة لم تشهد أية حروب في الفترة 1812 ـ 1914، كما أن وجود يهود روسيا داخل إمبراطورية واحدة سهَّل الحركة بين الجماعات المختلفة وأكد تَماسُك الجماعة اليهودية. وقد تزايد عدد يهود روسيا بسرعة تفوق معدل زيادة السكان، ففي عام 1825 بلغ عددهم 1.600.000 أي 3% من مجموع سكان الإمبراطورية و12% من سكان المناطق التي تواجدوا فيها. وفي عام 1850، بلغ عددهم 2.350.000. وبلغ عددهم عام 1880 أربعة ملايين، أي أن عددهم زاد بنحو 150% خلال 50 عاماً تقريباً. ومع هذا تعثَّر التحديث في روسيا وبدلاً من دمج أعضاء الجماعة اليهودية تحوَّلت روسيا القيصرية إلى قوة طاردة لهم في الوقت الذي كانت أعدادهم آخذة في التزايد.
وكانت استجابة يهود روسيا لتعثُّر التحديث هي الهجرة التي كانت حتى عام 1870 هجرة داخلية من ليتوانيا وروسيا البيضاء إلى جنوب روسيا (روسيا الجديدة) . فحتى عام 1847، كان 2.5% من يهود روسيا يعيشون في هذه المنطقة. ومع حلول عام 1897، كانت نسبتهم تصل إلى 13.5%. ولكن نمط الهجرة اختلف بعد عام 1880 إذ اتجهت كليةً إلى خارج شرق أوربا. فهاجر 2.750.000 يهودي تركوا شرق أوربا خلال 1881 ـ 1914 (نحو مليونين من روسيا وحدها) بينما كان عدد يهود العالم عشرة ملايين، وهو ما يعني أن ربع يهود العالم كانوا في حالة هجرة. وظهرت حركة حزب البوند الثورية الذي كان يُعَد أكبر تنظيم ثوري اشتراكي في أوربا، كما ظهرت الحركة الصهيونية، وهما تعبيران مختلفان عن تعثُّر التحديث.(11/427)
ولعل أكبر دليل على تعثُّر محاولات الدمج والتحديث أن الهرم الوظيفي لأعضاء الجماعة، رغم تصاعد معدلات التحديث الاقتصادي، كان لا يزال بلا تغيير كبير إذ كان 38% من أعضاء الجماعة يعملون بالتجارة و35% يعملون بالحرف اليهودية والصناعات المرتبطة بها و3% فقط يعملون بالزراعة. ولذلك، كانت عملية اغتيال القيصر (ألكسندر الثاني) عام 1881 على يد مجموعة من الشباب الروسي الثوري، من بينهم فتاة يهودية ملحدة، تعبيراً عن المشاكل البنيوية العميقة التي يواجهها المجتمع الروسي، وخصوصاً مشكلة التناقض بين البنية الاقتصادية المتطورة والأشكال السياسية والاجتماعية المتكلسة. فشُكِّلت لجنة لإعادة النظر في المسألة اليهودية أعلنت فشل سياسة التسامح، أي فشل عملية التحديث القيصرية، وأصدرت قوانين مايو التي طُرد اليهود بموجبها من موسكو عام 1891 وحُدِّدت نسبتهم في المدارس الثانوية. وأدَّت هذه القوانين إلى طرح المسألة اليهودية على العالم الغربي بأسره إذ بدا أن روسيا بدأت تُصدِّر فائضها اليهودي إلى الجميع.
تعثر التحديث في روسيا القيصرية
Setbacks of Modernization in Tsarist Russia
لم يُقدَّر لمحاولات دمج أعضاء الجماعات اليهودية في روسيا النجاح لأسباب عدة، من أهمها ما يلي:
1 ـ خلق الانفجار السكاني بين أعضاء الجماعات اليهودية فائضاً بشرياً ضخماً لم يكن من الممكن توفير الفرص الكافية للعمل والتعليم له. كما أن الانفجار السكاني كان يخلق تجمعات يهودية مركزة يتعامل من خلالها أعضاء الجماعة مع بعضهم البعض دون حاجة إلى العالم الخارجي، الأمر الذي كان يُبطئ عملية الاندماج ويعوقها.(11/428)
2 ـ كما يُلاحَظ أن عملية التحديث نفسها كانت لها جوانب سلبية عديدة. فحظر الاتجار في الخمور على أعضاء الجماعة اليهودية كان يهدف إلى تقليل الاحتكاك بين اليهود والفلاحين، ولكن مع هذا حُرم آلاف اليهود من مصادر الدخل الوحيدة المتاحة لهم، فكان منهم مقطرو الخمور وموزعوها وتجارها. كما أن إنشاء السكك الحديدية التي مولها كبار الرأسماليين اليهود كما تَقدَّم، قضى على مصادر الدخل الأساسية لآلاف اليهود الذين كانوا يعملون في صناعة وتجارة العربات التي تجرها الخيول.
3 ـ ومما عقَّد الأمور أن عملية إعتاق أعضاء الجماعة اليهودية تزامنت مع إعتاق الأقنان، الأمر الذي جعل رقعة الأرض المتاحة للزراعة ضيقة جداً، وخصوصاً أن التاجر أو المرابي اليهودي لم يكن من السهل تحويله إلى مزارع. وأدَّى إعتاق الأقنان أيضاً إلى وجود عمالة رخيصة في السوق، الأمر الذي أدَّى بالتالي إلى طرد اليهود من كثير من وظائفهم التقليدية وإلى انحدارهم إلى مستوى الطبقة العاملة وتحوُّلهم إلى عمال، هذا مع ملاحظة أن المستوى المعيشي لغالبية أعضاء الجماعة اليهودية، حتى في أكثر أيامهم فاقة وفقراً، كان أعلى بكثير من مستوى القن الروسي أو القن البولندي.
4 ـ وكلما ازدادت معدلات التحديث، ازدادت صعوبة التكيف مع الاقتصاد الجديد، الأمر الذي كان يزيد عدد ضحايا التقدم، ففي مرحلة ما قبل 1880 خفَّف آلام الانتقال إلى النمط الرأسمالي في الإنتاج أن هذا النمط احتفظ في مراحله الأولى بأشكال إنتاج بسيطة وهو ما أتاح لعدد من أعضاء الجماعة اليهودية أن يجدوا مجالاً رحباً للعمل (في المدن الصناعية) في التجارة الجديدة وللعمل في الحرف.(11/429)
غير أن النمو الرأسمالي لم يتوقف عند هذه المرحلة، فقد اتسعت رقعة الصناعة لتشمل الصناعة الخفيفة أيضاً، فكان ذلك بمنزلة ضربات قاضية دمرت الاقتصاد الإقطاعي ودمرت معه الفروع الرأسمالية الحرفية حيث كان اليهود يتركزون بنسبة مرتفعة. وهكذا تشابكت عملية تحويل التاجر اليهودي لمرحلة ما قبل الرأسمالية إلى عامل حرفي أو تاجر رأسمالي مع عملية أخرى هي القضاء على عمل اليهودي الحرفي نفسه. وحينما كان اليهودي يتحول إلى عامل، فإنه كان يواجه منافسة الفلاحين الروس المُقتلَعين الذين كانوا يقنعون بأجور منخفضة بسبب أسلوب حياتهم البسيط.(11/430)
ومما زاد الأمور تشابكاً وتعقداً أن الحرفي اليهودي (كما يبيِّن أبراهام ليون) كان يعمل فيما يمكن تسميته «الحرف اليهودية» التي وُلدت بالشتتل. فالحرفي اليهودي لم يكن يعمل من أجل الفلاحين المنتجين بل كان يعمل من أجل التجار والصيارفة والوسطاء. ولذلك، نجد أن إنتاج السلع الاستهلاكية هو الشاغل الرئيسي للحرفي اليهودي لكون زبائنه يتألفون من رجال متخصصين في تجارة الأموال والبضائع، أي غير المنتجين أساساً. أما الحرفي غير اليهودي، فإن ارتباطه بالاقتصاد الزراعي جعله لا ينتج سلعاً استهلاكية لأن الفلاح كان يكفي نفسه بنفسه. وهكذا، إلى جانب الفلاح، كان هناك الحرفي غير اليهودي (الحداد مثلاً) ، وإلى جانب رجل المال اليهودي كان هناك الحرفي اليهودي (الترزي مثلاً) . وقد ساعد على تطوُّر الحرفي غير اليهودي ارتباطه بالتاجر المسيحي الذي كان يوظف أمواله في حرف متخصصة غير مرتبطة بالنظام الإقطاعي مثل نسج الأصواف، وهي حرف كان الغرض منها الإنتاج للتصدير لا الاستهلاك المباشر، أي أنها حرف تقع خارج نطاق النظام الإقطاعي وتمثل نواة الاقتصاد الجديد، وبالتالي فإنها لم تسقط مع الاقتصاد القديم. وانعكس هذا الوضع على أعضاء الطبقة العاملة من اليهود، فالحرف الأقل قابلية للتطور إلى صناعة كانت محصورة في أيدي الحرفيين اليهود، بينما انحصرت المهن الأكثر قابلية لهذا التطور في أيدي الحرفيين غير اليهود.
5 ـ وقويت شوكة الطبقة الوسطى الروسية، وخصوصاً بعد تَدفُّق رؤوس الأموال الأوربية الغربية على روسيا، بحيث فُتحت آفاق جديدة أمامها وأصبحت قوة اقتصادية لها وزنها يمكنها التفاهم مع البيروقراطية الحكومية (الروسية الأرثوذكسية) التي كانت تحابيها وتعطيها الأولوية والأفضلية. وتسبب كل هذا في إضعاف المموّلين اليهود وأعاق عملية تحوُّل كثير من أعضاء الجماعة اليهودية إلى أعضاء في الطبقة الوسطى الروسية.(11/431)
6 ـ أدَّى القضاء على ثورة بولندا عام 1863 إلى حرمان آلاف اليهود ممن كانوا يعملون في نظام الأرندا وكلاء للنبلاء البولندين (شلاختا) من وظائفهم.
7 ـ وفي الحالات القليلة التي كان بعض أعضاء الجماعة يحققون فيها مكانة مرموقة أو حراكاً اجتماعياً، كانوا يصبحون محط الحقد الطبقي في وقت كانت الضائقة الاجتماعية آخذة في التزايد. ومن هنا، كان اتهام اليهود بالسيطرة الاقتصادية واستغلال غير اليهود، ومن هنا أيضاً ارتسمت صورة اليهودي كرأسمالي جشع.
8 ـ ومن قبيل المفارقات أن عدداً كبيراً من أعضاء الجماعة اليهودية سقط ضحية التقدم وتحولوا إلى أعضاء في الطبقة العاملة الحضرية التي فقدت جذورها الثقافية ونمط حياتها وانتماءها الديني ومصدر حياتها. وقد وصل الفقر إلى درجة أن ثلث يهود روسيا عاشوا على معونات المنظمات اليهودية الغربية. وكل هذا يعني أن الجماهير الفقيرة لم تكن مستفيدة تماماً من عمليات التحديث ولم تكن ترى فيه حلاًّ لمشاكلها الحضارية. ولذا، التفت قطاعات كبيرة منهم، وخصوصاً صغار التجار، حول القيادات الحسيدية التي منحتها شيئاً من الطمأنينة في عالم لم تكن تفهمه البتة.
9 ـ ولكن، بالنسبة للعمال اليهود الروس والمثقفين العلمانيين، أدَّى تردِّي وضعهم إلى انخراطهم بمعدلات كبيرة في صفوف الحركات الثورية، وخصوصاً أن مستواهم الثقافي كان، كما تَقدَّم، أعلى من مستوى الأقنان. ففي عام 1899، كانت نسبة اليهود في الحركات الثورية تبلغ 24.8% في وقت كانت نسبتهم إلى عدد السكان 4.1%.(11/432)
10 ـ ويمكن أن نضيف بعض العناصر الثقافية التي أدَّت إلى فشل عملية التحديث، من بينها أنها كانت تتم رغم أنف اليهود. وقد بدأت هذه العملية بقضها وقضيضها من داخل المجتمع الروسي لا من داخل الجماعة اليهودية التي ظلت رافضة إياها. ولاقت هذه العملية مقاومة شديدة من جانب الجماهير اليهودية المتخلفة التي رفضت إرسال أطفالها إلى المدارس الروسية العلمانية، وخصوصاً أن عملية التحديث كانت كما تَقدَّم تضيرها اقتصادياً في كثير من الأحوال وتحولها إلى طبقة عاملة حضرية مفتقدة للمعنى الذي كانت تجده في وجودها التقليدي.(11/433)
11 ـ قامت الدولة الروسية الاستبدادية الملتصقة بالكنيسة الأرثوذكسية المتعصبة بالإشراف على عملية التحديث. وقام بتنفيذ هذه العملية بيروقراطية روسية ضيقة الأفق مرتشية تفتقر إلى خبرة كبيرة باليهود وبأمورهم، ذلك أن إمبراطورية القياصرة كانت تحظر على اليهود دخولها. وكانت عملية التحديث تتم داخل إطار فكرة القومية السلافية الروسية التي كانت تَصدُر عن منطلقات عضوية ضيقة تفترض أن ثمة تفاوتاً بين الناس وأن السلافية (أو الروسية) خاصية لا يكتسبها المرء وإنما يولد بها على نقيض فكرة القومية الليبرالية في بلاد غرب أوربا. وكانت عملية التحديث تتم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الذي شهد انتكاسة الفكر الليبرالي في أوربا بشكل عام وظهور الفكر السياسي الرجعي بشكله الرومانسي. ونجم عن ذلك تَصاعُد ظاهرة معاداة اليهود الذين أصبحوا بؤرةً تصب فيها أحقاد ضحايا التحديث: الرأسماليين الروس الذين كانوا يخافون منافسة الرأسماليين اليهود، والطبقة العاملة الروسية التي كان يرى أعضاؤها الرأسمالية اليهودية واقفة ضدهم. أما اليهود من أعضاء الطبقة العاملة، فوجدوا أنفسهم في عزلة. وكان أعضاء النخبة الروسية ينقسمون إلى ثوريين روس يرون الانعزالية اليهودية شكلاً من أشكال الرجعية المعادية للثورة، ومثقفين روس (من بينهم دوستويفسكي) يرون اليهودي رمزاً لاقتحام الغرب والأفكار الغربية لأمهم روسيا السلافية. ووجد يهود روسيا أنفسهم في مواجهة كنيسة أرثوذكسية تخشى العلمانية التي كان اليهود أهم دعاتها كما تخشاهم باعتبارهم أعداء المسيح، وفي مواجهة حكومة روسية رجعية وجدت أن الثوريين الروس يضمون، في كل مكان، أعداداً متزايدة من اليهود. وظهرت كتابات معادية لليهود، من أهمها كتاب جيكوب برفمان (وهو يهودي متنصر) اسمه كتاب القهال عام 1869، كما ظهرت فكرة الحكومة اليهودية العالمية التي تتآمر على الجنس البشري ومنشورات أخرى عن التلمود وتهمة(11/434)
الدم، وهي أفكار ظلت على السطح دون تأثير قوي. ومع هذا، بدأت هذه الأفكار تؤثر في تفكير البيروقراطيين ثم أخذت شكل مذبحة ضد اليهود في أوديسا عام 1871.ووُجهت تهمة دم عام 1878 ولكن المتهم بُرِّئ بعد محاكمته.
ويجب أن نبين أن الجماعة اليهودية لم تكن وحدها المُستهدَفة وإنما كانت عنصراً واحداً في بانوراما اجتماعية اقتصادية، فقد بدأ المناخ العام في روسيا يتغيَّر. ومع تَصاعُد وتيرة التحديث وتعثُّره، زاد ضحايا التقدم وزادت كذلك الهجمات على الغرباء كافة من أعضاء الأقليات سواء من الأرمن أو المسلمين أو اليهود أو حتى من المسيحيين من غير الأرثوذكس أو الأوكرانيين. لكن التحولات الاقتصادية كانت ذات طابع بنيوي عميق ولم يواكبها أي تحديث في الأشكال السياسية للمجتمع. ومن الواضح أن المجتمع الروسي كان قد وصل، مع نهاية السبعينيات، إلى طريق مسدود لم يكن من الممكن تجاوزه، كما لم يكن من الممكن استئناف التحديث إلا عن طريق ثورة اجتماعية.
ألكسندر الثاني (1855-1881)
Alexander II
قيصر روسيا بدأ حكمه بمحاولة التوصل إلى طرق ليبرالية لدمج اليهود. وبالفعل، شهد عهده ظهور حركة التنوير بين يهود روسيا وتَزايُد معدلات العلمنة والاندماج بينهم. ولكن، بدأت تتضح في نهاية عصره أزمة النظام القيصري، كما ظهرت الاستجابات اليهودية المختلفة لأزمة اليهودية واليهود، وبدأت أعداد متزايدة من الشباب اليهودي تنخرط في الحركات الثورية. وقامت جماعة إرهابية شعبوية، بينها فتاة يهودية ملحدة، باغتياله.
روسيا من عام 1881 حتى الثورة البلشفية (1917)
Russia, from 1881 to the Bolshevik Revolution (1917)(11/435)
اتسمت عملية التحديث في روسيا القيصرية بالتنافر الشديد بين الأشكال السياسية الاستبدادية السائدة في المجتمع ومعدلات التنمية الاقتصادية السريعة التي كانت تتزايد وتدفع بالملايين من القرى إلى السوق، تاركين أنماط حياتهم التقليدية حيث يتحولون من أقنان وفلاحين وحرفيين صغار إلى عمال أجراء، مع ما يتبع ذلك من آلام وضياع ثم إحساس بالفردية ورغبة في المشاركة في السلطة. ولم تقدم الحكومة القيصرية أية صيغ عقائدية تساهم في تقليل آلام الانتقال أو في توسيع نطاق المشاركة في تسيير دفة الحكم. بل إنه مع اعتلاء ألكسندر الثالث الحكم (1881 ـ 1894) ، ازداد التشدد والأوتوقراطية، وخصوصاً تحت تأثير بُوبيدونستسيف الذي كان يرفض المثل الديموقراطية تماماً. وقد تلقى القيصر نفسه تعليماً دينياً تقليدياً، كما ظهر عديد من المفكرين الرجعيين (مثل كاتكوف وليونتييف) الذين طالبوا بضرورة وضع حدود صارمة على الشعب الروسي وضرورة الحد من حرياته من جديد. فقد نمت روسيا وتطورت ـ في رأيهم ـ مع نمو التفاوت بين الطبقات في المجتمع الروسي، ومع تأسيس نظام الأقنان وتَطوُّر الوظائف التي تُشغَل بالوراثة. وسيطرت تلك الروح الرجعية على جميع مجالات الحياة في روسيا ووصل أثرها إلى حياة الفئات والطبقات والجماعات كافة، فأُعيدت التشريعات التي تحدد التعليم على أساس طبقي، وأصبح من العسير على أبناء الطبقات الفقيرة أن يلتحقوا بالمدارس. وفي منشور صادر من وزارة التربية معروف باسم «منشور أبناء الطباخين» ، جاء أن من الواجب عدم قبول «أبناء قائدي العربات والخدم والطباخين وأصحاب الحوانيت الصغيرة والغسالات ومن شابههم» . كما زيدت مصاريف الجامعات حتى تقلل فرص الالتحاق بها أمام الفقراء. وأُلغي الفصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية، فعُيِّن في العادة بدلاً من القضاة في الريف رؤساء قرويون من طبقة النبلاء يقومون بإصدار الأحكام وتنفيذها. وتم تقييد حرية الصحافة(11/436)
تماماً، وطورد أعضاء الجماعات المسيحية التي لا تدين بالأرثوذكسية. وفي كثير من الأحيان، كانوا يُمنعون تماماً من إقامة شعائرهم بل كان يتم خطف أطفالهم منهم. وتجلت السياسة القومية الرجعية أيضاً في القيود الشديدة التي فُرضت على مختلف الجماعات غير الروسية (السلافية وغير السلافية) الموجودة على الحدود، مثل البولنديين، إذ فُرض عليهم برنامج قاس للترويس. وانتهى عصر القيصر ألكسندر الثالث بمجاعة وقعت عام 1891 زادت بؤس الجماهير.(11/437)
ولم يكن أعضاء الجماعة اليهودية سوى أحد القطاعات البشرية المنكوبة التي وقعت ضحية عملية القمع الرجعية هذه. فقد بدأ عهد ألكسندر الثالث بسلسلة من الهجمات على كثير من مراكز اليهود السكانية استمرت نحو ثلاثة أعوام وتأثر بها نحو 60 ألف يهودي. وقد وقعت الهجمات بعد أن قامت بعض الصحف الروسية الرسمية بشحن الجو ضدهم باعتبارهم مستغلي الفلاحين. وتشكلت لجنة للتحقيق في الحوادث توصلت إلى أن نشاط اليهود الاقتصادي هو السبب في هذه الهجمات (ولكن اللجنة، مع هذا، لاحظت أن سلوك الشرطة والجيش لم يكن فوق الشبهات) . ثم شُكِّلت لجنة أخرى لإعادة النظر في المسألة اليهودية طرحت اقتراحات لا تختلف كثيراً عن اقتراحات وتوصيات اللجان السابقة. وبناء عليه، أصدر وزير الداخلية الكونت إجناتييف قوانين مايو المؤقتة عام 1882 باعتبارها إجراءات استثنائية تنطبق على منطقة الاستيطان وتهدف إلى حماية المواطنين الروس من اليهود باعتبارهم عنصراً أجنبياً غريباً. ولكن، ظهرت صعوبات كثيرة عند تطبيق هذه القوانين، فشُكِّلت لجنة أخرى عام 1883 لمناقشتها واستمرت اللجنة الجديدة في اجتماعاتها خمسة أعوام وأوصت عام 1888 بضرورة رفع القيود عن اليهود وإعتاقهم. ولكن البيروقراطية تجاهلت تلك التوصيات وقامت بطرد اليهود من موسكو عام 1891 وتحديد عددهم في المدارس، وهو ما أدَّى إلى سفر أعداد متزايدة من الشباب اليهودي إلى الخارج حيث تم تسييسهم وتثويرهم. ولم يتغيَّر الوضع كثيراً في حكم نيقولا الثاني (1894 ـ 1918) آخر قياصرة آل رومانوف. وقد شهدت المرحلة تصاعداً في تطور الصناعة الرأسمالية والتصنيع لم يواكبها تحديث في النظام، فشهد عام 1893 تصاعداً في تطور الصناعة الرأسمالية بقدر لم يسبق له نظير، وتضاعف عدد أعضاء الطبقة العاملة. وقد زاد إنتاج الفولاذ والبترول ثلاثة أضعاف، وزاد طول السكك الحديدية من 28 ألفاً إلى 49 ألف فرسخ. ورغم السياسة التي اتبعتها الحكومة(11/438)
التي تهدف إلى تقليل فرص التعليم أمام الفقراء، زاد عدد الطلبة في المدارس وقلت نسبة الأمية. ففي بلد كانت الأمية فيه كاملة تقريباً في بداية القرن، وصل عدد الذين يعرفون القراءة والكتابة عام 1897 إلى 27.8%. وزاد حجم الطبقة العاملة، فكانت الألوف تهجر القرى وتنضم إلى الطبقة العاملة الحضرية.
وكرد فعل لهذه التغيرات، زادت النزعات القومية السلافية الروسية وزاد قمع الأقليات والشعوب التابعة، وخصوصاً غير السلافية، فتم قمع الأوكرانيين والبولنديين والمسلمين في الإمارات الإسلامية، وكذلك تم قمع أعضاء الجماعة اليهودية. ومن أشهر الأحداث التي شهدتها الفترة حادث يوم الأحد الأسود في 9 يناير 1905 حين قام مائتا ألف عامل من الرجال والنساء والأطفال يقودهم الأب جابون بالسير إلى قصر الشتاء ليقدموا شكواهم لأبيهم القيصر. وبدلاً من أن يقابلهم القيصر، انهالت عليهم رصاصات الحرس القيصري فحصدت نحو سبعين منهم وجرحت ما يزيد على الألف.
واستمر الفوران، فشهد أكتوبر 1905 إضراباً عاماً شل الحياة تماماً. واضطر القيصر إلى أن يمنح الشعب الحريات البرلمانية بعد هزيمة القوات الروسية أمام اليابان، ولكنه ظل يماطل ويُعدِّل القوانين إلى أن تم تعديلها بشكل جعلها تفقد كثيراً من فعاليتها. وظهرت جماعات إرهابية مثل جماعات المائة السود التي اغتالت زعماء المعارضة وهاجمت تجمعات اليهود.
وبلغ النظام القيصري نهايته مع ظهور راسبوتين (1872 - 1916) وسيطرته على زوجة القيصر ثم على القيصر نفسه بحلول عام 1905. وكان راسبوتين، كما يقول سكرتيره اليهودي آرون سيمانوفيتش، شخصية كاريزمية جاء من صفوف الفلاحين وكان يتلذذ بإذلال أعضاء الطبقة الأرستقراطية، وخصوصاً النساء، ولا يعيِّن منهم إلا من يروقه أو من يدفع له الثمن. وقد اغتيل راسبوتين عام 1916، بعد أن كان قد هزَّ النخبة الحاكمة القيصرية من جذورها وبعد أن كان قد تم تصفية عناصر كثيرة منها.(11/439)
وقد كان يهود روسيا جزءاً من هذه العملية الانقلابية، فوقعت مذبحة كيشينيف عام 1903 (ويُقال إنها تمت بتحريض من وزير الداخلية فون بليفيه، وهو أمر غير مستبعد تماماً، فقد كانت الحكومة القيصرية تلجأ إلى مثل هذه الأساليب في قمع معارضيها) . وكانت مذبحة كيشينيف هذه جزءاً من سلسلة من الهجمات دُبرت ضد أعضاء الجماعة اليهودية وغيرهم، كما وُجِّهت تهمة الدم الشهيرة إلى بيليس عام 1911، ولكن العناصر الليبرالية دافعت عنه وتمت تبرئته تماماً.
وحينما عُقدت الانتخابات عام 1907، اختير اثنا عشر مندوباً من اليهود في الدوما (البرلمان) ، كما كان هناك عدد كبير من النواب الليبراليين الذين دافعوا عن حقوق اليهود، ولكن التشكيل السياسي نفسه كان محافظاً، وكانت أكبر الكتل السياسية داخل الدوما (اتحاد الشعب الروسي) معادية لليهود. ولذا، فحينما طُرح اقتراح بشأن إلغاء منطقة الاستيطان، أُجِّل بحثه ثم حُلَّ الدوما نفسه في العام نفسه، وعُدِّلت القوانين الانتخابية ذاتها بحيث تم القضاء تماماً على العناصر الليبرالية في الدوما.(11/440)
وكان التركيب الوظيفي ليهود روسيا في نهاية القرن الماضي (حسب إحصاء 1897) كما يلي: 31.6% يشتغلون بالتجارة، 37.9% يشتغلون بالحرف والصناعات اليدوية نصفهم يعمل بالخياطة، و6.61% يشتغلون كخدم منازل وعمال يومية، و5% في المهن الحرة والإدارة، و3.2% في النقل، الأمر الذي يعني أن عدد أعضاء الجماعة اليهودية العاملين في التجارة كان لا يزال مرتفعاً. وقد سيطر التجار اليهود على تجارة الحبوب داخل منطقة الاستيطان، كما سيطروا على تجارة السكر والفرو والجلود والماشية ومختلف المنتوجات الزراعية. وارتفع بعض التجار من يهود روسيا إلى مصاف كبار الرأسماليين وأصبحوا من أصحاب المصارف والوكالات العامة. وانخرط بعض هؤلاء التجار في المشاريع الصناعية، غير أن هذه المشاريع اتصفت بالطابع الاستهلاكي، كالنسيج والتبغ ودبغ الجلود والصابون والمطاحن وأعمال التقطير، وكلها من بقايا نظام الأرندا البولندي، وكانت هذه المشاريع الصناعية أصغر بشكل عام من حجم مثيلاتها الروسية حيث كان المموِّل اليهودي يميل إلى توزيع رأسماله بين عدة مشاريع مختلفة بدلاً من حصرها في مشروع واحد. وقد امتلك الرأسماليون من يهود روسيا نحو نصف مجموع المشاريع الصناعية داخل منطقة الاستيطان. وكثيراً ما كان العمال اليهود ينظمون الإضرابات ضدهم كما كانوا في كثير من الأحيان يفضلون العمال غير اليهود بسبب رخصهم وبسبب عدم وجود ضغوط اجتماعية عليهم من قبل الجماعة اليهودية.
ومن الملاحَظ أن تركُّز اليهود في مهن مثل التجارة والصناعة يعني أنهم كانوا متركزين تماماً في المدن. والواقع أن نحو 80% من جملة اليهود كانوا يقطنون المدن، ولم يكن يشتغل منهم سوى 1.07% في الزراعة، وكان هناك نحو 5.49% بدون وظيفة محددة.(11/441)
واستمر تَزايُد أعضاء الجماعة اليهودية فبلغ عددهم 6.946.000 أي 4.07% من مجموع سكان روسيا، وتزايد في هذه الفترة عدد العمال اليهود حتى أصبح 600 ألف. ولكن لم يكن يعمل منهم في المصانع سوى 70 ألفاً، و300 ألف عامل حرفي يدوي، و100 ألف بائع، أما الباقون فكانوا عمال يومية، ومن هنا تَضارُب الإحصاءات إذ تذكر المصادر الأخرى أن عدد العمال لم يكن يزيد على 300 ألف. ومن الواضح أن هذا الإحصاء الأخير استبعد الباعة وعمال اليومية وكثيراً من الحرفيين.
وقد تركت كل هذه التحولات أعمق الأثر في أعضاء الجماعة اليهودية واستجابوا لها استجابات متباينة بحسب وضعهم الطبقي أو مدى استفادتهم من عملية التحديث أو مدى تركُّزهم في المدن أو خارجها. وكانت الاستجابة الثورية أولى الاستجابات إذ انخرط الشباب اليهودي في صفوف الحركات الثورية بنسبة تفوق كثيراً نسبتهم إلى عدد السكان.
ويُلاحَظ أن الشباب اليهودي في روسيا كان من أكثر العناصر ثورية لأن ثقافته التقليدية (الدينية واليديشية) قُضي عليها إلى حدٍّ كبير. كما أنه اقتُلع من بيئته التقليدية وأُلقي به إلى عالم حديث رموزه القومية مسيحية، الأمر الذي زاد غربته وحداثته، على عكس الشباب الروسي الذي كان يجد شيئاً من الخصوصية ويمارس نوعاً من التجذر من خلال القومية السلافية ذات البعد الأرثوذكسي القوي. ورغم أن الشباب من أعضاء الجماعة اليهودية كان قد فقد جذوره الثقافية، فإنه لم يكن قد استقر بعد في التقاليد الثقافية الروسية. ومما زاد نسبة الثوريين في صفوف اليهود تَزايُد معدلات التحديث الذي حوَّل صغار التجار والحرفيين، الذين كانوا يتمتعون بمستوى ثقافي لا بأس به، إلى بروليتاريا صناعية حضرية تشعر بتدنيها في السلم الاجتماعي وتمارس إحساساً بالاضطهاد الواقع عليها وحولها إلى تربة خصبة للأفكار الثورية.(11/442)
أما الاستجابة الثانية، فهي الهجرة. وقد شهدت هذه المرحلة هجرةً على نطاق واسع لم يشهد أعضاء الجماعات اليهودية مثلها من قبل في تجاربهم التاريخية المختلفة. وقد ترك روسيا، في الفترة من 1881 إلى 1914، نحو مليوني يهودي (2.750.000 من كل شرق أوربا) . ونتج عن ذلك تَحسن نسبي في مستوى المعيشة، لأن المهاجرين كانوا يرسلون إلى أقاربهم وأسرهم معونات مالية، كما أن ذلك حلَّ مشكلة الانفجار السكاني حلاًّ مؤقتاً. وقامت مؤسسات يهودية خيرية في الغرب بالمساهمة في تسهيل عملية الهجرة. فعرض البارون دي هيرش نقل ثلاثة ملايين يهودي إلى الأرجنتين على أن تقوم بذلك جمعية الاستيطان اليهودي (إيكا) . ومع هذا، فإن تَزايُد عدد يهود روسيا كان يحيِّد الآثار الإيجابية لهذا العنصر. وبلغ عدد اليهود الناطقين باليديشية (وفق إحصاء 1897) نحو 5.054.300، وكان معظم يهود روسيا (4.899.427) مركزاً في منطقة الاستيطان بما يشكل 11.6% من سكانها. ويُلاحَظ كذلك وجود 161.500 من يهود الجبال ويهود جورجيا وغيرهم من يهود القوميات غير الناطقة باليديشية.
أما الاستجابة الثالثة، فهي ظهور الصهيونية بين اليهود بشقيها الشرقي (الاستيطاني) والغربي (التوطيني) . ففي شرق أوربا، أدَّى تَوقُف الحراك الاجتماعي في بعض قطاعات البورجوازية الصغيرة المتعلمة وفي غيرها من القطاعات اليهودية إلى إحساسها بالإحباط وبعبث محاولة تحقيق نفسها إثنياً وطبقياً من داخل التشكيل السياسي الروسي، فبدأت هذ القطاعات في التفكير في أشكال أخرى مثل الهجرة إلى الولايات المتحدة (وهو النمط السائد) أو الاستيطان الصهيوني. وأدَّت الهجرة اليهودية المكثفة إلى غرب أوربا والولايات المتحدة إلى فزع قطاعات كبيرة من يهود الغرب، فتبنوا الحل الصهيوني (التوطيني) كوسيلة لتحويل سُبل الهجرة عن بلادهم.(11/443)
ومن أهم الاستجابات الأخرى، ظهور اتجاه قومية الدياسبورا (أو قوميات الأقليات اليهودية أو القومية اليديشية) التي كان سيمون دبنوف أهم مفكريها. وقد تبنَّى حزب البوند، الذي ظهر في هذه المرحلة، هذا الاتجاه الذي ينظر إلى أعضاء الجماعة في شرق أوربا باعتبارهم قومية لا بمعنى أنهم يمثلون اليهود في كل مكان وزمان وإنما بمعنى أنهم جماعة قومية شرق أوربية تتحدث اليديشية وتتحدد هويتها على هذا الأساس الإثني وليس على أساس ديني.
ومثل هذه الاستجابات الواعية، ذات الطابع النظري، كان يتم طرحها في وقت تتم فيه العملية اليومية للدمج على قدم وساق على المستوى البنيوي الكامن، وذلك رغم تعثُّرها على مستوى الشكل الظاهر.
ألكسندر الثالث (1881-1894)
Alexander III
قيصر روسيا، اعتلى العرش مع تفاقم أزمة النظام القيصري، وتبنَّى سياسة رجعية انعكست في قوانين مايو عام 1882.
نيقولا الثاني (1894-1918)
Nicholas II
آخر قياصرة آل رومانوف. وصلت أزمة النظام الروسي القيصري في عهده إلى ذروتها، ثم اندلعت الثورة البلشفية التي أعدمته. وقعت عدة مذابح في عهده ضد أعضاء الجماعات اليهودية. وكان راسبوتين من أهم الشخصيات في بلاطه الملكي.
قوانين مايو
May Laws(11/444)
«قوانين مايو» مجموعة من القوانين المؤقتة أصدرتها الحكومة الروسية في مايو عام 1882، وبمقتضاها أصبح من المحظور على أعضاء الجماعات اليهودية في روسيا أن يعيشوا أو يمتلكوا أي عقار إلا في المدن الموجودة داخل منطقة الاستيطان اليهودي. ولقد أصدرت الحكومة الروسية هذه القوانين بعد أن قامت، خلال سنين عديدة، بعدة محاولات لدمج الجماعة اليهودية اقتصادياً وحضارياً في المجتمع الروسي. وباءت كل هذه المحاولات بالفشل لأسباب عدة من بينها تخلف يهود روسيا الاقتصادي. ورغم اندماج أعداد لا بأس بها منهم في المجتمع، فإن معدل تَزايُد يهود روسيا كان يفوق كثيراً معدل الهجرة والاندماج. ومما عقَّد الأمور، ظهور الأفكار السلافية القومية الاستبدادية المعروفة بعدائها للغرب (المنحل) ولأفكار الرأسماليين (الماديين) . وكان هناك عنصر مسيحي أرثوذكسي قوي في هذه الدعوة السلافية، وهو ما أقام كثيراً من الصعوبات في طريق أعضاء الجماعة اليهودية نحو الاندماج الحضاري.
ولقد كان من أسباب تفاقم المشكلة أيضاً زيادة معدلات تطور الرأسمالية الروسية، الأمر الذي أدَّى إلى سرعة تحطيم الكثير من مخلفات الإقطاع، مثل الجيتو والشتتل، والكثير من الأشكال الاقتصادية الاجتماعية الأخرى التي كان اليهود مرتبطين بها، شأنهم في ذلك شأن بعض الأقليات القومية والدينية الأخرى، وكذلك سكان المناطق الآسيوية. كما أن الوجود اليهودي الملحوظ في الحركات الثورية الاشتراكية، جعلهم هدفاً لهجمات العنصريين الرجعيين، أي أن فشل يهود روسيا في التأقلم مع الاقتصاد الجديد وتخلُّفهم الحضاري وتكاثرهم، وسرعة معدل تطوُّر الرأسمالية الروسية، واستبدادية القومية السلافية، واشتراك اليهود في الحركات الثورية، هذه العناصر جميعاً أدَّت إلى فشل محاولات تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج، وأدَّت بالتالي إلى اتخاذ الحكومة الروسية إجراءات قانونية اقتصادية لمجابهة هذا الوضع.(11/445)
وفي 22 أغسطس عام 1881، أصدر القيصر أوامره بالقيام بتحريات عن النشاطات الاقتصادية " الضارة " التي تمارسها الجماعة اليهودية توطئةً للقضاء عليها. وفي أكتوبر 1889، أصدر القيصر أوامره إلى اللجنة المكلفة بإعادة النظر في المسألة اليهودية. وعُرفت هذه اللجنة باسم «لجنة إيجناتييف» ، اشترك فيها ممثلون عن مختلف الطبقات والجماعات وترأسها حاكم المقاطعة لتقرير أنواع النشاط الاقتصادي التي تضر بحياة السكان. وعبَّر الفلاحون وسكان المدن عن شكواهم من اليهود، وحاول ممثلو الجماعة اليهودية الدفاع عن أنفسهم. وفي ربيع عام 1882، قدمت هذه اللجنة تقريرها عن المسألة اليهودية. وجاء في هذا التقرير أن سياسة ألكسندر الثاني «المتسامحة» فشلت، وأن قيام المعارضة الشعبية ضد اليهود في روسيا نفسها برهن على أنه من الواجب اتخاذ إجراءات جديدة ضد اليهود الروس. وفي نهاية التقرير، قدمت اللجنة عدة توصيات لعلاج الموقف. وأخذت الحكومة بهذه التوصيات ووضعها موضع التنفيذ في صورة إجراءات مؤقتة. ونظراً لأن هذه الإجراءات المؤقتة صارت نافذة المفعول في يوم 2 مايو عام 1882، فإنها يُشار إليها دائماً بأنها «قوانين مايو» . وكانت هذه القوانين أو هذه الإجراءات تَصدُر تباعاً، وعلى فترات، كلما رأت الحكومة الروسية خطراً عليها من النشاط السياسي أو الاقتصادي الذي يمارسه اليهود. ويمكن أن نوجز هذه القوانين فيما يلي:
1 ـ لا يُسمَح لليهود بالسكنى خارج المدن أو في المدن الصغيرة في أية منطقة ريفية في روسيا (حتى لو كانت داخل منطقة الاستيطان نفسها) .
2 ـ من حق السكان الروس في القرى طرد اليهود من قراهم، وذلك بقرار خاص يصدره رئيس القرية.
3 ـ أي يهودي يغادر قريته لا يُسمح له بالعودة إليها مرة ثانية.
4 ـ لا تُحدَّد عقود الإيجار المبرمة مع اليهود.
5 ـ لا يُسمح بتشغيل أي يهودي في المناطق الريفية.(11/446)
6 ـ لا يُسمح لليهود المقيمين في المناطق الريفية باستجلاب أي قريب لهم إلى هذه المناطق، وإذا حدث ذلك يُطرَد اليهودي من قريته.
7 ـ عدد الطلاب اليهود في المدارس الإعدادية والثانوية أو في الجامعات يكون بنسب معيَّنة يحددها المجلس التعليمي في روسيا. وحُدِّد النصاب المسموح لليهود عام 1886 بنحو 10% داخل منطقة الاستيطان و3% خارجها.
8 ـ خُفِّضت نسبة عضوية الأعضاء اليهود في سلك القضاء الروسي من 22% إلى 9% (مُنع اليهود منعاً باتاً من الانضمام إلى سلك القضاء عام 1889) .
9 ـ أي يهودي يعيش خارج منطقة الاستيطان ويقوم بتوسيع مجال نشاطه الاقتصادي يُعاد فوراً إلى منطقة الاستيطان.
10 ـ أي يهودي يغيِّر وضعه من مهني إلى تاجر، يسقط حقه في الإقامة في روسيا ويُعاد إلى منطقة الاستيطان.
11 ـ تحريم إقامة اليهود في موسكو (صدر هذا القرار عام 1891) .
12ـ إغلاق معبد موسكو وتحريم استخدامه. كما تم حرمان اليهود من حق الاشتراك في الحكومة المحلية.
قلَّصت قوانين مايو نطاق منطقة الاستيطان، كما قضت على فرص اندماج بعض القطاعات اليهودية في المجتمع الروسي، وهو ما زاد معدلات هجرتهم إلى الولايات المتحدة، كما خلقت مناخاً اقتصادياً فكرياً قضى على الحركات التنويرية الاندماجية وشجع الأفكار الصهيونية، وخصوصاً أن صدور قوانين مايو صاحبه وقوع بعض الحوادث الدامية ضد الأقليات الدينية والقومية في روسيا.
ووجهت اللجان الروسية القيصرية نقدها إلى هذه القوانين وطالبت بإلغائها. بل إن وزير داخلية روسيا، مثل فون بليفيه، وجد أن القوانين مجحفة وتخل بالأمن، ولكن الحكومة استمرت مع ذلك في وضعها موضع التنفيذ. ومع هذا، فقد خُفِّفت ابتداءً من عام 1903 حينما صُرح لأعضاء الجماعة اليهودية بالاستيطان في القرى التي أصبحت مدناً صغيرة وكان عددها يبلغ ثلاثمائة قرية.(11/447)
وتؤرخ الكتابات الصهيونية لظهور الحركة الصهيونية بوقوع حوادث عام 1881 الدامية، متجاهلة أن السبب الأساسي الذي أدَّى إلى وقوع المذابح وصدور قوانين مايو هو وضع اليهود كأقلية مثل سائر الأقليات الأخرى داخل بناء اقتصادي حضاري ينتقل من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى، ومتجاهلة أيضاً أن الاضطهاد الموجه ضد اليهود ليس سبباً لهجرة اليهود إلى الولايات المتحدة ولا لانتشار الأفكار الصهيونية بين اليهود وإنما تعبير جزئي عن بناء كامل متكامل. وإذا أردنا استخدام الواقعة التاريخية الجزئية (الجزء) للإشارة إلى الحركة التاريخية الكاملة المتكاملة (الكل) ، فإننا نجد أن «قوانين مايو» أشد دلالة من المذابح الدامية، ذلك أن المذابح الدامية مسألة متكررة في حياة الأقليات كافة في روسيا وضمن ذلك اليهود. وقد كانت مذابح شميلنكي، ومن قبلها مذابح الصليبيين، أكثر عنفاً وضراوة من أية حوادث وقعت عام 1881. ومع هذا، فإن هذه المذابح لم تؤد إلى ظهور الصهيونية أو أية نزعات مماثلة. أما قوانين مايو، فإنها تصلح كمؤشر على ظهور الحركة الصهيونية بين اليهود لأنها تعبير متكامل عن حركة التاريخ الروسي في أواخر القرن التاسع عشر وعن تعثُّر التحديث في المجتمع الروسي وأزمته العامة.
وقد ظلت قوانين مايو أو الإجراءات المؤقتة نافذة المفعول حتى عام 1915 حيث أُلغي العمل بها. ثم أُلغيت رسمياً عام 1917 بقيام الثورة البلشفية حيث حُلَّت المسألة اليهودية (أو أخذت شكلاً جديداً) ضمن عملية حل أزمة المجتمع الروسي ككل.(11/448)
الباب الثانى عشر: الاتحاد السوفيتي
الاتحاد السوفيتي من عام 1917 حتى الحرب العالمية الثانية
The Soviet Union, from 1917 to the Second World War....
أخذت حدود الاتحاد السوفيتي شكلها النهائي عام 1920. وكان هذا يعني أن عدداً كبيراً من اليهود الذين كانوا يعيشون داخل مناطق تابعة لدول حصلت على استقلالها (بولندا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا وبيساربيا التي ضُمت إلى رومانيا) أصبحوا تابعين لهذه الدول. ولم يبق سوى 2.680.000 يهودي داخل الاتحاد السوفيتي (مقابل ما يزيد على خمسة ملايين قبل الحرب) ، 80% منهم كانوا يعيشون في أوكرانيا وروسيا البيضاء. كانت أوكرانيا تضم 1.574.428 (5.4% من مجموع سكانها) ، وكانت روسيا البيضاء تضم 407.428 (8.2% من مجموع سكانها) . كما كانت الجمهوريات الآسيوية تضم 109.851 (0.40% من مجموع سكانها) . وزاد عدد اليهود إلى ما يزيد على ثلاثة ملايين عشية الحرب العالمية الثانية. وتركَّز 87% من جملة اليهود في المدن، وتركَّز 40% منهم في ست مدن على وجه التحديد، وكان أعضاء الجماعة يعملون أساساً بالتجارة.(11/449)
وكانت أولى الخطوات التي اتخذتها الحكومة البلشفية هي إعتاق اليهود وإعطاؤهم حقوقهم السياسية كافة. فأصبحت معاداة اليهود جريمة تصل عقوبتها إلى الإعدام، وحُدِّد الانتماء العرْقي على أساس اختيار المواطن ووفق ما يدلي به كل فرد باختياره المحض، كما تم الاستناد في تحديد الانتماء القومي إلى اللغة التي يحدد العضو أنها لغته القومية. ولكن الحكومة البلشفية أهملت، مع هذا، الجوانب الخاصة للمسألة اليهودية في روسيا، وقللت من شأن سماتها المحددة ربما بسبب رؤيتها الثورية الأممية. فلينين ومن بعده ستالين، تأثرا بتجربة ماركس الألمانية وبطرحه العالمي أو الأممي للمسألة اليهودية الذي يرى أن ثمة ظاهرة يهودية عالمية واحدة وأن ثمة حلاًّ واحداً هو الثورة الاجتماعية ودمج اليهود. ففي ألمانيا التي كان يعرفها ماركس، لم تكن هناك كتلة بشرية يهودية ضخمة ذات سمات ثقافية محددة تضم الطبقات كافة، وإنما كانت هناك أقلية صغيرة معظم أعضائها من البورجوازية موزعون داخل دولة تسودها أغلبية متجانسة عرْقياً. ولذا، كان الاندماج هو الحل الأمثل بالنسبة إليها، على أن تَعقُب ذلك أو تتزامن معه ثورة اجتماعية. هذا هو الحل الذي طرحه ماركس وكاوتسكي وباور. وكان الحل الذي تبناه لينين والبلاشفة، مع بعض التعديلات، ليطبقوه على وضع مختلف تماماً. فنادى بأن لا أساس لوجود أمة يهودية مستقلة وأن شعار الثقافة اليهودية «هو شعار الحاخامات والبورجوازية، شعار أعدائنا» . وأن القضية هي ببساطة قضية انعزال واندماج وثورة اجتماعية. وطرح ستالين تعريفه الشهير للأمة وقال «إن اليهود أمة على ورق» . ويُلاحَظ أن لينين وستالين يستخدمان مصطلح «أمة» بالمعنى العام للكلمة تماماً مثلما فعل ماركس. ولكن حيث إن التشكيل السياسي الروسي مختلف تماماً عن التشكيل السياسي الألماني، وحيث إن وضع الجماعات اليهودية داخله كان متميِّزاً، فإن تاريخ السياسة السوفيتية تجاه المسألة(11/450)
اليهودية في روسيا هو تاريخ التناقض بين الرؤية الماركسية الأممية (الألمانية) والواقع الروسي الخاص. ولعل أولى القضايا التي أفلتت من يد البلاشفة أن لفظ «يهودي» ، في الاتحاد السوفيتي، كان يشير إلى عدة مجموعات حضارية ودينية واجتماعية علاقتها بعضها بالبعض واهية، فكانت لفظ «يهودي» يشير إلى:
1 ـ يهود روسيا الذين يتحدثون اليديشية في المقام الأول، أي يهود اليديشية، وهؤلاء كانوا ينقسمون إلى عمال وتجار صغار ورأسماليين كبار وفلاحين. ويُلاحَظ أن عمر الثقافة اليديشية كان قصيراً جداً، فلم يظهر الأدب اليديشي إلا في أواخر القرن التاسع عشر. ولذا، لم تثبت اليديشية كثيراً أمام تيارات التحديث وبدأت تظهر عليها أعراض الشيخوخة.
2 ـ قطاعات من يهود روسيا تتحدث اليديشية ولكنها تكتب مؤلفاتها بالعبرية باعتبارها لغة العبادة في الماضي واللغة القومية في المستقبل، وهؤلاء كانوا أساساً من الصهاينة الذين بدأوا يؤسسون أدباً مكتوباً بالعبرية.
3 ـ اليهود الذين تم علمنتهم ودمجهم في المجتمع الروسي ولا يتحدثون سوى الروسية.
4 ـ اليهود ذوي الأصل الألماني ويتحدثون الألمانية.
5 ـ اليهود القرّائين الذين لا يؤمنون بالتلمود وكانت أعداد كبيرة منهم تتحدث التركية والتترية.
6 ـ يهود جورجيا الذين يتحدثون الجورجية.
7 ـ يهود الجبال الذين يتحدثون لغة التات، ويتبعون تشكيلات اجتماعية قبلية.
8 ـ يهود بخارى ويتحدثون الطاجيكية وهي لهجة فارسية.
9 ـ مجموعات قبلية يهودية صغيرة أخرى ذات تراث ثقافي متميِّز مثل الكرمشاكي.
10 ـ كما كانت لفظ «يهودي» يشير، بطبيعة الحال، إلى كل يهود العالم، وخصوصاً يهود ألمانيا وفرنسا وإنجلترا.(11/451)
وكان من الصعب، بطبيعة الحال، إطلاق لفظ «قومية» على كل هذه الجماعات اليهودية التي تتحدث بعدة لغات وتعيش داخل مناطق مختلفة وليست لها أرض مقصورة عليها (ربما باستثناء يهود الجبال والمجموعات القَبَلية الصغيرة الأخرى) . ومن الناحية المنطقية المجردة، فإنهم ليسوا أمة على الإطلاق لأنهم لا يشكلون جميعاً قومية واحدة. ومع هذا، فمن الممكن اعتبارهم جماعات يهودية مختلفة، بعضها دون هوية إثنية خاصة مثل يهود إنجلترا وألمانيا، والبعض الآخر يتمتع بمثل هذه الهوية بدرجات متفاوتة من الاستقلال. وبدلاً من التفكير في إطار القومية العالمية، أو الجماعة الواحدة، كان من الممكن التفكير في إطار الجماعات القومية وغير القومية داخل التشكيل السياسي الروسي، وكان من الممكن طرح سياسات متعددة تختلف باختلاف الأوضاع الثقافية للجماعات اليهودية المختلفة. وهو ما لم يفعله السوفييت في بادئ الأمر، وإن كان الواقع فرض عليهم تعددية الحلول بعد أن ظلوا يتحركون داخل أطر «علمية» أحادية بسيطة.(11/452)
شهدت الشهور الأولى للثورة اندلاع الحرب الأهلية في عدة مناطق من أهمها منطقة أوكرانيا الحدودية التي كانت تحارب فيها عدة جيوش من بينها الجيش الأوكراني القومي تحت قيادة بتليورا وعصابات الفلاحين التابعين له، والجيش الأحمر الذي كان يضم وحدات أوكرانية وجيوش صغيرة وقوات أخرى. ولجأت القوات السوفيتية إلى استخدام العنف ضد الفلاحين، وخصوصاً أن سياسة مصادرة الحبوب أدَّت إلى تمرُّد العناصر الفلاحية الأوكرانية التي رأت في أعضاء الجماعة اليهودية عناصر مقترنة بالنظام السوفيتي الجديد وبالسلطة الحاكمة، فهاجمتهم كما هاجمتهم قوات بتليورا. وأدَّى كل هذا إلى التفاف اليهود حول الثورة (وقد حلت كثير من التنظيمات اليهودية الاشتراكية نفسها وانضمت إلى الثورة، في حين تعاون الزعيم الصهيوني جابوتنسكي مع بتليورا وقواته) . وانضم الشباب اليهودي في أوكرانيا وغيرها من المناطق إلى الجيش الأحمر الذي أسسه ليون تروتسكي وكان من قادته البارزين زينوفييف وسفردلوف. وفي عام 1926، كان عدد الضباط اليهود 4.4% من مجموع ضباط الجيش الأحمر. ولعب أعضاء الجماعة اليهودية دوراً مهماً في إعادة بناء الهيكل الإداري للدولة الجديدة بعد أن هاجرت أعداد كبيرة من المثقفين والموظفين الروس البيض إلى الخارج.(11/453)
ولكن، ورغم انعتاق أعضاء الجماعة اليهودية سياسياً، فإن السياسة الاقتصادية للنظام السوفيتي تسبَّبت موضوعياً في اقتلاعهم وتغيير نمط حياتهم. فالثورة البلشفية (كما كانت تُطلق على نفسها) ثورة عمال وفلاحين، ولم تكن غالبية يهود روسيا عمالاً ولا فلاحين. وحتى أعضاء الطبقة العاملة من اليهود، كانت نسبتهم صغيرة. ولم يكونوا مرتبطين بالطبقة العاملة الروسية ارتباطاً حضارياً أو حتى اقتصادياً، إذ تركزوا في المصانع الصغيرة والحرف اليدوية وقطاعات معيَّنة من الصناعات الاستهلاكية. كما أن الظروف فرضت عليهم الارتباط إلى حدٍّ كبير بالرأسماليين اليهود الصغار. أما بقية اليهود من أعضاء البورجوازية الصغيرة والكبيرة، فكانوا إما يمتلكون صناعات استهلاكية، وإما يضطلعون بدور الوسيط التجاري في المدن الصغيرة.
وأدَّت الممارسات الاقتصادية البلشفية إلى اكتساح الأساس الاقتصادي لوجود الكتلة البشرية اليهودية وتركزها في مناطق معينة. فانفرط عقدها، وبدأت عملية ذوبانها التدريجي، وهي عملية استمرت حتى قُضي على معظم التجمعات السكانية اليهودية داخل منطقة الاستيطان.
وشهدت مرحلة شيوعية الحرب (1918 ـ 1921) عديداً من القرارات الاقتصادية ذات الطابع الثوري، مثل تحويل أجور المستخدمين إلى أجور عينية، وإجبار المزارعين على تسليم منتجاتهم من المواد الغذائية. كما اتُخذت قرارات أخرى كان لها تأثير مباشر على اليهود، مثل تأميم الصناعة والتجارة وفرض العمل الإجباري على البورجوازية.(11/454)
ثم عدلت الحكومة الروسية مؤقتاً عن سياسة شيوعية الحرب وتبنت «السياسة الاقتصادية الجديدة» التي عُرفت باسم «النيب» N.E.P (1921 ـ 1927) ، وهو اختصار للعبارة الإنجليزية «نيو إيكونوميك بوليسي New Economic Policy» ، والتي سمحت بأشكال من الاستثمار الخاص والنشاط التجاري والمصانع الصغيرة. واستفاد أعضاء الجماعة اليهودية أكبر استفادة من هذه السياسة الجديدة. وكان التوزيع الوظيفي ليهود روسيا عام 1926 كما يلي: 19.1% في التجارة (كان ثُلث محلات موسكو عام 1924 يملكها يهود) ، وكان 34.3% في الصناعة والحرف، و9.2% في الزراعة، و10.2% في وظائف إدارية ومهنية. ورغم أن عدد العاملين بالزراعة قد وصل إلى 9.2% مقارنة بنحو 2.6% حسب إحصاء عام 1897، فإن نسبة المشتغلين بالتجارة كانت مرتفعة، كما يُلاحَظ أن نحو 27% من العاملين اليهود كانوا غير مصنفين وظيفياً، ويُرجَّح أن أغلبيتهم كانوا يمارسون التجارة والمضاربات سراً وتحت ستار أعمال أخرى (وكان هذا جزءاً من موروثهم الاقتصادي) .
أدَّى كل ذلك إلى ظهور طبقة رجال النيب في المدينة والكولاك في القرية، الأمر الذي كان يهدد الأساس الاقتصادي للنظام الجديد. ورغم أن التجارة كانت مهنة مشروعة، فإن الدولة البلشفية الجديدة لم تكن سعيدة بهذا التطور إذ كانت تنظر بعين الشك إلى القطاعات الاقتصادية المستفيدة.
ثم تم التراجع عن هذه السياسة، وبدأت الخطة الخمسية الأولى (1927 ـ 1932) التي تشكل بداية عملية التذويب الحقيقية لأعضاء الجماعة. فحسب إحصاءات العشرينيات، كان ثُلث اليهود ينتمون إلى طبقات اقتصادية، مثل طبقة صغار التجار، محكوم عليها بالاختفاء نتيجة إعادة صياغة الاقتصاد السوفيتي. ويُقال إن نحو 1.120.000 يهودي اضطروا إلى إغلاق تجاراتهم الصغيرة فزاد عدد العاطلين عن العمل على مليون، واتجهت أعداد منهم إلى التعامل في السوق السوداء.(11/455)
وقرر الاتحاد السوفيتي حل مسألته اليهودية عن طريق عمليتين مختلفتين متناقضتين وإن كانتا قد أدَّتا، كل واحدة منهما على طريقتها، إلى دمج أعضاء الجماعة اليهودية. أما الأولى، فهي سياسة توجيه اليهود نحو الزراعة والاستيطان الزراعي، وهي استمرار لمحاولات الحكومة القيصرية التي استهدفت تحويل اليهود إلى عنصر منتج. فأُسِّست لجنة الاستيطان الزراعي اليهودي (كوزمت) . وطُبِّقت التجربة في أوكرانيا بقدر معقول من النجاح، ولكن كان التركيز على بعض مراكز الاستيطان الزراعي السابقة مثل جنوب روسيا أو روسيا الجديدة التي كانت تضم أربعين ألف فلاح يهودي. ووقع الاختيار أيضاً على شبه جزيرة القرم حيث كانت توجد مناطق صالحة للاستيطان الزراعي. وساهمت منظمات التوطين الغربية، مثل جمعية الاستيطان اليهودي (إيكا) التي أسسها المليونير الألماني اليهودي هيرش، ولجنة التوزيع المشتركة في هذه العملية. وزاد عدد المزارعين اليهود زيادة هائلة، وزادت الرقعة الزراعية التي يشغلونها أربعة أضعاف. وبلغ عدد المزارع التعاونية اليهودية خمسمائة مزرعة حتى أواسط الثلاثينيات، وهي الفترة التي وصلت فيها التجربة إلى قمة ازدهارها. وبلغ عدد اليهود العاملين بالزراعة 155 ألف مزارع يهودي عام 1926، أي 6% من العاملين اليهود، ثم زاد إلى 220 ألفاً عام 1928، أي 8.5%، ثم إلى نحو 300 ألف في أوائل الثلاثينيات، أي 10.1%. ويُلاحَظ أن اضطلاع اليهود بالعمل في الزراعة لا يعني بالضرورة العمل اليدوي، وإنما يعني في الواقع قطاع الزراعة ككل بما في ذلك الأعمال الكتابية والإدارية التي كان يتركز فيها أعضاء الجماعة اليهودية. ولكن، بعد فترة، توصل المسئولون السوفييت إلى أن شبه جزيرة القرم لا توجد فيها أرض زراعية كافية، كما أن التوطين الزراعي يؤدى إلى زيادة التماسك العائلي وهو ما يدعم عملية الانفصال اليهودي. وإلى جانب هذا، عارض بعض السكان المحليين عملية توطين اليهود(11/456)
بينهم. ويُقال أيضاً إن القيادة السوفيتية وجدت أن شبه جزيرة القرم منطقة مهمة من الناحية الإستراتيجية تقع على مقربة من غرب أوربا، وقد يؤدي تركيز عنصر يهودي فيها إلى خلق مشاكل ذات طابع أمني في المستقبل. وشهدت الثلاثينيات بداية عملية الزراعة الجماعية والتي كانت أيضاً عملية تذويب إذ تم ضم عناصر غير يهودية في الكولخوزات اليهودية. وأدَّت العناصر السابقة جميعاً إلى القضاء على تجربة الزراعة اليهودية.
وفي عام 1928، تقرَّر أن تكون بيروبيجان هي منطقة الاستيطان الزراعي اليهودية وإحدى وسائل دمج اليهود في المجتمع السوفيتي على المستويين الاقتصادي والثقافي. ولكن لم يُقدَّر لهذه التجربة أي نجاح، وأدَّى الغزو النازي إلى تدمير جميع المستوطنات الزراعية في أوكرانيا والقرم ولكن لم يجر تشييدها بعد الحرب.(11/457)
فشلت تجربة بيروبيجان، كما فشلت محاولة توجيه اليهود من المدن والتجارة إلى قطاع الزراعة، لا بسبب طبيعة اليهود التجارية وانعزاليتهم (كما ادعى خروتشوف) وإنما بسبب التحول العميق في الاقتصاد السوفيتي من الزراعة إلى الصناعة. وهذه إحدى ثمرات مشروع السنوات الخمس الأولى (1929 ـ 1934) ، وهي عملية متناقضة مع عملية التوطين الزراعي، ولكنها مع هذا أدَّت إلى دمج اليهود وتذويبهم ربما بمعدلات أكثر من تلك التي خطَّط لها السوفييت. وقد أكد مشروع السنوات الخمس أهمية التنمية الصناعية وخُصِّصت لها الاعتمادات الضخمة، الأمر الذي زاد الطلب على الأيدي العاملة وأتاح الفرص أمام أعضاء الجماعات اليهودية لأن يتحولوا إلى عنصر منتج من خلال الصناعة. وقامت المنظمات اليهودية التوطينية، مثل جمعية الاستيطان اليهودي (إيكا) ومنظمة إعادة التأهيل والتدريب (أورت) ولجنة التوزيع المشتركة، بفتح مدارس لتدريب اليهود على الحرف. كما قامت حكومات أوكرانيا وروسيا البيضاء بوضع خطط لتدريب الشباب اليهودي على الصناعة. ونجحت هذه الخطط في توفير أعمال في القطاع الصناعي والحكومي لآلاف اليهود خارج منطقة الاستيطان. ولم تكن هناك أية بطالة بين أعضاء الجماعات اليهودية بحلول عام 1930، بل نشأت من صفوفهم فئات جديدة من موظفي الحكومة والعاملين في المشاريع الصناعية. ونتيجة هذه التحولات، تزايدت هجرة أعضاء الجماعات اليهودية إلى داخل روسيا وإلى المدن. وكانت هذه أكبر هجرة يهودية منذ التدفق اليهودي اليديشي إلى أمريكا في نهاية القرن السابق. وأدَّت هذه الهجرة، مثل الهجرة إلى الولايات المتحدة، إلى دمج أعضاء الجماعات اليهودية واستيعابهم وحل المسألة اليهودية. وتظهر مدى راديكالية هذه العملية في الزيادة الملحوظة في عدد اليهود في أكبر مدينتين روسيتين، موسكو وليننجراد، حيث كانتا تضمان 26.024 يهودي فقط عام 1897. وأصبح عدد أعضاء الجماعات اليهودية فيهما، بعد ما(11/458)
يقرب من أربعين عاماً، نحو 575 ألفاً. وكل هذا يعني، في واقع الأمر، زيادة تَحلُّل المراكز السكانية اليهودية الضخمة، وتَوزُّع سكانها. وقد كانت أوكرانيا وحدها تضم عام 1926 نحو 76% من يهود روسيا، وانخفضت النسبة إلى 62% عام 1939، وهو اتجاه استمر حتى العصر الحديث. وتغيَّر وضع يهود روسيا الوظيفي إذ أصبح عدد العمال اليهود عام 1939 نحو 30.6% (من كل العاملين اليهود) وعدد الحرفيين 10.1% وعدد الفلاحين في الكولوخوز 5.8% (أي أن أكثر من نصف اليهود أصبحوا من العمال والفلاحين) و40.6% في أعمال كتابية، و2.9% في وظائف أخرى. ويُلاحَظ أن الوظائف الكتابية حلت محل التجارة باعتبارها أهم وظيفة يضطلع بها أعضاء الجماعات اليهودية. وتضم الوظائف الكتابية في الاتحاد السوفيتي المؤلفين والعلماء والمثقفين والموظفين الحكوميين. وكان عدد اليهود العاملين في تلك الوظائف 364.000 منهم 125 ألف محاسب.(11/459)
أما من الناحية الثقافية، فقد كان الاتجاه العام يسير نحو الدمج الثقافي أو تأكيد الثقافة اليديشية العلمانية اللادينية التي لا علاقة لها بالثقافة الدينية التقليدية. وقد أنشأت الحكومة السوفيتية عام 1918 قسماً خاصاً للشئون اليهودية يُسمَّى «يفيسكتسيا» أي «القسم اليهودي» (تم حله عام 1930) . ولما كان أعضاء الحزب اليهود من دعاة الاندماج، فإن هدف القسم اليهودي كان «نشر ديكتاتورية البروليتاريا بين الجماهير اليهودية» . وقد انضمت إليهم قطاعات من البوند وعمال صهيون وحزب العمال اليهودي، حيث طالبوا بتشجيع اليديشية وسيلة للتعبير عن ثقافة يهودية علمانية معادية للدين اليهودي وللعبرية والتوراة. وقد قام القسم اليهودي بتصفية الأطر التعليمية التقليدية المتبقية بين اليهود، كالمدارس وما شابهها، ومنع تدريس العبرية، كما قام بتجريم النشاط الصهيوني، واعترف باليديشية لغةً رسمية حتى أصبحت إحدى اللغات المعترف بها في المحاكم وأصبحت تدار بها الجلسات. وكذلك شجع الأدب اليديشي، وخصوصاً المسرح اليديشي، فشهدت الفترة ككل ازدهاراً حقيقياً لهذا الأدب. وأُسِّست كلية لدراسة الثقافة اليهودية، كما أُسِّست شبكة من المدارس الابتدائية والثانوية لغة التدريس فيها اليديشية، بالإضافة إلى كليات تربوية لإعداد مدرسين لليديشية. ووصل عدد اليهود الذين التحقوا بهذه المدارس إلى 51% من مجموع الطلاب اليهود عام 1926. ولكن العدد بدأ في الانخفاض التدريجي، وهو ما يبين أن الانصراف عن اليديشية وتَقبُّل الترويس (وهي العملية التي بدأت في حكم القياصرة) أصبحت عملية تلقائية تنبع من الحركيات الداخلية لأعضاء الجماعة الذين كانوا يفضلون إرسال أطفالهم إلى المدارس الحكومية الروسية لأن ذلك كان يعني زيادة فرص الحراك أمامهم. ولذا، نجد أن أعداد الطلبة اليهود في مدارس أوكرانيا وروسيا البيضاء أخذت في التزايد، وأخذت الثقافة اليديشية في الاختفاء التدريجي،(11/460)
وخصوصاً مع تغيير الوضع الوظيفي ليهود روسيا وهجرتهم من مراكز التجمع التقليدية إلى المدن وابتعادهم عن مراكز الثقافة اليديشية التقليدية.
وهكذا انصرف كثير من يهود اليديشية عن التحدث باليديشية أو دراستها، وانصرف كثير من الكُتَّاب اليهود الروس عن الكتابة باليديشية وبدأوا يكتبون بالروسية. وتناقص عدد الطلبة اليهود الذين يدرسون في المدارس اليديشية إلى 33% عام 1931 ثم إلى 20% عام 1939، وأُغلقت عدة مدارس يديشية أبوابها لعدم وجود طلبة. كما أن الاندماج تبدَّى بكل وضوح في زيادة نسبة الزواج المُختلَط في الثلاثينيات إلى 25% من مجموع الزيجات اليهودية. ويُلاحَظ أن معدلات الاندماج بين الشباب كانت أعلى بكثير من مثيلتها بين المتقدمين في السن. ويمكن القول بأن العقيدة اليهودية لم تَعُد أحد أشكال التضامن بين أعضاء الجماعة الذين بدأت عملية علمنتهم في منتصف القرن الماضي، ثم تصاعدت هذه العملية مع نهاية القرن، ثم أخذت شكلاً عقائدياً واعياً وحاداً مع ظهور الدولة السوفيتية.(11/461)
وقد بلغ عدد أعضاء الجماعات اليهودية عام 1932 نحو 2.870.000 بزيادة قليلة نسبياً عنه عام 1926، وذلك نتيجة تسارع تدفُّق اليهود نحو المدن وعدم توافر الزمن الكافي للاستقرار والزواج، إضافة إلى ما تحمله الحياة في المدينة من تعقيدات في الحياة اليومية تقلِّل الرغبة في الإنجاب. وقد بلغت الزيادة الطبيعية بين اليهود 1% في مدن روسيا، بينما وصلت 2.5% في الجمهوريات الآسيوية. وحسب إحصاء عام 1939، بلغ عدد اليهود نحو 3.040.000، أي بزيادة مقدارها ثلاثمائة ألف. وقد لاحظ المؤرخ الروسي سيمون دبنوف عام 1935، عشية الحرب العالمية الثانية، أن أعضاء الجماعة اليهودية انفصلوا إلى حدٍّ كبير عن تاريخهم. وتنبأ بأن المليون ونصف المليون يهودياً سيصبحون مواطنين سوفييت لا يهوداً، أي أن السمات اليهودية المقصورة على اليهود والتي تميزهم كيهود ستأخذ في الضمور والتحلل إلى أن تختفي تماماً ويصبح اليهود السوفييت مجرد مواطنين سوفييت لا يختلفون عن بقية المواطنين في شيء، وقد أثبتت التطورات التاريخية اللاحقة صدق نبوءته اللاحقة. أما حملة التطهير التي شنها ستالين بين عامي 1936 و1939 ضد كوادر الحزب الشيوعي وقياداته، والتي شملت العديد من أعضاء الجماعة اليهودية، مثل زينوفييف وكامينيف وراديك وغيرهم، فلم تترك أثراً ملحوظاً في أغلبية اليهود الذين كانوا ينظرون إلى ما يجري باعتباره صراعاً بين ستالين ومعارضيه أو بين الستالينية والتروتسكية.
الاتحاد السوفيتي من الحرب العالمية الثانية حتى الوقت الحاضر
The Soviet Union, from the Second World War to the Present(11/462)
ضمت روسيا في الفترة من 1939 ـ 1940 أراضي تضم أعداداً كبيرةً من اليهود (جاليشيا الشرقية وليتوانيا وبيساربيا وبوكوفينا وغيرها) . وقد رحبت الجماهير اليهودية بالضم السوفيتي إذ وجدت فيه حماية لها من الغزو النازي الوشيك. ولكن، مع عام 1941، قامت القوات النازية بطرد الاتحاد السوفيتي نفسه وضم سائر المناطق التي كان قد ضمها من قبل، فهرب ما يزيد على مليون يهودي منها. وبذلت الحكومة السوفيتية جهداً غير عادي لنقل اليهود، وأعطت الأولوية لهذه العملية. وساهم ذلك بدوره في عملية اقتلاع اليهود من مناطق تجمُّعهم التقليدية. أما بقية أعضاء الجماعة، فسقطوا في يد النازيين حيث تمت إبادتهم باعتبارهم أوست يودين (يهود شرق أوربا) ، كما تمت إبادة أعضاء بعض الجماعات والأقليات الأخرى. وشهدت السنوات التي تلت الحرب مباشرة فترة الإرهاب الستاليني الذي يُقال إنه كان ذا نبرة عنصرية واضحة ومعادية لليهود.(11/463)
ومع هذا، فإن عملية الدمج والترويس أصبحت حركياتها داخلية تنبع من داخل الجماعة نفسها وليست مفروضة عليها من الخارج من قبل الحكومة. وقد تزايدت بحيث أصبح الدمج اندماجاً. ولا يزال أعضاء الجماعة مركَّزين أساساً في المدن العظمى. ويُلاحَظ أن عدد اليهود المشتغلين بالزراعة قد تناقص، وحتى أولئك الذين يعملون في الريف معظمهم يقوم بأعمال كتابية. ويلعب أعضاء الجماعة دوراً متميزاً في المؤسسات التجارية السوفيتية. كما يُلاحَظ أيضاً أن عدد العاملين في التجارة الحرة من أعضاء الجماعات اليهودية، في أواخر الخمسينيات، بلغ نحو نصف مليون فرد من مجموع عدد العاملين في التجارة من عموم المواطنين السوفييت البالغ عددهم نحو خمسة ملايين. وهكذا شكَّل التجار اليهود نسبة 20% من مجموع العاملين بين أعضاء الجماعة ونسبة 19% من مجموع التجار، بينما لم تزد نسبة اليهود إلى عدد السكان على 1%. وقد قامت الحكومة السوفيتية في أوائل الستينيات بحملة ضد النشاطات الاقتصادية غير المشروعة، وسنت قانوناً بمعاقبة مرتكبي الجرائم الاقتصادية بالإعدام، وتم تنفيذ العقوبة في عدد من المتهمين بلغ عددهم حوالي 112 تاجراً من تجار السوق السوداء كان نصفهم من اليهود.
وشهدت أواسط الخمسينيات، والسنوات التي تلتها، ارتفاعاً بالغاً في عدد الطلاب من أعضاء الجماعات اليهودية بالمعاهد العليا والجامعات وهو ما نتج عنه زيادة عدد المشتغلين (من اليهود) بالمهن الحرة.(11/464)
وبصفه عامة، يتمتع يهود الاتحاد السوفيتي بأعلى مستوى تعليمي بالمقارنة بسائر القوميات السوفيتية. ففي جمهورية روسيا الاتحادية تلقى 344 يهودياً تعليماً عالياً من بين كل ألف (مقابل 43 فقط بين الروس) . وإذا استبعدنا العجزة حيث تكون نسبة التعليم العالي بينهم منخفضة، وإذا استبعدنا المرحلة العمرية 11 ـ 22، حيث لم يكمل أعضاؤها دراستهم بعد، يصبح عدد المتعلمين تعليماً عالياً بين اليهود ستمائة لكل ألف. وتشير إحصاءات تعداد عام 1959 إلى أن نسبة اليهود الحاصلين على 7 سنوات من التعليم أو أكثر هي 613 لكل ألف وهي نسبة فاقت مثيلتها بين القوميات الأخرى. كما نجد أن نسبة اليهود الحاصلين على تعليم عال كانت نحو 179 عام 1959 لكل ألف شخص فوق 10 سنوات، زادت إلى 229 عام 1970 بالمقارنة بنحو 62 لكل ألف على مستوى إجمالي السكان السوفييت.
وقد شكل أعضاء الجماعات اليهودية عام 1956 ـ 1957 نحو 4.2% من طلبة الجامعات والمعاهد العليا، إلا أن هذه النسبة انخفضت إلى 1.2% عام 1978 حيث شهدت فترة 1965 ـ 1978 انخفاضاً كبيراً في أعداد الطلاب اليهود (بنسبة 46.7%) نتيجة الهجرة إلى الخارج وارتفاع متوسط أعمار السكان اليهود وما ترتب عليه من تقلُّص حجم من هم في السن الجامعي.
ولا يوجد عمال من أعضاء الجماعات اليهودية، سواء في الصناعة أو الأعمال الزراعية، إلا بشكل هامشي يكاد لا يُذكَر، حتى أن الإحصاءات في العقدين الأخيرين لا تورد أية إحصاءات عن عدد اليهود في المعامل والمصانع الثقيلة أو الزراعية.(11/465)
وقد كانت هناك نسبة عالية من أعضاء الجماعات اليهودية في القيادة العليا للجيش السوفيتي خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن خلال أعوام 1948 ـ 1953 أُحيل 333 من القيادات العليا من اليهود للتقاعد، ولم يتبق يهودي واحد عام 1953 بين صفوف كبار الضباط. ويبدو أن بعض المهن مثل الجيش والأجهزة الأمنية والخارجية وغيرها مغلقة تقريباً أمامهم. ويُلاحَظ أن 75% من العاملين اليهود حاصلون على تعليم عال ويتجهون إلى التمركز في المهن العلمية والحرة مثل الهندسة والطب والعلوم، ففي عام 1964 شكَّل أعضاء الجماعات اليهودية 14.7% من إجمالي الأطباء في الاتحاد السوفيتي، و8.5% من إجمالي الكُتَّاب والصحفيين، و19% من الموسيقيين، و11% من العاملين في مجالات البحث العلمي. وتدل هذه النسب على أن أعضاء الجماعات اليهودية أصبحوا يتمتعون بأوضاع اقتصادية متميزة عن بقية شعوب الاتحاد السوفيتي وبشكل أدَّى إلى منح أبناء الفئة التجارية بشكل خاص فرص دخول الجامعات والمعاهد العليا بدلاً من أن تضطرهم الحاجة الاقتصادية إلى التوجه نحو العمل في المعامل والمصانع. كما تدل من جهة ثانية على تمتعهم بالمساواة التامة في الحقوق، وعلى عدم فرض أية قيود للحد من ارتفاع نسبتهم في الجامعات والمعاهد العليا.(11/466)
أما في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، فقد انخفضت هذه النسبة حيث شكَّل أعضاء الجماعات اليهودية 4.5% من مجموع العاملين في مجال البحث العلمي، و6% من مجموع العاملين في مجال الفن والثقافة والأدب والصحافة، و3.4% في الطب، و6% في القانون، و7.6% من إجمالي العلماء الحاصلين على درجات علمية عليا. ويُلاحَظ أن ما ينخفض هو نسبة المهنيين من أعضاء الجماعات اليهودية إلى نسبة المهنيين على المستوى القومي. أما عدد المهنيين من أعضاء الجماعات اليهودية نفسه فهو آخذ في الارتفاع، فقد زاد عددهم من 260.900 إلى 389.000 في الفترة من 1957 حتى 1977، ولكن نسبتهم إلى مجموع المهنيين الروس في الفترة نفسها انخفضت من 9.3% إلى 3.7%. وانخفضت كذلك نسبة العاملين في مجال البحث العلمي من 18% عام 1947 إلى 5.3% عام 1977 وإلى 4.5% عام 1982. والواقع أن أسباب هذا الانخفاض هو ارتفاع متوسط أعمار اليهود العاملين مقارنة بمتوسط أعمار العاملين من السكان السوفييت، واقتراب الكثيرين منهم من سن التقاعد، وانخفاض أعداد طلبة الجامعة من أعضاء الجماعات اليهودية الذين يشكلون المصدر الأساسي لهذه الاختصاصات. وبالتالي، يلعب اليهود دوراً أقل في مجال العلوم والبحوث وتتركز غالبيتهم في المراكز ذات المكانة المتوسطة والدنيا في هذا القطاع. ويُلاحَظ أن دخل اليهودي السوفيتي أعلى من دخل المواطن السوفيتي، وهذا أمر مفهوم إذ أن عدداً كبيراً من يهود الاتحاد السوفيتي من المهنيين وهم الفئة المتميِّزة في المجتمع السوفيتي.(11/467)
أما نسبة أعضاء الجماعات اليهودية في الحزب الشيوعي، فقد شكلت في أوائل الستينيات واحدة من أعلى النسب القومية المختلفة داخل الحزب. إذ قُدرت هذه النسبة بنحو 3.5% عام 1961، بينما كانت نسبتهم إلى عدد السكان أقل من ذلك بكثير. كما بلغت نسبتهم عام 1982 نحو 1.5% (استناداً إلى تقدير أن عدد الأعضاء اليهود في الحزب نحو 260 ألفاً) وذلك من مجموع أعضاء الحزب البالغ في ذلك الحين نحو 14 مليون عضو. ولذلك، فإنهم يُعتبَرون سادس جماعة قومية مُمثَّلة في الحزب (عام 1976) .(11/468)
ويُلاحَظ أن العدد الكلي ليهود الاتحاد السوفيتي كان آخذاً في التناقص. ولعل تركُّزهم في المدن وفي المهن الحرة يفسر سرّ تناقصهم وذوبانهم (كما هو الحال في الولايات المتحدة، حيث تؤدى السمات نفسها إلى النتائج نفسها) . ويُعتبَر اليهود القومية الوحيدة في الاتحاد السوفيتي التي تناقص عددها. فقد قُدر عدد اليهود السوفييت بثلاثة ملايين بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن عددهم نقص إلى 2.268.000 عام 1959. وقد أصبح يهود الاتحاد السوفيتي أقلية حضرية إذ يوجد 2.161.702 من اليهود في المدن، ولا يوجد سوى مائة ألف يهودي تقريباً في الريف (بعضهم مندوبون للحزب ويعملون بالوظائف الكتابية الحسابية) . وقد تناقص عدد أعضاء الجماعة عام 1970 إلى 2.151.000، أي أنه أصبح أقل من الإحصاء السابق بنحو مائة ألف نسمة، فإذا أضفنا إلى ذلك مجمل نسبة زيادة اليهود الطبيعية وهي 250 ألفاً لاتضح أن نحو 400 ألف يهودي قد ذابوا في المجتمع خلال فترة الستينيات. وحسب إحصاء عام 1979، بلغ عدد يهود الاتحاد السوفيتي 1.810.876، وهو ما يعني أن عددهم تناقص إلى 340 ألفاً: 177 ألفاً (وفي إحصاءات أخرى 200 ـ 300 ألف) من خلال الهجرة، أما الباقون (نحو 163 ألفاً) بسبب العوامل السكانية والاندماج. ويمكن أن تُضَم نسبة الزيادة الطبيعية المحتملة التي يمكن أن نقدرها بنحو 150 ألفاً إلى النقص السابق في العدد (أي 163 ألفاً) ، وذلك يعني أن نسبة الذوبان في نحو تسعة أعوام بلغت نحو313 ألفاً.(11/469)
وفي عام 1985، بلغ مجموع اليهود السوفييت 1.600.000 ثم هبط عددهم عام 1989 إلى 1.449.167، أي أنهم تناقصوا حوالي 400 ألف أو أكثر (أي 20%) خلال عشرة أعوام. وأوردت إحدى المراجع أن معدل تناقُص يهود الاتحاد السوفيتي السنوي هو 30 ألفاً (وإن كان معدل التناقص حسب هذا الإحصاء هو 40 ألفاً سنوياً) وهو تناقص طبيعي وليس من خلال الهجرة. ولذا فهناك تنبؤات بأن هذه الجماعة في طريقها إلى الاختفاء ولا شك في أن معدل الهجرة اليهودية الحالي وسقوط الاتحاد السوفيتي قد يعجل بذلك.
وبالفعل يُلاحَظ أن عدد يهود البلاد التي كانت ضمن الاتحاد السوفيتي سواء في أوربا أم آسيا هو 868.400، أي أنهم تناقصوا حوالي 580.767. ويبلغ عدد يهود روسيا في الوقت الحالي (1992) 415.000، ويبلغ عددهم في روسيا البيضاء 46.000 (يذكر مصدر إحصائي آخر لعام 1995 أن عدد يهود روسيا هو 600.000 أما عدد يهود روسيا البيضاء فهو حسب هذا المصدر 34.000) . ويُلاحَظ أن أكثر من نصف مليون يهودي سوفيتي يتحدثون الروسية يوجدون الآن في إسرائيل فإذا أضفنا لهذا العدد المهاجرين اليهود الروس إلى الولايات المتحدة وغيرها من الدول، فيمكن القول بأن يهود روسيا يوجدون الآن أساساً خارجها! ومن المعروف أن كثيراً من أعضاء النخبة من يهود اليديشية من أصل روسي، مثل: حاييم وايزمان وإسحق بن تسفي وزلمان شازار وجولدا مائير وموشيه شاريت وجابوتنسكي. فإذا أضفنا إلى هذه المجموعة أسماء النخبة من أصل بولندي (من يهود اليديشية أيضاً) ، فيمكن القول بأن نخبة من يهود اليديشية هي التي تحكم الدولة الصهيونية.
والجماعة اليهودية في الاتحاد السوفيتي جماعة مسنة تركيبها على النحو التالي:
الفئة العمرية / عام 1959 / عام 1970
صفر - 15 / 30.4% / 11.2% (مقابل 35% من أعضاء القوميات لأخرى)
16 - 45 / 51% / 46%
فوق 50 / 18.6% / 42.8%(11/470)
والتركيب العمري يدل على أن المشكلة آخذة في التفاقم، وقد بلغ العمر الوسيط (أي الواقع في الوسط) 49 سنة عام 1986 و50 سنة عام 1988. وتذكر الموسوعة اليهودية أن حوالي 26% من يهود الاتحاد السوفيتي تجاوزوا الستين مقابل 15% من أعضاء القوميات الأخرى. وتؤيد الإحصاءات الخاصة بالمهاجرين السوفييت هذه الأرقام، ذلك أن 11% منهم تجاوزوا سن 65سنة. أما عدد اليهود السوفييت تحت سن الخمسين، فإن عددهم نحو 804 آلاف من بينهم 700 ألف فقط من كاسبي الرزق. وعدد الإناث هو 400 ألف، وعدد القادرات منهن على الحمل (بين 20 و40) هو 240 ألف أنثى، ونسبة المواليد تبلغ 1.6 - 1.8 طفل للأنثى الواحدة، بل استقرت على 1.6 في آخر الإحصاءات. ويولد 14.500 طفل سنوياً منهم 10 آلاف لأبوين يهوديين، ومن ثم يُطلَب منهم تسجيلهم كيهود، وإن كانوا لا يفعلون ذلك بالضرورة. ونسبة المواليد بين اليهود هي 6.7 في الألف بالمقارنة بنحو 14.7 لغير اليهود. أما في أوزبكستان، فإن نسبة المواليد بين اليهود هي 19.9 في الألف مقارنةً بنحو 32.7 لغير اليهود. والإحصاءات الأخيرة كانت الإحصاءات الخاصة بعام 1988، أي قبل الهجرة السوفيتية. ولا شك في أن الهجرة السوفيتية وسقوط الاتحاد السوفيتي سيزيد الصورة قتامة، إذ أن الهجرة لابد أنها ستُصفي العناصر الشابة القادرة على العمل والإنجاب ولا يبقى سوى المسنين (ومع هذا لوحظ مؤخراً أن كثيراً من الشباب الروس اليهود يرسلون بآبائهم المسنين إلى إسرائيل ليتمتعوا بالمزايا التي تُمنَح للمهاجرين ونظام الرفاه الاجتماعي هناك) .
والجدول التالي يبيِّن توزيع اليهود في الجمهوريات السوفيتية تبعاً للإحصاءات السكانية لأعوام 1979 و1989 و1992:
الجمهورية / عام 1979 / عام 1989 / عام 1992 (الأعداد بالآلاف)
روسيا / 700.7 / 551.0 / 430.0
أوكرانيا / 634.2 / 488.0 / 325.0
روسيا البيضاء / 135.4 / 112.0 / 58.0
أوزبكستان / 99.9 / 94.9 / 55.5(11/471)
مولدافيا 80.1 / 66.0 / 28.5
أذربيجان / 35.5 / 30.8 / 16.0
لاتفيا / 28.3 / 24.8 / 15.8
جورجيا / 28.3 / 23.0 / 20.7
كازاخستان / 23.5 / 19.9 / 15.3
ليتوانيا / 14.7 / 12.0 / 7.3
طاجكستان / 14.7 / 14.8 / 8.2
قرغيزيا / 6.9 / 6.0 / 3.9
إستونيا / 5.0 / 4.6 / 3.5
تركمانيا / 2.8 / 2.5 / 2.0
أرمينيا / 1.0 / 0.7 / 2.3
أما فيما يتصل بالوضع اللغوي لأعضاء الجماعات اليهودية في الاتحاد السوفيتي، فقد جاء في الإحصاء الرسمي لعام 1959 التوزيع اللغوي التالي لليهود السوفييت:
1.733.000 يتحدثون الروسية
500.936 يتحدثون اليديشية
35.673 يتحدثون الجورجية
20.763 يتحدثون الطاجيكية
25.225 يتحدثون التترية
24.275 يتحدثون الأوكرانية
22.570 يتحدثون لغات أخرى
وقد شكلت نسبة الناطقين باليديشية 17% فقط من مجموع اليهود (انخفضت إلى 11% في الإحصاءات الأخيرة) . وانخفضت هذه النسبة خلال الستينيات حيث أشار إحصاء عام 1970 إلى أن نحو 86.7% قد أفادوا بأن لغتهم هي الروسية، بينما توزَّع نحو 17.7% بين مختلف اللغات الأخرى (وأفاد 97% بأن لغتهم هي اليديشية قبل قيام الثورة) وقد انخفضت النسبة إلى11% في إحصاءات عام 1992، ولا يتحدث بها سوى المسنين. ومصطلح «اللغات الأخرى» يعني لغة التات والجورجية والطاجيكية والتركية ... إلخ. وجاء في إحصاء عام 1989 أن 11.1% يتحدثون ما سُمِّي «اللغات اليهودية» ، وهي لا شك إشارة لكل هذه «اللغات الأخرى» ومنها اليديشية. وإذا كان الأمر كذلك، فإن اليديشية قد آلت إلى الزوال تقريباً، ولا يتحدثها سوى المتقدمين في السن الذين يسكنون المناطق الغربية (ليتوانيا ولاتفيا ومولدافيا) التي كانت تضم كثافة سكانية يهودية في الماضي.
والجدول التالي يبيِّن توزُّع اليهود السوفييت تبعاً للجماعات العرْقية واللغوية وفقاً لإحصاء عام 1992:(11/472)
الجماعات العرقية لليهود فى الاتحاد السوفيتي / أعداد أعضاء الجماعات / نسبة من يعتبرون لغة الجماعة هي لغتهم الأصلية
إشكناز / 1.376.91 / 11.1
يهود الجبال / 19.516 / 75.8
يهود جورجيا / 16.054 / 90.9
يهود بخارى / 36.152 / 65.6
الكرمشاك / 1.448 / 38.9
وتشير المصادر إلى أن ظاهرة الزواج المختلط لا تزال منتشرة بين اليهود وإلى أن معظم هذه الزيجات تمثلت في زواج الذكور اليهود من إناث غير يهوديات. ويدعم هذه النظرية عدد الزيجات المختلطة بين المهاجرين السوفييت إلى إسرائيل. وقد تم الاستدلال، من إحصاء عام 1959، على أن واحداً من بين كل سبعة يهود كان متزوجاً من غير يهودي. وقد تزايدت النسبة أخيراً، ففي إحصاءات عام 1988 ظهر أن حوالي 40 ـ 50% من الزيجات اليهودية مختلطة (58.3% للذكور و47.6% للإناث) . وتصل النسبة في بعض المناطق إلى 80% (في روسيا الاتحادية تصل النسبة إلى 73.2% للذكور و62.8% للإناث) . والأهم من هذا أن 90% من أولاد المتزوجين زواجاً مختلطاً يُعرِّفون أنفسهم بأنهم غير يهود.(11/473)
أما فيما يتصل بالوضع الديني، فإن القانون يسمح للمواطنين السوفييت بالتعبد، وكل 20 متعبداً يمكن أن يكونوا جماعة دينية تُسمَّى «دفاتساتكا» ، وهي جماعة خاضعة لإشراف لجنة السوفييت المحلية ومجلس شئون العبادات الدينية، ومخولة بتعيين وطرد أعضاء مجلس المعبد اليهودي. وكثيراً ما تغلق السلطات السوفيتية المعابد لأن عدد المتعبدين يقل عن عشرين. ولذا، تنتشر جماعات المنيان (النصاب اللازم لإقامة الصلاة اليهودية) ، وهؤلاء يحق لهم التعبد بدون تسجيل، شريطة أن تتلقى السلطات إعلاماً بذلك قبل إقامة الصلاة. ويوجد حوالي 61 معبداً يهودياً وعدد صغير من الحاخامات، ولا يوجد حاخام أكبر، ولا توجد المواد اللازمة لإقامة بعض الشعائر. وعدد اليهود المتدينين 61 ألفاً حسب إحصاء 1983ـ 1985 أي 3% من جملة اليهود. وتؤيد الإحصاءات الخاصة بالمهاجرين السوفييت هذا العدد إذ أن 3% فقط منهم أرسل أبناءه إلى مدارس دينية.
وحتى تكتمل الصورة، لابد أن نشير إلى ظاهرة اليهود المتخفين، وهم المواطنون السوفييت من أصل يهودي الذين كانوا يخفون ذلك. وهؤلاء استفادوا من القانون السوفيتي الذي يعطي المواطن الحق في اختيار جنسيته، فكثيرون اختاروا تسجيل أنفسهم على أنهم غير يهود. كما أن 90% من أولاد الزيجات المختلطة كانوا، كما أسلفنا، يسجلون أنفسهم على أنهم غير يهود. ويذهب جريجوري روزنشتاين (الديموغرافي الإسرائيلي) إلى وجود 3.5 مليون مواطن سوفيتي من سلالة يهودية لم يُصنَّفوا على أنهم يهود. وهم يتمتعون بمستوى تعليمي عال. ويذهب كثير من الدارسين إلى أن هؤلاء سيعرِّفون أنفسهم كيهود «حينما لا يؤدي ذلك إلى الإضرار بمكانتهم» . ومن ثم، إذا استمرت إسرائيل مركز جذب بالنسبة إليهم، فإنهم سيعيدون تسجيل أنفسهم كيهود حتى يتسنى لهم الهجرة إليها.(11/474)
ويبدو أن الصورة العامة تتجه نحو مزيد من الاندماج، وكان المنشقون لا يشكلون سوى جماعة صغيرة وضئيلة ليست لها قيمة تُذكَر، وغير قادرة على أن توقف عملية الاندماج التلقائية السريعة وتآكل ثقافة يهود اليديشية وهويتهم الإثنية بعد أن ضعف انتماؤهم الديني، وهو الأمر الذي أوضحه المنشق الصهيوني شارانسكي بعد خروجه من الاتحاد السوفيتي.
وقد استفاد أعضاء الجماعات اليهودية من جو الانفتاح الاقتصادي والسياسي في الاتحاد السوفيتي إذ بدأوا يحققون بروزاً لم يكونوا يتمتعون به من قبل. ولكن، بالمقابل، ظهرت بعض الجماعات الروسية القومية ذات التوجه الديني الأرثوذكسي (من أهمها جماعة باميات) التي كانت تعادي أعضاء الجماعة اليهودية باعتبارهم ممثلين للقوى المعادية للمسيحية والروح الروسية الأصيلة. وقد سمح الاتحاد السوفيتي لليهود بالهجرة، وأغلقت الولايات المتحدة الأبواب في وجههم، وبدأت المؤسسة الصهيونية في اعتماد الملايين لتوطينهم في الضفة الغربية على أمل أن تحل مشكلتها الاستيطانية.
وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتفككه إلى «كومنولث الدول المستقلة» ، ستظهر حركيات متنوعة يخضع لها أعضاء الجماعات اليهودية في هذه الدول، فيهود جورجيا قد يصبحون جزءاً من تشكيل حضاري مستقل سياسياً عن أوكرانيا، ولذا فإن الصورة في المستقبل ستكون مختلفة بشكل جوهري عن الصورة في الماضي. ومع هذا، يمكن القول بأن هناك بعض الثوابت مثل الميل للهجرة والاتجاه نحو السكنى في المدينة وعدم الإنجاب ... إلخ.(11/475)
الباب الثالث عشر: يهود اليديشية في أوكرانيا وجاليشيا ورومانيا والمجر
أوكرانيا
Ukraine....
كلمة «أوكرانيا» تعني «منطقة الحدود» . وتُعَدُّ منطقة أوكرانيا من أهم المناطق المرتبطة بتجربة الجماعات اليهودية في شرق أوربا (أي يهود اليديشية) ومن أهم مسارح الأحداث التي تحدَّد فيها مصيرهم، ويُطلَق على أوكرانيا أحياناً اسم «روسيا الصغرى» . وكان يهود أوكرانيا يشكلون واحدة من أكبر الجماعات اليهودية على الإطلاق حتى منتصف القرن العشرين. ثم أصبحت كلمة «أوكرانيا» تشير إلى الجمهورية السوفيتية التي كانت تحمل هذا الاسم والتي أصبحت في الآونة الأخيرة دولة ضمن كومنولث الدول المستقلة، وحدودها مختلفة عن حدود أوكرانيا القديمة (روثينيا) التي كانت تابعة لبولندا وليتوانيا، والتي قُسِّمت بعد ذلك بين روسيا وبولندا عام 1667. ثم استولى الروس عليها بأسرها عام 1793.
ويعود استقرار اليهود في أوكرانيا إلى القرن التاسع، وذلك مع انتشار وتوسيع إمبراطورية الخزر. لكن الاستيطان على نطاق واسع تم في منتصف القرن السادس عشر، مع بدايات الإقطاع الاستيطاني البولندي فيها. ذلك أن النبلاء البولنديين كانوا يريدون تطوير هذه المنطقة اقتصادياً بعد ضمها إلى اتحاد بولندا وليتوانيا فقاموا بتوطين عناصر يهودية تجارية تقوم باستئجار المزارع نظير مبلغ محدد فيما يُسمَّى «نظام الأرندا» . وقد تسبَّب هذا في تحوُّل اليهود إلى جماعة وظيفية تجارية وسيطة تعتصر الفلاحين والأقنان لصالح النبلاء الغائبين الذين كانوا يقومون بدورهم باعتصار اليهود. وقد كان التقسيم الطبقي في أوكرانيا يدعمه تقسيم إثنى وديني يزيده حدة واستقطاباً. فالفلاحون أوكرانيون أرثوذكس يتحدثون الأوكرانية، والنبلاء بولنديون كاثوليك يتحدثون البولندية، والوسطاء يهود يتحدثون اليديشية. وقد بلغ عدد اليهود في أوكرانيا، مع نهاية القرن السادس عشر، 45 ألف يهودي من مجموع 100 ألف يهودي في بولندا، زاد عددهم قبل هجمات شميلنكي إلى 150 ألفاً.(11/476)
وحين شهد منتصف القرن السابع عشر هجمات شميلنكي، كان أعضاء الجماعة اليهودية في مركز الصراع. فقد نصت المعاهدة التي وُقعت بين شميلنكي وملك بولندا، بعد انتشار القوزاق عام 1649، على أنه «لن يُسمح لليهود بالإقامة كملاك أو كمؤاجرين ولا حتى كسكان في المدن الأوكرانية التي توجد فيها فرق قوزاق» . وبعد عامين، بعد أن ألحقت القوات البولندية الهزائم بالقوزاق، وُقعت معاهدة عام 1651 التي اعترف شميلنكي فيها بحق اليهود في أن يستقروا كسكان ومؤاجرين في ضياع جلالة الملك وضياع النبلاء البولنديين (شلاختا) ، أي أن صعود اليهود وهبوطهم كان مرتبطاً بصعود وهبوط القوة البولندية العسكرية؛ تماماً مثلما ارتبط صعود وهبوط المستوطنين الصهاينة بصعود وهبوط القوة الإنجليزية ثم الأمريكية في الشرق العربي والعالم الإسلامي.
وقد قُسِّمت أوكرانيا بين روسيا وبولندا عام 1667، فضمت روسيا الجزء الذي يقع عن يسار نهر الدنيبر، وظل الجزء الذي عن يمينه تابعاً لبولندا. وقد تعرَّض يهود هذه المنطقة البولندية من أوكرانيا لهجمات الهايدماك (وهم ورثة شميلنكي الذين كانوا يقومون بذبح البولنديين وعملائهم اليهود) . ورغم كل هذا، تزايد عدد أعضاء الجماعة اليهودية في أوكرانيا، فبلغ عددهم قبل التقسيم الأول لبولندا نحو 258 ألف يهودي زاد إلى 600 ألف عام 1847. وقد بلغ عددهم في أول إحصاء رسمي (عام 1887) 1.297.268، أي 9.2% من كل سكان أوكرانيا وهي من أعلى النسب العددية التي وصل إليها أعضاء الجماعات اليهودية في أي بلد في العصر الحديث. ومما يجدر ذكره أن أوكرانيا كانت تقع ضمن منطقة الاستيطان التي كان يُصرَّح لليهود بالسكنى فيها. وكانت أوكرانيا من أخصب المناطق التي انتشرت فيها الأفكار الشبتانية والفرانكية والحسيدية.(11/477)
ويهود أوكرانيا من أهم قطاعات يهود اليديشية، وهم يتسمون بالتميز الوظيفي والاقتصادي نفسه الذي يتسم به يهود اليديشية، بل كان تميُّزهم أكثر حدة. وعلى سبيل المثال، فإن 90% ممن يعملون في تقطير الخمور عام 1872 كانوا من اليهود. وكان معظم أعضاء الجماعة اليهودية يعملون إما في مصانع صغيرة أو يقومون بأعمال تجارية، ولكن لم يكن يوجد يهود بأعداد كبيرة في الصناعات الثقيلة. وفي عام 1897، كانت أغلبية يهود أوكرانيا الساحقة لا تعمل بالزراعة. وكان بناؤهم الوظيفي على النحو التالي:
43.2% في التجارة
32.2% في الحرف والصناعة (الخفيفة أساساً) .
وأوكرانيا هي المنطقة التي ولدت فيها جمعية أحباء صهيون والبيلو وكثير من المؤسسات الصهيونية الأخرى، كما ظهر فيها كثير من الحركات الثورية بين اليهود (مثل حزب البوند) .(11/478)
ونظراً لوجود أوكرانيا على الحدود بين بولندا وروسيا والنمسا، وجد أعضاء الجماعة اليهودية أنفسهم في مفترق الطرق بين القوى المتصارعة. وربما كانت الفترة من 1917 حتى 1920 خير مثال على ذلك، فقد ألغى السوفييت منطقة الاستيطان وأسس الأوكرانيون مجلساً قومياً أعلن استقلال أوكرانيا عن روسيا وعقدوا تحالفاً مع أعضاء الجماعة اليهودية في أوكرانيا وجاليشيا لمقاومة النفوذ البولندي. وكانت المنطقة مسرحاً لصراعات عسكرية عديدة، فكان هناك في بداية الأمر جيش احتلال ألماني يحارب ضده الجيش الأوكراني تحت قيادة سيمون بتليورا الذي انضمت إليه جماعات من الفلاحين والقوزاق المؤيدين له، وكان هناك الجيش الروسي الأبيض أو جيش المتطوعين المعادي للبلاشفة تحت قيادة دينيكين، كما كان هناك بطبيعة الحال الجيش الأحمر. وقد وجد أعضاء الجماعة اليهودية أنفسهم في مفترق الطرق، فتحالفوا في بادئ الأمر مع الألمان، ذلك أنهم كانوا يتحدثون اليديشية (وهي لهجة ألمانية) ، كما أن ألمانيا كانت تعتبر يهود اليديشية عنصراً بشرياً تابعاً لها يمكنها تجنيده ضد غالبية السكان. وبعد انسحاب الألمان، وجد أعضاء الجماعة أن من صالحهم الارتباط بالنظام البلشفي، ذلك لأن قواته العسكرية قامت بحمايتهم، وهو ما زاد الشائعات القائلة بأن الثورة البلشفية ثورة يهودية. وقد أدَّى هذا إلى تأليب العناصر الشعبية الأوكرانية ضد أعضاء الجماعة اليهودية، ويُقال إنه قُتل منهم حوالي 60 ألف يهودي. ولا شك في أن ميراث اليهود التاريخي والاقتصادي في أوكرانيا كان له أعمق الأثر في توسيع الهوة بين الأوكرانيين وأعضاء الجماعة اليهودية. وانتصر البلاشفة في نهاية الأمر عام 1920، وضُمت أوكرانيا إلى الاتحاد السوفيتي. وقد رحب أعضاء الجماعة اليهودية بالضم السوفيتي.(11/479)
وفي عام 1922، تم القضاء على كل التنظيمات الشعبية المعادية لليهود في أوكرانيا والاعترف باليديشية كلغة رسمية. وفُتحت مدارس تابعة للنظام التعليمي اليديشي السوفيتي، ولكن الآباء اليهود فضلوا إرسال أولادهم إلى المدارس التي تعلِّم الروسية حتى تيتح أمامهم فرصاً للحراك الاجتماعي. وقد اعتمدت جماعة الجوينت (لجنة التوزيع الأمريكية المشتركة) 200 ألف دولار لتشجيع اليهود على الاشتغال بالزراعة. وخصصت حكومة أوكرانيا أرضاً لهذا الغرض، وبلغ عدد اليهود الذين استقروا على هذه الأراضي 80 ألفاً (عام 1933) من مجموع 200 ألف يهودي استفادوا من سياسة التوطين الزراعي في الاتحاد السوفيتي. ولكن السوفييت قرروا التخلص من هذه السياسة وحاولوا توطين أعضاء الجماعة في القرم في بادئ الأمر ثم في بيروبيجان. وحينما غزا النازيون أوكرانيا في يونيه ـ يوليه 1941 واستولوا عليها، فرَّت أعداد كبيرة من أعضاء الجماعة اليهودية. وقد حاولت السلطات النازية تأليب الجماهير ضد «الثورة البلشفية اليهودية» وضد اليهود، ويبدو أنهم لم ينجحوا في ذلك كثيراً.(11/480)
بلغ عدد يهود أوكرانيا عام 1926 نحو 1.574.391 (أي 5.44% من كل سكانها) . ثم انخفض عام 1939 إلى 1.572.827 (أي 4.9%) . وانخفض هذا الرقم مرة أخرى إلى النصف تقريباً عام 1959 أي إلى نحو 840.319 (2% من سكانها) ، واستمر الانخفاض الحاد فوصل عددهم إلى 634.000 عام 1979، ووصل عام 1989 إلى 485.975 ثم إلى 276.000عام 1992. وبذا يكون قد تم تصفية واحدة من أهم الجماعات اليهودية في العالم (يذكر مصدر إحصائي آخر أن عدد يهود أوكرانيا عام 1995 هو 446.000) . وقد انخفض العدد بسبب هجرة يهود أوكرانيا داخل الاتحاد السوفيتي إلى المناطق الصناعية الأساسية في موسكو وكييف وغيرهما بعد تطبيق مشروعات السنوات الخمس. ومنذ عام 1924، بدأت عملية أكرنة المؤسسات (أي صبغها بصبغة أوكرانية) ، وصدر قرار بأن كل من يشغل وظيفة حكومية لابد أن يجيد اللغة الأوكرانية. وأدَّى ذلك إلى استقالة آلاف اليهود الذين كانوا يتحدثون اليديشية والروسية من وظائفهم. وقد أباد النازيون أيضاً بضعة آلاف من أعضاء الجماعة اليهودية. وساهمت حركة الهجرة إلى خارج الاتحاد السوفيتي، إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، في تناقص أعضاء الجماعة اليهودية، وخصوصاً من المراحل العمرية الشابة، ولذا أصبحت الجماعة اليهودية مسنَّة. كما أن معدلات الاندماج والزواج المُختلَط المرتفعة تُعَدُّ من أهم العناصر التي تؤدي إلى موت الشعب اليهودي في أوكرانيا. وكانت أوكرانيا من أهم مراكز الثقافة اليديشية، ولكن لم يَعُد هناك متحدثون باليديشية فيها إلا من كبار السن. ونظراً لارتفاع مستوى يهود أوكرانيا التعليمي، نجد أن المهاجرين بينهم يؤثرون الهجرة إلى الولايات المتحدة على الهجرة إلى إسرائيل. ولذا، نجد أن نسبة المتساقطين بينهم مرتفعة. وبعد استقلال أوكرانيا ورغم تصاعد نعرة القومية الأوكرانية إلا أن الجماعة اليهودية هناك مستقرة مندمجة، لا تشعر بقلق شديد حيال الظروف الجديدة.(11/481)
سيمون بتليورا (1879-1926)
Simon Petlura
زعيم قومي أوكراني أسَّس عام 1905 حزب العمال الأوكرانيين الاشتراكي الديموقراطي. كان ضابطاً في الجيش الروسي. وعند سقوط الحكومة القيصرية عام 1917، انضم للرادا (المجلس) الذي أعلن استقلال أوكرانيا، ثم عُيِّن وزيراً للحرب في الحكومة الجديدة. ولكن الألمان احتلوا أوكرانيا وأقاموا حكومة عميلة، فحاربت قواته ضدهم. وحين انسحبت القوات الألمانية (1918) ، لعب بتليورا دوراً قيادياً في حركة الاستقلال، فترأس الرادا وأصبح أتمان (أي رئيس) الحكومة الأوكرانية المؤقتة، كما أصبح قائد الجيش الأوكراني وقاد المعركة من أجل استقلال أوكرانيا. واجهت قوات بتليورا جيوش البلاشفة الحمراء وجيوش الروس البيض حيث سعى كل من الجيشين إلى الاحتفاظ بأوكرانيا كجزء من روسيا. فعند انسحاب جيوش الروس البيض في 1919، وقعت أوكرانيا تحت هيمنة السوفييت. وحتى يتمكن بتليورا من التغلب على السوفييت، عقد اتفاقاً مع يوسف بيلسودسكي رئيس الدولة البولندية وأيد البولنديين في حربهم ضد روسيا السوفيتية. وقد نجح البولنديون في صد القوات السوفيتية، ولكنهم لم ينجحوا في مساعدة أوكرانيا في الحصول على استقلالها. وفي النهاية، هُزمت قوات بتليورا واستقر هو في باريس (ولكنه احتفظ بحكومته في المنفى ووببقايا جيشه) .
وإبّان هذه المعارك، هاجمت قوات بتليورا أعضاء الجماعات اليهودية، ويُقال إنها قتلت ما يزيد على ستين ألفاً. وهذا يرجع ولا شك إلى تحالف أعضاء الجماعات اليهودية مع الألمان في بادئ الأمر ثم ترحيبهم بالقوات البلشفية بعد ذلك. ولا شك في أن ميراث الأرندا والإقطاع الاستيطاني البولندي لم يكن قد اختفى تماماً، بل عزَّز الهوة بين العناصر وأعضاء الجماعة اليهودية.(11/482)
وعقد بتليورا اتفاقاً مع الزعيم الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي يسمح له بتكوين ميليشيات يهودية لحماية الجماعات اليهودية حين يعود بتليورا إلى أوكرانيا. ولقي بتليورا حتفه في باريس على يد أحد اليهود انتقاماً لليهود الذين قُتلوا في أوكرانيا.
ويشبَّه بتليورا عادةً بشميلنكي، فكلاهما كان أتمان الحكومة الأوكرانية وكلاهما كان يبحث عن استقلال بلاده، الأول ضد بولندا بمساعدة روسيا والثاني بمساعدة بولندا ضد روسيا. وفي نضالهما من أجل الاستقلال، اصطدما بأعضاء الجماعة اليهودية الذين لم تكن لهم جذور عميقة في أوكرانيا بقدر ما كانت لهم علاقات قوية بالقوة الغازية المهيمنة. والواقع أن هجوم قوات بتليورا على أعضاء الجماعات اليهودية، مثل هجوم قوات شميلنكي عليهم، له مضمون شعبي تحريري رغم وحشيته ولاإنسانيته. ولم تُحدَّد المسئولية الشخصية لبتليورا في المذابح والهجمات الشعبية. ولكن الأوكرانيين يعتبرونه بطلاً قومياً بلا منازع، ويفسرون المذابح بأنها نتيجة الفوضى التي ضربت أطنابها أثناء حالة الحرب بين عدة جيوش متصارعة.
ليتوانيا
Lithuania(11/483)
يعود وجود اليهود في ليتوانيا إلى القرن الرابع عشر حين كان معظمهم من القرّائين (وهو ما قد يشير إلى أصولهم الخزرية) . وقد بلغ عدد اليهود في فلنا وجرودنو وكوفنو عشرة آلاف عام 1495، وكان معظمهم من الإشكناز الذين استوطنوا في بلد متخلف اقتصادياً. وقد بلغ عدد اليهود في دوقية ليتوانيا الكبرى التي كانت تضم فلنا وجرودنو وكوفنو وبرست ليتوفسك ومنسك وسمولنسك وغيرها من المقاطعات، نحو سبعة وعشرين ألفاً عام 1578، واثنين وثلاثين ألفاً عام 1676، ووصل العدد إلى 157.520عام 1766. وقد مُنح أعضاء الجماعة ميثاقاً عام 1388 لحمايتهم وضمان حريتهم حتى يَسهُل عليهم الاضطلاع بوظائفهم التجارية والمالية، وسرعان ما احتكروا التجارة الدولية والالتزام. ومع هذا، تم طردهم في الفترة 1495 ـ 1502 بسبب الصراع الذي نشب بينهم وبين النبلاء والتجار، ولكن تم السماح لهم بالعودة عام 1503 وأُعيدت إليهم حقوقهم كاملة فتمتعوا بكثير من الاستقرار. كما لعبوا دورهم، كتجار وملتزمي ضرائب، دون تدخُّل. وقد اتحدت ليتوانيا وبولندا عام 1569 بحيث أصبحتا منذ هذا التاريخ بلداً واحداً له تاريخ واحد تقريباً. وكان يهود ليتوانيا ممثَّلين في مجلس البلاد الأربعة، ولكنهم شكلوا مجلسهم الخاص عام 1623 حين أصبح لليتوانيا نظامها الضرائبي الخاص. وقد كان يهود ليتوانيا بمنأى عن هجمات شميلنكي والهايدماك، الأمر الذي ضمن لهم كثيراً من الاستمرارية والطمأنينة.(11/484)
ومنذ عام 1795،منذ تقسيم بولندا وحتى عام 1918، أصبحت ليتوانيا جزءاً من روسيا، وقد كانت (في ذلك الوقت) مركزاً ثقافياً مهماً لليهود الإشكناز، وكانت فيها واحدة من أهم المدارس التلمودية العليا. وكانت ليتوانيا مركزاً لحركة المتنجديم والموسار، وفي الوقت نفسه مركزاً من أهم مراكز حركة التنوير. وأثناء التمرد البولندي الليتواني ضد الحكم القيصري عام 1864، وقف يهود ليتوانيا ضد حركة المقاومة وأخذوا جانب المحتل الروسي. وبعد الحرب، حصل اليهود على حقوقهم وعلى قدر كبير من الإدارة الذاتية تضمَّن حق فرض الضرائب، تحت إشراف الحكومة، وتم تأسيس مجلس قومي يهودي تحت رعاية وزارة الشئون اليهودية.
وبعد عام 1924، تقلص حق الإدارة الذاتية واقتصر على إدارة الشئون الدينية فقط، وكانت توجد عدة مدارس يهودية معظمها تدرِّس بالعبرية وبعضها باليديشية. وكان تعداد اليهود عند اندلاع الحرب العالمية الثانية 175 ألفاً، رحل 25 ألفاً منهم إلى روسيا وأبيد البعض الآخر عام 1943. وقد هاجرت أعداد كبيرة إلى جنوب أفريقيا، وبلغ عدد يهود ليتوانيا عام 1960 خمسة وعشرين ألفاً، وبلغ عددهم 6.500عام 1992. وليتوانيا هي الوطن الأصلي للحاخام إلياهو (فقيه فلنا) أهم شخصيات اليهودية الحاخامية في أواخر القرن التاسع عشر، كما أن عديداً من الزعماء الصهاينة (مثل بن يهودا وسمولنسكين) كانوا من اللتفاك، أي من يهود ليتوانيا الذين يتحدثون اليديشية بلكنة خاصة. وتوجد داخل إسرائيل الآن قطاعات من المؤسسة الدينية يُطلق عليها «الليتوانيون» ، وهم امتداد لحركة المتنجديم ويتركزون في حزب داجيل هاتورا.
جاليشيا
Galicia(11/485)
«جاليشيا» كلمة منسوبة إلى «جاليش» ، وهي عاصمة منطقة تاريخية في جنوب شرقي بولندا وشمال غربي أوكرانيا. ويُطلَق مُصطلَح «جاليشيا الغربية» على منطقة كراكوف ولوبلين، أما «جاليشيا الشرقية» فتشير إلى باقي المنطقة التي تقع بين المجر وبولندا من جهة وإمارتي كييف وفولينيا الغربيتين من جهة، وقد ظلت مطمع جيرانها نظراً لخصوبة أراضيها وعلاقاتها التجارية المهمة. وقد ضمتها إمارة كييف عام 981 ولكنها أصبحت إمارة مستقلة عام 1087. وقد حققت جاليشيا خلال القرن اللاحق قدراً كبيراً من القوة والثراء، وقامت بضم فولينيا (أو لودوميريا) فأصبحتا إمارة واحدة هزمت كلاًّ من البولنديين والمجريين الذين حاولوا الاستيلاء عليها. لكن الخلافات والصراعات الداخلية، بين الأمراء من جهة والنبلاء الذين كانوا يمتلكون السلطة الحقيقية من جهة أخرى، أضعفت الإمارة. وفي الفترة بين عامي 1327 و1241، استولى المغول على المنطقة. ورغم أن ملك جاليشيا تم تتويجه عام 1253 على يد ممثل بابويّ، إلا أنه اضطر إلى الاعتراف بسلطة الخان المغولي. ورغم ذلك، لم يجر إخضاع جاليشيا بشكل كامل للإمبراطورية المغولية مثل سائر الأراضي الروسية. وقد انتخب نبلاء جاليشيا أميراً بولندياً لجاليشيا. وبعد وفاته، قام ملك بولندا كاسيمير الثالث (الأعظم) بضم جاليشيا إلى أراضيه عام 1349. وفي ظل حكم بولندا، استوطن النبلاء البولنديون (شلاختا) في جاليشيا وأصبحوا الطبقة الحاكمة في المنطقة، فاضطر نبلاء جاليشيا إلى تَقبُّل اللغة البولندية والمؤسسات التشريعية والاجتماعية البولندية والمسيحية الكاثوليكية.(11/486)
وعند تقسيم بولندا للمرة الأولى عام 1772، ضمت النمسا جاليشيا الشرقية والمنطقة الواقعة في الغرب بين نهري السان والفيستولا. وفي عام 1795، تم ضم مناطق أخرى واقعة غرب وشرق نهر الفيستولا إلى النمسا. وفي الفترة التي بين عامي 1786 و1849، قامت النمسا بإدارة منطقة بوكوفينا (التي ضمتها من الدولة العثمانية) باعتبارها جزءاً من جاليشيا.
وبعد التعديلات التي أقرَّها مؤتمر فيينا عام 1815، أصبحت ممتلكات النمسا في بولندا تُعرَف باسم «مملكة جاليشيا ولودوميريا» . وفي عام 1846، تم ضم جمهورية كراكوف إلى المملكة.
ثم ألغت النمسا، خلال العامين 1848 ـ 1849 نظام الأقنان في جاليشيا، ثم أعطت لهذه المنطقة (بعد عام 1867) قدراً أكبر من الإدارة الذاتية فأصبحت وحدة إدارية مستقلة. ومع أواخر القرن التاسع عشر، بدأت تنمو حركة قومية بين السكان الأوكرانيين الذين كانوا يشكلون أغلبية سكان جاليشيا الشرقية حيث تزايد رفضهم لسيطرة الأقلية البولندية عليهم.
وتبلغ مساحة جاليشيا 77 ألف كيلو متر مربع، وتعدادها نحو 3.500.000 نسمة. وحينما احتلت القوات النمساوية جاليشيا عام 1772، كانت المنطقة تضم بين 150 ألفاً و220 ألف يهودي يعيش ثُلثهم في القرى. وكان اليهود والألمان يكوِّنون العنصر التجاري والحرفي الأساسي في المدن.
وقد بدأت النمسا بتطبيق قوانين تهدف إلى محاولة انقاص عدد أعضاء الجماعات اليهودية من خلال الطرد، والحد من الزيجات، وتقليص نشاطهم الاقتصادي. كما حُدِّدت حرية اليهود في السكنى والإقامة والانتقال، وزيدت الضرائب الخاصة على اليهود (مثل ضريبة الطعام الشرعي وشموع السبت) .(11/487)
لكن هذا الاتجاه تغيَّر حينما بدأ جوزيف الثاني حكمه بمحاولة تحديث أعضاء الجماعات اليهودية وإصلاحهم وجعلهم نافعين، فصدرت قوانين تحظر عليهم الاشتغال ببيع الخمور أو الالتزام بجمع الضرائب أو إدارة الفنادق، كما حرم عليهم القيام بدور الأرندا. وأصبح بإمكانهم الالتحاق بالخدمة العسكرية، وأن يشغلوا الوظائف المدنية، وأن يستثمروا أموالهم في أي قطاع اقتصادي يجدونه مناسباً، وأن يكون لكل يهودي اسم عائلة أو أن يتسمَّى بأسماء ألمانية. وفُتحت المدارس العلمانية الحكومية للأطفال اليهود، كما فُتحت أمامهم المدارس الابتدائية والثانوية والمعاهد الجامعية. وكان يتم تشجيع اليهود على الاشتغال بالزراعة، فكان كل من يقبل منهم يُمنح قطعة أرض وقروضاً. وجرى توسيع نطاق براءة التسامح التي صدرت عام 1782 بحيث شملت جاليشيا عام 1789. وتؤكد براءة التسامح تساوي اليهود مع المواطنين جميعاً، كما تؤكد أن لهم حقوق وواجبات المواطنين، وضمنها حق التنقل والسكنى بحرية في أي مكان واختيار الوظائف التي يريدونها. وقد نُزعت جميع صلاحيات الحاخامات والقهال، فتقلص نطاق نفوذهم بحيث انحصر في الأمور الدينية وحسب، ومن ثم أُلغيت المحاكم الحاخامية. وحُظر على أعضاء الجماعة اليهودية إرسال أي نقود إلى فقراء اليهود في فلسطين أو أن يستخدموا العبرية أو اليديشية بالذات في الوثائق التجارية التي يكتبونها (منعاً للغش التجاري) . كما مُنعوا من ارتداء أزياء مميَّزة، ومن دراسة التلمود قبل الانتهاء من الدراسة في المدارس الحكومية. كما فُرض عليهم إنشاء نظام تعليمي علماني تديره الجماعة اليهودية بنفسها، ومُنحوا حق إنشاء أية مدارس يشاءون ما دامت لا تختلف عن النظام التعليمي العام.(11/488)
وكان الحصول على شهادة مدرسية شرطاً أساسياً للحصول على رخصة زواج، بل كان على كل من العريس والعروس أن يقرآ كتاباً معيناً هو كتاب بني صهيون الذي كتبه داعية التنوير هرتز هومبرج عام 1812، ويجتاز اختباراً بالألمانية حتى تضمن الدولة أن الزوجين قد استوعبا كل الأفكار اللازمة لتحديثهم وتحويلهم إلى مواطنين في الدولة القومية. كما صدر مرسوم بأن تكون الصلوات بالألمانية بدلاً من العبرية. وفي عام 1836، قررت الحكومة أنه سيمُنع (بعد عشر سنوات) تعيين حاخام إلا بعد تلقيه دراسة أكاديمية خاصة. كما مُنعت طباعة الكتب الدينية التلمودية وكتب القبَّالاه.
وبعد ثورة 1848، بدأت أحوال عضاء الجماعات اليهودية تتحسن بشكل أكبر، فقد مُنحوا الحقوق السياسية والمدنية كافة عام 1849 وشاركوا في الحياة السياسية. وانتُخب خمسة نواب يهود عام 1874 (بين 155 نائباً في برلمان جاليشيا) ، وانتُخب الكثيرون منهم في مجالس الأقاليم، وانتُخب عشرة عُمَد يهود في عشرة مدن مختلفة.
وتحسنت أحوال أعضاء الجماعات اليهودية الاقتصادية، فاستثمر أثرياؤهم أموالهم في البنوك وأعمال الاستيراد والتصدير وتجارة الزيت. وزاد عدد اليهود من ملاك الضياع، كما دخل اليهود الخدمة المدنية والقضائية فكانوا يشكلون نحو 58% من مجموع الموظفين والقضاة. وبلغ عدد مدارس البنين 107 مدارس علمانية ينتظم فيها أربعة آلاف طالب. وساعد كل ذلك على أن يسود فكر حركة التنوير اليهودية بعض الوقت في هذه المنطقة، وأصبحت جاليشيا مركزاً للأدب المكتوب بالعبرية وساد الفكر الاندماجي بين القيادات اليهودية (وإن انقسموا إلى قسمين: أحدهما اندماجي ألماني والآخر اندماجي بولندي) .(11/489)
غير أن هذه المحاولات باءت بالفشل. ويعود ذلك إلى عدة أسباب، فجاليشيا تتميَّز بأنها لم تضم أغلبية إثنية واحدة، فكان هناك عناصر ألمانية وأوكرانية وبولندية ويديشية، كما لم تكن هناك حكومة مركزية أو رأسمالية قوية. ولذا، لم تظهر حركة قومية موحدة وإنما ظهرت حركات قومية صغيرة متنوعة. وتسبَّب هذا في ظهور جيوب اقتصادية منغلقة، فنظمت العناصر البولندية (46% من السكان) نفسها كجيب مستقل له طبيعته المستقلة ومصالحه الخاصة، كما قام الأوكرانيون (الذين كانوا يشكلون 43% من السكان) بتنظيم أنفسهم أيضاً على الأسس نفسها. وقد أدَّى كل هذا إلى خلق موقف صراعي، وإلى استبعاد أعضاء الجماعة اليهودية من الأعمال التجارية رغم أنهم عنصر تجاري بالأساس. وقد ظهر حزب اجتماعي مسيحي في النمسا قاد عملية مقاطعة اليهود، كما كان لكلٍّ من البولنديين والأوكرانيين أحزابهم القومية المعارضة لليهود والمعادية لهم. وقد زادت حدة حركة المقاطعة مع نهاية القرن، ولكن البولنديين كانوا يتحالفون دائماً مع أعضاء الجماعة اليهودية ليحتفظوا بتفوقهم العددي الضئيل على الأوكرانيين.
ومما زاد الأمور تعقيداً أن أعضاء الجماعة اليهودية تزايد عددهم، فعندما ضُمت جاليشيا إلى النمسا كان عدد اليهود 224.980 ألفاً (عام 1772) أي 9.6% من السكان، ثم زاد العدد إلى 768.845 ألفاً في عام 1890 أي إلى حوالي 11.7%. ورغم أن نسبة أعضاء الجماعة اليهودية إلى عدد السكان لم تزد كثيراً، فإن العدد الإجمالي زاد زيادة هائلة واستمر في الزيادة ليصل إلى 871.895 عام 1910. وقد تركَّز اليهود في المدن، ففي عام 1910 كان 38.8% منهم يقطنون المدن الكبرى و29.3% في المدن الصغيرة و 36.06% في المناطق القروية.(11/490)
ولم تكن عملية التحديث تتم برضا الجماهير بل رغماً عنها، إذ كانت تُفرض من أعلى. وانضم دعاة التنوير إلى الحكومة في محاولة فرض التحديث ومن أهمهم هرتز هومبرج (وهو من تلاميذ موسى مندلسون) الذي عُيِّن مفتشاً للنظام التعليمي الجديد الذي أنشأته الدولة. وقد حاول هومبرج أن يغلق المدارس اليهودية التقليدية والمدارس التلمودية العليا (يشيفا) دون أن ينجح في ذلك. ولم ينجح التحديث في المجال الوظيفي، لأن أكثر من نصف أعضاء الجماعة اليهودية (53.5%) كانوا يعملون في التجارة والخمور والنقل، ولم يكن يعمل منهم في الزراعة والغابات سوى10.7%. وبحلول عام 1822، لم يكن يوجد سوى 836 فلاحاً يهودياً في جاليشيا بأسرها، لكن هذا العدد زاد قليلاً بعد ذلك. غير أن الصورة العامة لم تتغيَّر كثيراً. وانعكس فشل عملية التحديث والدمج في انصراف أعضاء الجماعة اليهودية عن مدارس الحكومة العلمانية. فقد قوبلت محاولة استجلاب المدرسين اليهود الألمان بمعارضة شديدة. ورغم أن المدارس والجامعات كانت مستعدة لقبول التلاميذ والطلبة اليهود بين صفوفها، فإن عدد الذين التحقوا بالمدارس كان ضئيلاً إلى أقصى درجة.(11/491)
وانتشرت الحسيدية في جاليشيا مع منتصف القرن التاسع عشر. وكانت أغلبية يهود جاليشيا حسيدية، وهو ما أدَّى إلى تسلُّمهم قيادة العناصر الدينية، ومنها الأرثوذكس. وانضم الفريقان إلى الحرب ضد دعاة التنوير الذين لجأوا إلى الدولة لحمايتهم وللهجوم على العناصر اليهودية التي وقفت ضدهم. ولجأ الحسيديون إلى عقوبة الطرد من حظيرة الدين، ورفضوا تسجيل الزيجات اليهودية في سجلات الحكومة، ولم يلجأوا إلى المحاكم المدنية. وتملصت المعابد من دفع الضرائب المقررة عليها عن طريق إقامة العبادة سراً في منازل خاصة. وفي بعض الأحيان، كانت المعركة تأخذ شكلاً أكثر حدة. فعلى سبيل المثال، دس الحسيديون السم للحاخام الإصلاحي أبراهام آكون ولأعضاء أسرته في مدينة لفوف عام 1848، فقضوا نحبهم، وذلك لأنه أقام احتفالاً بالبرمتسفاه (بلوغ سن التكليف الديني) في المعبد (ومن المفارقات أن البارمتسفاه أصبح فيما بعد أهم المناسبات بين يهود الولايات المتحدة) . وقد كانت جاليشيا مصدراً أساسياً للبغايا اليهوديات في العالم، وربما يعود هذا إلى عدة أسباب من بينها قلقلة الأوضاع في جاليشيا وافتقارها إلى شخصية قومية محددة. كما أن جاليشيا تقف على الحدود بين شرق أوربا ووسطها، وهي محطة أخيرة لمعظم المهاجرين ومعبر لهم. كما كانت هي نفسها من أكبر مصادر المهاجرين اليهود. ولا شك في أن معدلات العلمنة السريعة والمفاجئة أدَّت إلى خلخلة الوضع الاجتماعي، وإلى ضعضعة الأسرة اليهودية. كما أن الضائقة الاقتصادية كانت تلعب دوراً مهماً هي الأخرى، لكن الانفجار السكاني زاد حدتها. وقد أدَّت كل هذه الأسباب مجتمعة إلى ضعف القيم وتيسير تجنيد الفتيات للعمل بالدعارة. ومن الطريف أن يهود النمسا كانوا يُطلقون على جاليشيا مصطلح «فاجينا جودايوروم vagina judaiourum» وهي عبارة لاتينية تعني «فرج اليهود» (ولا ندري هل كان هذا يُطلَق عليها باعتبار أنها كانت مكاناً يتوالد فيه(11/492)
اليهود بأعداد ضخمة، أم لأنها كانت مصدراً مهماً للبغايا، أم لكلا السببين معاً؟) .
وقد أسست جماعة أحباء صهيون فرعاً لها في جاليشيا، وبدأت تظهر التشكيلات الصهيونية الأخرى حيث انتخب يهود جاليشيا عام 1907 تسعة نواب (منهم ثلاثة صهاينة) انضموا إلى المندوبين عن منطقة بكوفينا ليكوِّنوا هيئة برلمانية يهودية (لوبي يهودي) وهذه أول مرة يحدث فيها مثل هذا في تاريخ الجماعات اليهودية في أوربا. ومع هذا، ظل الاندماجيون بين اليهود يقومون بمحاولاتهم لدمج اليهود مع بقية أعضاء المجتمع.
وقد ضُمت جاليشيا إلى بولندا مرة أخرى عام 1919. ولكن، في عام 1939، بعد تقسيم بولندا بين السوفييت والنازي، تم ضم غرب جاليشيا إلى ما كان يُسمَّى «الحكومة العامة البولندية» التابعة للنازي وضُم الجزء الشرقي منها لأوكرانيا السوفيتية، وهو ما كان يعني ضم نحو 550.000 يهودي للحكم السوفيتي.
رومانيا
Rumania
جمهورية أوربية ذات أهمية خاصة في دراسة تاريخ الجماعات اليهودية في أوربا لا بسبب حجم الجماعة اليهودية الذي كان كبيراً بالقياس إلى حجم الجماعة في فرنسا وإنجلترا وصغيراً بالنسبة إلى حجم يهود روسيا وبولندا، وإنما بسبب تاريخ رومانيا ذاته ونتيجة انتقالها الفجائي من اقتصاد العصور الوسطى التقليدي الذي يتميَّز بعدم وجود سلطة مركزية إلى اقتصاد صناعي يتميَّز بظهور دولة مركزية. وهذه الفجائية توضح للدارس بشكل متبلور العملية التاريخية التي تحوَّل أعضاء الجماعات اليهودية من خلالها من جماعة وظيفية وسيطة إلى طبقة وسطى.(11/493)
كانت رومانيا القديمة تتكون من إمارتين: مولدافيا وعاصمتها جاسي، وفالاشيا وعاصمتها بوخارست. ثم ضمت مقاطعات بكوفينا وبساربيا وترانسيلفانيا عام 1919 وتكوَّنت بذلك رومانيا العظمى. وكان الوضع السياسي في مولدافيا وفالاشيا غير مستقر بالمرة، فرومانيا، مثلها مثل بولندا، تقع وسط ثلاث إمبراطوريات عظمى متصارعة هي النمسا وروسيا (التي أخذت تلعب دوراً متزايداً في سياسة رومانيا ابتداءً من القرن التاسع عشر) والدولة العثمانية (وهي القوة العظمى التي سيطرت فعلياً على رومانيا من القرن الخامس عشر حتى عام 1829 واسمياً حتى عام 1879) . وأدَّت هذه العوامل إلى فقدان رومانيا استقلالها وإلى تبعيتها لإحدى هذه القوى مع كل ما ينجم عن التبعية من ضعف وتدهور وتخلف حضاري واقتصادي. وظلت إمارتا جاسي وفالاشيا، منذ تأسيسهما في القرن الرابع عشر حتى 1880، دون استقلال إلا في الأمور الإدارية الداخلية، بل إن تبعيتهما كانت ملحوظة في المجال الثقافي. فقد دخلت على ثقافتهما مؤثرات سلافية ثم يونانية ثم فرنسية، ولم تظهر الرومانية كلغة لها أهميتها إلا في القرن التاسع عشر، ولم يظهر أدب روماني حتى عام 1880.
وقد حكم مولدافيا وفالاشيا حكام تابعون للدولة العثمانية، كانوا في بداية الأمر جماعة وظيفية من اليونانيين المقيمين في إستنبول ثم تم اختيار الحكام، فيما بعد، من بين طبقة النبلاء المحليين (بويار) . وحتى منتصف القرن التاسع عشر، كان الفلاحون مجرد أقنان ملتصقين بالأرض، ولم يتم تحريرهم إلا عام 1864. وكان الاقتصاد زراعياً، من الناحية الأساسية، بل ورعوياً في بعض الأماكن. ولم تكن توجد أية مراكز للحضارة إلا في بعض الأديرة كما كان الحال في أوربا في العصور الوسطى. وكان كثير من أعضاء النخبة من البويار أميين يجهلون القراءة والكتابة، ولم تكن هناك بطبيعة الحال طبقة وسطى.(11/494)
وقد ظل الوضع مستقراً هادئاً إلى أن وقعت الحرب الروسية العثمانية (1828 ـ 1829) التي تغيَّر بعدها الوضع في رومانيا تماماً. فقد وُقعت معاهدة أدرنة بين روسيا وتركيا عام 1829، وتحوَّلت المقاطعتان (مولدافيا وفالاشيا) بمقتضاها إلى محميتين روسيتين من الناحية الفعلية، وتم فك احتكار الدولة العثمانية للتجارة، وفُتحت حدود مولدافيا الشمالية للتجارة فزادت التجارة الدولية من نقطة الصفر تقريباً لتصبح نحو 60 مليون لي (العملة الرومانية التي كانت تعادل فرنكاً ذهبياً) عام 1839 ثم إلى 210 ملايين لي عام 1859. وكانت الطبقة المحلية من التجار والحرفيين صغيرة هزيلة للغاية، بدائية إلى أقصى حد وغير مهيأة لهذا التحول، إذ كانت تنقصها الخبرة الإدارية وفهم آليات السوق المحلية والدولية ورأس المال. ومن ثم لم يكن هناك مفر من ملء الفراغ بعنصر أجنبي يضطلع بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة. وهذا ما قام به اليونانيون والأرمن وبعض عناصر من يهود اليديشية الذين أخذ يتزايد عددهم بنسبة كبيرة.(11/495)
ومن العوامل الأخرى التي ساهمت في زيادة عدد اليهود في رومانيا أضعافاً مضاعفة، تقسيم بولندا والأحوال المتردية فيها. وقد أدَّى ذلك الوضع إلى تسلُّل الآلاف من يهود اليديشية منها، وخصوصاً أن حدود رومانيا كانت مفتوحة تماماً. وقد بلغ عدد أعضاء الجماعات اليهودية في رومانيا عام 1803 نحو 12 ألفاً، زاد إلى 18 ألفاً عام 1838، وإلى 119 ألفاً عام 1858، ثم إلى 266.652عام 1880 (أي 4.48% من السكان) . وكان مرجع هذا تدفُّق الفائض البشري اليهودي. كما أن 200 ألف يهودي كانوا يعيشون في مولدافيا التي كان اليهود يشكلون فيها ما بين 33% و44% من سكان المدن. وفي بعض المدن، كان عدد اليهود يصل إلى 55% بل إلى 60%. وكان الرومانيون يسمون هذه الهجرة «الغزو اليهودي» . وهذه الهجرة التسللية هي التي أدَّت إلى ظهور ما يُسمَّى «المتشردون اليهود» أو «المتسولون» ، وهم جماعات من اليهود كانت تهيم على وجهها من مدينة إلى أخرى (دون وظيفة محددة) تبحث عن أية وسيلة للبقاء.(11/496)
ويُلاحَظ أن يهود رومانيا لم يكونوا عنصراً واحداً متجانساً، فرومانيا القديمة، كما أسلفنا، كانت في الأصل إمارتين أو مقاطعتين مستقلتين هما: مولدافيا في الشمال وفالاشيا في الجنوب. وكانت مولدافيا تضم يهوداً من أصل بولندي أوكراني. أما فالاشيا، فكانت تضم يهوداً نزحوا إليها من شبه جزيرة البلقان، كما كانت توجد فيها أقلية سفاردية. ثم ضمت رومانيا بعض المناطق منها بكوفينا (عام 1919) والتي كانت إقليماً نمساوياً منذ عام 1774 وكانت قبل ذلك خاضعة لتركيا (كجزء من مولدافيا) ، وكان العنصر اليهودي فيها نصفه نمساوي ونصفه بولندي. ثم ضمت رومانيا بعد ذلك بساربيا التي كانت روسيا قد اقتطعتها من موالدافيا عام 1812، وكان العنصر اليهودي فيها روسياً. أما المقاطعة الثالثة، ترانسيلفانيا، فكانت تحت حكم المجر منذ القرن الثاني عشر، واستوطنها يهود من جاليشيا ذوو توجه ألماني وكذلك عنصر سفاردي. وكانت هذه الجماعات ذات الأصول الإثنية المختلفة تنقسم، من وجهة نظر الرومانيين، إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ العنصر المحلي: ويتمثل في اليهود الذين كانوا يقطنون مولدافيا وفالاشيا منذ أمد طويل، واعتُبر هؤلاء جزءاً عضوياً من الأمة الرومانية.(11/497)
2 ـ الهرسوفلتسي Hrisovelitzi: وهؤلاء هم اليهود الذين استوردهم النبلاء الإقطاعيون (بويار) ومنحوهم مواثيق (بالرومانية: هرسوف Hrisov) يُمنح اليهود بمقتضاها مزايا معيَّنة من بينها الإعفاء من الضرائب عدة سنين، وأرض فضاء مجانية لإقامة معابدهم ومدارسهم وحماماتهم الشعائرية ومقابرهم. وقد صدرت معظم المواثيق في الفترة 1780 ـ 1850. وعلاقة يهود الهرسوفلتسي بالبويار تشبه إلى حدٍّ كبير علاقة يهود الأرندا بطبقة النبلاء البولنديين (شلاختا) . وقد أسس النبلاء ليهود الهرسوفلتسي مدناً صغيرة (شتتلات) خاصة بهم تقريباً مثل مدينة فالتسيني (1798) وجزء من مدينة فوكساني. وقد تم تأسيس ست وثلاثين مدينة من هذا النوع في مولدافيا. كما استمرت هجرة اليهود الهرسوفلتسي حتى عام 1860.
3 ـ ولكن أعداداً أخرى من اليهود هاجرت، بعد توقيع معاهدة أدرنة، إلى إمارتي مولدافيا وفالاشيا اللتين كانتا في حاجة إلى حرفيين وصناعات ورأس مال. وقد اجتذب هذا الوضع عناصر تجارية يهودية ومسيحية من البلاد المجاورة، ولكن لم تَصدُر لهم مواثيق خاصة.(11/498)
وكان يهود الهرسوفلتسي، وكذلك يهود المجموعة الثالثة، يرتدون الأزياء البولندية المتمثلة في القفطان والقبعة المزينة بالفرو وخُصل الشعر (إستريميل) . وقد أثروا في بقية الجماعة اليهودية، حتى أنه، مع بداية القرن التاسع عشر، كانت الجماعة اليهودية بأسرها ترتدي الزي الواحد نفسه وتتحدث اليديشية وتتبع أسلوباً واحداً للحياة، أي أنهم أصبحوا تقريباً من يهود اليديشية. وظهرت الجماعات اليهودية كما لو كانت وحدة متماسكة ليست ذات أصول مختلفة، مع أنها لم تكن كذلك في واقع الأمر، وانعكست الانتماءات الإثنية المتنوعة على علاقتهم بعضهم بالبعض الآخر. وقد تم تنظيم اليهود كجماعة يرأسها «استاروستي» (وسمي بالعبرية «روش مدينا» أي «رئيس البلد» ) وظيفته أن يحدد الضريبة التي تُفرض على اليهود. وكان الرئيس الروحي لليهود هو الحاخام باشي (وهو لقب عثماني كان يُمنح للحاخام الأكبر في الدولة العثمانية) . وقد عين السلطان أول حاخام باشي عام 1719، ولكن اليهود الروس والنمساويين كانوا من الحسيديين ويتبع كل فريق منهم التساديك الخاص به، ولذا رفضوا سلطة الحاخام باشي الروحية وطلبوا من قناصل بلادهم التدخل لصالحهم. وبالفعل، قَّلصت الحكومة عام 1819 سلطة الحاخام باشي، ثم أُلغي المنصب تماماً عام 1834. ولكن إلغاء المنصب ساهم في تصعيد حدة الصراع بين الجماعات اليهودية المختلفة.(11/499)
إن هذا العنصر الغريب إثنياً (والذي أصبحت غربته قانونية كما سنبين فيما بعد) كان يلعب دور الجماعة الوظيفية الوسيطة، كما كان الحال في معظم دول أوربا حتى القرن الثامن عشر وفي شرق أوربا حتى القرن التاسع عشر. ولكن الوضع في رومانيا كان متميِّزاً، إذ كان أكثر حدةً ووضوحاً عنه في أي بلد آخر، وذلك بسبب تخلُّف المجتمع واتساع الهوة بين النبلاء والأقنان وافتقار رومانيا إلى طبقة وسطى. وقد ترك هذا الوضع أثره العميق في أعضاء الجماعة اليهودية، وفي أسلوب حياتهم ومناطق سكناهم وبنائهم الوظيفي والمهني.
كان معظم يهود رومانيا يتركزون في المدن. وحسب إحصاء عام 1899، كان 79.73% منهم يعيشون في المدن ويكوِّنون 32.10% من سكان المدن في رومانيا، ولم يكن يقطن سوى 20% منهم في القرى، وكانت نسبتهم لا تزيد على 1.1% من عدد سكانها. وفي مولدافيا، كان اليهود يكوِّنون أغلبية السكان في بعض المدن فبلغ عددهم 57% من عدد سكان فاليتسيني، و50% من سكان جاسي. وكانت نسبتهم أكثر من ذلك في المدن الصغيرة، فكانوا 66.2% في جرتسا و65.6% في ميهايليني، وهذا يعني أنهم كانوا في عزلة عن السواد الأعظم من الشعب الروماني. كما كان 84% من السكان الفلاحين يعيشون في الريف. وكان اليهود هم الجماعة الوظيفية الوسيطة التي تشغل الفراغ الذي خلفه غياب الطبقة الوسطى المحلية، فتدل إحصاءات عام 1904 على أن 21% من مجموع التجار كانوا يهوداً. وفي مدن مثل جاسي، كان أعضاء الجماعات اليهودية يشكلون 75% من جملة التجار و20% من مجموع الحرفيين. وتركَّز اليهود في بعض الحرف، فكانوا يشكلون 81.3% من مجموع النقاشين أو الحفارين على الخشب والمعادن و76% من السباكين و75.9% من صانعي الساعات و74.6% من مجلدي الكتب و64% من صناع القبعات و64% من المنجدين.(11/500)
وكان لأعضاء الجماعات اليهودية وجود ملحوظ في القطاع الصناعي الهزيل، فقد كان عدد الشركات الصناعية يزيد قليلاً على 625 وكان اليهود يمتلكون 19.5% منها. وقد تركزوا في بعض الصناعات دون غيرها، فقد كانوا يمتلكون نحو 52.8% من صناعة الخشب والأثاث و32.4% من صناعة الملابس و26.5% من صناعة النسيج.
وكان التوزيع الوظيفي لأعضاء الجماعات اليهودية على النحو التالي: 42.5% في الصناعة والحرف، و37.9% في التجارة والبنوك، و2.5% في الزراعة، و3.2% في المهن الحرة، و13.7% في الوظائف الأخرى. وكان 38% من جملة الأطباء في رومانيا يهوداً.
ورغم غياب أعضاء الجماعات اليهودية عن الريف، فقد لعبوا دوراً ملحوظاً في اقتصادياته حيث احتكروا صناعة تقطير الكحول والاتجار فيه، وكانوا أصحاب حانات وفنادق، كما كانوا يشترون من الفلاح محاصيله وقطعان الحيوانات التي يربيها ويزودونه بالبذور والسلع المصنوعة التي يريدها، وكانوا يقرضونه ما يحتاج إليه من نقود. وقد أصبح الفلاحون تابعين للتجار اليهود من المهد إلى اللحد، ويُقال إن نصف الأراضى الزراعية في مولدافيا وقعت في أيدي اليهود من خلال استئجارها ومن خلال القروض التي لم يستطع أصحابها الوفاء بها. وقد كان اليهود كما أسلفنا عنصراً غريباً يعيش في الشتتلات لأن مفهوم المواطنة نفسه لم يكن قد استقر بعد.
وكان التركيب الاجتماعي ليهود رومانيا لا يختلف عن نظيره في بقية شرق أوربا، فقد كان على قمة الهرم الاجتماعي طبقة صغيرة من التجار الأثرياء وعدد قليل من المهنيين، ثم كان هناك عدد كبير من أصحاب الفنادق وصغار التجار والحرفيين يتركزون في حرف معينة مرتبطة في الغالب بالنشاطات المالية اليهودية الأخرى. وفي قاعدة الهرم، كان يوجد عدد ضخم من الفقراء الذين لا عمل لهم. ورغم وجود هذا العدد من محدودي الدخل والفقراء بين اليهود، فإن الشريحة الثرية المهيمنة هي التي كانت تحدد إدراك المجتمع للجماعة.(12/1)
هذه هي الصورة العامة لأعضاء الجماعات اليهودية. وقد اجتاحت التغيرات رومانيا مثلما اجتاحت معظم بلاد أوربا، وإن كانت التغيرات قد وصلت رومانيا في وقت متأخر نوعاً ما نظراً لوقوعها تحت الهيمنة العثمانية. وأدَّت التغيرات إلى قلقلة وضع اليهود وظهور المسألة اليهودية التي اكتسبت طابعاً خاصاً وحاداً في رومانيا بسبب طبيعة التشكيل الحضاري والسياسي فيها وبسبب وضع اليهود كجماعة وظيفية وسيطة تشبه في عزلتها الجماعات الوظيفية الوسيطة في مجتمعات العصور الوسطى في الغرب.
كان أعضاء الجماعة كما أسلفنا عنصراً إثنياً غريباً يلعب دوراً وظيفياً متميِّزاً. كما أن الحكومة قسَّمت اليهود إلى قسمين من ناحية المولد والولاء السياسي. وقد كانت الحكومة، منذ نهاية القرن الثامن عشر، تستخدم مصطلح «بامانتيني» ، أي «المحليين» للإشارة إلى اليهود الذين لم يكونوا متمتعين بالحماية الأجنبية. أما اليهود الوافدون، فكان يُشار إليهم بأنهم «سوديتسي» ، أي الرعايا الأجانب. وهؤلاء كانوا تحت حماية قناصل الدول التي أصدرت لهم جوازات سفر، وبالتالي كانوا يتمتعون بنظام الامتيازات الأجنبية باعتبار أن إمارتي مولدافيا وفالاشيا كانتا تابعتين للدولة العثمانية.(12/2)
غير أنه حدث تحوُّل ليهود رومانيا يشبه التحول الذي حدث لمعظم يهود الدولة العثمانية، أي أن كثيراً من اليهود البامانتيني، وخصوصاً الأثرياء منهم، أُعيد تصنيفهم على أساس أنهم من السوديتسي حتى يتمتعوا بحماية الدول العظمى مثل النمسا وروسيا، وبالتالي أصبحت أغلبية يهود رومانيا أجانب شكلاً في زيهم ولغتهم وأجانب موضوعاً في وضعهم القانوني. وهذا يشبه من بعض الوجوه ما حدث ليهود مصر الذين أصبح 85% منهم من رعايا دول أجنبية، وتخلَّوا عن وضعهم القانوني كمصريين، وارتفعت بينهم معدلات العلمنة ومعدلات تقبُّل المُثُل الحضارية الغربية، فأرسلوا أولادهم إلى مدارس أجنبية (فرنسية بالأساس) ، وشغلوا مناصب مهمة في القطاع الاقتصادي المرتبط برأس المال الأجنبي حتى أصبح أغلبهم أجانب قلباً وقالباً (شكلاً وموضوعاً) عند نشوب الثورة المصرية عام 1952، وذلك رغم أنهم وُلدوا في مصر ونشأوا فيها.
وكثيراً ما كان يلجأ يهود رومانيا إلى قناصل دولهم لتنفيذ رغباتهم على نحو ما حدث عام 1819 عندما رفض اليهود الإشكناز الخضوع للحاخام باشي وآثروا اتباع قادتهم الحسيديين (تساديك) وطلبوا المساعدة من قناصل دولهم. ولعب بنيامين فرانكلين بيكسوتو (قنصل أمريكا) دوراً مهماً في تاريخ أعضاء الجماعة اليهودية في رومانيا، فقد قام بحملة عام 1872 لتهجير يهود رومانيا إلى الولايات المتحدة، وقد أعلن النظام الروماني تأييده لهذه الدعوة، ولكن يهود رومانيا عارضوا ذلك، وكذلك يهود الولايات المتحدة، وذلك خشية وصول أعداد جديدة من اليهود. ولذا، حينما عقد بيكسوتو مؤتمراً للمنظمات اليهودية في العالم (أكتوبر عام 1872) لتشجيع الهجرة، وقد رفض المؤتمر الفكرة، ولكنه شجَّع يهود رومانيا على الكفاح من أجل الحصول على حقوقهم.(12/3)
ويمكننا أن نقول إن أعضاء الجماعة اليهودية ظلوا خارج التشكيل الروماني القومي. وحينما نشأت حركة رومانية قومية، لم ينخرط أعضاء الجماعة في صفوفها وظلوا إلى حدٍّ كبير أجانب عنها. وحتى عام 1828، كانت القوانين السائدة في رومانيا خليطاً من القوانين العثمانية التي تقبل التنوع والأعراف الأوربية. وكان مسموحاً لليهود بأن يعيشوا في أي مكان يشاءون. ثم بدأ البعث القومي الروماني الذي تزامن إلى حدٍّ كبير مع هجرة يهود بولندا، الأمر الذي أدَّى إلى زيادة صبغ يهود رومانيا بالصبغة الأجنبية. وحينما هيمنت الإمبراطورية الروسية على إمارتي مولدافيا وفالاشيا، وُضع ما ُسِّمي «القانون العضوي» ، وهو لا يختلف كثيراً عن القوانين التي كانت تَصدُر في روسيا وغيرها من دول الملكيات المطلقة، ابتداءً من القرن الثامن عشر، بهدف إصلاح اليهود كجزء من عملية التحديث. وقد أكد القانون نظام الأقنان حيث قرر البند 94 منه أنه يمكن طرد المتشردين اليهود الذين لا يشتغلون بمهنة نافعة. ومنع القانون أعضاء الجماعات اليهودية من استئجار الأراضي الزراعية، ولكنه ترك لهم حرية إدارة مصانع تقطير الخمور بإذن من النبيل الإقطاعي، كما فُتحت المدارس لأبنائهم شريطة ألا يرتدوا الرداء اليهودي البولندي (القفطان) .(12/4)
وبعد فترة من الثورات والقلاقل في رومانيا تدخلت أثناءها القوات العثمانية والروسية لقمعها، وبعد أن هُزمت روسيا في حرب القرم، قرَّر مؤتمر باريس عام 1858 وضع رومانيا تحت الحماية الجماعية لأوربا مع بقائها اسماً تابعة للدولة العثمانية. وفي عام 1859، انتخبت الإمارتان أميراً واحداً وظهرت رومانيا كوحدة سياسية لأول مرة وبدأت محاولات توحيدها، وظهرت حركة قومية وإرهاصات طبقة وسطى رومانية نظرت إلى اليهود باعتبارهم الغريم. وفي عام 1867، أصدرت الحكومة الرومانية قراراً بطرد اليهود المتشردين، وتم ترحيل أعداد كبيرة منهم عبر نهر الدانوب. ووقعت أثناء ذلك حادثة جالاتز حينما قرر حراس الحدود العثمانيون منع اليهود المتشردين الذين طردهم الرومانيون من عبور الحدود وأعادوهم إلى الأراضي الرومانية. وقد رفض حراس الحدود الرومانيون السماح لهم بالدخول وأعادوا القارب وغرق أثناء ذلك يهوديان.
