ويستخدم فوكوياما نموذج العلوم الطبيعية (المادية) لتفسير التاريخ. فالعلوم الطبيعية الحديثة تمثل النشاط الاجتماعي المهم الوحيد الذي يُجمع الناس على أنه يتسم بالنمو والتراكم والغائية، ومن ثم يقرر فوكوياما أن منطق العلوم الطبيعية الحديثة يبدو كأنه يفرض على العالم (الطبيعة والإنسان) تطوراً شاملاً يتجه صوب الرأسمالية والسوق الحر، أي أن ما تمكن تسميته «الرأسمالية العلمية» ، الممثل الوحيد والحقيقي للمبدأ الطبيعي/المادي الواحد، قد حلت محل ما كان يُسمَّى «الاشتراكية العلمية» ، التي كانت تدَّعي لنفسها شرف تمثيل المبدأ الطبيعي. وبذا، تَحوَّل الإنسان في الشرق والغرب إلى الإنسان الاقتصادي (المادي) الذي يمكنه إدارة حياته على أسس علمية رشيدة.(2/263)
ولكن يبدو أن فوكوياما، بعد أن استخدم نموذج العلوم الطبيعية/المادية بهذه السوقية والفجاجة، وبعد أن أكد أسبقية المادة على الإنسان بشكل مطلق، يحاول أن يراجع نفسه ويقرر أن يُدخل عنصراً إنسانياً غير مادي (وهذا نمط متكرر في الأيديولوجيات المادية العلمانية كافة، فهي لا تستطيع أن تواجه وحشية ماديتها، ومن هنا فإنها تُدخل مُحسِّنات روحية معرفية) . والعنصر الإنساني غير المادي الذي يُدخله فوكوياما هو سعي البشر إلى نيل الاعتراف بقدرهم أو الاعتراف بقدر الأشخاص أو الأشياء أو المبادئ التي يعتقدون أن لها قدراً كبيراً (وهو ما يُسمَّى «عزة النفس» ) . والديموقراطية الليبرالية ستحقق كل ما يريده الإنسان على المستويين الاقتصادي (المادي) والإنساني (غير المادي) . ولكن رغم كل هذه المحسنات، نجد أن فوكوياما يثير الشكوك حول إمكان أن يؤدي التطور التاريخي العلمي إلى سعادة الإنسان، فالتأثير النهائي لهذا التطور على سعادة البشر أمر غامض. بل إن فوكوياما يورد، بقدر من الاستحسان، عبارة من كتابات كوجيف (مفسر هيجل الذي يعتمد عليه فوكوياما) يقول فيها: "إن اختفاء الإنسان بانتهاء التاريخ ليس بكارثة كونية [طبيعية/مادية] . فالعالم الطبيعي [المادي] سيبقى كما كان عليه منذ البداية. ولا هو بكارثة بيولوجية، فالإنسان سيبقى حياً كالحيوانات منسجماً مع الطبيعة/المادة". أما ما سيختفي، فهو الإنسان بمعناه الشائع؛ والإنسان بمعناه الشائع أمر حضاري تاريخي مُركَّب لا يهتم به الماديون الطبيعيون كثيراً.(2/264)
إن إعلان فوكوياما نهاية التاريخ هو إعلان نهاية الإنسان وانتصار الطبيعة/المادة، أي الموضوع (اللاإنساني) على الذات (الإنسانية) ، ومعناه تَحوُّل العالم بأسره إلى كيان خاضع للقوانين الواحدية المادية (التي تجسدها الحضارة الغربية) التي لا تُفرِّق بين الإنسان والأشياء والحيوان والتي تُحوِّل العالم بأسره إلى مادة استعمالية، فنهاية التاريخ هي في واقع الأمر نهاية التاريخ الإنساني وبداية التاريخ الطبيعي.
ب) صموئيل هنتنجتون وصدام الحضارات:
أشار بعض المحللين السياسيين إلى أن أطروحة هنتنجتون هي عكس أطروحة فوكوياما، فبينما يعلن الأول تَصاعُد الصراع بين الحضارات يعلن الثاني انتهاء الجدل والتدافع والتاريخ. والأمر هو بالفعل كذلك لو قنعنا بالمستوى التحليلي السياسي وبنقل الأفكار، أما إذا تعمقنا وحاولنا الوصول إلى المستوى المعرفي فإننا سنجد أن الأمر مختلف تماماً.
يبدأ هنتنجتون بتأكيد أن دور الدولة القومية كفاعل أساسي في الصراعات الدولية قد تَراجَع (ولم يختف كليةً) ، وظهر بدلاً من ذلك الصراع بين الحضارات والثوابت الحضارية. وقد نشب هذا الصراع نتيجة دخول الحضارات غير الغربية كعناصر فاعلة في صياغة التاريخ، أي أن الغرب لم يَعُد القوة الوحيدة في هذه العملية. فالصراع ليس حتمياً وإنما هو نتيجة دخول لاعبين جدد!(2/265)
واستخدام هنتنجتون لكلمة «حضارة» يعادل تقريباً استخدام كلمة «معرفي» عندنا. فلكل حضارة ـ حسب رؤية هنتنجتون ـ رؤية للكون تدور حول العلاقة بين الإنسان والإله (الفرد والمجتمع ـ الجزء والكل) ، وتُؤسَّس على هذه الرؤية للكون منظومات معرفية وأخلاقية تحدد تراتب المسئوليات والحقوق (المساواة والسلطة ـ الفرد والأسرة ـ المواطن والدولة ـ الصراع والاتساق) . هذه الرؤية للكون أمر متجذر في البشر عبر قرون طويلة ولا يمكن أن يُمحَى أثرها في سنوات قليلة، وما يراه أهل حضارة معينة أمراً أساسياً قد يراه آخرون هامشياً. ويؤكد هنتنجتون أن أساس اختلاف الحضارات هو التاريخ واللغة والحضارة والتقاليد، ولكن أهم العناصر طراً هو الدين (نلاحظ بشكل جانبي أن طريقة هنتنجتون في التصنيف ليست جيدة، فهو يورد عناصر متداخلة مثل التقاليد والتاريخ باعتبارها عناصر مستقلة تمام الاستقلال، كما أنه يذكر العناصر بشكل رأسي وكأنها جميعاً متساوية، ولكن يجب أن نذكر أنه يعطي مركزية سببية للدين) . فكأن هناك صراعاً حضارياً في العالم هو في واقع الأمر صراع ديني. وبعد أن يبلور هنتنجتون أطروحته بهذا الشكل (الحضارة الغربية مقابل الحضارات غير الغربية) يعطي انطباعاً بأن ثمة تنوعاً حضارياً هائلاً في العالم (ومن هنا حديثه عن الحضارة الغربية الأرثوذكسية مقابل البروتستانتية والكاثوليكية، والحضارة الكونفوشيوسية والحضارة الإسلامية اللتين يرى أنهما يمارسان نوعاً من التعاون في اكتساب القوة والثروة) .(2/266)
ولكننا لو دققنا النظر لوجدنا أن التعددية التي يطرحها هنتنجتون واهية زائفة إذ تطل الثنائية الصلبة بوجهها، فالعالم ينقسم إلى قسمين اثنين: الغرب من ناحية وبقية العالم من ناحية أخرى (أو كما يقولون بالإنجليزية: ذا ويست آند ذا رست the West and the rest) ، ولوجدنا أن العالم بأسره يتحرك في واقع الأمر نحو الغرب (تماماً مثلما بشَّر فوكوياما) . وسنكتشف أن كلمة «الغرب» تعني في واقع الأمر «الحداثة» ، فثمة تَرادُف بين هاتين الكلمتين عند هنتنجتون (وهناك كلمات أخرى مثل «السوق الحرة» و «الديموقراطية» و «الفردية» تؤكد هذا الترادف) . أو كما يقول هنتنجتون "إن الحضارة الغربية حديثة وغربية"، أي أن التحديث هو التغريب، ومن ثم فإن "من يود أن يُحدَّث فليُغرَّب". وهو يقتبس باستحسان بالغ كلمات نايبول (الكاتب الجامايكي الذي تَخصَّص في تأليه الغرب وتجريح العالم الثالث، ومنه وطنه الأم، الهند، كما تَخصَّص في الهجوم على الإسلام) : "إن الحضارة الغربية هي الحضارة العالمية التي تناسب كل الناس"، ومعنى ذلك أن الحضارة الغربية حالة طبيعية، صفة لصيقة بطبيعة الإنسان، ومن ينحرف عنها فهو إنسان غير طبيعي وشاذ! وهذا يعني أن التاريخ يتبع مساراً واحداً وأن هنتنجتون يؤمن بالنموذج أحادي الخط، رغم كل حديثه عن التعددية والصراع.(2/267)
ويتضح هذا الإيمان بالنموذج أحادي الخط في الأمثلة التي يسوقها في مقاله. فهو يذكر أنه اكتشف، أثناء مقابلة له مع رئيس جمهورية المكسيك، أن هذا الأخير يود أن يحوِّل بلده من بلد أمريكي لاتيني إلى بلد أمريكي شمالي (أي يحاول أن يجعلها تلحق بركب الحضارة الغربية والطبيعية!) ، ولا يملك هنتنجتون إلا أن يُعبِّر عن إعجابه العميق بعملية التطبيع هذه، التي ستجعل المكسيك متسقة مع قوانين الطبيعة وأمريكا الشمالية، وتقوِّم إنحرافها عن الصراط المستقيم. هذ هو الإيمان المستقر. ولكن رئيس جمهورية المكسيك، هذا الذي يعرف أمور السياسة، يحذره من الإفصاح عن هذا الإيمان ويقول: "لا يمكن أن نقول ذلك علناً"، إذ أن السيد الرئيس يعرف أن جماهير الشعب تتمسك بالخصوصية والأصالة ولا تدرك، كما يدرك هو وكما يدرك هنتنجتون بطبيعة الحال، أن الخصوصية زخرفة يمكن الاستغناء عنها، وأن الهوية إضافة لا مبرر لها. ولحل هذه الإشكالية لابد من الحديث عن الخصوصية والأصالة ذراً للرماد في العيون مع الاستمرار في عمليات التحديث والتغريب والتطبيع. وهذا ما فعله أوزال رئيس جمهورية تركيا، هذا الذي يؤمن بالتحديث كتغريب وتطبيع، ومع هذا أدى فريضة الحج إلى مكة.
هؤلاء هم أبطال هنتنجتون، رجال يؤمنون بأن الحضارة الغربية حضارة عالمية تناسب كل الناس في كل زمان ومكان، ولذا فبطله الأساسي هو أتاتورك الذي قام بأشمل وأسرع عملية تحديث وتغريب (انطلاقاً من إيمانه بضرورة التخلص من الهوية والخصوصية والماضي) حتى يصل بمجتمعه إلى الحالة الغربية الطبيعية/المادية الحديثة، وهي حالة ـ على كلٍّ ـ سيصل إليها المجتمع في نهاية الأمر، شاء أم أبى، من خلال قوانين التقدم التاريخية الطبيعية العلمية الحتمية.(2/268)
ولكن كل حضارة، كما يؤكد هنتنجتون، تستند إلى رؤية دينية، فما البُعد الديني للحضارة الغربية؟. يعلن هنتنجتون أن قيم الحضارة الغربية هي الديموقراطية والاقتصاد الحر وفصل الدين عن الدولة والليبرالية والدستورية وحقوق الإنسان. وفي الواقع، فإن ما يود هنتنجتون أن يقوله هو أن الأساس الديني الثابت للحضارة الغربية هو فصل الدين عن الدولة (وهو يُظهر هنا مرة أخرى عدم مقدرته على التصنيف الذكي والترتيب الدال، ولكن ما يهمنا هنا هو أن النموذج الفكري كامن وواضح) . ولابد أن إعجابه بأتاتورك ينبع من هذا الإيمان الحار بالعلمانية، وليس من قبيل الصدفة أن يقتبس كلمات المستشرق الأمريكي اليهودي العنصري برنارد لويس حين يتحدث عن نشوب ثورة من جانب الحضارة غير الغربية "ضد التراث اليهودي/المسيحي وضد حاضرنا العلماني وضد انتشارهما عالمياً"، فالعنصر اليهودي/المسيحي ينتمي للماضي (مجرد تراث) ، أما الحاضر فهو العلمانية، أما الوعد فهو الانتشار، أي أن ثمة ترادفاً بين الغربي والعلماني والإمبريالي التوسعي (يفترض فؤاد عجمي هذا الترادف في مقاله الذي رد به في مجلة الشئون الخارجية على هنتنجتون، فهو يتحدث عن عمليات العلمنة في الهند وتركيا باعتبارها عمليات تغريب وتحديث) . والواقع أن مفهوم الدولة الممزقة أو المتمزقة (بالإنجليزية: تورن ستيت torn state) الذي يستخدمه هنتنجتون يفترض هذا الترادف، فهي دولة ممزقة بين الحديث والغربي والعلماني من جهة، وبين تراثها وهويتها وقيمها من جهة أخرى.
ثمة ثنائية حادة واستقطاب متطرف في عالم هنتنجتون بين الأنا الغربي (الحديث العلماني) من جهة، والآخر (غير الغربي غير الحديث غير العلماني) من جهة أخرى، وهي ثنائية لابد أن تُمحَى، وهذا هو في واقع الأمر صراع الحضارات، أي صراع الحضارة الغربية الحديثة العلمانية ضد الحضارات الأخرى. وهي نفس الثنائية الكامنة في عالم فوكوياما وفؤاد عجمي.(2/269)
ولكن نقطة الاختلاف الأساسية بين الثلاثة تكمن في الاختلاف حول سرعة الوصول، ففوكوياما زادت حرارته المشيحانية فتَعجَّل وأعلن أننا قد "وصلنا" و"عدنا" ولذا فهو يُعلن نهاية الآخر وانتصار الذات ونهاية التاريخ وبداية الفردوس الأرضي، بينما يرى فؤاد عجمي أننا قد بدأنا كلنا نستحث الخطى ولكننا لم نصل بعد. أما هنتنجتون فهو أقل تفاؤلاً من كليهما، فهو يرى أن الطريق إلى النهاية الفردوسية الطبيعية في لحظة الوصول ليست بهذه البساطة. وحتى يوضح وجهة نظره، فإنه يشير إلى تلك الأيام الجميلة حينما كان الغرب يهيمن على المؤسسات السياسية والأمنية الدولية والاقتصادية ثم تغيَّر الأمر بعد ذلك إذ ظهر لأول مرة بعد إعلان حقوق الإنسان (وهو إعلان علماني تماماً يستند إلى فكرة القانون الطبيعي) دول لا تؤمن لا بالتراث المسيحي/اليهودي (أي تراث الحضارة الغربية) ولا بالقانون الطبيعي (التحديث على الطريقة الغربية والعلمانية) . وقد زادت هذه الدول عدداً وأصبحت الآن في المقدمة. وهذه الدول التي لا تنضوي تحت المنظومة الغربية لا تحث الخطى نحو النهاية الموعودة (والاستسلام للآخر لمحو الثنائية) إذ أن بعضها بدأ (على حد قول جورج ويجيل الذي يقتبس هنتنجتون كلماته) يتراجع عن عمليات العلمنة والتغريب في العالم وبدأت تقاوم، بل قد تتحالف مع بعضها ضد الفردوس الأرضي ونهاية التاريخ وحالة الطبيعة. ويُعَدُّ هذا التراجع الحقيقة الاجتماعية الأساسية في الحياة في نهاية القرن العشرين. والدين (كما قال هنتنجتون) أساس الهوية والخصوصية الحضارية التي تتجاوز الحدود القومية وتُوحِّد الحضارات، فالصراع ليس صراعاً بين حضارات (لكلٍّ قيمتها وقيمها) وإنما هو صراع بين منظومة قيمية غربية علمانية تدور في إطار المرجعية المادية وتستند إلى فكرة القانون الطبيعي (المادي) بكل ما يتضمنه ذلك من إنهاء للتاريخ والإنسان والهوية من جهة، ومن جهة أخرى كل من يقاوم ذلك ولا(2/270)
يوافق عليه ويرى أن الإنسان ليس مجرد مادة (وهذه هي الصلة الحقيقية بين الإسلام والكنفوشيوسية) . ولكن هنتنجتون موقن تماماً أن ذلك صراع مؤقت، فثمة نقطة أساسية واحدة يتجه نحوها العالم فيتحقق فيها القانون الطبيعي (والعقل الكلي الغربي، الطبيعي/المادي الحديث) ؛ نقطة انتصار الحضارة الغربية الحديثة الطبيعية/المادية العلمانية، وهي نقطة وصلت إليها بعض البلاد بالفعل.
ويقين هنتنجتون بشأن الحضارة الغربية باعتبارها حالة الطبيعة أمر يثير الخوف. فمن يقاوم حالة الطبيعة لابد من تقويمه بطبيعة الحال ووضعه على المسار الطبيعي، فهو المسار الوحيد والصحيح، الأمر الذي يتطلب طبعاً اتخاذ بعض الإجراءات الطبيعية غير السارة وطرح بعض الحلول الطبيعية الجذرية النهائية مثل إسقاط الحكومات القومية (التي تتمسك بأهداب خصوصية زائفة) ودك العواصم المقاومة (التي تدافع عن قيم لا جدوى لها مثل الكرامة والعزة الوطنية) واستباحة المدن والقرى العاصية التي تقاوم قانون الطبيعة والتطور الغربي!
2 ـ التاريخ لا هدف له ولا غاية: ما بعد الحداثة:(2/271)
ما بعد الحداثة هي الرؤية الفلسفية التي أحرزت مؤخراً شيوعاً لا نظير له في العالم الغربي، وهي رؤية تنطلق من عدة أطروحات فلسفية متداخلة ومصطلحات صاخبة رنانة (تتغيَّر بمعدل مرة كل أسبوع تقريباً) كلها تؤكد غياب المرجعيات وتآكل الذات وفقدانها حدودها، وتآكل الموضوع وفقدانه حدوده، وهيمنة النسبية المعرفية الأخلاقية، ومن ثم استحالة الوصول إلى فكرة الكل، سواء كانت هي فكرة الإله أو الأخلاق المطلقة أو الطبيعة البشرية (أساس الأنطولوجيا الغربية) (تُعتبَر فلسفة ما بعد الحداثة قمة الثورة ضد الهيجلية، وهي تَبلور للاتجاه الفلسفي الغربي المعادي للفلسفة) . ولكن هذا يعني في واقع الأمر اختفاء العقل، أي الملكة التي يقوم الإنسان من خلالها بمراكمة المعنى والإنجازات، ويظهر ما سماه أحدهم «ذاكرة الكلمات المتقاطعة» ، أي معلومات متناثرة لا يربطها رابط وينشأ الإحساس بأننا في الحاضر الأزلي، تَغيُّر مستمر بلا ماض ولا مستقبل، تجارب دائمة بلا عمق ولا معنى. ويتحول التاريخ إلى مجرد لحظات جامدة، وزمن مسطح لا عمق له، ملتف حول نفسه لا قسمات له ولا معنى.
ويتزامن الحاضر والماضي والمستقبل تتساوى تماماً مثل تَساوي الذات والموضوع والإنسان والأشياء، ولكنه تَزامُن دون استمرار، فثمة انقطاع كامل. ومن هنا، يتحدث أنصار ما بعد الحداثة عن إحلال القصص الصغيرة (أو الجزئية أو الذاتية) محل القصة الكبيرة (أو الشاملة أو الكلية) ، أي أن الإنسان غير قادر على الوصول إلى رؤية تاريخية شاملة تضم البشر كافة ولكنه قادر على خوض تجارب جزئية يمكنه أن يقصها بدرجات متفاوتة من النجاح والفشل، ولكنها لا ترقى البتة إلى مستوى تاريخ عام للبشر، فليست لها أية شرعية خارج نطاق تجربته.(2/272)
وقد لا تطرح رؤية ما بعد الحداثة نماذج خطية تطورية أو حلولاً نهائية، وقد لا تبشر بالفردوس الأرضي أو باليوتوبيا التكنولوجية التكنوقراطية، ولكنها هي الأخرى إعلان لنهاية التاريخ ونهاية الإنسان ككائن مركب اجتماعي قادر على الاختيار الأخلاقي الحر، ليحل محله إنسان ذو بُعد واحد يدور في إطار المرجعية الكامنة أو دون أية مرجعيات، فالإنسان يعيش منكفئاً إما على ذاته الطبيعية التي لا علاقة لها بما هو خارجها، فهي مرجعية نفسها، أو على كليات لاإنسانية مجردة لا علاقة لها بالإنسان كما نعرفه. وهذا الإنسان لا ذاكرة له فهو يعيش في اللحظة دائماً، في قصته الصغرى. ولذا لخص أحدهم ما بعد الحداثة بأنها نسيان نشط للذاكرة التاريخية، وهي طريقة متضخمة متورمة للقول بنهاية التاريخ. ويمكننا القول بأنه إذا كان فوكوياما قد اكتشف نهاية التاريخ فإن ما بعد الحداثة تقوم بقتله.
ما علاقة نهاية التاريخ وصراع الحضارات وما بعد الحداثة بواقعنا وبالنظام العالمي الجديد؟(2/273)
إن كل آليات الإغواء التي يستخدمها النظام العالمي الجديد تصب في هدف واحد أو حل نهائي واحد هو ضرورة ضرب الخصوصيات القومية والمرجعيات الأخلاقية حتى يفقد الجميع أية خصوصية وأية منظومة قيمية ليصبحوا آلة إنتاجية استهلاكية، لا تكف عن الإنتاج والاستهلاك دون أية تساؤلات، ومن هنا تظهر نهاية التاريخ كمفهوم أساسي، فالنظام العالمي الجديد لا يشير إلا للحظة الراهنة وحسب، ولا يتحدث إلا عن المستقبل، ولكنه لا يتحدث قط عن الماضي فهو نظام يدَّعي أنه هو نفسه لا ماضي له، وأن كل البشر لا ماضي لهم، وإن كان لهم ماض فهو ليس مهماً فكل شيء جديد طازج مثل صفحة لوك البيضاء (باللاتينية: تابيولا رازا tabula rasa) . داخل هذا الإطار، يصبح الإنسان إنساناً طبيعياً أحادي البُعْد لا عمق له ولا ذاكرة ولا قيم، يبدأ دائماً من نقطة الصفر وينتهي فيها، يعيش في عالم بلا دنس ولا خطيئة ولا حياة، عالم مغسول في الرشد المادي والإجرائي، كل ما فيه يتحرك بشكل هندسي متناسق، معقم من التدافع والجدل.(2/274)
ولنلاحظ أن ما تَساقَط هنا ليست خصوصية قومية بعينها وإنما مفهوم الخصوصية نفسه، وليس تاريخاً بعينه وإنما فكرة التاريخ نفسها، وليس هوية بعينها وإنما كل الهويات، وليس منظومة قيمية بعينها وإنما فكرة القيمة نفسها، وليس نوعاً بشرياً بعينه وإنما فكرة الإنسان المطلق نفسها، الإنسان ككيان مركب لا يمكن رده إلى ما هو أدنى منه. لقد اختفت المرجعية، أية مرجعية، وظهر عالم لا خصوصيات فيه ولا مركز له. هذا العالم الذي لا مركز له، يسير فيه بشر لا مركز لهم ولا هدف، لا يمكنهم التواصل أو الانتماء لوطن أو أسرة، كل فرد جزيرة منعزلة أو قصة صغيرة، فيظهر إنسان استهلاكي أحادي البُعد يُحدِّد أهدافه كل يوم، ويُغيِّر قيمه بعد إشعار قصير يأتيه من الإعلانات والإعلام، إنسان عالم الاستهلاكية العالمية الذي ينتج بكفاءة ويستهلك بكفاءة ويُعظِّم لذته بكفاءة حسب ما يأتيه من إشارات وأنماط! هذا هو الحل النهائي في عصر التسوية الذي حل محل الحل النهائي لعصر التفاوت، فبدلاً من الإبادة من الخارج، يظهر التفكيك من الداخل.(2/275)
إن ما بعد الحداثة، فى واقع الأمر، هي الإطار المعرفي الكامن وراء النظام العالمي الجديد، فهى رؤية تنكر المركز والمرجعية، وترفض أن تعطى التاريخ أي معنى أو أن تجعل للإنسان أىة قيمة أو مركزية أو إطلاق، وتُسقط كل الأيديولوجيات (عصر ما بعد الأيديولوجيات) ، وتنكر التاريخ (عصر نهاية التاريخ) ، وتنكر الإنسان (عصر ما بعد الإنسان) . فالعالم حسب هذه الرؤية يفتقر إلى المركز، فكل الأمور مادية، وكل الأمور متساوية، وكل الأمور نسبية، فهو عالم في حالة سيولة كاملة (تماماً مثل التناص textuality حين يحيلك نص إلى نص قبله ونص بعده، فيختفي المعنى وتختفي الحدود والهوية والمسئولية) . وكما يقول فريدريك جيمسون، الناقد الأمريكي الماركسي، إن روح ما بعد الحداثة تعبِّر عن روح رأسمالية عصر الشركات متعددة القوميات حيث قام رأس المال (هذا الشيء المجرد المتحرك الذي لا يكترث بالحدود أو الزمان أو المكان) بإلغاء كل الخصوصيات، كما ألغى الذات المتماسكة التى يتحد فيها التاريخ والعمق والذاتية، وحلت القيمة التبادلية العامة محل القيمة الأصيلة للأشياء.(2/276)
ونحن نقبل بتحليل جيمسون لفكر ما بعد الحداثة وإن كنا نستبدل بكلمة «رأسمالية» عبارة «علمانية شاملة» . والحديث عن القيمة التبادلية العامة التي تُلغي الخصوصيات ليس، فى واقع الأمر، حديثاً عن رأس المال باعتباره شأناً اقتصادياً وإنما عن رأس المال باعتباره آلية ذات بُعد معرفي تؤدي إلى تفكيك وهدم كل ما هو فريد وخاص وعميق ومقدَّس ومحمل بالأسرار، ومن ثم فهي آلية معادية للإنسان لأنها معادية لكلٍّ من التاريخ والحضارة، إذ أن التاريخ والحضارة ـ كما أسلفنا ـ هما مصدر التفرد الإنساني. ورأس المال هنا آلية دفع الإنسان من عالم الحضارة والتاريخ المركب إلى عالم الطبيعة الأحادي البسيط، هو آلية سيادة القانون الطبيعى المادي الواحدي، فهو أهم آليات نزع القداسة عن الإنسان. ولكنه ليس الآلية الوحيدة، إذ تُوجَد آليات أخرى أعتقد أن من أهمها (فى عصر ما بعد الحداثة) الإباحية وصناعة اللذة المتمثلة فى هوليود وأفلامها.
ويمكننا الآن أن نعود مرة أخرى إلى موضوع إلغاء التاريخ وإلغاء الإنسان: الموضوعين الأساسيين في كتابات فوكوياما وهنتنجتون وكُتَّاب ما بعد الحداثة. فمع وصول التاريخ إلى نهايته، ينتهي الصراع وتختفي كل المنحنيات وتنبسط كل النتوءات، ويظهر بشر ذوو بُعد واحد وتختفى الذاتية والعمق والحضارة والإنسان، عالم موت الإنسان بعد أن مات الإله. وهكذا، ورغم اختلاف المنطلقات، تتفق النتائج. والنظام العالمي الجديد، بهذا المعنى، نظام معاد للإنسان ومعاد للتاريخ، وهو عداء نابع من العداء الذي يحس به ذوو الاتجاه الطبيعي/ المادي نحو كل الظواهر المركبة بكل ما تحوي من قداسة أو أسرار، وهو أيضاً نابع من رغبتهم العارمة في فرض الواحدية المادية وفي تسوية الإنسان بما حوله، حتى يذوب في الطبيعة/المادة ويختفي ككيان مركب مستقل.(2/277)
ومحاولة التسوية هذه تفسر سبب اتصاف خطاب النظام العالمي الجديد بالاعتدال الشديد، بل نجده "ثورياً" أحياناً حين يرفض مركزية الغرب وينادي بالمساواة. ولكن المساواة في هذا السياق هي في واقع الأمر تسوية (وليست مساواة) ورفض لكل الخصوصيات والمركزيات والمطلقات، على أن يصبح الجميع (ومنهم الغرب) مادة استعمالية، ولذا يحلو لي أن أقارن النظام العالمي الجديد بالآلة الضخمة التي تدور بكفاءة فتفرم الجميع، ومنهم أصحابها، رغم أنهم يستفيدون منها ويوظفون العالم من خلالها لصالحهم (فهى تشبه فرانكنشتاين من بعض الوجوه) .
وفي وسط هذه السيولة يظل الغرب صلباً، فهو المطلق العلماني الشامل الجديد، النموذج الذي يُحتذى، ولذا فرغم حالة العولمة السائلة الشاملة، يظل الغرب مركز العالم، الأمر الذي يعطيه حقوقاً مطلقة وقدراً من الصلابة. كما أنه في حالة النسبية الشاملة السائلة ومع اختفاء الحقائق المطلقة فإن الغرب بأسلحته وأجهزته الإعلامية يصبح هو مركز العالم الذي لا مركز له. ولكنه مع هذا يظل مختبئاً وراء آليات الإغواء وخطاب السيولة والنسبية والتعددية. وبهذا المعنى، يمكن القول بأن النظام العالمي الجديد هو إمبريالية عصر ما بعد الحداثة، إذ يجد الإنسان نفسه في عالم بلا تاريخ تتفكك فيه علاقة الدال بالمدلول وينزلق فيه الإنسان من الخصوصية الإنسانية والتاريخية إلى عالم الطبيعة/المادة تحيط به إمبريالية شرسة لا تُسمِّي نفسها «إمبريالية» وإنما «النظام العالمي الجديد» .