وقد نصت معاهدة برلين، عام 1878، على ضرورة مساواة يهود رومانيا ببقية المواطنين. ولكن الحكومة الرومانية راوغت في تطبيق هذا المبدأ واتخذت إجراءات تهدف إلى تشجيع العنصر الروماني على الاشتغال بالتجارة. وصدرت عدة قوانين ذات طابع قومي، فإذا أراد أي يهودي أجنبي (من السوديتسي) أن يبني مصنعاً فيتعيَّن أن يكون ثُلثا مستخدميه من الرومانيين لعدة أعوام. ونصت القوانين على أن تكون معظم أسهم الشركات في أيد رومانية. وطُبِّقت قوانين مماثلة في حقل التعليم لضمان استفادة العناصر القومية من النظام التعليمي ولتدبير الكوادر اللازمة للنهضة الاقتصادية القومية. ومُنع اليهود من الاتجار في الدخان والمشروبات الروحية ومن الاشتغال كمديري بنوك.
وقد عُقد أول مؤتمر عالمي لمعاداة اليهود عام 1887 في بوخارست. ونشبت ثورة الفلاحين عام 1907 ضد النبلاء الرومانيين وراح ضحيتها عملاؤهم من اليهود، تماماً كما كان الحال مع شميلنكي.(12/5)
وهكذا، فبينما كان اليهود يزدادون غربة وعزلة، كانت الحركة القومية الرومانية تزداد قوة ووعياً. ولذا، لم يكن من الممكن مناقشة مسألة يهود رومانيا في إطار إعتاق اليهود وإنما في إطار صهيوني، أي هجرتهم، وخصوصاً أنه بدأ يخرج من رومانيا وغيرها مئات من المتشردين يتحركون سيراً على الأقدام بملابسهم الممزقة نحو مدن أوربا الغربية حاملين الخوف والهلع والحرج ليهود ألمانيا ويهود غرب أوربا المندمجين. كان خط سيرهم من رومانيا إلى هامبورج ومنها إلى كندا والولايات المتحدة. وقد أسلفنا الإشارة إلى محاولات قنصل الولايات المتحدة تهجير يهود رومانيا.(12/6)
وقد عُقد مؤتمر فوكساني في 30 ديسمبر 1881 لمناقشة مشكلة هجرة اليهود واستيطانهم في فلسطين حضره المفكر الصهيوني غير اليهودي لورانس أوليفانت الذي كان قد تفاوض مع السلطات بشأن شراء أرض للاستيطان اليهودي وتأسيس شركة للهدف نفسه. وكان لظهوره فعل السحر، وانتشرت آراؤه المتصلة بتوطين اليهود في فلسطين بدلاً من الولايات المتحدة حيث كان اليهود يتهددهم الاندماج. وقام أعضاء جماعة البيلو بالاتصال به، وكتب له بعض أحباء صهيون يخبرونه بأن الخالق وحده هو الذي وضع في يده صولجان قيادة اليهود، وسموه «المخلِّص الماشيَّح» أو «قورش الثاني» . وكان عدد يهود رومانيا عام 1899 نحو 236.652، هاجر منها في الفترة 1900 ـ 1906 ما يقرب من 70 ألفاً. وشهد عام 1918 ـ 1919 صدور قوانين تمنح اليهود حقوقهم، ولكن المناخ العام ظل مع هذا معادياً لهم بسبب غربتهم وتَصاعُد الحمى القومية التي تمثلت في رغبة أهل رومانيا في المشاركة في الاقتصاد الوطني حيث كان أعضاء الجماعة اليهودية يشغلون قطاعات إستراتيجية وكبيرة فيه بقدر لا يتناسب البتة مع نسبتهم إلى العدد الكلي للسكان. وصدرت عام 1920 معاهدة الأقليات التي نصت على ضرورة اعتراف رومانيا بحق اليهود داخل حدودها في الحصول على المواطنة، وضمنهم مَنْ لا قومية لهم. ولكن دستور عام 1923 لم يمنح حق المواطنة إلا لليهود الذين كانوا مواطنين في المملكة القديمة. وفي عام 1938، صدر قانون حرم ثُلث اليهود من حق المواطنة. ومما جعل الوضع يتفاقم، الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم الغربي في الثلاثينيات، فلجأت الحكومة إلى منع أعضاء الجماعة اليهودية من العمل في الصحف وقطاع المسرح لإتاحة فرص العمل أمام الآخرين ولإتاحة الفرصة للتعبير عن الهوية الرومانية القومية. ومُنع اليهود كذلك من التحدث علناً باليديشية، كما قامت جماعات معادية لليهود (من بينها الحرس الحديدي) بترتيب هجمات ضد أعضاء الجماعة.(12/7)
ويُلاحَظ أن الجماعة اليهودية في رومانيا، في الثلاثينيات، كانت أكبر الكتل اليهودية في أوربا بعد روسيا وبولندا، حيث كان يبلغ عدد أعضائها حوالي 800 ألف من مجموع السكان البالغ عددهم 18 مليوناً، أي أنهم كانوا يشكلون 4.2%. وأثناء الحرب العالمية الثانية، كانت رومانيا متحالفة مع ألمانيا في البداية. وحينما طُبِّقت قوانين نورمبرج عام 1940، رُحِّل عدد من اليهود إلى معسكرات الاعتقال والإبادة.
وبعد الحرب العالمية الثانية، اقتُطعت بساربيا وشمال بكوفينا من رومانيا حيث ضمتهما روسيا. أما بلغاريا، فضمت جنوب دوبردجا، وضمت المجر شمال ترانسيلفانيا. وأدَّى هذا إلى انكماش حجم رومانيا إلى 70 ألف ميل مربع يضم 475 ألف يهودي وحسب (وانخفض بعد ذلك إلى 428 ألفاً) . وشكَّل الحكم الشيوعي اللجنة الديموقراطية اليهودية (على غرار اليفيسكتسيا) . وسمح الشيوعيون بالهجرة اليهودية إلى إسرائيل، فتناقص عدد يهود رومانيا. وفي عام 1956، كان هناك 144.236 يهودياً في رومانيا، وصل إلى 100 ألف عام 1960، وبلغ عام 1992 نحو 16 ألفاً من مجموع السكان البالغ عددهم 23.377.000 نسمة. ولا يوجد في بوخارست سوى حاخامين. وقائد الجماعة هو الحاخام موسى روزين، وهو أيضاً القائد الإداري والديني الذي اتُهم بالتعاون الكامل مع تشاوشيسكو. والجماعة اليهودية الرومانية جماعة مسنة إذ أن حوالي نصف أعضائها تجاوزوا سن الستين. وينقسم الشباب الآن إلى قسمين: قسم تم استيعابه في المجتمع الروماني (أو ربما في الحضارة العلمانية) ويحاول الهجرة إلى أي بلد في العالم، وفريق آخر يحافظ على هويته اليهودية، وهؤلاء مهتمون بالهجرة إلى الدولة الصهيونية. وبهجرة أعضاء هذا الفريق ستختفي أية قيادة قومية للجماعة. ورغبة الفريقين في الهجرة تمثل تعبيراً عن تركيبة المجتمع الروماني التي لا تزال رافضة لليهود بوصفهم عنصراً أجنبياً، هذا على الرغم من سياسة الحكومة التي كانت لا تميِّز ضد(12/8)
أعضاء الجماعة اليهودية بل كانت تأخذ حينذاك موقفاً مؤيداً لإسرائيل ومختلفاً عن موقف الدول الاشتراكية الأخرى. وكانت هناك علاقات طيبة للغاية بين إسرائيل وتشاوشيسكو الذي سمح بهجرة أعضاء الجماعات اليهودية إلى إسرائيل.
وقد استقر 200 ألف يهودي روماني في إسرائيل خلال الفترة 1948 ـ 1960، وهاجر 80 ألفاً إلى بلاد أخرى. واستمرت الهجرة بعد ذلك بمعدل بطيء (حوالي ألف كل عام) . ويبلغ عدد اليهود من أصل روماني في المُستوطَن الصهيوني من 320 إلى 330 ألفاً، فهم ثاني أكبر مجموعة بعد المغاربة.
والمنظمة المركزية ليهود رومانيا هي «اتحاد الجماعات اليهودية في جمهورية رومانيا الاشتراكية» ويرأسها كبير الحاخامات، وهي أول منظمة في دولة شيوعية سُمح لها بالانضمام للمؤتمر اليهودي العالمي. وتقدِّم اللجنة الأمريكية المشتركة للتوزيع 80% من تمويل المشاريع الخيرية والخدمة الاجتماعية.
المجر
Hungary(12/9)
توجد آثار تدل على أن وجود أعضاء الجماعة اليهودية في المجر يعود إلى أيام الدولة الرومانية قبل أن تغزو قبائل الماجيار المنطقة عام 895. ويبدو أن قبائل الماجيار كانت تربطها علاقة مع إمبراطورية الخزر، بل يُقال إنها كانت تحت رعايتها وحمايتها، وإن بعض يهود الخزر اشتركوا مع قبائل الماجيار تحت قيادة أسرة أرباد في فتح المنطقة والاستيطان فيها عام 890 إلى أن أوقفهم الإمبراطور أتو الأول عام 955. وقد اتصل حسداي بن شبروط بيهود المجر حتى يصلوه بيوسف ملك الخزر. وهناك إشارات متعددة إلى وجود اليهود في المجر مثل إشارة الكاتب البيزنطي جون سينا موسى إلى «جنود التشاليزيان» أي «المرتزقة» . ويبدو أن كلمة «التشاليزيان» ترجمة للكلمة العبرية «حالوتس» ، وهي بمعنى «الرائد» . ولذا، يُرجح المؤرخون أن التشاليزيان جنود يهود يشكلون جماعة وظيفية قتالية. ومن الأرجح أنه كانت توجد أعداد كبيرة من اليهود بالمجر في ذلك الوقت، إذ يبدو أنه مع تأسيس مملكة المجر اجتذبت هذه المملكة أعداداً كبيرة من اليهود ربما كانوا يعملون بالزراعة والتجارة، ويتمتعون بعلاقة وئام كاملة مع أعضاء المجتمع المضيف. ولكن، مع تَزايُد وفود المستوطنين اليهود من الخارج، وكانوا عادة من التجار، بدأت الجماعة في التحول إلى جماعة وظيفية وسيطة تجارية، وظهرت تشريعات لتنظيم هذا الوضع. ففي عصر الملك كلمان (1906 ـ 1116) ، نجده قد تعهَّد بحمايتهم من هجمات الفرنجة (الصليبيين) وقبل شهادتهم في المحاكم، كما حدد مكان سكنهم ومنعهم من استخدام عبيد، وهو ما كان يعني استبعادهم من مهنة الزراعة.(12/10)
وفي الفترة التالية حين قام صراع بين الكنيسة ومؤسسة الملكية أو بين الملك والنبلاء، كانت أعضاء الجماعة اليهودية حلبة الصراع. فحين كانت الكنيسة تهدف إلى تشديد قبضتها، وهو ما كان يعني استبعاد اليهود، كان الملوك يريدون المحافظة على استقلالهم وكان اليهود أداتهم في ذلك. فكانت الكنيسة تصدر التوجيهات والتحريمات التي كان يتجاهلها الملوك. واستمر أعضاء الجماعة اليهودية في التمتع بما تمنحهم المواثيق الملكية من مزايا، حتى أن بعض اليهود أصبحوا من كبار ملاك الأراضي وحملوا لقب «كونت» . ويمكن أن نقول إن أعضاء الجماعة اليهودية، باعتبارهم جزءاً من الطبقة الحاكمة ومؤسسة الملكية، تمتعوا بوضع ممتاز تحت حكم أسرة أرباد الذي انتهى بانتهاء حكم أندرو الثالث (1290 ـ 1301) آخر ملوك الأرباد.(12/11)
وقد أصدر الملك أندرو الثاني (1205 ـ 1235) الفرمان الذهبي عام 1222 بضغط من النبلاء، وكان هذا الفرمان بمنزلة دستور يدعم حقوق النبلاء مقابل الملك. وتضمَّن الدستور مادة تنص على أن اليهود والمسلمين (من التتار) لا يمكنهم أن يشغلوا وظائف جمع الضرائب والاتجار في الملح، وكانت هذه من أكبر مصادر الدخل للدولة. ويبدو أن المسلمين التتار كانوا يشكلون أيضاً جماعة وظيفية وسيطة. ومع هذا، نجد أن النبيل اليهودي الكونت تيكا كان وصياً أو حارساً على ريع الخزائن الملكية. وقد استمر كثير من اليهود في شغل وظائفهم الحكومية المالية، وهو ما اضطر البابا إلى طرد الملك أندرو الثاني من حظيرة الكنيسة، فاضطر الكونت تيكا إلى الهجرة. ولكن الملك بيلا الرابع (1235 ـ 1270) قدَّم رجاءً إلى روما بأن تسمح للكونت بالعودة بعد تدهور حالة المملكة الاقتصادية. وقد وافقت روما على طلبه شريطة أن يعيَّن معه موظف مسيحي فيقوم بالتصرف في المال العام تحت إشراف الموظف المسيحي. وبالفعل، عاد الكونت تيكا مرة أخرى وقام بتدبير المبالغ اللازمة لتجهيز الدفاع ضد هجمات التتار. وقد انتشرت شائعات بأن اليهود تعاونوا مع إخوانهم التتار، فكلتا الجماعتين من أصل تركي (باعتبار أن يهود المجر كانوا من أصل خزري) . وبالفعل، اختفى الكونت تيكا أثناء الغزو التتري، ويُقال إنه فرّ معهم عند انسحابهم.(12/12)
وعندما بدأ الملك بيلا الخامس إعادة بناء مملكته، دعا عناصر يهودية تجارية إلى الاستيطان للمساهمة في هذه العملية، وعيَّن يهودياً يُدعى هيتوك أميناً للخزانة الملكية تقاضى مقابل القيام بوظيفته قلعة كوماروم وإحدى وعشرين قرية تابعة لها. وقد عهد بيلا الخامس إلى اليهود بدار سك النقود (وهناك عملات تعود إلى هذه الفترة تحمل حروفاً عبرية) . ولتقنين وضع أعضاء الجماعة اليهودية، قام بيلا بإصدار ميثاق جعلهم أقناناً للخزانة الملكية بكل ما تحمل العبارة من مزايا وحقوق وواجبات (وقد جدد هذا الميثاق كل ملوك المجر حتى عام 1526) . ويُلاحَظ أن يهود المجر كانوا يتحدثون اللغة المجرية وكانت ثقافتهم مجرية.(12/13)
وقد استمر وضع أعضاء الجماعة اليهودية، كجماعة وظيفية وسيطة، تحت حكم الأسر الأجنبية المختلفة التي حكمت المجر (1301 ـ 1526) . وتظهر أهميتهم في أن لاجوس الأكبر (1342 ـ 1382) أوجد وظيفة جديدة تُسمَّى «قاضي كل اليهود الذين يعيشون في البلد» يضطلع صاحبها بوظيفة تحديد الضرائب على اليهود وجمعها منهم وحماية امتيازاتهم وسماع شكواهم، أي أنه رئيس الجماعة الوظيفية الوسيطة والضامن لكفاءة أدائها كأداة إنتاج في يد الملك. ويُلاحَظ أنه، منذ منتصف القرن الخامس، بدأت المدن المجرية في غرب المملكة (وقد كانت مراكز تجارية) تشكو من منافسة التجار اليهود الغرباء الذين كانوا يتحدثون الألمانية. ولتهدئة الموقف، أعلن الملك أن من حقه إلغاء الديون المستحقة للمرابين اليهود التي استدانها النبلاء أو الأبرشيات أو المدن. وشهدت هذه الفترة بداية توجيه تهمة الدم لليهود، وإلغاء الديون المستحقة لهم، ومنع رهن العقارات المسيحية لدى أعضاء الجماعة. واستمر الوضع في القرن السادس عشر واحتدم الصراع بين الملك أولاسلو الثاني (1490 ـ 1515) من جهة ومدينة سوبورون من جهة أخرى، إذ حاول الملك أن يمنع المدينة من جمع ضرائب اليهود. ولكنه، مع هذا، اضطر عام 1503 إلى إلغاء سائر الديون اليهودية في المملكة تحت الضغط الشعبي عليه (وهي عملية يمكن أن نطلق عليها «عملية تأميم» ) . وقد طلب جيكوب مندل رئيس اليهود إلى الإمبراطور الألماني ماكسيمليان أن يضع اليهود تحت حمايته، وذلك بعد أن ضُمَّت المجر إلى الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة. وفي عام 1524، قام لاجوس الثاني (1516 ـ 1526) بتعيين يهودي مديراً لدار سك النقود، كما عين اليهودي المتنصر إمري فورتوناتوس وزيراً لمالية المملكة. وأدَّى هذا إلى تَزايُد كراهية الجماهير لأعضاء الجماعة اليهودية إذ فرض فورتوناتوس ضرائب مزدوجة زادت معدل التضخم. وقد فُرض في تلك الفترة القَسَم اليهودي الذي ظل مستمراً حتى منتصف(12/14)
القرن التاسع عشر.
وحينما ضمت الدولة العثمانية أجزاء من المجر عام 1526، هجَّر السلطان سليمان ألفي يهودي إلى تركيا. ويبدو أن العثمانيين كانوا مدركين أهمية أعضاء الجماعة كعنصر استيطاني. وأدَّى الغزو العثماني للمجر إلى تقسيمها بحيث أصبح شرق المجر تابعاً للدولة العثمانية. أما غرب المجر، فقد حكمه ملوك أسرة هابسبورج، وحكم ترانسيلفانيا النبلاء المجريون. وكان ملوك الهابسبورج متحيزين، بطبيعة الحال، إلى سكان المدن الملكية (مثل مدينة سوبورون التي أسلفنا الإشارة إليها) الذين كانوا من أصل ألماني، فسمحوا لهذه المدن بطرد اليهود ولم يجددوا مواثيق الملك بيلا الرابع. أما في المنطقة التي وقعت تحت حكم النبلاء المجريين، فقد تمتع أعضاء الجماعة اليهودية بحماية النبلاء.
ولكن الازدهار الحقيقي كان من نصيب هؤلاء اليهود الذين وقعوا تحت حكم العثمانيين، فقد فُرضت عليهم ضرائب باهظة ولكنهم تمتعوا بحرية الحركة والاتجار داخل الدولة العثمانية. ومن ثم تهوَّد كثير من المسيحيين الذين تحوَّلوا إلى أقنان تحت حكم العثمانيين ليتمتعوا بالمزايا التي يتمتع بها أعضاء الجماعة اليهودية. كما أن مدينة بودا (العاصمة) أصبحت مركزاً لليهود الذين هاجروا إليها من مناطق المجر التي لم يحتلها العثمانيون. وقد وُضع أعضاء الجماعة اليهودية تحت حماية الباشا العثماني بل تحت حماية السلطان نفسه.
وحينما قام الملك رودولف (1576 ـ 1612) بمحاولة استعادة بودا من العثمانيين، حارب أعضاء الجماعة اليهودية إلى جانبهم، وهو ما زاد درجة السخط عليهم في مناطق المجر الأخرى حيث طالبت المدن بطرد اليهود. وفي عام 1647، منع فرديناند الثالث اليهود من شغل وظيفة ملتزمي ضرائب. وحينما تم فتح بودا عام 1686، أنزل العقاب بالجماعة اليهودية لموقفها الممالئ للعثمانيين.(12/15)
وكان مخطَّط الملك ليبوت الأول (1657 ـ 1705) هو تأسيس دولة كاثوليكية خالصة، فكان على المسلمين واليهود والبروتستانت أن يعتنقوا الكاثوليكية إن أرادوا البقاء فيها. وطُرد أعضاء الجماعة اليهودية من المدن الملكية وُمنعوا من ملكية الأرض، فاضطروا إلى العمل في تجارة القطاعي وأعمال الربا، كما فُرضت عليهم ضرائب باهظة. ولكن النبلاء المجريين قاموا بحماية اليهود، فسمحوا لهم بالإقامة في المدن التابعة لهم. ونمت بعض المدن نتيجة توطين اليهود فيها، مثل مدينة كيسمارتون (أيزنشتدات) . وقد وضعت هذه المدينة الجماعات اليهودية المحيطة بها تحت حماية أسرة إستيرهازي الأرستقراطية التي منحتهم المواثيق والمزايا نظير الضرائب التي يؤدونها، بل قام بعض أسر النبلاء بتوطين بعض أعضاء الجماعة اليهودية كأقنان وفلاحين. وكانت أغلبية اليهود من صغار التجار، فاشتغلوا بصناعة تقطير الكحول وجمع الضرائب وأعمال الرهونات وبيع الملابس. وكان معظم ممولي البلاط من اليهود.
وتزايد عدد أعضاء الجماعة اليهودية في المجر خلال القرن الثامن عشر نتيجة هجرة اليهود من بولندا ومورافيا، فوصل عددهم إلى 11.621 عام 1735، ولم يكن بينهم سوى أقلية مجرية. أما الباقون، فكانوا من العناصر المهاجرة. ومع هذا، فحين تم تصنيف اليهود بحسب القومية، أعلن أغلبيتهم أنهم ينتمون إلى الأمة المجرية.(12/16)
وحينما اندلعت الحرب التركية النمساوية (1682 ـ 1699) ، نجحت أسرة الهابسبورج النمساوية في طرد العثمانيين من المجر واعترف النبلاء المجريون عام 1687 بأحقية الهابسبورج بعرش المجر، ومن ثم بدأ حكم الإمبراطورية النمساوية المجرية. وقد خضع يهود المجر لمحاولات الملكية النمساوية المطلقة التي استهدفت تحديث اليهود وتحويلهم إلى عناصر نافعة، حيث تأثروا بشكل عميق بمحاولات إمبراطور النمسا جوزيف الثاني (1780 ـ 1790) في هذا المضمار والذي أصدر براءة التسامح عام 1782. وقد تم إعتاق اليهود سياسياً ابتداءً من هذا التاريخ بدرجات متفاوتة من النجاح والفشل بين منطقة وأخرى. وقد بلغ عدد يهود المجر عام 1840 نحو 200 ألف يشكلون 2.34% من مجموع السكان. ولعب أعضاء الجماعة دوراً مهماً في نمو الرأسمالية المجرية والصناعة المجرية. ويبدو أنه لم تكن هناك بورجوازية مجرية قوية. ولم يحدث الصدام بين الجماعة الوظيفية اليهودية والبورجوازية المحلية إذ اكتفت البورجوازية اليهودية بإدارة معظم البنوك والتجارة. كما لم تكن هذه الطبقة المجرية اليهودية تصطدم بالأرستقراطية الحاكمة. ويُلاحَظ أن الجماعة اليهودية كانت دائماً تحاول إثبات ولائها فتخلت عن ميراثها الألماني أو البولندي واكتسبت ثقافة المجر ولغتها. وظهرت حركة استنارة في المجر عام 1830 ترمي إلى صبغ اليهود بالصبغة المجرية. بل ساهمت الجماعة اليهودية في تعميق الهوية الثقافية المجرية من خلال الصحف وأدوات الإعلام الأخرى التي تحكمت فيها. وقد اصطبغ يهود المجر بصبغة مجرية كاملة، وظهرت حركة دينية إصلاحية تُسمَّى «النيولوج» . ولذا فإنهم، حين اندلعت الثورة المجرية ضد حكم الهابسبورج، انضموا إلى الثورة وحاربوا في صفوفها. وحينما استسلم الجيش المجري، وقَّعت القوات النمساوية عقوبات على يهود المجر من ضمنها فرض غرامة كبيرة، وقرر الإمبراطور فرانسيس جوزيف الأول (1848 ـ 1916) أن تُنفَق هذه الغرامة(12/17)
على إصلاح اليهود بتأسيس مدرسة لاهوتية للحاخامات وكلية تربية ومدرسة ابتدائية ومؤسسات للمعوقين اليهود. وقد تحقَّق ليهود المجر الإعتاق السياسي الكامل في عام 1867، وأقبلوا على التعليم العلماني إقبالاً شديداً، حيث نجد أن 35% من الطلبة في المدارس الثانوية المتخصصة من أعضاء الجماعة اليهودية (1910 ـ 1913) ، كما كان نصف أعضاء هيئة التدريس في كلية الطب و40% في مدرسة بودابست الفنية منهم، وكان منهم أيضاً أكثر من نصف الأطباء ونصف الصحفيين و26% من جملة المهنيين في قطاعات الفنون والآداب، وعدد كبير من العاملين في مهنة القانون.
وقد تزايدت معدلات الاندماج والتنصر بين اليهود، وخصوصاً بين الطبقات الثرية. وأصبح الزواج المختلط مسألة عادية، وخصوصاً في العاصمة. وكانت نسبة الأطفال غير الشرعيين وكذلك نسبة الانتحار من أعلى النسب بين الجماعات اليهودية في أوربا، وهذه هي في الواقع الخلفية الأساسية التاريخية والحضارية لمؤسسي الحركة الصهيونية تيودور هرتزل (1860 ـ 1904) وصديقه ماكس نوردو (1849 ـ 1923) اللذين وُلدا في بودابست وقضيا سنوات حياتهما التكوينية هناك. ولا تختلف تجربتهما التاريخية كثيراً عن تجربة يهود الغرب، ولذا وصف هرتزل يهود المجر بأنهم «غصن جاف على شجرة اليهود» . وحينما أُسِّست حركة صهيونية في المجر عام 1897، لم ينضم إليها سوى أعداد صغيرة للغاية. وربما كانت تجربة هرتزل هذه، أي النشأة في مجتمع حقَّق فيه اليهود معدلات عالية من الاندماج، ثم انتقاله إلى النمسا ومنها إلى فرنسا حيث شاهد يهود اليديشية المهاجرين وما يلاقونه من المشقات أثناء فترة التحديث المتعثر، ربما ساهمت هذه التجربة في توصُّله إلى الصيغة الصهيونية في شكليها التوطيني والاستيطاني؛ فهي صهيونية توطينية بالنسبة ليهود الغرب وتعبِّر عن واقعهم الاندماجي وتقبُّله، ولكنها استيطانية بالنسبة إلى يهود اليديشية الفائضين.(12/18)
وقد اشترك أعضاء الجماعة اليهودية بالمجر في الحرب العالمية الأولى دفاعاً عن وطنهم، وسقطت أعداد كبيرة منهم. ومع ذلك، كان هناك بعض اليهود المشتغلين بتزويد الجيش بالجراية والإمدادات ممن استفادوا من حالة الحرب. وأدَّى هذا إلى ظهور شعور معاد لليهود بين بعض قطاعات المجتمع المجري. وقد لعب اليهود دوراً في الزراعة كملاك أراض ومقاولين في الإدارة الزراعية والتسويق (مثل يهود الأرندا) . ويُلاحَظ أنه، قبل الحرب العالمية الأولى، كان 55 ـ 60% من مجموع التجار و13% من الحرفيين و13% من ملاك الصناعات الكبيرة والمتوسطة و45% من المقاولين من اليهود. وقد تم الاعتراف عام 1895 باليهودية باعتبارها إحدى الديانات الرسمية في المجر، تماماً مثل الكاثوليكية والبروتستانتية.
ويُلاحَظ أن الجيل الأول من يهود ما بعد الانعتاق حصل على حقوقه السياسية واصطبغ بالصبغة المجرية. أما الجيل الثاني، فلعب دوراً ملحوظاً في حركة التصنيع والتطور الرأسمالي بها. أما أبناء الجيل الثالث (1905 ـ 1930) ، فقد تركزوا في المهن، وخصوصاً في عالم الثقافة والصحافة.(12/19)
وبعد الحرب العالمية الأولى، كانت المجر إحدى الدول التي خسرت الحرب، فاستولت على الحكم مجموعة من معارضي الحكومة برئاسة الكونت ميخائيل كاروليي وكونوا مجلساً قومياً من سبعة وعشرين شخصاً من بينهم أربعة عشر يهودياً، أي أكثر من النصف. وحينما أُعلنت الجمهورية، كان يوجد وزيران يهوديان في الوزارة. وقد سقطت هذه الحكومة ودخل الحزب الشيوعي في تحالف مع الحزب الاشتراكي، فعُيِّن بيلا كون زعيم الحزب الشيوعي (وكان يهودياً) قوميساراً للشئون الخارجية. وفي مارس عام 1919، عُيِّن بيلا كون رئيساً للدولة، وأُعلنت جمهورية على النمط البلشفي السوفيتي كان الوجود اليهودي ملحوظاً فيها، فقد كان المسئولون عن قوميساريات الداخلية والتعليم والتجارة والمالية والعدل والإعلام والقوميات مجريين من اليهود الملحدين. وكان ثلثا من شغلوا وظيفة قوميسار من اليهود. ولذا، فبعد فشل الجمهورية البلشفية، ارتبطت التجربة الثورية في الأذهان بأعضاء الجماعة اليهودية، وهو ما كان له مردود سلبي عليهم.
وبلغ عدد أعضاء الجماعة اليهودية 473 ألفاً عام 1920، أي بعد الحرب العالمية الأولى وبعد ضم أجزاء من المجر. واستمر تَناقُص أعدادهم من خلال الاندماج والتزاوج، ويُلاحَظ أن هذا التناقص في المرحلة العمرية (0 ـ 20) كانت تقابله زيادة في عدد المسنين. وكان نصف يهود المجر يعيشون في بودابست، منهم 65% من الإصلاحيين (النيولوج) و29% أرثوذكس.
ولكن، نظراً لأن المجر ضمت بعض المناطق التي يوجد بها يهود، نجد أن إحصاء 1941 يحدد عدد اليهود بنحو 725 ألفاً من مجموع عدد السكان البالغ 14.683.323نسمة.(12/20)
ومع ظهور النازية في ألمانيا، اتبعت الحكومة المجرية سياسة ممالئة لها، ولكنها رفضت تطبيق القوانين النازية فيما يتصل بأعضاء الجماعات اليهودية. وبعد أن احتل النازيون المجر، وكان أيخمان هو المسئول عن الشئون اليهودية، تم عقد صفقة مع الحركة الصهيونية من خلال رودولف كاستنر اصطُلح على تسميتها «الدم مقابل السلع» ، وقد خدع فيها كاستنر يهود المجر وضمن عدم مقاومتهم، وسهَّل عملية ترحيلهم إلى معسكرات الاعتقال مقابل ترحيل بعض الصهاينة إلى فلسطين. وفي 1944، ألقت القوات البريطانية بمظليين من الهاجاناه في الأراضي اليوغسلافية ليعبروا إلى المجر ولكنهم أُسروا.
وبعد الحرب العالمية الثانية، بلغ عدد يهود المجر 260 ألفاً، ولكن لم يزد عددهم عام 1992 على 56 ألفاً من مجموع السكان البالغ عددهم 10.493.000 (يذكر أحد المصادر الإحصائية الأخرى أن عدد اليهود في المجر عام 1995 هو 80 ألفاً) ، تقطن غالبيتهم الساحقة (حوالي خمسين ألفاً) في بودابست، وكان 60% منهم ممن تجاوز الخمسين ومعظمهم من اليهود الإصلاحيين (النيولوج) . وهذا يعني أن الجماعة اليهودية في طريقها إلى الاختفاء، وهذا تعبير آخر عن موت الشعب اليهودي. وقد عُقد المؤتمر اليهودي العالمي في المجر عام 1987. وهي أول مرة يُعقَد فيها المؤتمر اليهودي في إحدى دول الكتلة الاشتراكية.(12/21)
وأهم المنظمات التي ينتظم بها أعضاء الجماعة اليهودية في المجر منظمة التمثيل القومي لليهود المجريين، وهي المنظمة المركزية للجماعة اليهودية في المجر والجهة التي تمثلهم لدى المؤتمر اليهودي العالمي. وهناك أيضاً اللجنة المركزية للرفاه الاجتماعي، وتقوم برعاية فقراء اليهود، وتمولها اللجنة الأمريكية المشتركة للتوزيع. وهناك منظمة ويتى، وهي مؤسسة التمثيل القومي ليهود المجر، التي تقوم برعاية المصالح الدينية ليهود المجر منذ عام 1904 وأغلب أعضاء هذه المؤسسات من المحافظين، إلا أن هناك قسماً خاصاً باليهود الأرثوذكس. ومن الجدير بالذكر أنه بعد وفاة آخر حاخام أرثوذكسي عام 1982، تم إحضار حاخام من إسرائيل ليحل محله. وهناك محكمة شرعية (بيت دين) خاصة باليهود الأرثوذكس، وأخرى خاصة باليهود المحافظين.
الباب الرابع عشر: أمريكا اللاتينية
تعداد الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية ومعالمها السكانية الأساسية
Number of the Jewish Communities in Latin America and Their Main Demographic Traits
لا يمكن اعتبار الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية مهمة في ذاتها، قفد ظل عدد اليهود فيها صغيراً منذ البداية. كما أنهم لم يلعبوا دوراً كبيراً في النظم السياسية فيها ولم يقدموا أية إسهامات ثقافية حقة لتراثها، إلى جانب أن دورهم في الحركة الصهيونية وفي تأسيس المُستوطَن الصهيوني دور غير مؤثر بالمرة. ولكن أهمية الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية تعود إلي أن دراسة أوضاع أعضائها توضح كثيراً من القضايا والأبعاد الخاصة بالجماعات اليهودية في العالم ككل.(12/22)
ومن أهم هذه الأبعاد والقضايا عدم التجانس بين الجماعات اليهودية، وقضية الهوية اليهودية، وهناك قضايا أخرى، مثل الاندماج والانعزال، ودور الجماعة اليهودية كجماعة وظيفية مالية وسيطة، وفشلها في التحول إلى طبقة وسطى، وأثر الجماعات المضيفة ومجتمعات الأغلبية في أعضاء الجماعة. كما أنه من خلال عقد مقارنة بين الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية والجماعات اليهودية في الولايات المتحدة (أهم الجماعات اليهودية في العالم) ، أي من خلال تبنِّي منظور مقارن، يمكننا أن نكتشف بعض سمات هذه الجماعة الأخيرة. ويُلاحَظ كذلك أن الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية تواجه مشاكل خاصة لا تواجهها الجماعات اليهودية الأخرى الموجودة في العالم الغربي "المتقدم".
ورغم أن الأسبان والبرتغاليين، حينما استوطنوا في أمريكا اللاتينية، منعوا أعضاء الجماعات اليهودية من الاستيطان فيها، فإن بعض يهود المارانو (المسيحيين الجدد) نجحوا في الهجرة إليها والاستيطان فيها، وقد قامت محاكم التفتيش بمطاردتهم لضمان تأكيد الهيمنة الكاثوليكية.(12/23)
ويبدأ تاريخ الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية في القرن التاسع عشر بعد استقلال دولها وإلغائها محاكم التفتيش، وإعلانها سياسة تضمن المساواة بين المواطنين. ومع هذا، لم تهاجر أعداد كبيرة من اليهود حتى منتصف القرن التاسع عشر. ولكن أعداد المهاجرين إلى الأرجنتين والبرازيل تزايدت نسبياً (أي قياساً إلى العدد الكلي للمهاجرين اليهود إلى أمريكا اللاتينية) . ويُعَدُّ عام 1860 بداية تاريخ الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية، ففي هذا التاريخ عُقد أول زواج يهودي في الأرجنتين. ولكن عدد أعضاء الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية لم يكن يزيد، مع نهاية الحرب العالمية الأولى، على 150 ألفاً أغلبيتهم العظمى (110 ـ 120 ألفاً) في الأرجنتين. جاء 80% منهم من وسط أوربا وشرقها، أي إشكناز، و20% سفارد ويهود من البلاد العربية. وكانت أغلبية المهاجرين اليهود إلى الأرجنتين من روسيا من يهود اليديشية. وكان يوجد من اليهود: 500 في شيلي، ونحو 1700 في أوروجواي، وحوالي 5000 في البرازيل.
وظل هذا النمط هو السائد. ففي الخمسينيات، بلغ عدد يهود الأرجنتين 385 ألفاً، وقفز عدد يهود شيلي إلى 32 ألفاً، وأوروجواي 38 ألفاً، والبرازيل 125 ألفاً. وفي عام 1970، كان تعداد يهود أمريكا اللاتينية كما يلي:
الأرجنتين 450 ألفاً
شيلي 30 ألفاً
أوروجواي 150 ألفاً
البرازيل 140 ألفاً
المكسيك 35 ألفاً(12/24)
وهناك رأي يذهب إلى أن الأرقام السابقة مبالغ فيها، وأن الإحصاءات لا يمكن الوثوق بها تماماً، وهذا يعود إلى عناصر عديدة منها أن بعض المواطنين يسجلون أنفسهم باعتبارهم يهوداً أو يحجمون عن ذلك لأسباب لا علاقة لها بهويتهم الحقيقية (يهودية كانت أم غير يهودية) . وقد لوحظ، على سبيل المثال، أن عدد يهود شيلي انخفض في إحدى الإحصاءات، بنسبة 50%، وربما يعود هذا إلى رغبة المتخفين في أن ينصهروا تماماً. وزاد عدد أعضاء الجماعة اليهودية في إحدى الإحصاءات في المكسيك بنسبة 47%، ولعل هذا يعود إلى رغبة الكثيرين من سكان المكسيك في الهجرة إلى الولايات المتحدة وطمعهم في أن تقوم المنظمات اليهودية بتيسير هذه العملية لهم. ولذا، فقد سجلوا أنفسهم يهوداً، الأمر الذي جعل من قاموا بالإحصاء مضطرين إلى تجاهل نتائجه. ويُلاحَظ كذلك أن كثيراً من أعضاء الجماعات اليهودية دخلوا أمريكا اللاتينية أثناء الحرب العالمية الثانية بشهادات تعميد (تدل على أنهم مسيحيون) أصدرها لهم الفاتيكان ليساعدهم على الهرب من النازيين، وبعد أن دخلوا وزال الخطر آثروا ألا يعلنوا عن هويتهم اليهودية الأصلية. ولهذا، يرى بعض الدارسين أن عدد يهود الأرجنتين كان في عام 1970 نحو 300 ألف فحسب وأن رقم 450 ألفاً مبالغ فيه إلى حدٍّ كبير، وأن عدد يهود البرازيل كان 100 ألف وحسب. فإذا أضفنا إلى ذلك 44 ألفاً في أوروجواي، و18 ألفاً في شيلي، و70 ألفاً في بقية أمريكا اللاتينية (يُقال إن 35 ألفاً منهم في المكسيك) ، فإن المجموع الكلي يصل إلى نحو 500 ألف وحسب. وعلى أية حال، أثبتت إحصاءات عام 1986 ـ 1987 التي نشرها الكتاب الصهيوني السنوي لعام 1987 أن عدد يهود الأمريكتين «آخذ في التناقص السريع» ، فعددهم الآن لا يزيد على 418 ألفاً يوجد منهم 233 ألفاً في الأرجنتين، أي أكثر من النصف، و100 ألف في البرازيل، و30 ألفاً في أوروجواي، و35 ألفاً في المكسيك، و20 ألفاً في شيلي،(12/25)
و20 ألفاً في فنزويلا.
ولا تختلف إحصاءات عام 1989 عن ذلك كثيراً. وإن كان كتاب الجماعات اليهودية في العالم الصادر عام 1989 يذهب إلى أن يهود البرازيل 150 ألفاً، وأن عدد سكان ساو باولو 75 ألفاً، وريو دي جانيرو 57 ألفاً، وقد أوردت الجيروساليم بوست في أواخر عام 1990 أن عدد يهود أمريكا اللاتينية يتراوح بين 400 و700 ألف من بينهم 300 ألف في الأرجنتين، و120 ألفاً في البرازيل، بينما أوردت الموسوعة اليهودية أن عدد يهود الأرجنتين لا يزيد على 228 ألفاً عام 1990، وآخر إحصاء هو الوارد في الكتاب الأمريكي اليهودي السنوي عام 1994، وورد فيه أن عدد يهود أمريكا الجنوبية هو 382 ألفاً منهم 211 ألفاً في الأرجنتين و100 ألف في البرازيل و23 ألفاً في أوروجواي و20 ألفاً في فنزويلا و15 ألفاً في شيلي. ويذكر الكتاب أن عدد يهود أمريكا الوسطى هو 51.700، أي أن المجموع الكلي ليهود أمريكا الوسطى والجنوبية (أي أمريكا اللاتينية) هو 433.700 (ويذكر مصدر إحصائي آخر أن عدد يهود الأرجنتين عام 1995 هو 250 ألف وأن عدد يهود أوروجواي في العام نفسه هو 30 ألفاً) . والواقع أن تضارب الأرقام مسألة مفهومة، فبعض أعضاء الجماعات اليهودية ينكرون انتماءهم اليهودي بينما يدَّعي بعض أعضاء الطبقات الفقيرة أنهم يهود ليستفيدوا من المعونات التي تقدمها المنظمات اليهودية الأمريكية. وإذا أضفنا إلى ذلك أن تعريف اليهودي مسألة خلافية، فإن فوضى الأرقام مسألة متوقعة. ومع هذا، تجب الإشارة إلى أن الاختلافات لا تؤثر في النمط العام. ولعل إحصاءات الكتاب الأمريكي اليهودي السنوي لعام 1994 هي أدقها.(12/26)
ويُلاحَظ أن نسبة أعضاء الجماعات اليهودية إلى شعوب أمريكا اللاتينية نسبة ضئيلة للغاية إذ يبلغ تعداد شعوب أمريكا اللاتينية نحو 439 مليوناً. وبالتالي، فإن نسبة اليهود لا تتجاوز الآن 0.1%، وقد تزيد النسبة أو تقل من بلد إلى آخر، فالأرجنتين التي تضم نصف يهود أمريكا اللاتينية يبلغ عدد سكانها 33.487.000، وتبلغ نسبة اليهود فيها 0.64%، ويبلغ عدد سكان أوروجواي 3.149.000 نسبة اليهود فيه 0.77%، وتكاد تكون هذه أعلى نسبة في القارة بأسرها. أما البرازيل، فعدد سكانها،156.578.000، منه 0.06% يهود. أما شيلي، فيبلغ عدد سكانها 13.813.000 نسبة اليهود فيه 0.11%، ويبلغ عدد سكان المكسيك 89.998.000، منه 0.04% يهود. أما بقية بلاد أمريكا اللاتينية، فتضم جماعات يهودية يمكن إهمالها إحصائياً. فسورينام، التي كانت تضم أول جماعة يهودية، وأُسِّس فيها ما يشبه الدولة الاستيطانية المستقلة التي ثار عليها العبيد ثم اسقطوها، تضم الآن مائتي يهودي، وتضم جواتيمالا 800، وبنما 5000، وهكذا.
ويُلاحَظ أن المهاجرين اليهود اتجهوا أساساً إلى الأرجنتين بالدرجة الأولى، وإلى بلاد أخرى مثل شيلي والبرازيل وأوروجواي، وهي جميعاً تقع في المخروط الجنوبي. وقد ابتعدوا عن بلاد مثل بيرو وبارجواي. وهناك عدة عناصر جذبت اليهود إلى هذه البلاد:
1 ـ أنها تتسم بوجود نسبة عالية من البيض، فنحو 90% من سكان الأرجنتين من البيض، وكذا أغلبية سكان شيلي، و95% من سكان أوروجواي، و60% من سكان البرازيل، مقابل 15% في كلٍّ من بيرو وإكوادور، و20% في فنزويلا.
2 ـ تتسم كل هذه البلاد بارتفاع نسبة التعليم فيها، فنسبة الذين يعرفون القراءة والكتابة في الأرجنتين وشيلي وأوروجواي تبلغ نحو 90%، وتشكل البرازيل استثناء، فالنسبة فيها تصل إلى 70%، مقابل 61% في بيرو و 29% في بوليفيا.(12/27)
3 ـ تتسم هذه الدول بأنها متقدمة اقتصادياً وتوجد فيها حركة تصنيع نشيطة نسبياً. ويتجلى هذا في وجود مراكز حضرية ضخمة فيها، فحسب إحصاءات أوائل السبعينيات يقطن في المدن 80.4% من سكان الأرجنتين، و72.9% من سكان شيلي، و78.4% من سكان أوروجواي. وتمثل البرازيل استثناء من القاعدة مرة أخرى، فنحو 56% فقط من سكانها يعيشون في المدن، ولكن ذلك كان قبل حدوث ما يُسمَّى «المعجزة الاقتصادية» التي أدَّت إلى الهجرة من القرية إلى المدينة.
4 ـ ويُلاحَظ كذلك أن هذه البلاد تتسم بارتفاع الدخل، إذ يصل متوسط الدخل فيها إلى ثلاثة أضعاف دخل الفرد في بقية بلاد أمريكا اللاتينية، باستثناء فنزويلا التي حققت رخاءً غير عادي بسبب الثروة البترولية.
5 ـ تتميَّز المجتمعات التي استوطن فيها اليهود بأن معدلات العلمنة فيها عالية بالمقارنة ببقية مجتمعات أمريكا اللاتينية.
6 ـ تتسم هذه البلاد أيضاً بوجود اقتصاد حر فيها. والواقع أن الميراث الاقتصادي لأعضاء الجماعات اليهودية في شرق أوربا جعل من السهل عليهم أن يحققوا نجاحاً اقتصادياً. وتنطبق معظم هذه المواصفات على الأرجنتين وشيلي والبرازيل.
ولكن من أهم العناصر التي شجعت اليهود على الاتجاه إلى الأرجنتين (أكثر من أي بلد أمريكي لاتيني آخر) أن حكومة الأرجنتين اختطت سياسة من شأنها تشجيع الهجرة، فكانت تقدم دعماً للمهاجرين وتزودهم بالأرض اللازمة للاستيطان، كما كانت تبدي تسامحاً غير عادي نحوهم. وقد رأي المليونير الفرنسي اليهودي البارون دي هيرش أن بالإمكان الاستفادة من هذا الوضع في حل المسألة اليهودية في شرق أوربا وكذلك مشكلة الانفجار السكاني الذي يقذف بآلاف اليهود على أوربا، وذلك بتحويلهم عنها وتوطينهم في الأرجنتين. وانطلاقاً من هذه الفكرة الصهيونية التوطينية، تم تأسيس جمعية الاستيطان اليهودي (إيكا) التي ساهمت في توطين عدة آلاف من اليهود.(12/28)
والواقع أن هجرة يهود أوربا إلى أمريكا اللاتينية، وتركُّزهم في بلاد بعينها، هي تعبير عن نمط الهجرة اليهودية في العصر الحديث، وهي هجرة من البلاد الأقل تقدماً إلى البلاد الأكثر تقدماً، على عكس نمط الهجرة في أوربا في العصور الوسطى حيث كانت في معظم الأحيان هجرة إلى المجتمعات الأقل تقدماً. ويمكننا أن نضيف هنا أن هذا هو أيضاً نمط الهجرة الأوربية عموماً في العصر الحديث، أو لنسمِّه التجربة الاستعمارية الاستيطانية حيث صدَّرت أوربا فائضها البشري وحلت مشاكلها الاجتماعية عن طريق توطين هذا الفائض فيما سمته «الأرض البكر» ، وهي أرض اغتصبتها من أهلها إما بإبادتهم أو نقلهم منها (ترانسفير) .
والعناصر البشرية الفائضة المهاجرة هي دائماً عناصر خاضعة لقوتين متناقضتين متكاملتين: قوة طرد من الوطن الأصلي، وقوة جذب للوطن المضيف. والواقع أن العناصر المهاجرة تبحث عن فرص جديدة، وتحاول أن تحقق في المجتمع الجديد ما فشلت في تحقيقه في مجتمعاتها الأصلية، ومن ثم لم تهاجر أعداد كبيرة إلى المجتمعات الزراعية.
وليس من قبيل الصدفة أن الولايات المتحدة استقبلت 85% من جملة المهاجرين الأوربيين بين عامي 1857 و1965 والبالغ عددهم 60 مليوناً، وتليها الأرجنتين التي اجتذبت 6.500.000مهاجر في الفترة نفسها، أي نحو 11%، مكث منهم 4.379.000.(12/29)
ويُلاحَظ تركُّز أعضاء الجماعات اليهودية في المدن الكبيرة، فيهود بيونس أيرس يتراوح عددهم، حسب إحصاءات عام 1970، بين 240 ألفاً و300 ألف، أي غالبية اليهود الساحقة. وهذا يعني أن نصف يهود أمريكا اللاتينية يوجدون في مدينة واحدة. ومع هذا، فهم لا يشكلون سوى 2.18% من سكانها البالغ عددهم 8.353 مليون. (وقد انخفض عددهم إلى 180 ألفاً حسب إحصاءات عام 1989) . ويقطن في ساو باولو وريو دي جانيرو 80 ألف يهودي، أي 80% من مجموع يهود البرازيل، ويبلغ سكان المدينتين نحو 10 مليون، وبالتالي يشكل اليهود أقل من 1% من عدد السكان. وتوجد نسبة الـ 20% الباقية في مدينة بورتو ألّيجري. وفي شيلي، يقطن 25 ألف يهودي في سنتياجو يشكلون 0.96% من سكان العاصمة البالغ عددهم مليونين و586 ألفاً. أما في أوروجواي، فيبلغ عدد السكان في مونتفيديو 45 ألفاً من سكان العاصمة البالغ عددهم مليوناً و450 ألفاً، وبالتالي ترتفع نسبة اليهود لتصل إلى 3.19%، وهي أعلى نسبة في أية مدينة في أمريكا اللاتينية.(12/30)
ويجب ملاحظة أن تركُّز أعضاء الجماعات اليهودية في المدن جزء من اتجاه عام في الدول النامية يتحدد في الهجرة من القرية إلى المدينة، وإن كان ثمة اختلاف فهو اختلاف في الدرجة، باعتبار أن أعضاء الجماعات اليهودية عنصر مهاجر تستقر أعداد كبيرة منهم مباشرة في المدن حيث توجد فرص أكثر للحراك الاجتماعي. كما أن أغلبية سكان المدن من البيض ذوي الدخل المرتفع القادرين على القراءة والكتابة. وتُعَدُّ المدن من أكثر المناطق نمواً في البلاد النامية، ولذا فإن اتجاه اليهود نحو المدن هو جزء من اتجاه الهجرة اليهودية الحديثة. كما يُلاحَظ أن اليهود يتركزون داخل كل مدينة في أحياء بعينها ومهن بعينها، كما أن تركُّزهم في المدن هو نفسه نتيجةٌ لتركزهم في مهن بعينها لا وجود لهم في غيرها، الأمر الذي يشجع الحديث عن «الخطر اليهودي» وما شابه ذلك من أقوال جزافية هي في الواقع نتيجة الملاحظة المباشرة العابرة التي لم تُخضَع بعد للتحليل أو النقد.(12/31)
وقد يكون من المفيد مقارنة معدل هجرة أعضاء الجماعات اليهودية إلى أمريكا اللاتينية وفلسطين قبل وبعد الاحتلال الصهيوني حيث نجد أن عدد المهاجرين إلى فلسطين في الفترة ما بين عامي 1901 و1920 بلغ 15 ألفاً (وذلك بطرح الـ 15 ألفاً من جملة النازحين) ، بينما بلغ عدد المهاجرين إلى أمريكا اللاتينية في الفترة نفسها 105.867 هاجرت غالبيتهم إلى الأرجنتين، وهو ما يبين نجاح الصهيونية التوطينية وفشل الصهيونية الاستيطانية الذريع حينما كانت تعتمد على ما يُسمَّى «القوى الذاتية» . وبعد وضع فلسطين تحت الانتداب، لم يتحسن الوضع كثيراً إذ بلغ عدد المهاجرين إلى أمريكا اللاتينية في الفترة من 1921 إلى 1930 نحو 129.239 اتجه منهم 73.434 إلى الأرجنتين. أما فلسطين، فلم يزد عدد المهاجرين إليها على 70.944، وهو عدد يقل عن عدد المستوطنين في الأرجنتين وحدها، وهذا يدل وبشكل أكثر حدة على مدى فشل المنظمة الصهيونية التي تتمتع بالدعم الإمبريالي الكامل في الغرب، والتي تمتلك جهازاً له فروع في معظم بلاد أوربا، كما توجد تحت تصرفها ميزانية ضخمة (وهو ما توفر لمؤسسة هيرش التي قامت بتوطين بعض أعضاء الجماعات اليهودية في الأرجنتين) . ولكن مسار الهجرة اليهودية ظل يتبع الخط العام للاستيطان الغربي، أي الهجرة إلى الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، ثم أمريكا اللاتينية. وكان الاستثناء الوحيد من هذه القاعدة في الفترة من 1921 إلى 1935 حين أغلقت بلاد العالم الغربي أبوابها في وجه المهاجرين اليهود وغيرهم، فهاجر إلى فلسطين 147.502 مقابل 44.550 اتجهوا إلى أمريكا اللاتينية، وهذا العدد لا يضم اليهود الذين حصلوا على شهادات تعميد. وفي الفترة من 1936 إلى 1939، دخل فلسطين 75.510، مقابل 31.066 اتجهوا إلى أمريكا اللاتينية رغم ظروف الأزمة الاقتصادية ورغم وجود نظم فاشية تضطهد أعضاء الجماعات اليهودية ولا تشجع الهجرة. وقد شهدت سنين ما بعد الحرب، حتى عام(12/32)
1948، تزايداً في عدد اليهود المهاجرين إلى فلسطين. ولكن، في المحصلة النهائية، بلغ عدد اليهود الذين استوطنوا فلسطين خلال الفترة من 1840 إلى 1942 نحو 378.956 بينما بلغ عدد من استوطنوا أمريكا اللاتينية 376.227 أي العدد نفسه تقريباً.
وينطبق على يهود أمريكا اللاتينية مقولة موت الشعب اليهودي، وهي أن الجماعات اليهودية في العالم آخذة في الانقراض بحيث سيتركز اليهود في الولايات المتحدة والدولة الصهيونية وحسب، وهما تجمعان لا يزداد عدد أعضاء الجماعات اليهودية فيهما بل هو آخذ في التناقص. ويتناقص عدد اليهود في أمريكا اللاتينية بشكل أسرع منه في أي مكان آخر، بحيث أن من المتوقع ألا يبقى منهم أعداد تذكر بعد فترة قصيرة إذ أن أمريكا اللاتينية تُعدُّ منطقة نزوح للأسباب التالية:
1 ـ ربما كان السبب الأساسي هو أن نمط الهجرة الاستيطانية الغربية (واليهودية) في العصر الحديث يتجه من البلاد المتخلفة إلى البلاد المتقدمة. وأمريكا اللاتينية لا تزال تصنف أساساً باعتبارها متخلفة ومن الدول النامية. ومما يساعد على هذا الاتجاه أن الولايات المتحدة تشكل عنصر جذب شديد ليهود أمريكا اللاتينية، فهي أكثر البلاد تقدماً في العالم، وهي توجد على مقربة منهم، كما توجد فيها الآن جماعة لاتينية ضخمة تشكل نواة حضارية قوية يمكنهم من خلالها الشعور بالأمن النسبي وعدم الاغتراب. وأخيراً، ثمة علاقات قوية بين يهود أمريكا اللاتينية من جهة ويهود الولايات المتحدة وتنظيماتهم اليهودية والصهيونية من جهة أخرى، فهؤلاء يعدون أنفسهم مسئولين عن يهود أمريكا اللاتينية.(12/33)
2 ـ كان معظم المهاجرين إلى أمريكا اللاتينية من بلاد كاثوليكية، جاء 80% منهم من إيطاليا وإسبانيا والبرتغال. ولذا، لم تكن عملية تكيفهم مع المجتمع واندماجهم فيه عملية صعبة. أما أغلبية المهاجرين من أعضاء الجماعات اليهودية (نحو 80%) فكانوا من يهود اليديشية من إشكناز شرق أوربا، وكان يُطلَق عليهم مصطلح «روسوس» أي «الروس» ، وكانت أقليتهم من السفارد «توركوس» ، أي «الأتراك» (وهو المصطلح نفسه الذي كان يُطلَق على المسلمين) . وثقافة الروسوس، وهي ثقافة ألمانية سلافية، كانت بعيدة عن الثقافة اللاتينية. كما أن البلاد التي جاءوا منها كانت بلاداً صناعية متقدمة نوعاً، وثقافة اليهود المهاجرين منها كانت ثقافة حديثة. لكل هذا، وجد المهاجرون من أعضاء الجماعات اليهودية (وبخاصة من شرق أوربا) صعوبات إضافية في عملية الاندماج في المجتمع، فقد كانوا غرباء على ثلاث مستويات: على المستوى الديني باعتبارهم يهوداً في مجتمع كاثوليكي، وعلى المستوى الثقافي باعتبارهم من شرق أوربا ووسطها بثقافتهم الألمانية والسلافية شبه الحديثة في تربة لاتينية تقليدية، وعلى المستوى الاقتصادي والوظيفي باعتبارهم عنصراً تجارياً في مجتمع زراعي. ويجيء هذا على خلاف تجربة المهاجرين غير اليهود الذين جاءت غالبيتهم (80%) من إيطاليا وإسبانيا والبرتغال، وهي بلاد كاثوليكية مستويات التحديث فيها متدنية وكثير من القيم السائدة فيها تقليدية وميراثها الثقافي لاتيني، ولذا لم تكن عملية تكيفهم مع المجتمع واندماجهم فيه صعبة.(12/34)
3 ـ ومما عمَّق غربة يهود أمريكا اللاتينية أن الانتماء للنخبة الحاكمة يتطلب الانتماء الكاثوليكي وملكية الأراضي والأصل الأرستقراطي، وهي ثلاثة عناصر لم يكن بإمكان المهاجرين اليهود التمتع بها، على عكس المهاجرين المسيحيين الكاثوليك الذين ينتمون بالفعل إلى الكنيسة الكاثوليكية ويمكنهم شراء الأراضي، كما أن بعضهم يمكن أن يشتري أصولاً أرستقراطية أو يتزوج من نسل العائلات الأرستقراطية. وكل هذا يعني أن أعضاء الجماعات اليهودية اُستبعدوا من النخبة الحاكمة ومن مؤسسات صنع القرار.
4 ـ ويجب ملاحظة أن الحركة القومية التي نشأت في أمريكا اللاتينية تنتمي إلى نمط الحركات القومية في العالم الثالث الذي يتسم بالتركيز على الخصوصية المحلية في مجابهة الغزو الاستعماري الثقافي والاقتصادي الغربي، وخصوصاً الأمريكي. والاهتمام بالخصوصية يتخذ في أمريكا اللاتينية شكلاً حاداً بسبب طبيعة المواجهة مع اليانكي في الشمال. كما أن التجربة التاريخية في أمريكا اللاتينية التي تضرب بجذورها في التجربة الأيبيرية تجعل الكاثوليكية ورموزها بُعداً أساسياً في الحركات القومية اللاتينية، وخصوصاً أن الاستيطان في أمريكا اللاتينية لم يتم في غياب الكنيسة، فقد تدخلت فيه وحاولت تنظيمه وتقليم أظافر العناصر التجارية الاستيطانية، كما حاولت حماية العناصر الهندية المحلية والحفاظ على حقوق العبيد الإنسانية. هذا على عكس الاستيطان البروتستانتي الأنجلو ساكسوني في أمريكا الشمالية الذي تم في غياب أية مؤسسات دينية. ولذا، انطلقت الحركة القومية فيها من فكرة حقوق الإنسان والأفكار العقلانية العلمانية السائدة في أوربا في القرن الثاني عشر. والواقع أن تزايد البعد الكاثوليكي في الحركات القومية اللاتينية يعني بالضرورة تزايد رفض اليهود وتهميشهم باعتبارهم عنصراً مهاجراً يحمل تقاليد ثقافية أجنبية.(12/35)
5 ـ ومما ساعد على تفاقم المشكلة ارتباط اليهود في الوجدان اللاتيني بالولايات المتحدة واليانكي، فالمنظمات اليهودية في الولايات المتحدة وضعت الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية تحت حمايتها، تماماً كما كانت تفعل الدول الغربية مع الأقليات في العالم العربي، الأمر الذي يؤدي إلى توسيع الهوة بين أعضاء الجماعات اليهودية والأغلبية.
6 ـ يُلاحَظ كذلك أن الحركات القومية في أمريكا اللاتينية، شأنها شأن الحركات القومية في العالم الثالث، تنحو منحى يسارياً بسبب عدم توافر ظروف التراكم الرأسمالي (من استعمار وغيره) التي توفرت للعالم الحر في مراحله الأولى (حينما كان حراً تماماً في استعمار الكرة الأرضية) . وهجرة أعضاء الجماعات اليهودية، كما أسلفنا، لا تتجه إلى البلاد المتقدمة وحسب وإنما إلى البلاد التي يسود فيها اقتصاد حر، ولذا يتركز اليهود في هذه البلاد. ونجد أن الحركات القومية واليسارية في أمريكا اللاتينية، بل وفي الولايات المتحدة، تأخذ موقفاً معادياً من أعضاء الجماعة اليهودية لارتباطها بالنخبة الحاكمة الرجعية، كما أن عداء إسرائيل للحركة القومية العربية وموقفها الاستعماري الإرهابي من الفلسطينيين يزيد عداء هذه الحركات للجماعة اليهودية التي ترتبط وجدانياً، بل وفعلياً في بعض الأحيان، بإسرائيل وبالعقيدة الصهيونية. ويُلاحَظ أن إسرائيل تلعب في الآونة الأخيرة دوراً بارزاً واضحاً في دعم النظم الرجعية والفاشية في أمريكا اللاتينية مثل نظام سوموزا في نيكارجوا، وأصبحت إسرائيل مورِّداً أساسياً للسلاح لكثير من النظم الفاسدة، كما تقدم الخدمات والحراسة لبعض الشخصيات التي لا تتمتع بسمعة طيبة في الأوساط القومية أو اليسارية. كما أن بعض المرتزقة الإسرائيليين يقومون بتدريب ميليشيات المخدرات في كولومبيا.(12/36)
7 ـ ولكن، يُلاحَظ أن التغيرات التي يحدثها استيلاء اليسار والعناصر القومية المحلية على الحكم تؤدي، بغض النظر عن موقف اليسار اللاتيني من الجماعات اليهودية، إلى طرد اليهود بشكل بنيوي وإلى تهميشهم. فأعضاء الجماعات اليهودية يتركزون في المدن في قطاع التجارة والمال والصناعات الاستهلاكية (النسيج أساساً) وهذه قطاعات تخضع لعمليات جذرية من إعادة التنظيم بسبب أهميتها الإستراتيجية. فالنظم الحاكمة القومية أو الاشتراكية، على سبيل المثال، تحاول وضعها في أيدي قطاعات بشرية محلية تثق فيها. وعلاوة على هذا، فإن النظم القومية الاشتراكية نظم مغلقة من منظور أعضاء الجماعات اليهودية، ولذا لا يمكنهم من خلالها تحقيق ما يصبون إليه من حراك اجتماعي. لكل هذا، ومع استيلاء العناصر القومية أو اليسارية على الحكم، يحدث خروج يهودي. ويُلاحَظ أنه حينما انتُخب ألليندي في شيلي، نزح عدد كبير من اليهود من أعضاء الطبقة الوسطى، ولكنهم عادوا مع استيلاء بينوشيه على الحكم. والوضع نفسه ينطبق على كوبا، فقد حرص كاسترو، في بداية حكمه، على إظهار تسامح غير عادي تجاه أعضاء الجماعات اليهودية، ووفر لهم (مثلاً) اللحم المذبوح شرعياً، كما كان يوجد عضو يهودي في أول وزارة كوبية اشتراكية. ولكن إعادة تنظيم الاقتصاد على أُسس اشتراكية أدَّى إلى خروج أعضاء الجماعة اليهودية، رغم أن بعض الرأسماليين اليهود كانوا أعضاء سابقين في البوند أو على الأقل متعاطفين مع الأفكار الاشتراكية، وقد خرجوا مع أعداد كبيرة من أعضاء الطبقة الوسطى. وبحلول عام 1965، لم يبق سوى 2400 يهودي معظمهم من المسنين، ثم تناقص العدد إلى 700 عام 1992 (ولكن يجب الإشارة إلى أنه، مع تحوُّل الأبنية المهنية لأعضاء الجماعة وتركُّز أعداد كبيرة منهم في المهن الحرة، سيتزايد احتياج النظم الجديدة إليهم) .(12/37)
8 ـ ومن المفارقات التي تستحق التسجيل (وهذا نمط وجدناه بين أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب في العصر الحديث) أنه رغم ارتباط النخبة اليهودية بالنخبة الحاكمة وارتباط أثرياء اليهود بالمؤسسات الحاكمة وعمالتهم لها، ورغم هامشية معظم الجماهير اليهودية وعدم مشاركتها في قاعدة الهرم الاقتصادي والعملية السياسية، فإن ثمة وجوداً ملحوظاً لبعض أعضاء الجماعات اليهودية في الحركات اليسارية. وقد جاء مع المهاجرين أعداد من أعضاء حزب البوند الذين حاولوا تنظيم نقابات العمال. وابتداءً من الستينيات، لوحظ مرة أخرى أن كثيراً من الشباب اليهودي ينخرط في الحركات السياسية اليسارية والقومية بأعداد متزايدة تفوق نسبتهم القومية، وهو ما يجعل لهم وجوداً ملحوظاً داخل الحركات اليسارية ويربط بين اليهود وهذه الحركات. ورغم أن القيادات اليهودية تزيد، كنوع من رد الفعل، من ارتباطها بالنخبة الحاكمة وبعمالتها لها، فإن هذا لا يجدي فتيلاً إذ أن القيادة اليهودية ذات تراث إثني يديشي يعزلها في العادة عن المجتمع. وفي الوقت نفسه، نجد أن الشباب، وخصوصاً أعضاء الجيل الثالث، لهم جذور راسخة في مجتمعاتهم تربطهم به. وفي عام 1960، كان ثلث يهود الأرجنتين من الأجانب، ولكن نسبة الأجانب بين الأعمار المتقدمة (65 عاماً وما فوقها) كانت 97%، بينما كانت هذه النسبة في الأجيال الجديدة (14 سنة فما فوق) نحو 2.4%، وهو ما يعني أن الأغلبية الساحقة من شباب الأرجنتين الآن من مواليد الأرجنتين نفسها (تصل النسبة حسب إحصاءات 1989 إلى 94%) . ونظراً لاغترابهم عن تراث آبائهم الإثني، ونظراً لأنهم لا ينتمون لتراث الأغلبية الديني، فإنهم يعبِّرون عن ذواتهم من خلال الانتماء إلى الحركات الثورية. والارتباط بين بعض أعضاء الجماعات اليهودية والحركات اليسارية يجلب عليها عداء قطاعات كثيرة في المجتمع. يظهر هذا التناقض في شيلي، فقد ساهم السناتور اليهودي فولوديا تايتلباوم(12/38)
في صياغة سياسات ألليندي وبرنامج "الاشتراكية من خلال القانون أو من خلال صندوق الانتخابات"، فربط بين اليهود واليسارية. ولكن، مع انتصار ألليندي، ترك كثير من أعضاء الجماعة شيلي، ولكنهم عادوا إليها مع عودة بينوشيه، وازدادوا اعتماداً على النخبة الحاكمة، وهو ما ربط بينهم وبين النظام الفاشي.
9 ـ من العناصر الأخرى الطاردة لأعضاء الجماعات اليهودية في المجتمعات اللاتينية تركزهم في المدن، وفي مهن وصناعات بعينها، وهو ما أعطاهم وجوداً ملحوظاً لا يتناسب البتة مع حجمهم الحقيقي. وهذه ظاهرة عامة في البلاد النامية حينما يتركز عنصر أجنبي أو إثني في قطاع اقتصادي واحد بسبب غياب الخبرات المحلية أو بسبب التشكيل التاريخي نفسه. ولكن، ومهما كان السبب، فإن هذا الوجود الملحوظ يجعلهم عرضة للهجوم من العناصر اليمينية والقومية التي تطمع في الاستيلاء على هذه المواقع، ومن العناصر اليسارية المعادية لمثل هذه القطاعات بشكل مبدئي وبنيوي.
10 ـ من المعروف أن العناصر المهاجرة تبحث دائماً عن مكان تستقر فيه. ولذا، فهي تنظر إلى الثورات والانقلابات، التي قد تُحسِّن وضع الجماهير، بمنظار سلبي خالص، وبالتالي فإن مثل هذه الانقلابات التي قد تكون ذات عائد إيجابي للبلد تشكل عنصر طرد بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية.(12/39)
11 ـ ومن عناصر الطرد الأخرى، الهيمنة الصهيونية على يهود أمريكا اللاتينية. فمعظم المؤسسات والتنظيمات اليهودية قد أصبحت خاضعة للنفوذ الصهيوني، كما أن حركيات الصهيونية، شاءت أم أبت، أصبحت تؤدي إلى خلخلة وضع الجماعات اليهودية، ذلك أن الصهيونية تترجم نفسها إلى عدم ولاء للوطن الأم. وهذا يتجلى في يهود الأرجنتين الذين يركزون جزءاً كبيراً من طاقتهم على ما يدور في إسرائيل وهو ما يعني انصرافهم عن شئون الأرجنتين. ويزيد هذا بدوره غربة الشباب اليهودي عن قيادته اليهودية. وتدار الانتخابات في فروع المنظمة الصهيونية بناء على التقسيم الحزبي في إسرائيل وكأن انتماء هؤلاء اليهود لإسرائيل لا لأوطانهم التي يعيشون فيها. ويشير يهود الأرجنتين إلى السفير الإسرائيلي باعتباره «الوكيل» ، وهي الكلمة التي كانت تستخدم في الماضي للإشارة إلى الحاكم الإسباني للأرجنتين.(12/40)
وقد هاجر 48.770 يهودياً من أمريكا اللاتينية إلى إسرائيل (معظمهم من الأرجنتين) هاجر نصفهم (24.136) بعد حرب 1967، وهو عدد صغير للغاية إذا أخذنا في الاعتبار أن أمريكا اللاتينية منطقة طرد ونزوح. ولا تذكر المصادر نسبة النزوح عن إسرائيل بين يهود أمريكا اللاتينية، ولكن يبدو أنها عالية إذ أن عدد يهود إسرائيل ذوي الأصول الأمريكية اللاتيني لا يتجاوز ثمانية آلاف أسرة. ورغم صغر حجم الهجرة الصهيونية، فإن هذه الهجرة تساهم في إخلاء الجماعة اليهودية من العناصر القيادية النشيطة سياسياً وتنظيمياً ومن العناصر المهتمة بهويتها اليهودية، وهذا ما يعني إفقار الجماعة اليهودية وإضعافها والقضاء على فرصة ظهور قيادة في صفوفها. وعند انتخاب منعم رئيساً لجمهورية الأرجنتين، بدلاً من ألفونسين، توقعت المؤسسة الحاكمة في الدولة الصهيونية أن بضعة آلاف من أعضاء الجماعة اليهودية سيهاجرون إليها. ولكن الذي حدث أنه هاجرت بضع مئات لم يسعدها الوضع كثيراً فعادت أدراجها أو هاجرت إلى الولايات المتحدة، نقطة الجذب الأساسية ليهود العالم. ويُلاحَظ أن الهجرة، في الماضي، كانت مقصورة على الفقراء وأعضاء الطبقة الوسطى الصغيرة، ولكن هذا النمط تغيَّر مؤخراً إذ أن عناصر الطرد في أمريكا اللاتينية تزايدت إلى درجة جعلت كل العناصر الثرية (التي تشكل النخبة القائدة) تبدأ هي الأخرى في الهجرة.(12/41)
والواقع أن الجماعات اليهودية ليست ملتفة التفافاً كاملاً حول الصهيونية ومُثُلها، فثمة توترات عميقة بين الجماعة اليهودية والدولة الصهيونية لعل من أهمها دعم الدولة الصهيونية لنظم فاشية شمولية تقمع كل الجماعات الرافضة وكذلك أعضاء الأقليات وضمن ذلك اليهود. وقد قامت الدولة الصهيونية ببيع السلاح للنظام العسكري في الأرجنتين، كما قام شامير ونافون بزيارة الأرجنتين في وقت كان معروفاً فيه أن الحكومة قامت باعتقال أعداد كبيرة من الشباب اليهودي بسبب انتمائهم السياسي والديني. وقد نُشرت صورة الجنود الإسرائيليين (الحرس الخاص برئيس الدولة الصهيونية) وهم يقومون بضرب بعض النساء اليهوديات اللائي كن يحاولن أن يوسطنه للإفراج عن أبنائهن. وينعكس التوتر بين أعضاء الجماعة والدولة الصهيونية في انصرافهم عن انتخابات المنظمة الصهيونية (وإن كانت هذه ظاهرة غير مقصورة على الأرجنتين) ، كما ظهرت جمعية اسمها بريرا تحاول أن تتبنى خطاً يتملص من الصهيونية. ولكن، مهما كانت درجة الالتفاف أو التملص أو حتى الرفض، فإن الصهيونية تُخَلخل وضع الجماعة وتزيد هامشيتها.(12/42)
وإلى جانب عناصر الطرد السابقة، هناك عناصر أخرى تساهم في عملية موت الشعب اليهودي في أمريكا اللاتينية، ولكنها عناصر عامة وليست مقصورة على اليهود وحدهم، من بينها توقُّف الهجرة من الخارج. فهذه البلاد لم تَعُد ترحب كثيراً بالمهاجرين. كما أن المصدر الحقيقي الوحيد للمهاجرين اليهود في العالم هو الاتحاد السوفيتي. وليس من المتوقع أن يتوجه أي من هؤلاء إلى أمريكا اللاتينية بحكم تكوينهم الثقافي وطموحهم الطبقي وبحكم قوانين الهجرة في أمريكا اللاتينية. كما أن نسبة المواليد منخفضة بين الجماعات اليهودية (طفلان لكل أسرة) بسبب تركزهم في المدن وارتفاع المستوى الاقتصادي. وبالتالي، نجد أن فئات العمر العالية آخذة في التزايد، وخصوصاً أن أعداداً متزايدة من الشباب إما أن تهاجر أو تسقط انتماءها اليهودي. ومن هنا نجد أن معدل الوفيات آخذ في الارتفاع.(12/43)
لقد تحدثنا عن هامشية أعضاء الجماعات اليهودية بالنسبة إلى المجتمع الأمريكي اللاتيني (وكانت الهامشية في المجتمعات التقليدية تؤدي إلى الانغلاق الجيتوي على التراث وإلى تكلس الهوية) . ولكن في إطار مجتمعات أمريكا اللاتينية، اختلف الوضع تماماً، فهذه التجمعات لم ترفض الزواج المختلط. ولهذا، ورغم أن المجتمع فشل في دمج اليهود عن طريق إعتاقهم، فإننا نجد أنه صهرهم عن طريق الزواج المختلط آخذ في التزايد وقد وصل إلى 30% في الستينيات، ويُتوقع له أن يزيد مع تزايد معدلات العلمنة في المجتمعات اللاتينية. كما أن كثيراً من الزيجات اليهودية تُعقد بطريقة الزواج المدني، وهو ما يدل على عزم العروسين على نبذ الانتماء اليهودي. ويُلاحَظ أن ثمة هوة بين الأجيال تزيد من انصراف الشباب عن المؤسسات اليهودية، وخصوصاً التربوية، وعن الهوية اليهودية. ومن هنا نجد أن هذا بدوره يساهم في عملية الصهر. وعلى كلٍّ، تتسم أمريكا اللاتينية بمقدرتها الفائقة على صهر الجماعات المختلفة من المهاجرين، وعلى هضمهم وصبغهم بالصبغة اللاتينية. ومن المعروف أن يهود شيلي، الذين هاجروا في أواخر القرن التاسع عشر، اختفوا تماماً. ويُقال إنه قد هاجر 150 ألف يهودي إلى البرازيل بين عامي 1885 و1935، ولم ينزح منهم سوى 5%. ومع هذا فإن عدد اليهود بلغ نحو 40 ألفاً فقط عام 1935.
ولكل هذا، فمن المتوقع أن يختفي يهود أمريكا اللاتينية مع بداية القرن القادم.
هويات أعضاء الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية
Identities of the Members of the Jewish Communities in Latin America(12/44)
من القضايا المهمة، التي تثيرها دراسة أوضاع الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية، قضية الهوية. ونحن نذهب إلى أنه لا توجد هوية يهودية عالمية واحدة وإنما توجد هويات يهودية مختلفة غير متجانسة، كما أن كل هوية يهودية تختلف إلى حدٍّ ما عن المحيط الثقافي المحيط بها (ومصدر الاختلاف عادةً ما يكون عناصر إثنية حملها معهم المهاجرون من أعضاء الجماعة اليهودية من مجتمعهم القديم) . ولكن اختلاف الهويات اليهودية، كلٌّ مع محيطها الثقافي، لا يعني اتفاقها الواحدة مع الأخرى، فكل هوية يهودية رغم اختلافها عن محيطها الثقافي تكتسب معظم سماتها منه وتتحدد من خلاله. وقد شبهنا هذا الوضع بالتركيب الجيولوجي الذي يحوي طبقات جيولوجية متراكمة أو متجاورة، ولكنها لا تتفاعل الواحدة مع الأخرى.(12/45)
وتتبدَّى خاصية التركيب الجيولوجي التراكمي في الجماعات اليهودية التي هاجرت إلى أمريكا اللاتينية، فهناك اليهود الإشكناز من شرق أوربا (يهود اليديشية) ، وهناك يهود بوزنان (في سلفادور وجواتيمالا) ، وهناك يهود بيساربيا والمجر في نيكارجوا، وهناك يهود بولندا في كوستاريكا وغيرها من البلاد، وهناك كذلك اليهود الروس واليهود الليتوانيون والجاليشيون. والعلاقات بين الجماعات السابقة لا تتسم بالمودة، فالليتوانيون والجاليشيون في حالة صراع دائم مع بعضهم البعض. أما اليهود الروس الذين يظنون أنهم يتحدثون اليديشية بطريقة أفضل، فهم يتعالون على الفريقين السابقين. وهناك، كذلك، اليهود الألمان الذين لا يعتبرهم يهود شرق أوربا يهوداً على الإطلاق، فهم مازالوا يكنون احتقارهم الألماني التقليدي للسلاف والذي يتبدَّى في شكل احتقار يهود شرق أوربا (إيست يودين) . ولا نعرف الكثير عن موقف يهود فرنسا ويهود إنجلترا من هؤلاء جميعاً. ولكن بناءً على معلوماتنا عن أمريكا اللاتينية، فإنهم يحتفظون بكل تأكيد بهويتهم الفرنسية والإنجليزية على التوالي، وإن كان من المحتمل أيضاً أنهم قد انضموا إلى إحدى المجموعات السالفة الذكر باعتبار أن معظمهم من أصل شرق أوربي (يديشي) . وفي مقابل كل هؤلاء الإشكناز، هناك السفارد الذين يتحدثون اللادينو، وهؤلاء يعتبرون أنفسهم أرستقراطية حقة، فثقافتهم إسبانية وجذورهم أيبيرية، ولذا فإنهم يعزلون أنفسهم عن الإشكناز وعن يهود البلاد العربية الذين يتحدثون العربية، وينقسمون بدورهم إلى يهود حلب ويهود دمشق، كما توجد مجموعة جاءت من المغرب. وكل هذه المجموعات تنقسم إلى أقسام مختلفة، فمنهم المتدين ومنهم الملحد ومنهم منْ تخفَّف من عقيدته دون أن يدير لها ظهره تماماً. وقد بدأت تظهر في صفوفهم اليهودية المحافظة واليهودية الإصلاحية.(12/46)
وينقسم أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعات إثنية مختلفة لا يربطها رابط. ويتبدى عدم التجانس بين الجماعات والهويات اليهودية بشكل مثير وجلي في أمريكا اللاتينية، فإدراكهم لأنفسهم ليس موحداً، وسلوكهم تجاه أنفسهم وتجاه اليهود الآخرين وتجاه الأغلبية تحدده خلفيتهم الإثنية. ولكن، من المفارقات أننا نجد أن مجتمع الأغلبية مازال يسميهم «اليهود» ، وهي تسمية تفترض الوحدة حيث لا توجد وحدة.
وتظل ظاهرة التركيب الجيولوجي لهويات الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية قائمة، بينما نجد أن الهويات اليهودية المختلفة قد اختفت في الولايات المتحدة وذابت وظهرت هوية جديدة واحدة. ذلك أن أمريكا اللاتينية لم تظهر فيها (كما حدث في الولايات المتحدة) مُثُل عليا علمانية قومية مركزية منفتحة تمنح المرء الشرعية بمقدار تحقيقه النجاح (المادي) في الحياة، أي من خلال مراكمة الثروة أو أية إنجازات مادية أخرى. ويستطيع المهاجر أن يتخلى عن هويته الإثنية أو القومية الأصلية ويكتسب هوية جديدة من خلال البوتقة التي ينصهر فيها الجميع معاً بحيث يتحوَّلون جميعاً إلى مادة بشرية أمريكية.(12/47)
وحين ظهرت استحالة تحقيق هذه الفكرة العضوية المتطرفة بسبب ظهور أقليات كثيرة غير بيضاء وغير بروتستانتية، اتسع نطاق الفكرة قليلاً في الستينيات فسمحت بشيء من التنوع داخل الوحدة بحيث أصبح بإمكان الأمريكي أن يحتفظ ببعض عناصر من تراثه القومي الأصلي يؤكد من خلالها هويته، شريطة ألا تتناقض إثنيته هذه مع ولائه الأمريكي الكامل، فأصبح المواطن الأمريكي أمريكياً بشرطة (بالإنجليزية: هايفينيتيد أمريكان Hyphenated American) ، فهو عربي/أمريكي أو بولندي/أمريكي أو يهودي/أمريكي، ثم تحوَّل الجميع بمرور الوقت إلى أمريكي/عربي أو أمريكي/بولندي أو أمريكي/يهودي، أي أن الجميع كان يتم صهرهم مع السماح لهم بالحفاظ على قشرة إثنية سطحية تساعد في واقع الأمر على مزيد من الاندماج وتخبئ الانصهار الفعلي. والفكرة القومية الأمريكية، سواء في صورتها الأولى أو في صورتها الثانية، تشجع المهاجر على الاندماج. وقد ساعد ذلك على تذويب الفروق بين أعضاء الجماعات اليهودية بحيث حققوا الوحدة بينهم من خلال المجتمع الأمريكي وبسببه لا رغماً عنه.
أما الفكرة القومية في أمريكا اللاتينية، فلم تكن قط فكرة اندماجية على النمط الأمريكي. كما أن المثل الأعلى لم يكن قط علمانياً متطرفاً تستند الشرعية فيه إلى النجاح في الحياة وإلى مراكمة الثروات. بل إننا نجد أن ثمة عناصر أرستقراطية دخلت عليه، وأن الكاثوليكية كانت عنصراً أساسياً في تكوين الشخصية اللاتينية على مستوى الممارسة وعلى مستوى الصورة المثالية، وكان لهذا الوضع نتيجتان متناقضتان ولكنهما متلازمتان:
1 ـ تحوَّلت المجتمعات اللاتينية إلى مجتمعات مغلقة بالنسبة لليهود، وخصوصاً الإشكناز من ذوي الثقافة الغربية والألمانية، وبالتالي أصبح الانتماء الكامل مستحيلاً.(12/48)
2 ـ وكعادة أعضاء الجماعات اليهودية والأقليات كافة، فإنهم يختلفون عن مجتمعهم في بعض النواحي ويتشبهون به في كثير من النواحي الأخرى. ولذا، فكما أن الكاثوليكية هي مصدر الهوية لشعوب أمريكا اللاتينية، فإن اليهودية أصبحت مصدر الهوية بالنسبة إلى يهود هذه البلاد. وحيث إن اليهودية ليست كلاًّ متجانساً، فهي تركيب جيولوجي تراكمي، وحيث إن معظم أعضاء هذه الجماعات لم يكن لديهم انتماء ديني يهودي قوي، فقد عاد كل منهم إلى تراثه الإثني اليهودي، وهو متنوع بعدد المجتمعات التي أتوا منها فأصبحت يهوديتهم مصدر فُرقة وتنوع لا مصدر وحدة وتجانس، الأمر الذي أضعف هويتهم بشكل كبير.
وقد ساهمت عناصر أخرى في إضعاف هذه الهوية، من بينها أن تنوع اليهود وفرقتهم وعدم تجانسهم انعكست في التنظيمات التي تضمهم وفي مؤسساتهم اليهودية، فلا يوجد تنظيم واحد يضمهم جميعاً، وهناك تنظيمات تقوم على أسس دينية (محافظة وإصلاحية مقابل الأرثوذكس) ، أو على أسس إثنية (إشكناز مقابل سفارد) ، أو على أسس سياسية أو طبقية (البوند والشيوعيون وغيرهم مقابل الرأسماليين) . كما توجد داخل كل جماعة إثنية عشرات الجماعات. وحتى عندما ظهرت تنظيمات لادينية تستند إلى الإثنية اليهودية، فإنها لم تنجح في ضم كل اليهود. ففي بلد مثل المكسيك، على سبيل المثال، يوجد ثلاثة وستون تنظيماً تتبع لجنة مركزية واحدة، منها عشرة تنظيمات دينية وتسعة اجتماعية وثمانية ثقافية وعشرة للرعاية الاجتماعية وعشرة صهيونية وعشرة للشباب وستة لمهام مختلفة.(12/49)
وتوجد مؤسسات لإدارة شئون الجماعات اليهودية يُطلَق عليها اصطلاح «قهال» وقد أصبحت هذه المؤسسات ساحة قتال بين أعضاء الجماعات اليهودية المختلفة (وبخاصة بين الإشكناز والسفارد) . ومن أهم نشاطات القهال الإشراف على أمور مثل الزواج والطعام والدفن. وقد أصبح الدفن بالذات من أهم نشاطات القهال، وأصبحت رسوم الدفن، التي يجأر أعضاء الجماعات اليهودية بالشكوى منها، من أهم مصادر تمويل القهال (والواقع أن سيطرة القهال على المدافن تشبه سيطرة الكنيسة الكاثوليكية على الخلاص، فلا خلاص خارج الكنيسة، ولا دفن خارج القهال) . وتسيطر الحاخامية الأرثوذكسية على القهال وتأخذ موقفاً متشدداً من كثير من القضايا، الأمر الذي يعني استبعاد أعداد كبيرة من اليهود الذين تمت علمنتهم. ويتبع القهال عدد من الموظفين والحاخامات الذين لا يتمتعون بأية مكانة اجتماعية، فمكانة الحاخام في أمريكا اللاتينية أقل من مكانة الحاخام في الولايات المتحدة (مع أن هذا الأخير قد فَقَد كثيراً من أهميته) .
والقيادات السياسية اليهودية منعزلة عن الشباب. وحينما اجتاحت الموجة اليسارية شباب أمريكا اللاتينية، وضمنهم الشباب اليهودي، وجد هؤلاء أن قيادتهم اليهودية التقليدية لا علاقة لها بهم ولا يمكنها أن تعمِّق هويتهم، كما لا يمكنها أن تتحدث بلغتهم. ولا توجد قيادة يهودية شابة الآن إذ أن كثيراً من العناصر الشابة تنزح إما إلى أمريكا الشمالية بأعداد كبيرة أو إلى إسرائيل. ومن الواضح أن الشباب منصرفون عن المؤسسات اليهودية، ففي انتخابات عام 1969 لم يشارك سوى ثلث اليهود، وكان معظمهم من كبار السن. ولا شك في أن نسبة المشاركين في هذه الأيام قد قلت عن ذي قبل.(12/50)
وقد ارتبطت القيادات اليهودية في أمريكا اللاتينية بالمنظمات اليهودية الأمريكية وتحاول التأثير على الحكومات التي تتبعها من خلال هذه المنظمات. وهو تدخُّل قد يأتي بنتيجة إيجابية مباشرة ولكنه يأتي بأثر عكسي على المدى الطويل، إذ يُقوي الإدراك المحلي لأن يهود أمريكا اللاتينية يربطهم رباط خاص بالولايات المتحدة، الأمر الذي يزيد هامشية أعضاء الجماعات اليهودية ويزيد انصراف الشباب اليهودي عنها.
وينعكس الوضع نفسه على تعليم أعضاء الجماعات اليهودية، فأمريكا اللاتينية، على عكس الولايات المتحدة، لا يوجد فيها نظام تعليمي علماني إجباري مجاني قوي، وإن وُجدت مدارس حكومية فهي ذات توجه كاثوليكي قوي، وتوجد مدارس كثيرة تتبع الكنيسة. وقد انعكس هذا الوضع على نظام تعليم اليهود إذ أنشأت الجماعات اليهودية مدارس يهودية، فأنشأ السفارد مدارس تكميلية بحيث يستطيع الطالب اليهودي الانخراط في المدرسة الحكومية الأرجنتينية ثم يدرس المواد اليهودية في المدرسة اليهودية. وحينما يصل إلى مرحلة الجامعة فإنه يدخل الجامعة مع غيره من الشباب. أما الإشكناز، فأسسوا مدارس لتعليم المناهج الدراسية الأرجنتينية والإسبانية واليديشية والعبرية. وقد هاجمتهم العناصر القومية باعتبار أن مثل هذه المدارس لن تعمِّق ولاء اليهود وانتمائهم لوطنهم. ولكن المدارس اليهودية، مع هذا، لم يمكنها أن تصبح مصدراً من مصادر الهوية اليهودية. وقد أدَّى تزايد معدلات العلمنة في الأرجنتين وشيلي والبرازيل إلى اختفائها، فمثل هذه المدارس تملأ فجوة زمنية بين وصول المهاجرين بميراثهم اللغوي والثقافي وبين الاندماج الكلي لأحفادهم من أبناء الجيل الثالث أو الرابع. كما أن مثل هذه المؤسسات تساعد المهاجرين على استيعاب الصدمة الحضارية، وهي تشبه في هذا اليديشية، لغة الشارع اليهودي، التي استمرت في الولايات المتحدة حتى الأربعينيات، وفي أمريكا اللاتينية حتى الخمسينيات، واختفت(12/51)
تماماً بعد ذلك.
ويُلاحَظ أن أحداً لا يُقبل على تَعلُّم العبرية. ولا تختلف أمريكا اللاتينية في هذا عن الاتحاد السوفيتي أو الولايات المتحدة. وقد بدأت البرتغالية والإسبانية تحلان محل أية لغات أخرى جاء بها أعضاء الجماعة اليهودية. كما يُلاحَظ أن المدارس اليهودية لا تزدهر إلا في البلاد التي لا تتمتع بمعدلات علمنة عالية والتي تسود فيها المثل الكاثوليكية كما هو الحال في بيرو، أي أن انتشار المدارس اليهودية ليس مؤشراً على مدى تَقبُّل المجتمع لليهود وتسامحه معهم أو مدى نفوذهم وسطوتهم وإنما هو مؤشر على عدم تقبُّلهم وعزلتهم. وبهذا المعنى، يمكن القول بأن الكنيسة الكاثوليكية أكبر مصادر الهوية اليهودية، وهذه مفارقة كبرى، فما يحدد مدى نجاح أو فشل المدارس اليهودية حركيات المجتمع وليس حجم الميزانيات المخصصة كما تتصور المنظمات اليهودية في أمريكا اللاتينية. ولعل هذا يجعلنا نعيد النظر في الاتهام الذي كان يوجه إلى الاتحاد السوفيتي بأنه قضى على اليديشية وعلى المدارس اليهودية. فالواقع أن معدلات العلمنة والتصنيع وإتاحة فرص الحراك الاجتماعي أمام اليهود هي التي أدَّت إلى القضاء على اليديشية وعلى المدارس اليهودية، فمع تَزايُد الفرص المتاحة أمام أعضاء الجماعة اليهودية أصبح من صالح الأسر اليهودية أن تُلحق أولادها بالمدارس الحكومية كي يتعلموا الخبرات اللازمة للاستفادة تماماً من الفرص المتاحة، كما حدث في الأرجنتين وشيلي والبرازيل، وهي البلاد التي تضم الأغلبية العظمى من يهود أمريكا اللاتينية.(12/52)
وكان يمكن للانتماء الديني اليهودي أن يقوي الهوية اليهودية، ولكن جماعات المهاجرين اليهودية كانت، كما أسلفنا، قد فقدت انتماءها الديني. ولذا، فإنها حولت الرموز الدينية إلى رموز إثنية، وأصبحت العبادة شكلاً من أشكال التضامن الإثني. وجمعيات الدفن التي تُعَد أهم المؤسسات اليهودية، بل المعابد اليهودية نفسها، ليست لها علاقة كبيرة بالدين أو بمعدلات الإيمان إذ يتم تأسيسها لأسباب إثنية. ومن هنا نجد أن كل جماعة يهودية لها معبدها، فالمعبد في أمريكا اللاتينية الكاثوليكية هو المعادل البنيوي لمراكز أو نوادي الجماعة في الولايات المتحدة. وبالتالي، لا يعتبر عدد المعابد اليهودية مؤشراً على الانتماء الديني إذ أن وجود المعابد لا يعني وجود العابدين. وعلى سبيل المثال، يوجد في سنتياجو عدة معابد يهودية لا يستكمل أي منها النصاب (المنيان) المطلوب لإقامة الصلاة اليهودية وهو عشرة أشخاص. وفي بيونس أيرس، يوجد خمسون معبداً يهودياً ولا يوجد حاخامات إلا في أقل من نصفها فقط. وفي عام 1970، لم يكن يوجد في أمريكا اللاتينية سوى خمسة وأربعين حاخاماً كلهم من أوربا. ولم تكن توجد مدارس لاهوتية لتخريج الحاخامات. وقد أُسِّست أخيراً مدرسة شبه لاهوتية تُدرَس فيها بعض المقررات الدينية. ولكن، لكي يُرسَّم الخريج حاخاماً، فلابد أن يدخل مدرسة لاهوتية في نيويورك أو القدس. والمدرسة اللاهوتية آنفة الذكر تابعة لليهودية المحافظة الآخذة في الانتشار في أمريكا اللاتينية.(12/53)
ومما يساهم في إضعاف الانتماء الديني أن الحاخامات الأرثوذكس هم المسيطرون على المؤسسات الدينية، وهم يرفضون إدخال أية تجديدات ويرفضون عقد أي زواج مُختلَط رغم تزايد عدد الزيجات المُختلَطة. وبطبيعة الحال، يتزايد الانصراف عن الدين في صفوف الشباب، فقد أعلن 55% من الطلبة اليهود الجامعيين في الأرجنتين أنهم لا يؤمنون بالإله (ملحدون ولاأدريون) . ولا يحضر الصلاة سوى 4% من الشباب. وتوجد نسبة كبيرة من الشباب اليهودي الذي لا يعرف كيف يؤدي الشعائر اليهودية ومن بينها شعيرة الصلاة. ويمكن القول بأن الموقف السائد هو موقف عدم الاكتراث من الدين وهو على أية حال النمط السائد في المجتمعات العلمانية.
ويبدو أن معدلات العلمنة قد ارتفعت بشكل مذهل. فقد قال أحد الحاخامات إن يهود أمريكا اللاتينية يكرسون أنفسهم لملذاتهم الدنيوية بطريقة متطرفة، بحيث يبدو سكان تل أبيب (المشهورون بالانفتاح المتطرف) كما لو كانوا من الرهبان مقارنةً بهم. وقال الحاخام مازحاً: لقد دخلت النساء عصر ما بعد البكيني (على غرار ما بعد الأيديولوجيا وما بعد الحداثة) إذ يلبسن مايوهات صغيرة جداً تُسمَّى «دنتال فلوس dental floss» ، وهو الخيط الرفيع الذي يستخدم لتنظيف ما بين الأسنان.
وقد بدأت مؤسسة جديدة تحل محل جمعيات الدفن والقهال أو المعبد، وهي النادي الرياضي، والنادي مؤسسة معروفة في معظم أنحاء أمريكا اللاتينية تؤسسها الجماعات المهاجرة، وهذه النوادي لا تشتغل بالدين أو السياسة ولا تحاول تغذية الإثنيات اليهودية المختلفة، وهي مؤسسات ضخمة كل منها عبارة عن نادي كبير فيه حمامات سباحة وقاعات ديسكو ومطاعم تقدم الطعام المباح وغير المباح شرعاً.(12/54)
وقد رصدنا حتى الآن عنصرين أحدهما انغلاق المجتمعات الكاثوليكية، وهو عنصر كان من المفروض أن يؤدي إلى إثراء الهوية اليهودية ولكنه أدَّى في واقع الأمر إلى تفتتها إلى هويات إثنية مختلفة. أما العنصر الثاني، فهو ضعف الهوية اليهودية الذي أدَّت إليه عناصر كثيرة مثل تزايد معدلات العلمنة وتساقط النظام التعليمي. ويمكننا الآن أن نشير إلى عنصرين آخرين ساهما في هذه العملية: العنصر الأول هو الثراء الحضاري لأمريكا اللاتينية، فلتراثها امتداد تاريخي ينعكس في الموسيقى واللغة والأدب والرموز الحضارية. ويقوم الشباب من أعضاء الجماعات اليهودية بمقارنة ذلك كله بميراثهم الحضاري الإشكنازي أو السفاردي فيكتشفون مدى ضآلته، كما أنهم ينظرون إلى الصهيونية باعتبارها إطاراً للتعامل مع الواقع يزودهم بالمعنى، فيجدون أنها لا تجيب على أي من أسئلتهم. ولذا، فهم يكتسبون الهوية اللاتينية بأعداد متزايدة. كما أن حضارة أمريكا اللاتينية قد تكون رموزها الكاثوليكية مغلقة إلا أنها لم تعارض قط الزواج المُختلَط. ولذا، فإن أعضاء الجماعات اليهودية إن كانوا لا يندمجون، فإنهم ينصهرون من خلال هذا الطريق، وتقوم أمريكا اللاتينية بهضمهم بكفاءة شديدة.(12/55)
ويُلاحَظ أن أعضاء الجماعات اليهودية لا يوجدون، كما أسلفنا، بين الفلاحين بتراثهم الكاثوليكي، ولا بين العمال الذين تنتظمهم إما جماعات اشتراكية أو نقابات عمال كاثوليكية، وإنما يوجدون في المدن الكبيرة بين أعضاء الطبقة الوسطى التي تزداد بينها معدلات العلمنة، وبالتالي يتزايد الزواج المختلط الذي وصل إلى 50% في المدن الكبرى. ولكن حيث إن حجم الجماعات اليهودية في المناطق الريفية صغير، نجد أن نسبة الزواج المختلط تزيد عن مثيلتها في المدن الكبرى. وتوجد أعداد متزايدة من أعضاء الطبقات الوسطى يعارضون المؤسسة الدينية ويؤسسون جماعات معادية للكنيسة والكهنوت. وينخرط أعضاء الجماعات اليهودية في مثل هذه الجماعات، وخصوصاً في المحافل الماسونية التي تُعَد من أهم مواضع التقاء أعضاء الجماعات اليهودية بأعضاء الطبقة الوسطى اللاتينية التي تعلمنت.
وفيما يتصل بالمنظمات اليهودية في أمريكا اللاتينية، فيوجد فرع للمؤتمر اليهودي العالمي على مستوى القارة مقره بيونس أيرس، وأهم الهيئات في الأرجنتين هي ديليجاسيون ديس أسوسيانيس إسرائيليتاس أرجنتيناس. (الهيئة التمثيلية للمنظمات اليهودية الأرجنتينية) Delegacion des Associanes Israelitas Argentinas، واختصارها دايا DAIA، وهي التي تتحدث باسم الجماعة أمام الحكومة وتمثل يهود الأرجنتين في المؤتمر اليهودي العالمي والقهال الإشكنازي. كما توجد عدة منظمات سفاردية أهمها: جمعية يهود السفارد في بيونس أيرس. أما أهم المنظمات في البرازيل فهي كونفدريساو إسرائيليتا دو برازيل (الاتحاد الإسرائيلي للبرازيل Confederacao Israelita do Brasil) ، واختصارها CIB ومقرها ساو باولو. وهي المنظمة المركزية التي تضم جميع الاتحادات اليهودية المحلية في البرازيل، وهي التي تمثل يهود البرازيل في المؤتمر اليهودي العالمي. وتنشط المنظمة الصهيونية في صفوف المنظمات والاتحادات اليهودية.(12/56)
وظائف أعضاء الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية
Occupations of the Members of the Jewish Communities in Latin America
لا يمكن فهم الوضع الطبقي لأعضاء الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية، وتوزُّعهم الوظيفي والمهني والحرفي، إلا من خلال رؤيتهم باعتبارهم أقلية مهاجرة. وقد وصل اليهود إلى أمريكا اللاتينية بعد عدة قرون من تأسيس هذا المجتمع، وبعد أن اكتمل كثير من ملامحه الاقتصادية والثقافية. وقد نتج عن ذلك عدة أشياء من بينها أن أعضاء الجماعة اليهودية، عند وصولهم، وجدوا أن المهن الإنتاجية الأولية (الزراعة والتعدين) تم شغلها من قبَل المستوطنين الأوائل. وحتى إن وُجدت فيها فرص فهي عادةً، بسبب الميراث الحضاري، لا يغتنمها إلا السكان المحليون. ولذا، نجد أن اشتراك أعضاء الجماعات اليهودية في الزراعة أقل بكثير من النسبة على المستوى القومي، وضمن ذلك الأرجنتين التي تضم أكبر مشروع للاستيطان الزراعي خارج إسرائيل.
واتجه أعضاء الجماعات اليهودية المهاجرون، بطبيعة الحال، إلى القطاعات غير المتطورة في الاقتصاد وإلى أعمال الوساطة التي تقوم بها الجماعات الإثنية الغريبة والمهاجرة. وقد كان القطاعان التجاري والصناعي مُهمَلين في مجتمعات أمريكا اللاتينية بسبب سيطرة القيم التقليدية (الكاثوليكية) مثل الاحتقار التقليدي للتجارة والصناعة حيث ترتبط الأرستقراطية بفكرة الحسب والنسب وملكية الأرض. ومثل هذه المجتمعات ترفض القيم العقلانية والنفعية (البروتستانتية) ، مثل حب الإنجاز والتوجه نحوه والتلهف على مراكمة الثروة، وتفضل البحث عن السعادة والتوازن وتركز على حياة التأمل والزهد. وهي لا تؤمن بأن العمل خير في ذاته، أو قيمة مطلقة يجب الالتزام بها بغض النظر عن نتائجها، بل تراه شراً لابد منه، وهي لا تقبل التنافس والتناحر بوصفه وسيلة مشروعة للبقاء وتركز على الجماعية والتكافل والتراحم.(12/57)
ويُلاحَظ أن القطاع التجاري والصناعي في أمريكا اللاتينية قطاع أجنبي بالدرجة الأولى، فقد كان رأس المال أجنبياً وكذلك كان العمال المهرة. وفي الأرجنتين، على سبيل المثال، كان 80% من قطاع الصناعة والتجارة في أيد أجنبية عام 1895. وفي عام 1959، كان 45.5% من مجموع المستثمرين من الأجانب، ونسبة عالية من الباقين كانوا من مواليد الأرجنتين ولكن من أبوين مهاجرين. ولذا، لم يكن اتجاه اليهود نحو هذين القطاعين غريباً.
وقد كان القطاع التجاري، كما أسلفنا، يتسم بالتخلف. ومن ثم، اعتمدت مناطق واسعة في الأرجنتين على تصدير محاصيلها وموادها الخام. ولكن هذه المناطق كانت، مع هذا، تضم عدداً لا بأس به من السكان محدودي الدخل تتزايد تطلعاتهم الاستهلاكية، وخصوصاً بعد أن بدأوا يختلطون بالمهاجرين الذين أحضروا أنماطاً استهلاكية غير مألوفة، أي أن احتياجات بشرية جديدة ظهرت وكان لابد من الوفاء بها. وهنا يأتي دور الجماعة الوظيفية المالية الوسيطة لأن التاجر الأرجنتيني المحلي لم يكن يتاجر إلا في البضائع المستوردة الفاخرة مرتفعة الثمن وهو ما جعلها مقصورة على الأغنياء بعيدة عن متناول الفقراء. كما لم يكن التاجر الأرجنتيني يقدم أية تسهيلات ائتمانية لزبائنه إذ كان عليهم أن يدفعوا الثمن نقداً.(12/58)
وداخل هذا الإطار، لعب أعضاء الجماعات اليهودية دوراً ريادياً مهماً، فهم ككل الجماعات المهاجرة يتسمون عادةً بعدة سمات من بينها تحرُّرهم النسبي من التقاليد والقيم، أية تقاليد وأية قيم. وهم لا يدينون بالولاء للقيم الأخلاقية أو الدنيوية للمجتمع. ولذا، فهم يشكلون عنصراً ريادياً، كما أنهم يأتون بخبرات تجارية ومالية ليست متوافرة في المجتمع المضيف بفضل ميراثهم الاقتصادي. ففي بلادهم الأصلية، أساساً روسيا، كانوا يعملون باعة جائلين يتاجرون في السلع الرخيصة ويتحملون من المخاطر ما لا يتحمله التاجر المحلي المستقر، ويصلون إلى الأماكن التي لا تصل إليها ذراع المؤسسات الاقتصادية الحديثة. وقد جاءوا دون أي رأسمال أو جاءوا برأسمال صغير لا يُذكَر، ولكنهم كانوا يملكون مجموعة من المهارات غير المتوافرة في المجتمع، ولهذا اتجهوا نحو البحث عن مجالات جديدة في الصناعة والتجارة لا تحتاج إلى رأسمال كبير بقدر ما تحتاج إلى مهارات خاصة. وقد كان من بين المهاجرين عمال في صناعة الملابس ونجارون وصناع أثاث وجواهرجية وصناع ساعات وعمال بناء وصناع أحذية وقبعات وخبازون. فتركزوا في إنتاج هذه السلع، وارتادوا كل الأسواق، ووصلوا إلى قطاع محدودي الدخل، وخصوصاً أنهم كانوا على استعداد للبيع بالتقسيط. وقد كان كثير من التجار المتجولين حرفيين في بلادهم، فكانت العملية الاقتصادية تبدأ بصناعة السلع في المنزل داخل إطار الاقتصاد المنزلي والصناعة المنزلية حيث يقوم أعضاء الأسرة بعملية التصنيع بأنفسهم. وقد أسهم التاجر اليهودي المتجول في زيادة الإقبال على السلع الاستهلاكية والترفية، فوسَّع نطاق السوق وحجم الطلب، وهو ما ساهم في تنشيط اقتصاديات المنطقة التي يرتادها. وكان هذا واضحاً في الأرجنتين على سبيل المثال. ولكن، بطبيعة الحال، زاد هذا النشاط أيضاً حسد الوسطاء الآخرين الذين ألفوا الطرق التقليدية في التسويق. وقد كان هناك بعض أعضاء(12/59)
الجماعات اليهودية ممن لا كفاءات لهم، أو ممن لهم كفاءات لا يستطيع المجتمع استخدامها مثل طلبة الجامعات الروسية الثوريين الذين نفاهم النظام القيصري أو موظفي الحكومة الذين كانوا يعملون في وظائف السكرتارية ولكنهم لا يجيدون اللغة الإسبانية أو البرتغالية. كل هؤلاء استوعبتهم الوظائف الهامشية في المدينة، أو انخرطوا في صفوف الطبقة العاملة (اليهودية) حيث كانوا يعملون في المصانع التي يمتلكها يهود، وهو ما كان يجعلهم عرضة للاستغلال إذ أن فرص الالتحاق بمصانع أخرى كانت ضعيفة أو منعدمة. ويجب ملاحظة أن عدد أعضاء الجماعات اليهودية الذين انخرطوا في سلك الطبقة العاملة كان صغيراً لأن القاعدة الصناعية في أمريكا اللاتينية كانت صغيرة والأجور كانت أقل كثيراً من نظيرتها في أوربا، كما لم تكن توجد اتحادات عمالية لحماية العمال. كذلك ظهر بين اليهود صناعات منزلية بدائية فيما يُسمَّى «ورش العرق» ، وهي صناعات ملابس تُعدُّ امتداداً لتركز اليهود في أعمال الرهونات في روسيا.
ومن الأعمال التي عمل بها أعضاء الجماعات اليهودية مهنة البغاء الذي يُعدُّ شكلاً من أشكال التجارة المتجولة. فالبغيّ مثل التاجر المتجول، فقيرة لا تملك شيئاً وتود أن تبيع السلعة التي يرغبها الجمهور. والظروف التي أدَّت إلى ظهور التاجر المتجول هي نفسها التي أدَّت إلى ظهور البغاء، أي وجود حاجة ما لدى المجتمع لا يمكنه الوفاء بها داخل مؤسساته القائمة، وهي في هذه الحالة وجود عدد كبير من الذكور المهاجرين بدون إناث. ويضاف إلى هذا وجود عدد كبير من الإناث اليهوديات في منطقة الاستيطان اليهودية، وخصوصاً جاليشيا، من الراغبات في الحراك الاجتماعي. وقد ظهرت شخصية القواد اليهودي الذي كان يَعدُ ضحيته بحياة مريحة فيها قسط من المتعة والراحة يختلف عن حياة الشقاء في ورش العرق والمستوطنات الزراعية. وكان القوادون دعامة المسرح اليديشي وحياة اللهو في المدن الأرجنتينية.(12/60)
وترتبط أمريكا اللاتينية بتجربة يهودية في الاستيطان الزراعي (تجربة البارون هيرش) وهي تجربة لم يُقدَّر لها النجاح لأسباب كثيرة ومركبة.
وقد تطورت مجتمعات أمريكا اللاتينية وتزايدت معدلات التصنيع والتحديث، ولم يبق وضع أعضاء الجماعات اليهودية على ما كان عليه إذ أتيحت أمامهم فرص جديدة. وساعدت الحربان العالميتان على هذه العملية. ولذا، نجد أن اليهود حققوا حراكاً اجتماعياً في الأرجنتين والبرازيل وشيلي، وهي البلاد التي تركز فيها الغالبية العظمى من اليهود، كما أنها البلاد التي حقق سكانها دخلاً عالياً ومعدلات عالية من التصنيع. وقد أخذ هذا الحراك أشكالاً كثيرة، فالبائع اليهودي المتجول الذي عمل في هذه المهنة كعمل مؤقت، وكذا العامل الذي كان يعمل في المصنع بشكل غير نهائي لتحقيق بعض الأرباح لأنه مضطر إلى ذلك، وذلك الذي لم يكن قانعاً بوضعه بسبب جذوره الطبقية، هؤلاء كانوا يشترون محالَّ ثابتة ويتحولون إما إلى صاحب عمل ثابت أو تاجر صغير أو يتجهون إلى الصناعة مستخدمين مهارات المهاجرين اليهود من أوربا لتصنيع المواد الخام المحلية. وقد نجح اليهود في كلتا الوظيفتين لأنهم غير مرتبطين بأي وطن أصلي يرسلون إليه أرباحهم، بل كانوا يعيدون استثمار الأرباح التي يحققونها، وهو ما أدَّى إلى اتساع حجم مشروعاتهم التجارية والصناعية.(12/61)
اتجه أعضاء الجماعات اليهودية إلى الصناعة في فترة مبكرة. فمنذ عام 1884، تركَّز اليهود في صناعة تكرير السكر ومعامل التبغ والخشب والكيماويات والزيوت والعطور ومصانع التغليف والنظارات وأجهزة التكييف. ويُلاحَظ أن هذه الصناعات جميعاً صناعات استهلاكية وصفت بأنها صناعات قريبة من المستهلك، على عكس الصناعات الثقيلة الأولية البعيدة عن مرحلة الاستهلاك (المرحلة النهائية) . ولا شك في أن هذا يعود إلى الميراث الاقتصادي للمهاجرين اليهود. وقد عمل اليهود أيضاً منذ فترة مبكرة بالتصدير والاستيراد، كما عملوا كمديرين ومهندسين. وقد تطوَّر كل هذا بتزايد معدلات التصنيع والعلمنة، حتى نجد أن 37% من أعضاء الجماعات اليهودية في الأرجنتين كانوا يعملون، في السبعينيات، في قطاع التجارة، و22% في الصناعة، و10% كمديرين، وهي نسبة أعلى من النسبة القومية (وقد اختلفت النسبة قليلاً في الثمانينيات إذ بلغ عدد الذين يقومون بأعمال تجارية 50% مقابل 22.5% في القطاع المالي وقطاع الخدمات) . وفي البرازيل، بعد المعجزة الاقتصادية في السبعينيات، نجد أن 27% من أصحاب الأعمال منهم. وقد حقق أبناء المهاجرين من العمال وصغار التجار حراكاً اجتماعياً. ولكن هذه العملية استغرقت وقتاً طويلاً نسبياً، فأحفاد المهاجرين في أمريكا الشمالية أصبحوا مهنين، أي أفراداً في النخبة. أما في أمريكا اللاتينية، فقد حققوا معدل الحراك نفسه في أربعة أجيال بدلاً من ثلاثة. ويتضح نجاح أعضاء الجماعة في تحقيق قسط كبير من الحراك من واقع أن أعداداً متزايدة من الشباب اليهود تتلقى تعليماً جامعياً وتتركز في المهن وقطاع الخدمات أقل من تركزها في التجارة.(12/62)
ويمكن وصف هذه العملية بأنها تبرجز الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية، وتحوُّلها من جماعة وظيفية مالية وسيطة إلى جماعة تنخرط في سلك الطبقة الوسطى اللاتينية. ولكن ثمة خصوصية لاتينية للطبقة الوسطى تنعكس بطبيعة الحال على أعضاء الجماعة اليهودية. فيُلاحَظ، حينما يتحول العامل اليهودي في الولايات المتحدة إلى عضو في الطبقة الوسطى، أنه ينخرط في سلك طبقة وسطى قوية. أما في أمريكا اللاتينية، فإنه ينخرط في سلك طبقة وسطى محدودة وضعيفة محصورة بين الأرستقراطية وجماهير الفلاحين والعمال المعدمين. ولذا، فهم يصبحون جزءاً من الجماعات الثرية (القطط السمان) في البلاد النامية التي تتسم بوجود هوة اجتماعية واقتصادية بينها وبين الجماهير الفقيرة. وهذا الاستقطاب الطبقي يؤدي إلى ظاهرة العنف في النشاط السياسي ويخلق مشكلات أمنية. وقد تحالف أعضاء الطبقة الوسطى المعادية للكنيسة داخل المحافل الماسونية وغيرها من المؤسسات العلمانية مع أعضاء الجماعات اليهودية الذين شقوا طريقهم.
توطين أعضاء الجماعات اليهودية في الأرجنتين
Settlement of the Members of the Jewish Communities in Argentina(12/63)
ترتبط أمريكا اللاتينية بتجربة يهودية في الاستيطان الزراعي هي قيام البارون هيرش بتوطين عدة آلاف من اليهود في الأرجنتين ضمن محاولته تحويل الفائض البشري اليهودي عن أوربا وتوجيهه إلى بقعة أخرى في العالم، حيث يمكن تحويلهم من عناصر طفيلية هامشية ضارة (كما كان يُقال آنذاك) إلى عناصر إنتاجية نافعة. وقد ارتبطت الإنتاجية بالزراعة لأنها كانت كذلك في التراث الشعبي والفكر الشعبوي الروسي الذي تأثر به أعضاء الجماعات اليهودية (ومنهم الصهاينة) . وقد أشرفت عدة وكالات يهودية على عملية التوطين من أهمها رابطة الاستيطان اليهودي (إيكا) التي قامت بتوطين اليهود في الأرجنتين وجمهورية الدومينكان وبوليفيا، وهي دول كانت تحتاج إلى مهاجرين للعمل في الزراعة حيث كانت تتوافر فيها أراض زراعية تُعطَى للوافدين الجدد بتسهيلات ائتمانية مريحة. وكانت نسبة اليهود الذين يعملون بالزراعة عام 1935، أي قبل الحرب العالمية الثانية، هي: 4.3% من يهود بولندا، و4.2% من يهود روسيا، و2.2% من يهود الولايات المتحدة، و5.8% من يهود الأرجنتين، وكانت هذه أعلى نسبة في العالم. وكانت النسبة قبل ذلك أعلى كثيراً، فقد وصلت إلى 22% عام 1920، ولكن العدد انخفض وتضاءل حتى أنه لم يزد في الستينيات على 2%. والواقع أن العدد آخذ في التضاؤل حتى أن كل ما تبقى من التجربة هو آثارها وبعض الظواهر التي تتسم بالطرافة مثل ظاهرة الكاوبوي اليهودي في هذه المستوطنات. ويعود فشل التجربة في الأرجنتين إلى عدة أسباب مرتبطة بحركيات المجتمع الأرجنتيني وخصوصيته ولا علاقة لها بما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» ولا بأية حركيات اجتماعية مقصورة على أعضاء الجماعة اليهودية ولا بطبيعة اليهود الأزلية التي تنفر ـ كما يقول العنصريون ـ من الزراعة:(12/64)
1 ـ كانت الهيئات التوطينية اليهودية هيئات غير حكومية ليست لها صلاحيات كافية، كما أنها كانت تقوم بتوطين اليهود في أي مكان متاح في العالم، الأمر الذي كان يعني أن هذه الهيئات لم تكن مهتمة كثيراً بالأوضاع المحلية، وكانت تدرس الظروف الصالحة للتوطين من الناحية المادية والخارجية الظاهرة دون اعتبار كبير للأبعاد الثقافية الكامنة الداخلية الخاصة بجماعة المهاجرين اليهود. وقد كانت هذه الوكالات جاهلة تماماً بالظروف الثقافية المحلية وبظروف يهود شرق أوربا وبالتوترات التي يمكن أن تنجم عن توطين اليهود في أمريكا اللاتينية.
2 ـ كان يهيمن على هذه الهيئات يهود فرنسا المندمجون. وهؤلاء كانوا يرون أن الهدف من نشاطهم التوطيني ليس إنقاذ اليهود وحسب وإنما دمجهم في مجتمعاتهم تماماً كما اندمجوا هم في مجتمعهم الفرنسي اندماجاً كاملاً. وقد بذلوا جهوداً متطرفة في هذا المضمار. وهم، إلى جانب هذا، كانوا يكنون احتقاراً عميقاً ليهود اليديشية من شرق أوربا وثقافة الشتتل المتدنية. ولذا، كانوا يرون أنها ثقافة لا تستحق الحفاظ عليها. وقد قاومت هذه الهيئات فكرة إنشاء نظام تعليمي خاص باليهود، خشية أن يحافظوا على هويتهم اليديشية الشرق أوربية مع أن مثل هذا النظام التعليمي، بسبب طبيعته المختلطة، حيث يتضمن مقررات دراسية مختلطة أرجنتينية ويهودية شرق أوربية، يشكل عادةً وسيلة مهمة من وسائل التأقلم والدمج.
3 ـ هذه الهيئات لم تشرك المهاجرين في صنع القرارت الخاصة بهم والتي تحدد مصيرهم، وهو ما زاد تفاقم كثير من المشاكل.(12/65)
4 ـ تم توطين المهاجرين اليهود في ضياع صغيرة (بالأسبانية: «ميني فونديا minifundia» ) وليس في الضياع الكبيرة (بالأسبانية: «لاتيفونديا latifundia» ) ذلك لأن المؤسسات اليهودية التوطينية لم يكن لديها إمكانات مالية لشراء ضياع كبيرة، كما أنها كانت ترى ضرورة ألا يحقق اليهود بروزاً أو تركزاً غير عادي في أي من المناطق. ومع هذا، يوجد الآن مزارعون يهود يملكون ضياعاً أصغرها حجماً تصل إلى ثمانية آلاف هكتار، اشتراها المستوطنون الناجحون الذين راكموا بعض الثروات، كما أن بعض اليهود استخدم ما حصل عليه من تعويضات ألمانية لشراء ضياع كبيرة. وأخيراً، هناك أعضاء الطبقة الوسطى الذين اشتروا ضياعاً كبيرة لاكتساب قدر من المكانة والهيبة.
5 ـ أدَّى ارتفاع أسعار الأراضي إلى قيام كثير من المستوطنين ببيع أرضهم واستثمار النقود في الصناعة والتجارة، وهو أمر كان يسيراً بالنسبة لهم بسبب الميراث الاقتصادي.
6 ـ كانت المؤسسات التوطينية تتكفل بتوطين المهاجرين الجدد وحسب وكانت ترفض المساهمة في دعم أبناء المستوطنين وتزويدهم بالأرض اللازمة للاستمرار في الزراعة. ولذا، لم يكن أمام أبناء المستوطنين من مفر من أن يعملوا أقناناً أو فلاحين بالأجر أو يهاجروا إلى المدينة.
7 ـ من المُلاحَظ أن كثيراً من الأراضي التي اشترتها الهيئات اليهودية لم تكن من أجود الأراضي الزراعية، وربما يعود هذا إلى انعدام خبرة القائمين على هذه الهيئات.
8 ـ أدَّى صغر حجم الضياع وتفرُّقها وتباعدها إلى صعوبة الحفاظ على الحياة اليهودية الجماعية التي تتركز حول المعبد والطعام الشرعي والمدرسة الدينية والمدفن.(12/66)
9 ـ كان للمدن جاذبية خاصة بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية المهاجرة بسبب أصولهم الحضارية في شرق أوربا وعدم خبرتهم بالزراعة. وكذلك وجد اليهود في المدينة تلك المؤسسات اليهودية اللازمة لحياتهم اليهودية والتي لم توفرها لهم الهيئات التوطينية. كما أن أعضاء الجماعة كانوا أساساً جماعة حضرية لها طموحات حضرية مثل الرغبة في الأمن الاقتصادي وتحقيق الحراك الوظيفي، كما كان لها أسلوب حياة يركز على الإنجاز في مجال التعليم ذي الآفاق الواسعة، وهي أمور كان يمكن تحقيق بعضها في سياق حضري ولا يمكن تحقيقها في بيئة ريفية.
10 ـ إلى جانب العناصر السابقة الخاصة بالمؤسسات اليهودية والتكوين الحضاري الشرق أوربي لليهود، وميراثهم الاقتصادي، هناك عناصر خاصة بالمجتمع الأرجنتيني نفسه من بينها أن القطاع الزراعي في الأرجنتين والعالم بأسره كان قد بدأ يفقد شكله التقليدي ويصبح جزءاً من النظام الرأسمالي العالمي والاقتصادي النقدي والميكنة الزراعية. وكان القطاع الزراعي، كذلك، آخذاً في الانكماش أو لم يَعُد فيه مجال للمزارع الصغيرة.
11 ـ لم تدعم الحكومة الأرجنتينية جماعات المهاجرين التي اشتغلت بالزراعة كما لم تغيِّر نظام ملكية الأرض بشكل يتيحها للمهاجرين، ولم تقم الحكومات كذلك بتوفير البنية التحتية اللازمة للانتشار الزراعي من مدارس وغيرها.
لكل هذا، تساقط الاستيطان الزراعي اليهودي في الأرجنتين تماماً كما تساقط كثير من المستوطنات غير اليهودية ونزحت أعداد كبيرة متجهة إلى الصناعات. وبذا، أصبحت المستوطنات مجرد محطات استراحة للمهاجرين تكيفوا أثناءها مع الحضارة المحيطة بهم واصطبغوا بالصبغة الأرجنتينية وأصبحوا مهيئين بشكل أفضل للاستقرار في المدن.
علاقة أعضاء الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية بالنخب الحاكمة
Relationship between Members of the Jewish Communities and the Ruling Elites in Latin America(12/67)
أشرنا في المدخل السابق إلى أن أعضاء الجماعات اليهودية بدأوا يصبحون أعضاء في الطبقة الوسطى. ولكننا حينما نقرر ذلك فنحن نفعل ذلك مع كثير من التحفظ لأنهم احتفظوا بالكثير من ملامح الجماعة الوظيفية المالية، فهم طبقة وسطى من ناحية الدخل والمقاييس الخارجية ونمط الاستهلاك ومتوسط العمر، ولكنهم ليسوا كذلك من ناحية التوزُّع الوظيفي والمهني أو من ناحية العلاقة مع النخبة الحاكمة. فالطبقة الوسطى توجد بين النخبة الحاكمة والجماهير، وهي تقوم بدور الوسيط. وهذا يتطلب علاقة قوية مع النخبة والجماهير وأن تكون الطبقة الوسطى جزءاً عضوياً من المجتمع ولا تتواجد في مسامه وحسب، وهو الأمر الذي لم يحققه أعضاء الجماعات اليهودية. فقد حققوا وضعاً اقتصادياً متميِّزاً، ولكنه كان في الواقع متميِّزاً لتركزهم في قطاعات بعينها دون غيرها، كما أن تميُّزهم هذا لم يترجم إلى مكانة سياسية. وهذا وضع مختلف إلى حدٍّ ما عن وضع يهود الولايات المتحدة الذين حققوا حراكاً اجتماعياً ترجم نفسه إلى مكانة رفيعة وهيبة وقوة. ولتفسير هذه الظاهرة، يجب الإشارة إلى أن الانضمام إلى النخبة أمر صعب في المجتمعات ذات التقاليد العريقة والامتداد التاريخي والهوية الواضحة. وهذه عناصر يتسم بها المجتمع اللاتيني بشكل واضح. كما أن وضع النخبة داخل هذا المجتمع، وطريقة الانضمام إليها، يستند إلى ثلاثة عناصر أساسية، هي: الكاثوليكية، وملكية الأراضي، والأصل الأرستقراطي العريق. وهي جميعاً أصول تستبعد اليهود باعتبارهم مهاجرين وغير مسيحيين، وخصوصاً أن ارتباط اليهود بالتجارة في الوجدان الغربي المسيحي ثم في الوجدان اللاتيني (وهو ارتباط تؤكده حقيقة وضع اليهود) زاد قوة الطرد خارج النخبة. وحينما ظهرت نخب جديدة في المجتمع، مثل القوات المسلحة، فإن عملية الانضمام إليها كانت تتسم بمعايير تستبعد اليهود. ولذا، نجد أن نسبة الضباط اليهود في القوات المسلحة نسبة لا تُذكَر.(12/68)
ولم يؤد ظهور نخب معارضة حديثة، مثل القوميين واليساريين، إلى ضم بعض أعضاء الجماعات اليهودية، بل أدَّى إلى مزيد من الاستبعاد لهم نظراً لأن هذه الحركات ذات بعد محلي وتؤكد الخصوصية، وهو ما كان يعني تأكيد رموز التراث اللاتيني الكاثوليكي. ومن العناصر الأخرى التي باعدت بينهم وبين القوى القومية واليسارية، اعتماد أعضاء الجماعة على الولايات المتحدة، وارتباط اليهود في الذهن اللاتيني باليانكي، وارتباطهم مؤخراً بإسرائيل (رجل أمريكا القبيح في أمريكا اللاتينية) . هذا على الرغم من وجود أعداد كبيرة من الشباب الأرجنتيني في صفوف اليسار.
والجماعة اليهودية، إلى جانب هذا، صغيرة في حد ذاتها في كل بلاد أمريكا اللاتينية وصغيرة بالنسبة إلى عدد السكان وهي جماعات منقسمة فيما بينها. كما أن تركُّزهم في مهن وقطاعات اقتصادية معينة يعني استبعادهم من قطاعات أخرى، الأمر الذي يعني انعدام تأثيرهم فيها كما يعني ظهور شكل من أشكال الغيرة بين أعضاء الأغلبية الذين يتركزون في القطاعات التي يتواجد فيها اليهود بكثرة. ويعني هذا التركز أيضاً أنهم غير ممثَّلين في كل الطبقات وفي مؤسسات سياسة اجتماعية عظيمة الأهمية مثل اتحادات العمال والمزارعين، ومن ثم فلا يمكنهم أن يلعبوا دور الطبقة الوسطى العضوية.
وكان من الممكن أن يلعب اليهود دوراً ضاغطاً من خلال الانتخابات. ولكن صغر حجمهم، وانقسامهم إلى جماعات مختلفة، ومعدلات الاندماج العالية بينهم، جعلت ذلك أمراً عسيراً. وعلى أية حال، فإن الديموقراطية في أمريكا اللاتينية ليست ذات مؤسسات راسخة، ذلك لأن جماعات الضغط الأخرى مثل القوات المسلحة بانقلاباتها المتكررة والحركات اليسارية تجعلها تفقد كثيراً من أهميتها.(12/69)
وثمة سبب أخير هو عدم ظهور شخصيات يهودية قيادية يمكنها أن تمثل اليهود داخل النخبة بسبب انقسام الجماعات اليهودية، وبسبب هجرة العناصر الشابة الواعية بهويتها إلى إسرائيل، وهجرة العناصر الشابة التي تطمح إلى مستوى أعلى من الحراك الاجتماعي إلى الولايات المتحدة.
ويذهب بعض الدارسين إلى أن الجيل الأول من اليهود، الذي اشتغل بالتجارة والصناعة، كان محكوماً عليه بالهلاك إما على يد اليمين المرتبط بالقيم الإقطاعية وإما على يد اليسار الذي يعبِّر عن القوى المعادية للمشروع الخاص. أما الجيل الجديد من الشباب اليهودي، الذي يُقبل بحماس على التعليم الجامعي، فهو مركز أساساً في الأعمال المهنية الإدارية. ومن ثم، فإن المجتمع اللاتيني الجديد يحتاج إلى خدماتهم التي ستتزايد الحاجة إليها مع تزايد معدلات التحديث والعلمنة. بل إن النظم اليسارية قد تتيح أمامهم فرص الحراك الاجتماعي والانضمام إلى النخبة، وهو الأمر الذي لم يحققوه من خلال اشتغالهم بالتجارة أو الصناعة. وقد بدأ يظهر فعلاً يهود بين أعضاء النخبة الحاكمة في الأرجنتين. وذهبت إحدى الدراسات إلى أن ثلثي يهود البرازيل من النخبة. وربما يكون الأمر كذلك، لكن من الممكن أن يكون هؤلاء قد انضموا إلى أعضاء النخبة أو الطبقة الحاكمة بحسب شروط هذه النخبة نفسها. وربما سُمح لهم بذلك بعد أن أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من المجتمع اللاتيني بثقافته ورؤيته. وعلى أية حال، فمع تزايد معدلات اندماج أعضاء الجماعات اليهودية تتناقص أعدادهم. ويمكن القول بأنه ليس من المتوقع أن يلعب اليهود دوراً يهودياً مستقلاًّ داخل النخب الحاكمة في أمريكا اللاتينية تماماً كما هو الحال في الولايات المتحدة.
الجماعات اليهودية في كل من أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة: منظورمقارن
The Jewish Communities in Latin America and the United States: Comparative Perspective(12/70)
لا توجد أية أهمية خاصة للجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية من منظور الصراع العربي الإسرائيلي، فهي جماعات ضئيلة العدد لا تهاجر منها أعداد مهمة إلى الدولة الصهيونية. وهي لا تشكل «لوبي» أو جماعة ضغط داخل المجتمع اللاتيني، كما أنها متجهة إلى النقصان السريع، بل ربما إلى الاختفاء. ولكنها، مع هذا، في غاية الأهمية من منظور دراسة الجماعات اليهودية في العالم ومحاولة تحديد سماتها وعزلتها وبنيتها وحركيات اندماج أعضائها. وتتزايد أهميتها حين نقارنها بأهم الجماعات اليهودية في العالم، أي يهود الولايات المتحدة، فهما عينتان جيدتان للمقارنة إذ أن جماعات المهاجرين التي اتجهت إلى الولايات المتحدة وتلك التي استقرت في أمريكا اللاتينية ستبين لنا بعض حركيات اندماج اليهود وانعزالهم وطريقة تشكيل هويتهم. ويمكننا أن نقول إن مصدر الاختلاف بين يهود الولايات المتحدة ويهود أمريكا اللاتينية هو المجتمع المضيف أو مجتمع الأغلبية أو المجتمع الجديد. وهذا، بدوره، سيبين أن فهم الجماعات اليهودية يقتضي العودة إلى حركيات المجتمعات والتشكيلات الحضارية التي يوجد فيها أعضاء الجماعات اليهودية ولا يتم بالعودة إلى هذا الشيء الوهمي الذي يُسمَّى «التاريخ اليهودي» الذي لا يمكنه أن يفسِّر هذا التنوع الهائل وعدم التجانس العميق بين أعضاء الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية من جهة ووحدتها وتجانسها في الولايات المتحدة من جهة أخرى. ويمكن رؤية مصادر الاختلاف بين الجماعتين على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي على النحو التالي:(12/71)
1 ـ ربما كانت أهم نقاط الاختلاف بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية أن الولايات المتحدة كيان سياسي ضخم موحد تحكمه دولة قومية قوية واحدة على عكس أمريكا اللاتينية التي انقسمت إلى عدة دويلات ودول. ويُقال إن هذا الانقسام يعود إلى طبيعة أمريكا الشمالية المنبسطة التي جعلت تطوير شبكة مواصلات ضخمة وبنية تحتية موحَّدة أمراً سهلاً، على عكس أمريكا اللاتينية التي تقسمها سلاسل الجبال الضخمة الشاهقة التي أدَّت إلى ظهور دول مختلفة وشبكات مواصلات مستقلة تستجيب لاحتياجات كل منطقة على حدة. كما أن التراث البروتستانتي في الولايات المتحدة شجع بكل تأكيد على قيام دولة قومية في وقت مبكر، ذلك لأن البروتستانتية لا تدين بولاء لكنيسة عالمية تضم كل البشر بل تعبِّر عن نفسها من خلال كنيسة قومية. كما أن ثمة ارتباطاً اختيارياً بين الرأسمالية والبروتستانتية، على النحو الذي أشار إليه فيبر. وهذا على عكس التراث الكاثوليكي ذي النزعة العالمية والذي يخلق توتراً بين النزعة القومية والنزعة الدينية إذ تعبِّر النزعة الدينية عن نفسها خارج الحدود القومية.(12/72)
وقد أدَّى قيام الدولة القومية في الولايات المتحدة إلى نجاحها في إعادة صياغة المهاجرين وأمركتهم، وذلك عن طريق نظام تعليمي حكومي مجاني ساعد المهاجرين وأبناءهم على التخلي عن ميراثهم الثقافي وعلى اكتساب الهوية الجديدة برموزها ولغتها ومُثلها. ولعبت المدارس الحكومية الليلية دوراً مهماً في ذلك. ومن المعروف مثلاً أن الأطفال في الولايات المتحدة كانوا يتعلمون يمين الولاء للدولة قبل تَعلُّم حروف الهجاء. كما لعب التجنيد العسكري دوراً لا يقل أهمية في عملية اندماج المهاجرين وضمن ذلك اليهود. كل هذا على عكس ما حدث في أمريكا اللاتينية حيث لم يتم تطوير نظام تعليمي قومي متكامل. وحينما تم تأسيسه في نهاية الأمر، سادت فيه القيم الكاثوليكية. أما الجيوش الوطنية، فقد تحولت بعد الاستقلال إلى أدوات قمع في يد السلطات. ولم تكن هذه الجيوش منفتحة على كل طبقات الشعب وأقلياته، مثل القوات المسلحة الأمريكية، وإنما كانت ذات توجُّه كاثوليكي أرستقراطي أو زراعي، أي أن مؤسسات الدمج الوطني الأساسية كانت غائبة أو ضعيفة في أمريكا اللاتينية، الأمر الذي ساعد على تشجيع عناصر التفتت في المجتمع. وقد انعكس هذا الوضع على أعضاء الجماعات اليهودية، فلم تنشأ منظمة مركزية تضم كل يهود أمريكا اللاتينية إذ استقل يهود كل دولة عن يهود الدول الأخرى. بل إن كل مجموعة يهودية داخل نطاق الدولة الواحدة انقسمت إلى جماعات يهودية مختلفة احتفظت كل واحدة منها بسماتها الإثنية والحضارية.(12/73)
2 ـ أما المصدر الثاني للاختلاف فينصرف إلى النظام السياسي ويرتبط بالمصدر السابق. فالنظام السياسي الأمريكي يستند إلى مُثُل عصر الاستنارة والإعتاق وإلى مُثُل العقل والتجريب، ومن هنا فإنه رفض الماضي والتراث وركَّز على الحاضر والمستقبل ووجد أن مصدر المعرفة الوحيد هو العقل (المادي النفعي) والحواس. ويمكن النظر إلى الولايات المتحدة ككل باعتبارها تجربة تبدأ من نقطة الصفر، صفحة بيضاء (باللاتينية: تابيولا رازا tabula rasa) دون أية أعباء تاريخية، وهو الأمر الذي يناسب الجماعات البشرية التي تريد هي الأخرى أن تبدأ حياتها الجديدة من نقطة الصفر الافتراضية هذه. والمجتمع الأمريكي تسوده مُثُل الديموقراطية والمساواة حيث يتم انتقال السلطة فيه بشكل سلمي عن طريق الانتخابات، كما تسوده مُثُل علمانية حيث يؤمن الإنسان بأن العالم خاضع للقانون الطبيعي وبأن الإله قيمة شخصية محضة يكشف عن نفسه (إن وُجد) بالطريقة نفسها وداخل النطاق المحدود نفسه، أي من خلال القانون الطبيعي. ولذا، فهذا المجتمع يرفض أن تكون المُثُل الدينية هي محدد السلوك الإنساني، ويقوم بفصل الدين عن الدولة، ويعادي الكهنوت والكهنة. لكن هذه الرؤية لا تعطي اليهودي مركزية خاصة في الكون أو في دورة المعصية والتوبة والخلاص. وعلمانية الولايات المتحدة، علاوة على كل هذا، تم التوصل إليها دون حروب دينية، أي أنها مُعطَى وبُعْد أساسي من أبعاد الحضارة الأمريكية الحديثة.
ويقف هذا الوضع مخالفاً لما في مجتمعات أمريكا اللاتينية، فهي مجتمعات لم تقبل مُثُل عصر التنوير بل تم تأسيسها على أسس إقطاعية أو شبه إقطاعية وملكية وكاثوليكية. ومارست محاكم التفتيش نشاطها في هذا العالم الجديد. كما أن دول أمريكا اللاتينية ترى نفسها استمراراً للماضي الأوربي الكاثوليكي.(12/74)
وحينما نشبت ثورات الاستقلال والتحرر الوطني بعد ذلك، تمت هذه الثورة بقيادة طبقة الكريول الإسبانية التي كانت تؤمن بالقيم القديمة نفسها ولم تتقبل مُثُل عصر العقل. ولذا، سادت المُثُل الإقطاعية حتى بعد أن اختفت تماماً في أوربا، وظلت لليهودي المكانة الرمزية نفسها التي كان يحتلها كغريب في أوربا في خلال العصور الوسطى، وظل التراث القديم مسيطراً. وحتى حينما أُعلن فصل الدين عن الدولة، ظل البُعْد الكاثوليكي قوياً للغاية على المستوى الثقافي، فقد لعبت الكاثوليكية دوراً قوياً في الحركات القومية كما لعبت بعد ذلك دوراً قوياً في الحركات اليسارية.
وهكذا، يمكن القول بأن مجتمع الولايات المتحدة مجتمع منفتح جديد لا ينوء بثقل أي تراث أو ذاكرة تاريخية. ولذا، كان متاحاً لجماعات المهاجرين فيه، ومنهم اليهود، أن تكوِّن جماعات ضغط داخل النظام طالما أنها قبلت قيم وقوانين اللعبة الخاصة به، وأن تؤثر فيه وفي قراراته من خلال الانتخابات. بل أمكنها أيضاً دخول النخبة، وهو الأمر الذي لم يتيسر تحقيقه في مجتمعات أمريكا اللاتينية المغلقة بدونهم. وكانت الولايات المتحدة تشكل ظاهرة فريدة تماماً بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية فهي لم تصدر أية تشريعات خاصة لإعتاقهم، فمُثُل الإعتاق والاستنارة كانت سائدة قبل وصولهم بأعداد كبيرة. ولذا، فإنهم لم يحاربوا قط من أجل استصدار أية تشريعات. ومن ثم، كانت الولايات المتحدة هي الجولدن مدينا، أي البلد الذهبي، ولم تُستخدَم قط كلمة «منفى» للإشارة إليها، فهي وطن قومي ثان وربما أول للمهاجرين من أعضاء الجماعات اليهودية.(12/75)
3 ـ ومما دعم نقطتي الاختلاف السابقة نوعية المادة البشرية المهاجرة التي أسست كلا المجتمعين، فالمهاجرون إلى أمريكا الشمالية هاجروا إليها بعد أن كانت أوربا قد خاضت حركة الإصلاح الديني والثورة التجارية والصناعية، وبعد أن كانت الحروب الدينية قد أضعفت هيبة الكنيسة تماماً. كما أنهم كانوا من العناصر البروتستانتية المتطرفة (البيوريتان) التي رفضت مجتمعاتها وأتت لتأسيس مجتمع جديد على أسس جديدة.
ويقف هذا على النقيض من مجتمعات أمريكا اللاتينية التي بدأت تجربة الاستيطان فيها داخل إطار كاثوليكي إقطاعي، وتمت تحت رعاية التاج الإسباني أو البرتغالي. وانتقل إلى المجتمع هرم القيم السائد في المجتمع الإسباني أو البرتغالي، وكانت العناصر المهاجرة مضطرة إلى قبول هذا الهرم. كما أن المهاجرين الذين قاموا بتأسيس مجتمعات أمريكا اللاتينية لم يكونوا من العناصر التي رفضت المجتمع الإسباني أو البرتغالي الكاثوليكي، وإنما كانوا من العناصر الأرستقراطية التي رفضها هذا المجتمع، أو بتعبير أدق من العناصر التي فشلت في تحقيق الحراك داخله بسبب قوانين الميراث الإقطاعي فحاولت أن تحقق الحراك الاجتماعي خارجه، وذلك لتحقيق درجة أعلى من الانتماء إليه. وحينما بدأت موجات الهجرة الضخمة، كان المهاجرون من دول كاثوليكية أساساً. وكل هذا كان يعني، بطبيعة الحال، مزيداً من الانغلاق والتجانس، وبالتالي مزيداً من استبعاد اليهود.(12/76)
4 ـ والواقع أن مجتمع الولايات المتحدة، رغم أنه مجتمع يتباهى بالتعددية والتنوع والانفتاح، يؤدي في نهاية الأمر إلى طمس معالم الهويات المختلفة ودمجها في هوية علمانية ديموقراطية واحدة، فهذا المجتمع تسوده أسطورة علمانية واحدة، ومعيار قبول اجتماعي علماني عقلاني يسمح للجميع بالانتماء شريطة أن يتخلوا عن خصوصيتهم، أي عن القسط الأكبر من هويتهم. وكلما ازداد تخليهم عن هويتهم ازدادت أمامهم فرص الحراك الجتماعي. فما يسود المجتمع ليس تنوعية حقة وإنما وحدة عقلانية علمانية عميقة وتنوعية إثنية سطحية، وهذا ما يُسمَّى «الأمركة» . وقد تُرجمت هذه الأفكار إلى فكرة بوتقة الصهر التي تفترض إنساناً أمريكياً علمانياً ديموقراطياً ذا ثقافة بروتستانتية يتحدث الإنجليزية، وهي فكرة سادت في المجتمع الأمريكي حتى منتصف الستينيات حيث كان يُفترض أن يتأقلم المهاجر تماماً وينسى هويته ليصبح أمريكياً قلباً وإن أمكن قالباً أيضاً. ومن هنا، كانت هناك مشكلة السود الذين لم يكن بوسعهم تغيير لون جلدهم. وحينما انحسرت أسطورة بوتقة الصهر، حلّت محلها أسطورة أكثر تركيباً وإن كانت لا تقل عنها أحادية، إذ أصبح بالإمكان الاحتفاظ بالميراث الإثني القديم في الحياة الخاصة أو حتى العامة مادام ذلك لا يتعارض مع الولاء الأساسي للدولة (ذلك المطلق الذي يلتف حوله العلمانيون) . وهكذا، تُعامَل الإثنية نفسها معاملة الدين، أي يتم الاعتراف بها ما دامت أمراً خاصاً تماماً. كما أصبح الدين من المسائل الخاصة بالضمير، لكن كلاهما لا يصلح أن يكون دليلاً أو أساساً أو إطاراً لسلوك الإنسان في الحياة العامة (فأخلاق المواطن المدنية هي وحدها الأساس والإطار والدليل) . وكل هذا يعني، في واقع الأمر، طمس كل الهويات والخصوصيات لتحل محلها هوية قومية واحدة. وعلى أية حال، لا تستطيع الدولة القومية الموحدة أن تمارس نشاطها كاملاً إلا بالسيطرة على معظم أشكال الحياة العامة(12/77)
والمهمة، وقد كان هذا جوهر وصميم المشروع القومي. ووجد أعضاء الجماعة اليهودية هذا الوضع مناسباً، وكانوا من الأقليات الأولى التي تمت أمركتها تماماً، وتقبلوا أسطورة بوتقة الصهر ثم بعد ذلك تقبلوا أسطورة الاندماج المعدلة التي تقبل عناصر إثنية شريطة أن تكون سطحية، فأصبحوا أمريكيين يهوداً وهم الذين نطلق عليهم مصطلح «اليهود الجدد» نظراً لاختلافهم الجوهري عن يهود أوربا وبقية العالم.
ويقف هذا على الطرف النقيض من مجتمعات أمريكا اللاتينية التي لا تزال أسطورتها القومية كاثوليكية تستبعد اليهود. وحينما جاءت جماعات المهاجرين اليهود، وجدت التشكيل الحضاري المحلي (الهندي) الذي لا يتاح للغرباء أن يضربوا بجذورهم فيه، كما وجدت التشكيل الحضاري الكاثوليكي الذي ينبذها. ونجم عن ذلك انكفاء المهاجرين، كلٌّ على هويته التي أتى بها، فتشبث بها وعمَّقها، ولم تظهر هوية يهودية لاتينية إذ ظلت هناك هويات يهودية من ناحية، وهوية لاتينية من ناحية أخرى، الأمر الذي أدَّى إلى زيادة الانقسامات بين الجماعات اليهودية المختلفة. وإذا بدأت تظهر، مع تزايد معدلات التحديث والترشيد والعلمنة في أمريكا اللاتينية، مثل هذه الهوية اللاتينية اليهودية، فإنها ستكون في واقع الأمر هوية لاتينية وحسب، إذ سيظل البعد الإثني اليهودي سطحياً للغاية، ربما أكثر سطحية من إثنية يهود أمريكا.(12/78)
5 ـ وإذا انتقلنا إلى المجال الاقتصادي والاجتماعي، فإننا نجد أن مجتمع الولايات المتحدة أسسته من البداية عناصر بروتستانتية تجارية ترى أن التجارة أهم النشاطات الإنسانية وترى أن قيم التنافس ومراكمة الثروة قيم إيجابية، بل إن الثروة علامة الرضا الإلهي. ثم استمر النظر إلى التجارة والمنافسة باعتبارهما نشاطات إيجابية كريمة حتى بعد أن ضعفت المسيحية البروتستانتية واختفت كمحدد أساسي للسلوك والرؤية. ثم أصبحت التجارة في نهاية الأمر نشاطاً ضرورياً محايداً، لا تنتظمه أية قيم أخلاقية وإنما تنتظمه آليات التنافس والبقاء، أي أن النشاط التجاري تمت علمنته تماماً وكذلك ترشيده وإخلاؤه من أية أبعاد أخلاقية أو عاطفية غير عقلانية متخلفة!
وتم الشيء نفسه بالنسبة إلى العمل الإنساني، فالحرفي التقليدي يتوارث الخبرة من أسرته، وعمله هو مصدر احترامه لنفسه وهويته. وهو يتبع إيقاعاً خاصاً يتفق مع حياته ومتطلباتها، وينتج سلعاً خاصة ترتبط بقيمه الحضارية والأخلاقية. هذا على عكس المجتمع الذي يقوم بعلمنة العمل الإنساني وترشيده تماماً، أي وضعه داخل إيقاع مادي آلي. ولذا، فهو يشكل بوتقة صهر حقيقية للبشر. فالمصنع مؤسسة مادية تم ترشيدها تماماً، كل ما فيها محسوب وبطريقة رياضية آلية صارمة. والعامل الصناعي يخضع لهذا الإيقاع الآلي، إذ يجب عليه أن يصبح تابعاً للآلة بدلاً من أن تصبح الآلة تابعة له، بل يجب عليه أن يصبح مثل قطعة الغيار تماماً، ولا يهم إن كان العامل يهودياً أم مسيحياً، ذكراً أم أنثى(12/79)
وفي المراحل الأولى للتصنيع، كان لا يهم إن كان كبيراً أم صغيراً، وقد استُخدم الأطفال في كل أفرع الصناعة، وفي كل الأعمال الممكنة. ولم يكن يهم أية خصوصيات أو انتماءات يتمتع بها العامل أو يعاني منها، مادام يؤدي عمله الآلي ويضبط حركته، في حضوره وانصرافه وإيقاع جسده وحياته، بما يتفق مع حركة المصنع، أي أن المصنع يقوم بعلمنة العمل الإنساني تماماً ويفصله عن كل قيمة (وضمن ذلك القيمة الإنسانية نفسها) بحيث لا توجد فيه أسرار ولا إبداع ولا حركات غير محسوبة. ولقد عرَّف ماكس فيبر الترشيد الكامل بأنه تحويل العالم إلى حالة المصنع، فالمصنع هو الخلية المثلى أو النموذج الأساسي في المجتمع الصناعي العلماني الذي يتحول فيه البشر إلى مجرد مادة بشرية تنتج طاقة! وهذان العنصران (علمنة كل من النشاط التجاري والعمل الإنساني في المجتمع الأمريكي) ساهما بشكل عميق في دمج المهاجرين اليهود، وخصوصاً أن القطاعين التجاري والصناعي في الولايات المتحدة من الضخامة بحيث استوعبا أعداد المهاجرين القادمين وفتحا لهم أبواب الحراك الاجتماعي. وقد كان الانخراط في التجارة والصناعة ثم المهن أسرع الطرق التي تمت بها أمركة يهود الولايات المتحدة. والأمركة هي علمنة اليهود مع صبغهم بالصبغة الأمريكية، أي دمجهم في المجتمع العلماني الأمريكي بحيث تحوَّل اليهود من جماعات اقتصادية هامشية وجماعة وظيفية وسيطة إلى أعضاء في الطبقة الوسطى التي تشكل جزءاً عضوياً أساسياً من النظام الاقتصادي السياسي؛ يستثمرون في الصناعة، ويلعبون دوراً في تنظيم نقابات العمال، ولهم صوت يُعتَد به في الانتخابات، ويشكلون قوة ذاتية مهمة. وقد بدأت أعداد متزايدة من أعضاء الجماعة اليهودية في الانخراط في سلك النخبة، وهم في هذا لا يختلفون عن كل جماعات المهاجرين الأخرى، وإن كانت درجة حراكهم أسرع باعتبار أنهم كانوا من أسرع الأقليات استجابة للأمركة والعلمنة. وقد أصبح اندماج(12/80)
أعضاء الجماعة اليهودية كاملاً، فهو لم يَعُد اندماجاً مدنياً بمعنى تَقبُّل القيم الثقافية المشتركة والسائدة وإنما اندماج بنيوي بمعنى الدخول في المؤسسات العامة والخاصة كافة، وضمن ذلك مؤسسة الزواج حيث أصبحت أعداد متزايدة من الأمريكيين الذين لا يكترثون بالدين يتزوجون من أعضاء الجماعة اليهودية الذين لا يكترثون بالدين أيضاً، أي أن الرقعة المشتركة هنا هي التخلي عن الهوية الدينية وتَقبُّل الآخر داخل إطار الهوية العلمانية الجديدة.
كل هذا مختلف عما حدث في أمريكا اللاتينية؛ فالنشاط التجاري ظل موضع ازدراء في حضارة لا تزال قيمها الأساسية أرستقراطية إقطاعية، كما ظلت المنافسة ومراكمة الثروة تحملان إيحاءات سلبية مظلمة. وقد بدأ التصنيع في وقت متأخر وحقق اليهود حراكاً اجتماعياً لا بأس به من خلال تزايد معدلات التصنيع. ولكن، مع هذا، ظلت المكانة في المجتمع والانتماء إلى النخبة يُحدَّدان بمعايير تقليدية مثل الحسب والنسب وما شابه.
لكل ما تقدَّم، ظهرت الاختلافات بين الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة والجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية. فيهود الولايات المتحدة، بغض النظر عن أصولهم الإثنية والعرْقية والدينية، أصبحوا جماعة واحدة، ومن هنا نستخدم صيغة المفرد للإشارة إليهم. وتوجد جيوب هنا وهناك مثل اليهود الأرثوذكس (في وليامزبرج) الذين يتحدثون اليديشية، ولكن مقدرة المجتمع الأمريكي الامتصاصية الفائقة تتبدى في تحويل مثل هؤلاء إلى منظر يشاهده السياح، أي «فُرْجَة» ، وبالتالي تهميشهم تماماً، وقد اندمج اليهود في مجتمعهم اندماجاً مدنياً وبنيوياً وتَقبُّلهم المجتمع على أساس تقبُّلهم الفكرة العلمانية الديموقراطية الأساسية.(12/81)
أما يهود أمريكا اللاتينية، فلم تُطرَح أمامهم أسطورة قومية علمانية يمكنهم المشاركة فيها، إذ أن الفكرة السائدة كانت تستبعدهم. كما أن المؤسسات القومية لم تصبغهم بصبغتها، فاستمروا ينتمون إلى هوياتهم القديمة، وهو ما أدَّى إلى انقسامهم. ولم تكن هناك قنوات ديموقراطية يمكنهم التأثير من خلالها، أي أن المجتمع المضيف عزل نفسه عنهم، فقاموا هم بعزل أنفسهم عنه. ومن ثم، عزلت كل جماعة يهودية نفسها عن الجماعات اليهودية الأخرى، وظلوا جماعة وظيفية وسيطة محصورة في دور اقتصادي محدَّد ومُستبعَدة من النخبة الحاكمة. وقد حقق أعضاء الجماعة اليهودية نجاحاً اقتصادياً، ولكنهم مع هذا احتفظوا بهامشيتهم. ورغم كل هذا الاستبعاد، فإن مجتمعات أمريكا اللاتينية لم ترفض الزواج المختلط مع اليهود. ومن هنا نجد أنه، مع تَزايُد عدد الشباب اليهودي في الجامعات، تتزايد نسبة الزواج، الأمر الذي ينتج عنه الانصهار الكامل وليس الاندماج.
وكل هذه الفروق تبين أن ثمة نموذجاً تفسيرياً واحداً وأساسياً، وهو أن كل جماعة يهودية توجد داخل محيطها وتكتسب هويتها منه. وقد ذهب أحد الدارسين إلى القول بأن يهود أمريكا بروتستانت بينما يهود أمريكا اللاتينية كاثوليك. فيهود أمريكا البروتستانت قد قبلوا بالعلمانية، وقبلوا أن يتراجع الدين، وقبلوا قيم العملية والمرونة والبرجماتية، كما قبلوا بالإصلاح الديني، فانكمشت اليهودية الأرثوذكسية واكتسحتهم اليهودية الإصلاحية والمحافظة وأخيراً التجديدية.
أما في أمريكا اللاتينية، فلا تزال الحاخامية ترفض الإصلاح الديني، تماماً كما يرفض بعض أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية أية إصلاحات، ومن ذلك الإصلاحات التي أدخلتها كنيسة روما نفسها. ولقد تم تشبيه هيمنة الحاخامية على المقبرة اليهودية، وعلى قرار من يُدفَن فيها ومن لا يدفن، بسيطرة الكنيسة الكاثوليكية على عملية الخلاص التي لا يمكن أن تتم خارج الكنيسة.(12/82)
وهناك نقطة اختلاف أخرى، وهي أن أمريكا اللاتينية منطقة نزوح بالنسبة لليهود، بينما لا تزال الولايات المتحدة بالنسبة إليهم نقطة الجذب الأساسية. ولكن، ورغم هذا الاختلاف، فإن الهجرة إلى إسرائيل من كلتا المنطقتين تكاد تكون منعدمة، وإن كان ذلك لأسباب مختلفة، فاليهود في الولايات المتحدة لا يحتاجون إلى الهجرة بعد تحقيقهم المستويات المعيشية المرتفعة، أما يهود أمريكا اللاتينية فلا يهاجرون إلى إسرائيل لأن الولايات المتحدة هي نقطة الجذب الأساسية بالنسبة لهم.(12/83)
ولكن ينبغي الإشارة إلى أن معدلات العلمنة آخذة في الارتفاع في أمريكا اللاتينية، حيث يتضح هذا في ظهور العقائد العلمانية ذات الديباجات الدينية والعقائد شبه الدينية التي لا تختلف بنيتها عن بنية الفكر العلماني، مثل الماسونية والبهائية والربوبية، كما يُلاحَظ تزايد انتشار البروتستانتية. وكما هو مُتوقَّع، ترتفع بالتالي معدلات العلمنة بين الجماعات اليهودية وينضم أعضاؤها بأعداد متزايدة إلى المحافل الماسونية والمعابد البهائية ويظهر بينهم الفكر الربوبي. كما أن النادي اليهودي، وهو التعبير عن تزايد معدلات العلمنة والانصراف عن الدين وشعائره، آخذ في الانتشار. والواقع أن النادي اليهودي يحقق لأعضاء الجماعات اليهودية شيئاً مماثلاً لما حققته الدولة في الولايات المتحدة لأعضاء الجماعة اليهودية فيها، أي الاحتفاظ بقشرة إثنية سطحية لا علاقة لها بالدين أو لها علاقة واهية بالدين وتضمر معدلات علمنة هائلة. ففي النادي اليهودي، سيجد يهود أمريكا اللاتينية بعض الرموز اليهودية الإثنية أو الدينية التي ليس لها مضمون أخلاقي مُلزم، وإلى جوار ذلك سيجدون حمامات السباحة الضخمة وقاعة الديسكو والبلاجات التي تجلس فيها النساء (اليهوديات اسماً) يرتدين مايوهات عصر ما بعد البكيني (على حد قول أحد الحاخامات) . وينخرط اليهود في أسلوب حياة علمانية كاملة مكرسة للاستهلاك والحرية الجنسية وغير الجنسية.(12/84)
ولعل أهم جوانب هذه الظاهرة هو انتشار البروتستانتية في أمريكا اللاتينية (زاد عدد البروتستانت من 2.5 مليون في الثلاثينيات إلى 15 مليوناً في الستينيات ثم إلى 40 مليوناً في الثمانينيات، وهو ما يمثل حوالي 10% من مجموع السكان، وتصل هذه النسبة إلى 20% في جواتيمالا، و25% في البرازيل، و17% في شيلي، و10% في الأرجنتين) . وهذا يعني تزايد النفوذ الأمريكي والتعاطف مع الثقافة الأمريكية، ولكنه يعني في الوقت نفسه المزيد من تقبُّل الجماعات اليهودية والدولة الصهيونية.
والواقع أن البروتستانتية التي تنتشر في أمريكا اللاتينية هي من النوع المتطرف، أو الأصولي أو الحرفي، الذي يؤمن إيماناً حرفياً بما جاء في العهد القديم وبأن صهيون هي دولة إسرائيل. ولذا، تتنبأ الصحف الإسرائيلية بأن هذا التعاطف قد يترجم نفسه إلى مزيد من التأييد للدولة الصهيونية. ولكننا من ناحيتنا، نرى أن تناقص أعداد اليهود قمين بأن يجعل كل هذه الظواهر غير ذات موضوع في المستقبل البعيد.
الأرجنتين
Argentina
انظر: «أمريكا اللاتينية» .
البرازيل
Brazil
انظر: «أمريكا اللاتينية» .
الباب الخامس عشر: جنوب أفريقيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا
جنوب أفريقيا
South Africa
تُعَدُّ الحقيقة الأساسية بالنسبة لأعضاء الجماعة اليهودية في جنوب أفريقيا أن المجتمع الذي ينتسبون إليه مجتمع استيطاني مبني على الفصل بين الأعراق والقوميات، فهذه الحقيقة هي التي تحدد علاقة أعضاء الجماعة بمجتمع الأغلبية وبالعالم الخارجي وبأنفسهم.(12/85)
وتعود أصول الجماعات اليهودية في جنوب أفريقيا إلى النشاطات الاستيطانية الغربية الأولى، فقد كان أثرياء اليهود السفارد في هولندا من المساهمين في شركة الهند الشرقية الهولندية التي أسست المُستوطَن الأبيض عام 1652. وتظهر أسماء يهودية في سجلات المستوطنين الأوائل. ولأن الشركة لا تسمح بتوطين أو توظيف غير البروتستانت، فإن الاحتمال الأكبر أنهم يهود من شرق أوربا (من يهود اليديشية) تنصَّروا حتى تتاح لهم فرصة الاستيطان والحراك الاجتماعي. ولم يبدأ استيطان اليهود إلا بعد عام 1803 تحت حكم الجمهورية الباتافية (كما كانت تُعرَف الجمهورية التي أسسها نابليون في هولندا) التي أعتقت اليهود ومنحتهم حقوقهم السياسية. وقد جاء اليهود في بداية الأمر من إنجلترا وألمانيا وكوَّنوا جماعة يهودية صغيرة ثرية مندمجة في محيطها الحضاري يتحدث أعضاؤها الإنجليزية، ولم يكن الانتماء الديني لأعضاء الجماعة قوياً.
ومع منتصف النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتزايد معدلات النمو الصناعي في جنوب أفريقيا، في الفترة التي تزامنت مع فترة تعثُّر التحديث في شرق أوربا، بدأت تفد أعداد كبيرة من يهود اليديشية من ليتوانيا وبولندا بعد عام 1890. وكما هو الحال دائماً، لم يستقبل أعضاء الجماعة اليهودية القدامى المهاجرين الجدد بالترحاب، بل نشأت حزازات بينهم، ووقعت انقسامات دامت بعض الوقت بسبب الاختلاف الثقافي والعرْقي والديني بين القدامى المتحدثين بالإنجليزية ويهود اليديشية. ومع هذا، تشابك مصير الجماعتين في نهاية الأمر، ولم يَعُد بإمكان اليهود الناطقين بالإنجليزية تجاهُل المهاجرين الجدد، كما لم يَعُد بالإمكان الامتناع عن تقديم يد المساعدة لهم إذ كان بقاء هؤلاء الوافدين غير مُستوعَبين قابلاً لإحداث توترات في المجتمع تكتسح مختلف أعضاء الجماعة في طريقها.(12/86)
شكَّل المهاجرون الجدد الأغلبية العظمى التي بلغت 70% بعد وقت قصير، وكان على المهاجرين أن ينجحوا في امتحان قراءة وكتابة إحدى اللغات التي تُكتَب بالحروف الأوربية. لكن اليديشية صُنِّفت كلغة أوربية رغم أنها تُكتَب بالعبرية، أي آسيوية، وذلك لتشجيع هجرة البيض. وكان معدل الهجرة يتفاوت. ففي عام 1903، بلغ عدد المهاجرين 4265 مهاجراً، أما عام 1936 فبلغ عددهم 3.330 مهاجراً، ومع استيلاء النازيين على الحكم في ألمانيا انخفض العدد عام 1937 إلى 954 مهاجراً بسبب القوانين التي حدت من قبول المهاجرين والتي أصدرتها كثير من الدول الغربية، من بينها الولايات المتحدة، والتي حذت جنوب أفريقيا حذوها.(12/87)
وكان عدد اليهود لا يزيد على أربعة آلاف عام 1880، زاد إلى 38.101 عام 1904 (3.41% من السكان البيض) ، ووصل إلى 90.645عام 1936، أي 4.52% من السكان البيض، وهذه أعلى نسبة بلغها أعضاء الجماعة اليهودية. وقد هبطت النسبة إلى 4.11% عام 1951. وكان عدد اليهود 108.497، ثم هبطت النسبة بعد ذلك إلى 3.62% عام 1960، حينما بلغ عدد أعضاء الجماعة 114.762، ثم وصلت نسبتهم إلى 2.6% من عدد السكان البيض و0.4% من مجموع السكان (البالغ عددهم 31 مليوناً) حين بلغ عددهم 120 ألفاً عام 1989. ويبلغ يهود جنوب أفريقيا في الوقت الحاضر (1992) 100 ألفاً من مجموع السكان البالغ عددهم 40.774.000، أي أن نسبتهم هي 0.25% (ويذهب مصدر إحصائي آخر لعام 1995 إلى أن عدد اليهود في جنوب أفريقيا 114 ألفاً) .ويعود هذا التناقص إلى أن معدل زيادة أعضاء الجماعة اليهودية كان آخذاً في التراجع، بينما كان معدل زيادة السكان البيض آخذاً في الصعود. فقد كان السكان البيض يزدادون بنسبة 2.26%، ولم تكن نسبة الزيادة بين اليهود تتجاوز 1.77% في الفترة من 1936 إلى 1960. وفي الفترة من 1950 إلى 1960، كانت نسبة زيادة اليهود نصف نسبة زيادة السكان البيض. ويعود تناقص أعداد اليهود إلى الأسباب التالية:(12/88)
1 ـ يُلاحَظ أن معدل نسبة المواليد بين أعضاء الجماعة أقل من المعدل بين الأقلية البيضاء، وهذا بدوره يعود إلى انخفاض نسبة الخصوبة بين اليهود لعدة أسباب من بينها عدم الإحساس بالأمن (وقد وُصفت الجماعة اليهودية بأنها أكثر الأقليات عصبية وتوتراً في العالم) وتركُّزهم في المدن حيث بلغ عددهم 57.490 في جوهانسبرج و25.650 في كيب تاون (أي 83% حسب إحصاء أوائل السبعينيات) . كما اختفت الجماعات الريفية تقريباً ولم يبق سوى ثلاثة آلاف يهودي خارج المدن. ومعدل التكاثر بين سكان المدن عادةً ما يكون أقل من نظيره بين سكان الريف، وخصوصاً إذا عرفنا أن أعضاء الجماعة اليهودية من أكثر الجماعات الدينية أو العرْقية ثراء في العالم، فثمة علاقة تناسب عكسي بين ارتفاع الدخل ونسبة المواليد. وكذلك، فإن معدلات الطلاق بينهم مرتفعة جداً، حيث تنتهي 33% من الزيجات بالطلاق، كما أن ضعف مؤسسة الأسرة يؤثر على نسبة المواليد أيضاً.
2 ـ تناقص عدد المهاجرين إلى جنوب أفريقيا. ومن المعروف أن يهود روسيا وأوكرانيا وغيرهما من دول الكومنولث (بعد تفكك الاتحاد السوفيتي) يتجهون أساساً إلى الولايات المتحدة أو إسرائيل. ومع هذا، تجدر الإشارة إلى أنه، منذ عام 1948 حتى الوقت الحالي، هاجر إلى جنوب أفريقيا من إسرائيل نحو 20 ألف إسرائيلي، كما هاجر إليها كثير من يهود زمبابوي بعد استقلالها. ويبدو أنها نسبة غير مهمة ولم تؤثر كثيراً في البنية السكانية للجماعة اليهودية، فحتى عام 1936، ومع وجود هجرة من الخارج، كان نصف يهود جنوب أفريقيا من المولودين خارجها. أما في الوقت الحالي، فإن الأغلبية العظمى من مواليد جنوب أفريقيا.(12/89)
3 ـ يُلاحَظ تزايد نسبة النزوح عن جنوب أفريقيا بين أعضاء الجماعة اليهودية ابتداءً من الستينيات، وذلك مع بداية حركة المقاومة السوداء ضد الحكم العنصري. وقد هاجر في العقدين الماضيين ما بين 20 و30 ألف يهودي، كما هاجر بين عامي 1985 و1986 نحو 64 ألف يهودي من جنوب أفريقيا إلى أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة، ولم يذهب منهم سوى أربعمائة إلى إسرائيل. كما يُلاحَظ أن معظم المهاجرين من الشباب، ويُقال إنه لا توجد أسرة واحدة لم يهاجر أحد أبنائها من الشباب. وربما كان أحد أسباب إحجامهم عن الاستيطان في إسرائيل، عدم الرغبة في تأدية الخدمة العسكرية.
4 ـ يُلاحَظ أن العناصر الشابة المهاجرة هم عادةً من ذوي الكفاءات العالية الذين يمكنهم أن يحققوا حراكاً اجتماعياً في مجتمعات أخرى. ويُلاحَظ أيضاً أن نسبة كبيرة من العناصر الشابة المهتمة بهويتها اليهودية، أي الصهاينة، تهاجر إلى إسرائيل. كل هذا يعني أن الجماعة اليهودية بدأت تفقد القيادات اللازمة وعناصر التماسك الداخلي، كما أن المتوسط العمري أخذ يزداد حتى أن أكثر من 20% من أعضاء الجماعة ممن تجاوز الستين.(12/90)
5 ـ تزايدت معدلات الاندماج والعلمنة بين أعضاء الجماعة اليهودية، ويتجلى ذلك في تزايد معدلات الطلاق حيث تنتهي زيجة من كل ثلاث بالطلاق، كما يتجلى في معدل الزواج المختلط الذي وصل إلى 16%، وهو معدل مرتفع بمقاييس جنوب أفريقيا رغم انخفاضه مقارناً بمعدل الزواج المُختلَط في الولايات المتحدة على سبيل المثال. وربما لم تزد النسبة عن ذلك لأسباب ترجع إلى حركيات مجتمع جنوب أفريقيا بغض النظر عن مدى تماسك أو ضعف الجماعة اليهودية في حد ذاته. ومن بين هذه الأسباب أن ثقافة المهاجرين لا تزال ذات فعالية في جنوب أفريقيا على عكس ما يحدث في الولايات المتحدة. فالمناخ الثقافي العام في جنوب أفريقيا، والذي يشجع على عزل الجماعات الإثنية والعرْقية الواحدة عن الأخرى، ساهم في إبطاء عملية الاندماج. كما أن في جنوب أفريقيا لا توجد فيها ثقافة موحَّدة فهناك تنافس دائم بين الثقافة الهولندية (الأفريكانز) والثقافة الإنجليزية، الأمر الذي أتاح لليهود فرصة الحفاظ على شيء من الهوية، فلم يمارس أحد الضغط على اليهودي ليسقط هويته كما حدث في الولايات المتحدة حيث نجد أن أسطورة بوتقة الصهر التي كانت سائدة في المجتمع، شجعت اليهود على التخلص من ثقافتهم بأسرع ما أمكن (ومن ذلك الثقافة اليديشية) واكتساب الثقافة الأنجلو أمريكية وعلى التأمرك الكامل. فالحراك في الولايات المتحدة كان ولا يزال مرتبطاً بالاندماج والانصهار، على خلاف جنوب أفريقيا حيث يمكن تحقيق الحراك مع الاحتفاظ بالهوية. وربما كان هذا من الأسباب التي ساعدت على استمرار اليديشية بعض الوقت. ومع هذا، يجب الإشارة إلى أن مجتمع الأغلبية، رغم تشجيعه الفصل بين الأعراق والأقليات والأقوام، لم يعترف بأعضاء الجماعة اليهودية إلا باعتبارهم بيضاً، وهو ما يعني أنهم كان عليهم الاختيار بين هوية الأفريكانز (الهولندية) والهوية الإنجليزية. وقد اختار عدد صغير من أعضاء الجماعة اليهودية الهوية(12/91)
الأولى واختارت أغلبيتهم العظمى الهوية الإنجليزية. ولا شك في أن هذا سيساعد على انصهار من بقي من أعضاء الجماعة اليهودية، الأمر الذي سيزيد معدلات الاندماج.
وبالفعل، فإن من كان يتحدث اليديشية لم يكن يتجاوز17.861 عام 1936، وانخفض هذا العدد ليصبح 9.970معظمهم من كبار السن عام 1951. بل يبدو أن اليديشية قد اختفت تقريباً في جنوب أفريقيا، فلا توجد أية إشارات إليها في صحف أعضاء الجماعة اليهودية أو مجلاتهم. وصورة الشباب اليهودي الآن هي بعامة صورة شباب يتباهى بيهوديته، ولكنه لم يستوعب أي شيء مما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» أو «الثقافة اليهودية» . فالثقافة التي تشرَّبها والمعايير التي تبناها هي في الجوهر ثقافة ومعايير الناطقين بالإنجليزية.
كل العناصر السابقة دعت بعض المحللين إلي التنبؤ بأن عدد أعضاء الجماعة اليهودية لن يزيد عن 64 ألفاً مع نهاية القرن الحالي. والجماعة اليهودية في جنوب أفريقيا، بهذا المعنى، تنضوي تحت هذا النمط اليهودي العام الذي يُطلَق عليه «موت الشعب اليهودي» .
ويُلاحَظ أن يهود جنوب أفريقيا من الإشكناز أساساً، وإن كانت توجد جماعة سفاردية صغيرة في كيب تاون. وأكبر تركُّز يهودي في الترنسفال (65% من كل أعضاء الجماعة) في منطقة جوهانسبرج، إذ تضم مدينة جوهانسبرج وحدها 63.620 يهودياً، أي أكثر من نصف يهود جنوب أفريقيا.(12/92)
لعب أعضاء الجماعة اليهودية من الإنجليز دوراً مهماً في تطوير القطاعين الزراعي والصناعي في اقتصاد استيطاني مبتدئ، فساهموا بخبرتهم في توثيق الصلات الاقتصادية بين الكيب وبريطانيا عن طريق إنشاء المراكز التجارية والمصرفية وتنظيم النقل البحري، واهتموا أيضاً بتربية الماعز لنسج الموهير والمواشي عامة لصوفها وجلدها، وبرعاية النعام وصيد الفقم والحيتان والأسماك. وكان يهود الكيب بين أول العناصر الاستيطانية النشيطة التي اتجهت إلى حقول الماس والذهب فور اكتشافها وكوَّنوا ثروات سريعة من ورائها. أما يهود اليديشية، فكانوا يستقرون بعض الوقت في كيب تاون، ثم ينطلقون نحو المناطق الريفية أو المدن الجديدة باعة جائلين أو مقيمين وحرفيين في قطاع الخياطة وصناعة الأحذية والتجارة والبناء. وكان ميراثهم الاقتصادي هو الذي يحدد نوع الحرف التي يختارونها.
وقد أصبح أعضاء الجماعة اليهودية من رواد بعض الصناعات المحلية، مثل الفولاذ والزجاج والمعلبات والأنسجة والملابس والسلع الجلدية والمفروشات، التي تتسم معظمها بقربها من المستهلك، أي أنها ليست في مراحل الإنتاج الأولى. كما أن الأجيال الجديدة من اليهود ساهمت منذ الحرب العالمية الثانية في الصناعات الدقيقة مثل المعدات الإلكترونية والهندسية، أو في المشروعات الضخمة مثل تخطيط المدن وبناء المجمعات السكنية والإدارية. وبرزت هذه الأجيال من اليهود في تأسيس شركات التأمين والإعلانات ووسائل التَرْفيه والفنادق والتموين والاستيراد والتصدير. ورغم عدم تواجدهم الآن، إلا بأعداد ضئيلة للغاية في القطاع الزراعي، فقد كان لهم دور فعال في إدخال التقنيات العلمية الحديثة على هذا القطاع.(12/93)
ويأخذ الحراك الاجتماعي للمهاجرين اليهود عادةً شكل التحرك من التجارة إلى الصناعة الخفيفة ومنها إلى المهن الحرة. وهذا ما حدث في جنوب أفريقيا، إذ يوجد من اليهود عدد كبير في المهن الحرة (الطب والقانون والمحاسبة والهندسة والجامعات) .
ويُلاحَظ تركز أعضاء الجماعة اليهودية في قطاعات اقتصادية بعينها، وغيابهم عن البعض الآخر، فنجد أن 49% من أعضاء الجماعة اليهودية يوجدون في قطاع التجارة مقابل 22% من البيض، و25% في قطاعات الخدمات مقابل 23% من البيض، و17% في الصناعة مقابل 18% من البيض، أي أن 91% من أعضاء الجماعة اليهودية مركزون في قطاعات بعينها مقابل 63% من البيض. ويظهر التفاوت الشديد في قطاعي الزراعة والمناجم إذ لا يتواجد أعضاء الجماعة اليهودية فيها إلا بنسبة 1.9% بينما نجد أن نسبة البيض من غير اليهود تصل إلى 15%. ويجب ملاحظة أن الفئة الصغيرة التي تعيش من الزراعة تضم في صفوفها ملاك مزارع البطاطا والذرة من اليهود، كما يضم قطاع المناجم الكوادر الإدارية اليهودية العاملة فيه، وهو ما يعني أن تمثيل أعضاء الجماعة اليهودية في هذين القطاعين أقل من 1.9%. وبطبيعة الحال، لا يوجد تمثيل يهودي بين السود، ولا بين الفلاحين أو المزارعين، ولا بين العمال، أي أن أعضاء الجماعة اليهودية مركزون أساساً في صفوف الطبقة الوسطى البيضاء. وقد انخرطوا في سلكها تماماً وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ منها، بمعنى أنهم فقدوا سمة الجماعة الوظيفية. ولكن، مع هذا، تجب الإشارة إلى أن الطبقة الوسطى في جنوب أفريقيا طبقة وسطى استيطانية، وهو ما يجعلها ذات سمات خاصة، فعلاقتها بالطبقة العاملة السوداء تختلف تماماً عن علاقة الطبقة الوسطى في بلد مثل فرنسا مع الطبقة العاملة فيها. فالجيوب الاستيطانية الغربية كلها جيوب وظيفية تلعب دوراً حيوياً ومهماً في استغلال المناطق التي توجد فيها لصالح العنصر الأبيض المهيمن الذي يدين بالولاء للحضارة الغربية،(12/94)
وليس لديه أي نزوع قومي محلي. ومن ثم، فهي لا تحمل فكراً قومياً، وتحاول أن توقف عمليات التحديث بالنسبة للسكان الأصليين.
ورغم انتماء أعضاء الجماعة اليهودية إلى الطبقة الوسطى، ورغم أنهم يشكلون أكثر أقليات العالم ثراءً، فإنهم ليسوا جميعاً (بطبيعة الحال) من الأثرياء، إذ يوجد في صفوفهم الفقراء. وقد جاء في إحدى الإحصاءات أن عُشر العائلات اليهودية في كيب تاون احتاجت إلى مساعدة مالية عام 1968.
ويَقْرن المستوطنون البيض بين المستوطنين الصهاينة وأنفسهم، كما يقرنون بين الشعب اليهودي والشعب المستوطن في جنوب أفريقيا، فهم يرون أن اليهود، مثلهم، شعب مختار يحمل رسالة خالدة، وأن كلا الشعبين غُرس غرساً في أفريقيا أو آسيا دفاعاً عن هذه الرسالة. كما يرى البيض أن المستوطنين الصهاينة يبذلون أقصى جهدهم للاحتفاظ بعزلتهم عن السكان الأصليين. ولعل تغلغل الأساطير والرموز التوراتية في الخطاب الاستعماري الاستيطاني (اليهودي وغير اليهودي) يظهر بشكل واضح في جنوب أفريقيا. فهم يحتفلون بيوم الميثاق في 16 ديسمبر من كل عام، إذ يعتبرونه اليوم الذي عقد الإله فيه ميثاقه مع بعض الأفريكانز (الفورتركر Voertrekker) الذين آثروا الاستقلال عن الإنجليز. وقد عُقد الميثاق قبل المواجهة التي تمت بين البيض والسود في معركة نهر الدم. وقد أصبحت المعركة رمزاً لكل الأفريكانز. ويُعقد الاجتماع في مكان يوجد فيه تلٌّ عال تُبنَى عليه سفينة ضخمة (ترمز لسفينة العهد) تواجه بريتوريا، فكأن هذا المكان هو قدس الأقداس لقومية الأفريكانز.(12/95)
ولقد وصف أحد المفكرين البيض في جنوب أفريقيا أعضاء الجماعة اليهودية بأنهم شعب الأبارتهايد، أي التفرقة اللونية. ويُصنَّف أعضاء الجماعة اليهودية، كما تقدَّم، باعتبارهم شعباً أبيض البشرة غربياً، وقد ساهمت هذه الرؤية في تعميق اندماج اليهود بحيث أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من مجتمعهم الاستيطاني وأصبحوا من أكثر قطاعاته استفادةً من وضع عدم التكافؤ الذي يسود مجتمع التفرقة اللونية، وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ من البنية الاقتصادية المهيمنة في مجتمع جنوب أفريقيا، وارتبط مصيرهم بمصير الجماعة البيضاء. وقد انعكس ذلك على مشاركتهم في النظام السياسي إذ لا يوجد صوت يهودي متميز، فحين يرشح أحد أعضاء الجماعة اليهودية نفسه لمنصب ما فهو عادةً ما يعتمد على أصوات غير اليهود وعلى دعمهم إلى درجة كبيرة. ومعظمهم يمثل الناخبين البيض من سكان المدن على المستوى الوطني. وحينما يلعب اليهود دوراً أساسياً في إيصال أحد أعضاء الجماعة إلى مجالس المقاطعات أو المدن، وذلك في الحالات الشاذة التي يوجد فيها أعداد كبيرة من الناخبين تكفي لتحديد نتيجة المعركة الانتخابية، فإنهم يفعلون ذلك باستمرار ضمن إطار سياسة البيض، وبوصفهم أعضاء في أحزاب سياسية تقتصر على البيض لا باعتبارهم يهوداً. وهناك أعضاء يهود في البرلمان وشيوخ ومستشارو مقاطعات ومدن، ولكن الأغلبية العظمى منهم قد انتُخبوا، من قبَل ناخبين بيض، ممثلين للحزب الموحد وحزب العمال والحزب التقدمي. وفي الفترة التي سُمح فيها للسود بتمثيل شكلي في المناصب التشريعية على المستويين الوطني والإقليمي، عن طريق أعضاء بيض، انتخب السود لتمثيلهم أعضاءً يهوداً في الحزب الموحد والحزب الشيوعي والحزب الإصلاحي.(12/96)
ويُلاحَظ تركز أعداد كبيرة من أعضاء الجماعة اليهودية في الأحزاب التي تتنافس مع الحزب الوطني الحاكم وتعارضه، ولكن معارضتها تنصرف إلى الطريقة التي يتم بواسطتها الحفاظ على السيطرة البيضاء ولا تشمل مبدأ السيطرة نفسه. ولكن يمكن تفسير هذا أيضاً بالعودة إلى وضع أعضاء الجماعة اليهودية في جنوب أفريقيا، فموقفهم الليبرالي انعكاس للتركيبة الاجتماعية الاقتصادية لسكان جنوب أفريقيا من اليهود. ودعمهم للمعارضة البرلمانية هو تعبير عن انتمائهم إلى القطاع الذي يتحدث الإنجليزية وعن تركزهم في المناطق الحضرية، وعن أنهم يقعون ضمن مجموعات الدخل الأعلى. وقد استمدت أحزاب المعارضة البرلمانية الدعم من هذه القطاعات البيضاء التي ينتمي إليها اليهود.
ولقد شهدت فترة أواخر الأربعينيات جفاء واضحاً بين الحزب الوطني والجماعة اليهودية. فالحزب الوطني كان حزباً نازياً ذا صلات نازية واضحة، وكانت معاداته لأعضاء الجماعة اليهودية واضحة إذ تبنَّى سياسة معادية لهجرتهم إلى جنوب أفريقيا في الثلاثينيات، كما كان يرفض عضويتهم في بعض المناطق. ورغم كل هذا، فقد حدث تقارب يستند إلى التعهد الضمني لليهود بعدم استنكار سياسة التفرقة اللونية مقابل أن يضمن الحزب مصالحهم واندماجهم وتمتعهم بمزايا التفرقة اللونية مع بقية السكان البيض.
وبشكل عام، يمكن القول بأن الجماعة اليهودية في جنوب أفريقيا جماعة صغيرة ليست لها أهمية ذاتية، وأنها مندمجة في المجتمع الأبيض ومعتمدةٌ عليه بينما لا يعتمد هو عليها في شيء، كما أنه لا يحتاج إليها بمقدار احتياجها إليه وإلى مؤسساته لتضمن لنفسها البقاء.(12/97)
وقد انعكس هذا على موقف الجماعة اليهودية من كثير من القضايا، فالجماعة اليهودية هناك تؤثر الصمت بشأن قضايا الكفاح ضد التفرقة اللونية. وتُعرِّف المؤسسات اليهودية هناك دورها بأنه يهدف إلى الدفاع عن حقوق أعضاء الجماعة اليهودية وحسب ولا علاقة لها بالقضايا الأخرى (وهذا موقف صهيوني قح) ، فهي تلتزم الحياد تجاهها وتترك لكل يهودي حرية اختيار الموقف الذي يراه. وفي الثلاثينيات، أخذ كثير من أعضاء الجماعة اليهودية موقفاً عنصرياً ضد الهنود ولا يزال موقفهم من السود لا يختلف في أساسياته عن موقف البيض. ولذا، التزمت الجماعة الصمت عام 1957 عندما صدر قانون يحظر كل تَجمُّع مختلط بين البيض والسود، حتى ولو كان التجمع لهدف ديني في كنيسة مثلاً. وقد احتج معظم رجال الدين من أنجليكان وكاثوليك وبروتستانت، حتى رؤساء الكنيسة الهولندية الإصلاحية. ولم يعترض رجال الدين اليهودي لأن الأمر لا يعنيهم، إذ لا يوجد يهود سود أو ملونون أو آسيويون في جنوب أفريقيا. وكذلك لم تتفوه المؤسسة اليهودية بكلمة عندما وقعت مجزرة شاربفيل، وقد تذرعوا بالمنطق نفسه. ولكنه منطق يتسم بالخلل. فممثلو الجماعة يعارضون الشيوعية ويصفون العنف الأسود بأنه عمل تخريبي، ويعلنون إخلاصهم للنظام القائم في جنوب أفريقيا وللصهيونية وإسرائيل، وهم يفعلون ذلك كجماعة، أي أن لهم مواقف سياسية واضحة أكيدة.(12/98)
وهذا الموقف تدعمه المنظمة الصهيونية ويعمقه تزايد صهينة الجماعة اليهودية. وقد لاقت الصهيونية معارضة في بداية الأمر في العشرينيات من الشيوعيين ودعاة اليديشية وغيرهم، ولكنها اكتسحت الجماعة اليهودية تماماً بسبب طبيعة تكوين المجتمع باعتبار أن الصهيونية عقيدة استيطانية تشبه تجربة التفرقة اللونية. بل يُلاحَظ أن أهم المؤسسات اليهودية في جنوب أفريقيا هي المنظمة الصهيونية التي أصبحت تمثل المظلة التي تستظل بها المنظمات والمؤسسات اليهودية الأخرى. والصهيونية تعمق ولا شك من اندماجهم وتزودهم بإطار عقائدي يقرِّب بينهم وبين أعضاء المجتمع الاستيطاني ويصلح أساساً للقاء بينهم وبين مجتمع الأغلبية.
وللظاهرة نفسها نتائج متناقضة مع سابقتها. فعلى سبيل المثال، يتحقق المثل الصهيوني الأعلى بالهجرة الاستيطانية إلى فلسطين، ولكن جنوب أفريقيا نفسها مجتمع استيطاني يتبدى الانتماء إليه في شكل عدم الهجرة منه. ولذا، فإن الصهيونية هنا تعبير عن ولاء مزدوج حقيقي لوطنيين استيطانيين. وقد اتهمت بعض الأوساط يهودَ جنوب أفريقيا بأنهم يؤثرون مصلحة إسرائيل على مصلحة وطنهم. وربما، لهذا السبب، يمكن أن نقول إن صهيونية يهود جنوب أفريقيا صهيونية توطينية بالدرجة الأولى، تأخذ فقط شكل إرسال مساعدات مالية إلى إسرائيل. وبالفعل، نجد أن يهود جنوب أفريقيا أكثر يهود العالم إسهاماً في المساعدات المالية ولكنهم لا يتباهون كثيراً بأعداد المهاجرين إلى إسرائيل بل يخفونها عن الأنظار.(12/99)
ومن المشاكل الأخرى، التي يواجهها يهود جنوب أفريقيا، مشكلة موقف إسرائيل من جنوب أفريقيا. فرغم ارتباط المصالح وتزايد العلاقات، قررت إسرائيل في الستينيات تحسين علاقاتها مع الدول الأفريقية كمحاولة لفك الحصار العربي حولها، فكانت تدلي بصوتها في هيئة الأمم ضد جنوب أفريقيا، الأمر الذي خلق توتراً بين الدولة وأعضاء الجماعة. وهذا تعبير عن نمط متكرر، فللدولة الصهيونية مصالحها التي تتجاوز مصالح أعضاء الجماعات اليهودية بل تتناقض معها أحياناً. وحينما تصل الدولة الصهيونية إلى هذه النقطة، فإنها عادةً ما تسقط الحديث عن إنقاذ اليهود أو رعاية مصالحهم في كل أنحاء العالم، بل تتصرف مثل أية دولة بما تمليه عليها مصالحها. وقد يكون هذا على أية حال ترجمة فعلية لمفهوم «مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا» ، أي أن أعضاء الجماعات ليسوا سوى أداة في يد الدولة، كما أن الدولة لم تُخلَق من أجلهم وإنما أُنشئت كي يقوموا هم على خدمتها.(12/100)
ومن المردودات السلبية الأخرى للعلاقة القوية بين يهود جنوب أفريقيا والصهيونية وإسرائيل أن ارتباط اليهود بالجماعة البيضاء يعني أن مصيرهم ارتبط بمصير هذه الجماعة. ويُلاحَظ أن السكان السود، كما هو مُتوقَّع، يربطون بين إسرائيل وجنوب أفريقيا ويوحدون بينهما، وهو ما ينعكس على موقفهم من أعضاء الجماعة. ولذا، نجد أن القيادات السوداء تتوجه بالنقد إلى أعضاء الجماعة لسكوتهم وحيادهم المزعوم وإسهامهم في سياسة التفرقة اللونية واستفادتهم منها. وقد لاحظنا وجود عدد كبير من أصحاب الأعمال اليهود الذين يستخدمون العمال السود ويطبقون عليهم المعايير السائدة في المجتمع، كما هو مُتوقَّع في مثل هذه الأحوال، وهي معايير عنصرية استغلالية بشكل بشع. كما يُلاحَظ أن أعضاء الجماعة اليهودية، نظراً لثرائهم الشديد وتركُّزهم في التجارة والصناعة، سيتأثرون بشكل عميق لو تغير تركيب المجتمع وسيطرت العناصر السوداء على المجتمع وحققت شيئاً من الحراك أو ما قد يتبع ذلك من تأميم وأفرقة.
ومما يعمق استياء الجماعات السوداء وجود عدد صغير من أعضاء الجماعة اليهودية الذين نشطوا، بوصفهم ضباط بوليس كباراً ومدعين عامين وقضاة، في فرض القوانين العنصرية، أي أن هذه العناصر اليهودية أداة في يد المؤسسة تستخدمها في قمع السود. ولكن لابد من القول بأنهم مجرد أقلية صغيرة هامشية لا تمثل الجماعة اليهودية تماماً مثل تلك العناصر اليهودية الثورية الرافضة للتفرقة العنصرية.(12/101)
ويعود تاريخ هذه العناصر الثورية إلى بداية هذا القرن حين حضرت مع المهاجرين عناصر من حزب البوند ومن دعاة القومية اليديشية وغيرهم ممن يحملون أفكاراً ثورية بل وفوضوية. وقد عارض كل هؤلاء الصهيونية والعنصرية. وبعد اندماج اليهود واختفاء اليديشية تقريباً، ظهرت عناصر ثورية متطرفة يهودية. فعلى سبيل المثال، ثمة وجود يهودي ملحوظ بين مؤسسي الحزب الشيوعي وأعضائه وكثير من الجماعات الثورية التي تُوصَف بأنها تخريبية أو إرهابية والتي تضم أعداداً كبيرة من اليهود تصل نسبتهم فيها أحياناً إلى 50%. ويساهم كثير من الشباب اليهودي الثوري في تنظيم حركة نقابات العمال السود، وكذلك كثير من شخصيات المعارضة من اليهود مثل: هيلين سوزمان (النائبة اليهودية التي انفصلت عن الحزب الموحد لتبنِّيه البرنامج العنصري) ، وسام كاهن (النائب السابق) ، وفرد كارنسون (العضو السابق في مجلس الكيب) . ورغم أن أغلبية أعضاء الجماعات اليهودية ومختلف المؤسسات اليهودية تلتزم الصمت الذي تطلق عليه «الحياد» ، فإن هذه الأقلية الثورية الصغيرة أقلية نشيطة وتسبِّب كثيراً من الحرج لأعضاء الجماعات اليهودية ولقياداتها إذ يطلب المجتمع منهم، وهم تجمُّع مبني على فكرة الجماعات العرْقية والهوية الجمعية، أن يكبحوا جماح الثوريين في صفوفهم. وتنتشر في المجتمع صور عنصرية عن «اليهودي الثوري» و «اليهودي الفوضوي» وهو ما يغذي مشاعر معاداة اليهود، تماماً كما تنتشر في صفوف السود صورة «اليهودي الشرطي» و «اليهودي أداة القمع» .(12/102)
وأغلبية يهود جنوب أفريقيا من الأرثوذكس، إذ تبلغ نسبتهم 80%، وهناك 20% أغلبيتهم من الإصلاحيين وأقليتهم من المحافظين. وربما يرجع هذا إلى أن مجتمع جنوب أفريقيا مجتمع محافظ دينياً، تسيطر عليه كنيسة قومية تتمسك بالتقاليد ولا تحيد عنها. ومن ثم، انعكس هذا على السلوك الديني لليهود وعلى اليهودية كنسق ديني. بل نجد أن اليهودية الإصلاحية تأثرت بالجو المتشدد المحيط بها، فهي تتبع أنماطاً أكثر تقليدية، كما أنها ذات توجُّه صهيوني. ولذا، فهي تهتم بالعناصر الفلكلورية الإسرائيلية من رقص وغناء. وقد أُغلق كثير من المعابد اليهودية في القرى والمناطق الزراعية بسبب تزايد تركُّز اليهود في المدن، وتناقص عددهم، وتزايد معدلات العلمنة، ونزوح أعداد منهم إلى إسرائيل وأستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة بطبيعة الحال.
والمنظمات اليهودية في جنوب أفريقيا تشبه مثيلتها في إنجلترا، وهي مجلس المندوبين South African Jewish Board of Deputies. ويوجد مركزه الرئيسي في جوهانسبرج، وله فروع في عدة مدن أخرى. ويضم المجلس كل المنظمات والهيئات اليهودية، وهو معترف به من قبَل الحكومة، ولكن القيادة الفعلية في يد المنظمة الصهيونية التي تحرك النشاطات اليهودية كافة، ولا توجد عناصر يهودية قوية مناوئة للصهيونية.
وتَصدُر في جنوب أفريقيا عدة مجلات وصحف خاصة بالجماعة اليهودية معظمها بالإنجليزية وبعضها باليديشية ولغة الأفريكانز.
كندا
Canada
دولة في أمريكا الشمالية بدأت كتجمع استيطاني للمهاجرين والمغامرين من أوربا، وهي جمهورية فيدرالية مكوَّنة من تسع ولايات. ورغم أن بضعة أفراد يهود استوطنوا كندا إبّان الاستيطان الفرنسي، فإن استيطان اليهود بدأ مع سقوط كندا في قبضة البريطانيين عام 1759. وقد بلغ أعضاء الجماعات اليهودية 1115 يهودياً حتى عام 1871، و2393 عام 1881.(12/103)
ولكن، مع مرحلة التحديث المتعثر في روسيا والانفجار السكاني بين يهود اليديشية، بدأت تصل أفواج المهاجرين منهم إلى أمريكا الشمالية وتوجهت أغلبيتهم إلى الولايات المتحدة. كما توجهت أعداد منهم إلى كندا، فبلغ عددهم عام 1891 حوالي 6414، وقفز إلى 16.493 مع حلول عام 1901، ثم قفز عام 1911 إلى 75 ألفاً خلال أحد عشر عاماً. وقد زاد عددهم عن طريق الهجرة إلى 156.726 عام 1931، أي 1.51% من عدد السكان. وفي عام 1940، بلغ العدد 167 ألفاً مركزين أساساً في مونتريال حيث يبلغون 63 ألفاً، وفي تورنتو 57 ألفاً.
وقد اندمج المهاجرون في الحياة الثقافية والاقتصادية في كندا بسبب عدم وجود قوانين تميِّز ضدهم أو بنية اقتصادية ترفضهم أورموز لا تشملهم، وبسبب وجود نظام تعليمي علماني قومي جيد. فتجربتهم، في هذا، تشبه تجربة يهود الولايات المتحدة (اليهود الجدد) . ولم يلعب اليهود دوراً فريداً في الحياة الاقتصادية الكندية، وإن كان بناؤهم الطبقي والوظيفي تأثر بعض الشيء بميراثهم الاقتصادي الأوربي، ولعل هذا هو سبب تركُّزهم في صناعة الملابس والفراء والتبغ (ومن هنا ظاهرة البائع المتجول اليهودي في السنوات الأولى بعد الهجرة، وهي ظاهرة لا شك في أنها قد اختفت بين أعضاء الجماعة اليهودية وغيرهم من جماعات المهاجرين) . وقد حقق أعضاء الجماعة اليهودية حراكاً اجتماعياً مدهشاً. ونشرت مؤخراً دراسة إحصائية عن الدخول المالية لستة وسبعين جماعة إثنية مختلفة في كندا، وبيَّنت الدراسة أن متوسط دخل الذكور اليهود في كندا (47 ألف دولار) وهو أعلى دخل حققه أي عضو في أية جماعة إثنية. وقد هاجمت جماعة أبناء العهد (بناي بريت) هذه الدراسة مبينة أنها لا تؤدي إلا إلى الغيرة والتناحر بين الجماعات الإثنية المختلفة.(12/104)
ومن الواضح أن معدلات الاندماج والعلمنة آخذة في التزايد بين يهود كندا، ويرجع هذا إلى صغر حجم الجماعة وإلى تزايد هذه المعدلات في المجتمع نفسه. ففي إحصاء عام 1961، جاء أن 254.386 يهودياً اعتبروا أنفسهم يهوداً على أساس ديني، و173.344 (أي أقل من 31%) عرفوا أنفسهم يهوداً على أساس إثني، أي أنهم يهود لا يؤمنون بالعقيدة اليهودية وإنما يؤمنون بالهوية اليهودية! وبعد عشرة أعوام، تغيَّرت الصورة إذ أصبح المتدينون 267.055 بينما زاد عدد الإثنيين إلى 296.945، أي أن اليهود الإثنيين أصبحوا أكثر من 50%، وهي تشبه النسبة في الولايات المتحدة. ونلاحظ أن أغلبية المتدينين من المحافظين والإصلاحيين، تماماً كما هو الوضع في الولايات المتحدة، الأمر الذي يجعل الأرثوذكس أقلية صغيرة. لكن عدد الأرثوذكس آخذ في الزيادة نتيجة هجرة بعض يهود المغرب العربي. كما أن معدلات الزواج المُختلَط ارتفعت للغاية، وفاقت نظيرتها في الولايات المتحدة، وكان لها أعمق الأثر في الجماعة اليهودية نظراً لصغر حجمها.(12/105)
ويُعدُّ يهود كندا جزءاً من التشكيل الاستيطاني الأنجلو ساكسوني في كندا. ورغم وجود أعداد منهم يتحدثون الفرنسية، فإن الأغلبية العظمى تتحدث الإنجليزية، وضمن ذلك يهود مونتريال التي تضم نحو ثلث اليهود. وقد وَلَّدت الحركة الانفصالية الفرنسية في مونتريال شيئاً من التوتر ليهود كندا، إذ يحاول الانفصاليون، أو دعاة الفرنسة، صبغ المنطقة بالصبغة الفرنسية، وهو الأمر الذي لم يصادف هوىً لدى أعضاء الجماعة اليهودية المصطبغة بالصبغة الأنجلو ساكسونية. ولذا، هاجر من مونتريال في الثمانينيات ما بين 10 و25 ألف يهودي من مجموع 115 ألفاً، حتى أصبحت تورنتو تضم أكبر جماعة يهودية (125 ألفاً) . هذا وتجب الإشارة إلى أن يهود كندا المتحدثين بالفرنسية أغلبيتهم من السفارد المهاجرين من المغرب العربي. وربما يؤدي هذا الوضع إلى تعميق الانقسام بين الجماعة إلى سفارد يتحدثون الفرنسية وإشكناز يتحدثون الإنجليزية. وفي عام 1992، بلغ عدد يهود كندا 356 ألف نسمة من مجموع السكان البالغ عددهم 27.755.000 نسمة. وتتركز غالبية أعضاء الجماعة اليهودية في مدينتي تورنتو: 162.605 ومونتريال: 101.210. وصهيونية يهود كندا من النوع التوطيني لا الاستيطاني، ولذا فإن عدد المهاجرين منهم صغير جداً. ويعاني يهود كندا من ظاهرة موت الشعب اليهودي إذ تتزايد بينهم الهجرة (إلى الولايات المتحدة) . وقد تناقص عدد المهاجرين إلى كندا وتزايدت معدلات الاندماج والزواج المختلط والإحجام عن الزواج والإنجاب. والجماعة اليهودية في كندا مُسنة فـ 17.3% ممن تجاوزوا الـ 65 (مقابل 10.8% على المستوى القومي) و17.5% بين 35 ـ 44 (مقابل 16.2% على المستوى القومي) والمستوى التعليمي ليهود كندا مرتفع جداً فـ 52.1% من بين اليهود في المرحلة العمرية 25 ـ 44 من خريجي الجامعات (مقابل 16.5% على المستوى القومي) .(12/106)
ومن أهم المنظمات اليهودية في كندا المؤتمر اليهودي الكندي Canadian Jewish Congress. وهي المنظمة المركزية للجماعة اليهودية في كندا والجهة التي تمثلهم لدى المؤتمر اليهودي العالمي، وقد تأسَّست عام 1919 وأُعيد تنظيمها عام 1934. ويضم الاتحاد الصهيوني الكندي مختلف المنظمات والتجمعات الصهيونية المختلفة في كندا.
أستراليا ونيوزيلندا
Australia and New Zealand
كان اليهود ضمن أوائل المستوطنين في أستراليا. فقد كان ضمن المجرمين الذين أبعدوا إلى أستراليا، عام 1788، ستة يهود (ويقال ثمانية أو ربما أربعة عشر) من بينهم جون هاريس الذي أصبح أول شرطي فيها! وقد أدَّى اكتشاف الذهب، في منتصف القرن التاسع عشر، إلى زيادة هجرة اليهود.
ولم يكن لأعضاء الجماعة اليهودية معابدهم وتنظيماتها الطائفية الخاصة بهم إلا مع قدوم المستوطنين اليهود الأحرار، الذين كان يوجد بينهم بعض أعضاء العائلات اليهودية البريطانية المرموقة مثل عائلتي روتشيلد ومونتيفيوري الذين قدموا خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن التاسع عشر. وقد تركَّز أكثر أعضاء الجماعة اليهودية في المهن التجارية والحرفية وفي صناعة الملابس وامتلاك وإدارة الحوانيت والفنادق الصغيرة.
ومع بداية القرن العشرين، تغيَّر هذا النمط الوظيفي حيث أصبح أعضاء الجماعة، بعد أن حققوا قدراً أكبر من الحراك الاجتماعي والتعليم، مُركَّزين في الوظائف الإدارية والمكتبية والمهن والأعمال الحرة.(12/107)
وقد جاء 70% من المهاجرين اليهود في الفترة بين عامي 1851 و1880 من ألمانيا، و20% من شرق أوربا. أما في الفترة بين عامي 1880 و1921، فقد جاء 60% من شرق أوربا و30% من ألمانيا. وقد سعى أعضاء الجماعة اليهودية في أستراليا، وخصوصاً الأثرياء منهم، إلى إغلاق أبواب الهجرة أمام اليهود القادمين من شرق أوربا خلال العشرينيات، وذلك خوفاً مما قد تسببه هجرة يهود اليديشية من تهديد لمكانتهم الاجتماعية. ولم يتغيَّر هذا الموقف إلا بعد الحرب العالمية الثانية بعد أن تبنت الحكومة الأسترالية سياسة تسعى نحو زيادة حجم الهجرة القادمة إلى البلاد.
وقد استوطن يهود أستراليا في مجتمع لا يعرف معاداة اليهود، فهو مجتمع جديد علماني استيطاني لا يحارب الدين لأنه لا يكترث به ولا بأية قيمة مطلقة، ويقيِّم الناس بحسب نفعهم ومقدار إنجازهم. ولعل وضع أعضاء الجماعة اليهودية في أستراليا يشبه وضع اليهود الجدد في الولايات المتحدة، فقد طرح المجتمع صورة قومية مركزية كان على اليهود أن يعيدوا صياغة أنفسهم وهويتهم على أساسها، وقد فعلوا ذلك بكفاءة عالية. وساعدهم على ذلك نظام تعليمي كفء للغاية. بل إن عملة الاندماج كانت أسهل هنا لأن عدد اليهود كان صغيراً. كما أنه لا يوجد أي انقسام بينهم، فقد كانت أغلبيتهم من الإشكناز الذين كوَّنوا وحدة واحدة متجانسة.
وقد جرت محاولة لتأسيس مدارس يهودية خاصة بأعضاء الجماعة اليهودية إلا أن هذه المحاولة لم تستمر طويلاً إذ فضَّل أغلب أعضاء الجماعة اليهودية إلحاق أبنائهم بالمدارس البروتستانتية المرموقة التي تتيح أمام أولادهم فرصاً أكبر للحراك الاجتماعي والاندماج داخل المجتمع الاشتراكي. وقد أُعيد تأسيس هذه المدارس في أعقاب تزايد حجم الهجرة اليهودية بعد الحرب العالمية الثانية.(12/108)
وكان عدد اليهود 1183 نسمة عام 1841، وصل إلى 9125 عام 1881، وزاد العدد إلى 17.287 عام 1911، وإلى 23.553 عام 1933، ووصل إلى 70 ألفاً عام 1968. وعلى أية حال، فإنهم لم يشكلوا أبداً أكثر من 0.6% من إجمالي تعداد السكان. وقد وصل عدد الجماعة اليهودية عام 1991 إلى نحو 90 ألفاً من عدد السكان البالغ 17.843.000 نسمة. ويوجد أغلبية يهود أستراليا في ملبورن.
ومن الواضح أن يهود أستراليا مندمجون تماماً في مجتمعهم، فنسبة الزواج المختلط شديدة الارتفاع بينهم، وكذا معدلات العلمانية. وقد شكَّلت مسألة الزواج المختلط مشكلة أساسية بالنسبة إلى أعضاء الجماعة منذ منتصف القرن التاسع عشر، كما أدَّت إلى عزوف نسبة كبيرة من أعضاء الجماعة عن ممارسة الشعائر الدينية اليهودية. وقد بلغ بهم الاندماج حد أن عدداً كبيراً منهم يرفضون أن يُشار إليهم بأنهم «يهود أستراليون» ، أو حتى «أستراليون يهود» ، فهم أستراليون وحسب. ويهود أستراليا من الصهاينة التوطينيين الذين يؤيدون الدولة الصهيونية بحماس شديد، ولكن لا تهاجر منهم سوى أعداد ضئيلة جداً. ولا يزيد متوسط الهجرة السنوية على خمسة عشر فرداً. بل يُلاحَظ أن كثيراً من يهود جنوب أفريقيا يؤثرون أستراليا على الدولة الصهيونية باعتبارها مجتمعاً استيطانياً، كما أن بعض الإسرائيليين قد شقوا طريقهم إلى هناك. ومع هذا يعاني يهود أستراليا من ظاهرة موت الشعب اليهودي ويتزايد بينهم عدد المسنين.
والجماعة اليهودية في نيوزيلندا صغيرة الحجم ولا أهمية لها، وقد بلغ عدد اليهود فيها 4500 نسمة عام 1992 من مجموع السكان البالغ عددهم 3.487.000. وهم مندمجون تماماً في المجتمع، كما أن عددهم يتناقص بسبب الزواج المختلط. وقد بلغ عدد يهود أستراليا ونيوزيلندا معاً 8.500 ألف نسمة عام 1992.(12/109)
ومن أهم المنظمات اليهودية في أستراليا: المجلس التنفيذي ليهود أستراليا The Executive Council of Australian Jewry واختصاره ECAJ. وهي المنظمة المركزية للجماعة اليهودية في أستراليا والجهة التي تمثلهم لدى المؤتمر اليهودي العالمي، ويتبدل مقرها كل عامين بين سيدني وملبورن. ويتركز نشاطها في مجال العلاقات العامة والشئون الخارجية ومحاربة الافتراء.
أما في نيوزيلندا، فإن أهم المنظمات اليهودية هو المجلس اليهودي لنيوزيلندا New Zealand Jewish Council، وهي المنظمة المركزية ليهود نيوزيلندا والجهة التي تمثلهم لدى المؤتمر اليهودي العالمي. والجماعة اليهودية في نيوزيلندا ممثلة أيضاً في مجلس النواب ليهود بريطانيا من خلال نائبين.
الباب السادس عشر: الولايات المتحدة حتى منتصف القرن التاسع عشر
الولايات المتحدة: مقدمة عامة
United States: General Introduction
يمكن القول بأن تاريخ الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة، التي صارت جماعة واحدة فيما بعد، جزء لا يتجزأ من التاريخ الغربي بشكل عام والتاريخ الأمريكي بشكل خاص، ذلك أن أصولها تعود إلى هجرة الشعوب الأوربية إلى العالم الجديد. وتعكس تجربة أعضاء الجماعة في الولايات المتحدة كل الإيجابيات والسلبيات التي تسم تجربة الإنسان الأمريكي.(12/110)
ويُعدُّ وصول الإنسان الغربي إلى الأمريكتين (فيما يُسمَّى «اكتشاف العالم الجديد» ) من أهم الأحداث التي أثرت في تاريخ الإنسان في العصر الحديث إذ فتح مجالات جديدة للاستثمار أمام الإنسان الغربي وزاد ثروته بشكل مذهل بعد أن كان الغرب من أفقر مناطق العالم. ومن هنا، اتجه الفائض السكاني الغربي (كما كان يشار إلى الأفراد الذين لم يحققوا شيئاً من الحراك الاجتماعي ولم يتمكنوا من تحقيق هوياتهم الدينية والثقافية) إلى العالم الجديد ليحقق أعضاؤه من خلال التشكيلات الاستعمارية الغربية ما فشلوا في تحقيقه داخل التشكيلات القومية الغربية. ولكن كل عملية هجرة لها قطبان: أحدهما إيجابي هو عنصر الجذب إلى الوطن الجديد، والآخر سلبي هو عنصر الطرد من الوطن القديم. وقد ذكرنا بعض عناصر الطرد الخاصة بالمجتمع الغربي ككل حينما تحدثنا عن الفائض السكاني، وهي تنطبق على أعضاء الجماعات اليهودية انطباقها على الآخرين. ولكن عملية الهجرة إلى العالم الجديد تزامنت مع عدة عناصر طاردة خاصة بالجماعات اليهودية وحدها جعلت نسبة اليهود المهاجرين أعلى من نسب الجماعات الأخرى (ربما باستثناء الأيرلنديين) . ونوجز هذه العناصر فيما يلي:
1 ـ طرد اليهود السفارد من إسبانيا، ثم استيطانهم في أنحاء العالم الغربي والدولة العثمانية.
2 ـ هجمات شميلنكي في منتصف القرن السابع عشر في بولندا والتي كانت تضم الجزء الأكبر من يهود العالم.
3 ـ تقسيم بولندا في نهاية القرن الثامن عشر بما نتج عنه من توزيع اليهود فيها على روسيا وألمانيا والنمسا، وما نجم عن ذلك من قلقلة وعدم استقرار.(12/111)
4 ـ تعثُّر التحديث في شرق أوربا، ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر، وكان يضم آنذاك يهود اليديشية وهم أغلبية يهود العالم الساحقة، بل ووصول عملية التحديث إلى طريق مسدود في نهاية الأمر. وترك ذلك أثراً عميقاً في أعضاء الجماعات اليهودية إذ خلق لديهم إحساساً عميقاً بالإحباط، وخصوصاً أعضاء الطبقة الوسطى.
5 ـ لكن من أهم الأسباب التي تهم اليهود، أكثر من أية جماعة أوربية أخرى، أن المجتمع الأمريكي مجتمع علماني تماماً. ومع أن الديباجات والرموز الدينية المسيحية كانت منتشرة في المراحل الأولى، إلا أن كل هذه الأشياء ضمرت سريعاً وهيمنت الرؤية البرجماتية المادية النفعية حيث أصبح الحكم على كل شيء في الواقع، وضمن ذلك الإنسان، يَصدُر عن منظور مدى نفعه (المادي) . وينطلق دستور الولايات المتحدة من أطروحات الاستنارة والإيمان بالمساواة بين البشر ومن أن هدف الحياة هو البحث عن السعادة أو المتعة. وفي عام 1840، اعترض المواطنون على حاكم جنوب كارولينا لأنه أشار إلى الثالوث المسيحي في دعاء عيد الشكر. وكان هذا الحادث من أهم الوقائع التي تدل على تراجع المسيحية حتى على مستوى الرموز العامة، وهو أمر يشكل جاذبية خاصة للمهاجر اليهودي.
6 ـ يجب أن نتذكر أن المجتمع الأمريكي مجتمع استيطاني، وأن أسطورة الاستيطان الغربية أسطورة عبرانية. فالولايات المتحدة كان يُنظر إليها باعتبارها صهيون الجديدة (والمستوطنون البيوريتان هم العبرانيون) ،أما السكان المحليون أو الأصليون فهم الكنعانيون والعماليق من أجداد العرب. بل قُدِّم اقتراح بأن تكون العبرية لغة البلد الجديد بدلاً من الألمانية أو الإنجليزية. وهذا جزء من ميراث الإصلاح الديني في الغرب حيث زاد الاهتمام بالعهد القديم وحوادثه التاريخية. ومن المؤكد أن هذا خلق تعاطفاً كامناً مع المهاجرين اليهود وجعل الولايات المتحدة ذات جاذبية خاصة لهم إذ أن النسق الرمزي لا يستبعدهم.(12/112)
7 ـ المجتمع الأمريكي مجتمع استيطاني بناؤه الطبقي في حالة سيولة وانفتاح شديدين ولا يضع أية عقبات أمام المهاجر اليهودي.
8 ـ ساهم أعضاء الجماعة اليهودية، مع غيرهم من الجماعات المهاجرة، في صياغة رؤية أمريكا لنفسها كمجتمع تعددي، وفي تشكيل الواقع الأمريكي كواقع لا تتحكم فيه مؤسسات وسيطة (قبائل أو كنيسة مركزية) .
لكل هذا أصبحت الولايات المتحدة «الجولدن مدينا» بحق أي «البلد الذهبي» وملجأ الغالبية الساحقة من يهود العالم ووطنهم.
لكل هذه الأسباب، سواء الجاذبة أم الطاردة، لم يكن من الغريب انتقال الكتلة البشرية اليهودية من شرق أوربا إلى الولايات المتحدة أساساً أو إلى غيرها من المجتمعات الاستيطانية الجديدة مثل أستراليا وكندا وجنوب أفريقيا والأرجنتين، إذ أن الهجرة اليهودية هي في نهاية الأمر جزء لا يتجزأ من الهجرة الاستيطانية الغربية.
ويمكن تقسيم تاريخ الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة إلى المراحل التالية:
1 ـ المرحلة الكولونيالية: السفارد وبداية وصول الإشكناز الألمان.
أ) الفترة الهولندية: السفارد (1654 ـ 1764) .
ب) الفترة الإنجليزية: بداية وصول الإشكناز الألمان (1664 ـ 1776) .
2 - المرحلة الألمانية:
أ) الفترة الأولى (1776 ـ 1820) .
ب) الفترة الثانية (1820 ـ 1880) .
3 ـ بداية المرحلة اليديشية أو مرحلة الهجرة اليديشية الكبرى (1880 ـ 1929) .
4 ـ نهاية المرحلة اليديشية (1929ـ 1945) ، وظهور اليهود الأمريكيين.
5 ـ اليهود الجدد أو الأمريكيون اليهود (من بعد الحرب العالمية الثانية حتى عام 1970) .
6 ـ اليهود الجدد أو الأمريكيون اليهود (1971 - حتى الوقت الحاضر) .(12/113)
وإن تكن هناك وحدة ما في تاريخ الجماعة اليهودية فهي وحدة أمريكية خاصة وليست يهودية عامة، ولا يمكن فهم هذا التاريخ إلا في هذا الإطار إذ أننا لو اكتفينا بالإطار اليهودي فسنلاحظ اختلافات حادة وعميقة. وقد حاول السفارد إيقاف هجرة الإشكناز الألمان الذين حاولوا بدورهم استصدار تشريعات لوقف هجرة يهود اليديشية. وقد نشبت الصراعات الدينية العميقة بين الأرثوذكس من جهة والفرق الدينية الأخرى مثل المحافظين والإصلاحيين والتجديديين من جهة أخرى، وبين الصهاينة الاستيطانيين والصهاينة التوطينيين. ولو نظرنا إلى هذه الخلافات بمعزل عن التاريخ الأمريكي وداخل إطار التاريخ اليهودي لتحوَّلت إلى مجموعة من الأحداث المتناقضة التي لا يحكمها أي منطق داخلي. ولكن، في ضوء مسار التاريخ الأمريكي، يمكن النظر إلى أعضاء الجماعة اليهودية باعتبارهم مجموعات من المهاجرين أتوا من بلاد مختلفة، لهم انتماءات حضارية ودينية غير متجانسة وتمت أمركتهم ثم دمجهم تماماً في المجتمع مع توقُّف الهجرة من الخارج. ويمكن فهم هيمنة الصهيونية عليهم واحتجاجهم عليها، ورفضهم لها أحياناً ومحاولتهم التملص منها أحياناً أخرى في ذلك الإطار نفسه.(12/114)
وتجب الإشارة إلى أن تجربة المهاجرين اليهود مع الولايات المتحدة كانت تجربة فريدة بالنسبة لهم (ولغيرهم من المهاجرين) إذ فتحت الأبواب أمامهم وأتاحت لكل منهم تحقيق قدر من الحراك الاجتماعي يتناسب مع كفاءته وشراسته. ومع أن المهاجرين باعتبارهم أعضاء في جماعات وظيفية حملوا معهم ميراثهم الاقتصادي الذي حد من الوظائف التي يمكنهم شغلها، كما أن كونهم مهاجرين كان يفرض حدوداً معينة عليهم، فإنهم مع هذا لم يضطروا إلى لعب دور الجماعة الوظيفية الوسيطة وهو الدور الذي اضطروا إلى الاضطلاع به في المجتمعات الغربية قبل الثورة الفرنسية. ولذا، فلا غرو أن الولايات المتحدة تضم أكبر تجمُّع يهودي في العالم بل في التاريخ، فالعبرانيون في فلسطين لم يتجاوز عددهم مليونين. ورغم أن عدد يهود روسيا القيصرية كان يصل أحياناً إلى سبعة ملايين، إلا أنهم كانوا موزعين بين تشكيلات حضارية وسياسية وجغرافية مختلفة داخل الإمبراطورية. أما يهود بولندا، وهم أهم الجماعات اليهودية طراً، فلم يزد عددهم قط عن 3.300.000، كما أنهم لم يتمتعوا بحقوق يهود الولايات المتحدة أو قوتهم. وفيما يلي جدول يبيِّن تعداد يهود الولايات المتحدة في الفترة من 1650 حتى 1989.
السنة / العدد / النسبة المئوية إلى عدد السكان
1650 /244 / ــــ
1790 / 2.500 / ــــ
1818 / 3.000 / ــــ
1826 / 6.000 / ــــ
1830 / 10.000 / ــــ
1840 / 15.000 / ــــ
1850 / 50.000 / 0.5
1877 / 230.000 / 0.2
1887 / 400.000 / 1.3
1897 / 938.000 / 0.7
1907 / 1.777.000 / 3.2
1919 / 3.389.000 / 3.7
1927 / 4.228.000 / 3.1
1937 / 4.771.000 / 2.0
1947 / 5.000.000 / 2.8
1957 / 5.200.000 / 3.7
1967 / 5.800.000 / 3.5
1970 / 6.000.000 / 2.5
1980 / 5.800.000 / 2.9
1989 / 5.920.000(12/115)
وحسبما جاء في الكتاب السنوي الأمريكي اليهودي لعام 1992، يبلغ تعداد يهود الولايات المتحدة 5.515.000 فقط، من مجموع السكان البالغ عددهم 247.341.000، أي أنهم حوالي 2.23%.
المرحلة الكولونيالية
The Colonial Era
أ) الفترة الهولندية: السفارد (1654 ـ 1664) :
يعود تاريخ استقرار أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة إلى عام 1654 حين استقر في مدينة نيو أمستردام (نيويورك فيما بعد) مجموعة من اليهود السفارد (المارانو) يبلغ عددهم ثلاثة وعشرين يهودياً هاربين من محاكم التفتيش البرتغالية في البرازيل. وكان هؤلاء يعملون بالتجارة، فاستمروا في مهنتهم دون أية عوائق. وقد ساد آنذاك في الأوساط الهولندية فكر تجاري يغلِّب المصلحة المادية على الانتماءات الدينية، الأمر الذي هيأ الجو لأن يحصل اليهود على حقوقهم، كعناصر نافعة، ويمارسوا نشاطهم التجاري دون قيود. ولكن الجماعة اليهودية اختفت بعد قليل نظراً لظهور فرص أعظم في أجزاء أخرى من الأطلنطي، وخصوصاً في جزر الهند الغربية.
ب) الفترة الإنجليزية: بداية وصول الإشكناز الألمان (1664 ـ 1776) :(12/116)
بعد أن استولى الإنجليز على نيو أمستردام وأصبحت تُسمَّى نيويورك (عام 1664) ، وبعد تصفيتهم للجيب الهولندي في شمال أمريكا، ازداد النشاط التجاري في هذا الجزء من العالم وبدأ اليهود يتجهون نحوه بشكل متزايد. ولم يحل عام 1700 إلا وكان هناك ما بين مائتي وثلاثمائة يهودي، ثم بلغ عددهم 2500 عام 1776. وكان معظم المستوطنين من الأثرياء. وقد ظل العنصر السفاردي (من إسبانيا والبرتغال) هو الغالب حتى عام 1720 حيث بدأ العنصر الإشكنازي (الألماني أساساً) يصبح غالباً. وهذا هو النمط الأساسي للاستيطان اليهودي في الغرب بعد القرن الخامس عشر إذ كان السفارد يشكِّلون دائماً النواة الأولى ثم يتبعهم الإشكناز حتى يصبحوا العنصر الغالب بكثافتهم البشرية. وقد تكونت جماعات يهودية في نيوبورت وفيلادلفيا ونيويورك وتشارلستون (في ساوث كارولينا) وأتلانتا (في جورجيا) .(12/117)
وكان أعضاء الجماعة اليهودية يعملون أساساً بالتجارة، فكان هناك الأرستقراطية الثرية التي كانت تتاجر في المنتجات الزراعية وتُصدِّرها إلى الخارج. وكان منهم مُلاَّك السفن والمتعهدون العسكريون الذين كانوا يزودون الجيش البريطاني بما يحتاج إليه من مؤن وتموينات. وكان هناك عامة اليهود من تجار متجولين يتاجرون مع الهنود وغيرهم. وكان منهم بعض الحرفيين من إسكافيين ومقطري خمور وصانعي لفائف التبغ والصابون وسروج الخيل والحقائب الجلدية والمشتغلين في سك الفضة وتصنيعها. واشتغل بعض كبار المموِّلين من أعضاء الجماعة اليهودية بأهم تجارة آنذاك وهي تجارة الرقيق، حيث كانت نسبة اليهود المركزين في هذه التجارة عالية. وكان من بين التجار حاخام (رئيس الجماعة اليهودية في مدينته) وهو ما يعني القبول الاجتماعي لهذه التجارة. واليهود في هذا لا يختلفون عن كل الأمريكيين الذين استفادوا من استيراد العبيد وتشغيلهم. أما الأعمال الزراعية وأعمال الري، فقد اقتصرت على عدد قليل جداً من اليهود. وكل هذا يبيِّن أن أعضاء الجماعة حملوا معهم إلى العالم الجديد ميراثهم الاقتصادي (الوظيفي والمهني) الأوربي. ومع هذا، لا يمكن القول بأنهم كانوا جماعة وظيفية وسيطة، وهو أمر غير وارد في المجتمعات الرأسمالية التي يُعَد النشاط التجاري والمالي فيها نشاطاً أساسياً. وقد استمر هذا الوضع حتى الأربعينيات من القرن العشرين، مع توقُّف تدفق الهجرة من أوربا، وأصبح أعضاء الجماعة اليهودية أمريكيين خاضعين لحركيات المجتمع الأمريكي والغربي المتاحة لهم.(12/118)
وقد تم تأسيس أول جماعة دينية في نيويورك عام 1658 (الأبرشية اليهودية) وتبعتها جماعات دينية أخرى. ويُلاحَظ أن الأشخاص العاديين، الذين لم يتلقوا أيَّ تعليم حاخامي تلمودي كانوا هم المتحكمين في المعبد اليهودي، على عكس الوضع في أوربا حيث نجد أن الحاخام هو الشخصية الأساسية. وقد استأجرت أول أبرشية يهودية حاخاماً عام 1840 وكانت صلاحياته دينية وحسب، إذ لم تكن هناك أية محاكم دينية لها صلاحيات قضائية. وظل هذا أحد ثوابت وضع اليهود في العالم الجديد. وكانت الأطر التنظيمية اليهودية الأخرى مسألة اختيارية طوعية، على خلاف القهال في شرق أوربا حيث كان على اليهود أن ينضموا إليه ويمارسوا حقوقهم وواجباتهم من خلاله. وكانت جهود الجماعة تتجه نحو رعاية فقراء اليهود من بين المهاجرين الجدد والعجزة والعجائز، كما كانت تتجه إلى مساعدة المدارس اليهودية.
وقد حصل اليهود على جميع الحقوق التي حصل عليها غيرهم من المستوطنين، فكانوا يقومون بالخدمة في الميليشيا ويتمتعون بحق الملكية والسفر والسكنى في أي مكان. ففي هذا المجتمع التجاري الجديد، لم تكن للقيم التقليدية الدينية فعالية كبيرة إذ سادت القيم النفعية والعملية.(12/119)
وفي هذا الإطار، كان يُنظر إلى العنصر اليهودي باعتباره عنصراً نافعاً يساهم في تطوير المستعمرات الجديدة. ولم يكن هناك قطاع اقتصادي يهودي مستقل عن القطاع المسيحي، كما لم تكن هناك حرف أو وظائف يهودية رغم أن الموروث الاقتصادي الأوربي لليهود وخبراتهم السابقة كانت تحدِّد اختياراتهم الاقتصادية في كثير من الأحيان وتحدُّ منها في بعض الأحيان. ولم يكن هناك نظام تعليمي يهودي مستقل، باستثناء بضع مدارس لتعليم اليهود الذين يضطلعون بوظائف المؤسسة الدينية أو لتعليم أطفال اليهود تعاليم دينهم أو تدريبهم على احتفالات بلوغ سن التكليف الديني (برمتسفاه) التي أصبحت من أهم ملامح الحياة اليهودية في الولايات المتحدة. وكانت المدارس العلمانية مفتوحة على مصراعيها أمامهم، فكان أبناء أثرياء اليهود يلتحقون بها. ولكن لم تُبد أغلبية أعضاء الجماعة اليهودية آنذاك اهتماماً كبيراً بالتعليم العالي بسبب توجُّههم الاقتصادي. ولم يكن أعضاء الجماعة اليهودية يتميزون بأزياء أو لغة خاصة بهم، بل كانوا يسلكون سلوك بقية أعضاء المجتمع. وأدَّى كل هذا إلى اختفاء كثير من القيم التقليدية اليهودية التي حملها المهاجرون معهم من أوطانهم الأصلية، بل كان أبناؤهم يسخرون منها تماماً. كما أن كثيراً من الشعائر الدينية أخذ يطويها النسيان والإهمال، ولم يكن أعضاء الجماعة اليهودية يشعرون بأن وطنهم الجديد هو المنفى (جالوت) الذي تتحدث عنه الكتب الدينية، بل اعتبروه وطنهم النهائي والقومي والوحيد (تماماً كما فعل أعضاء الجماعة في بابل من قبل) .
ويمكن القول بأن الملامح الأساسية للجماعة اليهودية، وكذلك ثوابت تاريخها، تحدَّدت في تلك المرحلة بحيث وسمت تطورها اللاحق بميسمها. ولم تشهد مراحل التطور اللاحقة سوى تعديل بعض السمات وتعميق البعض الآخر.(12/120)
وقد أدَّى هذا المناخ الجديد إلى اندماج اليهود سريعاً، بل وإلى انصهارهم. وعلى سبيل المثال، تزوج كل وجهاء اليهود في ولاية كونتيكت من غير اليهود، وكان الزواج المُختلَط أمراً مألوفاً في المدن الكبيرة بكل ما ينتج عنه من انصهار كامل.
المرحلة الألمانية الأولى (1776-1820)
(The First German Era (1776-1820
عند إعلان استقلال الولايات المتحدة، لم يكن عدد أعضاء الجماعة اليهودية يزيد على ألفين أو ثلاثة آلاف، ولكن عددهم وصل إلى أربعة آلاف عام 1820. وقد تحدَّدت مواقفهم حسب مواقف الجماعات غير اليهودية التي كانوا يعيشون بين ظهرانيها أو الطبقة التي كانوا ينتمون إليها. ولما كانت أغلبيتهم من التجار الذين لا تربطهم علاقة كبيرة بالوطن الأم (إنجلترا) ، فقد كانوا من مؤيدي إعلان الاستقلال. ومع هذا، كانت هناك أقلية ضمن الحزب الموالي لإنجلترا. وقد أكد إعلان استقلال أمريكا، وكذلك دستورها، المساواة الكاملة بين الأفراد، فأُلغي كل ما تبقَّى من تفرقة، مثل فرض القَسَم المسيحي على أيّ طالب وظيفة. ولم يكن اليهود مجموعة من الناس الذين يتم التسامح معهم أو استبعادهم كما كان الحال في أوربا، وإنما كانوا مواطنين لهم جميع الحقوق وعليهم جميع الواجبات، ولم يكونوا أيضاً جماعة وظيفية وسيطة. وقد نص التعديل الأول للدستور الأمريكي على الفصل الفوري للدين عن الدولة. ولكن يُلاحَظ أن بعض الولايات الأمريكية لم تطبق الدستور، الأمر الذي كان يعني التفاوت في وضع أعضاء الجماعة اليهودية من ولاية إلى أخرى. ولكن الوضع، بشكل عام، كان يتسم بالمساواة وبتطبيق مُثُل الاستنارة والانعتاق.(12/121)
وأدَّى التوسع في زراعة القطن إلى أن أصبح بعض أعضاء الجماعة اليهودية من أصحاب الأراضي وكبار التجار. كما اتجه بعضهم إلى الاشتغال في مجال النشاطات المالية والعقارية، فأنشأوا شركات تأمين، وعملوا في أسواق الأسهم والسندات وفي قطاع الصناعة، وفتحوا المصارف. كذلك دخل بعض أعضاء الجماعة اليهودية (عام 1820) مهناً جديدة، مثل: القانون والطب والهندسة والتربية والصحافة. وكان اليهود موزعين على معظم مدن الولايات المتحدة.
أما من ناحية تنظيم الجماعة اليهودية، فيُلاحَظ أن الهيمنة كانت ولا تزال للعناصر غير الدينية. ولم يكن المعبد اليهودي والحاخام سوى جزء من كلٍّ يدار حسب القيم العامة للمجتمع الأمريكي وليس حسب القيم الدينية أو التقليدية اليهودية الخاصة. ومن الناحية الثقافية، لم يكن إسهام أعضاء الجماعة اليهودية الثقافي في الحضارة الأمريكية إسهاماً ذا بال. وعلى كلٍّ، فقد كانت التقاليد الثقافية الأمريكية نفسها لا تزال آنذاك تابعة لأوربا، ولم يكن هناك بعد إبداع أمريكي مستقل.
لقد كان أعضاء الجماعة اليهودية بشكل عام مندمجين في مجتمعهم الأمريكي، ولم تكن لهم ثقافة مستقلة. وكان انتماؤهم إلى ثقافتهم اليهودية (الدينية أو الإثنية) مسألة شكلية وحسب. وفي هذه الفترة، أصبح العنصر الإشكنازي الألماني العنصر الغالب تماماً.
المرحلة الألمانية الثانية (1820-1880)
(The Second German Era (1820-1880(12/122)
لا شك في أن التطور الأساسي الذي طرأ على أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة هو ازدياد عددهم وتحوُّل الجماعة من أقلية صغيرة إلى واحدة من أكبر الجماعات اليهودية خارج شرق أوربا. وعند بداية هذه المرحلة، كان عدد أعضاء الجماعة اليهودية نحو أربعة آلاف، زاد إلى ستة آلاف عام 1826 ثم إلى 15 ألفاً عام 1840. وقُدِّر عدد اليهود بمائة وخمسين ألفاً عام 1860، ويُقال إنه وصل إلى مائتين وثمانين ألفاً مع نهاية هذه الفترة (عام 1880) . وكان المهاجرون، أساساً، من أصل ألماني، وخصوصاً من منطقة بافاريا وبوزنان بعد ضمها من بولندا، أو كانوا من اليهود الألمان أو من بوهيميا والمجر جاءوا مع موجة الهجرة الألمانية إذ هاجر خمسة ملايين ألماني من بينهم مائتا ألف يهودي (1825 ـ 1890) . وكانت أغلبية المهاجرين من الفلاحين الألمان الذين اضطروا إلى الهجرة، فهاجر معهم صغار التجار اليهود الذين كانوا مرتبطين اقتصادياً بهم واستوطنوا على مقربة منهم في الولايات المتحدة. وقد وصلت الهجرة إلى ذروتها بعد إخفاق ثورات 1848 ـ 1849 في أوربا وبعد الكساد الاقتصادي. وقد كان يهود ألمانيا ألمانيين، تماماً مثلما كان السفارد إسبانيين وبرتغاليين.
وقد استقر أكبر عدد من أعضاء الجماعة اليهودية في نيويورك، فبلغوا أربعين ألفاً عام 1860، وتجئ بعدها مدن أخرى مثل فيلادلفيا وبالتيمور. كما تمركزوا في المراكز التجارية بالداخل، على الأنهار وعلى ضفاف البحيرات الكبيرة، واتجهوا نحو الغرب في سيراكيوز وبفالو وكليفلاند وشيكاغو وديترويت، وفي سينسناتي ومنيابوليس وسانت لويس ونيو أورليانز. وتدافعت أعداد كبيرة من أعضاء الجماعة اليهودية إلى كاليفورنيا في الأعوام 1849 ـ 1852 مع حُمَّى الاندفاع نحو الذهب، إذ بلغ عدد أعضاء الجماعة اليهودية الذين استوطنوا سان فرانسيسكو وحدها عشرة آلاف.(12/123)
وقد عمل أعضاء الجماعة اليهودية موردين لحاجات الباحثين عن الذهب في كاليفورنيا، ولم يعمل منهم في الزراعة سوى قلة نادرة. وكانت نسبة العاملين في مهن مثل الطب والقانون صغيرة، إذ كانت الأغلبية العظمى تعمل بالتجارة. ورغم أن كثيراً من المهاجرين عملوا حرفيين في أوربا، فإنهم فضلوا أن يعملوا تجاراً متجولين بسبب ارتفاع الأرباح التي كان بوسعهم تحقيقها. ومع هذا، قد يكون من الأدق أن نذكر أنهم كانوا حرفيين يعملون تجاراً متجولين أيضاً إذ أن بعض السلع التي كان يسوِّقها هؤلاء، مثل الملابس والأحذية، كانت من صنعهم. وقد بدأ التجار من أعضاء الجماعة اليهودية في عملية التسويق سيراً على الأقدام، فتحولوا إلى تجار يتجولون بعرباتهم التي تجرها الخيول، ثم إلى تجار يفتحون دكاكين صغيرة على مفارق الطرق، ثم إلى تجار كبار. واستمر هذا الاتجاه حتى العصر الحديث حيث نجد أن تجارة التجزئة والمتاجر الكبرى ذات الأقسام المتعددة (بالإنجليزية: دبارتمنت ستورز department stores) يمتلكها بعض أعضاء الجماعة اليهودية. كما قاموا بالبيع من خلال الكتالوج، وهو البديل الحديث للبائع المتجول. بل إن الصناعات التي تركز فيها أعضاء الجماعة اليهودية هي الصناعات الخفيفة التي يلتقي فيها التاجر بالصانع. ومن أهم الباعة الجائلين الذين تحولوا إلى تجار كبار أبراهام شتراوس وجمبل، وهما من أصحاب المحال التجارية الشهيرة. وقد حقق أعضاء الجماعة اليهودية معدلاً عالياً من الاندماج في معظم مناطق الولايات المتحدة، ولكن يُلاحَظ أن اندماجهم في مجتمع الجنوب كان أعلى بكثير منه في الشمال. ويعود هذا إلى أن معيار التضامن في الجنوب كان اللون وحسب. ومن هذا المنظور، كان أعضاء الجماعة اليهودية يشكلون جزءاً لا يتجزأ من الجماعة البيضاء المهيمنة. وذلك على عكس الشمال حيث كان الدين واللون هما الأساس، ومن ثم كانت النخبة من المسيحيين البروتستانت البيض من أصل أنجلو(12/124)
ساكسوني (الذين يقال لهم الواسب) .
وقد تبنَّى أعضاء الجماعة اليهودية أزياء أعضاء النخبة الجنوبية البيضاء ولغتهم وعاداتهم ومهنهم، وامتلكوا العبيد وتاجروا فيهم، وكان هناك عدد من كبار تجار العبيد من اليهود. ومع هذا، تجب الإشارة إلى أن اليهود لم يلعبوا دوراً أساسياً في تأسيس مؤسسة الرقيق ولا يختلف وضعهم هذا عن وضعهم في الولايات المتحدة حتى الوقت الحاضر، فهم قد يوجدون في أهم المؤسسات وأكثرها حيوية، مثل المصارف، مع بقاء دورهم تابعاً مهما زاد عددهم ونفوذهم.
وقد شهدت هذه الفترة اندلاع الحرب الأهلية (1861 ـ 1865) . ومن المعروف أن أعضاء الجماعة اليهودية ظلوا بمنأى عن الحوار الذي دار حول مؤسسة الرقيق باستثناء حالات فردية، الأمر الذي أثار حنق الأوساط الليبرالية ضدهم. ويُلاحَظ أن الحاخام إسحق وايز، أهم شخصية يهودية آنذاك، قد لزم الصمت تماماً بشأن هذه القضية. ولعله كان، في موقفه هذا، لا يختلف كثيراً عن موقف بقية المواطنين في مدينة سينسناتي، وهي مدينة تقع على الحدود بين الفريقين المتصارعين في الشمال والجنوب. ولابد أن نذكر هنا أن أعضاء الجماعة اليهودية ككل لم يكن لهم موقف «يهودي» مستقل، وإنما تحددت ولاءاتهم بحسب موقعهم الجغرافي، فكان يوجد سبعة آلاف جندي يهودي في جيوش الشمال وثلاثة آلاف في جيوش الجنوب، الأمر الذي يعكس اندماجهم في المجتمع وتقبُّلهم المواقف السياسية السائدة فيه.(12/125)
وبعد الحرب الأهلية وإلغاء الرقيق، فُتح الجنوب الأمريكي للاستثمارات التجارية والصناعية. واستفاد كثير من التجار من أعضاء الجماعة اليهودية من أصل ألماني من النشاط الاقتصادي والتوسع الصناعي، وحققوا ثروات كبيرة في مجال التجارة والمصارف وصنع الملابس، فلقد قامت أعداد كبيرة من المتعهدين العسكريين اليهود بتزويد الجيوش المتحاربة بالأزياء العسكرية التي تطلبها، وحققوا أرباحاً طائلة. كما استفادوا من وصول يهود اليديشية، فاستغلوا هذه العمالة اليهودية الرخيصة في مؤسساتهم التجارية والصناعية، وهو ما دعم مكانتهم وأكد قيادتهم للجماعة اليهودية. وبلغ المهاجرون اليهود الألمان ذروة مكانتهم في هذه المرحلة.(12/126)
وقد حاول أعضاء الجماعة اليهودية أن يضعوا إطاراً تنظيمياً لوجودهم في الولايات المتحدة، فشُكِّلت هيئة المفوَّضين الإسرائيليين الأمريكيين (ويُلاحَظ عدم استخدام مصطلح «يهودي» لأنه كان يحمل إيحاءات سلبية في تصورهم) ، وكذلك أُسِّست جماعة أبناء العهد (بناي بريت) عام 1843 وجمعية الشباب العبريين عام 1874، وكلها مؤسسات تقع خارج نطاق أي تحكم حاخامي أو أي إطار ديني، بل إن المؤسسات الدينية نفسها كانت تعتمد عليها لبقائها واستمرارها. وقد عبَّرت الهوية اليهودية الدينية عن نفسها، وخصوصاً بين الألمان، من خلال اليهودية الإصلاحية، وهي صيغة دينية تسمح لليهودي بالتكيف مع وطنه الجديد في الولايات المتحدة. وقد أعلنت اليهودية الإصلاحية عن مبادئها الدينية في مؤتمر بتسبرج الإصلاحي عام 1885، وتم تأسيس اتحاد الأبراشيات العبرية الأمريكية عام 1873، وكلية الاتحاد العبري عام 1875، وهي أهم المؤسسات اليهودية الإصلاحية التربوية. ومع هذا، لم تكن هناك سلطة دينية مركزية، نظراً للتنوع الإثني لليهود، وبسبب الطبيعة الفيدرالية للمجتمع الأمريكي. والواقع أن المهاجر اليهودي الألماني لم يكن يجد أن ثمة علاقة كبيرة مع المهاجر اليهودي البولندي مثلاً، فقد كانت كل جماعة تحتفظ بشعائرها الدينية وتؤسس معابد يهودية مختلفة باختلاف الأصول الإثنية اليهودية. وكان معظم يهود شرق أوربا يتبعون اليهودية الأرثوذكسية. وشهدت هذه الفترة حركة بناء للمعابد اليهودية الضخمة التي تشبه الكاتدرائيات.(12/127)
ورغم أن الحضارة الأمريكية قد دخلت، في هذه المرحلة، مرحلة إبداعية في الآداب والفنون، فإن إسهام أعضاء الجماعة اليهودية فيها كان ضعيفاً، وذلك لكونهم جماعة مهاجرة لم يمتلك أعضاؤها ناصية اللغة الإنجليزية أو مُصطلَحات الحضارة الجديدة. ولذا، لم يكن هناك كُتَّاب يهود في عصر ويتمان وملفيل ومارك توين سوى إيما لازاروس (1849 ـ 1887) وهي شاعرة ليست لها أهمية كبيرة. ويُلاحَظ تَزايُد اندماج أعضاء الجماعة اليهودية في جميع قطاعات المجتمع الأمريكي الذي كان يعبِّر عن هويته العرْقية عن طريق التعصب ضد السود والصينيين وعن هويته الدينية البروتستانتية عن طريق التعصب ضد الكاثوليك والمهاجرين الأيرلنديين وليس عن طريق معاداة اليهود على الطريقة الأوربية. وقد شهدت هذه الفترة ظهور واحد من أهم مظاهر معاداة اليهود في الولايات المتحدة وهو رفض عضويتهم في النوادي الأرستقراطية والنوادي الاجتماعية. وهو شيء سطحي تافه يدل على سطحية ظاهرة العداء لليهود في الولايات المتحدة وعدم تجذُّرها في المجتمع الأمريكي (ولذا فهو شكل من أشكال التحامل على اليهود، لا العداء ضدهم) . فبينما كانت بعض النوادي الاجتماعية تمارس التفرقة ضد أعضاء الجماعة اليهودية، كانت المدن الأمريكية لا تمانع في هذه الفترة نفسها أن تنتخب عُمداً ينتمون إلى هذه الجماعة. كما كانت كثير من هذه المدن لا تزال تمارس التفرقة ضد السود بكل ضراوة، وتنكر عليهم أبسط الحقوق، مثل الالتحاق بالجامعات أو الجلوس على المقاعد الأمامية في الحافلات.(12/128)
الباب السابع عشر: الولايات المتحدة منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى عام 1971
بداية المرحلة اليديشية (1880-1922)
The Beginning of the Yiddish Era 1880-1922
أ) الفترة الأولى: الهجرة الكبرى (1880 - 1929) :
تغيَّرت السمات الأساسية للجماعة اليهودية في الولايات المتحدة لسببين: أحدهما خاص بحركيات المجتمع الأمريكي، والثاني خاص بالجماعة نفسها. فبعد المرحلة التجارية الأولى من تاريخ الولايات المتحدة، وبعد أن حصلت الولايات المتحدة على استقلالها السياسي، وبعد أن نجحت جيوش الشمال في توحيد السوق القومية في الولايات المتحدة وفتح الجنوب الزراعي للنشاط التجاري والاستثمارات الصناعية، تزايدت حركة التصنيع فأقيمت في هذه الفترة شبكة المواصلات السريعة، من البواخر والقطارات والطرق، التي قربت بين أجزاء القارة الأمريكية كما قربت بينها وبين بقية العالم، الأمر الذي سهَّل عملية الانتقال والهجرة. ويُلاحَظ أن حركة الريادة والاستيطان نحو الغرب كانت قد وصلت إلى نهايتها، وهو ما يعني أن المناطق المتاخمة المفتوحة التي كانت مجالاً مفتوحاً للحراك الاجتماعي أصبحت مغلقة. وقد أدَّى اتساع السوق إلى أن الحرفيين لم يعودوا قادرين على إنتاج السلع التي تفي بحاجات المستهلكين المتزايدة، وبالتالي حلت المصانع الكبيرة محل الحرفيين في كثير من الصناعات القديمة. كما ظهرت صناعات جديدة مثل صناعة الصلب والسيارات وهي الصناعات التي غيَّرت وجه الولايات المتحدة. وأدَّى كل هذا إلى ازدياد الحاجة إلى عمال صناعيين، كما فتحت الأبواب للمهاجرين، ومنهم يهود اليديشية الذين جاءوا بالألوف من روسيا وبولندا وغيرهما من بلاد شرق أوربا، فانخرط المهاجرون اليهود في صفوف الطبقة العاملة.....(12/129)
ثم شهدت هذه الفترة (بعد عام 1918) تحوُّل الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة إلى أهم تجمُّع يهودي في العالم على الإطلاق وثاني أكبر تجمُّع، بعد التجمُّع اليهودي في شرق أوربا. وقد زاد عدد اليهود من 280 ألفاً من مجموع سكان تعداده 50.155.000 عام 1880 إلى 4.500.000 من مجموع سكان تعداده 115.000.000عام 1925. وبلغ عدد المهاجرين 2.378.000 بين عامي 1880 و1925، وكانت أعوام الذروة هي أعوام 1904 ـ 1908 حينما وصل 642 ألف يهودي معظمهم من شرق أوربا. وقد أثبتت الولايات المتحدة أنها أكثر جاذبية من فلسطين بالنسبة لليهود. ولذا، فهي بحق البلد الذهبي (باليديشية: جولدن مدينا) الذي يهرول إليه المهاجرون بدلاً من إرتس يسرائيل وأرض الميعاد.
وكانت نسبة العائدين إلى أوربا من أعضاء الجماعة هي النسبة الأقل بين مجموعات المهاجرين، باستثناء الأيرلنديين. ففي عام 1880، بلغت النسبة 25%، وانخفضت إلى 8% عام 1908، ثم وصلت إلى الصفر تقريباً عام 1919. وكان عمر المهاجرين بين 15 و40 سنة، أي أن معظمهم كان قادراً على العمل والإنجاب، كما أن نسبة الرجال إلى النساء كانت متعادلة وهو ما يدل على أن المهاجرين قد هاجروا بنية الاستقرار وليس لتحقيق ثروة صغيرة يعودون بعدها إلى أوطانهم الأصلية.
وقد استقر المهاجرون في كل المدن، في معظم الولايات والمناطق، فبلغ عدد المهاجرين اليهود في ولاية نيويورك عام 1918 نحو 1.603.923، وفي ولاية ماساشوسيتس 189.671 نسمة، وفي ولاية نيوجرسي 149.476نسمة، وفي ولاية بنسلفانيا 322.406 نسمة، وفي ولاية أوهايو 166.361نسمة، وفي ولاية كاليفورنيا 63.562 نسمة.(12/130)
وشهدت هذه الفترة تحوُّل بعض أعضاء الأرستقراطية الألمانية اليهودية من التجارة إلى المهن، فاشتغلوا بالقضاء والسياسة والأعمال المصرفية والمالية (مثل عائلتي كون ووربرج) والنشر والطب والوظائف المتصلة بالبحوث العلمية والأدب والمهن الأكاديمية. وكان هذا التحول يعني تحرر أعضاء الجماعة اليهودية تدريجياً من ميراثهم الاقتصادي الأوربي وتَزايُد اندماجهم في المجتمع الأمريكي. وظهر بينهم رعاة للفنون مثل أسرة جوجينهايم. ويُلاحَظ أنه لم يكن يوجد سوى عدد قليل من اليهود في الشركات الكبرى التي سيطرت على الصناعات الثقيلة إذ تركَّز اليهود في صناعات استهلاكية هامشية مثل صناعة السينما التي سيطر عليها وليام فوكس ولويس ماير والإخوة وارنر.(12/131)
وفيما يتصل بالمهاجرين من شرق أوربا، وهم الذين نطلق عليهم «يهود اليديشية» ، فقد انضموا إلى صفوف الطبقة العاملة، وخصوصاً في مصانع الملابس الصغيرة التي كانت تُسمَّى «ورش العرق» ، والتي كانت تُقام في مكان ضيق قذر توضع فيه بعض ماكينات الخياطة البدائية ويقطن فيه صاحب المصنع وزوجته. وكان أصحاب هذه الورش من يهود شرق أوربا، نظراً لأنها لا تحتاج إلى رأسمال كبير ولا إلى خبرة غير عادية. كما كان بوسع أصحاب العمل استغلال العمالة اليهودية المهاجرة الرخيصة فيها، وخصوصاً أن يهود شرق أوربا كانوا مركزين أساساً في حرفة الخياطة في بلادهم الأصلية. وقد كان عدد العمال في كل ورشة لا يزيد في بعض الأحيان على خمسة يعملون مدة ست عشرة ساعة يومياً. وكان المموِّلون من أعضاء الجماعة اليهودية من أصل ألماني يمتلكون أيضاً ورش العرق، وخصوصاً بعد أن حققوا ثروات ضخمة من الحرب الأهلية. وقد ظلوا أغلبية الملاك حتى عام 1914 حين زاد عدد صغار المموِّلين من شرق أوربا على عددهم من الألمان. وبلغ عدد العاملين في هذه الصناعة عام 1913 ثلاثمائة ألف يهودي. وقد نظمت هذه الطبقة العمالية نفسها على هيئة نقابات عمال في الفترة 1909 ـ 1916، وهي الفترة التي شهدت تحوُّل الورش إلى مصانع كبيرة وظهور الوعي العمالي والحركة النقابية في الولايات المتحدة. وقد عمل كثير من يهود شرق أوربا في صناعة الإبر ولف التبغ وصناعة البناء (نجارين ونقاشين) ، وعملوا تجاراً صغاراً وبقَّالين. وكل هذا يدل على أن ميراثهم الاقتصادي الأوربي كان لا يزال يحدد اختياراتهم وأن عملية الأمركة كانت لا تزال في بداية الطريق بالنسبة إليهم. ولكن يجب أن نشير إلى أنه لم تكن تُوجَد أية قوانين في الولايات المتحدة ترغم أعضاء الجماعة اليهودية على الاضطلاع بوظائف معينة، فقد كان اليهود يتركزون في صناعات دون غيرها، وفي مهن أو حرف دون أخرى، لا بسبب أي قسر خارجي وإنما بسبب طبيعة الخبرات(12/132)
التي حملوها من بلادهم ومقدار رأس المال الذي جلبوه معهم، ونوعية الكفاءات والخبرات التي يحتاج إليها المجتمع الجديد. كما يُلاحَظ أن ميراثهم الاقتصادي كان يثقل كاهل المهاجرين الجدد من شرق أوربا وحسب. أما أعضاء الجماعة اليهودية من أصل ألماني، فقد اغتنموا كل الفرص التي أتاحها لهم المجتمع الأمريكي ووصلوا إلى أعلى شرائحه واشتغلوا بجميع المهن. وقد لحق بهم أبناء يهود شرق أوربا بعد جيلين حين انتهت فعالية الميراث الاقتصادي مع انتهاء موجات الهجرة.
أما من الناحية الثقافية، فيُلاحَظ أن اليديشية كانت لغة الشارع الروسي البولندي ثم صارت لغة المهاجرين في الشارع الأمريكي، ومن هنا كان استمرارها. ولذا، ظهرت ثقافة يديشية علمانية شجعتها الحركة العمالية، وظهر أدب يديشي وجرائد يديشية توزِّع نحو 500 ـ 600 ألف نسخة في اليوم، وكذلك العديد من المجلات، كما ظهرت سينما يديشية. ووصلت الثقافة اليديشية الذروة في أوائل القرن واستمرت حتى بداية العشرينيات، تماماً كما كان الأمر في الاتحاد السوفيتي. فكان يوجد مسرح يديشي في نيويورك وسبعة عشر خارجها قدمت خمساً وثمانين مسرحية خلال شهر واحد (عام 1927) . ووصل نظام التعليم اليديشي إلى ذروته أيضاً إذ كان عدد الطلبة المسجلين فيه اثنى عشر ألفاً. ولكن إسحق بشيفس سنجر، أكبر كُتَّاب اليديشية، لاحظ أن لغة يهود شرق أوربا أصبحت في الولايات المتحدة دون جذور، ولذا فقد كُتب عليها أن تموت.(12/133)
وكان تَوجُّه الجيب اليديشي معادياً للصهيونية، كما أن ولاءه كان للثقافة اليديشية وليس للدين اليهودي أو اللغة العبرية. وكان هذا الجيب يضم ملحدين وثوريين ومفكرين وفوضويين، كما كان يضم بعض المتدينين. ويُلاحَظ أن العلاقات بين القيادة الألمانية الأرستقراطية والجماهير اليديشية لم تكن حميمة، كما أن العمال اليهود ذوي الأصل الأمريكي، المتركزين في صناعات معيَّنة مثل صناعة السيجار، وكذلك الخياطين المهرة، كانوا يبدون عداءً واضحاً للمهاجرين، نظراً لما كانوا يعتبرونه انعزالية وتخلُّفاً وثورية. وقد نحت اليهود الألمان كلمة «كايك» العنصرية وكذا كلمة «شيني» ، للإشارة إلى يهود شرق أوربا، كما كانوا يتهمونهم بأنهم «آسيويون» (وهو الاتهام الآري التقليدي الذي كان يوجَّه لليهود) وأنهم يضمون في صفوفهم عدداً كبيراً من الثوريين والفوضويين، وأن لغتهم لغة الخنازير (وهو ما يدل على أن أعضاء الجماعة اليهودية من أصل ألماني كانوا ألماناً حتى النخاع) .
وتَجمَّع أعضاء الجماعة من المهاجرين على هيئة جماعات صغيرة تعيش في حي واحد داخل المدن، شأنها في هذا شأن مختلف جماعات المهاجرين، وكان الحي الشرقي الأسفل «لوار إيست سايد Lower East Side» في نيويورك أكبر هذه الأحياء وكان يضم ثلاثمائة وخمسين ألف يهودي عام 1915 في مساحة لا تتجاوز ميلين مربعين، فانتشرت بينهم الجريمة وبخاصة بغاء الفتيات. كما ظهرت مافيا يهودية ازدهرت في الثلاثينيات، لم يُقض عليها إلا في أواخر الأربعينيات، وتخصَّصت في عمليات الاغتيال لحساب العصابات الأخرى. وعندما كانت أحوال اليهودي المالية تتحسن، فإنه عادةً ما كان يترك مثل هذه الأحياء وينتقل إلى أحياء أكثر جاذبية.(12/134)
ومن أهم الأطر التنظيمية ما يُعرَف باسم «روابط المهاجرين» (اللاندز مانشافتين) التي كانت تضم اليهود الذين جاءوا من بلد أو موطن واحد، حيث لعبت دور المؤسسة الاجتماعية الوسيطة التي وفرت للمهاجرين شيئاً من الطمأنينة والدفء في المجتمع الرأسمالي الجديد، والتي قدمت لهم خدمات أخرى مثل إجراءات الدفن والمساهمة في نفقات الجنازات وغيرها من الطوارئ. وكانت هذه الجماعات مرتبطة عادة بدوائر العمال (أربيتر رنج) التي ترعى مصالحهم الاجتماعية. وكان 74% من المهاجرين اليهود يعرفون القراءة والكتابة، مقابل 64% من البولنديين و46% من الإيطاليين، الأمر الذي جعلهم واعين بأهمية التعليم باعتباره واحداً من أهم وسائل الحراك الاجتماعي في العصر الحديث، فأرسلوا أولادهم إلى المدارس، وهو ما سارع بعملية اندماجهم في المجتمع.
ولكن تكوين المهاجرين الثقافي كان، مع هذا، ضحلاً. فمعظمهم كانوا من أبناء الطبقة الوسطى الصغيرة، أو العمال الذين لم يتلقوا أي تعليم ديني أو علماني. وقد كانوا يعرفون قدراً ما من شعائر الدين اليهودي وبعض التحريمات. ولكنهم لم يكن لديهم لا الوقت ولا الرغبة في ارتياد المدارس الدينية أو ممارسة الشعائر الدينية المختلفة، فتخلوا عن إقامة شعائر دينهم. ومع هذا، كان الاحتفال ببلوغ سن التكليف الديني (برمتسفاه) يُعَد أمراً مهماً جداً بالنسبة لهم، وهو ما كان يدل على أن اليهودية بدأت تتحول، بالنسبة لعدد كبير منهم، من انتماء ديني إلى انتماء إثني. وكانت أعداد كبيرة من اليهود تعيش منعزلة في مناطق تخومية تجعل الحياة الأرثوذكسية أمراً صعباً للغاية لأن الحصول على الطعام الشرعي كان شبه مستحيل. وكثيراً ما كان اليهودي يحصل على طعامه من الحيوانات التي يصيدها غير اليهود ودون أن يذبحوها على الطريقة الشرعية.(12/135)
وأخذت اليهودية الإصلاحية في الانتشار بين أعضاء الجماعة اليهودية من أصل ألماني، فأُسِّس المؤتمر المركزي للحاخامات الأمريكيين عام 1889. أما المهاجرون من شرق أوربا، فقد أحضروا اليهودية الأرثوذكسية معهم رغم عدم اهتمامهم بالدين. وكانت الأرثوذكسية منتشرة بين الحرفيين اليهود، وخصوصاً الخياطين. وتأسست مؤسسات اليهودية الأرثوذكسية في هذه الفترة، من بينها اتحاد الأبرشيات الأرثوذكسية عام 1898، واتحاد الحاخامات الأرثوذكس اليهودية في الولايات المتحدة وكندا عام 1902، ومجلس أمريكا الحاخامي عام 1913. وبدأ يظهر قطاع جديد من المهاجرين الذين تمت علمنتهم، وبالتالي صَعُب عليهم الاستمرار في الشعائر الأرثوذكسية. ولكن الصبغة الإصلاحية كانت صبغة متطرفة من وجهة نظرهم. ولسد حاجة هؤلاء، ظهرت اليهودية المحافظة كمحطة في منتصف الطريق احتفظت بالمطلقية الدينية وخلعتها على الإثنية اليهودية، كما احتفظت بكثير من الرموز الإثنية.
وقد تم تأسيس أهم المؤسسات اليهودية المحافظة التعليمية في هذه الفترة أيضاً، من بينها الكلية اللاهوتية اليهودية عام 1886، وجمعية الحاخامات الأمريكيين عام 1900، ومعبد أمريكا الموحَّد عام 1913 (وهو يضم الأبرشيات المحافظة) . وتبدَّى الصراع الإثني بين الألمان ويهود شرق أوربا في شكل صراع ديني بين الأرثوذكسية من جهة واليهودية الإصلاحية ثم المحافظة من جهة أخرى.
وفي السنين الأخيرة من هذه الفترة، بدأت تظهر علامات الكساد الاقتصادي، فألقت جماهير العاطلين باللوم على القوى الخارجية، وسادت النظريات والمواقف العرْقية تجاه السود، والمهاجرين الآسيويين واليهود بدرجة أقل.(12/136)
ولكن، يُلاحَظ أن نمط حياة المهاجرين كان يخضع لتطورات عميقة إذ أن أسلوب حياة أبنائهم كان يختلف بشكل جوهري عن حياتهم هم أنفسهم، لأنهم حققوا معدلات عالية من الاندماج الاقتصادي والثقافي بسبب تزايد فرص التعليم أمامهم في المدارس الأمريكية العامة. ولكل هذا، انخفضت عضوية اتحادات النقابات اليهودية إلى النصف في العشرينيات، كما اضمحلت الصحافة اليديشية والمسرح والأدب اليديشيان لأن الأبناء كانوا يتحدثون الإنجليزية ولا يعرفون اليديشية أو يعرفونها ولا يتحدثون بها، كما أنهم كانوا لا يكترثون البتة بروابط المهاجرين، ولم يُكتب لعالم المهاجرين البقاء حتى منتصف العشرينيات إلا بسبب وصول أفواج المهاجرين الجدد. ولذا، فمع فرض نظام النصاب على الهجرة (قانون جونسون) عام 1925، بدأ هذا العالم في الاختفاء بحيث تحوَّل إلى مجرد أثر وذكرى عام 1940. وقد ساهم القانون آنف الذكر في التعجيل بتحويل أعضاء الجماعة اليهودية من جماعة أغلب أعضائها من المهاجرين إلى جماعة معظم أعضائها وُلدوا في أمريكا وتشربوا ثقافتها. واقتصر التعليم اليهودي تقريباً على مدارس الأحد، وأخذت مدارس اليديشية في الاختفاء التدريجي. ولذا، يُلاحَظ أنه، مع نهاية الفترة، ظهرت بعض التحولات الراديكالية في البناء الوظيفي وأسلوب الحياة الخاص بأعضاء الجماعة، فبدأت أعداد كبيرة منهم تترك أحياء المهاجرين لتستوطن في أحياء حضرية أكثر ثراء، وبدأوا يتحوَّلون عن وظائف المهاجرين إلى وظائف تجارية وكتابية ومهنية(12/137)
وبدأ أبناء المهاجرين الذين تخرجوا في المدارس الحكومية والكليات يعملون في مهن القانون والطب البشري وطب الأسنان والتدريس. وكان الاتجاه الأكبر نحو الأعمال الصغيرة المستقلة والوظائف الكتابية الإدارية، وظائف الياقة البيضاء. وتناقص عدد أعضاء الجماعة اليهودية فيما يُسمَّى «الحرف اليهودية» ، وخصوصاً صناعة الملابس. ومع حلول عام 1930، كان أعضاء الجماعة اليهودية يشكلون خمسي نقابات عمال صناعات الملابس وحسب بعد أن كانوا يشكلون الأغلبية العظمى من أعضائها، أي أن المهاجرين اليهود نفضوا عن كاهلهم ميراثهم الاقتصادي والوظيفي الأوربي بحيث تحوَّلوا من مجرد يهود متأمركين إلى أمريكيين يهود ومن أعضاء في جماعة وظيفية يهودية إلى أعضاء في الطبقة المتوسطة الأمريكية.
وظل إسهام يهود أمريكا الثقافي والفكري ضعيفاً في بداية هذه الفترة. ولكن، مع نهايتها، ومع تزايد معدلات الاندماج والأمركة، بدأ يظهر أدباء أمريكيون أحرزوا شهرة محلية وعالمية، مثل جرترود شتاين، وناشرون مثل نوبف، وكثير من المخرجين السينمائيين.
ولم تكن الجماعة اليهودية متجانسة حضارياً أو دينياً أو سياسياً. لذا، كانت تتنازعها عدة أيديولوجيات وانتماءات. وقد أشرنا من قبل إلى الصراع الديني بين الأرثوذكس وغيرهم، ثم كان هناك الصراع بين أعضاء الجماعة اليهودية من أصل ألماني ويهود اليديشية، والصراع بين الأقلية الصهيونية والأغلبية المعادية للصهيونية أو غير المكترثة بها، والصراع بين دعاة الاندماج والذوبان ودعاة قومية الدياسبورا (أي الاستقلال الثقافي للجماعات اليهودية) ، والصراع بين الاشتراكيين من بقايا البوند والشيوعيين والفوضويين من جهة ودعاة الفلسفات السياسية الليبرالية المحافظة من جهة أخرى. هذا غير عشرات الصراعات الجانبية الأخرى.(12/138)
وشهدت هذه الفترة بداية ظهور الهيكل التنظيمي لأعضاء الجماعة اليهودية، وكان أولها لجان مساعدة المهاجرين وغوثهم مثل منظمة هياس (جمعية مساعدة المهاجرين العبريين) عام 1884، وهادساه (المجلس القومي للنساء اليهوديات) عام 1893. وقد تم تأسيس المنظمة الصهيونية في الولايات المتحدة عام 1897، ولكنها كانت منظمة صغيرة لا تمثل سوى أعضائها الذين كان معظمهم من أصول شرق أوربية، بينما ساد التيار الاندماجي بين اليهود الألمان، كما ظهر تيار صهيوني قوي ذو ديباجة مسيحية في صفوف أعضاء الكنائس البروتستانتية المتطرفة.
كما أن التوسع الإمبريالي للولايات المتحدة، وبداية تطلُّعها لدور عالمي، مع الحرب العالمية الأولى، صاحبه ظهور نزعات صهيونية بين أعضاء النخبة، ومن هنا كان تأييد حكومة الولايات المتحدة لوعد بلفور رغم هزال المنظمة الصهيونية. وقد انعكس الصراع بين اليهود من أصل ألماني واليهود من أصل شرق أوربي في داخل الهيكل التنظيمي لأعضاء الجماعة. فأسست القيادة اليهودية الألمانية عام 1906 اللجنة اليهودية الأمريكية التي ضمت بعض أعضاء النخبة الألمانية من رجال البنوك وكبار التجار والمحامين، وأعضاء من القيادة السياسية. وبطبيعة الحال لم تكن عضوية اللجنة مفتوحة، للجميع. ورداً على تأسيس اللجنة، قامت العناصر الشرق أوربية بتأسيس المؤتمر الأمريكي اليهودي عام 1917. وإلى جانب ذلك، تم تأسيس جمعيات أخرى مثل لجنة التوزيع المشتركة عام 1914.
نهاية المرحلة اليديشية وظهور اليهود الأمريكيين (1929-1945)
(The End of the Yiddish Era and the Emergence of American Jews (1929-1945(12/139)
كانت الولايات المتحدة، حتى ذلك التاريخ، حبيسة وضعها الجغرافي منغلقة على نفسها (وإن كان نفوذها قد امتد إلى أمريكا اللاتينية والفلبين) ، ولذا لم تكن قد أدركت بعد دورها كقائد للعالم الغربي وللتشكيل الإمبريالي الغربي. ولكنها كانت مرحلة حضانة أخيرة للرأسمالية الأمريكية، خرجت بعدها عملاقاً اكتسح الجميع.
بدأت هذه المرحلة بالكساد الأمريكي الذي غيَّر حياة كثير من الأمريكيين، وأثَّر في بنية المجتمع الأمريكي إذ تعطَّل كثير من العمال وأفلس ألوف من صغار رجال الأعمال. وقد تغيَّر الهيكل الوظيفي لأعضاء الجماعة اليهودية بشكل واضح، فلم يَعُد هناك أي يهود تقريباً يعملون في الزراعة أو الحرف اليدوية، ولم تكن تُوجَد سوى أعداد قليلة من اليهود في الصناعات الثقيلة سواء بين أصحاب العمل أو العمال. وتركَّز الأثرياء من أعضاء الجماعة اليهودية أساساً كسماسرة في البورصة والسينما، وفي أشكال الترفيه الأخرى، وفي بيع العقارات وتجارة التجزئة. أما الطبقة الوسطى اليهودية، فازداد تركُّزها في المهن والأعمال التجارية الصغيرة ووظائف الياقات البيضاء. ويذهب بعض الدارسين إلى أن هذا يعني أن الجماعة اليهودية بدأت تلعب مرة أخرى دور الجماعة الوظيفية الوسيطة، وإن كان السياق قد اختلف، وإلى أن اختلاف الشكل مجرد تعبير عن اختلاف السياق.(12/140)
تزايد عدد الشباب من أعضاء الجماعة اليهودية الذي يذهب إلى الجامعات الحكومية أو الخاصة. ففي نيويورك، كان 49% من مجموع طلبة الجامعات يهوداً، وبلغ عدد الطلبة اليهود في مختلف الجامعات الأمريكية مائة وخمسة آلاف، أي 9% من عدد الطلبة. ويُعَدُّ توجُّه الطلبة عند تخرُّجهم نحو الأعمال التجارية والمهن مؤشراً جيداً على التحولات التي بدأت تحدث في هذه المرحلة والتي بدأت تصوغ الهيكل الوظيفي لليهود بما يتفق مع وضعهم في المجتمع الأمريكي. وتراجعت اللغة اليديشية حتى اختفت تقريباً فاختفت الصحافة اليديشية اليومية وبقيت ثلاث مجلات أسبوعية لا يزيد توزيعها على اثنين وعشرين ألف نسخة معظم قرائها من كبار السن. وبدلاً من كونها لغة الشارع اليهودي الأمريكي، أصبحت لغة الشارع في وليامزبرج وهو الحي اليهودي الأرثوذكسي، حيث كانت لغة ثانية إلى جانب الإنجليزية. واختفى الأدب اليديشي، بل إن بعض أدباء اليديشية بدأ يكتب بالإنجليزية ويترجم أعماله إليها.
وفي العشرينيات، كانت أبواب الهجرة موصدة دون اليهود وغيرهم من المهاجرين ثم أُقفل بابها تماماً عام 1924. ولذلك، لم يزد عدد المهاجرين، من عام 1933 حتى عام 1937، على ثلاثة وثلاثين ألفاً. ومع تدهور الموقف في ألمانيا، ارتفع العدد إلى 124 ألفاً في الفترة بين 1938 و1941. وكان مجموع المهاجرين في الفترة من 1933 إلى 1945، أي مدة اثنى عشر عاماً، نحو 174.678 فقط معظمهم من ألمانيا والأراضي التي احتلتها. كان خُمس هؤلاء من المهاجرين المهنيين ونصفهم من الرأسماليين، وكان عدد كبير منهم من الشخصيات البارزة ثقافياً، مثل أينشتاين وحنا أرندت وأوبنهايمر، وقد لعبوا دوراً ملحوظاً في الحركات السياسية اليسارية والثورية وكذلك في البحوث العلمية.(12/141)
وبدأ أعضاء الجماعة اليهودية في هذه المرحلة يفقدون كثيراً من تنوعهم، ويكتسبون شيئاً من التجانس، إذ أصبح أعضاء الجماعة اليهودية مواطنين أمريكيين اكتسبوا هوية أمريكية واضحة يتحدث معظمهم الإنجليزية ويذهب أولادهم إلى معاهد تعليم أمريكية يستوعبون فيها القيم الأمريكية. بل يبدو أن الجماعة اليهودية المهاجرة كانت أسرع الجماعات المهاجرة تخلياً عن تراثها الثقافي ومنه اللغة، وفي التأمرك، وفي تبنِّي لغة المجتمع الجديد. وكان المدرسون من أعضاء الجماعة اليهودية من أنشط دعاة تعليم الإنجليزية للمهاجرين. وبدأت تنظيمات المهاجرين تتحول إلى بقايا أثرية. ولهذا، نجد أن أعضاء الجماعة اليهودية بدأوا يلعبون دوراً في الحياة السياسية. وقد وجدوا أن الحزب الديموقراطي هو الإطار الأمثل للتعبير عن مصالحهم، شأنهم في هذا شأن معظم المهاجرين والأقليات، فانضموا إليه بأعداد كبيرة. وهذه سمة جديدة ظلت لصيقة بالسلوك السياسي لأعضاء الجماعة اليهودية حتى الوقت الحالي. فقد أعطى ما بين 85 و90% من اليهود أصواتهم لروزفلت في الفترة 1933 ـ 1945. وبدأ أعضاء الجماعة يحققون بروزاً في الحياة الأمريكية، فكان منهم أحد الوزراء وثلاثة قضاة في المحكمة العليا، وأربعة حكام ولايات ومئات من كبار الموظفين الموجودين على مقربة من صانع القرار.
ويُلاحَظ أيضاً أن عدداً كبيراً من أعضاء الجماعة اليهودية كان يوجد في صفوف الأحزاب الثورية. وكما قيل، فإن 50% من أعضاء الحزب الشيوعي كانوا من اليهود، كما أن كثيراً من أعضاء المؤسسة الثقافية اليسارية كانوا، في فترة الثلاثينيات، من اليهود. وهذه سمة استمرت أيضاً لصيقة باليهود حتى الستينيات، وأخذت بعدها في الاختفاء.(12/142)
ومع تزايد معدلات الاندماج، زاد ابتعاد أعضاء الجماعة عن العقيدة اليهودية ومؤسساتها، فتناقص عدد اليهود الذين يذهبون إلى المعبد. وتزايد نفوذ اليهودية الإصلاحية والمحافظة، وتراجع نفوذ الأرثوذكس مع ضعف مؤسسات المهاجرين وانخراطهم في صفوف المجتمع الأمريكي. وشهدت هذه المرحلة ظهوراً متزايداً للمنظمات التي تقوم بجمع التبرعات من اليهود بشكل منتظم لصالح الجماعة اليهودية ثم لصالح إسرائيل. ومن أهم هذه التنظيمات جماعة النداء اليهودي الموحَّد عام 1939، وتأسَّس مجلس يهودي عام لمنظمات الدفاع اليهودية الذي أصبح اسمه (عام 1941) المجلس القومي الاستشاري لعلاقات الجماعة اليهودية (بالإنجليزية: ناشيونال كوميونتي ريلشنز أدفيسوري كاونسيل National Community Relations Advisory Council) . وقد بلغ عدد أعضاء الجماعة اليهودية في هذه المرحلة خمسة ملايين حسب بعض التقديرات، المُبالغ فيها، من مجموع السكان البالغ مائة وأربعين مليوناً، وقد ترك الكساد أثره العميق في الأطر التنظيمية لليهود إذ أن الضائقة المالية تركت كثيراً من مؤسسات الرفاه الاجتماعي اليهودي دون ميزانيات كافية. وظهر عجز المنظمات أيضاً وفشلها في أن تقوم بدور فعال لمساعدة يهود ألمانيا أو حتى فتح باب الهجرة أمامهم.
ويمكن القول بأن حرب أعضاء الجماعة اليهودية في أمريكا ضد النازية لم تكن حرباً يهودية خاصة، فقد ظلوا بمعزل عن الأحداث ولم يساهموا كثيراً في مقاطعة البضائع الألمانية، بل إن أحد زعماء الجماعة، ستيفن وايز، ساهم في إفشال الجهود الرامية إلى تنظيم المقاطعة بإيعاز من الصهاينة. ولكن إسهام اليهود الأمريكيين (بوصفهم أمريكيين) في جهود الحرب كان كبيراً، فقد فَقَدَ 10.500 منهم حياتهم وجرح 24 ألفاً وحصل 36 ألفاً على نياشين، وهو ما يدل على أنه لا يوجد مصير يهودي مستقل، وأن مصير أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة مرتبط تماماً بالمصير الأمريكي.(12/143)
وقد احتدم الصراع بين الأقلية الصهيونية التي كانت تتزايد عدداً والأغلبية الاندماجية، وخصوصاً أن المنظمة الصهيونية قرَّرت أن تنقل مركز نشاطها من لندن إلى واشنطن مع انتقال مركز الإمبريالية الغربية. ولذا، فقد عُقد مؤتمر بلتيمور الذي اتخذ قرار بلتيمور عام 1942 في الولايات المتحدة. وفي مقابل هذا، تم تأسيس المجلس الأمريكي لليهودية الذي كان يضم كبار رجال الأعمال (من اليهود الإصلاحيين أساساً) الذين حققوا معدلات عالية من الاندماج، والذين كانوا معادين للصهيونية. وربما تكمن المفارقة الكبرى في أنهم اتخذوا موقفاً رافضاً للصهيونية باعتبارهم أمريكيين في الوقت الذي بدأت فيه المؤسسة الحاكمة الأمريكية نفسها تأخذ موقفاً ممالئاً تماماً للصهيونية وترى فيها تحقيقاً لإستراتيجيتها في العالم. ولذا، كان محكوماً على المجلس الأمريكي لليهودية بالإخفاق.
اليهود الجدد أو الأمريكيون اليهود (1945-1970)
(Neo-Jews or Jewish Americans (1945-1970
تخلت الولايات المتحدة في هذه المرحلة تماماً عن سياستها الانعزالية وأصبحت قائد العالم الغربي بلا منازع. وازداد المجتمع الأمريكي علمانية وازدادت العلمانية شمولاً، وتم فصل الدين عن الدولة تماماً إذ وضعت المحكمة الدستورية العليا عام 1947 أسس هذا الفصل الحاد، فقد أعلنت المحكمة أن الحكومة الفيدرالية أو المحلية ليس بإمكانها أن تصدر قوانين من شأنها مساعدة أيٍّ من الديانات، ولا أن تُفضِّل ديانة على الديانات الأخرى. وترسخت فكرة الحقوق المدنية، وبدأت الأقلية السوداء تطالب بحقوقها مع أوائل الستينيات، وظهرت حركة الحقوق المدنية. وتُسمَّى هذه الفترة «فترة الوفرة» التي اتسمت بضعف الأواصر الاجتماعية والقيم الدينية، وتزايد معدلات العلمنة، وتوجُّه المجتمع الأمريكي، بشكل حاد وبدون أي تردد، نحو اللذة والمنفعة.(12/144)
وقد تحوَّلت الجماعة اليهودية إلى جماعة أمريكية تماماً، المولودون فيها أكثر من المهاجرين إليها، وأصبحوا أساساً أعضاء في الطبقة الوسطى الأمريكية التي تسكن الضواحي، وذابت كل علامات التميز الحضاري. ويرى علماء الاجتماع أن ثمة تقسيماً ثلاثياً يحكم المجتمع الأمريكي وهو أنه مجتمع تحكمه ديانات ثلاث، هي: البروتستانتية والكاثوليكية واليهودية، وهو ما يعني عمق قبول اليهودية.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، استمرت الحكومة في رفض السماح لأيٍّ من المهاجرين الجدد بدخول الولايات المتحدة. ومع هذا، صدر تشريع يسمح لبعض المُرحَّلين اليهود بالاستقرار. ودخل بالفعل ثلاثة وستون ألف يهودي، وكانت مجموعة غير متجانسة صغيرة العدد. ولذا، فإنها لم تُغيِّر الطابع العام الذي اتسمت به الجماعة اليهودية التي كانت قد تحدَّدت سماتها الأساسية واستقرت. وكان مجموع المهاجرين في الفترة من 1944 حتى 1959 لا يزيد على 191.693 إلى أن تم إلغاء القوانين التي تحد من الهجرة عام 1965. وبلغ عدد المهاجرين في الفترة من 1960 إلى 1968 نحو 73 ألف مهاجر يهودي، معظمهم جاء من إسرائيل بعد عام 1957، ومن الشرق الأوسط وكوبا، وإن كان الجميع ينتمون لأصل أوربي.
ارتفع عدد أعضاء الجماعة اليهودية إلى 5.200.000 عام 1957، ووصل إلى 6.000.000 عام 1970، وهذا يعني أن عدد أعضاء الجماعة اليهودية كان آخذاً في التناقص بالنسبة لعدد السكان، وأن زيادتهم الطبيعية في الفترة من 1945 حتى عام 1969، أي خلال نحو خمسة وعشرين عاماً، لم تزد عن نحو 700 ألف (وذلك بطرح عدد المهاجرين) . وتسبب هذه الاتجاهات السكانية، التي أصبحت اتجاهات ثابتة، كثيراً من القلق في الأوساط اليهودية، وخصوصاً إذا تمت رؤيتها في سياق معدلات الاندماج المتزايدة والزواج المُختلَط.(12/145)
وتوجد معظم الجماعات اليهودية في المدن الكبرى، ذلك أن أربعين بالمائة من كل اليهود يعيشون في نيويورك وحولها كما كان الحال منذ عام 1900. وبلغ عدد اليهود الذين يعيشون في نيويورك العظمى أي في نيويورك والضواحي المحيطة بها وشمال شرق نيوجرسي، وفي المدن التسع الكبرى (لوس أنجلوس ـ شيكاغو ـ فيلادلفيا ـ بوسطن ـ ميامي ـ واشنطن ـ كليفلاند ـ بلتيمور ـ ديترويت) نحو 75% من كل أعضاء الجماعة اليهودية.
ويُلاحَظ أن أعضاء الجماعة اليهودية لا يسكنون المدن نفسها وإنما يقطنون خارجها في الضواحي، وهذا من علامات الثراء المتوسط إذ لا يسكن المدن الكبرى سوى الفقراء (من السود والبورتوريكيين) أو كبار الأثرياء من المليونيرات. ولا توجد ضواح مقصورة على اليهود فما يحدد موقع السكنى في الوقت الحاضر مقياسان ماديان أحدهما الدخل والآخر لون الجلد، ولم يَعُد الانتماء الديني أساساً للتصنيف. والواقع أن أعضاء الجماعة اليهودية يُصنَّفون ضمن الأقليات البيضاء في الولايات المتحدة، وتنتمي أغلبيتهم إلى شريحة عليا من الطبقة الوسطى.
ومن الاتجاهات الجديدة التي شهدتها هذه الفترة زيادة عدد أعضاء الجماعة اليهودية في لوس أنجلوس، ففي عام 1945 كان عددهم يبلغ 150 ألفاً، زاد إلى 510 آلاف عام 1968. والشيء نفسه ينطبق على ميامي إذ زاد العدد من 7500 عام 1937 إلى 40 ألفاً عام 1948 و150 ألفاً عام 1970، وإن كان معظم اليهود هناك من العجائز. وحركة أعضاء الجماعة اليهودية إلى كاليفورنيا وميامي ليست مقصورة علىهم وإنما كانت جزءاً من اتجاه قومي أمريكي عام، حيث هاجر الكثيرون من وسط القارة الأمريكية إلى السواحل. ولذلك، نجد أن يهود شيكاغو قد انخفض عددهم من 333 ألفاً عام 1946 إلى 285 ألفاً عام 1969.(12/146)
وفيما يخص الهيكل الوظيفي والمهني لأعضاء الجماعة اليهودية، فقد شهدت الفترة بعد عام 1945 تَعمُّق الاتجاهات التي شاهدنا ظهورها في المرحلة السابقة، إذ زاد عدد اليهود المشتغلين بالمهن في الطب والتدريس بالجامعات وداخل البيروقراطية الحكومية في جهاز الموظفين وتناقص عدد العمال المهرة وغير المهرة بنسبة كبيرة بحيث لا يكاد يوجد أي يهود بين عمال النقل وعمال المناجم. كما لا يوجد يهود في صناعة الأخشاب والتعدين والنقل كما كان الحال في الماضي، وتناقص عدد الفلاحين اليهود بحيث كاد ينعدم، كما تناقص عددهم في صناعة الملابس، أي أن ميراثهم الاقتصادي الأوربي اختفى تماماً. ويمكن القول بأن ظهور المهني اليهودي هو السمة الأساسية لهذه الفترة. فعلى سبيل المثال، زاد عدد المهنيين في إحدى المدن الأمريكية (تشارلستون) أربعة أضعاف بين منتصف الثلاثينيات وعام 1948، وزاد عدد المهنيين في لوس أنجلوس في الفترة من 1941 إلى 1959 من 11% إلى 25%. ويظهر هذا في بروز شخصيات يهودية في مجالات التربية والعلوم والقضاء والمحاسبة، وفي زيادة عددهم في مجالات الترفيه والإعلام والنشر. وزاد عدد أعضاء الجماعة اليهودية الذين يعملون كوسطاء في مجالات تجارة القطاعي والبناء والعقارات في المدن الكبرى والترفيه وعالم المال والأسهم والسندات والصناعة وقطاع الإعلام والسينما والمسرح (نشر ـ معاهد موسيقية ـ مراكز ثقافية) . وبينهم عدد من كبار أصحاب المزارع والمصانع في قطاع الصناعة الزراعية. ويُلاحَظ تركُّز الرأسماليين من أعضاء الجماعة اليهودية في الخدمات الاستهلاكية وفي الصناعات الخفيفة وصناعات القطاع الوسط (صناعة الملابس وصناعة الفراء والمجوهرات والمشروبات الروحية وصناعة السينما) . وهذا يدل على أن ميراثهم الاقتصادي اليديشي ووضعهم كمهاجرين لا يزال له أثر في نمط حراكهم. و «يسيطر» الرأسماليون من أعضاء الجماعة اليهودية على بعض هذه الصناعات. ولكن إلى(12/147)
جانب هذا يُلاحَظ غياب الرأسماليين من أعضاء الجماعة اليهودية عن الصناعات الثقيلة، إذ تظل هذه الأخيرة (الفحم والفولاذ والمصارف والنفط والسيارات والسفن ووسائل المواصلات) في أيدي الواسب، أي البروتستانت البيض، وهم أعضاء النخبة الاقتصادية والسياسية الذين يتحكمون في العصب الأساسي للاقتصاد الأمريكي الذي يشكل مصدر النفوذ السياسي الحقيقي. وقد يكون من المفيد أن نذكر، في هذا المضمار، أن المصارف الكبرى في الولايات المتحدة، وعددها خمسة وأربعون، لا يشغل اليهود المناصب العليا فيها إلا في خمسة مصارف. ويظل أغلبية اليهود ميسوري الحال أعضاء في الطبقة الوسطى من أصحاب الياقات البيضاء ممن يسكنون المدن أو ضواحيها، وهو ما يعني بروزهم ولمعانهم دون أن تكون لهم قوة اقتصادية حقيقية.
ويمكن القول بأن الهرم الوظيفي بالنسبة ليهود أمريكا مختلف عن الهرم الوظيفي القومي الأمريكي. ففي عام 1960، بلغ عدد المهنيين بين اليهود 25% (مقابل 23% بين الأمريكيين ككل) وبلغ عدد الملاك والمديرين وأصحاب العمل 30% (مقابل 10.7% بين الأمريكيين ككل) ، و25% كانوا يعملون في الوظائف الكتابية وعمليات البيع. أما الـ 20% الباقية، فثلاثة أرباعهم كانوا عمالاً مهرة وغير مهرة وحرفيين. ويُلاحَظ زيادة عدد المهنيين اليهود، وهو ما يعني زيادة اقتراب الجماعة اليهودية من السلطة ومن صانع القرار، إذ نجد عدداً كبيراً منهم في واشنطن مستشارين للحكومة ولأعضاء الكونجرس وفي عديد من اللجان والوظائف. ويبدو أن متوسط دخل الفرد اليهودي أعلى من متوسط دخل أعضاء المجموعات الدينية والإثنية الأخرى.(12/148)
ولكن أعضاء الجماعة اليهودية بغض النظر عن مدى فقرهم أو ثرائهم أو تميُّزهم الوظيفي أو مدى صهيونيتهم أو عدمها، أصبحوا جزءاً عضوياً من الاقتصاد الأمريكي. فالرأسماليون الأمريكيون اليهود لا يشكلون رأسمالية يهودية لها حركية مستقلة، وهم ليسوا رأسماليين يهوداً وإنما هم رأسماليون أمريكيون يهود (أو رأسماليون أمريكيون من أعضاء الجماعة اليهودية) ويشكلون جزءاً من الاقتصاد الأمريكي وينحصر ولاؤهم في رأس المال، وهذا الولاء هو الذي يحدد سلوكهم. وما يحدِّد حركية رأس المال الذي يملكه اليهود ليس تطلعاتهم الدينية أو الصهيونية وإنما حركية الاقتصاد الرأسمالي الأمريكي العامة والمنظومة القيمية المادية النفعية.
وكذلك أيضاً المهني اليهودي، فمما لا شك فيه، كما بيَّنا، أن زيادة عدد المهنيين من أعضاء الجماعة اليهودية يعني في واقع الأمر ازدياد أعضاء الجماعة اقتراباً من السلطة وصانع القرار وتأثيراً فيها. ولكنهم، مع هذا، يظلون أقلية عددية صغيرة، وهو ما يعني أن هيمنتهم تظل محدودة. وحينما يصل أحد أعضاء الجماعة اليهودية إلى القمة، فإن الطريق يكون مفتوحاً أمامه وهو يمارس نفوذه في دولة لها إستراتيجيتها العامة ولها مؤسساتها الثابتة وقوانينها المستقرة وأجهزتها التنفيذية ذات السطوة، وهو ما يعني أنه سيظل أساساً جزءاً من الكل الأمريكي حتى في مكانه القيادي. وهو سيحقق البروز وسيصل إلى مكانة قيادية بمقدار ما يخدم مصالح المؤسسة. إن الرأسمالي اليهودي، مثل المهني اليهودي، يشكل كل منهما نقطة في مجتمع يشبه البحر الضخم المتلاطم ذا الحركية المستقلة الواضحة. ومن الصعب على أعضاء أية أقلية، أياً ما بلغ نفوذها وقوتها، الهيمنة عليه وتوظيفه لخدمة مصالحها، وخصوصاً إن تعارضت هذه المصالح مع الاتجاه العام. لكن هذا لا يعني انعدام المقدرة على التأثير، وخصوصاً فيما يخص التفاصيل، وهو أمر يختلف عن التوظيف الكامل وتغيير الاتجاه.(12/149)
وقد طُرحت قضية الصهيونية على الجماعة اليهودية المندمجة وتم حسمها بعد عام 1948 لصالح الصهيونية، وحسب شروط يهود أمريكا الجدد الذين اعتنقت أغلبيتهم الصهيونية، ولكنها لم تكن على أية حال الصهيونية الاستيطانية ذات الجذور الشرق أوربية التي تطلب من اليهود التخلي عن وطنهم والهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها. إنها صهيونية توطينية تترجم نفسها إلى دعم مالي وسياسي للمُستوطَن الصهيوني، وتكتفي بممارسة الضغط السياسي على الحكومة الأمريكية لصالح دولة إسرائيل (وإن كانت المسألة لا تستدعي ضغطاً كبيراً) . وقد سارعت الحكومة الأمريكية إلى تأييد قرار التقسيم ثم الاعتراف بالدولة، وهي تراها الآن حليفاً إستراتيجياً وتدفع معونات ضخمة لها. ولا تترجم هذه الصهيونية نفسها إلى هجرة أو استيطان إلا في القليل النادر، فهي تترجم نفسها إلى رموز إثنية تشبه من بعض الوجوه الرموز الإثنية لأعضاء الأقليات الأخرى.
وقد شبَّه آرثر هرتزبرج علاقة يهود الولايات المتحدة بإسرائيل بعلاقة الرجل بعشيقته، فهو لا يراها إلا لفترات متباعدة، ولذا فإنها تظل بعيدة مشبعة بالرومانسية ومزينة، وهو يغدق عليها الأموال ولكنه يحتفظ بمسافة بينه وبينها، وحينما تحين لحظة الاختيار فإنه يختار زوجته وأولاده وأسرته.(12/150)
ومن ناحية الأطر التنظيمية، يُلاحَظ بدايات محاولة الوصول إلى إطار تنظيمي يضم سائر المنظمات المختلفة على أن تحتفظ كل منظمة أو جماعة باستقلالها. والواقع أن محاولة التنظيم هي تعبير عن تَزايُد التجانس بين أعضاء الجماعة اليهودية. أما طريقة التنظيم نفسها، فهي انعكاس للطريقة الفيدرالية الأمريكية في التنظيم. ولقد تأسَّست لجان قومية مهمتها التنسيق بين المعابد اليهودية أو بين اللجان الصهيونية المختلفة أو لجان الدفاع المختلفة أو الجباية. وكما أسلفنا، أُسِّست جماعة النداء اليهودي الموحَّد عام 1939، وسندات إسرائيل عام 1950، والنداء الإسرائيلي الموحَّد عام 1950. كما أن هناك، في كل جماعة يهودية كبيرة، ممثِّلين لمختلف المنظمات اليهودية التي تسيطر عليها الصهيونية، أكثر التنظيمات اليهودية تنظيماً.(12/151)
ومن أهم القضايا التي أثيرت في هذه المرحلة قضية علاقة الدين بالتعليم إذ أن أعضاء الجماعة اليهودية كانوا يقفون وراء المطالبة بعدم تقديم العون للمدارس الدينية بحجة أن هذا خرق للدستور الأمريكي الذي يفصل بين الدين والدولة. ولكن معظم هذه المدارس كان الملجأ الوحيد لأبناء الأسر الكاثوليكية المهاجرة الفقيرة، الأيرلنديين والإيطاليين والبورتوريكيين، حيث يمكنهم أن يتلقوا تعليماً جيداً، فالقيم الأخلاقية في نظام التعليم العام الأمريكي قد ضعفت وبحدة، كما أن طريقة تمويل المدارس من الضرائب المحلية تجعل مستوى المدارس في الأحياء الغنية التي يوجد فيها اليهود مرتفعاً إذ يستطيع أهل الحي أو المدينة أن يموِّلوا جميع النشاطات المدرسية. أما في الأحياء الفقيرة، فلا تتاح هذه الفرصة. ولذا، فقد اكتسبت قضية الدعم الحكومي للمدارس نبرات إثنية، وخصوصاً أن معظم أعضاء الجماعة اليهودية يقفون أيضاً ضد تدريس القيم الأخلاقية والروحية للأطفال باعتبار أن هذا قد يُستخدَم ستاراً لتدريس القيم الدينية. ولا تزال هذه القضية مصدراً أساسياً للتوتر في العلاقات بين أعضاء الجماعة اليهودية وأغلبية سكان الولايات المتحدة.
ومما يجدر ذكره أن اليهود الأرثوذكس يتخذون موقفاً مشابهاً لموقف الكاثوليك، فهم يودون الحفاظ على نظام التعليم اليهودي الخاص بهم، الأمر الذي يجعلهم في حاجة إلى دعم حكومي.
ويبدو أن الهوية الدينية اليهودية في الولايات المتحدة ضَعُفت بشكل سريع جداً. ففي إحدى الإحصاءات (عام 1945) ، جاء أن 18% من اليهود يرتادون دور العبادة الخاصة بهم مرة واحدة على الأقل في الشهر مقابل 65% من البروتستانت و83% من الكاثوليك، وهو ما يدل على أنهم من أكثر القطاعات علمنة في المجتمع الأمريكي. واستمرت النسبة كما هي عليه عام 1958 ولكنها انخفضت قياساً إلى بقية المجتمع، فأصبحت 40% من البروتستانت و74% بالنسبة إلى الكاثوليك.(12/152)
ولكن نسبة 18% قد يكون مُبالغاً فيها إذ أن الكثير من يهود أمريكا يلصقون بأنفسهم صفة «يهودي» دون أية ممارسات دينية. وقد بيَّنت إحدى الإحصاءات أن نحو 10% أو 20% فقط من اليهود يقيمون الشعائر الخاصة بالاحتفال بالسبت والطعام الشرعي والصلوات اليومية. ويظهر ضعف المؤسسات الدينية في أن المعبد اليهودي أصبح ذا دور ثانوي تماماً بالنسبة لدور النادي الاجتماعي اليهودي. ويمكن القول بأنه، مع ضعف الهوية الدينية، يتمسك اليهود ببعض المظاهر الإثنية للحفاظ على الهوية المتميِّزة. ومن هنا تزايدت قوة الصهيونية، فالصهيونية هي اليهودية الإثنية بعد تجريدها من أي مضمون ديني.
ومن دلائل الاندماج المتزايد، اختفاء العبرية كأداة للتعبير الأدبي، وكذلك اتجاه اليديشية نحو الاختفاء الكامل. ويمكن اعتبار تزايد الزواج المختلط (بمعدلاته المرتفعة التي تصل في بعض الولايات إلى ما يزيد على 60%) مؤشراً آخر. ويظهر الاندماج أيضاً في غربة الأجيال اليهودية الجديدة عن أسرها البورجوازية، فقد انخرطت أعداد كبيرة منهم في صفوف حركة الحقوق المدنية وحركة اليسار الجديد في الستينيات. ولكن يمكن القول بأن أعضاء الجماعة اليهودية، باعتبارهم أقلية مهاجرة في المدينة تدين بالولاء للحزب الديموقراطي، كان لهم دائماً اتجاه ليبرالي وكانوا يطالبون بقدر من التدخل من جانب الحكومة ضد الاحتكارات ومن أجل الرفاه الاجتماعي.(12/153)
ومن الظواهر المهمة في هذه المرحلة، استمرار بروز أعضاء الجماعة اليهودية وتميُّزهم في المجتمع الأمريكي، وخصوصاً في الحياة الثقافية والأدبية. ويتضح بروز أعضاء الجماعة أيضاً في تزايد عدد اليهود من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات (10% من مجموع الأساتذة يهود) موزعين في جميع التخصصات، وخصوصاً الفيزياء وعلم الاجتماع وعلم النفس. كما يُلاحَظ بروزهم من خلال العدد الكبير من الكتاب والنقاد الأمريكيين اليهود، مثل: سول بلو، وفيليب روث، وبرنارد مالامود، وليونيل ترلنج، وإرفنج هاو، ولسلي فيدلر، ووليام فيلبس. ولكن من الملاحَظ أن كثيراً من هؤلاء المثقفين لم تكن هويتهم يهودية بشكل محدَّد ولم يهتموا بالقضايا الإثنية أو الدينية اليهودية إذ أن انتماءهم كان أمريكياً بالدرجة الأولى.(12/154)
الباب الثامن عشر: اليهود الجدد أو الأمريكيون اليهود في الوقت الحاضر
تعداد الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة ومعالمها السكانية الأساسية
Number of the Jewish Community in the U.S.A. and Main Demographic Traits
بلغ عدد يهود الولايات المتحدة عام 1992 نحو 5.620.000، ويذهب مصدر إحصائي آخر أن عددهم عام 1995 هو 5.800.000، الأمر الذي جعلهم أكبر جماعة يهودية في العالم (حوالي 43.5%) . وهم يشكلون 2.4% من الشعب الأمريكي البالغ عدده 257.595.000 نسمة. وقد أصبحت الإحصاءات الخاصّة بأعضاء الجماعة اليهودية مسألة خلافية بشكل حاد، وخاضعة للأهواء الأيديولوجية. فحسب إحدى الإحصاءات، بلغ العدد 8.200.000، ولكن الدراسة أضافت أن من بينهم 2.700.000 من «أصول يهودية» ولكنهم لا يعتبرون أنفسهم يهوداً. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: إن كان هؤلاء ليسوا يهوداً من منظور الشريعة اليهودية ولا من منظور الإثنية اليهودية ولا من منظور أنفسهم أو جيرانهم، فلم تم ضمهم إلى الإحصاء أساساً؟ ومهما يكن الأمر، يُلاحَظ أن عدد أعضاء الجماعة اليهودية قد تناقص بشكل ملحوظ قياساً إلى عدد سكان الولايات المتحدة. فقد بلغ عدد اليهود عام 1957 نحو 5.200.000 مليون، وزاد إلى 5.920.900 عام 1980. ولكن من المعروف أنه حين كانت الزيادة في الشعب الأمريكي 37% كانت الزيادة بين أعضاء الجماعة اليهودية 17% فقط. ويُلاحَظ أنه لم تُسجَّل أية زيادة في عدد اليهود بعد ذلك، بينما زاد السكان في الولايات المتحدة 1.5% سنوياً. ومما يزيد الصورة قتامة أن هذا العدد لا يضم اليهود وحسب وإنما "كل أهل البيت اليهودي"، أي الأعضاء غير اليهود في العائلات اليهودية.....(12/155)
ويُلاحَظ أن نسبة الخصوبة بين أعضاء الجماعة اليهودية منخفضة (يتراوح عدد الأطفال تحت سن الخامسة لكل ألف أنثى بين 20 و 44) . وقد جاء في إحدى الإحصاءات (عام 1971 ـ 1972) أنه في إحدى الجماعات الأمريكية، أنجبت ألف أم يهودية (في المرحلة العمرية 20 ـ 44) 450 طفلاً مقابل 635 طفلاً للأمهات غير اليهوديات. وقد انخفضت النسبة بعد ذلك فأصبحت 1.6 لكل أنثى (بل يُقال 1.4) وهي أقل نسبة خصوبة في الولايات المتحدة (النسبة العامة للأنثى الأمريكية 2.5) . وبيَّنت إحصاءات عام 1990 أن نسبة خصوبة الأنثى اليهودية للمرحلة العمرية 35 ـ 44 هو 1.57، أما بالنسبة للمرحلة العمرية المهمة 25 ـ 34 فهو نحو 0.87 (وتُعَد من أقل النسب في العالم) . وهذا يدل على أن منحنى التناقص لم يصل إلى ذروته بعد. وهذا يعني أن درجة خصوبة الأنثى اليهودية غير كافية لأن تُعيد الجماعة إنتاج نفسها (المطلوب هو 2.1 طفل لكل أنثى) .
ولوحظ أن المرحلة العمرية 10 ـ 14 تشكل 10% من مجموع السكان في الولايات، أما بين أعضاء الجماعة اليهودية فهي 9.7%، أي أنها مساوية تقريباً للنسبة القومية، ولكن يُلاحَظ أن الأمر مختلف في المرحلة العمرية 5 ـ 9 إذ أن النسبة المئوية العامة هي 9.7%، وهي بين اليهود 6.8%. ويتجلى التفاوت الحاد في الأطفال دون الرابعة، فالنسبة هي 8.4% لمجموع السكان، أما بالنسبة للجماعة اليهودية فهي أقل من النصف (4%) ، وهو ما يعني تزايد عقم المرأة اليهودية وتناقص خصوبتها. فإذا أضفنا إلى ذلك معدلات الاندماج العالية والزواج المُختلَط، فإننا نجد أن الاتجاه السكاني العام نحو التناقص يتزايد مع الأيام. وفي عام 1977، أوصى المؤتمر المركزي للحاخامات الأمريكيين بتشجيع الأزواج الأمريكيين اليهود على إنجاب طفلين أو ثلاثة أطفال على الأقل.(12/156)
ويذهب إلياهو برجمان (مركز هارفارد للدراسات السكانية) إلى أنه حينما تحتفل الولايات المتحدة بعيدها المئوي الثالث (6702) لن يتجاوز عدد اليهود 944.000 (أي أقل من مليون) . بسبب انحفاض نسبة المواليد وازدياد معدلات الاندماج.
ولكن، لم يتفق معه كل من صموئيل لايبرمان ومورتون واينفيلد، حيث تنبآ بزيادة بطيئة حتى عام 2000 ثم تناقص مستمر ليصل إلى 3.9 مليون عام 2070. وبغض النظر عن هذه الخلافات بين علماء ديموجرافيا الجماعات اليهودية، فإن ثمة تناقصاً ملحوظاً هو تعبير عن الظاهرة العامة الموجودة التي تسم كل أعضاء الجماعات اليهودية في العالم ويطلق عليها ظاهرة «موت الشعب اليهودي» .(12/157)
وشهدت هذه الفترة تَزايُد تَوزُّع أو تشتت الجماعات اليهودية، وهو ما سيؤدي إلى زيادة معدلات الاندماج، فقد استمر الاتجاه نحو الانتقال من ولايات الشمال الشرقي (نيويورك ونيوجرسي وكونتيكات) والشمالية الوسطى (إلينوي، وغيرها) ، وهي المناطق التقليدية لتركز اليهود إلى كاليفورنيا التي يبلغ سكانها اليهود في الوقت الحالي 919 ألفاً، أي نحو 3.5% من سكان الولاية، وإلى فلوريدا التي يبلغ حجم الجماعة اليهودية فيها نحو 622.000، أي 4.6%، وسكان لوس أنجيلوس من اليهود (501.000) ينقص قليلاً عن عدد سكان فيلادلفيا (245.000) وشيكاغو (248.000) مجتمعين (394.000) . ومع هذا، لا تزال ولاية نيويورك تضم 1.640.000، أي 9.1% من سكانها وحوالي 20% من مجموع يهود العالم. وتضم ولاية نيوجرسي 430 ألفاً أي 5.6%. أما ولاية ماساشوستس، فتضم 270 ألفاً أي 4.5% من سكانها، وتضم ولاية بنسيلفانيا 330 ألفاً، أي 2.8% من سكانها، وبلغ أعضاء الجماعة اليهودية في ميريلاند نحو 212.000، أي 4.3% من سكانها. كما استمر اليهود في التنقل من وسط المدن الكبرى إلى الضواحي والمدن الصغيرة. وقد هبط عدد اليهود من سكان نيويورك من 2.5 مليون في أوائل السبعينيات إلى 1.450.000 عام 1995. ولذا، فمن المتوقع أن ينكمش الدور الذي يلعبه اليهود في إدارة هذه المدينة. وبالفعل، تم مؤخراً انتخاب عمدة أسود في نيويورك، وكان من قبل إما يهودياً أو من أصل بريطاني. ومع هذا، تظل نيويورك أهم وأكبر مدينة يهودية في العالم (بل أكبر مدينة بولندية وأيرلندية أيضاً) . ومن المدن الأخرى التي تضم جماعات يهودية كبيرة ما يلي:(12/158)
وأعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة هم أساساً جماعة حضرية، ذلك أن 96% من اليهود يقطنون المدينة مقابل المعدل القومي البالغ 64%، وذلك حسب إحصاءات عام 1971 - 1972. ويعيش 75% من مجموع اليهود في المدن الأساسية وضواحيها (نيويورك ولوس أنجيلوس وفيلادلفيا وشيكاغو وميامي وواشنطن وبوسطن وبلتيمور وديترويت وكليفلاند) والتي يعيش فيها 20% من مجموع المواطنين الأمريكيين.