الفردوس الأرضى
حال الدنيا عند نهاية التاريخ، وهو الطوبيا (اليوتوبيا) عند علي عزت بيجوفيتش، وهي لحظة نماذجية وتعبير عن النزوع الجنيني (انظر: «نهاية التاريخ» ) .(2/278)
الباب التاسع: العلمانية الشاملة: تاريخ موجز وتعريف
العلمانية الشاملة من التحديث والحداثة إلى ما بعد الحداثة: تاريخ
لا يمكن كتابة تاريخ بدون نموذج (في الواقع لا يمكن بدون نموذج كتابة أي شيء، سوى قائمة المشتريات من البقال) . ونحن نُميِّز بين المتتالية المثالية المُفترَضة (أي المشروع الإصلاحي والأماني التي يؤمن بها أصحاب رؤية/ نموذج ما) والمتتالية الفعلية المتحققة. والمتتالية المثالية العلمانية التحديثية المُفترَضة تدور في إطار الواحدية المادية، وكان المفروض أن تؤدي حلقاتها إلى نهاية سعيدة: سيطرة الإنسان على الطبيعة وعلى نفسه وتأكيد مركزيته المطلقة في الكون (الاستنارة المضيئة والعقلانية المادية) . ولكن هذه المتتالية كانت تحوي داخلها تناقضات النظم الواحدية المادية (تأليه الإنسان وتأليه الطبيعة في الوقت نفسه الذات ـ الإنسانية مقابل الموضوع الطبيعي المادي ـ الكل مقابل الجزء ـ التجاوز مقابل الإذعان والتكيف ـ المعنى والثبات مقابل الحركة التي لا معنى لها) . وأثناء عملية التحقق التاريخي، عبَّرت هذه التناقضات تدريجياً عن نفسها، وأدركها الإنسان الغربي ثم حُسمت، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، لصالح العنصر الثاني في الثنائية، وبدلاً من انتصار الإنسان، تم تفكيكه ورَدُّه إلى المبدأ المادي الواحد (الاستنارة المظلمة واللاعقلانية المادية) . وتم الانتقال من رؤى التحديث (البطولية) إلى واقع الحداثة (العبثي) ، ثم استقر المطاف عند عالم ما بعد الحداثة (البرجماتي) . ورغم أن التدرج يتم عبر ثلاث حلقات إلا أننا نتحدث في الواقع عن مرحلتين اثنتين: التحديث (والحداثة) مقابل ما بعد الحداثة لأن المرحلة الثانية كانت قصيرة جداً ولم تكن سوى مرحلة انتقالية بين الأولى والثانية. ونحن نرى أن اللحظة الفارقة كانت في الستينيات، ولذا فنحن نحدد عام 1965 باعتباره عام انتهاء المرحلة الأولى وبداية المرحلة الثانية.(2/279)
والفرق الأساسي بين المرحلتين أن الأولى تتميَّز بوجود مركز واحد أو مركزين متصارعين (الإنسان والطبيعة) ولذا فهي صلبة، أما الثانية فتتميَّز بتعدُّد مفرط في المراكز أو بعدم وجود مركز فهي سائلة. ولنا أن نلاحظ وجود مجموعة من الثنائيات الفرعية (الإنتاج مقابل الاستهلاك ـ المنفعة [البرانية] مقابل اللذة [الجسدية]ـ التحكم والإرجاء مقابل الانفلات والإشباع المباشر ـ التراكم مقابل التبديد والإنفاق ـ الدولة مقابل السوق) وهي ثنائيات تعكس ثنائية الصلب والسائل، فالإنتاج والمنفعة والتحكم والإرجاء والتراكم والدولة تفترض وجود مركز للكون (إنساني أو طبيعي) ، أي أنها تعبير عن العقلانية المادية. أما الطرف الثاني (الاستهلاك واللذة والانفلات والإشباع المباشر والتبديد والسوق) فيفترض انعدام الحدود وغياب المركز. ومن ثم تتساوى كل الأشياء وتختفي الثنائية الصلبة لتحل محلها سيولة شاملة، وتختفي المادية القديمة لتحل محلها المادية الجديدة، وتختفي العقلانية المادية لتحل محلها اللاعقلانية المادية.
وقد لاحظنا أن العلوم الإنسانية الغربية تتناول الواقع الغربي وكأنه مجموعة ظواهر مستقلة، لها تواريخ مستقلة، كما أنها تخلط بين المشروع الإصلاحي والآمال من جهة، والواقع التاريخي المتحقق (البنية التي تحققت) من جهة أخرى. وسنحاول في هذا الدراسة أن نستخدم نموذجاً تحليلياً واحداً لنبيِّن الاستمرار والانقطاع في تاريخ الحضارة الغربية الحديثة، وأن ثمة وحدة فضفاضة وراء كل الظواهر المتنوعة، أي أنها وحدة لا تَجُبُّ التنوع، واستمرارية لا تَجُبُّ الانقطاع والتحولات النوعية.
وفي تصوُّرنا أن تقسيم تاريخ الحضارة الغربية الحديثة الذي نقترحه له قيمة تفسيرية تحليلية عالية. ومع هذا يتعيَّن علينا أن نلاحظ ما يلي:(2/280)
1 ـ نحن ندرك تماماً أن الظواهر التاريخية، بكل تنوعها وتركيبيتها، لا يمكن اختزالها ببساطة إلى مرحلتين. وأن التقسيمات الثنائية بسيطة ومغرية. ورغم أننا قسمنا تاريخ الحضارة الغربية (العلمانية) الحديثة إلى قسمين اثنين: (مرحلة التحديث الصلبة التقشفية ومرحلة ما بعد الحداثة السائلة الفردوسية) فإننا ندرك تماماً أن تقسيماتنا هي إستراتيجية تفسيرية وحسب، وليس لها أي وجود مادي، فهي ليست "إنعكاساً مباشراً" للواقع الموضوعي المادي، وإنما تعبير عن نموذج تفسيري وتحليلي نرى نحن أن له قيمة تفسيرية وتصنيفية، نُخضعه للاختبار، أي أننا نقاوم تَشيُّؤ نموذجنا التفسيري، وندرك أنه لابد أن ينطوي على قدر من تبسيط للواقع.
2 ـ مرحلة التحديث التقشفية يمكن أن تُقسَّم بدورها إلى عدة مراحل:
أ) مرحلة التراكم (الرأسمالي الإمبريالي) الأولى: من عصر الاكتشافات حتى اندلاع الثورة الصناعية والفرنسية ونجاحها مع منتصف القرن التاسع عشر. وقد وصلت هذه المرحلة إلى ذروتها في نهاية القرن، وهي مرحلة التحديث وعصر المادية البطولي، والفلسفة العقلانية المادية والمادية القديمة.
ب) مرحلة التراكم (الرأسمالي الإمبريالي) الثانية: من نهاية القرن التاسع عشر حتى منتصف الستينيات، وهي مرحلة الحداثة العبثية وبداية ظهور اللاعقلانية المادية والمادية الجديدة.
3 ـ مرحلة ما بعد الحداثة الاستهلاكية الفردوسية (البرجماتية) واللاعقلانية المادية والمادية الجديدة، هي مرحلة لا تزال في بدايتها ولم تتحدد ملامحها بعد، وقد درسناها لا في ذاتها وإنما وضعناها مقابل المرحلة الأولى.(2/281)
4 ـ لابد من التنبيه على أن المرحلة الثانية كامنة تماماً في المرحلة الأولى، فالتقشف العاجل كان يتم باسم الاستهلاك الآجل، والقمع كان يتم باسم اللذة الموعودة والإشباع في المستقبل، أي أن الانفتاح الاستهلاكي كان حتمية كامنة في كل النظم المادية مهما بلغت من تقشف، وثمة حتمية للسيولة الفردوسية بعد مرحلة الصلابة البطولية.
5 ـ تم اختيار عام 1965 لا لأن شيئاً محدداً ملموساً حدث فيه، وإنما لأنه في منتصف الستينيات. ولا يمكن تحديد تاريخ الظواهر الحضارية بالإشارة إلى يوم بعينه أو عام بعينه فهي تتطور بشكل يتجاوز مثل هذا التحديد الدقيق. ومع هذا يظل عام 1965 اختياراً مناسباً في تصورنا، نقطة تَركُّز تقع داخل مُتَصَل طويل.
وفي عرضنا لسمات كلٍّ من المرحلتين (وكذلك المرحلة الانتقالية) ، صنفناها إلى مجالات مختلفة، ونحن لا نعطي أولوية سببية لمجال على حساب الآخر، وإنما نرى أن كل المجالات تتفاعل فيما بينها. وغني عن الذكر أن المجالات تتداخل (ومن هنا التكرار أحياناً) . وكل مجال ينقسم إلى قسمين: التحديث والحداثة (ويُرمَز له بالحرف أ) ، وما بعد الحداثة (ويُرمَز له بالحرف ب) .
وبإمكان القارئ أن يقرأ هذه الدراسة بطريقتين:
أ) طريقة مقارنة: أن يقرأ القارئ كل ما ورد عن المجال الاقتصادي (على سبيل المثال) فيقرأ الجزأ (أ) ثم الجزء (ب) ثم ينتقل بعد ذلك إلى المجال الذي يليه (وهذه هي الطريقة التي كتبنا بها الدراسة) .
ب) طريقة تكاملية: أن يقرأ العنصر (أ) في كل المجالات ثم يقرأ العنصر (ب) .
أولاً: المجال الاقتصادي:(2/282)
أ) الإنتاج والزيادة المطردة للإنتاج هو الهدف النهائي من الوجود في الكون، وما يُحرِّك المُنتِج هو المنفعة، ولذا فلابد من عملية قمع، فلو حرَّكته اللذة لكانت كارثة، والإنسان مُنتِج أكثر من كونه مُستهلكاً، واجبه الإنتاج ومكافأته الاستهلاك، ولذا تسود في بداية هذه المرحلة أخلاقيات العمل البروتستانتية ويظهر الإنسان الاقتصادي في الدول الرأسمالية وهو نفسه الإنسان الاشتراكي (بطل الإنتاج) في الدول الاشتراكية، وكلاهما تتحدد مكانته في المجتمع في إطار مقدار ما يُنتج (لا ما يستهلك) . ومن هنا التقشف والتراكم وزيادة الإنتاج والصناعة الثقيلة وبدايات الاقتصاد الرشيد ومرحلة المركنتالية وتوحيد السوق القومية في البداية، ثم الرأسمالية الرشيدة والرأسمالية المالية أو المصرفية في غرب أوربا والولايات المتحدة وظهور مفهوم السوق العالمي (وبداية ظهور ملامح الاستهلاكية والانفتاح وتحدي السوق والجنس للدولة القومية) .
ويمكن في هذه المرحلة أن نتحدث عن «المستغلين» و «المستغَلين» وعن عمال يتم اعتصار فائض القيمة منهم، وعن طبقات متوسطة تحقق حزاكاً اجتماعياً أو هبوطاً في السلم الاجتماعي والطبقي.
ومع هذا، لم يكن قد تم تحديث أوربا تماماً حتى عام 1914، فاقتصاديات معظم بلاد أوربا كانت تضم قطاعاً زراعياً كبيراً، وكان معظم السكان إما جزءاً من الاقتصاد الزراعي أو جزءاً من الصناعات الاستهلاكية والتجارة الصغيرة المحلية. وقد حققت الثورة الصناعية خطوات واسعة بعد عام 1890، وساهم التراكم الإمبريالي في الإسراع بعمليات تحديث الغرب، ومع هذا ظل كثير من البنَى الاقتصادية والثقافية القديمة التقليدية قائماً. وقد تمتعت إنجلترا ثم الولايات المتحدة بمركزية في النظام الاقتصادي العالمي.(2/283)
وقد كان تاريخ شرق أوربا (وبقية العالم) مختلفاً، ولكن الجميع لحق بالركب. فمرت مجتمعات شرق أوربا بمرحلة مركنتالية تقشفية تراكمية مكثفة، وبدلاً من ديكتاتورية البيوريتان جاءت ديكتاتورية البروليتاريا، وبدلاً من الملكيات المطلقة والدول القومية المطلقة جاءت دولة الطبقة العاملة المطلقة التي ركزت السلطة في يدها وقامت بعملية الترشيد والتراكم بسرعة.
وبدأت عملية تحديث بقية العالم من خلال جيوش الإمبريالية الغربية ثم ظهرت دول قومية في العالم الثالث تحاول إنجاز عملية التحديث بسرعة (وكانت عملية التحديث تعني في واقع الأمر عملية تغريب) وأن تُحقِّق التراكم وأن تهيمن على سوقها القومية. وفي هذه المرحلة تؤسس الدولة الصهيونية التي تبدأ مرحلة تقشفية تراكمية وتتبنى أشكالاً "اشتراكية" في إدارة الاقتصاد.
ب) الاستهلاك في مرحلة ما بعد الحداثة السائلة هو الهدف النهائي من الوجود في الكون، وما يحرِّك المستهلك هو اللذة لأنه لو حرَّكته المنفعة لكانت كارثة. بل إن الاستهلاك بالنسبة للمستهلك واجب/حق. ولذا، بعد تَحكُّم الرأسمالية في العملية الإنتاجية، انتقل النظام من المنفعة إلى اللذة وأصبح الاستهلاك (لا الإنتاج) هو هدف المجتمع، وأصبحت السعادة هي تَحرُّر الاستهلاك من الحاجات المادية أو الأساسية التي يتطلب الوفاء بها السلع ذات القيمة الاستعمالية. ولم يَعُد هدف المجتمع إشباع الحاجات وإنما تخليقها، ولم تَعُد الحاجة مصدر معاناة تحتاج إلى إشباع وإنما أصبحت على العكس من ذلك شيئاً يُحتَفى به. ولم يَعُد التنافس الأساسي بين المنتجين (كما هو الحال في الرأسمالية الصناعية التنافسية) وإنما بين المستهلكين.(2/284)
وأصبح الاستهلاك هو المجال الرئيسي الذي يتم فيه اغتراب الإنسان، حيث تتحدد وتُنتَج احتياجات الناس، وتوجَّه الرغبات نحو ما تم تحديده وإنتاجه من قبل. ويتم استيعاب الناس في منظومة متعددة المستويات من الأشياء والعلامات والدلالات، وهو ما يجعل "للثقافة" والإدراك أولوية على القيم المادية.
وأصبح نمط الاستهلاك وإشباع اللذة (وليس ممتلكات الفرد أو إنتاجيته) مؤشِّراً على مكانته في المجتمع، وانتقل تحديد وضع الفرد في المجتمع من السلعة نفسها أو كمية النقود إلى «دلالة السلعة والنقود» التي يمتلكها الفرد. وأصبحت الصورة أو العلامة هي السلع أو القيم المادية الرئيسية التي تُقاس بالنسبة لها قيمة كل شيء، أي أن السلع المادية والنقود لم تَعُد أساس السيطرة على المجتمع. كل هذا يجعل التحليل الماركسي الذي أكد أولوية السلع المادية على السلع الثقافية غير ذي موضوع، بل يجعل الماركسية نفسها (كما يقول بورديار) مجرد امتداد للرأسمالية التقليدية ومتواطئة معها وأداة للهيمنة أو الإمبريالية الإدراكية.
ويمكن القول بأن تحديث المجتمعات الغربية قد اكتمل بعد الحرب العالمية الثانية، وتم تهميش أية جيوب زراعية أو شبه زراعية ولم يَعُد القطاع الزراعي ذا أهمية كبيرة.(2/285)
وتشهد هذه الفترة ظهور الفورديزم Fordism، أي تنميط السلع على مستوى ضخم، فتم إنتاج السيارة والمنزل بشكل نمطي على نطاق جماهيري، كما تم تطبيق أساليب تايلور في الإدارة العلمية. وتزايد استخدام الكرديت كارد بدلاً من النقود، وهو ما يساهم في الحركة الاستهلاكية وفي تَضخُّم قطاع الخدمات وقطاع اللذة واتساع السوق المحلي وتَجاوُز الحدود القومية، وظهرت السوق العالمية والشركات متعددة الجنسيات عابرة القارات التي لا تحترم السوق المحلي، وظهرت الاستهلاكية العالمية. وقد تَزايَد ما يُسمَّى «الاقتصاد الفقاعي» (بالإنجليزية: بابل إيكونومي bubble economy) أو «الاقتصاد الطفيلي» (بالإنجليزية: دريفاتيف إيكونومي derivative economy) أي اقتصاد المضاربات المبني على التأمينات المصرفية التي لا يقابلها رأسمال حقيقي (تجارة الأموال تقدر بنحو 500 ترليون دولار. [الترليون يساوى 1000 مليار] وهو ما يعنى أن تجارة الأموال تصل إلى 50 ضعف قيمة تجارة السلع الدولية التى تبلغ قيمتها الإجمالية عام 1997 نحو 10 تريليونات دولارا فقط لاغير. (كل هذا يعنى ابتعاد الاستثمار المالي عن الاستثمار الاقتصادي الحقيقي. ومع هذه الحركة الطائشة للترليونات يتقرر مصير أمم بأكملها ارتفاعا وهبوطا.(2/286)
وقد تزايد دور الإعلام وقطاع اللذة في تصعيد الاستهلاك. ولا يمكن الحديث عن مستغل ومستغَل، فالمستغل في مكان يصبح مستغَلاً في مكان آخر. فكأن عملية الاستغلال أصبحت بلا بؤرة ولا مركز، وأصبح النموذج دائرياً: نموذج قوي فعال دون فاعل، يدور كالآلة. وكما يقول سيرج لا توش: "لا يمكن الحديث عن الحضارة الغربية الحديثة [أو عن الحداثة الغربية] باعتبارها لحظة زمنية أو رقعة جغرافية، وإنما هي آلة بدأ الإنسان في تشغيلها، ثم استمرت في الدوران بقوة الدفع الذاتية، ثم أخذت تتزايد سرعتها بقوة تفوق طاقة الإنسان. وهي في دورانها تدوس بقوة على الجميع، بما في ذلك الإنسان الغربي نفسه الذي بدأها في الدوران وكان يحاول توظيفها لصالحه". في هذا الإطار (الآلة التي تدور ـ الاقتصاد الطفيلي ـ الإعلام الشرس ـ عالم بلا بؤرة) يشعر الإنسان بالعجز الكامل فيتزايد الحديث عن المؤامرة.
ويُلاحَظ تراجع الهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة وظهور مراكز أخرى في اليابان وجنوب شرق آسيا وألمانيا، وبداية الخصخصة في العالم الثالث، وتَساقُط سياسات الاقتصاد الوطني وتفشي النزعة الاستهلاكية. وتدخل الدولة الصهيونية المرحلة الفردوسية الاستهلاكية.
ثانياً: في المجال السياسي والاجتماعي:
أ) نشبت الثورة البورجوازية ضد الإقطاع ثم الثورة البروليتارية ضد الرأسمالية، وانتصرت البورجوازية والطبقات المتوسطة وتَبلور الصراع الطبقي وظهرت القوميات العلمانية (العضوية وغير العضوية) والدولة القومية المركزية المطلقة (مرحلة الملكيات المطلقة ومرحلة الدول الديموقراطية في غرب أوربا والاشتراكية في شرقها) وتم تأكيد أهمية الماضي القومي والهوية القومية.(2/287)
والدولة القومية هي التي قامت بتحديد الحدود وترشيد الداخل الأوربي وتحديث المؤسسات وعلمنة الرموز وتدجين الإنسان الأوربي وتحويله إلى إنسان وظيفي حديث ("استعمار عالم الحياة"، على حد قول هابرماس) ، ثم جيشت الجيوش ونهبت العالم فأسست البنية التحتية والفوقية للمجتمعات الغربية من خلال التراكم الإمبريالي (الذي يُقال له «التراكم الرأسمالي» ) .
ورغم قوة الدولة القومية وشراستها وهيمنة البورجوازية، ظلت هناك جيوب تقليدية (أرستقراطية ـ إثنية ـ دينية) حتى الحرب العالمية الثانية، وكان كثير من أعضاء النخب الحاكمة من أصول أرستقراطية، وكان معظم أوربا يحكمها أسر ملكية. بل تكيفت البورجوازية مع النظام القديم وتلونت الأرستقراطية الصناعية بألوان الأرستقراطية الزراعية.
ويرى أحد المؤرخين أن التحول الحقيقي للغرب تم بعد ما يسميه «حرب الثلاثين عاماً الجديدة» (1914 ـ 1944) إذ تم تحديث وعلمنة كل النظم والمؤسسات والبنَى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتهميش الأرستقراطيات وكل الجيوب التقليدية المتبقية.(2/288)
ومع نهاية المرحلة، يبدأ تآكل الدولة القومية من خلال ظهور النزعات الإثنية والكوزموبوليتانية في الوقت نفسه (ومن خلال تزايد النزعات الفردية والتوجه الحاد نحو اللذة المتمركزة حول الإشباع الجنسي بالدرجة الأولى) . كما بدأت حركيات السوق (التي لا تعرف القيم أو الخصوصيات) تهدد الحدود القومية. ومع هذا يُلاحَظ تصاعد هيمنة البيروقراطية والتكنوقراطية وتزايد تَدخُّل الدولة في كل مناحي الحياة الخاصة. وتنتهي المرحلة بالإبادة النازية والإرهاب الستاليني والمكارثية وهيروشيما وناجازاكي وفيتنام وكمبوديا وتأسيس الدولة الصهيونية في فلسطين، ثم تظهر أسلحة الدمار الكوني والأسلحة الميكروبية (لأول مرة في تاريخ البشرية، ما يخصصه الإنسان من طاقة واعتمادات في تطوير أسلحة الدمار والفتك يفوق ما يخصصه لإنتاج الطعام، على سبيل المثال) . ويُلاحَظ تَصاعُد حركات التحرر الوطني في العالم الثالث التي تحاول القوى الاستعمارية قمعها بضراوة. وتقوم الدولة الصهيونية بضرب الشعب الفلسطيني بيد من حديد، بعز أن طُرد معظم أفراد الشعب الفلسطيني من ديارهم.(2/289)
ب) مع تصاعد معدلات التدويل في عصر ما بعد الحداثة ضمرت الدولة القومية ومؤسساتها إذ أخذت تزاحمها مؤسسات ومراكز قوى أخرى (نقابات ـ جماعات ضغط ـ شركات ضخمة ـ منظمات غير حكومية) ، فالسلطة لم تَعُد مجموعة مؤسسات مركزية يمكن الاستيلاء عليها والتحكم فيها، فهي موزعة بين عدة مؤسسات متغلغلة في المجتمع. ومن أهم التطورات تضخُّم (بل تغوُّل) قطاع صناعات اللذة، وهيمنته على الحياة الخاصة التي تم استيعابها في رقعة الحياة العامة، وتزايد تأثير وسائل الإعلام ومنظومات المعلومات التي تحاصر الإنسان بالصور الأيقونية الجذابة المتغيرة، الخالية من المضمون والمعنى تقريباً، والتي تكاد تشير إلى ذاتها. ولذا فالمجتمع لا تحكمه الدولة وإنما تحكمه منظومات المعلومات والشفرات الجماعية الموحَّدة (كود Code) . ومن أهم التطورات الأخرى تزايد الوزن النسبي لكثير من الفئات الهامشية، وضمور الهويات القومية، واختفاء بقايا الأرستقراطية والثقافة الأرستقراطية (1945) . وظهور الطبقة المتوسطة الجديدة من المهنيين (كانوا يُشكِّلون 5 ـ 10% من سكان الدول الغربية الصناعية حتى بداية القرن العشرين، ولكن عددهم في الوقت الحاضر يبلغ نحو 20 ـ 25%) . وهم أقلية عددية كبيرة يتمتع أعضاؤها بنفوذ قوي يتجاوز نسبتهم العددية، فهم الذين يضعون السياسات والإستراتيجيات، كما أن لهم نفوذاً ثقافياً قوياً، لأنهم يتميَّزون بمقدرتهم على الإنفاق، وهم لهذا أكثر مواكبة لعصر الاستهلاك. ونتيجةً لهذا كله يحل هؤلاء المهنيون محل الأرستقراطية القديمة أو حتى البورجوازية في تحديد قيم المجتمع وأسلوبه في الحياة. وموقف هؤلاء المهنيين من الطبقة العاملة مبهم للغاية. ولكن الطبقة العاملة نفسها استُوعبت تماماً في أسلوب الحياة في المجتمعات الغربية ولم تعد أحلامها تختلف عن أحلام أعضاء المجتمع ككل، ففَقَدت أي دور ثوري لها، ومن هنا الإحساس بأن الصراع الطبقي تم إلغاؤه.(2/290)
أما على مستوى الواقع فيُلاحَظ تزايد الاستقطاب الطبقي والجيلي في الولايات المتحدة وغيرها من الدول المتقدمة (وخصوصاً ابتداءً من نهاية السبعينيات) . كما ظهرت حركات الطلاب والحركات الاجتماعية الجديدة التي تربط دائماً بين الانعتاق والحرية الجنسية، أي أن أحلام الثوريين لا تختلف كثيراً عن الأحلام التي يفبركها بكفاءة عالية قطاع اللذة في المجتمع. وقد أدركت قوى اليسار أن الثورة مستحيلة، وأن الاستيلاء على الحكم مستحيل، في عصر ما بعد الأيديولوجيا وسيادة الفكر التكنوقراطي في عالم السياسة وقوانين الإدارة العلمية، وأنه لو تم الاستيلاء على السلطة فإن هذا لن يحل المشكلة بسبب هيمنة النظم التكنوقراطية ونظم المعلومات والصور الأيقونية المخلّقة على الإنسان من الداخل والخارج. ومع هذا يُلاحَظ اندلاع الحركات الثورية ذات التوجه البيئي، التي تشكل أول انسلاخ حقيقي ذي طابع جماهيري عن منظومة التحديث الغربية، المادية العقلانية. ورغم ضرب حركات التحرر الوطني في العالم الثالث وظهور نخب حاكمة ذات اتجاه تغريبي واضح، وتَآكُل مؤسسات الدولة القومية وتَزايُد الحروب الإثنية والدينية، يُلاحَظ ظهور حركات شعبية ترفض عملية التدويل والتغريب، فعلى سبيل المثال، اندلعت الانتفاضة وهي حركة شاملة للتغيير، خارج المنظومة الغربية. ويبدأ في إسرائيل والولايات المتحدة الحديث عن التسوية السلمية مع العرب، وتبدأ بعض النخب، بما في ذلك النخبة الفلسطينية، في تَقبُّل هذا الخطاب الجديد.
ثالثاً: المجال الدولي:(2/291)
أ) تبدأ هذه المرحلة بالاستعمار الاستيطاني ثم الإمبريالية العالمية (عصر استغلال الموارد الطبيعية والبشرية على المستوى العالمي بشكل مباشر ومن خلال الجيوش النظامية) . وتتم هيمنة الاتحاد السوفيتي على الأحزاب الشيوعية وعلى الدول المجاورة باسم الأممية الاشتراكية، كما يتخذ الدفاع عن الاتحاد السوفيتي شعار الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة. أما الاستعمار الغربي فيتم تبريره باللجوء إلى شعارات مثل "عبء الرجل الأبيض" و"الرسالة الحضارية" و"القدر المحتوم" وتشهد الفترة حروباً عالمية (أي غربية) وأخرى صغيرة في آسيا وأفريقيا. وبدأت تظهر ملامح ما يُسمَّى «جلوباليزيشن globalization» أي «العولمة» أو تحويل العالم إلى وحدات متجانسة لا تتمتع بأية خصوصية (وهو الاتجاه الذي أدى في نهاية الأمر إلى ظهور النظام العالمي الجديد) . ومما سارع بهذا الاتجاه أن الاستعمار الغربي (والأمريكي بخاصة) اكتشف أن المواجهة مع الشعوب أمر مكلف جداً، وأن الحروب الاستعمارية لا تأتي بعائد كبير ولذا قرر التراجع عن الغزو العسكري المباشر والبحث عن أشكال أكثر مراوغة مثل الاستعمار الجديد. وثمة دولة غربية واحدة (إنجلترا حتى نهاية الحرب العالمية الأولى ثم الولايات المتحدة حتى الوقت الحاضر) هي المهيمنة على النظام العالمي وتنتهي الفترة بالحرب الباردة. وتبدأ عملية تصفية الجيوب الاستيطانية، ومع نهاية المرحلة لا يبقى سوى الجيب الاستيطاني في فلسطين، يطل على أفريقيا وقناة السويس، والجيب الاستيطاني في جنوب أفريقيا في قاعدة القارة.(2/292)
ب) تشهد هذه المرحلة بداية ظهور النظام العالمي الجديد ويمكن الحديث عن عولمة بعض القضايا مثل الطاقة النووية ـ التلوث البيئ ـ الإيدز ـ البريد الإلكترونى ـ ثورة المعلومات. هذا هو عصر استغلال الموارد الطبيعية والبشرية على المستوى العالمي بدون مواجهات عسكرية، ومن خلال تجنيد النخب المحلية الحاكمة لتنفيذ مخططات الدول الغربية، ومن خلال تَزايُد معدلات التدويل، بحيث يتحول الكون بأسره إلى شيء متجانس يتسم بالواحدية الدولية، لا خصوصيات له ولا ثنائيات ولا تَنوُّع. وبدلاً من استعمار الشعوب، يتم أمركتها وكوكلتها (نسبة إلى الكوكاكولا) وتحل الكوكاكولانية بدلاً من الكولونيالية. ويتم الحديث عن نهاية التاريخ ونهاية الأيديولوجيا، لإشاعة الإحساس بأن ثمة نظاماً جديداً قد ظهر مبنياً على العدل وتَبادُل المصالح الاقتصادية. ومع هذا يُلاحَظ على مستوى الواقع أن 20% من سكان الأرض (شعوب الدول المتقدمة) يستهلكون 80% من موارد العالم الطبيعية. وقد تَزايد الاستقطاب على مستوى العالم لصالح الدول الثرية التي تزداد ثراء بينما تزداد الدول الفقيرة فقراً، من خلال عملية التبادل الاقتصادية "العادلة"! كما يُلاحَظ أن معدلات إنتاج الأسلحة (وبيعها) لم ينخفض كثيراً عن ذي قبل.
ولا يستخدم النظام العالمي الجديد الديباجات القديمة مثل عبء الرجل الأبيض وإنما يتحدث عن الدفاع (الانتقائي) عن حقوق الإنسان وحقوق الأقليات وحقوق النساء وربطها بالدفاع عن حقوق الشواذ جنسياً وعن حقوق الحيوانات.(2/293)
والنظام العالمي الجديد هو تصعيد لعمليات العلمنة، ومحاولة لإعادة صياغة العالم بأسره حتى يصبح جزءاً من الآلة التي ستستمر في الدوران إلى أن ترتطم بحائط كوني (مثل الإيدز وثقوب الأوزون والفشل الذريع في التخلص من النفايات النووية وغير النووية) . ويمكننا الآن الحديث عن «الاستهلاكية العالمية» وعن «الإمبريالية النفسية» (أي الإمبريالية التي تعتبر النفس البشرية هي الحيز الذي تتحرك فيه وتهزمه وتحوسله) بدلاً من «الاشتراكية العالمية» أو «الرأسمالية العالمية» أو «الإمبريالية العالمية» ، وخصوصاً بعد سقوط النظام الاشتراكي والنظرية الماركسية، والذي حدث هو التلاقي «كونفرجانس convergence» بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، وهو تلاق توقعه كثير من علماء الاجتماع منذ زمن. ويُلاحَظ أن الولايات المتحدة لم تَعُد المركز ولا القوة الوحيدة في العالم، إذ ظهرت قوى أخرى (النمور الآسيوية ـ تعاظم نفوذ أوربا) .
وتاريخ الإمبريالية يشبه من بعض النواحي تاريخ الدولة القومية العلمانية. فالدولة المركزية القومية، في مرحلتها المطلقة (التقشفية التراكمية) ، كانت تُرغم الشعوب على أن تكون مادة ومصدراً للطاقة. وقد تغيَّر الأمر في مرحلتها الديموقراطية حين ارتضت الشعوب الغربية أن تصبح منتجة ومستهلكة وحسب واستبطنت المنظومة المعرفية والأخلاقية التي كانت تقاومها. ويحاول النظام العالمي الجديد (هذا التعبير الجديد عن الظاهرة الاستعمارية الغربية أو النظام العالمي القديم) أن يجعل شعوب العالم تستبطن رؤيتها لذاتها كمستهلكين ومنتجين وحسب، أي مادة استعمالية، وتدخل القفص الحديدي راضية قانعة. ولذا فهو يلجأ للإغواء والقمع بدلاً من المواجهة الصريحة والقمع المباشر.(2/294)
وقد قبلت كثير من نخب العالم الثالث هذا الإغواء وبدأت تثرثر هي الأخرى عن النظام العالمي الجديد (ولكن بدأت قطاعات أخرى تدرك تماماً خطورة هذا الاتجاه نحو العولمة) . مصر وإسرائيل تُوقعان اتفاقية كامب ديفيد، والنخبة الحاكمة الفلسطينية وإسرائيل تُوقعان اتفاقية أوسلو، ومع هذا تتصاعد أشكال مختلفة من المقاومة الفلسطينية.