ومن القضايا الأساسية والخطيرة التي يواجهها الأمريكيون اليهود، والتي تساعد على تناقص عدد اليهود، قضية الزواج المختلط. وقد ورد في إحدى الإحصاءات أن 9.2% من جملة اليهود المتزوجين عام 1950 كانوا مقترنين بطرف غير يهودي. وفي الفترة التي امتدَّت حتى عام 1965، كانت نسبة اليهود المتزوجين من يهود حوالي 95%. ولكن النسبة انخفضت إلى النصف في الفترة 1965ـ 1974 إذ انخفضت إلى 74% ثم انخفضت في الفترة 1974 ـ 1985 إلى 54%، ثم انخفضت بعد عام 1985 إلى 47 ـ 48%. وهذه هي النسبة العامة على المستوى القومي، وهو ما يعني أنها تصل في بعض الأماكن (مثل أيوا، حيث لا توجد جماعة يهودية كبيرة) إلى ما يقرب من 80 ـ 90%. ويدل المنحنى الإحصائي على أنها لم تصل بعد إلى نقطة الذروة.(12/159)
ويطلق الصهاينة على ذلك «الهولوكوست الصامت» أو «الإبادة الصامتة» . وقد أصدرت إحدى الجماعات اليهودية إعلاناً في إحدى الجرائد الأمريكية يقول «أنت يهودي، ولكن هناك احتمالاً كبيراً لأن يكون أولادك غير يهود» . ونسبة الذكور اليهود المتزوجين من إناث غير يهوديات إلى نسبة الإناث اليهوديات المتزوجات من ذكور غير يهود هي 1 ـ 2. ولهذا دلالة من منظور الشريعة اليهودية التي تُعرِّف اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية. وبالتالي، فإن أبناء الذكور اليهود لا يُحسبون يهوداً. ورغم أن أبناء الإناث المتزوجات من غير يهود يُعَدون رسمياً يهوداً، فإنهم من الناحية الفعلية يعدون غير محددي الهوية. ويبلغ عدد الأطفال اليهود من الزيجات المُختلَطة بين 400 و600 ألف طفل يهودي، وهو ما يعني أن الاتجاه نحو الزواج المُختلَط سيزيد في المستقبل لأن أبناء مثل هذه الزيجات يكون عندهم استعداد أكبر للاندماج والزواج المُختلَط.(12/160)
وفي محاولة وقف تناقص أعداد أعضاء الجماعة اليهودية، اتخذت اليهودية الإصلاحية سياسة تشجيع التبشير باليهودية كما اعترفت بأبناء الذكور اليهود (المتزوجين من إناث غير يهوديات) يهوداً. ويُلاحَظ أن بعض أبناء الزيجات المختلطة، يعتبرون أنفسهم يهوداً، ولكن أغلبيتهم العظمى لا تعبِّر عن انتمائها الديني بطريقة دينية أو إثنية، أي أن يهوديتهم هي في واقع الأمر اسم بلا مُسمَّى ودالٌّ بلا مدلول. ويسبب أبناء الزيجات المُختلَطة مشكلة ضخمة في إسرائيل، فكثير من الإناث اللائي يتزوجن من يهود إما يتهودن على يد حاخامات إصلاحيين أو محافظين أو يحتفظن بانتمائهن الديني وينشئن أطفالهن يهوداً. وترفض الحاخامية الأرثوذكسية في إسرائيل الاعتراف بيهودية هؤلاء المتهودات أو يهودية أطفالهن. كما تحاول المؤسسة الأرثوذكسية في الدولة الصهيونية أن تعيد تعريف الهوية اليهودية لتصبح: «من وُلد لأم يهودية أو تهود حسب الشريعة» ، أي على يد حاخام أرثوذكسي. ولو تم هذا، فإنه سيسبب ما يشبه القطيعة شبه الكاملة بين الدولة الصهيونية وأغلبية يهود الولايات المتحدة المحافظين والإصلاحيين والإثنيين. ويبدو أن تزايد معدل العلمنة يؤدي إلى الإحجام عن الإنجاب بسبب التوجه نحو اللذة وتحقيق الذات.(12/161)
وقد ظهرت في فترة الستينيات، جماعات سوداء معادية لليهود، والمؤسسة الليبرالية البيضاء. ومع بداية الثمانينيات، كان تحالف الأقليات أو التحالف الليبرالي الذي كان يشكل أعضاء الجماعة اليهودية نواته الأساسية، والذي خاض معركة الحقوق المدنية في أوائل الستينيات، قد تحطَّم تماماً ولم يَعُد لليهود فيه مكان وبدأت القيادات السوداء تتولى قيادة الأقلية السوداء التي تطالب الآن بأن تلعب دوراً يتناسب مع حجمها. وقد ظهرت أقليات أخرى في المجتمع الأمريكي مثل الكاثوليك المنحدرين من أصل إسباني (هسبانيك) والأمريكيين ذوي الأصل العربي. ويبدو أن عدد المسلمين في الولايات المتحدة قد بدأ يتجاوز عدد اليهود، إن لم يكن قد تجاوزه بالفعل. وكل هذا يعني أن الجماعة اليهودية بدأت تفقد وضعها كأهم أقلية داخل المجتمع الأمريكي.(12/162)
وقد شهدت هذه المرحلة نوعين من المهاجرين: أولهما وأهمهما المهاجرون من إسرائيل، حيث استوطن الولايات المتحدة نحو 700 ألف إسرائيلي (وإذا ضُم إلى هذا الرقم الأبناء، فإن الرقم يقترب من مليون) . وقد أرسلت الوكالة اليهودية مجموعة من المبعوثين الإسرائيليين لإقناع الإسرائيليين بالعودة، ولإقناع بعض يهود أمريكا بالهجرة، فاستقر عدد منهم في الولايات المتحدة. والنوع الثاني هم المهاجرون من روسيا السوفيتية الذين بلغ عددهم 100 ألف من مجموع 265 ألف مهاجر سوفيتي حتى عام 1989، هذا بخلاف من تركوا إسرائيل بعد استقرارهم فيها. وقد تزايد عددهم في الآونة الأخيرة بسبب فتح باب الهجرة من الاتحاد السوفيتي مرة أخرى، واندلاع الانتفاضة في الوقت نفسه، الأمر الذي جعل الاستيطان في فلسطين المحتلة أمراً غير جذاب. ويسبب كلا الفريقين حرجاً شديداً ليهود أمريكا. فالنوع الأول مرتد عن إسرائيل (بالعبرية: يورديم) ، ويكوِّنون «دياسبورا إسرائيلية» ، وهو مصطلح يقوض دعائم الشرعية الصهيونية. أما النوع الثاني، فهم متساقطون (بالعبرية: نشوريم) آثروا الهجرة إلى الجولدن مدينا (البلد الذهبية) على الهجرة إلى إرتس يسرائيل (أرض إسرائيل) . وهنا تطرح القضية نفسها: هل يجب مساعدة المهاجرين الإسرائيليين والروس باعتبارهم يهوداً أم يجب التصدي لهم باعتبارهم مرتدين ومتساقطين؟ ومما تجدر ملاحظته أن المهاجرين الروس يُطلَق عليهم مصطلح «يهود روس» وليس «يهود اليديشية» لأنهم لا يعرفون هذه اللغة. وقد جاء معظمهم من روسيا وأوكرانيا (لأن معظم المهاجرين من جورجيا يذهبون إلى إسرائيل بسبب كفاءتهم المتدنية، فجورجيا جزء من العالم الثالث، كما أن هجرتهم إلى إسرائيل تعني تحقيق الحراك الاجتماعي) . وهناك نسبة عالية من المهاجرين السوفييت متزوجون من غير اليهود، و40% منهم لا يذهبون إلى المعابد اليهودية إلا في الأعياد المهمة. ومعظمهم مهنيون يحملون مؤهلات عالية وقد(12/163)
هاجروا أساساً لأسباب اقتصادية وليست أيديولوجية. ولكن متطلبات الحياة في الولايات المتحدة تفرض عليهم أن يتقبلوا وظائف دون مستواهم الفكري ودرجة تعليمهم، الأمر الذي يسبب لكثير منهم الإحباط، كما أن أخلاقيات المجتمع الأمريكي وإيقاعه يصيبهم بالحيرة. وقد كوَّن هؤلاء جماعة منغلقة على نفسها لا تكن كثيراً من الاحترام للحضارة الأمريكية أو ليهود أمريكا. ويبدو أن المهاجرين الروس والإسرائيليين لا يُقبلون على الاندماج في الجماعة اليهودية، ذلك أن الروس يرون أنهم ليسوا يهوداً أساساً. أما الإسرائيليون فيصرون على هويتهم الإسرائيلية. ومن أسباب الحرج الأخرى التي يسببها هؤلاء المهاجرون ليهود أمريكا أن الجريمة المنظمة انتشرت في صفوفهم إذ تخصصوا في تهريب الأموال وتزييفها وفي البغاء وتجارة المخدرات. وقد بدأت المافيا اليهودية الإسرائيلية والسوفيتية في الولايات المتحدة في التنسيق مع المافيا الإسرائيلية والسوفيتية في الدولة الصهيونية. هذا، وقد وضعت الولايات المتحدة قيداً على هجرة اليهود السوفييت بحيث لا يتجاوز عدد المسموح لهم بالهجرة سنوياً حداً معيناً (50 ألف ويصل العدد أحياناً إلى 70 ألفاً) وذلك لتحويل سيل الهجرة إلى إسرائيل.
وظائف اليهود الجدد
Occupations of the Neo-Jews(12/164)
لا يزال الهرم الوظيفي بالنسبة للأمريكيين اليهود مختلفاً عن الهرم على المستوى القومي الأمريكي، ذلك أن نحو 70% من جملة الأمريكيين اليهود يعملون في أعمال الياقات البيضاء مقابل المعدل القومي البالغ 40%. كما أن نسبة من يعملون بأعمال غير يدوية قد تصل إلى 90% مقابل المعدل القومي الذي يصل إلى 38%. ومع هذا، لا يؤثر ذلك في وضعهم بتاتاً باعتبار أن المجتمع الأمريكي مجتمع منفتح يوجد فيه قطاع خدمات ضخم تتزايد فيه أعمال الياقات البيضاء. ويتركز أعضاء الجماعة اليهودية في مهن مثل: الطب والهندسة والقانون والتدريس في الجامعات. وقد بلغ عدد أعضاء هيئات التدريس في الجامعات من اليهود 20% عام 1980 (25% في كليات الطب و38% في كليات الحقوق و50% في كلية الحقوق في هارفارد) . وهم يشكلون أيضاً 20% من جملة المحامين والأطباء. ودخل أعضاء الجماعة اليهودية مجالاً جديداً هو مجالس إدارة الشركات وشركات التكنولوجيا المتقدمة. وتحوَّلت عضوية اتحادات نقابات العمال اليهودية التقليدية، مثل عمال النسيج المتحدين والاتحاد الدولي لقمصان السيدات ونقابة المعلمين، والتي كانت تضم أغلبية يهودية، فأصبحت عضويتها سوداً وأمريكيين من أصل أسباني وآسيويين، وأخذت قياداتها اليهودية تختفي. والواقع أن وضع الأمريكيين اليهود يكذب إحدى نبوءات المفكر الصهيوني العمالي بوروخوف الذي كان يطالب بضرورة أن يقف الهرم الوظيفي اليهودي المقلوب على رأسه، وكان يرى أن الولايات المتحدة لا تصلح لذلك لأنه كان يظن أن المهاجرين اليهود إن ذهبوا إلى هناك فسيتحولون إلى أعضاء في الطبقة العاملة، وأن الاقتصاد الرأسمالي سيأخذ في الانكماش بعد قليل وهو ما سيؤدي إلى أزمة اقتصادية يروح ضحيتها العمال المهاجرون اليهود. ولذا، كان بوروخوف يرى ضرورة استعمار فلسطين لإيجاد قاعدة عمالية وفلاحية يهودية كبيرة. وقد أثبتت الولايات المتحدة أن هذه المقولات ليست دقيقة تماماً، فقد تحولت(12/165)
قطاعات من اليهود إلى عمال، ولكن قطاعات أخرى تحولت إلى تجار صغار أو رأسماليين كبار. لكن الأكثر أهمية من هذا العنصر الطبقي هو العنصر الثقافي، فاليهودي المهاجر تم دمجه تماماً في المجتمع بحيث لم تعد تُوجد طبقة عاملة يهودية أو رأسمالية يهودية وإنما طبقة عاملة أمريكية تضم أمريكيين أعضاء الجماعة اليهودية ورأسمالية أمريكية تضم رأسماليين من أعضاء الجماعة اليهودية إلى جانب الرأسماليين الأيرلنديين والسود والعرب وغيرهم.
وقد خضع الأمريكيون اليهود للقوانين العامة لتطور المجتمع، ولملابسات أوضاعهم الثقافية الخاصّة، فتحوَّل المهاجرون إلى عمال. ولكن أولاد العمال تحوَّلوا، بعد أن تلقوا تعليمهم الجامعي، إلى مهنيين. ولا يزال هذا هو الاتجاه السائد، ففيما بين عامي 1982 و1983 كان أربعة أخماس الشباب اليهودي ملتحقين بالجامعات، وحصل ثلاثة أرباع الرجال ونصف النساء على شهادات جامعية، وما يزيد على ثُلثهم حصل على شهادات دراسات عليا. ولعل اندماج اليهود الكامل، وتحوُّلهم إلى قطاع عضوي في المجتمع الأمريكي، يتبدَّى في تعيين هنري كيسنجر وزيراً للخارجية عام 1973 وتعيين إرفنج شابيرو مديراً لواحدة من أهم الشركات الأمريكية وهي شركة دي بونت عام 1974. وقد حقق كثير من أعضاء الجماعة اليهودية ثروات ضخمة وأصبحوا من كبار الرأسماليين.
الاندماج الديني والثقافي (أمركة اليهود الجدد)
(Cultural and Religious Assimilation (Americanization of the Neo-Jews(12/166)
يُلاحَظ أن معدلات العلمنة آخذة في التزايد بين الأمريكيين اليهود في هذه الفترة حيث يتجلَّى ذلك في إقبال الشباب اليهودي على مختلف العبادات الجديدة مثل الماسونية والبهائية والانخراط فيها. وقد ورد في إحدى الإحصاءات أن 53% من اليهود لا ينتمون إلى أبرشية دينية، أي لا يذهبون إلى المعبد. ومن النسبة الباقية، ذكر 50% أنهم محافظون، وذكر 30% أنهم إصلاحيون. وهناك نسبة ضئيلة في حركة اليهودية التجديدية ولكن هذه الحركة آخذة في الانتشار والاندماج مع اليهودية المحافظة. وهذه الفرق اليهودية هي صيغ مخفَّفة معلمَنة من اليهودية الحاخامية. أما الأرثوذكس، فلا تزيد نسبتهم عن 20% من مجموع اليهود المرتبطين بأبرشية ما، أي أن الأرثوذكس أقل من 10% من يهود الولايات المتحدة. وفي إحصاء لعام 1982 ـ 1983، ورد أن النسبة انخفضت إلى 6% وحسب. ويُلاحَظ أن اليهود الأرثوذكس يتركزون في تجمعات سكانية يمكنهم من خلالها الحفاظ على هويتهم الدينية الإثنية. وقد حدَّد 18% من الأمريكيين اليهود الهوية اليهودية على أساس ديني، بينما يرى 61% أن اليهود يشكلون تجمعاً إثنياً ثقافياً وحسب. وفي إحصاء عام 1990، ظهر أن 5% فقط يقيمون الشعائر الخاصة بالسبت (ويوقد 44% شموع السبت) ، وأن 15% يمارسون الشعائر اليهودية الخاصة بالطعام المباح شرعياً. ولوحظ أن اليهود لا يقيمون الشعائر التي تتطلب ضبط النفس وتطويعها، بل يقيمون الشعائر الاحتفالية، مثل عيد الحانوكاه وعيد الفصح، وهو ما يدل على أن يهودية يهود أمريكا أمر مرتبط بتزجية أوقات الفراغ والترويح عن النفس أو تحقيقها، كما يدل على أنها غير مرتبطة بأداء الفرائض الدينية وتطويع النفس.(12/167)
ويحتفل يهود الولايات المتحدة بعيد التدشين على نحو مبالغ فيه لأنه يقع في أيام الكريسماس. ولذا، أصبح هذا العيد، بمعنى من المعاني، هو الكريسماس اليهودي، فإلى جوار شمعدان الحانوكاه نجد شجرة الحانوكاه والعم ماكس رجل الحانوكاه (المعادل الموضوعي لبابانويل أو سانتاكلوز) . بل إن بعض اليهود يحتفلون بالكريسماس باعتباره مناسبة قومية. وقد صرح أحد المعلقين بأن اليهودية أصبحت، بالنسبة للأمريكيين اليهود، ديانة تكمل الديموقراطية الليبرالية الأمريكية، ولم تعد انتماءً إثنياً أو قومياً أو حتى دينياً بالمعنى التقليدي للكلمة. ولذا، فإن اليهودية الأمريكية تركز على القيم الأخلاقية العامة التي تتفق مع أخلاقيات المجتمع، وتستبعد كل الجوانب الثقافية أو القومية أو حتى الجمالية لليهودية، وإن أبقت على بعضها فإنها تتقبلها بشكل سطحي. وتتجلَّى مرونة اليهودية في الولايات المتحدة، واتجاهها العملي، في اندماج اليهودية المحافظة باليهودية الإصلاحية على مستويات القيادة وعلى مستوى الأبرشيات. وفي استطلاع للرأي أُجري عام 1981، صرح كل الذين اشتركوا فيه أن يهوديتهم ليست لها علاقة البتة بمستقبلهم، أي أنها لا علاقة لها برؤيتهم للعالم أو لأنفسهم ولا تحدد سلوكهم في الوقت الحاضر ولا مشاريعهم في المستقبل.(12/168)
وقد تنبأت إحدى الإحصاءات بأن يهود أمريكا سينقسمون، وبشكل حاد، إلى قسمين: يهود متدينين ويهود إثنيين، وأن الاستقطاب بين الفريقين سيتزايد بسبب تزايد علمنة الإثنيين وانغماسهم في الزواج المختلط، وأن الفريقين قد يتعادلان في العدد بسبب زيادة نسبة الخصوبة ومعدلات التكاثر بين المتدينين وقلة الاندماج بينهم. ولكن هذه الإحصائية تُسقط تزايد معدلات العلمنة بين المتدينين أنفسهم وبين أبنائهم، أما من الناحية الثقافية، فقد ازداد اندماج اليهود في الثقافة الأمريكية، ويتبدَّى هذا في تَزايُد عدد الكُتَّاب الأمريكيين اليهود وازدياد بروزهم ونجاحهم في التعبير باللغة الإنجليزية الأمريكية عن تجربة أعضاء الجماعة في الولايات المتحدة. كما أن الاندماج يتبدَّى في واقع أن الأمريكيين اليهود يعبِّرون عن هويتهم اليهودية داخل مؤسساتهم الأمريكية المختلفة مثل بقية أعضاء الجماعات الأخرى. وقد حققت لهم الولايات المتحدة إمكانات التعبير، إذ توجد جامعتان يهوديتان ومدرستان طبيتان يهوديتان وثلاث مدارس لاهوتية عليا وعدد كبير من المدارس التلمودية العليا (يشيفا) ، وعدد كبير من المتاحف اليهودية المهمة، ومن بينها متحف للإبادة النازية في واشنطن في المنطقة التي توجد فيها المتاحف القومية. وهناك جمعية تاريخية يهودية أمريكية عمرها تسعون عاماً، وعدد كبير من المؤسسات الثقافية اليهودية والمعابد المختلفة التي تلائم كل ذوق وانتماء إثني، كما أن هناك العديد من أقسام الدراسات العبرية واليهودية في الجامعات الأمريكية. ويبدو أن الثقافة الأمريكية اليهودية المكتوبة (باللغة الإنجليزية) تتمتع بنوع من الازدهار، حتى أن كل الكتابات المهمة عن العقيدة اليهودية تَصدُر أساساً في الولايات المتحدة وليس في إسرائيل. ومع هذا، يُلاحَظ أن تَزايُد العلمنة والاندماج يخلق مشكلة بالنسبة للمتخصصين في حقل الدراسات اليهودية إذ أن خريجي أقسام الدراسات اليهودية لا(12/169)
يجدون وظائف شاغرة لأن الطلب آخذ في التقلص. وقد تحولت الثقافة اليديشية الآن إلى ما يشبه الحفرية. ومن الملاحَظ أن الثقافة الإسرائيلية العبرية الجديدة في إسرائيل لا تزال ثقافة الإسرائيليين وحدهم ولا تؤثر تأثيراً ملحوظاً في الأمريكيين اليهود حيث لا يزيد تأثيرها عن تأثير الثقافات الأجنبية الأخرى غير الأوربية التي يتفاعل معها المجتمع الأمريكي ككل.
اليهود الجدد والصهيونية
Neo-Jews and Zionism
تجدر ملاحظة أن الولايات المتحدة قررت في هذه الفترة أن تلعب دوراً نشيطاً ومباشراً في العالم العربي، وخصوصاً بعد هزيمتها في فيتنام وبعد ازدياد أهمية البترول ومع تصاعد حركة القومية العربية التي هدَّدت المصالح الغربية. وقد أخذ هذا شكل إعطاء إشارة البدء لإسرائيل، فقامت بعملية 1967 التي كانت الولايات المتحدة تدعمها دعماً كاملاً، وهو دعم تُوج في نهاية الأمر بالاتفاق الإستراتيجي وتزامن مع تخلي الولايات المتحدة عن سياسات الوفاق واتباعها سياسة الحرب الباردة ثم ظهور النظام العالمي الجديد وتوقيع اتفاقيات السلام المختلفة مع الدول العربية.
وأدَّى هذا الاقتران شبه الكامل بين المصالح الأمريكية والمصالح الإسرائيلية إلى صهينة الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة بشكل شبه كامل إذ لم تَعُد هناك شبهة ازدواج ولاء أو تعارض في المصالح.. إلخ. وقد تزامن هذا مع تطور آخر لا يقل عنه دلالة وهو اندماج أعضاء الجماعة في المجتمع الأمريكي بشكل تام حتى أصبح من الممكن أن يُطلق عليهم اليهود الواسب (والواسب هم البروتستانت البيض من أصل أنجلو ساكسوني) . وقد يبدو الاتجاهان متكاملين ولكنهما في واقع الأمر متناقضان بشكل عميق.(12/170)
ومما تجدر ملاحظته أن مصطلحات، مثل: «يهودي» و «صهيوني» و «يهودية» ، قد اكتسبت دلالات جديدة تماماً في السياق الأمريكي. فقد أصبحت العقيدة اليهودية في الولايات المتحدة مرتبطة عضوياً بل تكاد تكون متداخلة مع الصهيونية. ولكن كلاًّ من العقيدة اليهودية والصهيونية أُعيد تعريفه حتى يمكن تحقيق الترادف، فاليهودية ورموزها تمت علمنتها بحيث تحولت إلى ما يشبه عبادة دولة إسرائيل (العجل الذهبي الجديد) ، وقد نجحت الصهيونية في أن تُرسِّخ في ذهن الجميع أن بقاء الدولة الصهيونية شرط أساسي لبقاء اليهودية، وأنها الحصن الوحيد ضد انحلال اليهودية، بل إن بقاء اليهودية نفسها مرهون ببقائها. وكما قال الحاخام ألكسندر شندلر، فإن معظم يهود الولايات المتحدة يتصورون الآن أن الدولة الصهيونية كنيسهم وأن رئيس وزرائها حاخامهم الأكبر. ومن ثم، أصبحت اليهودية انتماءً إثنياً وعرْقياً. وأصبح التعبير عن الهوية اليهودية يأخذ شكل الانخراط في التنظيمات اليهودية ذات التوجه الصهيوني، وفي المظاهرات من أجل تأييد إسرائيل، وكذلك شكل الاعتزاز بالهوية القومية.
ولذا يمكننا القول بأن تصاعد النبرة الصهيونية والحديث المتكرر عن الإثنية اليهودية بين يهود أمريكا ليس تعبيراً عن الانعزال وتماسك الهوية، وإنما هي بمنزلة العكاز الذي يستمد منه اليهودي المندمج نوعاً من الهوية (السطحية التي لا تكلفه شيئاً) يساعده على مزيد من الاندماج (وهو في هذا لا يختلف كثيراً عن أعضاء الأقليات الأخرى الذين ازدادت حدة إثنيتهم مع تزايد معدلات الاندماج بينهم) وعلى فقدان الهوية وعلى تقبُّل علمنة وأمركة حياته.(12/171)
وإذا كانت الصهيونية قد حوَّرت اليهودية الأمريكية وأعادت تعريفها ووظفتها لصالحها، فإن يهود الولايات المتحدة أنجزوا شيئاً مماثلاً بالنسبة للصهيونية، ذلك لأن صهيونيتهم صهيونية توطينية، ومن هنا الحديث عن «يهودية دفتر الشيكات» حين يعبِّر اليهودي عن يهوديته عن طريق إجزال العطاء للمُستوطَن الصهيوني، دون أن يفكر قط في الهجرة. بل إنهم طوروا الأسطورة الصهيونية، فلم تَعُد صهيون أرض الميعاد، البلد الذي يحنون ويهاجرون إليه، وإنما أصبحت «مسقط الرأس» تماماً مثل أيرلندا بالنسبة للأمريكيين الأيرلنديين وإيطاليا للأمريكيين الإيطاليين، فهم يهود بشرطة (بالإنجليزية: هايفنيتيد جوز hyphenated Jews) أي أمريكيون/يهود. والوطن الأصلي هو المكان الذي يهاجر منه الإنسان لا إليه، أي أن يهود الولايات المتحدة قد قلبوا الأسطورة الصهيونية رأساً على عقب وفرغوها من مضمونها القومي الاستيطاني وأعطوها مضموناً غير صهيوني، بل معادياً للصهيونية، تماماً مثلما فرغ الصهاينة اليهودية من مضمونها الديني وأعطوها مضموناً قومياً! فكأن الأمر يتعلق بدين دون محتوى ديني، وقومية دون محتوى قومي.(12/172)
والواقع أن ظهور الصهيونية التوطينية الخالية من المضمون القومي الاستيطاني يفسر ظاهرة كثرة التظاهرات الصهيونية للدفاع عن «حق» اليهود السوفييت وكذا «حقوق» يهود الفلاشاه ويهود سوريا في الهجرة. ومع ذلك، لا يذهب أحد من هؤلاء المتظاهرين إلى إسرائيل للاستيطان إذ يكتفي بإظهار حماسه الزائد ولا يتحدث أحد أبداً عن «واجب» الهجرة. وقد ورد في إحدى الإحصاءات أن 81% من الأمريكيين اليهود يرون أن التفكير بجدية في الاستيطان في إسرائيل ليس ضرورياً. ولكن 83% منهم صرح بأن دمار إسرائيل سيمثل مأساة شخصية بالنسبة لهم جميعاً! ولذلك لا تزال معدلات الهجرة من الولايات المتحدة متدنية، ففي عام 1970 هاجر 7.658، وفي عام 1975 هاجر 2964، ولم يهاجر سوى ثلاثة آلاف عام 1979. ومن قبيل المفارقات المضحكة أن عدد المهاجرين يتناسب تناسباً عكسياً مع الحماس الصهيوني، فكلما زاد الحماس الصهيوني، ومن ثم زادت التظاهرات، نقص عدد المهاجرين. ويبلغ مجموع الأمريكيين اليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل منذ تأسيسها خمسين ألفاً على مدى أربعين عاماً، أي بمعدل 1250 يهودياً لكل عام. والواقع أن الصهيونية حلت مشكلة الهوية بالنسبة ليهود الولايات المتحدة بأن اعتبرت الدولة الصهيونية وطنهم الأصلي، ولكنها من ناحية أخرى زادتها تفاقماً إذ كيف يستطيع الأمريكيون اليهود أن يركِّزوا حياتهم الدينية كلياً على أرض لا يعيشون فيها بل لا ينوون الهجرة إليها؟ ومن هنا، فإن تعريف اليهودي الأمريكي أصبح هو: اليهودي الذي يحلم دوماً بالهجرة إلى صهيون دون أن تكون لديه أية نية في أن يفعل ذلك!(12/173)
ويُلاحَظ أن أعضاء الوكالة اليهودية يحاولون تشجيع الهجرة إلى إسرائيل وجذب اليهود إليها بالحديث عن فرص العمل المتاحة وإمكانات الترقي المادي والراحة المادية المتوافرة، أي أن تجنيد المهاجرين يتم من منظور أمريكي واستناداً إلى منطق برجماتي عملي وليس إلى منطق صهيوني عقائدي. وقد استوطن كثير من الأمريكيين الضفة الغربية حيث توجد فرص اقتصادية أكثر من الموجودة وراء الخط الأخضر وحيث شيدت الدولة الصهيونية مستوطنات تتوافر فيها كل سبل الراحة. وهذا ما سميناه «الاستيطان مكيف الهواء» ، وسماه المعلق العسكري الإسرائيلي زئيف شيف «الاستيطان دي لوكس» . ومن الحقائق المهمة أيضاً أن عدد من زاروا إسرائيل للسياحة من يهود الولايات المتحدة هو 15% فقط. وإذا وضعنا في الاعتبار أن الأمريكيين اليهود من أكثر قطاعات المجتمع الأمريكي سفراً وسياحة لكل أنحاء العالم، لاكتشفنا أن النسبة صغيرة إلى حدٍّ كبير. ولكن يبدو أن غالبيتهم الساحقة تفضل الذهاب لجزر الكاريبي.
ومع هذا فتوجه يهود أمريكا الصهيوني التوطيني يؤثر في بعض جوانب سلوكهم السياسي. ومن المعروف أن مختلف الأقليات في الولايات المتحدة تأخذ موقفاً ليبرالياً وتصوت للحزب الديموقراطي. ولكن هذا النمط بدأ يتغيَّر بالنسبة لأعضاء الجماعة اليهودية. وقد اتضح هذا عام 1972 حين صوت أعداد كبيرة منهم ضد ماكجفرن مرشح الحزب الديموقراطي بسبب مواقفه ضد الحرب الباردة، وسياسات التسلح، إذ كانت المؤسسة الصهيونية تعتقد أن مثل هذه المواقف قد تضر بمصالح إسرائيل.(12/174)
وقد لاحَظ معلق سياسي يهودي أن أعداداً كبيرة من الشباب اليهودي انخرطوا، أثناء حرب فيتنام، في صفوف المتمردين ورافضي الحرب، إذ أن ثُلث أعضاء اليسار الجديد كانوا من الشباب اليهودي. ولكن المؤسسات اليهودية نفسها اتخذت موقفاً محايداً يُعتبر جزءاً من تأييدها لإسرائيل. ولم تصبح المعابد اليهودية مراكز لتزويد المتهربين من الخدمة بالمعلومات والمشورة، شأنها في هذا شأن بعض الكنائس. ولذا، كان كثير من الحاخامات اليهود يرسلون الشباب اليهودي المتهرب من الخدمة إلى الكنائس. ويُلاحَظ الآن أن الجماعات الكاثوليكية وليست اليهودية هي التي تتحدث عن السلام وعدم التسلح وتتخذ مواقف ضد القنبلة الذرية.(12/175)
ولكن، ومع هذا، تنشأ أحياناً توترات عميقة بين الأمريكيين اليهود والقيادة الصهيونية، إذ يجد هؤلاء أنه ليس من صالحهم أن يتحالفوا مع الأغلبية الصامتة والجماعات الأصولية التي تطالب بعدم فصل الدين عن الدولة، وهو أمر يتنافى مع الموقف التقليدي لليهود الذي يطالب بمزيد من العلمنة ضماناً للحريات والانعتاق. وفي الآونة الأخيرة، توترت العلاقات بين أعضاء الجماعة اليهودية والدولة الصهيونية لأن هذه الدولة تشوه صورتهم في مجتمعاتهم بسبب حركة الاستيطان في الضفة الغربية وترفع شعارات دينية متعصبة تتناقض مع القيم التي يعيشون على أساسها. لقد كانت الدولة الصهيونية، حتى عام 1967، محل فخرهم بانتصاراتها العسكرية ومؤسساتها الديموقراطية، وكانوا يسعدون كثيراً بهويتهم اليهودية التي كانت تستند إلى قيم لا تختلف كثيراً عن قيم المجتمع الأمريكي. ولكن، بعد ظهور التيارات السياسية العنصرية الواضحة في إسرائيل (وهم يحيون في مجتمع يرفع شعار المساواة) ، وبعد تطرف إسرائيل وتشددها في مواقفها السياسية (وهم في مجتمع يتحدث دائماً عن التكيف والتعقل والاعتدال) ، فإن يهود الولايات المتحدة لم يعودوا يشعرون بالفخر بل ويحاولون الاحتفاظ بمسافة بينهم وبين الدولة الصهيونية. ثم هناك، في نهاية الأمر، قضية هوية اليهودي تلك القضية الأزلية التي لا تجد حلاًّ لها، والتي قد تجعل منهم يهوداً من الدرجة الثانية. كما كان لحادثة بولارد أعمق الأثر في تعميق الفجوة والجفوة بين إسرائيل ويهود الولايات المتحدة، إذ أثبتت لهم أن الدولة الصهيونية تؤثر مصلحتها على مصلحتهم. ومن المتوقع أن يتعمق هذا الاتجاه بعد أن قضت الانتفاضة على صورة إسرائيل بوصفها واحة الديموقراطية والسلام والتسامح. فمنظر جنود الدولة الصهيونية وهم يكسرون عظام الشباب الفلسطيني ويطاردون الأطفال على شاشة التليفزيون أمام الأمريكيين جميعاً، وأمام جيرانهم، ليس بالأمر الذي يدعو للفخر. ومع هذا(12/176)
فلا شك في أن الاتفاقات العربية الأخيرة مع إسرائيل ستخفف حدة التوتر بين الدولة الصهيونية والأمريكيين اليهود.
ويمكن القول بأن الولايات المتحدة تمثل التحدي الأكبر بالنسبة للمشروع الصهيوني. وقد أدرك المؤرخ الروسي اليهودي سيمون دبنوف أن مسار الهجرة اليهودية الشرق أوربية متجه نحو الولايات المتحدة، ولذلك فقد تنبأ بفشل المشروع الصهيوني في جذب كثافة سكانية. فالولايات المتحدة كما رآها هي مركز جذب أكثر تألقاً وأهمية من فلسطين. ويبدو أنه كان محقاً في رأيه إذ أن مسار الهجرة اليهودية لا يزال يتجه نحو الولايات المتحدة بالدرجة الأولى. وربما كان تَساقُط المهاجرين السوفييت (أي خروجهم من الاتحاد السوفيتي زاعمين أنهم سيهاجرون إلى إسرائيل للحصول على تأشيرة خروج ثم يغيِّرون اتجاههم ويهاجرون إلى الولايات المتحدة) وتزايد عدد المرتدين من الإسرائيليين، تعبيراً عن الحركة الطبيعية لليهود نحو الولايات المتحدة، والتي تعوقها الأوهام العقائدية للصهاينة.(12/177)
كما أن جاذبية الولايات المتحدة بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية في العالم متعددة الجوانب، فهي على حد قول أحد الكُتَّاب «المنفى الذهبي» وهي الجولدن مدينا (البلد الذهبي) حيث الشوارع من فضة والأرصفة من ذهب. فهناك الجانب المادي، حيث هي أرض اللبن والعسل الحقيقية والهامبورجر، ويجد فيها اليهودي فرصاً اقتصادية لا حد لها، وهي بلد يحقق فيه الفرد مستوى معيشياً واستهلاكياً مرتفعاً يعد من أعلى المعدلات في العالم. وهي بلد آمن لا يجرؤ أحد على مهاجمته فيه. وهي، في نهاية الأمر، البلد الذي منح أعضاء الجماعة اليهودية حقوقهم السياسية والمدنية والدينية الكاملة. وقد قال سالو بارون إن الولايات المتحدة أول تجربة يهودية حقيقية بعد الانعتاق. كما أن صورة الولايات المتحدة الجذابة تناقض بشكل مذهل صورة الدولة الصهيونية الكالحة، فهي دولة لا تتمتع بالأمن. ويرى يهود الولايات المتحدة، بخلفيتهم الشرق أوربية، أن إسرائيل محاصرة ومهدَّدة، تماماً مثل مدنهم في السابق، في منطقة الاستيطان. وهي دولة تدعي أنها يهودية، ولكنها في الحقيقة بغير هوية واضحة، فلا هي دولة دينية ولا هي علمانية، وهي تعتمد في بقائها على الولايات المتحدة. ومع ضعف العقيدة الصهيونية داخل إسرائيل وخارجها، يضطر الصهاينة إلى أن يُسقطوا الخطاب الديني ويهيبوا باليهود للهجرة لأسباب مادية محضة مثل التمتع بمستوى معيشي مرتفع، الأمر الذي سيزيد ولا شك من جاذبية الولايات المتحدة التي تحقق هذا المستوى بكل يسر.(12/178)
وربما كان هذا ما حدا بعض اليهود، مثل المؤرخ اليهودي المعاصر ساخار، على أن يصرح بأن الولايات المتحدة ليست منفى وأنها وطن قومي لليهود بمعنى أن هناك على الأقل وطنين قوميين (!) وهذا هو ما تدافع عنه صهيونية الأقليات أو صهيونية الشتات (الدياسبورا) ، التي نسميها «الصيهيونية التوطينية» ، صهيونية من يرفضون الهجرة ويكتفون بالدعم والتأييد حتى تتاح لهم الحياة في المنفى الذهبي.
ومما يزيد الأمور تركيباً بالنسبة إلى المؤسسة الصهيونية أنه مع تزايد اعتمادها على الولايات المتحدة أصبح بقاؤها مرهوناً بها. وفي الواقع، فإن وجود أقلية يهودية داخل مؤسسات صنع القرار أمر حيوي للجيب الصهيوني، وهو ما يعني ضرورة بقاء الأمريكيين اليهود في الولايات المتحدة. كما أن الدولة الصهيونية، التي تطالب يهود أمريكا بالهجرة، تجد أن من صالحها أيضاً ألا يهاجروا، ويتنازع هذان القطبان السياسة الإسرائيلية.
علاقة الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة بالأمريكيين السود
Relationship between the Jewish Community in the U.S.A. and Afro-Americans
حينما استوطن اليهود في الولايات المتحدة وفي غيرها من بلاد العالم الجديد، فإنهم جاءوا باعتبارهم مستوطنين غربيين بيضاً هاجروا إليها في إطارالتشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي (الأنجلو ساكسوني على وجه التحديد) ، وهو تشكيل غربي أبيض يحاول غزو العالم وإخضاع سكانه من غير البيض. ولكن كان هناك علاقة خاصة بين أعضاء الجماعة اليهودية والسود تتحدد في أن كثيراً من تجار الرقيق كانوا من اليهود الذين قاموا بالاشتراك في عملية نقل السود من أفريقيا وتوطينهم في الولايات المتحدة.(12/179)
وقد نشأ في الجنوب الأمريكي نظام المزارع (بالإنجليزية: «بلانتيشنز plantations» ) . وهو نظام زراعي تجاري شبه إقطاعي شبه عبودي يهدف إلى إنتاج السلع الزراعية بهدف الربح من خلال استخدام العمالة السوداء المكثفة التي كانت تُستجلَب من أفريقيا. وكان أعضاء الجماعة اليهودية جزءاً لا يتجزأ من التشكيل الاستيطاني الأبيض في الجنوب الأمريكي، وخصوصاً أن أساس التصنيف فيه كان اللون وحسب، على عكس الشمال حيث كان التصنيف فيه يتم على أساس كلٍّ من اللون والدين. وقد امتلك أعضاء الجماعة العبيد وتاجروا فيهم، شأنهم في هذا شأن مختلف أعضاء المجتمع. وحينما اندلعت الحرب الأهلية الأمريكية أو حرب تحرير العبيد، كانت مشاركة القيادات اليهودية في الدعاية ضد الرقيق باهتة خافتة للغاية. ففي الجنوب، أيدت المؤسسة اليهودية (الدينية والاجتماعية) موقف الجنوب المطالب بالاستمرار في الحفاظ على مؤسسة الرق. وفي الشمال، لم تظهر شخصيات يهودية كثيرة معارضة لنظام الرقيق، باستثناء حالات فردية، وهو ما أثار حنق الأوساط الليبرالية ضدهم. ويُلاحَظ أن أهم شخصية يهودية آنذاك، وهو الحاخام إسحق وايز، لزم الصمت تماماً تجاه هذه القضية. ويبدو أنه، بعد إلغاء نظام الرق بشكل رسمي، وُضع السود (بعد تحريرهم) في أماكن دنيا من المجتمع الأمريكي بحيث أصبحوا بروليتاريا رخيصة لا يحق لها التعبير عن ثقافتها أو وجودها الحضاري، ومن ثم لم يكن هناك صراع مباشر أو خاص بين أعضاء الجماعة اليهودية البيض والأمريكيين السود.(12/180)
ورغم وجود أسباب قوية للصراع بين الفريقين (لأسباب سنوضحها فيما بعد) ، فإنه حينما بدأت حركة الحقوق المدنية في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، للدفاع عن حقوق الأمريكيين السود، كان هناك وجود يهودي ملحوظ فيها على مستوى القيادات والكوادر. ولعل هذا يعود إلى أن الجماعة اليهودية، شأنها في هذا شأن معظم الأقليات المهاجرة التي تعيش في المدن، تدين بالولاء للحزب الديموقراطي وتنحو منحىً ليبرالياً. كما أن أبناء الجيل الثالث من الأسر اليهودية المهاجرة كانت ولا شك قد تمت أمركتها وعلمنتها، ومن ثم فإنها بدأت تشعر بأزمة المعنى وتحاول العثور على حلٍّ لها، ولكنها لم تجده داخل الإطار اليهودي الذي كان قد تَبنَّى القيم البورجوازية الأمريكية، فانخرط الشباب اليهودي في صفوف اليسار وحركات حقوق الإنسان.
ولكن، مع أواخر الستينيات، بدأ التوتر يظهر بين أعضاء الجماعة وبين قيادات حركة السود الشابة، مثل اليهود السود والمسلمين السود والقوة السوداء، وأخذت الأمور في التدهور بحيث يمكن القول بأن العلاقة بين المؤسسة السوداء والمؤسسة اليهودية علاقة لا يمكن وصفها بأنها ودية. وثمة أسباب عديدة بنيوية لهذا التوتر وهذا العداء:
1 ـ من المعروف أن كلاًّ من الأمريكيين السود وأعضاء الجماعة اليهودية يتركزون في المدن الكبرى (الساحلية) جنباً إلى جنب، وهو ما يعني قدراً كبيراً من الاحتكاك ومن ثم التوتر.(12/181)
2 ـ وهناك نمط أساسي للحراك الاجتماعي في الولايات المتحدة وهو أن قطاعات كبيرة من الجماعات المهاجرة تقطن أحياء فقيرة في المدن الساحلية بعض الوقت، إلى أن تثبت أقدامها وتحقق الحراك الاجتماعي، فتترك الجيتو وقاع المدينة المظلم وتنتقل إلى أحياء الطبقة الوسطى في الضواحي المنيرة. وهذا ما حدث للمهاجرين اليهود (سواء من أصل ألماني أم من أصل يديشي) وهو أيضاً ما حدث للإيطاليين وغيرهم. وقد أدَّى استقرار أعضاء الجماعة اليهودية في الضواحي إلى إضعاف علاقتهم ببقية أعضاء الأقليات وتقوية علاقتهم بالنخبة الحاكمة، وقد فَقَدت الجماعة اليهودية ليبراليتها التقليدية وتضامنها مع الأقليات المضطهدة. ولا شك في أن الحراك الذي حققه أعضاء الجماعة اليهودية ولَّد كثيراً من المرارة في نفوس السود لأنهم حضروا قبل المهاجرين اليهود. ومع هذا، فبينما ساعدت المؤسسات الأمريكية البيضاء اليهود على الحراك، باعتبارهم بيضاً، فإنها بذلت أقصى جهدها للتمييز ضد السود حتى أصبح السود جماعة وظيفية بلا وظيفة، طبقة بلا دور ولا هوية، وذلك باعتبار أن الهوية الأمريكية البيضاء موصدة دونهم.(12/182)
3 ـ ومما يجدر ذكره أن أعضاء الجماعة اليهودية ليسوا الهدف الأول للعنصرية الأمريكية حيث توجِّه هذه العنصرية طاقاتها وسمَّها نحو السود (وربما العرب المسلمين) وهي لا تتوجه نحو اليهود إلا في بعض الأوساط العنصرية الهامشية المتطرفة. ومع هذا، لاحَظ الزعماء الأمريكيون السود أن أعضاء الجماعة اليهودية عندهم حساسية بالغة تجاه أية ملاحظات قد تُشتم منها معاداة اليهود. إنَّ هذا الاتجاه عند بعض أعضاء الجماعات اليهودية نحو احتكار دور الضحية الأزلية، وإنكار هذا الدور على أعضاء الأقليات الأخرى، ساهم ولا شك في تصعيد التوتر. فالإعلام الأمريكي، الذي يتسم بوجود يهودي ملحوظ فيه، يركز على الإبادة النازية ليهود أوربا وكأنها عملية اضطهاد وإبادة تمت بالأمس أو منذ دقائق، دون أي اكتراث بما تم بعد ذلك من مذابح واستغلال وإهانة لأعضاء الأقليات الأخرى، ودون أي اهتمام بالأمريكيين السود الذين يعيشون داخل المجتمع الأمريكي، وعلى بُعد خطوات من استوديوهات التليفزيون التي تتجاهلهم. كما يشير الزعماء الأمريكيون السود إلى أن السينما الأمريكية التي لعب بعض أعضاء الجماعة اليهودية دوراً ملحوظاً في تأسيسها ثم الهيمنة عليها، ساهمت في ترويج الصور الإدراكية السلبية عن السود باعتبارهم كسالى ومحبين للهو.
4 ـ وحينما حقق أعضاء الجماعة اليهودية الحراك الاجتماعي، تركوا حياً مثل هارلم، فشغله الأمريكيون السود، حتى أصبح السكان من السود بينما ظل أصحاب العقارات وصغار الملاك وأصحاب محلات الرهونات في الأحياء السوداء من أعضاء الجماعة اليهودية، أي أن اليهودي أصبح الممثِّل الأساسي للمؤسسة البيضاء في أحياء السود، وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى درجة غير عادية من الاحتكاك يلعب فيها اليهود دور المستغل المباشر وهو ما يُولِّد الكثير من التوتر.(12/183)
5 ـ ظهرت جماعات المسلمين السود والقوة السوداء ممن يرون أن أعضاء الجماعة اليهودية يشكلون قطاعاً مهماً في المؤسسة الحاكمة المستغلة. بل إنهم يذهبون إلى أن اليهود يشكلون جسماً استغلالياً غريباً أبيض يقوم بامتصاص دم الجيتو الأسود وتصدير فائض القيمة خارجه، ومن ثم يعوقون ظهور رأسمالية أمريكية سوداء. والواقع أن رؤية هذه الجماعات السوداء لليهود لا تختلف كثيراً عن رؤية العرب لإسرائيل.
6 ـ وجدت القيادات السوداء أن أعضاء الجماعة اليهودية يحاولون الحفاظ على مواقعهم المتقدمة التي شغلوها في المجتمع، وعبَّروا عن مخاوفهم من أن واقع تحسين أحوال السود سيكون على حسابهم. وقد تجلَّى ذلك في مدارس نيويورك حينما تقرر أن يُفتَح الباب لتجنيد أعداد أكبر من المدرسين السود، فنظم اتحاد المدرسين الذي كان يضم أغلبية يهودية ساحقة إضراباً للاحتجاج على هذه الخطوة. ويمكن القول بأن القطيعة أخذت شكلها النهائي عام 1966 حين صوت 55% من يهود نيويورك ضد تشكيل لجنة تحقيق بشأن نشاط رجال الشرطة وسلوكهم بينما أيدت ذلك أغلبية السود. واستمر هذا النمط وهيمن وازداد حدة، فنجد أن قيادة الجماعة اليهودية تعارض نظام النصاب في التعليم، أي تخصيص نسبة معيَّنة للأقليات التي أضيرت من التمييز ضدها في الماضي، كما ترفض نظام المعاملة الأفضل لأعضاء الأقليات في التعيين في الوظائف، وهو ما يُسمَّى «العمل الإيجابي» (بالإنجليزية: الأفيرماتيف آكشن affirmative action) ، وذلك بحجة أن نظام النصاب والمعاملة الأفضل هو شكل من أشكال التمييز العنصري لصالح السود وضد اليهود.(12/184)
7 ـ في أعقاب أحداث لوس أنجلوس، أشار بنيامين هوكس، مدير الجمعية الوطنية للارتقاء بالملونين، إلى التحول الذي طرأ على النظام الرأسمالي الذي انتقل في تصوُّره من التركيز على الصناعة والإنتاج إلى رأسمالية المضاربات بما تؤدي إليه من بطالة. وقال: مهما كان الرأسماليون قساة في الماضي، فإنهم كانوا على الأقل يشيدون السكك الحديدية ويصنعون البواخر ويقطعون الغابات ويصنعون شيئاً.. أما الآن فليس لدينا سوى حفنة من فناني النصب في وول ستريت ممن يتاجرون بالنقود جيئة وذهاباً ويكسبون بلايين الدولارات على حساب صغار الناس.
وقد يبدو هذا الحديث وكأنه حديث عام عن تحوُّل الرأسمالية الأمريكية، من رأسمالية صناعية إلى رأسمالية مالية، وهو بالفعل كذلك، ولكن يجب فك شفرة هذا الخطاب من داخل النسق الأمريكي نفسه. فرأسمالية المضاربات هذه يتركز فيها أعضاء الجماعات اليهودية بشكل واضح. ولعل بنيامين هوكس قد أحجم عن ذكر ذلك مباشرةً حتى لا يُتَهم بمعاداة اليهود، السيف المصلت، ولكن كل من يقرأ هذه الكلمات ويدرك المعاني بين السطور يعرف تماماً معناها الحقيقي.(12/185)
8 ـ تزامن ذلك مع تزايد الهيمنة الصهيونية التي تطرح كل شيء من منظور يهودي ضيق، والتي تؤكد اقتران مصالح اليهود بمصالح إسرائيل وبالتالي تُبعد أعضاء الجماعة اليهودية عن القضايا التي تمس الطوائف الأخرى، كما تبعدهم عن أية تحالفات ذات طابع ثوري قد تتعارض مع مصلحة إسرائيل. ومعظم التحالفات ذات التوجه الاجتماعي الثوري، أو شبه الثوري، عادةً ما تكون ضد سياسة الحرب الباردة وضد تصعيد التسلح، كما أنها تقف ضد محاولة فرض السلام الأمريكي على العالم لأن مثل هذه السياسة تعني توجيه معظم الاعتمادات للتسلح وللمعونات الأجنبية للحكومات «الصديقة» (أي التي تساعد على تنفيذ سياسة الولايات المتحدة الخارجية) وتقليص الاعتمادات اللازمة لتنفيذ برامج الرفاه الاجتماعي. ومن ثم، فإن هذه التحالفات تتبنَّى سياسات خارجية تتناقض موضوعياً مع مصلحة إسرائيل التي تستمد وجودها من الحرب الباردة، ومن كون الولايات المتحدة قوة إمبريالية عظمى تسعى إلى أن تلعب دوراً نشيطاً مهيمناً في كل أنحاء العالم.
9 ـ بدأت الأقلية السوداء في الولايات المتحدة ترى هويتها في سياق أفريقي ينحاز إلى العالم الثالث. ولذا، أصبح منظورها السياسي مختلفاً تماماً عن المنظور الصهيوني الذي يتبناه أعضاء الجماعة اليهودية، وخصوصاً أن الدولة الصهيونية من أكثر الدول تعاوناً مع جنوب أفريقيا. كما أن تَزايُد التعاطف في صفوف الأمريكيين السود مع الفلسطينيين، وخصوصاً بعد الانتفاضة، يزيد حدة التوتر. وقد تَفجَّر هذا التوتر حين صرح الزعيم الأفريقي مانديلا بأنه يساند حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة.
10 ـ تزايد نفوذ الأقلية السوداء، حيث أصبحت تطالب بنصيب في السلطة يتناسب مع قوتها العددية، الأمر الذي يهدد مكانة أعضاء الجماعة اليهودية.(12/186)
11 ـ كانت حركة الحقوق المدنية، من الناحية الأساسية، حركة سوداء يقودها اليهود مع بعض السود. ومع نضج أعضاء الجماعة السوداء في الولايات المتحدة، حاولت الحركة أن تتولى قيادة نفسها بنفسها وهو ما كان يعني تنحية اليهود عن قيادتهم، وخصوصاً بعد ظهور قيادات شابة جديدة (مثل جيسي جاكسون وفراخان) غير متعاطفة مع القيادات القديمة التي كانت تؤيد المؤسسة الليبرالية البيضاء وإسرائيل دون مناقشة (مثل بايارد راستين) . وربما كان أندرو يونج نموذجاً جيِّداً لهذه القيادات الشابة، فقد أخذ بزمام المبادرة حين كان رئيساً للوفد الأمريكي في هيئة الأمم المتحدة، وقام بترتيب مقابلة مع مندوب منظمة التحرير الفلسطينية، ولكنه فقد منصبه في أعقاب ذلك بضغط من الجماعة اليهودية، الأمر الذي أثار حفيظة الجماعة السوداء.
12 ـ تزامن ذلك مع ظهور الجمعيات الأصولية المسيحية (الرجعية البيضاء) التي تجعل إسرائيل (الشعب والدولة) محور رؤيتها للخلاص، وترى قيام الدولة الصهيونية إحدى العلامات على اقترابه. وتفسر هذه الجمعيات الكتاب المقدَّس تفسيراً حرفياً ضيقاً، ومستخلصةً من ذلك برنامجاً سياسياً صهيونياً مؤيداً لإسرائيل وإن كان داخله كره عميق لليهود ورفض لهم. وإذا أضفنا إلى ذلك سياسة إسرائيل المؤيدة لأمريكا في عصر نيكسون وريجان، واشتراكها بنشاط في الحرب الباردة (باعتبار أن أي انفراج دولي قد يؤثر في أهميتها الإستراتيجية للغرب ويزيد أهمية العرب ويخلق رقعة مشتركة بين العرب والولايات المتحدة) ، فيمكن فهم أسباب ابتعاد الجماعة اليهودية تدريجياً عن الأقليات الأخرى وعن القيم الليبرالية واكتساب سمات رجعية ومحافظة حتى فَقَد اليهود ليبراليتهم التقليدية. وأصبحت مجلة كومنتاري التي تصدرها اللجنة الأمريكية اليهودية (وهي مجلة ذات تراث ليبرالي) منبراً للمدافعين عن الحرب الباردة وسياسة التشدُّد مع الاتحاد السوفيتي.(12/187)
وليس من المتوقع أن يزول الصراع بين الجماعتين، فقد تخف حدته، وقد تُعقَد اجتماعات تنتهي بإصدار بيانات ودية، ولكن إزالة أسباب هذا الصراع مسألة غير ممكنة فهو يشكل جزءاً من بنية المجتمع الأمريكي. وقد وقعت عدة حوادث في المدن الأمريكية التي تضم أعداداً كبيرة من الأمريكيين اليهود والسود تبيَّن أن الاتجاه العام يميل إلى تَصاعُد التوتر بل الصدام.
تنظيمات وجمعيات الجماعة اليهودية
Organizations and Societies of the Jewish Community
كما هو الحال مع مختلف الأقليات والجماعات الإثنية والدينية، هناك تنظيمات وجمعيات في الولايات المتحدة أسستها الجماعة اليهودية لرعاية مصالحها ولتمثيلها لدى الجهاز الحاكم.
ولا يزال الإطار التنظيمي ليهود الولايات المتحدة تهيمن عليه العناصر العلمانية الإثنية، ولا تلعب فيه المؤسسة الدينية سوى دور ثانوي. كما أنه لا يزال يتسم بالفيدرالية القديمة، فهو مُقسَّم إلى جماعات وتنظيمات وفروع مختلفة تحتفظ كل واحدة منها باستقلالها على أن يتم التنسيق فيما بينها من خلال سلطة مركزية. وإن كان يُلاحَظ أن الجهود الصهيونية الرامية إلى تحويل الأمريكيين اليهود إلى مجموعة ضغط قوية قد خلقت إطاراً قوياً للتنسيق بين التنظيمات والتجمعات كافة.(12/188)
والمهام التنظيمية المعلنة للمؤسسات اليهودية هي الدفاع عن الحقوق المدنية والسياسية لأعضاء الجماعة اليهودية، والقيام بالأنشطة الخيرية المختلفة ... إلخ، وهي ولا شك تقوم بهذه الوظائف والمهام. ولكن المنظمة الصهيونية نجحت في «غزو الجماعات اليهودية» ، وهو مصطلح صهيوني ورد لأول مرة في المؤتمر الصهيوني الثاني (1898) والاستيلاء عليها. ولذا، سنجد أن معظم المؤسسات التنظيمية للجماعة اليهودية تُوظَّف لخدمة الصهيونية، فتتحول هذه المؤسسات إلى جماعات ضغط سياسي تخدم آليات الجباية الصهيونية والإسرائيلية، وتأخذ الأعمال الخيرية التي تقوم بها هذه المؤسسات شكل إرسال معونات لإسرائيل. ولذا، تداخلت المؤسسات التنظيمية للجماعة اليهودية مع الجمعيات والمنظمات الصهيونية حتى أصبح من الصعب الفصل بينهما.
ولا توجد منظمة أو جهة مركزية واحدة تقوم بتمثيل وإدارة شئون الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة، بل يوجد العديد من المنظمات والجمعيات التي تقوم بهذا الدور على المستويات المحلية وتندرج معظمها تحت مظلة منظمات أوسع، تلعب دور منسق ومنظم لأنشطتها على المستوى القومي والدولي أيضاً. ويعكس هذا الوضع التركيبة الفيدرالية للولايات المتحدة وتَوزُّع السكان اليهود على مدن كثيرة من الولايات المتحدة. وبالإضافة إلى ذلك، توجد بعض المنظمات التي تقوم بأنشطة محدَّدة على المستوى القومي. وأهم المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة هي:(12/189)
ـ المجلس الاستشاري القومي لعلاقات الجماعة اليهودية National Jewish Community Relations Advisory Council واختصارها NJCRAC. تأسس عام 1944 كجهة استشارية ومنسِّقة لمجالس العلاقات Community Relations Councils وللـ 11 منظمة يهودية أمريكية على المستوى القومي والـ 108 مجالس على المستويات المحلية. وكانت هذه المجالس قد تشكَّلت في الثلاثينيات للدفاع عن حقوق أعضاء الجماعة وفض النزاعات بينهم ومحاربة التيارات المعادية لليهود ودعم التعليم اليهودي على المستويات المحلية. ويقوم المجلس بدور المنسق للاتجاهات داخل الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة تجاه القضايا السياسية المحلية والخارجية وتجاه إسرائيل وتجاه الجماعات الدينية والإثنية الأخرى. كما يعمل كجماعة ضغط داخل مراكز القوة في الولايات المتحدة، مثل الكونجرس الأمريكي والمحاكم الفدرالية، ويهتم بالقضايا الخاصة بمعاداة اليهود والحقوق المدنية وفصل الدين عن الدولة.
ـ مجلس الاتحادات اليهودية وصناديق خدمات الرفاه الاجتماعي Council of Jewish Federations and Welfare Funds واختصارها CJFWF. تأسَّس عام 1932 لتنسيق نشاط 200 اتحاد يهودي يخدم 800 تجمُّع يهودي في الولايات المتحدة وكندا. وكانت هذه الاتحادات قد بدأت تتأسس منذ عام 1895 لتنظيم الأنشطة الخيرية والخدمة الاجتماعية للجماعة اليهودية على المستويات المحلية وجمع التبرعات لهذه الأغراض، وأصبحت قيادات هذه الاتحادات تمثل القيادة الفعلية للجماعة اليهودية على المستوى المحلي. ويقوم المجلس بدور تنظيمي وتنسيقي في مجالات الخدمة الاجتماعية وتدبير الموارد المالية. ويغطي نشاطه 95% من أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة.(12/190)
ويعتبر مجلس الاتحادات مركز التنسيق الفعلي بين أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة حيث توفر الجمعية العمومية للمجلس منبراً سنوياً ومركز تجمُّع للأفراد والجماعات المختلفة داخل الجماعة اليهودية للتشاور والتنسيق واتخاذ القرارات.
ـ مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى Conference of Presidents of Major American Jewish Organizations واختصارها «Presidents' Conference» ، أي «مؤتمر الرؤساء» . تأسس عام 1955، ويضم 34 منظمة يهودية، ويعمل على عرض وتقديم موقف الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة تجاه إسرائيل وتجاه القضايا الخارجية الخاصة بالجماعات اليهودية إلى الحكومة الأمريكية.
ـ المجلس اليهودي الوطني لخدمات الرفاه الاجتماعي National Jewish Welfare Board واختصارها JWB. تأسس عام 1917، ويعمل على تنسيق أنشطة المراكز الاجتماعية اليهودية المنتشرة في أنحاء الولايات المتحدة. ومن مهامه خدمة احتياجات أعضاء الجماعة اليهودية العاملين في القوات المسلحة الأمريكية.(12/191)
ـ اللجنة اليهودية الأمريكية American Jewish Committee، وهي من أقدم المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة. قام اليهود المنحدرون من أصل ألماني بتأسيسها عام 1906، واهتمت منذ تأسيسها بالدفاع عن الحقوق المدنية والدينية للجماعات اليهودية في الولايات المتحدة والعالم. وتنشط اللجنة من خلال أقسامها المختلفة في نواح عديدة من شئون الجماعة اليهودية، وتهتم بصفة خاصة بقضايا التعددية والأسرة اليهودية والعلاقات بين الجماعات الدينية. وتعتبر اللجنة نفسها بوتقة لصهر أفكار الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة وتقوم برعاية سلسلة من الدراسات والمؤتمرات، كما أن لها إصدارات مهمة من ضمنها دوريتان مهمتان هما: كومنتري Commentary (أي التعليق) ، وبرزنت تنس Present Tense (أي الفعل المضارع أي الزمن الحاضر) . وتُصدر اللجنة كتاباً سنوياً يُسمَّى الكتاب السنوي American Jewish Year Book، كما تمتلك مكتبة للتاريخ الشفهي.
ـ المؤتمر اليهودي الأمريكي American Jewish Congress. تأسَّس عام 1918 بهدف خلق إطار لعرض مصالح الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة في مؤتمر السلام عقب الحرب العالمية الأولى. وقد جاءت قيادة المؤتمر وأعضاؤه من بين صفوف المهاجرين اليهود من شرق أوربا الذين كانت تتعارض توجهاتهم الصهيونية والعمالية مع توجهات اللجنة اليهودية الأمريكية وقيادتها البورجوازية ذات الأصول الألمانية. وقد ظل المؤتمر ذا توجُّه صهيوني قوي، ومؤيداً لإسرائيل بشكل نشيط. كما يلعب دوراً نشيطاً في القضايا الخاصة بمعاداة اليهود والتفرقة العنصرية والحقوق المدنية وفصل الدين عن الدولة.(12/192)
ـ منظمة أبناء العهد (بناي بريت B'nai B'rith) . منظمة للخدمة اليهودية الدولية تأسَّست عام 1943 في نيويورك ومقرها الأمريكي والدولي الآن في واشنطون. وهي أكبر المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة من ناحية حجم العضوية حيث تضم حوالي 400.000 عضو. وقد نُظِّمت على هيئة جمعية ماسونية تستهدف توحيد جهود الجماعة اليهودية والعمل على تحسين أحوالهم. وقد نمت المنظمة نمواً كبيراً حتى أصبح لها الآن فروع فيما يزيد على 30 دولة من بينها إسرائيل، حيث تنشط المنظمة في غوثهم من الكوارث وتنظيم النساء والشباب بقصد تعليمهم وتأهيلهم مهنياً وتقديم مختلف التسهيلات والخدمات لهم. وقد أسست هذه المنظمة عام 1913 عصبة مناهضة الافتراء Anti Defamation League بهدف محاربة معاداة اليهود وممارسة التمييز العنصري ضدهم وكذلك الدفاع عن الحقوق المدنية لأعضاء الجماعة اليهودية. وتُصدر المنظمة كتباً ومنشورات بهذا الهدف. وقد أصبحت هذه العصبة الأداة الأساسية لمنظمة أبناء العهد (بناي بريت) التي تعمل من خلالها على خنق مختلف الاتجاهات المعادية للصهيونية وإسرائيل عن طريق اتهامها بأنها معادية لليهود.
ـ وتتم عملية جمع التبرعات وتدبير الموارد المالية داخل الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة من خلال النداء اليهودي الموحَّد United Jewish Appeal واختصارها UJA. وهي منظمة تأسَّست عام 1929. وتذهب 80% من حصيلة التبرعات إلى إسرائيل من خلال النداء الإسرائيلي الموحَّد United Israel Appeal واختصارها UIA، أما الحصيلة المتبقية (20%) فتخصص لمشاريع محلية وخارجية يتم توزيعها من خلال لجنة التوزيع المشتركة Joint Distribution Committee واختصارها JDC.(12/193)
ـ وهناك عدد من المنظمات الصهيونية المنظمة تمثل تنظيماً فضفاضاً ضمن الاتحاد الصهيوني الأمريكي American Zionist Federation. إلا أن قوة الحركات الصهيونية في الولايات المتحدة قد تضاءلت منذ عام 1948. والآن، فإن كثيراً من النشاطات والمهام التي كانت تضطلع بها تقوم بها المنظمات اليهودية الأمريكية وعلى رأسها: مؤتمر الرؤساء، والمجلس الاستشاري القومي لعلاقات الجماعة اليهودية، واللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشئون العامة American Israeli Public Affairs Committee واختصارها AIPAC «ايباك» ، وهذه المنظمات يهودية اسماً صهيونية فعلاً.
ـ حركات الشبيبة: وتنظم المعابد اليهودية والمنظمات الصهيونية حركات للشباب من أهمها:
مجلس الشباب اليهودي في أمريكا الشمالية North American Jewish Youth Council
مؤسسة الشباب الصهيوني الأمريكي American Zionist Youth Foundation.
شبكة الطلاب اليهود لأمريكا الشمالية The North American Jewish Students Network. وتُعتبر هذه المنظمة الجهة الممثلة للطلبة الأمريكيين اليهود لدى الاتحاد العالمي للطلبة اليهود World Union of Jewish Students.
المجلس القومي لشباب السيناجوج National Council of Synagogue Youth، تحت رعاية الحركة الإصلاحية.
أتيد Atid. تحت رعاية الحركة المحافظة.
منظمة أبناء العهد (بناي بريت) للشباب. وترعى منظمة أبناء العهد (بناي بريت) الطلبة اليهود من خلال مؤسسة هليل Hillel Foundation التي لها فروع في كل الجامعات الأمريكية يدرس فيها طلبة أمريكيون يهود.
والجماعة اليهودية في الولايات المتحدة مُمثَّلة لدى المؤتمر اليهودي العالمي من خلال القسم الأمريكي للمؤتمر American Section الذي يمثل 32 منظمة يهودية.
ـ كما توجد منظمات خاصة بضحايا الإبادة النازية:(12/194)
التجمع الأمريكي واتحاد الناجين من الهولوكوست The American Gathering and Federation of Jewish Holocaust Survivors. تأسَّست عام 1983، وتعمل كمظلة لعدد من المنظمات المختصة بضحايا الهولوكوست.
الشبكة الدولية لأبناء اليهود الناجين من الهولوكوست The International Network of Children of Jewish Holocaust Survivors. تأسَّست عام 1981، وتعمل على استمرار ذكرى الهولوكوست بين أبناء الجيل الثاني من اليهود في العالم، وعلى تشجيعهم للعمل بشكل نشيط على إبقاء هذه الذكرى حية والمشاركة في شئون وقضايا الجماعات اليهودية.
وقد شهدت هذه الفترة تطوراً جديداً تماماً على الساحة الأمريكية، فبعد أن أُحكمت الهيمنة الصهيونية على أعضاء الجماعة اليهودية، وبعد إحكام الحصار على الجيوب التقليدية المعادية للصهيونية (المجلس الأمريكي لليهودية وناطوري كارتا) ، ظهرت جماعات يهودية صهيونية اسماً تطرح تصورات للعلاقة بين الأمريكيين اليهود وإسرائيل، وبين إسرائيل والفلسطينيين، تتناقض بشكل أساسي مع التصورات الصهيونية. وأولى هذه الجماعات هي بريرا التي قُضي عليها في أواخر السبعينيات، ثم ظهرت بعد ذلك الأجندة اليهودية الجديدة. ويُلاحَظ كذلك ظهور شخصيات أمريكية يهودية قومية تقف ضد الصهيونية من أهمها: آي. إف. ستون، ونعوم تشومسكي. وبعض هؤلاء يرفض الصهيونية من منظور إنساني يهودي.(12/195)
ومن المفارقات التي يجدر تسجيلها أن معظم التبرعات التي يتم جمعها تذهب إلى إسرائيل، فمن نحو 500 مليون دولار سنوياً (في الثمانينيات) يذهب إلى إسرائيل نحو 300 مليون دولار، أي أكثر من 50%، وهو ما يترك مؤسسات الرعاية اليهودية في الولايات المتحدة دون اعتمادات كافية، الأمر الذي ازداد حدة في عصر ريجان بعد أن تقلصت ميزانيات الرفاه الاجتماعي. وعلى سبيل المثال، يوجد كثير من بيوت العجزة اليهود المهددة بالغلق لعدم وجود الميزانيات الكافية، كما أن مصاريف مدارس الأحد العبرية آخذة في الازدياد بحيث أصبحت باهظة التكاليف على أولياء الأمور، ولم يتمكن معهد البحوث اليديشية (ييفو) من الاستمرار في بحوثه إلا بدعم من الحكومة الأمريكية. ويُلاحَظ كذلك أن كثيراً من مراكز الدراسات اليهودية في الجامعات آخذة في التقلص للسبب نفسه، وإن كان لا يمكن استبعاد أن معدلات الاندماج المتزايد من الأسباب الأساسية. وتتجلى هذه الظاهرة، أي تزايد معدلات الاندماج، في اختفاء التعليم اليديشي تماماً، وكذلك مختلف النشرات اليديشية، ما عدا جريدة يومية تعيش على المعونات. ولوحظ مؤخراً انصراف يهود أمريكا عن المساهمة في النداء اليهودي الموحَّد. فقد لوحظ أن 1% من كبار المتبرعين يدفعون 25% من جملة التبرعات وأن 10% من المتبرعين يدفعون 80% منها، أي أن صغار المساهمين من الجماهير اليهودية لم يعودوا تقريباً يتبرعون للدولة الصهيونية. والله أعلم.(12/196)
المجلد الخامس: اليهودية.. المفاهيم والفرق
الجزء الأول: اليهودية.. بعض الإشكاليات
الباب الأول: إشكالية التركيب الجيولوجي التراكمي والشريعة الشفوية
اليهودية: المصطلح
Judaism: Term
يشير اليهود إلى عقيدتهم بكلمة «توراة» . أما مصطلح «اليهودية» فيبدو أنه قد ظهر أثناء العصر الهيليني للإشارة إلى ممارسات اليهود الدينية لتمييزها عن عبادات جيرانهم. وقد سك هذا المصطلح يوسيفوس فلافيوس ليشير إلى العقيدة التي يتبعها أولئك الذين يعيشون في مقاطعة يهودا (مقابل «الهيلينية» أي عقيدة أهل هيلاس Hellas وهكذا بدأ المصطلحان كتسمية للمقيمين في منطقة جغرافية ثم أصبحا يشيران إلى عقيدتهم) . أما الأصل العبري «يهدوت» ، فيعود إلى العصور الوسطى.(13/1)
وقد أصبحت كلمتا «يهودية» و «توراة» كلمتين مترادفتين، ولكن ثمة اختلافات دقيقة بينهما. فمصطلح «اليهودية» يؤكد الجانب البشري، بينما يؤكد مصطلح «التوراة» الجانب الإلهي. ولذا، يمكن الحديث عن «اليهودية العلمانية» بينما يصعب الحديث عن «التوراة العلمانية» . ومن الجدير بالذكر أن المصطلح الشائع في الولايات المتحدة والعالم هو «اليهودية» ، أما مصطلح «توراة» فقد اختفى تقريباً إلا بين المتخصصين والأرثوذكس. كما تشير كلمة «التوراة» إلى الجوانب الثابتة اللادنيوية في اليهودية، ويُستخدَم مصطلح «يهودية» للإشارة إلى الجوانب التاريخية المتغيّرة وإلى تفاعُل اليهودية مع الحضارات الأخرى. ومن هنا، يمكن الحديث عن «اليهودية الحاخامية» و «اليهودية الهيلينية» ، ولا يمكن الحديث عن «التوراة الحاخامية» مثلاً. ويرى دارسو الدين اليهودي أن إطلاق مصطلح «يهودية» على تلك المرحلة من تاريخ اليهودية التي تسبق تدوين العهد القديم يتضمن تناقضاً تاريخياً، فهي مرحلة سديمية لم تكن قد تشكلت فيها بعد معالم اليهودية، ولم يكن العبرانيون فيها قد صاروا يهوداً، ولذا فنحن نطلق على تلك المرحلة «مرحلة عبادة يسرائيل» ، ثم «العبادة القربانية المركزية» بعد تأسيس الهيكل. وتُشير أدبيات جماعة الناطوري كارتا إلى «يهودية التوراة» (بالإنجليزية: توراه جودايزم Torah Judaism) بمعنى «اليهودية الأصلية» أو «اليهودية الأرثوذكسية» ، وهم يفضلون استخدام مصطلحهم لأنه قد ولِّد من داخل المنظومة اليهودية، على عكس كلمة «أرثوذكسية» ذات النكهة المسيحية.
اليهودية: بعض الإشكاليات
Judaism: Some Problematics
للنسق الديني اليهودي سمات جوهرية مقصورة عليه تفصله عن العقائد التوحيدية الأخرى، وتثير قضايا إشكالية عميقة. ويمكن إيجاز بعض هذه السمات فيما يلي:(13/2)
1 ـ تتميَّز اليهودية، كنسق ديني، بعدم تجانسها نظراً لظهورها في مرحلة متقدمة نسبياً من التاريخ ونظراً لاستيعابها كثيراً من العناصر الدينية والحضارية من سائر الحضارات التي وُجدت فيها، فقد استوعبت الكثير من العناصر من الحضارات المصرية والآشورية. ثم تأثرت تأثراً عميقاً بالإسلام والمسيحية، وبخاصة بعد سقوط الهيكل واختفاء أي مركز ديني أو زمني لليهودية (أو اليهود) . وقد تأثر مؤلفو التلمود وكتب القبَّالاه بالعقائد الشعبية والخرافية، وكل هذا جعل اليهودية تشبه التركيب الجيولوجي الذي تَشكَّل من خلال تراكم عدة طبقات، الواحدة فوق الأخرى. ونظراً لعدم التجانس، ولاحتواء اليهودية على عناصر شتى، نجد أن من الصعب تعريف هوية اليهودي. فمن الممكن، حسب الشريعة اليهودية، أن يكون المرء ملحداً ويهودياً معاً في الوقت نفسه نظراً لأن الشريعة ترى أن اليهودي هو من وُلد لأم يهودية، وهذا أمر لا يوجد في المسيحية ولا في الإسلام، حيث تنتفي صفة الانتماء للدين إذا أنكر الإنسان وجود الإله، حتى ولو وُلد لأبوين مسيحيين أو مسلمين.
2 ـ رغم وجود تقاليد شفوية في كثير من العقائد والديانات، إلا أن اليهودية تتسم بأن تقاليدها الشفوية أصبحت أكثر من مجرد تقاليد، فقد أصبحت «شريعة شفوية» تعادل «الشريعة المكتوبة» في المنزلة، بل تتفوق عليها وتجبُّها.
3 ـ رغم أن العقيدة اليهودية تتضمن نزعة توحيدية قوية، إلا أن معدلات الحلولية أخذت تتصاعد داخلها حتى أصبحت الطبقة الحلولية (داخل التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي) أهم الطبقات طراً، وانتهى الأمر بأن هيمنت الحلولية على العقيدة اليهودية فأصبحت عقيدة توحيدية اسماً، حلولية فعلاً، وأصبحت عقيدة ذات نزعة غنوصية قوية.(13/3)
4 ـ استولت الصهيونية على العقيدة اليهودية تماماً بحيث خلقت في ذهن الكثيرين ترادفاً شبه كامل بين الصهيونية واليهودية، رغم أن آباء الصهيونية الأوائل كانوا من الملاحدة. وقد نجحت الصهيونية في تطوير خطاب حلولي مراوغ سمح بتجنيد اليهود الأرثوذكس.
وثمة إشكاليات أخرى وثيقة الصلة بالثلاث التي ذكرناها (مثل: العالمية والتبشير ـ اليهودية الإلحادية) سنتناولها طي هذا المجلد، وسنكتفي بتناول الإشكاليات الثلاث التي أشرنا إليها في هذا الجزء، باعتبارها أهم الإشكاليات.
الرؤية اليهودية للكون
Jewish Cosmogony and Cosmology(13/4)
تشير الكلمتان «كوزموجوني» و «كوزمولوجي» إلى التأملات الخاصة بأصل العالم وتطوره وبنيته. وكلمة «كوزموس» اليونانية تعني «الكون» أو «النظام» . أما شق «جوني» ، فمن الجذر اليوناني «جيجنستاي» بمعنى «ينتج» ، ومن ثم فإن كلمة «كوزموجوني» تعني «ولادة» أو «أصل» أو «خلق العالم» . أما شق «لوجي» فمن كلمة «ليجاين legein» بمعنى «يتحدث» . والكوزموجوني نظرية أو وصف خلق العالم. أما الكوزمولوجي، فهي النظرية أو الفلسفة الخاصة بطبيعة ومبادئ الكون، وكلتا النظريتين تشملان التأملات الخاصة بأصل العالم وتطوره وبنيته. وترى اليهودية أن الإله خلق العالم، ولكن ما عدا ذلك هو أمر خلافي، إذ توجد داخل النسق الديني اليهودي عدة صور متناقضة لأصل العالم وبنيته. فالعهد القديم يقدم رؤى عديدة للإله ليست متسقةً بالضرورة. أما التلمود، فقد استوعب صوراً عديدة من الحضارات المحيطة سواء الوثنية أو الإسلامية أو المسيحية، ودوَّن كثيراً من الأساطير الشعبية وحوَّلها إلى معتقدات دينية. فهناك قصة الخلق، وإلى جانبها أسطورة ليليت، وكذا شجرة المعرفة والخير والشر. وإذا كان هناك يهوه إله العالمين، فهناك أيضاً شريكه عزازيل. والعالم له معنى في كثير من المقطوعات، ولكنه بلا معنى في مقطوعات أخرى. وهذا يعود إلى طبيعة التركيب الجيولوجي لليهودية. وقد ازدادت الرؤية اضطراباً مع ظهور القبَّالاه التي حولت كثيراً من الأساطير الفلكلورية إلى رؤية للكون، كما هو الحال في فكرة «آدم قدمون» ،أو «تَهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) » ،أو «تبعثُّر الشرارات (نيتسوتسوت) » ، أو «إصلاح الخلل الكوني (تيقون) » ! وقد حولت القبَّالاه اليهود إلى قوة كونية وجودها أساسي لاسترجاع الشرارات وعملية إصلاح الخلل الكوني.(13/5)
وفي العصر الحديث، لا يمكن الحديث عن رؤية يهودية واحدة للكون، إذ تنوعت المصادر الفلسفية للمفكرين الدينيين اليهود، وانقسمت اليهودية إلى فرق تختلف في رؤيتها، الواحدة عن الأخرى، بشكل جوهري.
اليهودية باعتبارها تركيباً جيولوجياً تراكمياً: التعريف
Judaism as a Cumulative Geological Construct: Definition
«التركيب الجيولوجي التراكمي» عبارة نستخدمها لنصف عمق عدم التجانس، بل التناقض الداخلي الحاد الذي تتسم به اليهودية كنسق ديني (كما نشير إلى ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» باعتبارها هي الأخرى تركيباً جيولوجياً تراكمياً) . ومن المعروف أن الأنساق الدينية التوحيدية، مثل الإسلام والمسيحية، تتسم بقدر من التنوع في الممارسات الدينية وفي الاختلافات على مستوى النظرية، فينقسم أتباع كل نسق إلى شيع وفرق ومذاهب لكلٍّ تفسيرها، وقد تندلع بينها الحروب أحياناً. وقد شهد الإسلام في بداية العصر الإسلامي اختلافات بين الصحابة أنفسهم على بعض القضايا الدينية، ثم ظهرت بعد ذلك فرق مختلفة مثل الخوارج والشيعة، مقابل الأغلبية السُنيّة التي ظهرت بين أعضائها المذاهب الأربعة، هذا بخلاف الاجتهادات المختلفة. والمسيحية تتسم بالخاصية نفسها - ربما بشكل أكثر عمقاً - فهناك عدد من الكنائس، مثل: الكنيسة القبطية، والكنيسة الأرثوذكسية الروسية، والكنيسة الأرمنية، ثم الكاثوليكية الرومانية. وقد شهدت المسيحية أيضاً الانقسام الأكبر مع ظهور البروتستانتية التي تتسم بالانشقاقات والانقسامات الدائمة.(13/6)
ولكن، رغم هذا، يظل التنوع داخل إطار مبدئي من الوحدة إذ يوجد حد أدنى في الإسلام مثلاً يشكل معياراً يمكن عن طريقه تفرقة المسلم عن غير المسلم. فالنطق بالشهادتين، عند المسلمين، أمر أساسي لا اجتهاد فيه ولا اختلاف، والإيمان بالبعث واليوم الآخر هو أيضاً جزء من هذا الحد الأدنى. فمهما بلغت الاختلافات، ومهما تصاعدت التناقضات، فإن هذا يظل معياراً أساسياً، ولا يمكن لأحد أن يُسمِّي نفسه «مسلماً» إذا أنكر وحدانية الله، وأن محمداً رسول الله، أو إذا أنكر اليوم الآخر والبعث. ولا يمكن أن يُسمِّي أحد نفسه «مسيحياً» إن أنكر حادثة الصلب.
ولا شك في أن الأنساق الدينية التوحيدية قد تفاعلت فيما بينها كما تفاعلت مع الحضارات الأخرى. فقد مَثَّل علم الكلام عند المسلمين، والعقلانية الإسلامية، محاولة من جانب الفكر الإسلامي للاستجابة لتحدٍّ حضاري طرحه فكر الآخر (الفكر الفلسفي اليوناني) . وفي عملية الاستجابة، تم تبنِّي مقولات مفاهيمية وفلسفية من النسق الآخر. ولكن مثل هذه العناصر الجديدة ظلت دائماً على مستوى الخطاب والمصطلح، وتم استيعابها وهضمها تماماً بحيث أصبحت جزءاً من الكل. أما ما يتنافى مع جوهر النسق الديني، فقد أصبح هامشياً وغير مؤثر، أو رُفض تماماً. ويمكن أن نضرب أمثلة من المسيحية، وخصوصاً الكاثوليكية، التي استوعبت الكثير من العناصر الفكرية والرمزية من الحضارات التي احتكت بها ورفضت كثيراً من العناصر الأخرى، ولكنها حاربت الهرطقات المختلفة مثل الهرطقة الغنوصية والألبنيزية التي تشكل انحرافاً عن جوهر الإيمان المسيحي في تصوُّرها.(13/7)
واليهودية في تصورنا تختلف عن المسيحية والإسلام في هذا المضمار. فهي تشبه التركيب الجيولوجي المكون من طبقات مستقلة، تراكمت الواحدة فوق الأخرى، ولم تُلْغ أية طبقة جديدة ما قبلها. وهي طبقات تتجاور وتتزامن وتوجد معاً لكنها لا تتمازج ولا تتفاعل ولا تُلغي الواحدة منها الأخرى ولا يتم استيعابها في إطار مرجعي واحد. وقد سُمّيت كل هذه الطبقات بـ «الدين اليهودي» .
ومع أن عبارة «التركيب الجيولوجي التراكمي» من صياغتنا نحن، إلا أن التشبيه نفسه مُتضمَّن فيما يُسمَّى «نقد العهد القديم» حيث يفترض دارسو العهد القديم أنه تَكوَّن من تراكم مصادر مختلفة (طبقات جيولوجية مختلفة) لكلٍّ رؤيته ومصطلحه، ولكلٍّ أسلوبه ولغته، بل عقيدته، ولكلٍّ مؤلّفه أو مدوّنه، وأن هذه الطبقات أو المصادر تراكمت الواحدة فوق الأخرى وتعايشت جنباً إلى جنب. وقد حدد البعض المصادر الأساسية بأربعة مصادر، وحددها آخرون بثمانية، كما بيَّن بعض النقاد أن بعض المصادر قد فُقدت ولكن بالإمكان التعرف عليها من خلال النصوص الموجودة. كما أن ترجمات العهد القديم، ومخطوطات البحر الميت، تشكل شواهد على تركيب اليهودية الجيولوجي التراكمي وعلى التناقض بين المصدر اليهوي (الحلولي) والمصدر الإلوهيمي (التوحيدي أو شبه التوحيدي) الذي وضحه نقاد العهد القديم، الأمر الذي يبين إدراكهم للخاصية الجيولوجية بدون تسميتها. وفي تصورنا، فإن ما يراه نقاد العهد القديم منطبقاً عليه وحده ينطبق في الواقع، وبشكل أكثر حدة، على مختلف الكتب اليهودية المقدَّسة الأخرى وشبه المقدَّسة. فالتلمود يفوق في ضخامته العهد القديم، وهو بكل تأكيد تركيب جيولوجي تراكمي يتسم بدرجة هائلة من عدم التجانس ومن التنافر بين أجزائه. فهو كتاب دين واقتصاد وطب وسحر وتقوى دينية راقية وإيمان بالمساواة بين البشر نابعة من درجة عالية من التوحيد وعنصرية شرسة نابعة من رؤية حلولية موغلة في الحلول والكمون. أما(13/8)
كتب القبَّالاه ومدوناتها، فهي أكثر في تراكميتها الجيولوجية وفي عدم تجانسها. وبالتالي، يمكننا أن نقول بكثير من الاطمئنان إن توصيفنا لليهودية بأنها ليست كياناً عضوياً (وإنما تركيب جيولوجي تراكمي) هو توصيف صحيح.
وقد شبَّه أحد الحاخامات التوراة بشجرة الحياة التي تضم كل شيء، وبهذا تُكوِّن كلها وحدة عضوية. ولذا قد يُحرِّم أحد الحاخامات شيئاً فيحلله آخر، فيعلن أحدهما أن هذا الشيء نجس ويقول الآخر إنه طاهر. والواقع - حسب رؤية هذا الحاخام - أن كل هذه الفتاوى جزء من الكل العضوي. لكن هذا التشبيه، أي تشبيه اليهودية بالكائن العضوي، غير دقيق بالمرة، ولعل التشبيه بعبارة «التركيب الجيولوجي التراكمي» أكثر دقة، فهي تُفسِّر التناقض وعدم التجانس، الأمر الذي قد تقصر عنه الصورة المجازية العضوية التي لا تقبل التناقض، بل تفترض قدراً كبيراً من الوحدة الداخلية التي تتبدَّى في تشكيل موحَّد خارجي. وقد تسمح الصورة المجازية العضوية ببعض أشكال الاختلاف ولكن لابد أن تنتظمها كلها في نهاية الأمر وحدة شاملة.(13/9)
ولعل أصدق مَثَل على مانقول هو الفرق بين فكر موسى بن ميمون والقبَّالاة اللوريانية. ففكر ابن ميمون فكر توحيدي راق متأثر بالتوحيد الإسلامي، وقد صاغ أصول الديانة اليهودية على أساس هذا التوحيد، هذا على عكس القبَّالاه اللوريانية التي طرحت تصوراً للإله والكون ينطوي على كثير من الحلولية الوثنية والشرك ويحتوي على أصداء كثيرة (مشوهة) لعقائد الصلب والتثليث المسيحية. ورغم التناقض الشديد والعميق والجوهري بين الرؤيتين، فإن النسق الديني اليهودي قد استوعب هذه العقائد وجعل الإيمان بها شرطاً للإيمان، بينما يتحدث ابن ميمون عن إله واحد، وتتحدث القبَّالاه اللوريانية عن إله يتكون من أب وأم يتزاوجان، وعن تجلٍّ إلهي يأخذ شكل الشخيناه (التعبير الأنثوي عن الذات الإلهية) التي تجلس إلى جواره على العرش ويتخاطب معها، ولكننا نكتشف أيضاً أنها الشعب اليهودي. ولذا حينما يُنفى هذا الشعب تُنفي معه الشخيناه. وقد حل محل كل هذا الفكر الديني اليهودي الحديث الذي يعبِّر عن حلولية بدون إله (وحدة الوجود المادية) ، حيث يحل الإله في المادة ويتوحد معها ثم يموت داخلها ولا يبقى سوى المقدَّسات المادية (بدون إشارة إلى إله متجاوز أو كامن) .(13/10)
وفكرة التركيب الجيولوجي تتبدَّى في الحقيقة التي يشير إليها إسبينوزا وهي أن الصدوقيين (الذين كانوا لا يؤمنون بالبعث أو اليوم الآخر ويصفهم علماء اليهود بالزندقة) كانوا يجلسون، في القرن الأول قبل الميلاد، جنباً إلى جنب مع الفريسيين في السنهدرين. ويمكن أن نشير نحن إلى رفض دار الحاخامية الرئيسية في إسرائيل الاعتراف بالحاخامات الإصلاحيين والمحافظين والتجديديين أو بصلاحيتهم في إجراء أية شعائر دينية، ومع هذا لا يزال الإصلاحيون والمحافظون يشكلون الأغلبية الساحقة بين اليهود المتدينين. وقد صرح الحاخام ملتون بولين بأنه لا توجد يهودية واحدة وإنما هناك يهوديتان: اليهودية المحافظة والإصلاحية من جهة، واليهودية الأرثوذكسية من جهة أخرى.
ومع هذا، يمكننا أن نقول إن أهم الطبقات داخل التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي هي الطبقة الحلولية التي ترى الإله حالاًّ في الكون (الإنسان والطبيعة) كامناً فيهما، وهو ما يؤدي إلى الواحدية (المادية) الكونية التي تنكر التجاوز على الإله بحيث يصبح لا وجود له خارجها. وقد كانت هذه الطبقة كامنة في أسفار موسى الخمسة (وخصوصاً المصدر اليهوي) وحارب ضدها كُتَّاب المصدر الإلوهيمي والأنبياء، ولكنها عادت لتزداد قوةً مع التلمود ثم أصبحت النموذج الأساسي والقيمة الحاكمة مع هيمنة القبَّالاه. ومع تَصاعُد العلمانية، ظهرت الحلولية بدون إله التي نزعم أنها الطبقة الجيولوجية الأساسية في تفكير المثقفين اليهود المحدثين. وتاريخ اليهودية الذي نطرحه هو في واقع الأمر تاريخ تزايد درجات الحلولية، إلى أن نصل إلى مرحلة الحلولية بدون إله وهي وحدة الوجود المادية (في عصر الحداثة وما بعد الحداثة) .(13/11)
وأدَّى إخفاق كثير من المفكرين الغربيين في فهم طابع اليهودية الجيولوجي (بسب خلفيتهم المسيحية) إلى تركيزهم على التوراة بالدرجة الأولى، وخصوصاً كتب الأنبياء، وإدراكهم اليهودية من خلال هذا المنظور وحده، إذ أهملوا التلمود ولم يسمعوا عن القبَّالاه إلا اسمها، وهو منظور جزئي مقدرته التفسيرية ضعيفة إلى أقصى حد.
وقد يذهب البعض إلى أن ما نسميه «التركيب الجيولوجي التراكمي» هو في واقع الأمر تعبير عن شكل من أشكال التعددية، وهو أمر يَصعُب قبوله. فالتعددية تفترض وجود قدر من الوحدة المبدئية، ويتم التنوع والتعدد داخل هذه الوحدة، فلا تَنوُّع دون تَحدُّد، ولا تَعدُّد دون قدر من الوحدة. لكن اليهودية ـ كما أوضحنا ـ تفتقر إلى مثل هذه الوحدة بسبب غياب أية معايير مركزية يهودية.
أسباب تحول اليهودية إلى تركيب جيولوجي تراكمي
Judaism as a Cumulative Geological Construct: Causes
تتسم اليهودية كنسق ديني بأنها تركيب جيولوجي تراكمي وليست وحدة عضوية متجانسة، وهذا يعود إلى عدة أسباب نجملها فيما يلي:
1- لعل أهم الأسباب التي أدَّت إلى ظهور هذه الخاصية الجيولوجية التراكمية أن العهد القديم بكل أجزائه لم يُدوَّن إلا بعد نزوله (أو وضعه) بفترة طويلة. وإذا كان التاريخ الافتراضي للخروج هو عام 1200 ق. م، فإن هذا يعني أنه لم يُدوَّن إلا بعد ذلك التاريخ بمئات السنين، كما يعني أنه دُوِّن على عدة مراحل ومن خلال مصادر مختلفة. ولم تُعتمد النسخة التي تُسمَّى «القانونية» ، أو «المعتمدة» ، إلا بعد المسيح. ومن أهم الأدلة على ذلك مخطوطات البحر الميت التي تتضمن أكثر من نسخة مختلفة للسفر الواحد بصياغات متعددة. وحينما تم تدوين الكتاب المقدَّس، كانت قد دخلت اليهودية مفاهيم وشعائر مختلفة وأصبحت جزءاً لا يتجزأ منها.(13/12)
2 ـ انتقل العبرانيون القدامى (كبدو رحل) من مكان إلى آخر، ومن حضارة إلى أخرى، من مصر إلى كنعان عبر سيناء، ومن كنعان إلى بابل، وعبر هذه الرحلة تعرفوا على الفكر التوحيدي في الحضارة المصرية في عهد إخناتون، وفي سيناء (بين المدينيين) ، ثم استوعبوا الحضارة الكنعانية ومن بعدها العبادة البابلية. وبعد ذلك، هيمنت فارس على الشرق الأدنى القديم وتبعتها اليونان. ودخلت اليهودية عناصر من كل هذه الحضارات بعباداتها المختلفة.
3 ـ لم تتمتع العقيدة اليهودية بوجود سلطة تنفيذية مركزية تساندها وتتخذ منها عقيدةً وأساساً للشرعية. ونتج عن ذلك انعدام وجود سلطة دينية مركزية تحافظ على جوهر الدين وتبلور مفاهيمه ومعاييره. وفي الفترة القصيرة التي أُسِّست فيها المملكة العبرانية المتحدة وقامت فيها سلطة دينية مركزية حول الهيكل، لم تكن العبادة اليسرائيلية قد تبلورت بعد، كما يتضح في سلوك سليمان الذي سمح لزوجاته باستقدام آلهتهن وكهنة عباداتهن. ولم تُعمِّر السلطة المركزية طويلاً إذ تأسَّس مركز آخر في بيت إيل بعد انقسام المملكة إلى مملكتين. وقد ازداد بعد ذلك تعدُّد المراكز والتبعثر مع انتشار الجماعات اليهودية في العالم، حين ظهر مركز ديني قوي في بابل (يتحدث الآرامية) وآخر في مصر لا يعرف العبرية ويتحدث اليونانية. وقد تم كل هذا قبل تبلور اليهودية بل قبل الانتهاء من تدوين وتقنين العهد القديم. ومن هنا، فحتى إذا كان في الإسلام أو المسيحية انقسامات وتنوعات، فإنه يظل هناك موقف أصولي أو مركز أرثوذكسي يحدِّد المؤمن والمهرطق أو الكافر. أما في اليهودية، فمع غياب هذا المركز، كان المهرطقون يستمرون في تجديفهم ويسمونه «يهودية» ، حتى إذا ما وصلنا إلى العصر الحديث وجدنا أن عدد الأرثوذكس لا يزيد على 4% من مجموع يهود العالم، ويوجد ملايين من اليهود الملاحدة أو اللا أدريين أو غير المكترثين بالدين الذين يسمون أنفسهم مع هذا «يهوداً» .(13/13)
4 ـ مع سقوط المملكة الجنوبية والتهجير البابلي، انتهت العبادة القربانية المتمركزة حول الهيكل. ولكنها مع هذا تركت طبقات جيولوجية مهمة في اليهودية التلمودية على شكل عدد هائل من الطقوس والمدونات، مثل: القوانين الخاصة بالكهنة، وبعض الشعائر كالسنة السبتية، وكثير من الصلوات.
5 ـ ولكن العنصر الأساسي والحاسم الذي أدَّى إلى ظهور الخاصية الجيولوجية التراكمية هو مفهوم الشريعة الشفوية الذي أضفى قداسة على فتاوى فقهاء اليهودية وتفسيراتهم ووضعها في مرتبة أعلى من كتاب اليهود المقدَّس نفسه. وقد ظهرت مدارس ونظريات في التفسير لا حصر لها ولا عدد، بعضها ينكر أية علاقة بين الدال والمدلول، أي بين كلمات العهد القديم ودلالاتها المباشرة، بحيث أصبح في وسع المُفسِّر (من خلال التفسير الرمزي أو التفسير القبَّالي أو التفسير الرقمي) أن يفرض أي معنى يشاء.
6 ـ وكانت اليهودية عبر تاريخها، حتى ظهور اليهودية الحاخامية، تكتسب هويتها من أنها ديانة تنزع إلى التوحيد في محيط وثني مشرك. ولكنها حينما وجدت نفسها في تربة توحيدية، إسلامية أو مسيحية، حاولت أن تشكِّل هوية جديدة تستند إلى تصوُّر أسطوري حلولي للواقع، كما يتضح بشكل جنيني في التلمود، وبشكل واضح جليّ في القبَّالاه. ورغم ظهور الفكر الأسطوري، فإن هذا الفكر الأسطوري لم ينبذ الفكر التوحيدي وإنما حاول أن يتعايش معه.(13/14)
7 ـ ظلت اليهودية، لفترة طويلة من تاريخها، مجرد ممارسات طقوسية تحكمها إما سلطة مركزية أو فتاوى الحاخامات دون أن يتم تحديد العقائد الأساسية. وحينما قام موسى بن ميمون في القرن الثاني عشر بتحديد أصول الدين اليهودي، فإن كثيراً من العقائد أو المعتقدات الفلكلورية الحلولية الوثنية كانت قد وجدت طريقها بالفعل إلى العهد القديم والتلمود. وعلى كلٍّ، لم يُكتَب لمحاولة موسى بن ميمون أن تهيمن على اليهودية وتكتسب المركزية التي تستحقها، حتى يتم استبعاد العقائد المنافية للتوحيد. ولكن ما حدث هو أن الاجتهاد الميموني كان مجرد طبقة جيولوجية جديدة تضاف إلى الطبقات الأخرى السابقة واللاحقة. ثم زادت هيمنة القبَّالاه بعد هذه المحاولة بفترة قصيرة.
8 ـ لكن انتقال مركز اليهودية إلى تربة مسيحية تؤمن بالتثليث (واحد في ثلاثة أو ثلاثة في واحد) لم يساعدها كثيراً على التطور، إذ أن الفكر الديني بدأ يتصور الإله وكأنه يتجلى تجليات مختلفة (التجليات النورانية العشرة أو السفيروت) . وقد وُلدت هذه التصورات في أحضان التفكير القبَّالي الشعبي الذي كان يتأثر بالأفكار الدينية المسيحية دون أن يستوعبها ثم ينقلها إلى تربة يهودية فيتم تشويهها.
9 ـ كان اليهود في العالم الغربي الذي انتقل إليه مركز اليهودية، مع نهاية العصور الوسطى، جماعة وظيفية وسيطة منعزلة لا تتمتع بمستوى ثقافي رفيع، في مجال التنظير الديني على الأقل. كما أن هذه الجماعة لم تكن تشعر بالطمأنينة، وهذا ما جعلها تنغلق على نفسها، وقد انعكس هذا على النسق الديني اليهودي إذ بدأت الطبقات تزداد تنوعاً وتبتعد عن التجانس.(13/15)
10- ظلت اليهودية ـ بكل طبقاتها الجيولوجية المتراكمة ـ متمركزة داخل الجيتو. وقد تصالح التراث التلمودي والتراث القبَّالي داخل مؤسسة اليهودية الحاخامية، وإن كانت علامات التوتر قد ظهرت بينهما في الصراع بين الحسيديين والمتنجديم. وجاء الإصلاح الديني البروتستانتي، لكنه لم يؤثر كثيراً في اليهودية التي كانت مراكزها موجودة في شرق أوربا (أساساً) في تربة أرثوذكسية بمنأى عن التغيرات الفكرية والبنيوية التي كانت تحدث في القارة الأوربية. وحينما اندلعت الثورة الفرنسية وبدأت عملية تحديث اليهودية، لم يكن النسق الديني اليهودي مهيأً لذلك، وخصوصاً أن أوربا ذاتها كانت قد طرحت الإصلاح الديني وراءها وبدأت تتخلى عن الرؤية الدينية وتدخل عالم العلمانية الحديث الذي لا يكترث كثيراً بالدين بل يحوله إلى اقتناع شخصي يُمارَس في المنزل ولا ينظم السلوك الاجتماعي بأية حال. وفي مواجهة ذلك التحدي الأكبر، تآكل التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي تماماً إذ أن الإصلاح الديني اليهودي، الذي أخذ شكل اليهودية الإصلاحية، كان في واقع الأمر محاولة لعلمنة اليهودية لا لإصلاحها. ولذا، فقد أسقط كثيراً من الشعائر والعقائد التي تتنافى مع العقل والمنطق، وحاول أن يعيد صياغة اليهودية حسب مقاييس بروتستانتية شبه علمانية. كما انتشر الإلحاد بين كثير من اليهود واستمروا، مع هذا، في تسمية أنفسهم «يهوداً» ، ذلك أن الشريعة اليهودية تعترف بهم كيهود، فاليهودي هو من وُلد لأم يهودية.(13/16)
11 ـ لاحَظ أحد الباحثين أن المجتمعات الصغيرة (والهامشية) هي عادةً مجتمعات تحتفظ بكل شيء، فهي مجتمعات لا شخصية. ففي واحة سيوه لا تزال توجد بعض العادات والمفاهيم التي تعود إلى أيام الفراعنة واليونانيين. وإذا قبلنا هذا الرأي، فيمكن القول بأن اليهودية كانت دائماً تتحرك في تربة المجتمعات الصغيرة (المجتمع العبراني قبل التهجير ـ الجيتوات اليهودية في أنحاء العالم) ، ولهذا السبب تعمقت الخاصية الجيولوجية. كما يُلاحَظ أن أعضاء الجماعات الوظيفية حينما ينتقلون من مجتمع إلى آخر يحملون معهم بعض الأشكال الحضارية من المجتمع السابق، والتي تتكلس تماماً بمرور الوقت وتتحول إلى طبقة جيولوجية جديدة.
مظاهر ونتائج تحول اليهودية إلى تركيب جيولوجي تراكمي
Judaism as a Cumulative Geological Construct: Manifestations and Consequences(13/17)
تتسم اليهودية، كتركيب جيولوجي تراكميس، بأنها تنطوي على تناقضات حادة وعلى غموض شديد في بعض المفاهيم، ولنأخذ مفهوماً محورياً كمفهوم الإله مثلاً. تُصنَّف اليهودية باعتبارها ديانة توحيدية، غير أن العهد القديم يتضمن من النصوص ما يتناقض مع هذا إذ يُفهم منها أن ثمة آلهة غير يهوه، وتُستخدَم صيغة الجمع «إلوهيم» ومفردها «إيلوَّه» ، وتتبع الاسم صفة في صيغة الجمع ( «إلوهيم إحيريم» أي «آلهة أخرى» ) ، وهو ما تحاشاه مترجمو النسخة السبعينية للإشارة إلى الإله، حيث يتحول «إلوهيم» إلى اسم من أسماء الإله. والإله، في بعض المقاطع، يسمو على العالمين والبشر ويتجاوز الطبيعة والتاريخ، ولكنه في البعض الآخر يحل في الطبيعة والتاريخ ويتوحد معهما ويتسم بصفات البشر. وفي اللقاء بين الإله وموسى على جبل سيناء، لا تحدد المصادر التلمودية ما إذا كان موسى شاهده وجهاً لوجه وهل اشترك الشعب في الرؤية، أم أنه لم يشاهده أحد (أي هل ظل الإله متجاوزاً لا تدركه الأبصار أم أنه تجسد فرآه موسى؟) . ويتبدَّى اختلاط رؤية العهد القديم بالإله في الإشارة إلى الترَافيم (الأصنام) فترة إشارات إيجابية وإشارات سلبية، فليس هناك موقف حاسم منها يحدد ما إذا كانت موضع قبول أو موضع رفض. والإشارة إلى عزازئيل تتضمن أيضاً وجود قوى مطلقة إلى جوار الإله.(13/18)
وقد ظل هذا التناقض العميق يسم الرؤية اليهودية، ففي التلمود تُنسب إلى الإله صفات بشرية عديدة، وهو غير معصوم من الخطأ أو الندم، بل إن إرادته لا تعلو على إرادة الحاخامات. أما في تراث القبَّالاه، فينفرط عقده تماماً ليتحول إلى تجليات مختلفة، وإلى عناصر ذكورة وأنوثة بما يشبه الآلهة الوثنية اليونانية أو الرومانية في بعض النواحي. وتظهر الخاصية الجيولوجية أيضاً في الأفكار الأخروية التي لم تستقر تماماً في اليهودية ولم تكتسب شكلاً محدداً. فالعهد القديم، بكامله تقريباً، ينكر فكرة البعث حيث لا تظهر هذه الفكرة بشكل محدد إلا في كتاب دانيال (في مرحلة متأخرة) ، كما أنها لم تستقر استقراراً كاملاً في الفكر الديني اليهودي. والشيء نفسه ينطبق على فكرة الثواب والعقاب. ولهذا فإننا، عند ظهور المسيح، نجد العديد من الفرق اليهودية المتنافرة، ومن بينها الصدوقيون الذين كانوا ينكرون البعث واليوم الآخر، رغم أنهم كانوا يشكلون فئة دينية مركزية في غاية الأهمية، فكان منهم الكهنة كما كانوا يجلسون مع الفريسيين في السنهدرين. وقد أشار إسبينوزا، فيلسوف العلمانية والحلولية، إلى هذه الحقيقة ليدلل بها على أن الإيمان بالآخرة ليس أمراً جوهرياً في اليهودية.(13/19)
وتتبدَّى الخاصية الجيولوجية في مفاهيم محورية أخرى مثل حائط المبكى. فالفقه اليهودي لم يهتم على الإطلاق بحائط المبكى أو الحائط الغربي. ولهذا، لم يأت له ذكر في الكتابات الدينية أو كتب الرحالة. ولكن، يبدو أنه بتأثير فكر يهود المارانو الحلولي الذي يتبدَّى في شكل تقديس للأشياء التي يفترض أن الإله يحل فيها، وتحت تأثير الشعائر الإسلامية حيث تُعد فريضة الحج إلى الكعبة أحد أسس الإسلام الخمسة، تحول الحائط إلى مزار، ثم أصبح من أهم الأماكن قداسة في العقيدة اليهودية، وأصبح الاستيلاء عليه في رأي بعض المتمسكين بأهداب العقيدة اليهودية فرضاً دينياً. ومع هذا، فإن الحاخام الأرثوذُكسي هيرش، الذي يعيش على بعد عدة خطوات من الحائط، يرفض زيارته، وذلك لأن الشريعة اليهودية (كما يرى) تُحرِّم ذلك على اليهود، وهكذا فإن أصحاب المواقف المتناقضة يجد كل منهم سنداً لموقفه داخل الشريعة اليهودية.(13/20)
وهناك تناقض من هذا النوع بشأن قضية الأرض، إذ يرى معظم الصهاينة المتدينين أنه لا يمكن التفريط في شبر واحد من الأرض التي احتلها الإسرائيليون قبل بعد عام 1967 وهم يدعمون رأيهم هذا بالعودة إلى كتب اليهود المقدَّسة. أما الحاخام عوبديا يوسف، حاخام السفارد السابق، فيطالب بغير ذلك، إذ يرى أن بالإمكان التنازل عن الأرض مقابل السلام لأن في هذا حقناً لدماء اليهود (وقد وجد هو أيضاً الاقتباسات المناسبة) . بل هناك تناقض، ومن ثم اختلاف، يتصل بإحدى الوصايا العشر (: لا تقتل) ، إذ أفتى الحاخام إسحق جنزبرج، وهو رئيس مدرسة تلمودية عليا (يشيفا) في مدينة نابلس بأن دم العرب ودم اليهود لا يمكن اعتبارهما متساويين. ومن قبل، صرح أحد الحاخامات التابعين للحاخامية العسكرية بأن الجنود الإسرائيليين يمكنهم قَتْل حتى أفضل الأغيار. وقد وجد كل منهما الاقتباسات اللازمة لتأييد رأيه. وقد احتج الحاخام أبراهام سابيرو، حاخام الإشكناز الأكبر بقوله إن الإله (حسبما جاء في التوراة) قد خلق كل البشر على صورته، وأن الوصية الخاصة بعدم القتل هي إحدى وصايا نوح، وبالتالي فهي مُلزمة لجميع البشر، يهوداً كانوا أم أغياراً. وهو محق في قوله وفي استشهاده، تماماً مثل الحاخامات الداعين للقتل. وقد أدَّى كل هذا إلى أن اليهودية أصبحت مصدراً للشقاق بين يهود العالم داخل وخارج إسرائيل بدلاً من أن تصبح إطاراً واحداً يجمعهم ويُضفي عليهم شيئاً من الوحدة، وأصبحت العقيدة اليهودية في الدولة الصهيونية مصدراً أساسياً للانقسام والصراع الاجتماعي والثقافي.(13/21)
وتتبدَّى الخاصية الجيولوجية التراكمية في الأعياد، فعيد الفصح بطقوسه المركبة نتاج تراكمات جيولوجية عديدة ابتداءً من عيد الخبز غير المخمر (الكنعاني) وانتهاءً بنظام المأدبة (الروماني) . كما تتضح الخاصية الجيولوجية التراكمية في تزايد الأعياد (الواحد تلو الآخر) عبر السنين، وهو أمر لم يتوقف بعد، إذ تحوَّل (على سبيل المثال) يوم إعلان استقلال إسرائيل إلى عيد ديني. وثمة محاولة في إسرائيل لتحويل هذا العيد إلى عيد الفصح الحقيقي باعتبار أن إعلان استقلال إسرائيل هو خروج اليهود الحقيقي!
كما أن الصلاة اليهودية قد نالتها هي الأخرى تغييرات لا حصر لها ولا عدد، وهو أمر لا يزال يحدث حتى الآن، فبعد أن أُضيفت إليها قصائد البيوط (من قبل) تم حذفها مؤخراً، كما يتم تغيير النصوص والأدعية وكتب الصلوات من آونة إلى أخرى.
وتظهر الخاصية الجيولوجية التراكمية كذلك في المحاولة الحديثة لإعادة صياغة العقيدة اليهودية بالشكل الذي يتفق مع ملابسات ما بعد أوشفيتس (أي ما بعد النازية) إذ يقول بعض المفكرين الدينيين اليهود: إن الإله قد تخلى عن اليهود في محنتهم، ولذلك لابد أن تُعاد صياغة كل شيء وضمن ذلك محاولة التوصل إلى يهودية بدون إله. بل ذهب بعضهم إلى المناداة بأن الإله قوة شريرة.
وتظهر الخاصية الجيولوجية التراكمية بكل حدة في تعريف الشريعة اليهودية لليهودي بأنه من يؤمن بالشريعة ومن وُلد لأم يهودية. وهو تعريف يجمع بين فكرة الإيمان بالإله الواحد الذي يستند إلى الاختيار، الذي ينتج عنه سلوك أخلاقي محدد، وبين الفكرة الوثنية القائلة بأن الانتماء هو انتماء عرْقي للشعب (كما هي عادة شعوب الشرق الأدنى القديم وغيرها من الشعوب القديمة) .(13/22)
وبإمكاننا أن نقول إن الخاصية الجيولوجية التراكمية تتبدَّى في التناقض الحاد بين النزعة الحلولية الحادة التي تُوحِّد الإله والشعب والأرض، كما هي عادة الديانات القديمة من جهة، ومن جهة أخرى النزعة التوحيدية المتسامية التي ترى أن الخالق مفارق لمخلوقاته وأنه هو الذي يحكم عليهم ويوجههم ويميتهم ويحييهم، وأنه هو الذي شاء وأعطاهم حرية الاختيار بين الخير والشر، والنزعتان (على تناقضهما) موجودتان في اليهودية
وتنطلق كلٌّ من اليهودية الإصلاحية واليهودية المحافظة من تَقبُّل الخاصية الجيولوجية التراكمية دون أن تسمياها كذلك. فاليهودية الإصلاحية تختار ما تشاء وتَرفُض ما تشاء بما يتفق مع العقل وروح العصر. أما اليهودية المحافظة، فتفعل الشيء نفسه، على أن يتم الاختيار على أساس ما يتفق مع روح الشعب اليهودي. وقد اعتبر الإصلاحيون كتاب اليهود المقدَّس أي العهد القديم وثيقة ذات شأن عظيم وليس وحياً مقدَّساً. ووجدوا في النسق الجيولوجي ما يؤيد وجهة نظرهم. أما اليهودية المحافظة فقد حوَّلت العقيدة اليهودية إلى ما يشبه فولكلور الشعب اليهودي، ووجدت أيضاً ما يساندها. ثم ظهرت الصهيونية التي أنكر مفكروها الأوائل وجود الإله، ثم جعل مفكروها المحدثون فكرة الإله ثانوية. ومع هذا، فقد بحثوا عن شرعية لآرائهم في التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي ووجدوا ضالتهم. ومع أن اليهودية الأرثوذكسية وقفت في البداية بضراوة ضدالصهيونية من منظور ديني (على اعتبار أن اليهودية تحرِّم العودة، بينما التلمود يراها من قبيل الهرطقة والتجديف) فإنها غيَّرت موقفها وتصالحت مع الصهيونية ووجدت أن الدولة الصهيونية هي ما يُسمَّى «بداية الخلاص» ، وهو مفهوم تلمودي أيضاً اكتشفه منذ البداية بعض الحاخامات الأرثوذكس القبَّاليين، مثل كاليشر والقلعي، ثم تبعهما إسحق كوك. وفي الوقت الحالي، فإن معظم اليهود الأرثوذكس يؤيدون الصهيونية بتعصب شديد من منظور ديني(13/23)
أيضاً. وكلا الموقفين، القابل للصهيونية والرافض لها، يجد ما يستند إليه في كتب اليهود المقدَّسة.
ومن الملاحَظ أن نصف يهود العالم لا يلتزمون الحد الأدنى من الإيمان، ومن ذلك الإيمان بالإله. ومع هذا، فإننا نجدهم مستمرين في إطلاق عبارة «يهود إثنيون» على أنفسهم، ورغم ذلك فقد قبلتهم المؤسسات الدينية اليهودية التي عرَّفت اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية. وقد ظهرت اتجاهات أخرى مختلفة مثل اليهودية التجديدية وتسميات يكتنفها التناقض مثل «اليهودية العلمانية» ، وهناك تسمية إسحق دويتشر الكلاسيكية «اليهودي غير اليهودي» ، وهو التعبير العبثي النهائي عن الخاصية الجيولوجية التراكمية. وتتجلى هذه المسألة نفسها في إسرائيل في إشكالية «الهوية اليهودية» ، (أي إشكالية من هو اليهودي؟) ،والذي عرَّفه أحدهم بأنه «من يرى نفسه كذلك» دون الاحتكام إلى أية معايير دينية خارجية، بحيث يصبح الانتماء الديني أشبه بالحالة الشعورية أو المزاجية.
عناصر في اليهودية من الديانات والحضارات الأخرى
Elements in Judaism from other Religions and Cultures(13/24)
لابد أن نبيّن ابتداءً أن هناك رقعة عريضة مشتركة بين كل الأديان باعتبارها تعبيراً عن شيء أساسي في النفس البشرية: وهو رغبة الإنسان في تأكيد إنسانيته وتعريفها باعتبارها كياناً متميِّزاً يتجاوز عالم الطبيعة/المادة وعالم الحيوانات والحشرات التي تحيا وتموت دون وعي ودون هدف أو غاية ودون أية منظومات معرفية أو أخلاقية أو جمالية، فهي تعيش مبرمجة حسب برنامج الطبيعة/المادة. هذه الرغبة الإنسانية هي ما نسميه «النزعة الربانية» . وهي رغبة كامنة في الجنس البشري تولِّد من داخل عقل الإنسان، المستقل عن عالم الطبيعة/المادة، أفكاراً وأحلاماً ورؤى. ولذا فمن المتوقع أن تكون هناك عناصر مشتركة بين هذه الأفكار والرؤى تتجلى على هيئة رقعة مشتركة بين كل الديانات في العقائد والرؤى والطقوس والشعائر. ومع هذا لا يمكن إنكار أن عقيدة ما يمكن أن تتأثر بأخرى، وأن درجات التأثر هذه تختلف من عقيدة لأخرى. ونحن نذهب إلى أن درجة تأثر اليهودية بما حولها من عقائد أدَّى إلى ظهور خاصيتها الجيولوجية التراكمية التي تتبدَّى في الاقتباسات العديدة غير المتجانسة من الحضارات الأخرى، وخصوصاً إبَّان المواجهات الأساسية الخمس للعقيدة اليهودية مع الحضارات: الكنعانية والبابلية والهيلينية والمسيحية والإسلامية، وأخيراً مواجهتها مع الحضارة العلمانية الحديثة في الغرب.(13/25)
ولنبدأ بالمصريين القدماء. يبدو أن قصة يوسف ذات أصل مصري، ويُلاحَظ فيها وجود لمسات مصرية هنا وهناك. ففي سفر التكوين (41/14) يحلق يوسف رأسه قبل المثول أمام فرعون، وقد كانت هذه عادة معروفة في مصر، ولم تكن معروفة عند الساميين. وقد أثَّر نظام الكهنوت المصري في نظام الكهنوت اليهودي، وكذلك في هندسة الهيكل التي تشبه هندسة المعابد المصرية، كما أثَّر التراث المصري في بعض مظاهر العبادة اليسرائيلية والعبادة القربانية المركزية مثل تابوت العهد وقدس الأقداس وغيرها. ولكن الأهم من كل هذا هو الأثر الذي تركه المصريون في اليهود في مجال العقيدة. فقد ترك الفكر التوحيدي المصري القديم، وعبادة إخناتون التوحيدية، أثراً واضحاً وعميقاً في العبرانيين، وفي رؤيتهم للإله بشكل عام. كما يتضح هذا الأثر بشكلٍ محدَّد في المزامير التي وجد الباحثون أمثال هنري برستيد فيها أصداء لأناشيد إخناتون الدينية، فالمزمور 94 مستوحى بصورة جلية من «نشيد آتون» ، والمزمور 104 مأخوذ عن «نشيد الشمس» في عهد إخناتون. بل يمكن القول بأن بعض الأوجه الإيجابية للرؤية الأخلاقية العبرانية تعود إلى الحضارة المصرية التي أكدت فكرة الثواب والعقاب. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن كتاب الأمثال في العهد القديم يكاد يكون ترجمةً لأحد كُتب الحكمة المصرية. كما أخذ العبرانيون شعيرة الختان، وفكرة تحريم الخنازير، ومبدأ النجاسة، من المصريين القدامى. ولا يعني هذا أن العبرانيين تبنوا هذه العقائد والمفاهيم بقضها وقضيضها، فالتوحيد بين العبرانيين قد انتكس في مرحلة لاحقة، وكذا القيم الأخلاقية، وإنما يعني ذلك أن التراث المصري الديني والأخلاقي ترك أصداءً عميقةً في وجدان العبرانيين.(13/26)
وقد تأثر العبرانيون بحضارة الكنعانيين في كثير من المجالات، فبعض صفات يهوه هي من صفات بعل إله الكنعانيين. وبعض التحريمات (مثل طبخ الجدي في لبن أمه) هي عادات كنعانية قديمة. وكثير من الأعياد اليهودية، مثل عيد الفصح وعيد الأسابيع وعيد المظال، ذات أصل كنعاني. وقد كشفت الكتابات الأوجاريتية مدى عمق تأثير الفكر الديني الكنعاني في العبادة اليسرائيلية، ويُقال إن المزمور 29 مأخوذ من نشيد كنعاني وُضع أصلاً لبعل العاصفة، وعُثر عليه في أوجاريت. ويبدو أن القصص الدينية للأقوام السامية الأخرى، مثل الأدوميين، قد وجدت طريقها إلى الفكر الديني اليسرائيلي كما يتضح من سفر أيوب. ويذكر العهد القديم بعض الشعائر والعقائد التي تم تبنيها، ثم استُبعدت في مرحلة لاحقة، مثل التضحية على المذابح، والثعبان النحاسي، ومركبات الشمس في الهيكل، والعجول الذهبية. ولكن هناك شعائر أخرى لم تُنبَذ مثل التضحية بكبش للمعبود عزازئيل.
ويُلاحَظ على أسفار موسى الخمسة أن كثيراً من نصوصها يتشابه مع أساطير سومرية وبابلية، وتشريعات بابلية قديمة، ومثال ذلك:
ـ تشابه سفر التكوين (1 ـ 11) وملحمة الخلق البابلية.
ـ التشابه بين الأعمار المديدة لآباء البشرية منذ آدم حتى نوح (عشرة منهم مجموع أعمارهم 8575 سنة) في سفر التكوين (5) ، وفي قائمة سومرية جاء أن ثمانية ملوك قبل الطوفان حكموا 241.200 سنة، وهناك قائمة بابلية جاء فيها أن عشرة حكام حكموا 432 ألف سنة.
ـ تشابه قصة الطوفان في سفر التكوين مع ملحمة جلجاميش التي ورثها البابليون عن الحضارة السومرية.
ـ تشابه قصة مولد موسى مع قصة مولد سرجون ملك أكاد.
ـ وضوح تأثير قانون حمورابي (1900ق. م تقريباً) في التشريع الوارد في سفر الخروج (21 ـ 23) والوصايا العشر.
كما تأثر اليهود بكثير من الشعائر والعقائد البابلية، مثل السبت، وتغطية الرأس أثناء الصلاة، وفكرة يوم الحساب، والتقويم.(13/27)
ولم يتوقف تأثر اليهودية بالديانات والحضارات الأخرى مع العودة من بابل، فقد ظل هذا النمط سائداً إذ تأثر اليهود بفكرة الماشيَّح من التراث الفارسي. كما دخل على اليهودية كثير من الأفكار الثنوية، وهو ما أثر في أدب الرؤى والأفكار الأخروية. وأثَّر الفكر الهيليني في الفكر الديني اليهودي، فسفر الجامعة يتضمن رؤية عدمية تشبه من بعض الوجوه الفكرة الإغريقية الخاصة بأن التاريخ مثل الدورات الهندسية المحضة التي تبدأ وتنتهي بلا معنى. بل إن فكرة الشريعة الشفوية نفسها من أصل هيليني، إذ كان اليونان يرون أن القانون الشفوي أهم وأكثر شرعية من القانون المكتوب. كما أن فكرة «الآدم قدمون» (الإنسان الأزلي) هي خليط من فكر بابلي وفارسي (وقد وردت في كتابات المندائيين) أما فكرة «تهشُّم الأوعية» فهي فكرة أسطورية يونانية وردت في تراتيل أورفيوس وتشير إلى «تلوث الأشعة» أو الومضات الإلهية في روح الإنسان أثناء هبوطه بفعل «التيتان العشرة المعلقة بين السماوات والأرض» .
واستمرت اليهودية بعد ذلك في تبنِّيها عناصر من الإسلام، فصاغ سعيد بن يوسف الفيومي، ومن بعده موسى بن ميمون، أصول الدين اليهودي متأثرين في ذلك بمحاولات الفقهاء المسلمين تحديد أصول الدين الإسلامي. كما تأثرت اليهودية بالفكر الديني المسيحي في تراث القبَّالاه، خصوصاً بفكرة التجليات النورانية العشرة (سفيروت) . بل إن احتفالاً يهودياً مثل الاحتفال ببلوغ سن التكليف الديني (برمتسفاه) ، وهو من أهم الاحتفالات اليهودية في الولايات المتحدة، لم يكن معروفاً في اليهودية الحاخامية وإنما أُخذ عن المسيحية الكاثوليكية فيما يُسمَّى «التناول الأول» .(13/28)
لكن تأثر اليهودية بالعقائد والديانات الأخرى، ليس ميزة أو عيباً في حد ذاته، فثمة رقعة مشتركة واسعة بين كل الديانات والعقائد (كما أسلفنا) . والكتب المقدَّسة والعقائد الدينية، رغم استنادها إلى مطلق غير مادي متجاوز للطبيعة والتاريخ، إلا أنها تستمد مادتها من التاريخ فهي تتعامل مع أحداث تاريخية. وهي موجهة للبشر الذين يعيشون داخل الزمان. ولذا فرغم أن أساسها مطلق ومرجعيتها مطلقة إلا أنها تتعامل مع النسبي وتطوِّعه لتستوعبه داخل المرجعية الحاكمة النهائية. ولكن المؤثرات التي تراكمت داخل اليهودية ظلت متعايشة كطبقات جيولوجية غير مندمجة وغير مُستوعَبة في إطار مرجعي واحد، الأمر الذي وسم اليهودية بميسمه وجعل منها تشكيلاً جيولوجياً تراكمياً.
ومع هذا، تجب الإشارة إلى أن الخاصية الجيولوجية التراكمية للنسق الديني اليهودي قد جعلت مقدرته الاستيعابية لعناصر من العقائد والأيديولوجيات الأخرى عالية إلى أقصى حد، وأدَّى هذا إلى أزمة حادة في اليهودية مع تصاعُد معدلات العلمنة في المجتمع الغربي إذ بدأ المفكرون الدينيون اليهود يتبنون أفكاراً لا علاقة لها بأي دين مثل تَقبُّل الشذوذ الجنسي، بل إنشاء معابد للشواذ من الجنسين، بل ترسيم حاخامات منهم وإنشاء مدارس دينية خاصة بهم، وأخيراً قبول فكرة لاهوت موت الإله. وهذه بدعة غربية جديدة تشكل جوهر العلمانية، ولكنها مع هذا تُسمِّي نفسها فكراً دينياً!
العقائد (كمرادف لكلمة «أديان» )
Religions(13/29)
تُستخدَم كلمة «عقيدة» بالمعنى العام مرادفة لكلمة «دين» أو «نسق ديني» ، فيقال «العقيدة اليهودية» و «العقيدة المسيحية» و «العقائد السماوية» ... إلخ. وحيث إننا نرى أن اليهودية تركيب جيولوجي يحوي داخله أنساقاً وأفكاراً دينية مختلفة متناقضة تراكمت عبر العصور، تتعايش جنباً إلى جنب، أو تتراكب كالطبقات الجيولوجية الواحدة فوق الأخرى، فإننا نستخدم الكلمة في صيغة «العقائد اليهودية» بمعنى أنها «أديان» لا بمعنى «أصول الدين اليهودي» . وحتى حينما نستخدم اصطلاح «عقيدة يهودية» في صيغة المفرد، فإن المقصود هو: تركيب جيولوجي تراكم داخله عدد من الطبقات المتناقضة.
العقائد (بمعنى أصول الدين وأركانه)
Creeds, Beliefs and Articles of Faith
العقيدة هي الحكم الذي لا يقبل الشك لدى معتقده، وهو يقبلها حتى لو تناقضت بعض جوانبها مع العقل أو المنطق. والعقيدة في الدين هي ما يُقصَد به الاعتقاد دون العمل كعقيدة وجود الإله وبعثه الرسل. والعقائد عادةً تشكل ركناً أساسياً من أركان أي دين، فإن هُدمت انتفى الإيمان. ويقابل كلمة «عقائد» بهذا المعنى أصول الدين وأركانه في الإسلام. ولما كان الفقه اليهودي قد تأثر بمصطلحات كل من اللاهوت المسيحي، والفقه الإسلامي في الوقت نفسه فإننا سنضطر إلى استخدام هذه المصطلحات كما لو كانت مترادفة.(13/30)
وعادةً ما تتم التفرقة بين العقائد التي يؤمن بها الإنسان والشعائر أو الطقوس التي يؤديها. فالأولى مسألة تختص بالقلب والضمير، والثانية تنتمي إلى العالم الخارجي، فهي أفعال محدَّدة تتبع نظاماً محدداً. ويذهب كثير من المفكرين إلى أن اليهودية تُعنى بالشعائر والأعمال ولا تُعنى بالإيمان، وهي في جوهرها أسلوب حياة ونظام للسلوك البشري لا عقيدة تُعتقد، ومجال تفكيرها منحصر بالدرجة الأولى في هذا العالم، والجزاء يكون حسب الأعمال لا حسب الاعتقاد. وتميِّز الموسوعة اليهودية بين استخدام الجذر اللغوي «آَمَن» ومشتقاته في العهد القديم، واستخدام كلمة «إيمان» أو «عقيدة» في العهد الجديد. فهي تقول إن الكلمة في العهد القديم تحمل معنى الثقة في الإله والاخلاص له لا الإيمان به أو بعقائد محدَّدة، وأن استخدام الجذر «آمن» ومشتقاته بمعنى العقيدة والإيمان لم يظهر إلا في العصور الوسطى في الغرب تحت تأثير المسيحية.(13/31)
ولا يوجد في العهد القديم أي تحديد واضح لأركان الإيمان أو أعمدته، وإن كان هذا لا يمنع وجود مفاهيم إيمانية عامة مثل: الشماع، وضرورة الإيمان بوحدانية الإله والوصايا العشر. ولكن هذه الأفكار الدينية هي جزء من تركيب جيولوجي يضم العديد من الأفكار الأخرى المتناقضة وغير المتجانسة الوثنية والتوحيدية. فموقف العهد القديم من قضية مثل قضية الأصنام (ترافيم) ينطوي على التقبل الضمني في بعض الأجزاء، والرفض الكامل في بعض الأجزاء الأخرى. ويتحدث العهد القديم عن الإله في صيغة الجمع (إلوهيم) ، وعنه باعتباره إلهاً ضمن آلهة أخرى. كما نجد أن ثمة إشارات مستمرة إلى ملك اليهود بوصفه ابن الإله (أخبار أول 17/13) . كما نجد أن فكرة البعث والآخرة تظل مبهمة وغير محددة. ويُلاحَظ تأرجُح رسالة الأنبياء بين العالمية والقَبَليِّة. وينسب العهد القديم إلى الآباء (إبراهيم ويعقوب وموسى) أفعالاً غير أخلاقية. ونجد أن الشعب، باعتباره جماعة دينية، يرتكب أفعالاً أبعد ما تكون عن الالتزام الخلقي وتعبِّر عن العصبية العرْقية مثل ذبح سكان شكيم رغم اعتناقهم اليهودية وتختنهم وترحيبهم بالعبرانيين (تكوين 34/25 ـ 27) . ونجد أن مفهوم الميثاق بين الإله والشعب مُلزم للإله بغض النظر عما يقترفه اليهود من آثام وأفعال لا أخلاقية. كل هذه القيم والمفاهيم أصيلة في العهد القديم وتتناقض مع الشماع ووحدانية الإله وبعض الوصايا العشر!(13/32)
وقد ظلت اليهودية، رغم هذا التناقض، نسقاً دينياً يتعايش داخله هذا التناقض وتترسب فيه أفكار دينية أخرى (بالطريقة الجيولوجية التكاملية) . وظلت مجموعة من الممارسات الدينية، مثل الأوامر والنواهي، تستند إلى فتاوى الحاخامات أو إلى قرارات السلطة الدينية المركزية دون أن تكون هناك أركان واضحة للإيمان تنبع منها الممارسات. وظلت اليهودية عبر تاريخها مجموعة من الشعائر والممارسات، ودون تحديد للعقائد. وقد عرَّف المشرعُ اليهوديَ بأنه كل من وُلد لأم يهودية، فكأنه لا يحتاج للإيمان بعقيدة. وجاء في كتاب السنهدرين 44أ "حتى حينما يرتكب الإثم فهو يظل يهودياً".
ومع هذا، كانت اليهودية تواجه تحديات دينية من الخارج حينما تجد نفسها في مواجهة حضارة أكثر تركيباً وحين تواجه نسقاً دينياً أكثر تحدداً وتجانساً. فكانت تضطر إلى أن تحدد أركانها. ولذا، نجد أن تحديد العقائد في غالب الأمر هو جزء من الاعتذاريات اليهودية ومحاولتها الدفاع عن نفسها أمام الأنساق الحضارية والدينية الأخرى. وهذا ما حدث إلى حدٍّ ما في المواجهة مع الحضارة الهيلينية، إذ حاول فيلون السكندري أن يحدد ما تصوره أركان الإيمان الأساسية بخمسة:
1 ـ الإله موجود ويحكم العالم.
2 ـ الإله واحد.
3 ـ العالم مخلوق.
4 ـ العالم واحد.
5 ـ الإيمان بالعناية الإلهية.
ويبدو أن الفكر الديني اليهودي قد أخذ يتحدَّد بعض الشيء في القرن الأول قبل الميلاد إذ يشير يوسيفوس إلى أن الصراع بين الصدوقيين والفريسيين كان صراعاً عقائدياً بالدرجة الأولى ويدور حول قضايا مثل الإيمان بالعالم الآخر والشريعة الشفوية والقدرية، وهل هي مطلقة أم جزئية.
ومع ظهور المسيحية، تقهقر الفكر الديني اليهودي مرة أخرى، وبدأت اليهودية الحاخامية التلمودية في التشكل حتى أخذت شكلها النهائي في التلمود. وثمة محاولة واهية، في هذا الكتاب الضخم، لتحديد أصول الدين في كتاب السنهدرين إذ يستبعد من حظيرة الدين:(13/33)
1 ـ كل من يُنكر البعث.
2 ـ كل من يُنكر أن التوراة مُوحى بها من الإله.
3ـ الأبيقوريين الذين يُقال إنهم الملاحدة أو الصدوقيون.
وغني عن القول أن هذا التحديد عام جداً ويترك قضايا جوهرية دون تعريف. ولكن الأدهى من هذا هو أن التلمود كتاب ضخم يحتوي على العديد من الأفكار المتناقضة، كما أن نصوصه تنقسم إلى قسمين: النصوص التشريعية (هالاخاه) ، والنصوص الوعظية القصصية (أجاداه) ، وقد تتسم الأولى بشيء من الوضوح، أما الثانية، فتضم عدداً هائلاً من القصص والمرويات فيها كثير من العناصر الوثنية وتتحدث عن الإله بلغة حلولية تجسيمية. ثم نأتي لقضية التفسير، فحسب مفهوم الشريعة الشفوية تنسخ آراء الحاخامات آراء الإله نفسه، وهو أمر وافق عليه الإله. وكما جاء في التلمود فإن الإله قد أعطى الإنسان التوراة، ولذا فقد أصبح من حق الإنسان أن يخضعها لأي تفسير يشاء. وتكتسب تفسيرات الحاخامات شرعية من تصوُّر أن موسى في سيناء تلقَّى الشريعتين: المكتوبة والشفوية. وهكذا فُتح الباب على مصراعيه لكل العقائد. ونجد في التلمود أفكاراً دينية أكثر تناقضاً وتنوعاً وتنافساً من تلك التي وردت في التوراة.
وقد ظل الحال على ذلك حتى دخلت اليهودية فلسطين وبابل (دائرة الحضارة العربية الإسلامية) ، وواجهت أكبر تحدٍّ لها يتمثل في حضارة تستند (على عكس المسيحية) إلى فكر توحيدي لا شبهة فيه، وتُحدِّد عقائدها بشكل لا يحتمل أي إبهام أو غموض. وواجهت اليهودية أهم أزماتها التي تمثلت في الانقسام القرَّائي الذي رفض الشريعة الشفوية، وتمسَّك بالتوراة وحاول تحديد العقائد.
ولذا، لم يَعُد بإمكان اليهودية الحاخامية أن تظل مجرد ممارسات تستند إلى فتاوى. فقام أهم المتحدثين باسمها (سعيد بن يوسف الفيومي) ، في القرن العاشر، بتحديد أصول اليهودية التسعة بأنها:
1 ـ العالم مخلوق من العدم.
2 ـ وحدة الإله.
3 ـ الأنبياء.
4 ـ الانسان مخيَّر وليس مسيَّراً.(13/34)
5 ـ الثواب والعقاب في هذا العالم.
6 ـ الروح ومصيرها.
7 ـ البعث.
8 ـ خلاص يسرائيل.
9 ـ خلود الروح، والثواب والعقاب في الآخرة.
وفي الفترة نفسها، قام آخرون بمحاولات مماثلة. وفي القرن الحادي عشر، قام يهودا اللاوي بمحاولة مماثلة. ورغم أن هؤلاء المفكرين الدينيين ناقشوا العقائد، فإنهم لم يحددوا ما هو أساسي وما هو فرعي فيها، أي أنهم لم يحددوا أصول الدين. ولكن أهم المحاولات، وأكثرها محورية هي محاولة موسى بن ميمون؛ الفيلسوف العربي اليهودي (أو الفيلسوف العربي الإسلامي المؤمن باليهودية) الذي تأثر بعلم الكلام فدرس أصول الدين، وحَدَّد جذور اليهودية التي تُسمَّى بالعبرية «عيقَّاريم» ، وهي ترجمته لكلمة «أصول» . ولقد لخصها في ثلاثة عشر أصلاً:
1 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، هو الموحّد والمدبّر لكل المخلوقات. وهو وحده الصانع لكل شيء فيما مضى وفي الوقت الحالي وفيما سيأتي.
2 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، واحد لا يشبهه في وحدانيته شيء بأية حال، وهو وحده إلهنا، كان منذ الأزل، وهو كائن وسيكون إلى الأبد.
3 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، ليس جسماً، ولا تحده حدود الجسم، ولا شبيه له على الإطلاق.
4 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، هو الأول والآخر.
5 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، هو وحده الجدير بالعبادة، ولا جدير بالعبادة غيره.
6 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن كل كلام الأنبياء حق.
7 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن نبوة سيدنا موسى عليه السلام كانت حقاً، وأنه كان أباً للأنبياء، من جاء منهم قبله ومن جاء بعده.
8 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن التوراة، الموجودة الآن بأيدينا، هي التي أُعطيت لسيدنا موسى عليه السلام.(13/35)
9 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن التوراة غير قابلة للتغيير، وأنه لن تكون شريعة أخرى سواها من قبل الإله تبارك اسمه.
ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، عالم بكل أعمال بني آدم وأفكارهم، لقوله: «هو الذي صوَّر قلوبهم جميعاً وهو المدرك لكل أعمالهم» .
11 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، يجزي الحافظين لوصاياه ويعاقب مخالفيها.
12 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بمجيء الماشيَّح. ومهما تأخر، فإنني انتظره كل يوم.
13 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بقيامة الموتى، في الوقت الذي تنبعث فيه بذلك إرادة الإله تبارك اسمه وتعالى ذكره الآن وإلى أبد الآبدين.
وقد وردت الأصول الثلاثة عشر في مجال التعليق على كتاب السنهدرين في التلمود الذي سبقت الاشارة إليه. وقد بيَّن ابن ميمون أن أصوله هذه هي الحد الأدنى، فمن آمن بها فهو يهودي وينتمي إلى الجماعة اليهودية، ولذا فإنه حتى لو ارتكب الموبقات سيظل له نصيب في العالم الآتي ويظل محط عطف اليهود. أما من يرفضها، فيجب أن يُنبذ ويُباد، وسيُسمَّى «كوفير بَعيقَّار» ، أي «كافر بالأصول» منكر لها، كما أنه يكون قد فصل نفسه عن الجماعة، فهو «مين» ، أي «كافر أو مرتد» .
وبعد ذلك، قامت محاولات أخرى لتحديد العقائد اليهودية من أهمها محاولة قريشقش الذي بيَّن أن موسى بن ميمون لم يميِّز بين الأساسي والفرعي في العقائد. ولهذا، قام تلميذه يوسف ألبو (1380 ـ 1440) في كتابه سيفر هاعيقاريم (سفر الأصول) بهذه العملية، فقسَّم الأصول إلى:
1 ـ «عيقَّاريم» ، أو العقائد الأساسية، وهي ثلاث: وجود الإله، والوحي، والثواب والعقاب. وأضاف أن هذه العقائد عامة لكل البشر.
2 ـ «شوراشيم» ، وهي تفريعات عن العيقاريم، ويصنفها في ثمان.
3 ـ «عنافيم» ، وهي الأغصان.
ويرى ألبو أن الأصول والجذور مُلزمة لكل يهودي، ومن لا يؤمن بها يُعَدُّ كافراً، أما من لا يتبع الأغصان فهو مذنب وحسب.(13/36)
وجاء بعد ألبو، إسحق لوريا وإسحق إبرابانيل، ولم يجدا مبرراً للتركيز على عقيدة دون أخرى. ويُلاحَظ أن ألبو، مثل موسى ابن ميمون، يقلل أهمية العقيدة المشيحانية، ويؤكد في نهاية الأمر أن اتباع أحد الأوامر والنواهي أهم من الإيمان بكل العقائد.
ورغم هذه المحاولات لتحديد العقائد اليهودية، ظلت محاولة ابن ميمون أكثرها أهمية، وقد ظهرت الأصول باعتبارها العقائد الأساسية لأول مرة في طبعة الأجاداه في البندقية عام 1566، وهي الآن ملحقة بكتاب الصلوات الإشكنازي. كما أن الصلوات اليهودية تضم الآن قصيدتين تلخصان هذه الأصول هما: «أني مأمين» (أي «إنني أؤمن» ) ، و «يجدال» (أي «تعظَّم الرب وتنَّزه» ) .
ولكن اليهودية، بسبب طبيعتها الجيولوجية، حوَّلت الأصول إلى مجرد طبقة واحدة بين العديد من الطبقات؛ فقامت ثورة عاتية في العالم الغربي بخاصة ضد كتابات ابن ميمون، وبدأ الفكر القبَّالي في الانتشار وبخاصة بعد الطرد من إسبانيا، وأخذ الوجود اليهودي شكل تجمعات صغيرة بعضها بعيد عن مراكز الفكر الحاخامي والتلمودي ويخضع كل منها للقيادات الدنيوية والدينية المحلية. ومع القرن السابع عشر، هيمن الفكر القبَّالي على الفكر الديني اليهودي، وهو فكر حلولي تجسيمي وصفه الحاخامات بأنه ينطوي على الشرك. كما أن التفسيرات القبَّالية للكتب اليهودية المقدَّسة، وخصوصاً العهد القديم والأجاداه، تشكل تراجعاً جوهرياً عن الفكر التوحيدي.(13/37)
وفي العصر الحديث، بيَّن مندلسون أن اليهودية دين شرائع بلا عقائد، وهو رأي يأخذ به معظم مؤرخي اليهودية. ثم ظهر علم اليهودية الذي درس مصادر اليهودية المختلفة وبيَّن طبيعتها الجيولوجية وعدم تجانسها الأمر الذي يجعل من المستحيل التوصل إلى عقيدة جوهرية. ثم بدأت حركة الانعتاق التي نادت بأن تتكيف اليهودية مع العصر. ولكن، لكي تتكيف اليهودية، لابد أن يتحدد جوهرها أساساً، ولذا حاولت اليهودية الإصلاحية صياغة أصول العقيدة في مؤتمراتها الحاخامية المختلفة، ولكنها تخلت عن هذه المحاولة بعد قليل إذ كانت أطروحاتها من العمومية بحيث افتقدت أية هوية تميِّز اليهودية عن غيرها من العقائد. أما اليهودية المحافظة والأرثوذكسية فكلتاهما تدور أساساً في إطار الممارسات.
وفي الفلسفة الدينية اليهودية الحديثة، لم يعد الإيمان بالعقائد مسألة حيوية أو مهمة، إذ حل محلها ما يُسمَّى «عملية المواجهة الشخصية بين الإله والإنسان اليهودي» . ويرى روزنزفايج أن الإيمان الديني ثمرة كشف، أو وحي شخصي، يجب على الانسان أن يسعى إليه. أما مارتن بوبر وأبراهام هيشيل، فيريان أن الإيمان علاقة ثقة بين الإله والإنسان تنبع من، وتعبِّر عن، مواجهة شخصية بينهما، فهي إذن علاقة الأنا والأنت وليست علاقة الأنا والهو. وقد بلغ هذا الاتجاه أبعاداً متطرفة في يهودية كابلان التجديدية فأصبح الإيمان حالة نفسية أو شعورية ذات فائدة للمجتمع إذ أن السلوك الأخلاقي يستند إليه. فالإيمان هو نوع من «التنبؤات التي تحقق ذاتها» وليس خضوعاً لأية مرجعية تقع خارج ذات الإنسان. وقد أصبح الإيمان في الفكر الديني اليهودي، بعد الحرب العالمية الثانية، مجرد وسيلة لإضفاء معنى على العالم بعد الهولوكوست، وبذا تختفي العقائد والأصول وتتحول إلى حالة شعورية.
اللاهوت
Theology(13/38)
«اللاهوت» هو المصطلح العربي المقابل للمصطلح الإنجليزي «ثيولوجي» ، وهو مركب من «ثيوس» ومعناها «إله» و «لوجوس» ومعناها «علم» ، فهو «علم الإلهيات» . واللاهوت هو التأمل المنهجي في العقائد الدينية. والكلمة تشير عادةً إلى دراسة العقيدة المسيحية، ولا تستخدم في الدراسات الإسلامية التي تستخدم كلمات من المعجم العربي مثل «علم التوحيد» . أما في اليهودية، فقد بدأ استخدام الكلمة مؤخراً في الدراسات اليهودية. (انظر: «العقائد [بمعنى أصول الدين وأركانه] » ) .
الشريعة اليهودية
Jewish Law
تُستخدَم عبارة «الشريعة اليهودية» للإشارة إلى النسق الديني اليهودي ككل، مع تأكيد جانب القوانين أو التشريع الخارجي (هالاخاه) ، أي الشرع، وذلك بخلاف عبارة «العقائد اليهودية» التي تؤكد جانب الإيمان الداخلي. وكان اليهود يستخدمون كلمة «توراة» للإشارة إلى الشريعة اليهودية، كما أن كلمة «هالاخاه» تُستخدم أحياناً للإشارة لا إلى التشريعات المختلفة وإنما إلى الشريعة ككل. وهناك شريعة مكتوبة وردت في أسفار موسى الخمسة والعهد القديم، كما أن هناك شريعة شفوية هي في واقع الأمر تفسيرات الحاخامات التي جُمعت في التلمود وفي غيره من الكتب. كما أصبحت كتب القبَّالاه، هي الأخرى، جزءاً من هذه الشريعة الشفوية. ويُعَد مفهوم الشريعة الشفوية أهم تعبير عن الخاصية الجيولوجية التراكمية، ويمكن القول بأنه سبب ونتيجة ـ في آن واحد ـ لهذه الخاصية.
الشريعة المكتوبة أو التوراة المكتوبة
Written Law (Torah)(13/39)
«توراة شَبخْتاف» مصطلح عبري معناه «التوراة المكتوبة» وهي «الشريعة المكتوبة» مقابل «توراة شبَعَلْ بهْ» ، أو «التوراة الشفوية» . وهي إشارة إلى الشرائع التي تلقاها موسى مكتوبةً. وتشير الكلمة بالدرجة الأولى إلى أسفار موسى الخمسة، ولكنها تشير كذلك إلى كتب الأنبياء وكتب الحكمة والأمثال باعتبار أنها هي الأخرى كتب مدوَّنة. ولكن هذه الكتب الأخيرة ليست ملزمة، ولذا يشار إليها بأنها «ديفري قبَّالاه» ، أي «كلمات التراث» . وحسب الرؤية اليهودية الحاخامية، تلقى موسى في سيناء الشريعة أو التوراة الشفوية، تماماً كما تلقى الشريعة المكتوبة.
الشريعة الشفوية أو التوراة الشفوية
Oral Law; Oral Torah
«توراة شبَعَلْ بهْ» ، عبارة معناها «التوراة الشفوية» مقابل «توراة شبختاف» ، أي «التوراة المكتوبة» . وقد أطلق المسعودي على المفكر اليهودي سعيد بن يوسف الفيومي اسم «السمعاتي» ، أي الذي يؤمن بالعقيدة الشفهية، مقابل «القرّائي» أي الذي لا يؤمن إلا بالعقيدة المكتوبة. و «الشريعة الشفوية» في اليهودية مجموعة فتاوى وأحكام وأساطير وحكايات وخرافات وُضعت لشرح وتأويل أسفار العهد القديم وتناقلها حاخامات اليهود شفهياً على مدى قرون طويلة ثم جُمعت ودُوِّنت، في القرن الثاني الميلادي، في التلمود (أساساً) .(13/40)
وقد عرفت جميع الشعوب القديمة شرائع شفوية، أو سماعية، في شكل عادات وتقاليد وعرف. وبقيت عناصر هذه الشريعة قائمة وسارية المفعول إلى جانب الشرائع والقوانين التي تم تدوينها وتبويبها وتصنيفها. وثمة رأي يذهب إلى أن فكرة الشريعة الشفوية دخلت اليهودية بعد أن احتكت بالفكر اليوناني وعرفت الفكرة الأفلاطونية القائلة بأن القانون غير المكتوب ينفي المكتوب. ولعل هذا يفسر أن دعاة الشريعة الشفوية كانوا من الفريسيين الذين تأثروا بالفكر الهيليني، على عكس الصدوقيين حملة الفكر التقليدي. ولكن مثل هذا التفسير تفسير شديد السطحية يجعل من التأثير والتأثر العنصر الأساسي في صياغة نسق ما، ويهمل بنية النسق الكامنة التي تُولِّد فيه قابلية لتَقبُّل أفكار دون أخرى. ونحن نذهب إلى أن اليهودية تركيب جيولوجي تراكمت داخله عدة طبقات، ومن أهم هذه الطبقات الطبقة الحلولية التي تعني تداخل الدنيوي والمطلق وتوحدهما، وأن الإله لا يترك اليهود أحراراً في التاريخ مسئولين أخلاقياً عن أفعالهم بل يفيض عليهم في كل زمان ومكان. والشريعة الشفوية تعبير عن هذه الحلولية، إذ أن الحلولية في إحدى مراحلها تعادل بين الإله والبشر، ومن ثم تعادل بين الوحي والاجتهاد أو بين النص المقدَّس والتفسير، أي أنها تعادل ما بين الشريعة المكتوبة (المنزلة والموحى بها) والشريعة الشفوية (التي يضعها الحاخامات) . وتذهب اليهودية الحاخامية إلى أنه عندما ذهب موسى إلى جبل سيناء ليتلقى الوحي، لم يُعْطه الإله توراة أو شريعة واحدة وإنما أعطاه توراتين أو شريعتين: إحداهما مكتوبة والأخرى شفوية. وجاء في المشناه «تلقى موسى التوراة من سيناء وسلمها إلى يوشع، ويوشع قام بتسليمها إلى الشيوخ، والشيوخ إلى الأنبياء، والأنبياء سلموها بدورهم إلى رجال المجمع الأكبر، الذين قاموا بتسليمها إلى فقهاء اليهود (الحاخامات) » وهؤلاء يضمون معلمي المشناه (تنائيم) والشراح (أمورائيم) والمفسرين(13/41)
(صبورائيم) والفقهاء (جاءونيم) . وهي عملية استمرت بعدهم فظهر الشراح واضعو الإضافات (بعلي توسافوت) وشخصيات أساسية مثل راشي والحاخام إلياهو (فقيه فلنا) ومعلمو القبَّالاه. ولا يزال فقهاء اليهود يقومون بالإضافة والتعديل في هذه الشريعة الشفوية. ومن الناحية النظرية، ثمة ترتيب هرمي لطبقات الفقهاء هذه بحيث يشغل معلمو المشناه (تنائيم) قمة الهرم، وتُعَدُّ أحكامهم ملزمة لمن أتى بعدهم. ولكن الممارسة كانت عكس ذلك تماماً، إذ أن آخر التفسيرات والأحكام هي التي كان يُقدَّر لها دائماً السيادة (إلى أن هيمنت القبَّالاه تماماً بهذه الطريقة) . ومن بين آليات نمو الشريعة الشفوية إضافة الفتاوى التكميلية (تاقانوت) والأعراف والعادات (منهاجوت) والقرارات (جزيروت) . ولعل كلمات الحاخام شمعون لاقيش (القرن الثالث الميلادي) : «ماذا تعني المقطوعة: فأعطيك لوحى الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتُها لتعليمهم» (خروج 24/12) هي التعبير الكلاسيكي عن هذه الفكرة. فهو يقول مُفسِّراً أما «لوحا الحجارة» فهما الوصايا العشر، أما «الشريعة» فهي العهد القديم، وأما «الوصية» فهي المشناه، وأما «تلك التي كتبتها» فهي أسفار الأنبياء وأسفار الحكمة والأناشيد، وأما «لتعليمهم» فهي الجماراه. وهكذا يعلمنا الرب أنها كلها قد أعطيت لموسى» . ومعنى هذا التفسير أن كل التفسيرات التي يأتي بها الحاخامات اليهود والمحاضرات التي كانت تُلقى في حلقات ومدارس التلمود، بل الإجماع الشعبي، كل هذه الأشياء ترقى إلى مستوى الوحي الإلهي، أو على الأقل تصطبغ بصبغة القداسة. وبالفعل، فقد تطوَّر النسق الديني اليهودي في مرحلة معيَّنة، وساد الاعتقاد بأن التلمود الذي يُشار إليه باسم «التوراة الشفوية» هو أيضاً الكلمات الأزلية للإله، وهو صياغة للقوانين التي أوصى الإله بها موسى (شفوياً) . ولهذا، فإن ما فيها من الأوامر والنواهي واجبة الطاعة، يستوي في هذا مع كل ما جاء في العهد(13/42)
القديم. وكان يهود الغرب يدرسون التلمود أكثر من دراسة العهد القديم. وبعد ذلك، انتشرت القبَّالاه، فادعت لنفسها من القداسة ما للعهد القديم والتلمود. ولقد كان القبَّاليون يؤمنون بأنهم أصحاب معرفة خفية باطنية (غنوصية) توصِّلهم إلى المعنى الحقيقي والباطني للعهد القديم والتلمود الذي يجبُّ المعنى الظاهر. وبلغ من شيوع القبَّالاه أن كثيراً من اليهود والحاخامات كانوا يدرسون كتاب الزوهار أكثر من دراسة الكتب اليهودية الدينية الأخرى.
ولكن، كما لاحظنا في النسق الحلولي الواحدي بعد مرحلة التعادل بين الخالق والمخلوق، يكتسب المخلوق مركزية ويفوق الإله قدرةً ومنزلةً. وبالفعل، نجد أن بعض الحاخامات جعل المشناه (التفسير الحاخامي) مرجعاً أقوى من العهد القديم (الوحي الإلهي) لأنها صورة معادلة للشريعة جاءت متأخرة عنها. وكانت بعض قرارات الحاخامات تتعارض تعارضاً صريحاً مع شريعة موسى، أو تفسرها تفسيراً يبيح مخالفتها. وقد بلغ هذا التيار قمته في التفسيرات القبَّالية وفي الحركة الحسيدية حيث تَجُبُّ آراء العارف بالقبَّالاه والتساديك الآراء التي دارت في التراث الحاخامي بأسره (التوراة والتلمود) . وقد كان ما ينطق به التساديك توراةً، كما أن إرادته كانت تعادل إرادة الإله.(13/43)
وقد ثارت مناقشات كثيرة عبر تاريخ اليهودية عن مدى قدسية الشريعة الشفوية، وجواز تدوينها أو عدم جواز ذلك. والواقع أنه، حتى ظهور المسيح، كان تدوين الشريعة أمراً محرَّماً للحيلولة دون انتشارها بين العامة، إذ أن فكرة الشريعة الشفوية تخدم ولا شك مصلحة الحاخامات لأنها ترفعهم إلى مصاف الإله أو الأنبياء، وتجعلهم على اتصال دائم بالإله، كما تعطيهم حق تغيير وتبديل كلمته. ولعل فكرة الشريعة الشفوية هي المسئولة عن السيطرة الدينية للحاخامات على الجماعات اليهودية في العالم خلال تواريخهم. وقد استمر الجدل قائماً بين الفرق اليهودية المختلفة حول مدى قدسية الشريعة الشفوية، وكان الفريسيون من أشد المدافعين عنها. ويبدو أن دفاعهم عن الشريعة الشفوية، ورفضهم تدوينها، كان ذا محتوى طبقي. أما الصدوقيون، فقد كانوا من أهم معارضيها، لأنهم كانوا مرتبطين بالهيكل وبالعبادة القربانية ويشكلون بذلك طبقة كهنوتية. أما الفريسيون، فكانوا يدافعون عن الشريعة الشفوية لأن ذلك كان يعني المشاركة في السلطة. وبظهور المسيحية حُسمت القضية تماماً، فسيطر التصور الفريسي على اليهودية. ولكن، مع هذا، بدأ تدوين الشريعة الشفوية حتى تتمكن اليهودية من تمييز نفسها عن المسيحية التي ورثت العهد القديم وأكملته بالعهد الجديد.
ويرفض القرّاءون (المتأثرون بالفكر العربي الإسلامي والتوحيد الإسلامي) التراث الشفوي، ويقصرون إيمانهم على شريعة موسى وأسفاره الخمسة. وفي العصر الحديث، جدَّد الأرثوذكس إيمانهم بالشريعة الشفوية المتجسدة في كلٍّ من التلمود والشولحان عاروخ. أما الإصلاحيون، فقد نادوا بأن الشريعة الشفوية هي محاولة بعض الحاخامات تفسير الكلام المقدَّس، ولكنه على أية حال تفسير غير ملزم لأحد لأنه مرتبط بحقبة تاريخية معينة، ولذلك فإن صلاحيته لا تمتد إلى كل زمان وكل مكان.(13/44)
الباب الثانى: إشكالية الحلولية اليهودية
الحلولية الكمونية اليهودية: تاريخ....
Jewish Pantheism and Immanence: History
«الحلولية الكمونية اليهودية» هي القول بأن العالم بأسره (الإنسان والطبيعة) يُردُّ إلى جوهر واحد أو مبدأ واحد كامن في المادة، هو مصدر بقائها وحركتها، هذا المبدأ أو الجوهر يسميه دعاة وحدة الوجود الروحية «الإله» ، فيحل الإله في الإنسان ثم يحل في بعض ظواهر الطبيعة، ثم يحل فيها جميعها بغير استثناء حتى يصبح حالاًّ في كل شيء (الإنسان والطبيعة) كامناً فيه ويصبح الإله والعالم وكل الوجود وحدة واحدة لا وجود مستقلاً للواحد عن الآخر، أي أن الإله يصبح متوحداً مترادفاً مع سائر مخلوقاته (الإنسان والطبيعة) لا وجود له خارجها، ومع هذا يظل محتفظاً باسمه، وهذا ما نشير إليه بأنه «حلولية شحوب الإله» حيث تًمَّحى الثنائيات في الكون إلى حدٍّ كبير ولا يبقى منها سوى الظلال والألفاظ، وتختفي إمكانية التجاوز ولا يبقى سوى وهم التجاوز، وهذه هي وحدة الوجود الروحية. ثم يفقد الإله اسمه ويُطلَق على المبدأ الواحد عبارات مثل «قانون الحركة» أو «قوانين المادة» فَتًمَّحى الثنائيات تماماً، بما في ذلك الثنائية اللفظية، وتسود الواحدية ويزول وهم التجاوز وننتقل من وحدة الوجود الروحية إلى وحدة الوجود المادية وما نسميه «حلولية موت الإله» أو «حلولية بدون إله» .(13/45)
والعقيدة اليهودية، في إحدى طبقاتها، توحيدية تؤمن بإله واحد يتجاوز المادة، منزَّه عن مخلوقاته يقف وراء الطبيعة والتاريخ يحركهما، ولا يُرَدُّ إليهما. ولكن اليهودية تركيب جيولوجي تراكمت داخله عدة طبقات متناقضة. وفي بعض هذه الطبقات، نجد أن اليهودية تأثرت بالتشكيل الحضاري السامي الوثني، ودخلت عليها عناصر وثنية حلولية عديدة وجدت طريقها إلى العهد القديم عند تسجيله مثل: فكرة الشعب المختار المرتبط بأرض مقدَّسة والمتمركز حول ذاته، وفكرة الميثاق بين الإله وشعب بعينه، وتَزايُد الشعائر وخصوصاً شعائر الطهارة، وتَداخُل العناصر الكونية مع العناصر الدينية في الأعياد اليهودية، وتَراجُع فكرة البعث واهتزاز الأفكار الأخروية. وعلى هذا، فإن العهد القديم يُعَدُّ وثيقة صراع بين اتجاهين: اتجاه توحيدي عالمي أخلاقي متسام يؤمن بإله يسمو على العالمين، ولا يفضل قوماً على قوم إلا بالتقوى، وهو الاتجاه الذي حمل لواءه الأنبياء والرسل. أما الاتجاه الآخر فهو اتجاه وثني حلولي قومي تخصيصي يرى إله اليهود إلهاً يحل فيهم وحدهم، فهو مقصور عليهم يحابيهم ويعطف عليهم ويعصف بأعدائهم، ويرى اليهود أنفسهم شعباً مقدَّساً يشغل مركز الكون.(13/46)
وظل الاتجاه التوحيدي قائماً له فعالية ما دامت اليهودية في محيط وثني مشرك، إذ كان التوحيد (أو على الأقل مفرداته) وسيلة الحفاظ على الهوية الدينية اليهودية مقابل الحلولية الوثنية. ولكن، مع تحول المجتمعات التي يعيش فيها أعضاء الجماعات اليهودية إلى ديانات توحيدية (الإسلام في الشرق والمسيحية في الغرب) ، لم يَعُد الاتجاه التوحيدي اتجاهاً مميِّزاً لليهودية، ولذا بحث الحاخامات (واضعو الشريعة الشفوية) عن إستراتيجيات مختلفة للحفاظ على الهوية، حتى تغلبت النزعة الأسطورية الشعبية وأخذت شكلها الحلولي الكموني الواحدي حيث تم التركيز على بعض مفاهيم العهد القديم ذات الطابع الحلولي وتم تعميقها. وقد قوي هذا الاتجاه في كتب الرؤى (أبوكاليبس) ، وفي التعليقات المدراشية، وبلوره معلمو المشناه (تنائيم) ، وأخذ شكلاً متكاملاً في التلمود حيث توجد آثار للنزعة التوحيدية، ولكن النزعة الغالبة هي النزعة الحلولية الكمونية. ويمكننا القول بأن اليهودية التلمودية تتأرجح بين شكل من أشكال التوحيد وشكل من أشكال وحدة الوجود، ولا تقترب إلا نادراً من مرحلة وحدة الوجود التي وصلتها الحلولية اليهودية في القبَّالاه (وهي المرحلة التي عاد فيها كثير من الأفكار الغنوصية القديمة إلى الظهور) . وقد انعكست هذه النزعة في قول أحد القبَّاليين «إلوهيم تعادل طيفع» ، أي أن «الإله يعادل الطبيعة» ، باعتبار أن القيمة الرقمية لكل من إلوهيم والطبيعة واحدة (وقد استخدم إسبينوزا العبارة نفسها) .(13/47)
وقد سيطرت الرؤية الحلولية الواحدية، بدرجاتها المختلفة، على اليهودية، وأصبح من العسير قراءة العهد القديم بشكل مباشر، وخصوصاً بعد أن تبنت الكنيسة (عدو اليهود) هذا الكتاب باعتباره كتاباً مقدَّساً، كما أصبح التفسير أهم من النص المقدَّس. وعلى كلٍّ، تؤمن اليهودية، منذ البداية، بفكرة الشريعة الشفوية التي تجعل تفسيرات الحاخامات تعادل في أهميتها كلام الإله إن لم تكن أكثر أهمية منه.
ويُلاحَظ أن ثمة تفضيلاً للنص المدوَّن على الشفوي في المنظومات التوحيدية، فالنص المقدَّس المدوَّن يحتوي الرسالة الإلهية ومن ثم يقتصر دور الإنسان إما على حمل الرسالة أو على تفسيرها، ويقف هذا على النقيض من المنظومات الحلولية الكمونية التي تفضل الشفوي على المدوَّن لأنه مباشر، يستطيع الإنسان سماعه مباشرةً ولا توجد مسافة بين القائل والقول، فالواحد مرتبط بالآخر. وبالتدريج، تحل الكلمة البشرية الشفوية محل الكلمة الإلهية المكتوبة. ورغم سقوط اليهودية الحاخامية في الحلولية الكمونية، إلا أنها بذلت محاولة مهمة لمحاصرة النزعة المشيحانية الحلولية بأن جعلت العودة منوطة بالأمر الإلهي، فكأنها استعادت شيئاً من الثنائية التكاملية التوحيدية بدلاً من الواحدية الحلولية.(13/48)
ولعبت القبَّالاه دوراً حاسماً في تحويل اليهودية من نسق توحيدي إلى نسق حلولي كموني. وتراث القبَّالاه تراث حلولي كموني واحدي متطرف يساوي بين الإله والطبيعة، بحيث يصبح الإله هو الطبيعة، ويتم إلغاء التاريخ ويتركز الحلول الإلهي في الشعب اليهودي إذ يحل المطلق أو المركز في الشعب. والقبَّالاه ترى الإله باعتباره عشر درجات أو عشرة تجليات نورانية منفصلة موصولة على قمتها الإله الذكر، وفي قاعدتها كنيست يسرائيل أي شعب إسرائيل، بحيث لا يوجد فارق بين الخالق والمخلوق. ويتضح هذا المفهوم بشكل أوضح في رؤية القبَّالاه للتجليات العشرة النورانية على هيئة آدم، فكأن الإله، هو آدم، وكأن الخالق والمخلوق هما شيء واحد. وتدور القبَّالاه حول صورة مجازية معرفية إدراكية جنسية واضحة، وهي صورة مجازية تتواتر عادةً في الحلوليات الوثنية. والقبَّالاه، بهذا، تشكل عودة للواحدية الكونية والحلولية الوثنية. وقد اشتكى إبراهيم أبو العافية في رسالة إلى صديق له من أن دعاة القبَّالاه يظنون أنهم يوحدون الرب بتلك التجليات النورانية ولكنهم في واقع الأمر قد استعاضوا عن أقانيم المسيحية الثلاثة بعشرة تجليات، وهذا شرك. وقد يظهر هذا في القبَّالاه العملية التي تجعل الخلاص منوطاً بالتوصل للصيغة السحرية الصحيحة (الغنوصية) . كما أن التصوف اليهودي أصبح تصوفاً حلولياً غنوصياً ليس الهدف منه فناء الذات والتقرب من الإله والتفاعل معه وإنما الالتصاق بالخالق والتوحد معه بحيث يصبح المؤمن تَجسُّد الإله: إرادته هي إرادة خالقه. وأدَّى انتشار القبَّالاه إلى تزايد اشتغال اليهود بالسحر بهدف التحكم في الكون (ولعل هذا كان من أسباب تَزايُد معاداة اليهود) .(13/49)
وقد بدأ انتشار القبَّالاه (خصوصاً اللوريانية) في القرن الرابع عشر. ومع منتصف القرن السابع عشر، كانت القبَّالاه مهيمنة هيمنة شبه كاملة على معظم أعضاء الجماعات اليهودية وتغلغلت بشكل عميق في العقائد اليهودية، بحيث أصبحت المراكز التلمودية منعزلة بغير فعالية، ثم أصبحت التفسيرات التلمودية نفسها ذات طابع قبَّالي. ويتضح مدى سيطرة الحلولية على العقيدة اليهودية فيما كتبه الحاخام السفاردي ديفيد نايتو (1654 ـ 1728) حاخام لندن الأكبر، حيث نشر كتاباً بعنوان في العناية الإلهية قرن فيه بين الإله والطبيعة ووحَّد بينهما، فاتهمه أحد اليهود وبعض المسيحيين بالإلحاد. وحينما عُرض الأمر على واحد من أكبر العلماء التلموديين في أمستردام (هولندا) وهو الحاخام تسفي إشكنازي، أفتى هذا الحاخام بأن الحلولية ليست مقبولة وحسب في العقيدة اليهودية، بل هي أمر اعتاده المفكرون الدينيون اليهود.
ورغم أن هرمان كوهين ذهب إلى أن الحلولية ضد الدين، فإن الكثيرين من أعلام الفكر اليهودي من كبار دعاة الحلولية، ويمكن أن نشير إلى ابن جبيرول وابن عزرا، وإسبينوزا (أبى الحلولية الحديثة) . وقد أدَّت هيمنة القبَّالاه وتصاعُد معدلاتها في اليهودية إلى تراجع اليهودية الحاخامية ومؤسساتها، وتراجع الفكر التوحيدي تماماً، الأمر الذي سبَّب أزمة اليهودية الحاخامية إلى حد سقوط اليهودية، في نهاية الأمر، في قبضة الفكر الحلولي، فاختفى أي أثر للتجاوز. ولم يَعُد بالإمكان التمييز بين اليهود واليهودية (من منظور اليهودية نفسها) إذ أصبح اليهود تجسيداً للمطلق، وأصبحت العلاقة بين الشعب والخالق (إن ظل قائماً بالاسم) علاقة حوارية. وقد تصاعدت الحمى المشيحانية بين اليهود وتزايدت قابليتهم للعلمنة التي عادةً ما تأخذ شكل تأكيد قداسة الشعب وحقه المطلق في العودة لأرضه المقدَّسة، أي أن النزعة المشيحانية في اليهودية ذات تَوجُّه صهيوني واضح.(13/50)
ويمكن القول بأن النمط الحلولي الذي ساد العقيدة اليهودية هو النمط الثنائي الصلب (المرتبط بوجودهم كجماعات وظيفية) . ومع هذا، كان النمط الشامل السائل (الروحي أو المادي) كامناً من البداية. ففلسفة إسبينوزا (الحلولية المادية) وحركة شبتاي تسفي ثم الحركتين الفرانكية والحسيدية (الحلولية الروحية) تقوم بتفكيك الإنسان ورده إلى كل أكبر منه. ثم أخذت معدلات الحلولية المادية والحلولية الروحية في التصاعد بعد القرن الثامن عشر. ويبدأ الإله في الشحوب (اليهودية الإصلاحية) ، إلى أن يختفي تماماً أو يكاد (اليهودية المحافظة بشكل مبهم ـ اليهودية التجديدية بشكل واضح) ويُعلَن موت الإله ونهاية المركز (لاهوت موت الإله ـ يهودية ما بعد الحداثة) . والصهيونية شكل من أشكال الحلولية الثنائية الصلبة المادية، وهي من ثم تنتمي إلى النمط نفسه الذي تنتمي إليه النازية والقوميات العضوية.
وشيوع الحلولية في النسق الديني اليهودي لم يكن مجرد امتداد للحلولية الكامنة في التوراة والتلمود، فثمة عنصر ساعد على تعميق هذه الحلولية وعلى تكثيفها ثم تفجُّرها وشيوعها بين أعضاء الجماعات اليهودية وهو وضع اليهود في الحضارة الغربية كجماعات وظيفية وسيطة. فأعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة ينزعون دائماً منزعاً حلولياً في رؤيتهم للكون، فهم يرون أن الإله يحل فيهم، ولذا فهم ـ حسب ظنهم ـ يتمتعون بقداسة خاصة تعزلهم عن المجتمع. ومن ثم، فإن أعضاء الجماعات اليهودية ساهموا في ظهور العلمانية (وهي وحدة وجود مادية) بشكل غير مباشر وغير واع من خلال نشر الرؤية الحلولية.
الثنائية الصلبة (حتى نهاية القرن التاسع عشر)
(Solid Dualism (to the End of the Nineteenth Century(13/51)
تأخذ الحلولية الكمونية الواحدية شكلين أساسيين: الحلولية الثُنائية الصلبة حين يصبح شعب ما أو أرض ما مركز الحلول والقداسة (مقابل بقية العالم) ، والحلولية الشاملة السائلة حين يصبح العالم بأسره (والجنس البشري بأسره) موضع القداسة وحين تتعدد مراكز الحلول. والحلولية الثنائية الصلبة اليهودية تعني حلول الإله في الشعب اليهودي بحيث يتم استبعاد بقية العالم (الأغيار) من عملية الخلاص. ويمكن أن يحل الإله في أرض هذا الشعب (صهيون) ويستبعد بقية العالم (بقية بلاد العالم وما فيها من شعوب) .
وتتبدَّى الحلولية الثنائية الصلبة في العقيدة اليهودية من خلال الثالوث الحلولي المقدَّس:
1 ـ الإله:
يختفي الإله الواحد العلي المنزَّه ويظهر بدلاً منه إله يسرائيل الذي يتحد بجماعة يسرائيل (الإنسان) وبأرض وتاريخ يسرائيل (الطبيعة) .
2 ـ الشعب المقدَّس:
يصبح الشعب اليهودي، أو جماعة يسرائيل شعباً مختاراً وأمة من الكهنة والمشحاء المخلصين، بل هو شعب مقدَّس يدخل الإله معه في علاقة حب حميمة تتسم بالغيرة أحياناً. ويُشار إلى الشعب بأنه ابن الإله. وتتعمق هذه المفاهيم في التراث القبَّالي لتدخل دائرة الشرك الصريح، فالشعب يصبح الشخيناه، أي جزءاً من الإله وتعبيراً أنثوياً عنه، نفيه نفي الإله نفسه، فالإله والشعب يتكونان من جوهر واحد ( «من يضرب رجلاً من جماعة يسرائيل كما لو كان يهين وجه الإله المبارك اسمه» الحاخام حانينا) . وتميل المعادلة الحلولية إلى صالح الشعب بحيث يصبح عنصراً أساسياً في عملية إصلاح الخلل الكوني (تيقُّون) أو الخلاص وشريكاً فيها. ومن ثم، فهو الأداة التي يستعيد بها الإله وحدته، أي أن الإله يصبح معتمداً على اليهود في إصلاح الكون، وفي إكمال ذاته. واليهود، بأدائهم الأوامر والنواهي، إنما يساعدون الإله على استخلاص الشرارات الإلهية المبعثرة (نيتسوتسوت) بعد حادث تهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) .(13/52)
3 ـ الزمان والمكان المقدَّسان:
أ) الأرض المقدَّسة (المكان أو الوطن المقدَّس) : تمتد القداسة لتشمل، بطبيعة الحال، الأرض التي يعيش عليها هذا الشعب المقدَّس، ويشار إليها باسم «صهيون» ، و «إرتس يسرائيل» . وإذا كان الشعب المقدَّس مختاراً، فالأرض المقدَّسة هي أرض الميعاد التي سيتحقق فيها الوعد الإلهي لهذا الشعب المختار حين يأتي الماشيَّح ويقود شعبه إليها.
ب) الزمان المقدَّس (التاريخ المقدَّس) : وإذا كان الشعب مقدَّساً ومكانه مقدَّساً فزمانه لا يقل قداسةً. وهذا التاريخ يصبح ذا معنى وشكل محدَّدين من خلال حلول الإله، فتاريخ جماعة يسرائيل يبدأ بالخروج من مصر بمساعدة الإله ثم دخولها إلى كنعان. وهذه الحركة لا تتم إلا من خلال التدخل الإلهي المباشر والمستمر، تماماً كما ستنتهي بالعودة من المنفى إلى صهيون (فلسطين) تحت قيادة الماشيَّح الذي سيرسله الإله في آخر الأيام. وعلاقة الشعب بالأرض علاقة عضوية لأن الإله يحل في كليهما، وما تاريخ الشعب إلا تعبير عن هذه العلاقة العضوية الحلولية.
ولنا أن نلاحظ أن الحلول الإلهي عادةً ما يتركز - في إطار الثنائية الصلبة - في شعب بعينه يصبح مركز الكون، ولكن الحلول يمكن أن يتركز في الأرض بدلاً من الشعب (ثم في الدولة الصهيونية فيما بعد) . ويمكن أن يتركز الحلول الإلهي في المشناه (التي تصبح اللوجوس) . ولكن، في هذه الحالة، ستكون المشناه مجرد تعبير عن الحلول الإلهي في الشعب. ويمكن أن ينحسر الحلول الإلهي ليتركز في الماشيَّح أو التساديك.(13/53)
وفي إطار الحلولية الثنائية الصلبة، أصبحت اليهودية ديانة مغلقة تستبعد الآخرين من نطاق القداسة وشرائع الخلاص، ولا تشغل نفسها بهم. ومن ثم، فهي ليست ديانة تبشيرية ولا تشجع أحداً على التهود إلا في لحظات نادرة من تاريخها (في القرن الأول قبل الميلاد وبعده) . وأصبحت رؤية اليهودية للكون استبعادية حادة ضد الأغيار، وظهر التمركز الحلولي القومي حول الذات.
كما أدَّت الحلولية الثنائية الصلبة إلى تزايد الشعائر التي تهدف إلى عزل الشعب المقدَّس عن الآخرين وعن محيطه، مثل: الاحتفال بالسبت، والختان، وقوانين الطعام، وتحريم الزواج المُختلَط وشعائر الطهارة. وأصبحت المعايير ازدواجية بحيث أصبح الأغيار في بعض الصياغات مدنَّسين تماماً، بل إن اتجاه الإله إلى خلق هؤلاء الأغيار على هيئة إنسانية يعود (حسب الرؤية القبَّالية) إلى رغبته في تيسير عملية قيامهم على خدمة اليهود. والأغيار يقعون، بطبيعة الحال، خارج دائرة القداسة، ولذا يكون من المباح سرقتهم وقتلهم.(13/54)
ويأخذ النسق الحلولي الثنائي الصلب، من الناحية البنيوية، شكلاً مخروطياً: دوائر متداخلة متراكمة كل منها أصغر مما يسبقها وتظل الدوائر تَصغُر حتى تصل إلى قمة المخروط التي هي مركز هذه الدوائر. فقاعدة المخروط، من الناحية الجغرافية (المكان) ، هي العالم، أما قاعدته التاريخية (الزمان) فهي الأغيار. وفي مركز العالم، وعلى ارتفاع منه، تقف إرتس يسرائيل، الأرض التي اختارها الإله وحباها بنعمه الخاصة. وفي مركز التاريخ، وعلى ارتفاع منه، يقف الشعب اليهودي (جماعة يسرائيل) الذي اختاره الإله ليكون أمة من الكهنة والقديسين والأنبياء. وفي وسط إرتس يسرائيل، وعلى ارتفاع منها، تقف أورشليم (القدس) . وفي وسط الشعب، وعلى ارتفاع منه، يقف الأنبياء والملوك والكهنة. وفي وسط أورشليم يوجد الهيكل، في داخله قدس الأقداس، وهو سرة الدنيا (حسب كلمات المشناه) ، يوجد فيه تابوت العهد الذي تُوجَد فيه الوصايا العشر وتحل فيه روح الإله. وأمام التابوت يوجد حجر الأساس (بالعبرية: ايفين شتْيِّاه) حيث خُلقت الدنيا. وفي وسط الأنبياء، يقف الماشيَّح (نبي الأنبياء) وملك الملوك، والذي يجسد روح الإله. وكان الكاهن الأعظم يدخل قدس الأقداس مرة كل عام (في يوم الغفران) لينطق باسم الإله الأعظم فيكتمل من خلاله الحلول الإلهي في الشعب ومنه إلى بقية الجنس البشري.
وهكذا، فإن قمة المخروط هي النقطة التي يتحد فيها عاملا الجغرافيا والتاريخ، ويذوب فيها الزمان في المكان والطبيعة في الإنسان/الإله، أي أنها نقطة تحقُّق وحدة الوجود الكامل. ونلاحظ أن بإمكاننا، حسب هذا البنيان، أن نرى المكانة التي تشغلها جماعة يسرائيل وإرتس يسرائيل، فهما مركز الكون وعنصران أساسيان لأي خلاص للعالم.(13/55)
ويُلاحَظ أنه في إطار الثنائية الصلبة يتعادل الإله مصدر القداسة، مع الشعب الذي تسري فيه القداسة، ثم ترجح كفة الشعب والمتحدثين باسمه على كفة الإله، أي أن الثنائية الصلبة تتحول إلى ما يشبه الثنوية: قوتان متعادلتان، وإن كانا في اليهودية غير متصارعتين، ولذا فنحن نؤثر تسميتها بـ «ثنوية بنيوية» لتمييزها عن الثنوية التقليدية التي تترجم نفسها إلى صراع بين إله الشر وإله الخير. واليهودية الحاخامية تعادل بين الشريعة المكتوبة (الوحي الإلهي) والشريعة الشفوية (الاجتهاد الحاخامي) . والواضح أن آراء الحاخامات أصبحت متعادلة مع النص الإلهي، وقد جُمعت هذه الآراء في التوراة الشفوية، أي في التلمود الذي يُعادل التوراة المكتوبة (أي المرسلة من الإله) بل يتفوق عليها. ويقول التلمود إن الحاخامات كثيراً ما يُظهرون من الحكمة ما لا يستطيعه الإله. وقد حلَّت المشناه محل التوراة فأصبحت هي اللوجوس، فهي تشبه المسيح في التراث المسيحي، توجد في عقل الإله منذ الأزل. وتدور القبَّالاه اللوريانية حول مفهوم إصلاح الخلل الكوني (تيقون) وهي عملية يشارك فيها الإنسان، بل إن الشرارات الإلهية لا يمكن جمعها مرة أخرى، ولا يستطيع الإله أن يستعيد وحدته إلا بمشاركة الإنسان، فكأن مقدرة الإنسان معادلة لمقدرة الإله.
وتصل الثنائية الصلبة إلى قمتها في المفهوم الحسيدي الخاص بالتساديك، مركز الحلول الإلهي، الذي يبلغ من القوة قدراً يجعله يصبح قناة موصلة بين أتباعه والإله، فأدعيتهم لا يمكن أن تستجاب إلا بعد أن يوصلها هو للإله، والإله نفسه لا يمكنه أن يفعل شيئاً إلا من خلاله. وإرادته من القوة بحيث يستطيع التأثير في الإله ويستطيع أن يرغمه على تغيير إرادته.(13/56)
ويمكن القول بأن الحلولية هنا هي حلولية فردية في الحاخامات والتساديك الذين يحلون محل المسيح في المنظومات المسيحية. ولا شك في أن الحلولية اليهودية هنا تأثرت بالعقيدة المسيحية، فقد وُجدت في تربة مسيحية سلافية حلولية صوفية. ولكن ثمة فارقاً مهماً، رغم التشابه الظاهر، وهو أن المسيح ليس قناة موصلة بين الإله وشعب بعينه، فهو تجسُّد الإله لصالح كل البشر. والمسيح، فضلاً عن هذا، يأتي ويُصلَب ويقوم، فالحلول فردي مؤقت ومنته. أما الحلول في الحاخامات والتساديك فهو مستمر ومُتوارَث. ومن ثم، فإن الحسيدية شكل من أشكال الحلول الثنائية الصلبة (الروحية) على النمط اليهودي القديم رغم تأثرها بالأفكار المسيحية في فكرة التساديك على وجه الخصوص.(13/57)
وقد ترجمت الثنائية الصلبة نفسها في العصر الحديث إلى الحركة الصهيونية، فبعد موت الإله يبقى الشعب المقدَّس المتمركز في أرضه المقدَّسة (المستوطنون الصهاينة في فلسطين) حيث تنتظمهم الدولة الصهيونية صاحبة الإرادة النيتشوية التي تَصدُر عن حقوق مطلقة منحها اليهود لأنفسهم وتساندها القوة العسكرية، وتقف هذه الدولة أمام الأغيار (الذين يقعون خارج نطاق القداسة) تمارس حقوقها بالقوة وتهدر حقوق الآخرين. والصهيونية تأخذ شكلين، ثنائية صلبة روحية (الإله يحل في الشعب) وثنائية صلبة مادية (القوة الدافعة للمادة الكامنة في الشعب) ، يترجمان نفسيهما إلى صهيونية دينية وعلمانية. وأخيراً، ترجمت الثنائية الصلبة نفسها إلى لاهوت موت الإله الذي حوَّل كل ما يحدث للشعب اليهودي (الإبادة) وكل ما يَصدُر عنه من أفعال (الدولة الصهيونية) إلى مُطلق. والشعب اليهودي (مثل المسيح) يُجسد الإله الذي يُصلَب. وبدلاً من القيام، يؤسس هذا الشعب الدولة الصهيونية التي تصبح مطلقاً لا يحق للأغيار التساؤل بشأنها، وبذا يتحول الشعب الشاهد إلى الشعب الشهيد. ومع هذا، تجب الإشارة إلى أن الحلولية الثنائية الصلبة اليهودية آخذة في التراجع، ولكن ما يحل محلها ليس الفكر التوحيدي وإنما الحلولية الشاملة السائلة.
ويمكن القول بأن الصهيونية الحلولية العضوية هي تعبير عن الحلولية الصلبة، أما صهيونية عصر ما بعد الحداثة فهي تعبير عن الحلولية السائلة.
السيولة الشاملة (في القرن العشرين)
Total Flux (in the Twentieth Century)(13/58)
أخذت الحلولية الكمونية اليهودية عبر تاريخها الطويل الشكل الثنائي الصلب (الإثنيني أو الثنوي) . ويستمر هذا الوضع قائماً حتى نهاية القرن الثامن عشر (وحركة التنوير اليهودي) . وبعد ذلك التاريخ، بدأت الثنائية الصلبة في الانحلال إذ تتجه الحلولية نحو المرحلة السائلة التي تبدأ عادةً بظهور نزعة عالمية أممية بين بعض أعضاء الجماعات اليهودية ينادون بأيديولوجية عالمية يرون أنها الطاقة الدافعة للمادة المسيّرة للكون الكامنة في كل البشر وليس في اليهود وحسب، وكامنة في الطبيعة ككل وليس في أرض بعينها. وقد بدأت هذه النزعة العالمية في الظهور مع تفاقم أزمة اليهودية الحاخامية (وظهور شبتاي تسفي وإسبينوزا) ومع تزايد اندماج اليهود في الحضارة الرأسمالية والاشتراكية (العلمانية) الصاعدة وتحوُّلهم من جماعات وظيفية (حلولية ثنائية صلبة) إلى أعضاء في الطبقات المختلفة للمجتمع (حلولية شاملة سائلة) ، وتحوَّل المفكرون اليهود من مفكرين يهود إلى مفكرين علمانيين عالميين يدينون بالولاء إما للدولة القومية المطلقة أو للطبقة العاملة أو الجايست أو روح الشعب ... إلخ، أو أي مطلق علماني عالمي شامل، وأصبح الهدف من وجود اليهود هو خدمة الإنسانية والاندماج، بل الانصهار فيها.
ويُلاحَظ أن هذه النزعة نحو العالمية قد تشكِّل تفكيكاً للثنائية الحلولية الصلبة، ولكنها لا تعني الوصول بعد إلى مرحلة السيولة إذ أن رؤية الكون تظل متمركزة حول اللوجوس، فمفهوم الإنسانية يشكِّل الركيزة الأساسية التي يدور حولها النسق وموضع الحلول ومصدر التجاوز.
ويمكن ملاحَظة أن هذه النزعة العالمية كانت كامنة في المشيحانية اليهودية التي عبَّرت عن نفسها من خلال شكلين:
أ) حركات مشيحانية ثنائية صلبة تدور حول خلاص اليهود واليهود وحدهم، وهو خلاص يأخذ شكل عودة إلى أرض الميعاد تحت قيادة الماشيَّح.(13/59)
ب) حركات مشيحانية عالمية سائلة ترى أن خلاص اليهود يعني سقوط كل الحدود وانتهاء رسالتهم واختفاءهم باندماج جميع البشر. ولكن هذه النزعة نحو العالمية والمساواة، تتعمق وتأخذ شكلاً ثورياً متطرفاً، إذ تظهر نزعة إلى لحظة مشيحانية كونية، حلولية عضوية كاملة يصبح الجزء فيها متوحداً تماماً مع الكل، وتتوحد فيها الدوال مع المدلولات، ويمكن التواصل بشكل مطلق إذ لا توجد مسافة تفصل بين البشر.
وتتسم هذه المرحلة بأنها تتضمن رفضاً كاملاً للحدود، أي أنه تعبير عن الرغبة في الانسحاب من حالة التاريخ الإنسانية (المجتمع الشيوعي في حالة ماركس - لحظة الإفصاح الجنسي الكامل عن النفس عند فرويد) . وهذه الرؤية رغم ثوريتها وعالميتها إلا أنها تشكل نقداً لا لحالة إنسانية بعينها وإنما للحالة الإنسانية ككل، وهي تعبير عن الرغبة في الوصول إلى حالة اليوتوبيا التكنولوجية أو البيروقراطية حتى نصل إلى القانون العام الذي يمكن التحكم من خلاله في العالم ويمكن التعبير عن الإنساني من خلال لغة جبرية كمية دقيقة.
ولكن حينما تزال الحدود تماماً بين الإنسان والإنسان تزال الحدود أيضاً بين الإنسان والطبيعة، وتتم المساواة بين الإنسان والطبيعة وبين الخير والشر وبين الذكر والأنثى، أي يتم إلغاء كل الثنائيات، وهنا تبدأ الحلولية السائلة تطل برأسها إذ يصبح الهدف من وجود الإنسان في الكون هو التناغم معه بمعنى الذوبان الكامل فيه، ومن ثم تختفي أية منظومة معرفية وأخلاقية، وتظهر الترخيصية والإباحية والإباحة الكاملة (هاجم الشبتانيون والحركة الفرانكية كل العقائد والديانات بشكل باطني، وهذا ما فعله إسبينوزا فقد هاجم العقيدة اليهودية والعهد القديم، ولكن هجومه كان في واقع الأمر على العقائد الدينية ككل وعلى كل الثنائيات الكامنة فيها) .(13/60)
ويمكن القول بأن تاريخ اليهودية منذ ذلك الحين هو تاريخ التأرجح بين الحلولية الثنائية الصلبة (المادية أو الروحية) والحلولية الشاملة السائلة (المادية أو الروحية) مع الاتساع التدريجي لنطاق الرؤية العالمية والحلولية السائلة. ويبدأ فكر حركة التنوير اليهودية بمحاولة التوفيق بين اليهودية وروح العصر. وروح العصر هنا هي مطلق كامن في الزمن لا يميِّز اليهود عن الأغيار وإنما يجمع بينهم. وقد انتشر الفكر الربوبي بين اليهود، وهو فكر حلولي عالمي، فالإله يحل في الطبيعة ويستطيع العقل البشري أن يحيط به دون حاجة إلى كتب سماوية أو إلى أية خصوصية دينية، فكتاب الطبيعة مفتوح أمام الجميع. وقد ورثت حركة التنوير اليهودية هذه الفكرة، وتأثرت بها اليهودية الإصلاحية التي بدأت ترى الإله كمبدأ واحد يسري في المخلوقات ولكنها احتفظت باسم الإله (حلولية شحوب الإله) .
وتشكل اليهودية المحافظة عودة إلى الحلولية الثنائية الصلبة إذ إن مركز الحلول يصبح الشعب اليهودي ومؤسساته القومية. وتحتفظ اليهودية المحافظة باسم الإله، ولكنه إله غير متجاوز، كتعبير عن الذات اليهودية، ولذا فهي تظل في إطار وحدة الوجود الروحية وشحوب الإله. والصهيونية هي الأخرى عودة للثنائية الصلبة، فبعد موت الإله يبقى الشعب المقدَّس المتمركز في أرضه المقدَّسة (المستوطنون الصهاينة في فلسطين) حيث تنتظمهم الدولة الصهيونية صاحبة الإرادة النيتشوية التي تَصدُر عن حقوق مطلقة منحها اليهود لأنفسهم وتساندها القوة العسكرية، وتقف هذه الدولة أمام الأغيار (الذين يقعون خارج نطاق القداسة) تمارس حقوقها بالقوة وتهدر حقوق الآخرين. والصهيونية تأخذ شكلين، ثنائية صلبة روحية (الإله يحل في الشعب) وثنائية صلبة مادية (القوة الدافعة للمادة الكامنة في الشعب) ، يترجمان نفسيهما إلى صهيونية دينية أو إلى علمانية. وأخيراً ترجمت الثنائية الصلبة نفسها إلى لاهوت موت الإله.(13/61)
ويتسع نطاق الحلولية ليصل إلى اليهودية الإنسانية الإلحادية التي ترى أن الإيمان الحق باليهودية يعني الإيمان الحق بالإنسانية، ومن ثم فإن جوهر اليهودية الحق يتحقق من خلال اختفائها، بل اختفاء الإله بالتحامه الكامل بالمادة. ومع اختفاء الإله، تتعدد المراكز وندخل يهودية عصر ما بعد الحداثة حيث يُعلَن موت الإله ويظهر عالم لا مركز له كل ما فيه متساو نظراً لتحقُّق الحلولية الشاملة السائلة التي تذيب حدود الأشياء فتختفي جميعاً.
عند هذه اللحظة، يمكن أن يحدث أي شيء وكل شيء، فتظهر اليهودية المتمركزة حول الأنثى، وينضم أعضاء الجماعات اليهودية بأعداد متزايدة إلى الماسونية والبهائية والعبادات الجديدة، وكلها عقائد حلولية شاملة سائلة ذات طابع واحدي، تنكر أي ميتافيزيقا. ولعل هذه الحلولية الشاملة السائلة هي الإطار الذي تدور فيه النزعة التفكيكية (الهرمنيوطيقا المهوطقة) التي يتسم بها كثير من المفكرين ذوي الأصول اليهودية إذ نجدهم يتجهون نحو رفض المجتمع بقضه وقضيضه، بل التاريخ الإنساني بأسره نتيجة رفضهم كل الحدود. ومن هنا، ينخرط المثقفون من أعضاء الجماعات اليهودية بشكل ملحوظ في حركات ما بعد الحداثة بكل ما تتسم به من عدمية ناجمة عن الراديكالية المعرفية والأخلاقية التي تنكر أيَّ يقين معرفي أو مطلقية أخلاقية وأية مرجعية متجاوزة، إنسانية كانت أم إلهية، حيث تسود حالة من اللامعنى واللا تواصل في عالم لا طعم له ولا لون ولا رائحة، أي عالم لا مركز له ولا حدود، عالم العودة إلى الحالة الجنينية وإلى سكون الرحم.
الثنوية (أو الاثنينية) اليهودية
Jewish Dualism(13/62)
«الثنوية» أو «الاثنينية» هي الفكرة القائلة بأن الوجود يتكون من قوتين مطلقتين أو عنصرين أساسيين جوهريين متوازيين متعارضين (ثنائية صلبة) لا يلتقيان، إله الخير وإله الشر، وهما دائماً في حالة صراع. ومع هذا، توجد نقطة نهائية في التاريخ يتم من خلالها القضاء على هذه الثنوية إذ يهزم إله الخير إله الشر أو يمتزجان ليكونا واحدية كونية. والثنوية أحد أشكال الحلولية، وهي من ثم تعبير عن فشل في الوصول إلى النضج النفسي وعن الفشل في التجريد وفي تَقبُّل تركيبية العالم.
واليهودية تركيب جيولوجي تراكمي ذو طابع حلولي، ولذا نجد أنها قد استوعبت عناصر ثنوية عديدة (من العبادات الفارسية على وجه الخصوص) أثرت في عقائدها وشعائرها وبنيتها. وتظهر هذه العناصر في مخطوطات البحر الميت ولدى الجماعات الغنوصية أو شبه الغنوصية اليهودية ثم أخيراً في الثنوية المباشرة التي تتبدَّى في شعائر وشخصيات خرافية مثل عزازيل وميتاترون، وكذلك في بعض الملائكة الآخرين الذين أصبحوا قوة مستقلة عن يهوه لها وجود مستقل عنه وتُقدَّم لها القرابين تماماً كما تُقدَّم له، كما كان يحدث في يوم الغفران حينما كان كبير الكهنة يُقدِّم كبشين: أحدهما ليهوه والآخر لعزازيل. وهذه الشخصيات والشعائر تفترض وجود قوتين إلهيتين، إحداهما للخير والأخرى للشر، وهي شخصيات وشعائر تقبلتها اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي. وقد تحولت التوارة في اليهودية الحاخامية إلى قوة معادلة للإله تحوي سرّ الكون، نظر إليها الإله وخلق العالم (فهي اللوجوس الذي يمنح العالم النظام والثبات والشكل النهائي المستقر) . وتُعبِّر التوراة عن الحياة الداخلية للإله ولكنها مستقلة عنه. ولذا فهي تجلس إلى جواره على العرش، فهي إذن تَجسُّد له ولكنها مستقلة عنه.(13/63)
وقد تفجرت هذه الثنوية في التراث القبَّالي، فنجد أنها ثنوية تشبه تماماً ثنوية الأنساق الغنوصية، فهناك ثنوية الإين سوف (الديوس أبسكونديتوس أو الإله الخفي اللامتناهي) مقابل التجليات النورانية، وهناك السترا أحرا (الجانب الآخر المظلم) الذي يمثل الشر والظلام مقابل الخير، والشخيناه هي لوجوس تجلس إلى جوار الخالق على عرشه ويقابلها الإله نفسه، كما أن الشخيناه نفسها يقابلها الشخيناه المدمرة التي تَصدُر عن السترا أحرا. والثنوية قد تختلف من بعض الوجوه عن الحلولية الثنائية الصلبة ولكنهما، في نهاية الأمر، شيء واحد؛ فالأولى إن هي إلا حالة متطرفة متبلورة وتطوُّر منطقي للثانية. ويُلاحَظ أن الثنوية اليهودية تؤدي إلى توازي قطبي الثنوية لا الصراع بينهما، ومن ثم فنحن نشير إليها بأنها «ثنوية بنيوية» . وهي، في هذا، تختلف عن الثنوية الفارسية ذات الطابع الصراعي الحاد.
القداسة في اليهودية
Jewish Concept of Sacredness and Sanctity
الرؤية التوحيدية للقداسة موجودة في اليهودية كطبقة ضمن الطبقات الجيولوجية. ولكن هناك، فوقها وتحتها، طبقات أخرى من أهمها الطبقة الحلولية التي يستطيع اليهودي في إطارها ألا يشارك في القداسة وحسب، وإنما يتوحد مع الإله تماماً ويصبح في قداسته. وانطلاقاً من هذه الرؤية الحلولية الثنائية الصلبة التي كانت موجودة بشكل كامن في العهد القديم، ثم تبلورت في التلمود وأخذت شكلاً متطرفاً في القبَّالاه، نجد أن القداسة لم تَعُد حالة يشارك الإنسان فيها من خلال التدريبات الروحية والأعمال الأخلاقية وإنما أصبحت سمة عضوية مُتوارَثة ناتجة عن الحلول الإلهي الدائم.(13/64)
وإذا كانت القداسة هي الصفة الإلهية التي تفصل الإله (المطلق) عما هو غير مقدَّس (دنيوي ونسبي) ، فإن الشعب اليهودي قد سرت فيه هذه القداسة وأصبح يتسم بهذا الانفصال حينما عقد الإله العهد معه. وبذلك، انقسم العالم بأسره داخل إطار الحلولية الثنائية الصلبة إلى قسمين: اليهود المقدَّسين الذين يعيشون داخل دائرة القداسة، والأغيار الذين يعيشون داخل التاريخ فقط وخارج دائرة القداسة. والأرض التي يقطنها الشعب اليهودي، صهيون أو إرتس يسرائيل، أصبحت هي الأخرى الأرض المقدَّسة التي لا تسري عليها القوانين التاريخية النسبية العادية. كما أن تاريخ هذا الشعب يصبح أيضاً تاريخاً مقدَّساً تختلف بنيته ومساره وقصده عن التواريخ الإنسانية إذ يتسم بالحلول الإلهي فيه.
ولكل هذا، نجد أن المسافة بين الإله والإنسان وبين الواقع والمثل الأعلى تختفي تماماً ويحل محلها الحوار (الديالوج) الدائر بين الإله والشعب. والإله المقدَّس لا يختلف كثيراً عن الشعب المقدَّس، فهو يوحي إلى الشعب بما يريد أن يسمع. وهو قد اختارهم لأنهم اختاروه كما جاء في التلمود، وكما يقول بن جوريون. وحينما ذهب الشعب المقدَّس إلى سيناء، فإنه كان يحمل روح الشريعة المقدَّسة التي تلقاها من الإله، كما يقول مارتن بوبر، أي أن روح الشعب والقداسة هما شيء واحد. والقداسة نفسها تسري على مؤسسات اليهود الدنيوية القومية كافة أو تحل فيها. إن نسل الملك داود مقدَّس إذ أن الماشيَّح سيكون من بينهم. واللاويون مقدَّسون منفصلون عن بقية الشعب لأنهم من سبط الكهنة. ويوم السبت مقدَّس لأنه اليوم الذي استراح فيه الإله بعد خلق العالم في ستة أيام، وهو أيضاً اليوم الذي خرج فيه اليهود من مصر، ولذلك فهو منفصل عن بقية أيام العمل العادية. واللغة العبرية هي اللسان المقدَّس (لاشون هقودش) .(13/65)
ويصل حد خلع القداسة على كل شيء قومي إلى درجة أن التلمود (تفسير العلماء اليهود للعهد القديم) يصبح أكثر قداسة من العهد القديم (الكتاب المقدَّس) نفسه. بل إننا نكتشف، من خلال قراءتنا في التراث الديني اليهودي، أن الحوار بين الإله والشعب يصل إلى درجة أن قداسة الإله تصبح من قداسة الشعب، وليس العكس. فقد جاء في أحد كتب المدراش: "حينما تنفذ يسرائيل إرادة الإله، فإنها تضيف إلى إرادة الإله في الأعالي، وحينما تعصى يسرائيل إرادة الإله فكأنها تضعف القوة العظمى للإله في الأعالي". ويفسِّر أحد كتب المدراش فقرة من إصحاح أشعياء (43/12) : «وأنتم شهودي ـ يقول الرب، وأنا الإله» ، وذلك على النحو التالي: "حينما تكونون شهودي أكون أنا الإله، وحينما لا تكونون شهودي فأنا (كأنني) لست الإله". فكأن ألوهية الإله، بل وجوده، لا يتجاوز الإرادة والوجود اليهوديين.
وفي تراث القبَّالاه، وصل الإيمان بقداسة الشعب إلى أشكال في غاية التطرف إذ ذهب بعض القبَّاليين إلى أن اليهود قد خُلقوا من طينة مقدَّسة مختلفة عن الطينة التي خُلق منها الأغيار. وبالتالي، تكون أفعال اليهود كلها مقدَّسة لأنها تساهم في عملية إصلاح الخلل الكوني (تيقون) التي يستعيد الإله من خلالها ذاته وكذلك الشرارات الإلهية المشتتة.
ومن خلال مفهوم الشرارات الإلهية المبعثرة، توصَّل الشبتانيون إلى أن القداسة توجد في الخير وجودها في الشر إذ أن الشرارات الإلهية قد علقت بكل شيء، ومن ثم فإن القداسة شملت كل شيء وأصبحت المبدأ الواحد الذي يسري في الكون ويتخلل ثناياه وبرزت فكرة الخطيئة المقدَّسة (أساساً في الحركة الفرانكية) التي تذهب إلى وجوب الانغماس في الرذيلة حتى يمكن الصعود إلى القداسة. وقد تبدَّى هذا في مفهوم الخلاص بالجسد.(13/66)
وقد ورثت الصهيونية هذا المفهوم الحلولي للقداسة التي تتركز في الشعب المقدَّس والأرض المقدَّسة وفي زمانه أو تاريخه أو روحه المقدَّسة، ولكن الصهاينة قاموا بعلمنة هذا المفهوم الحلولي بحيث يُترَك مصدر القداسة غير محدَّد: فهو الخالق بالنسبة للمتدينين، وهو روح الشعب أو أية مقولة دنيوية أخرى بالنسبة للمُلحدين. والقداسة تحل أيضاً في مختلف الممتلكات القومية التي يملكها الشعب. ولذا، نجد أن أحد زعماء الجوش إيمونيم (الحاخام تسفي كوك) يقول: إن الجيش الإسرائيلي هو القداسة بعينها. ومن قبله قال بن جوريون: إن الجيش هو خير مفسر للتوراة. ومن هذا المنظور الحلولي، يمكن أن نفهم مُصطلَحات صهيونية مثل «الحدود التاريخية» و «إسرائيل الكبرى» . فالحدود التاريخية هي الحدود المقدَّسة وإسرائيل الكبرى هي الأرض المقدَّسة.
وقد دخلت اليهودية عصر ما بعد الحداثة حيث تتوزع القداسة على كل المخلوقات فتساوي بينهم وتسويهم وتدخل في حالة سيولة شاملة تصبح فيها التفرقة بين المقدَّس والمدنَّس وبين اليهودي وغير اليهودي أمراً مستحيلاً.(13/67)
الباب الثالث: إشكالية علاقة الغنوصية باليهودية
الغنوصية: تعريف
Gnosticism: Definition
«الغنوصية» من الكلمة اليونانية «غنوصيص» ، ومعناها «علم» أو «معرفة» أو «حكمة» أو «عرفان» . وفي التراث العربي الإسلامي، تُستخدَم كلمة «عرفان» عند المتصوفين لتدل على نوع أسمى من المعرفة يُلقَى في القلب في صورة «كشف» أو «إلهام» . و «العرفان» ، حسب تعريف المؤرخين له، هو العلم بأسرار الحقائق الدينية والخصائص الإلهية، وبكل ما هو سري وخفي (كالسحر والتنجيم والكيمياء) ، وهو (من وجهة نظر صاحب العرفان) أرقى من العلم الذي يحصل لعامة المؤمنين البسطاء أو لأهل الظاهر من العلم الديني الذين يعتمدون النظر العقلي، و «العرفاني» هو الذي لا يقنع بظاهر الحقيقة الدينية بل يغوص في باطنها لمعرفة أسرارها. وهي معرفة تقوم على تعميق الحياة الروحية واعتماد الحكمة في السلوك وهو ما يمنح القدرة على استعمال القوى التي هي من ميدان الإرادة (ومن ثم تصبح الإرادة بديلاً للعقل) . فالمعرفة هنا لا تعني العلم، أي اكتساب معارف، بل بذل مجهود متواصل بقصد التطهير والتخلص من الأدران والتوصل للصيغة الغنوصية اللازمة لرحلة العودة للاندماج من جديد في العالم الإلهي الذي جاء منه الإنسان. والغنوصية ترى أن ثمة جوهراً واحداً يجمع بين كل الديانات ولذا لا تقدم نفسها كديانة جديدة، بل كباطن للشريعة القائمة، ومهمة الغنوص الكشف عن المغزى العميق للعقيدة (ولكل العقائد) التي ينتمي إليها الغنوصي بواسطة معرفة باطنية وكاملة لأمور الدين. ويتم التمييز بين الغنوصية كموقف من العالم (غنوص عملي) والغنوصية كنظرية لتفسير الكون (غنوص نظري) ولكنهما بطبيعة الحال مرتبطان تمام الارتباط، وخصوصاً أن الغنوص النظري نفسه ذو توجُّه عملي، فالعرفان يتم التوصل إليه من خلال طقوس وشعائر محددة.....(13/68)
والغنوصية حركة فلسفية وتعاليم دينية متنافرة تأخذ شكل أنساق أسطورية جميلة في غاية التنوع وعدم التجانس، انتشرت في الشرق الأدنى القديم في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد. ورغم أن أساطيرها وتعاليمها وأفكارها غير متجانسة، بل تنافرها، يمكن القول بأن ثمة بنية كامنة واحدة أو نموذج معرفي واحد، ذلك أن المنظومات الغنوصية كافة منظومات كمونية حلولية واحدية تبحث عن مبدأ واحد مطلق يحكم الكون بأسره، كما تبحث عن قانون شامل من غير ثغرات يعبِّر عن الواحدية الكونية التي ترد الكون بأسره إلى مبدأ واحد ومن ثم يذوب الكل في الجزء وتصبح الركيزة النهائية كامنة في المادة، ولذا يتحقق النموذج في لحظة التوحد الكامل بين الخالق ومخلوقاته (وباختفاء الإنسان في مقولات أكبر منه) ، أي أنها تنتهي بموت الإله ثم بموت الإنسان) . وهي محاولة لتفسير كيفية خروج النسبي من المطلق، والشر من الخير، وتجيب عليها بإجابات بسيطة بل ساذجة من خلال الأنساق الأسطورية التي تختزل الواقع الإنساني والتاريخي المركب. وتستخدم الغنوصية مفردات الحلولية الكمونية الواحدية وصورها المجازية (الجسد ـ الجنس ـ الرحم ـ الأرض) لإدراك العالم.(13/69)
تبدأ المنظومة الغنوصية من نقطة فردوسية لا تحتوي إلا على النور والقداسة، حالة تماسك واحدية عضوية لا يوجد فيها كل منفصل عن الأجزاء، ولا توجد فيها ثغرات (حالة البليروما) . ويوجد الإله الخفي (باللاتينية: ديوس أبسكوندتيوس deus absconditus) وراء البليروما، وهو إله متعال لا يقبل الوصف متجاوز تماماً للدنيا حتى حد التعطيل، غير مكترث بها أو معاد لها، والطبيعة لا تعبِّر عنه أو عن مقاصده. هذا الإله الواحد لم يخلق العالم دفعة واحدة من العدم وإنما من خلال عملية تدريجية من خلال الفيض والصدور ففاضت مخلوقات تُسمَّى الأيونات وهي القوى الروحية الأولية وهي بمثابة تشخُّصات للإله. وأهم الأيونات هي الإنسان نفسه الإنسان الأول وآدم قدمون أو أنثرويوس الذي هو نفسه الإله أو ديوس. ومن أهم الأيونات الأيون المسمى «صوفيا» أو «الحكمة» .(13/70)
وتذهب الغنوصية إلى أن الكون شرير ومعاد، وأن العالم سجن والزمان ردئ، وأن الإنسان لا ينتمي إلى هذا العالم وأنه وقع فيه وفي الزمان لا لذنب اقترفه أو لشر متأصل فيه وإنما بسبب خلل كوني أدى إلى تسرُّب بعض الشرارات الإلهية بحيث حُبست داخل المادة. والإنسان هو جزء من هذه الشرارات، فهو ينتمي إلى العالم النوراني، عالم الإله الخفي. ولن يتم الخلاص ولن يبلغ الإنسان الكمال (الذي هو اسم آخر للنجاة والخلاص) إلا من خلال معرفة خفية باطنية (غنوص) تتصل بالحقيقة الكلية الشاملة، وهي معرفة أو عرفان يفضي بالإنسان إلى معرفة بالإله، فالإله هو في نهاية الأمر الإنسان، والإنسان هو الإله، أو على الأقل ينتميان لعالم واحد، وقد صيغ من مادة واحدة أو جوهر واحد، ولذا فإن الخلاص والكمال هو اتحاد الذات الإنسانية مع الألوهية اتحاداً جوهرياً وانتهاء العالم. وقد لخص ثيودوتوس الغنوصية في عبارته الشهيرة، فقال "معرفة من كنا، وماذا أصبحنا، وأين كنا، وفي أي مكان أُلقي بنا، وإلى أي مكان نحث الخطى، وكيف نحصل على الخلاص، وما الميلاد، وما الميلاد الجديد؟ ".(13/71)
وقد أصبحت كلمة «غنوصية» في اللغات الغربية عَلماً على المذاهب الباطنية وعلى الهرطقات الجوهرية التي تقف على الطرف النقيض من العقائد السماوية التوحيدية. ويمكن القول بأن الغنوصية ليست شكلاً من أشكال التصوف الذي يدور في إطار توحيدي ويدعو إلى كبح جماح الجسد حتى يقترب الإنسان من الإله وهو يعرف أن الاتحاد به مستحيل (فهو إله مفارق متجاوز للطبيعة والتاريخ) . ومثل هذا التصوف يتبدَّى في التاريخ في شكل فعل أخلاقي وسلوك اجتماعي يدل على طاعة الإله. تقف الغنوصية على طرف النقيض من هذا النوع من التصوف (التوحيدي) ، فهي تهدف إلى الالتصاق بالإله والاتحاد معه بهدف الوصول إلى المعرفة الباطنية والصيغة النهائية (الغنوص) التي يمكن عن طريقها التحكم في الواقع وفي البشر بل في الإله، فهي شكل من أشكال التصوف الحلولي الكموني ووحدة الوجود الروحية. وهي، في هذا، تشبه القبَّالاه التي تحاول الوصول إلى المعرفة الباطنية ولا تكترث كثيراً بالتمارين الصوفية، وذلك باعتبارها محاولة للاقتراب من الخالق، فكل همها هو تحقيق الالتصاق بالإله والوحدة معه بهدف المعرفة من أجل التحكم (في الكون بل في القوة الخفية السارية فيه، أي الإله) .
ونحن نطرح نموذجاً توليدياً لدراسة الغنوصية وتفسير سر انتشارها، فنذهب إلى أنها رؤية للكون تستجيب لشيء جوهري في الإنسان، وهو ما نسميه النزعة الرحمية، أي الرغبة في الانسحاب إلى الرحم وفقدان الهوية وتصفية الثنائيات الأخلاقية والمعرفية.
وقد أورد كاتب مدخل «الهرمسية» في موسوعة تاريخ الأفكار ما يسميه «مجموعة أفكار الفوضى» (بالإنجليزية: كيوس سندروم (chaos syndrome وهي محاولة من جانبه لأن يرصد بعض السمات الأساسية للرؤية الكونية الكامنة وراء المنظومات الغنوصية (ومنها الهرمسية) وقد أوردها على النحو التالي:
1 ـ يخلق الإله العالم من مادة قديمة.(13/72)
2ـ تتم عملية الخلق نتيجة تصادم ضخم أو لقاء جنسي بين عنصرين أساسيين.
3 ـ الخلق يتضمن عناصر من الغريب واللامعقول.
4 ـ التغير والظلام والطمي تنتج الحياة.
5 ـ الثعبان والمخلوقات الهجين هي رمز الطاقة ويتم تأليهها.
6 ـ العالم جسد يجدد نفسه دائماً، ومن هنا العود الأبدي.
7 ـ «كما هو في الأعالي، كذلك في هذا العالم» أي عقيدة التقابل بين السماء والأرض والعرفان الكوني.
8 ـ يمكن أن ينزل الإله إلى هذا العالم ليشارك في الأمور الإنسانية ويصبح عاملاً من عوامل إدخال الحضارة. والإله لا يتجاوز عملية التحول والعذاب التي تُعَد جزءاً من عملية الخلق والميلاد.
9 ـ يستطيع الإنسان أن يرتفع لمنزلة الآلهة.
10 ـ «الهبوط الثمين» هو الهبوط في الظلمات ومواجهة وحوش الأعماق أمر ضروري ومصدر لتجربة حيوية يمر بها البشر والآلهة.
وهو يرى أن هناك بعض المنظومات الدينية الشعبية تتسم بكل أو بعض هذه الصفات. والمنظومات الغنوصية تنتمي إلى هذا النمط في تصوُّرنا.(13/73)
والغنوصية هي النموذج المتكرر والكامن وراء معظم (إن لم يكن كل) الفلسفات والأنساق الحلولية الكمونية الواحدية (الروحية والمادية) عبر التاريخ، وهي أهم تعبير عن الواحدية الكونية وعن النزعة الطبيعية المادية، وأكثرها تبلوراً، وهي القواعد أو النحو العالمي الكوني للهرطقة، الذي وُلدت منه كل أنواع الهرطقات المادية المعادية للإله والإنسان، علمانية كانت أم «دينية» ، وهي هرطقات ليست معادية للإله المتجاوز وحسب وإنما معادية للإنسان باعتباره كائناً فريداً مركباً حراً متعدد الأبعاد قادر على تجاوز ذاته الطبيعية وعلى تجاوز الطبيعة/المادة وعلى اتخاذ مواقف أخلاقية تنبع من حريته وإحساسه بالمسئولية وبهويته وحدوده، أي أن الإلحاد الغنوصي إلحاد جوهري وجذري وتعبير عن عداء عميق لظاهرة الإنسان نفسها. وانطلاقاً من نموذجنا التوليدي، فإننا نذهب إلى أن الغنوصية قائمة منذ بداية التاريخ. وقد ظهرت الحركة المسماة بالغنوصية في لحظة تاريخية شعرت فيها قطاعات كبيرة من سكان المدن في الإمبراطورية الرومانية بضياعها وعدم انتمائها وغربتها عما حولها. وبعد القضاء على الغنوصية كحركة، ظلت المنظومة الغنوصية منتشرة بين الجماهير (بعد القضاء على قيادتها) ، ذلك على هيئة الممارسات والعقائد الدينية الحلولية الواحدية المختلفة تحت أسماء مختلفة. وقد أحرزت الغنوصية نجاحاً فائق النظير في حالة النسق الديني اليهودي إذ تصاعدت معدلات الحلولية حتى أصبحت اليهودية عقيدة غنوصية من خلال القبَّالاه. وقد أحرزت الغنوصية انتصارها الأكبر مع ظهور العلمانية (الحلولية الواحدية المادية ووحدة الوجود المادية) ، فالفلسفات والأنساق العلمانية، هي بمعنى أو آخر، شكل من أشكال الغنوص. ومن المعروف أن الظروف التي عاش فيها أتباع الحركة الغنوصية لا تختلف كثيراً عن الظروف التي يعيشها الإنسان الحديث في المدينة الحديثة أو في المجتمعات الحديثة التي تم ترشيدها وإخضاعها(13/74)
لمعايير الكفاءة المستمدة من نماذج طبيعية/مادية يُقال لها «علمية» .
الغنوصية: تاريخ
Gnosticism: History
تُلقي الخلفية التاريخية والثقافية للغنوصية الكثير من الضوء على بنيتها. ويبدو أن جذورها تعود إلى القرنين الأخيرين قبل الميلاد، ولنتخيل أن مواطناً في الألف الأخير قبل الميلاد، في الشرق الأدنى القديم، كان يعيش في كنف الإمبراطورية الفارسية، وهي إمبراطورية شرقية قد تكون غريبة عليه، ولكنها مع هذا لها تقاليدها الحضارية الشرقية القريبة من تقاليده، كما أنها كانت إمبراطورية مترامية الأطراف، اعتمدت أسلوباً في الإدارة مبنياً على عدم المركزية وعلى السماح للجماعات المحلية بقدر من الإدارة الذاتية، فكانت تُحصِّل الضرائب من خلال كبار الملاك المحليين، الأمر الذي ترك الريف دون تَدخُّل عنيف من القوة الإمبراطورية الأجنبية، ومن ثم لم يتغير أسلوب الحياة فيه.(13/75)
وجاءت الإمبراطورية اليونانية بثقافتها الهيلينية، وقد أسس هؤلاء الغزاة مدناً قوامها فرق من المرتزقة والمستوطنين الأجلاف الذين كانوا لا يعرفون من الثقافة الإغريقية غير القشور (مثل السيرك والألعاب) ، ولحقت بهم جماعات من المثقفين. ثم بدأت حركة هجرة داخل الإمبراطورية الهيلينية نحو هذه المدن، وهو ما أدَّى إلى نموها وتضخُّم حجمها، ولذا كانت هذه المدن تختلف عن المدن/الدول اليونانية. فالعلاقات الإنسانية في المدينة/الدولة كانت متعيِّنة متجانسة، لأن المدينة/الدولة كانت وحدة صغيرة تكاد تكون عضوية في تماسكها، إذ كان يشارك الجميع في العملية السياسية والأحداث الثقافية، وكان ينتظم كل هذا إطار العبادة الوثنية الهيلينية. ويُقال إن تجربة الإنسان اليوناني داخل المدينة/الدولة يشكل أساس الأنطولوجيا الغربية الكلاسيكية: الكل يسبق الأجزاء، والكل أحسن من الأجزاء، والكل هو الغاية والأجزاء هي الوسيلة. وكان الفرد هو الجزء في هذه المنظومة، والمدينة/الدولة هي الكل، وكان الفرد يشعر بهذه المقولات بشكل متعيِّن ومباشر من خلال تجربته الحياتية اليومية، هذا على النقيض من المدن اليونانية في الشرق فقد كانت أكبر حجماً وكانت تضم عناصر بشرية غير متجانسة لكلٍّ دينها وشعائرها وتجربتها التاريخية. ولذا، كانت كل جماعة تنكفئ على ذاتها وتنعزل عن المدينة، ولكنها كانت في الوقت نفسه تفقد هويتها لبعدها عن مراكز الحضارة الخاصة بها، وكانت تكتسب الخطاب الحضاري اليوناني أو قشوراً أو شذرات منه عن وعي أو عن غير وعي فيمتزج بخطابها الحضاري ويحل محله في بعض الأحيان. وكانت هذه المدن مدناً دولية تصلها التجارة من كل أنحاء الأرض (الصين وأوربا) وتُقام فيها أسواق ضخمة لها إيقاعها السريع وحجمها الضخم. ومن ثم، لم يكن بوسع الفرد أن يمارس علاقة عضوية مع الآخرين أو مع المدينة.(13/76)
إلى جانب كل هذا، كان يوجد انقسام حاد بين النخبة الإغريقية الحاكمة في المدينة والنخب الأخرى (المصرية واليهودية والفارسية) التابعة لها من جهة، ومن جهة أخرى الجماهير التي كانت: إما تأغرقت بشكل سطحي أو ظلت شرقية في تراثها وهويتها. وإلى جانب هذا الصراع الثقافي، كان يوجد صراع طبقي إذ أن استقلال الطبقات الحاكمة قد تزايد (وخصوصاً في مصر) بسبب تزايد قبضة البيروقراطية تحت حكم اليونان، وكان المصريون يدفعون الضرائب للتاج وللمدن التي كانت تمارس حقوقها على الأراضي الزراعية التي تملكها، ولأصحاب الأراضي التي يعيشون فيها، ولذا أُفقر الريف وزادت الهجرة إلى المدينة.
ثم سقطت بعد ذلك الإمبراطورية اليونانية. ومع الحكم الروماني، زادت الأمور سوءاً، فمع تزايد الحروب زادت الضرائب واندلعت الثورات (مثل التمردين اليهوديين الأول والثاني في القرنين الأول والثاني الميلاديين) ، كما ازدادت الفجوة الثقافية بين الحاكم والمحكوم. وأدَّى اتساع نطاق الإمبراطورية إلى تزايد اختلاط الديانات المختلفة وإلى عمليات تهجينها، فامتزجت الآلهة الشرقية بالآلهة اليونانية والرومانية. ووجد المواطنون أنفسهم في إمبراطورية مترامية الأطراف، لا تؤمن بأية آلهة، أو تؤمن بآلهة كثيرة. وبذا، أصبح الكل مبعثراً وأصبح الجزء لا معنى له. وقد تماسك الكل لا بسبب أية أيديولوجية وإنما من خلال العنف الذي كانت تمارسه السلطة وبفعل توازن القوى، وهي سلطة كانت لا تكترث كثيراً بالتراث الحضاري للمواطنين فتدع كل فرد يمارس ما يشاء من شعائر طالما أنه يدفع الضرائب التي كانت تضمن تدفقها الطرق الرومانية والجنود الرومان الأجلاف، سادة العالم الذين كانوا لا يؤمنون بدين أو كانوا يؤمنون بدين وثني متخلف يرتكز على عبادة الإمبراطور ومجمع الآلهة (بانثيون) الروماني.(13/77)
وجد المواطن نفسه في إمبراطورية غريبة عليه، معادية له، حاكمها ظالم يفرض عليه القانون الروماني الغاشم، وجنودها أجلاف. كما وجد أنه ليس بمواطن روماني، ولذا فإنه لا حقوق له مع أن علاقته بوطنه الأصلي قد ضَعُفت، وخصوصاً إذا كان من سكان المدن. وفي هذه التربة، انتشرت الغنوصية بين أعضاء البورجوازية الصغيرة وبين كثير من أعضاء الطبقات غير المستغلة التي فقد أعضاؤها مناصبهم ومكانتهم، أو على الأقل تراجع نفوذهم رغم شعورهم بحقهم في أن يكونوا أحراراً، وكان عندهم الطموح للحراك والصعود إلى أعلى دون أن تكون عندهم الوسيلة لذلك: طبقات فقدت عالمها القديم ولم يستوعبها العالم الروماني الجديد. وأعضاء هذه الطبقات كانوا متعلمين يعرفون الفلسفة اليونانية بدرجات متفاوتة من العمق والسطحية، ولكنهم كانوا مع هذا ملمين بأسرار الديانات الشرقية، ولذا قاموا بالمزج بين العناصر اليونانية والشرقية حينما صاغوا أيديولوجيا جديدة (وهذا المزج هو الذي أعطى الغنوصية مقدرة تعبوية هائلة) .
وقد انتشرت الغنوصية في المدن الكوزموبوليتانية الكبيرة، مثل الإسكندرية وأنطاكية وروما ومدن آسيا الصغرى، وهي مدن تتسم ببعض أو كل الملامح التي أشرنا إليها من قبل؛ مدن تقع على الحدود بين الشرق المتأغرق وروما، ومع هذا، ظل الشرق مركز جاذبيتها الثقافية. وحتى الزعماء الغنوصيون الذين ظهروا في الريف (مثل شمعون الساحر من السامرة) كان نشاطهم في المدن أو تربطهم علاقة وثيقة بها.(13/78)
هذا الوضع الحضاري والتاريخي يفسر كثيراً من جوانب الغنوصية، فهو يفسر ازدواجية الغنوصية الشرقية/الإغريقية، كما يفسر طبيعة الحل الذي تطرحه وجذريته. فإذا كان الإنسان يشعر بالغربة والاغتراب والهجران إلى هذا الحد، فإن الحل الذي سيطرحه لمشكلته لن يقل جذرية. والغنوصية أعلنت أن هذا العالم فاسد تماماً، فسقطت المدن والإمبراطوريات والعالم الطبقي والقوانين الطبيعية والأخلاقية الغاشمة بضربة معرفية واحدة. أما عالم المدينة الوثني الذي يتطلب الانتماء إليه الانتماء للعبادة الوثنية، فإنه يسقط هو الآخر بإعلان أن طريق الخلاص هو العرفان الداخلي دونما حاجة لكهنة أو معابد (وهذا مناسب جداً في اقتصاد مبني على حركة تجارية مستمرة، فأماكن العبادة الثابتة غير صالحة) . أما اغتراب الإنسان فبوسع الإنسان أن يعقلنه قليلاً بأن يدَّعي أنه يوجد في هذا المكان ولكنه ليس منه. أما وجود الإنسان في موقع متدن من السلم الطبقي، فيستطيع مثل هذا الإنسان أن يُفسِّره لنفسه بأنه في واقع الأمر من الروحانيين في عالم جسماني. أما من هم في قمة السلم فهم في واقع الأمر الجسمانيون أو النفسانيون على أحسن تقدير، وهو سلم سيُقلب رأساً على عقب حين يعود الإنسان العارف لأصله الروحاني ويشغل قمة الهرم، وبذا يحل محل النخبة اليونانية/الرومانية. أما الجسمانيون أو النفسانيون فهم كالقشرة أو المحارة سيُنبذون أو يحتلون مكانهم في أدنى درجات السلم.(13/79)
وكانت الجماعات اليهودية من أكثر الجماعات تأثراً بهذه التحولات (تماماً كما حدث لها في العالم الغربي بسبب ظهور الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية والدولة القومية والرأسمالية الرشيدة والتشكيل الاستعماري الغربي) . وقد كان اليهود من أكثر الجماعات انتشاراً في المدن الإغريقية، ومن المعروف أنه في المائة الأخيرة قبل الميلاد، كان عدد اليهود في الإسكندرية أكثر منهم في القدس، كما كان عدد اليهود خارج فلسطين أكثر منهم في داخلها. وقد اندمج اليهود في الحضارة الهيلينية بشكل سريع، وفقدت أعداد كبيرة منهم هويتها، وأصبحت النخبة الاقتصادية بينهم من كبار ملاك الأراضي ومحصلي الضرائب والكهنة مُستوعَبين في النسق الحضاري الهيليني. وقد تُرجم العهد القديم إلى اليونانية، إذ أن أعضاء الجماعة اليهودية في الإسكندرية نسوا العبرية، وقام مفكرون مثل فيلون بمحاولة المزاوجة بين الهيلينية والتفكير الديني اليهودي. وقد حقَّق اليهود حراكاً اجتماعياً هائلاً، فكان منهم الجنود والشرطة وقادة الجيش وجامعو الضرائب وكبار التجار. ثم جاءت الدولة الرومانية لتحطم الهيكل، مركز العبرانيين الثقافي والديني، وهي تجربة جاءت بعد التهجير إلى بابل بعد هزائم متكررة لحقت بالشعب المختار. وقد حقَّقت قلة من اليهود، وخصوصاً العناصر المتأغرقة، مزيداً من الحراك (مثل تايبيريوس يوليوس ألكسندر، ابن عم الفيلسوف فيلون وأحد القادة العسكريين في حملة تيتوس لتحطيم الهيكل) . وتحوَّل بعضهم من جماعة وظيفية قتالية إلى جماعة وظيفية تجارية. أما غالبية أعضاء الجماعات اليهودية، فوجدوا أنفسهم في عزلة بعد أن فقدوا هويتهم وعلاقتهم بفلسطين، ووجدوا أنفسهم في حالة صراع مع الأرستقراطية اليونانية إذ آثر الرومان التعامل مع اليونانيين على التعامل مع أعضاء الجماعات اليهودية. وقد كان على كثير من يهود الإسكندرية وفلسطين وغيرهما من البلاد التي تدور في الفلك الروماني أن(13/80)
يتخلوا عن دينهم وأن يقطعوا علاقتهم بالجماعة اليهودية إن أرادوا الحصول على المواطنة لتحقيق الحراك (وهذا ما فعله تايبيريوس) . بل إن هذا البديل أصبح في حدّ ذاته غير ممكن لكثير من اليهود إذ أن الأرستقراطية اليونانية واليهودية المتأغرقة ما كانت لتقبلهم حتى لو تخلوا عن دينهم، ولذا وجد هؤلاء أنفسهم وقد صُنِّفوا يهوداً مع أن هويتهم اليهودية ضعيفة جداً. ومع هذا، كانت هذه الهوية المزعومة الضعيفة الواهية هي التي تجذبهم نحو القاع. وقد حدثت الأزمة في وقت كانت فيه اليهودية نفسها في حالة أزمة وانقسام، وتصاعدت التوقعات المشيحانية كما هو واضح في كتب الرؤى (أبوكاليبس) ، الأمر الذي جعل هؤلاء اليهود يفقدون صبرهم ويودون أن تأتي لحظة الخلاص حيث تتحطم الحدود والسدود والقيود. وقد كان هناك عدد من الفرق اليهودية التي تختلف الواحدة عن الأخرى، من أهمها الجماعات المشيحانية مثل الأسينيين والغيورين وحملة الخناجر. ولكل هذا، فإننا نجد أن الغنوصية (التي تشكل اليهودية رافداً أساسياً فيها) قدمت الحلول الجذرية لأعضاء الجماعات اليهودية من المندمجين في الحضارة اليونانية الرومانية المغتربين عنها. لقد قدمت لهم نسقاً أسطورياً معادياً لليهودية، رافضاً لها، يعدهم بالتحرر منها ومن الرومان في الوقت نفسه. فالغنوصية رفض للمادة من حيث هي قيد، والمادة بالنسبة إليهم هي أولاً عالم التفاوت الاجتماعي والقهر الروماني الذي يحول بينهم وبين الحراك الذي يطمحون إليه. أما الإله الصانع وحكام السماوات والأرض (أركون) ، فهم الحكام الرومان وجنودهم والنخبة اليونانية الحاكمة التي تضع العراقيل في طريقهم. ولكن الإله الصانع هو أيضاً إله يسرائيل الذي خلق المادة أو صاغها في صورتها الكريهة والذي أرسل شريعته ليثقل بها كاهل اليهود ويحول دون دخولهم إلى العالم الروماني. وحسب بعض المنظومات الغنوصية، فإن شريعة موسى هي شريعة العامة (الجسمانيين(13/81)
والنفسانيين) . ومع هذا، فإنها تحوي داخلها الغنوص اللازم والذي ظهر في العهد الجديد. ولذا، كان هؤلاء يرفضون العهد القديم تماماً أو كانوا يفسرونه تفسيراً يجعل منه تمهيداً للعهد الجديد. وفي الواقع، فإن سقوط النور في الدنيا وتبعثره وأسره، هو تبعثر اليهود وسبيهم ووجودهم في هذه المدن اليونانية المعادية، وما العالم الشرير والزمان الردئ سوى عالم الرومان وزمانهم، ولكنه هو أيضاً عالم يهوه وتاريخه الملئ بالكوارث والتشتت والتهجير والاضطهاد.
والخلفية الثقافية للغنوصية مرتبطة تماماً بالخلفية التاريخية، وهي الأخرى تلقي الضوء الكاشف على بنيتها الأسطورية الفكرية. وكما أسلفنا، سيطرت الإمبراطورية الفارسية على المنطقة ردحاً من الزمان، ونشرت ديانتها الثنوية فيها. ثم جاء غزو الإسكندر للمنطقة، وانتشرت الثقافة الهيلينية، فمزجت الأفكار والعقائد الوثنية وديانات الأسرار المختلفة بالفلسفات والعقائد اليونانية. وبعد ذلك، ظهرت المرحلة الرومانية التي أسقطت الحدود القومية وشجعت التبادل بين الشعوب في الشرق والغرب.(13/82)
نبعت الغنوصية من هذه التشكيلة الفريدة، فضمت بقايا العبادات والديانات الوثنية القديمة وأديان الأسرار، ووضعتها في إطار واحد، وفرضت عليها مقولات الفكر اليوناني الفلسفي ومصطلحه (ومن هنا نجد أن الفكر الغنوصي يتسم بأنه تفكير أسطوري بدائي مُختلط بفكر فلسفي مجرد) . ومن أهم جذور الغنوصية عبادة بابل التي طرحت فكرة السماوات المختلفة التي يتحكم في كل واحدة منها كوكب، كما طرحت فكرة أن العالم مكوَّن من دوائر مركزها الأرض. ومن مصادر الغنوصية الأخرى، العبادات الفارسية بثنويتها الكاملة المتمثلة في الصراع الدائر بين أورمازد إله الخير والنور، وأهريمان إله الشر والظلام. كما دخلت بعض المفاهيم من العبادات المصرية القديمة، مثل تأليه الإنسان والعنصر الجنسي في عملية الخلق. وامتزج بكل هذا عناصر من الفكر الإغريقي الذي كان ينطوي على الإيمان بأن ثمة حكمة خفية في الأساطير الشرقية. وقد تبنَّى بعض الفلاسفة اليونانيين (الرواقيون مثلاً) أفكاراً من العبادات الشرقية، كما أن عبادات الأسرار (مثل عبادة إيزيس) وجدت طريقها إلى اليونان. وقد قامت الأفلاطونية المحدَثة بالتفرقة وبحدة بين الإله الواحد المتسامي وبين الإله الصانع المادي (ديمي إيرج Demiurge) ، وجعلت معرفة الإله الواحد معرفة باطنية غنوصية. ومن أهم مصادر الغنوصية التراث الديني اليهودي (انظر: «الغنوصية واليهودية» ) .
ويذهب بعض دارسي الغنوصية إلى أن تعددية المصادر وانعدام التجانس هو سمة أساسية فيها، فهي قادرة على استيعاب أي عنصر في الديانات الأخرى إن كان يدعم وجهة نظرها العدمية الشاملة التي تهدم كل الحدود ولا تفرق بين الأنساق التاريخية والدينية والفلسفية المختلفة. ورغم تنوع المنظومات الغنوصية، إلا أن ثمة بنية واحدة كامنة تبرر الحديث عن منظومة غنوصية معرفية وأخلاقية واحدة.(13/83)
وتتسم الغنوصية، مثل كثير من الحركات الباطنية والحلولية، بأنها سريعة الانقسام وذلك بسبب مركزية الزعيم أو القائد فيها، إذ عادةً ما يتأله ويتحول إلى لوجوس أو مطلق أو تجسُّد للإله في الأرض تدور حوله الجماعة. ولأن المطلق لا يمكن أن يتعايش مع مطلق آخر، لذا يحدث الانقسام.
ومن أهم الشخصيات الغنوصية شمعون ماجوس، أي سيمون الساحر (عاش في القرن الأول الميلادي) ، الذي يُشار إليه دائماً بأنه أول الغنوصيين. كان من السامريين، وعاش في زمن الحشمونيين. وقد عثر سيمون على عاهرة تسمَّى هَيّلانه في إحدى الحانات، فأعلن أنها صوفيا التي جاءت لإنقاذ العالم وتزوجها وأعلن نفسه المخلّص وآمن بمقدرة السحر على التحكم في العالم. ويبدو أن أتباعه كانوا يقومون بطقوس ذات طابع جنسي، ترخيصي (تأليه الكون) . ثم جاء بعده ساتورنيوس من أنطاكية الذي أعاد تفسير قصة المسيح بحيث أعطاها مضموناً رهبانياً ينكر الجنس تماماً (إنكار الكون) .
أما أعظم الغنوصيين فكان فالنتينوس، ورغم اسمه اللاتينيّ إلا أنه كان من أصل يوناني وُلد في دلتا مصر عام 100 ميلادية وتلقى تعليمه في الإسكندرية. ولم ينفصل هو وأتباعه عن الكنيسة في الإسكندرية، بل أسسوا أكاديمية للبحث الحر. وقد تبع هذه الأكاديمية شبكة من الجماعات المحلية داخل إطار المؤسسة الدينية، وكان فالنتينوس مشهوراً ببلاغته وعبقريته. وقد رأى فالنتينوس في المنام ـ حسب ما قال ـ رؤيا مأساوية، إذ رأى الجزء الذي يصدر عن الكل، هذا الجزء هو ما يشكل أساس الوجود ويُسمَّى «الأعماق» ، كما رأى زوجته التي تُسمَّى «الرحمة» أو «السكون» . ومن خلال زواجهما يولد المسيح أو اللوجوس الذي تعتمد عليه كل الأيونات. ومن خلال المسيح، أدرك فالنتينوس الكل (بليروما) وذوبان الذات في الكل.(13/84)
وكان هناك أيضاً مرقيون، وهو من مُلاَّك السفن الأثرياء من مقاطعة بونتوس على البحر الأسود. لم يفهم مرقيون سوى فكرة واحدة هي أن الإله، أو المسيح، لم يكن يهوه إله العبرانيين، فهذا هو الإله الصانع. وقد كان مرقيون يقتبس دائماً خطاب بطرس إلى أهل غلاطيا ويبيِّن الفرق بين قانون العهد القديم وقانون العهد الجديد. فمسألة حب الإله غير المشروط للإنسان، التي وردت في إنجيل بطرس، مسألة اكتسحت مرقيون تماماً، فأسَّس كنيسة (مسيحية) منافسة للكنيسة القائمة حينذاك. ومن أهم المفكرين الغنوصيين باسيليديس الذي كان قائد مدرسة نشيطاً في الإسكندرية في زمن الإمبراطور هادريان (في بداية القرن الثاني الميلادي) ويبدو أنه كان يهودياً متأغرقاً رفض فكرة الإله الشخصي وتبنَّى فكرة الإله الخفي وذهب إلى أن المسيح أصبح روحانياً عند تعميده في نهر الأردن (لا عند ميلاده) . (وقد ظل باسيليديس عضواً في الكنيسة ولم يُطرَد منها قط، وهذا مما يبين غموض الموقف المسيحي من الغنوصية) .
وأهم دعاة الغنوصية ماني صاحب المذهب المانوي الذي وُلد في فارس (216 ـ 277) ونشأ في مدينة مسيحية يهودية، وتتسم منظومته بالثنائية الحادة، ربما بسبب أصلها الفارسي. وقد كان القديس أوغسطين (354 ـ 430) ، في بداية حياته، من أتباع ماني، وكتب بعض مؤلفاته أثناء هذه المرحلة. وأهم الوثائق الغنوصية هي نصوص نجع حمادي حيث كانت مصر مركزاً للتفكير الغنوصي. وللغنوصيين كتب مقدَّسة، من بينها: أبوكريفون جون (أي كتاب جون الخفي) ، وإنجيل توماس (الذي عُثر عليه في مصر) ، وإنجيل فيليب، وإنجيل مريم المجدلية.(13/85)
وبعد القضاء على الهرطقة الغنوصية على يد الكنيسة، وبعد موت قيادتها، استمرت الغنوصية على هيئة حركات دينية خارج الديانات التوحيدية وأحياناً داخلها. ويمكن القول بأن منظومة عبد الله بن سبأ هي منظومة غنوصية. ويرى المؤرخون أن التصوف الإسلامي الحلولي المتطرف ذو طابع غنوصي، كما يُصنَّف بعض غلاة الشيعة ضمن الغنوصيين، ويُصنَّف العلويون (النصيريون) باعتبارهم جماعة إسلامية ذات توجُّه غنوصي. ويمكن تصنيف عقيدة الدروز والبهائية ضمن أشكال الغنوص. ولا تزال هناك فرقة دينية في العراق وإيران تُسمَّى المندائيين وهي فرقة غنوصية يبلغ عدد أفرادها خمسة عشر ألفاً، ( «مندائي» هي الكلمة الآرامية لـ «غنوص» فالمندائي هو العارف وهي من كلمة «منداء» أو «منداع» بمعنى «معرفة» ) وتتضمن عقيدتهم التطهر في المياه الجارية وشعائر جنائزية مركبة. فحينما يموت المندائي، يقوم الكاهن بالشعائر اللازمة لإعادة الروح لمسكنها الإلهي حيث ستتلقى جسداً روحياً جديداً، وبهذه الطريقة يتوحد الميت مرة أخرى مع آدم السري (الإنسان الأزلي) ، أو المجد، جسد الإله المقدَّس.(13/86)
وقد ظهرت جماعات غنوصية داخل المسيحية، مثل جماعات الكاثاري التي ازدهرت بين القرنين الثالث والحادي عشر في أرمينيا وآسيا الصغرى وشبه جزيرة البلقان ومنها انتشرت إلى غرب أوربا وخصوصاً جنوب فرنسا (الهرطقة الألبيجينية وغيرها) . ويُقال إن فرسان الهيكل كانوا أيضاً جماعة غنوصية، وأن المنشدين الذين يُطلَق عليهم لفظ «تروبادور» ، الذين تغنوا (تأثراً بالعرب) بالحب العذري الذي تحوَّل إلى عبادة العذراء، قد تبنوا رؤية غنوصية للواقع. أما في شرق أوربا (في بلغاريا وشبه جزيرة البلقان ويوغسلافيا) ، فقد ظهرت جماعة البوجوميل (أصدقاء الإله) . ويُقال إن مسلمي البوسنة والهرسك كانوا من أصول غنوصية، فكأن الغنوصية هنا كانت الأرضية الفلسفية التي رفضوا على أساسها المسيحية وأصبحوا هامشيين بالنسبة لها، ولذا كان من السهل دخولهم في الإسلام مع وصول العثمانيين.
وقد تغلغلت الغنوصية في اليهودية وهيمنت عليها تماماً في القرن الرابع عشر بظهور القبَّالاه، وخصوصاً اللوريانية، وهي منظومة غنوصية متطرفة (انظر: «الغنوصية والقبَّالاه» ) .(13/87)
ومن منظور هذه الموسوعة، فإن من أهم الجماعات الغنوصية جماعات المنشقين (بالروسية: راسكول) الذين تركوا الكنيسة الروسية الأرثوذكسية وكان معظمهم من عناصر فلاحية روسية. وكان الريف الروسي وثنياً إلى حدٍّ كبير (حيث دخلته المسيحية في وقت متأخر نوعاً) . ولذا، ظهرت جماعات منشقة عديدة، كانت غنوصية متطرفة رغم استخدامها المصطلحات المسيحية. كان من بينهم جماعة الخليستي، أي من يضربون أنفسهم بالسياط (كان منهم راسبوتين) ، والجريشنيكي الذين كانوا يؤمنون بالخلاص من خلال ارتكاب الرذائل والموبقات (تأليه الكون) ، والبيزجلوفنسكي الذين كانوا يلزمون الصمت لمدد طويلة. ومن أهم هذه الجماعات الدوخوبور (ومنهم مدام بلافاتسكي التي كان يتردد عليها كثير من رواد حركة الحداثة في الفن والأدب) وهي مؤسسة الجماعة الثيوصوفية في لندن (ماتت 1891) . وكان هناك السكوبتسي، المخصيون، الذين كانوا يعبِّرون عن إيمانهم بالخالق بخصي أنفسهم (إنكار الكون) . وقد تأثرت الحسيدية بهذه الجماعات الغنوصية، وخصوصاً الخليستي.
وقد تمتعت الغنوصية بحركة بعث جديدة حين بدأ الإنسان الغربي مشروعه التحديثي، ونحن نذهب إلى أن ثمة علاقة قوية بين الغنوصية والمشروع التحديثي التنويري العلماني الغربي (انظر: «الغنوصية والتحديث» ) .
الأصول اليهودية للغنوصية
Jewish Origins of Gnosticism(13/88)
تتسم الغنوصية بتعدد المصادر، وتعدُّد المكونات الثقافية وانعدام التجانس. ومن أهم المكونات، ولعله أهمها طراً، التراث الديني اليهودي. ونحن نذهب إلى أن هناك بُعداً حلولياً كمونياً قوياً في اليهودية جعل لها قابلية عالية لإفراز الفكر الغنوصي. ويجب أن نتذكر أن اليهودية التي نتحدث عنها، وهي يهودية ما قبل الهيكل، لم تكن مفاهيمها أو عقائدها الدينية قد تبلورت بعد، بل كانت هذه المفاهيم تحتوي على أفكار ثنوية وتعددية كثيرة. وقد ساهم انتشار اليهود على هيئة جماعات مشتتة داخل تشكيلات حضارية شتَّى، في مدن البحر الأبيض المتوسط وبابل، إلى زيادة عدم تجانس اليهودية بل إلى تنافرها وتحوُّلها إلى عقائد عدة أو ديانة مُهجَّنة. ويظهر هذا في كثير من العقائد اليهودية الثنوية (مثل: عزازيل، وميتاترون، وقوة الملائكة والشياطين، وحدود الإله، والنزعة العدمية في سفر الجامعة، وإنكار البعث في كثير من كتب العهد القديم) . وقد عُثر على أحجار في صحراء النقب عليها نقوش تتحدث عن عشيراه زوجة إله يسرائيل، وكان يهود إلفنتاين يعبدون يهوه وزوجته عنات.(13/89)
وثمة نصوص عديدة في العهد القديم يمكن تفسيرها تفسيراً غنوصياً بكل بساطة. وقد كان الغنوصيون اليهود يشيرون إلى الإصحاح الأول في سفر التكوين (وخصوصاً الفقرة رقم 27 "فخلق الإله الإنسان على صورته، على صورة الإله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم") ، وإلى حزقيال 1/26 ("وعلى شبْه العرش شبْهٌ كمنظر إنسان عليه من فوق") ، كما أن كتب الرؤى (أبوكاليبس) اليهودية دعَّمت الاتجاهات الغنوصية بتقسيمها الزمان وبكل حدة إلى زمان الفساد الحاضر وزمان الخير المستقبل، وبرؤيتها للتاريخ باعتباره ساحة صراع شرس بين قوى الخير وقوى الشر. كما أن النزعة الحلولية الكمونية القوية في هذه الكتب مهَّدت الجو لظهور الغنوصية. فعلى سبيل المثال، جاء في كتاب حكمة سليمان أن روح الإله (النيوما) توجد في كل الأشياء. وقد انتشرت كتب الرؤى في نهايات الألف الأخير قبل الميلاد، وكثير من عناصرها دخل الفكر الغنوصي.
ويذهب بعض الدارسين إلى وجود غنوصية يهودية قديمة قبل ظهور الغنوصية في العصر المسيحي (واستمر ذلك حتى العصر الحديث بعد أن دخلت التيار الغنوصي الأشمل) . وفي كتابات فيلون السكندري ردود على بعض المهرطقين في عصره يُفهَم منها وجود اتجاهات غنوصية. وثمة نظرية تذهب إلى أن جماعات البحر الميت أو جماعات قمران (مثل الأسينيين) هي جماعات غنوصية مترهبنة.(13/90)
وتُعَدُّ كتابات فيلون نفسها من مصادر الفكر الغنوصي إذ حاول المزج بين الفكر الديني اليهودي والفكر الإغريقي. ويبدو أن فيلون لم يكن وحيداً في محاولته هذه، فقد نشأ تراث كامل بين يهود الإسكندرية يهدف إلى التوفيق بين الحضارتين. وهذا يظهر في الترجمة السبعينية للعهد القديم التي كانت تترجم المفاهيم اليهودية القومية بمفاهيم يونانية عالمية (وكانت كلمة «نيفش» العبرية، أي «نفس» ، تُترجَم إلى كلمة «نيوما» ، ومعناها «روح» ، التي استُخدمت في الكتابات الغنوصية فيما بعد) . ومن الأمثلة الأخرى، مسرحية حزقيال تراجيكوس، وهو الكاتب المسرحي اليهودي السكندري الذي حاول هو الآخر المزاوجة بين التراثين اليهودي واليوناني وانتهى إلى تَصوُّر غنوصي. ففي مسرحيته المسماة «الخروج» ، يرى موسى الإله في رؤياه جالساً على عرشه وعن يمينه رجل. وحينما يدخل موسى، يدعوه الإله ليجلس عن يساره. وقد كان هذا الرجل هو الآدم قدمون أو الأنثروبوس أو الإنسان الأول.
وقد انتشرت الحركة الغنوصية في المراكز التجارية الكوزموبوليتانية، مثل أنطاكية والإسكندرية ومدن آسيا الصغرى، وهي مدن كانت توجد فيها عبادات هجينة مختلطة وجماعات يهودية تتفاوت في حجمها. وداخل هذه المدن، اختلطت الجماهير اليهودية بالنخبة الإغريقية الخالصة أو النخبة المتأغرقة ذات الأصول الشرقية، واختلط الشرق بالغرب.
الغنوصية والصهيونية
Gnosticism and Zionism(13/91)
الصهيونية، في تَصوُّرنا، تعبير علماني شامل عن المنظومة الغنوصية (الحلولية الكمونية) ، أي أنها غنوصية جديدة. ولنحاول أن نرى نقط التشابه بين الغنوصية والصهيونية، ولنبدأ بالخلفية الاجتماعية والثقافية لكليهما. لقد انتشرت الصهيونية بين جماعة من مثقفي شرق أوربا الذين أدَّى تعثُّر التحديث في بلادهم إلى إغلاق أبواب الحراك الاجتماعي أمامهم، وقد توَّقف حراكهم لأنهم يهود (أو هكذا توهموا إذ أن تعثُّر التحديث في الواقع قد أثَّر في الجميع، الأغلبية وكل الأقليات الأخرى) . وكان هؤلاء المثقفون قد اندمجوا إلى حدٍّ كبير في حضارات بلادهم واستوعبوا الحضارة الغربية الحديثة وآمنوا بمنطلقاتها، أي أن هويتهم اليهودية كانت قد ضَعُفت ولكنها لم تختف تماماً، ولذا نجدهم يتنقلون بين الثقافة الروسية واليديشية والعبرية دون أن ينتموا إلى أي منها مطلقاً. ولا يختلف وضعهم هذا كثيراً عن وضع اليهود في المدن اليونانية في حوض البحر الأبيض المتوسط في القرون الأولى بعد الميلاد. ولذا، فإن الحل الصهيوني الحديث، شأنه شأن الحل الغنوصي القديم، يحوي قدراً من الديباجات اليهودية والأفكار الغربية (ومع هذا تظل الرؤية الحلولية الكمونية الواحدية المادية هي العنصر الغالب) .(13/92)
والصهيونية، مثلها مثل الغنوصية، ترى أن وجود اليهود في المنفى (بل يهودية المنفى نفسها) يشكلان عبئاً ثقيلاً يحمله اليهودي ويعاني بسببه. كما ترى أن هذه المشكلة لا يمكن حلُّها إلا من خلال الغنوص: وهو حل واحدي جذري بسيط للأمور، لا إبهام فيه ولا جدل، يفسر كل شيء وينطلق من رفض مبدئي للحدود والثنائيات التي تسم حياة الجماعات اليهودية في المنفى. وقد حل الغنوصيون المشكلة بأن صنفوا الإله الصانع على أنه إله العهد القديم، وأنه هو الذي تسبَّب في نفي اليهود من أصلهم النوراني وقذف بهم في هذه الدنيا وأرسل لهم الشريعة ليثقل كاهلهم بها. وقد انطلق الغنوصيون الصهاينة أيضاً من رفض جذري لحالة النفي، وقد أدَّى ذلك إلى رفض تاريخ اليهود في المنفى، أي التجارب التاريخية المتعينة للجماعات اليهودية في كل أنحاء الأرض. وهم يرون هذا التاريخ على أنه تاريخ معاناة ومآس ومذابح، إلى أن وصل هرتزل مكتشف الصيغة الغنوصية التي تتلخص في إنهاء حالة المنفى، وتطبيع الشخصية اليهودية (الجسمانية أو النفسانية) ، أي تغييرها تماماً وربما تصفيتها حتى يظهر العبراني الجديد أو اليهودي الخالص (النوراني) الذي لا يعاني من أي ازدواج في الولاء أو انشطار في الشخصية.(13/93)
والحل الغنوصي (الحلولي الكموني) لمشكلة اليهود هو أن يعود اليهودي إلى أصله بعد أن يخدع حكام السماوات والأرض (الأركون) ليلتحم بالنور (البليروما) وبالإله ويصبح الخالق والمخلوق كياناً واحداً. وكذلك الحل الصهيوني، فهو حلٌّ عضويّ واحدي مبنيّ على العودة إلى الأصل، فاليهودي عضو في الشعب العضوي المنبوذ المنفي، فهو كالإنسان النوراني في العالم المعادي له، عليه أن يجد الحل الجذري والصيغة الملائمة والغنوص (وهي الأيديولوجيا الصهيونية والقومية اليهودية) . وهو سيحمل عصاه ويُنهي حالة المنفى تماماً. ولكن بدلاً من خداع حكام الأرض (من الأغيار) فهو سيتحالف مع بعضهم (الإمبريالية العالمية) وسيطرد البعض الآخر (العرب) ويعود إلى صهيون ليصبح اليهود كلاًّ عضوياً واحداً (نورانياً) ، فيعيش شعب يسرائيل في أرض يسرائيل مع إله يسرائيل في حالة البليروما الكاملة التي هي بداية التاريخ اليهودي أو استئنافه. إن حل المسألة اليهودية يتم إذن عن طريق إلغائها، بل عن طريق إلغاء الجماعات اليهودية وتصفيتها فيما يُسمَّى «نفي الدياسبورا» .(13/94)
وقد بيَّن أحد الباحثين أن ثمة توتراً أساسياً في اليهودية بين فكرة إله العالمين وفكرة إله الشعب المختار، وأن الغنوصية التقليدية صفَّت هذه الثنائية لحساب الجانب العالمي إذ رفضت إله العهد القديم القومي (وهذا أيضاً ما أنجزته اليهودية الإصلاحية) . هذا على عكس القبَّالاه اللوريانية التي أكدت العنصر القومي حتى أصبحت ما سماه هذا الباحث «غنوصاً مقلوباً» بحيث أصبح إله يسرائيل هو المركز بدلاً من إله العالمين، الأمر الذي أدَّى إلى تصاعُد الحمى المشيحانية القومية والرغبة العارمة في العودة. ولعل أول انفجار غنوصي مقلوب هو حركة شبتاي تسفي المشيحانية الذي أكد أن إله يسرائيل أهم من إله العالمين. والصهيونية بجعلها الدولة مركز الوجدان اليهودي، الديني واللاديني، قد بلورت الغنوص المقلوب تماماً إذ جعلت الشعب المطلق وجعلت فلسطين الرقعة التي تتحقق فيها حالة البليروما. وبإمكان اليهودي الآن أن يقطع تذكرة طائرة ويلتحم بالبليروما الصهيونية مستفيداً من قانون العودة، وهي الصيغة السحرية التي تُحوِّله إلى إسرائيلي نوراني عبراني فور وصوله. وهذا إطار يجعل المسألة في غاية البساطة. لكن إنقاذ المستوطنين (البقية الصالحة) فيه إنقاذ للشعب اليهودي، وإنقاذ الشعب اليهودي فيه إنقاذ العالم بأسره، فإسرائيل (الروحانية) هي نور للأمم (الجسمانية والنفسانية) ، ولذا فالصهاينة بإنقاذهم أنفسهم هم المخلِّص المخلَّص.
ولعل الجانب الغنوصي في الصهيونية لم يكن واضحاً بقدر كاف ربما بسبب علمانية الديباجات وحداثتها واستنارتها. ولكن هذا العنصر الغنوصي واضح تماماً في كتابات الحاخام إسحق كوك وفي فكر جماعة جوش إيمونيم التي أفرزت ما نسميه «الصهيونية العضوية الحلولية» .(13/95)
ومع هذا يمكن القول بأن الصهيونية بحديثها عن أنها ستُصفِّي الدياسبورا وأنها ستجعل اليهود شعباً مثل كل الشعوب وبتأكيدها أن الدولة اليهودية ستصبح دولة مثل كل الدول، هي غنوصية من النوع «العالمي» لأنها تهدف إلى تصفية الحالة اليهودية تماماً.
الغنوصية والقبَّالاه
Gnosticism and Kabbalah
القبَّالاه منظومة غنوصية سيطرت على اليهودية الحاخامية ابتداءً من القرن الرابع عشر. ومع هذا لا يمكن الحديث عن تعارض كامل بين اليهودية الحاخامية والغنوصية، وكما بيَّنا في موضع آخر (انظر: «الأصول اليهودية للغنوصية» ) ، ثمة بُعْد حلولي قوي في اليهودية، وثمة غنوصية يهودية قديمة يُقال إن تاريخها يعود إلى ما قبل غنوصية القرون الميلادية الأولى. وتوجد عناصر غنوصية في العهد القديم وكتب الرؤى (أبوكاليبس) وكتابات فيلون السكندري.
وقد أخذت المؤسسة الحاخامية موقفاً معادياً من الغنوصية، شأنها في هذا شأن كل الديانات التوحيدية. وجاء في التلمود: "إن وجَّه المرء عقله إلى هذه الأمور الأربعة كان خيراً له لو لم تلده أمه: ما هو أعلى، وما هو أسفل، وما كان قبل الخلق، وما سيحدث في نهاية الدنيا"، أي أن التلمود في هذا النص ينهى عن التفكير الغنوصي والقبَّالي والمشيحاني والأخروي. ولكن مثل هذه الفقرة تشكل في رأينا مجرد طبقة جيولوجية في التركيب الجيولوجي اليهودي ضمن طبقات أخرى أهمها الطبقة الحلولية.(13/96)
وقد وردت إشارات في التلمود إلى أربع شخصيات مهمة في المؤسسة الحاخامية «دخلوا الجنة» (التعبير المستخدم للإشارة لمن يتبنَّى فكراً غنوصياً) . وتذكر هذه الكتابات الفقهية ابن عزاي وابن زوما واليشا بن أبوياه وبن عقيبا، وقد هلكوا جميعهم إلا آخرهم الذي تمكَّن من العودة وسجل ما رأى، أي أنه عاد بالعرفان، وقد رأي فيما رأى عرشين إلهيين: أحدهما للإله والآخر للإنسان، وتُعَدُّ هذه أول إشارة للآدم قدمون (الإنسان الأول) التي أصبحت صورة أساسية في النصوص القبَّالية. والحاخام ابن عقيبا ظل شخصية مركزية في التراث الحاخامي رغم غنوصيته، الأمر الذي يعني تَقبُّل هذا التراث للفكر الغنوصي. وفي فترة الفقهاء (جاؤنيم) ، ظهر النازلون بالمركبة (بالعبرية: يوردي همركفاه) الذين حاولوا الاتحاد بالإله. وثمة إشارات في سفر هميخالوت الذي نشره أدولف جلنيك (أشهر واعظ يهودي في فيينا في أواخرالقرن التاسع عشر) ذات طابع غنوصي واضح. وقد تبلورت كل هذه الإرهاصات في القبَّالاه، وخصوصاً القبَّالاه اللوريانية التي هي من أهم الأنساق الغنوصية وأكثرها حدة وتفجراً. ومن القبَّالاه اللوريانية انتشرت الغنوصية بين المفكرين اليهود المحدثين.(13/97)
وقد ظهرت الغنوصية في القرنين الأول والثاني الميلاديين، بينما ظهرت القبَّالاه بعد ذلك بزمن طويل. ولا يملك الدارس إلا أن يُلاحظ التماثل البنيوي بين المنظومة الغنوصية والقبَّالاه، وأن البنية الغنوصية الأسطورية العامة تتحقق بشكل مذهل في القبَّالاه، وخصوصاً اللوريانية. وكل من الغنوصية والقبَّالاه نسق حلولي واحدي عضوي مغلق، يلغي المسافة بين الإله والإنسان والطبيعة وبين الكل والجزء. وكل هذا يطرح قضية التأثير والتأثر. ومما لا شك فيه أن ثمة علاقة تأثير وتأثر بين الكتابات الغنوصية والقبَّالاه. فاليهودية تُعَد أهم روافد الغنوصية، كما أن كثيراً من أعضاء الحركات الغنوصية كانوا يهوداً. ولكننا، مع هذا، نفضل استخدام نموذج تفسيري توليدي لتفسير تشابه المنظومة الغنوصية والقبَّالاه ومن ثم يصبح عنصر التأثير والتأثر عنصراً واحداً ضمن عناصر عديدة، وهو ليس أهم العناصر.
وفي مجال تفسير التشابه من منظور توليدي يمكننا أن نقول إنهما يعودان إلى رغبة الإنسان الجنينية نفسها في الانسحاب من العالم إلى سكون الرحم وإلى الالتصاق بثدي الأم، وهي رغبة كونية كامنة في عقل الإنسان، وإغراء دائم للإنسان بأن يرفض النضج والحدود والعالم والتدافع ليظل قابعاً في حالة البليروما الجنينية الرحمية المحيطية السائلة. ويمكننا الآن أن ندرج ما نتصوره نقط التماثل بين المنظومة الغنوصية والقبَّالاه:
1 ـ الغنوصية والقبَّالاه منظومتان واحديتان تتداخل فيهما الأسماء والشخصيات والمفاهيم. فالآدم قدمون هو العالم وهو التجليات العشرة النورانية (سفيروت) ومن ثم فهو الإله وهو أيضاً الإنسان. والشخيناه هي التعبير الأنثوي عن الإله، ولكنها في واقع الأمر كنيست يسرائيل، أي الشعب اليهودي.
2 ـ توجد نقط تشابه كبيرة بين الإله الخفي في المنظومة الغنوصية والإين سوف (الجوهر الإلهي اللانهائي والذي لا نظير له) في القبَّالاه:(13/98)
أ) الإين سوف إله غير شخصي، علاقته بالعالم أنطولوجية، تماماً مثل علاقة الإله الخفي بالعالم في المنظومة الغنوصية، فهو إله لا يكترث بالعالم، ولكنه في الوقت نفسه سبب الوجود.
ب) الإين سوف نشيط دائماً ومفكر دائماً، ومن خلال عملية تفكيره في ذاته يفيض العالم عنه، تماماً كما يحدث في المنظومة الغنوصية.
جـ) تأخذ عملية الفيض شكل درجات تُسمَّى الأيونات في المنظومة الغنوصية والسفيروت أو التجليات النورانية العشرة في القبَّالاه.
د) يبلغ عدد كل من الأيونات والتجليات عشرة (وإن كان عدد الأيونات في بعض المنظومات الغنوصية يبلغ أربعة عشر بل بضع مئات) .
هـ) تحمل كل من التجليات النورانية والأيونات أسماء مجردة للغاية، عادة لعمليات عقلية مثل الفكر والحكمة والجلال.
و) جماع التجليات النورانية يأخذ شكل إنسان، تماماً مثل الأيونات، هذا الإنسان هو العالم الأكبر (الماكروكوزم) والذي يشاكل العالم الأصغر، أي الإنسان الفرد (الميكروكوزم) . وهذا التماثل الكامل بل التطابق بين العالمين تعبير عن البنية والعلاقات الهندسية وعن التماسك العضوي حيث يصبح كل شيء هو الشيء الآخر.
ز) فاضت كل من التجليات والأيونات من الخالق حتى يتم سد الهوة بين الإله الخفي والعالم (من أجل تحقيق عملية الخلاص) . وعملية الفيض هذه لا تعني انفصال التجليات أو الأيونات عن الخالق (فهذا يخلق ثغرة وهو أمر مستحيل في المنظومات الحلولية الواحدية) وإنما هي عملية تمايز وحسب لجوانب مختلفة للمطلق. ولذا، بعد عملية الفيض والتمايز، تشكل الأيونات البليروما وتشكل التجليات هرم الملكوت الملكي.
3 ـ يمكننا هنا أن نتناول قضية مفردات الحلولية (الجنس - الجنين - الجسد ... إلخ) التي تُستخدَم في كلٍّ من الغنوصية والقبَّالاه:
أ) يوجد دائماً أيون أنثوي أساسي في المنظومات الغنوصية هي صوفيا أما في القبَّالاه فهي الشخيناه.(13/99)
ب) تحمل كل من الأيونات والتجليات أحياناً أسماء جنسية وطبيعية مباشرة فتُسمَّى بأسماء أعضاء الجسم الإنساني (وخصوصاً الأعضاء التناسلية) .
جـ) الأيونات مثل التجليات ثمرة الجماع الجنسي بين الإله الأب والأم وهو تزاوج يعني التلاحق الجسدي الكامل وسد الثغرات.
د) تأخذ عملية الخلق شكل فيض وسلسلة لا تنقطع، وهي صورة مجازية في جوهرها جنسية.
هـ) يأخذ الإله أحياناً في كل من القبَّالاه وفي المنظومة الغنوصية شكل إله خنثى (ذكر وأنثى) وتأخذ عملية الخلق شكل انفصال بين العنصرين.
و) تأخذ عملية الخلاص شكل اقتراب تدريجي من الخالق إلى أن يتحقق التوحد الكامل، وهو توحُّد جنسي في بعض المنظومات. وتُستخدَم كلمة «يحود» لوصف هذا التوحد، وهي كلمة تعني «التوحد مع الخالق» وتعني أيضاً «الجماع الجنسي» .
ز) يمكن أن نتخيل العالم الغنوصي على هيئة مخروط: مجموعة من الدوائر المتداخلة التي تَدق كلما تحركنا من القاعدة إلى القمة، وهي دوائر متداخلة ذات مركز واحد تختلف في الحجم ولا تختلف في البنية. وعضو التذكير هو قمة المخروط أما قاعدته فهي عضو التأنيث، فهو إذن الإله الذكر والأنثى. وهذا أيضاً هو شكل العالم في المفاهيم اليهودية وفي القبَّالاه، فالإين سوف هو رأس المخروط المدبب وهو عضو التذكير، والشخيناه قاعدته، وهي امتداد الإله في الدنيا، والشعب اليهودي بنت صهيون وهي أيضاً عضو التأنيث الذي ستفيض فيه الرحمة الإلهية لتوزع على العالمين.
4 ـ تحاول كل من المنظومة الغنوصية والقبَّالاه حل مشكلة الشر في العالم عن طريق قصص أسطورية جوهرها إسقاط البُعد الأخلاقي للقضية.(13/100)
أ) فالشر في المنظومة الغنوصية ناجم عن خلل حدث في المنظومة نتيجة حب صوفيا العارم والمفرط للإله (ويأخذ شكل عشق ذاتها وصورتها، فهي من صلب الإله) الأمر الذي يؤدي إلى سقوطها أو سقوط بعض الشرارات النورانية الإلهية واختلاطها بقوى الظلام والمادة. وتُسمَّى هذه الحادثة في المنظومة القبَّالية حادثة تهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) وهي ناجمة عن حب الشخيناه العارم والمتطرف للإين سوف. وفي رواية أخرى، ينجم الخلل وتبعثر الشرارات عن أن النور الإلهي يثقل الأوعية فيهشمها، ويُقال إن ما يسبب حادثة التهشم والتبعثر هذه هو تطرُّف تجلِّي الحكمة على حساب تجلِّي العاطفة.
ب) ينجم الشر في إحدى المنظومات الغنوصية عن خديعة الإله الصانع (الأرضي) إذ يسرق الشرارة الإلهية ويحبسها في المادة أو يخلق إنساناً على هيئة الأنثروبوس ويضع فيه الشرارة. وفي المنظومة القبَّالية يُقال إن الشخيناه تلد الشر دون أن تدري، إذ يتقمص أحد الشياطين شكل الإين سوف ويعاشرها جنسياً فتلد الأغيار والشياطين الذين يحوِّلون العالم إلى مكان معاد لليهود.
جـ) وتطرح المنظومة الغنوصية فكرة صوفيا المزدوجة: واحدة سماوية والأخرى أرضية فتحارب صوفيا ضد الشر (وتلحق بعد ذلك بالسماوية) ، وكذا في المنظومة القبَّالية توجد شخيناه سماوية وأخرى أرضية رهيبة ستنتقم من أعداء جماعة يسرائيل ثم تلتحق بقرينتها السماوية (وهذا تعبير آخر عن الثنائية الصلبة الوهمية) .
5 ـ ثمة تشابه عميق بين مفهوم الخلاص والخير والشر والبعث في كل من المنظومة الغنوصية والقبَّالاه.(13/101)
أ) العالم فاسد والزمان رديء في المنظومة الغنوصية ولا جدوى من فعل الخير أو محاولة التسامي، والخلاص لا علاقة له بالأخلاق أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لهذا، لا يوجد بعث فردي ولا حساب وإنما التحام للروح في الكل الإلهي وذوبان فيه. وعالم الأغيار في القبَّالاه عالم فاسد والتاريخ الإنساني رديء، وتبهت فكرة البعث في القبَّالاه وتحل محلها فكرة تناسخ الأرواح التي تنكر المسئولية الخلقية والثواب والعقاب (وتشبه فكرة العود الأزلي عند نيتشه) . والعودة إلى أرض الميعاد فكرة قومية جماعية تلغي أيضاً المسئولية الخلقية والخلود الفردي للروح.
ب) لفهم عملية الخلاص وحدودها، لابد أن ندرك الهرمية الصارمة التي يتسم بها كل من العالم الغنوصي وعالم القبَّالاه. فالبشر الروحانيون (في المنظومة الغنوصية) يوجدون في قمة الهرم والنفسانيون في وسطه والجسمانيون في قاعدته، والاختلافات بينهم ليست اختلافات أخلاقية أو حتى معرفية وإنما اختلافات أنطولوجية. وفكرة الاختلاف الأنطولوجي بين اليهود والأغيار فكرة أساسية في القبَّالاه، فالأغيار مثل الجسمانيين والنفسانيين ليسوا بشراً، ومخطَّط الخلاص لا ينصرف إليهم. وأكدت القبَّالاه المفهوم النخبوي داخل اليهودية بالتركيز على مفهوم البقية الصالحة وهم نخبة الروحانيين أو نخبة النخبة، خير من في الشعب اليهودي.(13/102)
جـ) في المنظومة الغنوصية، يعيش الإنسان (الروحاني) منفياً في العالم المادي، فقد سقط فيه عن طريق الخطأ أو الخلل الذي حدث. ووجوده في هذا العالم هو مصدر تعاسته، وهو يحلم دائماً بالعودة إلى أصله الرباني النوراني ليلتحم به مرة أخرى ولن تتحق سعادته إلا بهذه العودة حيث يُترَك البشر النفسانيون والجسمانيون في كوكبهم الأرضي المدنَّس، فهم لا قداسة لهم مستبعدون من عملية الخلاص، وتنسحب الشرارات الإلهية تماماً من الكون بانسحاب أصحاب العرفان منه (يصبح العالم مادة محضة وقد يختفي ويذوب) . وكل هذه العناصر توجد في القبَّالاه، فسقوط الإنسان (وصوفيا) يشبه سقوط الشعب اليهودي والشخيناه. وقد كان اليهود جزءاً من الآدم قدمون والإله قبل السقوط فتبعثروا وسقطت الشرارات أو الأرواح في أجساد مادية زائلة، وحُبست الشرارات في المادة وفي عالم الأغيار المعادي. ولذا، فاليهود يعيشون حالة نفي يحلمون بالعودة إلى أصلهم الإلهي أو إلى أرض الميعاد. وحالة النفي حالة نهائية مادامت هناك دنيا ومادام هناك تاريخ، ومن ثم فلا جدوى من البحث عن السعادة والمتعة (في عالم المادة بين الأغيار) إذ ليس بإمكان اليهود (النورانيين) أن يحصلوا على السعادة إلا بالعودة إلى الأصل الإلهي في أرض صهيون والالتحام بها في نهاية التاريخ حين ينتصرون على كل شعوب الأرض من الأغيار، الذين يُستبعَدون تماماً من عملية الخلاص.
د) وخلاص الإنسان في المنظومة الغنوصية هو عودة الإنسان باعتباره شرارة إلهية إلى الواحدية الإلهية (البليروما) ، وعودة كل الشرارات هو كمال للذات الإلهية وخلاص لها، فكأن الإنسان بتخليصه نفسه يخلِّص الإله أيضاً (وهذه هي أيضاً فكرة الخلاص أو التيقون في القبَّالاه، فهي عودة الإنسان إلى بداياته النورانية وعودة الشعب اليهودي إلى أرض الميعاد والتحامه بالخالق، وهي عودة تعني أن الخالق ينهي حالة تبعثره ويعود لوحدته الأصلية) .(13/103)
هـ) تتسم الغنوصية بميل إلى رفض الشرائع المُرسَلة للبشر، فالغنوصيون نورانيون لا يخضعون لمثل هذه الشرائع، فهم جزء لا يتجزأ من الإله ولذا لا يسري عليهم ما يسري على الآخرين (الأغيار) ولهذا يقدس الغنوصيون الشخصيات الملعونة في العهد القديم والجديد مثل قابيل، وهم يعبدون الشيطان تعبيراً عن رفضهم النواميس البشرية والشرائع الإلهية. ويظهر هذا أيضاً في الحركات الشبتانية اليهودية فأتباع الحركة الفرانكية كانوا يقدسون عيسو وقابيل وكانوا يسمون الأدوميين أي الحمر نسبة إلى أدوم وهو اسم آخر لعيسو. بل إن الثعبان الذي كشف لآدم وحواء سر شجرة المعرفة هو بطل قصة الخلق الحقيقي من وجهة نظر الغنوصية، فهو رمز تحدِّي الخالق، ورفض الحدود والشريعة، ورفض الجهل الذي ضربه الإله الصانع على الإنسان، أي أنه رمز رفض الكون.(13/104)
و) ولأن الشر في العالم ليست له علاقة بالأخلاق، فإن الخلاص لا يتم من خلال التوبة والغفران وإنما من خلال البحث عن الصيغة السحرية المناسبة. والقبَّالاه ليست تمارين أخلاقية تهدف إلى كبح جماح الجسد أو إلى تهذيب نفس المؤمن وإنما تهدف إلى حل طلاسم الروح والعالم وكلمات التوراة للوصول إلى الخالق والقوة الحيوية في الكون وإلى التوراة الخفية أي الغنوص التي عن طريقها يمكن التحكم في العالم. والإصلاح (تيقون) يتم من خلال اتباع اليهود الأوامر والنواهي التي تحولت إلى شعائر مجردة تشبه التعويذات والصيغ الدقيقة، وما يهم فيها هو طريقة أدائها لا مضمونها الأخلاقي. بل إن المضمون الأخلاقي نفسه قد طُمس تماماً وحل محله مضمون ميتافيزيقي (بغير أخلاق) فهي تهدف إلى تقريب اليهود من الخالق للتعجيل بالخلاص ولتحقيق «يحود» ، وهي كلمة عبرية تعني التوحد مع الخالق (وتعني أيضاً الجماع الجنسي) . والغنوصية والقبَّالاه، في هذا، يشبهان تماماً العلم الحديث بنزعته الفاوستية للتحكم في العالم من خلال الصيغ الدقيقة، وهو يقدم ميتافيزيقا (ضرورة التحكم في العالم) دون أية أعباء أخلاقية.
ز) المخلّص في المنظومة الغنوصية شخصية عجائبية، تتجاوز قوانين الطبيعة، وهو شخصية أزلية أبدية تتجسد من خلال شخصيات تاريخية (زائلة) يأتي هو لها بالعرفان الثابت. والماشيَّح في اليهودية (والقبَّالاه) شخصية عجائبية. وتتسم اليهودية بتعدد المشحاء الدجالين باعتبار أن كل واحد منهم هو تَجسُّد زمني للإله ويحمل العرفان. ويمكن القول بأن تقاليد النبوة المفتوحة في اليهودية تعبير عن النمط نفسه، نمط الحلول والوحي المستمر عبر التاريخ. وشخصية التساديك في المنظومة الحسيدية تعبير متطرف عن هذا النمط من التجسد المستمر للماشيَّح في التاريخ.(13/105)
ح) والمخلِّص في المنظومة الغنوصية مُرسَل من الإله، ولكن عملية الخلاص هي جمع الشرارات الإلهية الكامنة في الروحانيين، ولذا فإن المخلّص، حينما يُخلّص أصحاب الغنوص، إنما يُخلِّص نفسه. وصوفيا قد تكون هي هدف الخلاص، فقد سقطت مع الشرارات الإلهية، ولكنها هي أيضاً أداته. والماشيَّح في القبَّالاه اللوريانية يأتي لينقذ الشخيناه المشتتة (الشعب اليهودي المشتت) التي هي الشرارات الإلهية فيجمعهم أي بقايا الشخيناه (صوفيا) ، ويعود بها إلى الأصل الإلهي أي يجمع المنفيين من اليهود ويعود بهم إلى صهيون. والشخيناه هي هدف الخلاص وأداته، فالشعب اليهودي (الشخيناه) هو الذي سيُجمَع في أرض الميعاد، ومن خلال خلاصه (وجمعه) يعم السلام في العالم ويأتي الخلاص (مثل عودة النيوما إلى البليروما) .ولكن الشخيناه (الشعب اليهودي) جزء من الإله/الآدم قدمون، وبالتالي فخلاصها هو خلاص الإله. ومن خلال عودة الشخيناه من المنفى والتبعثر، تعود للإله وحدته، فالمخلَّص إذن هو المخلِّص الذي يُخلِّص نفسه ويُخلِّص الآخرين، فهو المخلِّص المخلَّص.
6 ـ المنظومة الغنوصية تتسم بالواحدية، ولذا فهي تتسم أيضاً بالثنائية الصلبة الزائفة، إذ تنحل الثنائية في واحدية سائلة. والقبَّالاه أيضاً نظام ثنائي صلب في ثنائيته، فهناك النور والظلام، والخير والشر، واليمين واليسار، وهي ثنائية واهية لأن الشر غير موجود أساساً، فهو وهم. أو لأنه إن وُجد فهو جزء من الخير وصورة أخرى منه، فإن ما يظهر باعتباره شراً هو في واقع الأمر خير (وقد بعثت القبَّالاه العناصر الثنوية: الاهتمام المفرط بالملائكة والشياطين باعتبارها شريكة للإله عز وجل في الخلق، وميتاترون وليليت، وهي مفاهيم من بقايا الوثنيات الحلولية دخلت اليهودية) .(13/106)
وتتضح الثنائية في المنظومة «الأخلاقية» الغنوصية والقبَّالية، فسلوك الإنسان قد يأخذ شكل رهبنة كاملة وإنكار متطرف للعالم ورفض له، وقد يأخذ شكل انغماس في الرذيلة هو في جوهره رفض للعالم (فهو مكان شرير وزمان رديء) .
والمخلِّص في القبَّالاه هو الماشيَّح الذي ينزل في عالم الظلمات أيضاً، وقد يكون هو المخلِّص الداعر الذي يرتكب الموبقات حتى ترهق الطبيعة (مثل جيكوب فرانك) ، وهو ما يُسمَّى «الهبوط من أجل الصعود» (بالعبرية: يريداه بشفيل عالياه) . وقد يكون راهباً منسحباً، وقد ينتقل من حالة إلى أخرى مثل شبتاي تسفي الذي كان يتأرجح بين الرهبنة الكاملة والعهر الكامل (وضمنه الشذوذ الجنسي) ، ومثل البعل شيم طوف مؤسس الحركة الحسيدية الذي يُقال إنه امتنع عن معاشرة زوجته جنسياً لمدة أربعة عشر عاماً، ويذهب أتباعه إلى أن زوجته حملت ابنها هرشل «من خلال الكلمة» . ومع هذا كان معروفاً عنه إقباله الشديد على النساء وشغفه بهن، وخصوصاً الجميلات منهن. وكثير من المخلِّصين أسقط الشريعة تماماً. وتحولت نواه مثل «لا تزن» إلى وصايا مثل «فلتزن» .
وتوجد تفاصيل أخرى عديدة تبين مدى التقابل المدهش بين الغنوصية والقبَّالاه، ولكن ما حاولنا حصره هو بعض السمات البنيوية المشتركة وتجلِّيها في بعض التفاصيل.
الهندوكية والقبَّالاه
Hinduism and Kabbalah
لاحَظ عالم الأنثروبولوجيا الإسرائيلي روفائيل باتاي أن ثمة تشابهاً عميقاً بين النسق الديني القبَّالي والنسق الديني الهندوكي يتمثل فيما يلي:(13/107)
1 ـ تبدأ القبَّالاه من اللاشيء الإلهي «الإين سوف» وهو «الخفي» وهو «العدم» ، وكذا الهندوكية، فالإله «شيفا» هو «مُطلق المطلَق» ، أي «الحالة التي لا يحدث فيها شيء» ، وهو حالة سكون كاملة، وهو القصور الذاتي النهائي والخواء الكامل. وحتى اللعب بالألفاظ في القبَّالاه، بين «الإين» و «الآيين» و «الآني» له ما يقابله في الهندوكية، ذلك أن «شيفا» (بغض النظر عن حروف العلة) هو «شافا» ، أي «الجثة» . وهو يصبح «شيفا» حينما يضاف إليه حرف العلة، وتكون صاحبته الإلهية شاكتي (ممثلة الحياة والحركة) ، حينئذ يصبح «شافا/العدم» هو «شيفا/الطاقة» .
2 ـ كما أن مراحل التجلي، التي يُطلَق عليها التجليات النورانية العشرة (سفيروت) في القبَّالاه، لها ما يقابلها في الهندوكية، وهي تُسمَّى «تاتفا» ، أي «الأسس» أو «المقولات الأساسية» أو «الجواهر» . والتاتفا، مثل التجليات النورانية العشرة، تخرج الواحدة من الأخرى. وفي القبَّالاه عشرة تجليات من الكيتير عليون (التاج العلوي) في الأعالي إلى الشخيناه وهي التجلي الأدنى الذي يلي العالم الأرضي، وفي الأعالي ثمة وحدة أبدية بين الحوخمة والبيناه، وهي أبو الأعالي وأم الأعالي. وكذلك في الهندوكية، فكان هناك في القمة الوحدة الأزلية بين شيفا وشاكتي، وتخرج عشرة تجليات هي الحالات المادية العشر.
3 ـ يُلاحَظ أن الإله في القبَّالاه نصفه ذكر ونصفه أنثى. وكذا في الهندوكية، فشيفا وشاكتي يكوِّنان وحدة إلهية هي جوهر الوجود الإلهي.
4 ـ وفي كل من القبَّالاه والهندوكية فكرة الدورات الكونية.
5 ـ وفي كل من القبَّالاه والهندوكية مقولة إدراكية جنسية أساسية تصف علاقة الابن بالابنة، أو الشيفا بشاكتي. وكل من الابن وشيفا لا تكتمل سيادتهما، بل وجودهما، إلا إذا اجتمعا مع الابنة وشاكتي.(13/108)
6 ـ وهناك أسطورة نفي في الهندوكية تماماً كما في القبَّالاه، إذ يقوم شيطان بغزو الكون، ويخرج الآلهة العظيمة من الجنة إلى المنفى. وحينما تذهب شاكتي إلى المنفى، فهي مثل الشخيناه، تفصل عن شيفا وتصبح عرضة للاغتصاب من قبل عمالقة مخيفين.
7 ـ تُصوَّر الشخيناه، في أحد تجلياتها وحشاً كاسراً منتقماً، وفي الهندوكية تتجلى شاكتي على هيئة كالي، إلهة الانتقام.
8 ـ يُصوَّر الشر في كل من القبَّالاه والهندوكية باعتباره جزءاً من الإله، وهو مجرد الجانب الآخر والشر هو المحارة أو القشرة الخارجية.
9- تقوم كل من القبَّالاه والهندوكية بتجنيس الإله وتأليه الجنس (بمعنى الغريزة الجنسية) .
10 ـ تؤمن القبَّالاه كما تؤمن الهندوكية بالتناسخ.
وهذا التشابه العميق يثير قضية التأثير والتأثر، ويطرح السؤال التالي: هل اطلع القبَّاليون على بعض المصادر الهندوكية أم أن بعض الأفكار الأساسية تسربت إليهم، فقاموا بتطويرها داخل الإطار اليهودي؟ أم مجرد تشابه بنيوي بمعنى أن البنية الحلولية في كل من القبَّالاه والهندوكية قد تطورتا بشكل مستقل ووصلتا إلى نسقين متشابهين بشكل مستقل؟ هذه قضية خلافية لا تزال مطروحة للنقاش.(13/109)
الباب الرابع: إشكالية علاقة اليهودية بالصهيونية
علمنة (صهينة) اليهودية (أو هيمنة الحلولية الكمونية)
Secularization (Zionization) of Judaism -The Dominance of Immanence
نجحت عدة أيديولوجيات علمانية شاملة في التغلغل في اليهودية والاستيلاء عليها من الداخل، فاليهودية التجديدية هي مُركَّب من عدة مفاهيم علمانية (مثل التقدم في الإطار المادي) وقد تلبست لباساً يهودياً. ولكن أهم هذه الأيديولوجيات العلمانية هي الصهيونية التي نجحت في الاستيلاء على اليهودية تماماً وقامت بعلمنتها من الداخل إلى درجة أن الحركات الدينية الأرثوذكسية التي قامت في الأساس لمحاربة الصهيونية انتهى بها الأمر إلى أن تبنت الصهيونية إطاراً مرجعياً نهائياً. وقد أدَّى هذا إلى ظهور إشكالية حقيقية أمام اليهود الذين يرفضون التحالف مع ملحدين يسمون أنفسهم «يهوداً» . ونحن نذهب إلى أن الصهيونية قد نجحت في الاستيلاء على اليهودية وعلمنتها بسبب الخاصية الجيولوجية التراكمية، إذ وجد الصهاينة سوابق في التراث الديني اليهودي تدعم مقولاتهم العلمانية الشاملة.
ولكن السبب الأساسي الذي أدَّى إلى نجاح الصهيونية في تحقيق أهدافها هو تصاعُد معدلات الحلولية داخل اليهودية. وتدور الرؤية الحلولية الكمونية حول ثلاثة عناصر: الإله والإنسان والطبيعة. وفي إطار الحلولية اليهودية، يتحول الإنسان إلى الشعب اليهودي، وتتحول الطبيعة إلى الأرض اليهودية (إرتس يسرائيل ـ أرض الميعاد) ، أما الإله فيتحوَّل إلى المبدأ الواحد الذي يحل فيهما معاً. ولا تختلف هذه الرؤية الحلولية الكمونية عن الصهيونية إلا في بعض التفاصيل وفي الطريقة التي تُسمَّى بها العناصر التي تكوِّن دائرة الحلول.
ويمكن التعبير عن هذه الرؤية الحلولية الكمونية، اليهودية والصهيونية، على النحو التالي:
الشعب اليهودي المبدأ الواحد الأرض اليهودي
الرباط العضوي بين الشعب والأرض
أو القوة التي تسري فيهما
1-يسميها الصهاينة المتدينون "الإله".
2-يطلق عليها الصهاينة العلمانيون أسماء
كثيرة: "روح الشعب"-"التراث اليهودي"
-"العرْق اليهودي"-"التوراة كتعبير عن روح الشعب"........(13/110)
وأهم عناصر دائرة الحلول هو الإله الذي يصبح «المبدأ الواحد» والذي قد يُسمَّى «الإله» في الحلولية الكمونية اليهودية أو «روح الشعب» أو حتى «العرْق» في الحلولية الكمونية الصهيونية.
ويُلاحَظ أنه لا يوجد فارق بين الإله والعرْق اليهودي (على سبيل المثال) فكلاهما (حالّ) في الشعب والأرض لا يتجاوزهما، فهو الشيء نفسه رغم اختلاف التسميات.
وقد نجم عن حلول الإله في كلٍّ من الشعب والأرض أن أصبح الشعب مقدَّساً وأصبحت الأرض هي الأخرى مقدَّسة. يختلف الفريقان العلماني والديني في تسمية مصدر القداسة ولكنهما لا يختلفان قط في أن القداسة هناك، تسري في الشعب والأرض. وتسمية مصدر القداسة في المنظومات الحلولية الكمونية ليس أمراً مهماً إذ أن الحلول يجعل المادة المقدَّسة أكثر أهمية من مصدر القداسة. وإذا كان الصهاينة يؤمنون بحلولية بدون إله أو يؤمنون بقداسة دون مصدر غيبي للقداسة، فإن الدينيين يؤمنون بحلولية متطرفة، الإله داخلها جزء لا يتجزأ من الشعب وأرضه، ومن ثم فهو إله لا يختلف في أي وجه من الوجوه عن شعبه ولا ينفصل بأية حال من الأحوال عن أرضه وليس ذا إرادة مستقلة عنه. وسواء كانت الديباجات علمانية (شاملة) متطرفة في علمانيتها، أم دينية متطرفة في تديُّنها، فالجميع يتفق على أن المبدأ الواحد (الإله أو روح الشعب) حالّ في المادة كامن فيها، غير مفارق لها. ومن ثم يستطيع أعضاء الفريقين الصهيونيين، الديني والإلحادي، أن يترجما الثالوث الحلولي إلى شعار سياسي مثل: أرض يسرائيل لشعب يسرائيل حسب توراة يسرائيل، وهي صيغة تفترض وجود علاقة عضوية صارمة بين العناصر الثلاثة تمنح أعضاء هذا الشعب حقوقاً مطلقة (فهم داخل دائرة الوحدة العضوية والقداسة والحلول) وتستبعد الآخرين. وتصبح توراة يسرائيل كتاباً مقدَّساً مرسلاً من الإله بالنسبة للصهاينة الدينيين، أو كتاب فلكلور يعبِّر عن روح الشعب بالنسبة للصهاينة الملحدين. وبينما يؤكد(13/111)
الحاخام كوك (الأب الروحي والفكري لجماعة جوش إيمونيم) ، على سبيل المثال، أن روح الإله وروح يسرائيل شيء واحد، أي أن الشعب في قداسة الرب، فإن فلاديمير جابوتنسكي يشير إلى الشعب اليهودي بوصفه ربه، ويشير موشيه ديان إلى الأرض باعتبارها ربه. وصياغة كوك الدينية وصياغة جابوتنسكي وديان الإلحادية متشابهتان تماماً في بنيتهما، فكلتاهما تنتهيان إلى شعب مقدَّس له حقوق مطلقة في أرضه المقدَّسة، فهو شعب حل الإله فيه وفي أرضه، حسب صياغة كوك، وهو شعب/إله وأرض/إله في صياغة الملحدين، والفارق بين الصياغتين أمر شكلي.
وقد قال نوفاليس إنه لا يوجد فرق كبير بين أن أقول "أنا جزء من الإله" أو "الإله جزء مني". ولا فرق بين أن أقول "إن الله هو العالم أو أن العالم هو الله". ويمكننا القول بأنه لا يوجد فرق كبير بين أن يقول الصهيوني المتدين الإله هو الشعب وأن يقول الصهيوني الشعب هو الإله فالمسافة بين الكل والجزء تختفي فيصبح الكل هو الجزء، ويصبح الشعب هو الإله.
وعلمنة الحلولية اليهودية على يد الصهيونية، لم يكن أمراً فريداً وإنما كان متسقاً تمام الاتساق مع واحد من أهم إنجازات الغرب الفلسفية في العصر الحديث، أي اكتشاف تَرادُف وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية، بحيث أصبح من الممكن الحديث عن الذات بلغة الموضوع وعن الموضوع بلغة الذات، وعن المقدَّس بلغة الزمني وعن الزمني بلغة المقدَّس، وعن الروحي بلغة المادي وعن المادي بلغة الروحي، وهو الإنجاز الذي وضع أسسه إسبينوزا وعمَّقه هيجل ووصل به إلى ذروته وأشاعه إلى درجة أن الخطاب الفلسفي الغربي أصبح في معظمه خطاباً حلولياً، سواء بين المتدينين أو بين العلمانيين.(13/112)
وقد وجد الصهاينة أن الإستراتيجية الإسبينوزية الهيجلية التي تفترض ترادف وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية هي أنسب الصيغ للتوجُّه للجماهير اليهودية في شرق أوربا، وهي جماهير كانت لا تزال إما متدينة أو تربطها علاقة وثيقة بالرموز الدينية. وقد أصبحت هذه الحلولية الأرضية المشتركة بين المتدينين والعلمانيين في الحركة الصهيونية.
الحلولية والحرفية والصهيونية: آليات التلاقي بين الصهاينة المتدينين والعلمانيين
Immanence, Literalism, and Zionism: The Mechanics of the Convergence between Religious and Secular Zionists
من أهم آليات تضييق الرقعة بين الدينيين والعلمانيين (في إطار الحلولية الكمونية) تبنِّي الدينيين تفسيرات العهد القديم الحرفية والعقائد اليهودية. فالحلولية الكمونية تترجم نفسها في نهاية الأمر لا إلى أصولية تعود إلى الأصول وتحتكم إليها وإنما إلى حرفية في تفسير المفاهيم الدينية (التي عادةً ما تحتوي قدراً من الثنائية والتجاوز يجعل التفسير المجازي أمراً حتمياً) . فالحرفية الحلولية ثمرة تصفية الثنائية والتجاوز، وثمرة اختزال المساحة التي تفصل بين الخالق والمخلوق وبين الدال والمدلول بحيث يُختزَل الواقع إلى مستوى واحد فلا يشير إلى أي عالم آخر أو أية منظومة أخرى وبحيث تصبح رؤية الواقع، في نهاية الأمر، واحدية لا تختلف كثيراً في بنيتها عن التفسيرات المادية التي تنكر الثنائية والتجاوز. وهذا ما حدث مع الأوساط الدينية اليهودية في عملية صهينة اليهودية، فقد أسقطوا التفسيرات المجازية وأحلوا محلها تفسيرات حرفية.(13/113)
فالأرض في المفهوم الحاخامي التقليدي (المجازي) كانت «صهيون الروحية» التي توجد في القلب، وقد وصفها نيثان برنباوم (بعد أن ترك الصهيونية وأصبح أرثوذكسياً) بأنها ليست وطناً مادياً جديداً بل كياناً دينياً لم يتوقفوا قط عن حبه والحنين إليه وتذكُّره. والشعب ليس شعباً عرْقياً مادياً مثل كل الشعوب وإنما جماعة دينية تدين بالولاء للإله من خلال الميثاق ومن خلال الإيمان بمنظومة قيمية. ولذا، فإن عودة هذا الشعب إلى أرضه لا يمكن أن تتم إلا بأمر الإله في نهاية التاريخ.
بدلاً من هذه العقائد التي تحتوي قدراً من التجاوز، ومن ثم تتطلب تفسيرات مجازية، طرح الصهاينة المتدينون تفسيرات حرفية لا تختلف كثيراً عن التفسيرات العلمانية (التي تنكر التجاوز) رغم احتفاظها بالمصطلح الديني. فصهيون أصبحت الأرض التي يمكنهم متى شاءوا العودة إليها والاستيلاء عليها بقوة السلاح، والشعب أصبح مجموعة من البشر التي لها حقوق مطلقة منفصلة عن المنظومات القيمية الأخلاقية اليهودية، فهم ذوو حقوق مطلقة لا يختلفون كثيراً عن شعوب أوربا في المرحلة الإمبريالية.(13/114)
واكب هذه الحرفية في التفسير ظهور ديباجات علمانية حلولية، فالشعب في الخطاب الصهيوني أصبح الشعب العضوي (فولك) وهو مفهوم يَصدُر عن الإيمان بأن ثمة وحدة (وجود) عضوية تربط الشعب (العضوي) وأرضه وتراثه، وأن الجميع تسري فيهم روح واحدة هي مصدر الترابط العضوي هذا، الذي لا تنفصم عراه. وهذه الفكرة فكرة حلولية تجعل الذات القومية موضع التقديس وتخلع عليها المطلقية، والنسق الفلسفي الكامن وراءها نسق مغلق، إذ أن هذه الذات تصبح مرجعية نفسها، هي البداية والنهاية، وحتى برامجها السياسية تصبح مقدَّسة. وعادةً ما تصل هذه النماذج إلى لحظة تحقُّقها في لحظة نهاية التاريخ والفردوس الأرضي، حين تتجلى في كل مناحي الحياة، وتتجسد من خلالها. ولذا نجد أن الصور المجازية التي تُستخدَم في إطار هذه الأنساق صور مجازية عضوية تعبِّر عن عالم عضوي مصمت ملتف حول نفسه.
ولأن العلاقة عضوية حتمية، فإن هذا يعني أن الأرض اليهودية (إرتس يسرائيل) ستظل خراباً ومهجورة إن تم فصل الشعب المقدَّس عن أرضه المقدَّسة. وهذا الشعب نفسه سيظل في حالة اغتراب وحزن (بل فساد وانحطاط) إن ظل بعيداً عن الأرض. فالأرض تكتسب الحياة من الشعب، والشعب يكتسب الحياة من خلال الأرض. وهذه الرؤية هي التي تفسر الشعار الصهيوني "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض". فالأرض (اليهودية) ترتبط بشكل عضوي حلولي كموني بالشعب اليهودي، ولذا فإن وُجد شعب آخر على هذه الأرض (الشعب الفلسطيني على سبيل المثال) فليس له وجود في المنظور العضوي الحلولي (ولذا لابد من تهميشه وطرده وإبادته) . وإن وُجد 99% من يهود العالم خارج فلسطين، متشردين في بقاع الأرض، فهم لا يزالون بلا أرض بسبب العلاقة العضوية الحتمية التي تربطهم بالأرض المقدَّسة. والتاريخ اليهودي بأسره تعبير عن رغبة اليهود العارمة في العودة لهذه الأرض لتحقيق تلك الرابطة العضوية.(13/115)
وبعد أن أسقط المتدينون العنصر المجازي (والإيمان بالتجاوز) وتبنَّى العلمانيون الصيغ الرومانتيكية العضوية الحلولية، أصبح اللقاء بين الفريقين سهلاً، فعدَّل المتدينون متتالية العودة حتى يمكنهم تَقبُّل أطروحات الصهيونية العلمانية وممارساتها (اللاأخلاقية) وإعطاؤها شرعية دينية. فبدلاً من المتتالية التقليدية:
نفي بأمر الإله ـ انتظار الماشيَّح ـ مقدم الماشيَّح بإذن الإله ـ عودة تحت قيادته.
أصبحت المتتالية كما يلي:
نفي ـ عودة مجموعة من اليهود (عودة مادية فعلية) للإعداد لمقدم الماشيَّح (دون انتظار مشيئة الإله) ـ مقدم الماشيح ـ عودة تحت قيادته.
والعودة المقدَّسة، المادية الفعلية الحرفية، تتطلب بطبيعة الحال استخدام العنف والقتل ومساندة الإمبريالية العالمية وطرد الشعب الفلسطيني، وهذا ما فعله الصهاينة المتدينون وقاموا بتبريره بديباجات دينية تخلع على ذاتهم وأفعالهم قداسة ومطلقية (كما هو الحال دائماً مع المنظومات الحلولية الكمونية) . وفي نهاية الأمر، تَبنَّى المتدينون الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة بعد أن قاموا بتهويدها، فبدلاً من: مادة بشرية تُنقَل إلى خارج أوربا لتوظيفها لصالح القوى الاستعمارية التي ستقوم بنقلها ودعمها، أصبحت: عودة الشعب المقدَّس (المستوطنين الصهاينة) إلى أرضه المقدَّسة (فلسطين) تنفيذاً للوعد الإلهي (على أن تكون العودة دون انتظار لمشيئته ودون تفرقة بين الوعد الإلهي ووعد بلفور) . ورغم اختلاف الأسماء، فإن المسمى واحد ويؤدي إلى النتيجة نفسها (ويصل هذا الاتجاه إلى قمته في الصهيونية الحلولية العضوية وجماعة جوش إيمونيم) . وقد توارت الصهيونية العلمانية الصريحة، صهيونية اليهود غير اليهود أو اليهود الملحدين، وانقسمت الصهيونية (من منظور الوعي اليهودي) إلى صهيونية إثنية علمانية وصهيونية إثنية دينية، وهما يتفقان تماماً في كل شيء باستثناء بعض الديباجات والزخارف اللفظية.(13/116)
وتتجلى الحلولية العضوية في موقف كلٍّ من الدينيين والملحدين من الجيش الإسرائيلي. فقد ذهب الحاخام تسفي كوك، حفيد الحاخام إسحق كوك، إلى أن الجيش الإسرائيلي هو القداسة الكاملة، وهو الذي يمثل حكم شعب الإله فوق أرضه. ولا يختلف الملحدون الحلوليون عنه في موقفهم من الجيش، فهم، عند احتفالهم بعيد الاستقلال على سبيل المثال، يُغيِّرون منطوق المزمور 118/24 الذي يقول: «هذا هو اليوم الذي صنعه الرب» بحيث يصبح: "هذا هو اليوم الذي صنعه تسهال"، أي الجيش الإسرائيلي (مصدر التماسك والوحدة العضوية) . وقد أسس الصهاينة دولتهم الصهيونية، بحيث تكون الإطار الشعائري (الحلولي الروحي أو المادي) الذي يعزل اليهودي عن العالم، فهي الدولة الجيتو التي تحيط المواطن برموز وشعارات يهودية، وهي الأداة التي يتحقق من خلالها الثالوث الحلولي المقدَّس.(13/117)
هذا لا يعني أنه لا يوجد اختلاف بين الحلوليين الملحدين والحلوليين الدينيين. فحلولية الملحدين، حلولية بدون إله، على عكس حلولية الدينيين. ولذا، نجد أن الدولة بالنسبة للدينيين هي أهم تجلٍّ للإله. أما بالنسبة للملحدين، فهي ليست تجلياً، وإنما هي نفسها موضع التقديس. وعادةً ما يُسوَّى هذا الخلاف بالطرق اللفظية السلمية. فعلى سبيل المثال، حين نوقش إعلان دولة إسرائيل، أصر المتدينون على ذكر عبارة "عناية الإله"، فرفضها اللادينيون، وتم حل المشكلة باستخدام عبارة "تسور يسرائيل"، أي "صخرة إسرائيل"، وهي عبارة تعني "الإله الذي يحل في الشعب ويجعله مطلقاً" بالنسبة للدينيين، وتعني "الذات القومية ومصدر المطلقية وموضع القداسة" بالنسبة لغير الدينيين. وقد استمر هذا الاتجاه بعد إنشاء الدولة، بل أخذ أشكالاً متطرفة من بعض النواحي، وأشكالاً صبيانية من بعض النواحي الأخرى. ففي احتفال عيد التدشين (حانوخاه) ، يقول الدينيون: "من يتكلم بجبروت الرب" (مزامير 106/2) ، ويقول العلمانيون (الماديون) : "من يتكلم بجبروت إسرائيل"، أي شعب وأرض يسرائيل. وفي الاحتفالات الدينية، وخصوصاً بعد قراءة التوراة في يوم الغفران، وفي عيد بهجة التوراة في آخر أيام عيد الفصح، وفي عيد الأسابيع، يقول الدينيون: "يزكور إلوهيم"، أي "اذكروا الرب". أما اللادينيون فيقولون: "يزكور عام يسرائيل"، أي "اذكروا شعب إسرائيل". وقد جاء في سفر زكريا (4/6) عبارة "لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود"، واللادينيون يُسقطون عبارة "رب الجنود"، وبدلاً من كلمة "بروحي" يقولون "بالروح". وتوجد رقصة للأطفال في إسرائيل تصاحبها أغنية تَرد فيها عبارة من سفر القضاة (أنشودة دبوراـ 5/31) "وهكذا يبيد جميع أعدائك يارب"، فتصبح: "وهكذا يُبيد جميع أعدائك يا إسرائيل".(13/118)
كما يظهر الصراع بشكل حقيقي، وبحدة على مستوى الحياة اليومية في إسرائيل. فالأصوليون اليهود (أي الحرفيون أو الحلوليون المتدينون) يطالبون بأداء الشعائر التي لا يكترث بها كثيراً الحلوليون العلمانيون. فيطالب الأصوليون بمنع بيع لحم الخنزير، وإغلاق بعض الطرق يوم السبت، وفرض القيود على عمليات الإجهاض، وإغلاق صالونات الجنس، ومنع نشر إعلانات عن الخدمات الجنسية في الجرائد، ومنع القيام بحفريات أثرية في أماكن الدفن. كما يطالبون بتطبيق قوانين الطعام وتعديل قانون العودة لمنع هجرة غير اليهود، ويرفضون محاولة إصلاح قوانين الطلاق، ويرفضون الاعتراف بالزواج المدني. ويطالب الأصوليون كذلك بإلغاء صلاحيات الحاخامات الإصلاحيين التي تعطيهم الحق في القيام بمراسم اليهود وبمنع اليهود الإصلاحيين من الحصول على عضوية المجالس الدينية المحلية.
ويجب أن نؤكد مرة أخرى أن الإله الذي يتحدث عنه الدينيون الحلوليون، ليس إلهاً مفارقاً للشعب متعالياً عليه متجاوزاً له، وإنما هو حالٌّ وكامن فيه. ومن ثم، فهو يؤدي إلى قداسة هذا الشعب. ولذا، فإن الاختلاف بين الدينيين والملحدين سيظل سطحياً أو على مستوى الإجراءات العملية ومناطق النفوذ والشعائر. فالإله في النسق الحلولي ليس سوى اسم، أما المسمى فهو العالم المادي الذي يكمن فيه هذا الإله ولا يتجاوزه.
وقد اكتسحت الصهيونية يهود العالم حتى أصبح من الصعب على الدارسين أو على كل من يتعامل مع اليهودية والصهيونية (وضمن ذلك اليهود أنفسهم) أن يُفرِّقوا بين العقيدة الدينية والعقيدة السياسية. وعلى أية حال، فإن وسائل الإعلام الغربية تساهم في تدعيم هذه الرؤية.(13/119)
وبعد عام 1967، وبعد احتلال الصهاينة ما تبقى من فلسطين، طرأ تحول على الأحزاب الدينية الصهيونية (مثل المفدال) وغير الصهيونية (أجودات إسرائيل) . ففي البداية اعتبروا أن هذه الحرب معجزة وإشارة ربانية ثم تحول موقفهم وأصبح الاستيلاء على الأراضي العربية هو بداية الخلاص. وأصبحت العناصر الأرثوذكسية التي كانت علاقتها بالصهيونية تتراوح بين الشك والعداء من أشرس العناصر الصهيونية ومن أكثرها تطرفاً وتمسكاً بكل الأراضي المحتلة وبضرورة الاستيطان بها، أي أن الحلولية تزايدت معدلاتها وأصبحت الأرض مقدَّسة في قداسة الشعب.(13/120)
ورغم وجود هذه العلاقة القوية بين الحلولية الكمونية اليهودية والصهيونية لا نستطيع القول بأن الحلولية اليهودية هي التي "أدَّت" إلى ظهور الصهيونية. فكل ما نريد تأكيده، في هذا السياق هو أن ثمة ارتباطاً اختيارياً قوياً بين التيار الحلولي الكموني والأفكار العلمانية. وهذه مقولة تنطبق على كل البشر وعلى كل العقائد ومنها العقيدة اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية. فالحلولية الكمونية ولَّدت عند معظم اليهود في شرق أوربا (ابتداءً من القرن الثامن عشر) استعداداً كامناً (كامناً وحسب) للتأثر بالرؤى المعرفية الحلولية العلمانية التي يختلط فيها المطلق بالنسبي والمقدَّس بالزمني، وهي رؤى تشجع على العزلة وعلى جعل الذات موضع القداسة وموضع الحلول والكمون. ولقد فجرت اللحظة التاريخية والجغرافية التي وُجدت فيها اليهودية في أوربا الإمبريالية (في نهاية القرن التاسع عشر) الإمكانات الحلولية وغلَّبتها على غيرها من الإمكانات وهيأت لها سُبُل التحقق، فلولا أن الإمبريالية الغربية كانت في حاجة إلى دولة استيطانية في فلسطين، لما قامت للصهيونية قائمة ولما استولت الحلولية الكمونية على اليهودية ولربما ظلت تياراً هامشياً ليس له أيُّ ثقل أو وزن، ولربما أخذ الدين اليهودي نفسه مساراً تاريخياً آخر. ولكن ظهور الصهيونية بمساندة الإمبريالية وتأييدها، أعاق هذا التطور وساعد التيار الحلولي الكموني على السيطرة. ولكننا، على أية حال، نتوقع أن ينحسر المد الصهيوني الحلولي تحت تأثير الضغط العربي وظهور الفلسطينيين مرة أخرى على مسرح الأحداث، وتزايد أزمة الصهيونية. ولربما انتشرت الرؤية التوحيدية مرة أخرى، كما يتضح في لاهوت التحرير اليهودي. وإن كان هذا أمراً صعباً للغاية باعتبار أن الفكر الديني اليهودي يتحرك الآن في تربة غربية حلولية علمانية. وما يحدث عادةً أن الحلولية يتغيَّر نطاقها، وبدلاً من أن تكون ثنائية صلبة فإنها تصبح شاملة(13/121)
سائلة.