رابعاً: المجال الفلسفي:
أ) شهدت هذه المرحلة بدايات المشروع التحديثي العقلاني المادي الذي يستند إلى الإيمان بالكل المادي الثابت المتجاوز ذي الهدف والغاية، وهذا الكل يمكن أن يكون كلاً إنسانياً أو طبيعياً/مادياً في مرحلة الثنائية الصلبة ثم يصبح الطبيعة/المادة أو أي مطلق علماني يُعبِّر عن نفسه من خلال تجليات مختلفة في مرحلة الواحدية المادية الصلبة. ويمكن القول بأن الحداثة ليست تبنِّي العلم والتكنولوجيا وحسب وإنما هي تبني العلم والتكنولوجيا المنفصلين عن القيمة، المتجاوزين للغائية الإنسانية، باعتبارهما المرجعية النهائية للإنسان، والحداثة تعني أيضاً انفصال الإنسان عن كل النزعات الكونية وفصل كل العلاقات التقليدية وإخضاعها هي والمنظومات القيمية لعمليات التفاوض المستمرة. وتم إنجاز الإصلاح الديني وبداية علمنة الدين وتهميش المقدَّس وعزله في رقعة الحياة الخاصة، على أن تحرر الحياة العامة من كل المقدَّسات، وهو ما يُسمَّى «نزع القداسة عن الكون» . وظهرت الرؤية المعرفية العلمانية الشاملة التي ألَّهت الإنسان، وهي رؤية تقوم مقام الديانة العالمية (بالإنجليزية: وورلد رليجون world religion) التي تتسم بالشمول، وتتفرع عنها منظومات معرفية وجمالية أخلاقية ومعيارية كاملة في جميع المجالات. ولذا نجد أن لها سفر التكوين الخاص بها (أصل الأنواع) وأنبياؤها (بنتام وداروين وماركس) وقصتها الكبرى (التقدم المستمر) وخيرها (إمتاع الذات) وشرها (قمعها) وجنتها (اليوتوبيا التكنولوجية) وجهنمها (التخلف المادي) .(2/295)
وقد ظهرت من داخل هذه المنظومة ثنائية الإنسان والطبيعة الصلبة حيث يشغل الإنسان المُتألِّه مركز الكون (أو تشغل الطبيعة/المادة المركز) . ولكن ما حدث في واقع الأمر أن الإنسان الأبيض (وليس الإنسان ككل) ألَّه نفسه وأصبح مرجعية ذاته واحتل المركز وقام بحوسلة الطبيعة وبقية البشر ومن ثم تحولت الرؤية المعرفية العلمانية إلى رؤية علمانية إمبريالية. ورغم مادية المنظومة المعرفية العلمانية الإمبريالية فإن ثمة نزعة طوباوية مثالية تظهر داخلها (انتصار الاشتراكية في المعسكر الشرقي والدفاع عن العدالة الاجتماعية، أو الهيمنة الإمبريالية في المعسكر الغربي والدفاع عن عبء الرجل الأبيض ورسالة أوربا الحضارية) .
ومنذ البداية نشب صراع بين مركزي الكون (الإنسان والطبيعة) فأكدت النزعة الهيومانية أسبقية العقل على الطبيعة/المادة وحرية الإرادة الإنسانية ومقدرة الإنسان على معرفة قوانينها وغزوها والهيمنة عليها والوصول إلى معرفة كلية يمكنه أن يُرشِّد حياته المادية والأخلاقية في ضوئها، وباسمها يستطيع الإنسان أن يقمع رغباته ويرجئها وأن يتجاوز ذاته الطبيعية/المادية. وظهرت أخلاقيات مادية (المنفعة المادية ـ البقاء للأصلح ـ صراع الطبقات) . وقد واكب كل هذا إيمان بأن الكون معقول، وله هدف وغاية. ومن ثم تَزايَد الإيمان بالتَقدُّم وبأن التاريخ له مسار واضح حتمي، ينتهي بانتصار الإنسان (الإنسان الأبيض على وجه التحديد) وهذه هي مرحلة البطولة المادية. وفي هذه التربة نشأت حركة التنوير بين أعضاء الجماعات اليهودية واليهودية الإصلاحية.(2/296)
وفي الوقت نفسه ظهرت الرؤية المعادية للإنسان (الإيمان بالعلم المنفصل عن القيمة والغائية الإنسانية) ، إذ أن فلسفة إسبينوزا ورؤية نيوتن قامتا بتأليه الطبيعة بدلاً من الإنسان، ووضعتا المادة في مركز الكون، وطالبتا الإنسان بالإذعان للقانون الطبيعي المادي الآلي والحتميات المادية وهيمنت الواحدية المادية. وظهرت حركة الاستنارة والعقلانية المادية في النصف الأول، وسادت مفاهيم السببية الصلبة في العلوم، وتراجعت القيم المسيحية تدريجياً وكل المطلقات والثوابت. وبدأت مجالات حياة الإنسان المختلفة تنفصل تدريجياً عنه، بحيث يصبح كل مجال مرجعية ذاته، لا علاقة له بالمركز الإنساني.
ومع بداية نهاية المرحلة (ابتداءً من النصف الثاني للقرن التاسع عشر) تبدأ هذه الرؤى في الاهتزاز، فتهتز فكرة الكل المادي المتجاوز، وتتراجع مفاهيم السببية الصلبة في العلوم ويتعمق إحساس الإنسان الغربي بأن معرفة الطبيعة ليس أمراً سهلاً وأن استخلاص قوانين منها ليس أمراً يسيراً وأن الطبيعة ذاتها تحكمها الصدفة. كما أدرك الإنسان الغربي أن تَزايُد الترشيد والتحكم الإمبرياليين لا يؤدي بالضرورة إلى السعادة، بل بدأ يدرك استحالة الترشيد، فتَزعزَع إيمانه بفكرة التقدم والحتمية التاريخية. وهنا ظهر نيتشه الذي أعلن موت الإله، أي نهاية عصر الميتافيزيقا والكليات وادعاء الإنسان المركزية وبشَّر بعالم لا مركزية له. في هذا الإطار ظهر الفكر المعادي للاستنارة واللاعقلانية المادية والرؤية العضوية الشمولية وفكرة التاريخ كعود أبدي وكدوائر مفرغة والفكر العنصري الغربي (كانت أكثر الكتب انتشاراً في أوربا في نهاية القرن التاسع عشر كتاب المفكر العنصري الفرنسي دروموند فرنسا اليهودية) . ومن هذه التربة نبتت النازية واليهودية المحافظة والصهيونية.(2/297)
ومع تزايد الإحساس بالورطة الحضارية تزايد الفكر العبثي والعدمي. ويُلاحَظ أن ثمة علاقة بين تَزايُد النزعة الاستهلاكية (والانغلاق على الذات وملذاتها) وتَزايُد النسبية والعدمية الفلسفية. ونشبت ثورة ضد الكلية والشمولية، سواء في شكلها المادي الواضح (الوضعية ـ الوظيفية) ، أو في شكلها المادي الذي يتلبس لباساً روحياً (الهيجلية ـ البنيوية) . وظهرت مدارس فلسفية تُوجِّه سهام نقدها للحداثة العقلانية المادية الغربية وفكر الاستنارة ككل (مدرسة فرانكفورت) وتهاجم فكرة التقدم.
وكل هذا مؤشر على اقتراب المرحلة الصلبة من نهايتها، ومع هذا فإن ما ينقذ هذه المرحلة من السيولة الكاملة ومن السقوط في قبضة الصيرورة هو الإحساس المأساوي الذي صاحبها، فالإنسان الغربي كان لا يزال يحمل في وجدانه ذكرى المرحلة البطولية المادية. ويُلاحَظ انتشار الفلسفة الهيجلية والماركسية في العالم الثالث، وهي فلسفات تؤمن بمركز قويّ وبإمكانية تَحكُّم الإنسان في مصيره. وقد لاحظ نيتشه نفسه أنه رغم إعلانه موت الإله فإن ظلاله (متمثلة في مفاهيم السببية والكلية والغائية) لا تزال في كل مكان.(2/298)
ب) تكتسب الحركة المادية في هذه المرحلة مركزية كاملة وحركية ذاتية مستقلة عن إرادة الإنسان بحيث تتجاوز أية نماذج عقلية وأية محاولات للتفسير والتنظير فكل شيء يسقط في قبضة الصيرورة، وتختفي المنظومات الكلية، ولذا لا يتساءل الإنسان عن أصل الأشياء ولا عن معناها ويختفي البحث عن الأصول والمعنى (فالحديث عن الأصل يعني وجود ذات فاعلة تُهمِّش الذوات الأخرى) . ويُنظَر إلى العالم بأسره من منظور الهامش ويصل فيه الترشيد قمته فيفقد الإنسان رشده وحريته وإرادته ومقدرته على التحكم، فيصبح العقل وثمرات الفكر (مثل النظريات والأيديولوجيات) أموراً قديمة يجب طرحها. وبذا، يختفي الإنسان تماماً بتحوله إلى مادة مُستوعَبة في نظام آلي عالمي وصلت فيه درجة التحكم والترشيد إلى الذروة، فتظهر السيولة والتفكيكية وفكرة اللاتحدد في الطبيعة، والانتصار الكامل للرؤية المتمركزة حول المادة على الرؤية المتمركزة حول الذات الإنسانية، أي أن المركز الواعي للكون (الإنسان) يختفي ليحل محله في بداية الأمر الطبيعة باعتبارها المركز اللاواعي ثم يظهر أخيراً اللامركز اللاواعي. هذا هو عصر النهايات والمابعديات (نهاية الأيديولوجيا ـ نهاية التاريخ ـ نهاية الميتافيزيقا ـ نهاية الحقيقة ـ نهاية البحث عن المعنى) ، ولذا لا توجد أزمة معنى، وتحل اللاعقلانية المادية محل العقلانية المادية، والاستنارة المظلمة محل الاستنارة المضيئة، وتختفي تماماً القيم والثوابت والمطلقات (في المجال المعرفي والجمالي والأخلاقي) ويصبح لكل فرد ثوابته وقيمه ودينه، وتختفي المعيارية لتحل محلها لامعيارية كاملة ونسبية شاملة. ولعل أطروحات ما بعد الحداثة هي تعبير عن هذا الوضع، فهي رؤية للكون تؤكد أن الكون لا مركز له، وأن لا علاقة بين النتائج والأسباب، ولا بين الدال والمدلول، ولا بين العقل والواقع، فكأن كل شيء أصبح مكتفياً بذاته لا علاقة له بالآخر، مجرد قصص صغرى، إذ لا توجد(2/299)
قصة عظمى ولا ديانة عالمية؛ عالم ذري تماماً لا قداسة فيه انسحب منه الإله ومات فيه الإنسان. ولذا تمحي كل الثنائيات وتختفي النزعة الطوباوية وتظهر النزعة البرجماتية والرغبة في التكيف والمقدرة الفائقة على الإذعان للأمر الواقع.
ويمكننا القول بأنه إذا كان الإله ـ حسب التصوُّر النيتشوي ـ قد مات في أواخر القرن التاسع عشر فإن الشيطان نفسه، قد مات أول يناير 1965 (أي مع البداية الافتراضية للمرحلة الثانية) . فالشيطان يفترض وجود قصة كبرى وثنائيات فضفاضة أو صلبة، وعالم يرتكب فيه الإنسان الرذيلة. ومع اختفاء كل هذا، ومع الحياد الكامل تجاه الجسد والجنس والعالم، ومع إزالة ظلال الإله (مفهوم الكلية والسببية والغائية) يصبح من الصعب التمييز بين المقدَّس والمدنَّس، ويصبح الشيطان كائناً بلا وظيفة فيموت، وهذا هو ما يمكن تسميته «تحييد العالم» .
ومع هذا يُلاحَظ أن المقدَّس لم يمت تماماً، وأنه في واقع الأمر لم يُبعث، وإنما كان هناك طيلة الوقت متوارياً. ويعبِّر المقدَّ عن نفسه خارج أي إطار ديني، من خلال عدد هائل من العبادات الجديدة والغيبيات التي تتعايش مع كل المفاهيم العصرية أو تعيش جنباً إلى جنب معها دون أن تدخل معها في أي علاقة.(2/300)
أما في العالم الثالث فتتداخل الأمور، فمع الحديث عن الاستنارة يُوجَد الحديث عن ما بعد الحداثة، رغم ما بين الاتجاهين من تناقض عميق. كما يُلاحَظ ظهور فكر لا يقبل الحداثة الغربية، ويحاول أن يؤسس حداثة جديدة تنطلق من نقد أساسي لفكر الحداثة الغربي، ففي العالم الإسلامي، على سبيل المثال، تَراجَع مشروع الشيخ محمد عبده الخاص بتكامل الحداثة الغربية والإسلام، ويحاول الخطاب الإسلامي طرح نقد شامل للحداثة الغربية، ويبدأ البحث عن حداثة جديدة لا تودي بالإنسان. أما في إسرائيل فتتراجع الأيديولوجية الصهيونية وتظهر العبادات الجديدة (بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم) وتترجم فلسفة ما بعد الحداثة نفسها في مجال اليهودية إلى لاهوت موت الإله.
خامساً: المنظومة الأخلاقية وأسلوب الحياة:(2/301)
أ) يتم في المرحلة الأولى توليد منظومات أخلاقية مادية (اشتراكية أو رأسمالية) يؤمن بها الإنسان الرأسمالي أو الاشتراكي. وهو على استعداد للموت من أجلها. وهو ما يعني أن النزعة الطوباوية والأحلام المثالية بالحرية والإخاء والمساواة والهيمنة الإمبريالية وإرادة القوة ذات فعالية. ويشعر الإنسان من ثم بأنه قادر على التحكم في حياته ومصيره وعلى صياغة بيئته وذاته في ضوء المثل الأعلى الذي يؤمن به. ويتم ضبط الحياة من خلال إعلاء الرغبات (وكبتها أو قمعها) وإرجاء الإشباع واللذة. وتبدأ عملية تآكل الأسرة (فتختفي الأسرة الممتدة لتحل محلها الأسرة النووية التي تبدأ في التفكك هي الأخرى) ، إلا أن الأسرة تظل مع هذا هي الوحدة الأساسية في المجتمع التي يتم من خلالها توصيل القيم إلى الأفراد وتحويلهم إلى مواطنين وكائنات اجتماعية. كما يتم إعلاء الرغبات باسم المثل الأعلى داخل إطار الأسرة. وتظهر حركة تحرير المرأة التي تطالب بإعطاء المرأة حقوقها باعتبارها عضواً في المجتمع، تقوم بدورها كأم وكأداة عاملة. ويؤدي تنميط السلع إلى تنميط الحياة وترشيدها، كما يؤدي استخدام السيارة إلى تَسارُع وتيرة الحياة. ويُلاحَظ اتساع رقعة الحياة العامة وضمور رقعة الحياة الخاصة وبداية تدويل أسلوب الحياة وتَراجُع اللون المحلي (انتشار الهامبورجر والتيِّشيرت والبلوجينز وأمركة الغرب والعالم والولايات المتحدة، باعتبار أن الأمركة هي أسلوب في الحياة يعادي الخصوصيات الثقافية وضمنها الخصوصيات الأمريكية نفسها) . ومع هذا، يظل إحساس الإنسان بأنه قادر على التحكم في حياته ومصيره وفي صياغة بيئته وذاته، ويظل هناك وهم الخصوصيات الإثنية والقومية. ويلاحَظ تصاعد عملية علمنة التعليم والرموز والأحلام والرغبات، ومع هذا تظل الأحلام والرموز القديمة ذات فعالية. ولا يزال النظام التعليمي مُتأثراً بالمُثُل التقليدية (أهمية اليونانية واللاتينية ودراسة الفلسفة(2/302)
والكلاسيكيات) ، ويظل هناك شكل من التدين الفعلي أو الاسمي قائماً. أما في العالم الثالث فيبدأ أسلوب الحياة في اكتساب ملامح قومية بشكل واع وتنعكس عليه الرغبة في التراكم وأحلام التحرر الوطني تلهب الجماهير. وفي إسرائيل نجد أن البطل هو المستوطن الصهيوني المتقشف (ابن الكيبوتس) الذي يحمل السلاح بيد ويمسك المحراث بالأخرى.
ب) ولكن مع التزايد التدريجي للنسبية يصبح من المستحيل الإيمان بأية قيم، وهو ما يعني اختفاء النزعة النضالية البطولية وتلاشي النزعة الطوباوية وكل الأحلام المثالية (في المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي) ، ويرفض الإنسان إرجاء إشباع اللذة الفردية. ولكنه، مع هذا، يشعر بأن عليه أن يتكيف مع واقعه ويقبل عمليات التسوية في المجتمع التي تُسوى الإنسان بالإنسان وتمحو فرديته وعالمه الجواني ثم تسويه بالأشياء.(2/303)
يتسارع تآكل الأسرة إلى أن تأخذ في الاختفاء تماماً وتظهر أشكال بديلة من الأسرة (أسرة من رجل واحد وأطفال ـ امرأة واحدة وأطفال ـ رجلان وأطفال ـ امرأتان وأطفال ـ رجلان وامرأة وأطفال ... إلخ) . وتظهر حركة التمركز حول الأنثى التي تنظر للمرأة باعتبارها كائناً في حالة صراع مع الرجل، ولذا لا تطالب هذه الحركة بحقوق المرأة، وإنما تطالب بتحسين كفاءات الصراع (مع الرجل) وتغيير اللغة وتعديل مسار التاريخ. ومع ضمور النزعة الطوباوية واختفاء الأسرة كآلية لنقل القيم وإعلاء الرغبات يتزايد السُعار الجنسي عند الأفراد، ويزيد حدته قطاع اللذة الذي يعمل على هدم القيم الأخلاقية وإشاعة القيم الاستهلاكية التي تصبح المعيار للحكم على الإنسان (ولذا يحل الذوق الجيد محل الأخلاقيات الحميدة والقيم الجمالية محل القيم الأخلاقية) . ومن الأسباب الأخرى التي أدَّت إلى تَزايُد السُعار الجنسي انفصال الجنس عن القيمة الأخلاقية والاجتماعية، بحيث أصبح النشاط الجنسي مرجعية ذاته. وقد أصبحت اللذة إحدى الآليات التي يستخدمها المجتمع العلماني الحديث في استيعاب الجماهير في عمليات الضبط الاجتماعي بعد أن كان يبذل جهوداً لمحاصرتها وإعلائها. وتتم عملية الاستيعاب والضبط لا من خلال القمع الصريح وإنما من خلال الإغواء، وهو شكل من أشكال القمع الخفي حيث تتم إشاعة الإحساس بأن حق الإنسان الأساسي (بل الوحيد) هو الاستهلاك وبأن إشباع اللذة هو أقصى تعبير ممكن عن الحرية الفردية، وهو ما يعني ضمور اهتمام المواطن برقعة الحياة العامة وتركيزه على ذاته ورغباته، ولكن هذه الذات وهذه الرغبات يتم تشكيلها وصياغتها وتوجيهها من قبَل صناعات اللذة وأجهزة الإعلام التي تَغوَّلت تماماً في تلك المرحلة. والتي تقوم باقتحام أحلام الإنسان وترشيده من الداخل والخارج. فيظهر الإنسان ذو البُعد الواحد الذي تم ترشيده من الداخل. ويظهر المواطن المُخدَّر الذي لا يمكنه التحكم في(2/304)
رغباته الحسية، والذي تتركز أحلامه في تحقيق انتصار جنسي أو فوز النادي الذي ينتمي إليه فوزاً ساحقاً ماحقاً!
ويُلاحَظ ظهور الإنسان الجسدي وشيوع الحب العرضي. ويُعدُّ عام 1960 هو نهاية القيم البيوريتانية الخاصة بالقمع والإرجاء، فقد ظهرت حركة الجنس المطلق أو المرسل (بالإنجليزية: فري لاف موفمنت free love movement والتي تعني حرفياً «حركة الحب الحر» ) . وتُعدُّ ثورة الشباب في الستينيات ـ في تصورنا ـ مَعلَماً أساسياً في تاريخ المتتالية التحديثية والعلمانية الشاملة، فحتى ذلك الوقت لم تكن علمنة سلوك الإنسان الغربي قد اكتملت بعد، رغم علمنة رؤيته وأحلامه ورغباته. وهو ما تم إنجازه في هذه المرحلة. وكانت اللذة الحسية حتى ذلك الوقت مقصورة على الطبقة الحاكمة ولكن تم تعميمها وخصخصتها وجعلها متاحة للجميع، أي تم التوزيع العادل لإمكانات إشباع الرغبات الحسية (بالإنجليزية: ديموكراتايزيشن أوف هيدونيزم democratization of hedonism) . وكل ما يطلبه المجتمع الآن من الإنسان هو الاستسلام للاستهلاك واللذة.(2/305)
ويُلاحَظ اتساع رقعة الحياة العامة لتشمل معظم حياة الإنسان الخاصة، ويتغلغل السوق والتعاقد والتبادل في كل مجالات الحياة (الوجبات السريعة بدلاً من الطعام ـ الكرديت كارد بدلاً من النقود) وتتم علمنة التعليم والرموز والأحلام تماماً. ويُلاحَظ اكتمال عملية التنميط، ومع هذا تتغير الأساليب والطرز إلى درجة يصعب على الإنسان استيعابها، وتتسع رقعة الحياة العامة وتتسارع وتيرتها. ولا توجد قواعد عامة في المجتمع، ومع هذا يلاحَظ وجود عدد هائل من القواعد والإرشادات التي تتغيَّر كل يوم، كل هذا يعني في واقع الأمر أن لا وقت للتأمل، فالذات مُحاصَرة بالتعددية السلعية والمعلوماتية المفرطة والكلشيهات الأيقونية التي تلتهم الإنسان ولا تمنحه سعادة أو حكمة فيبتلع كل شيء ويتشيأ في مجتمع التبادل والاتصالات وتصبح الصورة أهم السلع (صورة الذات والصور التي يتلقاها المستهلك) . ولذا يتزايد إحساس الإنسان بعدم الجدوى وانعدام الهدف وبأنه لا يملك من أمره شيئاً: الإعلام يقرر ما يُنشَر وما لا يُنشَر ـ الهندسة الوراثية تتحكم في كل شيء ـ الكمبيوتر يُقسِّم العالم (وضمن ذلك الإنسان) إلى وحدات بسيطة يتم تناولها. ويؤدي كل هذا إلى أن ينسى الإنسان الماضي ويتولد لديه الإحساس بأنه في حاضر أزلي.
وفي العالم الثالث يُلاحَظ تزايد معدلات التغريب بشكل واضح، ويصبح نجوم السينما هم المركز ويتبنى الناس الاستهلاكية إطاراً للحياة والبرجماتية أو الداروينية أطراً معرفية. وفي إسرائيل يختفي المستوطن الصهيوني المتقشف (الذي يصبح محل السخرية) ليحل محله الصهيوني المرتزق الباحث عن مصلحته ومتعته.
سادساً: المنظومة الدلالية والجمالية:(2/306)
أ) يسود في المرحلة الأولى الإيمان بأن ثمة واقعاً ثابتاً مستقراً وذاتاً متماسكة قادرة على التواصل مع الذوات الأخرى من خلال لغة عقلانية شفافة تعكس الواقع ويمكن تمثيل الواقع من خلالها، وبأن الأعمال الفنية تستند إلى المحاكاة والتعبير، ولها مضمون إنساني وأخلاقي وتهدف إلى تعميق إدراك الإنسان بواقعه وربما تغييره، وبأن وظيفة النقد الأدبي والفني هي اكتشاف القيم الأخلاقية والجمالية الإنسانية التي يمكن أن يهتدي بهديها المبدعون والجمهور.
ولكن مع نهاية المرحلة تكتشف الذات الإنسانية أن حدودها غير واضحة وأن الواقع غير مستقر، وأن ثمة أسبقية للأشياء على الإنسان، لكل هذا تفشل الذات الإنسانية في التواصل مع الذوات الأخرى أو التفاعل مع الموضوع أو التعامل معه. فلم تَعُد اللغة أداة جيدة للتواصل ولا شفافة. وقد أفسد التَسلُّع والتعاقد اللغة فأصبحت قادرة على التعامل مع عالم الأشياء دون عالم الإنسان، ولذا يستحيل التواصل من خلال اللغة المتشيئة. ومع هذا، تسيطر هذه اللغة المتشيئة على الإنسان وتسبب اغترابه. وفي احتجاجه يحاول الإنسان أن يُبعد اللغة عن عالم الأشياء فيُطوِّر لغة ذاتية مغرقة في الذاتية ويزداد التجريب اللغوي. والفنون الحداثية ليست محاكاة ولا تعبيراً عن الذات الإنسانية وليس لها هدف وإنما هي احتجاج (بشكل واع أحياناً) على تَسلُّع العالم، ولكنه احتجاج مأساوي يعرف انعدام جدوى الاحتجاج. ولذا، تظهر نظريات تفترض استقلالية العمل الفني عن الواقع وأن العمل الفني هو مرجعية ذاته مكتف بذاته لا يشير إلا إلى ذاته، وذلك حتى يتم فصل الفنون عن عالم التَسلُّع الواقعي الذي يتهدده. ويظهر التجريد والتجريب ورفض محاكاة الواقع وشرح العبث. وتصبح وظيفة النقد الأدبي والفني هي محاولة التوصل للقيم الجمالية لحماية الفنان من عالم السلع.(2/307)
ب) في مرحلة ما بعد الحداثة تختفي الذات الإنسانية المستقلة الواعية وإن وُجدت فهي ذات منغلقة على نفسها وغير متماسكة، والواقع لا يُوجَد وإن وُجد فلا يمكن الوصول إليه. وتختفي المعيارية وإن وُجدت فهي معايير متعددة تنفي فكرة المعيارية المركزية وهو ما يعني استحالة المحاكاة أو التفاعل أو التواصل. وما دامت اللغة موجودة في قلب الثقافة، فهي ليست شفافة وليست موصلاً جيداً كما يتصور دعاة التحديث، فالدوال منغلقة على ذاتها ملتفة حولها، ومن ثم فهي منفصلة عن المدلولات، ولذا فالمعنى دائماً مختلف ومرجأ (الاخترجلاف) .
ونفس القول ينطبق على النصوص، فكل نص ينفتح على النصوص الأخرى، وكل نص يحيلك إلى نص آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية (وهذه هي النصوصية وهي الاخترجلاف على مستوى النصوص) . وهناك دائماً فائض في المعنى ليس بإمكان الإنسان التحكم فيه.
واللغة مكونة من صور مجازية متكلسة، أي أنها صور مجازية تأيقنت ولم تَعُد تصلح وسيلة لاستكشاف الواقع وللتعبير عن التعامل بين الذات والموضوع، فهو مجاز ملتف حول نفسه ومن ثم يخبئ الواقع ولا يوصله.(2/308)
كل هذا يعني أن ليس ثمة واقع خارج النظام اللغوي أو شبكة الألعاب اللغوية، فكل كلام إن هو إلا كلام عن كلام في كلام، ولذا فالمعنى هو في واقع الأمر نتاج عابر للكلمات أو الدوال أو الصور المجازية، وأي حديث عن التحكم في اللغة كأداة للتواصل هو من لغو الحديث، فاللغة إرادة يفرضها الإنسان على الآخرين من خلال القوة. ومن ثم فالواقع هو نتاج الخطاب، وليس كما كان الظن في الماضي، أن الخطاب هو نتاج الواقع، واللغة هي التي تنتج الواقع والفكر. ولكن اللغة هي في ذاتها نتاج علاقات اللغة. وحينما نُعبِّر عن الحقيقة فما نخبر عنه ليس الحقيقة وإنما ترتيب جميل للكلمات متسق مع نفسه، فالحقيقة ليست حقيقة موضوعية وإنما هي وهم الحقيقة. وهذا يعني أن اللغة لا يمكن استخدامها في تمثيل الواقع، فاللغة تُستخدَم أساساً للإفصاح عن المشاعر الفردية بطريقة فردية. وبدلاً من أن تكون اللغة أداة التواصل بين الناس، تصبح سجن الإنسان. ومع هذا، يستطيع الإنسان أن يحقق قدراً من الحرية من خلال التفكيك ومن خلال إعلان فشل اللغة والمشروع الإنساني بأسره.
والنظام، في المجتمع، ليس ثمرة قصة كبرى (إنسانية مشتركة) أو جهد واع أو تَواصُل لغوي يخضع لبعض القواعد وإنما هو نتيجة الكلام والمحادثة (القصص الصغرى) لا الحوار (الذي يدور في إطار نص ثابت) . بل إن العلاقات بين الناس هي نتيجة تَداخُل الألعاب اللغوية التي تُولِّد عقداً أو أنشوطة تربط الناس بعضهم ببعض، أي لا يوجد تَواصُل وإنما تشابك عابر بين أطراف. ويصبح الفن (ما بعد الحداثي) مستقلاً عن الواقع بل عن الإنسان، فهو بلا غاية إلا اللعب الذي لا غاية له، وهو يدخل في حالة من التجريب الدائم. وهو لا يحاكي الواقع (فلا يُوجَد واقع ثابت) ولا يعبِّر عن وعي المؤلف (فقد تم إعلان موته) ، ويظهر الكولاج والباستيش والسخرية، وتصبح مهمة النقد تفكيك النصوص ليبيِّن التناقضات الكامنة التي لا يمكن حسمها في كل نص وعمل.(2/309)
سابعاً: الصور المجازية والرموز:
أ) ظهرت مجموعة من الصور المجازية في العصر البطولي التي تدل على التحكم في كلٍّ من الذات والموضوع والمقدرة على التجاوز والصلابة.
1 ـ الدولة إله (صورة هيجل المجازية) تقوم بترشيد البشر، والاستيلاء على الدولة هو طريقة تغيير العالم في الداخل (ثم الاستيلاء على العالم في الخارج) .
2 ـ العالم مثل آلة يتحكم فيها الإنسان وتتحكم فيه، والعالم مثل نبات يخوض عملية دوران مستمرة أو نمواً دائماً بدون انقطاع وبهدف محدد.
3 ـ هرمية حادة ونظام.
4 ـ العقل مثل المرآة التي تعكس الواقع ومثل الفانوس الذي يلقي عليه الضوء والنافورة التي تغمره مياهها.
5 ـ بروميثيوس وفاوستوس ونابليون وطرزان.
6 ـ اللعبة الأساسية هى الدب (تيدى بير) .
7 ـ النموذج صلب ويُوجَد داخله صراع حاد بين الذات والموضوع، ولكنه صراع يمكن حسمه وإن كان يُحسَم دائماً لصالح الموضوع. وهو نموذج حركي يحوي مركزه داخله.
أما في المرحلة الثانية، فقد ظهرت مجموعة أخرى من الصور المجازية التي تدل على تآكل الإحساس بالكل، بل اختفائه واهتزاز الهدف وضمور الذات الإنسانية ومقدرتها على التحكم.
1 ـ الدولة كتنين ووحش كاسر والعالم كقفص حديدي.
2 ـ العالم آلة تدور بغض النظر عن الإرادة الإنسانية، أو نبات ينمو بوحشية بالغة، وكلاهما يسحق الإنسان.
3 ـ لا يوجد شكل واضح ولا نظام، وهناك شك عميق في الهرمية.
4 ـ العقل مرآة سلبية أو كيان منغلق على نفسه.