وقد وضع كثير من أعداء الصهيونية من اليهود وغير اليهود أيديهم على هذه الخاصية في الصهيونية باعتبارها حلولية واحدية روحية (أي باعتبارها شكلاً من أشكال الوثنية) تم تحويلها إلى حلولية مادية. وقد أشار بعض الحاخامات إلى دولة إسرائيل باعتبارها العجل الذهبي الجديد الذي يعبده اليهود. كما احتج الحاخام جرسون كوهين بقوله: "إن كثيراً من يهود العالم يتصورون أن إسرائيل هي معبدهم الأساسي، وأن رئيس وزرائها حاخامهم الأكبر".
وقد ظهرت في ألمانيا، في الثلاثينيات، جماعة من المفكرين الدينيين اللوثريين الذين أدركوا الطبيعة العدمية للرؤية الحلولية الكمونية وأدركوا تَورُّط الصهاينة فيها. وقد حذر هاينريش فريك اليهود من فكرة الشعب العضوي (أي الشعب الذي تكمن فيه قداسة دون مرجعية إلهية متجاوزة له) التي يدافع عنها النازيون والصهاينة. وعرَّف كلاًّ من النازية والصهيونية بأنهما حركتان حولتا الأرضية (الارتباط بالأرض) والدنيوية (الارتباط بالدنيا) ـ وهي أمور مادية ـ إلى كيانات ميتافيزيقية، أي إلى دين. كما أشار فيلي ستارك إلى أنهما ضرب من ضروب المشيحانية السياسية التي تُحوِّل الدنيوي (المدنَّس) إلى مقدَّس، ولذا فهما يُحوِّلان الدم والتربة إلى قيمة مطلقة تحيطها القداسة الدينية، قيمة تضرب بجذورها في المشاعر الأسطورية الكونية، وفي ممالك الأرض بدلاً من مملكة السماء، ومن ثم توصَّل إلى أنه لا يوجد مجال للتفاهم بين المسيحية وعبادة الشعب العضوي اليهودية أو النازية.
الخلاص
Redemption; Geulah
«الخلاص» ترجمة للكلمة العبرية «جيئُّولاه» ، وهي اصطلاح ديني يشير إلى الاختلاف العميق والجوهري بين ما هو كائن وما سيكون وإلى انتهاء آلام الإنسان. وفي العهد القديم معنيان لكلمة «خلاص» :(13/122)
1 ـ تخليص الأرض عن طريق شرائها (سفر اللاويين 25/25، حيث يتحدث السفر عن فك الأرض) : "إذا افتقر أخوك فباع من ملكه يأتي وليه الأقرب إليه ويفك مبيع أخيه".
2 ـ ثم أصبحت الكلمة تعني تخليص الأرض من عذابها بعد أن وقعت في يد غير اليهود، وبالتالي تحوَّل معنى الكلمة وأصبحت تشير إلى الخلاص بالمعنى المجازي.
ومفهوم «الخلاص» غير متجانس وغير مستقر في اليهودية شأنه شأن كثير من الأفكار الدينية الأخروية الأخرى. فالخلاص في أسفار موسى الخمسة، خلاص قومي جماعي للشعب لا للأفراد، وهو خلاص قد يتم داخل الزمان لا خارجه، والآن وهنا لا في آخر الأيام، كما هو الحال في واقعة الخروج حيث يضرب الإله أعداء اليهود ويخرج بهم من مصر ثم يساعدهم على غزو كنعان، وهكذا دون أي ذكر لخلاص نهائي (في آخر الأيام خارج التاريخ أو حتى داخله) . وأخذ المفهوم يكتسب أبعاداً إنسانية وأخلاقية فردية واضحة في كتب الأنبياء، إلا أنه مع هذا لم يفقد كثيراً من الأبعاد القومية، فالإله لا تزال تربطه علاقة خاصة مع الشعب، والخلاص يتم الآن وهنا كواقعة مادية تاريخية. ولكن مع التهجير البابلي، ومع الإحباطات المتكررة في هذا العالم، أصبح الخلاص مسألة ستتم في العالم الآتي (المستقبل) في آخر الأيام، ولكن داخل الزمان وبشكل فجائي. وهذه أساساً هي رؤية كتب الرؤى (أبوكاليبس) ، على خلاف كتب الأنبياء حيث تتم عملية الخلاص من خلال جهد بطيء داخل التاريخ في معظم الأحيان. ثم ظهرت في القرنين الأخيرين قبل الميلاد فكرة الخلاص بعد البعث خارج الزمان في كتاب دانيال وغيره من الكتب، إلى أن أصبح الإيمان بذلك الشكل من الخلاص أحد الأصول الأساسية لليهودية عند موسى بن ميمون.(13/123)
ورغم كل التطورات التي دخلت على مفهوم الخلاص واتساع أبعاده، فإن البعد القومي الجماعي ظل واضحاً. فالعصر المشيحاني، أي عصر الخلاص بالدرجة الأولى، هو عصر عودة جماعة يسرائيل واسترجاع سيادته على الأرض وربما على العالم. وقد يشارك البشر كافة في عملية الخلاص هذه وقد لا يشاركون فيها. ولكن جماعة يسرائيل تظل، مع هذا، حجر الزاوية. وهناك رأي يذهب إلى أن الخلاص يتم على مرحلتين: الأولى وهي العصر المشيحاني حيث تعود جماعة يسرائيل إلى صهيون ويُبعث أتقياء اليهود للحياة الأزلية، ثم المرحلة الثانية حيث يُبعث الموتى جميعهم أتقياؤهم وأشرارهم للحساب النهائي، وهذه هي الآخرة.
والرؤية التلمودية للخلاص قومية في جوهرها إذ تظل جماعة يسرائيل محط اهتمام الخالق ومحور التاريخ. فحياة المنفى هي العقاب الذي قدَّره الإله على أعضاء هذه الجماعة بسبب بُعدهم عن عبادته الحقيقية وبسبب ما يقترفون من آثام. ولذا، فإن اليهود يُكفِّرون في المنفى عن ذنوبهم وسيخلصهم الإله في نهاية الأمر. لكن معصية جماعة يسرائيل هي السبب في تأخير عملية الخلاص النهائية، أي أن عملية الخلاص مرتبطة بسلوكهم، والمصير النهائي للعالم يتوقف على مصيرهم.
وأصبحت إعادة بناء الهيكل واستعادة العبادة القربانية صوراً أساسية مرتبطة بعملية الخلاص يهتم بها التلمود أيما اهتمام، كما سجل الحاخامات تفاصيلها حتى يمكن القيام بها في آخر الأيام في لحظة الخلاص. وسابعة الثماني عشرة بركة التي تُتلَى في صلاة العميدا تُدعى «بركة الخلاص» لأنها دعوة للإله مخلص يسرائيل، وهذه الرؤية مختلفة عن الرؤية المسيحية التي ترى أن الإنسان كائن ساقط يعاني من الخطيئة الأولى وأن أفعاله أياً ما بلغت من خير لا يمكنها أن تأتيه بالخلاص.(13/124)
ويُلاحَظ في القبَّالاه أن مركزية يسرائيل تتزايد، وأن مفاهيم مثل «السقوط» و «الخطيئة» الأولى تدخل النسق الديني اليهودي إذ يصبح السقوط مسألة ميتافيزيقية كونية كامنة في الحالة الإنسانية بل الإلهية أيضاً. فحادث تَهشُّم الأوعية أدَّى إلى تَبعثُّر الشرارات الإلهية (نيتسوتسوت) واختلاط الخير بالشر وانفصال الأمير (التجلي السادس) عن الأميرة (التجلي العاشر) . ولكن سقوط الإله وتبعثره يقابله سقوط آدم وسقوط أرواح كل البشر معه. ولابد من جَمْع الشرارات الإلهية التي تبعثرت حتى يستعيد الإله وجوده المتكامل ووحدته وخلاصه ويعود اسمه (فالاسم في التراث القبَّالي هو الإله في حالة تكامل عضوي) ويلتحم الأمير بالأميرة في الزواج المقدَّس. ولكن هذه العملية لا يمكن أن تتم دون جماعة يسرائيل، فهي أيضاً الشخيناه، أي التعبير الأنثوي عن الإله، تلك التي نُفيت مع تَبعثر الذات الإلهية. فكأن اليهود جزء من الإله، يوجد بين البشر ويشهد عليهم. والشعب اليهودي هو وحده القادر على أن يأتي بالخلاص عن طريق تنفيذ الأوامر والنواهي (متسفوت) فمن خلال هذه العملية ستتم استعادة الشرارات الإلهية واستعادة الإله نفسه، فيعود إلى الكون اتزانه، أي أن عملية الخلاص الكونية تتوقف على شعب يسرائيل. ويأخذ الخلاص شكل عودة الشخيناه من المنفى إلى أرض يسرائيل، فالعصر المشيحاني هنا أصبح جزءاً من دراما كونية تضم الإله وكل المخلوقات. وعودة اليهود إلى صهيون هي إلغاء حالة نفي البشر وتَبعثر الإله. وهنا يُلاحَظ أن نفي الشخيناه والشعب يشبه حادثة الصلب في المسيحية، فكأن الإله يتعذب بسبب سقوط الإنسان وتبعثر الشرارات، وسقوط آدم، والعودة تقابل البعث في اليوم الثالث، والتحام الأمير بالأميرة يشبه حادثة التجسد المسيحية، وهذا تعبير عن تنصر اليهودية تدريجياً.(13/125)
وفي بعض التفسيرات القبَّالية تشمل عملية الخلاص البشر جميعاً، ولكنها في بعض التفسيرات الأخرى لا تشمل سوى اليهود إذ أن البشر خُلقوا من طينة أخرى غير الطينة التي خُلق منها اليهود (وهذا يتنافى مع الرؤية التوراتية للخلق) . ولذا، فالأغيار ساقطون تماماً، مذنبون تماماً، ولا سبيل إلى إنقاذهم أو خلاصهم.
ومن أهم المفاهيم القبَّالية المرتبطة بالخلاص مفهوم الخلاص بالجسد (عفوداه بجاشميوت) . وجوهر هذه الفكرة أنه مع تبعثر الشرارات الإلهية، يتداخل الخير الشر ولا يمكن الوصول إلى الخير إلا من خلال الشر. ولذا، فلا يمكن أن يتم الخلاص إلا بالغوص في الرذيلة، ولا يمكن الصعود إلا من خلال الهبوط. وقد استفاد المشحاء الدجالون من هذا المفهوم في انغماسهم في الملذات، بل في ارتدادهم عن اليهودية، إذ فُسِّرت رذائلهم بأنها الطريق إلى الفضيلة.
وفي القرن السابع عشر، ظهرت في صفوف البروتستانت العقيدة الاسترجاعية التي جعلت اليهود مركزاً لرؤية الخلاص إذ لا يمكن أن يتم الخلاص إلا بعد عودة اليهود إلى صهيون (فلسطين) وتنصيرهم، أي استيعابهم في الأمم.
الرؤية الصهيونية للخلاص
Zionist View of Redemption
استوعبت الصهيونية كثيراً من الأفكار اليهودية الخاصة بالخلاص، ذات التركيب الجيولوجي، بعد علمنتها:
1 ـ فكرة «خلاص الشعب» بالمعنى العرْقي (وليس بالمعنى الديني) فكرة محورية في التصور الصهيوني للتاريخ.
2 ـ يتم الخلاص كحادثة في التاريخ (مثل الخروج أو الهجرة من مصر) وليس كحادثة مشيحانية في آخر الأيام أو بعد البعث. ولذا، رفض الصهاينة فكرة انتظار مشيئة الإله وأخذوا زمام الأمور في أيديهم.
3 ـ يرى الصهاينة أن الحياة في المنفى شكل مرضي من الحياة، وهذه علمنة للفكرة الحاخامية القائلة بأن المنفى عقاب للتكفير عن الذنوب.(13/126)
4 ـ يتمثل الخلاص (على الطريقة الصهيونية) في تطبيع الشخصية اليهودية الهامشية عن طريق تخليص الأرض والاستيطان فيها، وبإنشاء دولة طبيعية مثل الدول كافة، وبذا ينتهي الصراع القائم بين اليهود والعالم! (والخلاص هنا يعني التكيف مع مكونات العصر الحديث وحقائقه الصلبة) . وهذه علمنة لفكرة عودة الشعب آخر الأيام، وأن يعم السلام العالمين، كما أنها علمنة لفكرة تنصير الشعب اليهودي.
5 ـ يرى آرثر هرتزبرج أن الخلاص الذي كان يأخذ في الماضي شكل مواجهة بين الشعب والإله، يأخذ الآن شكل مواجهة بين الشعب وشعوب العالم الأخرى، وهذه علمنة أعمق لفكرة الخلاص.
6 ـ ولكن الصهاينة لم يُسقطوا عنصر الاختيار والتفوق، شأنهم شأن الفكر الديني الحلولي التقليدي، فالدولة الصهيونية لها حقوق يهودية مطلقة تجب الحقوق الأخرى كافة، وهي تشير إلى نفسها بأنها نور الأمم، وواحة الديموقراطية الغربية، ورائد العالم الثالث.
7 ـ وقد قامت الدولة الصهيونية أيضاً بعلمنة فكرة تخليص الأرض أو فكها عن طريق شرائها، فقامت بتأسيس الصندوق القومي اليهودي ليضطلع بهذه المهمة. كما أن الدولة الصهيونية تشارك في عملية الخلاص هذه بطرد العرب، واستصدار قوانين مختلفة تيسِّر عملية الاستيلاء على الأراضي وتجعلها أمراً شرعياً.
ويمزج مفهوم العمل العبري الصهيوني بين كل الاتجاهات السابقة، فيهودي المنفى يخلِّص نفسه، ويخلِّص الأرض في آن واحد، بأن يعود إليها ويفلحها بنفسه، فيُطهِّر نفسه من أدران المنفى (الخلاص بالجسد) التي علقت به، ويطهرها هي من سكانها الأصليين. وهكذا يتم خلاص اليهودي وأرضه عن طريق التخلص من أصحابها الأصليين.(13/127)
عرَّف الصهاينة الخلاص بشكل عام دون تحديد الدوافع أو الوسائل التي يتم بها، فالخلاص، في نهاية الأمر، خلاص الأرض والشعب. ولكن ذلك يتم لدوافع اشتراكية وبوسائل اشتراكية عند الصهاينة العماليين، أو يتم بدوافع رأسمالية وبوسائل رأسمالية عند الصهاينة الرأسماليين، كما يمكن أن يتم لأسباب دينية أو إلحادية، وبوسائل دينية عند المتدينيين وبوسائل إلحادية عند الملحدين. ويُلاحَظ أن ما يتغيَّر هنا ليس مضمون الخلاص أو حتى طريقته (فالجميع يلجأ إلى العنف والإرهاب) وإنما ديباجته وما يُعلَن للناس من أهداف.
اليهودية: تاريخ
Judaism: History(13/128)
من الشائع أن يقرن الدارسون تاريخ العبرانيين وتواريخ الجماعات اليهودية من جهة بتاريخ العقيدة (أو العقائد) اليهودية من جهة أخرى، وكذلك أن يوحدوا بينهما وكأنهما شيء واحد. وهو اتجاه ساعد عليه ما يمكن تسميته «التاريخ المقدَّس» أو «التاريخ التوراتي» ، أي القصص التي وردت في التوراة على هيئة تاريخ. ونحن نرى ضرورة فصل تواريخ الجماعات اليهودية في العالم عن تاريخ العقيدة أو العقائد اليهودية، وذلك لاعتبارات منهجية وموضوعية، إذ أن الخلط بينها هو خلط بين مجالين مختلفين يؤدي إلى كثير من التشوش وعدم الفهم. وقد اعتاد الكثيرون النظر إلى اليهودية كما لو أنها عقيدة متكاملة وبناء ديني متكامل اتضحت معالمه الأساسية منذ ظهوره، وكما لو أن هذا البناء ظل محتفظاً بهذه السمات حتى الوقت الحاضر (كما هو الحال إلى حدٍّ كبير مع الإسلام والمسيحية على سبيل المثال) . وهذا مناف للواقع، فتاريخ اليهودية طويل إلى أقصى حد. وقد مرت اليهودية كعقيدة بعدة تطورات عميقة غيَّرت طبيعتها وتوجهاتها شكلاً ومضموناً. هذا على الرغم من وجود أطروحات أساسية متواترة، مثل العهد والشعب المختار، تخلع عليها نوعاً من الوحدة. بل إن ثمة ظاهرة تنفرد بها اليهودية وهي ما يمكن تسميتها «الخاصية الجيولوجية التراكمية» ، أي أن اليهودية تشبه التركيب الجيولوجي المكوَّن من طبقات مختلفة غير متجانسة تراكمت الواحدة فوق الأخرى عبر الزمان دون أن تمتزج. فاليهودية استوعبت عناصر مختلفة عديدة، ولكنها لم تمزجها ولم تفرض عليها حداً أدنى من الاتساق الداخلي. ولذا فإننا نجد أن هناك أفكاراً توحيدية متطرفة عند الأنبياء، وأفكاراً حلولية متطرفة عند القبَّاليين وصفها الحاخامات بأنها شكل من أشكال الشرك. ونجد رؤى متناقضة تماماً للإله فيما يتصل بمفاهيم مثل البعث والثواب والعقاب. كما دخل اليهودية كثير من المعتقدات الشعبية التي هي أقرب إلى الفلكلور. وربما كانت هذه السمة(13/129)
الجيولوجية هي التي أدَّت، في نهاية الأمر، إلى تعريف اليهودي في الشريعة اليهودية بأنه من وُلد لأم يهودية، وهو تعريف يضم الملحدين الذين لا يؤمنون بالإله، كما يضم (من الناحية النظرية على الأقل) اليهود الذين تنصروا أو أسلموا.
ويمكن تقسيم تاريخ اليهودية، باعتبارها نسقاً دينياً وعقيدة، بعيداً عن تاريخ العبرانيين وتواريخ الجماعات اليهودية، إلى عدة مراحل أساسية، وتقسيم كل مرحلة إلى فترات. وفي محاولتنا توصيف اليهودية، سنبين تتابُع ظهور كتب اليهود المقدَّسة، كما سنشير إلى المواجهات الخمس الكبرى بين اليهودية والحضارات الوثنية والتوحيدية المختلفة.
والمراحل الثلاث الأساسية في تاريخ اليهودية هي:
أولاً: يهودية ما قبل التهجير إلى بابل (حتى عام 587 ق. م) ، أو العبادة اليسرائيلية والعبادة القربانية المركزية، تمييزاً لها عن اليهودية نفسها: وهي تقريباً المرحلة نفسها التي أطلقنا على اليهود فيها مصطلح «العبرانيون» ، باعتبارهم جماعة عرْقية إثنية، و «اليسرائيليون» أو «جماعة يسرائيل» باعتبارهم جماعة دينية. وهذه المرحلة الكبرى تقسَّم بدورها إلى عدة فترات، وهي مرحلة يختلط فيها التاريخ بالأسطورة، وتُسقَط مفاهيم فترات لاحقة على فترات سابقة.
ويمكن تقسيم هذه المرحلة إلى الفترات التالية:
1 ـ فترة الآباء: (2100 ق. م ـ 1250 ق. م) :
وتمتد ابتداءً من إبراهيم حتى يوسف. وحسبما جاء في التوراة، وقد قطع الإله على نفسه عهداً لإبراهيم بأن يكون الشعب الذي سينحدر من صلبه شعباً عظيماً، وأن تكون أرض كنعان من نصيبه. وحسب ما ورد في التوراة يمكن القول بأن عبادة الآباء تأثرت بالتراث الديني السامي القديم بتقديسها القوى الطبيعية والإيمان بالروح والشياطين والتحريمات (التابو) ، وتمييزها بين الطاهر والنجس. ويُلاحَظ وجود عناصر وثنية كما هو الحال في قضية الترافيم (الأصنام) .
2 ـ فترة موسى والخروج من مصر (فترة سيناء) (1275 ق. م ـ 1250 ق. م) :(13/130)
تلقَّى موسى، في سيناء، الوحي الإلهي من يهوه، والأمر بألا يُعبَد إلاّه باعتباره الإله الواحد، وبعدم تجسيده أو تشبيهه بشيء واحد من خلقه، أي أن الخالق يُصبح خالق التاريخ والطبيعة منزَّهاً عنهما. وقد صاحبت هذا الوحي مجموعة من الطقوس والقوانين الاجتماعية تحكم القبائل العبرانية في محيطها الصحراوي، أي نزل قانون ديني دائم ينظم المجتمع وعلاقات أعضائه. وفي هذه الفترة تَجدَّد العهد الإلهي المُعطَى للآباء. ويُعَدُّ الخروج نفسه تحقيقاً لهذا الوعد، وتُعَدُّ حادثة الخروج اللحظة التي وُلدت فيها جماعة يسرائيل، أي العبرانيون باعتبارهم جماعة دينية متميِّزة.
3 ـ المواجهة الأولى مع حضارة كنعان، والصراع بين يهوه وبعل (1200 ق. م ـ 587 ق. م) :(13/131)
حينما تغلغل العبرانيون في كنعان وجدوا عبادة بعل، وهي عبادة حلولية من عبادات الطبيعة كانت سائدة هناك (في ذلك المجتمع الزراعي) . وقد حملوا معهم من المجتمع الصحراوي عبادة يهوه، وهي عبادة توحيدية أو شبه توحيدية. وحينما امتزجوا وتزاوجوا مع السكان الأصليين وتبنوا لسانهم حدث الامتزاج بين العقيدتين. وقد أصبح التناقض بين عبادة يهوه (رب التاريخ والشعب) وعبادة بعل (رب الطبيعة والحياة اليومية) التوتر الأساسي الذي تَحكَّم في حياة العبرانيين الدينية، وذلك حتى سقوط الدولتين الشمالية والجنوبية. وشهدت هذه الفترة ظهور الأنبياء المدافعين عن عبادة يهوه. والإصلاح التثنوي (621 ق. م) تعبير عن التوتر بين الحلولية والتوحيد الذي كانت له أبعاده السياسية. وحسب التصور الديني اكتمل الوعد الإلهي بالأرض والخلاص في مرحلة الملوك، كما تم تشييد الهيكل في تلك المرحلة (مرحلة الهيكل الأول) وتحوَّل إلى محور العبادة القربانية المركزية التي كان يشرف عليها الكهنة. ورغم تأكيد وحدانية الإله، فقد ظهرت مفاهيم أخرى ذات طابع حلولي، مثل الاختيار بتضميناته العرْقية والتركيز على الأرض، وهي مفاهيم تحد من عالمية الإله وتجعله مقصوراً على شعبه وأرضه، الأمر الذي ينتقص وحدانيته. وقد ظل هذا توتراً أساسياً في النسق الديني اليهودي. فإله العالمين لا يحتاج إلى أرض أو شعب، أما الإله القومي فيحتاج إلى شعب وأرض. وهو توتر بين النزعة الدينية الأخلاقية التي تبحث عن الخلاص في الزمان، والنزعة الوثنية القومية التي تبحث عنه في المكان، وهي ما يمكن تسميته «نزعة صهيونية» بالمعنى العام والبنيوي. وقد أصبح داود الملك النموذجي الذي يحكم باعتباره حاكماً دينياً يساعده الكهنة، وارتبط اسمه بالماشيَّح المخلص الذي يأتي من نسله (إلا أن عقيدة الماشيَّح نفسها لم تكن قد ظهرت بعد في هذه الفترة) . وقد ظهرت في هذه المرحلة بعض القوانين الأخلاقية والشعائر، مثل: الختان،(13/132)
وشعائر الطعام والزراعة والسبت، وعيد الفصح، وعيد الأسابيع، وعيد المظال. وتتميَّز تلك المرحلة بأن الدين كان مرتبطاً بالجماعة الإثنية أو العرْقية ارتباطاً كاملاً، كما هو الحال في الشرق الأدنى القديم، وبأن اليهود تحوَّلوا تدريجياً، من خلال الاندماج مع السكان الأصليين، إلى جماعة زراعية بعد أن كانوا يشكلون جماعة صحراوية متنقلة. ويُلاحَظ وجود شعائر كثيرة مرتبطة بالزراعة. وتنتهي المرحلة بهدم الهيكل والتهجير إلى بابل (الذي يُطلَق عليه «السبي البابلي» في المصطلح الديني) .
ثانياً: مرحلة ما بعد التهجير (بعد 587 ق. م) :
وهي المرحلة التي اكتسبت خلالها العبادة القربانية المركزية، وهي المرحلة الثانية من عبادة يسرائيل، الملامح التي حولتها إلى العقيدة اليهودية في نهاية الأمر. وحينما نذكر اليهودية، فنحن عادةً ما نشير إلى يهودية ما بعد التهجير. وقد شهدت هذه المرحلة التعديل التدريجي للشريعة بحيث تحولت من كونها شريعة تشمل كل جوانب الحياة إلى شريعة تغطي بعض جوانبها وحسب، إذ تم تَقبُّل قوانين الدولة الحاكمة في عدة مجالات باعتبار أن «شريعة الدولة هي الشريعة» وهو ما أدَّى إلى تقلُّص مجال الشريعة اليهودية واقتصاره على الجوانب الدينية فقط وعلى الجوانب الخاصة بالعلاقات الداخلية لأعضاء الجماعات اليهودية.
ويمكن تقسيم هذه المرحلة إلى الفترات التالية:
1 ـ الفترة البابلية (والمواجهة الثانية مع الحضارة البابلية) والفارسية والهيلينية (والمواجهة الثالثة مع الحضارة الهيلينية) والرومانية (578 ق. م ـ 175 ق. م) :(13/133)
شهدت هذه المرحلة تفتُّت وحدة اليهود الجغرافية وانفتاحهم على الأفكار الدينية البابلية التي تعرفوا إليها أثناء فترة التهجير (أو السبي) ، وهو ما ترك أثراً عميقاً في بنية العقيدة بحيث أخذت العبادة اليسرائيلية تتحول بالتدريج إلى اليهودية. وقد سمح قورش لليهود بالعودة إلى مقاطعة يهودا وأمر بإعادة تشييد الهيكل، وهذه بداية مرحلة الهيكل الثاني في المصطلح الديني. ومع قيام الإسكندر بغزو الشرق الأدنى القديم، دخلت اليهودية مرحلة جديدة إذ تأثر المفكرون اليهود تأثراً عميقاً بالأفكار الدينية والفلسفة الهيلينية. ويُلاحَظ أن عمق تأثر اليهود بالحضارة الهيلينية مرتبط باختفاء السلطة الدينية المركزية. وقد ساعد تسَامُح الحضارة الهيلينية، ثم السلطة الرومانية، تجاه اليهود على تَزايُد اندماج أعضاء الجماعات اليهودية ومن ثم على تأثرهم بالمنظومات الدينية والمعرفية والفلسفية السائدة في المجتمعات التي يعيشون فيها. ولم تتعاون السلطة الحاكمة (البطلمية أو السلوقية أو الرومانية) مع القيادات الحاخامية للهيمنة على أعضاء الجماعات كما فعلت السلطة الفارسية وإنما أتاحت لهم مجال الاندماج، فانتشرت أنماط التفكير الهيليني بسرعة، ونسي اليهود الآرامية وتعلموا اليونانية التي تُرجم إليها العهد القديم. وقد حل الكاهن الأعظم محل الملك في الرئاسة الدينية، وأُعيد تشييد الهيكل بحيث أصبح الهيكل مركز العبادة مرة أخرى. وشهدت هذه الفترة إصلاحات عزرا ونحميا، وبداية تدوين العهد القديم. ويمكن القول بأن الفترة السابقة يمكن تقسيمها إلى ما قبل ما بعد الرؤى (أبوكاليبس) ، والكتب الخارجية أو الخفية (أبوكريفا) في نهاية العصر الهيليني، وبدايات الشريعة الشفوية وتَرسُّخ عقيدة الماشيَّح، وظهور عقائد مثل: خلود الروح والبعث. وشهدت هذه الفترة أيضاً الانقسام السامري، وظل الدين في هذه الفترة مرتبطاً بالجماعة الإثنية رغم انتشار الجماعات اليهودية خارج(13/134)
فلسطين.
2 ـ فترة ما قبل ظهور اليهودية الحاخامية (أو المعيارية أو الكلاسيكية) حتى القرن السادس، ظهور الفريسيين وهدم الهيكل وظهور الأكاديميات (يشيفا) والمعبد اليهودي:
يُعَدُّ ظهور الفريسيين قمة التطور الذي بدأ مع التهجيرالبابلي والذي أخذ شكل انفتاح مستمر على العناصر العالمية، وهي النقطة التي تحولت فيها العبادة اليسرائيلية والعبادة القربانية المركزية اليهودية بشكل نهائي. وجوهر الفريسية هو هجومها على طبقة الكهنة المرتبطة بالهيكل، والعبادة القربانية المركزية مُمثَّلة أساساً في الصدوقيين وطرحها تصوراً لليهودية منفصلاً عن المكان، وعن الدولة، وعن الأرض، وإن لم يكن منفصلاً عن الجماعة الإثنية. وقد طوَّر الفريسيون مفهوم الشريعة الشفوية لتوسيع مجال التفسير، وحتى يمكن تحرير اليهود من قبضة العبادة القربانية. وشهدت هذه المرحلة ظهور المعبد اليهودي (سيناجوج) . وواكب كل هذا انتشار الحضارة الهيلينية وقيمها بين اليهود الذين لم يعودوا يعرفون العبرية، كما كان عدد اليهود خارج فلسطين أكثر من عددهم داخلها. ولذا، أدَّى هدم الهيكل، على يد تيتوس، إلى تكريس اتجاه موجود بالفعل.
وقد ظهرت المسيحية في هذه الفترة فمثلت تحقيقاً لعملية فصل الدين عن مؤسسات الدولة ثم عن الجماعة الإثنية، بحيث صار باب الخلاص مفتوحاً لجماعة المؤمنين بأسرها، وليس للمنتمين إلى جماعة إثنية محددة. وقد أدَّى انتشار المسيحية إلى ضمور اليهودية.(13/135)
وفي القرن السادس، تم تدوين التلمود الذي يتسم بزيادة الاتجاه نحو الحلولية والنزعة القومية، والذي ينسب إلى الإله صفات بشرية عديدة. ولم تَعُد القدس مركزاً دينياً وحيداً، بل أصبحت هناك مراكز عديدة منفصلة يقودها الحاخامات. ويُعدُّ هذا تاريخ ظهور اليهودية الحاخامية، وهي اليهودية التي انتشرت بين أعضاء الجماعات اليهودية حتى نهاية القرن التاسع عشر. ومن المشاكل الأساسية التي واجهتها اليهودية بدءاً من هذه الفترة أنها كانت ديانة توحيدية أو شبه توحيدية في تربة وثنية تكتسب هويتها من وحدانيتها وتحارب ضد الأسطورة والحلولية، ولكنها وجدت نفسها في تربة توحيدية، إسلامية أو مسيحية، ولذا عدَّلت إستراتيجيتها، وأخذت تتجه نحو الأسطورة والتعددية. ووصل هذا الاتجاه إلى قمته في القبَّالاه.
3 ـ اليهودية الحاخامية، من القرن السابع الميلادي (بعد تدوين التلمود) حتى منتصف القرن السابع عشر (هيمنة القبَّالاه) (المواجهة الرابعة مع الديانات التوحيدية: المسيحية والإسلام) .
في هذه الفترة، تحوَّل اليهود إلى جماعات متفرقة لا تعمل بالزراعة، الأمر الذي ترك أثراً عميقاً في التركيب الطبقي والوظيفي لليهود إذ أصبحوا جماعات وظيفية وسيطة، خصوصاً في العالم الغربي. وقد تدعَّم مركز الحاخامات، الذين حلوا محل الكهنة، واكتملت المعالم الأساسية للتفسيرات الحاخامية التي تُسمَّى «الشريعة الشفوية» . وأخذ الفكر الديني اليهودي في الضمور في الغرب خلال العصور الوسطى في الغرب، بينما نجده ينفتح ويتطور نتيجة احتكاكه بالفكر الإسلامي التوحيدي، العقلاني والصوفي، وهذه هي المواجهة الرابعة مع الحضارة الإسلامية. وبلغ الانفتاح والتطور ذروته في كتابات موسى بن ميمون الذي قدَّم أول تحديد لأصول الدين اليهودي. وقد ظهر، تحت تأثير الفكر الإسلامي، الاحتجاج القرّائي (العقلاني) ورفض الشريعة الشفوية.(13/136)
ويُلاحَظ في هذه الفترة أن اليهودية لم تَعُد مرتبطة بالمكان، وذلك رغم أنها ظلت ديانة جماعة إثنية محددة. وأصبحت العودة مفهوماً دينياً وعملاً من أعمال التقوى، وأصبحت صهيون صورة مجازية دينية وكان على المؤمن ألا يحاول العودة إلى صهيون (فلسطين) ، وأن ينتظر حتى يشاء الإله عودة الشعب. ونظراً لوجود اليهودية الغربية في حالة العزلة داخل الجيتو باعتبارها عقيدة جماعة وظيفية وسيطة، فقد أصابها الجمود وأصبحت عاجزة عن الوفاء بحاجات اليهود الدينية. وأخذت الأزمة تتفاقم مع القرن السادس عشر، مع بدايات الثورة العلمانية الكبرى، ومع هجمات شميلنكي عام 1648. وأخذ الاحتجاج على اليهودية الحاخامية (ويُقال لها أيضاً «التلمودية» أو «الربانية» ) شكل ثورات المشحاء الدجالين، مثل شبتاي تسفي، الذين يطالبون بإسقاط الشريعة والتلمود، وبالعودة الفعلية والفورية إلى فلسطين.
وقد أخذت الثورة ضد اليهودية الحاخامية شكلاً آخر، وهو ظهور تراث القبَّالاه الصوفي المفرط في الحلولية مثل كتاب الزوهار وكتابات إسحق لوريا المتأثر بشكل مشوَّه ببعض المفاهيم المسيحية مثل التثليث والصلب. ويرى جرشوم شوليم أن القبَّالاه اللوريانية حققت هيمنتها الكاملة في منتصف القرن السابع عشر. كما ظهرت الحركات الشبتانية والحركة الحسيدية. ولم ترفض المؤسسة الحاخامية القبَّالاه تماماً، بل استوعبتها بعد حين، وجعلت الإيمان بها واحداً من أركان العقيدة اليهودية. لكن التوتر ظل قائماً بين المؤسسة الحاخامية التلمودية والمؤسسة القبَّالية الحسيدية، وتَمثَّل هذا في الصراع بين المتنجديم والحسيديين، وإن كانوا قد وحدوا صفوفهم في مواجهة الحركات التجديدية والإصلاحية الحديثة.
ثالثاً: العصر الحديث (مع منتصف القرن السابع عشر تقريباً) : وهي مرحلة المواجهة الخامسة مع الحضارة العلمانية في الغرب:(13/137)
بينما كانت اليهودية متخندقة في الجيتو، كان المجتمع الأوربي آخذاً في التطور السريع، وهو تطوُّر لم يشارك فيه أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب (رغم أنه ترك فيهم أعمق الأثر) . ومع ظهور الدولة القومية التي طالبت بفصل الولاء القومي عن الانتماء الديني، ومع تَصاعُد معدلات العلمنة، وجد أعضاء الجماعات اليهودية أنفسهم في العصر الحديث، غير مهيئين على الإطلاق لإنجاز هذه العملية. ولقد بدأت المرحلة الحديثة في هولندا في القرن السابع عشر، في أمستردام، ثم فرنسا وألمانيا في القرن الثامن عشر، ومعظم بلاد أوربا في منتصف القرن التاسع عشر، والعالم العربي والعالم الإسلامي في القرن العشرين. وتسبَّب هذا الوضع في ظهور أزمة هوية عميقة، وأخذت ردود الفعل أشكالاً كثيرة مثل:
1 ـ حركة التنوير اليهودية وظهور اليهودية الإصلاحية، أواخر القرن الثامن عشر: تُعَدُّ حركة التنوير واليهودية الإصلاحية إحدى الاستجابات اليهودية للعصر الحديث، وهي استجابة تتقبل معطيات هذا العصر وعقلانيته المادية وتنطلق منه، وتحاول فصل الدين لا عن الدولة الحاكمة وحسب، وإنما عن الجماعة الإثنية تماماً بحيث يصبح «اليهودي يهودياً في منزله مواطناً في مدينته» (على حد قول يهودا جوردون) .
2 ـ الحركات الأرثوذكسية والمحافظة، أوائل القرن التاسع عشر: لم تكن كل قطاعات اليهود راغبة في ـ أو قادرة على ـ دخول العصر الحديث، وتَقبُّل قيمه. ولذا، انخرطت أعداد كبيرة منها في حركات دينية هي في جوهرها رد فعل للعصر الحديث يأخذ شكل الإمساك بتلابيب الصيغة الدينية القومية التقليدية، مثل: الحسيدية (التي بعثت التراث الصوفي) واليهودية الأرثوذكسية والمحافظة والتجديدية. ولا تزال الفرق اليهودية كلها مختلفة حول أمور شعائرية وعقائدية عديدة، وتبلورت الخلافات في موقفها من الشريعة، أهي ملزمة لليهودي في العصر الحديث أم يمكنه إعادة تفسيرها على طريقته، أو حتى التخلي عنها؟(13/138)
3 ـ الحركة الصهيونية بين اليهود في أواخر القرن التاسع عشر: رغم أن الصهيونية في جوهرها حركة علمانية لا دينية، فإن ظهورها أثر تأثيراً عميقاً في اليهودية والفكر الديني اليهودي إلى درجة أن اليهودية الأرثوذكسية التي بدأت بمعاداة الصهيونية، أصبحت العمود الفقري للاستيطان الصهيوني. واستفادت الصهيونية من الاتجاه القومي داخل اليهودية وحوَّلت كثيراً من المفاهيم الدينية الروحية إلى مفاهيم فيزيقية بحيث تحولت العودة في نهاية الأيام إلى الاستيطان الصهيوني هذه الأيام. كما تمت علمنة المفاهيم الدينية بحيث أصبح هناك ما يشبه التماثل البنيوي بين اليهودية الحاخامية والصهيونية. فهناك كثير من علماء الدين اليهودي يتحدثون عن دولة إسرائيل كما لو كان لها معنى أخروي ميتافيزيقي، وأنها علامة على تَدخُّل الإله في التاريخ لينقذ شعبه ويأتي له بالخلاص تماماً كما فعل في واقعة الخروج. وقد قرن أحد المفكرين الدينيين اليهود بين الإله والدولة إلى درجة أنه صرح عام 1967 بأن الإله نفسه مُهدَّد في هذه الحرب! وقد ظهر إلى جانب الصهيونية ما يُسمَّى «اليهودية الإثنية» التي أعادت تعريف اليهودية بحيث أفرغتها من محتواها الديني والأخلاقي أو جعلته في المرتبة الثانية وأكدت محتواها الإثني، فأصبح بإمكان اليهودي الذي لا يؤمن بالإله ولا يمارس التحريمات الخاصة بالطعام أن يصر على تسمية نفسه يهودياً. ورغم انتصار الصهيونية الكاسح، فلا تزال توجد جيوب مقاومة بين اليهود الأرثوذكس والإصلاحيين.(13/139)
4 ـ اليهودية في الولايات المتحدة: انتقل مركز اليهودية إلى الولايات المتحدة، وهو ما كان يعني انتقال اليهودية إلى تربة علمانية كاملة. فعمَّت الاتجاهات الإصلاحية والمحافظة، وضَعُفت اليهودية الكلاسيكية أو المعيارية (الأرثوذكسية) . كما ضَعُف دور الحاخام تماماً بحيث أصبح اليهود العاديون يسيطرون على الجماعة، وأصبح المعبد اليهودي جزءاً من النشاط الاجتماعي لأعضائها، كما هيمنت الصهيونية، في مستوى من المستويات، على الجماعة اليهودية وعلى فكرها الديني.
5 ـ لاهوت موت الإله: ظهر بعد الحرب العالمية الثانية تيار كاسح بين المفسرين الدينيين اليهود يَصدُر عن تقديس الشعب اليهودي وتاريخ هذا الشعب باعتباره سجلاً لما يقع له من أحداث وما يقوم به من أفعال. فكأن اليهودية سقطت مرة أخرى وبحدة في الحلولية الوثنية القديمة حيث يترادف الديني والقومي وحيث يستحيل تجاوز سطح المادة، فهي وثنية دون إله تحل فيها الذات القومية محل الذات الإلهية.(13/140)
وأهم أحداث التاريخ اليهودي (المقدَّس) من منظور هؤلاء المفكرين هو الإبادة النازية، فهي دليل على فشل اليهودية الحاخامية تماماً، إذ جعلت اليهود شعباً مختاراً يقف شاهداً على الشعوب الأخرى لا يشارك في السلطة السياسية ولا سيادة له. والإبادة دليل أيضاً على اختفاء أو موت الإله، فحضور معسكرات الاعتقال دليل على غياب الإله. ويُلاحَظ أن الخطاب المستخدم هو خطاب ما بعد الحداثة، الذي يركز دائماً على عدم وجود مطلقات تتجاوز الواقع وغياب المركز، ومن ثم غياب علاقة الدال بالمدلول. ولكن اختفاء الإله كمطلق لا يعني اختفاء كل المطلقات إذ يظهر الشعب اليهودي باعتباره المطلق، ويصبح بقاؤه بأي ثمن القيمة الأخلاقية الكبرى، كما تصبح دولة إسرائيل التعبير الأمثل عن إرادة هذا الشعب وعن تَخلُّصه من عجزه وتأكيده سيادته. وشعائر هذا اللاهوت هي تَذكُّر الإبادة، وكتبه المقدَّسة هي الكتب اليهودية التي تُذكِّر اليهود والعالم بهذه الحادثة والمؤسسات الصهيونية (الكنيست الإسرائيلي ـ مؤسسات الجباية) هي مؤسسات العقيدة الجديدة. والأوامر والنواهي لم تَعُد لها أهمية، فأهم واجب ديني يهودي هو الدفاع عن بقاء الشعب اليهودي والدولة الصهيونية (مهما ارتكبت من آثام) والدفاع عن إسرائيل (ومن هنا يُسمَّى لاهوت موت الإله «لاهوت البقاء» ، و «لاهوت ما بعد أوشفيتس» ) . وبطبيعة الحال، نجد أن الأخلاقيات الناجمة عن الإيمان بهذه الرؤية أخلاقيات براجماتية لا علاقة لها بالقيم المطلقة. وإذا كان هدف اليهود البقاء والإبقاء على دولتهم بأي ثمن، فإن البقاء يُعَدُّ قيمة طبيعية أو داروينية وليس قيمة أخلاقية أو إنسانية. ولاهوت موت الإله تعبير عن الهيمنة الصهيونية الكاملة أو إنسانية، وعلمنة النسق الديني اليهودي، إذ صفِّي النسق الحلولي تماماً من كل شائبة (وحتى من كلمة الإله) ، وأصبح نسقاً خالياً من أي شيء سوى الذات القومية، وهو يشكل بالتالي عودة شبه كاملة(13/141)
للعبادة القربانية المركزية، ولكنها كما قلنا عبادة دون إله، الأمر الذي يعني تأليهاً متطرفاً للذات القومية.
6 ـ إعادة تأكيد الانتماء الديني مقابل الانتماء الإثني: في السبعينيات، بدأت تظهر مؤخراً حركات بين اليهود لا ترفض الصهيونية علناً، ولكنها تحاول التملص منها، وتؤكد ضرورة الاحتفاظ بالانتماء الديني مستقلاً عن الانتماء الإثني أو القومي أو السياسي. وأعضاء هذه الحركات يخشون اقتران اليهودية بالصهيونية اقتراناً كاملاً قد يقضي عليها. ولذلك، فهم يصرون على مركزية الدياسبورا (الجماعات) مقابل المفهوم الصهيوني الخاص بمركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا، ومن أهم دعاة هذا الاتجاه الحاخام جيكوب نيوزنر أكبر علماء التلمود المعاصرين. كما ظهر ما يُسمَّى «لاهوت التحرير» الذي يُطوِّر كثيراً من هذه المفاهيم، فدعاة لاهوت التحرير يرفضون تقديس التاريخ اليهودي والمزاوجة بين القومي والمقدَّس، وهم من ثم يرفضون اعتبار العقائد أو الدولة الصهيونية مطلقات. بل إنهم يطالبون اليهود بألا يتذكروا ضحايا الإبادة من اليهود وحسب وإنما أن يتذكروا أيضاً الضحايا من غير اليهود. أما الدولة الصهيونية، بالنسبة لهم، فهي قد حلت بالفعل مشكلة العجز بسبب غياب السيادة ولكنها استخدمت سلطاتها في حرق البشر وفي كسر عظام الأطفال، وأصبح بقاؤها مرهوناً بموت الأطفال الفلسطينيين، ولذا يتعيَّن على اليهود أن يتذكروا ضحايا الصهيونية، وإذا كانوا يساندون هذه الدولة فيتعيَّن عليهم أيضاً التمسك بالقيم الأخلاقية المطلقة ومحاكمة هذه الدولة من خلال هذه القيم.
ويُلاحَظ أن التناقض بين لاهوت موت الإله ولاهوت التحرر هو نفسه التوتر القديم بين الكهنة والأنبياء وبين دعاة الانغلاق الوثني والانفتاح الأخلاقي العالمي، فكأن اليهودية لا تزال في حالة التوتر الأولى، وهذا يعود ولا شك إلى تركيبتها الجيولوجية التراكمية.(13/142)
الجزء الثاني: المفاهيم والعقائد الأساسية في اليهودية
الباب الأول: الإله
التصور اليهودي للإله
Jewish Concept of God
توجد داخل اليهودية، من حيث هي تركيب جيولوجي تراكمي، طبقة توحيدية تدور حول الإيمان بالإله الواحد الذي لا جسد له ولا شبيه، الذي لا تدركه الأبصار وتعتمد عليه المخلوقات كافة ولا يعتمد هو على أيٍّ منها إذ هو يتجاوزها جميعاً ويسمو عليها. وكل مظاهر الطبيعة والتاريخ ليست إلا تعبيراً عن قدرته، فهو روح الكون غير المنظورة، السارية فيه، والتي تُمد الكون بالحياة؛ وتسمو عليه وتلازمه في آن واحد. وقد وصل التوحيد في اليهودية إلى ذروته على يد بعض الأنبياء الذين خلَّصوا التصور اليهودي للإله من الشوائب الوثنية الحلولية التي علقت به، فصار أكثر إنسانية وشمولاً وسمواً، وأقل عزلة وقومية وتعالياً.
وقد استمر التيار التوحيدي في مختلف فترات تاريخ اليهودية. وتتضمن الصلوات اليهودية دعاء الشماع، أي شهادة التوحيد اليهودية وقصائد مثل «آني مأمِّين» (إني مؤمن) و «يجدال» (تنزَّه الرب) التي تؤكد فكرة التوحيد. وقد سار الكثير من اليهود إلى حتفهم في العصور الوسطى في الغرب دفاعاً عن وحدانية الإله وتأكيداً لها.
ولكن اليهودية، كتركيب جيولوجي، تراكمت داخلها طبقات أخرى، وما التوحيد سوى طبقة واحدة ضمن طبقات مختلفة. فالعهد القديم، كما يتضح في مصادره المتعددة، يطرح رؤى متناقضة للإله تتضمن درجات مختلفة من الحلول بعضها أبعد ما يكون عن التوحيد.(13/143)
وتتبدَّى الحلولية في الإشارات العديدة إلى الإله، التي تصفه ككائن يتصف بصفات البشر، فهو يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويضحك ويبكي، غضوب متعطش للدماء، يحب ويبغض، متقلب الأطوار، يُلحق العذاب بكل من ارتكب ذنباً سواء ارتكبه عن قصد أو ارتكبه عن غير قصد، ويأخذ الأبناء والأحفاد بذنوب الآباء، بل يحس بالندم ووخز الضمير (خروج 32/10 ـ 14) ، وينسى ويتذكر (خروج 2/23 ـ 24) ، وهو ليس عالماً بكل شيء، ولذا فهو يطلب من أعضاء جماعة يسرائيل أن يرشدوه بأن يصبغوا أبواب بيوتهم بالدم حتى لا يهلكهم مع أعدائهم من المصريين عن طريق الخطأ (خروج 12/13 ـ 14) . وهو إله متجرِّد، ولكنه في الوقت نفسه يأخذ أشكالاً حسية محددة، فهو يطلب إلى اليهود (جماعة يسرائيل) أن يصنعوا له مكاناً مقدَّساً ليسكن في وسطهم (خروج 25/8) ، كما يسير أمام جماعة يسرائيل على شكل عمود دخان في النهار كي يهديهم الطريق، أما في الليل فكان يتحول إلى عمود نار كي يضيء لهم (خروج 13/21/22) . وهو إله الحروب (خروج 15/3 ـ 4) يعلِّم يدي داود القتال (صمويل ثاني 22/30 ـ 35) ، يأمر اليهود بقتل الذكور، بل الأطفال والنساء (عدد 31/1 ـ 12) ، وهو إله قوي الذراع يأمر شعبه بألا يرحم أحداً (تثنية 7/16 ـ 18) ، وهو يعرف أن الأرض لا تُنال إلا بحد السيف. ولذا، فهو يأمر شعبه المختار بقتل جميع الذكور في المدن البعيدة عن أرض الميعاد «أما سكان الأرض نفسها فمصيرهم الإبادة ذكوراً كانوا أم إناثاً أم أطفالاً» (تثنية 20/10 ـ 18) وذلك لأسباب سكانية عملية مفهومة. والمقاييس الأخلاقية لهذا الإله تختلف باختلاف الزمان والمكان، ولذا فهي تتغيَّر بتغير الاعتبارات العملية، فهو يأمر اليهود (جماعة يسرائيل) بالسرقة ويطلب من كل امرأة يهودية في مصر أن تطلب من جارتها ومن نزيلة بيتها «أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثياباً وتضعونها على بنيكم وبناتكم فتسلبون المصريين» (خروج 3/22) . وهكذا، فإننا نجد منذ(13/144)
البداية، أن فكرة الإله الواحد المتسامي تتعايش مع أفكار أخرى متناقضة معها، مثل تشبيه الإله بالبشر، ومثل فكرة الشعب المختار، فهي أفكار تتناقض مع فكرة الوحدانية التي تطرح فكرة الإله باعتباره إله كل البشر الذي يسمو على العالمين. وفي إطار هذه الرؤية للإله ليس من الغريب أن يسقط أعضاء جماعة يسرائيل في عبادة العجل الذهبي (ويتزعمها هارون أخو موسى) ، وأن يقبل العهد القديم عناصر وثنية مثل الترافيم والإيفود (الأصنام) ، وكلها تعبير عن رؤية حلولية مشركة لا تختلف كثيراً عما جاء في العهد القديم. وليس من الغريب أن نجد شعائر تدل على الثنوية في العبادة اليسرائيلية.(13/145)
ورغم أن الإله، حسب بعض نصوص العهد القديم، يفصح عن نفسه في الطبيعة والتاريخ ويتجاوزهما، فهو مصدر النظام في الطبيعة، وهو أيضاً الذي يجعل التاريخ في نظام الطبيعة وتناسقها، إلا أننا نجده داخل الإطار الحلولي الكموني يتحول من كونه حقيقة مطلقة تعلو على المادة (الكونية الطبيعية أو التاريخية) ويصبح امتداداً لما هو نسبي، وامتداداً للشعب اليهودي على وجه الخصوص. فيصبح الخالق امتداداً لوعي الأمة بنفسها، فيظل إلهاً قومياً خاصاً مقصوراً على الشعب اليهودي وحده، بينما نجد أن للشعوب الأخرى آلهتها (خروج 6/7) حتى تصبح وحدانية الإله من وحدانية الشعب. ولذا، نجد أن الشعب ككل، وليس الإنسان ذو الضمير الفردي، يشهد على وحدانية الإله في صلاة الشماع. ويظهر الاتجاه نفسه في أفكار دينية مثل الاختيار والوعد الإلهي وأرض الميعاد التي تصبح مقدَّسة ومختارة تماماً مثل الشعب (وتلاحُم الإله بالأرض والشعب هو الثالوث الحلولي) . ولهذا، ظلت اليهودية دين الشعب اليهودي (جماعة يسرائيل) وحده، ونجد أن الغرض الإلهي يتركز في هذا الشعب دون سواه، فقد اختير من بين جميع الشعوب ليكون المستودع الخاص لعطف يهوه. كما أن مجرى الطبيعة أو تاريخ البشر يدور بإرادة الإله حول حياة ومصير اليهود. ويتضح هذا في مفهوم التاريخ اليهودي المقدَّس الذي لا يمكن فهم تاريخ الكون بدونه، كما يتبدَّى في رؤية آخر الأيام حيث ترتبط صورة الآخرة والنشور في كتب الرؤى (أبوكاليبس) ، وفي بعض أجزاء العهد القديم، بسيادة اليهود على العالمين. ثم يتعمق الاتجاه الحلولي مع ظهور اليهودية التلمودية الحاخامية ويزداد الحلول الإلهي، فنجد أن القداسة تتعمق في الحاخامات من خلال مفهوم الشريعة الشفوية حيث يتساوى الوحي الإلهي بالاجتهاد البشري ويصبح الحاخامات ذوي إرادة مستقلة يقارعون الإله الحجة بالحجة، وتُجمَع آراؤهم في التلمود الذي يصبح أكثر قداسة من التوراة (التي يفترض أنها معادلة(13/146)
للإله وتحوي سر الكون) . وقد بلغ الحلول الإلهي درجة أن المشناه (التي تضم تفسير الحاخامات) شُبِّهت باللوجوس في اللاهوت المسيحي، أي أنها كلمة الإله المقدَّسة، كانت موجودة في عقله منذ الأزل. وتُستخدَم كلمة «ابن الله» للإشارة إلى الشعب اليهودي، أي أنه هو أيضاً اللوجوس. وتزداد أهمية اليهود كشعب مقدَّس، داخل الطبيعة والتاريخ، ويزداد التصاق الإله بهم وتحيُّزه لهم ضد أعدائهم. ويخلع التلمود على الإله صفات بشرية بشكل عام، ويهودية بشكل خاص، وبشكل أكثر تطرفاً من التوراة. وقد جاء في التلمود أنه بعد وصول الماشيَّح، سيجلس الإله على عرشه يقهقه فرحاً لعلو شأن شعبه، وهزيمة الشعوب الأخرى التي تحاول دون جدوى أن يكون لها نصيب في عملية الخلاص، أي أن الشعب اليهودي والتاريخ اليهودي يزدادان قداسة ومركزية في الدراما الكونية. ويقضي الإله وقته وهو يلعب مع حوت، ويبكي من أجل هدم الهيكل، ويندم على فعلته، وهو يلبس العمائم، ويجلس على عرشه، ويدرس التوراة ثلاث مرات يومياً. وتنسب إلى الإله صفات الحقد والتنافس، وهو يستشير الحاخامات في كثير من الأمور (ولكن يجب الانتباه إلى أن هذه الطبقة الجيولوجية الحلولية توجد إلى جانبها في التلمود نصوص كثيرة تؤكد وحدانية الإله وتساميه وتشجب النزعات التشبيهية) .(13/147)
ويصل الحلول إلى منتهاه وإلى درجة وحدة الوجود في تراث القبَّالاه، فهو تراث يكاد يكون خالياً تماماً من أي توحيد أو تجاوز أو علو للإله، وبحيث لا يصبح هناك فارق بين الجوهر الإلهي والجوهر اليهودي، ويصبح الفارق الأساسي هو بين الجوهر اليهودي المقدَّس وجوهر بقية البشر. ويصبح الفرق بين اليهود والأغيار فرقاً ميتافيزيقياً، فاليهود قد خُلقوا من مادة مقدَّسة (حل فيها الإله بروحه) مختلفة عن تلك المادة (الوضيعة العادية) التي خُلقت منها بقية البشر. ويكتسب الإله صفات بشرية، ولذا فهو يغازل الشعب اليهودي (بنت صهيون) ويدخل معه (أو معها) في علاقة عاطفية قوية ذات إيحاءات جنسية، وهي فكرة أصبحت أساسية في التراث القبَّالي.(13/148)
وتتضح النزعة نفسها في قصة الخلق في التراث القبَّالي، فالإله لا يخلق العالم من العدم وإنما صدرت عنه التجليات النورانية العشرة (سفيروت) التي تأخذ صورة آدم الأول أو القديم (آدم قدمون) أي أن صورة الإله هي صورة الإنسان، وتستقل التجليات العشرة تماماً عن الخالق حتى أنه يتحدث مع الشخيناه (التجلي العاشر) . كما أن التجلي المذكر للإله يطارد التجلي المؤنث. وتصبح تلاوة الشماع، حسب الفكر القبَّالي، هي المحاولة التي يبذلها اليهود ليتوحد التجلي الذكوري بالتجلي الأنثوي، ويجتمعان معاً بالمعنى الجنسي. وفي داخل التراث القبَّالي، يصبح التجلي العاشر (شخيناه) الذات الإلهية والتعبير الأنثوي عن الإله، وهو نفسه جماعة يسرائيل، أي أن الزواج بين الخالق والشعب يصبح هنا توحداً كاملاً. ويقوم هذا الشعب بتوزيع رحمة الإله على العالمين. ثم تصل الحلولية إلى ذروتها والشرك إلى قمته، حين يصبح الإنسان اليهودي شريكاً للإله في عملية الخلق نفسها، ويزداد الإله اعتماداً على الإنسان. وبعد عملية السقوط، وتَهشُّم الأوعية في القبَّالاه اللوريانية، تتفتت الذات الإلهية نفسها، وتتوزع الشرارات الإلهية، ولا يتأتى للإله أن يستعيد كماله ويحقق ذاته إلا من خلال شعبه اليهودي. فاليهود، بآثامهم، يؤخرون عملية الخلاص التي تؤدي إلى خلاص العالم وإلى اكتمال الإله. وهم، بأفعالهم الخيرة، يعجلون بها. ولذا، فالأغيار والإله يعتمدون على أفعال اليهود الذين يشغلون مكانة مركزية في العملية التاريخية والكونية للخلاص. وعند هذه النقطة، يصبح من الصعب الحديث عن اليهودية باعتبارها ديانة توحيدية.(13/149)
ويظهر هذا النزوع الحلولي المتطرف في أحد التعليقات القبَّالية في أحد كتب المدراش على إحدى فقرات سفر أشعياء (43/12) ، حيث جاء فيها "أنتم شهودي، يقول الرب، وأنا الله"، وهي فقرة تؤكد وحدانية الإله وتساميه. وهي وإن كانت تتحدث عن علاقة خاصة، فإنها مع هذا أبعد ما تكون عن الحلولية أو الشرك. ولكن كاتب المدراش الحاخامي يفرض الطبقة الحلولية على الطبقة التوحيدية فرضاً فيفسرها بقوله: "حينما تكونون شهودي أكون أنا الإله، وحينما لا تكونون شهودي فكأنني لست الإله"، وكأن كينونة الإله من كينونة الشعب وليس العكس. بل إن كمال الإله يتوقف على الشعب، إذ قال أحد الحاخامات: "حينما ينفذ اليهود إرادة الإله، فإنهم يضيفون إلى الإله في الأعالي. وحينما يعصي اليهود إرادة الإله، فهم كما لو أنهم يضعفون قوة الإله العظمى في الأعالي". ورغم أن كاتب المدراش يستخدم دائماً عبارة «كما لو أن» لتأكيد بعدها المجازي، فإن تكرارها وارتباطها بالمفاهيم الأخرى ينقلها من عالم المجاز إلى عالم العقائد الحرفية المباشرة التي لا تحتاج أي تفسير.(13/150)
وعلى أية حال، فإن التيار التوحيدي ظل لمدة طويلة أساسياً في النسق الديني اليهودي بل كان يكتسب أحياناً قوة كما حدث من خلال التفاعل مع الفكر الديني الإسلامي، كما هو الحال مع كلٍّ من سعيد بن يوسف الفيومي وموسى بن ميمون. وكثيراً ما حاول الحاخامات الوقوف ضد الاتجاه الحلولي الشعبي (الفلكلوري) ، فحاولوا أن يفسروا الطبائع البشرية للإله بأنها مجرد محاولة لتبسيط الأمور حتى يفهمها العامة. بل يُلاحَظ أن عبارة "كما لو أن" كانت تضاف حتى في التفسيرات القبَّالية الحلولية الأولى لتأكيد الطابع المجازي للخطاب، ولكن هذا التحفظ تآكل بالتدريج وتغلغلت القبَّالاه ذات الأصول الشعبية في صفوف العامة ثم في صفوف المؤسسة الحاخامية نفسها وسيطر فكر حلولي حرفي متطرف. ومع تغلغل القبَّالاه ذات الأصول الشعبية والغنوصية والتي اكتسبت أبعاداً مسيحية، حدثت عملية تنصير لليهودية، حيث فقدت اليهودية هويتها واكتسبت هوية شبه مسيحية جديدة تستند إلى تشويه العقائد المسيحية.
ومع بدايات العصر الحديث، كانت الحسيدية أوسع المذاهب انتشاراً، وهي شكل من أشكال الحلولية المتطرفة بكل ما تحمل من شرك وثنوية. ويتضح هذا في الدور الذي يلعبه التساديك فإرادته معادلة لإرادة الإله، فهو الوسيط بين اليهود والخالق، وهو محل القداسة، وهو الإنسان التقي صاحب القدرة الذي يمكنه النطق باسم الإله والتحكم فيه والتأثير في قراراته.(13/151)
وقد تبنَّى الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر رؤية حلولية للإله، فتحدث عن الحوار الدائر بين الشعب والإله باعتبار أنهما طرفان متساويان، وهذا تَصوُّر ممكن داخل إطار حلولي قومي. كما نجد فرقاً يهودية حديثة مثل اليهودية المحافظة واليهودية التجديدية تبنيان تصوراتهما الدينية على أساس فكرة الشعب المقدَّس، مع إسقاط فكرة الإله تماماً (حلولية موت الإله) ، أو وضعها في مرتبة ثانوية (حلولية شحوب الإله) . ويصل الأمر إلى حد أن حاخاماً إصلاحياً مثل إيوجين بوروفيتز يتحدث عن حرب عام 1967 باعتبار أنها لم تكن تهدد دولة إسرائيل فحسب، وإنما تهدد الإله نفسه باعتبار أن الإله والشعب والأرض يُكوِّنان جوهراً واحداً، فمن أصاب جزءاً من هذا الجوهر بسوء (أرض دولة إسرائيل على سبيل المثال) ، فقد أصاب الذات الإلهية نفسها. بل إن بعض المفكرين الدينيين اليهود يتحدثون عن «لاهوت موت الإله» ، وهي محاولة الوصول إلى نسق ديني خال تماماً من أي جوهر إلهي مفارق، فهي حلولية بدون إله. وقد تفرَّع من هذا «لاهوت الإبادة» أو «لاهوت ما بعد أوشفيتس» الذي يذهب دعاته إلى أن الإله شرير لأنه هجر الشعب اليهودي. كما يذهبون إلى أن المطلق أو الركيزة النهائية هو الشعب اليهودي (دون الإله) وأن القيمة الأخلاقية المطلقة هي البقاء، وأن الآلية الأساسية لإنجاز ذلك هي الدولة الصهيونية، فكأن الدولة الصهيونية هي الإله أو اللوجوس في الحلولية الصهيونية بدون إله. ومن الصعب عند هذه النقطة الحديث عن اليهودية كديانة توحيدية، إذ أصبحت ديانة وثنية حلولية.(13/152)
ومع هذا، عبَّرت الطبقة التوحيدية داخل التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي مؤخراً عن نفسها، في محاولة مخلصة من جانب بعض المفكرين الدينيين اليهود من أعداء الصهيونية، لتخليص اليهودية من حلوليتها. فدعاة لاهوت التحرر يرفضون أن تصبح الإبادة النازية ليهود أوربا أو قيام الدولة الصهيونية أو بقاء اليهود هو المطلق، بل يتحدثون عن إله يتجاوز المادة والتاريخ، نسقه الأخلاقي مُلزم لكل البشر، ولذا فهو إله لا يُوظَّف في خدمة اليهود أو المنظمة الصهيونية العالمية. ومن ثم لا يرضى بذبح الأطفال على يد النازيين ولا بتكسير عظامهم على يد الصهاينة!
التوحيد
Monotheism
انظر الباب المعنون «إشكالية الحلولية اليهودية» .
أسماء الإله
Names of God
توجد أسماء كثيرة للإله في اليهودية، لبعضها دلالات تصنيفية، وبعضها الآخر أسماء أعلام، وتبلغ الأسماء نحو تسعين. ومن أهم الأسماء من النوع الأول، تسمية الإله باسم «السلام» (شالوم) ، وهو أيضاً «الكمال المطلق» و «الملك» ، و «الراعي» ، و «مقدَّس يسرائيل» (قيدوش يسرائيل) ، و «الرحمن» (هرحمان) . ومن أهم الأسماء التي شاعت، العبارة الحاخامية «المقدَّس تبارك هو» (هاقدوش باروخ هو) .(13/153)
أما أسماء الأعلام التي يتواتر ذكرها، في العهد القديم أساساً، فهي كثيرة ومن أهمها «إيل» بمعنى «القوي» ، وهي الأصل السامي لكلمة «إله» التي تتضمنها كلمة «إسرائيل» أو «ناتان إيل» . ومن الأسماء الأخرى، «شدَّاي» و «إلوهيم» (وهي صيغة الجمع لكلمة «إلواه» ) . وأكثر الأسماء شيوعاً هو اسم «يهوه» (أو «يهوفاه» أو «التتراجراماتون» ) وهو أكثر الأسماء قداسة. وكان لا ينطق به سوى الكاهن الأعظم في يوم الغفران في قدس الأقداس. أما بقية اليهود، فكانوا يستخدمون لفظة «أدوناي» ، أي «سيدي» . وبمرور الزمن، اكتسب هذا الاسم، هو الآخر، شيئاً من القداسة، وأصبح من العسير التفوه به. ولذا، يستخدم بعض المتدينين كلمة «هاشِّيم» (الاسم) للإشارة إلى الإله، كما يكتفي بعض الأرثوذكس بكتابة حروف عبرية مثل حرف اليود، أو حرف الهاء، اختصاراً لـ «هاشِّيم» ، أو حرف الدال اختصاراً لـ «أدوناي» . وباللغة الإنجليزية يكتفي بعض اليهود الأرثوذكس بكتابة الحرف الأول والأخير من كلمة «جود God» التي يكتبونها على شكل G-d كما يكتفي بعضهم برسم علامة جبرية مثل (*) للإشارة للإله (واستبعدت علامة (+) لأنها تشبه الصليب) . ويُشار أحياناً إلى الإله بأنه «الذي لا يمكن التفوه باسمه» (هاشِّيم هامفوَّراش) . وظهرت أسماء أخرى في الكتب الخارجية أو الخفية (الأبوكريفا) من أهمها «خالق كل شيء» (يوتسير هاكول) ، و «درع إبراهيم» (ماجن أبراهام) و «صخرة إسحق» (تسور يتسحاق) . وقد أضافت القبَّالاه أيضاً أسماء للإله أهمها: «الذي لا نهاية له» (إين سوف) ، و «أقدم القدماء» (عتيقا دي عتيقين) ، و «قديم الأيام» (عتيق يومين) . وشاعت الإشارة إليه بأنه الشخيناه التي هي التعبير الأنثوي عن القوة الإلهية، وعاشر التجليات النورانية (سفيروت) ، وهي أيضاً جماعة يسرائيل.(13/154)
ويُنظَر إلى اسم الإله في التراث الديني اليهودي الحلولي، وبخاصة القبَّالي، باعتباره أعلى تركيز للمقدرة الإلهية على الخلق أو باعتباره جوهر الإله نفسه الذي يتجاوز الفهم البشري واللغة الإنسانية.
ورغم أن هذا الاسم يتجاوز كل ما هو بشري، ورغم أنه "وراء المعنى" ("بلا معنى" على حد قول جرشوم شوليم) إلا أنه هو نفسه المصدر الذي لا ينضب لكل معنى في العالم. وهو لهذا "نص مفتوح" يمكن تفسيره تفسيرات لا حصر لها ولا عدد. فاسم الإله مطلق ويتسم بالامتلاء الذي لا حد له ولذا فلا يمكن فهمه إلا من خلال الوساطة البشرية التي تقوم بالتفسير، أي الحاخامات (وهذه هي التوراة الشفوية) .
ويميِّز شوليم بين هذه «الكلمة التي لا معنى لها» وكلمات الكتاب المقدَّس والتفاسير الحاخامية ويبيِّن أن القبَّاليين يرون أن الكتاب المقدَّس إن هو إلا تحولات وتنويعات على هذه «الكلمة التي لا معنى لها» ، ومن ثم يصبح الوصول إلى الكتاب المقدَّس العادي بدون وساطة المفسر أمراً مستحيلاً ولا يبقى سوى التفسيرات الباطنية (وهكذا فرغم عدم وجود كنيسة في اليهودية إلا أن وساطة المفسر لا تختلف البتة عن وساطة الكاهن) .
ولعل فكرة الوساطة هذه تتضح لنا بشكل أكبر وأكثر تبلوراً حينما ندرك أنه بتطور الحلولية اليهودية شاع الإيمان بأن من يعرف اسم الإله الأعظم (أي يعرف الجوهر الإلهي) يمكنه التأثير في الذات الإلهية وتغييرها في الأرض أو التحكم فيها (فهو الغنوص الكامل والصيغة السحرية اللازمة للتحكم في الكون بل في الذات الإلهية) ، بل إنه هو التجليات النورانية العشرة في حالة تكامل عضوي، وهي فكرة ذات علاقة بالسحر والتأمل الباطني. ومن هنا، كان اهتمام القبَّاليين بأسماء الإله، فهي سبيلهم إلى التأمل الغنوصي في الطبيعة الإلهية، وفي السيطرة عليه وعلى الكون عن طريق السحر.(13/155)
وقد ظهرت جماعة «بَعْلِّي هاشِّيْم» أي «أصحاب الاسم» ومفردها «بَعلْ شيم» ، أي «سيد الاسم» ، وهم من الدراويش الذين تصوروا أنهم حصلوا على المعرفة الكاملة والدقيقة لطريقة نطق اسم الإله، وبالتالي بوسعهم التحكم فيه، والإتيان بالمعجزات. وكان أهم هؤلاء الدراويش إسرائيل بن إليعازر، المعروف باسم بعل شيم طوف، وهو مؤسس الحركة الحسيدية.
ويرى القبَّاليون أن بعض حروف اسم الإله قد انتُزعت أو سقطت، وبالتالي أصبح اسمه ناقصاً، أي أنه هو نفسه أصبح ناقصاً. وهذه نظرية تشبه نظرية الخلل الكوني الناجم عن تهشُّم الأوعية في القبَّالاه اللوريانية. وحتى يستعيد الإله توازنه الداخلي، يتعين على اليهودي أن يتوجه بكل كيانه إلى الداخل، كما يتعين عليه أن يقوم بأداء الأوامر والنواهي (متسفوت) ، فيستعيد الإله توازنه ويكتمل اسمه. وأول شيء يقوم به أي ماشيَّح دجال هو التفوه باسم يهوه أمام الملأ، فيبطل الشريعة وكل النواميس، وهذا ما فعله شبتاي تسفي وغيره.
وفي العصر الحديث، اختلفت الفرق اليهودية في ترجمة وتفسير أسماء الإله، فاتجه المفكرون اليهود في نهاية القرن الثامن عشر وفي معظم القرن التاسع عشر، تحت تأثير مُثُل الاستنارة والتنوير والدراسات التاريخية، إلى أن يفسروا هذه الأسماء على أساس فلسفي ميتافيزيقي. فترجم موسى مندلسون كلمة «يهوه» إلى «الأزلي» ، وأشار نحمان كروكمال إلى الإله على أنه «الروح المطلق» ، وترجم هرمان كوهين كلمة «الشخيناه» بتعبير «الراحة الأزلية» .(13/156)
وعلى العكس من هذا، نجد أن مارتن بوبر وروزنزفايج يصران على الجانب التشخيصي (الصوفي الوجودي) ، فبتأثير القبَّالاه ترجم بوبر كلمة «يهوه» إلى «أنت» ، أو «هو» . واتجه مناحم كابلان، زعيم اليهودية التجديدية التي تقرن الإله بمبدأ التقدم، إلى الإشارة إلى الإله باعتباره «القوة التي تؤدي إلى الخلاص» أو «القوة التي تؤدي إلى إفراز المثل العليا كافة» . وحينما كانت تتم مناقشة نص بيان إعلان دولة إسرائيل، أثيرت مشكلة حول العبارة الأخيرة في البيان واقترح الدينيون أن تكون على الشكل التالي: "واضعين ثقتنا في الإله". ولكن اللادينيين رفضوا، فاتفق الجميع على عبارة «تسور يسرائيل» أو «صخرة إسرائيل» ، وهي عبارة غامضة يمكن أن تُفهَم كإشارة للإله الواحد الأحد، على غرار عبارة «تسور يتسحاق» أي «صخرة إسحق» ، ولكنها يمكن أن تفهم أيضاً فهماً حرفياً أو تُفسَّر تفسيراً حلولياً، وتصبح الصخرة أرض يسرائيل أو جماعة يسرائيل.
وتحت ضغوط حركة التمركز حول الأنثى في العالم الغربي، بدأت تُطرَح قضية أن كلمة «الإله» وصورته تفترض أنه مذكر، وأنه لابد أن يكون محايداً أو متضمناً كلاً من عناصر التذكير وعناصر التأنيث. وبالتالي، أُدخل تغيير في كتب الصلوات وترجمات الكتاب المقدَّس، بحيث أصبح يُشار إلى الخالق باعتباره هو/هي. وعلى سبيل المثال: «وصلوا له/لها، وقالوا هو/هي، الذي/التي، خلق/خلقت العالم» . بل أحياناً يصرون على الإشارة إلى الإله على أنه مذكر أو مؤنث وجماد (بالإنجليزية: هي/شي/إت. (he/ she/ it)
تقديس الاسم (قيدوش هاشيم)
Kiddush ha-Shem
«قيدوش هاشِّيم» عبارة عبرية تعني «تقديس الاسم المقدَّس» . والمُصطلَح يشير إلى الاستشهاد، ولكنه أصبح يشير إلى أي عمل من أعمال التقوى والاستقامة. وهي ضد «حيلول هاشِّيم» ، أي «تدنيس الاسم المقدَّس» .
إيل
El(13/157)
«إيل» الاسم السامي للإله. و «إيل» مفرد كلمة «إيليم» الكنعانية يُراد بها الجمع والتعدد. وكلمة «إيل» في الأكادية تعني «الإله على وجه العموم» . ولا يُعرَف أصل الكلمة، ولكن يُقال إنه من فعل بمعنى «يقود» أو «يكون قوياً» . وقد ورد في النصوص المصرية التي تعود إلى عهد الهكسوس مُصطلَح «يعقوب إيل» ، أي «ليعقب الرب بعده» ، ومُصطلَح «بيت إيل» (تكوين 12/8، 35/7) .
وكثيراً ما يُستخدَم اسم «إيل» مع لقب من ألقاب الإله، مثل: «إيل عليون» ، أي «الإله العلي» ، و «إيل شدَّاي» ، أي «الإله القدير» . وتُستعمَل كلمة «إيل» كجزء من أسماء عديدة مثل «إليعازر» ، أي «الإله قد أعان» . والواقع أن أسلوب قَرْن أسماء الأشخاص بكلمة «إيل» لا يزال مستعملاً حتى يومنا هذا، مثل «ميخائيل» . وربما يكون أصل كلمة «خليل» هو (خل ـ إيل) ، أي «صديق الإله» . ومن المرجح أن يكون معنى إسماعيل (شماع ـ إيل) هو «ليسمع الإله» . ويُقال أيضاً إلياهو، وصموئيل، ويسرائيل.
يهوه (يهوفاه)
Jehovah; Yahweh
الكلمة العبرية «يهوفاه» هي كلمة ساميِّة قديمة، ويُقال إنها مشتقة من مصدر الكينونة في العبرية «أهييه آشر أهييه» (خروج 3/14) ، أي «أكون الذي أكون» . وقد تكون الكلمة من أصل عربي. ويذهب البعض إلى أن الاسم مشتق من الفعل «هوَى» ، بمعنى «سقط» ، أي أن يهوه هو مُسقط المطر والصواعق. ويتم الربط بين معنى هذا الاشتقاق وبين الصفات التي عرفت عن يهوه كإله للعواصف والبرق والقوى الطبيعية، أو «هوَى» بمعنى «وقع» ، أو «حدث» وما حدث يكون. ويُقال إن «يهوه» ، مثله مثل معظم الأسماء العبرية في العهد القديم، صيغة مختصرة لعبارة «يهفيه أشير يهوفيه» ، أي «يخلق الذي هو موجود» ، أو لعلها اختصار «يهوه تسفاؤت» أي «رب الجنود» . ويميل معظم العلماء إلى نطق الاسم على أنه «يهوه» ، وإن كانت التفسيرات بشأن ذلك ليست نهائية.(13/158)
ولا يرد اسم «يهوه» في المصدرين الإلوهيمي أو الكهنوتي، إلى أن يسفر الإله لموسى عن نفسه (خروج 3/15، 6/2 ـ 3) ، ولكن المصدر اليهوي يستخدم الاسم في سفر التكوين (2/4) ، مفترضاً بذلك أنه يعود إلى أيام إبراهيم. ولكن يبدو أن هذا إسقاط من محرري العهد القديم لمُصطلَحات مرحلة لاحقة على مرحلة سابقة. وقد جاء في سفر الخروج أن الرب كلم موسى، وقال: «أنا الرب، وأنا ظهرت لإبراهيم وإسحق ويعقوب بأني الإله القادر على كل شيء. وأما باسمي يهوه، فلم أعرف عندهم» (خروج 6/2 ـ 3) .
واسم «يهوه» أكثر الأسماء قداسة، وكان اليهود لا يتفوهون به، فكانوا يستخدمون كلمة «أدوناي» العبرية (أو «كيريوس» اليونانية في الترجمة السبعينية) بمعنى «سيدي» أو «مولاي» للإشارة إلى الإله، ثم أصبحوا يستخدمون كلمة «هشيم» العبرية بمعنى «الاسم» وحسب.
والاسم العبري كما تَقدَّم يتكون من أربعة أحرف، ولذا سمِّي «تتراجراماتون» ، أي «الرباعي» ، وهي «ي هـ وهـ YHWH» . ولكن، في القرن الرابع عشر، قرأ أحد الكتاب المسيحيين الكلمة خطأً على أنها «يهوفاه» ، وذلك بأن وضع الحروف المتحركة لكلمة «أدوناي Adonai» مع أحرف «يهوه» الأربعة Yahowai. وهذا هو أصل كلمة Jehovah «جهيفواه» . ويأتي ذكر «يهوه» أكثر من ستة آلاف مرة في العهد القديم، وهو أكثر أسماء الإله شيوعاً وقداسة. وكان يتفوه به الكاهن الأعظم فقط داخل قدس الأقداس في يوم الغفران.
ويبدو أن يهوه كان رب الصحراء. عُرف أول ما عُرف في شبه جزيرة سيناء في الجزء المتاخم لشمال الجزيرة العربية، وفي أماكن متاخمة لهذه المنطقة. وكانت القرابين تُقدَّم له من بين القطيع.(13/159)
وقد نسب إليه العهد القديم صوراً عديدة من القسوة والوحشية. فهو يأمر شعبه بالإبادة والخيانة والغدر. وهو إله غيور يناصر شعبه ظالماً أو مظلوماً، ويعاقب الأبناء على الجرائم التي يرتكبها الآباء، ويعاقب الشعب على ما يرتكبه الملك، بل يعاقب على الأخطاء التي تُرتكَب عن غير عمد، وهو محدود المعرفة تُنسَب إليه صفات البشر كافة. وكان الغنوصيون يرون أن يهوه إله العهد القديم هو الإله الصانع الشرير، الذي خلق هذا العالم الفاسد وهذا الزمان الرديء وسَجَن البشر فيه وفرض عليهم قوانين جائرة لا يستطيعون تنفيذها، هذا على عكس إله العهد الجديد الإله الخيِّر الذي يضحي بنفسه من أجل البشر.
إلوهيم
Elohim
«إلوهيم» كلمة من أصل كنعاني. وهي، حسب التصور اليهودي، أحد أسماء الإله. وهي صيغة الجمع من كلمة «إيلوَّه» أو «إله» أو «إيل» ، وهو ما يدل على أن العبرانيين كانوا في مراحل تطوُّرهم الأولى يؤمنون بالتعددية. ولم ترد كلمة «إلوَّه» إلا في سفر أيوب، أما «إلوهيم» ، فترد ما يزيد على ألفي مرة في العهد القديم، وبأداة التعريف «ها إلوهيم» . وللكلمة معنيان، فهي تدل على الجمع فتكون بمعنى الآلهة (الوثنية) ككل، أو تدل على المفرد فتُعدُّ اسماً من أسماء الإله. ويُعامَل الاسم أحياناً باعتباره صيغة جمع وأحياناً أخرى باعتباره صيغة مفرد. ولذا، فهو يتبع أحياناً بفعل في صيغة الجمع، وفي أحيان أخرى يُتبَع بفعل في صيغة المفرد. وتتردد كلمة «إلوهيم» اسماً للإله في المصدر الإلوهيمي. وصفات الإله «إلوهيم» مختلفة عن صفات يهوه، فإلوهيم رحيم يراعي في أعماله القواعد الأخلاقية، وهو خالق السماوات والأرض.
تتراجراماتون
Tetragrammaton
«تتراجراماتون» كلمة إغريقية بمعنى «مُكوُّن من أربعة أحرف» أو «رباعي» . وهو مُصطلَح يُستخدَم للإشارة إلى الاسم المقدَّس «يهوه» المُكوَّن من أربعة أحرف.
أدوناي
Adonai(13/160)
«أدوناي» اسم من أسماء الإله حسب التصور اليهودي، وتعني «سيدي» ، أو «مولاي» .
شدَّاي
Shaddai
كلمة «شدَّاي» مأخوذة من الجملة العبرية «شومير دلاتوت يسرائيل» ومعناها «حارس أبواب يسرائيل» ، وهي أيضاً أحد أسماء الإله. وهي من أصل أكادي ( «شدر» ) ، وكانت تُستخدَم في الأصل للإشارة إلى القوى الشريرة التي تأتي من الجبال (بالأكادية «شديم» ) أي إلى الجن والشياطين. وقد تطوَّر استخدام الكلمة وأصبحت تشير إلى «إله الجبال» ثم إلى «الإله القوي» . ويذهب بعض العلماء إلى أن أصل الاسم من جذر بمعنى «يخرب» ، ولكنه أصبح يعني «القدير» ، أو «القادر على كل شيء» . وقد فسر الحاخامات لفظ «شدَّاي» بأنه يعني «الكافي» ، ولكنه تفسير غير دقيق. وتُقرَن الكلمة بلفظة «إيل» فيُقال «إيل شدَّاي» . وتُكتَب كلمة «شدَّاي» في تميمة الباب (مزوزاه) التي تأخذ هيئة صندوق، بحيث تمكن رؤية الكلمة من ثقب صغير في الصندوق.(13/161)
الباب الثانى: الشعب المختار
الشعب المختار
Chosen People
مصطلح «الشعب المختار» ترجمة للعبارة العبرية «هاعم هنفحار» ، ويوجد معنى الاختيار في عبارة أخرى مثل: «أتَّا بحرتانو» ، والتي تعني «اخترتنا أنت» ، و «عم سيجولاه» ، أو «عم نيحلاه» أي «شعب الإرث» أي «الشعب الكنز» . وإيمان بعض اليهود بأنهم شعب مختار مقولة أساسية في النسق الديني اليهودي، وتعبير آخر عن الطبقة الحلولية التي تشكلت داخل التركيب الجيولوجي اليهودي وتراكمت فيه. والثالوث الحلولي مُكوَّن من الإله والأرض والشعب، فيحل الإله في الأرض، لتصبح أرضاً مقدَّسة ومركزاً للكون، ويحل في الشعب ليصبح شعباً مختاراً، ومقدَّساً وأزلياً (وهذه بعض سمات الإله) . ولهذا السبب، يُشار إلى الشعب اليهودي بأنه «عم قادوش» ، أي «الشعب المقدَّس» و «عم عولام» أي «الشعب الأزلي» ، و «عم نيتسح» ، أي «الشعب الأبدي» . وقد جاء في سفر التثنية (14/2) "لأنك شعب مقدَّس للرب إلهك. وقد اختارك الرب لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض". والفكرة نفسها تتواتر في سفر اللاويين (20/24، 26) : "أنا الرب إلهكم الذي ميَّزكم من الشعوب ... وتكونون لي قديسين لأني قدوس أنا الرب. وقد ميَّزتكم من الشعوب لتكونوا لي". ويشكر اليهودي إلهه في كل الصلوات لاختياره الشعب اليهودي. وحينما يقع الاختيار على أحد المصلين لقراءة التوراة عليه أن يحمد الإله لاختياره هذا الشعب دون الشعوب الأخرى، ولمنحه التوراة علامة على التميز.....(13/162)
وقد حاول كثير من حاخامات اليهود وكثير من فقهائهم ومفكريهم تفسير فكرة الاختيار، فجاءوا بتفسيرات كثيرة. ولكن، وبغض النظر عن مضمون التفسير، فإن فكرة الاختيار على وجه العموم تؤكد فكرة الانفصال والانعزال عن الآخرين (تعبير عن القداسة الناجمة عن الحلول الإلهي في الشعب) . وقد جاء في التلمود أن جماعة يسرائيل يُشبَّهون بحبة الزيتون لأن الزيتون لا يمكن خلطه مع المواد الأخرى، وكذلك أعضاء جماعة يسرائيل يستحيل اختلاطهم مع الشعوب الأخرى. وقد كانت عملية التفسير هذه ضرورية، في الواقع، لأن أعضاء الشعب المختار المقدَّس، الذي يفترض أن الإله قد حل فيه، وجدوا أنهم من أصغر الشعوب في الشرق الأدنى القديم وأضعفها، ولم يكونوا بأية حال أكثرها رقياً أو تفوقاً، كما حاقت بهم عدة هزائم انتهت بالسبي البابلي.
وقد وردت تفسيرات عدة للاختيار، هي في نهاية الأمر تعبير عن درجات متفاوتة من الحلول، فإن ازدادت النزعة الحلولية زادت القداسة في الشعب، ومن ثم زادت عزلته واختياره:
1 ـ الاختيار كعلامة على التفوق:
أ) لم يختر الإله اليهود بوصفهم شعباً وحسب، بل اختارهم كجماعة دينية قومية توحِّدها أفكارها وعقائدها، وقد عُرضت الرسالة على شعوب الأرض قاطبة، فرفضت هذه الشعوب حملها، وحملها الشعب اليهودي وحده. وقد حوَّلهم هذا الاختيار إلى مملكة من الكهنة والقديسين، وإلى أمة مقدَّسة تتداخل العناصر الدينية والقومية فيها. واختيار الإله لليهود هو جوهر العهد أو الميثاق المبرم بينه وبين إبراهيم (ولنقارن هذه الفكرة الحلولية، بالتصور الإسلامي التوحيدي العالمي، فقد عُرضت الرسالة على السماوات والأرض والجبال فأبيَّن أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان) .(13/163)
ب) يدل الاختيار على تفوق اليهود عرْقياً، فقد اختير إبراهيم لنقائه، واختير اليهود لأنهم من نسله. وقد جاء في التلمود ما يلي: "كل اليهود مقدَّسون.. كل اليهود أمراء.. لم تُخلَق الدنيا إلا لجماعة يسرائيل.. لا يُدْعى أحد أبناء الإله إلا جماعة يسرائيل.. لا يحب الإله أحداً إلا جماعة يسرائيل".
جـ) ويدل الاختيار على تفوق اليهود الأخلاقي، فقد اختار الإله الشعب اليهودي لأنه أول شعب يعبده وحده، أي أنه اختار الشعب لأن الشعب اختاره. وقد جاء في التلمود هذه الكلمات: "لماذا اختار الواحدُ القدوسُ تباركَ اسمُه جماعةَ يسرائيل، لأن ... أعضاء جماعة يسرائيل اختاروا الواحد القدوس تبارك اسمه وتوراته".
ويمكن أن تنحسر النزعة الحلولية قليلاً بحيث يصبح الاختيار علامة على التفرد وحسب (لا على التفوق) . وقد قلَّص أحد المفكرين الإسرائيليين نطاق فكرة الاختيار بحيث جعلها تنصرف إلى علاقة الشعب بالإله وحسب، لا إلى علاقة اليهود بكل البشر.
2 ـ الاختيار كتكليف ديني:
اختار الإله الشعب اليهودي حتى يكون خادماً له بين الشعوب، وليكون أداته التي يُصلح بها العالم ويوحد بها بين الشعوب. وهذا يعني أن الاختيار ليس ميزة وإنما هو تكليف إلهي يعني زيادة المسئوليات والأعباء: "إياكم فقط عرفت من جميع قبائل الأرض لذلك أعاقبكم على جميع ذنوبكم" (عاموس3/2) ، وبالتالي يصبح اليهود "خدام الإله الطيعين". وكثيراً ما يُلاحَظ أن الأنبياء كانوا يعنفون الشعب لفساده الأخلاقي ولاتباعه طرق الشعوب الوثنية الأخرى، وفي هذا تأكيد للفكر التوحيدي. ومع هذا، يُلاحَظ أن الأنبياء، حتى في لحظات نقدهم للشعب اليهودي، كانوا ينطلقون من مقولة اصطفاء الشعب (وفي هذا تأكيد للرؤية الحلولية) .
3 ـ الاختيار كأمر رباني وسر من الأسرار:(13/164)
وأكثر التفسيرات تواتراً، على الأقل على المستوى الوجداني، هو أن الاختيار غير مشروط ولا سبب له، فهو من إرادة الإله التي لا ينبغي أن يتساءل عنها أي بشر، الإله الذي اختار الشعب ووعده بالأرض، وليس لأي إنسان أن يتدخل في هذا. وهذا هو تفسير راشي الذي كان متأثراً بالفكر الإقطاعي الغربي الوسيط والفكر المسيحي، فالاختيار هنا أمر ملكي على العبد الإذعان له وهو سر من الأسرار يشبه الأسرار المسيحية.
والاختيار، حسب هذا التفسير، لا علاقة له بالخير أو الشر، ولا بالطاعة أو المعصية، فهو لا يسقط عن الشعب اليهودي، حتى ولو أتى هذا الشعب بالمعصية، إذ أن حب الإله للشعب المختار يغلب على عدالته، ولذلك لن يرفض الإله شعبه كلية، في أي وقت من الأوقات مهما تكن شرور هذا الشعب. بل يدَّعي أحد المفسرين أن الإله هو الذي اختار الشعب اليهودي، فالاختيار مُلزم له هو وحده وليس ملزماً للشعب (وهذا بخلاف المفهوم الإسلامي للاختيار حيث جعل الاختيار مشروطاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنه ليس اختياراً عنصرياً أو عرْقياً بل هو اختيار أخلاقي غير مقصور على أمة بعينها) .
ورغم أن أتباع كل جماعة دينية يرون أن ثمة علاقة خاصة تربطهم بالإله، وأنهم مختارون بشكل ما، فإن هذا التيار قد تعمق في اليهودية بشكل متطرف، وفَقَد الاختيار أي مضمون أخلاقي واكتسب أبعاداً عرْقية قومية، وتحوَّلت التجربة الدينية عند اليهود من تجربة فردية عمادها الضمير الفردي إلى تجربة جماعية عمادها الوعي القومي. ثم هيمنت القبَّالاه بالتدريج بحيث حولت الشعب اليهودي من مجرد شعب مختار إلى شعب يُعَدُّ جزءاً عضوياً من الذات الإلهية، فهو الشخيناه (التجسيد الأنثوي للحضرة الإلهية) التي تجلس إلى جواره على العرش وتشاركه السلطة.(13/165)
وقد كانت النزعة الحلولية كامنة في داخل النسق الديني اليهودي، ولكن تحوُّل اليهود إلى جماعة وظيفية تعمل بالتجارة والربا زاد إحساسهم باختيارهم. فالجماعات الوظيفية، بسبب وضعها، يكون لديها دائماً إحساس بما يُسمَّى «مُركَّب الشعب المختار» لتبرر وضعها غير الإنساني كجماعة بشرية توجد داخل مجتمع ما ولا تنتمي إليه، فهي فيه وليست منه، تتعامل مع جماهير تُكِّن لها البغض والكراهية، لأنها تمثل مصالح النخبة الحاكمة. كما أن إحساس الجماعة الوظيفية بأنهم مقدَّسون وأن الآخر مدنَّس مُباح يُعمق الإحساس بالاختيار. وقد عبَّر التلمود عن هذا الوضع بمقارنة جماعة يسرائيل بخَدَم الملك. وهناك الكثيرون ممن يكرهون الملك، ولكنهم عاجزون عن الهجوم عليه، ولذا فهم يلومون خادم الملك ويهجمون عليه. فقد اختار الإله جماعة يسرائيل خادماً له، ولذا أصبحت محط حقد الأغيار الذين يهجمون عليها.
ولقد عززت أسطورة الشعب المختار من النزعة المشيحانية في الفكر الديني اليهودي، فكل عضو في أمة الكهنة والقديسين هو تجسيد حي للإله، وصوته من صوت هذا الإله، أي أنه نبي أو شبه نبي بالضرورة. وقد عززت فكرة الاختيار أيضاً الإحساس الزائف لأعضاء الجماعات اليهودية بوجودهم خارج التاريخ وبأن القوانين التاريخية التي تسري على الجميع لا تسري عليهم. ومن المعروف أنه كلما كانت تزداد حال الجماعات اليهودية سوءاً، كان أعضاؤها يزدادون إصراراً على فكرة الاختيار.(13/166)
وفي العصر الحديث، حاول بعض المفكرين اليهود التخفيف من حدة مفهوم الشعب المختار. فقال ليو باييك إن كل شعب يتم اختياره ليكون له نصيب من تاريخ البشرية، ولكن حظ اليهود من هذا التاريخ أكبر من أي نصيب آخر. وقد تمرَّد دعاة حركة التنوير اليهودية، واليهودية الإصلاحية، على مفهوم الاختيار بمعناه العنصري والأخلاقي، وأحلوا محله فكرة الرسالة، ومفادها أن الإله شتَّت اليهود في أنحاء الأرض لا عقاباً لهم وإنما لينشروا رسالته وليصبحوا أداته في تحقيق السلام والخلاص. وقد تخلَّى التجديديون تماماً عن فكرة الاختيار. أما اليهودية المحافظة والأرثوذكسية، فأبقت هذا المفهوم الديني وعمقته.
وتسيطر فكرة الشعب المختار، بعد علمنتها، على الفكر الصهيوني بجميع اتجاهاته. وقد أكد آحاد هعام، منطلقاً من المفاهيم النيتشوية الخاصة بالسوبرمان، أن اليهود أمة متفوقة ( «سوبر أمة» على حد قوله) . وتحدَّث المفكر الصهيوني الاشتراكي نحمان سيركين عن اليهودي بوصفه البروليتاري الأزلي. أما لويس برانديز، فقد تحدَّث عنه بوصفه الديموقراطي الأزلي، أي أن اليهودي قد اختير منذ القدم ليؤدي رسالة أزلية اشتراكية عند الصهيوني الاشتراكي، وأزلية ديموقراطية ليبرالية عند الصهيوني الديموقراطي الليبرالي.
وقد صرح بن جوريون أن دولة إسرائيل تضم الشعب الكنز، ولهذا فإن بوسعها أن تصبح منارة لكل الأمم. وبإمكان المرء، حسب تصوُّر بن جوريون، أن يشير إلى ثلاثة عناصر فعالة في الدولة الصهيونية تلمح إلى المقدرة الأخلاقية والفكرية الكامنة في اليهود:
أ) الاستيطان العمالي للأرض.
ب) جيش الدفاع الإسرائيلي.
جـ) رجال العلم والفن والأدب، أي العبقرية اليهودية.(13/167)
وبطبيعة الحال، لم يذكر بن جوريون شيئاً عن اغتصاب الصهاينة للأرض الفلسطينية وعن الإرهاب الصهيوني لأهلها. بل إن فلسفة بوبر الحوارية هي تعبير مصقول عن فكرة الاختيار، فالحوار الحق ممكن بين الإله واليهود، أساساً بسبب التشابه بينهما، وهو أمر ليس متاحاً لكل الأمم.
ومرة أخرى، تظهر فكرة الاختيار كسر من الأسرار الدينية في لاهوت موت الإله ولاهوت ما بعد أوشفيتس، الذي يجعل الإبادة النازية حدثاً كونياً لا يمكن سَبْر أغواره، ويجعل الدولة الصهيونية نقطة الخلاص التي يتجسد من خلالها الشعب المقدَّس. ولا يزالون في إسرائيل، وفي الأوساط الصهيونية، يتحدثون عن ذكاء اليهود، وعن النسبة غير العادية من اليهود الحاصلين على جوائز نوبل، باعتبار أن هذه الصفات الإيجابية نابعة من الخصوصية اليهودية أو الجوهر اليهودي أو الطبيعة اليهودية داخل الأفراد.
ولكن ثمة تياراً داخل الصهيونية يرى أن هدفها هو تطبيع اليهودي، أي تحويله من إنسان مقدَّس إلى إنسان سوِّي عادي يعيش في دولة قومية شأنه شأن الشعوب الأخرى.
وقد ساهمت فكرة الاختيار هذه في نشر كثير من الأوهام والشائعات عن أعضاء الجماعات اليهودية، مثل: بروتوكولات حكماء صهيون، والمؤامرة اليهودية الكبرى أو العالمية. وقد ظهر مؤخراً لاهوت التحرير الذي يقلِّص النزوع الحلولي. وبالتالي، يتحول مفهوم الاختيار من مفهوم مطلق وسر من الأسرار إلى عملية تكليف ديني وإلزام خُلقي.
أمة الروح
Nation of the Spirit(13/168)
«أمة الروح» بالعبرية «عم هاروَّح» ، وهو مصطلح يطلقه اليهود على أنفسهم باعتبار أنهم أمة لا تعيش على أرض مشتركة، ولا تتحدث لغة واحدة، وإنما تتمركز حول التوراة والتراث اليهودي. وهي الصياغة الفريسية لليهودية التي استمرت منذ أن قام تيتوس بهدم الهيكل. ومفهوم أمة الروح مرتبط تماماً بمفهوم الشعب المختار والشعب اليهودي، وتستند الصهيونية الثقافية إلى هذا المفهوم. ولكن، رغم الزعم بأن الروح اليهودية تتمركز حول التوراة، إلا أن قارئ كتابات آحاد هعام ومارتن بوبر يُلاحظ أن العناصر الإثنية تشكل أساساً لهذه الروح، فالروح هنا هي روح الشعب العضوي اليهودي (فولك) التي لا تتحقق أو تعبِّر عن نفسها تاريخياً إلا في الأرض المقدَّسة. وهذه الأفكار تعود إلى كتابات الرومانسيين الألمان. ولذا، فليس من الغريب أن نجد بوبر يتحدث، مثل النازيين تماماً، عن التربة والدم والعرْق باعتبارها قيماً روحية مطلقة.
الشعب المقدس
Holy People(13/169)
«الشعب المقدَّس» ترجمة للعبارة العبرية «عم قادوش» . وهي عبارة يُطلقها كثير من اليهود، وخصوصاً اليهود الأرثوذكس، على الشعب اليهودي باعتبار أنه شعب مختار له رسالة متميِّزة وسمات خاصة تميِّزه وتفصله عن الشعوب الأخرى. بل إن الفكرة تأخذ شكلاً متطرفاً أحياناً، فقد أتى في أحد كتب المدراش أن الشعب اليهودي والتوراة كانا كلاهما في عقل الإله قبل الخلق، أي مثل القرآن في الإسلام والمسيح في المسيحية. و «يسرائيل» (الشعب) و «يسرائيل» (التوراة) متعادلان، لأن يسرائيل وحدها هي التي ستحقق التوراة وتنفذ تعاليمها. فالعالَم بدون هذا الشعب، شعب التوراة، لا قيمة له، أي أن الشعب المقدَّس هو الركيزة النهائية للكون بأسره. وقد أصبح اليهود شعباً مقدَّساً بسبب الحلول الإلهي فيهم وتَقبُّلهم عبء الأوامر والنواهي، فحياة اليهودي لابد أن يتم تنظيمها بحيث يقلد اليهودي سمات الإله فتصبح حياته مقدَّسة. وانطلاقاً من هذا، تصبح القومية اليهودية نفسها قومية مقدَّسة. ويستند كثير من المفاهيم الدينية إلى الإيمان بقدسية الشعب اليهودي. وقد عمَّقت القبَّالاه هذا التيار وجعلت الشعب المقدَّس شريكاً للإله في عملية إصلاح الكون (تيقون) . ومن المصطلحات الأخرى المستخدمة للإشارة إلى الفكرة نفسها، تعبير «الشعب المختار» أو «الشعب الأزلي» . والواقع أن فكرة الشعب المقدَّس، أو الأفكار الأخرى المماثلة، هي في نهاية الأمر تعبير عن الطبقة الجيولوجية الحلولية في اليهودية حيث يتحول الشعب إلى شعب مقدَّس وتتحول الأرض إلى أرض مقدَّسة. وقد حاولت اليهودية الإصلاحية تخليص الدين اليهودي من مثل هذه المصطلحات، لكن الحركة الصهيونية بعثتها من جديد بعد أن قامت بعلمنتها.
البقية الصالحة
Good Remnant(13/170)
مصطلح «البقية الصالحة» يقابلها في العبرية مصطلح «شئيريت يسرائيل» . وفي الحقيقة، فإن هناك تياراً نخبوياً ممتداً يسري في مجرى الفكر الديني اليهودي ويعبِّر عن الحلولية الكامنة فيه. فقد كان الأنبياء يؤمنون، ضمن ما كانوا يؤمنون به من الفكر الأخروي، بأن أفراد هذا الشعب لن يهلكوا جميعاً رغم صنوف العذاب والويل التي تلحق بالشعب المختار، إذ ستبقى دائماً بقية أو نخبة صالحة سوف تعود وتشيد مملكة الإله في آخر الأيام. وترد الفكرة بصورة أساسية في سفر أشعياء (وخصوصاً 6/11 ـ 13، 10/21) الذي سمَّى ابنه «شيئار ياشوف» ، أي «البقية ترجع» (7/3) . ورغم نخبوية هذا المفهوم في فكر الأنبياء، فإن له مضموناً خلقياً، فهذه البقية صالحة لأنها قبلت عبء الوصايا وعبء مملكة الرب. ويرى الفيلسوف الألماني اليهودي روزنزفايج أن مفهوم «البقية الصالحة» مفهوم محوري في حياة جماعة يسرائيل، يتحكم في تاريخها منذ عصر الأنبياء. وقد عرَّف روزنزفايج كلمة «البقية» بأنها «نخبة احتفظت بإيمانها» ، وأن أفراد البقية هم «الشعب داخل الشعب» . والتاريخ اليهودي، من هذا المنظور، هو تاريخ هذه النخبة التي تتكيف مع العالم الخارجي حتى يتسنى لها أن تنسحب إلى داخل عالمها الخاص تنتظر عودة الماشيَّح. وقد تَعمَّق هذا المفهوم مع زيادة هيمنة الحلولية على النسق الديني اليهودي إلى أن نصل إلى الحسيدية وفكرة التساديك الذي تُعَدُّ إرادته من إرادة الإله، والذي لا يمكن مساءلته أخلاقياً، فهو وحده الذي يفهم المدلول الأخلاقي لأفعاله.(13/171)
وقد علمن الصهاينة فكرة النخبة الصالحة وحولوها إلى فكرة سياسية. ولذا، نجد أن ثمة تياراً نخبوياً نيتشوياً داروينياً يسري أيضاً في الفكر الصهيوني، فالصهاينة يرون أنهم البقية أو النخبة الصالحة التي عادت وشيَّدت الدولة الصهيونية لتكون مركزاً لليهود واليهودية في العالم، لتحفظها من الاندماج والانصهار والاختفاء. وانطلاقاً من هذا المفهوم، فإنهم يؤمنون بضرورة نفي الدياسبورا، أي القضاء على الجماعات اليهودية، أو على الأقل استغلالها. واستناداً إلى هذا المفهوم أيضاً، فإن الصهاينة فاوضوا أيخمان والنازيين وعقدوا معهم الصفقات. وبموجب إحدى هذه الصفقات، وافق أيخمان على السماح بترحيل بضعة آلاف من اليهود إلى فلسطين مقابل أن تتم عملية شحن يهود المجر إلى ألمانيا في نظام وهدوء لتتم إبادتهم. وقد وصف إيخمان النخبة أو البقية الصالحة التي أُرسلت إلى فلسطين بأنهم كانوا "من أفضل المواد البيولوجية". وهكذا نجد أن المفهوم الدارويني الخاص بأن البقاء للأصلح يلتقي بالمفهوم الصهيوني الخاص ببقاء النخبة!
وبعد الحرب العالمية الثانية، اكتسب المفهوم بعداً جديداً، فقد نُحتَ مصطلح «شئيريت هبليتاه» ، أي «البقية الباقية» أو «الناجية» ، وهم اليهود الذين لم يبادوا، والذين عليهم أن يضطلعوا بالمهمة المقدَّسة، وهي تأكيد البقاء اليهودي والحياة القومية (الصهيونية الاستيطانية) وتأسيس دولة إسرائيل.
كلال يسرائيل
Kelal Yisrael(13/172)
«كلال يسرائيل» عبارة عبرية تعني «جماعة يسرائيل» أو «عموم يسرائيل» أو «يسرائيل المجمعة على هويتها» أو «يسرائيل كافة» . وتُستخدَم العبارة للإشارة إلى كل الشعب اليهودي ككيان عضوي متكامل يكتسب تكامله وتلاحمه العضوي من خلال الحلول الإلهي. ونحن نذهب إلى أن الرؤية الحلولية هي في جوهرها رؤية عضوية للكون، فكلاهما نسق يستند إلى ركيزة نهائية ليست متجاوزة للمادة الكامنة فيها. ومفهوم «كلال يسرائيل» مفهوم محوري في اليهودية المحافظة. فـ «كلال يسرائيل» ، هي في الواقع صياغة دينية حلولية لمفهوم الشعب العضوي (فولك) . وفي الواقع، فإن بعض المفكرين اليهود، مثل زكريا فرانكل، قد تأثروا بالتراث الألماني الرومانسي الذي مَجَّد روح الشعب وفكرة الشعب العضوي ثم حاولوا توليد فكرة مماثلة من داخل التراث الحلولي اليهودي. وقد طرح زكريا فرانكل تصوراً عضوياً نظر من خلاله إلى الحضارة اليهودية باعتبارها نسقاً كلياً عضوياً متلاحم الأجزاء، ورأى الشعب اليهودي باعتباره شعباً عضوياً. وهذا التصور هو الذي أفرز فيما بعد الفكر النازي ورؤية النازيين للشعب. ومثل هذه الأفكار العضوية هي التي أفرزت شعارات مثل «ألمانيا فوق الجميع» ، وتفرز الآن شعارات التوسعية الصهيونية التي تنادي بأن «أرض إسرائيل لشعب إسرائيل حسب شريعة إسرائيل» .
كنيست يسرائيل
Knesset Yisrael(13/173)
«كنيست يسرائيل» عبارة عبرية تعني «جماعة يسرائيل» . وهو اصطلاح ديني حلولي يشير إلى الجماعة اليهودية ككل، ويُطلَق في التراث القبَّالي على الشخيناه (التعبير الأنثوي عن الذات الإلهية) باعتبار أن الشعب اليهودي جزء من الإله متوحد معه يشغل مركز الكون ويشكل وجوده عنصراً أساسياً في خلاص الكون واتساقه وتوازنه. وقد استُخدمت العبارة في العصر الحديث للإشارة إلى التجمع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين قبل عام 1948. وهي بذلك مرادفة تقريباً لكلمة «يشوف» . ويُسمَّى البرلمان الإسرائيلي «الكنيست» .
العهد
Covenant
«العهد» ترجمة للكلمة العبرية «بريت» ، وتُترجم أحياناً بكلمة «ميثاق» . والعهد اتفاق يُعقَد بين طرفين بكامل حريتهما. وكانت كلمة «عهد» تعني «معاهدة سلام بعد الحرب» ، فكان دخول العهد في دول وممالك الشرق الأدنى القديم يأخذ الشكل التالي: يمر الطرفان المتعاهدان بين قطع من لحم حيوان ضُحِّي به، ويقسمون بأنهم سيُقطَّعون إرباً إرباً مثل هذا الحيوان إذا هم حنثوا بالعهد، ومن هنا عبارة «قطع العهد» (كارات: قطع ـ بريت: عهد) .(13/174)
ويدور التفكير الديني اليهودي حول العهود التي قطعها الإله على نفسه، وهي عهود متكررة عبر التاريخ المقدَّس الذي يحل فيه الإله ويوجهه حسب الرؤية الدينية اليهودية. فهذا التاريخ يبدأ بالعهد الذي قطعه الإله على نفسه لإبراهيم بأن يصطفيه دون العالمين وأن يُورِّث نسله أرض كنعان (فلسطين) . وقد تم تأكيد العهد لإسحق ويعقوب. ثم جُدِّد هذا العهد مع الشعب ككل (أي مع جماعة يسرائيل) في سيناء، وذلك بعد الخروج من مصر، حيث يعلن الإله لأفراد الشعب أنه أخرجهم من مصر واختارهم شعباً له. وبذا، حوَّل العهد جماعة يسرائيل ككل إلى شعب مختار من الكهنة، وأصبحت ممثلة للإله بين الشعوب، وأصبحت وظيفتها إنقاذ الجنس البشري من الخطايا والذنوب التي يرتكبها الناس. وقد كان العهد مع إبراهيم منحة ملكية وليس عقداً بين طرفين. ولكن تحت تأثير الأنبياء، ظهرت فكرة العقد المتبادل، وهو أن الشعب يُطيع الإله ويتبع الشريعة، وأن الإله لذلك سيرعاه ويحميه، أي أن الاختيار يصبح هنا مشروطاً بفعل الخير. لكن هذا الموقف تآكل وأصبح العهد مرة أخرى عهداً أبدياً. فقد يخطئ هذا الشعب، وقد يزل، وقد يعصى ويفسد، بل قد يعاقبه الإله، ولكنه سيظل مع هذا شعباً مختاراً. وتشبِّه المشناه هذه العلاقة بأنها مثل علاقة رجل بزوجته العاهرة، فرغم عهرها الواضح لا يمكنه التخلي عنها، لأنها أم أولاده (فسحيم 128 ـ ب) . وقد استخدم هوشع هذا التشبيه من قبل فهو قد اتخذ «بأمر الرب» زوجة من الداعرات ليبرهن للشعب المقدَّس بشكل تجسيدي من خلال دراما شخصية أنه على الرغم من انحرافه عن طريق الرب فإن الإله تمسَّك به. ويَتصوَّر بعض مفكري اليهود أن العهد بين الإله والشعب مُلزم له وحده، وليس مُلزماً للشعب، فهو الذي قطع العهد على نفسه. وهم بذلك يُسقطون، مرة أخرى، البُعد الأخلاقي الذي أضافه الأنبياء.(13/175)
وقد عقد الإله عهوداً ومواثيق كثيرة، فقد عاهد نوحاً بأنه لن يرسل طوفاناً آخر يخرب الأرض، كما قطع عهداً منح فيه الكهانة لبيت هارون، أما نسل داود فمنحهم الملوكية. وقد يعقد الإله مواثيق مع الشعوب الأخرى، ولكن ميثاقه مع جماعة يسرائيل يظل هو الأساس. ويشير كل الأنبياء إلى اليهود بوصفهم «بنو يسرائيل» أو «بناي بريت (أبناء العهد) » على أساس من فكرة العهد هذه. ولكل ميثاق علامة تقف شاهداً على صلاحيته الدائمة، فعلامة الميثاق أو العهد مع نوح كانت قوس قزح، وعلامة الميثاق مع إبراهيم كانت الختان، وعلامة العهد مع جماعة يسرائيل في سيناء هي السبت والوصايا العشر والتوراة.(13/176)
وجاء في إرميا (31/31) إشارة إلى «بريت حداشاه» أي (العهد الجديد) ، وهو عهد سيبرمه الإله مع الشعب ليحل محل العهد القديم الذي لم ينفذه الشعب. ومن هنا كانت التسمية المسيحية، إذ ترى المسيحية نفسها أنها هذا العهد الجديد الذي سيحل محل العهد القديم. والعهد الجديد سيتخلص من الحلولية القديمة ويطرح رؤية توحيدية عالمية تفتح باب الخلاص أمام الجميع، إذ أن الإله ليس إلهاً قومياً حالاًّ في شعب واحد يتحد معه وإنما هو إله العالمين المتجاوز للطبيعة والتاريخ. ويدور الفكر الصهيوني أيضاً حول فكرة العهد. فأحقية اليهود في أرض الميعاد، حسب تصوُّرهم، مسألة مطلقة لا تقبل النقاش بسبب هذا العهد. ويرى الصهاينة الدينيون أن العهد حقيقة تاريخية، ومن ثم فإنهم يرون أن مصدر المطلقية هو الإله، أما بن جوريون فكان يرى أن أعضاء جماعة يسرائيل هم الذين اختاروا الرب إلهاً لأنفسهم وبدونهم فلن يكون إلهاً. بل ويذهب بن جوريون إلى أنه لا يهم إن كانت واقعة العهد حقيقية أم لا، وإنما المهم أن هذه الأسطورة مغروسة في الوجدان اليهودي، ولذا فإن مصدر المطلقية هنا هو إيمان الشعب بأساطيره الشعبية. ولنلاحظ دائرية هذا المنطق والتفافه حول نفسه، ولنلاحظ أيضاً تساوي الإله بالشعب كمصدر للقداسة وهو أمر كامن في النسق الحلولي الديني اليهودي.
الميثاق
Covenant
«الميثاق» ترجمة عربية لكلمة «بريت» ومعناها «عهد» . وفي هذه الموسوعة نستخدم كلمة «عهد» نظراً لاستخدامها وشيوعها في عبارتي «العهد القديم» و «العهد الجديد» .(13/177)
الباب الثالث: الأرض
الأرض (إرتس)
The Land - Eretz
«الأرض» هي المقابل العربي لكلمة «إرتس» العبرية التي ترد عادةً في صيغة «إرتس يسرائيل» أي «أرض إسرائيل» (فلسطين) . ويدور الثالوث الحلولي حول الإله والشعب والأرض فتقوم وحدة مقدَّسة بين الأرض والشعب لحلول الإله فيهما وتوحده معهما، ولذا ترتبط الديانات والعبادات الوثنية الحلولية بأرض محدَّدة أو بمكان محدَّد وبشعب يقيم على هذه الأرض أو على علاقة ما بها.
والحلولية طبقة جيولوجية مهمة تراكمت داخل التركيب الجيولوجي اليهودي، تتبدَّى في إضفاء القداسة على الأرض نتيجة الحلول الإلهي فيها، ولذا فإن إرتس يسرائيل (فلسطين) تُسمَّى «أرض الرب» (يوشع 9/3) ، وهي الأرض التي يرعاها الإله (تثنية 11/12) ، ثم هي الأرض المختارة، وصهيون التي يسكنها الرب، والأرض المقدَّسة (زكريا 2/12) التي تفوق في قدسيتها أيَّ أرض أخرى لارتباطها بالشعب المختار. وقد جاء في التلمود: «الواحد القدوس تبارك اسمه قاس جميع البلدان بمقياسه ولم يستطع العثور على أية بلاد جديرة بأن تمنح لجماعة يسرائيل سوى أرض يسرائيل» . وهي كذلك «الأرض البهية» (دانيال 11/16) .....(13/178)
والواقع أن تعاليم التوراة، كتاب اليهود المقدَّس، لا يمكن أن تُنفَّذ كاملة إلا في الأرض المقدَّسة. بل، وكما جاء في أحد أسفار التلمود وفي أحد تصريحات بن جوريون، فإن السكنى في الأرض بمنزلة الإيمان: "لأن من يعيش داخل أرض يسرائيل يمكن اعتباره مؤمناً، أما المقيم خارجها فهو إنسان لا إله له". بل إن فكرة الأرض تتخطى فكرة الثواب والعقاب الأخلاقية (كما هو الحال دائماً داخل المنظومة الحلولية) ، فقد جاء أن من يعيش خارج أرض الميعاد كمن يعبد الأصنام، وجاء أيضاً أن من يسر أربع أذرع في إرتس يسرائيل يعش لا ريب إلى أبد الآبدين، ومن يعش في إرتس يسرائيل يطهر من الذنوب، بل إن حديث من يسكنون في إرتس يسرائيل توراة في حد ذاته. وقد جاء في سفر أشعياء (33/24) أنه "لا يقول ساكن [في الأرض] أنا مَرضْت. الشعب الساكن فيها مغفور الاثم".
وقد ارتبطت شعائر الديانة اليهودية بالأرض ارتباطاً كبيراً، فبعض الصلوات من أجل المطر والندى تُتلى بما يتفق مع الفصول في أرض الميعاد، كما أن شعائر السنة السبتية (سنة شميطاه) ، والشعائر الخاصة بالزراعة وبعض التحريمات الخاصة بعدم الخلط بين الأنواع المختلفة من النباتات والحيوانات لا تُقام إلا في الأرض المقدَّسة. وتدور صلوات عيد الفصح حول الخروج من مصر والدخول في الأرض، ويردد المحتفلون بالعيد الرغبة في التلاقي العام القادم في أورشليم، والواقع أن الثمانية عشر دعاءً (أهم قسم في الصلوات اليومية ويُدعى «شمونة عسريه» بالعبرية) يتضمن دعاءً بمجيء الماشيَّح الذي سيأتي في آخر الأيام ويقود شعبه إلى الأرض. وحتى الآن، يرسل بعض أعضاء الجماعات اليهودية في العالم في طلب شيء من تراب الأرض ليُنثَر فوق قبورهم بعد موتهم.(13/179)
وقد تَعمَّق التيار الحلولي، وتَعمَّق الارتباط اليهودي بالأرض، مع تدهور اليهودية، ولكنه مع هذا ظل ارتباطاً عاماً عاطفياً مجرداً بسبب وجود اليهود كجماعات منتشرة في العالم (لا يرغب معظمهم في العودة الفعلية) . وقد عبَّر التراث التلمودي عن هذه الازدواجية بأن شجع على حب صهيون والارتباط بها، وحذَّر في الوقت نفسه من العودة الفعلية لها. وطالب الحاخامات اليهود بوجوب انتظار الماشيَّح والإذعان لإرادة الإله، وهو الرأي الذي رفضته الجماعات المشيحانية المختلفة ابتداءً بشبتاي تسفي وانتهاءً بالصهيونية التي ترتكب خطيئة «التعجيل بالنهاية» ( «دحيكات هاكيتس» ) . ومع هيمنة القبَّالاه، تَعمَّق الارتباط بالأرض وتعمقت قداستها، ولكن العودة ظلت أمراً محرماً، إلى أن نصل إلى العصر الحديث مع الحركة الصهيونية (أما في الإسلام، فإن الأمر مختلف حيث بدأ الإسلام في مكة والحجاز ثم انفصل عنهما لأنه دين مُرسَل إلى كل الناس في كل زمان ومكان، ولا تُقاس التقوى في الإسلام بمدى القرب أو البعد عن مكة، وإنما تقاس بمدى القرب أو البُعد عن القيم الأخلاقية الإسلامية، أي أن انفصال الإسلام عن المكان وارتباطه بمجموعة من القيم هو بمنزلة تأكيد لحرية الفرد المسلم ومسئوليته ومقدرته على تجاوز الواقع المادي والتسامي عليه إن أراد) .(13/180)
وإذا كان الشعب يمتزج بالأرض في النسق الحلولي، فإن الزمان المقدَّس (التاريخ اليهودي) يمتزج بالمكان المقدَّس (الأرض) . ويتبدَّى هذا في أن الأرض المقدَّسة هي أرض الميعاد، لأن الإله وعد إبراهيم وعاهده على أن تكون هذه الأرض لنسله. وهي أيضاً «أرض المعاد» التي سيعود إليها اليهود تحت قيادة الماشيَّح، أي الأرض التي ستشهد نهاية التاريخ. والأرض هي مركز الدنيا لأنها توجد في وسط العالم، تماماً كما يقف اليهود في وسط الأغيار وكما يشكل تاريخهم المقدَّس حجر الزاوية في تاريخ العالم وتشكل أعمالهم حجر الزاوية لخلاص العالم. فإذا كان الشعب اليهودي هو أمة الكهنة، فإن الأرض بمنزلة المعادل الجغرافي لهذا التصور. وليس التاريخ اليهودي، حسب التصورات الحلولية التقليدية أو الصهيونية، إلا تعبيراً عن الارتباط بالأرض، وهو في الواقع ارتباط يجمع بين التاريخ الحي والجغرافيا الثابتة، الأمر الذي يؤدي إلى إلغاء وجود اليهود التاريخي خارج فلسطين. فهو وجود خارج الأرض، وبالتالي خارج التاريخ. كما يُلغي تاريخ الأرض نفسها باعتبار أنها مكان مطلق منبت الصلة بالزمان، خاو على عروشه، ينتظر ساكنيه الأزليين المقدَّسين.(13/181)
وقد تَضخَّم الحديث عن الأرض وعن ارتباط اليهود بها فتحولت إلى فكرة لاهوتية ونشأ ما يُسمَّى «لاهوت الأرض المقدَّسة» . وكان من أهم المشكلات التي ناقشها لاهوت الأرض مشكلة حدودها، فقد جاء في سفر التكوين (15/18) أن الإله قد قطع مع إبراهيم عهداً قائلاً: "لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات". ولكن في الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر العدد توجد خريطة مغايرة حددت على أنها «أرض كنعان بتخومها» ، وحددت التخوم بشكل يختلف عن خريطة سفر التكوين. وقد حل الحاخامات هذه المشكلة بأن شَبَّهوا الأرض بجلد الإبل الذي ينكمش في حالة العطش والجوع ويتمدد إذا شبع وارتوى. وهكذا الأرض المقدَّسة، تنكمش إذا هجرها ساكنوها من اليهود، وتتمدد وتتسع إذا جاءها اليهود من بقاع الأرض.(13/182)
ومن المشكلات الطريفة التي واجهها لاهوت الأرض مشكلة ملكيتها. فالأرض المقدَّسة عبر تاريخها كان يقطن فيها، في معظم الأحيان، شعب غير مقدَّس. فمنذ بداية تاريخها وحتى عام 1000 ق. م، كان يقطن فيها الكنعانيون والفلستيون، ثم قطن فيها اليهود بضع مئات من السنين، ثم توافدت عليها بعد ذلك أقوام أخرى، إلى أن اختفى أي وجود يهودي حقيقي عام 70م. وهنا، كان على مفكري اليهود حل هذه المشكلة. وقد تناول الحاخام راشي العبارة الافتتاحية في التوراة التي تقول: "في البدء خلق الإله السموات والأرض"، فكتب معلقاً: إن الإله يخبر جماعة يسرائيل والعالم أنه هو الخالق، ولذلك فهو صاحب ما يخلق، يوزعه كيفما شاء. ولذا، إذا قال الناس لليهود أنتم لصوص لأنكم غزوتم أرض يسرائيل وأخذتموها من أهلها فبإمكان اليهود أن يجيبوا بقولهم: «إن الأرض مثل الدنيا ملك الإله، وهو قد وهبها لنا» . فالأرض المقدَّسة، توجد، إذن، خارج التاريخ، وهي جزء من السماء والأرض اللتين خلقهما الإله قبل بداية التاريخ، والإله الذي يحل في الطبيعة والتاريخ هو صاحب التصرف فيهما معاً. وقد استخدم مارتن بوبر المنطق نفسه في العصر الحديث في مجال تبرير الاستيلاء الصهيوني على الأرض.(13/183)
وقد حاولت اليهودية الإصلاحية أن تنفي أية إشارات إلى الأرض والعودة إليها في الصلوات اليهودية، على عكس اليهودية الأرثوذكسية والمحافظة التي تؤكد أهمية العلاقة الأزلية والرابطة الصوفية بين اليهودي والأرض. أما الصهيونية بجميع مدارسها، باستثناء الصهيونية الإقليمية، فتقوم على أساس التقديس العلماني أو الديني للأرض. وقد أحيا الفكرالصهيوني الثالوث الحلولي في اليهودية القديمة (وحدة الإله أو التوراة بالشعب بالأرض) ، فترك فكرة القداسة بشكل عام دون تحديد مصدرها: هل هي من الإله (وهذه هي الصيغة التي تأخذ بها الصهيونية الدينية) أم هي صفة دنيوية مُتوارَثة لصيقة بالشعب اليهودي والأرض اليهودية كامنة فيهما (وهي التي تأخذ بها الصهيونية اللادينية) . والصيغة الدينية هي حلولية متطرفة بحيث يتم تقديس الأرض لأنها متوحدة مع الإله، أما الصيغة العلمانية فهي حلولية بدون إله حيث تصبح الأرض هي الإله، وقد صرح ديان أن أرض يسرائيل هي ربه الوحيد. وقد استولى الصهاينة على الأرض الفلسطينية، وطردوا سكانها بالقوة العسكرية باعتبارها الأرض المقدَّسة. وأُسِّس الصندوق القومي اليهودي لتحويل المفهوم الصهيوني إلى حقيقة. وهكذا، فإنه يقوم بالحصول على الأرض باسم الشعب اليهودي، ويحرِّم دستوره تأجيرها أو بيعها لغير اليهود أو للأغيار العرب.(13/184)
ونظراً لأن التراث الديني اليهودي يحتوي على عدة خرائط تتفاوت في اتساعها وضيقها، فإنه توجد مدارس صهيونية عديدة تطرح كل منها صيغتها التوسعية الخاصة. فمنهم من يوِّسع نطاق القداسة لتضم سيناء، ومنهم من يضيقها لتقف عند حدود 1948. وهناك مدارس مختلفة داخل الجيش الإسرائيلي. ويرى يوري أفنيري أن فكرة الأرض المقدَّسة تُستخدَم فقط كنوع من الاعتذاريات والمسوغات بعد عمليات الضم نفسها، وأن ما يقرر الضم والانسحاب هو حركيات القوة الذاتية الصهيونية. وقد أشار إلى أن مرتفعات الجولان ليست لها أية قداسة خاصة، أو أن درجة قداستها تقل عن قداسة شبه جزيرة سيناء. وقد انسحبت إسرائيل مع هذا من سيناء، ولكنها لم تنسحب من الجولان. ولذا، يرى أفنيري أن دراسة التوسعية الصهيونية تتطلب دراسة الملابسات السياسية والعسكرية لا الآراء الفقهية.
وكما يؤكد الفكر الصهيوني أهمية الأرض كعنصر أساسي في البعث القومي، يؤكد الفكر النازي أيضاً الشيء نفسه، فالشعب العضوي لا يمكنه أن ينهض إلا في أرضه التي يرتبط بها برباط عضوي قوي، وفي هذه الأرض وحدها يمكن أن تُولَد روح الشعب من جديد. ومن هنا أبدى النازيون تفهماً واضحاً لرغبة اليهود الصهاينة في الهجرة إلى أرضهم. ومن ثم قال أيخمان، في محاكمته، إن النازية كانت تهدف إلى وضع قليل من الأرض الثابتة تحت أقدام اليهود الجائلين. وهذا القول لا يختلف كثيراً عن الشعار الصهيوني «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» فالصورة المشتركة هي صورة شعب جائل تائه يحتاج إلى أرض راسخة يضرب بجذوره فيها.(13/185)
ويبدو أن الارتباط بالأرض (الوطن القومي البعيد) من السمات الأساسية للجماعات الوظيفية كافة، فهذا الارتباط يُضعف انتماءها للوطن الذي تعيش فيه. ومن ثم، يُضعف ارتباطها به، ويزيد انفصالها عنه وبالتالي تتزايد أيضاً موضوعيتها وتعاقديتها. كما أن الارتباط بالأرض (المقدَّسة البعيدة) ، مقابل الأرض غير المقدَّسة القريبة، يزيد ترابط أعضاء الجماعة الوظيفية، وهو في نهاية الأمر يضعف الانتماء التاريخي، ومن ثم يعيش عضو الجماعة الوظيفية داخل مجتمع لا توجد بينه وبينها روابط تراحُم، فتزداد كفاءته في أداء وظيفته.
صهيون
Zion
«تسيون» اسم تل وقلعة في القدس (يُشار له في اللغة العربية بـ «جبل المكبر» أو «جبل الزيتون» ) . وأصل الاسم غير معروف، ولكن هناك من ذهب إلى القول بأن الاسم مشتق من الكلمة الحورية «صيا» التي تعني «قلعة أو صخرة أو مكاناً جافاً أو ماءً جارياً» . وقد استُخدم الاسم، في بداية الأمر، للإشارة إلى قلعة اليبوسيين جنوب شرقي القدس أسفل تل أوفيل وجبل الهيكل أو جبل البيت أو هضبة الحرم. وقد سُمِّيت «بيت داود» بعد أن وقعت في يد داود. وبعد أن نقل لها حكمه، أصبحت كلمة «جبل صهيون» تشير إلى كل من تل أوفيل وجبل البيت، وهذا هو الاستعمال الذي شاع في زمن الحشمونيين حينما كان يُشار إلى جبل البيت بأنه جبل صهيون. ويُقال إن داود قد دُفن فيه. ولكن، مع القرن الأول الميلادي، أصبح الموضع الحالي الذي يوجد جنوب غربي مدينة القدس والذي يُشار إليه باعتباره جبل صهيون، مع أن معظم العلماء يرون أنه لا يمثل موضع جبل صهيون الأصلي.(13/186)
وحسب الرؤية الحلولية اليهودية، يسكن الإله في هذا الجبل المقدَّس، فقد ورد في المزامير: «رِّنموا للرب الساكن في صهيون» (مزامير 9/11) . ولكن الحلولية ترد كل شيء إلى مستوى واحد، وهو ما يعني تَداخُل الأشياء والظواهر وتَساقُط حدودها وذوبانها جميعاً في كلٍّ واحد. ولذا، تأخذ دلالة الكلمة في الاتساع إلى أن تشمل أي زمان ومكان لهما علاقة بالشعب المقدَّس. فكلمة «صهيون» لا تشير إلى الجبل وحده، بل إنها تشير أيضاً إلى المدينة المقدَّسة. ولكنها ليست مدينة وحسب، بل هي أيضاً «أم يسرائيل» التي سيُولَد الشعب اليهودي من رحمها. ولذا، يُطلَق على الشعب مُصطلَح «بنت صهيون» . ويزداد نطاق دلالة الكلمة اتساعاً، فنجد أن صهيون ليست الأم فحسب، بل هي الزوجة المهجورة، أي أنها «الشعب اليهودي» نفسه الذي يقاسي من آلام النفي. ثم تتسع الدلالة أكثر، فنجد أن كلمة «صهيون» تشير إلى كلٍّ من الشعب والأرض، فالأرض المقدَّسة ككل تُسمَّى «صهيون» . وتعني كلمة صهيون أيضاً «السماء» . ومع هذا، تظل الدلالة تتسع حتى نكتشف أن صهيون (الجبل أو المدينة أو الأرض) ستصبح عاصمة العالم كله عند مقدم الماشيَّح، وتصبح ذات دلالات أخروية (إسكاتولوجية) عميقة. وهكذا، تتمركز صهيون في وسط الجغرافيا والتاريخ، وعلى قمتهما.
وفي محاولة لتهدئة النزعة المشيحانية في اليهودية، ولترويض الاتجاهات المتطرفة، فسر فقهاء اليهود كلمة «صهيون» بأنها المكان الذي اختاره الإله واصطفاه بالمعنى الديني وحسب. وبالتالي، يُعَدُّ السكن في صهيون عملاً خيِّراً بالمعنى الديني، ويُصبح حب صهيون والحنين إليها أمراً دينياً، أي أن صهيون ليست موقعاً جغرافياً وإنما هي مفهوم ديني.
وقد أسقطت الحركة الصهيونية هذا التمييز وفسَّرت «صهيون» تفسيراً حرفياً، فلم تَعُد رمزاً دينياً، وإنما مكاناً ملائماً للاستيطان. وقد اشتق اسم الحركة الصهيونية من كلمة «صهيون» .(13/187)
وبسبب اختلاط المجال الدلالي للكلمة، طبعت الكنيسة الإنجليكانية في نيوزيلندا كتاب صلوات يُسقط كلمة «صهيون» وكلمة «إسرائيل» ويحل محلهما كلمات مثل: «جبل الإله المقدَّس» بدلاً من «صهيون» ، و «شعب الإله» بدلاً من «إسرائيل» . وبالتالي، فإن الكنيسة تضمن عدم الخلط بين المُصطلَحات، التي أفسدها الصهاينة باستيلائهم عليها، وبين القصد الديني الأصلي.
الأرض المقدسة
Holy Land
«الأرض المقدَّسة» هي «إرتس يسرائيل» ، أي أرض فلسطين) انظر: «الأرض [إرتس] » ـ «إرتس يسرائيل» ) .
أرض الميعاد
The Promised Land
انظر: «الأرض (إرتس) » .
احترام حياة اليهودي (بكوَّح نيفيش)
Pikuah Nefesh
«احترام حياة اليهودي» هي عبارة نستخدمها للتعبير عن مُصطلَح «بكوَّح نيفيش» العبري، وكلمة «نيفيش» تعني «نفس» ، أما كلمة «بكوَّح» فتعني حرفياً «الوعي» (بقيمة الإنسان) . وينطلق هذا التعبير من مفهوم تلمودي ويشير حرفياً إلى واجب إنقاذ الحياة الإنسانية إن تعرضت للخطر ولكنه يشير فعلياً إلى واجب إنقاذ حياة اليهود. وقد ورد في اللاويين (19/16) "لا تقف على دم قريبك" بمعنى أنك لن تقف متفرجاً حينما يسيل دم جارك (اليهودي) . إذ يبدو أن احترام الحياة ينطبق على حياة أعضاء الشعب المقدَّس وحسب. ويذهب الحاخامات إلى أن مفهوم احترام الحياة يجبُّ حتى قوانين السبت وشعائره.(13/188)
وقد دارت حرب بين الحاخامات في إسرائيل حول هذا المفهوم، إذ طالب حاخام السفارد الأكبر السابق عوبديا يوسف بالانسحاب من الأراضي المحتلة لإنقاذ حياة اليهود عملاً بمفهوم بكوَّح نيفيش هذا، وقد أيَّده بعض الفقهاء في رأيه واقتبسوا من العهد القديم من سفر التثنية الإصحاح 30، فقرة 19 "قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك» . ومن الواضح مرة أخرى أن المقصود حياة اليهود. وقد اقتبس المعارضون لرأيه من سفر العدد، إصحاح 33، فقرة 52 ـ 53 «كلم بني إسرائيل وقل لهم إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان، فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وتمحون جميع تصاويرهم وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفعاتهم. تملكون الأرض وتسكنون فيها لأني قد أعطيتكم الأرض لكي تملكوها» . وتبيِّن المقطوعة أن الأرض هي المطلق، والارتباط بها والحفاظ عليها يجبُّ كل القيم الأخرى، ومنها حياة اليهود أنفسهم، وكان بوسع معارضي الحاخام عوبديا يوسف ألا يذهبوا بعيداً وأن يكتفوا باقتباس الفقرة التي تأتي بعد الفقرة التي اقتبسها مؤيدوه (سفر التثنية 30/20) والتي جاء فيها «إذ تحب الرب إلهك وتسمع لصوته وتلتصق به لأنه هو حياتك والذي يطيل أيامك لكي تسكن على الأرض التي حلف الرب لآبائك إبراهيم وإسحق ويعقوب أن يعطيهم إياها» . والفقرة الثانية تجعل الحياة الإنسانية (ومنها حياة اليهود) ثانوية بالنسبة للأرض، فالإله يطيل حياة اليهود لكي يسكنوا الأرض.(13/189)
والواقع أن الصراع هنا صراع بين رؤيتين داخل التركيب الجيولوجي اليهودي تعبِّران عن درجتين من الحلول، وفي الرؤية الأولى يتم الحلول الإلهي في الشعب اليهودي (دون الأرض) فيصبح اليهودي مركز الكون ومن ثم تصبح حياته أمراً مهماً. أما الرؤية الحلولية الأخرى فتختزل الوجود بأسره إلى مستوى واحد ويتم الحلول الإلهي في كل من الشعب والأرض، ليكتمل الثالوث الحلولي ويفقد الإنسان أية مركزية وأهمية لتحل الأرض محله وتسيل الدماء من أجلها. وقد وصف الشاعر الإسرائيلي حاييم جوري أرض إسرائيل بأنها ليست مجرد قطعة أرض أو إقليم وإنما إلهة ثأر وثنية بذيئة لا تشبع قط من شرب دماء عابديها، فهي تطالب بمزيد من المدافن وصناديق دفن الموتى. وقد لاحظ الكاتب الإسرائيلي بن عزرا أن الإسرائيليين الشباب الذين يخدمون في الجيش يشعرون بأن أهلهم، بالاشتراك مع الدولة، يضحون بهم بدون تعويض أو عزاء من عقيدة دينية تؤمن بالحياة بعد الموت، ولذا فهم يشعرون بأن هذه الحروب هي «تضحية علمانية بإسحق» ، أي أنها تضحية تدور في إطار حلولية بدون إله، ولذا فهي تضحية بشرية لا هدف لها ولا معنى.(13/190)
إن الدائرة الحلولية بدون إله قد انغلقت على رأس المستوطنين، فالأرض مقدَّسة، بل «هي ربي الوحيد» على حد تعبير موشى ديان، وهي موضع الحلول الإلهي دون إله، ولذا فهي صماء لا تعي ولا تنطق، ولذا فلا مجال للحفاظ على حياة العرب ولا حياة الإسرائيليين أو اليهود، لا مجال لبكوَّح نيفيش، فهذا المفهوم الحلولي يفترض وجود إله يحابي شعبه، أما الصهيونية فقد أعلنت موت هذا الإله وبقيت الأرض مقدَّسة دون أي احترام لأي حياة، سواء كانت حياة اليهود أم غيرهم. ولذا لا يملك ديان إلا أن يقول: "إننا جيل من المستوطنين لا نستطيع غرس شجرة أو بناء بيت بدون الخوذة الحديدية والمدفع، وعلينا ألا نغمض عيوننا عن الحقد المشتعل في أفئدة مئات الآلاف من العرب حولنا، علينا ألا ندير رؤوسنا حتى لا ترتعش أيدينا. إنه قدر جيلنا، إنه خيار جيلنا، أن نكون مستعدين ومسلحين، أن نكون أقوياء وقساة، حتى لا يقع السيف من قبضتنا وتنتهي الحياة".(13/191)
الباب الرابع: الكتب المقدسة والدينية
الكُتب المقدَّسة والدينية
Sacred and Religious Books
تتَّسم اليهودية بتعدد كُتُبها الدينية المقدَّسة. ويعود هذا إلى عدة أسباب من أهمها فكرة العقيدة الشفوية الحلولية التي تضفي القداسة على كتابات الحاخامات الدينية واجتهاداتهم، بل تعادل بين الوحي الإلهي (التوراة) والاجتهاد البشري (التلمود) . وقد مرّت اليهودية، كنسق ديني، بمراحل تطور تاريخية طويلة؛ متعددة ومتناقضة. ولذا، فهي تأخذ شكل تركيب جيولوجي تراكمت داخله عدة طبقات تتعايش جنباً إلى جنب، أو الواحدة فوق الأخرى، ويتبدَّى هذا التراكم الجيولوجي في الصراع الحاد بين التوحيد والحلولية، والذي يتضح في كتب اليهود المقدَّسة وأهمها الكتاب المقدَّس أو التوراة، والتي تُقسَّم إلى أسفار موسى الخمسة (وهي أهم أجزائه وأكثرها قداسة) ، ثم كتب الأنبياء (وهي أكثر الأسفار توحيدية) ، وأخيراً كتب الحكم والأمثال والأناشيد. وبعد انتهاء تدوين العهد القديم واعتماده من قبَل الحكماء اليهود، ظهرت كتب الرؤى وغيرها من الأسفار التي استُبعد بعضها، وأصبحت تُسمَّى الكتب الخارجية أو الخفية (أبوكريفا) أو غير القانونية، وسُمِّي بعضها الآخر الكتب المنسوبة (سيود إبيجرفا) . ومعظم هذه الكتب ذو أصل شعبي واتجاه حلولي واضح. وقد نسى اليهود هذه الكتب طوال العصور الوسطى في الغرب، ولم يكتشفوها إلا مع عصر النهضة. ومع القرن السادس، تم تدوين التلمود الذي أصبح كتاب اليهود الديني الأول، حتى أنه حل محل العهد القديم نفسه، وبذلك تكون النزعة الحلولية قد انتصرت وبدأت في الهيمنة التدريجية على النسق الديني اليهودي. ومع القرن الثالث عشر، ظهرت كتب القبَّالاه ابتداءً من الباهير فالزوهار ثم كتابات إسحق لوريا التي سادت الفكر الديني اليهودي تماماً حتى أن التلمود أُهمل من قبَل معظم أعضاء الجماعات وحاخاماتهم، وأصبح مقصوراً على أرستقراطية الحاخامات وحسب. ويشكل شيوع القبَّالاه الهيمنة الكاملة للطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي. ولليهود كتب....(13/192)
صلوات تضم صلواتهم، وتُضاف إليها بركات وأدعية وأناشيد وقصائد، بعضها حلولي والبعض الآخر توحيدي.
وقد انعكس هذا التركيب الجيولوجي على الفكر الديني اليهودي الحديث الذي يضم اتجاهات فكرية مختلفة علمانية وإلحادية ووجودية وصوفية، كما انعكس على الصهيونية وعلى الفكر المعادي للصهيونية. ويجد كل فريق سنداً لرأيه في التراث الديني الذي يضم طبقات متراكمة مختلفة. ويمكن القول بأن الحلولية بدون إله قد وجدت هي الأخرى كتبها المقدَّسة، فقد أكد ماكس نوردو أن كتاب هرتزل دولة اليهود سيحل محل التوراة والكتب الدينية الأخرى. ورغم مغالاة هذا الزعيم الصهيوني، فإن من يدرس الفكر الديني اليهودي، بعد أن تمت صهينته، وبعد أن تم إضفاء مركزية دينية على الدولة الصهيونية، لا في الوجدان الشعبي فقط وإنما في العقيدة نفسها، لا يملك إلا أن يرى قدراً كبيراً من الصدق في هذا القول. وقد جاء حاييم كابلان ليؤكد أن وثائق التاريخ الأمريكي تُعتبَر أيضاً من كتب اليهود المقدَّسة، كما أن الولايات المتحدة تشكل أساس المطلقية.
ويذهب أحد مفكري لاهوت موت الإله (إرفنج جرينبرج) إلى أن العهد القديم هو كتاب اليهود المقدَّس في مرحلة الهيكل، وأن التلمود كتاب مرحلة الشتات اليهودي، أما في المرحلة الثالثة (مرحلة ما بعد أوشفيتس وتشييد الدولة الصهيونية) فإن كتابهم المقدَّس هو النصوص التي تُذكِّر الشعب اليهودي بالإبادة وبضرورة البقاء، ومن هنا يعتبر جرينبرج كتابات إيلي فيزيل، على سبيل المثال، كتابات مقدَّسة، وكذلك إعلان استقلال إسرائيل. وحالة السيولة هذه أمر متسق تماماً مع الحلولية بدون إله.
العهد القديم
Old Testament(13/193)
«العهد القديم» مصطلح يستخدمه المسيحيون للإشارة إلى كتاب اليهود المقدَّس، بينما يُستخدَم مصطلح «العهد الجديد» للإشارة إلى الأسفار التي تتضمنها الأناجيل الأربعة وإلى أعمال الرسل ورسائلهم (سبعة وعشرين سفراً) . أما اليهود أنفسهم، فيستخدمون عبارة «سيفري هاقودش» أو «كتبي هاقودش» ، أي «الكتب المقدَّسة» ، ويستخدمون أحياناً تعبير «كتوفيم» ، أي «الكتب» . كما يُستخدَم لفظ «توراة» في بعض الأحيان. ومن الألفاظ الأخرى المستخدمة، لفظ «المقرا» و «تناخ» . ويشتمل العهد القديم على الأقسام التالية:
أولاً: أسفار موسى الخمسة (بالعبرية: حوميش موشيه) ، وتُعرَف أيضاً باسم «التوراة» أو «شريعة موسى» . وهي تحتوي على الشرائع والقوانين والشعائر والوصايا العشر التي أوصى الإله بها موسى، كما تضم أخباراً تاريخية عن جماعة يسرائيل:
1 ـ سفر التكوين. ويهتم بوصف الخليقة، وأصل العبرانيين (جماعة يسرائيل) حتى الخروج من مصر.
2 ـ سفر الخروج. ويروي تاريخ العبرانيين في مصر وخروجهم منها.
3 ـ سفر اللاويين. ويعالج واجبات الكهنة والطقوس الأخرى.
4 ـ سفر العدد. وفيه تعداد رؤساء الشعب وحاملي السلاح، وفيه أيضاً أخبار تذمُّر الشعب، والتجسس على أرض كنعان.
5 ـ سفر التثنية. أي تثنية الاشتراع أو إعادة الشريعة وتكرارها على جماعة يسرائيل.
ثانياً: أسفار الأنبياء (بالعبرية: نفيئيم) .
هذا القسم يتضمن ما وقع للعبرانيين من أحداث بعد موت موسى حتى هدم الهيكل المقدَّس. وهو يغطي فترة زمنية تمتد بين سنة 1300 وسنة 200 ق. م تقريباً، وينقسم إلى قسمين:(13/194)
1 ـ الأنبياء الأولون أو المتقدمون (نفيئيم ريشونيم) ، وعدد أسفاره ستة: سفر يشوع (يوشع بن نون) الذي يروي قصة احتلال جماعة يسرائيل أرض كنعان وتقسيم الأرض بين الأسباط أو القبائل العبرانية، وسفر القضاة الذي يذكر أسماء القضاة وتاريخ جماعة يسرائيل في عهدهم وانتصارهم على الفلستيين، وسفرا صموئيل: وهما (الأول والثاني) اللذان يعالجان تأسيس المملكة العبرانية المتحدة وقصة داود، وسفرا الملوك (الأول والثاني) وهما يغطيان فترة حكم داود وسليمان وسقوط المملكة الشمالية ثم المملكة الجنوبية.
2 ـ والأنبياء الآخرون أو المتأخرون (بالعبرية: نفيئيم أحرونيم) : وهذا القسم يضم مجموعة من النبوءات والمواعظ والقصص، وعددها خمسة عشر سفراً، منها ثلاثة لأنبياء كبار (أشعياء، وإرميا، وحزقيال) ، واثنا عشر لأنبياء صغار (هوشع، ويوئيل، وعاموس، وعوفديا، ويونس [وهو نبي مرسل إلى نينوي وليس إلى جماعة يسرائيل] ، وميخا، وناحوم، وحبقوق، وصفنيا، وحجاي، وزكريا، وملاخي) .
وتتبع أسفار موسى الخمسة وأسفار الأنبياء نسقاً تاريخياً متصلاً يحكي تاريخ العبرانيين منذ ظهورهم في التاريخ حتى عودتهم من التهجير إلى بابل. وتشكل الأسفار كلها ما يشبه الملحمة، تدور أحداثها حول عبقرية هذا الشعب المختار والمصاعب التي واجهها، وطريقة انتصاره عليها وتحقيقه إرادته.
ثالثاً: كتب الحكمة والأناشيد (بالعبرية: كيتوفيم) ، أي «الكتابات» . وهي مجموعة من الأسفار التي تضم مواد تاريخية وقصصية وغنائية وعددها أحد عشر، إذا اعتبرنا سفري عزرا ونحميا سفراً واحداً. وترتيب هذه الأسفار حسب ورودها في العهد القديم كما يلي:
1 ـ مزامير داود. ويُنسَب معظمها إلى داود، وهي أناشيد شكر للإله وتراتيل روحية.
2 ـ سفر الأمثال.
3 ـ سفر أيوب. ويحدثنا عن حياة أيوب الصالح (ويُعتقَد أن هذا السفر من أصل عربي، فأيوب من بني عيسو) .(13/195)
4 ـ نشيد الأنشاد. وهو من الأغاني الشعبية للأفراح والزفاف، ويُقال إنه نشيد غزل بين الإله وجماعة يسرائيل، ويُنسب إلى سليمان.
5 ـ راعوث. وهي قصة بطلة ترجع إلى عصر القضاة.
6 ـ مراثي إرميا. وهي قصائد بكاء على أورشليم (القدس) بعد تخريبها.
7 ـ سفر الجامعة. وهو خواطر فلسفية ذات طابع عدمي.
8 ـ سفر إستير. ويتحدث عن خلاص جماعة يسرائيل على يد إستير. ويحتفل اليهود بهذه المناسبة في عيد النصيب.
9 ـ سفر دانيال. ويحدثنا عن سيرة هذا النبي.
10 ـ سفر عزرا. ويتحدث عن عودة العبرانيين (أعضاء جماعة يسرائيل) إلى أورشليم (القدس) ، وإعادة بناء الهيكل الثاني.
11 ـ سفر نحميا. وهو يعنى أيضاً بعودة اليهود من السبي البابلي.
12و13 ـ سفرا أخبار الأيام (الأول والثاني) . وهما تلخيص للوقائع التاريخية الواردة في العهد القديم منذ بدء الخليقة حتى السبي البابلي.
وقد أضاف المسيحيون، إلى كل ذلك، الكتب الخارجية أو الخفية (أبوكريفا) ، ثم أضافوا العهد الجديد، وقد اتخذ كل هذا اسم «الكتاب المقدَّس» .
ويختلف ترتيب العهد القديم عند الكاثوليك عنه عند البروتستانت، وهذا يعود إلى أن الكاثوليك يقرون الأسفار التي وردت في الترجمة السبعينية زائدةً عن الأصل العبري، بل يفضلونه، ذلك لأنه ييسر عملية ربط العهد الجديد بالعهد القديم. هذا، بينما لا يعتبر معظم البروتستانت تلك الزيادات مقدَّسة، فهي في نظرهم لا تنتمي إلى العهد القديم.(13/196)
وتتضارب الآراء المتصلة بتاريخ تدوين الأسفار، ولا تزال المسألة خلافية. وأولى المشاكل هي الإشارات العابرة في العهد القديم إلى نصوص لم تُدوَّن، مثل: كتاب حروب الرب، وسفر ياشر، وسفر أخبار شمعيا، وسفر أمور سليمان، وسفر كلام ناتان النبي، وسفر أخبار الأيام لملوك يهودا، وسفر ملوك جماعة يسرائيل، وغيرها. وتدل أسماء الأسفار السابقة على أن ملوك العبرانيين كانوا يدونون أخبارهم على عادة ملوك الشرق الأدنى القديم، وأن كتب الأخبار وكتب الملوك الحالية هي كل ما تبقى.
والمشكلة الثانية هي أن نصوص العهد القديم تم تَناقُلها شفاهةً. ولذا، فإن معظم المؤرخين يرجحون تعرُّضها إلى ما تتعرض له عادةً كل الأقوال المنقولة مشافهة، وبالتالي دخلتها التناقضات وتداخلت النصوص والمصادر. ومن هنا، فقد قام علم نقد العهد القديم بتطوير نظرية المصادر وتفسير التناقضات وعدم التجانس الأسلوبي.