5 ـ فرانكنشتاين ودراكولا وسيزيف وهتلر وستالين ودكتور جيكل ومستر هايد (رمز انقسام الذات والموضوع) .
6 ـ لاتزال اللعبة الأساسية هى تيدى بير.
7 ـ نموذج صلب فيه تشققات تم حسم الصراع داخله لصالح المادة.
ب) استناداً إلى اختفاء الذات والذاكرة والمركز ووهم التحكم وحقيقة الإذعان، تظهر صور مجازية تخبئ الفوضى وتؤكد السيولة والتعددية المفرطة واللعب.(2/310)
1 ـ الدولة ليست إلهاً ولا تنيناً، فهي مؤسسة من بين المؤسسات يستطيع الإنسان أن يدير لها ظهره، وخصوصاً أنها لم تَعُد مركز السلطة. ومع هذا، يمكن القول بأن مؤسسات الدولة (مع غيرها من المؤسسات) قد أصبحت القفص الحديدي.
2 ـ العالم آلة، ولكن الآلة هي الفيديو والكمبيوتر، يتحكم فيها الإنسان ولكنها تتحكم فيه وتبتلعه. والعالم مثل نبات، ولكن النبات هو الجذمور الذي لا ينمو حسب نمط واضح وفي اتجاه مفهوم، والعالم كله لعبة.
3 ـ العالم سطح لامع.
4 ـ العقل ليس مرآة ولا فانوساً ولا نافورة، وإنما هو كل شيء ولا شيء، مثل الكمبيوتر الذي يختزن كل شيء ولا يعي شيئاً.
5 ـ مادونا ومايكل جاكسون والرئيس/الممثل ريجان حيث لا نعرف الأصل والصورة، وكلها شخصيات تُغيِّر شخصياتها ومنظوماتها القيمية بعد إشعار قصير وحسب طلب مدير العلاقات العامة.
6 ـ اللعبة الأساسية هى العروس باربى ذات الجاذبيه الجنسية والتوجه الاستهلاكى.
7 ـ نموذج ليس بصلب ولا فضفاض وإنما هو نموذج هلامي لا مركز له.
وأعتقد أننا لو قبلنا التقسيم الذي أقترحه والستينيات كمرحلة فارقة تَبدَّت فيها الملامح الأساسية (الإيجابية والسلبية) للمتتالية التحديثية المتحققة في الغرب وللعلمانية الشاملة، فلا يصبح من الضروري علينا أن نعيد تقييم هذه المتتالية في ضوء ما نراه من نتائج، لأن عملية التقييم قبل ذلك التاريخ كانت تتم في فترة النجاح النسبي للمتتالية في حلقاتها الأولى ولذا كان لا يزال ثمة أمل في تحقيق المتتالية المثالية، ولم تكن الأحلام قد وُئدت بعد، ولم تكن النزعة الطوباوية قد نضبت بعد، ولم تكن المتتالية الفعلية قد بدأت تُفصح عن وجهها القبيح بالدرجة الكافية بعد.
العلمانية الشاملة: تعريف(2/311)
العلمانية الشاملة (التي يمكن أن نسميها أيضاً «العلمانية المادية» أو «العلمانية العدمية» ) هي رؤية شاملة للعالم، عقلانية مادية، تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحدية المادية، التي ترى أن مركز الكون كامن فيه، غير مفارق أو متجاوز له، وأن العالم بأسره مُكوَّن أساساً من مادة واحدة، ليست لها أية قداسة ولا تحوي أية أسرار، وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف، ولا تكترث بالخصوصيات أو التَفرُّد أو المطلقات أو الثوابت. هذه المادة تشكل كلاًّ من الإنسان والطبيعة، فهي رؤية واحدية كونية مادية.
هذه الواحدية المادية تعني في واقع الأمر ما يلي:
1 ـ أن العالم (الإنسان والطبيعة) كيان بسيط متماسك بشكل عضوي مصمت، أحادي البُعد، ليست له أية أبعاد جوانية، وإن وُجدت له مثل هذه الأبعاد فلا أهمية لها، يسري عليها قانون طبيعي مادي واحد يترجم نفسه إلى عدة قوانين مطردة مترابطة لا هدف لها ولا غاية.
2 ـ الإنسان جزء عضوي لا يتجزأ عن الكل المادي، لا توجد مسافة تفصل بينهما، ومن ثم لا يوجد حيز إنساني مستقل يتحرك فيه الإنسان بقدر من الاستقلال والحرية. كل هذا يعني أن الإنسان ليس له حدود مستقلة وليس عنده وعي مستقل أو مسئولية أخلاقية مستقلة، فالعلمانية الشاملة تعبير عن النزعة الجنينية في الإنسان (مقابل النزعة الربانية) .
3 ـ العالم المُعطَى لحواسنا يحوي داخله ما يكفي لتفسيره والتعامل معه، وعقل الإنسان قادر على استخلاص المنظومات المعرفية، بل الأخلاقية والجمالية، اللازمة لإدارة حياته العامة والخاصة، وإعادة صياغة البيئة المادية والاجتماعية المحيطة به، بل ذاته من الداخل والخارج، من خلال ملاحظة العالم الطبيعي المادي وقوانين الحركة الكامنة فيه، دون الإهابة بأية مرجعية متجاوزة لعالم الحواس والطبيعة/المادة.(2/312)
4 ـ هذا ما يُسمَّى «عملية الترشيد» (وأحياناً «التحديث» وربما «التغريب» ) في ضوء المعايير العقلية المادية والطبيعية المادية، وهي، في واقع الأمر، عملية تدجين للإنسان. والمفروض أن عملية الترشيد هذه ستتزايد على مر الأيام فيتزايد تَحكُّم الإنسان في ذاته وبيئته، فكل شيء في العالم قابل للوصف والتقنين والتوظيف والحوسلة، وضمن ذلك الإنسان نفسه، فهو قابل لأن يتحول إلى مادة استعمالية لا قداسة لها ولا أسرار.
والعلمانية الشاملة، بهذا المعنى، ليست مجرد فصل الدين أو الكهنوت أو هذه القيمة أو تلك عن الدولة أو عما يُسمَّى «الحياة العامة» ، وإنما هي فصل لكل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية (المتجاوزة لقوانين الحركة والحواس) عن العالم، أي عن كلٍّ من الإنسان (في حياته العامة والخاصة) والطبيعة بحيث يصبح العالم مادة نسبية لا قداسة لها.
5 ـ إن أردنا استخدام نموذج الحلولية الكمونية التفسيري قلنا إن العلمانية الشاملة هي وحدة الوجود المادية التي لا تختلف عن وحدة الوجود الروحية إلا في تسمية المبدأ الواحد الكامن، فبينما يُسمَّى هذا المبدأ الواحد «الإله» في وحدة الوجود الروحية، فهو يُسمَّى «الطبيعة/المادة» في وحدة الوجود المادية.(2/313)
والعلمانية الشاملة تتسم، شأنها شأن كل النظم الحلولية الكمونية المادية، بأنها متتالية تمر بمرحلتين أساسيتين: مرحلة ثنائية صلبة (تَمركُز حول الذات الإنسانية والواحدية الذاتية والإمبريالية وتَمركُز حول الموضوع الطبيعي/المادي والواحدية الطبيعية/المادية) ، وهذه هي مرحلة التحديث البطولية الصلبة وحلم التجاوز المادي، مرحلة الذات والموضوع المتماسكين والمركز المادي (الإنساني أو الطبيعي) ومن ثم فهي مرحلة العقلانية المادية. ثم تأتي المرحلة الثانية مرحلة الواحدية الشاملة السائلة (حين تُصفَّى الذات الإنسانية ويُقوِّض نموذج الطبيعة/المادة) . وهذه هي مرحلة ما بعد الحداثة البرجماتية واختفاء الذاكرة والرغبة في التجاوز، مرحلة اختفاء الذات والموضوع ومن ثم اختفاء المركز (الإنساني والطبيعي) ومن ثم فهي مرحلة اللاعقلانية المادية.(2/314)
ونحن نذهب إلى أن العلمانية (الشاملة) والإمبريالية صنوان. فرغم أن الإنسان الغربي بدأ مشروعه التحديثي بالنزعة الإنسانية (الهيومانية) التي همَّشت الإله ووضعت الإنسان في مركز الكون، إلا أنها شأنها شأن أية فلسفة علمانية شاملة (تدور في إطار المرجعية الكامنة المادية) ترى أن الإنسان هو إنسان طبيعي/مادي يضرب بجذوره في الطبيعة/المادة، لا يعرف حدوداً أو قيوداً ولا يلتزم بأية قيم معرفية أو أخلاقية، فهو مرجعية ذاته ولكنه في الوقت نفسه يتبع القانون الطبيعي ولا يلتزم بسواه ولا يمكنه تَجاوُزه. ولذا، فهو في واقع الأمر كائن غير قادر إلا على التمركز حول مصلحته (منفعته ولذته) المادية وبقائه المادي (فالإنسانية مفهوم أخلاقي مطلق متجاوز لقوانين المادة) وغير قادر على الاحتكام لأية أخلاقيات إلا أخلاقيات القوة المادية. ولذا، فبدلاً من مركزية الإنسان في الكون تظهر مركزية الإنسان الأبيض في الكون، وبدلاً من الدفاع عن مصالح الجنس البشري بأسره يتم الدفاع عن مصالح الجنس الأبيض، وبدلاً من ثنائية الإنسان والطبيعة وتأكيد أسبقية الأول على الثاني تظهر ثنائية الإنسان الأبيض مقابل الطبيعة المادية وبقية البشر الآخرين (الذين يصبحون جزءاً لا يتجزأ منها) وتأكيد أسبقيته وأفضليته عليهم، وبدلاً من الاحتكام للقيم الإنسانية تُستخدَم القوة، ويصبح هم هذا الإنسان الأبيض هو غزو الطبيعة المادية والبشرية وحوسلتها وتوظيفها لحسابه واستغلالها بكل ما أوتي من إرادة وقوة.
من هذا المنظور، يمكن القول بأن العلمانية الشاملة هي النظرية وأن الإمبريالية هي الممارسة، ولكن الممارسة أخذت شكلين مختلفين باختلاف المجال (ومن ثم تمت تسميتهما كما لو كانا ظاهرتين منفصلتين لا علاقة للواحدة منهما بالأخرى) :(2/315)
أ) الإمبريالية في الداخل الأوربي التي أخذت شكل الدولة العلمانية الرشيدة (الملكيات المطلقة ـ الدول الديموقراطية منذ الثورة الفرنسية ـ الحكومات الشمولية) .
ب) الإمبريالية في بقية العالم التي أخذت أشكالاً كثيرة (الاستعمار الاستيطاني ـ الاستعمار التقليدي ـ الاستعمار الجديد ـ النظام العالمي الجديد) .
وفي تصوُّرنا أن أفضل طريقة لتناول قضية العلمانية والعلمنة هي قضية المرجعية (كامنة أم متجاوزة) . فالعلمانية (الشاملة) قد لا تكون إلحادية أو معادية للإنسان على مستوى القول والنموذج المعلن (فهي قد لا تنكر وجود الخالق أو مركزية الإنسان في الكون أو القيم المطلقة، الإنسانية أو الأخلاقية أو الدينية، بشكل صريح ومباشر) . ولكنها على المستوى النماذجي الفعال ومستوى المرجعية النهائية، تستبعد الإله، وأية مطلقات، من عملية الحصول على المعرفة ومن عملية صياغة المنظومات الأخلاقية، كما تستبعد الإنسان من مركز الكون بشراسة وبحدة وتنكر عليه مركزيته وحريته
الجزء الخامس: الجماعات الوظيفية
الباب الأول: السمات الأساسية للجماعات الوظيفية
الجماعات الوظيفية: مقدمة
«الجماعات الوظيفية» نموذج تحليلي يمكن أن نصفه بأنه قديم/جديد. فهو "قديم" باعتبار أن كثيراً من المفكرين في الغرب قد استخدموه دون تسميته (كارل ماركس وماكس فيبر وأبراهام ليون) وفي غيره من المواضع، وباعتبار أنه كامن في كثير من الدراسات التي كُتبت عن الجماعات اليهودية وغيرها من الأقليات (مثل الأرمن) . فكاتب مثل شكسبير في تاجر البندقية يصف شيلوك في عبارات تبيِّن أن الكاتب الإنجليزي العظيم قد أدرك بشكل فطري كثيراً من ملامح الجماعة الوظيفية. كما أن كثيراً من الكتابات الصهيونية (وبخاصة كتابات الصهاينة العماليين) قد أدركت ملامح الجماعة الوظيفية. ونحن نذهب إلى أن كلاسيكيات معاداة اليهود مثل بروتوكولات حكماء صهيون حينما تصف "اليهودي" إنما تصف عضو الجماعة الوظيفية.(2/316)
وأخيراً يمكن القول بأنه مفهوم "قديم" باعتبار أن هناك محاولات في علم الاجتماع الغربي لوصف "بعض" الجماعات الوظيفية من خلال مجموعة من المصطلحات، من بينها: «الأقلية الوسيطة» ـ «الشعوب التجارية الوسيطة» ـ «الوسطاء المهاجرون» ـ «الشعوب التجارية الهامشية» ـ «الأقليات الدائمة» . ورغم أهمية هذه المحاولات ورغم ارتفاع مقدرتها التفسيرية فيمكن ملاحظة ما يلي:
1 ـ ركَّز العلماء والدارسون الغربيون، حبيسو التجربة الغربية، جُلَّ اهتمامهم ـ كما هو مُتوقَّع ـ على جماعتين وظيفيتين أساسيتين:
أ) الجماعات الإثنية التي تضطلع بدور مالي تجاري من خلال رأس المال البدائي أو الربوي في المجتمعات القديمة والوسيطة. وهذا يشكل جزءاً من اهتمام العلماء والدارسين الغربيين بتاريخ الرأسمالية في العالم الغربي.
ب) المهاجرون بانتمائهم الإثني والوظيفي المتميِّز، وهذا يشكل جزءاً من اهتمام العلماء والدارسين الغربيين بمشكلة أساسية تواجهها المجتمعات الغربية الحديثة.
2 ـ أهمل علماء الاجتماع الغربي الجماعات الوظيفية الأخرى فلم يدرسوها تماماً أو قاموا بدراستها وكأنها لا علاقة لها بالجماعات الوظيفية التجارية والمالية، ولذا فهم يتعاملون مع ظواهر مثل الخصيان والجواري والمماليك والإنكشارية والبغايا باعتبارها ظواهر غير ذات صلة. بل إنهم يتعاملون مع ظواهر تُوجَد في داخل المجتمع الغربي نفسه، مثل المرتزقة والعاهرات، باعتبارها ظواهر لا علاقة لها بظاهرة الجماعات الوظيفية.
3 ـ أهمل علماء الاجتماع الغربيون الجانب غير الاقتصادي من الجماعات الوظيفية (مثل علاقتهم بالعلمانية الشاملة وميلهم نحو الحلولية الكمونية وتمركزهم حول ذاتهم ورؤيتهم للكون) إذ تعرَّضوا لها بشكل سطحي.(2/317)
لكل هذا لم تظهر دراسة واحدة شاملة لهذا الموضوع تجمع كل ملامحه وتحوُّله إلى نموذج تفسيري يتسم بقدر معقول من الشمول والتركيب كما نفعل في نموذج الجماعات الوظيفية الذي نطرحه. وقد استفدنا في هذه الدراسة ولا شك من كل الدراسات السابقة والنماذج التفسيرية الجزئية (الكامنة والظاهرة) المطروحة. ولكننا حاولنا تجاوزها جميعها لا عن طريق رفضها وإنما عن طريق مزجها وربطها الواحدة بالأخرى. كما ربطنا بينها وبين نماذج تفسيرية أخرى لظواهر أخرى، وجرَّدنا من كل هذا نموذجاً تحليلياً واحداً (نموذج الجماعة الوظيفية) ، الذي يتسم ـ في تصوُّرنا ـ بقدر أعلى من المرونة والشمول والتركيب من عائلة النماذج الجزئية التي أشرنا لها من قبل. وبعد ذلك قمنا بوصف الملامح الأساسية لهذا النموذج وأسباب ظهوره وتحولاته وبيَّنا أنه نموذج يتجاوز الأبعاد الاقتصادية والسياسية المباشرة ليصل إلى الأبعاد الحضارية والمعرفية، وأنه يُغطي الأصول الاجتماعية والتاريخية والإثنية للظواهر موضع الدراسة وسماتها البنيوية ومسارها التاريخي ورؤية أعضائها للكون.
ومفهوم الجماعة الوظيفية نموذج تركيبي مكثَّف له مقدرة تفسيرية عالية تفوق المقدرة التفسيرية لكثير من النماذج التفسيرية السابقة (مثل مفهوم الطبقة ومفهوم الجماعة الوسيطة) وذلك للأسباب التالية:(2/318)
1 ـ تظهر المقدرة التفسيرية لمفهوم الجماعات الوظيفية حينما نتعامل لا مع التشكيلات الكبرى (عمال ـ فلاحين ـ رأسماليين) وإنما مع التشكيلات الأصغر مثل الجماعات الهامشية والأقليات الحرفية. بل نجد أن التعامل مع التشكيلات الكبرى قد يصبح أكثر دقة وتركيبية إن قَسَّمنا الرأسماليين إلى رأسماليين أجانب ورأسماليين محليين، إذ نجد أن النوع الأول، في أغلب الأحيان، جماعة وظيفية منفصلة عن المجتمع، بينما نجد أن الثاني جزء عضوي منه. والواقع أن هذا الانفصال وذاك الاتصال يحددان خيارات كل فريق وسلوكه. فمفهوم الجماعة الوظيفية، مثله مثل مفهوم الطبقة، يؤكد أهمية العناصر الاقتصادية، ولكنه يتعامل في الوقت نفسه مع عوامل أخرى مثل: المكانة ـ الثقافة ـ الرؤية ـ علاقة الأقلية بالأغلبية ـ النسق القيمي ... إلخ.
2 ـ يقوم مفهوم الجماعات الوظيفية بالربط بين الجماعات الوسيطة (المالية والتجارية) وبين كثير من الجماعات الأخرى التي استبعدها مفهوم الجماعات الوسيطة. ومن ثم فهو يربط بين كثير من الظواهر في مجتمعات مختلفة وفي حقب تاريخية مختلفة.
3 ـ يمكن تطويع نموذج الجماعات الوظيفية بحيث يمكن تطبيقه على كثير من المجتمعات الشرقية والغربية، في الماضي والحاضر.(2/319)
4 ـ يسترجع مفهوم الجماعات الوظيفية مفهوم الإنسانية المشتركة الذي تم استبعاده إلى حدٍّ كبير من العلوم الإنسانية في الغرب. ونحن نذهب إلى أن ظاهرة الجماعة الوظيفية ظاهرة عالمية، فهي مُتجذِّرة في النزعتين الأساسيتين في الطبيعة البشرية: النزعة الجنينية (النزوع نحو الذوبان في الكل الطبيعي/المادي) والنزعة الربانية (أي النزوع نحو تجاوز حدود الطبيعة/المادة) . فإذا كانت الجنينية نزعة نحو إسقاط الهوية والحدود ونزع القداسة وإنكار التجاوز ومساواة الإنسان بالمادة حتى يصبح إنساناً طبيعياً/مادياً يُعرَّف في ضوء وظائفه المادية، يفقد استقلاليته عن الطبيعة/المادة ويفقد حريته وتركيبيته ومقدرته على التجاوز، وإذا كانت النزعة الربانية عكس ذلك تماماً (فهي تعبير عن التمسك بالهوية والحدود والقداسة والمقدرة على التجاوز وعن تَميُّز الإنسان في الكون ومقدرته على اتخاذ قرار أخلاقي حر) ، فإننا نجد أن كلتا النزعتين تتضحان في الجماعة الوظيفية. فمجتمع الأغلبية يتخلص من النزعات الطبيعية والجنينية داخله بأن يسقطها على الجماعة الوظيفية، والجماعة الوظيفية بدورها تحاول أن تفعل الشيء نفسه.
5 ـ يتجاوز مفهوم الجماعة الوظيفية الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية المباشرة ليصل إلى الجوانب المعرفية وإلى رؤية الإنسان للكون.
هذه بعض الجوانب العامة لنموذج الجماعة الوظيفية التي تجعلنا نراه أكثر تفسيرية. أما فيما يتصل بالمقدرة التفسيرية لنموذج الجماعات الوظيفية حينما يُطبَّق على الجماعات اليهودية فيمكننا أن نذكر الجوانب التالية:
1 ـ يضع مفهوم الجماعة الوظيفية أعضاء الجماعات الوظيفية في سياقاتهم التاريخية والإنسانية المختلفة، ولكنه في الوقت نفسه يتيح لنا مقارنتهم بأعضاء الأقليات الدينية والإثنية المختلفة.(2/320)
2 ـ يمكِّننا هذا النموذج من اكتشاف استمرارية تاريخية متعيِّنة (وليس استمرارية ميتافيزيقية وهمية) في تواريخ الجماعات اليهودية، هي اضطلاعهم بدور الجماعة الوظيفية. فالجماعات اليهودية من أهم الجماعات التي اضطلعت بدور الجماعة الوظيفية، وخصوصاً الجماعات الوظيفية المالية (التي يُقال لها «الجماعات الوسيطة» ) .
3 ـ ظهرت دولة إسرائيل باعتبارها دولة استيطانية قتالية تعمل للدفاع عن المصالح الاقتصادية والإستراتيجية للعالم الغربي، ويقوم هو بالدفاع عنها بالمقابل ـ أي أنها دولة وظيفية تعاقدية مع الغرب. وكل هذا يجعلنا نُعيد النظر في دور أعضاء الجماعات الوظيفية كمرتزقة أو مادة استيطانية أو جامعي ضرائب أو كتجار أو مرابين أو ملتزمي أراض (الأرندا) ، فالنمط الذي كان في الماضي كامناً مضمراً أصبح واضحاً ظاهراً في حالة الدولة الصهيونية.(2/321)
ويمكننا أن نقول إن مفهوم الجماعة الوظيفية يتسم بمقدرته على عدم الذوبان في فكرة القانون العام (الذي يسقط فيه مفهوم الطبقة) وكذلك عدم السقوط في خصوصية الظاهرة وتأيقنها (أي أن تصبح الظاهرة كالأيقونة لا تشير إلا إلى ذاتها) . ومن هنا، فهو مفهوم تحليلي يظل مرتبطاً بتموجات الواقع والمنحنى الخاص للظاهرة ولكنه مع هذا يربط بين الظواهر المختلفة، أي أنه لا يسقط في التمركز حول الموضوع العام الذي لا سمات له، ولا يسقط في التمركز حول الذات الخاصة التي لا يمكن الربط بينها وبين الذوات الأخرى، فهو يتحرك في الرقعة التي تلتقي الذات فيها بالموضوع، والخاص بالعام، دون أن يستبعد الواحد الآخر ويلغيه. فهو يرى أن ثمة خصوصية ما تتسم بها الجماعات اليهودية، ولكنها ليست خصوصية مطلقة وإنما هي، في واقع الأمر، خصوصيات مستمدة من المجتمعات التي يعيش أعضاء هذه الجماعات بينها، ومن ثم فهي لا تختلف عن الخصوصيات التي يتسم بها أعضاء الأقليات، كل حسب سياقه، وأنه لا توجد خصوصية يهودية (واحدة) أو جوهر يهودي أو عبقرية يهودية أو جريمة يهودية وإنما خصوصيات يهودية تختلف باختلاف الزمان والمكان، أي أن الخاص لا يجبُّ العام والعام لا يجبُّ الخاص.(2/322)
و «الجماعات الوظيفية» مصطلح قمنا بوضعه، استناداً إلى مصطلحات قريبة في علم الاجتماع، لوصف مجموعات بشرية تستجلبها المجتمعات الإنسانية من خارجها، في معظم الأحيان، أو تجندها من بين أعضاء المجتمع أنفسهم من بين الأقليات الإثنية أو الدينية، أو حتى من بعض القرى أو العائلات. ثم يوكل لأعضاء هذه المجموعات البشرية أو الجماعات الوظيفية وظائف شتى لا يمكن لغالبية أعضاء المجتمع الاضطلاع بها لأسباب مختلفة من بينها رغبة المجتمع في الحفاظ على تراحمه وقداسته، ولذا يوكل لأعضاء الجماعات الوظيفية بعض الوظائف المشينة (الربا ـ البغاء) أو المتميِّزة (القضاء ـ الترجمة ـ الطب) التي تتطلب الحياد والتعاقدية (ولذا يمكن تسمية أعضاء الجماعات الوظيفية «المتعاقدين الغرباء» ) . وقد يلجأ المجتمع إلى استخدام العنصر البشري الوظيفي لملء فجوة أو ثغرة تنشأ بين رغبات المجتمع وحاجاته من ناحية، ومقدرته على إشباع هذه الرغبات والوفاء بها من ناحية أخرى (الحاجة لمستوطنين جدد لتوطينهم في المناطق النائية) . كما أنه قد يوكل لأعضاء الجماعات الوظيفية الوظائف ذات الحساسية الخاصة وذات الطابع الأمني (حرس الملك ـ طبيبه ـ السفراء ـ الجواسيس) . ويمكن أن تكون الوظيفة مشينة ومتميِّزة حساسة في آن واحد (مثل الخصيان والوظائف الأمنية على وجه العموم) . كما أن المهاجرين عادةً ما يتحولون إلى جماعات وظيفية (في المراحل الأولى من استقرارهم في وطنهم الجديد) ، ذلك لأن الوظائف الأساسية في وطنهم الجديد عادةً ما يكون قد تم شغلها من قبَل أعضاء الأغلبية.(2/323)
ويجب أن نؤكد أننا، حينما نقول "يستجلب المجتمع"، لا نعني أن هذه عملية واعية يقوم بها أعضاء مجتمع ما، فهي في واقع الأمر عملية غير واعية كما هو الحال مع معظم الظواهر الاجتماعية. وكثيراً ما تكون هذه العملية غير مفهومة لمن يقومون بها، سواء أكان المجتمع المضيف أم الجماعة الوظيفية. بل إن هذه العملية الاجتماعية قد تتم رغم الرفض الواعي لها من قبَل المجتمع والجماعة. وكل ما نرمي إليه هنا هو أن نشير مجرد إشارة إلى أن هذه عملية اجتماعية مركبة إلى أقصى حد تتداخل فيها الأسباب بالنتائج، ونحاول فهم بعض جوانبها وتفسيرها قدر استطاعتنا. ولكننا، لقصور لغتنا البشرية، نضطر إلى الإشارة إلى المجتمع وأعضائه كما لو كان ذاتاً واعية ينجز عملياته بشكل واع.
ويتوارث أعضاء الجماعة الوظيفية الخبرات في مجال تخصصهم الوظيفي عبر الأجيال ويحتكرونها، بل يتوحدون بها، وفي نهاية الأمر يكتسبون هويتهم ورؤيتهم لأنفسهم منها بحيث يتم تعريف الإنسان من خلال الوظيفة وحسب لا من خلال إنسانيته الكاملة، فيصبح عضو الجماعة الوظيفية إنساناً ذا بُعد واحد يمكن اختزال إنسانيته إلى هذا البُعد أو المبدأ الواحد، وهو وظيفته.
أسباب ظهور وتطور الجماعات الوظيفية
قد يكون من المفيد عرض بعض الأسباب التي تؤدي إلى ظهور الجماعات الوظيفية، فمعرفة الأسباب تلقي ضوءاً كاشفاً على السمات الأساسية:(2/324)
1 ـ من المعروف أن المجتمعات التقليدية تتسم بأن العلاقات بين أعضائها قوية ومباشرة (ربما لدرجة خانقة من منظورنا الفردي الحديث) . فكل فرد يعرف بقية أعضاء المجتمع معرفة وثيقة إذ تربطهم علاقات تراحمية تستند إلى القرابة والجوار والانتماء المشترك والمصالح المعنوية والمادية المشتركة. ويجب أن نتذكر أن معظم الوحدات الاجتماعية في المجتمعات التقليدية كانت في الماضي وحدات صغيرة جداً، تتسم بقدر عال من التماسك، ويسيطر على أعضائها إحساس عميق بقداسة المجتمع الذي ينتمون إليه (فهو عادةً يستند إلى إيمان بمطلق متجاوز أو حالّ كامن) . وكانت المدن الكبرى نفسها مقسمة إلى وحدات صغرى. وكان أسلوب الإدارة في المجتمعات التقليدية، وضمن ذلك الإمبراطوريات العظمى، لا يتعامل مع الأفراد مباشرةً ولا مع الوحدات الكبرى وإنما مع وحدات ومؤسسات وسيطة. ويظهر الإحساس بقداسة المجتمع وبأعضائه في عدد كبير من الشعائر الخاصة بالمحرَّم والمباح، والتي تشكل إطاراً يتحرك المجتمع داخله ويتماسك من خلاله. وداخل مثل هذا الإطار، يصبح من المستحيل تقريباً التحلي بالموضوعية والحياد تجاه بقية أعضاء المجتمع، ويصبح من الصعب بمكان نزع القداسة عنهم والتصرف نحوهم بحرية كاملة وإخضاعهم للقوانين (الواحدية المادية) العامة مثل قوانين العرض والطلب وتعظيم المنفعة واللذة وتغليب المصلحة الشخصية المادية على الهدف الاجتماعي والأخلاقي الأكبر.(2/325)
ولكن هناك وظائف تتطلب قدراً عالياً من الحياد والموضوعية وتتطلب إخضاع الآخر لقوانين العرض والطلب والحسابات الرياضية الرشيدة الصارمة المحايدة (ولقوانين الواحدية المادية الأخرى التي لا تُفرِّق بين الإنسان والآخر، أو حتى بين الإنسان والأشياء) . ومن الواضح أن من السهل التعامل مع الغرباء (مع من لا نعرف) بهذه الموضوعية والحياد والواحدية، فنحن لا نكترث بهم ولا يهمنا مصيرهم، وهم ليسوا جزءاً من نسيج المجتمع. وهم بدورهم لا يكترثون بأعضاء المجتمع أو بمصير المجتمع أو قيمه. ولذا، ينظر كل طرف إلى الطرف الآخر لا باعتباره إنساناً مركباً له حقوق وعليه واجبات، موضعاً للحب والكره، وإنما باعتباره مصدراً للنفع أو اللذة (أي باعتباره شيئاً مادياً ذا بُعد واحد) . ولذا، فبإمكان كل طرف أن ينزع القداسة عن الطرف الآخر (فهو يقع خارج دائرة المحرَّم ويقع في دائرة المباح) ، ويمكن تَجاهُل عواطفه وأحاسيسه، ويمكن تشييئه وتسليعه وتحييده وحوسلته والقضاء عليه والدخول معه في علاقة تعاقدية نفعية واحدية رشيدة.(2/326)
وإذا أردنا ضرب المثل بالنشاطات التجارية والمالية، فيمكننا أن نقول إن من الأيسر على الإنسان أن يتعامل بحياد مع بشر لا يكترث بهم، إذ يمكن أن تسري عليهم الحسابات المالية الصارمة التي لا تعرف الضحك أو البكاء، أو الخير والشر، حسابات المكسب والخسارة التي لا قلب لها. وتصبح العملية التجارية والمالية حينذاك مفرغة تماماً من أي مضمون اجتماعي أو إنساني أو أخلاقي أو عاطفي. أما إذا كانت هناك اعتبارات عاطفية أو أخلاقية (كأن يُقرض الإنسان أخته الصغيرة التي يحبها، أو عمه العجوز الذي استولى على ثروة أبيه، أو حتى جاره المريض الذي يسعل في المساء) ، فإن عملية التبادل المحايد ستكون مرهقة جداً من الناحية العصبية والنفسية، وستؤدي إلى أن يفقد المجتمع إحساسه بقدسيته وطهارته ونقائه وإلى تصعيد التنافس داخله وزيادة حرراته وهو ما يهدد تماسكه. لكل هذا، كان المجتمع يُوكل وظائف معيَّنة (مثل وظيفة التاجر أو المرابي أو جامع الضرائب) تتطلب الموضوعية والحياد والقسوة إلى متعاقدين وافدين يتم عزلهم عن المجتمع والاستفادة منهم في أداء هذه الوظائف.(2/327)
ويمكن أن نقول نفس الشيء عن العنصر الوظيفي القتالي (المرتزقة) ، فهذا العنصر كي يؤدي وظيفته، وهي قتل أعداء سيده الذي يدفع أجره، عليه أن يتسم بالحياد والموضوعية والقسوة، وعليه ألا يمارس تجاههم أي إحساس بقدسيتهم وحرمتهم حتى يمكن له أن يقتلهم بشكل آلي محايد بارد. فهو إن مارس تجاه ضحيته بعض مشاعر الحب أو البغض وأحس بأنها تقع داخل نطاق المحرَّم وتتمتع بشيء من القداسة، فإنه لن يقوم بعمله بشكل آلي وهو ما قد يؤدي إلى تدمير جهازه العصبي إما لأنه سيحاول أن يكبح مشاعر الحب والشفقة أو لأنه سينغمس في مشاعر الكره والانتقام. كما أن المرتزق، لو كان عضواً في المجتمع، سيؤدي إلى تفكُّكه لأنه سيكون موضع حب من يكرهون الضحية وموضع كره من يحبونها، وهي درجة من الحرارة لا يستطيع المجتمع أن يحتفظ بتماسكه معها. ويسري نفس المنطق على المهن المشينة، مثل مهنة البغاء. فمهنة، كهذه، تتطلب ولا شك قدراً كبيراً من الموضوعية والحياد والانفصال عن المجتمع حتى يتمكن الإنسان من تحويل جسد إنسان آخر إلى مجرد آلة أو أداة، وهذا أمر عسير جداً في إطار الترابط الاجتماعي والألفة والإيمان بقداسة الجماعة التي ينتمي إليها المرء، فالآلة لابد أن تكون الغريب الذي لا حرمة له ولا قداسة حتى يمكن استخدامها واستعمالها والانتفاع بها (أي حوسلتها) . كما أن البغي إن مارست عواطف الحب والكره أثناء ممارستها وظيفتها فإنها تُستهلَك تماماً، ومن ثم كانت البغايا في معظم المجتمعات التقليدية يتم استيرادهن من الخارج (الإثيوبيات في معظم بلاد أفريقيا ـ اليونانيات والإيطاليات في مصر ـ اليهوديات من منطقة الاستيطان في روسيا القيصرية) . وحتى حين كانت البغايا يجندن من العنصر السكاني المحلي، فإنهن عادةً ما كنّ يرتدين أزياء خاصة ويَقْطن أحياءً خاصة حتى يتم الحفاظ على المسافة بينهن وبين المجتمع ككل. بل من الطريف أن البغايا في السودان مثلاً، حتى إن كنّ من أصل(2/328)
سوداني، عادةً ما يدعين أنهن إثيوبيات، وذلك حتى تظل المسافة اللازمة لأداء الوظيفة قائمة. وأصبحت كلمة «إثيوبية» تعني «بغيّ» ، فالكلمة نفسها تخلق المسافة النفسية وتضمن الحوسلة، تماماً كما حدث في أوربا حين أصبحت كلمتا «تاجر» و «مرابي» مرادفتين لكلمة «يهودي» (وأحياناً «يوناني» ) ، في فترات تاريخية مختلفة، وكما حدث في الدولة العثمانية حين أصبحت كلمة «تاجر» مرادفة لكلمة «أرمني» ، وكما حدث في أمريكا اللاتينية حين أصبحت كلمة «توركوس» (أي «تركي» ، التي كانت تشير إلى كلٍّ من اليهود والعرب) مرادفة لكلمة «تاجر» .
ومن أهم الأمثلة التي تشرح هذه الفكرة ما حدث للقوات البريطانية في الهند في نهاية القرن التاسع عشر، إذ اجتذبت هذه القوات عدداً من البغايا البريطانيات، ويبدو أن هذا قد أنقص هيبة هذه القوات أمام نفسها وربما أمام السكان المحليين. كما بدأ بعض الجنود البريطانيين يرتبطون عاطفياً بالبغايا من بنات جلدتهم وهو ما أدَّى إلى حالة من التنافس بين الذكور وزيادة حرارة هذه الجماعة العسكرية. وقد أَخلَّ هذا بالضبط والربط، فتم إرجاع البغايا البريطانيات واستيراد بعض البغايا اليهوديات الروسيات من منطقة الاستيطان في روسيا القيصرية، وبالتالي تم التخلص من فائض الطاقة الجنسية بطريقة محايدة رشيدة لا تدخل فيها أية عواطف حب أو كره، وذلك دون الإخلال بالتماسك الداخلي للمجتمع ودون تصعيد للتوتر الاجتماعي بين أعضائه.(2/329)
والأمر نفسه يسري على المشتغلين بمهن متميِّزة، فالإنسان المتميِّز يتمتع برهبة غير عادية تحيط به الهالات. والخبرات النادرة التي يمتلكها الإنسان المتميِّز تجعله يقترب من السحرة والكهنة الذين يقفون على حدود الطبيعة على علاقة بعالم الغيب وما وراء الطبيعة، يحاولون الحصول على المعرفة من خلال هذه العلاقة للسيطرة على الطبيعة. وإن تَحوَّل المشتغلون بمثل هذه الوظائف إلى مثل يُحتذَى، فإنهم سيُولِّدون قدراً عالياً من التوتر في المجتمع، الذي يتطلب دورانه اليومي وجود عدد من الناس يدخلون في علاقة تتسم بحد أدنى من التراحم والمساواة. ولذا لابد من عزلهم. والإنسان المتميِّز (الطبيب ـ الكاهن ـ الساحر) ، إن أصبح إنساناً عادياً مساوياً للآخر، لن يحتفظ بهيبته ولن يتمكن من أداء وظيفته التي تتطلب قدراً من الانفصال عن مجتمع الأغلبية والتعالي عليه.
ومن أطرف الأمثلة على الجماعات الوظيفية المهنية المتميِّزة لجوء بعض المدن الإيطالية لاستجلاب قضاة غرباء لضمان حيادهم وموضوعيتهم. ولعل استمرار رجال القضاء في إنجلترا (وغيرها من الدول) في ارتداء الشعر المستعار هو محاولة من جانبهم لأن يحتفظوا بمسافة بينهم وبين المجتمع، شأنهم شأن الجماعة الوظيفية التي تتمتع بالحياد والتجرد والموضوعية. ولا يزال حكام مباراة كرة القدم غرباء متعاقدين، فالحكم المحايد أداة أساسية لا يمكن أن تتم المباراة بدونها، مع أنه هامشي إذ لا تمس قدماه الكرة.
وباختصار شديد، يمكن القول بأن تَركُّز الحياد والدنس والتعاقد في جماعة بشرية هامشية يعني أن بقية أعضاء المجتمع المضيف يمكنهم التمتع بالدفء والتراحم، وأن تَركُّز التَميُّز في مجموعة هامشية أخرى يعني خفض حدة التوتر الاجتماعي، وأن تَركُّز الشين في مجموعة ثالثة يعني أن المجتمع سيتمتع بطهره الأخلاقي والفعلي المادي.(2/330)
2 ـ عادةً ما يتم استجلاب عنصر بشري من الخارج لملء فجوة أو ثغرة قد تنشأ بين رغبات المجتمع وحاجاته من ناحية ومقدرته على إشباع هذه الرغبات والوفاء بهذه الحاجات من ناحية أخرى.
أ) فقد تنشأ حاجة إلى الغزو والتوسع داخل مجتمع ما، الأمر الذي يتطلب مادة بشرية مُدرَّبة تدريباً خاصاً على القتال ولها كفاءات معينة (مثل استخدام سلاح معيَّن وركوب الخيل) لا تجدها النخبة الحاكمة متوافرة في أعضاء المجتمع، فتقرر النخبة استجلاب مرتزقة من الخارج يمكنهم أداء المهمة دون تهديد هيمنتها.
ب) كما أن دولة من الدول قد تتوسع وتصبح إمبراطورية مترامية الأطراف وتود التحكم في المناطق الإستراتيجية التي ضمتها أو تعمير بعض المناطق النائية، ولكنها لا تمتلك الكثافة البشرية اللازمة. وهنا يتم استجلاب أعضاء الجماعة الوظيفية ليسدوا هذه الثغرة وليصبحوا مستوطنين مقاتلين أو رواداً.
جـ) وقد تقرر النخبة الحاكمة تشجيع التجارة أو الصناعة، فتحتاج إلى خبرة معيَّنة وأدوات خاصة ورأس مال كبيراً سائلاً وشبكة علاقات محلية أو دولية قد لا تتوافر لدى أي قطاع بشري داخل المجتمع، فتُستجلب جماعة بشرية تتوافر لديها هذه المواصفات لتسد الثغرة.
د) وأحياناً ما تجد النخبة الحاكمة أن من الضروري صيانة ما يُسمَّى «ثغرة المكانة» ، وهي ثغرة تفصل بين الحاكم والمحكوم وتضمن للنخبة الحفاظ على هيبتها ومهابتها، لكن التعامل المباشر بين الحاكم والمحكوم يهدد استمرار مثل هذه الثغرة. وهنا تقوم الجماعة الوظيفية بملء الثغرة وتكون بمنزلة المنطقة العازلة والأداة المُوصِّلة بين النخبة والجماهير.
هـ) قد تريد النخبة الحاكمة استغلال الجماهير، ولكنها لا تتمكن من القيام بهذه المهمة مباشرة إما لانشغالها بالحروب أو لتواجدها في العاصمة مركز السلطة، وهنا يقوم أعضاء الجماعة الوظيفية بالمهمة.(2/331)
و) ويحدث أحياناً أن تكون النخبة الحاكمة مختلفة تماماً عن المحكومين من الناحية الثقافية، الأمر الذي يجعل دخولها علاقة مباشرة معهم أمراً مستحيلاً. وفي هذه الحالة، يقوم أعضاء الجماعة الوظيفية بسد الثغرة.
ز) قد تكون الوظيفة مشينة بغيضة من وجهة نظر أعضاء المجتمع، فتضطر النخبة الحاكمة إلى استيراد عنصر بشري للاضطلاع بها.
ح) وقد لاحظنا في دراستنا للعلمانية الشاملة أنه، أثناء عملية علمنة المجتمع، تتم علمنة الأفكار والرغبات والوجدان والأحلام في بداية الأمر، ثم تتصاعد الرغبات وتزداد حدتها، ولكن علمنة سلوك أعضاء المجتمع لا يتم بنفس السرعة أو بنفس القدر (لأنها مسألة أكثر صعوبة) ، ومن ثم تُوجَد مثلاً فجوة زمنية بين الرغبات الجنسية المستعرة وبين إمكانية إشباعها. ولسد الثغرة، يتم استيراد البغايا كجماعة وظيفية من المتعاقدين الغرباء لاستحالة تجنيد مثل هذه العناصر من بين أعضاء مجتمع لا يزال يحتفظ ببقايا القيم الدينية والتقليدية وبقايا الإحساس بقداسة الجسد الإنساني. وحينما تتم علمنة المجتمع، تُجنَّد البغايا من سكان المجتمع نفسه إذ تتم علمنة السلوك تماماً ويصبح الجسد مجرد مادة ويصبح من اليسير الحصول على المادة البشرية اللازمة. ويظهر هذا الوضع نفسه مع الممثلات والعاملات في الملاهي الليلية، إذ تنشأ رغبة في المجتمع للترفيه عن أعضائه عن طريق المسرحيات والكباريهات. ولكن أعضاء المجتمع يجدون هذه مهناً مشينة، فيتم استيراد المادة البشرية اللازمة إما من الخارج أو من بين أعضاء الأقليات إلى أن يتم تحديث المجتمع تماماً، فيبدأ تجنيد العاملين في مثل هذه الأماكن من بين أعضاء مجتمع الأغلبية.(2/332)
3 ـ من أهم أسباب ظهور الجماعات الوظيفية حاجة أعضاء النخبة الحاكمة إلى جماعة بشرية ليست لها قاعدة من القوة (بسبب عزلتها عن الجماهير) يمكن استخدامها (لتنفيذ مخططاتها ولخدمة مصالحها) دون أن يكون لهذه الجماعة المقدرة على المشاركة في السلطة بسبب افتقادها القاعدة الجماهيرية، وهي لهذا السبب ستلتصق تماماً بالنخبة الحاكمة وستقوم على خدمتها بولاء أعمى، إذ أن بقاءها الجسدي نفسه منوط بمدى رضا النخبة الحاكمة. وعادةً ما تكون قوات الحرس الملكي (وأحياناً كل من يعمل داخل البلاط الملكي) من المتعاقدين الغرباء. بل يُلاحَظ أن النخبة الحاكمة قد تَستجلب جماعة وظيفية لضرب طبقة صاعدة. ففي بولندا، لاحظت النخبة الحاكمة الإقطاعية أن ظهور بورجوازية محلية قد يهدد سلطتها وقد يُسرِّب كثيراً من فائض القيمة (التي تود أن تحتكره لنفسها) إلى أعضاء هذه الطبقة الجديدة المنافسة، فاستجلبت الطبقة الإقطاعية (شلاختا) عدداً من التجار الألمان (من بينهم اليهود) ووطنتهم في مدن خاصة بهم (الشتتل) وقامت بحمايتهم بالقوة العسكرية البولندية. وقامت هذه الجماعة الوظيفية الجديدة بتنشيط التجارة في إطار خطة النخبة والخاصة بضرب العناصر التجارية المحلية ومنعها من مشاركتها السلطة.(2/333)
4 ـ ومن الأسباب الأخرى المؤدية إلى ظهور الجماعة الوظيفية وصول المهاجرين. فالمهاجرون لا يمكنهم الانخراط في كل الحرف والنشاطات الاقتصادية، ولذا فإن علىهم اختيار حرف أخرى. وعلى أية حال، فإن هذا أمر حتمي فحينما يصل المهاجرون أو الوافدون إلى مجتمع ما فإنهم عادةً ما يصلون بعد أن يكون هرمه الاجتماعي قد تَشكَّل وتم شغل الأرض الزراعية (ملكيةً وعمالة) ، وبعد أن تكون القطاعات الأولية قد امتلأت، بعد أن يكون جزء كبير من رأس المال قد استُثمر في تشييد البنية التحتية. ولذا، يقوم المهاجرون بالبحث إما عن وظائف قديمة لكنها هامشية أو عن وظائف جديدة تتطلب قدراً من الجسارة ونوعاً من الخبرة التي لا تتوافر لأعضاء المجتمع، وهى عادةً وظائف تُوجَد في قمة الهرم الإنتاجي ولا علاقة لها بالأرض أو الصناعات الثقيلة أو بالمؤسسات الأساسية المستقرة في المجتمع. ويحاول المهاجرون ارتياد آفاق جديدة مجهولة يحجم عن ارتيادها أعضاء المجتمع المضيف المستقرون، كما يحاولون استغلال الإمكانات التي لم تُستغَل بعد، ويحاولون كذلك توسيع الثغرات الموجودة بالفعل حتى تتاح لهم فرص جديدة للعمل ووظائف لهم بها خبرة (ومن ثم يمكنهم احتكارها) . ومن العناصر التي تساهم في تحويل بعض المهاجرين إلى جماعة وظيفية ميراثهم الاقتصادي والوظيفي في وطنهم الأصلي.
بعض أهم الجماعات الوظيفية
لإلقاء الضوء على نموذج الجماعات الوظيفية قد يكون من المفيد أن نذكر بعض أهم هذه الجماعات:(2/334)
1 ـ الجماعات الوظيفية المالية (ويُطلَق علىها عادةً في المصطلح الغربي «الجماعات الوسيطة» ) . وهي جماعات يقوم أعضاؤها بالتجارة وأعمال الربا وجَمْع الضرائب، وبنشاطات مالية مختلفة أخرى مثل السمسرة والبورصة وتغيير العملة والمزايدات وأعمال الريادة التجارية في المناطق النائية أو في القطاعات الصناعية والتجارية والمالية التي لم يطرقها أعضاء المجتمع المضيف. كما يعمل أعضاء هذه الجماعات كوكلاء ماليين ومقاولي أعمال وملتزمين. ومن أهم الجماعات الوظيفية المالية ما يلي:
أ) الأرمن في الدولة العثمانية أو في بعض مناطق أوربا (بولندا مثلاً) .
ب) اليونانيون في مصر. وهو دور يعود إلى أيام الإمبراطورية الهيلينية، فقد كان اليوناني هيلينياً في وسط يؤمن بالعبادة الوثنية المصرية. ثم حينما تنصَّر المصريون وأصبحوا أقباطاً، أصبح مسيحياً يونانياً أرثوذكسياً، أي أنه احتفظ بعزلته الدينية في محيط قبطي مصري ثم في محيط إسلامي مصري.
جـ) الزرادشتيون في الهند ثم في الولايات المتحدة.
د) الصينيون في جنوب شرق آسيا (إندونيسيا وماليزيا والفلبين وغيرها من الدول) .
هـ) اللبنانيون والهنود في شرق أفريقيا.
2 ـ الجماعات الوظيفية القتالية. وهي من أقدم الجماعات الوظيفية يضطلع أعضاؤها بدور القتال، مثل المماليك والإنكشارية والساموراي والجنود السويسريين (الحرس السويسري) في أوربا، والجنود الهنود (وخصوصاً السيخ) في القوات البريطانية.(2/335)
3 ـ الجماعات الوظيفية الاستيطانية. وهي جماعات بشرية تُوطِّنها الإمبراطوريات في مناطق نائية أو إستراتيجية بهدف تعميرها أو التحكم فيها أو قمع سكانها، مثل بعض سكان كريت واليونان الذين وُطِّنوا في الشرق في العصر الهيليني. ويمكن أن نضيف إلى هذا العناصر البشرية "الروسية" التي وُطِّنت في الخانات الإسلامية التركية بعد ضمها لروسيا القيصرية (ثم للاتحاد السوفيتي) . وكان من بين هذه العناصر عدد كبير من يهود اليديشية. ويمكن القول بأن الاستعمار الاستيطاني الغربي هو تعبير عن نفس الظاهرة، فهو استعمار قام بتحويل الفائض البشري الغربي إلى جماعات وظيفية قتالية استيطانية يتم توطينها في بعض الأماكن ذات الأهمية الإستراتيجية في آسيا وأفريقيا لتقوم بالدفاع عن المصالح الغربية.
4 ـ الجماعات الوظيفية الحرفية والمهنية المتميِّزة التي يتطلب العمل فيها مهارة خاصة، مثل الطب وقطع الماس وصنع التحف والاتجار فيها. ونميِّز في هذه الموسوعة بين المهن والحرف: أما المهن، فهي عادةً الممارسات الفنية التي تتطلب تدريباً خاصاً وطويلاً ويكون الجهد العضلي والمهارة اليدوية فيها مجرد عنصر في بناء أكثر تركيباً (التدريس ـ الطب ـ الإدارة) ، وأما الحرف فهي الممارسات اليدوية كالخياطة والتي تتطلب جهداً عضلياً ومهارة يدوية خاصة أو الأعمال التي تتطلب مهارة مثل الصاغة. وقد كان الأرمن واليهود يعملون بحرفة الصاغة في مصر، وكان بعض أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الإسلامي يضطلعون بمهنة الطبيب.(2/336)
5 ـ الجماعات الوظيفية التي يعمل أعضاؤها في وظائف يرى المجتمع لسبب أو لآخر أنها مشينة، مثل نزح المجاري ودباغة الجلود والجزارة وجمع القمامة ودفن الموتى والبغاء وتنفيذ أحكام الإعدام، أو في أية حرفة أخرى تكتسب بُعداً رمزياً مشيناً يتجاوز حقيقة الوظيفة (ومن ثم يعتبرها المجتمع مشينة) مثل العاملين بالحلاقة أو البقالة أو صناعة الأحذية أو في محلات الغسيل، بل العاملين في الزراعة أحياناً في بعض المجتمعات. ويلعب الغجر دور الجماعة الوظيفية التي تقوم بأعمال مشينة في كثير من أنحاء أوربا.
6 ـ الجماعات الوظيفية الأمنية التي يعمل أعضاؤها في وظائف حساسة بسبب طابعها الأمني أو بسبب قربها من الحاكم وحياته الخاصة (الوزراء والأقزام والخصيان والجواسيس والطهاة) .
وحتى نوضح المفهوم الذي نستخدمه، سنضرب مثلاً ببعض الأمثلة المتطرفة على تحويل عنصر إنساني إلى عنصر وظيفي. ولنبدأ بالكهنة والسحرة. يتسم الكاهن والساحر بأنهما صاحبا قدرات خارقة، فهما تعبير عن الصلة بين الإنسان والخالق، وبين هذا العالم والعالم الآخر، وبين المعلوم والمجهول. وهما أداة يستخدمها المجتمع ليتواصل مع القوة الخارقة للطبيعة. وكانت بعض المجتمعات القديمة تستورد الكهنة والسحرة من خارج حدودها أو تجندهم من صفوف السكان المحليين (من أسر معينة يُفترَض أن القداسة أو المقدرات العجائبية تسري في أعضائها) ثم يتم عزل الكهنة والسحرة تماماً عن طريق فرض أزياء عليهم ومنعهم من التزاوج، وإن تزاوجوا فلابد أن يتزاوجوا فيما بينهم، ويتم وضعهم داخل نسق خاص من الرموز والشعائر، ويُقدَم لهم طعام خاص بهم (ومن المهم أن نلاحظ هنا أن الكتب الدينية اليهودية تشير إلى أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم شعباً من الكهنة، كما يُلاحَظ ارتباطهم بالسحر) .(2/337)
وتُعدُّ أقدم مهنة في التاريخ (كما يُقال لها) من المهن التي تُوكَل إلى جماعة وظيفية، فالبغي هي مجرد جسد محض يتحول إلى آلة لامتصاص فائض الطاقة الجنسية في المجتمع خارج نطاق المحرمات والمطلقات. ويمكن الربط بين البغايا والكهنة في حالة البغاء المقدَّس حيث لم تكن البغي مجرد أداة لامتصاص فائض الطاقة الجنسية وإنما أداة للتواصل مع قوى ما وراء الطبيعة. وسواء أكانت البغي مباحة تماماً أم مقدَّسة تماماً، فقد كان يتم عزلها عن بقية أعضاء المجتمع ليستمر مجتمعهم في الإحساس بقداسته وإنسانيته المُتعيِّنة.
ومن الحالات المتطرفة الأخرى للجماعة الوظيفية الخصيان الذين يتم عزلهم عن المجتمع عن طريق قطع عضو الذكورة، وبذلك يتم فصلهم (حرفياً) عن الجنس البشري ليصبحوا إما نوعاً مختلفاً من البشر أو نوعاً ناقصاً. وبسبب وضعهم الجديد، يمكن أن تُوكَل إليهم وظائف أمنية حساسة (إذ أنهم بلا قاعدة جماهيرية) مثل حراسة الحريم أو القيام بمهام خاصة، أو قد يصبحون مجرد علامة على الأبهة وقوة الحاكم.(2/338)
ومن أهم الجماعات الوظيفية العبيد، حيث يتم تحويلهم إلى عنصر وظيفي نافع عن طريق أسرهم بالعنف من المجتمعات الأخرى (وفي أحيان نادرة من المجتمع نفسه) ، وتتم حوسلتهم تماماً ليصبحوا أداة، ولذا سماهم أرسطو «الآلة الناطقة» (باللاتينية: إنسترومنتم فوكالي instrumentum vocale) مقابل الحيوانات «الآلة المتحركة» (باللاتينية: إنسترومنتم موبيلي instrumentum mobile) . والعبيد مادة بشرية خالصة تُعامَل بحياد كامل وتُوظَّف بشكل رشيد إلى أقصى حد يضمن حُسن استغلالهم وضمان العائد المرجو وتحويلهم إلى طاقة إنتاجية دون أي تَراحُم أو تَعاطُف من جانب صاحب العبد، ودون أي ولاء من قبَل العبد نفسه، فهو بلا إرادة. ويمكن النظر للعبيد باعتبارهم حالة متطرفة جداً من الجماعة الوظيفية يتسمون بكل سماتها من حياد ونفعية (بدون تعاقدية في هذه الحالة) وحركية (فيمكن نقل العبد ببساطة من مكان إلى آخر) وعزلة وعجز (فهو يُوطَّن في أقفاص أو رقعة مقصورة عليه) . ولابد أن النسق القيمي للعبد مخيف، فهو لا يؤمن بشيء؛ يمقت صاحبه ويكره المجتمع المضيف، ويُدمِّر ما يأتي في طريقه إن سنحت له الفرصة. ومن المعروف أن النظام العبودي في الجنوب الأمريكي قد انهار بسبب ضعف إنتاجية العبيد وانصرافهم عن العمل وتباطؤهم فيه، إذ لا توجد أية حوافز داخلية لديهم. وقد استمر النظام العبودي بعض الوقت بسبب اعتبارات المكانة والمهابة (فقد كانت ملكية العبيد من علامة الأرستقراطية) وليس لأية اعتبارات اقتصادية. وانعدام القيم عند العبد هو ما يشير إليه الشاعر بقوله: "لا تشتر العبد إلا والعصا معه". ونحن ـ هنا ـ نتحدث عن انعدام القيم لا عن ازدواجها، وهو أمر راجع إلى غياب التعاقد. والتعاقد يعني طرفين، ومن ثم نسقين أخلاقيين، أما "امتلاك" صاحب العبيد لعبيده فيعني طرفاً واحداً، فذات العبد تختفي وتختفي معه أية قيم أخلاقية. ولعل هذا يفسر فشل ثورات العبيد دائماً، لأنهم لم(2/339)
يطرحوا قط نظاماً قيمياً جديداً وإنما كانوا يهدفون إلى القضاء على النظام السائد بشكل انتقامي، فهو نظام قضى على ذاتيتهم ثم حوسلهم إلى درجة القضاء على كل إنسانيتهم!
ويمكن، في محاولة وضع إطار موحد يشمل كل الجماعات الوظيفية، أن نتخيل متصلاً واحداً آخر أطرافه العبيد (حيث يصبح الإنسان أداة محضة؛ مادة بشرية متحوسلة تتحول إلى طاقة لا إرادة لها ولا أخلاق ولا ولاء) . وفي الطرف الآخر يوجد المجاهدون (حيث يصبح الإنسان ذا إرادة محضة ترفض الخضوع أو التحوسل يشعر بالولاء الكامل لمثله الخلقي الأعلى) . وبين الطرفين المتطرفين، يمكن أن تُوضَع الفئات الأخرى، مثل البغايا والمرابين والمرتزقة والوزراء والخصيان ومثقفي العالم الثالث ممن يدينون بالولاء للغرب. كما يمكن أن نضع بعض الحرفيين والمهنيين من أصحاب الحرف والمهن المتميِّزة. ويمكن تصنيف كل هذه الجماعات الوظيفية من منظور مدى التَحوسُّل وافتقاد الإرادة، وهي عملية مركبة جداً تحتاج إلى كثير من البحث الإمبريقي.(2/340)
وقد نشرت إحدى الصحف مؤخراً خبراً مؤداه أن بعض تجار المخدرات في مصر طوَّروا أسلوباً جديداً لتقديم المخدرات في "الغرزة" باستخدام القرد. فالأسلوب التقليدي هو أن يمر الغرزجي (أي الشخص الذي يخدم داخل الغرزة) "بالجوزة" على جماعة المدمنين. والغرزجية جماعة وظيفية لها شعائرها وسماتها المحددة، فهم يقضون معظم ساعات اليوم في محل عملهم، أي أن الجيتو الخاص بهم هو مكان الإقامة والعمل في آن واحد. وتأخذ عملية العزل في حالتهم وضعاً بيولوجياً متطرفاً، إذ لابد لهم أن يتناولوا طاجناً يحتوي على قطع كبيرة من اللحوم مخلوطة بالخضر في مزيج من بقايا الحشيش. ومهمة هذا الطاجن هو إطعامهم، مثلهم في ذلك مثل البشر كافة، إلا أنه يزودهم بما يكفيهم من المخدر حتى لا يكونوا في حاجة إلى المشاركة في التدخين، فالطعام الذي يتناولونه له جانبه الفسيولوجي الواضح، ولكنه إلى جانب هذا يرمز إلى ناحية شعائرية ورمزية. فالطاجن يعني التضامن (وأكل العيش والملح) ويُقوِّي الأواصر بين أعضاء الجماعة الوظيفية. وهو يعني أيضاً إدمانهم هذا الطعام واعتمادهم الكامل عليه وضمان استمرارهم كجماعة وظيفية. فالطعام هنا بديل الوطن الأصلي (أو صهيون) ، فهو يفكِّك الأواصر التي تربط عضو الجماعة الوظيفية مع المجتمع المضيف ويُقوِّي صلاته مع أعضاء جماعته. وهو يشبه الطعام الشرعي عند اليهود الذي يجعل تناول الطعام مع الآخر أمراً شبه مستحيل تقريباً، ولذا تزداد غربة اليهودي عن المجتمع ويزداد ارتباطه بجماعته. والطاجن يشبه أيضاً عملية الخصي والمرتبات المرتفعة التي يتقاضاها بعض مثقفي العالم الثالث من المنظمات الدولية أو الدول الأجنبية أو النظم الحاكمة، فهذه المرتبات تمكِّنهم من العيش حسب أسلوب حياة معينة لا يمكنهم الاستغناء عنه (فهو كالطاجن الذي يدمنه الغرزجي) وبعد قليل يفقد هؤلاء الإرادة الحرة المستقلة (أي أنها عملية تشبه الخصي تماماً) فيعتمدون اعتماداً(2/341)
كاملاً على ولي نعمتهم وينفذون أوامره دون تساؤل. إن الطاجن، مثله مثل الخصي أو صهيون أو المرتبات المرتفعة، كلها آليات للعزل عن المجتمع ولتقوية التضامن من الداخل. ولكن، رغم كل محاولات العزل الكاملة هذه، فإن الغرزجية يستبطنون أسلوب مرتادي الغرز تماماً ويتوحدون بهم، ولذا فإن أجورهم المرتفعة تغريهم باقتفاء أثر المدخنين فيدمنون أنواعاً أخرى من المخدرات ويتركون أعمالهم أياماً لينفقوا فيها مدخراتهم مقلدين الزبائن في منح البقشيش ودعوة الآخرين للتدخين على نفقتهم، أي أن عملية العزل الكاملة تؤدي إلى الانصهار الكامل في نمط حياة المدمنين، فيتحول الغرزجي إلى مدمن ويبدد نفسه، رغم أن المُفترَض فيه أنه هو نفسه أداة التبديد (وهذا مثل جيد على التمركز حول الذات الذي يؤدي إلى ذوبانها ومن ثم التمركز حول الموضوع) .(2/342)
ولتلافي هذا الوضع، قام بعض تجار المخدرات من أصحاب الغرز بتدريب القرود على وظيفة الغرزجية بدلاً من البشر، وقد توصلوا بهذا إلى أداة كاملة ليست لها أية تطلعات إنسانية أو نقائص بشرية، فالقرود (عادةً) لا تتعاطى الحشيش ولا تدمنه، كما أنها ليست في حاجة إلى الطاجن الخاص ولا تتقاضى أجوراً، ومن ثم فإن تكاليفها بسيطة. وإلى جانب كل هذا، نجد أن القردة تلزم نفس المكان/الجيتو بطبيعتها ولا تُوجَد عندها رغبة في مغادرته لإنفاق مدخراتها وتبديد ذاتها. بل تم تدريبها على القيام بأعمال الري في زراعة المخدرات، بينما يتفرغ العنصر البشري لأعمال الحراسة التي قد تتطلب قدراً أعلى من الذكاء. واستخدام القرود كجماعة وظيفية يبيِّن مدى ذكاء تجار المخدرات وإدراكهم الغريزي لقانون الجماعة الوظيفية إذ أن القرد كائن ذو بُعد واحد، يمكن توظيفه من أجل المنفعة الاقتصادية (وهو يتجاوز تماماً مبدأ اللذة الذي يسبب التوترات في المجتمعات العلمانية ويضعف تماسكها) . والقرد إنسان وظيفي طبيعي ومادة محايدة تماماً ولا تؤرقه تطلعات أو محاولة لتجاوز ذاته المادية أو الطبيعة/المادة، فهو يعيش في المادة وبها وعليها، ومن ثم فهو تحقيق كامل لنبوءة داروين وتحقيق لنبوءة فيبر عن دخول القفص الحديدي (وهو يكاد يكون حرفياً في هذه الحالة، وإن كان مثل هذا النوع من القردة لا يكون في حاجة إلى القفص الحديدي إذ تم استئناسهم وترشيدهم تماماً في ضوء الطبيعة/المادة من الداخل والخارج) . وإن قبلنا اعتبار القرود جماعة وظيفية (مرتبطة ولا شك بصناعات اللذة الحديثة) ، فيمكننا أن نضمها لمتصلنا. وبدلاً من العبد والمجاهد كطرفين، يمكن لنا أن نضع القرد والمجاهد أي الحوسلة الكاملة متمثلة في الحيوان الذي هو ضرب من ضروب الإنسان الطبيعي الوظيفي المادي الاقتصادي الآلي مقابل الإرادة الكاملة والإنسان الرباني متمثلةً في المجاهد.(2/343)
وقد يكون من المفيد ملاحظة أن جماعة وظيفية ما قد تضطلع في وقت واحد بوظيفة مالية واستيطانية، أو مالية وقتالية، أو مالية واستيطانية وقتالية، كما يمكن أن تتحول وظيفتها من مالية إلى قتالية. ولنضرب مثلاً على ذلك بالجماعات اليهودية في الغرب، فقد كانوا جماعة وظيفية استيطانية قتالية في المجر في القرن العاشر، ولكنهم فقدوا دورهم القتالي وأصبحوا جماعة وظيفية مالية، ولكن العثمانيين بعد فتحهم المجر حوَّلوهم إلى جماعة وظيفية استيطانية تدين لهم بالولاء. أما في بولندا، فقد توطن اليهود كجماعة وظيفية مالية. وبعد ضم أوكرانيا، تحولوا إلى جماعة استيطانية مالية شبه قتالية يساعدها الجيش البولندي. وقد اضطلع أعضاء الجماعة اليونانية في مصر بدور الجماعة الوظيفية المشينة (بغايا ومغنيات) أو مالية (مستثمرون صناعيون وبقالون) . ولكنهم، في فلسطين، اضطلعوا بوظيفة شبه أمنية إذ يبدو أن حكومة الانتداب البريطاني هناك قررت تجنيدهم داخل الجهاز الحكومي كموظفين حتى يمكنها أن تبقيهم بمعزل عن الفريقين المتصارعين (العرب والمستوطنين الصهاينة) وحتى يمكنها التحكم فيهم وضمان أدائهم لوظيفتهم بطريقة كفء. ويبدو أن الفرنسيين حولوا بعض أعضاء الجماعات الوظيفية المالية اليهودية إلى جماعة وظيفية قتالية بضمهم إلى الفرقة الأجنبية. وبإنشاء الدولة الصهيونية، حوَّلت الحضارة الغربية الملايين من اليهود إلى مادة بشرية وظيفية قتالية استيطانية.