والواقع أن تدوين العهد القديم بدأ في فترة زمنية تَبعُد عن موسى مئات السنين، وكذلك عن كثير من الأحداث التي تم التأريخ لها. كما أن عملية التدوين لم تتم دفعة واحدة، وإنما تمت خلال مدة زمنية طويلة. وتم اختيار بعض النصوص المقدَّسة من بين نصوص مقدَّسة أخرى. ويرى كثير من الباحثين أن أول جزء من العهد القديم تم تدوينه هو أسفار موسى الخمسة، ويُقال إن هذه العملية تمت في بابل أثناء فترة التهجير (587 ق. م) أو ربما قبل ذلك بوقت قصير، ذلك أنه لم يأت ذكر لقراءة التوراة في الاحتفالات الخاصة بافتتاح الهيكل، وأول إشارة إلى قراءة التوراة هي قراءة عزرا عام 444 ق. م.(13/197)
أما كُتُب الأنبياء، فمن الأرجح أنها دُوِّنت أثناء المرحلة الفارسية فيما قبل عام 333 ق. م. ومما يدعم هذا الرأي أن سفري الأخبار لم يحلا محل سفري صموئيل والملوك ولم يلحقا بهما، الأمر الذي يدل على أن كتب الأنبياء كان قد تم تدوينها والاعتراف بها ككتب قانونية. ولا توجد في أسفار الأنبياء أية كلمة إغريقية، ولا أية إشارة إلى سقوط الإمبراطورية الفارسية أو ظهور الإمبراطورية اليونانية. ولكن لابد أن ثمة فترة زمنية قد مرَّت بين تدوين أسفار موسى الخمسة وتدوين أسفار الأنبياء، ذلك لأن هذه الأخيرة لم تكن تُقرأ في الاجتماعات العامة التي وُصفت في سفر نحميا (8 و10) . كما أن السامريين الذين انفصلوا عن اليهود، وبنوا هيكلهم في جريزيم عام 428 ق. م، اعترفوا بالتوراة ولم يعترفوا بكتب الأنبياء. وقد جُمعت أسفار الأنبياء ونُظِّمت خلال الفترة الممتدة من القرن السادس حتى القرن الثالث قبل الميلاد، ويبدو أنها أُلِّفت في فترة كانت فيها أسفار موسى مجهولة منسية، إذ يَندُر أن تجد فيها ذكراً لاسمه. ويبدو أن بعض الأنبياء أيضاً (عاموس مثلاً) لم يكن لهم به علم.(13/198)
أما القسم الثالث، وهو كتب الحكمة والأناشيد، فقد أُلِّف بعضه أثناء عصر الأنبياء، ولكنها لم تُضَم إلى كتب الأنبياء باعتبار أنها لم تكن ثمرة الوحي الإلهي. أما الكتب ذات الطابع النبوي، مثل كتب دانيال وعزرا والأخبار، فلابد أنها كُتبت في مرحلة متأخرة بحيث لم يمكن ضمها إلى كتب الأنبياء. ولقد ضُمَّت أسفار الحكمة والأناشيد، لكنها لم تُعتبَر جزءاً من العهد القديم إلا في القرن الثاني قبل الميلاد، فقبل ذلك التاريخ كان الحديث يتواتر عن التوراة باعتبارها أسفار موسى الخمسة والأنبياء دون إشارة إلى كتب الحكمة والأناشيد. ومن الأدلة الأخرى على أن هذه الأسفار كانت متأخرة، وجود كلمات يونانية في نشيد الأنشاد ودانيال، وكذلك الإشارة في سفر دانيال إلى سقوط الإمبراطورية الفارسية. ولا يشير بن سيرا إلى سفر دانيال أو إستير. وقد استمر الجدل حول أسفار مثل: الأمثال، ونشيد الأنشاد، وإستير، وسفر الجامعة، هل تُضَم مع الأسفار القانونية أم لا؟
ويُطلَق مصطلح «كانون Canon» أي «الأسفار القانونية» ، على تلك الأسفار أو النصوص التي تم اعتمادها. أما الكتب غير القانونية، فتُسمَّى الكتب الخارجية أو الخفية أو الكتب المنسوبة (سيودإبيجرفا) . والقواعد التي استخدمها محررو العهد القديم لضم أو استبعاد هذا أو ذاك النص غير معروفة، ولكن يبدو أن هذه القواعد هي بشكل عام:
1 ـ أن يكون النص مكتوباً بالعبرية. ويبدو أن بداية ونهاية سفر دانيال تُرجمتا من الآرامية إلى العبرية بسرعة حتى يمكن ضمهما إلى النص القانوني المُعتمَد.
2 ـ أن يكون النص قد كُتب في مرحلة ما قبل النبي مالاخي، أي في القرن الخامس قبل الميلاد، وهي الفترة التي يرى الحاخامات أن النبوة توقفت عندها في جماعة يسرائيل.
3 ـ أن يتفق مضمون النص مع المعايير الدينية التي تبناها الحاخامات.(13/199)
ويبدو أن مشادات فقهية بين الفقهاء، كانت تحدث من وقت لآخر، في شأن بعض الأسفار نظراً لما تحتويه من أفكار غنوصية مثل سفر حزقيال واتفقوا في نهاية الأمر على تركه داخل إطار الكتب القانونية مع عدم تدريسه للصغار.
ولغة الكتاب المقدَّس (اليهودي) هي العبرية، وإن كانت التراكيب والأساليب وبعض المفردات تختلف باختلاف هذه الأسفار وتنم عن الفترة التي وُضع فيها كل سفر. ومع هذا، فإن هناك أجزاء وُضعت باللغة الآرامية. والعبرية، مثلها مثل العربية، تتميَّز بالعلامات الصوتية المميِّزة للحرف، أي علامات التشكيل. ولما كان النص العبري الأصلي مكتوباً دون علامات التشكيل، فقد كان لابد أن يتم الاتفاق على قراءة معيارية. وبالفعل، ظهر النص المعتمد كتابةً وقراءة، وهو الذي يُطلَق عليه مصطلح النص «الماسوري» أو «ماسوراتي» . ويُطلَق على المحققين الذين وضعوا علامات الضبط بالحركات «الماسوريون» .
وقد قُسِّم العهد القديم إلى أسفار وإصحاحات وفقرات ومقاطع في القرن الثالث عشر، فنص التوراة الذي كُتب على لفائف التوراة لا يزال حتى الآن بدون علامات تشكيل ولا علامات فصل بين الأسفار والإصحاحات والفقرات المختلفة. وقد تُرجم الكتاب المقدَّس إلى مختلف لغات العالم تقريباً. ومن أهم الترجمات: الترجمة اليونانية، وهي ما يُعرَف باسم «الترجمة السبعينية» ، والترجمة الآرامية وأهمها «الترجوم» ، والترجمة اللاتينية وتُعرَف باسم «الفولجاتا أو الشعبية» . كما تُرجم الكتاب المقدَّس إلى السريانية باسم «البشيطاه» ، وكذلك تُرجم إلى العربية. وأقدم ترجمة هي ترجمة سعيد بن يوسف الفيومي، فيما نعلم، إلا أن ثمة محاولات سابقة عُثر عليها في الجنيزاه القاهرية باللهجة المصرية العامة.(13/200)
ويرى اليهود الأرثوذكس أن كلمات العهد القديم، وأسفار موسى الخمسة بصفة خاصة، هي كلام الإله الذي أوحى به إلى موسى حرفاً حرفاً، وأملاه عليه حينما صعد إلى جبل سيناء، وهو كلام أزلي لا يتغيَّر. والكتب التاريخية وأسفار الأنبياء والأناشيد والحكم، هي الأخرى نتاج الروح المقدَّسة، وإن كانت بدرجة أقل، تلك الروح التي تغمر روح الإنسان فيتحدث باسم الإله. وتُعتبَر كل كلمة، وكل جملة وردت في العهد القديم، ذات معنى داخلي ومغزى عميق. لكل هذا، نجد أن العهد القديم، بالنسبة إلى اليهود الأرثوذكس، هو السلطة العليا التي لا يمكن التشكيك فيها، وهو المرجع الأخير في الحياة الدينية. ولكن أسفار موسى الخمسة، مع هذا، تظل أهم الأجزاء التي تشكل جوهر اليهودية وشريعتها.
أما بالنسبة إلى اليهود الإصلاحيين والمحافظين والتجديديين، فإن العهد القديم يُعَدُّ مجرد إلهام من الإله وليس وحياً منه. وقد وصل هذا الإلهام إلى واضعي الكتاب المقدَّس بدرجات مختلفة. ولذا، فإن بعض أجزاء العهد القديم ذو قيمة روحية وأخلاقية أعلى من غيره. كما لم يكن الوحي الإلهي، أي الإلهام، خالصاً. فقد اصطبغ هذا الوحي بصبغة إنسانية، فلزم أن يقوم اليهودي بإعادة تفسيره ليستخلص الوحي الإلهي (المطلق) من النص الذي يضم عناصر إنسانية تاريخية (نسبية) . ويُعتبَر العهد القديم العبري من مصادر التشريع اليهودي الأساسية، وقد ظل قروناً طويلة يشكل المنهج الدراسي الوحيد في المدارس الدينية اليهودية، وإلى جانبه التلمود الذي هو تفريع منه. وفي إسرائيل، فإن منهج الدراسة يتضمن خمس ساعات أسبوعياً لدراسة العهد القديم.(13/201)
كما أن الصهاينة اللادينيين يعتبرون العهد القديم وكتب اليهود المقدَّسة كتباً عظيمة تشكل جزءاً مهماً من تراث اليهود وفلكلورهم القومي وهو تعبير عن انتشار الحلولية بدون إله بين الصهاينة. وقد نشر أحد التربويين الإسرائيليين في أحد الكيبوتسات كتاباً يروي قصص العهد القديم باعتبارها أدباً من صنع البشر، ومن ثم فإنه قد استبعد أي إشارة إلى الإله.
التوراة
Torah
«توراة» كلمة من أصل عبري مشتقة من فعل «يوريه» بمعنى «يُعلِّم» أو «يوجِّه» ، وربما كانت مشتقة من فعل «باراه» بمعنى «يُجري قرعة» . ولم تكن كلمة «توراة» ذات معنى محدد في الأصل، إذ كانت تُستخدَم بمعنى «وصايا» أو «شريعة» أو «علم» أو «أوامر» أو «تعاليم» ، وبالتالي كان اليهود يستخدمونها للإشارة إلى اليهودية ككل، ثم أصبحت تشير إلى البنتاتوخ أو أسفار موسى الخمسة (مقابل أسفار الأنبياء وكتب الحكمة والأناشيد) . ثم صارت الكلمة تعني العهد القديم كله، مقابل تفسيرات الحاخامات. ويُشار إلى التوراة أيضاً بأنها القانون أو الشريعة، ويبدو أن هذا قد تم بتأثير الترجمة السبعينية التي ترجمت كلمة «توراة» بالكلمة اليونانية «نوموس» أي «القانون» . وقد شاع هذا الاستخدام في الأدبيات الدينية اليهودية حتى أصبحت كلمة «توراة» مرادفة تقريباً لكلمة «شريعة» .(13/202)
ويُلاحَظ أنه، داخل الإطار الحلولي، تتداخل حدود الأشياء والدوال وتذوب المدلولات بعضها في البعض وتنفصل الدوال عن المدلولات، وهذا ما يحدث في لفظ «توراة» مع هيمنة الحلولية بشكل تدريجي. وقد وَسَّع الحاخامات معنى الكلمة استناداً إلى العقيدة أو الشريعة الشفوية الحلولية التي تساوي بين الوحي الإلهي والتفسير الحاخامي والقائلة بأن هناك توراتين أو شريعتين: واحدة مكتوبة تلقاها موسى عند جبل سيناء، والأخرى شفوية يتناقلها الحاخامات عن موسى، ولها نفس قداسة التوراة المكتوبة. وبهذا أصبحت كلمة «توراة» تعني «هالاخاه» ، وكل الأوامر والنواهي التي ورد ذكرها في كل من التوراة والتلمود والشولحان عاروخ وفتاوى الحاخامات وتفسيراتهم، بل أحياناً ما ورد ذكره في الكتب القبَّالية. وقد جاء في التلمود أن الإله يقول: "ياليت الناس يهجرونني ولا يهجرون التوراة" (حجيجاه 1/7) ، وهي عبارة تعبِّر عن درجة عالية من الحلولية باعتبار أن التوراة هنا مطلق منفصل عن الإله، وربما يفوقه في الأهمية. والمقصود هنا هو التوراة الشفوية، أي آراء الحاخامات وتفسيراتهم.
ومن ناحية أخرى، فإن المجال الدلالي للكلمة واسع للغاية، وقد أشار القبَّاليون إلى التوراة الظاهرية والتوراة الباطنية أو توراة الخلق (بالآرامية: توراه دى بريئاه) وتوراة الفيض (بالآرامية: توراه دي أتسليوت) . وتوراة الفيض هي التوراة التي يمكن أن يتوصل لها المفسرون العالمون بالقبَّالاه، وهي مختلفة تماماً عن التوراة المتداولة بين اليهود ولها تعاليم وشرائع تقف الواحدة أحياناً على الطرف النقيض من الأخرى. وتُستخدَم كلمة «توراة» أيضاً للإشارة إلى سلوك أتقياء اليهود وأقوالهم باعتبارها «توراة» . وقد جاء في التلمود أن حديث من يعيش في أرض الميعاد «توراة» ، كما أن الحسيديين كانوا يقولون إن حديث بعل شيم طوف توراة، بل كذلك حديث وأفعال كل تساديك حسيدي يلتصق بالإله!(13/203)
وتحتل التوراة، بمعنييها الضيق والواسع، مكاناً مركزياً في الوجدان الديني لليهود، فهي أقدم من هذا العالم، بها ولها خلق الإله الدنيا، وهي عروس الرب التي تجلس إلى جواره على العرش، والتي ستُزَف إلى الماشيَّح حينما يأتي إلى هذا العالم. ويُحتفَظ في المعبد اليهودي بـ «تاج التوراة» ، وبمؤشر من الذهب أو الفضة على شكل يد لاستخدامه في قراءة التوراة. ومن أقدس الأماكن في المعبد اليهودي، الدولاب المسمَّى «تابوت العهد» الذي يُحتفَظ فيه بلفائف الشريعة.
وتُستخدَم كلمة «توراة» كذلك للإشارة إلى كل التراث الديني اليهودي بقضه وقضيضه، وكل ما أوصى الإله به لجماعة يسرائيل، أو للعالم كله من خلال جماعة يسرائيل. وفي المصادر الكلاسيكية اليهودية لم يكن يشار إلى «اليهودية» وإنما إلى «التوراة» ، بل لم يظهر مصطلح «يهودية» إلا في العصر الهيليني. ولكن، ورغم ترادف المصطلحين، فإن ثمة اختلافاً دقيقاً بينهما، فبينما تُستخدَم كلمة «توراة» للإشارة إلى الجوانب الإلهية الثابتة في العقيدة اليهودية، تستخدم كلمة «يهودية» للإشارة إلى الجوانب المتغيرة التاريخية، ومن هنا يمكن الحديث عن «اليهودية الحاخامية» ، أو «اليهودية الإصلاحية» ، ولكن لا يمكن الحديث عن «التوراة الحاخامية» ، أو «التوراة الإصلاحية» .
ويرى بعض علماء اليهود أن كلمة «توراة» هي، بالمعنى العام، المقابل لكلمة «لاهوت» في المسيحية، فلاهوت اليهودية هو التأمل في التاريخ اليهودي والتقاليد اليهودية، تماماً مثل اللاهوت المسيحي، ولكنه لاهوت معلمين وحاخامات وليس لاهوت كنيسة، جانبه الخارجي هو الهالاخاه، أي الشريعة، وجانبه الداخلي هو الأجاداه، أي القصص الوعظية، وكلاهما «توراة» .(13/204)
وتُستخدَم الكلمة أيضاً للإشارة إلى مخطوط أسفار موسى الخمسة المكتوب بخط اليد (لفائف الشريعة) ، والذي يُحفَظ في تابوت العهد في المعبد اليهودي. وكان الأطفال اليهود يتعلمون في الجيتو أن التوراة هي الشيء الوحيد الباقي، أما العالم فزائل، ولذا يجب على اليهودي أن ينفق كل وقته في دراستها، وأن هذا واجب ديني نص عليه العهد القديم. وفي واقع الأمر، لا يوجد مثل هذا النص لا في أسفار موسى الخمسة ولا في كتب الأنبياء، ويبدو أن فكرة دراسة التوراة ذات أصل يوناني. وقد قال أحد الفقهاء اليهود إن اليهود يعملون بالتجارة والربا، لأنهم بهذه الطريقة يحققون أرباحاً كبيرة سريعة دون أن يعملوا، وبذلك يتفرغون لدراسة التوراة.
على أن هذه الدراسة لا تهدف إلى الخروج من الذات وتحدِّيها، بقدر ما هي ضرب من عبادة الذات وتوثينها، إذ أننا نكتشف أن التوراة (مكتوبة وشفوية) ليست نتاج عبقرية الشعب فحسب، بل هي أيضاً «جماعة يسرائيل» ، وهما معاً يكوِّنان شيئاً واحداً. ومن الواضح أن هناك جوانب قومية للاهتمام اليهودي بالتوراة، كما هو الحال مع الأنماط الحلولية. فالحكمة ملك لكل الشعوب، أما التوراة فهي الكتاب المقدَّس لليهود وحدهم وهي مصدر الحياة بالنسبة إليهم والشاهد على عبقريتهم الدينية وعلى اتخاذهم كشعب مختار دون سائر أهل الأرض. وتحتوي الصلوات اليهودية على شكر للإله لإرساله التوراة إلى الشعب. وحينما يُنادَى على أحد المصلين ليقرأ أسفار موسى الخمسة، فإنه يقول: «مبارك الرب الذي خلقنا من أجل جلاله وفضَّلنا عمن ضلوا سواء السبيل، وأرسل لنا التوراة، وبذا غرس الحياة الأبدية وسطنا فليفتح الرب قلوبنا على التوراة» . وهكذا تكون التوراة تجسيداً لروح الإله، ولكنها في الوقت نفسه هي الشعب الذي هو بدوره تجسيد لروح الإله، أي أنها دائرة حلولية مقدَّسة مغلقة يعبِّر فيها كلٌّ من التوراة والشعب عن روح الإله بالدرجة نفسها.(13/205)
والفقيه اليهودي الذي يربط في فتواه بين دراسة التوراة والتجارة والربا وضع يده (دون أن يدري) على العلاقة بين دراسة التوراة ودور الجماعات اليهودية كجماعة وظيفية. فالجماعات الوظيفية تعيش في بلد ما دون أن تكون منه، ولذا فهي تحتاج إلى وطن أصلي. وفي حالة الجماعات اليهودية الوظيفية، كانت صهيون هي هذا الوطن الأصلي الذي تشتتوا منه والتوراة (والتلمود) هو الوطن المتنقل الذي يستطيعون التمركز حوله وتطوير هويتهم وضرب أسوار العزلة حول أنفسهم من خلاله، وهي عزلة أساسية كي يضطلعوا بدورهم. كما أن ارتباطهم بهذا الوطن يقلل حركيتهم، فهو وطن متنقل معهم.
والجدير بالذكر أن التوراة تشكل الأرضية المشتركة بين اليهود المؤمنين واليهود الملحدين، فهما يشتركان في تقديسها. فأما المؤمنون منهم، فإنهم يرونها مقدَّسة لأنها مرسلة من الإله. وأما الملحدون (الذين يدورون في إطار الحلولية بدون إله) ، فإنهم يقدسونها لأنها جزء من فلكلور الشعب اليهودي وتعبير عن عبقريته. والخلاف في نهاية الأمر ظاهري لأن البنية الحلولية لليهودية توحد بين الشعب والإله. وفي التراث الصهيوني، يؤكد المفكرون الصهاينة أهمية ثالوث الشعب والأرض والإله أو التوراة إذ تؤمن الصهيونية الثقافية (اللادينية) بثالوث الشعب والأرض والتوراة، في حين تؤمن الصهيونية الدينية بثالوث الشعب والأرض والإله (الذي يعادل التوراة) . وفي الوقت الحاضر، تُستخدَم كلمة «توراة» في العبرية الحديثة مرادفة لكلمة «عقيدة» أو «نظرية» ، ومن هنا يمكن الحديث عن «التوراة العلمانية» أو «التوراة الماركسية» .
الكتاب
The Book
«الكتاب» اصطلاح يُستخدَم للإشارة إلى العهد القديم أو إلى التوراة (بالمعنى المحدد للكلمة) ، ويتحدث بعض المفكرين اليهود والصهاينة عن اليهود باعتبارهم «شعب الكتاب» .
سفر
Book(13/206)
«سفر» وهي «سيفر» بالعبرية وتعني «كتاباً» . ويُشار إلى كتب العهد القديم بكلمة «أسفار» . ويُقسَّم السفر إلى إصحاحات ويُقسَّم كل إصحاح إلى فقرات، وتُقسَّم كل فقرة إلى مقاطع.
إصحاح
Chapter
تُسمَّى أقسام الكتاب المقدَّس «أسفاراً» ، ويُقسَّم كل سفر إلى إصحاحات، ويُقسَّم كل إصحاح إلى فقرات والفقرات تُقسَّم إلى مقاطع.
أسفار موسى الخمسة
Pentateuch
«أسفار موسى الخمسة» تشكل القسم الأول من العهد القديم، ويشمل خمسة أسفار، هي: سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر اللاويين، وسفر العدد، وسفر التثنية. ويعتقد اليهود المتدينون أن الإله أنزلها على موسى في سيناء وأملاها عليه حرفاً حرفاً، وهي تبدأ بسرد أحداث العالم منذ بدء الخليقة حتى وفاة موسى. والكلمة مرادفة لكلمة «توراه» ، وإن كانت أكثر دقة كما أن دلالاتها أكثر تحدداً قياساً إلى كلمة «توراه» فضفاضة المعنى متعددة الأبعاد والدلالات.
تناخ
Tanach
«تَناخ» اسم عبري للعهد القديم، وهو مختصر من الحروف الأولى لثلاث كلمات عبرية هي: التوراة (أسفار موسى الخمسة) ، ونفيئيم (أسفار الأنبياء) ، وكتوفيم (المزامير وسفر الأمثال ونشيد الأنشاد وبقية أسفار الحكمة وغيرها) .
ويُفضِّل اليهود استخدام مصطلح «تَناخ» على عبارة «العهد القديم» لأن هذه العبارة الأخيرة تفيد أن العهد الجديد قد أكمل كتاب اليهود المقدَّس وحل محله. أما مصطلح «تَناخ» فهو تعبير وصفي وحسب، وهو يخلو من أي اعتراف ضمني بقدم الكتاب المقدَّس، وبأن «العهد الجديد» قد أكمله وحل محله.
الكتاب المقد س
Bible; Holy Book; Holy Scriptures(13/207)
«الكتاب المقدَّس» هو المقابل العربي للعبارة العبرية «كتيفي هاقودش» . وتُستخدَم عبارة «الكتاب المقدَّس» عند المسيحيين للإشارة إلى العهدين القديم والجديد. أما في الدراسات اليهودية والصهيونية، فهي تشير إلى العهد القديم وحسب. ولذا، فقد يكون من المفيد ألا نستخدم هذا المصطلح ( «الكتاب المقدَّس» ) إلا إذا اضطرنا السياق إلى ذلك، نظراً لغموضه، ونستخدم بدلاً منه مصطلحات مثل: «العهد القديم» أو «تَناخ» أو «أسفار اليهود» .
ومن أسماء الكتاب المقدَّس عند اليهود «المقرا» وتعني «القراءة» أو «المطالعة» .
الإنجيل
Bible
«إنجيل» كلمة ذات أصل يوناني من كلمة «أونجليون» ومعناها «خبر طيب» . والإنجيل هو الكتاب المقدَّس عند المسيحيين الذين يشيرون إلىه أحياناً بكلمة «العهد الجديد» ، ويتكون من أربعة أقسام، هي: إنجيل متَّى، وإنجيل مرقص، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا. وقد أطلق اليهود (بين القرنين الثالث والخامس) على الإنجيل «جليون هامينيم» أي «لفيفة المهرطقين» .
الماسوراه
Masorah
«ماسوراه» كلمة عبرية من فعل «مَسَار» بمعنى «تلقَّى» و «تناول» ، ولكنها تشير إلى مجموعة القواعد التي وضعها الحاخامات عبر القرون والتي تتصل بطريقة هجاء وكتابة وقراءة العهد القديم. ويُشار إلى نص العهد القديم الذي ارتضاه العلماء ورفضوا ماعداه بأنه «النص الماسوري» أو «الماسوراتي» . والكلمة لا تشير إلى نسخة العهد القديم التي جمعها عزرا، بل يضاف إلى ذلك ضبطها بالحركات، وتقسيمها إلى أسفار وإصحاحات وفقرات ومقاطع، وتعيين مواضع الفصل والوصل والوقوف عند التلاوة، وتحديد نطق بعض الألفاظ التي كُتبت بطريقة لا تؤدي إلى النطق الشرعي الصحيح. وقد استغرق إقرار هذا النص الشرعي، في صورته النهائية، عدة أجيال، واستمر حتى عهد الفقهاء (جاءونيم) .
الترجوم
Targum(13/208)
«ترجوم» كلمة آرامية من الأصل الفارسي «تورجمان» وهي تعني «ترجمة» . ويُطلَق هذا المصطلح على الترجمات الآرامية للكتاب المقدَّس. وقد وُضعت هذه الترجمات في الفترة الواقعة بين أوائل القرن الثاني وأواخر القرن الخامس قبل الميلاد. وقد أصبحت مثل هذه الترجمة أمراً مهماً وحيوياً بالنسبة إلى اليهود، نظراً لأن الآرامية حلَّت محل العبرية بعد التهجير البابلي. فمنذ أيام عزرا، كانت تُضاف ترجمة آرامية بعد قراءة أجزاء من العهد القديم، وقد صار هذا تقليداً ثابتاً. ومن أشهر الترجمات الآرامية للكتاب المقدَّس: ترجوم أونكيلوس لأسفار موسى الخمسة وحدها، وترجوم يوناثان لبقية أسفار العهد القديم. ويُعتقَد أن آرامية الترجوم كانت مُتكلَّفة إلى حدٍّ ما. وسعت التراجم الآرامية إلى إضفاء مسْحَة من ثقافة عصرها على النص فقام المترجمون بإدخال مصطلحات مثل «الجن والملائكة» بديلاً عن الإشارة إلى الرب مجسداً.
الفولجاتا (أو الشعبية)
Vulgate
«فولجاتا» من الكلمة اللاتينية «فولجاتوس Vulgatus» وتعني «شائع» . وتُستخدَم الكلمة للإشارة لترجمة العهد القديم اللاتينية التي اضطلع بها إيرونيموس (340 ـ 420) عن الترجمة السبعينية، ومع هذا فإنها لم تأت مطابقة لها كل المطابقة. وقد اشتملت الفولجاتا على سفرين اثنين فقط للمكابيين، مقابل أربعة في السبعينية، وحُذفت منها أسفار عزرا الثلاثة وزيد عليها سفر باروخ. وفيما عدا ذلك، لا يوجد فرق يذكر بين الترجمتين. وقد أقرت الكنيسة الكاثوليكية جميع الأسفار والأجزاء الزائدة في الترجمة اللاتينية على الأصل العبري، واعتبرتها جميعاً أسفاراً أو أجزاء مقدَّسة من أسفار العهد القديم وأجزائه. ولكن معظم البروتستانت لا يعتبرون هذه الزيادات مقدَّسة، وهي في نظرهم لا تنتمي إلى العهد القديم. أما اليهود، فإنهم يدخلونها في القسم الذي يسمونه الأسفار الخارجة أو الخفية (أبوكريفا) .
البشيطَّاه
Peshitta(13/209)
«بشيطَّاه» كلمة سريانية تعني «البسيطة» . وتشير إلى الترجمة السريانية للعهد القديم التي تم إنجازها في القرن الثاني بعد الميلاد من نسخة للعهد القديم تختلف عن النص القياسي (الماسوري) . ويتخذها مسيحيو سوريا والنسطوريون في العراق وفارس كتاباً مقدَّساً لهم.
الترجمة السبعينية
Septuagint
كلمة «سبتواجينت» الإنجليزية من الكلمة اللاتينية «سبتواجينتا» ومعناها «سبعون» ، وهي إشارة إلى الأسطورة القائلة بأن اثنين وسبعين من علماء اليهود قاموا بترجمة العهد القديم العبري إلى اليونانية بأمر من بطليموس فيلادلفيوس (228 ـ 247 ق. م) ، وهي أقدم ترجمات العهد القديم بأية لغة. وتقول الأسطورة إن كل عالم جلس في حجرته بمفرده ليترجم العهد القديم، وعند الانتهاء وجدوا أن الترجمات كلها متماثلة. وبغض النظر عن مدى صدق الأسطورة، فقد كان الغرض من الترجمة إلى اليونانية سد حاجة المصريين اليهود المتأغرقين الذين كانوا يجهلون العبرية تماماً بسبب اندماجهم في المحيط الهيليني، واتخاذهم اللغة اليونانية السائدة آنذاك في حوض البحر الأبيض المتوسط لغةً لهم. وقد تمت الترجمة بالتدريج ابتداءً من القرن الثالث قبل الميلاد، وتم الانتهاء منها في السنوات الأخيرة قبل رسالة المسيح. ولم تكن الترجمة على مستوى رفيع، فلم يكن المترجمون ملمين بالعبرية بالقدر الكافي، ولم تكن النصوص التي ترجموا عنها نصوصاً جيدة، كما أن المترجمين أخذوا في الاعتبار حساسيات العالم الهيليني. فمثلاً تُرجمت كلمة «الأرنب» (لاويين 11/6) ، وهو حيوان مدنَّس حسب الشريعة اليهودية، بعبارة «ذو الأقدام الخشنة» لأن كلمة «الأرنب» باليونانية هي «لاجوسlagos» ، وهي أحد ألقاب أسلاف الأسرة البطلمية. وتم تغيير عبارة «آرامياً تائهاً كان أبي فانحدر إلى مصر وتغرَّب هناك» (تثنية 26/5) فصارت «أبي ترك سوريا وذهب إلى مصر» ، وذلك لإرضاء البطالمة أيضاً حيث كانت سوريا تحت حكم السلوقيين أعدائهم،(13/210)
وكلمة «آرامي» تعني «سوري» وأسقط المترجمون أسماء الأعلام التي كان يتسمَّى بها الإله مثل «أدوناي، و «شدَّاي صباءوت» ، واستخدموا بدلاً من ذلك أسماء مثل «الإله» أو «الخالق» . وبدلاً من تأكيد خصوصية الإله وخصوصية علاقته بالشعب، يصبح هو الكائن الأعظم للجنس البشري. وهذا يعود إلى وجود اتجاه عام في العالم الهيليني نحو تعظيم الخالق الواحد، وكانت الآلهة المحلية آخذة في الاختفاء. كما أسقط المترجمون العبارات التي تنسب إلى الخالق صفات جسدية، فبينما تتحدث النسخة العبرية عن أنهم «رأوا إله يسرائيل» (خروج 24/10) ، فإن الترجمة اليونانية تتحدث عن أنهم «رأوا المكان الذي كان قد وقف فيه إله يسرائيل» . والهدف من هذا كله هو: تقريب التوراة من العقل الهيليني.
وقد تم أغرقة المصطلح تماماً في بعض الأحيان، فتُرجمت «توراة» بكلمة «نوموس» اليونانية، والتي تعني «قانون» . أما كلمة «إيموناه» ، وهي بمعنى «إيمان» ، فتُرجمت بالكلمة اليونانية «بيستيس pistis» وتعني «الاعتقاد» .
وتجدر بنا الإشارة إلى وجود صياغات في الترجمة السبعينية لم نجدها في النص العبري الحالي. ومع هذا عُثر على نظيرها العبري في مخطوطات قُمران، وهو ما يؤكد اعتماد المترجمين على نصوص عبرية متعددة.
وقد تجاهل العلماء الهيلينيون العهد القديم، ولم تصلنا أية تعليقات لهم عليه. ولكن الفقهاء اليهود في فلسطين، قبلوا الترجمة واعتمدوها في بادئ الأمر، فأجَّلها اليهود المتحدثون باليونانية، واستفادت اليهودية منها في عملية التبشير. ونظراً للاختلافات بين الترجمة والنص العبري، وهي اختلافات استفاد منها المسيحيون الأولون، وبعد أن اعترفت الكنيسة المسيحية بالترجمة السبعينية باعتبارها الإنجيل الرسمي، أظهر الحاخامات العداء لها، وخصوصاً ابتداءً من عام 70 الميلادي. وأصبحت الترجمة السبعينية تشبَّه بـ «العجل الذهبي» .(13/211)
وقد ساهمت الترجمة السبعينية في نشر المسيحية بين اليهود المتأغرقين وبين العناصر الهيلينية في الإمبراطورية الرومانية. وتشتمل الترجمة السبعينية على عدة أسفار لا توجد في الأصل العبري الذي وصل إلينا، وهي: سفر طوبيا، وسفر الحكمة لسليمان، وأسفار المكابيين وعددها أربعة أسفار، وسفر يهوديت، وسفر الكهنوت أو سفر الحكمة ليسوع بن سيراخ، ونشيد الأطفال الثلاثة، وسفر الحكماء الثلاثة، وسفر بعل والتنين، وثلاثة أسفار منسوبة إلى عزرا، وذلك زيادة على السفر المثبت في الأصل العبري، وبعض زيادات في سفر إستير ودانيال، وهي الأسفار التي أصبحت تشكل أبوكريفا العهد القديم (الكتب الخارجية أو الخفية) . ولقد تُرجم العهد القديم إلى اللاتينية (في الترجمة المعروفة بالفولجاتا عن الترجمة السبعينية) .
سفر التكوين
Genesis
يُسمَّى «سفر التكوين» في العبرية «يريشيت» بمعنى «في البدء» ، وهي أول كلمة ترد في السفر. و «التكوين» اسم أول أسفار موسى الخمسة، ويحكي تاريخ العالم من بدء تكوين السماوات والأرض، وقصة آدم وحواء، ونوح والطوفان وأولاده سام وحام ويافث، ونسل سام إبراهيم وإسحق ويعقوب، والعهد بين الخالق وشعبه. وينتهي هذا السفر بقصة يوسف ومجيئه إلى مصر ولحاق يعقوب وأبنائه الأحد عشر به واستقرارهم في أرض الفراعنة.
وتعكس الأجزاء الأولى التقاليد الحضارية لبلاد الرافدين بعد أن دخلت عليها العناصر التوحيدية. ويرى علماء الكتاب المقدَّس أن سفر التكوين ليس متجانساً وإنما قام بوضعه كُتَّاب مختلفون، في حين يرى البعض الآخر أنه عمل متكامل يستند إلى فلسفة متسقة مع نفسها، وأن تكرار بعض الأجزاء ليس إلا من قبيل الصيغة الأدبية، وأنه وُضع في القرن التاسع قبل الميلاد، أي بعد موسى بنحو خمسة أو ستة قرون.
سفر الخروج
Exodus(13/212)
يُسمَّى «سفر الخروج» في العبرية «شيموت» ، أي «الأسماء» ، وهي كلمة مأخوذة بتركيب الحروف الأولى من كلمات العبارة الافتتاحية فيه. وسفر الخروج ثاني أسفار موسى الخمسة، ويعرض تاريخ جماعة يسرائيل في مصر. كما يأتي فيه ذكر قصة موسى وذهابه إلى سيناء، والوحي الإلهي الذي جاء فيه، والعهد بين الإله وجماعة يسرائيل، وعودة موسى إلى مصر ليساعد اليهود على الخروج من أرض العبودية. ثم تلقَّى موسى الوصايا العشر في سيناء، وقيادته جماعة يسرائيل حتى حدود أرض كنعان. كما يشتمل السفر على طائفة من أحكام الشريعة اليهودية في العبادات والمعاملات، وما إلى ذلك مما يشبه قوانين حمورابي، وترد فيه أيضاً قصة عبادة العجل الذهبي وما تبع ذلك من محاولات تطهير الدين.
ويرى علماء الكتاب المقدَّس أن ثمة مصادر عديدة لهذا السفر، وأنه وُضع نحو القرن التاسع قبل الميلاد، أي بعد موسى بنحو خمسة أو ستة قرون.
سفر العَدد
Numbers
يُسمَّى «سفر العَدد» بالعبرية «بميدبار» ، أي «في البرية» ، وهي أول كلمة ترد في السفر، وسفر العدد رابع أسفار موسى الخمسة. وسُمِّي سفر العدد بهذا الاسم لأنه يشتمل في معظمه على إحصاءات عن قبائل العبرانيين وجيوشهم وأموالهم وكثير مما يمكن إحصاؤه من شئونهم كما يشتمل على أحكام تتعلق بطائفة من العبادات والمعاملات. ويأتي في هذا السفر ذكر تذمُّر جماعة يسرائيل من متابعة السير على خطوات موسى، وهو ما أثار غضبه عليهم، وقد دُوِّن هذا السفر بعد التهجير البابلي في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.
سفر التثنية
Deuteronomy
يُسمَّى «سفر التثنية» بالعبرية «ديفاريم» ، أي «الكلمات» ، وهي أول كلمة ترد في السفر. وهو يُسمَّى أيضاً «مشنا توراه» ، ومعناها «إعادة الشريعة وتكرارها على جماعة يسرائيل مرة ثانية عند خروجهم من سيناء» ، أو «تثنية الاشتراع» . وهو آخر أسفار موسى الخمسة، ويتكون من:(13/213)
أ) المقدمة، وتحوي مراجعة موسى لما حدث منذ عبور سيناء.
ب) نصائح موسى الأخلاقية (ومنها إعادة الوصايا العشر) ، وتتضمن تلخيصاً للتشريع الذي قبلته جماعة يسرائيل.
جـ) خطب موسى الأخيرة.
د) أفعال موسى الأخيرة وأغنية الوداع ومعها سرد لأحداث موته.
ويختلف هذا السفر من حيث الأسلوب واللغة عن الأسفار السابقة، بل يناقضها أحياناً. ولذا، يرى بعض العلماء أن بعض القوانين التي أتت في سفر التثنية إنما هي من وضع مجموعة من المؤلفين قاموا بكتابة بعض الأجزاء الأخرى في أسفار موسى الخمسة. ويختلف العلماء في تحديد تاريخ هذا السفر، فيرى بعضهم أنه وُضع أثناء عصر القضاة، ويرى البعض الآخر أنه وُضع في وقت لاحق في أواخر القرن السابع قبل الميلاد.
سفر اللاويين
Leviticus
يُسمَّى «سفر اللاويين» في العبرية «فايقرا» أي «دعا أو نادى» وهي الكلمة التي يبدأ بها سفر اللاويين. وكان في الماضي يُعرَف باسم «تورات كوهانيم» أي «شريعة الكهنة» ، وهو ثالث أسفار موسى الخمسة. ويتوقف السرد القصصي في هذا السفر ليحل محله تناول شئون العبادات، وخصوصاً ما يتعلق بالأعياد والأضحية والقرابين والمحرمات من الحيوانات والطيور وما يتعلق بالطهارة، وكذلك التعاليم الأخلاقية والنظم الاجتماعية التي لم ترد في سفر الخروج، والتعليمات الخاصة بخيمة الاجتماع.
واللاويون هم سدنة الهيكل والمشرفون على شئون الذبح والأضحية والقرابين. وثمة وحدة في الموضوع بين هذا السفر والجزء الأخير من سفر الخروج وجزء كبير من سفر العدد. ويرى بعض علماء الكتاب المقدَّس أن هذا السفر تجميع لوصايا متفرقة كُتبت على حدة في بداية الأمر، كما أن بعضهم يرى أن السفر كله لم يُكتب إلا بعد التهجير البابلي في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.
الوصايا العشر
Ten Commandments; Decalogue(13/214)
ورد في العهد القديم، في سفر التثنية، عبارة «عسِّيريت هادبروت» ، أي «الكلمات العشر» التي كُتبت على لوحي حجر (تثنية 4/13) . ووردت العبارة نفسها تقريباً في سفر الخروج (34/28) : «فكتب على اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر» . وفي اللغة الإنجليزية يُفرَّق أحياناً بين تعبير «تن كوماندمنتس Ten Commandments» وكلمة «ديكالوج Decalogue» ، فتُستخدَم العبارة الأولى عادةً للإشارة إلى ما يُسمَّى بالوصايا العشر التي وردت في سفر الخروج (20/1 ـ 7) أو سفر التثنية (5/6 ـ 21) ، أما كلمة «ديكالوج» فتشير إلى الشيء نفسه في هذه الصيغة أو الصيغ الأخرى التي وردت في العهد القديم، وهي كثيرة ومتنوعة. لكن التعبيرين كثيراً ما استُخدما بشكل يفيد الترادف.
ويذهب بعض الدارسين إلى أن الوصايا العشر هي جوهر اليهودية، وروح اليهودية والقوانين اليهودية ككل؛ لكننا لا نأخذ بهذا الرأي. فاليهودية تركيب جيولوجي تراكمت داخله طبقات عديدة، والوصايا العشر بصيغها المختلفة تعبير عن الظاهرة نفسها، فهي تضم وصايا ذات تَوجُّه توحيدي عالمي أخلاقي، وأخرى ذات تَوجُّه حلولي قومي لا أخلاقي. ومن ثم يكون من الصعب الحديث عن شيء متناقض مثل الوصايا العشر باعتباره جوهر اليهودية، إلا إذا كان في ذهننا تركيبها الجيولوجي.(13/215)
وثمة مشاكل عديدة تثيرها الوصايا العشر، أولاها أن من المتفق عليه في الموروث الديني اليهودي أن موسى ذهب إلى جبل سيناء، وصام أربعين يوماً، ونزلت عليه الوصايا هناك، لكنه حطمها عندما اكتشف أن أعضاء جماعة يسرائيل يعبدون العجل الذهبي، وعاد فصام أربعين يوماً أخرى، وأعطاها الإله له مرة أخرى. ولكن ليس من المعروف على وجه الدقة هل أعطاها الإله له مباشرة، وقام هو بتوصيلها للشعب أم أنه أعطاها له على مسمع من الشعب، أم أن الإله أعطاها للشعب مباشرة. وهناك إشارات عديدة إلى كل هذه الاحتمالات في سفر الخروج (19/9 ـ 25 و20/18 ـ 2) ، وسفر التثنية (4/10 و5/4ـ 5 و5/22) ، بل يُقال في الاجتهادات الحاخامية إن الإله خطها بإصبعه على جانبي اللوحين (لوحي الشهادة) ، أي أنها كانت صيغة مقروءة وليست مسموعة استناداً إلى النص الوارد في سفر الخروج (31/18، 32/15 ـ 16) .
ولكن المشكلة الأكثر حدة هي ما أثاره نقاد العهد القديم، فالإشارة الواردة في سفر الخروج إلى الكلمات العشر تتعلق بالصيغة المألوفة الواردة في سفري الخروج (20/1 ـ 7) والتثنية (5/6 ـ 21) . ولكن هناك صيغة ترد مباشرة قبل عبارة «الكلمات العشر» في سفر الخروج (34/28) ، وهي في سفر الخروج أيضاً وفي الإصحاح نفسه (34/11 ـ 26) ، وهي تختلف تماماً عن الصيغتين الأخريين المألوفتين شكلاً ومضموناً.
ولنبدأ بنص الصيغة غير المألوفة: "احفظ ما أنا موصيك اليوم. هأنا طارد من قدامك الأموريين والكنعانيين والحيثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين. احترز من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فخاً في وسطك. بل تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم:(13/216)
1 ـ فإنك لا تسجد لإله آخر. لأن الرب اسمه غيور. إله غيور هو. احترز من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض فيزنون وراء آلهتهم ويذبحون لآلهتهم، فتُدعَى وتأكل من ذبيحتهم، وتأخذ من بناتهم لبنيك، فتزنى بناتهم وراء آلهتهن ويجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن.
2 ـ لا تصنع لنفسك آلهة مسبوكة (أي من معدن مصهور) .
أما بقية الوصايا، فجاءت على النحو التالي:
ـ تحفظ عيد الفطير (الفصح) . سبعة أيام تأكل فطيراً كما أمرتك في وقت شهر أبيب. لأنك في شهر أبيب خرجت من مصر.
ـ لي كل فاتح رحم. وكل ما يُولَد ذكراً من مواشيك بكراً من ثور وشاه. وأما بكر الحمار فتفديه بشاة، وإن لم تفده تكسر عنقه. كل بكر من بنيك تفديه ولا يظهروا أمامي فارغين.
ـ ستة أيام تعمل. وأما اليوم السابع فتستريح فيه، في الفلاحة وفي الحصاد تستريح.
ـ وتصنع لنفسك عيد الأسابيع.
ـ أبكار حصاد الحنطة وعيد الجمع في آخر السنة. ثلاث مرات في السنة يظهر جميع ذكورك أمام السيد الرب إله يسرائيل فإني أطرد الأمم من قدامك وأوسع تخومك ولا يشتهي أحد أرضك حين تصعد لتظهر أمام الرب إلهك ثلاث مرات في السنة.
ـ لا تذبح على خمير دم ذبيحتي.
ـ ولا تبت إلى الغد ذبيحة عيد الفصح. أول أبكار أرضك تحضره إلى بيت الإله إلهك.
ـ لا تطبخ جدياً بلبن أمه.
ويرى نقاد العهد القديم أن هذه الصيغة تعود إلى المصدر القيني (K) أقدم مصادر العهد القديم، وهو مصدر يختلف اختلافاً تاماً عن المصادر الأخرى نصاً وروحاً. ويشير نقاد العهد القديم إلى هذه الصيغة باعتبارها «الوصايا القربانية» ، لأنها تحتوي على عدد كبير من الطقوس الخاصة بالأعياد والقرابين، كما أن الأخلاقيات الواردة فيها بدائية إلى أقصى حد تعكس بيئة رعوية.(13/217)
ويرى أحد نقاد العهد القديم أنه توجد صيغ أخرى مثل تلك الواردة في خروج (13/3 ـ 16، 23/10 ـ 19) ، وهي لا تختلف كثيراً عن الصيغة السابقة في بدائيتها، وتعكس بيئة شمالية أكثر ثراء. كما يشيرون إلى صيغ أخرى موجودة بشكل متناثر في سفر التثنية. ويُفسَّر تعدُّد الصيغ بالإشارة إلى الثورات المختلفة في المملكة الشمالية والمملكة الجنوبية ضد العبادات الأجنبية، وأن كل ثورة كانت تؤكد صيغة جديدة.
وأهم الصيغ التي وردت هي، كما تَقدَّم، في سفري الخروج (20/1 ـ 17) والتثنية (5/6 ـ 21) ، والصيغتان متشابهتان تماماً إلا في تفاصيل قليلة لا دلالة لها، باستثناء الوصية الثالثة حيث نجد أن ثمة اختلافاً جوهرياً بين الصيغتين، والوصيتين التاسعة والعاشرة حيث هناك تباينات لفظية. وقد أوردنا فيما يلي الصيغة الأولى بأكملها، بعد أن أثبتنا بين قوسين في السياق الوصايا الثالثة والرابعة والتاسعة والعاشرة في صياغتها الأخرى:
ثم تكلم الإله بجميع هذه الكلمات قائلاً: أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية:
1 ـ لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن. لأني أنا الرب إلهك إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي. وأصنع إحساناً إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي.
2 - لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً. لأن الرب لا يبرئ من نطق اسمه باطلاً.(13/218)
3 - اذكر يوم السبت لتقدسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك. وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك. لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك. لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع. لذلك بارك الرب يوم السبت وقدَّسه [وأما اليوم السابع فسبت للرب إلهك لا تعمل فيه عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وثورك وحمارك وكل بهائمك ونزيلك الذي في أبوابك لكي يستريح عبدك وأمتك مثلك. واذكر أنك كنت عبداً في أرض مصر. فأخرجك الرب إلهك من هناك بيد شديدة وذراع ممدودة. لأجل ذلك أوصاك الإله إلهك أن تحفظ يوم السبت] .
4 ـ أكرم أباك وأمك لكي تطول على الأرض التي يعطيك الرب إلهك [أكرم أباك وأمك كما أوصاك الرب إلهك لكي تطول أيامك ولكي يكون لك خير على الأرض التي يعطيك الرب إلهك] .
5 ـ لا تقتل.
6 ـ لا تزن.
7 ـ لا تسرق.
8 ـ لا تشهد على قريبك شهادة زور.
9 ـ لا تشته بيت قريبك [لا تشته امرأة قريبك] .
10- لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك [لا تشته بيت قريبك ولا حقله ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا كل ما لقريبك] » .(13/219)
ويمكن تقسيم الوصايا علي النحو التالي من (1) إلى (3) : وصايا تختص بعلاقة الإنسان بالإله، وبقية الوصايا تختص بعلاقة الإنسان بالإنسان. وتبدأ الوصايا بالإله يُعرِّف نفسه، وأهم سماته هي مساهمته في التاريخ اليهودي، فهو يُعرِّف نفسه بأنه الإله الذي «أخرجك من أرض مصر وأرض العبودية» ، أي أن ديباجة الوصايا العشر ذات طابع حلولي ترسِّخ الإحساس بالعلاقة الخاصة بالإله الذي يتدخل في التاريخ لصالح جماعة يسرائيل، وتعمَّق الإحساس بكره الأغيار (المصريين) . كما يُلاحَظ أن فكرة التوحيد ليست كاملة، إذ أن هذه الوصية تعترف ضمناً بوجود آلهة أخرى. أما الوصية الأولى، فهي تتحدث عن الإله الغيور الذي يتعقب ذنوب الآباء في الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع من أعدائه، وهي بذلك تنسب صفات بشرية إلى الإله، وتتضمن أخلاقيات بدائية إذ يصبح الشر والخير بالضرورة مسألة موروثة وليست مسألة دينية مرتبطة بقيم أخلاقية وبالاختيار والمسئولية الفردية.(13/220)
أما الوصية الثالثة، فهي الوصية التي يرد فيها تفسيران مختلفان لتقديس يوم السبت. وهذا يعود بطبيعة الحال إلى تعدُّد المصادر، ولكن الحاخامات فسروا الاختلاف باعتبار أنه يعود إلى أن موسى حطم لوحي العهد، فلما عاد أتى بنسخة أخرى من الوصايا، وكانت النسخة الأخرى غير مطابقة تماماً للنسخة الأولى. وقد فسر آخرون هذا الاختلاف بأنه معجزة محضة، فقد أرسل الإله النسختين في آن واحد. وهو التفسير الذي ساد والذي يتسق إلى حدٍّ كبير مع تركيب اليهودية الجيولوجي التراكمي الذي تتعايش داخله الطبقات المتراكمة المتناقضة. ولهذا التفسير الحاخامي الأخير دلالة خاصة. فالصيغتان الأولى والثانية، كما بيَّنا، تتفقان في كل التفاصيل تقريباً، إلا في الوصية الثالثة التي تختص بتقديس يوم السبت، حيث يختلف تفسير مصدر القداسة من صيغة إلى أخرى، فصيغة سفر الخروج (20/11) تورد أن الإله قد خلق الأرض في ستة أيام واستراح في اليوم السابع، أما سفر التثنية (5/15) فيذكر أن ذلك اليوم مقدَّس لأنه اليوم الذي أخرج الإله فيه جماعة يسرائيل من مصر، أي أنه من خلال ربط الصيغتين يتم مزج المقدَّس بالدنيوي والإلهي بالقومي. فقد ساوت الصيغتان الحادثة الكونية (خلق العالم أو الطبيعة) بحادثة قومية تاريخية (الخروج من مصر) في بداية التاريخ اليهودي. وهكذا ترتبط الطبيعة والتاريخ، ويُمنَح اليهود عطلة يوم السبت لسببين: أحدهما كوني، والآخر تاريخي يختص بالشعب المقدَّس، ولكنهما يتساويان في الدرجة. والسبت في هذا لا يختلف عن معظم الأعياد اليهودية التي هي أعياد دينية تاريخية وهي في الوقت نفسه أعياد طبيعية لا علاقة لها بالدين أو التاريخ أو الأخلاق. وفي هذا اتساق مع النمط الحلولي الذي لاحظناه، وهو تداخل النسبي والمطلق، والدنيوي والمقدَّس، وإضفاء مركزية كونية على التاريخ اليهودي.(13/221)
وتعالج بقية الوصايا قضايا أخلاقية عامة ومهمة لتنظيم أي مجتمع، وإن كان هناك تخصيص في الوصية الأخيرة التي توصي اليهودي بعدم ارتكاب المعاصي ضد أقاربه من اليهود، وتلتزم الصمت تجاه الأغيار.
وثمة تشابه واضح بين الوصايا العشر في موضوعاتها وعناصرها الأساسية وأقسامها وترتيب أجزائها من جهة والمعاهدات المعروفة في حدود النصف الأول من القرن الثالث عشر ق. م. مثل المعاهدات المبرمة بين الملوك الحيثيين والدويلات الخاضعة لهم من جهة أخرى. فهذه المعاهدات تبدأ بديباجة أو مقدمة تاريخية، يليها شروط تتعلق بحفظ المعاهدة. وقد أخذت الوصايا العشر شكل إحدى هذه المعاهدات. فالرب هو الحاكم الإلهي الذي يذكر لعبيده أفضاله عليهم، وما أسدي إليهم من جميل، ثم يملي عليهم شروطه، ويهدد بإنزال العقوبات على المخالفين منهم. كما كانت مثل هذه المعاهدات تتطلب أن تُقرأ نصوص المعاهدة علناً بشكل دوري، وأسلوب الوصايا العشر يدل على أنه يجب قراءتها بصوت عال على الملأ. وقد وُضعت الوصايا العشر في سفينة العهد التي كان يُنظَر إليها باعتبارها مسند قدم الإله. والواقع أن هذه العادة سادت الشرق الأدنى القديم حيث كانت تُودَع نسخ من المعاهدات تحت أقدام الإله الذي شهد عليها.
وثمة تشابه بين الجانب الأخلاقي في الوصايا وبين الدليل الذي كان يُوضَع بجوار الموتى في مصر الفرعونية، ليهديهم في اليوم الآخر، والمسمَّى «إعلان البراءة» ، الذي ورد فيه: «لم أسرق؛ لم أطمع في شيء؛ لم أقتل إنساناً؛ لم أكذب؛ لم أزن» .(13/222)
وقد أصبحت الوصايا العشر جزءاً من الصلاة التي تتلى في عيد الأسابيع (عيد نزول التوراة) وهو ما يدل على أنه كان هناك عيد يسرائيلي قديم (لتجديد العهد) ، وأنه كان يتضمن قراءة نصوص الوصايا العشر. وكانت الوصايا العشر، في الأصل، جزءاً من الصلاة في الهيكل، وكان اليهود يريدون أن تصبح هذه الوصايا جزءاً من الصلاة اليومية، ولكنهم مُنعوا من ذلك، حتى تُدحَض ادعاءات الفرق اليهودية المهرطقة التي كانت تدَّعي أنها وحدها المنزلة من الإله وما عدا ذلك فهو اجتهاد بشري ولذا فهو غير مُلزم لأحد. ورداً على ذلك، جاء في الأجاداه أن هذه الأوامر والنواهي كانت مكتوبة على لوحي العهد في الفراغات بين الكلمات، وهذه محاولة لخلع القداسة على الشريعة الشفوية التي يحمل الحاخامات مشعلها. ولكل هذا، لم تُضَم الوصايا العشر إلى الصلوات اليومية. والواقع أن الأهمية الخاصة والوحيدة لهذه الوصايا هي أن المصلين يقفون عند تلاوتها في المعبد. وفي احتفالات بلوغ اليهودي سن التكليف الديني (برمتسفا) في المعابد الإصلاحية، يقوم المُحتفَل به بتلاوتها أمام تابوت العهد.
وقد أضاف حاخامات اليهود ما يُسمَّى الأوامر والنواهي أو المتسفوت وعددها 613. ويوجد أيضاً ما يُسمَّى شريعة نوح، وهي تضم مجموعة من الأوامر والنواهي الملزمة لليهود وغير اليهود.
سفر أيوب
Job(13/223)
«أيوب» اسم لا يُعرَف معناه على وجه الدقة، ليس له اشتقاق عبري، أشار جيزينوس إلى أنه من أصل عربي من آب بمعنى رجع/عاد/تاب، ولعله قريب من اللفظة العربية «آيب» بمعنى «الراجع إلى الإله أو التائب» ، و «أيوب» اسم سفر يعالج مسألة عذاب الأبرار، وتدور أحداثه حول رهان بين الإله وبين الشيطان الذي سُمح له بأن يختبر إيمان أيوب. وابتلي أيوب، ففقد ممتلكاته وحُرم من أسرته وأصيب في جسده. وتلت المقدمة حوارات شعرية بين أيوب وثلاثة أصدقاء جاءوا لمواساته. ويضم السفر إشارات عديدة يُفهم منها إنكار البعث والحياة في الآخرة، وأن الثواب والعقاب يقتصران على الحياة الدنيا. ومع هذا، يظهر الإله لأيوب في العاصفة ويوجه إليه اللوم على الاعتراض على حكمه، فعقل الإنسان قاصر عن إدراك حكمة الإله ولذا لا يحق له أن يعترض على حكمه، فيتوب أيوب وينيب ويعود إلى نجاح فاق نجاحه الأول.
ولا توجد أية إشارة إلى يهوه في الحوار الشعري الذي يدور في السفر، ولا إلى تاريخ جماعة يسرائيل، ولا إلى أيٍّ من شرائعهم، إذ أن تناول القوانين الأخلاقية يتم بشكل إنساني عام. كما أن السفر خال من الزخارف اللفظية، من الصور التي تسم الأسفار ذات الأصل العبراني. كل هذا حدا ببعض الباحثين إلى القول بأن الكتاب من أصل أدومي أو تقليد لنص أدومي. ولم يُحدَّد، على وجه الدقة، تاريخ كتابة السفر، فالبيئة والظروف التي يتحدث عنها تشبه البيئة والظروف التي عاش فيها الآباء الأولون. ولذلك يُحتمَل أنه يرجع إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وإن كانت هناك آراء تذهب إلى أنه وُضع في تاريخ متأخر من القرن الرابع قبل الميلاد، وربما بعد ذلك.
وكان الكاهن الأعظم يتلو سفر أيوب في يوم الغفران. ولا يزال السفارد يقرأونه في التاسع من آب.
سفر الأمثال
Proverbs(13/224)
يُسمَّى «سفر الأمثال» بالعبرية «ميشاليم» وهو يضم مجموعة من الأمثال، ويتناول موضوعات مختلفة مثل: مخافة الإله، وطاعة الوالدين، واحترام المعلمين، والنهي عن المنكر، والأمر بالعدل، والصبر، وعدم الغش في الكيل، والتَبصُّر في الأمور. ويؤكد السفر أن الصالحين من العلماء سيُكافَأون وأن الصالحين من الجهلاء سيُجازون. والتوجه الأخلاقي للسفر فردي إنساني وليس قومياً. كما يخلو السفر من النهي عن عبادة الأوثان. وتُنسَب معظم أجزاء السفر إلى سليمان، كما تُنسَب أجزاء أخرى إلى مؤلفين آخرين حُدِّدت أسماء بعضهم ولم تُحدَّد أسماء البعض الآخر. ويشبه السفر كتب الحكم والأمثال المصرية، كما يُلاحَظ تأثره بأدب الأمثال الكنعاني والآشوري. ويختلف ترتيب مجموعات الأمثال في النسخة العبرية عن ترتيبها في الترجمة السبعينية، الأمر الذي يدل على تعدُّد المصادر.
وينسب الحاخامات نشيد الأنشاد وسفر الأمثال وسفر الجامعة إلى سليمان، فيقولون إنه وضع الأول في شبابه، والثاني في تمام عقله وحكمته، والثالث في شيخوخته.
سفر الجامعة
Ecclesiastes(13/225)
ويُسمَّى بالعبرية «قوهيليت» أي «الجامعة» ، وهو رابع المجلات الخمس، وأحد أسفار العهد القديم، يحاول واضعه أن يُعرِّف معنى الحياة وهدفها، ولكنه يرى أن كل شيء باطل وعبث، فيسقط في العدمية والحسية والقدرية، وشعاره هو "باطل الأباطيل، كل شيء باطل"، فكل شيء مقرَّر من قبل لا مجال للاختيار الإنساني. ويرى صاحب السفر أن الحكمة والمعرفة لا جدوى من ورائهما، فلا فرق بين الحيوان والإنسان، ولا حساب بعد الموت، ولذا فيوم الوفاة خير من يوم الميلاد، وأن يذهب الإنسان للعزاء خير من أن يذهب ليبارك مقدم مولود. وثمة تَماثُل في بعض الوجوه بين سفر الجامعة وبين الفلسفة اليونانية، إذ يقول بركليس: «إن الخير كل الخير ألا يولد الإنسان أصلاً، ولكن ما يلي ذلك هو أن يموت الإنسان صغيراً» . وقد ضُمِّن السفر في العهد القديم برغم رؤيته اللادينية. ويبدو أنه قد وُضع في القرن الثالث قبل الميلاد، وكُتب في أسلوب دقيق سهل ناصع، ولغته قريبة من عبرية المشناه. وينسب اليهود نشيد الأنشاد إلى سليمان، وكذلك سفر الأمثال وسفر الجامعة. ويقولون إنه كتب الأول في شبابه والثاني في تمام عقله وحكمته والثالث في شيخوخته. ويُقرأ سفر الجامعة في عيد المظال.
سفر المزامير
Psalms(13/226)
ويُسمَّى بالعبرية «تهيليم» أي «المزامير» . سُمِّي «سفر المزامير» بهذا الاسم لأنه يحوي مجموعة من الأغاني تُنشَد بمصاحبة المزامير. وتُقسَّم المزامير إلى خمس مجموعات (1) ، (42) ، (78) ، (90) ، (107) ، وتُختَم كل مجموعة بتسبيحة شكر. وقد نُسبت المزامير أساساً إلى داود، ولكن بعضها نُسب إلى سليمان أو مؤلفين آخرين، كما أن بعضها لا يُنسب إلى أحد. ويتناول هذا السفر موضوعات كثيرة، كالترانيم والأدعية والتسابيح، والتعبير عن ثقة وإيمان المؤمنين بإله الكون، وأغان تعبِّر عن الحزن والفرح، وأناشيد تُغنَّى في مناسبات مثل يوم الزفاف الملكي واعتلاء العرش وفي الأعياد وأغاني الأفراح والحروب. وكان بعض المزامير يُغنَّى بشكل جماعي والبعض الآخر يُغنَّى بشكل فردي. ويشبه كثير من المزامير القصائد الأوجاريتية، كما يظهر في المزمور رقم 104 أثر قصيدة أخناتون التي يخاطب فيها معبوده الشمس، وتوجد أيضاً تأثيرات بابلية. ولا يُعرَف على وجه الدقة متى أصبح إنشاد المزامير جزءاً من الصلوات في المعبد اليهودي، وإن كانت أغلبية الباحثين تميل إلى القول بأن ذلك تم بعد التهجير البابلي. وقد أصبح كثير من المزامير جُزءاً من الصلوات اليهودية والمسيحية، نظراً لجمال بعضها وبساطته. ولكن البعض الآخر يتسم بالنزعة القومية العنصرية (بل العسكرية أيضاً) . وقد خُصِّصت بعض المزامير لمناسبات معيَّنة ولأيام محدَّدة. وفي التراث القبَّالي، يُنظَر إلى المزامير باعتبارها «أسلحة» في يد المؤمن يبيد بها أعداءه. ومن ناحية أخرى، فإن إصحاحات السفر مرتبة في النص العبري بطريقة تختلف في هذا السفر عنها في الترجمة السبعينية.
سفر نشيد الأنشاد
Song of Songs(13/227)
بالعبرية «شيرهشيريم» أي «نشيد الأنشاد» ، ويُسمَّى «نشيد الأنشاد» أحياناً «نشيد سليمان» ، وهو أولى المجلات الخمس. يضم نشيد الأنشاد قصائد حب كُتبت على هيئة حوار، وقد فسرها البعض على أنها مسرحية شعرية ذات فصول ومناظر، شخصياتها هي الراعية شولاميت وبنات أورشليم والراعي الشاب، وتدور أحداثها حول غرام سليمان بشولاوميت التي كانت تحب الراعي بعد أن خطبت له، وبقيت وفية على حبها له إلى أن تزوجا في النهاية. ويرى البعض أنها مجرد أغاني حب وزفاف. وتتسم قصائد السفر بالإسراف في التعبير عن عاطفة الحب والحسية في الوصف الأمر الذي أثار الجدل حوله، وقد تم تفسيره تفسيراً رمزياً باعتباره نشيد زفاف جماعة يسرائيل إلى الإله، أو زفاف التوراة إلى جماعة يسرائيل. ويُعَد نشيد الأنشاد من أهم أسفار العهد القديم من منظور التراث القبَّالي لأنه يستخدم صوراً مجازية جنسية. ويُلاحَظ أن اسم الإله لم يُذكَر في هذا السفر إلا مرة واحدة (8/6) : «اجعلني كخاتم على قلبك كخاتم على ساعدك. لأن المحبة قوية كالموت. الغيرة قاسية كالهاوية لهيبها لهيب نار لظى الرب» .
ويُنسَب نشيد الأنشاد إلى سليمان، كما يُنسَب إليه الأمثال والجامعة. ويقولون إنه وضع الأول في شبابه، والثاني في أيام العقل والحكمة، والثالث في شيخوخته.
سفر المراثي (مراثي إرميا)
Lamentations(13/228)
ثالثة المجلات الخمس (وهو بكلمة «إيخاه = كيف» العبرية ويضم مراثي أشبه بالبكائيات على الأطلال) ، ويضم خمسة إصحاحات من المراثي تتناول هدم يهودا وأورشليم والهيكل على يد البابليين. وتقرر المراثي أن ما حدث من خراب ودمار لأورشليم، إنما هو نتيجة أعمال قاطنيها وشرورهم. ويبكي الشاعر احتلال أورشليم ورحيل حكامها، ويدعو إلى التوبة ويأمل في رحمة الإله وفي انتقامه من الأعداء، وأخيراً فإنه يستعطف الإله ويرجوه إرجاع المجد القديم. وتوجد كتب مراث للمدن المهدمة في الأدب السوري والأكادي، وكلها تتناول موضوعات مثل: المجاعة وتهديم المدينة والمعبد ونهب المدينة والأسر والنحيب، وهو ما يشير إلى احتمال تأثيرها في مراثي إرميا. ويُنشد السفر في التاسع من آب. ومن الواضح أن له أكثر من مؤلف.
تفسير العهد القديم
Exegesis of the Old Testament
بالعبرية «بيروشيم أوبيئوريم» = «تفسيرات وشروح» ، وتُعَدُّ قضية التفسير مسألة أساسية بالنسبة للعهد القديم، نظراً لعدم اتساقه وتعدُّد مصادره وعدم تمازجها. وتفسير العهد القديم هو ما يشكل الشريعة الشفوية التي فاقت في أهميتها (عند اليهود) الشريعة المكتوبة المتمثلة في العهد القديم. وكان أول طرح للقضية في القرن الأول قبل الميلاد، حينما تحوَّلت قضية التفسير إلى قضية سياسية في الصراع الدائر بين الفريسيين والصدوقيين، إذ رأى الفريسيون أن الشريعة المكتوبة لا تكفي، وأنه لابد من إكمالها بالشريعة الشفوية، أي بالتفسير الحاخامي، الأمر الذي يعني في واقع الأمر توسيع نطاق المشاركة في إدارة حياة اليهود وصياغة رؤيتهم للكون بحيث لا يستأثر الكهنة (الصدوقيون) بمفردهم بهذه العملية. وقد قدَّم الغيورون، وخصوصاً حَمَلة الخناجر منهم، تفسيراً شيوعياً بدائياً لليهودية وجد صداه بين الجماهير اليهودية، فاندلع التمرد الأول ضد الرومان.(13/229)
وبعد استقرار اليهودية الحاخامية، مر تفسير العهد القديم بعدة فترات. تمتد الفترة الأولى حتى القرن السادس الميلادي. وقد بدأت هذه الفترة مع تدوين العهد القديم نفسه، إذ صاحب ذلك ظهور كتب المدراش المختلفة (بشقيها الهالاخي والأجادي، أي التشريعي والوعظي القصصي) التي تمثل النواة الأولى للشريعة الشفوية. وقد وُضعت قواعد مختلفة للتفسير، وظهرت مدارس مختلفة، لكن من الواضح أن التفسير اكتسب من البداية مركزية وحل محل النص المقدَّس كمرجع نهائي. وقد ظل التفسير ينطلق من النص ويعود إليه في حلقات متداخلة حيث يفرض المفسر الرأي الراجح في تصوُّره.(13/230)
وقد ظهرت مدارس مختلفة للتفسير، منها الحرفي والمباشر (بيشاط) ، ومنها ما يحاول أن يغوص في المعنى الكامن (دراش) ، ومنها الرمزي (ريميز) ، وأخيراً هناك التفسير الذي يحاول أن يصل إلى المعنى الفلسفي أو اللاهوتي والباطني والغنوصي (سود) ، وهو أيضاً التفسير الصوفي. وقد ساد النوعان الأول والثاني في بادئ الأمر، وفي هذه الفترة فسَّر فيلون العهد القديم تفسيراً مجازياً حاول فيه أن يوفق بين اليهودية والفلسفة اليونانية. ومن أشهر مدارس التفسير، في هذه الفترة، بيت شماي وبيت هليل. وقد ظهرت الحلقات التلمودية، إبان هذه الفترة، في فلسطين وبابل ظهرت طبقات الشارحين المختلفة: الكتبة (سوفريم) ، ومعلمي المشناه (تنائيم) ، والشراح (أمورائيم) ، والمفسرين (صابورائيم) ، والفقهاء (جاؤنيم) . ويرى بعض النقاد أن ترجمات العهد القديم، اليونانية (السبعينية) والسريانية (البشيطَّاه) واللاتينية (الفولجاتا) ، هي في الواقع من قبيل التفسير إذ أن المترجمين كانوا يضيفون أحياناً كلمات هنا وهناك لتوضيح المعنى. كما أن فكرة الكتب الخارجية والخفية (أبوكريفا) ، والكتب المنسوبة (سيودإبيجرفا) ، هي أيضاً من قبيل كتب التفسير التي تلقي الضوء على نصوص الكتاب المقدَّس. ومع نهاية هذه الفترة، جُمعت التفسيرات والفتاوى والشروح المختلفة في التلمود وفي كتب المدراش المختلفة. وبدأت التفسيرات الصوفية في الظهور، وخصوصاً تفسيرات قصة الخلق، كما ظهرت التأملات الخاصة بتركيب السماء والأرض.(13/231)
أما في الفترة الثانية، فقد ظهرت طرق تفسير جديدة بتأثير الحضارة الإسلامية. وعلى سبيل المثال، ابتعد سعيد بن يوسف الفيومي عن التفسير الوعظي الملتصق بالنص، واشتهر باستخدام المعارف الدنيوية السائدة في عصره، وتطبيق طرق البحث الفلسفية واللغوية لتفسير العهد القديم. وقد تطورت هذه الطرق في إسبانيا، الإسلامية ثم المسيحية، حيث ظهرت جذور علم نقد العهد القديم. ووصل التفسير الفلسفي قمته في أعمال موسى بن ميمون الذي لم يكتب تفسيراً كاملاً للعهد القديم، ولكن أعماله الفلسفية تتضمن الكثير من التفسيرات للعديد من النصوص. وقد استخدم ابن ميمون معرفته بالفلسفة الإسلامية، والعلوم الدنيوية في الحضارة الإسلامية التي عاش في كنفها، ليقدم تفسيراً عقلانياً لا يستبعد الجوانب الرمزية، بل يستفيد من معرفة قوانين المنطق واللغة. أما في أوربا الغربية، فقد انحصر راشي (في القرن الحادي عشر) داخل نطاق التفسير الحرفي والمباشر، فلم يرجع إلا لكتب المدراش، وكانت تفسيراته ذات طابع لغوي ضيق.(13/232)
ومما يجدر ذكره أن الطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي اكتسبت مركزية وأهمية في هذه الفترة. ويتبدى هذا في هيمنة الشريعة الشفوية التي تذهب إلى أن التفسير البشري أهم من الوحي الإلهي، ولذا نجد أن الحاخامات أعطوا أنفسهم الحق في إصدار تفسيرات وتشريعات لا تستند بالضرورة إلى النص وتهدف، في تصوُّرهم، إلى حماية الأوامر التوراتية. كما يُلاحَظ أن تفسيرات الحاخامات لها منزلة أعلى من النص نفسه، فإن تناقضت أحكامهم مع أحكام التوراة، أي مع كلمات الإله، فإن تفسيرهم يكون التفسير الملزم لأن التوراة، بعد أن أعطاها الإله للإنسان، أصبحت خاضعة لتفسيره. وقد جاء في التلمود أن الإله وافق على أنه يجب أن يُفسِّر الحاخامات ما قاله هو. وعلى كلٍّ تقرر الشريعة الشفوية أنها تَصدُر عن الإرادة الإلهية، شأنها في هذا شأن الشريعة المكتوبة، الأمر الذي عارضه السامريون والقرّاءون. وقد شهدت هذه الفترة هيمنة التلمود (ثمرة الشريعة الشفوية) بحيث حل محل العهد القديم باعتباره أهم كتب اليهود المقدَّسة.(13/233)
ويُقسِّم التلمود اليهود وفق ترتيب هرمي حدّي يتناسب مقدار الصعود أوالهبوط فيه تناسباً طردياً مع مدى التعمق في التفسير ومن ثَمَّ درجة الحلول الإلهي في التفسير. فأقل اليهود منزلة هم الجهلاء الذين لا يعرفون العهد القديم ولا تفسيراته، يعلوهم أولئك الذين يعرفون العهد القديم، ثم أولئك الذين يعرفون المشناه والأجزاء الوعظية القصصية (الأجادية) منها أو تلك الموجودة في الجماراه. أما أعلى اليهود منزلة، فهم أولئك الذين يعرفون الأجزاء التشريعية (الهالاخية) من المشناه والجماره ويفسرونها. وهذا الترتيب الهرمي يبين مدى علاقة التفسير بالسلطة بحيث نجد أن الحاخامات (مفسري الشريعة) ، أصحاب الشريعة الشفوية، يقفون على قمة الهرم. وقد سادت القرن الثامن عشر طريقة البيلبول، وهي طريقة في التفسير تهدف إلى إبراز براعة المفسر ومقدراته، بغض النظر عن مدى صدق تفسيره أو مطابقته للنص.
وقد انفصلت الدراسات التلمودية تماماً عن الواقع، أي واقع، بحيث انغمست في الاعتبارات المنطقية التي لا يربطها أي رابط مع مشاكل أعضاء الجماعات اليهودية وحياتهم. وعلى سبيل المثال، فمن الضروري ألا يتزوج الكاهن الأعظم إلا عذراء. ورغم هدم الهيكل وانتهاء العبادة القربانية، فإن التلمود والحاخامات استمروا في مناقشة أدق التفاصيل الخاصة بذلك التحريم، مثل محاولة تعريف العذراء. ويتساءل التلمود عن امرأة تمزَّق غشاء بكارتها بسبب حادث وقع لها، فتطرح أسئلة مثل: هل وقع الحادث قبل أو بعد سن الثالثة؟ وعن طريق جسم معدني أو خشبي؟ وهل وقع الحادث بسبب تَسلُّق شجرة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل وقع الحادث أثناء صعودها أم أثناء نزولها من الشجرة؟ وذلك إلى جانب عشرات من الأسئلة الأخرى.(13/234)
ومع الدراسات التلمودية، نشأت التفسيرات الصوفية القبَّالية في القرن الرابع عشر، جنباً إلى جنب، وأخذت في الانتشار حتى سادت تماماً مع بدايات القرن السابع عشر، واتبعت منهجاً حلولياً باطنياً في التفسير.
والحلولية لا توحد الإله والطبيعة وحسب، وإنما توحد الكل والجزء كذلك، ولذا تصبح المادة والأجزاء، داخل الإطار الحلولي، إما الجسد الإلهي نفسه أو مادة مقدَّسة مُستمَدة من الإله لها معنى رمزي باطني، ولكن المفارقة تكمن في أنها قد تصبح عكس ذلك تماماً، مجرد مادة خام يسبر عقل الإنسان المقدَّس أغوارها ويشكلها حسب هواه ويفرض عليها أي معنى باطني يعن له باعتبار أن الإنسان تَجسُّد للإله الذي حل فيه.(13/235)
ويُلاحَظ أن علاقة الدال بالمدلول داخل الإطار الحلولي تضطرب تماماً وتعكس الموقفين المتناقضين نفسيهما، فقد يلتصق الدال بالمدلول (التصاق أو تَوحُّد التوراة مع الإله) ليصبح الدال أو النص (مثل جسد الإله) مقدَّساً ويشمل كل شيء، أو العكس إذ يصبح الدال ظاهرياً جافاً منفصلاً عن مدلوله (الحقيقي) ومن ثم يفرض المفسر عليه أي معنى يشاء (وهذا يعني موت النص وهيمنة المفسر) . وفي التراث القبَّالي، كل شيء انعكاس لشيء آخر بسبب اختفاء الحدود في النسق الحلولي وذوبان الكل في الجزء واختفاء الثغرة، ولذا يمكن أن يدل أي دال على أي مدلول. كما أن الرمز، لهذا السبب، يصبح أحياناً هو المعنى نفسه (مثل الصليب أو الأيقونة) . وثمة تشابه بين هذه الطريقة في التفسير وبين بعض أطروحات المدرسة التفكيكية التي أسسها جاك دريدا، وخصوصاً مفهوم «لا ديفيرانس La differance» ، وهي كلمة مركبة تفيد الاختلاف والإرجاء، أي أن كل دال مختلف عن أي دال آخر، ومع هذا فهو على صلة بكل الدوال الأخرى فمعناه النهائي مختلف ومرجأ، ولذا نعبِّر عن هذا المفهوم بكلمة «الإخترجلاف» . وفي كلتا الحالتين، يحاول المفسر أن يصل إلى المعنى الباطني وهو الغنوص الكامل الذي يمكن التحكم من خلاله في الإله ومن ثم في الكون.(13/236)
وتذهب إحدى مدارس التفسير القبَّالية إلى أن التوراة عبارة عن مجرد مادة خام (هيولي) يشكلها المفسر القبَّالي بالطريقة التي يراها حسب هواه. وقد ذكر إسحق لوريا أن للتوراة ستمائة ألف معنى أو وجه، وهذا العدد هو نفسه عدد أعضاء جماعة يسرائيل الافتراضي في سيناء حين أوحى الإله إلى موسى بالتوراة. ومعنى هذا أن لكل يهودي تفسيره الخاص، أو كما يقول لوريا: كل يهودي يقرأ التوراة بطريقته، حسب «جذره» . وقد اتبع القبَّاليون منهج الجماتريا في التفسير وهو حساب القيمة الرقمية للأعداد وتحوير معاني المفردات، بحيث يستنطقها المفسر بما يريد من مدلولات، الأمر الذي يعني أن النص المقدَّس ينطق بما يراه المفسر.(13/237)
وقد تعمقت الحلولية وازداد المجال الدلالي اضطراباً مع هيمنة القبَّالاه التي يدور موقفها من التوراة حول موضوعين أساسيين: أولهما أن «التوراة» اسم للإله أو دال عليه. ويُنظَر في التراث اليهودي إلى هذا الاسم باعتباره أعلى تركيز للمقدرة الإلهية (وهي فكرة لها علاقة بالسحر وبالتأمل الباطني) ، ومعنى ذلك أن التوراة ليست مجرد مادة خام بل لم تَعُد كتاباً ينقل معنىً أو مدلولاً محدداً، وإنما هي وحدة صوفية تهدف إلى التعبير عن قدرة الإله المتركزة في اسمه، وما القصص والمواعظ والمعاني التي ترد فيها سوى رداء خارجي للاسم المقدَّس. وحينما كان القبَّاليون يشيرون إلى أن التوراة هي «اسم الإله» ، فإنهم لم يكونوا يعنون بذلك أنها اسم يُنطَق به، وإنما كانوا يعتقدون أنها الوجود الإلهي المتسامي نفسه، أي أنها هي نفسها اللوجوس أي تجسُّد الإله وليس مجرد دال علىه أو رسالة منه (في التفسيرات المسيحية يُنظَر إلى النص باعتباره قصة رمزية بسيطة، بالإنجليزية: أليجوريكال allegorical) ، أي أن علاقة المستوى الرمزي بالمستوى الواقعي علاقة مباشرة وواضحة، ومن ثم فأحداث القصة علامات تشير إلى مغزى أخلاقي رمزي آخر، فتكون أحداث القصة الدال الذي يشير إلى مدلول وراءه) . وقد جاء في الأجاداه أن التوراة أداة الإله في خلق العالم، كما جاء في أحد كتب المدراش أن الإله نظر إلى التوراة ثم خلق العالم، أي أن القانون الذي يحكم العالم يوجد في التوراة، وهنا يتداخل التأمل مع السحر. وتعبِّر التوراة عن الحياة الداخلية للإله، بل هي جزء منه. ومن هنا، فإن الإشارة كانت إلى التوراة الكونية (توراة قيدوماه) باعتبارها أحد التجليات النورانية العشرة (سفيروت) . ومن هنا، كان الحديث عن أن التوراة هي الإله، حروفها جسده ومعناها روحه.(13/238)
أما الموضوع الثاني، فهو أن التوراة كيان عضوي حيّ، وهذه فكرة نابعة من الفكرة السابقة. فالتوراة اسم، ولكنه اسم على هيئة كيان حيّ، ولذا يشار إليها بأنها شجرة الحياة تظهر على هيئة إنسان. وهنا يتحد كل من التوراة وجماعة يسرائيل، فالتوراة التي تجسد الإله متوازية مع الشعب، والشعب هو الشخيناه التي هي أحد تجليات الإله. وبالتالي، فإن الشعب أحد التجليات النورانية، أي أنه جزء عضوي من الإله.
وقد امتد هذا التصور ليشمل فكرة التوراة الشفوية التي تعتبر الكل الذي يضم مختلف فتاوى الحاخامات. والتوراة الشفوية هي التي تكمل التوراة المكتوبة وتجعلها متعيِّنة، أي أن التوراتين تمثلان كلاًّ عضوياً، وكل منهما تكمل الأخرى ولا يمكن تصوُّر الواحدة منفصلة عن الأخرى. وقد قرن القبَّاليون التوراة المكتوبة بالتجلي النوراني المسمَّى «تفئيرت» (الإله من حيث هو عنصر مذكر) ، في حين تكون التوراة الشفوية الوعاء المتلقي أو الشخيناه، أي جماعة يسرائيل (الإله من حيث هو عنصر مؤنث) ، ومعنى هذا أن الإله والتوراة والشعب يكوِّنون كلاًّ عضوياً. والواقع أن مضامين الفكرة جادة وخطيرة للغاية، فالتوراة المكتوبة تكتسب مضمونها من خلال التوراة الشفوية وليس العكس. ويكتسب الإله هويته من خلال الشخيناه (الشعب) وليس العكس (وهنا يتبدَّى النمط الحلولي الكامن الذي يبدأ بحلول الإله في الإنسان، ولكنه يصبح دونه مرتبةً ومنزلةً ومعتمداً عليه) . والشيء نفسه يُقال عن التوراتين، فالتوراة الشفوية (التي وضعها الإنسان) تفوق التوراة المكتوبة المرسلة من عند الإله. وقد قال نحمانيدس إنه جاء في الأجاداه أن التوراة كُتبت بنار سوداء على نار بيضاء، ولذا فإن حروف التوراة المكتوبة لا معنى لها دون المفسرين، فهم يكتشفون التوراة المكتوبة بالنار البيضاء الخفية التي لا يمكن إلا لكبار المفسرين قراءتها، إذ أن التوراة التي بين أيدينا مكتوبة بالحروف السوداء التي تعطي معنى(13/239)
مباشراً عادياً، أي أنه ليست هناك سوى التوراة الشفوية في نهاية الأمر. بل إن نحمانيدس يذهب إلى القول بأن كتابة التوراة كانت متصلة بدون أي فراغ بين الكلمات، أي أنها كلمة واحدة متصلة الأمر الذي يجعل من الممكن قراءتها: إما بالطريقة التقليدية كتاريخ ووصايا، أو بالطريقة الباطنية كأسماء للإله. وجاء أيضاً أن موسى تلقى التوراة التي تُقرأ كوصايا، ولكن التوراة الشفوية هي التي ستمكنه من قراءتها بوصفها أسماء للإله. وقال بعض القبَّاليين بنظرية الحرف الناقص، وهو حرف الشين الغائب أو الباطني الذي له أربع أسنان على عكس الشين العبرية الظاهرة التي لها ثلاث أسنان فقط، مثلها مثل الشين العربية. ويقول البعض الآخر إن هناك حرفاً ناقصاً من العبرية المعروفة لنا، وسيُكشَف هذا الحرف للعوام في الدورة الكونية المقبلة، ولكنه يمكن أن يُكشَف للعالمين بالقبَّالاه في الدورة الكونية الحالية. وحسب هذه النظرية، فعند قراءة أوامر ونواهي التوراة، تكون النواهي مرتبطة بهذا الحرف الناقص، فإن وُضع في موضعه فإن الأوامر مثل «لا تسرق، لا تزن» ستتحول إلى دعوة للإباحية بمعنى «فلتسرق، ولتزن» . وستظهر هذه التوراة الكاملة البيضاء في العصر المشيحاني.(13/240)
وقد طوَّر القبَّاليون فكرة التوراتين على أسس جديدة، فآمنوا بوجود توراتين: توراة الخلق الظاهرة (توراه دى بريئاه) ، وتوراة الفيض الباطنة (توراة دي أتسيلوت) . وهاتان التوراتان، على عكس التوراة المكتوبة والشفوية، كلماتهما واحدة ولكن ثمة معنى خفياً وراء النص الظاهر لا يمكن أن يصل إليه سوى الماشيَّح ومن هم في منزلته. والواقع أن توراة الخلق هي توراة هذا العالم المكتوبة على رقائق الجلد والورق وتحوي الأوامر والنواهي والتحريمات. أما توراة الفيض الكاملة، فهي توراة عالم الخلاص؛ توراة الحرية وعدم التقيد بأية حدود أو أوامر، توراة الإباحة الكامنة وراء توراة الخلق. ولذا، فإن من يدرك كنهها، مثل شبتاي تسفي وفرانك، يتحلل تماماً من الشريعة.(13/241)
ويمكن القول بأن ثمة نمطاً كامناً وراء كل التفسيرات الحلولية يفترض أن ثمة تساوياً بين الإله والتوراة والشعب بحيث يصبح الشعب إلهاً، وهو ما يؤدي إلى الإباحة التي تؤدي بدورها إلى الإباحية الكاملة. ويتحدث التراث القبَّالي عن حادثة طرد آدم من الجنة، وكيف أنه بعد أن أكل من شجرة المعرفة اكتشف عورته التي بدا له أنها خطيئة، ولذا اضطر إلى ارتداء ثوب ليستر به عورته (معرفته) . وبالمثل، فإن الشخيناه التي تتجسد في التوراة، والتي ترافق جماعة يسرائيل في منفاها، بل تصبح هي نفسها كنيست يسرائيل، تصبح في حاجة إلى الثياب لكي تغطي بها أصلها الحقيقي. ومن ثم، فإنها ترتدي ملابس الحداد الكئيبة (الأمر الذي يوضح أثر فكرة السقوط المسيحية وفكرة الجسد من حيث هو خطيئة) . والتوراة/الشخيناه ترتدي هي الأخرى الثياب التي تتمثل في الأوامر والنواهي التي ينبغي على اليهودي مراعاتها في عالم المنفى، أي في عالم السقوط (إذا استخدمنا المصطلح المسيحي) . أما في عصر الخلاص أو العصر المشيحاني، فإن التوراة التي بين أيدينا (توراة شجرة المعرفة المغطاة برداء من الوصايا) سوف تتجرد من ملابسها لتظهر التوراة الحقيقية (توراة شجرة الحياة) ، ومن ثم تكون العودة إلى الحالة الفردوسية (قبل السقوط) حين كان آدم وحواء يقفان عاريين دون حاجة إلى ثياب تستر عورتهما، أي أن كل شيء ينتهي في الفردوس ليسود الحلول الإلهي الكامل ويترسخ إلغاء الشريعة والإباحية والترخيصية، ويباح كل شيء.(13/242)
ومعنى التوراة الخفي، الذي لا يدركه سوى العالمين بأسرار القبَّالاه، مرتبط بفكرة الدوائر الكونية التي تتكون كل واحدة منها من سبعة آلاف عام، وكل واحدة تتكون من وحدات من سبعة أعوام، والتاريخ يتكون من سبع دورات كونية، ويُقال إننا في ثاني هذه الدورات. وفي كل دورة تأخذ التوراة شكلاً محدداً، والتوراة التي بين أيدي اليهود هي مجرد شكل للتوراة في دورتها الحالية، ولكن هذا الشكل ليس الشكل الأوحد أو النهائي لها، فلكل دورة كونية توراتها، ولكل توراة معنى مختلف تماماً.
ويؤكد التراث القبَّالي وجود درجات وطبقات للمفسرين تعبِّر عن درجات القداسة أو الحلول الإلهي، أهمها هو من «يعرف التوراة وجهاً لوجه» . وقد جاء في التوراة أن موسى عرف الإله وجهاً لوجه، أي رآه رؤية العين. ولكن كلمة «عرف» تعني في العهد القديم، «نكح» : «وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين» (تكوين 4/1) . وفي التراث اليهودي الصوفي، يُقال إن موسى عرف الشخيناه، أي الحضرة الإلهية، بمعنى أنه ضاجعها ونكحها. وكذلك تفسير التوراة، فمن يعرفها وجهاً لوجه يكون كمن نكحها. وتصور القبَّالاه مراحل التفسير مستخدمة هذه الصورة المجازية الجنسية، فالعابد يدخل مخدع حبيبته التوراة، فتقف من خلف حجاب كثيف، وكلما تَعمَّق في القراءة وغاص في المعنى كشفت له عن نفسها حتى تتجرد تماماً من ملابسها وتقف عارية أمامه، فيقف هو أمامها وجهاً لوجه فيما يشبه الزواج المقدَّس. وهذا هو أساس جميع التهويمات الفكرية والجنسية (فلنقارن هذا بفكرة لذة النص عند رولاند بارت، ولنتذكر أن الصورة المجازية الجنسية أساسية في النسق الحلولي وفي فلسفة ما بعد الحداثة) .(13/243)
ومما يجدر ذكره أن كتب القبَّالاه (مثل الباهير والزوهار وكتابات لوريا) ، وكلها كتب تفسير للعهد القديم، حلت بين الجماهير وصغار الحاخامات محل التلمود وأصبحت في واقع الأمر الشريعة الشفوية. وكان هذا هو الوضع السائد حين لاح العصر الحديث في الغرب وقام مندلسون بترجمة العهد القديم وكتب مع بعض زملائه تعليقه الشهير عليه، وهو ما يُعرَف باسم «البيئور» . وقد استفاد مندلسون من التفاسير القديمة، ولكنه وَجَّه الأنظار نحو المعرفة الدنيوية على حساب التقاليد. وبعد ذلك، اتسع نطاق نقد العهد القديم، وظهر ما يُسمَّى «علم اليهودية» والتفسيرات الحديثة المختلفة التي تستفيد من المعارف الدنيوية، مثل علم النفس وعلم الأنثربولوجيا.
ومن أهم الاتجاهات في التفسير ما يمكن تسميته «الاتجاه الوجودي الحلولي» عند مارتن بوبر، وهو اتجاه يرى أن ما يهم ليس النص في حد ذاته وإنما المواجهة بين الإله والإنسان (أو بين الإله واليهودي) ، بمعنى أن النص (كمادة خام له ستمائة ألف معنى) يختفي لتظهر بدلاً منه ذات المفسر، الأمر الذي يعني موت النص ومولد الناقد وهيمنته. وهذا الموقف لا يختلف في أساسياته عن التفسيرات القبَّالية التي تفرض أي معنى باطني على النص، والتي تقتل المؤلف (الإله) وتُعلي إرادة المفسر.
لكل ما تقدَّم، يصبح من المهم جداً، عند قراءة نص توراتي أو تلمودي، أن نحدِّد التفسير المقصود. ولنأخذ، على سبيل المثال، العبارة التي وردت في التلمود حيث يقول الإله: «ياليت الناس يهجرونني ولا يهجرون التوراة» ، فهل المقصود بهذا التوراة الناقصة أم أن المقصود التوراة الكاملة، توراة الخلق أم توراة الفيض، أم أن المقصود أقوال الحاخامات، أي التوراة الشفوية؟ وعلى كلٍّ، فإن معنى كلمة «توراة» (كما بيَّنا) متداخل ومتضارب في المجال الدلالي، ولذا فإن الجملة في حد ذاتها لا تعني شيئاً، والمهم هو تفسير المقصود من كلمة «توراة» .(13/244)
والشيء نفسه ينطبق على أي اقتباس من التوراة، فعبارة مثل تلك التي ترد في الشماع «الإله واحد» تحمل معاني مختلفة بعضها حلولي مغرق في الحلولية والشرك لا علاقة له بالتوحيد. فحينما يقولها القبَّالي بمفهوم التجليات العشرة النورانية، فإنه يعني شيئاً مختلفاً تماماً عما يقصد إليه الحاخام الإصلاحي أو الأرثوذكسي. وإن اقتبس أحد عبارة من تلك العبارات التي تحضه على الإحسان إلى «أخيك» ، فإن الأخ في كثير من التفسيرات تعني «اليهودي» وحسب. والوصية الخاصة بترك لقاط الحصيد «للمسكين والغريب» (لاويين 19/9، 10) ، تُفسَّر بأن المقصود المسكين اليهودي والغريب اليهودي وحسب. بل أية إشارة إلى الإنسان أو الرجل هي، حسب كثير من التفسيرات، إشارة إلى اليهودي وحده.(13/245)
ومن أهم التطورات في تاريخ اليهودية ظهور ما يمكن تسميته «حلولية شحوب الإله» وهي مرحلة تالية لمرحلة وحدة الوجود الروحية، فبعد الحلول الكامل يتوحد الإله مع المادة (الأرض المقدَّسة ـ الشعب المقدَّس) فيَضمُر ويشحُب ويصبح لا أهمية له بل يموت داخلها (وهذا يُشكل مرحلة الانتقال من وحدة الوجود الروحية إلى وحدة الوجود المادية وهي حلولية بدون إله) ، وبذا تصبح المادة مصدر القداسة. وقد تبدَّى هذا في الفكر الديني اليهودي حين وصف أحد زعماء جوش إيمونيم الجيش الإسرائيلي بأنه القداسة الكاملة (مادة مقدَّسة دون مرجعية إلهية متجاوزة) . وقد أخذ بن جوريون الخطوة المنطقية وأعلن أن الجيش الإسرائيلي خير مفسر للتوراة، وهذا يفتح الباب على مصراعيه للقداسة الإسرائيلية المسلحة لكي تفرض التفسير الذي تراه. وعلى كلٍّ، فإن هذا أمر مفهوم تماماً إذا كانت الكلمات دالاً بدون مدلول، أو كان مدلولها مرجئاً ومؤجلاً (على حد قول دريدا) ، ذلك لأن ما يحدد المعنى في هذه الحالة هو القوات المسلحة أو المخابرات العسكرية، فهي وحدها القادرة على إغلاق النسق المتبعثر وتزويده بالمركز والمعنى، وهي وحدها القادرة على أن تحوِّل كلمة «فلسطين» إلى «إرتس يسرائيل» بحيث يصبح الدال (فلسطين) يشير إلى مدلولات أخرى يرتضيها صاحب السلاح الأقوى.(13/246)
ويُلاحَظ أن المدارس المسيحية لتفسير العهد القديم تختلف في منهجها عن المدارس اليهودية، فهي تميل إلى التفسير المجازي، أو تميل إلى التفسير الرمزي الذي يفترض وجود علاقة بين الرمز ومجاله الدلالي، على عكس كثير من المدارس اليهودية التي إما أن ترتبط بالتفسيرالحرفي أو تتركه تماماً وتفصل الدال عن المدلول تماماً. ويُلاحَظ أن كثيراً من مدارس التفسير البروتستانتية (المتطرفة) يأخذ بتفسير حرفي لنصوص العهد القديم ويفرض عليه معنىً صهيونياً. وقد تأثر كثير من النقاد اليهود، من دعاة المدرسة التفكيكية، بالقبَّالاه اللوريانية وبطرق التفسير القبَّالية. ولهارولد بلوم كتاب بعنوان القبَّالاه والنقد.
نقد العهد القديم
(Biblical Criticism (of the Old Testament
جاء في التلمود (بابا باترا، 14ب ـ 15أ) أن موسى هو الذي كتب، أي حرَّر ودوَّن التوراة (أسفار موسى الخمسة) ، والجزء الخاص عن بلعام وسفر أيوب، وأن يوشع بن نون هو كاتب السفر المسمَّى باسمه وآخر ثماني مقطوعات في أسفار موسى الخمسة، وأن صموئيل كتب السفر المسمَّى باسمه وسفري القضاة وراعوث، وأن داود هو صاحب المزامير وقد ضمنها كتابات من سبقوه مثل آدم وإبراهيم، وأن إرميا كتب السفر المسمَّى باسمه وكتب الملوك والمراثي، وأن حزقيال كتب سفر أشعياء والأمثال ونشيد الأنشاد وسفر الجامعة، وأن أعضاء المجمع الكبير كتبوا (أي حرروا) سفر حزقيال وأسفار الاثني عشر نبياً وسفر دانيال وسفر إستير، وأن عزرا كتب السفر المسمَّى باسمه.
وقد قسَّم علماء التلمود المتناقضات في العهد القديم إلى ما يلي:
أ) متناقضات تامة، تناقض المقطوعة منها الأخرى تماماً (بالعبرية: هحخحاشوت) .
ب) ما يثير الدهشة (بالعبرية: تموهوت) مثل خلق الطير من الماء.
جـ) المتقدم والمتأخر (بالعبرية: موقدام أو مؤْحَر) ، أي عدم ترتيب المادة التاريخية في العهد القديم.(13/247)
وفي العصر الحديث، يذهب علماء العهد القديم إلى أن هذا الرأي يتنافى مع القرائن الموجودة داخل النصوص نفسها. فعلى سبيل المثال، يُلاحَظ أنه ورد في نهاية سفر التثنية: «فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب» (34/5) . ثم يستمر السفر، حتى نهايته، في الحديث عن موت موسى. وجاء في سفر التكوين ما يلي: «وهؤلاء هم الملوك الذين ُمِّلكوا في أرض أدوم قبلما مَلَكَ ملكٌ لبني يسرائيل» (تكوين 36/31) ، أي أن كاتب هذه الفقرة عاش بعد أن عرفت جماعة يسرائيل نظام الملكية، ولم يحدث ذلك إلا بعد عدة قرون من موت موسى. كما أن التوراة كُتبت بالعبرية، ولم يكن موسى الذي عاش في مصر يتحدث العبرية، وإنما كان في الأغلب يتحدث لغة المصريين القدامى أو كان يتحدث لغة كنعانية متأثرة بالمصرية القديمة.
لكل هذا، ظهر ما يُسمَّى «نقد العهد القديم» ، وهو العلم الذي يهدف إلى دراسة نصوص العهد القديم باعتبارها نصوصاً تاريخية على الدارس أن يُطبِّق عليها كل المعايير التي يطبقها على أية نصوص تاريخية أخرى. كما يهدف إلى اكتشاف أسباب التناقضات التي قد توجد بين نص وآخر، وعدم الاتساق فيما بينها، ثم محاولة تفسيرها في ضوء المعطيات التاريخية. ويلجأ علم نقد العهد القديم إلى تحليل النصوص المختلفة ليصل إلى عناصرها الأساسية، وإلى الربط بينها لإيضاح تتابعها التاريخي بحيث تلقي الضوء على تطوُّر العبرانيين وعقائدهم منذ مراحلهم البدائية حتى اكتمال النسق الديني اليهودي، أي أن نقد العهد القديم هو العلم الذي يهدف إلى إبراز وتوضيح سائر المشاكل الخاصة بنصوص العهد القديم، وبالتالي وضع أساس للدراسات الأخرى، الاجتماعية والتاريخية والدينية، التي تتناول العصور التي تم فيها وضع العهد القديم وتدوينه.(13/248)
وقديماً كان يتم التمييز بين الدراسة النقدية أو الأدبية (العليا) والدراسة النقدية (الدنيا) أو الأولية. فبينما كانت الدراسة الأولية تختص بدراسة النص وحسب، فإن الدراسة العليا كانت تركز على تحليل مؤلف النص وظروفه التاريخية والمغزى من مؤلفه. ولكن الجهد يتجه الآن نحو مزج الدراستين، وبالتالي قد تؤدي الدراسة التاريخية أو الأدبية (العليا) لنصٍّ ما إلى إعادة صياغة كلمات النص وطريقة نطقها (الدراسة الأولية) ، والعكس صحيح، بمعنى أن اكتشاف طريقة جديدة لنطق بعض الكلمات قد يلقي ضوءاً على مؤلف النص وتاريخه.
وقد أدرك الحاخامات، منذ البداية، وجود التناقضات وعدم الإتساق داخل النصوص التوراتية، ولكن جل همهم انصرف إلى محاولة تفسيرها. فعلى سبيل المثال، عرف الحاخامات أن الإصحاح رقم 34 في سفر التثنية لا يمكن أن يكون موسى قد كتبه، ففُسِّر على أساس أنه كتبه وهو يموت، وأن الإله أملى عليه هذه الكلمات، وأنها كُتبت بروح النبوة. وقد أدرك الحاخامات كذلك، منذ أيام الترجمة السبعينية، أن عدد السنين التي تفصل بين لاوي وموسى لا تصل إلى 430 سنة (حسبما ورد في سفر الخروج) ففسروها بأن الفترة الزمنية بدأت مع مولد إسحق.(13/249)
وقد بدأ نقد العهد القديم على يد المؤلف اليهودي القرّائي (حيوي البلخي) الذي عاش في القرن التاسع. وقد ظهرت محاولات متفرقة هنا وهناك، أهمها دراسة إسحق أبرابانيل (1447 ـ 1508) الذي قدَّم أول دراسة علمية لنصوص العهد القديم. كما أن ابن حزم الأندلسي وبعض الدارسين المسلمين القدامى لاحظوا أن ما ينسبه العهد القديم إلى الأنبياء من جرائم، يُعدُّ دخيلاً على النص الأصلي. ولكن العلم نفسه، بالمعنى الحديث، بدأ مع الفيلسوف اليهودي إسبينوزا الذي قال بأن أسفار موسى ليست من تأليف موسى، وأن عزرا مؤلفها الحقيقي. وبعد ذلك، تتالى العلماء الغربيون في دراسة العهد القديم من وجهة نظر نقدية. وكان أول الكتب لجان إستروك الأستاذ في جامعة باريس عام 1753، وتبعه كتاب ج. آيتشورن عام 1779، وهناك آخرون بينوا مصادر العهد القديم المختلفة، ولم يبق سوى تبيان تتاليها التاريخي، وهو ما أنجزه فون جراف عام 1866، وفلهاوزن (1876ـ 1878) ، وكونهيل. ويُلاحَظ أن هؤلاء الثلاثة من أشهر علماء الإسلاميات في الغرب، ولابد أن النقد القرآني للتحريفات التي وردت في التوراة، كان دافعاً لدراستهم النقدية. وقد انضم إليهم آخرون، من بينهم جايجر (أحد مؤسسي اليهودية الإصلاحية) وجراييتس وكاوفمان وكوهلر. وظهر علم اليهودية الذي يحاول اكتشاف الأسس التاريخية للنصوص المقدَّسة.
وقد استخدم نقاد العهد القديم في دراساتهم المعايير التالية:
1 ـ التناقض في الأجزاء التشريعية: وكما هو واضح في الحكمة من فرض شريعة السبت، فقد ورد مرة أنه فُرض "لأن الرب استراح في اليوم السابع بعد أن خلق السماوات والأرض" (خروج 20/11) . أما في سفر التثنية، فلا يوجد ذكر للخلق، وإنما الإشارة إلى الخروج من مصر (تثنية 5/12 ـ 15) .(13/250)
2 ـ التناقض في القصص: فقد ورد في سفر التثنية (2/4) أن العبرانيين مرُّوا بأرض الأدوميين (بني عيسو) في طريقهم إلى كنعان. أما في سفر العدد (20/21) ، فقد ورد شيء مخالف تماماً.
3 ـ التناقض بين ما جاء في الشرائع وما ورد في القصص: فسفر التثنية (12/5، 6) يصر على ضرورة تقديم القرابين في مذبح مركزي، ومع هذا قدَّم إلياهو قرابين على جبل الكرمل (ملوك أول 18/19 - 37) . وتؤكد أسفار موسى الخمسة أهمية تقديم القرابين خلال سنوات التيه، بينما يؤكد النبي عاموس أن مثل هذه القرابين لم تُقدَّم (عاموس 5/25) . وينكر إرميا أن الإله أمر بمثل هذه القرابين (إرميا 7/22) .
4 ـ تباين الأسلوب الأدبي: وقد توصَّل الباحثون، بعد دراسة الاختلافات الواضحة في مفردات النصوص وأفكارها، إلى أن هذه النصوص تعود إلى فترات زمنية مختلفة. فسفر الخروج يعلن أن الآباء يعرفون الإله باسم «شدَّاي» ، وهو ما يساعد على تحديد هذه النصوص وتحديد تاريخها، وأنها تعود إلى المصدر نفسه. كما أن اختلاف الخلفيات التاريخية في سفر أشعياء والمزامير يُسهِّل عملية معرفة المؤلف وتاريخ التأليف.
5 ـ استخدام ترجمات العهد القديم المختلفة: يجد النقاد أن الترجمات القديمة للعهد القديم تظهر فيها نصوص أو مقطوعات ليست في النص العبري، كما وجدوا أيضاً ما هو مخالف. فالترجمة السبعينية لسفر أيوب (38/2) تضم فقرة لا توجد في النص العبري تُغيِّر تفسير السفر تماماً.
6 ـ الاكتشافات الأثرية: يدرس ناقدو العهد القديم الآثار والمدونات الآشورية والبابلية والمصرية ليحصلوا على المعلومات التي تلقي ضوءاً جديداً على التاريخ. وتتفق هذه المدونات مع الرواية التوراتية أحياناً، وأحياناً تتناقض معها. وقد ألقت عقائد أمم الشرق الأدنى القديم الكثير من الضوء على عقائد العبرانيين القدامى، وعلى تطوُّر العقيدة اليهودية.(13/251)
وقد اتفق نقاد العهد القديم على أن أسفار موسى الخمسة وسفر يشوع بن نون ترتد إلى مصادر (بالإنجليزية: سورسيز (Sources أربعة أساسية:
1 ـ المصدر اليهوي: مصدر (J) وهذا هو الحرف الأول من كلمة «Jahwist» نسبة إلى «جهوفاه» . ومن الواضح أن هذا المصدر يحمل اسم الإله يهوه، ويرجع إلى القرن التاسع قبل الميلاد، ويُرجعه البعض الآخر إلى القرن العاشر. وقد سُمِّي «مصدر يهوه» لأنه يستخدم هذا الاسم للإشارة إلى الإله، وكان رواته من المملكة الجنوبية. والواقع أن تصوُّر الإله في هذا المصدر قَبَلي ضيق يتداخل فيه المقدَّس والزمني والمطلق والنسبي (فهو حلولي وثني) ، والإله سلطته محدودة بمكان خاص باليهود، وهو يتعصب لليهود ويناصرهم على أعدائهم ويتجلى في تاريخهم، وهو ذو سمات بشرية عديدة. فالإله لا يختلف كثيراً عن مخلوقاته، فهو يغار منهم، ويخشى أن يصبح الإنسان عاقلاً أو قوياً، وهو يصارع يعقوب ولكن يعقوب يهزمه. كما أن قيمه الأخلاقية ليست سامية ولا عالمية، فإبراهيم يكذب على فرعون ليضمن بقاءه، ويجعل زوجته تدَّعي أنها أخته «ليكون لي خير بسببك» (تكوين 12/13) ، فهي امرأة حسنة المنظر. وبالفعل «رآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون، فأُخذت المرأة إلى بيت فرعون. فصنع إلى أبرام خيراً بسببها» و «صار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأُتن وجمال» (تكوين 12/11 ـ 16) . ويعقوب يخدع إسحق وعيسو، ويهودا يضاجع زوجة ابنه، وهكذا.
وقصص هذا المصدر متأثرة بالأدب الشعبي والقصص الديني للشعوب التي عاش العبرانيون بينها، سواء في الفكرة أو الحبكة القصصية. ويؤكد هذا المصدر أهمية سبط يهودا، ويرى أن عصر داود هو العصر الذهبي الذي تحقَّق فيه الثالوث الحلولي، إذ ارتبط الإله بالشعب بالأرض في رباط حلولي عضوي. وهذا المصدر هو الذي يشير إلى أرض كنعان باعتبارها أرض يسرائيل.(13/252)
2 ـ المصدر الإلوهيمي: مصدر (E) نسبة إلى «إلوهيم Elohim» . ويحمل هذا المصدر اسم «إلوهيم» باعتباره اسم الإله، ويتحاشى اسم «يهوه» ، وقد أُلِّف حوالي 770 ق. م في المملكة الشمالية. وهذا المصدر يتسم بالرؤية التوحيدية أو شبه التوحيدية للإله، فهو يصوِّرالإله في صورة أسمى مما يفعل المصدر اليهوي، فهو الإله الذي يقول «كن فيكون» ويتسامى عن صفات وعواطف البشر. وهو إله شامل قد تكون له علاقة خاصة بشعبه، ولكنها علاقة لا تنتقص من عالميته، كما أن ثمة شعوراً دينياً عميقاً بطاعة الإله والولاء له. ويُلاحَظ على هذا المصدر تأكيد البُعد الأخلاقي بكل وضوح على حساب الجانب الشعائري. كما تسيطر عليه رؤية الأنبياء إذ هناك أحكام مشابهة لأحكام الأنبياء. وهو ينفرد بنسبة النبوة إلى إبراهيم ويوسف وموسى (ولذا، فإن كثيراً من النقاد يعتبرون المصدر الإلوهيمي الإطار النظري لحركة النبوة) . والواقع أن المصدر الإلوهيمي يفتح الباب واسعاً أمام أعضاء جماعة يسرائيل لإعلان توبتهم وندمهم على ما اقترفوه من أخطاء، وعن طريق التوبة والندم يحدث العفو الإلهي. والمصدر الإلوهيمي ينظر إلى المصريين نظرة أكثر تسامحاً. ويُعنى هذا المصدر بسرد التاريخ الديني لجماعة يسرائيل، كما أنه يعكس بيئة المملكة الشمالية. وقد استقى المصدر قصصه من قبيلة أفرايم.(13/253)
3 ـ مصدر التثنية: مصدر (D) نسبة إلى «ديتيرونومي Deuteronomy» أو تثنية الشريعة. وقد أُدخل هذا المصدر في صميم العهد القديم عام 621ق. م. ويحاول المصدر التوفيق بين المصدرين الإلوهيمي واليهوي، وبين تراث الشمال وتراث الجنوب. وكذلك بين الفكر النبوي والفكر الكهنوتي المتعارضين، فالأول يركز على الجوانب الروحية، والثاني يركز على العبادة القربانية، ولذا فإن هذا المصدر يحتفظ بالاتجاه القومي العنصري (اليهوي) والاتجاه العالمي المثالي (الإلوهيمي) . كما أن هذا المصدر صادر عن وسط مثقف مرتبط بالإصلاح الديني (التثنوي) الذي حدث عام 622 ق. م، حين أرسل الملك يوشيا (641 ـ 611 ق. م) ، أي بعد وفاة موسى بما يقرب من سبعمائة عام، أحد أتباعه إلى الكاهن الأعظم، ليحسب النقود التي دفعها زوار الهيكل. فوجد «توراة موسى» في بيت الإله وندموا على أنهم كانوا قد نسوها. ويبدو أن كاتب هذا السفر هو أحد الكهنة.
والواقع أن النص كان يمثل رد فعل للغزو الثقافي الآشوري الذي اكتسح العبرانيين آنذاك فانصرفوا عن عبادة يهوه، ولذا كان لابد للكهنة والأنبياء أن يوحدوا صفوفهم، وهو ما ينجزه هذا المصدر الذي يشبه أسلوبه أسلوب إرميا الذي عاش في ذلك الوقت. كما أنه يصر على أن التضحية ليهوه لابد أن تتم في مكان واحد يختاره هو، أي الهيكل، وهو الأمر الذي يتفق مع إصلاحات يوشيا ومع أهداف الكهنة، كما يتفق مع محاولة تقوية الدولة من خلال العبادة القربانية المركزية.(13/254)
4 ـ المصدر الكهنوتي (حواشي الكهنة) : مصدر (P) من كلمة «بريستلي Priestly» ، أي الكهنوتي ويعود تاريخه إلى ما بعد فترة التهجير البابلي. ويضم أساساً قوانين اللاويين والإحصاءات والأرقام التي وردت في أسفار موسى الخمسة، كما يضم بعض الروايات التي وردت في سفر التكوين والخروج والعَدد. ويستخدم هذا المصدر القصص إطاراً للشرائع، بهدف إعطاء القوانين والشرائع صفة القدسية. والإله في هذا المصدر هو خالق كل شيء، كائن وحاضر في كل آن ومكان، وفي كل شيء. ومؤلفو هذا المصدر يتمتعون بثقافة عالية، ولذا فهو يتسم بالصياغات المنطقية. كما أن أسلوبهم دقيق ونمطي وجاف، ويظهر فيه التمييز بين الكهنة واللاويين، ويرد فيه أول ذكر للأعياد ووصف تفصيلي لخيمة الاجتماع.(13/255)
وقد امتزج المصدران، اليهوي والإلوهيمي، حوالي عام 650 ق. م، ولذا يشار أحياناً إلى المصدر (JE) الواحد، أي المصدر اليهوي الإلوهيمي. كما توجد مصادر سابقة أخرى، مثل مصدر (H) نسبة إلى «هولينيس Holiness» ويُطلَق عليه «مصدر القداسة» . ويُنسَب إلى مجموعة من الكتاب أثناء السبي البابلي، وقد حاولوا أن يعطوا طابعاً شخصياً للإيمان الديني يَبعُد عن الشعائر البرانية الجافة، وقد تبنوا مجموعة من المبادئ الأخلاقية العالية. وأخيراً، فإن هناك مصدر (K) من «كينايت Kenite» ، أي «المصدر القيني» ، ويُقال إنه أقدم المصادر على الإطلاق، ولكن أجزاءً كثيرةً منه فُقدت. وقد استفاد منه كتَّاب المصدرين اليهودي والإلوهيمي وحذفا منه الكثير. ويذكر الدكتور محمد خليفة حسن أحمد في كتابه علاقة الإسلام باليهودية أن ثمة مصادر أخرى للتوراة غير هذه المصادر الأربعة الأساسية، ولكنها تقل عنها كثيراً في الأهمية وفي وجودها داخل النص. وقد اتجه بعض النقاد إلى ضم هذه المصادر. بل مال بعضهم إلى تقسيم المصدر الواحد إلى عدة مصادر داخلية والتمييز بينها بإعطاء رقم معيَّن كأن نقول مثلاً يهوي1، يهوي2، يهوي3 أو إلوهيمي2، إلوهيمي3، وهكذا.(13/256)
وهناك مصدر مهم لم يتمكن النقاد من ضمه بسهولة إلى مادة المصادر الأربعة الرئيسية. ولهذا، فقد اتجه بعض النقاد، مثل إيسفلت، إلى إعطائه علامة تميِّزه عن غيره. ووقع اختيار إيسفلت على الرمز (L) للدلالة على مادة هذا المصدر. وهذا الرمز اختصار لكلمة «لاي Lay» التي نترجمها هنا إلى كلمة «العامي» أو «غير الكهنوتي» ، وقد اعتبر إيسفلت هذا المصدر أقدم المصادر على الإطلاق لاحتوائه على عناصر تبدو أصلية وبدائية في آن واحد. منها، مثلاً، نظرته إلى الإنسان القديم بوصفه بدوياً، وإلى البشرية آنذاك باعتبارها جماعةً من البدو، وإلى جماعة يسرائيل باعتبارها جماعةً بدويةً، وهي صورة لا نجدها في بقية المصادر. كما أن تصوير هذا المصدر للألوهية تصوير تجسيدي تشبيهي.
ويجب ألا تُفسَّر كلمة «مصدر» بأنها نص كتبه مؤلف واحد، فقد يكون نصاً كتبته مجموعة من المؤلفين في فترة زمنية واحدة. وقد تداخلت المصادر كالطبقات الجيولوجية دون أي تمازج، وهو ما يفسر وجود التناقضات المختلفة، وخصوصاً في مفاهيم محورية مثل مفهوم الخالق، إذ تتفاوت بين الحلولية ذات النزعة الأخلاقية القومية والتوحيدية ذات النزعة الأخلاقية العالمية. ويتضح تعدُّد المصادر وعدم تمازجها بصورة كبيرة في أسفار موسى الخمسة، ثم يطَّرد التناقض في أسفار القضاة والملوك والأيام. ونجد أن أسفار الأنبياء عادةً ما تضم خطبهم ونبوءاتهم وتتسم بكثير من الاتساق ماعدا سفري أشعياء وزكريا. أما كتب الحكم والأمثال، فمصادرها متنوعة وكثيرة ومتناقضة.(13/257)
وتعبير «تكستوال ويتنسيز textual witnesses» يشير إلى تلك البقايا (الترسبات) التي وردت من عصور مختلفة لتدلنا على فترة (أو فترات) زمنية لم يكن كل مصدر فيها قد تبلور بعده وتُعَدُّ لفيفة المعبد (مجيلات هامقدش) من تلك الشواهد، كما أن مخطوطات قمران والترجمة السبعينية تُعَدُّ هي الأخرى دليلاً على أن هناك حالة من الاضطراب في وضع المصادر سادت بين المحررين للتوصل إلى قدر من المواءمة بين النصوص (بالإنجليزية: هارمونيست تكست harmonist text، أي «نص متوائم» ) . وهذه المصادر هي النص في حالة سديمية. فمخطوطات قمران هي النص في الحالة الجنينية ومرحلة النص الماسوري هي المرحلة الناضجة.
والواقع أن أثر نقد العهد القديم في اليهودية المعاصرة واضح بيِّن، فاليهودية الإصلاحية تنطلق من تَقبُّل نتائجه، فهي تنطلق من دنيوية أو نسبية أو تاريخية أو زمنية التراث الديني اليهودي بأسره، وهذا ما يعني أنه ليس مرسلاً من الإله وإنما نتيجة قريحة عقل الإنسان، وربما بإلهام (وليس بوحي) من الإله. ولا تختلف اليهودية المحافظة أو التجديدية عن اليهودية الإصلاحية في هذه الناحية إلا من ناحية الدرجة.
كما أن الصهيونية وسائر التيارات التي تعرِّف اليهودية بأنها انتماء إثني أو عرْقي، وليس دينياً، تستند إلى معطيات نقد العهد القديم الذي يحوِّل كتب اليهود المقدَّسة إلى شكل من أشكال الفلكلور. واليهودية الأرثوذكسية وحدها هي التي ترفض نقد العهد القديم.(13/258)
أما الفكر المسيحي، فقد استفاد بنقد العهد القديم في نقده اليهودية، إذ يشير كثير من المفكرين الدينيين المسيحيين إلى أن اليهودية تحوي عناصر وتراكمات وثنية عديدة حاول الأنبياء القضاء عليها وتطهير النسق الديني اليهودي منها، وقد نجحوا في ذلك بعض الوقت. ولكن اليهودية سقطت مرة أخرى في الوثنية والعبادة القربانية، والالتفاف حول الهيكل، والانغماس في النزعة العرْقية. ولذا، فلم يكن بالإمكان إنقاذ الجوهر الديني الحق لليهودية إلا عن طريق المسيحية.
الكتب الخارجية أو الكتب الخفية (أبوكريفا)
Apocrypha(13/259)
«الكتب الخارجية» ، كمصطلح، يقابل كلمة «أبوكريفا» ، وهي كلمة يونانية تعني «الخفي» أو «غير الموثوقة» أو «غير المعترف به» . وقد كان هناك نوعان من المعرفة الدينية عند اليونان: النوع الأول يشمل عقائد وطقوساً عامة، بإمكان جميع طبقات البشر معرفتها وممارستها. أما النوع الثاني، فيشمل حقائق عميقة غامضة لا يمكن أن يفهمها أو يدرك كُنهها إلا قلة من الخاصة، ولذلك بقيت مخفاة عن العامة. ومصطلح «أبوكريفا» يشير إلى النصوص المقدَّسة غير القانونية، التي لم يعترف بها اليهود ضمن أسفار العهد القديم، ولم تُسجَّل باعتبارها أجزاء معتمدة منه، ولا تبلغ نفس درجته من القداسة عندهم. والواقع أن كلمة «أبوكريفا» تسمية مغلوطة، فالكتب التي أوصى الحاخامات بإخفائها، أي «سيفاريم جينوزيم» (دانيال 11/43) الكنوز المخفية عن العامة (على أن يطلع عليها الخاصة وحدهم) لا تتعدى كتاباً واحداً أو اثنين. أما بقية الكتب فهي «أبوكريفا» ، بمعنى أنها استُبعدت من الكتاب المقدَّس المعتمد لدى اليهود لأسباب أخرى فهي تنطوي مثلاً على تناقض مع ما جاء في التوراة، أو كُتبت بعد انتهاء عهد الأنبياء والوحي وبعد أن قام عزرا بتدوين العهد القديم، أو هي مجرد كتب حكمة لا علاقة لها بالدين ودُوِّنت إعجاباً بقيمتها، أو هي كتب لا ترتفع إلى المستوى الروحي الماثل في الأسفار القانونية، ولذلك لا يمكن اعتبارها وحياً. كما استُبعدت بعض النصوص الأسطورية التي تروي قصصاً نشورية تتصل بنهاية العالم. ونظراً لاستبعادها، يسميها بعض الباحثين بالكتابات الخارجية.
وقد كُتبت معظم الكتب الخفية في الفترة بين عامي 200 قبل الميلاد و100 بعده، وهي:(13/260)
1 ـ أسفار تاريخية ورؤياوية، وتشمل: عزرا الثاني الذي يُقال له أسدراس الأول في الترجمة السبعينية وأسدراس الثالث في الفولجاتا، والمكابيين الأول والثاني، وإضافات إلى سفر دانيال، وهي (أ) نشيد الثلاثة الفتية المقدَّسين (ب) تاريخ سوسنة (جـ) تاريخ انقلاب بيل (بيل والتنين) ، وبقية سفر إستير، وباروخ الأول، ورسالة إرميا (التي تظهر كجزء من باروخ الأول) ، وصلاة منَسَّى.
2 ـ أسفار قصصية تحوي أساطير، وهي سفر باروخ وسفر طوبيت، وسفر يهوديت.
3 ـ سفران تعليميان، هما سفر حكمة سليمان وسفر حكمة يشوع بن سيراخ. لكن كثيراً من هذه الكتب وُضع أصلاً بالآرامية، وفُقد الأصل ولم يبق سوى الترجمة اليونانية المتمثلة في الترجمة السبعينية أو اللاتينية المتمثلة في الفولجاتا.
وتجب التفرقة بين الكتب الخفية والكتب المنحولة أو المنسوبة (سيود إبيجرفا) ، فالأولى ذات توجُّه أخلاقي واجتماعي (ويُقال إن الفريسيين هم واضعوها) والثانية ذات توجُّه أخروي حاد (ويُقال إن الفرق اليهودية المتطرفة مثل الأسينيين هم واضعوها) . والكتب الخفية التي استبعدها علماء اليهود، اعتمدتها الكنيسة الكاثوليكية كجزء معتمد من الكتاب المقدَّس (باستثناء عزرا الثاني) وإن كان أُطلق عليها مصطلح «كتب تثنوية» (أي مجموعة ثانية من الكتب المعتمدة) . وقد حذت حذوها الكنائس الأرثوذكسية: اليونانية والأرمنية والقبطية الإثيوبية. ومن الطريف أن يهود الفلاشاه يحذون حذو الكنائس القبطية. أما الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، فقد اعتمدتها وإن كانت قد أعطتها مكانة أقل من كتب العهدين القديم والجديد. أما الكنيسة القبطية المصرية، فقد استبعدت هذه الكتب ولم تعطها أية قيمة دينية. كما استبعدها البروتستانت وقالوا إن قراءتها أمر مستحسن.(13/261)
ورغم أن الكتب الخفية والمنسوبة كتبها يهود ليقرأها اليهود، فإن حاخامات العصور الوسطى في الغرب كانوا يجهلون أمرها تماماً، إذ أن الكنيسة هي التي احتفظت بها. ولا توجد أية إشارات لها في التلمود إلا كتاب حكمة بن سيراخ، ولم يَعُد علماء اليهود إلى دراستها مرة أخرى إلا في عصر النهضة. ويطلق الكاثوليك كلمة «أبوكريفا» على الكتب المنسوبة (سيود إبيجرفا) .
الكتب المنسوبة (سيودإبيجرفا)
Pseudepigrapha
«الكتب المنسوبة» ، مصطلح يقابل كلمة «سيودإبيجرفا» اليونانية، وتعني «المنسوبة خطأ لغير مؤلفها» أو «الزائفة النسبة» أو «المنحولة» . وتشير هذه الكلمة إلى الكتب التي تُنسَب إلى بعض مشاهير أبطال الكتاب المقدَّس، مثل باروخ وحنوخ، والتي لم تُضَم إلى الترجمة السبعينية اليونانية أو الفولجاتا (الترجمة اللاتينية) . ولذا، فهي ليست من الكتب الخارجية أو الخفية (أبوكريفا) . والكتب المنسوبة أكثر عدداً من الكتب الخفية، ولا يزال بعضها يُكتَشف حتى الوقت الحاضر، ومن أهمها: مزامير سليمان وصعود موسى وصعود أشعياء ووصايا الآباء الاثنتا عشرة، وهو عمل أخلاقي مهم ينصح فيه أبناء يعقوب أولادهم ضد الخطيئة التي ارتكبها كل واحد منهم. وترد في هذا الكتاب فكرة الماشيَّحين: أحدهما من قبيلة يهودا والآخر من قبيلة لاوي. وتختلف الكتب الخارجية أو الخفية عن الكتب المنسوبة في أن الأولى تشبه كتب الحكم والأمثال في الكتاب المقدَّس. أما الكتب المنسوبة، فهي ذات توجه أخروي حاد، ولذا يُقال إنها في أغلب الأمر من وضع الفرق اليهودية المتطرفة مثل الأسينيين الذين أداروا ظهرهم للمجتمع. كما أنها لم تكن موجهة إلى اليهود ككل، وإنما إلى قطاعات منهم وحسب. أما الكتب الخفية، فيُقال إنها من وضع الفريسيين الذين كانوا حريصين على التعامل مع المجتمع كله، ولذا فهي موجهة إلى اليهود بأجمعهم. ولهذا، فإن الفريسيين، مبالغةً في الحرص من جانبهم، فرقوا بين الكتب المعتمدة(13/262)
(العهد القديم) وأية كتب أخرى سواء كانت من الكتب الخفية أو المنسوبة، وأقاموا سياجاً حول العهد القديم لحمايته. وقد تبنت الكنيسة الكاثوليكية الكتب الخفية لأنها موجهة إلى الشعب ككل، على عكس الكتب المنسوبة ذات الطابع الطائفي. ولذا، أصبحت الأولى جزءاً من كتابها القياسي المعتمد، وأصبحت الكتب المنسوبة هي أبوكريفا الكاثوليكية.
مخطوطات البحر الميت
Dead Sea Scrolls
هي لفائف مدوَّنة على الرق والبردي، بالعبرية والآرامية واليونانية، من أسفار أصلية من العهد القديم وكتابات أدبية أخرى وُجدت على هيئة مخطوطات في كهوف ومغاور النهاية الشمالية الغربية للبحر الميت في فلسطين منها: خربة قمران، ووادي المربعات، وخربة المرد (شمال وادي النار) ، وكهف القشخة، وكانت اللفائف الكتابية مُغلقة، وملفوفة، ومحفوظة بعناية في قدور كبيرة من الفخار لصيانتها من الرطوبة أو العبث. وقد كشفت لنا البعثات الأثرية (المُشكَّلة من إرساليات المدارس الإنجليزية والفرنسية، وبعد ذلك الهيئة الأثرية الإسرائيلية) عن أحد عشر كهفاً حتى الآن، ولا تزال الاكتشافات تتوالى في المنطقة وما حولها (وتقوم بها ـ حالياً ـ جمعية دراسة «إرتس يسرائيل» وآثارها وهي تابعة للجامعة العبرية) .
وقد عُثر في المغارة الرابعة منها على الكم الأكبر من هذه المكتبة بعد إعادة التنقيب عنها (على مدى ثلاث بعثات للتنقيب) منها كتب تراتيل وطلاسم سحرية وأدعية وتعاويذ لإبعاد الأرواح الشريرة والشياطين. وعلى ما يبدو، يميل الاتجاه الغالب لدى الباحثين إلى نسبة تلك الكتابات إلى جماعة الأسينيين وافتراض أن أفرادها دأبوا على نسخ تلك المخطوطات التي تتضمن حتى الآن ما يلي:
1 ـ أسفار العهد القديم:(13/263)
أهم ما وصل إلينا منها كاملاً، سفر أشعياء النبي، وهو من نسختين إحداهما كاملة وتتفق في النص مع السفر المعتمد حالياً وإن اختلفت في بعض الفقرات والقراءات وفي هجاء بعض الكلمات، وأخرى متفقة نصاً مع النص المعتمد (الماسورتي) . وتُعدُّ اللفيفة المدوَّنة في أربعة وخمسين عموداً أقدم نسخة كاملة لسفر من أسفار العهد القديم. وبالإضافة إلى ذلك، عُثر على أجزاء عديدة من أسفار العدد وصموئيل.
وتبدو أهمية هذه الأسفار في أنها تُمثل لنا اتجاهاً مبكراً إلى إيجاد نصوص متوائمة تتلافى التناقضات التي يعثر عليها الباحثون في النص الحالي للعهد القديم، وهو ما يدلنا على انفصال كُتَّابها عن المدرسة الكتابية للعهد القديم. وفي عام 1950، نشرت المدرسة الأمريكية للدراسات الشرقية لأول مرة النص المخطوط من سفر أشعياء، وتابعت المدرسة الفرنسية للدراسات الأثرية نشر ما يُعثر عليه من لفائف العهد القديم.
2 ـ تفاسير على أسفار العهد القديم:
وهي تفاسير متنوعة أهمها تفسير كامل لسفر حبقوق. ونُلاحظ اقتصار الناسخ على إصحاحين فقط، وهو ما يدل على عدم قانونية الإصحاح الثالث (وهو أمر ألمح إليه النقاد الدارسون للعهد القديم) . وأسلوب التفسير الذي تنتهجه طائفة قمران هو الأسلوب الباطني بمعنى العودة بالنص إلى مدلول مختلف وإخراجه من سياقه المباشر أو شبه المباشر. وتُلقي التفاسير الضوء على الفترة التي عاشت فيها الطائفة القمرانية وعلى نظرتها للأحداث مثل دخول بومبي القدس وتناظر بينه وبين أحداث الماضي (دخول سنخريب للقدس) .
3 ـ ميثاق الجماعة (سرَخ هايحاد) :(13/264)
ويضم ثلاث وثائق منفصلة نصاً ولكنها تتفق مضموناً في تنظيم شئون الجماعة وعلاقتها الحالية والمستقبلية بما حولها. وتدلنا هذه الوثيقة على انتهاج الطائفة أساليب صارمة في التنظيم وفرضها لعقوبات على من يخالف نظامها أو ينشر أسرارها، وهي تشير إلى علاقة الفرد بالآخرين ممن هم خارج جماعته وإلى عدم جواز مخالطتهم أو الإفاضة عليهم مما أفاء الله عليه من علم بالشريعة وأسرارها!
4 ـ لفيفة حرب أبناء النور وأبناء الظلام:
هي خطة حربية محكمة (خيالية) يتوقع أفراد الجماعة أنهم سيخوضونها قريباً، بعد عودتهم من «صحراء الأمم» في دمشق فسيُعينهم الرب بملائكته وجنده ليقضوا على كل الأعداء التقليديين المذكورين في العهد القديم (الفلسطينيين والآشوريين.. إلخ) . وتبدو الإشارات إلى الشعوب المعادية في اللفيفة كإشارات رمزية إلى جماعات عرْقية سكنت فلسطين في الفترة الممتدة من القرن الثاني قبل الميلاد حتى القرن الأول الميلادي.
5 ـ مخطوطة لامك (أبوكريفون جينسيس أو بريشيت أبوكريفون) :
هو سفر غير قانوني يُعتبَر إعادة صياغة لأحداث قصة لامك. والشخصية الأساسية في السفر هي شخصية لامك حفيد حنوخ والد نوح. إلا أن المضمون العام يتضمن تكرار قصة الخلق والآباء مع إضافات عديدة منها ما يشير إلى التشكك في ولادة نوح والتساؤل عن ولادته الإعجازية بتناسل البشر مع أنصاف الملائكة (وهي كائنات سماوية شاع الاعتقاد في وجودها في الفترة من القرن الثاني قبل الميلاد وحتى القرن الأول الميلادي) ، الأمر الذي يوضح صلة طائفة قمران بالمسيحية الناشئة التي تبنَّت مثل هذه الاعتقادات.
6 ـ مزامير التسبيح والشكر (هودايوت) :(13/265)
هي أكثر من 300 من المزامير الترتيلية تُستهَل بعبارة «أوديخاي أودناي» أي «أشكرك يا ربي» ، وهي تتضمن تصويراً لمعلِّم الجماعة ومعاناته مع مناوئيه، ومحاولتهم إثناءه عن شريعة الرب. ومع أنه لا يذكر اسمه تحديداً، إلا أن الإشارة إلى الأسرار الإلهية التي انكشفت له تعبِّر عن الاتجاه الغنوصي الواضح داخل فكر الجماعة.
7 ـ الوثيقة الدمشقية والأسفار الخارجية:
عُثر من الوثيقة الدمشقية (سفر عهد دمشق) على 12 جزءاً مقتطفاً من سفر عهد دمشق القاهري الذي كان قد عثر عليه سلومو شيختر عام 1890 ونشر نسختيه عام 1910. وكان أول نص عُثر عليه في القاهرة في معبد بن عزرا (بالفسطاط) ، وأُطلق عليه "جذاذات من وثيقة صدوقية". وقد دلتنا الأسفار الخارجية (بالعبرية والآرامية) التي لها صلة وثيقة بمضمون كتابات الطائفة وبلغتها على أنها جميعاً تنتمي إلى التيار الديني نفسه الذي تمثله جماعة قمران المنشقة. وتمثل وثيقة دمشق القاهرية نقداً لاذعاً للفرق الدينية التي انعزلت عنها الجماعة، وتكمل لنا صورة التطور التاريخي للجماعة اليهودية عموماً. وتطلق الجماعة على أفرادها اسم «أبناء العهد الجديد» ، وهو الاسم الذي أدَّى ببعض الباحثين للربط بينها وبين المسيحية.
ودلنا الكشف الأثري على الدأب الذي تميَّز به سكان قمران في استنساخ الأسفار المقدَّسة وكتابات الطائفة، وعلى أنهم خصصوا لهذه الغاية قاعة معيَّنة أقاموا فيها الموائد والمقاعد للكتابة، وأنشأوا مغاسل (قاعات استحمام) للتطهر الطقوسي قبل بداية أداء الشعائر وقسَّموها حسب درجة قدسية كل فرد ينتمي إلى الجماعة.(13/266)
وقدَّر الباحثون عمر المخطوطات اعتماداً على دراسة اللغة والخطوط والمادة المكتوبة عليها والمادة التي دُوِّنت بها وشكل الأحرف والصياغة والرق والكتان والنحاس والأوعية الفخارية والعملات. ونجح البحث الأثري (باستخدام طريقة الكربون 14 المشع لفحص الكتان الذي لُفت به الوثائق والجرار الفخارية) في إعطائنا معلومات تقديرية عن عمر المخطوطات حيث قُدِّرت بالفترة من 300 قبل الميلاد حتى 70 ميلادية.
لقد كُتب أكثر من ثلاثة آلاف دراسة عن المخطوطات: مضمونها وتفسيرها وشروحها وتأويل ما بها وتقدير الأحداث التي تتناولها بالاستعانة بالبحث التاريخي المقارن. ولا ندري هل ستؤدي هذه الدراسات إلى إجراء تعديلات أو تأويلات مختلفة حول نشوء المسيحية، فهذه مسألة تنتظر إجابات بعد الدراسات النهائية الكاملة المقارنة بالنصوص التاريخية ونصوص العهد القديم المعتمدة والترجمة عنها.
وتثير مخطوطات البحر الميت كثيراً من الإشكاليات. نذكر منها ما يلي:(13/267)
1 ـ رغم الافتراضات العديدة، لا يستطيع الباحثون إلى الآن الجزم بانتماء هذه المخطوطات إلى فرقة بعينها دون غيرها، والتساؤلات المطروحة في هذه النقطة هي: إلى أي حد تمايزت الفرق اليهودية في بداية نشأتها؟ وما مصداقية ما قاله المؤرخون اليهود وغيرهم مما نقله عنهم بعد ذلك آباء الكنيسة والمؤرخون اليونان والرومان القدامى؟ وما الصلة القائمة بين الفرقة التي دوَّنت المخطوطات (أو نسختها) وغيرها من فرق طريدة سكنت مناطق مجاورة من برية نهر الأردن؟ ولماذا عُثر في قلعة ماسادا على كتابات خاصة بطائفة قمران التي يُظن أنها طائفة من الزهاد؟ ولماذا عُثر بين مخطوطات هذه الفرقة، التي تُنسَب إلى القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي، على مخطوطة (أو أجزاء منها) تنتمي إلى منسوخات القرن العاشر الميلادي في معبد بن عزرا؟ وما مصير الطائفة التي نسخت أو دوَّنت النصوص؟ هل ذابت الطائفة داخل التيار المسيحي الناشئ أم قضى عليها الصراع الطائفي؟ وهل ما زالت لها بقايا أو ذيول في الفكر اليهودي للجماعات المتمردة على اليهودية الرسمية أو ممثليها؟
2 ـ تبلورت في اليهودية اتجاهات عديدة (قبل الفترة اليونانية الرومانية) ، فهل جاء إليها هذا النمط الفكري مع التيار الكاسح من التيارات الثقافية والدينية العديدة التي حملتها الهيلينية؟ وهل صمدت اليهودية أم تطورت داخلياً لتواجهه؟ وهل بدأت شيع منها تذوب في هذا الخضم من الأفكار الشرقية الهيلينية التي اكتسحت الشرق الأدنى القديم؟ وهل الأسينية حركة يهودية؟ وما الصلات القائمة بين الأسينية والمسيحية الناشئة وبين أتباع الجماعات السرية والغنوص الوثني؟(13/268)
3 ـ تثير المخطوطات قضية علاقة الغنوصية (تلك الحركة التي طاردها بكل عنف آباء الكنيسة الأولون) باليهودية؟ وهل يُخفي العداء الغنوصي للإله اليهودي «يهوه» نقداً يهودياً للإله؟ ثم هل سبقت الجماعات من أشباه الغنوصيين «اليهود» ظهور الغنوصية نفسها أم أنها ظهرت متزامنة مع جماعات ظهرت في كلٍّ من الإسكندرية ومدن يونانية عديدة خلقتها ظروف متشابهة ناتجة عن مزج عقائد الشرق والغرب؟
ثم ما الصلة بين هذه الجماعة وأصول القبَّالاه (وهي التي يطلق عليها جرشوم شوليم «الغنوص اليهودي» ) ؟ وإلى أي حد قد تكشف لنا هذه المخطوطات من الأسرار الخفية التي وردت عنها شذرات في التلمود (حجيجاد 2/12 وغيرها) بشأن البحث في كرسي العرش الإلهي والكروبيم والأسرار المقدَّسة واسم الرب الأعظم (هشيم همفوراش) ؟
4 ـ العثور على أسفار ونسخ من أسفار الأبوكريفا (غير القانونية) لأول مرة بالآرامية وليس بالترجمات اليونانية المعروفة للنصوص التي كانت تُعتبر غير قانونية وهذا ما يثير التساؤل بشأن مصداقية حفاظ زعماء اليهود على معيار ثابت يقدرون به قانونية أو عدم قانونية الأسفار المقدَّسة؛ والتساؤل عن احتفاظ جماعة من الأتقياء بأسفار أفتى الفقهاء بعدم قانونيتها.(13/269)
5 ـ أما بالنسبة لكتابة المدراش والتفاسير على الأسفار المقدَّسة وهي تفاسير لأسفار الأنبياء الصغار ولأجزاء من سفري صموئيل والتثنية وأشعياء، فقد طُرحت تساؤلات عديدة بشأن بداية مدارس تفسير يهودية قديمة، وأسباب اتجاه بعض التيارات الفقهية المنشقة (مثل القرائين) للأخذ بمثل هذه المناهج التفسيرية، ومدى الصلة بينها وبين مدرسة قمران التفسيرية. وكذلك زعزعت التفاسير الفقهية على النصوص الهالاخية في قمران وجهة النظر القائلة بعدم وجود شرائع شفهية لدى جماعات أخرى في اليهودية (مثل الصدوقيم) إن ثبت انتماء المخطوطات إليهم. ويُطرَح أيضاً التساؤل عن أسباب أخذ بعض الفلاسفة اليهود أمثال فيلون السكندري بالمنهج الرمزي في التفسير ومن بعده آباء الكنيسة أمثال هيرونيموس.
وقد هُرِّبت المخطوطات المكتشفة من بعض البلاد العربية وجرى الاتجار فيها بصورة غير شرعية وحصلت الحكومة الإسرائيلية على بعض المخطوطات المعروضة في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي عام 1957، حصلت الحكومة الأردنية على المخطوطات الأثرية المُكتشفَة في منطقة البحر الميت بجميع أنواعها وبكل اللغات المكتوبة بها ثم سمحت بعرض بعضها في المتاحف بالولايات المتحدة الأمريكية وكندا وإنجلترا.
وقد خالفت إسرائيل اتفاقية لاهاي المبرمة عام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح، وذلك عندما نقلت أثناء معركة القدس (يونيه 1967) كميات كبيرة من مخطوطات البحر الميت بدعوى الحفاظ عليها بصفة مؤقتة. وحتى اليوم، لم تتم إعادة مخطوطات البحر الميت إلى مكانها الأصلي في (المتحف الفلسطيني - الأردني) .(13/270)
وبالمقارنة بين مصير مخطوطات وبرديات نجع حمادي ومخطوطات البحر الميت، نجد أن برديات نجع حمادي الغنوصية (اكتُشفت عام 1947) نُشرت بالكامل بينما لم يتم نشر وتحقيق مخطوطات قمران وهي تحت سيطرة فريق محدد من الباحثين (إلا أن هناك عالمين أمريكيين قاما بتركيب نسخة من خلال معجم كلمات المخطوطات، وقد بدآ في نشر بعض أجزاء منها) .
والسؤال الذي لا يزال مطروحاً هو:
لماذا التأجيل الذي دام عشرات السنين؟ ولماذا يصر الفريق الدولي الباحث على إرجاع المخطوطات إلى ما قبل ظهور المسيح والمسيحية الناشئة وعلى تصوير جماعة قمران على أنها جماعة منعزلة غير مؤثرة بعيدة كل البُعد عن الواقع الديني والاجتماعي والسياسي في ذلك العصر؟
في محاولة للإجابة على هذا التساؤل، يمكن القول بأن ثمة تشابهاً واضحاً، قد يصل إلى درجة التطابق أحياناً بين نصوص من العهد الجديد (الأناجيل) ونصوص وردت إلينا من مخطوطات البحر الميت. ومن ذلك ما ورد في أعمال الحواريين (الرسل) من أن أعضاء الكنيسة الأولى كانوا يشاركون في كل شيء. وثمة نص صريح يتصل بهذه الحياة التعاونية المشاعية في المخطوطة المعروفة باسم «ميثاق الجماعة» ، وكذلك مجموعة نصوص أخرى منظمة لشئون الجماعة.
ووفقاً لنص أعمال الحواريين أيضاً، فإن ثمة قيادة جماعية للكنيسة الأولى تتكون من اثنى عشر حوارياً، وثمة ثلاثة لهم أهمية خاصة (جيمس وبطرس وجون) وهو التقسيم نفسه الذي نجده في فتاوى جماعة قمران دون ذكر أسماء.(13/271)
كذلك ثمة تشابه شديد في الطقوس على سبيل المثال، فطقس التعميد وهو أحد أهم الطقوس المسيحية له نظيره في نصوص قواعد الجماعة حيث يرد: "إن الماء الطاهر ليُطهِّر الشخص الذي يرتضي لنفسه الخضوع للحق والإيمان بشريعة الرب حقاً، تطهيراً من آثامه ولا يتطهر لو اغتسل بالأنهار والبحار وهو لا يزال على شريعة مخالفة". يرد ذلك تمشياً مع المنهج الأخلاقي لسفر أشعياء: "اختنوا أولاً غرلة قلوبكم قبل ختان غرلة أجسادكم".
كذلك نجد أن هناك توجُّهاً واحداً ذا طابع مشيحاني فيما يخص كلاًّ من الكنيسة الأولى ونصوص قمران. وبالطبع، فإن الماشيَّح المنتظر في الكنيسة الأولى هو «يسوع المخلِّص» ، بينما لا يوجد ذكر اسم محدد في نصوص قمران وإنما ثمة لقب هو «مُعلم الفضيلة» . والشيء المهم هنا أن نصوص قمران لا تتكلم إطلاقاً عن أية طبيعة إلهية لمعلم الفضيلة المذكور، وهنا مربط الفرس، فلو كان ثمة ربط بين جماعة قمران وبين المسيحيين الأوائل لأمكن أن نقول إن مُعلم الفضيلة «موريه هاتسيدق» هو السيد المسيح نفسه. وهكذا، تنتفي الصفة الإلهية التي ينسبها بعض النصارى للسيد المسيح، وبذلك نستطيع أن نفهم سبب الإصرار على إبعاد هذه الجماعة عن التداخل مع الواقع المحيط بها تماماً.(13/272)
كما أن تأكيد عزلة تلك الجماعة يخدم أيضاً غرضاً آخر، فلو أن هذه الجماعة كانت متداخلة في الحياة والواقع المحيط بها لأمكن القول بأن المسيحية نشأت في إطار دعوة عامة للعودة إلى الحق والشريعة التي انتهكتها جماعة اليهود (في فلسطين) ، وأن ثمة تواصلاً واطراداً تاريخياً بين جماعات متفرقة ومستمرة منذ انهيار حق اليهود في فلسطين وبين المسيحيين الأوائل الذين كانوا يحملون أفكاراً مشابهة ترفض الرؤية الشكلية للديانة والانغماس في الشهوات وما إلى ذلك، أي أن ثمة جماعات يهودية متعددة وليس مجرد شعب يهودي واحد ذي تاريخ واحد وتطلعات واحدة. ومن ثم، إن ثبت أن هذه الجماعة كانت تمثل رأياً مهماً ورمزاً أساسياً في الحياة السياسية والدينية والاجتماعية في وقتها، فإن أسطورة الشعب اليهودي الواحد تتهاوى من الأساس وينهار معها أهم الروافد الأيديولوجية الصهيونية. وحينذاك، نستطيع أن نفهم لماذا يتفق الصهاينة مع المعادين لليهود على طمس وإخفاء هذه الحقائق التاريخية طوال هذه الفترة.(13/273)
الباب الخامس: الأنبياء والنبوة
الأنبياء والنبوة
Prophets and Prophecy
تعني كلمة «نافيء» في اللغة العبرية «من يتحدث باسم الإله» ، أو «من يتحدث الإله من خلاله» ، أو «من يتكلم بما يوحي به الإله» ، أو «من يدعوه الإله» . وصيغة الجمع لكلمة «نافيء» هي «نفيئيم» ، والإله يختار النبي ويوحي إليه ليحمل رسالته إلى الناس، والنبي يكرس نفسه كلها للإله. كما أن النبي لابد أن يكون الإله قد اصطفاه وفضله على من عداه من بين قومه وزوده بهبة روحية وأمده بعون من عنده وبالقدرة على استقبال الوحي الإلهي وتلقينه لجماعته وبالدعوة التبشيرية لرسالته. ويُلاحَظ أن النبي رغم كل هذه المقدرات ليس تجسداً للكلمة الإلهية وإنما هو مجرد حامل ومبلغ لها وحسب. بل يمكن القول بأن فكرة النبوة هي تعبير عن رفض الحلولية والواحدية الكونية التي تردُّ كل شيء إلى مستوى واحد وتعبير عن رفض المباشر والمادي (الذي يأخد شكل كهنوت وقرابين وسحر) وعن تَقبُّل الثنائية الكونية (الخالق والمخلوق) . ولذا، فإن النبي يبلغ كلمة موحى بها من الخالق تتضمن نسقاً أخلاقياً ثم يقوم بتدوينها فتصبح رسالة مكتوبة. ويمكننا القول بأنه إذا كان الكهنوت تعبيراً عن الرؤية الحلولية التي تذهب إلى أن الإله والإنسان (والطبيعة) يكوِّنون كلاًّ واحداًً، فإن النبوة تعني أن ثمة مساحة تفصل بين الخالق والمخلوق، كما أن النبي بحمله الرسالة من الإله للبشر يحوِّل هذه المسافة إلى مجال يتفاعل فيه البشر مع الإله.
وإذا كان الكهنوت (شأنه شأن السحر) هو التقرب من الإله (بل وتقديم الرشاوي له) لتطويع إرادته لخدمة الإنسان في الحاضر والمستقبل، فإن جوهر النبوة هو النظر إلى الماضي ورؤية الحضور الإلهي في التاريخ، ليرى الإنسان معناه ومغزاه، الأمر الذي قد يهديه سواء السبيل في الحاضر والمستقبل، إن شاء الإنسان ذلك. ثمة عنصر صراعي حتمي يسم علاقة الخالق بالمخلوق في الإطار الكهنوتي (السحري) ، وثمة حيز إنساني ومجال للاختيار بين الخير والشر في إطار فكرة النبوة.....(13/274)
وإذا كانت كلمة «نبي» ذات مدلول واضح إلى حدٍّ كبير في العربية، يزداد تحدُّداً ووضوحاً من خلال النص القرآني وأقوال الرسول، فإن كلمة «نبي» لا تتمتع في العبرية أو داخل النسق الديني اليهودي بمثل ذلك التحدد والوضوح، ويرجع ذلك إلى طبيعة اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي.
ويمكننا أن نقول إن مؤسسة النبوة هي إحدى محاولات حل مشكلة الحلول الإلهي، أي كيفية التقاء الخالق بمخلوقاته (المطلق بالنسبي وما وراء الطبيعة بالطبيعي) وكيف يبلغهم قصده وأوامره. والحل الوثني للقضية معروف، وهو الحلول الإلهي في الشعب والأرض، ويتركز الحلول في طبقة كهنوتية ثم يزداد تركُّزاً في أسرة مالكة إلى أن يصل إلى قمة تركُّزه في شخص الملك (أو الكاهن الأعظم) الذي يصبح هو نفسه الإله المعصوم في الأرض. وهذا المخروط أو الهرم البشري (الزمني) يقابله مخروط أو هرم مكاني يتمثل في الأرض المقدَّسة (التي يوجد فيها الشعب) يشيَّد عليها المعبد المركزي المقدَّس (الذي يقوم على خدمته من الخارج صغار الكهنة) الذي تضطلع داخله أسرة كهنوتية متميزة بهذه المهمة، إلى أن نصل إلى قدس الأقداس قمة تركز الحلول وهو البقعة التي لا يدخلها إلا الكاهن الأعظم أو الملك لينطق باسم الخالق فيتم التواصل بين السماء والأرض، أو بين الخالق والمخلوقات، من خلال شخصه.
وتنتمي العبادة اليسرائيلية إلى هذا النمط، فهي عبادة وثنية حلولية يسيطر عليها الكهنة وتدور حول الشعائر والتمائم والأوثان (مثل الإيفود والترافيم) وحول محاولة معرفة الغيب والسحر، وهي إن لم ترتبط في بداية الأمر بأرض فهذا يعود إلى طبيعة التركيب البدوي للمجتمع العبراني القَبَلي المتنقل.(13/275)
ويمكن القول بأن مؤسسة النبوة هي محاولة لحصار الحلولية الوثنية وإحلال رؤية أكثر توحيدية محلها، وذلك بطرح طريقة أكثر نقاءً وتجريداً لتواصل الخالق مع مخلوقاته. وكانت فكرة النبوة شائعة بين الشعوب السامية في بلاد الرافدين (في ماري) وفي كنعان. ويبدو أن النبوة (أو ما يُقال له النبوة) لعبت دوراً أساسياً ومهماً ومركزياً بين العبرانيين القدامي (جماعة يسرائيل) . ولكن مفهوم النبوة في هذه الحضارات السامية، وضمنها الحضارة العبرانية، كان مُختلَطاً إذ كانت شخصية النبي تختلط بشخصية الكاهن والعراف.
ولفهم مفهوم النبوة عند العبرانيين، قد يكون من المفيد الإشارة إلى مقطوعة في سفر الخروج (19/20 ـ 25) ترد فيها هذه الحادثة: "ونزل الرب على جبل سيناء إلى رأس الجبل. ودعا الإله موسى إلى رأس الجبل، فصعد موسى فقال الرب لموسى انحدر حذِّر الشعب لئَلا يقتحموا إلى الرب لينظروا فيسقط منهم كثيرون. وليتقدس أيضاً الكهنة الذين يقتربون إلى الرب لئَلا يبطش بهم الرب. فقال موسى للرب لا يقدر الشعب أن يصعد إلى جبل سيناء لأنك أنت حذَّرتنا قائلاً أقم حدوداً للجبل قدَّسه. فقال له الرب اذهب انحدر ثم اصعد أنت وهارون معك. وأما الكهنة والشعب فلا يقتحموا ليصعدوا إلى الرب لئَلا يبطش بهم. فانحدر موسى إلى الشعب".(13/276)
ومعنى كل هذا أن المواجهة المباشرة والجسدية والمادية مع الخالق أمر صعب للغاية، وقد يؤدي إلى الاحتراق، وأنه لابد أن تكون هناك حدود وحاجز ومسافة بين الخالق ومخلوقاته. وهذا الحاجز والوساطة هو موسى، أي أن الحلول الإلهي سينحسر بذلك عن الشعب والكهنة وسيصبح النبي وحده حلقة الوصل بين الشعب والإله التي سيتم من خلالها التبليغ الإلهي، حيث يسمع النبي كلمة الإله (لوجوس) وهي كلمة غير متجسدة، وإنما كلمة تُسمَع وتُقرأ وتُدوَّن. وقد تأكد هذا المعنى في سفر التثنية (5/5) «أنا كنت واقفاً بين الرب وبينكم في ذلك الوقت لكي أخبركم بكلام الرب، لأنكم خفتم من أجل النار ولم تصعدوا إلى الجبل» . ثم يتكرر المعنى مرة ثالثة في سفر التثنية (5/26 ـ 27) «لأنه من هو من جميع البشر الذي سمع صوت الله الحي يتكلم من وسط النار مثلنا وعاش. تَقدَّم أنت واسمع كل ما يقول لك الرب إلهنا وكلمنا بكل ما يكلمك به الرب إلهنا فنسمع ونعمل» . فهنا، بدلاً من الاتصال المباشر بين الإله والشعب، يقف النبي كي يأتي برسالة يسمعها من الإله ثم يدوِّنها ويبلغ كلماته إلى الشعب، أي أن الاتصال بين الإله ومخلوقاته لا يصبح اتصالاً جسدياً مباشراً وإنما يصبح اتصالاً غير مباشر أو مجرداً. وبدلاً من أن يصبح الشعب لوجوس، كلمةً مقدَّسة متجسدة في التاريخ، وبدلاً من أن يصبح النبي لوجوس ابن الله، يتركز الحلول الإلهي في رسالة مكتوبة، أي رسالة هي حرفياً «لوجوس» أي كلمة.(13/277)
وتدوين الكلمة مسألة في غاية الأهمية، لأنها تعني أن الرسول ليس سوى أداة تحمل الرسالة، فالرسالة حينما تُدوَّن تنفصل عن حاملها الذي يفقد أهميته، ويتم التركيز على القول نفسه، أي على اللوجوس بالمعنى الحرفي. بل إن الكلمة ـ لأنها مدوَّنة ـ تخضع لتفسير من يقرؤها. ولكل هذا، يُلاحَظ أنه بعد أن يقوم موسى بدور الرسول، يتم تدوين الرسالة على الفور على لوحين (بل يُقال إن الرسالة أتته مدوَّنة أو أن الإله دوَّنها بنفسه على اللوحين) . وجوهر الرسالة هو الوصايا العشر التي تبدأ بتأكيد وحدانية الإله وتنزُّهه عن المخلوقات، ففكرة النبوة قد تحددت من البداية بأنها: انحسار الحلولية، وظهور التوحيد، واختفاء الكهانة، وظهور النبي، وضمور الشعائر، وتأكيد الالتزام الخلقي، وتجاوز القومية، والصعود إلى العالمية، ونبذ المباشر والجسدي والمادي، وتبنِّي غير المباشر والمتجرد والمنزه. ويذهب نُقَّادُ العهد القديم إلى أن هذه الفقرات التي تُنسَب إلى موسى ليست سوى إضافات قام بها محررو العهد القديم لينسبوا إلى عصر سابق فكرة لاحقة ظهرت في عصر لاحق، أي أنها فقرات كتبها أحد كتاب أسفار الأنبياء ليضفي رؤية الأنبياء التوحيدية على أسفار موسى الخمسة.