والساموراي، وهم جماعة وظيفية قتالية، تحوَّلوا إلى رأسماليين قامت على سواعدهم الرأسمالية اليابانية ذات الطابع الخاص شبه الإقطاعي. ويمكن أن تتعاون جماعة وظيفية قتالية مع جماعة وظيفية مالية كما حدث في مصر حينما تعاون المماليك مع التجار الأجانب من الإيطاليين والمالطيين وغيرهم. ومن المعروف أن بعض المموِّلين اليهود في الدولة العثمانية كانوا يتعاونون مع الإنكشارية بل مولوا تمردهم ضد السلطان العثماني.(2/344)
ويمكن أن تكون وظيفة واحدة متميِّزة ومشينة ونافعة في آن واحد، فالمرابي يقوم بوظيفة متميِّزة، فهو يمتلك رأس المال ويحقق أرباحاً طائلة دون أن يبذل جهداً عضلياً (أو فكرياً) كبيراً. ولكنها وظيفة مشينة، فالمرابي شخصية طفيلية موضع كره الجميع. ولنضرب مثلاً آخر بوظيفة الحداد، فالحداد لابد أن يمتلك أسرار مهنته التي توارثها أباً عن جد. وهي مهنة غريبة، فهو يستخدم النار (التي لا جسد لها) فيطوع الحديد (الصلب) وهو ما يكسبه هيبة ومهابة. ولكنه، أثناء ممارسته مهنته، قد تحترق أطراف أصابعه، كما يعلو وجهه السواد، فهي مهنة خطرة وغير نظيفة. ولذا، كانت بعض المجتمعات تربط بين مهنة الحداد وبين السحر. وغني عن القول أن مهنة الحداد كانت دائماً مفيدة، بل أساسية وحيوية لكل المجتمعات. والبغاء أيضاً يتسم بنفس الازدواجية، فمن تقوم به أنثى متميزة (فهي محط رغبة الرجال) ومشينة (لأنهم يستخدمونها) .
ويمكن أن تصبح مهنة مشينة مع التطور التاريخي (ومع تصاعد معدلات العلمنة) مهنة متميِّزة. فمهنة التمثيل في المجتمعات التقليدية والانتقالية مهنة مشينة لا يقوم بها سوى الغرباء ومن هنا كانت ممثلات مصر حتى عهد قريب مجندات من الخارج أو من بين صفوف الأقليات. وبالتدريج، بدأ يتم تجنيدهن من بين صفوف المجتمع (ومن بين خريجات المعهد العالي للسينما) . ثم تحَّولت المهنة المشينة إلى أكثر المهن تَميُّزاً، وأصبحت النجومية حلم كثير من الفتيات، وهو حلم كل فتاة في العالم الغربي، فالنجم هو قديس الحضارة العلمانية ورمزها الأكبر. وقل نفس الشيء عن وظيفة الدبلوماسي والمضيفة.
الجماعات الوظيفية العميلة(2/345)
«الجماعة الوظيفية العميلة» هي جماعة وظيفية لا تقوم على خدمة أعضاء المجتمع كافة، فهي ترتبط ارتباطاً شبه عضوي بالطبقة الحاكمة التي تستخدمها كأداة لقمع المحكومين واستغلالهم. ولعل من أهم الأمثلة على الجماعة الوظيفية العميلة جماعات المرابين (من اليهود وغير اليهود) في العصور الوسطى في الغرب (وخصوصاً بعد القرن الخامس عشر) . فلم يكن المرابي، مثل التاجر، أداة توصيل للسلع بين المنتج والمستهلك، وإنما كان أداة استغلال في يد الحاكم. وكذلك الجنود المرتزقة حينما كانوا يضطلعون بوظيفة حماية الحاكم (مثل الحرس السويسري في فرنسا قبل الثورة الفرنسية) ، فهم أيضاً جماعة وظيفية عميلة لا يدافع أعضاؤها عن المجتمع المضيف (كالمماليك) وإنما يقومون بقمع الجماهير لصالح النخبة الحاكمة.(2/346)
ويُلاحَظ أن الجماعة العميلة لا تبدأ بالضرورة كذلك، فقد تبدأ كجماعة وظيفية ثم تصبح من خلال الظروف التاريخية جماعة عميلة. ولتوضيح هذه الفكرة سنضرب مثلاً بالزرادشتيين، وهم عبدة نار هاجروا من إيران إلى الهند بعد الفتح الإسلامي واستقروا فيها، فقد كانوا يتحدثون الجوجورات ويلبسون أزياء الهنود وكانوا جماعة وظيفية تعمل بالزراعة والتجارة وتجارة الخمور، كما كان منهم الحرفيون. ورغم عزلتهم، فقد كانوا يضطلعون بوظيفة يحتاج إليها المجتمع، ولذا لم يكن هناك أي تحريض ضدهم. وبعد الاحتلال البريطاني للهند تحوَّل الزرادشتيون إلى جماعة عميلة، فأصبحوا ممثلين للشركات الأجنبية وتعاونوا مع ممثلي الاستعمار الإنجليزي. وبحلول عام 1864، أصبحت بومباي مركز نشاط الزرادشتيين وازداد تركُّزهم فيها وأصبحوا من أكثر الجماعات في الهند تركُّزاً في المدن، واشتغلت أعداد كبيرة منهم بالتجارة وتبادل العملات والمزايدات والعقارات، كما أصبحوا رواداً في تأسيس مصانع النسيج والصحف والمدارس على النظام الغربي. وقد قاموا بتحديث دينهم نفسه وخدموا في الحكومة الهندية كمساعدين للإنجليز. وكانوا يرون أن وظيفتهم تتوقف أساساً على مدى ولائهم للنخبة الحاكمة، وكانوا أيضاً يعتبرون أن الحكم البريطاني قد أتى لهم بالاستقرار والأمن والسلام.(2/347)
ومع بدايات الحركة القومية الهندية في أواخر القرن التاسع عشر، حينما كانت هذه الحركة لا تزال تتسم بما يُسمَّى «الاعتدال» ، أي عدم المواجهة مع الاستعمار الإنجليزي، انخرطت أعداد منهم في صفوف قيادتها. ولكن، مع حدة المواجهة، انسحب الزرادشتيون وبدأت تظهر بينهم اتجاهات معادية للهنود، ثم تَنصَّل الزرادشتيون من هويتهم "الشرقية" وعرَّفوا أنفسهم باعتبارهم من "الجنس الأبيض". ومع اقتراب استقلال الهند، حاولوا أن يحصلوا على دويلة مستقلة ولكن حزب المؤتمر عارض هذا الاتجاه. وبعد إعلان استقلال الهند، هاجرت أعداد كبيرة منهم إلى الولايات المتحدة. وهناك دياسبورا زرادشتية في الولايات المتحدة، وهي أقلية تشبه الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة في كثير من الوجوه، فهم يتمتعون بدرجة عالية من التعليم وقد جرت علمنتهم ودمجهم وأمركتهم، لكنهم (مع هذا) يقاومون الاندماج ويتحدثون عن الهوية الزرادشتية المستقلة!(2/348)
وقد حاول الاستعمار الغربي في العالم العربي أن يحقق شيئاً من هذا القبيل مع أعضاء الأقليات الدينية والإثنية، فحاول استقطابهم وتحويلهم إلى جماعات وظيفية عميلة تدين له بالولاء. فقامت جماعة الأليانس بنشر اللغة والثقافة الفرنسيتين بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم العربي، في مصر والجزائر وفي غيرهما من البلدان، كما أُتيحت لهم فرصة الحصول على الجنسيات الأوربية ومن ثم الاستفادة من المزايا الممنوحة للأجانب. ويمكننا أن ننظر لهذه العملية باعتبارها عملية مُكمِّلة للاستعمار الاستيطاني الغربي الذي وصل إلى قمته في تأسيس الدولة الصهيونية في فلسطين والجيب الاستيطاني في الجزائر. والاستعمار الاستيطاني هو وصول عنصر سكاني غريب يغرس نفسه غرساً في البلد المستعمر ويدين بالولاء للوطن الأم ويرتبط به ثقافياً ويدين له بالولاء ويدافع عن مصالحه. وهذه العملية لا تختلف عن ذلك كثيراً، ولكن بدلاً من استيراد عنصر بشري غريب يقوم الاستعمار بالبحث عن عنصر بشري محلي فيغويه ويستوعبه ويُحوِّله إلى عنصر غريب عميل يرتبط ثقافياً به ويدين له بالولاء ويدافع عن مصالحه. وقد نجح الاستعمار نجاحاً كبيراً حتى أن معظم يهود العالم العربي، عند إنشاء الدولة الصهيونية، كانوا قد أصبحوا (ثقافياً واقتصادياً) جزءاً من التشكيل الاستعماري الغربي، وحصلت أعداد كبيرة منهم على الجنسيات الأوربية (كل يهود الجزائر ومعظم يهود تونس والمغرب وأكثر من نصف يهود مصر ... وهكذا) ، أي أنهم تحولوا إلى جماعة وظيفية عميلة، ومن ثم كان من السهل عليهم الهجرة والانضمام إلى الدولة الوظيفية الاستيطانية والقتالية في إسرائيل.(2/349)
والملاحظ أن يهود مصر كانوا مندمجين في مجتمعهم المصري اندماج أقباطها، إلا أن الاستعمار فشل في استقطاب أعضاء الجماعة القبطية وفي تحويلهم إلى جماعة وظيفية عميلة يتم حوسلتها لصالحه. ولعل هذا يعود إلى أن الجماعة القبطية في المجتمع المصري لم تتحول إلى جماعة وظيفية تتسم بسمات الجماعات الوظيفية (التعاقدية ـ العزلة والغربة والعجز ـ الانفصال عن المكان والزمان والهوية الوهمية ـ الحركية ـ ازدواجية المعايير والنسبية الأخلاقية) وظلت جزءاً من نسيج المجتمع المصري للأسباب التالية:
1 ـ لم يكن أقباط مصر عنصراً مُستجلَباً وإنما كانوا من سكان مصر الأصليين وكانت غالبيتهم من الفلاحين وكان من بينهم ملاك الأراضي والصناع والكتبة والمهنيون، أي أنهم كانوا يشغلون مختلف مواقع الهرم الإنتاجي، بل إنهم لم يكونوا مُمثَّلين في النخبة الحاكمة اليونانية والمغتصبة. وبعد الفتح الإسلامي، وفي إطار مفهوم أهل الذمة، لم يُحظَر عليهم الاشتغال بالزراعة أو الحرف (كما هو الحال في الحضارة الغربية الوسيطة) ، بل أصبح الهرم الإنتاجي مفتوحاً أمامهم، ولذا فإنهم لم يخضعوا لأي تمييز وظيفي أو مهني ولم يتم عزلهم نفسياً أو جسدياً ولم تتم حوسلتهم وترشيدهم إلا بالقدر المألوف في المجتمعات التقليدية واللازم لإدارة المجتمع، والذي يُطبَّق على كل قطاعات المجتمع البشرية.
2 ـ تغيَّرت لغة أقباط مصر من القبطية إلى العربية، وهو ما يعني أنهم تبنوا الخطاب الحضاري الجديد دون أن يفقدوا بالضرورة هويتهم الدينية المتميِّزة، بل إن هذه الهوية الدينية نفسها تم تعريبها. أي أن أقباط مصر أمكنهم الاستمرار في الإبداع الحضاري وفي التعبير عن هويتهم من خلال الخطاب الحضاري القائم، وقد قلل هذا عزلتهم وغربتهم وعمَّق من انتمائهم إلى المجتمع.(2/350)
3 ـ الدين الإسلامي والمسيحي دينان مختلفان لهما رؤيتان مختلفتان للإنسان والكون، ومع هذا فإن ثمة رقعة مشتركة واسعة بينهما سواء في رؤية الخلق (قصة آدم) أو رؤية الإله باعتباره منزَّهاً عن التاريخ والطبيعة وباعتباره إله العالمين. ولكن ما يهمنا في السياق الحالي هو أن الرؤية الأخلاقية أو النسق القيمي مشترك بين الدينين، فهما لا يعترفان بازدواج القيم (معيار للمؤمنين وآخر لغير المؤمنين) ويدعوان إلى مجموعة من القيم المطلقة المشتركة، وباب الخلاص مفتوح أمام الجميع. ولا يوجد إحساس بأنهم الشعب المختار. ولعل هذه السمة البنيوية في كل من الإسلام والمسيحية كانت مسألة حاسمة في الحيلولة دون ظهور الأخلاقيات المزدوجة والنسبية الأخلاقية التي تسم أعضاء الجماعة الوظيفية، وهذا على عكس اليهودية التي تطرح رؤية أخلاقية مزدوجة في بعض صياغاتها.
4 ـ الوطن القومي لأقباط مصر هو مصر وليس لهم وطن قومي آخر حقيقي أو وهمي. والأماكن المقدَّسة المسيحية تقع داخل الدولة الإسلامية في فلسطين التي تربطها علاقة خاصة بمصر والتي كانت تابعة إدارياً لها، وهي أماكن مقدَّسة وحسب وليست المكان الذي سيعود له الأقباط في آخر الأيام كما هو الحال مع اليهود. والكنيسة القبطية كنيسة مصرية لها هويتها الدينية والحضارية المستقلة عن كل الكنائس الأخرى. وقد ساهم ذلك ولا شك في تعميق ولاء الأقباط لمصر وتَجذُّرهم في أرضها وتاريخها (أي في المكان والزمان) .
5 ـ لم تتكون دياسبورا قبطية خارج مصر تحاول تجنيد أعضاء الأقلية القبطية وتخلق بينهم لوبي يعمل لصالحها ويُولِّد الرغبة في الخروج والهجرة (الحركية) ، هذا على عكس اليهود حيث تُوجَد دياسبورا يهودية ضخمة في العالم. ويُلاحَظ، مع نهاية القرن التاسع عشر، أن أعداداً كبيرة من اليهود الأشكناز هاجرت إلى مصر فصبغت أعضاء الجماعة اليهودية فيها بالصبغة الغربية، وولَّدت لديهم قابلية للانخراط في الحضارة الغربية.(2/351)
6 ـ لعل قضية العدد هنا قضية مهمة، فبينما كان عدد يهود مصر صغيراً، كان عدد أقباطها كبيراً، فهم يُكوِّنون نسبة مئوية لها وزنها. وهذا يعني أن أعدادهم كافية لأن يُمثَّلوا في كل مستويات الهرم الإنتاجي وفي كل المجالات الثقافية. كما يعني أيضاً أنهم في احتكاك يومي فعلي بمعظم أعضاء الأغلبية، الأمر الذي جعل من العسير فرض صورة إدراكية عنصرية بسيطة عليهم أو عزلهم وجدانياً عن أعضاء الأغلبية. وأخيراً، أدَّى العدد الكبير إلى إفشال الخطة الاستعمارية الرامية إلى تغريب الأقباط عن طريق منحهم الامتيازات الأجنبية، وعن طريق فتح المدارس الأجنبية أمامهم وإكسابهم الخبرات اللازمة للانخراط في القطاع الاقتصادي الغربي الجديد. فإذا كانت هناك نسبة ما من أقباط مصر قد استفادت من هذا الوضع، فإن السواد الأعظم من الفلاحين وأعضاء الطبقة المتوسطة المصرية من الأقباط ظلوا بمنأى عنه لا يتمتعون بالمزايا ولا يعانون من الاقتلاع، وظلوا داخل التشكيل الحضاري المصري العربي الإسلامي "لهم ما لنا وعليهم ما علينا".
7 ـ لكل هذه الأسباب، قاوم الأقباط حملات الاستعمار الرامية إلى فصلهم عن مجتمعاتهم العربية الإسلامية (ومن ذلك الحملات التبشيرية المسيحية التي حاولت إلحاقهم بالمسيحية الأوربية، وخصوصاً البروتستانتية، وفصلهم عن تراثهم الديني) . ولذا، فقد ساهم الأقباط في الثورات القومية المختلفة وظهر من بينهم مفكرون يبدعون من خلال المعجم الحضاري العربي الإسلامي ويثرونه، كما ساهموا في الهرم الإنتاجي وأحرزوا التقدم مع مجتمعهم وتخلفوا معه وانتصروا وانكسروا بانتصاره وانكساره. ولعل موقف الكنيسة القبطية في مصر من الصراع العربي الإسرائيلي تعبير عن هذه الظاهرة في المجال السياسي.(2/352)
ولا يختلف موقف المسيحيين العرب كثيراً عن موقف أقباط مصر، فهم أيضاً مواطنون أصليون لم يُستجلَبوا من الخارج وليس لهم وطن قومي آخر ولا يحنون إلى صهيون بعيدة أو في آخر الزمان. فعلى سبيل المثال، كانت قبائل الغساسنة في الشام قبل الفتح الإسلامي، تتحدث العربية الفصحى وكان لها قبل الفتح الإسلامي وبعده شعراؤها وأدباؤها الذين ساهموا في هذا الفتح وساندوه. وقد استمرت هذه القبائل في نمط حياتها، ولم ينقطع الإبداع الحضاري لأبنائها قط لأن الحضارة الإسلامية لم تفرض عليهم وظيفة متميِّزة أو مشينة ولم تحوسلهم بأي شكل كان. ولا شك في أن مفهوم أهل الذمة حدَّد وضعهم منذ البداية وحدَّد أن لهم كل الحقوق وعليهم كل الواجبات إلا فريضة الجهاد باعتبارها فريضة دينية، وقد أُعفوا منها نظير البدل العسكري أو الجزية. والنظام القيمي عند المسيحيين العرب المُستمَد من الدين المسيحي، لا يعاني من أية ازدواجية، ويُلاحَظ أن معظم المسيحيين العرب من الأرثوذكس وأقلية منهم كاثوليك، كما أن إرساليات التبشير البروتستانتية لم تنجح كثيراً في تجنيد أعداد كبيرة منهم، وكل هذا يدل على أن هويتهم المسيحية العربية قوية. والكثافة السكانية للمسيحيين العرب كبيرة، ولذا كان بوسعهم أن ُيمثَّلوا في كل درجات الهرم الإنتاجي، كما أنهم لا يعيشون محميين ومعزولين داخل جيتو مقصور عليهم وإنما يعيشون مع أعضاء الأغلبية يحتكون بهم في كل المجالات ويعيشون معهم في السراء والضراء وبالقدر الإنساني المعقول من الحب والكره.
الدولة الوظيفية
يمكن إعادة إنتاج نمط الجماعة الوظيفية على مستوى الدولة في أشكال مختلفة:(2/353)
1 ـ يمكن اعتبار الدول الاستيطانية دولاً وظيفية يسكنها عنصر سكاني تم نقله من وطنه الأصلي ليقوم على خدمة مصالح الدولة الإمبريالية الراعية التي أشرفت على عملية النقل السكاني وساهمت في عملية قمع السكان الأصليين (عن طريق الإبادة أو الطرد أو الإرهاب) وضمنت له الاستمرار والبقاء. ويمكن النظر إلى دويلات الفرنجة في الشام وفلسطين (الإمارات الصليبية) باعتبارها مثلاً جيداً على ذلك. وفي العصر الحديث يمكن الإشارة إلى الجيب الفرنسي الأبيض في الجزائر وجنوب إفريقيا، وبطبيعة الحال الدولة الصهيونية الوظيفية.
2 ـ يمكن تحويل دولة صغيرة ليست بالضرورة استيطانية، إلى دولة وظيفية. وتتم عملية التحويل هذه عن طريق عملية رشوة لشعب هذه الدولة، بحيث يرتفع مستوى معيشته ويتزايد اعتماده على قوة خارجية تضمن بقاءه واستمراره بحيث لا يمكنه أن يحقق البقاء (كدولة مستقلة) دون استمرار الدعم الخارجي.
3 ـ يمكن تحويل اتجاه دولة ما بحيث تنحو منحى وظيفياً عن طريق تحويل النخبة الحاكمة إلى جماعة وظيفية تدين بالولاء للاستعمار (الغربي) . وتنظر للمجتمع الذي تنتمي إليه نظرة تعاقدية باردة فتنعزل عنه وتشعر بالغربة ويزداد ارتباطها العاطفي والثقافي والاقتصادي بالمركز الإمبريالي.
السمات الأساسية للجماعات الوظيفية
تتسم الجماعات الوظيفية بعدة سمات أساسية قمنا في عرضنا لها بفصل كل سمة عن الأخرى، وهذا فصل تعسفي ذو طابع تحليلي. فكل سمة من السمات مرتبطة بالأخرى، ومن هنا كان التداخل فيما بينها. وينبغي ملاحظة أن ما نقدمه هنا هو بمنزلة نموذج تحليلي وليس وصفاً لواقع تاريخي أو تجريبي. ومن ثم، قد تتحقق بعض أو معظم هذه السمات في كثير من الجماعات الوظيفية، ولكنها لا تتحقق كلها إلا في لحظات نماذجية نادرة.
1 ـ التعاقدية (النفعية والحياد والترشيد والحوسلة) :(2/354)
أ) يُلاحَظ أن العلاقة بين أعضاء الجماعة الوظيفية والمجتمع المضيف علاقة نفعية واحدية واضحة صلبة مُصمَتة مادية ليست مركبة أو متعددة الأبعاد لا تتسم بأي إبهام، فهى علاقة تبادُل بسيطة بين الطرفين يُفتَرض أن هدفها واضح، وتحدِّدها شروط مسبقة واضحة مفهومة تماماً للطرفين (بشكل واع أو غير واع) . وما يضمن استمرار العلاقة هو استمرار المنفعة، فأعضاء الجماعة الوظيفية هم مصدر نفع وحسب بالنسبة لمجتمع الأغلبية، والمجتمع المضيف هو مصدر رزق وحسب بالنسبة لأعضاء الجماعة الوظيفية، فإن انتفت المنفعة توقفت العلاقة تماماً لأنها تصبح بغير أساس. وإذا كان عضو الجماعة الوظيفية مرتبطاً بقطاع اللذة في المجتمع (الرقص ـ البغاء ـ التمثيل) ، فإن منفعته هي ما يقدمه من ترفيه ولذة.
ب) ويمكن القول بأن كل الجماعات الوظيفية "تبيع" للمجتمع المضيف شيئاً ما لا يمكن الحصول عليه إلا من خلالها، فعضو الجماعات الوظيفية القتالية يبيع للمجتمع مقدرته العسكرية وجسده، والشيء نفسه يُقال عن أعضاء الجماعة الاستيطانية الذين يبيعون للمجتمع أجسادهم وخبراتهم ومقدرتهم على الريادة. ومن هنا، فإن العلاقة الأساسية بين المجتمع وعضو الجماعة الوظيفية تشبه علاقة البائع بالمشتري. وعضو الجماعات الوظيفية هو حقاً الإنسان الاقتصادي (والإنسان الجسماني) الذي اكتشفه الفكر العلماني الغربي فيما بعد. بل إن عضو المجتمع المضيف يصبح هو نفسه إنساناً اقتصادياً وجسمانياً حين يدخل في علاقة مع أعضاء الجماعة الوظيفية.(2/355)
جـ) العلاقة بين أعضاء الجماعة الوظيفية والمجتمع المضيف علاقة برانية (إمبريالية) ، بمعنى أن كل طرف فيها ينظر إلى الآخر من الخارج باعتباره موضوعاً مجرداً، ودوراً يُلعب، ووظيفة تُؤدَّى، ومادة نافعة يتم التعامل معها بمقدار نفعها، وشيئاً مباحاً يُستَغل ويُسخَّر ويُقهَر، وأداة تُستخدَم، ومادة محايدة لا قداسة لها ولا حرمة تُوظَّف وُتحوسَل. ويرى كل طرف الآخر باعتباره وسيلة لا غاية. (ويقف هذا على الطرف النقيض من العلاقات الإنسانية التراحمية حيث ينظر الإنسان إلى الآخر ذاتاً مُتعيِّنة لها قيمة في ذاتها وتتمتع بالقداسة وتقع داخل منطقة المحرَّم، ولذا فالرؤية جوانية) .
د) ومن هنا، تتسم العلاقة بين أعضاء الجماعات الوظيفية والمجتمع المضيف بالحياد والبرود والعقلانية والتجرد، لا بالدفء والتراحم، فهى علاقة رشيدة تماماً (في الإطار المادي) تم حسابها من منظور الربح والخسارة، والعرض والطلب، دون أن تشوبها أية شوائب عاطفية أو أخلاقية.
هـ) قد يكون من المفيد، من الناحية التحليلية، أن ننظر إلى عضو الجماعة الوظيفية لا باعتباره بشراً مُتعيِّناً، موضعاً للحب والكره، وإنما باعتباره وضعاً اقتصادياً محضاً ومجرد وظيفة، أو ربما كأداة إنتاج أو أداة فتك أو استثمار. ويجري تعريف عضو الجماعة الوظيفية من خلال الوظيفة التي يضطلع بها وحسب، فيُرَدُّ إلى الوظيفة تماماً خارج أية صفات إنسانية، خاصة أو عامة. وهو على كلٍّ أمر مُفترَض من البداية حينما يقبل عضو الجماعات الوظيفية أن يبيع بدنه وذاته.
2 ـ العزلة والغربة والعجز والالتصاق بالنخبة الحاكمة:
أ) العزلة:(2/356)
يحتفظ المجتمع المضيف بمسافة بينه وبين الجماعة الوظيفية، وذلك بأن يقوم بعزل أعضائها. فحينما يستجلب المجتمع المضيف عنصراً بشرياً حركياً محايداً، فإنه يتعامل معه بشكل رشيد محسوب دون عاطفة أو مودة أو تراحم، وهو لا يلتزم أخلاقياً تجاهه، بل يقوم بعزله لحماية نفسه من هذا العنصر الذي تمت حوسلته تماماً وفَقَد إنسانتيه وأصبح مادة محايدة لا قداسة لها ولا حرمة. ويعيش أعضاء الجماعة الوظيفية في جيتو خاص بهم، يرتدون أزياء مختلفة عن أزياء المجتمع المضيف، ويتحدثون لغة مختلفة عن لغته، بل يدينون في كثير من الأحيان بدين مختلف. والعزلة، في حالة الجماعة الوظيفية، شكل من أشكال الترشيد، ولكنه ترشيد ينصرف فقط إلى علاقة الجماعة الوظيفية بالمجتمع المضيف إذ يحتفظ أعضاء المجتمع بعلاقات المودة والتراحم والإحساس بالقداسة فيما بينهم، تماماً كما يحتفظ أعضاء الجماعة الوظيفية فيما بينهم بالتراحم بل التلاحم والإحساس بقداستهم. أما العلاقة بين الجماعة والمجتمع، فهى ـ كما أسلفنا ـ علاقة موضوعية عقلانية مجردة رشيدة تستند إلى حسابات المكسب والخسارة والعرض والطلب. والهدف من عملية العزل هنا أن تظل هذه العلاقات غير الإنسانية الرشيدة الأحادية على هامش المجتمع لا في داخله، وذلك حتى لا يفقد المجتمع تَراحُمه وتلاحمه وقداسته، كما أنه يضمن أن يظل العنصر الوظيفي غريباً مميَّزاً بغير قاعدة جماهيرية أو أساس للقوة.(2/357)
وتأخذ العزلة أشكالاً مختلفة، فهى قد تكون مكانية فعلية كأن يعيش أعضاء الجماعة الوظيفية في جيتو خاص بهم، وقد تكون رمزية فيرتدون أزياء خاصة بهم، أو تكون لغوية فيتحدثون لغة أو لهجة أو رطانة مختلفة عن بقية أعضاء المجتمع. وقد يتم العزل عن طريق الخصي (وفي العصر الحديث عن طريق الدخل المرتفع والتوجه الحضاري المختلف) . وقد تتم العزلة على جميع هذه المستويات وغيرها. ولكن، مهما اختلفت أشكال العزلة، فإن الوظيفة التي يضطلع بها أعضاء الجماعة الوظيفية يتم عزلها عن بقية الوظائف الاجتماعية والسياسية والإنسانية الأخرى بحيث لا تصبح لهم علاقة حية بالطبقات الأخرى (العلىا أو الدنيا) ، فهم أداة وحسب.
ب) الغربة:
يقابل عملية العزل البرانية من قبَل المجتمع إحساس جواني عميق بالغربة لدى عضو الجماعة الوظيفية، فهو عادةً ما يشعر بأنه ينتمي إلى "وطن أصلي" يشعر بالحنين إليه ويصبح موضع عاطفته المشبوبة وبؤرة عواطفه، كما أن ولاءه الحقيقي يتجه نحو وظيفته وجماعته الوظيفية. بل إن أعضاء الجماعة الوظيفية يتمسكون برموز العزلة المفروضة عليهم ويستبطنونها تماماً ويتوحدون بها حتى تصبح من علامات تميُّزهم عن الأغلبية. ومما يُعمِّق إحساس عضو الجماعة الوظيفية بالغربة نحو مجتمع الأغلبية أن هذا المجتمع يُحوسله تماماً وينبذه.(2/358)
ويؤدي تزايد العزلة والغربة إلى تَزايُد اعتماد عضو الجماعة الوظيفية على جماعته ليضمن بقاءه ووجوده واستمراره وهويته، فهو غريب في محيط معاد له يَصعُب عليه الاندماج فيه. فالجماعة، إذن، تزود أعضاءها (من خلال شبكة القرابة القوية) بالأمن والأمان. كما أن هذه الشبكة تُسهِّل عملية تجنيد الأعضاء الجدد من الوطن الأصلي أو غيره من المصادر، وتُدرِّبهم وتُورِّثهم الخبرة وأسرار المهنة. وفي حالة الجماعة الوظيفية المالية الوسيطة، تضمن الشبكة سرعة نقل البضائع، كما قامت في الماضي بتنظيم عملية الائتمان والقروض عبر مسافات طويلة في وقت لم تكن توجد فيه مصارف أو وسائل اتصال. ومثل هذه العمليات المُركَّبة، التي تقوم بها الشركات متعددة القوميات والمصارف الدولية في الوقت الحالي، كان من المستحيل القيام بها إلا بهذه الطريقة قبل ظهور البنية التحتية للعصر الحديث. كما أن العزلة الوظيفية والسياسية تؤدي إلى زيادة الرغبة في مراكمة الثروة، كمصدر من مصادر القوة وبديل لها، وتحسين الخبرة والأداء ليظل المجتمع المضيف بحاجة إلى الجماعة الوظيفية.
وحيث إن الجماعة الوظيفية أساسية لبقاء العضو، كان من اليسير على قيادة الجماعة أن تقوم بعملية الضبط الاجتماعي، ومراقبة سلوك الأعضاء، وإنزال أشد العقوبات بالمخالفين لمعايير الجماعة كالمقاطعة والحرمان والطرد. ومما يُسهِّل عملية الضبط هذه أن الرقابة عادةً ما تتم من خلال شبكة القرابة، فالجماعة الوظيفية مُكوَّنة أساساً من الأقارب. ويُقال إن بعض الشباب اليهودي في دمشق، في القرن التاسع عشر، حاولوا أن يَتنصَّروا، لكنهم لم يجدوا عملاً لأن الكفاءات التي كانت عندهم كانت تؤهلهم للعمل في مهن محددة (مثل الصاغة) كانت تحتكرها الجماعة اليهودية الوظيفية.(2/359)
ولعل عزلة الجماعة الوظيفية وبقاءها واستمرارها من خلال عملية الضبط الاجتماعي الصارمة هي التي تُفسِّر النفوذ الذي يتمتع به أثرياء هذه الجماعات ونخبتها الثقافية والقائدة، فهم يشكلون الشريحة التي تقوم بعملية الضبط هذه، وهم المسئولون عن ضمان بقاء الجماعة واستمرار أدائها بكفاءة.
وعملية العزل والإحساس بالغربة قد تبدأ بشكل واع أو بشكل غير واع، لكن آليات العزل تعمل بقوتها الذاتية بعد حين، ذلك أن أعضاء الجماعة الوظيفية يشكلون شبكة عائلية أو قَبَلية مُحكَمة تهيمن بالتدريج على مجموعة من الوظائف دون غيرها وتستبعد منها كل العناصر البشرية الأخرى، وافدة كانت أم محلية. وتبدأ الجماعة في تَوارُث الخبرات وأسرار المهنة ومراكمتها وتحسينها، وتزداد كفاءة أعضائها في أداء وظائفهم فيزداد تَركُّزهم ومن ثم تزداد عزلتهم وغربتهم. كما يتزايد تَميُّز أسلوب حياتهم الخاص، بل إنهم يكتسبون سمات إنسانية مرتبطة تماماً بوظيفتهم. فهم، مثلاً، بسبب عزلتهم وغربتهم وعدم إحساسهم بالطمأنينة، يحاولون تعويض هذا عن طريق مراكمة رأس المال فيعملون كثيراً ويُقتِّرون على أنفسهم ولا يرحمون أنفسهم وكذلك لا يرحمون الآخرين. ويؤدي هذا إلى تَزايُد إنغلاقهم نظراً لتجانسهم الإثني والحضاري واللغوي، وخصوصاً أن وظيفتهم تتطلب الانغلاق، إذ أن هذا يضمن المحافظة على الخبرات وأسرار المهنة وشبكة الاتصالات والعلاقات. وهكذا يقاوم أعضاء الجماعة الوظيفية كل عوامل الاندماج مع أعضاء المجتمع المضيف، فلا يسكنون بينهم ولا يتزاوجون منهم، ويبذلون قصارى جهدهم في المحافظة على عزلتهم. وعلى هذا النحو، فإن ما بدأ كعملية قسر خارجية يتم استبطانه ويتحول إلى رغبة داخلية وَمَثل أعلى، ومن ثم تصبح العزلة، التي كانت مفروضة عليهم في بادئ الأمر، هي مطلبهم الأساسي.(2/360)
ونظراً لعزلة أعضاء الجماعة الوظيفية وغربتهم، فهم يكونون في المجتمع وليسوا منه، لا يلعبون دوراً أساسياً في المجتممع. وإن لعبوا مثل هذا الدور، فهم يظلون خارج النظام السياسي: فيهيمنون عليه بأن يصبحوا نخبته الحاكمة التي تحتفظ بمسافة بينها وبين الجماهير، أو يقوموا بالتدخل لصالح فئة ما على حساب فئة أخرى. ويظهر عدم انتماء أعضاء الجماعات الوظيفية سياسياً في شكل ظاهرتين مختلفتين متناقضتين ظاهرياً. فأعضاء الجماعة الوظيفية عادةً ما يُظهرون عدم اكتراث بسياسات البلد الذي يعيشون فيه أو بمصيره. ولكنهم، وهنا تكمن المفارقة الكبرى، عادةً ما تكون لديهم قابلية غير عادية لتَبَنِّي الأيديولوجيات الثورية الطوباوية الأممية (التروتسكية ـ التطرف الشعبوي ... إلخ) فهي أيديولوجيات تُعبِّر عن عدم اكتراث بالوضع السياسي المُركَّب المُتعيِّن للوطن وللمجتمع وعن عدم اهتمام بمصيره المحدد، فهو اهتمام بمطلقات لا تاريخية مثل الإنسان الأممي ومستقبل البشرية جمعاء. ولذا، نجد أن أعضاء الجماعات الوظيفية، حينما ينضمون لإحدى الجماعات الثورية، يكونون عادةً من المتطرفين المدافعين عن النقاء الثوري والحلول الجذرية المتطرفة، أي أنهم في عدم اكتراثهم بالسياسة وفي اشتغالهم بها ينتمون إلى نموذج أحادي اختزالي نُقِّي تماماً من عناصر الزمان والمكان ليصبح نموذجاً «طاهراً نقياً» .(2/361)
ومن المهم أن نلاحظ أن أعضاء الجماعة الوظيفية عرضة للإحساس بالتغير بشكل جذري أكثر من أية جماعة أخرى. ويعود هذا إلى علاقة أعضاء الجماعة الوظيفية بالبناء الطبقي للمجتمع، فكل أعضاء المجتمع يتحركون إما إلى أعلى أو إلى أسفل البناء الطبقي والنظام الاجتماعي. أما أعضاء الجماعة الوظيفية، فإن وظائفهم مُحدَّدة وثابتة، والوظائف الأخرى مُوصَدة دونهم (إما لعدم خبرتهم بها، أو لأن المجتمع لا يريد أن يوكلها إلى عنصر غريب) . والحراك إلى أعلى أو إلى أسفل لا ينطبق علىهم، فبابه مُوصَد دونهم أيضاً لأنهم ليسوا جزءاً من الكتلة الاجتماعية أو السياسية. ولذا، يصبح الحراك داخل المجتمع أمراً مستحيلاً، فيتم الحراك عن طريق الخروج من المجتمع والدخول إلى مجتمع آخر، ومن هنا تكون هجرتهم الدائمة. وهناك، بطبيعة الحال، إمكانية التحرك الأفقي من مسام المجتمع إلى صلبه، ولكن الجماعة الوظيفية تفقد هنا وظيفتها وبالتالي هويتها. كما أن هناك الإبادة؛ وهي حل جاهز للجماعة الوظيفية التي فقدت وظيفتها ولا يمكن استيعاب أفرادها.
جـ) العجز والارتباط بالنخبة الحاكمة:(2/362)
تؤدي العزلة إلى ارتباط أعضاء الجماعة الوظيفية ارتباطاً وثيقاً بأعضاء النخبة الحاكمة (كما هو الحال مع المرتزقة والمرابين) ، فهي التي استجلبتهم في المقام الأول، وهي التي عزلتهم حتى تضمن أن يظلوا بدون قاعدة جماهيرية أو أساس للقوة (في حالة خوف دائم من الجماهير) ، وهي التي حولتهم إلى أداة استغلال في يدها، بصورة واضحة مباشرة، وهم عادةً ما يُوجَدون على مقربة منها في العاصمة أو مركز السلطة. ولكنها هي أيضاً التي تضمن بقاءهم واستمرارهم وتمنحهم الامتيازات. والطبقة الحاكمة تُؤثرهم على غيرهم بسبب عدم وجود قاعدة جماهيرية لهم، ومن ثم فإن ما أنجزوه من خدمات للطبقة الحاكمة سوف يقبضون أجرهم عنه وحسب، ولن يكون بمقدورهم ترجمة قوتهم المتزايدة إلى المشاركة في السلطة، أي أنهم يعيشون في حالة عجز كاملة.
ولكن علاقة أعضاء الجماعة الوظيفية بالنخبة الحاكمة ليست علاقة عضوية وإنما هي علاقة نفعية، شأنها شأن مجمل علاقتها بالمجتمع المضيف. ولذا، فحينما يتلاشى السبب النفعي وتنتفي حاجة النخبة الحاكمة إلى الجماعة الوظيفية، فإنها تتخلى عنها ويتم طرد أعضائها أو إبادتهم أو تركهم للجماهير كبش فداء. ومما يُسهِّل ذلك أن الجماعات الوظيفية ليست ذات قاعدة جماهيرية. ويمكن أن تختفي الجماعة الوظيفية بطريقة سلمية من خلال الاندماج والانصهار.(2/363)
ويتركز أعضاء الجماعة الوظيفية في وظائف معيَّنة وفي قطاعات بعينها وهي في العادة وظائف في قمة الهرم الإنتاجي تتطلب خبرة خاصة لا يمتلكها أعضاء مجتمع الأغلبية إذ يتطلب أداؤها استخدام أدوات خاصة بطريقة خاصة أو نظماً إدارية متقدمة غير مألوفة لأعضاء المجتمع. ولهذا يحقق أعضاء الجماعة الوظيفية بروزاً غير عادي، دون أن تكون لديهم قوة حقيقية لبُعدهم عن قاعدة الهرم الإنتاجي ولأنهم غير مُمثَّلين في كل مستوياته ومجالاته ولانفصالهم عن الجماهير ـ كما أسلفنا. كل هذا يجعلهم محط السخط الشعبي، وخصوصاً أن كثيراً من الوظائف التي يتركزون فيها ذات طابع استغلالي أو قمعي. كما أن سماتهم الخاصة وأسلوب حياتهم المميَّز يؤدي إلى أن ينسج الوجدان الشعبي الأساطير من حولهم: فهم أقوياء جداً أو ضعفاء جداً، وهم شرهون أو متقشفون جداً، ومسرفون ومُقتِّرون جداً، وهم كذا وكذا بطبيعتهم، وبعد قليل يسود الاعتقاد بأن طبيعتهم البشرية مختلفة عن طبيعة بقية البشر. وهذا الموقف إن هو إلا الثمرة المتعينة لعملية التجريد المبدئية لأعضاء الجماعات الوظيفية. ويبدو أن سمات الجماعة الوظيفية تفرض نفسها فرضاً على أعضاء الجماعة وتستوعبهم تماماً. فالباكستانيون في بلادهم أهل كرم ومروءة، ولكن يُلاحَظ أن المهاجرين الباكستانيين إلى إنجلترا قد فقدوا كثيراً من صفاتهم واكتسبوا الطبيعة الوظيفية الجديدة. والصينيون غير مشهورين بالبخل في بلادهم، ولكنهم حينما تحوَّلوا إلى جماعة وظيفية (في جنوب شرق آسيا) أصبحوا مشهورين بالتقتير على النفس والحرص البالغ والإقبال على مراكمة رأس المال.
ولكل ما سبق يُلاحَظ أنه إذا اندلعت ثورة شعبية، بسبب تَزايُد التوترات والأحقاد، فإنه يكون من السهل على الجماهير الغاضبة التعرف على أعضاء الجماعة الوظيفة، فهم مختلفون في ردائهم ولغتهم وطعامهم ومكان إقامتهم وعزلتهم. ومن ثم فإنهم يسقطون ضحية سهلة لمثل هذه الثورات.(2/364)
3 ـ الانفصال عن المكان والزمان والإحساس بالهوية (الوهمية (
عادةً ما ينتمي أعضاء الجماعات الوظيفية إلى "وطن أصلي". وهذا الوطن الأصلي يمكن أن يكون بلداً فعلياً قائماً كما هو الحال مع الصينيين في جنوب شرقي آسيا والهنود في أفريقيا وانجلترا وغيرها من البلدان. وأحياناً يكون أعضاء الجماعة الوظيفية من أصل اختفى كوحدة سياسية مستقلة (وسيعودون إليه في آخر الزمان) ، كما هو الحال مع اليهود والزرادشتيين. وكثيراً ما يصبح الوطن الأصلي هو الجماعة العرقية أو الإثنية أو العائلية التي ينتمي إليها عضو الجماعة الوظيفية. وسواء أكان الوطن الأصلي وطناً موجوداً فعلاً أم وطناً مختفياً وغير قائم أم عائلة أم قبيلة، فإن هذا الوطن الأصلي يصبح البؤرة التي تتركز فيها عواطفهم الإنسانية الجياشة ويتجه نحوها ولاؤهم، ويصبح النقطة المرجعية الصامتة، فيفكرون في أنفسهم وفي الآخرين وفي واقعهم من خلاله. وقد يتحدثون عن العودة إليه إذا كان الوطن موجوداً فعلاً، ولكنهم عادةً لا يفعلون، إذ أن الولاء الحقيقي والفعلي لعضو الجماعة الوظيفية يتجه إلى وظيفته وجماعته الوظيفية، فهي ليست وطنه الأصلي وإنما وطنه الفعلي. وهكذا تتسرب العواطف الإنسانية لعضو الجماعة عبر قنوات تصب بعيداً عن المجتمع المضيف إما خارجه تماماً (في الوطن الأصلي) أو نحو جماعته الوظيفية، مما يُضعف أواصر الصلة بالوطن المضيف ويزيد عدم الانتماء له ويُعمِّق الحياد تجاهه ويضمن غربة أعضاء الجماعة الوظيفية تجاه مجتمع الأغلبية فيعيشون في المجتمع (في مسامه أو في هامشه) وهم يشعرون بأنهم شعب مقدَّس منفيّ.(2/365)
ولكن العزلة والغربة تعطي عضو الجماعة الوظيفية إحساساً عميقاً بأنه ذو هوية مستقلة خاصة مصدرها علامات العزل المفروضة عليه التي استبطنها هو وتبناها وأصبحت جزءاً من كيانه، فهي مثل شعائر الطهارة التي تؤدي إلى عزل الطاهرين عن المدنسين. وقد يتعمق الإحساس بالتميُّز إلى أن يصل إلى مُركَّب الشعب المختار صاحب الرسالة. ورغم هذا الإحساس العميق بالتميُّز، فإن أعضاء الجماعة الوظيفية يستمدون خطابهم الحضاري في واقع الأمر من المجتمع المضيف، فقد عاشوا في كنفه سنوات طويلة، كما أن خطابهم الحضاري الأصلي قد اختفى ولم يبق منه شيء سوى عادات ورموز سطحية. ولذا، فإن قشرة الهوية الصلبة قد تكون غريبة ومتميِّزة، ولكن جوهرها الكامن ينتمي إلى المجتمع المضيف. وثنائية الظاهر والباطن هذه أساسية حتى يتسنى لعضو الجماعة الوظيفية أن يلعب دوره الوظيفي، وحتى يكون في المجتمع دون أن يكون منه، يتعامل مع أعضاء المجتمع المضيف دون أن يتعاطف معهم أو يذوب فيهم.
4 ـ ازدواجية المعايير والنسبية الأخلاقية:
أ) يتعامل أعضاء الجماعات الوظيفية مع أعضاء المجتمع المضيف بشكل موضوعي محايد لا يتسم بأي التزام أخلاقي. فالمجتمع المضيف بالنسبة إليهم هو مادة نافعة وشيء مباح لا يتمتع بأية قداسة ولا حرمة له يُعظِّمون من خلاله منفعتهم ولذتهم دون أي اعتبار لمنظومته الأخلاقية التي لا يشعرون تجاهها بكثير من الاحترام (فهي أحد أسباب عزلتهم واستبعادهم) . وفي الوقت نفسه، نجد أن أعضاء الجماعات الوظيفية يلتزمون تجاه جماعتهم بقوانين أخلاقية صارمة، فأعضاء الجماعة محل قداسة ولهم حرمتهم الواجب مراعاتها.(2/366)
ب) يُلاحَظ أن أعضاء المجتمع المضيف يشعرون بحرمة إخوانهم من أعضاء المجتمع، وأن المعايير الأخلاقية التي تسري على تعاملاتهم فيما بينهم لا تسري على أعضاء الجماعة الوظيفية، فهم مجرد مادة نافعة، ولذا فلا قداسة لهم ولا حرمة. ويُعظِّم المجتمع منفعته ولذته على حسابهم دون أي اعتبار لقيمهم الأخلاقية.
جـ) يَنتُج عن ذلك ازدواج المعايير الأخلاقية (ونسبية أخلاقية) إذ يتبنَّى كل من أعضاء المجتمع وأعضاء الجماعات الوظيفية معيارين مختلفين للحكم. فنجد أن أعضاء جماعات الغجر مثلاً يسرقون من أعضاء المجتمع ولكنهم لا يقومون أبداً بممارسة هذا النشاط الإجرامي فيما بينهم، ويُقال إن الشيء نفسه ينطبق على مهربي المخدرات. وقد تبيح الجماعة الوظيفية الإقراض بالربا الفاحش لأعضاء المجتمع المضيف وتحرِّمه بين أعضائها. والمجتمع المضيف يفعل الشيء نفسه، فهو يحتفظ بطُهره وتراحُمه وإحساسه بقداسة أعضائه، بينما يُخضع أعضاء الجماعة الوظيفية لمجموعة من القيم النفعية والمادية بهدف تعظيم العائد من وجودهم. فالآخر (سواء من منظور الجماعة الوظيفية أو مجتمع الأغلبية) مدنَّس مباح يقع خارج نطاق المحرمات والمطلقات الأخلاقية.
5ـ الحركية:
أ) يتسم أعضاء الجماعات الوظيفية بالحركية فهم لا يرتبطون بالمكان/الوطن الذي يعيشون فيه، فهم يُجلَبون إليه ويُطردون منه ببساطة، فهم مجرد آلة نافعة لا قيمة لها في ذاتها تُنبَذ حين ينتهي نفعها. وإذا كان المجتمع المضيف لا يعترف بإنسانيتهم المتعينة ولا يضع فيهم ثقته قط، فهم بدورهم لا يدينون له بالولاء.
ب) في معظم الأحيان، يتوقف وجود أعضاء الجماعة الوظيفية على هذه الحركية. فعضو الجماعة، كجندي مرتزق أو جامع ضرائب أو رائد أو مستوطن، لابد أن يكون دائب الحركة لا جذور له في وطن أو أرض.(2/367)
جـ) يحس عضو الجماعة الوظيفية دائماً بعدم الأمن وانعدام الانتماء وبأنه يعيش في مسام المجتمع وهامشه لا في صميمه وقلبه، أي بأنه فيه وليس منه، يعمل فيه دون أن يشارك في قراراته، ويؤدي كل هذا إلى زيادة حركيته وتَناقُص ولائه. ويمتد ولاؤه إلى الوظيفة وحسب. وقد عبَّر أحد المؤرخين عن موقف يهود جنوب أفريقيا من وطنهم بأنهم يجلسون دائماً على حقائبهم (استعداداً للرحيل) . وفي تفسير هذا، تُقال العبارة اللاتينية «أوبي بيني أوبي باتريا ubi bene ubi patria» (حرفياً: «أينما تُوجَد مصلحتي يُوجَد وطني» ) أي «المكان الذي يخدم مصلحتي هو وطني» .
د) تؤدي الحركية (والغربة) إلى تَركُّز أعضاء الجماعات الوظيفية في وظائف بعينها في قمة الهرم الإنتاجي، وهي وظائف ذات عائد سريع ومباشر وتتسم بإمكانات النمو وتتطلب رأس مال سائلاً يمكن نقله بسهولة (أحجار كريمة ـ تُحَف ـ معادن ثمينة ـ أدوات إنتاج خفيفة ـ مقدرات عقلية ... إلخ) . ولذا، فإن أعضاء الجماعات الوظيفية لا يعملون عادةً بالتعدين أو الزراعة، وإن عملوا بالزراعة فإنهم عادةً ما يتخصصون في زراعة المحاصيل التي تُزرَع بهدف الاستثمار أو في المحاصيل ذات العائد المباشر، ولا يستثمرون البتة في المشاريع التي تتطلب استثمارات بعيدة المدى، كما أنهم لا يُوجَدون في الوظائف الأساسية في المجتمع ولا في القطاعات الأولية في الإنتاج.
6 ـ التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع (الحلولية (
أ) يؤمن عضو الجماعة الوظيفية بمجموعة من القيم المطلقة التي تكون مقصورة عليه وعلى جماعته الوظيفية (ازدواج المعايير ومركب الشعب المختار) ، ولكنه في علاقته بالمجتمع لا يؤمن إلا بمتعته ولذته، ولذا فهو قادر على استغلال المجتمع وتوظيفه وحوسلته لصالحه دون أي اعتبار للقيم الأخلاقية الخاصة بالمجتمع (تَمركُز حول الذات) .(2/368)
ب) ولكن المجتمع المضيف ينظر لعضو الجماعة الوظيفية باعتباره مجرد أداة متحوسلة لا جذور لها ولا انتماء، وباعتباره أداة تُعزَل بصرامة، ولذا فإن المجتمع يدخل معه في علاقة تعاقدية موضوعية غير مفعمة بالحب. وعضو الجماعة الوظيفية لا وجود له خارج جماعته ومعتقداتها وآلياتها، ولا كيان له خارج الوظيفة المقدَّسة الرشيدة التي يقوم بها، فهو يُرشِّد كل جوانب حياته من أجل أداء وظيفته (تَمركُز حول الموضوع) .
والسمات الأساسية السابقة (التعاقدية ـ العزلة والغربة والعجز ـ الانفصال عن المكان والزمان والإحساس العميق بالهوية الوهمية والاختيار والتميُّز ـ ازدواجية المعايير [أي النسبية الأخلاقية]ـ الحركية ـ التمركز حول الذات والموضوع) كلها من سمات الإنسان العلماني الحديث والإنسان الذي يتحرك داخل أطر حلولية كمونية. ولذا فإن من غير المستغرب أن نجد أن أعضاء الجماعات الوظيفية ينحون منحى حلولياً كمونياً في رؤيتهم للكون، وأنهم أصبحوا من حَمَلة الفكر العلماني الشامل، الواحدي المادي.
الباب الثانى: الجماعات الوظيفية والحلولية والعلمانية الشاملة
الجماعات الوظيفية والثنائية الصلبة
الجماعة الوظيفية تدور في إطار الرؤية الحلولية الكمونية، ولذا يتبدى من خلالها نمط الواحدية الذاتية والموضوعية، والثنائية الصلبة بشكل متبلور. فثنائية الأنا والآخر والتمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع من السمات الأساسية للجماعة الوظيفية ولأعضائها. وبإمكان القارئ أن يجد رصداً لهذا الجانب في مداخل هذا الباب.
الحلولية الكمونية الواحدية والجماعات الوظيفية(2/369)
من الظواهر الجديرة بالملاحظة، والتي تحتاج إلى مزيد من الدراسة، أن رؤية أعضاء الجماعات الوظيفية للكون تنحو منحى حلولياً كمونياً (ثنائياً صلباً) في رؤيتهم لذاتهم (الساموراي والبوذية من طراز الزن ـ الإنكشارية والبكتاشية ـ جماعات التجار والتصوف الحلولي ... إلخ) . وقد حاولنا في دراستنا لهذه الظاهرة التركيز على الجماعات اليهودية في أنحاء العالم. ومن هنا، فإن تعميماتنا تستند إلى دراسة هذه الحالة أساساً، وإن كنا قد درسنا بعض الحالات الأخرى بشكل أقل تَعمُّقاً.(2/370)
يتبنَّى أعضاء الجماعة الوظيفية رؤية حلولية كمونية واحدية (ثنائية صلبة) تَرُدُّ العالم بأسره إلى مبدأ واحد كامن في العالم، وتختزل الواقع بكل تعينه وتركيبيته إلى مستوى واحد. هذا المبدأ الواحد بالنسبة لأعضاء الجماعة الوظيفية هو الوظيفة نفسها، أو الوظيفة باعتبارها تَجسُّداً للمبدأ الواحد، وتحل الوظيفة محل الأرض في الثالوث الحلولي. فبدلاً من الثالوث الحلولي التقليدي (الشعب ـ الإله ـ الأرض) ، يكون الثالوث الوظيفي هو: الجماعة الوظيفية ـ الإله ـ الوظيفة. ولذا، يمكننا أن نتحدث عن «الحلولية الكمونية الوظيفية» وعن «الواحدية الوظيفية» ، فعلاقة عضو الجماعة الوظيفية بجماعته وبوظيفته علاقة حلولية كمونية عضوية (روحية) . والوظيفة هي المبدأ الواحد (الإله) ، قوة شاملة بسيطة، لا انقطاع فيها ولا فراغات ولا ثنائيات، تزود عضو الجماعة الوظيفية برؤية للكون وتوجِّه سلوكه. وعلاقة عضو الجماعة الوظيفية بوظيفته لا تختلف كثيراً عن علاقة عضو الشعب المختار بشعبه وبأرض الميعاد، وكما أن أرض الميعاد تنتظر شعبها المقدَّس المختار ولا يمكن أن تسترد حياتها إلا من خلاله، ولا يمكنه هو أن يحيا حياته كاملة إلا فيها، فإن أعضاء الجماعة الوظيفية هم وحدهم القادرون على الاضطلاع بوظيفتهم وهم يستمدون كينونتهم منها. وحين يتوحد عضو الجماعة الوظيفية بالمبدأ الواحد، أي الوظيفة فإنه يفنى فيها ويجسدها في الوقت نفسه، وفي كلتا الحالتين فإنه يتم اختزاله إلى مستوى واحد أو وظيفة "مقدَّسة" واحدة يكتسب منها هويته، فهو جزء من كل، يفقد ذاته فيها، ويخضع للقوانين النابعة منه والكامنة فيه. وحين تجسد الجماعة الوظيفية المبدأ الواحد تصبح مرجعية ذاتها، علة ذاتها، مكتفية بذاتها، فيمكنها أن تلغي الآخر وتراه غائباً أو ترى حضوره بغير معنى. وبحلول القداسة الكاملة في الجماعة الوظيفية يصبح أعضاؤها ذوي قيمة نهائية كامنة لا تظهر لأعضاء الأغلبية الموجودين(2/371)
خارج دائرة القداسة. إن الرؤية الحلولية الكمونية تحل لأعضاء الجماعة الوظيفية إشكاليات عاطفية ومعرفية عميقة وتُعقلن وضعهم كعنصر بشري منبوذ متحوسل، فهي رؤية تجعلهم أو تجعل جماعتهم (الوظيفية) أو وظيفتهم موضع قداسة خاصة وكامنة فيهم، بل ركيزة نهائية في الكون. كما أنها تفسر لهم تَحوْسلهم وتَحوُّلهم إلى أداة، فقداستهم هي سبب تَحْوسلهم (تماماً كما أن عملية النبذ هي إحدى علامات الاختيار في اليهودية التي يعاني منها الشعب العضوي المختار وحده دون غيره من الشعوب غير المختارة غير المقدَّسة غير المنبوذة) ، وهي تفسر أيضاً وجودهم في المجتمعات الإنسانية (المادية) وعدم انتمائهم لها، فهم ينتمون إلى الشعب الوظيفي المقدَّس وحسب. فأعضاء الجماعة الوظيفية يجعلون أنفسهم موضع قداسة خاصة، أما أعضاء المجتمع المضيف فهم محرومون تماماً من القداسة، فهم مادة صرف، يعيشون في وحدة وجود مادية دون إله.
ويمكننا الآن أن ننظر للسمات الأساسية للجماعة الوظيفية (كما حددناها في المدخل السابق) ، ولعلاقتها بالحلولية الكمونية، وكيف أن القداسة التي تسري في الوظيفة رسَّخت السمات الأساسية للجماعة الوظيفية وجعلت عضو الجماعة الوظيفية قادراً على أن يلعب دوره:
1 ـ التعاقدية (والنفعية والحيادية والترشيد والحوسلة (
أشرنا إلى أن الوظيفة تصبح المبدأ الواحد المطلق والمرجعية والركيزة النهائية التي تستند إليه الحلولية الكمونية الوظيفية.