ومهما يكن الأمر، فإن الأمور، مع بداية تأسيس الدولة العبرانية المتحدة، كانت مختلطة تماماً. ولذا، فقد سقطت اليهودية مرة أخرى في العبادة القربانية والحلولية الوثنية الأولى، وكان يُشار إلى النبي بأربعة مُصطلَحات متناقضة يتبدى من خلالها تركيب اليهودية الجيولوجي التراكمي:
1 ـ «حوزيه» ، أي «رائي» ، وهو الشخص الذي يتنبأ بالغيب ويخبر بما سيكون، حسب علامات معروفة تلقى دلالاتها وتأويلاتها من السابقين، فهو حكيم وساحر وعراف وكاهن أكثر من «نبي» (مثل «الرائي» أو «الكاهن» العربي قبل الإسلام) .
2 ـ «روئيه» ، أي «رائي» ، وهو لا يختلف كثيراً عن الحوزيه.(13/278)
3 ـ «إيش إلوهيم» ، أي «رجل الإله» ، وهو رجل اختاره الإله وحباه وخصَّه بالمعرفة، فيقوم بتبليغ رسالته، وهو دال غير محدد الدلالة. ويُستخدم اللفظ للإشارة إلى كلٍّ من الحوزيه والروئيه والنبي (نافيء) .
4 ـ «نافيء» ، أي «نبيّ» .
وقد جاء في سفر صموئيل الأول (9/9) ما يلي: «هلم نذهب إلى الرائي، لأن النبي اليوم كان يُدعى سابقاً الرائي ... فذهبا إلى المدينة التي فيها رجل الإله» . وجاء في سفر صموئيل الثاني (24/11) إشارة إلى «جاد النبي رائي داود» . وفي سفر أخبار الأيام الأول (29/29) ثمة إشارة إلى «صموئيل الرائي (روئيه) وناتان النبي (نافيء) وجاد الرائي (حوزيه) » وكلهم من رجال الإله (إيش إلوهيم) .
ومن الواضح أن الأمور من الاختلاط بحيث لا يمكن التوصل إلى الصورة الواضحة. ولعل وجود ما يُسمَّى «أبناء الأنبياء» (بالعبرية: هانفيئيم) ، وهم جماعات من الأنبياء أو الدراويش، شاهد آخر على مدى اختلاط المحيط الدلالي لكلمة «نبي» في العبرية وفي النسق الديني اليهودي.
وتُستخدَم كلمة «نبي» بهذا المعنى الجيولوجي المختلط للإشارة إلى عدة شخصيات دينية تتسم كلها (ما عدا الفريق الأخير) بأنها لم تترك رسالة مدوَّنة:
1 ـ الآباء: أخنوخ ونوح وإبراهيم ويعقوب وهارون وموسى.
2 ـ القضاة: ديبورا وصموئيل.
3 ـ وفي تقسيم العهد القديم تُستخدم كلمة «الأنبياء» للإشارة إلى قسمين مختلفين:
أ) الأنبياء الأولون أو المتقدمون (بالعبرية: نفيئيم ريشونيم) أو الشفويون، وكانوا يكتفون بالنطق بنبوءاتهم، كما يُشار إليهم بوصفهم «ما قبل الكلاسيكيين» .
ب) الأنبياء المتأخرون (بالعبرية: نفيئيم أحرونيم) ، ويسمَّون أيضاً بالأنبياء الأدبيين أي الذين دوِّنت أسفارهم. ويشار إليهم أيضاً بالكلاسيكيين، ونحن نميل إلى تسميتهم «الكتابيين» .(13/279)
وتضم قائمة الأنبياء الأولين الأسماء التالية مرتبة ترتيباً تاريخياً: داود، وناتان، وصادوق، وجاد، واخيا، وعدّو، وشمعيا، وعزريا بن عوديد، وحناني، وياهو بن حناني، وإيليا، وإليشع، وميخا بن يمله، وزكريا بن يهوياداع، وعوديد، ويدوثون. ويبدو أن النبوة لم تكن مقصورة على الرجال، فهناك إشارات إلى نبيات منهن مريم أخت هارون.
ولكن، ورغم استخدام الدال «نبي» للإشارة إلى هذا الحشد الكبير، فإننا نرى أن كلمة «نبي» بالمعنى المحدد للكلمة، والذي تم تعريفه في إطار الطبقة التوحيدية في اليهودية، يستبعد كل الأنبياء ما عدا الأنبياء الآخرين (الأدبيين أو الكتابيين أو الكلاسيكيين) للأسباب التالية:
1 ـ يُلاحَظ، على سبيل المثال، أن قيام الآباء بدور الأنبياء يعني أن النبوة هنا أمر مرتبط بالعرْق لا بالوحي، فكلمة «آباء» تعني الارتباط بجماعة يسرائيل، وهذا يعني أن القداسة تُورَّث (فالإله يحل في الإنسان ويجري في العروق) . كما يُلاحَظ أن الأنبياء من القضاة ينحون منحى قومياً شرساً، فهم يعبِّرون عن النموذج الحلولي القومي حيث يظل الإله مرتبطاً بشعبه، ولذا فهم لا يظهرون إلا في وقت الضائقة القومية. وبين الانتماء العرْقي والانتماء القبلي (القومي) تفقد الرسالة عالميتها وإنسانيتها. ولذا، فإننا نجد أن فكرة تبليغ كل البشر برسالة الإله الواحد إله العالمين، المنزه عن الطبيعة والتاريخ، ليست مطروحة، بل تظل النبوة شأناً عرْقياً قبلياً قومياً (حلولياً وثنياً) مقصوراً على جماعة يسرائيل. وتظل رسالة الأنبياء رسالة إلى جماعة يسرائىل وحدها، من إله قومي إلى شعب مختار يرتبط بالإله بعقد خاص، ولا يستهدف البشرية كلها.(13/280)
2 ـ ويُلاحَظ كذلك الاختلاط في ملك مثل داود الذي ارتكب عدداً لا بأس به من الذنوب ومع هذا ارتبط اسمه بالنبوة أيضاً، حيث تُنسَب إليه المزامير، كما أن الماشيَّح (نبي الأنبياء) سيكون من نسله. وثمة إشارة مبهمة في مزمور 16/8 ـ 11 توحي بعلاقة داود الخاصة للغاية مع الإله وتضعه تقريباً في مصاف الأنبياء. أما سليمان الغَزل، الذي سمح لزوجاته الوثنيات العديدات بإحضار آلهتهن معهن، فهو منشد نشيد الأنشاد أحد الكتب الدينية اليهودية (ولكن يبدو أن النبوة لم تُنسَب له قط) .
ونحن لو دققنا، لوجدنا أن نبوة داود هي في واقع الأمر تعبير عن مؤسسة الملكية المقدَّسة، على نمط الحلوليات القديمة في الشرق الأدنى القديم حيث يتم الحلول داخل شخص الملك الذي هو أيضاً الكاهن الأعظم.
3 ـ كان الأنبياء الأولون يتحركون داخل نطاق البلاط الملكي، الأمر الذي يعني تداخل القومي والديني وارتباط مؤسسة الملكية بالعقيدة الدينية. وكان الملوك والملكات يطلبون المشورة والنصح من الأنبياء نظير أجر يبلغ، في بعض الأحيان، ربع شيكل. وقد لعب هؤلاء الأنبياء الأولون دوراً سياسياً مهماً، فكانوا يطلقون نبوءات سياسية. كما أن صموئيل مثلاً عيَّن شاؤول ملكاً على العبرانيين، ثم عيَّن من بعده داود، وكان دور ناتان في بلاط داود نشيطاً وفعالاً. ويصل هذا التوحد بين القومي والمقدَّس إلى قمته حين يصبح الشعب اليهودي بأسره أمة من الكهنة والقديسين والأنبياء والمشحاء المخلصين، فعضو جماعة يسرائيل يوصف بأنه «خادم الإله» و «كنز الإله الغالي» ، وهذه أوصاف تُستخدَم لوصف الأنبياء وحدهم، أي أن اختلاط المجال الدلالي هنا يصبح كاملاً.(13/281)
4 ـ ويمكن أن نبيِّن مدى تركيبية الصورة بالإشارة إلى الجماعات المسماة «أبناء الأنبياء» ، وهم جماعات من «الأنبياء» أو ربما الدراويش يدل وجودهم على أن النسق الديني بين العبرانيين لم يكن قد اكتسب الأبعاد العالمية التي دخلته فيما بعد. وكان هؤلاء الأنبياء يتحركون في جماعات تبلغ المئات أحياناً يتقدمها رباب ودف وناي (أي أنهم كانوا في مظهرهم يشبهون الدراويش، وهو ما يبيِّن أن التيار الحلولي كان قوياً) وكان الوحي يأتيهم بشكل جماعي، وتزورهم روح الإله كجماعة لا كأفراد، وكان هؤلاء أقرب من بعض الأوجه إلى العرافين: يقرأون الطالع ويحاولون معرفة أحداث المستقبل يقومون بأعمال السحر، ويأتون بالمعجزات، فهم ليسوا أصحاب رسالة عالمية أخلاقية، وإنما يبحثون عن الحل السحري (الغنوصي) .(13/282)
وفي تصوُّرنا أن صموئيل يشكل شخصية انتقالية للنبي من مستوى الرائي (روئيه أو حوزيه أو إيش إلوهيم) إلى مستوى النبي بالمعنى الدقيق والتوحيدي للكلمة وباعتباره عنصراً يتفاعل الإنسان مع خالقه من خلاله دون حاجة إلى حلول إلهي. هذا ما يقوله النص التوراتي، وهو ما يعني انفصال الرائي (بكل ما يحمل من صفة الكهنوت) عن النبي (بكل ما يحمل من مقدرة على التبليغ) . لكن النص ينطوي، مع هذا، على استمرار واختلاط بين العنصرين. ولعل تعيين صموئيل لشاؤول، وتردده في ذلك في الوقت نفسه، هو تعبير عن هذه الانتقالية، فكأن صموئيل هو الشخصية التي يتم من خلالها الانتقال مرة أخرى من الحلولية ومؤسسات الملكية المقدَّسة الوثنية إلى التوحيد، ومن السحر والعرافة إلى النبوة الحقة، تماماً كما حدث مع موسى حينما عاد بالوصايا العشر المكتوبة على اللوحين. ومما له دلالته أن الأنبياء الآخرين هم أيضاً دعاة توحيد يدونون أسفارهم ولا ينغمسون في قراءة الطالع والتنبؤ ومعرفة الغيب. ورغم أننا قدمنا صموئيل بوصفه شخصية انتقالية تفصل بين الأنبياء الأولين والآخرين، فإن هذا لا يعني أن الأنبياء الذين كانوا على نمط الأنبياء الأولين قد توقفوا عن نشاطهم، إذ من المعروف أنه كان هناك أنبياء من هذا النوع بعد ظهور الأنبياء الآخرين الكتابيين.
ويُقسَّم الأنبياء الآخرون أو المتأخرون أو الكتابيون إلى أنبياء كبار وأنبياء صغار. أما الأنبياء الكبار فهم: أشعياء وإرميا وحزقيال (ويذهب البعض إلى أن إليا أو إلياهو أحد الأنبياء الكبار وأنه أولهم) . أما الأنبياء الصغار فهم: هوشع ويوئيل وعاموس وعوبديا ويونان وميخا وناحوم وحبقوق وصفنيا وحجاي وزكريا وملاخي.(13/283)
والواقع أن تقسيم الأنبياء إلى كبار وصغار يستند إلى حجم نبوءاتهم وليس إلى كيفها. ولذلك، فإن هذا التصنيف لا مغزى له لأن أعمال الأنبياء الكبار لا تشكل وحدة، ولأنها تنسب إلى أكثر من مؤلف. كما أن أعمال حزقيال ليست مرتفعة القيمة، وأعمال أشعياء كمٌّ مركب من المواد التي أتت من عصور ومؤلفين مختلفين. وقد رتب مؤرخو العهد القديم المحدثون الأنبياء الكتابيين ترتيباً تاريخياً يختلف عن ترتيب أسفارهم في العهد القديم:
أ) أنبياء ما قبل السبي:
يونان (حوالي 785 ـ 745 ق. م) عاصر يُربعام الثاني في المملكة الشمالية (وفي رأي آخر أنه عاش في القرن الرابع قبل الميلاد) .
يوثام (حوالي 760 ـ 746 ق. م) عاصر عزيا في المملكة الجنوبية، وعاصر يربعام الثاني في المملكة الشمالية.
هوشع (حوالي 750 ـ 722 ق. م) عاصر عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا في المملكة الجنوبية وعاصر يربعام الثاني في المملكة الشمالية.
أشعياء (حوالي 734 ـ 680 ق. م) عاصر عزيا ويوثام وحزقيا في المملكة الجنوبية.
ميخا (حوالي 730 ـ 701 ق. م) عاصر يوثام وآحاز وحزقيا في المملكة الجنوبية.
ناحوم (حوالي 633 ق. م)
صفنيا (حوالي 630 ق. م) منذ أوائل ملك يوشيا في المملكة الجنوبية.
إرميا (حوالي 626 ـ 586 ق. م) عاصر يوشيا ويهوياقيم ويهوياكين وصدقيا في المملكة الجنوبية.
حبقوق (حوالي 605 ق. م) .
ب) أنبياء فترة السبي:
دانيال (حوالي 605 ـ 537 ق. م) عاصر نبوختنصر ودارا وقورش.
حزقيال (حوالي 593 ـ 570 ق. م) عاصر نبوختنصر.
جـ) أنبياء ما بعد السبي:
حجَّاي (حوالي 520 ق. م) عاصر دارا.
زكريا (حوالي 520 ـ 518 ق. م) عاصر دارا.
عوبديا (حوالي 450 ق. م) .
ملاخي (حوالي 450 ق. م) .
يوئيل (حوالي 450 ق. م) .(13/284)
ولفهم السياق الاجتماعي للأنبياء الكتابيين، لابد أن نعود إلى عهد القضاة حيث كانت الأسرة تشكل الوحدة الاقتصادية الأساسية، وكانت الرابطة القَبَلية الشكل الأساسي للتضامن وكانت كل النشاطات الاقتصادية من رعي وزراعة وغيرهما تتم داخل هذا الإطار السياسي الاجتماعي. ولكن الملكية الخاصة للأراضي بدأت تظهر بالتدريج، وهو اتجاه أخذ في الزيادة مع ظهور نظام الملكية التي قامت بأعمال الإنشاءات الحكومية الضخمة كالهيكل والقصور الملكية، وهو ما أدَّى إلى تراكم الثروات في أيدي بعض الأفراد. ثم انتهت الحروب مع الآراميين بعد أن كسر الآشوريون شوكتهم. ومع انتهاء الحرب، ظهرت علامات الاستقطاب الطبقي داخل المجتمع العبراني إذ ازداد الفقراء فقراً والأثرياء ثراء. وقد أدَّى كل هذا إلى ضعف سلطان الأسرة، وضعف واضمحلال النظام القَبَلي، وتزايد بروز الفرد كوحدة اقتصادية، وإلى ازدياد الصراع بين القرية والمدينة.
هذا على مستوى العلاقات داخل المجتمع العبراني. ولكن العنصر الحاسم ربما كان هو الخلفية الدولية. فقد كان المجتمع العبراني مجتمعاً صغيراً لا أهمية له بين إمبراطوريات الشرق الأدنى القديم الضخمة، والتي كانت تتميَّز آنئذ بظهور الآشوريين ثم البابليين كقوى عظمى، ثم ازدياد الهيمنة المصرية. وكان على المجتمع العبراني أن يتخذ قرارات سياسية محددة لحماية نفسه في خضم العلاقات الدولية الصاخبة. وكان الحوار المتصل بهذه القرارات هو الذي يشكل مضمون معظم كتب الأنبياء.(13/285)
ونظراً لاحتكاك العبرانيين بالكنعانيين والإمبراطوريات العظمى، بدأت تظهر عناصر دينية جديدة داخل المجتمع العبراني. فكانت الملكات اللائي يأتين من بيوت ملكية أجنبية يُحضرن معهن آلهتهن وبعض الكهنة للاستمرار في عبادة آلهة بلادهن، بل كُنَّ يحاولن فرض هذه العبادات على العبرانيين، كما فعلت إيزابيل. كما انتشرت عبادة آلهة الكنعانيين، فترك أعضاء جماعة يسرائيل عبادة يهوه التوحيدية، وانصرفوا إلى عبادة بعل. وقد كانت مثل هذه العبادات تجد سنداً لها، في كثير من الأحوال، في البيت الملكي والسلطة الحاكمة.(13/286)
هذه هي العناصر الاجتماعية والدولية والعقائدية التي تشكل خلفية أسفار الأنبياء الآخرين، والتي تركت أثرها العميق في نبوءاتهم، وفي التفكير الديني في العالم. ويُلاحَظ تراجع النزعة القومية الحلولية الجماعية في كتاباتهم وتأكيد النزعة التوحيدية، فقد صار لكل نبي صوته الفردي، فأصبح يتحرك بمفرده كنبي صاحب رسالة يواجه المجتمع، وليس كجماعة ولا كفرد ملحق بالبلاط الملكي، الأمر الذي كان يعني الانفصال النسبي للديني عن القومي وللمطلق عن النسبي. كما بدأ المضمون الأخلاقي للنبوءات يتعمق، وازداد تأكيد المسئولية الأخلاقية الفردية، وأخذ نطاقها السياسي يتسع لتصبح هذه النبوءات أكثر أممية وتوحيدية وأقل قَبَلية وحلولية. وازدادت النبوءة علانية بحيث أصبحت الرسالة التي ينقلها النبي أكثر أهمية من الظواهر العجائبية التي تصاحبها، مثل: الإغماء وتعطُّل الحواس والتصرفات غير الواعية. وصار مُصطلَح «نبي» لا يشير إلى من يقرأ الطالع أو يحاول معرفة أحداث المستقبل (أي أن النبوة تخلصت من محاولة البحث عن الحل السحري والتحكم الكامل في الواقع) ، وإنما يشير إلى مُعلِّم ديني يتحدث باسم الميثاق أو العهد مع الإله ويخبر عنه وعن خفايا مقاصده وعن الأمور المستقبلية ومصير الشعوب والمدن والأقدار (بوحي خاص منه) . وهو يفعل ذلك لا ليبين مقدراته العجائبية على التنبؤ وإنما لينقل مضموناً أخلاقياً ملزماً. وهو لا يختار أن يكون نبياً وإنما يقع عليه الاختيار ليضطلع بهذه المهمة، فالنبوة ليست ميزة لصاحبها وإنما هي تكليف إلهي. ويبدي بعض الأنبياء اليهود شيئاً من الإحجام والتردد عندما يتم اختيارهم، لإحساسهم بأنهم غير جديرين بالمهمة.(13/287)
ومع هذا، يجب ألا نفترض أن الاختلاف بين الأنبياء الأولين، والأنبياء الآخرين يعني أن لا علاقة بينهما، فالفريقان في نهاية الأمر ينتسبان إلى التقاليد الدينية نفسها تقريباً. فكان الأنبياء الآخرون، على سبيل المثال، شأنهم شأن الأنبياء الأولين يأتون بأفعال رمزية. فقد سار أشعياء عارياً حافياً مدة ثلاثة أعوام ليرمز إلى أن ملك آشور سيقود المصريين والكوشيين عارين إلى المنفى (أشعياء 20/2 ومايليها) . واشترى إرميا إبريقاً فخارياً ثم كسره أمام أعين القوم، تماماً كما سيكسر الإله هذا الشعب وهذه المدينة (إرميا 19/1 وما يليها) . كما أن الأنبياء الأولين، مثل الآخرين، تعتريهم أحوال وشطحات في لحظات الوحي.
ولم يختف الصوت القومي الحلولي تماماً في كتب الأنبياء الآخرين، فهوشع يرى في يهوه أباً لجماعة يسرائيل يغار عليهم ويحبهم حباً جماً. وكان تفكيرهم الأخروي يتسم بأنه مازال إلى حدٍّ كبير يدور في إطار يوم الإله حينما تعلو جماعة يسرائيل على العالم.(13/288)
ورغم عدم تَجانُس رؤى الأنبياء وتأرجحهم بين أقطاب متعارضة، فيمكن رصد موضوعات أساسية تبين تصاعُد النزعة التوحيدية وتراجُع النزعة الحلولية، من بينها أنهم كانوا يهتمون بالوضع الراهن، والأحداث التاريخية (على عكس مؤلفي كتب الرؤى [أبوكاليبس] فيما بعد) . والإله ـ حسب رؤيتهم ـ هو محرك أحداث التاريخ، لا التاريخ العبراني وحسب، وإنما محرك التاريخ البشري ككل. كما أنه سيعاقب كل الأمم على ما تقترفه من معاص، وإن كان يخص جماعة يسرائيل بعقابه وحبه في الوقت نفسه. ومن ناحية أخرى، فإن نبوَّات الأنبياء ذات مضمون أخلاقي تدور حول سلوك جماعة يسرائيل في الوقت الحاضر وتوبتهم وعودتهم إلى الإله. وقد طوَّر الأنبياء عقائد اليهود الأخروية، وبدأت الآخرة ترتبط بفكرة الخير والشر والثواب والعقاب حين يعاقب الإله الأشرار، ولا يبقي سوى البقية الصالحة التي ستؤسِّس مملكته. وبدأت فكرة البعث تظهر بشكل جنيني عند دانيال وربما أشعياء. وقد ساهم الاحتكاك بالحضارة البابلية المتفوقة، ثم التهجير إلى هناك، في تعميق فكر الأنبياء. ونحن نذهب إلى أن تبلور الفكر الأخروي واكتسابه مضموناً أخلاقياً (ارتباط الثواب والعقاب بالخير والشر) هو أيضاً تعبير عن ضمور الحلولية التي يتراجع داخل إطارها التفكير الأخروي والمضامين الأخلاقية.(13/289)
وقد شَنَّ الأنبياء حرباً شعواء على انزلاق جماعة يسرائيل إلى الشرك والحلولية والوثنية وطالبوا الشعب بالعودة إلى الإله: إله شخصي يهتم بمصير البشر ولكنه لا يشبههم (فهو منزّه عن الطبيعة والتاريخ) ؛ إله خلق العالم من عدم ولم يهجره؛ إله أخلاقي عادل يريد من عابديه أن يتمسكوا بأهداب الفضيلة وأن يمارسوا العدل، ولذا فهو لا يُسرُّ بالذبائح وإنما بالعيش حسب قواعد الأخلاق، أي أن الأنبياء بدأوا في تحرير اليهودية من الحلولية وما يرتبط بها من أسرار الكهنوت والعبادة القربانية. وقد ظهرت النبوة، في واقع الأمر، احتجاجاً على عبادة بعل (الطبيعية الحلولية) ، وضد الظلم الاجتماعي، فطرحت رؤية توحيدية تنكر وجود الآلهة الأخرى. ولقد ظهر التوحيد الحقيقي على أيديهم، فقد كان موسى وداود (حسب النصوص التوراتية) من أتباع المرحلة الوسطى، مرحلة التوحيد المشوب بالشرك والاعتقاد بوجود إله واحد أعلى دون أن يمنع ذلك الاعتقاد بآلهة أخرى. ولأن رؤى الأنبياء توحيدية صارمة، فإنها أيضاً رؤى أممية في الغالب. ولذا، فالإله حسب تصوُّرهم لم يكن مقصوراً على جماعة يسرائيل، وإنما هو إله العالمين، ومن الممكن أن تكون آشور أو بابل أداة عقاب في يد الإله يضرب بها العصاة، حتى لو كان هؤلاء العصاة شعبه المختار.
ومما يجدر ذكره، أن الأنبياء كانوا ينطقون بنبوَّاتهم سواء كانت ترضي سامعيهم أم لا، فالنبي يرى أن مهمته هي أن يبلغ الناس إرادة الإله بأمانة، حتى ولو كانت ضد إرادته الشخصية أو ضد إرادة الناس الذين سيقوم بإبلاغهم الرسالة. ولذا، فإننا نجد أن أسفارهم تضم الكثير من التقريع لجماعة يسرائيل والانتقادات الموجهة إليها. ومن أهم سمات الأنبياء الآخرين تدوينهم لأسفارهم، وقد أشرنا إلى دلالة عملية التدوين هذه.(13/290)
ومن أهم الموضوعات التي ترد في كتب الأنبياء، فكرة «الميثاق» أو «العهد الجديد» الذي سيحل محل «العهد القديم» ، والذي سيكون أساسه القلب لا القرابين والطقوس، وهو عهد عالمي لكل الأمم وليس مقصوراً على جماعة يسرائيل (والمسيحية ترى أنها هي هذا العهد الجديد بين الإله والشعب، وأن الشعب هو كل من يؤمن بالمسيح لا اليهود وحسب، أي أن المسيحية هي استمرار رسالة الأنبياء بأخلاقيتها وعالميتها) .
وفي مجال التفرقة بين الموقف الإسلامي والموقف اليهودي (الحاخامي) من النبوة والأنبياء يمكن أن نذكر العناصر التالية:
1 ـ لا يقتصر الوحي داخل النسق اليهودي على نبي أو رسول واحد (كما هو الحال في الإسلام) ، بل نجده ينتقل من نبي إلى نبي. ومن هنا، فإن إحدى هبات الإله لجماعة يسرائيل (حسب تصوُّر الحاخامات) أنه أرسل وسيرسل لها دائماً عدداً من الأنبياء يكملون الطرق المعتادة للإرشاد والهداية التي يستخدمها الكهنة (ولهذا، فإن هناك توتراً دائماً بين الكهنة والعقيدة الشعبية السائدة من جهة والأنبياء من جهة أخرى) . ويعبِّر هذا في تصورنا عن أن التركيب الجيولوجي اليهودي لم يتخلص من الصراع الحاد والدائم بين النزعة الحلولية (الوقوع في براثن الشرك وعبادة العجل الذهبي) والنزعة التوحيدية، وأن تعدُّد الأنبياء - على مستوى من المستويات - هو تعبير عن هذا. كما أنه نظراً لاختلاف المجال الدلالي لكلمة «نبي» في اليهودية، واختلافه عن المجال الدلالي للكلمة في الإسلام، فإننا نجد أن عدداً ممن سموا «أنبياء» في التراث اليهودي لم يرد لهم ذكر في المصادر الإسلامية.(13/291)
2 ـ ويرى الدكتور أحمد خليفة أن التاريخ الذي يقدمه الإسلام للأنبياء هو تاريخ لكل الأنبياء والرسل باختلاف أزمنتهم وأمكنتهم وأجناسهم ولغاتهم، بينما التاريخ الذي يقدمه التراث اليهودي للأنبياء هو تاريخ خاص قد تختلف فيه أزمنة الأنبياء ولكن تتحد فيه أمكنتهم وجنسهم ولغتهم (فالمكان هو فلسطين، والجنس هو العبرانيون، واللغة هي العبرية) .
3 ـ ويذكر الدكتور علي وافي أن ثمة اختلافاً جوهرياً في بنية القصص في أسفار العهد القديم وقصص القرآن الكريم، فأسفار العهد القديم قد تناولت كل قصة من قصص الأنبياء في صورة سلسلة كاملة من الأجزاء مترابطة الحوادث (كما تفعل كتب التاريخ) وتناولتها لغرض تاريخي بحت. على حين أن القرآن يكتفي بذكر مواقف من هذه القصص، باستثناء قصة يوسف، ولكنه على كل حال لا يذكرها للتاريخ وإنما يذكرها للعظة والذكرى على وجه الخصوص وبحسب المناسبات. فقد يذكر القرآن موقفاً من قصة لمناسبة خاصة، ثم يذكر موقفاً آخر من القصة نفسها في سورة أخرى لمناسبة أخرى.
وعلى هذا الأساس، يجب على القارئ المسلم أن يميز بين أنبياء اليهود والأنبياء الذين يرد ذكرهم في القرآن، حتى لو حملوا نفس الاسم. فموسى (موشيه) القائد الحربي «القومي» ليس هو سيدنا موسى عليه السلام. وداود (ديفيد) قاطع الطريق والملك ليس هو سيدنا داود عليه السلام. وسليمان (شلومو) قاتل منافسيه ليس هو سيدنا سليمان عليه السلام. فرغم الاتفاق في الأسماء وفي بعض تفاصيل القصص، فإن السياق والبناء العقائدي والديني والقصصي الذي ترد فيه هذه الأسماء يختلف اختلافاً جوهرياً، والسياق والبناء وحده هو الذي يحدد المعنى العام والشامل.(13/292)
وفي كتاب دانيال، يُلاحَظ بدايةً اختفاء النبرة النبوية باهتمامها بالحاضر والإصلاح الأخلاقي ومواجهة الواقع. وتتضح بداية هيمنة الحلولية (وهو تيار استمر مع التلمود ووصل إلى قمته مع القبَّالاه) إذ تبدأ نبرة كتب الرؤى (أبوكاليبس) التي تركز على التغير الفجائي والتحولات الفجائية اللاتاريخية والهروب من الواقع في الحلول محل النبرة النبوية. وتُعَد الإصحاحات الأخيرة في كتاب دانيال بداية كتب الرؤى. ويُفسَّر هذا التغير على أساس أن الروح النبوية عادت لبعض الوقت بعد العودة من بابل، ولكن الهيكل الثاني لم يحقق أياً من أمنيات اليهود وآمالهم المشيحانية إذ أنهم لم يسودوا العالم. وقد حلت الإمبراطورية اليونانية محل الإمبراطورية الفارسية، فأدَّى تحطُّم الأمال إلى تصاعُد الحمى وتكاثر كتب الرؤى بنهجها التعويضي ونزوعها الحلولي. ورغم أن الحاخامات قد نادوا بأن روح النبوة انتهت بالنبي زكريا آخر الأنبياء الصغار (أي ظهر مفهوم يشبه مفهوم خاتم المرسلين الإسلامي) ، إلا أن ارتباط بنية اليهودية نفسها بالطبقة الحلولية الكامنة فيها تقف ضد هذا المفهوم. ولذا، نجد أن تقاليد النبوة نفسها تم تحويلها من الداخل بحيث استولت عليها النزعة الحلولية، فيُقال إن موسى ـ حسب الرواية التوراتية ـ تمنى على الإله أن يكون كل أفراد شعبه من الأنبياء، وهذا ما يمكن تسميته «تقاليد النبوة المنفتحة» والمتاحة لكل فرد في كل زمان ومكان، وهو مفهوم ينطوي على فكرة حلول إلهي مستمر في التاريخ وفي بعض البشر، بل في الشعب اليهودي بأسره. وبطبيعة الحال، ومع ظهور مفهوم الشريعة الشفوية التي تَجبُّ الشريعة المكتوبة، يعود الحلول بكامل قوته ويصبح حامل الرسالة (الحاخام) أكثر أهمية من الرسالة المكتوبة.(13/293)
وبالفعل، نجد أن أعضاء المجمع الكبير والحكماء والحاخامات الذين أتوا من بعدهم أصبحوا هم نقطة الاتصال بين الخالق والمخلوق، يزعمون لأنفسهم المقدرة على التنبؤ. وبدلاً من الأنبياء الذين يبلغون نصاً مكتوباً للبشر وينادون بطاعة الإله والامتثال لأوامره، تظهر تقاليد الشريعة الشفوية التي تؤكد أن التفسير البشري (الحاخامي) لكلام الإله أكثر أهمية وإلزاماً، ومن ثم ورد في التلمود أن حكماء اليهود أعلى قدراً من الأنبياء (بابا باترا) . ومع هيمنة تراث القبَّالاه، يصبح المفسر الذي يصل إلى المعنى الباطني (توراة الفيض) هو النبي الحقيقي الذي لا يعرف رسالة الإله وإنما يبلغها (توراة الخلق) ويعرف إرادة الإله ويغيِّرها، ونصه الشفوي الذي ينطق به أكثر إلزاماً من النص الإلهي المكتوب، ولذا فكل ما ينطق به «توراة» . وهذا الاتجاه يصل إلى ذروته في التساديك الحسيدي. وقد ورد في التراث الشفوي أن الشعب اليهودي سيصبح كله شعباً من الأنبياء، أي أن الحلول أو التواصل الإلهي سيشمل الشعب بأسره ويصبح الشعب جزءاً من الإله، وفي هذا عودة للوثنية الحلولية اليهودية قبل ظهور الأنبياء. وهذا المفهوم الأخير هو الذي يشكل خلفية معظم الآراء الدينية اليهودية في فكرة النبوة في العصر الحديث.(13/294)
وقد حاول مندلسون أن يُقلِّل أهمية التقاليد النبوية المنفتحة في اليهودية، وهذا أمر طبيعي حيث إنه كان يحاول وقف النزعة الحلولية ومن ثم التفرقة بين الزمني والمقدَّس وبين القومي والديني. أما الفيلسوف اليهودي هرمان كوهين، فكان يحاول استعادة المضمون التوحيدي الأخلاقي لرسالة الأنبياء، فأكد أن النبي هو المدافع عن الأخلاقيات العالمية، وأن الأنبياء مفكرون تقدميون حاولوا تخليص الإنسان من أوهام الأساطير. ويُصرُّ الفكر الأرثوذكسي عند هيرش على فكرة الوحي (لا مجرد الإلهام كما يعتقد الإصلاحيون) ، وهو وحي يأخذ شكل رسالة على هيئة كلمات. ولكن الفكر الأرثوذكسي الحاخامي، وريث مفهوم الشريعة الشفوية، لا يعبِّر عن فكرة الأنبياء وحدها، وإنما يعبِّر بشكل أكبر عن الفكر التلمودي الحلولي الذي قوضه وحل محله.
ويرى بوبر أن النبوة حوار بين الإله والإنسان وليس رسالة منزلة، وأن ثمة حواراً بين الإله والشعب اليهودي ككل، الأمر الذي حوَّل تاريخ الشعب إلى وحي وحوَّل الوحي إلى تاريخ. فالإله هنا حالٌّ تماماً في التاريخ لا يتجاوزه، وهو امتداد لذات الشعب، ولذا فهو شعب من الأنبياء.
وتتأكد الحلولية في موقف الحاخام الصهيوني كوك من النبوة فهي ـ حسب تصوره ـ ضرب من الاتحاد الصوفي بالشخيناه، أو الحضرة الإلهية، وأن الإنسان يصل إلى الاستنارة والشفافية من خلال هذا الاتحاد حتى يصل إلى أعلى درجات النبوة، وبذا تصبح النبوة هدف أية تجربة دينية، ويصبح كل يهودي مخلص في مصاف الأنبياء. ويتداخل الموضوعي والذاتي تداخلاً كاملاً وتدخل النبوة مرحلة شحوب الإله حتى أن النبوة عُرِّفت بأنها صوت الإله واستجابة الإنسان لها بحيث لا يمكن تمييز الصوت عن الاستجابة ولا الموضوع عن الذات. ويتحدث برانديز وكابلان، فيريان علاقة وثيقة بين الأفكار النبوية اليهودية والأفكار الديموقراطية الأمريكية.(13/295)
ويدور الفكر الصهيوني في إطار الحلولية بدون إله ووحدة الوجود المادية، فأنكر كلٌّ من آحاد هعام وحاييم كابلان الطبيعة الميتافيزيقية للنبوة، فالنبوة إن هي إلا تعبير عن الروح القومية اليهودية وليس لها أي مصدر إلهي. ولذا، يمكن الحديث عن بن جوريون باعتباره النبي المدجج بالسلاح، وعن جابوتنسكي باعتباره النبي المحارب. وبإمكان بن جوريون أن يتحدث عن اليهودي العادي باعتباره نبياً أو شهيداً، بينما يؤكد نحمان سيركين أن استشهاد اليهودي قد رفعه إلى مصاف الأنبياء.
صموئيل) القرن الحادي عشر قبل الميلاد)
Samuel
«صموئيل» (أو «شموِّئيل» ) اسم عبري معناه «اسم الإله» أو «اسمه إيل» ، أي الإله. وصموئيل اسم لنبي عبراني وآخر القضاة. وهو أول نبي عبراني يقف إلى جوار الملوك. ويرتبط اسم صموئيل بفكرة الملكية بين جماعة يسرائيل، فالقبائل العبرانية لم يكن يحكمها سوى قضاة أو زعماء يظهرون عندما تدعو الحاجة. ويرى ماكس فيبر أنها نوع من أنواع القيادة الكاريزمية البطولية. ولذلك ذهب شيوخ العبرانيين إلى زعيمهم الديني صموئيل، وطلبوا إليه أن يجعل لهم «ملكاً يقضي لنا كسائر الشعوب» . وقد حذرهم صموئيل من أن الملكية في تصوُّره حنث بالميثاق أو العهد بين الإله والشعب، ذلك العهد الذي جاء فيه أن جماعة يسرائيل لن يكون لها ملك سوى الإله. ولكنه في نهاية الأمر توَّج شاؤول ملكاً عليهم. وبعد تتويج شاؤول، تدهورت العلاقات بينهما حتى انفصمت تماماً، فتوج داود ملكاً بدلاً منه.
ويبين سفرا صموئيل العناصر التي أدَّت إلى ظهور الملكية وجذورها المقدَّسة، ويؤكدان أن الملك، شأنه شأن الشعب، مُلزَم بإطاعة العهد وبإرادة الإله. وتدور أحداث السفر الأول حول صموئيل نفسه وشاؤول. أما السفر الثاني، فتدور أحداثه حول الملك داود.
إلياهو (النصف الأول من القرن التاسع قبل الميلاد)
Elijah(13/296)
«إلياهو» (أو «إليا» ) اسم عبري معناه «إلهي هو يهوه» ، والصيغة اليونانية للاسم هي «إلياس» التي تُستعمل أحياناً في العربية. وإلياهو نبي في المملكة الشمالية أثناء حكم كلٍّ من أخاب وأحازيا. جاء أصلاً من جلعاد. ويمكن اعتباره أول الأنبياء الكبار. كان يعمل راعي أغنام، وسعى إلى استرجاع العبادة الأصلية ليهوه، وخصوصاً بعد أن قامت إيزابيل بإدخال عبادة بعل، فعارض البلاط الملكي دعوته لأسباب سياسية، بل شجع عبادات الشعوب المجاورة. واضطر إليا إلى الهرب، ولجأ إلى الصحراء، ولكنه قاد الشعب، وذبح كهنة بعل. ومن المعروف أن ثورة إليا التوحيدية كانت ثورة ضد الظلم الاجتماعي أيضاً. وقد انضم إليه في دعوته صديقه النبي إليشع.
وحسب الرواية التوراتية، لم يمت إليا وإنما صعد إلى السماء في عربة نارية تجرها خيول نارية. وهو يُعَد المبشر بالماشيَّح وأهم علامة مؤكدة تبشر بمقدمه، وسينفخ في البوق (الشوفار) معلناً قدومه، وسيلعب دوراً أساسياً في العصر المشيحاني، فسيقوم بتطهير النفوس مما علق بها من فساد ويهيئ اليهود لهذا العصر، وهو كذلك سيضع الحلول لجميع المشاكل، وسيجلو الغموض الذي يتعلق بالدين والقضاء والشريعة، كما سيقوم ببعث الموتى.
وفي احتفالات عيد الفصح، تُصَبُّ له كأس، ويُعَدُّ له كرسي عند احتفالات الختان يُسمَّى «كرسي إليا» . ويأخذ إليا في الوجدان الشعبي اليهودي في شرق أوربا هيئة النبي الجوال على الأرض الذي لا يعرف شخصيته أحد، يرتدي ملابس بدوي، ويقدم العون في لحظات الخطر والضيق، ويظهر للمتصوفة والعلماء ليعلمهم الحقائق الخفية. وقد وردت قصة إليا في سفر الملوك الأول (الإصحاحان 16 ـ 19) ، وفي سفر الملوك الثاني (الإصحاحات 1 ـ 2) .
يونان (حوالي 785-745ق0م)
Jonah(13/297)
«يونان» أو «يونس» هما الصيغة السريانية والعربية للاسم العبري «يوناه» ومعناه «حمامة» . ويونان خامس الأنبياء الصغار. تنبأ في أيام يربعام الثاني باتساع حدود المملكة الشمالية في عهده. وقد ورد في هذا السفر أن الإله طلب إلى يونان أن يذهب إلى نينوي، عاصمة الإمبراطورية الآشورية، ليعلن خرابها. ولكن القوم في نينوي أصغوا إلى نصيحة يونان وتابوا، فلم يُخرِّبها الإله وصفح عنهم، فاغتم يونان لذلك فقرَّعه الإله. كما ورد في السفر حادثة ابتلاع الحوت ليونان، حيث مكث في بطنه ثلاثة أيام. والسفر يتسم بالرؤية العالمية.
هوشع (حوالي 750-722 ق0م)
Hosea
«هوشع» اسم عبري معناه «الإله المنقذ المخلِّص» . وهوشع نبي عاش وتنبأ في المملكة الشمالية في عصر يُربعام الثاني، وخصوصاً في الأيام الأخيرة للمملكة. وهو معاصر لعاموس قبل الغزو الآشوري، وقد استمرت نبوَّته أربعين عاماً.
وينصرف جل اهتمام هوشع إلى محاربة عبادة الأوثان، فلا يركز كثيراً على فكرة العدالة الاجتماعية. وقد تبع الازدهار والفساد، في عصر عاموس، فترة من الضعف الشديد والحرب الأهلية، كما أخذت قوة آشور في التصاعد. وقد كان لكل ذلك صداه في سفر هوشع، فتنبأ بسقوط المملكة الشمالية ونفى سكانها، وهاجم الشرك باعتباره تعبيراً عن تفكك الأمة.(13/298)
والصورة المجازية الأساسية في سفر هوشع هي صورة الزنى: "وأول من كلم الرب هوشع قال الرب لهوشع اذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى لأن الأرض قد زنت زنى تاركة الأرض" (1/2) . وقد أنجب هوشع من زوجته الزانية ثلاثة أبناء لهم أسماء رمزية، فالأول يُسمَّى «يزرعئيل» باسم البقعة التي ذبح فيها ياهو أسرة آخاب (1/4) ، والثاني طفلة سماها «لورحامة» (من العبرية: «لا رحمة» ) : «لأنني لا أعود أرحم بيت يسرائيل بل أنزعهم نزعاً» (1/6) ، والثالث سماه «لوعمي» (من العبرية: «ليس شعبي» ) : "لأنكم لستم شعبي وأنا لا أكون لكم" (1/8) . فذنب جماعة يسرائيل هو سلوكها اللاأخلاقي واعتمادها على القرابين والقوة العسكرية.
ويهيب هوشع دائماً بالماضي فيشير إلى يعقوب، وإلى الخروج والتيه، فالرب هو الذي أخرج الشعب من مصر ولكن الشعب أثبت أنه غير وفيّ حتى قبل أن يصل إلى أرض الميعاد. وحينما وصلوا إلى هناك، أخفقوا في معرفة مصدر نجاحهم الحقيقي ونسبوا إلى بعل الخيرات التي منحهم يهوه إياها، ولذا فإن الرب سيعاقب الأمة ويلحق بها الخراب وينقل سكانها.
ولكن، مع كل هذا، ورغم فساد الأمة، فإن يهوه في علاقته بجماعة يسرائيل يشبه هوشع في علاقته بزوجته الزانية. فيهوه هو الزوج الذي تركته زوجته الزانية التي تسير مع الفساق الآخرين، ولكنه مع هذا يظل على حبه لها. ولذا، وإلى جانب العقاب والوعيد، فإن هوشع يدعو الشعب للتوبة ويبشر بالعودة (14/1 ـ 9) . ويمكن القول بأن العلاقة بين يهوه والشعب علاقة حب مشبوب لا يمكن أن تنال منه خطايا الشعب.
وتوجد في السفر صور مجازية أخرى مثل صورة الأب والابن (11/1 ـ 3) ، والطبيب والمريض (7/1) ، والصائد والطير (7/12) . وسفر هوشع أول أسفار الأنبياء الصغار.
أشعياء (حوالي 734-680 ق0م)
Isaiah(13/299)
«أشعياء» (أو «يشعياهو» ) اسم عبري معناه «الإله يخلص» . وأشعياء اسم نبي من أهم أنبياء اليهود، بل هو أعظم أنبياء العهد القديم قاطبةً. كان من أسرة نبيلة، أو ربما من دم ملكي، كما كان ذا ثروة طائلة. ولذا، كان أشعياء مقرباً من البلاط الملكي. ويُقال إن منَسَّى أعدمه.
ويُشكل صعود القوة الآشورية، التي تهددت العبرانيين القدامى، الخلفية التاريخية لنبوءات أشعياء. وربما كان أهم حدثين تاريخيين في نبوءات أشعياء هما: الأول رفض آحاز ملك المملكة الجنوبية الانضمام إلى ملوك المملكة الشمالية في الحلف المضاد لآشور، وقد أيَّد أشعياء هذه السياسة المحايدة.
والثاني أن حزقيال (ملك المملكة الجنوبية) تحدَّى آشور، وقد أدَّى هذا إلى حصار القدس. وحتى عندما انسحب الجيش الآشوري فجأة (701 ق. م) ، استمر أشعياء في التحذير من المصير النهائي. وقد كان حسه التاريخي والسياسي دقيقاً إذ تنبأ بامتداد سلطان الآشوريين على الشرق الأدنى، ورأى في المستقبل البعيد الخطر المحدق من قبَل بابل على المملكة الجنوبية، وعارض اعتمادها على مصر وتعاونها معها ضد آشور.
وكان أشعياء يرى يد الإله وراء كل الحوادث التاريخية، فكان يؤكد أن آشور هي أداة عقابه (10/5) ، وأن شعب الإله يجب ألا يثق إلا به، وألا يعتمد إلا عليه، فالإله وحده هو سند الشعب. وقد أكد أن الخلاص لا يتأتى إلا بتنفيذ مطالب الإله الأخلاقية، فالشفقة والبر بالفقراء أكثر أهمية عندالإله من تقديم القرابين. وكان أشعياء من الأنبياء الذين اتجهوا إلى القضية الاجتماعية، فهاجم الأثرياء والحكام لتَقبُّلهم الرشاوى وظلمهم المساكين وبذخهم وترفهم وطمعهم وجشعهم وسكرهم وانعدام الحس الأخلاقي عندهم.(13/300)
وقد أعلن أشعياء بوضوح أن للعالم كله إلهاً واحداً، الإله الحي الحقيقي الذي ستعترف به كل الأمم في النهاية، ويعود الجميع إليه، ويتوحدون فيما بينهم «وفي ذلك اليوم تكون سكة من مصر إلى آشور فيجيء الآشوريون إلى مصر والمصريون إلى آشور ويعبد المصريون مع الآشوريين، في ذلك اليوم يكون يسرائيل ثلثاً لمصر ولآشور بركة في الأرض. بها يبارك رب الجنود قائلاً: مبارك شعبي مصر وعمل يدي آشور وميراثي يسرائيل» (19/23 ـ 25) . ثم تصل الأمور ذروتها في آخر الأيام حين تتوقف الحروب ويأتي الماشيَّح ملكاً من نسل داود.
وفي السفر المسمَّى باسمه يتحدث أشعياء عن العذراء التي ستحمل وتلد ابناً اسمه عمانوئيل (7/14) ، وعن حلم السلام العام تحت رئاسة «أمير السلام» ، فتعم سلطته العالم، ويطبع الناس سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل ويسكن الذئب مع الحمل. ولكثرة نبوءات هذا السفر عن الماشيَّح (9/6 ـ 7) يُشار إليه بأنه النبي الإنجيلي، وتُقتبَس نبوءاته في العهد الجديد أكثر من أي سفر آخر في العهد القديم.
ورغم عالمية نبوءاته، فإنه كان يصر على إيمانه بخصوصية الشعب اليهودي. فجماعة يسرائيل هي الشعب المختار الذي قد يلحق به العذاب، دون أن يفنيه الإله تماماً، إذ ستبقى دائماً بقية صالحة تعود إلى فلسطين وتجدد الصلة بين الإله والأرض المقدَّسة.
أعطى أشعياء ولديه اسمين رمزيين: فسمَّى أحدهما «شئار ياشوف» ، أي «البقية ترجع» (7/3) ، وسمَّى الآخر «مهير شلال حاش باز» ، أي «يُعجِّل السلب ويُسرع النهب» (8/1، 4) . وربما كان له ابن ثالث هو عمانوئيل، أي «الإله معنا» (7/14) . ويُعتبَر الأسلوب الأدبي الرائع الذي كتب به سفره أجمل ما ورد في العهد القديم.(13/301)
والسفر الذي يحمل اسمه، هو أول سفر في كتب الأنبياء، وينقسم إلى قسمين: أشعياء الأول (1/39) . وأشعياء الثاني (40/66) ، كتبهما مؤلفان مختلفان، وإن كان يُقال إن الجزء الأخير (56/66) هو أشعياء الثالث وكتبه مؤلف ثالث. ويُقال أيضاً إن تاريخ أشعياء الأول هو 740 ق. م، وأشعياء الثاني هو 540 ق. م، أما الثالث فيرجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد.
ميخا (حوالي 730-701 ق0م)
Micha
«ميخا» اسم عبري معناه «مَنْ مثل يهوه» . وميخا نبي من المملكة الجنوبية من أصل فلاحي، نشر تعاليمه بين عامي 730 و722 ق. م، وكان معاصراً لأشعياء، كما كان يشبهه في أسلوبه ونهج كتابته. وقد دافع ميخا عن الفقراء، وتحدَّث عن الشعب واضطهاد الطبقات الحاكمة له (3/1 ـ 3) ، وكان أول من أنذر بدمار البلد والنفي إلى بابل (3/12) ، كما تنبأ بملك من نسل داود سيأتي بالخير للعالم، وبذلك تتضح النزعتان العالمية والقومية في نبوءاته.
عاموس (حوالي 670-746 ق0م)
Amos
«عاموس» اسم عبري معناه «مُحَمَّل» أو «المُثقل بالأحمال» ، وعاموس أول نبي يهودي يُسمَّى باسمه أحد الأسفار. أعلن رسالته عام 750 ق. م. وكان عاموس يعمل راعياً، وجاني جميز في مدينة تقواع الصحراوية على بعد تسعة عشر كيلو متراً من القدس. ولكنه نشر رسالته في المملكة الشمالية في عهد يربعام الثاني الذي أدَّت فتوحاته إلى تدفُّق الثروات والسلع الترفية الجديدة على المجتمع العبراني، الأمر الذي أدَّى إلى انتشار الفساد، وإلى ظهور طبقة من الأثرياء وملاك الأراضي الذي كبلوا صغار الملاك بالديون، وصادروا أملاكهم، وأفسدوا ذمم القضاة (عاموس 2/6 ـ 7، 3/10، 5/10، 12) .(13/302)
وقد هاجم عاموس هذا الفساد بضراوة، بل إننا نجد أن فكرة التوحيد عنده مرتبطة بالعدالة الاجتماعية. وثمة رفض في سفر عاموس للعبادة القربانية والأضاحي (5/21 - 24) ، فالعبادة والطقوس والقرابين ليست إلا سخرية واستهزاء. ولذا، فإن الأخلاقيات التي بشر بها عاموس أخلاقيات أممية، وكانت تُعَدُّ جديدة على عصره، كما أنها لم تكن تمثل الروح القومية الحلولية اليهودية. فيهوه هو إله كل الشعوب والأمم "ألستم لي كبني الكوشيين يا بني يسرائيل يقول الرب، ألم أصعد يسرائيل من أرض مصر والفلسطينيين [أي الفلستيين] من كفتور والآراميين من قير" (9/7) . فلم يكن خروج العبرانيين من مصر هو وحده الحادثة التاريخية ذات المغزى الخاص، بل خروج الشعوب الأخرى أيضاً. ولكن يهوه يظل، مع هذا، تربطه علاقة خاصة بشعبه، فهو يعرف جماعة يسرائيل فقط، ولذا فسيعاقبها على ذنوبها (3/2) . ثم تأخذ الكارثة شكل هزيمة عسكرية يعقبها نفي جماعة يسرائيل. وكان عاموس مدركاً مدى خطورة التهديد الآشوري. ومن المحتمل أنه أُعدم على يد الكهنة (ويُقال إنه نُفي إلى تقواع) لأنه تنبأ بزوال المملكة الشمالية وزوال بيتها الملكي.
وسفر عاموس ثالث أسفار الأنبياء الصغار، وهو مكتوب بأسلوب سهل يتواتر فيه عدد كبير من الصور المستمدة من الطبيعة ومن حياة الرعاة والمزارعين.
ناحوم (حوالي 633 ق0م)
Nahum
«ناحوم» اسم عبري معناه «المُعزَّى» (صيغة اسم مفعول) . وناحوم أحد الأنبياء الصغار. تنبأ في السفر المسمَّى باسمه بسقوط نينوي. وأسلوب سفره أدبي ناصع يدل على أن مؤلفه امتلك ناصية اللغة وفن الوصف.
صفنياه (حوالي 630 ق0م)
Zephaniah(13/303)
«صفنياه» اسم عبري معناه «يهوه يستر» أو «يهوه يكنز» . وصفنياه نبي من أسرة نبيلة في المملكة الجنوبية. تنبأ في السنين الأولى من حكم يوشيا، وكانت نبوءاته ذات طابع أخروي، فهو يصف يوم الإله، وكيف سيعاقب الأشرار. ويؤكد في سفره أن الفقراء سيرثون الأرض، وأن كل الأمم ستعود إلى الإله وستعتمد عليه بقية جماعة يسرائيل وتصبح مقدَّسة، فسيجمعهم ويصيِّرهم تسبيحةً في الأرض كلها، ويحكم وسطهم ملكاً في وسط شعبه.
إرميا (حوالي 626-586 ق0م)
Jeremiah
«إرميا» أو «إيرمياهو» ، وهي عبارة عبرية تعني «الإله يؤسس» أو «الإله يثبت» أو «الإله يُعلِّي» . وإرميا ثاني الأنبياء الكبار، وكان من أسرة من الكهنة ناصبته العداء بسبب موقفه.
بدأ في التنبؤ عام 627 ق. م أثناء ملك يوشيا، فأعلن أن القدس ستسقط في يد البابليين، وحذر من الثورة ضدها. وقد اتهمه الكهنة بمحاولة الانضمام إلى العدو وسجنوه في قبو ليموت جوعاً، ولكن الملك رأف بحاله ونقله إلى سجن آخر وقدَّم له فيه الطعام. وظل إرميا على هذه الحال إلى أن سقطت القدس في يد البابليين على يد نبوختنصر، وتحوَّلت بعدها الدولة الجنوبية إلى دويلة تابعة. وبعد سقوط القدس، قام الموظفون البابليون بحمايته، بسبب موقفه الممالئ لبابل. ولكن بعد مقتل جداليا، وبعد أن نال الذعر من الثوار العبرانيين، فرَّ العبرانيون إلى مصر واضطر إرميا إلى الفرار معهم، حيث استمر في التنبؤ هناك. وكانت آخر نبوءاته أن اللعنة ستحل على يهود مصر لعبادتهم الأوثان (43، 44) .(13/304)
اتصفت نبوءته بالآلام والمرارة، ولكنه يطرح رؤية جديدة تماماً للتجربة الدينية يتجاوز بها الحلولية المادية الوثنية ويصل بها إلى التوحيدية الحقة إذ ينقلها من عالم الظاهر إلى عالم الباطن، ومن عالم القرابين إلى عالم القلب والحياة، ومن عالم المسئولية الجماعية إلى عالم المسئولية الأخلاقية الفردية. فالإله لا يطلب الذبائح فحسب، بل يطلب الطاعة الداخلية، فهو يريد من البشر حياة أخلاقية رفيعة (7/21 ـ 23) : «محرقاتكم غير مقبولة وذبائحكم لا تلذ لي» 6/20) . والإله لا يرضى إلا عن ذبائح المستمع المطيع (17/24 ـ 27) . وسيأتي وقت لا يُذكَر التابوت فيه (3/16) ، وإنما ينظر الإله إلى القلب وحسب (17/10، 20/12) . وقد تنبأ إرميا بالعهد الجديد، حين يكون للشعب قلب جديد، وتُكتَب شريعة الرب في هذا القلب (24/7) . غير أن ما يتوَّج سفر إرميا هو ما جاء في الإصحاح 31 في الفقرتين 31 ـ 33 إذ يقطع يهوه عهداً جديداً مع شعبه حيث يجعل شريعتهم في نفوسهم ويكتبها على قلوبهم، وليس على ألواح حجرية (لوحى الشريعة) كما حدث في عهد آبائهم. ومن هنا يعلن مبدأ المسئولية الفردية.
وقد ارتفع إرميا بفكرة الإله من مستوى الفكر القومي الضيق إلى مستوى الفكر العالمي، حيث تصبح العقيدة ديانة شخصية يعتنقها الفرد بعد أن يتوب إلى الإله ويرجع إليه، وتصبح الأساس الذي ينبني عليه العهد الجديد. وتصبح عبادة عالمية تتبعها كل الشعوب (3/17) ، وسيعترفون بأن آلهتهم أكاذيب لا قيمة لها (16/19 ـ 20) .
حبقوق (حوالي 605 ق0م)
Habkuk(13/305)
«حبقوق» اسم عبري معناه «يعانق» ، وهناك رأي يذهب إلى أنها كلمة فارسية بمعنى «زئبقة سوداء» أو نوع من الزهور. وحبقوق أحد الأنبياء الصغار، تنبأ في المملكة الجنوبية، وكان لاوياً يغني في الهيكل. وقد تنبأ في القرن السابع أثناء حصار الكلدانيين (البابليين) لنينوي. يضم سفره صرخة يتوجه بها إلى الإله ضد العنف والعسف والظلم، وضد انتصار البابليين، ثم يتساءل هل سيسمح الإله للبابليين بأن يتلفوا ويخربوا من هم أبر منهم. والجواب أن البابليين سيهلكون، أما البار فبإيمانه يحيا (حبقوق 2/1 ـ 4) .
والسفر في أساسه ـ فيما يُرجح العلماء ـ مكوَّن من إصحاحين (الأول والثاني) أما الإصحاح الثالث فله جانب أسطوري واضح، ولذا افتُرض أنه منحول. ومما يؤكد ذلك اكتشاف تفسير للسفر في قمران لا يحتوي إلا على الإصحاحين الأولين منه.
دانيال (حوالي 605-537 ق0م)
Daniel(13/306)
«دانيال» كلمة عبرية معناها «الإله قضى» . ودانيال أحد الأنبياء الأربعة الكبار. كان دانيال من عائلة شريفة، ويُظن أنه وُلد في القدس. والسفر المسمَّى باسمه ينقسم إلى قسمين، يضم القسم الأول والمعروف باسم دانيال (الإصحاحات من 1 إلى 6) ، وتضم ست قصص عن محن دانيال وانتصاراته هو ورفاقه الثلاثة. وقد جاء في هذا القسم أن دانيال ورفاقه جاءوا إلى بابل بأمر من نبوختنصر، فتعلموا الكلدانية، وأبوا أن يأكلوا من طعام الملك أو أن يشربوا من خمره حتى لا يتنجسوا. ومع هذا، وجدهم الملك عند نهاية فترة التعليم أكثر ذكاء وبهاء من الآخرين. وقد فسر دانيال حلماً لنبوختنصر، وسُرَّ الملك بتفسيره، وعينه ورفاقه مديرين لكل مقاطعة بابل. وكان الملك قد طلب إليهم أن يسجدوا للتمثال الذي نصبه، وحينما رفضوا ألقى برفاق دانيال الثلاثة في النار، ولكنهم لم يلحق بهم أي أذى، فعبَّر الملك عن إعجابه بإله اليهود. وقد فسر دانيال حُلْمَ الملك عن الشجرة العظيمة التي قطعت، وأخيراً فسر الكتابة على الحائط في الوليمة التي أقامها بيلشاصر، والتي كان ينوي أن يستخدم فيها الأوعية التي أحضرها البابليون من الهيكل، وأخبره دانيال بأن نهايته قد دنت. وبعد ذلك رفعه دارا الميدي إلى أسمى المناصب فأثار هذا حسد أعدائه فكادوا له، وأُلقي به في جُب الأسود ولكن الإله نجاه.
أما القسم الثاني (دانيال B) ، فيضم الإصحاحات من 7 إلى 12. وهنا تتغيَّر شخصية دانيال، ويتحول من حكيم يفسر الأحلام، والإشارات للملوك، ومن وزير يقع ضحية دس منافسيه إلى صاحب رؤى (أبوكاليبس) . فدانيال هو نفسه الذي يرى الأحلام المفزعة هذه المرة، ويقوم ملاك بتفسيرها له. أما الرؤيا الأولى، فهي تمثل قوى العالم الأربع العظمى الطاغية (بابل ميديا وفارس واليونان) على شكل أربعة حيوانات، ثم تزول هذه القوى وتسود من بعدها "مملكة شعب قديس العلا"، أي اليهود.(13/307)
أما الرؤيا الثانية، فيرى فيها القوة التي يمثلها تيس المعز الذي له قرن كبير ينكسر وينبت بدلاً منه أربعة قرون أخرى (الإمبراطورية اليونانية تحت حكم الإسكندر ثم خلفائه من بعده) ، وينبت قرن أصغر (وهو أنطيوخوس إبيفانيس) ، ويحارب تيس المعز ضد كبش له قرنان أحدهما أطول من الآخر (الأسرة المالكة الإيرانية: الميديون والفرس) .
أما الرؤيا الثالثة، فهي رسالة حملها إلى دانيال الملك جبرائيل تتعلق بالمملكة المشيحانية التي ستأتي بعد تسعة وأربعين عاماً، بعد أن يكفِّر اليهود عن خطاياهم.
أما الرؤيا الرابعة، وهي أطول الرؤى، فتأخذ شكل رسائل من الإله تؤكد محبته للمؤمنين الأمناء في شعبه، وهي تخبره عما سيحدث من وقت السفر الافتراضي (ثالث عام من حكم قورش) حتى خلاص جماعة يسرائيل. فسيأتي بعد قورش ثلاثة ملوك فرس، ولكن اليونان سيحلون مكانهم، أولهم ملك عظيم (الإسكندر الأكبر) . ثم يستمر السفر في سرد تفاصيل الحروب والزيجات الملكية المختلفة بين ملوك الممالك اليونانية، إلى أن يصل إلى التدخل الروماني الذي اضطر أنطيوخوس الرابع (إبيفانيس) إلى الانسحاب من مصر عام 168 ق. م، ثم اضطهاده لليهودية. ويتناول بقية السفر ما سيحدث بعد ذلك.(13/308)
والجزء الثاني من سفر دانيال يُعَد من كتب الرؤى (أبوكاليبس) ، والتي تختلف اختلافاً جوهرياً عن كتب الأنبياء. فبينما تركز كتب الرؤى على تفسير التاريخ تفسيراً عجائبياً غير أخلاقياً، حيث يأتي الخلاص ويصبح كل ما يحدث في التاريخ الإنساني مصيراً محتوماً، تركز كتب الأنبياء على الخلاص التدريجي، ومن خلال الإرادة الإنسانية. وقد أصبح السفر أساساً لكثير من التأملات الرؤياوية والصوفية، وخصوصاً تلك المتعلقة بحسابات مقدم الماشيَّح. والواقع أن هذا السفر في عداد القسم المسمَّى بالكتب في العهد القديم، وقد كُتب بعضه بالعبرية وبعضه بالآرامية. وكان بعض الباحثين يرى أن هذا السفر كتبه علماء المجمع الكبير. ولكن معظم العلماء يرون الآن أن الجزء الأكبر كُتب عام 300 ق. م، أما الثاني، فكُتب في عهد أنطيوخوس الرابع في وقت كانت اليهودية تتعرض فيه للاضطهاد الشديد على يد هذا الحاكم السلوقي، ولذا فإن رسالة الأمل التي يحملها السفر مناسبة للعصر.(13/309)
وسفر دانيال أول سفر ترد فيه إشارة صريحة وواضحة إلى حياة ما بعد الموت والبعث، وهي حياة مقصورة على كلٍّ من الأخيار والموغلين في الشر (12/2) . وترد في السفر أيضاً إشارات عديدة إلى الملائكة، وأن لكل أمة ملاكها، وميخائيل هو ملاك جماعة يسرائيل. ويُقال إن شخصية دانيال رُسمت على طراز «دانيال» الذي أشير إليه في حزقيال (14/13 ـ14) ، وهو شخص معروف بحكمته، يظهر في بعض النصوص الأوجاريتية. ويثير سفر دانيال كثيراً من الجدل، فهو أولاً لا يرد ضمن كتب الأنبياء في النسخة العبرية من العهد القديم، وإنما يرد ضمن كتب الحكمة. أما الترجمة السبعينية، فتورده في القسم الخاص بالأنبياء، ولعل هذا يعود إلى أن نص السفر كُتب متأخراً كما أنه كُتب بالعبرية والآرامية. وقد اقتبس كتاب «رؤيا يوحنا اللاهوتي» كثيراً من أفكار وتصويرات ورؤى سفر دانيال عن الممالك الكونية وسقوطها. ويمثل سفر دانيال المعين الذي لا ينضب لتفسيرات كنائس السبتيين المسيحية (الأدفنتست) الذين يتبنون رؤيته للتاريخ الكوني.
حزقيال (حوالي 593-570 ق0م)
Ezekiel
«حزقيال» أو «يحزقئيل» كلمة عبرية معناها «الإله يقوِّي» . وحزقيال نبي من أسرة صادوق الكهنوتية ومن قبيلة إفرايم، وهو معاصر لإرميا، وقد كان على دراية تامة بتعاليمه وصوره المجازية الإيضاحية. أطلق حزقيال نبوءاته في القدس، ثم في بابل حيث هُجِّر مع اليهود الذين هُجِّروا إلى هناك، واستمر في التنبؤ لسنوات طويلة (593 ـ 570ق. م) . ويبدو أنه نُفي قبل التدمير النهائي للقدس (586 ق. م) ، فقد تنبأ بدمارها، وألقى باللوم على اليهود الذين بقوا في المملكة الجنوبية لاتباعهم طرق الشر، ولثقتهم البالغة في نجاتهم من التهجير البابلي. وقد استخدم حزقيال «الزنى» كصورة مجازية، وهي الصورة التي استخدمها هوشع من قبل، ولكنه طورها. كما أنه كان يرى أن تاريخ الشعب كله، منذ الخروج، تاريخ عصيان (20/1 ـ 38) .(13/310)
ولكنه، بعد تحطيم القدس، أدخل العزاء على قلب المتقين برؤى الخلاص ونبوءات الخراب التي ستلحق بالأغيار. وقد فسَّر حزقيال الغرض الإلهي من شتات اليهود بأنه نشر العدالة في العالم، وبشر بفكرة أورشليم المستقبل حينما يغفر الإله للشعب. وبين لهم أن خطايا الجيل السابق لا تمنع الجيل الحالي من أن يقرر، إن شاء، العودة إلى الإله. وثمة أمل في أن يعود الشعب إلى أرضه، ليعيش في سلام وطمأنينة يسوس أموره حكامه، ويكون الإله هو راعيه الصالح. وسيقوم الشعب ببناء الهيكل الجديد. ويبشر حزقيال كذلك بطبيعة الشعب التي ستُخلَق من جديد، فجماعة الإله الجديدة هي موضوع رجاء شعبه (36/24 ـ 30) . ويتميَّز حزقيال بتأكيده المسئولية الفردية بشكل أوضح (18، 33/1 ـ 20) .
وسفر حزقيال ثالث الأسفار في كتب الأنبياء العظام، وهو مكتوب بضمير المتكلم، وأسلوبه شعري ويحوي صوراً مجازية ورموزاً عديدة.
حجاي (حوالي 520 ق0م)
Haggai
«حجَّاي» اسم عبري معناه «عيد» (مولود في يوم عيد) . وحجَّاي أحد الأنبياء الصغار. تنبأ بعد التهجير إلى بابل في العام الثاني من حكم دارا الأول. وقد دعا إلى إعادة بناء الهيكل، وتحدث عن قوانين النجاسة، وتنبأ بعظمة الهيكل.
زكريا (حوالي 520 ق0م)
Zechariah
«زكريا» (زخارياه) اسم عبري معناه «يهوه قد ذكر» . وزكريا أحد الأنبياء الصغار. وقد كتب زكريا سفره أثناء حكم دارا الأول وبعد العودة من بابل، وكان زكريا من الكهنة. وتتعلق نبوءاته بتجميع المنفيين، والتحرر من النير الأجنبي، وتوسيع القدس. وهو يصف رؤاه وتفسيرها من خلال ملاك. وينسب بعض العلماء الإصحاحات 9 - 14 إلى مؤلف آخر عاصر فترة الهيكل الأول، وذلك على أساس لغتها ومضمونها.
ملاخي (حوالي 450 ق0م)
Malachi(13/311)
«ملاخي» اسم عبري معناه «رسولي» أو «ملاكي» . وملاخي آخر أنبياء العهد القديم، يقرنه البعض بعزرا، ويساوون بينهما. ويرى بعض العلماء أن «ملاخي» ليس اسم عَلَم وإنما صفة لكاتب السفر. وقد عاش ملاخي بعد بناء الهيكل الثاني. ويتضمن السفر توبيخاً للكهنة، لتراخيهم في تطبيق قواعد القرابين والعشور، فهم يقدمون ذبائح بها عيوب ولا يعيشون وفقاً للشريعة، وهم لا يعلِّمون الناس الحق. وهو يذم التزوج بمن هن من خارج المجتمع. وينتهي السفر برؤية أخروية ليوم الإله.
عوبديا (حوالي 450 ق0م)
Obadiah
«عوبديا» اسم عبري معناه «عبد يهوه» . وعوبديا رابع الأنبياء الصغار، يوجه اللوم العنيف في سفره إلى أدوم، لأنها لم تهبّ لمساعدة القدس ساعة محنتها. ويؤكد فيه أن يوم الرب قريب. ومن غير المعروف متى كُتب السفر، ولكن من المتفق عليه أنه كُتب بعد هدم الهيكل.
يوئيل (حوالي 400 ق0م)
Joel
«يوئيل» تركيب عبري معناه «يهوه هو الإله» . ويوئيل أحد الأنبياء الصغار، وهو أيضاً مؤلف السفر الذي يُعرف باسمه. ويمكن تقسيم سفر يوئيل إلى ما يلي: الإصحاحين الأول والثاني اللذين ترد فيهما نكبة الجراد، ثم الإصحاحين الثالث والرابع اللذين يتناولان يوم الرب حينما يعيد الرب شعبه من السبي ويعاقب أعداءه. والتاريخ الذي كُتب فيه السفر غير معروف، فمن العلماء من يظن أن كاتبه كان معاصراً لأشعياء، ومنهم من يذهب إلى أنه عاش في ملك يوشيا، ولكن ثمة اتفاقاً عاماً بين العلماء على أن يوئيل تنبأ بعد العودة من بابل.(13/312)
الباب السادس: اليهودية الحاخامية (التلمودية)
اليهودية الحاخامية (التلمودية)
Rabbinical (Talmudic) Judaism
«اليهودية الحاخامية» أو «اليهودية التلمودية» أو «اليهودية الربانية» أو «اليهودية الكلاسيكية» أو «اليهودية المعيارية» هي شكل العقيدة اليهودية السائد بين معظم الجماعات اليهودية في العالم ابتداءً من حوالي القرن التاسع الميلادي وحتى نهاية القرن الثامن عشر. وهي عبارة استخدمها اليهود القرّاءون ليؤكدوا أن النسق الديني الذي يؤمن به الفريق الديني المعادي لهم لا يتمتع بالمطلقية وإنما هو ثمرة جهود الحاخامات (بمعنى الفقهاء) الذين فسروا التوراة (الشريعة المكتوبة) وابتدعوا الشريعة الشفوية (التوراة الشفوية أو التلمود) وجعلوها الأساس الذي تستند إليه رؤيتهم الدينية والمحور الذي تدور حوله وذلك تمييزاً لها عن اليهودية (التوراتية، إن صح التعبير) التي تستند إلى التوراة وحسب (الشريعة المكتوبة) المرسلة من الإله. ولكن، بتحوُّل القرائين إلى جماعة دينية هامشية، أصبح مصطلحا «يهودية حاخامية» و «يهودية» مترادفين.
واليهودية السائدة في إسرائيل على المستوى الرسمي هي اليهودية الحاخامية التلمودية، وهو ما يسبب كثيراً من المشاكل لأعضاء الجماعات الدينية أو الإثنية اليهودية الأخرى، مثل: الفلاشاه والسامريين وبني إسرائيل (من الهند) ، فهم لا يعترفون بالتلمود ولا يعرفونه أصلاً. والوضع نفسه يسري تقريباً على اليهود الإصلاحيين والمحافظين (رغم ادعاء الفريق الثاني أن يهوديتهم المحافظة إن هي إلا تطوير لليهودية الحاخامية) . وفي مقابل هذا، فإن دار الحاخامية في إسرائيل (ممثلة اليهودية الحاخامية) لا تعترف بهم كيهود.
اليهودية الربانية
Rabbinical Judaism
«اليهودية الربانية» مصطلح مرادف لمصطلح «اليهودية الحاخامية التلمودية» . وتستخدم هذه الموسوعة المصطلح الأخير لأننا نترجم كلمة «رابي» إلى كلمة «حاخام» التي كانت شائعة في الدولة العثمانية. وكلا المصطلحين مرادف أيضاً لكلٍّ من «اليهودية المعيارية» و «اليهودية الكلاسيكية» .....(13/313)
اليهودية المعيارية
Normative Judaism
«اليهودية المعيارية» صياغة أخرى لمصطلح «اليهودية الكلاسيكية» أو «اليهودية الحاخامية والتلمودية» ، وهو مصطلح يستند إلى تصوُّر أن ثمة جوهراً ثابتاً لليهودية، فلُب اليهودية (حسب هذا التصور) متفق عليه، وهو أن عدم التجانس لا ينصرف إلا إلى الأفكار الفرعية، وأن العقائد اليهودية الأساسية أمر مستقر ومحدد. ولكن، نظراً لتركيب اليهودية الجيولوجي التراكمي، فإن هذا الجوهر من الصعب الوصول إليه، إذ يصعب تقرير الأساسي والفرعي وتمييز اللباب عن القشور. والواقع أن ما يراه مفكر ما لب اليهودية، يجده آخر أمراً ثانوياً، وقد تكون التصورات اليهودية الخاصة بالإله وتأرجحها بين التوحيد والحلولية مثلاً جيداً على ذلك. ويرفض كثير من المفكرين اليهود المحدثين فكرة اليهودية المعيارية مفضلين رؤية اليهودية ككيان عضوي متطور منفتح يتغيَّر بتغيُّر الظروف والبيئة، أي أنها نسق فكري (تاريخاني) غير متجاوز للزمان والمكان.
ولعل في افتقار اليهودية إلى المعيارية ما جعل بوسع الصهيونية أن تبحث لنفسها عن شرعية من خلال الدين اليهودي نفسه، ثم تنجح في الاستيلاء على اليهودية ككل من خلال علمنتها من الداخل. وهذا أيضاً هو السبب في أن اليهودية التجديدية التي لا تؤمن بالإله أو تسوِّي بينه وبين فكرة التقدم وتقرنه به مازالت تستطيع أن تُطلق على نفسها مصطلح «يهودية» . وللسبب نفسه، فإن أكثر من خمسين في المائة من يهود العالم لا يؤمنون بالإله، ومع هذا يصرون على تسمية أنفسهم «يهوداً» (وإن كانوا يقرنون كلمة «يهودي» بكلمة «إثني» حتى يميِّزوا أنفسهم عن اليهود المتدينين أو المعياريين) .
اليهودية الكلاسيكية
Classical Judaism(13/314)
مصطلح «اليهودية الكلاسيكية» مرادف مصطلح «اليهودية المعيارية» . وفي هذه الموسوعة فإننا نشير إلى «اليهودية الكلاسيكية» بتعبير «اليهودية الحاخامية» أو «اليهودية التلمودية» . ويمكن أن نقول إن تاريخ ظهورها يرجع إلى ما بعد تدوين التلمود وبداية العصور الوسطى في الغرب (القرن التاسع تقريباً) . وقد بدأ نفوذ اليهودية الكلاسيكية ينحسر مع عصر الاستنارة والانعتاق في نهاية القرن الثامن عشر، وانقسمت بعدها اليهودية إلى فرق عديدة. وتُعَدُّ اليهودية الأرثوذكسية استمراراً لليهودية الكلاسيكية أو المعيارية أو الحاخامية.
التلمود: تاريخ
Talmud: History
«التلمود» كلمة مشتقة من الجذر العبري «لامد» الذي يعني الدراسة والتعلم كما في عبارة «تلمود توراه» ، أي «دراسة الشريعة» . ويعود كل من كلمة «تلمود» العبرية وكلمة «تلميذ» العربية إلى أصل سامي واحد. والتلمود من أهم الكتب الدينية عند اليهود، وهو الثمرة الأساسية للشريعة الشفوية، أي تفسير الحاخامات للشريعة المكتوبة (التوراة) . ويخلع التلمود القداسة على نفسه باعتبار أن كلمات علماء التلمود كان يوحي بها الروح القدس نفسه (روح هقودش) باعتبار أن الشريعة الشفوية مساوية في المنزلة للشريعة المكتوبة. والتلمود مُصنَّف للأحكام الشرعية أو مجموعة القوانين الفقهية اليهودية، وسجل للمناقشات التي دارت في الحلقات التلمودية الفقهية اليهودية حول المواضيع القانونية (هالاخاه) والوعظية (أجاداه) . وقد أصبح التلمود مرادفاً للتعليم القائم على أساس الشريعة الشفوية (السماعية) . ومن هنا، يطلق المسعودي (المؤرخ العربي الإسلامي) على سعيد بن يوسف اسم «السمعاتي» (مقابل «القرائي» أو من يرفض التراث السماعي ويحصر اهتمامه في قراءة التوراة المكتوبة) .(13/315)
وتتضح الخاصية الجيولوجية اليهودية في التلمود، فهو يضم داخله وجهات نظر شتى متناقضة تماماً، فهو عبارة عن موسوعة تتضمن الدين والشريعة والتأملات الميتافيزيقية والتاريخ والآداب والعلوم الطبيعية. كما يتضمن، علاوة على ذلك، فصولاً في الزراعة وفلاحة البساتين والصناعة والمهن والتجارة والربا والضرائب وقوانين الملكية والرق والميراث وأسرار الأعداد والفلك والتنجيم والقصص الشعبي، بل ويغطي مختلف جوانب حياة اليهودي الخاصة، أي أنه كتاب جامع مانع بشكل لا يكاد يدع للفرد اليهودي حرية الاختيار في أي وجه من وجوه النشاط في حياته العامة أو الخاصة، إن هو أراد تطبيق ما جاء فيه. ويشيرون إلى التلمود بعبارة «كلُّ بو» (أي: كلٌّ به) ، فهو يشتمل على كل ما يَعنُّ لليهودي أن يسأل عنه من شريعة دينه.
والواقع أن التلمود ليس من الكتب الباطنية أو تلك التي تحيط بها هالة من السرية والغرابة والإخفاء (كما يتوهم البعض) . وهناك نسخ منه في معظم المكتبات الجامعية المتخصصة في الولايات المتحدة وفي بعض مكتبات مراكز البحوث أو الجامعات في الدول العربية. ويُلاحَظ أن التلمود كتاب ضخم متعدِّد الأجزاء، مجلداته كثيرة وضخمة تصل في بعض الطبعات إلى ما يزيد على عشرين مجلداً. لكن هناك طبعة «إفري مانز تلمود Everyman's Talmud» المختصرة.
وهناك تلمودان:
1 ـ التلمودالفلسطيني: وينسبه اليهود خطأً إلى أورشليم (القدس) فيقولون «الأورشليمي» ، ذلك مع أن القدس خلت من المدارس الدينية بعد هدم الهيكل الثاني، وانتقل الحاخامات إلى إنشاء مدارسهم في يفنه وصفورية وطبرية. كما أطلق يهود العراق على التلمود الفلسطيني اسم «تلمود أرض يسرائيل» ، وأطلقوا عليه أحياناً اسم «تلمود أهل الغرب» نظراً لوقوع فلسطين إلى الغرب من العراق.(13/316)
2 ـ التلمود البابلي: وهو نتاج الحلقات التلمودية (أكاديمية - يشيفا) في العراق (بابل) ، وأشهرها سورا ونهاردعه وبومبديثا. ويُعرَف هذا التلمود في حالات نادرة جداً باسم «تلمود أهل الشرق» .
وكلا التلمودين مُكوَّن من المشناه والجماراه. والمشناه في كل منهما واحد لا اختلاف بينهما، أما الجماراه فاثنتان: إحداهما وُضعت في فلسطين، والأخرى في العراق. ولما كانت الجماراه البابلية أكمل وأشمل من الجماراه الفلسطينية، فإن التلمود البابلي هو الأكثر تداولاً، وهو الكتاب القياسي عند اليهود. ولذا، فحين يُستخدَم لفظ «التلمود» بمفرده، محلَّى بأداة التعريف، فإن المقصود به هو التلمود البابلي دون سواه، وذلك على أساس الميزة والأفضلية والتفوق. وفي الكتابات العلمية، يشير اللفظ إلى الجماراه وحدها. ويضاف عادةً تعليق راشي على التلمود عند طبعه، وإن كان هذا التعليق لا يُعَدُّ جزءاً منه. ويبلغ عدد كلمات التلمود البابلي مليونين ونصف مليون كلمة في نسخته الأصلية (تشكل الأجاداه 30% منها) ، وعلى هذا فإن حجمه يبلغ ثلاثة أضعاف حجم التلمود الفلسطيني. وقد كُتب التلمود بأكثر من لغة، فالمشناه كُتبت بعبرية خاصة تُسمَّى عبرية المشناه، أما الجماراه فكُتبت بالآرامية (كُتبت الجماراه الفلسطينية باللهجة الآرامية الغربية، أما الجماراه البابلية فكُتبت باللهجة الآرامية الشرقية) . وتتسم الشروح الواردة في التلمود الفلسطيني بأنها أقصر وأكثر حرفية وقرباً من النص.(13/317)
ويُلاحَظ أن بعض المفاهيم القانونية في التلمود البابلي تعكس أثر القانون الفارسي. كما أن التلمودين مختلفان في بعض المواطن، فيُلاحظ مثلاً أن الموقف من الوثنيين في التلمود البابلي أكثر تسامحاً لأن وضع اليهود في بابل كان جيداً، فقد جاء في التلمود البابلي أن الأغيار خارج فلسطين لا يمكن اعتبارهم من الوثنيين. وبينما يُحرِّم التلمود الفلسطيني بيع أية سلع للوثنيين في الأيام الثلاثة التي تسبق أي عيد وثني، فإن علماء بابل حرموا البيع في أيام العيد الوثني وحسب.
ومن أهم التطورات التي دخلت الشريعة اليهودية ما جاء في التلمود البابلي من أن: «شريعة الدولة هي شريعتنا» ، بل قد ورد في التلمود البابلي دعاء خاص يُتلى أمام ملوك الأغيار ويطلب لهم البركة، نصه: "مبارك هو الذي منح مخلوقاته شيئاً من جلاله".
وتعود الآراء والفتاوى التي وردت في التلمود إلى القرن الخامس قبل الميلاد. وقد بدأت عملية جمعها وتدوينها مع القرن الثاني الميلادي، واستمرت عملية التفسير والتدوين حتى القرن السادس. وبعد اكتمال نص التلمود، استمرت الإضافات والتعليقات، حتى القرن التاسع عشر، حين أضاف إلياهو) فقيه فلنا) تعليقاته. ويمكن تلخيص ظهور التلمود وتطوُّره على النحو التالي:
السنة / الإضافات والتعليقات
400 - 100 ق. م / الكتبة (سوفريم) يكتبون كتب المدراش بالعبرية.
150 ق. م - 30 م / الأزواج (زوجوت) .
100 ق. م - 70 م / الفريسيون دعاة الشريعة الشفوية.
70 - 200 / معلموا المشناه (التنائيم) ، يهودا الناسي يجمع أقوال العلماء الدينيين السابقين في المشناه المكتوبة بالعبرية.
200 - 400 / الشراح (أمورائيم) الجماراه الفلسطينية بالآرامية، وقليل من العبرية.
200 - 500 / الشراح (أمورائيم) الجماراه البابلية بالآرامية وقليل من العبرية.
500 - 700 / المفسرون (صبورائيم) تدوين المشناه والجماراه. وبذا يكون قد انتهى تدوين التلمود، وتبدأ مرحلة التعليقات.(13/318)
700 - 1000 / الفقهاء (جاءونيم) في بابل ينشرون التعاليم التلمودية.
1000 / تعليقات راشي (1040 - 1105) ، وتعليقات الشراح الإضافيين (توسافوت) - أهم التعليقات بالعبرية.
1200 / موسى بن ميمون (1135 - 1204) يؤلف مشنيه توراه (تثنية الشريعة) .
1300 / يعقوب بن آشر يؤلف سفر هاطوريم (كتاب الصفوف) .
1600 / جوزيف كارو (1488 -1575) يؤلف الشولحان عاروخ (المائدة المصفوفة) عام 1564، ويشير إلى أن الإيمان بالقبالاه فرض ديني.
1850 / إلياهو (فقيه فلنا) يضيف تعليقاته.
ويتكون التلمود من عنصرين؛ فهناك العنصر الشرعي والقانوني (هالاخي) الذي يُذكِّرنا بأحكام الفرائض والتشريعات الواردة في أسفار الخروج واللاويين والتثنية، وهناك العنصر القصصي والروائي والأسطوري (أجادي) بما يشمله من الأقوال المأثورة (والأخبار والخرافات والشطحات والخيال) إلى جانب السحر والتراث الشعبي. ومعظم المشناه تشريع (هالاخاه) ، بينما معظم الجماراه قصص وأساطير (أجاداه) . ويُلاحَظ أن التفسير يستمد أهميته وثقله من مدى قدمه، فالأقدم أكثر ثقةً وأهمية من الأحدث.
ويشكل التلمود، بسبب ضخامته وطريقة تصنيفه، صعوبة غير عادية في محاولة استخدامه والاستفادة منه. ومن هنا، بدأت جهود تصنيفه بعد الانتهاء منه. وقد كانت أولى هذه المحاولات هي هالاخوت بيسكوت (القوانين المقررة) التي تُنسَب إلى يهوداي جاءون، والقوانين العظمى التي كتبها سيمون كيارا، وكلا العملين يلخصان المادة التلمودية المتعلقة بالشرائع. وظهرت عدة مصنفات أخرى في القرن الحادي عشر، وخصوصاً في العالم العربي، في شمال أفريقيا وأوربا وأهمها:(13/319)
1 ـ مشنيه توراه، أي «تثنية التوراة» أو «إعادة الشريعة» التي كتبها موسى بن ميمون في القرن الثاني عشر. وهي من أهم الأعمال التي صدرت في هذا الحقل. ويختلف منهجه عن التلمود في أنه لا يكتفي بالعرض دون ترجيح. وهو لا يجمع روايات ولا يخوض غمار المناقشات بل نجده يفصل في الأمور حكماً فاصلاً. وقد اتبع ابن ميمون مبدأ عقلانياً، فأقصى عن مادته جميع القواعد الشعبية التي كانت في منزلة الشريعة في زمن التلمود والتي ترجع جذورها إلى الخرافات الشائعة. والموقف الأساسي لديه يتلخص في القول بأن الشريعة والشعائر وُجدت من أجل الإنسان وليس العكس. وقد أعاد موسى بن ميمون توزيع السداريم الستة إلى أربعة عشر كتاباً يُسمَّى الواحد منها «السفر» . وقد اشتهر كتابه باسم «يد حزقاه» (أي «اليد القوية» ) لأن الياء تساوي عشرة والدال تساوي أربعة في حساب الجمل، وفي ذلك ما يرمز إلى الأربعة عشر جزءاً التي يتألف منها الكتاب.
2 ـ وقد أثّر مصنف ابن ميمون في المصنفات التي جاءت بعده. ويظهر هذا في كتاب سفر هاطوريم، أو كتاب الصفوف الذي وضعه يعقوب بن آشر في الأندلس في القرن الرابع عشر حيث اعتمد على تثنية التوراة في تنسيق الأحكام الشرعية وثيقة الصلة بالحياة العملية، وحذف تلك الشرائع التي أصبحت بالية منذ هدم الهيكل.
3 ـ الشولحان عاروخ. وقد وضعه جوزيف كارو في القرن السادس عشر، وقد اتبع تقسيم سفر هاطوريم، وهو آخر التصنيفات وأصبح أهمها، وخصوصاً بعد أن قام موسى إيسيرلز (موشى يسرائيليتش) بإضافة شروحه. ويُعَدُّ الشولحان عاروخ المستودع الأساسي للأفكار والقيم الحاكمة في اليهودية الحاخامية أو التلمودية.(13/320)
وقد ظل التلمود مجهولاً تقريباً في أوربا المسيحية، ولم يكتشفه المسيحيون إلا في أواسط القرن الثالث عشر، وذلك عن طريق اليهود المتنصرين. ومنذ ذلك التاريخ، أصبح التلمود محط سخط السلطات الدينية لأنها كانت تراه كتاب خرافات مسئولاً عن عدم اعتناق اليهود المسيحية، كما كانت ترى أنه يحتوي على ملاحظات مهينة ضد المسيحية كعقيدة، وضد شخص المسيح. ومما يذكره التلمود عن المسيح أنه كان يهودياً كافراً، وأن تعاليمه كفرٌ بيِّن، وأن المسيحيين كَفَرة مثله، وأن أمه حملت به سفاحاً من جندي روماني يُدعى بندارا. ويضم التلمود، فضلاً عن ذلك، أجزاء عن محاكمة المسيح في السنهدرين، ويُقر بأن اليهود هم الذين صلبوا المسيح، وأنهم يتحملون المسئولية كاملة عن ذلك. وقد كانت الكنيسة تنظم مناظرات (مجادلات خلافية) علنية يشترك فيها عادةً يهود متنصرون ملمون بالتلمود ويعرفون جوانبه السلبية. ومن أهم المناظرات، وربما آخرها، تلك المناظرة التي تمت في بولندا في يونيه 1757 ويوليه 1759 بين أتباع يعقوب فرانك وممثلي المؤسسة الحاخامية. وقد كانت الكنيسة تحرق نسخ التلمود التي تُضبَط من آونة إلى أخرى.(13/321)
ويُلاحَظ أن تزايد انتشار التلمود بين اليهود يشكل تزايداً في هيمنة الحلولية الواحدية على الفكر الديني اليهودي. ومما ساهم في عملية شيوع التلمود، تحوُّل الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية، لا ترتبط بالوطن الذي تعيش في كنفه، وإنما بوطن وهمي. وهذا الارتباط يحقق لها قدراً من الهوية شبه المستقلة عن مجتمع الأغلبية، وكان هذا أمراً ضرورياً لها كي تضطلع بوظيفتها التي تتطلب عادةً الحياد والانفصال العاطفي وأحياناً الفعلي. وإذا كانت صهيون الوطن الوهمي البعيد، فإن التلمود أصبح الوطن المتنقل. وتنحو الجماعات الوظيفية منحى حلولياً (في إيمانها بأنها موضع القداسة وفي موقفها المنكر للزمان والمكان) . وقد ساهم هذا بكل تأكيد في تَزايُد شيوع التلمود بين أعضاء الجماعات اليهودية. ومما ساعد التلمود على اكتساب مركزية في الفكر الديني اليهودي جهل أوربا المسيحية بوجوده حتى القرن الثالث عشر الميلادي، وهو ما يعني أنه أصبح الرقعة اليهودية الخالصة، بعد أن اعتبرت الكنيسة العهد القديم (كتاب اليهود المقدَّس) أحد كتبها المقدَّسة. ولكل هذا، حل التلمود محل التوراة في العصور الوسطى باعتباره كتاب اليهود المقدَّس الأساسي، حتى أن كثيراً من الحاخامات كانوا يعرفون التلمود أساساً ويعرفون العهد القديم بدرجة أقل. وقد تركزت في التلمود، بعد تدوينه، كل السلطة الدينية والروحية في اليهودية، حتى أن كل قرار في الحياة اليهودية، مهما علا شأن هذا القرار أو صَغُر، قد جرى اتخاذه وفقاً للسلطة التلمودية.(13/322)
ومع هذا، فقد أخذت قبَّالاة الزوهار، والكتب القبَّالية الصوفية الحلولية الأخرى، تحل ابتداءً من القرن السادس عشر محل التلمود، إلى أن اكتسبت الصدارة في القرن السابع عشر. ويُقال إن اليهود المنتشرين في الشتتلات، بعيداً عن مراكز الدراسات الحاخامية، كانوا يعرفون الزوهار، ولا يعرفون إلا أقل القليل عن التلمود. وعلى كل، فإن التلمود كان دائماً كتاب الأرستقراطية الدينية الحاخامية، فهو مكتوب بأسلوب مركب وبلغة لا تعرفها الجماهير التي كانت لا تعرف العبرية ولا الآرامية (بطبيعة الحال) . ولهذا، كانت حركات الاحتجاج الشعبي بين اليهود (الصوفية والمشيحانية) تأخذ شكل معاداة التلمود ومعاداة سلطته ومعاداة المؤسسة التي تدرسه وتهيمن باسمه. وأولى هذه الحركات هي الحركة القرائية التي لم تكن حركة شعبية بقدر ما كانت حركة عقلانية متأثرة بالفكر الإسلامي. ولكن الحركات الصوفية المشيحانية اليهودية كانت شعبية إلى حدٍّ كبير، وقد اتخذت موقفاً سلبياً من التلمود، فكان المتصوفة ينظرون إليه باعتباره المحارة التي يكمن داخلها المعنى الخفي للتوراة. كما أن الحركات المشيحانية، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، رفضته تماماً. ومع هذا، يُلاحَظ أن التفسيرات السائدة داخل كثير من المدارس التلمودية العليا، وداخل الدوائر الحاخامية، كانت تفسيرات قبَّالية.(13/323)
ولكن الضربة القاضية جاءت مع حركة التنوير، فحركة التنوير بين أعضاء الجماعات اليهودية، في مراحلها الأولى، كانت ذات اتجاه ربوبي إصلاحي يهدف إلى إصلاح اليهودية دون التخلي عنها. ومن هنا وجَّه دعاة الحركة سهام نقدهم إلى التلمود وأنكروا قداسة الشريعة الشفوية ككل، وأصروا على اعتبار التلمود بمنزلة مجموعة من تفسيرات المشرعين والشارحين يرجع عهدها إلى فترة متأخرة، كما نفوا كل سلطة إلزامية، وأنه في واقع الأمر يعبر عن السلطة الحاخامية، وبينوا ما في التلمود من خرافات وحكايات شعبية تتنافى ـ في تصورهم ـ مع العقل.
وكان معظم هؤلاء النقاد ممن تلقوا تعليماً غربياً علمانياً، ولذا لم تكن لديهم الكفاءات الأكاديمية اللازمة لفَهْم التلمود أو تفسيره، ومع هذا استمروا في هجومهم الشرس الذي تصاعد بعد ذلك مع تصاعُد حدة حركة التنوير نفسها، التي انتقلت من مرحلة الربوبية إلى مرحلة إلحادية صريحة معادية لا للتفسيرات البشرية وحسب وإنما لأية نصوص مقدَّسة. وأعلن دعاة حركة التنوير أنه لا أمل يُرجى في تطوُّر اليهود إلا بالإطاحة بسلطة التلمود وبينوا للحكومات الغربية مدى خطورة هذا الكتاب وأنه سبب هامشية اليهود وتخلفهم. ولكن الحاخامات الأرثوذكس، أعضاء المؤسسة الدينية الحاخامية الذين كان يدور عالمهم حول التلمود وحده، والذين كانوا لا يعرفون الكثير عما يدور حولهم، ولا يدركون أهمية الإصلاح، دافعوا دفاعاً مستميتاً عن التراث التلمودي ووقفوا بشراسة ضد كل محاولات التطوير. وحينما حاولت حكومات شرق أوربا ووسطها تحديث اليهود، كان الجهد ينصب دائماً على التلمود فكان يُستبعَد تماماً من مدارس اليهود، كما كان يُحرَّم على اليهود أحياناً قراءته لأبنائهم قبل بلوغهم سن الرشد. وفي الوقت الحالي، فإن الأغلبية العظمى من أعضاء الجماعات اليهودية يرفضون التلمود بل يجهلون ما جاء فيه ولا يعرفون حتى حجمه.(13/324)
وأثر التلمود والشرع التلمودي واضح في قوانين الأحوال الشخصية في إسرائيل، فالتشريعات التي تضبط قضايا الزواج والطلاق فيها لا تختلف عن الأحكام التلمودية الواردة في أسفار سدر ناشيم. وفي شئون الطلاق، لا يزال سفر جيطين المصدر الأساسي للأحكام المتعلقة بوثيقة الطلاق (جيط) التي يكتبها الزوج. وفي مسائل الزواج وتسجيل المواليد، لا تزال أحكام الشريعة التي حددها التلمود هي الشريعة السائدة، فاليهودي هو المولود لأم يهودية، أو من اعتنق اليهودية على يد حاخام أرثوذكسي. وعملية التهود ليست هينة، إذ يصر الحاخام على التقيد بالشعائر التلمودية، ومن بينها الحمام الطقوسي الذي يجب أن تخضع له الأنثى التي تريد التهود، فتدخل الحمام عارية تماماً، بحضور ثلاثة من الحاخامات وتحت أنظارهم.
وكذلك تُطبَّق في إسرائيل الشرائع التلمودية الخاصة بقوانين الطعام والقوانين الزراعية التي وردت في سفر براخوت من سدر زراعيم. ويُدرَّس التلمود في إسرائيل، وتقتصر الدراسة في المدارس والمعاهد الدينية على دراسته، كما أن جامعة بار إيلان تشترط على طلابها تحصيل معرفة تمهيدية بالتلمود.
وقد طُبع التلمود الفلسطيني في البندقية (1523 ـ 1524) . كما أن التلمود البابلي كان قد بدأت طباعته في إسبانيا عام 1482. لكن أقدم طبعة كاملة ظهرت في البندقية أيضاً (1520 ـ 1523) ، وأشرف على طبعها دانيال بومبرج. وقد أصبحت هذه الطبعة النموذج الأصلي الذي حذت حذوه مختلف الطبعات التي تلتها. وقد نُشرت الطبعة القياسية في فلنا عام 1886، وهي تحوي تعليقات، وتعليقات على تعليقات في أكثر من عشرين جزءاً. فكان يتم طبع المشناه والجماراه في العمود الأوسط، وتُطبَع ببنط أسود، ثم تُطبَع في العمود المجاور لها تعليقات راشي على النحو التالي:
وقد تُرجم التلمود إلى معظم اللغات الأوربية الأساسية،(13/325)
صفحة من سفر ماكوت من سدر نزيقين (طبعة فلنا) ، وهي تناقش مصير إنسان صدر عليه حكم ولكنه فر. وكيف يمكن إصدار حكم آخر عليه.
1- نهاية الجماراهمن مقطوعة المشناه السابقة.
2- المقطوعة داخل المربع هي مقطوعة المشناه موضع النقاش في هذه الصفحة.
3- الجماراه المتعلقة بها.
أ) مدراش تشريعي (هالاخي) يؤيد ما جاء في المشناه.
ب) ثلاثة تعليقات قصيرة من حلقات فلسطين وسورا وبومبديثا التلمودية.
4- علامة تدل على انتهاء الفصل.
5- مقطوعة مشناه أخرى.
6- تعليق راشي.
7- تعليق الشراح الإضافيين (التوسافوت) تناقش نقطة محددة من الجماراه وتعليق راشي.
8- إحالات لمصادر تلمودية وحاخامية أخرى.
9- تعليقات كتبها جويل سيركيس (1561 - 1640) .
10- إشارات لمصنفات موسى بن ميمون، ويعقوب بن آشر.
11- تعليقات أحد حاخامات شرق أفريقيا من القرن الحادي عشر.
12- إشارات للكتاب المقدس.
13- ملاحظات كتبها إلياهو (فقيه فلنا) .
وتُرجمت مختارات قصيرة منه إلى العربية لا تمثل الطبيعة الجيولوجية المتناقضة للفكر التلمودي. ولكنه تُرجم بأكمله إلى الإنجليزية (في لندن) وإلى كثير من اللغات الأوربية الأخرى.(13/326)
ويُلاحَظ أن الرقابة الحكومية كانت تفرض على اليهود أحياناً أن يحذفوا بعض الفقرات التي تُظهر عداءً متطرفاً للأغيار، أو أن يُضيِّقوا المجال الدلالي لبعض الكلمات والعبارات العنصرية المتطرفة. ولذا، حلت كلمة «عكوم» بمعنى «عابد الكواكب وأبراج النجوم» ، و «كوتي» بمعنى «سامري» ، و «كوشي» بمعنى «زنجي» ، أو «حبشي» محل «نكري» ، أو «جوي» بمعنى «أجنبي» أو «غريب» . وحلت كلمة «بابليم» ، أي «البابليين» ، و «كنعانيم» ، أي «الكنعانيين» ، محل «أوموت هاعولام» ، التي تعني «أُمّمُ العالم» . والواقع أن جميع المحاولات تُضيِّق المجال الدلالي لكلمة «الأغيار» وتخصصها، وتجعلها مقصورة إما على الوثنيين وحسب، أو على جماعة محدَّدة من الناس مثل السامريين أو البابليين. وهذا من قبيل استرداد البُعد التاريخي لمصطلح الأغيار (العام) حتى تتكيف نصوص التلمود مع الواقع الجديد حيث لم يَعُد الأغيار وثنيين بل أصبحوا من عبدة الإله. وكان يُسجَّل في مستهل كل صفحة من التلمود إعلان رسمي يقرِّر أن قوانين التلمود ضد الوثنية لا تنطبق على الأمم التي يعيش اليهود بين ظهرانيها، وأنها لا تنطبق إلا على الوثنيين وحسب (وحينما احتلت إنجلترا الهند، قيل إن المقصود هو الهنود، كما ضُمَّ إلى قائمة المعنيين بالهجوم سكان أستراليا الأصليون) . وبعض الطبعات تقرر أن المعني بالهجوم هو «اليشماعيلي» وتعني «المسلم العربي» .(13/327)
وكما يقول الحاخام آجوس، فإن هذه الصيغة التي كانت قوانين الرقابة تتطلبها كان يتم تجاهلها في النصوص المختلفة، لأن كتَّاب التلمود وشارحيه لا يعرفون سوى نوعين من البشر: اليهود، وغير اليهود. وحتى حينما كان بعض الزعماء الدينيين اليهود يعترضون على النزعة الحلولية العنصرية المتعالية، كان اعتراضهم ينطلق من أسباب عملية مثل: الخوف من اعتياد اليهود ممارسة الشر، والخوف من الإساءة إلى سمعة اليهود، أو إثارة حنق الأغيار وكرههم. وكثيراً ما كان يتبادل أعضاء الجماعات اليهودية فيما بينهم، دون علم السلطات، مخطوطات خاصة تضم المحذوفات التلمودية، أي تلك النصوص التي حذفتها الرقابة الحكومية. كما كان يُعاد شرح بعض المصطلحات الجديدة، مثل «بابلي» أو «كوتي» ، حتى يُعرَف معناها الأصلي والحقيقي لتكون بمعنى «مسيحي» . ويُعاد في إسرائيل طبع النسخة الأصلية من التلمود دون تعديل. ولما كانت عملية الطباعة مكلفة وتستغرق وقتاً طويلاً، فقد نشروا كتاباً في طبعة شعبية رخيصة بعنوان حسرونوت شاس (أي المحذوفات التلمودية) .
وقد صدرت في إسرائيل موسوعة تلمودية ضخمة تُسهِّل عملية الوصول إلى الأحكام الفقهية. ورغم ذلك، ففي إحصاء أُجري عام 1987، قرر 84% من الإسرائيليين أنهم لم يقرأوا التلمود قط ولم يطلعوا على أي جزء منه. وفي الوقت الحالي، يقوم الحاخام آدين ستانيسلاتس بإعداد طبعة جديدة من التلمود (البابلي والفلسطيني) تكون في متناول القارئ العادي، وهي مزودة بترجمة عبرية حديثة للنصوص الآرامية فضلاً عن شروح الكلمات الصعبة. وقد طُبعت المشناه والجماراه، وكذلك الشروح المتعلقة بهما ببنوط طباعية مختلفة. وقد صدر حتى الآن عشرون جزءاً من التلمود البابلي. ومن المتوقع أن يَصدُر التلمود في أربعين جزءاً خلال خمسة عشر عاماً. وقد ظهرت ترجمة إنجليزية للأجزاء الأولى.
أقسام التلمود
Tracts of the Talmud(13/328)
ينقسم التلمود إلى المشناه والجماراه. وتبلغ أقسام المشناه ستة، وتُسمَّى «سداريم» ، وهي أيضاً أقسام التلمود الأساسية (وذلك باعتبار أن الجماراه تعليق على المشناه وشرح لها) . وتنقسم السداريم بدورها إلى أسفار تُسمَّى «ماسيختوت» تنقسم بدورها إلى فصول تسمَّى «براقيم» . وقد قام الدكتور أسعد رزوق بوضع وصف موجز لأقسام التلمود (البابلي) وأسفاره حتى يُعرِّف بالموضوعات والمسائل الواردة فيه، وهي:
أ) السدر الأول: سدر زراعيم (البذور) :
يتألف هذا السدر من أحد عشر سفراً أو مقالة، ويتناول قوانين التوراة الزراعية من الناحيتين الدينية والاجتماعية، ويسهب في شرح الأحكام التوراتية المتصلة بحقوق الفقراء والكهنة واللاويين في غلال الأرض والحصاد. كما يَبسُط القواعد والأنظمة المتعلقة بالفلاحة والحرث وزراعة الحقول والجناين وبساتين الأثمار، والسنة السبتية والعشار، بالإضافة إلى المواد المحظور خلطها في النبات والحيوان والكساء. أما أسفار سدر زراعيم فهي:
1 ـ براخوت (البركات) :
ويتناول هذا السفر صلوات اليهود وعباداتهم والقواعد المتعلقة بالأجزاء الأساسية للصلوات اليومية.
2 ـ فعاه (زوايا الحقل) :
ويتناول القوانين المتعلقة بزوايا الحقل واللقاط المنسي مما ينبغي تركه للفقراء، وغير ذلك من الفرائض والواجبات التي يرد ذكرها في سفر اللاويين (19/9 ـ 10) .
3 ـ دماي (المشكوك بأمره من المحاصيل) :
يتحدث هذا السفر عن المحاصيل الزراعية، كالذرة وغيرها من منتوجات الأرض، وعن استخراج العشار اللازم منها أو عدمه.
4 ـ كلائايم (المخاليط أو الأخلاط) :
ويعالج هذا السفر الأحكام التوراتية الواردة في اللاويين (19/19) ، والتثنية (22/9 ـ 11) ، بالنسبة لخلط البذور المختلفة في الزراعة، أو الجمع بين جنسين من المواد في الثوب.
5 ـ شفيعوت (السنة السابعة أو السبتية) :
ويبحث في القوانين المتعلقة بإراحة الأرض والإبراء من الديون في السنة السبتية.(13/329)
6 ـ تروموت (التقدمات: الرفائع أو جراية الكهنة) :
ويعالج القوانين والفرائض المتعلقة بذلك القسم من الغلال والمحاصيل المعين للكاهن.
7 ـ معشروت (العشور) :
وموضوعه العشار الأول المتوجب دفعه سنوياً إلى اللاوي من غلة الحصاد، واللاوي بدوره يعطي الكاهن منه نسبة العُشر.
8 ـ معشر شيني (العشار الثاني) :
يتناول هذا السفر موضوع العشار الثاني الذي يحمله المالك بنفسه إلى أورشليم (القدس) لكي يؤكل هناك.
9 ـ حلّه (أول العجين) :
ويتعلق هذا السفر بذلك القسم من العجين المفروض إعطاؤه للكاهن. وقد سمي هذا السفر كذلك لأنه يتناول قانون العجين الأول وفرائضه.
10 ـ الغُرله (بلاختان ـ الغلفاء) :
ويتناول هذا السفر الحظر على استعمال ثمار الأشجار الصغيرة خلال السنوات الثلاث الأولى، وقواعد الاعتناء بهذه الأشجار في السنة الرابعة طبقاً لما جاء في سفر اللاويين (19/23 ـ 25) .
11 ـ البكوريم (البواكير، الثمار الأولى) :
وهنا أيضاً، فإن هذا السفر ينص على قوانين تقديم الثمار الأولى في الهيكل، ويتضمن وصفاً للشعائر التي ترافق التقدمة.
ب) السدر الثاني: سدر موعيد (الأعياد والمواسم) .
يؤلف سدر موعيد القسم الثاني من التلمود البابلي في طبعة سونسينو، وهو يتوزع على اثنى عشر سفراً تضمها أربعة مجلدات ضخمة. أما تسمية «موعيد» بمعنى «الموعد» أو «الموسم المقدَّس» ، فهي مأخوذة على الأرجح من سفر اللاويين (23/2) . والملاحَظ أن المسائل الأساسية التي تتناولها أسفار هذا القسم تتعلق بالسبت والأعياد وأيام الصوم وغير ذلك من المواسم والمناسبات الدينية، بالإضافة إلى الطقوس والشعائر والفرائض والقرابين، وإلى قواعد تنظيم التقويم العبراني «حساب الميقات للأعياد اليهودية.. وكيفية معرفة الأشهر العبرية القمرية من السنة الشمسية لتعيين الأعياد اليهودية» . وهنا أيضاً يطالعنا الكثير من شرائع التوراة والشرائع والقوانين المستمدة من خارج التوراة، جنباً إلى جنب:(13/330)
1 ـ شبات (السبت) :
يتناول هذا السفر قوانين السبت والقواعد اللازمة لمراعاة عطلة يوم الراحة، كما يتحدث بالتفصيل عن الأعمال المحظورة في ذلك النهار. وفي مواضع أخرى من التلمود، نجد الحاخامات يضعون السبت مقابل جميع الأحكام الأخرى الواردة في التوراة من حيث الأهمية وقد وضع الحاخامات قائمة مفصلة تتضمن تسعة وثلاثين عملاً من الأعمال الأساسية وأضافوا إليها سلسلة أخرى من الأعمال الفرعية وغيرها.
2 ـ عيروبين (المقادير) :
لفظة «عيروب» تكون بمعنى «الخليط» أو «المزيج» ، ومن هنا فإن صيغة الجمع «عيروبين» تكون بمعنى كمية من الأطعمة المحددة التي تُودَع في مكان معيَّن لكي تكون بمنزلة الزاد للمسافرين أثناء عطلة السبت دون أن تبتعد تلك الأمكنة عن بعضها البعض الآخر فيصبح الانتقال خرقاً لقانون السبت. والعيروبين هي المقادير المثالية التي يصح الجمع بينها فيما يتعلق بالأمكنة والأطعمة والمسافات بحيث يؤدي ذلك إلى توسيع حدود السبت. لذا، نجد هذا السفر يتناول القوانين والأنظمة التي تتيح لليهودي حرية الحركة خارج نطاق الحدود الموصوفة وأثناء السبت والأعياد.
3 ـ فصاحيم (خراف الفصح) :
ويتناول هذا السفر قوانين إتلاف الخمائر أثناء عيد الفصح اليهودي، وتقديم الخراف والذبائح قرباناً، ومواسم الرب المقدَّسة. وفي الفصل العاشر والأخير من هذا السفر، ترد التفاصيل المتعلقة بوليمة عشية الفصح والصلوات التي تصاحبها.
4 ـ شقاليم (الشواقل) :
من «شيقل» ،أي «شيكل» وهو «المثقال من الفضة» . ويحوي هذا السفر أحكام الضرائب والرسوم التي تتم جبايتها لصيانة الهيكل وتأمين نفقاته وتقديم الذبائح بصورة منتظمة. كما يتحدث بالتفصيل عن الأشياء التي تُنفَق من أجلها الشواقل، ويتضمن القوائم التي تسرد أسماء كبار العاملين الرسميين في الهيكل.
5 ـ يوما (اليوم) :(13/331)
يُعرف هذا السفر أيضاً باسم سفر «يوم الغفران» لأنه يتناول أنظمة هذا العيد وفرائضه داخل الهيكل، كما يَبسُط قوانين الصوم وأحكامه ويصف الاحتفالات والطقوس التي كان يترأسها الكاهن الأعظم في ذلك اليوم.
6 ـ سوكاه (المظلة) :
يحوي هذا السفر قوانين عيد المظال، وكيفية إقامة المظلة أو الخيمة، والإقامة تحتها سبعة أيام. كما يتحدث عن شعائر هذا العيد وصلواته، وعن النباتات الأربعة التي تؤخذ أغصانها لصنع المظلة.
7 ـ بيصة (بيضة العيد) :
ويُعرف أيضاً باسم «العيد» أو «يوم طوف» ، إذ يرسم الحدود التي تتحكم في إعداد الأطعمة أثناء الأعياد. كما يسرد مختلف أنواع الأعمال التي يُحظَر إتيانها أو يُسمَح بها خلال أيام العيد.
8 ـ روش هشاناه (رأس السنة) :
يتناول المسائل المتعلقة بالتقويم العبري ورؤية الأهلة للسنة الجديدة، مثلما يحوي القوانين التي تجب مراعاتها في مطلع الشهر السابع (تشري) ، أي رأس السنة المدنية عند اليهود.
9 ـ تعنيت (الصوم) :
ويتناول أحكام الصوم للأيام الرسمية أو المناسبات الطارئة على الصعيدين الشخصي والجماعي، وترتيب الصلوات التي تُتلى في ذلك اليوم.
10- مجيلاه (لفافة التوراة) :
ويتناول هذا السفر كتاب إستير (بالدرجة الأولى) لأنه يتناول أحكام قراءة قصة إستير في عيد النصيب. كما ترد فيه أحكام أخرى تتعلق بقراءة التوراة أثناء العبادات العامة.
11 ـ موعيد قاطان (العيد الصغير) :
ويُعرف هذا السفر أيضاً باسم «مشكين» ، نسبة إلى الكلمات الأولى في السفر. ويتناول أحكام العمل أثناء الأيام الفاصلة بين أوائل عيد الفصح وأواخره وبين عيد المظال. كما يتحدث عن الفرائض المتعلقة بالحزن والحداد.
12 ـ حجيجاه (قرابين الأعياد) :(13/332)
يتناول القوانين والأحكام المتصلة بالقرابين التي تُقدَّم في الأعياد، ويقارن بين شعائر الأعياد الثلاثة الكبرى، بالإضافة إلى الحديث عن فريضة الحج إلى القدس، وأنواع القرابين التي ينبغي تقديمها في مثل تلك المناسبات. ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا السفر يتضمن ذلك الاستطراد الشهير عن التعليم الباطني للتوراة، حيث تكثر التخريجات والشطحات الخيالية التي وجدت تربتها الخصبة في كتاب الزوهار، وكان لها أبعد الأثر في تعاليم القبَّالاه أو التصوف اليهودي.
جـ) السدر الثالث: سدر ناشيم (النساء) .
تشتمل أسفار هذا القسم من التلمود على قوانين الزواج والطلاق، وغير ذلك من الأحكام التي تحدد العلاقات بين الزوجين، وبين الجنسين بصورة عامة. وهي تبلغ السبعة عدداً، موزعة على أربعة مجلدات في طبعة سونسينو.
1 ـ يباموت:
وهذه الكلمة صيغة جمع مؤنث في اللغة العبرية مفردها «يَبَماه» ، واليبماه هي امرأة الأخ المتوفي التي يجب على أخيه الباقي على قيد الحياة الزواج منها. وهذا السفر يبدأ بالحديث عن الشرع التوراتي القائل بوجوب زواج الأخ من امرأة أخيه الذي تُوفي دون أن ينجب. كما يتناول الزيجات المحظورة بشكل عام، وحق الفتاة القاصر في إبطال عقد زواجها، بالإضافة إلى التقليد اليهودي المعروف باسم «خلع النعل» . و «خلع النعل» يتم عند امتناع الرجل عن أخذ امرأة أخيه عملاً بقوانين زواج الأرملة.
2 ـ كتوبوت (شئون الزواج والعقود) :
يتناول هذا السفر أحكام الاتفاق حول العروس والغرامة المتوجبة عن الإغواء، بالإضافة إلى واجبات الزوجين وحقوق الأرملة والأولاد المنحدرين من زيجات سابقة.
3 ـ نزاريم (النذور) :
يصف هذا السفر مختلف أشكال النذور، والأنواع غير الصحيحة منها، وكيفية إلغائها والتراجع عنها. كما يتحدث عن قوة إلغاء النذور التي نذرتها المرأة أو الابنة وألزمت نفسها بها.
4 ـ نازير (النذير أو الناذر) :(13/333)
ويتحدث هذا السفر عن النذر الذي يُلزم الناذر به نفسه وكيفية التخلي عنه، والأمور المحظورة على الناذر والقيمة التي تُعطَى لنذر النساء والعبيد.
5 ـ سوطه (المرأة المشبوهة) :
الموضوع الأساسي في هذا السفر هو المحنة التي تتعرض لها المرأة التي يشكك زوجها في إخلاصها، ويتهمها بارتكاب الزنى، والإجراءات التي ترافق ذلك. وهناك موضوعات أخرى تتعلق بالمعادلات والصياغات الدينية، ما يجوز منها بلغات أخرى، وما لا يصح إلا بالعبرية وحدها. كما يتحدث هذا السفر عن الأنواع السبعة من الفريسيين، وعن الإصلاحات التي أوجدها هيركانوس إلى جانب الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين أريسطوبولس وهيركانوس حينذاك.
6 ـ جيطين (كتب أو ثائق الطلاق) :
ويعرض بالتفصيل للظروف المختلفة التي تؤدي بالرجل إلى مناولة المرأة وثيقة طلاقها عندما يفسخ الزواج. وفي الشرع اليهودي، هناك أسباب معينة (كما هو الحال في الشرائع الدينية الأخرى) تخوِّل الزوج حق إرغام زوجته على قبول الطلاق، والعكس بالعكس. وصيغة المفرد من كلمة «جيطين» هي «جيط» ومعناها «كتاب الطلاق» أو «وثيقة الطلاق» .
7 ـ قدوشيم (التكريس) :
يتناول هذا السفر الشعائر والفرائض المتصلة بالخطوبة والزواج، كما يتحدث عن كيفية اقتناء العبيد والأقنان بصورة شرعية، وتملُّك العقارات، إلى جانب مبادئ الأخلاق وغير ذلك من المسائل المتعلقة بعقود الزواج والقران ... إلخ.
د) السدر الرابع: سدر نزيقين (الأضرار) .
وتُقسَّم الأسفار العشرة في هذا الجزء من التلمود إلى قسمين أساسيين: القسم الأول يضم الأسفار، أو الأبواب الثلاثة الأولى (الباب الأول والأوسط والأخير) وموضوعها العام هو القانون المدني. وفي التلمود الفلسطيني تندرج هذه الأسفار الثلاثة تحت واحد وشامل: قضايا المال. أما القسم الثاني، فيضم مقالتي «سنهدرين» ، و «ماكوت» في القانون الجنائي، وتأتي الأسفار الخمسة الباقية كملاحق لهما.
1 ـ بابا قاما (الباب الأول) :(13/334)
التسمية آرامية الأصل، والمُسمَّى يتناول أحكام الأضرار اللاحقة بالأملاك، والأذى المرتكب ضد الأشخاص بدافع إجرامي، أو على صعيد الجنحة. كما يعالج قضايا التعويض عن السرقة والسلب واقتراف العنف. ومن أحكامه الشائعة في شتى المصنفات والمقتبسات عن التلمود، ما يلي: إذا نطح ثور الإسرائيلي ثوراً يملكه رجل كنعاني، فإن صاحب الثور اليهودي لا يلتزم بشيء. أما إذا كان الثور الكنعاني هو البادئ بالنطح، فعلى صاحبه أن يتكفل بالتعويض الكامل عن كل عطل وضرر.
2 ـ بابا متسيعا (الباب الأوسط) :
ويتناول الأحكام المتعلقة بالأشياء المفقودة التي يتم العثور عليها، والبيع والمبادلة والربا والغش والاحتيال واستئجار العمال والبهائم، بالإضافة إلى الإيجار والتأجير والملكية المشتركة للبيوت والحقول.
3 ـ بابا باترا (الباب الأخير) :
يعالج هذا السفر القوانين المتعلقة بتقسيم أملاك الشراكة والعقارات، وقوانين التجارة، بالإضافة إلى القيود المفروضة على الأملاك الخاصة والعامة وحقوق الملكية والوراثة. كما يتناول مسألة التملك والتمليك، وإعداد مسودات الوثائق.
4 ـ سنهدرين (المحاكم القضائية) :
ويتناول تأليف مختلف المحاكم القضائية، وإجراءات المحاكمة، وعقوبات الموت والإعدام عن الجرائم الكبرى. فهو مليء بالقوانين المتعلقة بالمحاكمات والتحكيم والإجراءات القضائية في القضايا المالية وفي الجرائم الكبرى. كما يتضمن مواصفات كيفية تنفيذ أحكام الإعدام وعقوبات الموت، إلى جانب العقائد المتصلة بالديانة اليهودية. ويحوي السفر الشيء الكثير مما له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بمحاكمة السيد المسيح والعقوبة التي يجب إنزالها بالخارج على دينه.
5 ـ مكوت (الجلدات) :
يتحدث هذا السفر عن اليمين الكاذبة والحنث باليمين وشهادة الزور، وعن «مدن اللجوء» . بالإضافة إلى الآثام التي عقوبتها الجلد بالسياط، والأحكام المتعلقة بكيفية تنفيذ الجلد (39 جلدة) .(13/335)
6 ـ شبوعوت (القَسَم أو اليمين) :
يتناول هذا السفر مختلف أنواع اليمين، أي ما يحلفه الشخص بمفرده أمام المحكمة. ويمين المحكمة يصدق على الشهود والمتقاضين، مثلما يصدق على المراقبين والأوصياء.
7 ـ عيديوت (الشهادات) :
ويتضمن هذا السفر مجموعة من القوانين والأحكام المختلفة.
8 ـ عفوده زاراه (عبادة الأصنام) :
ويتحدث هذا السفر عن عبدة الأصنام والأوثان: شعائرهم وطقوسهم وأعيادهم. كما يتضمن مواصفات الأحكام التي ينبغي إنزالها بعبدة الأصنام، والذين يشاركونهم، أو يختلطون معهم عن طريق التعامل أو الاتصال الاجتماعي. ويتضمن السفر كثيراً من الأحكام والأقوال ذات الطابع الانتقامي التعويضي.
9 ـ آفوت (سفر الآباء) :
ويتضمن التعاليم والأقوال المأثورة عن آباء التراث اليهودي منذ السنهدرين الأكبر فصاعداً. وهو مليء بالتعاليم الأخلاقية والأقوال الحكمية المنسوبة في معظمها إلى معلمي المشناه (تنائيم) .
10 ـ هورايوت (الأحكام أو القرارات) :
ويتناول هذا السفر الأحكام الخاطئة التي تَصدُر عن السلطات الدينية في المسائل المتعلقة بالشعائر والطقوس. كما يتحدث عما يجب تقديمه من تضحيات وذبائح، إذا تَصرَّف الجمهور وفقاً لهذه التعاليم والأحكام الخاطئة.
هـ) السدر الخامس: سدر قداشيم (المقدَّسات) .(13/336)
يدور الموضوع الأساسي في هذا القسم من التلمود حول الطقس القرباني والتضحيات المتعلقة بالهيكل. وكانت معظم الفرائض والأحكام الواردة في أسفاره مرتبطة أشد الارتباط بوجود الهيكل. لكن الحاخامات، في فلسطين وبابل، تابعوا اهتمامهم بالطقوس القربانية والعبادات رغم هدم الهيكل وانقطاع الصلة بين الممارسة الفعلية والغرض الأساسي من وراء تلك الشعائر. ويحاول الحاخام الذي كتب مقدمة هذا الجزء في طبعة سونسينو إرجاع الاهتمام لدى المدارس الدينية المتأخرة بموضوع الطقوس القربانية إلى اعتبارات تاريخية أكاديمية وأخرى عملية على حدٍّ سواء. فمن جهة، كان هناك الأمل اليهودي في تطلُّعه الدائم إلى إعادة بناء الهيكل عاجلاً أم آجلاً واستعادة العبادة القربانية. لذا، فقد رأوا أن من واجبهم الإلمام بقوانين تلك الطقوس التي سوف تؤذن بالرجوع إلى سابق العهد. ومن جهة ثانية، نما اعتقاد الحاخامات بأن دراسة الشرائع والفرائض القربانية يمكنها أن تحل محل طقس الهيكل، وهي بالتالي لا تقل قيمة عن تقديم القرابين والتضحيات في حد ذاتها.
ويقسَّم هذا السدر إلى أحد عشر سفراً كما يلي:
1 ـ زباحيم (الذبائح) :
يحتوي هذا السفر على الأحكام المتعلقة بتقديم الذبائح الحيوانية على اختلاف أنواعها وعلى اختلاف المراحل التي تمر بها. كما يضع الشروط التي تجعل القرابين مقبولة أو غير مقبولة. ويسهب السفر في شرح الشعائر المتصلة برش الدماء، وإحراق القطع الدهنية أو الذبيحة الحيوانية كلها، إلى آخر تلك التفاصيل المتعلقة بهذه الممارسات.
2 ـ مناحوت (قرابين اللحوم والشراب) :
ويصف قواعد إعداد قرابين الطعام والشراب وكيفية القيام بها: من سكب الزيت على القرابين إلى الدقيق الملتوت، ومن حزمة أول الحصيد إلى الرغيفين المخبوزين «خميراً باكورة للرب» ، إلى الفطائر الاثني عشر التي تُخبَز من الدقيق أيضاً.
3 ـ حولين (الدنيويات) :(13/337)
ويتضمن هذا السفر مواصفات ذبح الحيوانات والطيور للاستهلاك العادي، بالإضافة إلى تعداد مختلف الأمراض التي تجعل أكل تلك الذبائح محرَّماً. وهناك معالجة عامة لجميع قوانين الأطعمة والأحكام التي ينبغي التقيد بها في إعداد الطعام.
4 ـ بكوروت (البواكير) :
ويتناول القوانين المتعلقة بالمواليد البكر من الحيوان والإنسان.
5 ـ عراخين (التقديرات) :
ويتضمن هذا السفر قواعد تحديد الكمية التي ينبغي تقديمها وفاءً لنذر ما للهيكل، بحيث يجري تقييم الشخص أو الشيء المنذور. ويختلف التقييم باختلاف السن والجنس (الذكر والأنثى) ، كما أن تجنيس البهيمة وتقييمها عائد إلى كاهن الهيكل. وعلاوة على التقييمات المذكورة، يتناول السفر القوانين التابعة لسنة اليوبيل.
6 ـ تموره (الإبدال أو البدل) :
ويتناول قواعد إبدال القرابين وتغييرها: الجيد بالرديء والرديء بالجيد، أي أن الموضوع يتعلق بتبديل بهيمة نجسة بأخرى سَبَق تقديمها على مذبح الهيكل.
7 ـ كريتوت (الرسوم الجزائية) :
ويعالج الآثام والأخطاء التي تخضع لعقاب القطع (كريتاه) أو الفصل فيما لو جرى اقترافها بمحض الإرادة. أما إذا جرى ارتكاب الخطيئة عن غير قصد، فلابد أيضاً من تقديم القرابين تكفيراً عنها. ويبحث هذا السفر كذلك الحالات التي يتوجب فيها تقديم القرابين بصورة غير مشروطة أو يتوجب فيها تعليق القرابين.
8 ـ معيله (الإثم والخطيئة) :
ويتناول هذا السفر مسألة انتهاك الحرمات والمقدَّسات وتدنيس الأشياء التابعة للهيكل أو المذبح.
9 ـ تاميد (التضحية اليومية أو المستمرة) :
ويصف خدمات الهيكل من حيث اتصالها بتقديم القرابين اليومية في الصباح والمساء، وخصوصاً الخراف التي ينبغي تقديمها على المذبح صباحاً وعشية.
10 ـ متروت (المقاييس والأبعاد) :(13/338)
يحتوي هذا السفر على مقاييس الهيكل ومواصفاته، سواء فيما يتعلق بالساحات والأبواب والقاعات، أو فيما يتعلق بالمذبح. كما يتضمن وصفاً للخدمات التي يؤديها الكهنة أثناء وجودهم في الهيكل، وأثناء قيامهم بحراسته وتدبير شئونه.
11 ـ قنِّيم (الأعشاش) :
ويسرد الأنظمة والأحكام المتعلقة بتقديم العصافير والطيور قرباناً للتكفير عن الخطايا والمعاصي التي يقترفها الفقراء. كما يتناول بعض الأحوال والشروط المتصلة بالنجاسة والقذارة. ويبحث حالة الخلط بين الطيور التي تخص مختلف الأشخاص أو التي تنتمي إلى قرابين مختلفة.
و) السدر السادس: سدر طُهاروت (التطهيرات) .
والواقع أن الموضوع المشترك بين أسفار هذا الجزء السادس والجزء الأخير من التلمود يتصل بأحكام الطهارة والنجاسة (أو الرجاسة) لدي الأشياء والأشخاص. وتؤلف هذه الأحكام جزءاً من مجموعة قوانين تتعلق بالطهارة اللاوية. ومما يجدر التنبيه إليه أن قوانين النجاسة هذه لم تكن سارية المفعول خارج فلسطين، فقد بطل معظمها في فلسطين بعد هدم الهيكل وطويت في عالم النسيان، إلا ذلك القانون المتعلق بأحكام الحيض لدى النساء فما زال ساري المفعول حتى أيامنا هذه. وقد أصبح التشديد محصوراً بالدرجة الأولى في مسألة النجاسة اللاوية وتَعدَّى نطاق العلاقات الزوجية. والمعروف أن أحكام الطهارة هذه تستند إلى عدد من الأوامر والنواهي الواردة في أماكن مختلفة من الأسفارالخمسة للتوراة، وبشكل خاص في الإصحاحات (11/15) من سفر اللاويين.
1 ـ كلائايم (الأواني والأوعية) :
ويتحدث هذا السفر عن قواعد النجاسة في الأواني والأدوات التي تُستخدَم للمنفعة البشرية، فيحاول تبيان الظروف والشروط التي تتحكم في نجاستها أو تجعلها عرضة للتنجس. والأواني تشمل الأثاث والملابس، وغير ذلك من أدوات الاستعمال.
2 ـ أُهالوت (الخيام) :(13/339)
ويتناول الخيام والمساكن باعتبارها ناقلة للنجاسة والرجس، سواء عن طريق جثة الميت، أو بواسطة الأواني والأوعية التي توجد معها تحت سقف الخيمة أو المسكن، حيث تنتقل منها إلى الأشخاص والأدوات الأخرى.
3 ـ نجاعيم (البَرَص والطواعين والأوبئة) :
يبسط القوانين المتعلقة بمعالجة البَرَص في البشر والألبسة والمساكن. كما يتضمن المواصفات الضرورية لتطهير الأبرص وطرد النجاسة من بدنه.
4 ـ باراه (العجلة الحمراء ـ البقرة الصغيرة) :
ويتحدث هذا السفر عن الخصائص الواجب توافرها في العجلة الحمراء (باراه أدوما) وصولاً إلى إعداد رمادها للاستخدام في التطهير من النجاسة والرجاسة.
5 ـ طُهاروت (تطهيرات) :
ويعالج أحكام النجاسة في الأطعمة والأشربة على اختلاف أنواعها ودرجاتها. كما يبين الشروط التي تتحكم في تنجيسها عن طريق الاحتكاك بمختلف مصادر النجاسة ودرجاتها.
6 ـ مقواؤوت (الآبار والخزانات) :
ويتضمن هذا السفر مواصفات الآبار والصهاريج والخزانات فيما يتعلق بالمتطلبات التي تجعلها صالحة شعائرياً للتطهير والتغطيس. كما يتناول القواعد الحاكمة في جميع أنواع التغطيس الشعائري والطقسي.
7 ـ نيدّه (الحائض والحيض) :
ويفصل القول في أحكام النجاسة الشرعية التي تنشأ لدى النساء بسبب الحيض والنفاس وبعد الولادة.
8 ـ مقشيرين (الاستعدادات) :
ويتناول الظروف التي تصبح الأطعمة بموجبها قابلة للنجاسة أو عرضة للتنجس بعد احتكاكها بالسوائل، كما يعدِّد السوائل التي تجعل الأطعمة في تلك الحالة.
9 ـ زافيم (الزاب ـ السيلان) :
ويتحدث هذا السفر عن نجاسة الرجال والنساء عند الإصابة بأمراض الزهري والسيلان المنوي وغير ذلك.
10 ـ طِّبول يوم (الغسل اليومي) :
ويبحث في طبيعة النجاسة لدى الشخص الذي قام بالغسل الشعائري (المفروض أثناء النهار) لتطهير نفسه، فإن عليه الانتظار حتى غروب الشمس لكي يُعتبر طاهراً ونظيفاً.
11 ـ ياديم (اليدان وتطهيرهما) :(13/340)
ويتناول نجاسة اليدين قبل الغسل وكيفية تطهيرهما بطريقة شعائرية مستمدة من الشريعة الشفوية، والتطهير يتم بالماء. ويتضمن إلى جانب ذلك بحثاً عن بعض أسفار التوراة، كما يسجل شيئاً من المناظرات والخلافات التي دارت بين الصدوقيين والفريسيين.
12 ـ عقصين (سويقات الثمار وقشورها) :
ويعرض للظروف والشروط التي تصبح بموجبها سويقات النبات والثمر قابلة لنقل النجاسة إلى الثمار والنباتات المتصلة بها والعكس بالعكس، أي كيف تتنجس هذه الأشياء لدى ملامستها الأشياء النجسة.
الموضوعات الأساسية الكامنة في التلمود
Major Themes in the Talmud
منذ نهاية القرن السابع للميلاد، ومع مطلع القرن الثامن، صار التلمود العامل الجوهري في التجربة الدينية للجماعات اليهودية، إذ أصبح المعيار السائد المقبول في كل ما يتعلق بحياة اليهود وأعمالهم ونشاطهم الفكري. حتى أننا حينما نتحدث عن «اليهودية» بعد ذلك التاريخ، فإننا في واقع الأمر نتحدث عن «اليهودية الحاخامية» ، أي «التلمودية» . وقد استُخدم التلمود حتى نهاية القرن التاسع عشر أساساً للتربية بين أعضاء الجماعات اليهودية، فكان الدارسون في كثير من الجماعات اليهودية في الغرب يستذكرونه سبع ساعات يومياً طوال سبع سنوات.(13/341)
والتلمود سجل المحاولات التي بذلها حاخامات اليهود لتفسير العهد القديم بما يتناسب مع وضع اليهود باعتبارهم جماعات منتشرة في العالم وليس باعتبارهم شعباً مستقراً في أرضه له عاصمته وهيكله وديانته المرتبطة بالأرض والعاصمة والهيكل. وهو أيضاً تعبير عن محاولة اليهودية الحاخامية (التلمودية) عزل جماهير اليهود عن بقية الشعوب، وخصوصاً بعد ظهور المسيحية التي اتخذت من العهد القديم كتاباً مقدَّساً، وأكملته وعدلته بالعهد الجديد. والآلية الكبرى لتعميق العزلة هي تغليب الطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي على غيرها من الطبقات والنزعات بحيث يحل الإله في الشعب ويملؤه قداسةً تعزله عن العالم المدنَّس العادي حوله، وهذه الانعزالية مسألة عادية في معظم المجتمعات الوثنية وفي كثير من المجتمعات التقليدية التي كانت تشجع الفصل بين الطبقات والجماعات الدينية وتسهل عملية إدارة شئونها. بل تُعَدُّ مسألة حيوية وأساسية بالنسبة للجماعات الوظيفية المالية وهو الدور الذي اضطلعت به معظم الجماعات اليهودية في العالم حتى بدايات القرن التاسع عشر. فبدون الانعزالية، لم يكن بإمكان أعضاء الجماعات الوظيفية الاحتفاظ بحيادهم وتعاقديتهم وموضوعيتهم وهي أمور لازمة وأساسية للقيام بالأعمال المالية في المجتمعات التقليدية. ولكن هذه الانعزالية، في حالة الجماعات اليهودية، شأنها في هذا شأن أية جماعة وظيفية أو أقلية تُوجَد في الوضع نفسه، كانت تأخذ في الغالب شكل التعالي على الناس. وقد تعمقت الانعزالية حتى أصبح التعارض بين اليهود وغير اليهود (الأغيار) من المقولات الأساسية في التلمود وفي غيره من الكتابات الفقهية اليهودية.(13/342)
والحلولية تيار مهم في العهد القديم، ولكنها تضخمت واتسعت في التلمود بحيث يمكننا اعتبار التصور التلمودي للإله يشكل نكسة للفكر التوحيدي وللرؤية التي طرحها الأنبياء في العهد القديم. فالتلمود يخلع العديد من الصفات الإنسانية واليهودية على الإله. والعصمة ليست من صفاته، فهو يكون مشغولاً خلال اثنتى عشرة ساعة يومياً: يقرأ التوراة في الساعات الثلاث الأولى، ويحكم العالم في الثلاث التالية، ويفكر في إفناء العالم، ثم يترك كرسي القضاء إلى كرسي الرحمة، ويجلس في الساعات الثلاث التالية يرزق العالم كله من أكبر الحيوانات إلى أصغرها. وفي الثلاث الأخيرة، يلعب مع التنين أو الحوت. والإله، في التلمود، متعصب بشكل كامل لشعبه المختار، ولذا فهو يعبِّر عن ندمه على تركه اليهود في حالة تعاسة وشقاء حتى أنه يلطم ويبكي. ومنذ أن أمر بهدم الهيكل وهو في حالة حزن وندم، توقف عن اللعب مع التنين الذي كان يسليه، وأصبح يُمضي وقتاً طويلاً من الليل يزأر كالأسد. ولكنه في آخر الأيام، بعد إقامة المجتمع اليهودي الأمثل في العصر المشيحاني، في ظل الدولة المستعادة، يجلس على العرش يقهقه لانتصار شعبه، وعبثآً يتوافد الوثنيون طالبين قبولهم. ويتبدَّى التعصب الإلهي في أنه حينما يأتي الماشيَّح سيصبح كل الناس عبيداً لجماعة يسرائيل.(13/343)
وتظهر الحلولية والانعزالية في تلك القداسة التي تحيط بالتلمود. وهو في الواقع ـ كما أسلفنا ـ مجرد تفسير للعهد القديم وضعه الحاخامات، إلا أنه، مثله مثل كل كتب التفسير اليهودية، يكتسب قداسة خاصة. وقد سيطرت أسطورة الشريعة الشفوية على الوجدان اليهودي سيطرة تامة بعد ظهور المسيحية، فكان يُنظر إلى التلمود في بداية الأمر باعتبار أنه يأتي في المرتبة الثانية بعد التوراة، ولكنه أصبح بعد حين يُلقَّب بالتوراة الشفوية، أي صار مساوياً لتوراة موسى في المرتبة، ولم يَعُد في وسع أي يهودي مخالفته. وأخذت درجة قداسته في الازدياد والاتساع حتى أصبح أكثر قداسة من التوراة نفسها. وقد قال أحد الحاخامات: «يا بني كن حريصاً على مراعاة أقوال الكتبة [أي الحاخامات واضعي التلمود] أكثر من حرصك على أقوال التوراة، لأن أحكام التوراة تحوي الأوامر والنواهي. أما شرائع الكتبة، فإن من ينتهك واحدة منها يجلب على نفسه عقوبة الإله» . وقد جاء أيضاً أنه: «لا خلاص لمن ترك التلمود واشتغل بالتوراة لأن أقوال علماء التلمود أفضل مما جاء في شريعة موسى، وهي أفضل من أقوال الأنبياء» .
وفي معرض تقديس التلمود والإيمان المطلق بكل ما دوَّنه الحاخامات فيه، ورد في التلمود أن خلافاً ما قد وقع بين الإله وعلماء اليهود حول أمر ما. وبعد أن طال الجدل، تقرَّر إحالة الأمر موضع الخلاف إلى أحد الحاخامات الذي حكم بخطأ الإله الذي اضطر إلى الاعتراف بخطئه. وفي هذا المقام أيضاً، ردد بعض الحاخامات أن الإله يستشير الحاخامات على الأرض إذا صادفته مسألة معضلة يتعذر عليه حلها في السماء. وهكذا اختل التوازن الحلولي، كما هو الحال دائماً، لصالح المخلوقات من الحاخامات على حساب الإله.(13/344)
ويظهر ارتباط الانعزالية بالحلولية في فكرة الاختيار، فقد جاء في التلمود أن الإله اختار اليهود لأنهم اختاروه، وهي عبارة تفترض المساواة بين الإله والشعب. (كان يرددها بن جوريون برضا شديد، وهي تشكل أساس فلسفة بوبر الحوارية، ونقطة انطلاق لكثير من النزعات الحلولية المعاصرة في اليهودية ولصهيونية جوش إيمونيم الحلولية) .
وتساءل كُتَّاب التلمود عن سبب تشبيه اليهود بشجرة الزيتون، وترد الإجابات التالية:
1 ـ لأن شجرة الزيتون لا تفقد أوراقها، كما أن كل اليهود لن يضيعوا في هذا العالم أو العالم الآتي.
2 ـ وكما أن الزيتون لا ينتج زيتاً إلا بعد العصر والضغط عليه، فإن أعضاء جماعة يسرائيل لن يعودوا كذلك إلى جادة الصواب إلا بعد الآلام والعذاب.
3 ـ شُبِّه اليهود بحبة الزيتون لأن زيت الزيتون لا يمكن خلطه مع المواد الأخرى. وكذلك جماعة يسرائيل، لا يمكن أن تختلط مع الشعوب الأخرى. ويدَّعي التلمود أن روح الإله من روح الشعب كما أن الابن جزء من أمه، ولذا فمن يعتدي على يهودي فهو كمن يعتدي على العزة الإلهية، ومن يعادي جماعة يسرائيل أو يكرهها فإنه يعادي الإله ويكرهه، وخصوصاً إذا عرفنا أن الإله كان يقطن بينهم حينما كانوا في أرض الميعاد، وأن الشخيناه (التعبير الأنثوي عن الإله) بقيت معهم حينما نُفوا خارجها إذ أن موسى طلب ذلك من الإله.(13/345)
وكان الاختيار في بادئ الأمر تلقائياً نابعاً من رحمة الإله وإرادته الإلهية، ولكن اليهود ـ حسب الرؤية التلمودية الحلولية ـ بينوا أنهم جديرون بهذا الاختيار. ولذا، تحوَّل الاختيار من مجرد منحة من الإله إلى حق من حقوقهم مُلزم له وإلى دين عليه أن يؤديه حتى لو ضلوا الطريق. وقد جاء في التلمود على لسان الإله: «لن أعامل جماعة يسرائيل كالأمم الأخرى، حتى وإن لم تعمل حسنات إلا قليلاً تافهاً كروث الدجاج المتناثر في الحظيرة، فسأجمع هذه الحسنات ليكون لها حسنات كثيرة» . وهكذا اختل التوازن الحلولي لصالح اليهود مرة أخرى، وإن كان هناك رأي تلمودي مغاير يرى أن الاختيار تكليف إلهي وعبء مُلقى على كاهل اليهود عليهم أن يضطلعوا به. والتوراة هي ميراث الشعب المختار وحده، ومن يدرسها من الأغيار يستحق الموت (ولكن ثمة رأياً تلمودياً مغايراً يرى أن الوثني الذي يدرس التوراة هو في منزلة الكاهن الأعظم) .
هذه النزعة الانعزالية المتعالية توجد في معظم صفحات التلمود المليء بالأحكام الموجهة ضد غير اليهود (وخصوصاً سفر عفوده زاره أو عبادة الأوثان) ، فلن يدخل الجنة سوى اليهود. وقد خلق الإله الأغيار على هيئة الإنسان لكي يكونوا لائقين بخدمة اليهود الذين خُلقت الدنيا من أجلهم، إذ ليس من الملائم أن يقوم حيوان على خدمة الأمير، وهو على صورته الحيوانية. ولا يُعتدُّ بشهادة غير اليهودي أمام المحاكم إلا في حالات قليلة. وإذا وقع أذى بشخص، فمن المهم جداً تحديد هل هذا الشخص يهودي أم لا، بل إن هذا التمييز يسري أيضاً في المعاملات التجارية. وفي مسائل الطهارة، يعتبر الأغيار أنجاساً في حياتهم. ولكن مقابرهم، باعتبار أنها غير مقدَّسة، لا تنجس الكهنة. والعكس صحيح بالنسبة إلى اليهود، فهم طاهرون في حياتهم وقبورهم مصدر نجاسة أساسي للكهنة اليهود.(13/346)
ويتناسى التلمود الفرق بين الأخيار والأشرار من الأغيار، رغم أنه تمييز أساسي في العقيدة اليهودية نفسها. بل إن التلمود يطلب أحياناً إلى اليهود أن يستخدموا مقياسين أخلاقيين: أحدهما للتعامل مع اليهود، والآخر للتعامل مع غير اليهود (انظر: بابا متسيعا 95 أ، وبابا قما 113 أ) . وقد جاء في التلمود أنه لا يصح أن يباع لليهودي الشيء الذي يحتمل فساده إن تُرك، ولكنه من الممكن أن يُباع لغير اليهودي، كما يُحرَّم على الطبيب اليهودي أن يعالج مريضاً غير يهودي (إلا لدرء أذى الأغيار) .
ولأن التلمود يرى أن اليهود وحدهم يجسدون روح الإله، لذا نجده لا يرحب بالمتهوِّدين. وقد ورد فيه «إن المتهوِّدين مثل القذى في عين جماعة يسرائيل» وهو موقف لا يزال يسيطر على المؤسسة الأرثوذكسية وريثة التراث التلمودي في إسرائيل. وكان اليهودي يشكر إلهه على أن مكانه «بين أولئك الذين يجلسون في بيت الدراسة والمعبد [أي اليهود] ولم تجعل مكاني بين أولئك الذين يذهبون إلى المسارح والسيرك [أي غير اليهود] » . وحتى حينما كان بعض المفسرين ينصحون اليهود بعدم الكذب على الأغيار، فإنهم يصرون على ضرورة عدم الاحتكاك بهم، أو الدخول معهم في علاقة. وقد قال أحد الشارحين في القرن السابع عشر في بولندا إن من الواضح أن التوراة تأمر اليهود بأن يحتفظوا بالكراهية بينهم وبين الأغيار حتى يبعدوا خطر الزواج المُختلَط. ولذا، فلا يمكن السماح بتلك الأفعال التي قد تقلل الكره بين اليهود والأغيار. وتصل النزعة المتعالية ذروتها في عبارة: «اقتل أفضل الأغيار، اسحق رأس أنبل الأفاعي» . وقد اقتبس أحد كتيبات الحاخامية العسكرية الإسرائيلية هذه العبارة التلمودية التي أثارت ضجة داخل إسرائيل وتصدَّى لها بعض القادة الدينيين ووصفوها بأنها تشويه للعقيدة اليهودية.(13/347)
فالحلولية إذن هي الإطار الفلسفي، والانعزالية والتعالي الإثنيين هما الترجمة العملية لها. ولكن التلمود كتاب جيولوجي ضخم يضم موضوعات شتى وتراكمت فيه رؤى وآراء مختلفة، فكل العقائد اليهودية المعروفة قد دُوِّنت وصُنِّفت فيه، بشكل واضح أحياناً، وبشكل غامض مشوش أحياناً أخرى. كما يضم التلمود أيضاً موضوعات وطرائف لا تنضوي بالضرورة داخل إطار فلسفي واضح، أو رؤية دينية محددة، فهو يتحول أحياناً إلى مجرد وثيقة اجتماعية لا توجه الواقع وإنما تعكسه وحسب. فصفحات التلمود تعكس وضع اليهود الاقتصادي كجماعة وظيفية تعمل بالتجارة. ولذلك، كان على اليهودي، حسب التقاليد التلمودية، أن يتلو ثلاث تسبيحات شكر كل يوم لأن الإله خلقه يهودياً، ولأنه لم يخلقه امرأة ولم يخلقه فلاحاً. وقد جاء أنه «لا يوجد عمل أكثر امتهاناً من فلاحة الأرض» . ومع هذا، هناك أقسام طويلة في التلمود عن الزراعة وقوانينها وأفضالها. ومن أهم أنواع التجارة التي مارسها أعضاء الجماعات اليهودية تجارة الرقيق. ولذا، فإننا نجد أن التلمود نظم عملية امتلاك عبد من الأغيار. فهو يُمتلَك بالشراء أو بالصك أو بالخدمة الفعلية. ويوجد في التلمود صيغة لاستمارة يتم ملؤها للحصول على عبد تقول: «هذا العبد تم استعباده بصورة قانونية وليس له أي حق من حقوق الأجراء، وليست له مطالب يقدمها للملك أو الملكة. وليست به أية علامة إنسانية، وهو خال من أية عيوب جسدية ومن أية علامة في الجلد تدل على إصابته بالبرص سواء حديثاً أم في الماضي» . وكانت طبقة العبيد مُحتَقرة كما كان يسود الاعتقاد بأنهم كسالى: «هناك عشرة مقاييس من النوم نزلت إلى العالم، فأخذ العبيد تسعة منها وأخذ بقية الناس الواحد المتبقي» . ولا يتمتع العبد بثقة كاتبي التلمود، فهو لا يُعَدُّ إنساناً، ولذا فليس بإمكان اليهودي أن يصلي معه أو أن يصلي عليه أو يسير في جنازته.(13/348)
ولا يقتصر التلمود على حياة اليهود العامة، وإنما يمتد ليشمل أخص خصوصياتهم. فهو يتناول، ضمن ما يتناول، كل دقائق إعداد الطعام وتناوله والعلاقات الخاصة بين الرجل وزوجته والطمث. وينبعث من صفحات التلمود احتقار عميق للمرأة، وقد كتب أحدهم يقول: «هناك أربع خصائص للنساء: فهن شرهات، ومتصنتات وكسولات وغيورات، وهن أيضاً كثيرات الشكوى وثرثارات» . وقد أفاض التلمود بشأن الصفة الأخيرة: "نزلت إلى العالم عشرة مقاييس للكلام، أخذت النساء تسعة منها وأخذ الرجال واحداً".
والتلمود كتاب طبي أيضاً. ولذا، فإننا نجد فيه وصفات طبية عديدة، فهو ينصح بضرورة التعرض للماء البارد بعد حمام ساخن. كما نجد في التلمود شرحاً لأسباب الإمساك وطريقة معالجته. وينصح التلمود أيضاً بأن من: «يطيل البقاء في المرحاض، يطيل الرب أيامه وسنيه» . وهناك صلاة شكر تُتلى بعد تلبية نداء الطبيعة.
وعلاوة على كل هذا، يمكن اعتبار التلمود كتاب فولكلور يعكس شتى الممارسات والآراء الخرافية التي كانت سائدة في مكان نشأته، سواء في بابل أو في الأماكن الأخرى التي عاش فيها الشارحون. ولأن كُتَّاب التلمود يدورون في نطاق حلولي، فإننا نجدهم يؤمنون بإمكانية التحكم الكامل والتوصل للحل السحري (الغنوصي) وبفاعلية العلاجات العجائبية والعقاقير الشيطانية والسحر والرقى والتعاويذ. والتلمود أيضا كتاب تنجيم وسحر وتفسير أحلام. ومما يُذكَر فيه أن قارئه الراغب في رؤية العفاريت رؤية العين يمكنه ذلك باتباع خطوات تم تحديدها بدقة متناهية، وإن أراد طرد العفاريت فصفحاته تضم تعاويذ تفي بذلك الغرض. وتصل الحلولية إلى ذروتها (أو هوتها) حين يؤكد التلمود أن الحاخامات كانوا قادرين على الخلق، فقد ذكر أن حاخاماً خلق مرة إنساناً بأن نطق اسم الإله الأعظم وأرسله إلى الحاخام زعيرا الذي تحدَّث إليه، ولكنه لم يستطع أن يجيب، فتعجب الحاخام قائلاً: «أنت مخلوق بفعل السحر، ارجع إلى التراب» .(13/349)