أ) المبدأ الواحد قوة لا متعينة لا تكترث بالتمايز الفردي، أي أنها تختزل الجماعة الوظيفية إلى مستوى واحد أو وظيفة واحدة؛ هي مجرد وسيلة وليست غاية.(2/372)
ب) يُلاحَظ أن الوظيفة هنا تصبح المطلق الذي يتوحد به عضو الجماعة الوظيفية ويستبطنه، ويبدأ في صياغة حياته ويُرشِّدها ويجردها في ضوئه حتى يؤدي وظيفته على أكمل وجه ويُحوسل ذاته تماماً (فهو علاقة إنتاج أو أداة إنتاج) . والترشيد هنا هو تحقيق للذات المقدَّسة أو الرسالة المقدَّسة (من وجهة نظر عضو الجماعة الوظيفية) وعلامة على الاختيار. ولذا، تصبح الحَوسلة عملية غير مؤلمة على الإطلاق لأنها عملية جوانية نابعة من أعماق الذات. وإذا كان أعضاء الأغلبية يرون الاضطلاع بالوظيفة أمراً يحط من شأن المرء، فإن هذا يعود إلى أنهم لا يعرفون الحقيقة، إذ كيف يتأتى لمثل هؤلاء من البشر العاديين إدراك القداسة الكامنة في الذات الوظيفية المقدَّسة؟
جـ) يؤدي عضو الجماعة الوظيفية وظيفته ويتبع الإجراءات ويُطبِّقها بصرامة وكأنها شعائر عقيدة وثنية، فهو بذلك يصبح الأداة الكفء الرشيدة التي يجب أن يكونها.
د) الذات المقدَّسة الوظيفية يمكنها أن تدخل علاقات تعاقدية نفعية محايدة مع الآخر، ذلك لأن الجوانب الإنسانية المركبة يمكن استبعادها (ويمكن التعبير عنها داخل الجيتو [المقدَّس] وتسريبها عبر قنوات أخرى تصب خارج المجتمع المضيف مثل صهيون وآخر الزمان) ، فالذات هنا أصبحت موضوعاً وتَجسُّداً لمبدأ واحد ووظيفة واحدة.(2/373)
هـ) يمكن دراسة البغاء المقدَّس في الديانات الوثنية القديمة باعتباره نقطة تلتقي فيها الرؤية الحلولية الكمونية الكونية والواحدية الوظيفية (أو الحلولية الكمونية الوظيفية) ، فالبغي لم تكن تقوم بوظيفة تُدخل عليها المتعة وإنما كانت مجرد أداة تُستخدَم ووظيفة تُؤدَّى ودور يُلعب، أي أنها أداة في يد المبدأ الواحد والقوة الفاعلة المقدَّسة الكامنة في جسدها، بل إنها كانت رمز الرحم الكوني الأعظم الذي يحاول الإنسان العودة إليه والالتحام به (الذي يصبح الأرض المقدَّسة في المنظومة الحلولية الكمونية الروحية وأرض الأجداد أو تراب الوطن في المنظومة الحلولية الكمونية المادية) . ولذا، فإن أداءها لوظيفتها كان تنفيذاً لواجب مقدَّس يعطي لصاحبتها مكانة اجتماعية مرموقة وتُحقِّق كينونتها من خلال وظيفتها هذه (التمركز حول الذات) . ولكن هذه القداسة الكامنة في جسدها هي نفسها التي تجعلها مجرد أداة محايدة بالنسبة للعابدين، فهم يتواصلون مع المبدأ الواحد (الإله والرحم الكوني الأعظم في حالتهم) من خلالها ولا يكترثون بها ويدفعون لها ما تريد من أموال، أي أنهم يتعاقدون معها (تمركز حول الموضوع) ، ومن ثم يصبح المقدَّس والمُتحوسِّل شيئاً واحداً، بل إن القداسة تغدو سبب الحَوسَلة وتغدو الحَوسَلة علامة القداسة.
2 ـ العزلة والغربة والعجز:
أ) أعضاء الجماعة الوظيفية الذين يضطلعون بالوظيفة (المقدَّسة) يؤمنون بأنهم هم وحدهم الذين تَكمُن فيهم القداسة، ولذا فلا يمكنهم أن يختلطوا بالآخر، أي أعضاء المجتمع المضيف الذين لا تكمن فيهم أية قداسة، ولابد أن يعزل أعضاء الجماعة الوظيفية أنفسهم من خلال الأسماء واللغة، والمسكن والجيتو، ومن خلال العقيدة الدينية (إن أمكن) . وهكذا تصبح آليات العزل شيئاً شبيهاً بشعائر الطهارة في العقائد الحلولية الكمونية.(2/374)
ب) وإذا كانت العقيدة الدينية هي نفس عقيدة أعضاء المجتمع المضيف، فإن أعضاء الجماعة الوظيفية يعزلون أنفسهم عن طريق تكوين جماعة دينية مغلقة أو طريقة صوفية ذات طابع حلولي كموني قوي تجعلهم موضع قداسة خاصة، مقصورة عليهم تساهم في عزلهم عن المسار العام.
جـ) كما أن أعضاء الجماعة الوظيفية لا يمكن أن يكشفوا أسرار المهنة (المقدَّسة) لأعضاء المجتمع، فهي أسرار مقدَّسة تُخبَّأ وتُحفظ وليست مجرد معلومات يتداولها الناس والعوام. وأداء الوظيفة أمر مقدَّس يشبه الشعائر المقدَّسة في العقائد الحلولية حيث يصبح شكل الشعائر أهم كثيراً من أي مضمون أخلاقي لها.
د) ولا شك في أن عملية العزل هذه، وهي من علامات تَميُّز الجماعة الوظيفية المقدَّسة، قد تؤدي إلى عجزها وفقدانها السيادة بسبب انعزالها عن الجماهير (المدنَّسة) ، ولكن أعضاء الجماعة الوظيفية (المقدَّسة) يعلمون تمام العلم أنهم سيحققون ذاتهم إما في الجيتو (المقدَّس) أو في آخر الزمان.
3 ـ الانفصال عن الزمان والمكان والإحساس العميق بالهوية (مركب الشعب المختار المنفي ((2/375)
يعيش أعضاء الجماعة الوظيفية من الناحية الوجدانية في زمانهم المقدَّس ومكانهم المقدَّس ووظيفتهم المقدَّسة. أما من الناحية الفعلية، فهم يعيشون في الحاضر وفي الجيتو بين أعضاء الأغلبية. ولكن وجودهم (وهم الجماعة موضع الحلول) في مثل هذين الزمان والمكان هو وجود عرضي مؤقت، إذ أنهم جماعة وظيفية مقدَّسة، هوية أعضائها المقدَّسة مرتبطة بالزمان والمكان المقدَّسين وبالوظيفة المقدَّسة، ولكن تم نفيهم إلى هذين المكان والزمان المدنَّسين. ولذا، فإنهم يتذكرون البلد الأصلي والعصر الذهبي حين كانوا يعيشون فيه (قبل السقوط والتبعثر والشتات) كجزء من الشعب العضوي موضع الحلول والكمون. وهم يتطلعون دائماً إلى العودة إلى هذا البلد الأصلي (أرض الميعاد والموعد والمعاد ـ صهيون) في آخر الزمان ونهاية التاريخ والعصر المشيحاني حين تتضح قداستهم الكامنة مرة أخرى ويذوبون في الكل المقدَّس الأكبر (العودة إلى الرحم حيث يعيشون حالة جنينية لا تعرف الحدود أو القيود أو السدود) . ومع هذا، فليس عليهم الانتظار حتى آخر الزمان، فهم يستعيدون قدراً من قداستهم الضائعة في المجتمع حينما يمارسون وظيفتهم المقدَّسة.
والعلاقة الحلولية بين الزمان الماضي والمستقبل، وبين المكان الماضي والمكان المستقبل، جعل الحس التاريخي والسياسي عند عضو الجماعة الوظيفية ضامراً، فتَطلُّعه لكلٍّ من الماضي والمستقبل يعني، في واقع الأمر، عدم الارتباط بالحاضر أو الانتماء للوطن (وهذا الارتباط والانتماء يهددان عضو الجماعة الوظيفية لأنهما يقوضان موضوعيته وحياده وكل الصفات التي لابد أن تتوافر له ليؤدي وظيفته) .(2/376)
لكن الرؤية الحلولية الكمونية التي تُقوِّض ارتباطه بوطنه الحالي وزمانه الحاضر تُعمِّق ارتباطه بوطنه الوهمي وبماضيه وبمستقبله المستقل وبوظيفته المقدَّسة، الأمر الذي يعني تعميق عزلته عن المجتمع وتَزايُد ارتباطه بالجماعة الوظيفية، ومن ثم يُمكِّنه ذلك من أن يظل بمنأى عن السلطة السياسية أو قريباً منها لصيقاً بها يقوم على خدمتها (كعميل وجندي مرتزق ومراب) دون أن يشارك فيها ودون أن تكون له قاعدة قوة في المجتمع. ومع هذا، فإن ثمة جماعات وظيفية تفقد صلتها بالماضي تماماً ولا تملك رؤية للمستقبل، فيعيش أعضاؤها في الحاضر ويحاولون أن يحققوا ذواتهم فيه دون ماض أو مستقبل، وهذا يتفق مع النسق الحلولي الكموني السائل الذي انتشر في العصر الحديث. وبالمثل، فإن رؤية البغايا للواقع تُركِّز في كثير من الأحيان على الحاضر أساساً (ولكن كثيراً من العاهرات يعشن فترة العمالة حتى يمكنهن مراكمة رأس المال اللازم لبدء حياة عادية [بعد التوبة] فيَعُدن إلى القرية أو الوطن الأصلي ويبدأن حياتهن بشكل طبيعي) . ومع هذا، يُلاحَظ أن المتركزين فيما نسميه «قطاع اللذة» في المجتمع يتبنون رؤية للزمن مرتبطة بالواحدية الكونية السائلة التي تنفي الماضي والمستقبل تركز على الحاضر. وأخيراً، فإن عدم الانتماء للزمان والمكان المباشرين يعني حركية هائلة، فعضو الجماعة الوظيفية لن يضرب بجذوره في الواقع المحيط به.
4 ـ ازدواجية المعايير:
أ) يؤمن عضو الجماعة الوظيفية بازدواجية المعايير التي تسم المنظومات الحلولية الكمونية الثنائية الصلبة، كما أنه يرى أن جماعته، التي يرتبط بها ارتباطاً عضوياً، جماعة مقدَّسة تسري عليها معايير أخلاقية قَبَلية صارمة لا تسري على أعضاء المجتمع.(2/377)
ب) تبرر الرؤية الحلولية وضع الازدواج الرهيب الذي يعيش فيه عضو الجماعة الوظيفية، فهو منبوذ من المجتمع ولكنه أساسي وحيوي له، وبدون وظيفته لا تقوم للمجتمع قائمة، ولذا فإن الثنائية الصلبة تؤكد له أن سبب هذه الازدواجية هو أنه موضع حلول وكمون، فقد حل مركز المجتمع أو الكون في أعضاء الجماعة الوظيفية من أعضاء الشعب المقدَّس المختار، ومن هنا فإن العزلة المادية والنفسية تصبح أمراً مفهوماً تماماً.
جـ) عضو الجماعة الوظيفية يضحي بذاته من أجل جماعته المقدسة ويفنى فيها ويتحد بها، فهو إنسان مقدس في علاقته بجماعته، ولكنه إنسان اقتصادي ذو بُعد واحد يحافظ على مصلحته ويبحث فقط عن المنفعة واللذة وتعظيم الربح والعائد في علاقته بالأغلبية، ذلك لأنها جماعة مدنَّسة يمكن استغلالها بطريقة محايدة لا علاقة لها بأي أخلاق أو معايير.
د) يكمن الشر في المنظومة الحلولية الكمونية في الخلل في الإجراءات، فلا علاقة له بالقيم أو بالخير والشر (ويُلاحَظ في المنظومات الحلولية أن الحل السحري هو حل يرفض مقولات الخير والشر ويدور في إطار المعرفة التي تؤدي إلى التحكم أو في إطار الجهل الذي يؤدي إلى الخضوع ـ فالمعرفة هي القوة) . ويمكن أن نقول نفس الشيء عن عضو الجماعة الوظيفية، فالخلل في الإجراءات هو الشر الأعظم لأنه تدنيس للوظيفة المقدَّسة كما أنه تدنيس للرسالة الوظيفية المقدَّسة.
5 ـ الحركية:
غني عن القول أن العناصر السابقة كلها، من تعاقدية ونفعية إلى إحساس بالعزلة والغربة وعدم انتماء للزمان والمكان (وانتماء للزمان المقدَّس وانتماء للمكان المقدَّس) وازدواجية المعايير، تؤدي إلى حركية بالغة.
6 ـ التمركز حول الذات (والحرية المطلقة) والتمركز حول الموضوع (والمصير المحتوم ((2/378)
يرتبط بكل المفاهيم السابقة (التعاقدية ـ العزلة والغربة والعجز ـ إلغاء الزمان والمكان والهوية الوهمية ـ الحركية ـ ازدواج المعايير ... إلخ) موقفان متناقضان من الحرية يُعبِّران عن الاستقطاب الأعمق: التمركز حول الذات التي تجسد المبدأ الواحد وتصبح مركز الكون والغاية من وجوده وموضع الحلول وينجم عن هذا إحساس عميق بالحرية الكاملة الناجمة عن عدم خضوع الذات لأية قوانين أخلاقية أو اجتماعية، أما الموقف الثاني فهو التمركز حول الموضوع، أي الجماعة الوظيفية التي تتم حوسلتها وترشيدها لصالح الوظيفة الموضوعية وفي خدمة أعضاء الأغلبية. وينتج عن هذا إحساس بالحتمية وبأن لا خيار أمام عضو الجماعة الوظيفية وبأنه يفعل ما يفعل لأن هذا مقدر له، فذاته لا وجود لها خارج الوظيفة التي يضطلع بها أو خارج وضعه في المجتمع، لأنها ذات متحوسلة تماماً. (وقد بيَّنا أن هذه الازدواجية الحادة وهمية، تشبه الحالة الجنينية التي تنتهي عادةً بالواحدية) . ويظهر هذا الوضع في حالة البغايا بشكل حاد ومتبلور، فالبغي متحررة تماماً من أية قوانين أخلاقية، وهي تقف خارج حدود المجتمع ترتدي ما تريد من أزياء وتسلك بالطريقة التي تعجبها متمركزةً تماماً حول ذاتها، ولكنها مع هذا شخصية منبوذة تماماً غير قادرة على الاضطلاع بأية وظائف أخرى. ومن المعروف أن البغايا يُؤمنّ إيماناً عميقاً بأنهن يعملن بوظيفتهن لأنه أمر مقدر لهن (مكتوب على الجبين) ، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي تتيح لها أن تستمر في حالة الحوسلة الكاملة (حوسلة الجسد والعواطف) والتَموضُع المطلق (التمركز حول الموضوع) التي تعيش فيها. فكأن عضو الجماعة الوظيفية يتأرجح بين الحرية المطلقة للشعب المختار والمصير المحتوم المفروض على الإنسان المختار المتحوسل. وهذا الاستقطاب هو إحدى السمات الأساسية للرؤى الحلولية الكمونية (المركز الكامن يتجسد في الفرد فيتمركز حول ذاته ويصبح حراً بشكل يتجاوز ما هو(2/379)
إنساني، والمركز الكامن يسري في الظواهر فيتمركز حول الموضوع ويخضع له كل شيء، وضمن ذلك الإنسان (.
ويمكننا الآن مناقشة علاقة الجماعات الوظيفة (باعتبارها تعبيراً عن الحلولية الكمونية) بالدولة القومية العلمانية (وهي تعبير آخر عن الحلولية الكمونية) . تقبل المجتمعات التقليدية وجود الجماعات الوظيفية فيها داخل جيتوات حيث تتمركز كل جماعة حول هويتها ووظيفتها ومطلقها، وهو أمر ممكن إذا كان المركز القومي ضعيفاً وكانت الدولة تتسم بعدم المركزية. ومع الثورة البورجوازية، يظهر الفكر القومي العضوي والدولة القومية المركزية العلمانية المطلقة، وهي دولة تجعل ذاتها موضع الحلول والكمون الوحيد، وأقصى تَركُّز له، والمركز (الموضوع) الوحيد الذي يلتف حوله المواطنون. فالدولة القومية تطلب من الجميع التخلي عن هويتهم ليدينوا لها وحدها بالولاء، وعليهم التخلي عن مطلقاتهم الدينية (أو على الأقل إخفاؤها) داخل ما يُسمَّى بالحياة الخاصة خارج رقعة الحياة العامة أو المدنية، أي أن الحلولية الكمونية القومية تحل محل كل الحلوليات الهامشية، وضمنها حلولية أعضاء الجماعة الوظيفية، إذ يَتجسَّد المركز في الدولة المطلقة وعلى كل الأطراف اتباعه. وبسيادة الدولة القومية، وتَزايُد عمليات الترشيد في المجتمع، تتم حوسلة كل أعضاء المجتمع ويتوحد الجميع بالمبدأ الواحد والمطلق العلماني والركيزة النهائية (مصلحة الدولة) ، ويدخل الجميع في علاقات تعاقدية نفعية وظيفية ويصبح الجميع حركيين لا انتماء لهم يعيش كل فرد في الجيتو الخاص به، أي تتم حوسلة الجميع ويصبح الجميع وظيفيين ويصبح كل البشر مثل أعضاء الجماعة الوظيفية. وهكذا، يسود الفكر العلماني، أي الفكر الحلولي الكموني المادي (وهذا ما سماه ماركس عملية «تهويد المجتمع» ) . وحين يسود هذا الوضع على المستوى العالمي، ويتم فرض الواحدية على شعوب الأرض كافة، فإننا ندخل عصر الحلولية الشاملة السائلة وما بعد(2/380)
الحداثة والنظام العالمي الجديد.
العلمانية الشاملة والجماعات الوظيفية
ظاهرة الجماعات الوظيفية، في شكلها المتبلور، هي ظاهرة خاصة بالمجتمعات التقليدية (التراحمية) . والظاهرة ككل تعبير عن محاولة المجتمع التقليدي الحفاظ على تراحمه وطُهره وقداسته عن طريق تركيز التعاقد والحوسلة في مجموعة بشرية صغيرة، فكأن الجماعات الوظيفية هي جماعة تم نزع القداسة عنها تماماً وتمت حوسلتها وعلمنتها، فهي جيب أو جيتو تعاقدي (جيسيلشافت) في المجتمع التقليدي التراحمي (جماينشافت) .
ولعل جيتو البغايا حالة متطرفة من الجيتوا الوظيفية التعاقدية، إذ كانت البغايا يُعزلن ليمارسن فيه نشاطهن التعاقدي المادي الذي لا يتخلله حب أو محبة (فهو نشاط اقتصادي عضلي مادي محض) ، فتتحوَّل الأنثى إلى بغي (إنسان وظيفي اقتصادي وجسماني) والذكر إلى عميل (إنسان وظيفي جسماني واقتصادي) ، ويُحوسل كل واحد منهما الآخر ويحاول أن يُعظِّم منفعته أو لذته أو كلتيهما. ولهذا السبب (ولأسباب أخرى) ، لاحظنا أن أعضاء الجماعات الوظيفية يتبنون رؤية حلولية كمونية للعالم.
ويجدر بنا أن نؤكد أن وحدة الوجود الروحية هي نفسها وحدة الوجود المادية (العلمانية) ، فكلاهما يَرُد الكون إلى مبدأ واحد ويظهر إنسان وظيفي ذو بُعد واحد يمكن تفسيره في ضوء هذا المبدأ الواحد الكامن. لهذا، نجد أن أعضاء الجماعات الوظيفية إما من حملة الفكر العلماني أو ممن عندهم قابلية عالية للعلمنة. ويمكن أن نذكر سمات الجماعة الوظيفية وعلاقتها بالرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية على النحو التالي:
1 ـ التعاقد (والنفعية والحيادية والترشيد والحَوْسَلة) :(2/381)
يدخل عضو الجماعة الوظيفية في علاقة تعاقدية مع مجتمع الأغلبية الذي يرده إلى مبدأ واحد (الواحدية الوظيفية) ويعرِّفه في إطار وظيفته ويحتفظ به المجتمع بمقدار نفعه ويدخل معه في علاقة رشيدة تماماً خاضعة لحسابات الربح والخسارة، فهو (من وجهة نظرهم) ليس إنساناً متعيِّناً مركباً ذا دوافع إنسانية مركبة كثيرة، وإنما هو إنسان وظيفي ذو بُعد واحد تم تجريده في ضوء نفعه ووظيفته الواحدة، فيصبح إنسان العلمانية الطبيعي/ المادي. وهو يمكن أن يكون الإنسان العلماني الاقتصادي، المنتج والمستهلك، الذي يدخل في علاقات اقتصادية إنتاجية لا شخصية، أو الإنسان العلماني الجسماني الذي يُكرِّس نفسه لملذاته. وعضو الجماعة الوظيفية ليس ضحيةً لعملية التجريد التي تُطبَّق عليه، إذ يقوم هو نفسه بتجريد المجتمع في ضوء العائد الاقتصادي الذي يحصل عليه منه، كما يقوم بتجريد ذاته وتحييدها حين يدخل في علاقة مع هذا المجتمع في رقعة الحياة العامة. ولكنه، مع هذا، يمارس إنسانيته المُتعيِّنة المركبة في رقعة ضيقة من الجيتو وهي رقعة الحياة الخاصة. ويقوم عضو الجماعة الوظيفية بترشيد حياته (العامة) تماماً في ضوء الوظيفة التي يضطلع بها، فيكبح جماح أية عواطف إنسانية مركبة ويُطبِّق على نفسه نماذج رياضية رشيدة ويتقبل أهدافاً مادية لا إنسانية حتى يتسنى له القيام بوظيفته. وإذا كانت العلمنة والترشيد هما عملية فرض الواحدية المادية على المجتمع والفرد، فإن عضو الجماعة الوظيفية، من خلال إخضاع ذاته للواحدية الوظيفية ومن خلال استبطانه لها، ومن خلال رؤيته لأعضاء المجتمع المضيف باعتبارهم وسائل لا غايات ومصدراً للنفع، يصبح قادراً تماماً على حوسلة نفسه وتوظيفها وترشيدها دون أية مشاكل أخلاقية أو نفسية، ولذا فهو يرى نفسه شيئاً بين أشياء، مجرد علاقة إنتاج أو ربما أداة من أدوات الإنتاج والإدارة.(2/382)
وحينما يُقسِّم عضو الجماعة الوظيفية حياته إلى حياة عامة رشيدة متحوسلة، وحياة خاصة مركبة، فهذا لا يختلف كثيراً عن تقسيم المجتمعات العلمانية لحياة الإنسان إلى رقعة الحياة العامة (الخاضعة تماماً للترشيد والتنميط) ورقعة الحياة الخاصة (التي تشكل مجال الحرية الشخصية) .
2 ـ العزلة والغربة والعجز:
عزلة عضو الجماعة الوظيفية وغربته تجعله قادراً على تَقبُّل معدل عال جداً من تجريد الذات، وهو في عزلته وغربته يشعر بانعدام الأمن، وهو ما يولِّد لديه المركب الجيتوي، وما يمكن تسميته «عقلية التربص» ، أي أنه يعيش خائفاً ولكنه يكره الآخر ويكون على استعداد دائم للفتك به. وعقلية التربص هذه مرتبطة تماماً بالرغبة في الانقضاض والغزو، أي أنها تخلق قابلية لتَقبُّل الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية وعالم ماكيافيللي وهوبز.
3 ـ الانفصال عن الزمان والمكان والإحساس بالهوية المقدَّسة (الوهمية ((2/383)
عضو الجماعة الوظيفية لا يرتبط بوطن، ولذا فهو جوّال لا وطن له (بالإنجليزية: هوملس homeless) ، وهذه هي بعض صفات الإنسان العلماني (الإنسان الطبيعي الوظيفي) . وإن عرف عضو الجماعة الوظيفية وطناً فهو وطنه الأصلي، وهو وطن وهمي وجداني، أما وطنه الحقيقي فهو وظيفته. كما أنه يمارس إحساساً عميقاً بقداسته وهويته المنفصلة المتميِّزة، وهكذا الإنسان في المجتمع العلماني الذي يرتبط بمنفعته ولذته ورأسماله الذي لا يعرف حدوداً أو وطناً. وهو حريص دائماً على حدود هويته، ولكنها هوية وهمية في عالم نمطي تسيطر عليه المؤسسات التي تنشر النمطية. وعضو الجماعة الوظيفية لا يرتبط بتاريخ بلده (فالخلاص دائماً في النهاية في صهيون) ، ولهذا فبإمكانه أن يعيش في حالة حرمان في الحاضر (الآن وهنا) باسم التمتع بالمستقبل (حينئذ وهناك) ، وهذا الموقف يؤدي إلى شكل من أشكال الترشيد، إذ يؤدي إلى إنكار الذات وتَراكُم رأس المال والخبرات وادخار الطاقة وعدم تبديدها. والإنسان العلماني في مرحلة التراكم الرأسمالي والتقشف لا يختلف عن ذلك كثيراً.
4 ـ ازدواجية المعايير والنسبية والأخلاقية:
تُولِّد ازدواجية المعايير لدى عضو الجماعة الوظيفية مرجعية ذاتية كامنة، فثمة معيار أخلاقي ينطبق على الجماعة (فهي مقدَّسة) ومعيار ينطبق على الآخر، فهو مباح تماماً ويقع خارج نطاق المطلقات الأخلاقية وداخل دائرة المباح، تسري عليه القوانين التي تسري على الأشياء. وهذا يعني، في واقع الأمر، نسبية الأخلاق ورفض مقولات الخير والشر فهي مقولات عامة عالمية. وهنا تظهر إرادة القوة إذ أن ما يقرره عضو الجماعة الوظيفية هو وحده المعيار الأخلاقي (في غياب معايير إنسانية عامة) ، وتظهر عقلية الغزو إذ يمكن تدمير الآخر وسلبه ونهبه. كما تظهر عقلية التكيف البرجماتي والإذعان للواقع.
5 ـ الحركية:(2/384)
يؤدي كل هذا، بطبيعة الحال، إلى حركية بالغة، إذ يصبح الإنسان بلا جذور ولا ارتباط، غير ملتزم بأية منظومات قيمية، فهو يُخضع كل شيء لإرادة القوة (النيتشوية) أو التفاوض (البرجماتي) . وقد عُرِّفت الحداثة بأنها انفصال الإنسان عن العلاقات الكونية على أن يُخضع كل علاقاته مع البشر للتفاوض ولعمليات الترشيد الواحدي المادي.
6 ـ الاستقطاب) الذاتية/الموضوعية ـ الحرية/الجبرية) (الحلولية (
يُلاحَظ أن الرؤية الاستقطابية للواقع، والتأرجح بين الأنا المقدَّسة من جهة وبقية العالم (الطبيعة وبقية الجنس البشري) من جهة أخرى، وبين التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع، وبين الصلابة والسيولة، وبين الذاتية والموضوعية، وبين الحرية والجبرية، هي إحدى سمات الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية والرؤية الحلولية الكمونية. والجماعة الوظيفية ترى نفسها مقدَّسة (شعب مختار) مقابل الآخر المباح، وترى نفسها حركية مقابل الآخر الساكن، وهي تعرف أسرار الوظيفة مقابل الآخر الذي يجهلها.(2/385)
ورغم الاستعداد الكامن للعلمنة لدى أعضاء الجماعات الوظيفية، ورغم أنهم من أكفأ الناقلين لأفكار التحديث والعلمنة والحوسلة والتعاقدية، فإن موقفهم من عملية التحديث والعلمنة مزدوج ومبهم. فهم من قطاعات المجتمع الأولى التي تم نزع القداسة عنها، إذ تم تجريدهم وتحويلهم إلى عنصر موضوعي نافع بسيط ذي بُعد واحد، وهم لا يدينون بالولاء للمجتمع ولا يضربون بجذورهم في أرضه أو تاريخه، ولذا فإن إحساسهم بحرمة التقاليد أو خوفهم من الإخلال بالقيم السائدة ضعيف جداً إما لجهلهم أو لعدم اكتراثهم بها. كما أن إحساسهم بتركيبية الواقع التاريخي تكاد تكون منعدمة. وقد يكون مما له دلالة في هذا السياق أن نشير إلى شخصية مثل محمد علي، فقد قدم إلى مصر ضمن جماعة وظيفية قتالية (الألبان أو الأرناؤوط) ونظر إلى مصر نظرة محايدة فلم يكن يعرف لغة أهلها ولا تقاليدهم. ولكنه، مع هذا، أدرك إمكانات مصر ومدى نفعها، فاستولى على الحكم وبدأ واحدة من أسرع عمليات التحديث والعلمنة في العصر الحديث. كما أن كمال أتاتورك كان شخصية هامشية في مجتمعه، فقد جاء، هو وكثيرون ممن قاموا بثورة تركيا الفتاة، من سالونيكا، وهي بلدة كانت تُعدُّ عاصمة ليهود الدونمة. ولا يهم ما إذا كان أتاتورك يهودياً باطنياً أم لا، ولكن المهم أنه، شأنه شأن محمد علي، شخصية هامشية تنظر للمجتمع نظرة موضوعية محايدة باعتباره مادة تُوظَّف. ولابد من الإشارة هنا إلى أن الثورات التحديثية تقوم بها عادةً قطاعات من النخبة العسكرية والثقافية أعيد إنتاجها على هيئة جماعات وظيفية.(2/386)
ولكن لا توجد قاعدة ثابتة، إذ أن طبيعة التكوين الثقافي لأعضاء الجماعة الوظيفية، وطبيعة علاقتهم بالنخب الحاكمة والمجتمع ككل، قد تجعلهم يقفون ضد عمليات التحديث والعلمنة رغم أنهم يحملون أفكارها ويجسدونها في المجتمع. فعلى سبيل المثال، لعب اليونانيون والإيطاليون في المجتمعات العربية دوراً تحديثياً مهماً، تماماً كما فعل بعض أعضاء الجماعات اليهودية، ولكن هذا يختلف عن وضع المماليك والإنكشارية في المجتمع المصري والعثماني حيث وقفوا ضد محاولات التحديث، تماماً كما فعل البعض الآخر من أعضاء الجماعات اليهودية في المجتمعات الغربية أيضاً. وقد لعبت بعض الجماعات الوظيفية اليهودية دوراً تحديثياً في مرحلة تاريخية (إنجلترا وفرنسا حتى القرن الثامن عشر) ، ثم أصبحت (مع تَصاعُد وتيرة التحديث) عنصراً رجعياً مرتبطاً بالنظام القديم؛ وجودها نفسه مرتبط بالتركيبة التقليدية للمجتمع. ومن الملاحظ أن الاقتصاد الجديد الذي يساهم في تطويره بعض أعضاء الجماعات الوظيفية قد يلفظهم بشكل بنيوي، كما أن العلاقات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة التي ساهم بعضهم في إنشائها تستبعدهم، لأنهم ينتمون بحكم بنية العلاقات إلى المجتمع التقليدي. وهذا ما حدث مثلاً في مصر بالنسبة لليونانيين وغيرهم من الجماعات الوظيفية التجارية، فقد كانوا من أكثر القطاعات الاقتصادية تقدماً فأدخلوا طرقاً جديدة في الإدارة واستصلاح الأراضي. ولكنهم، مع تَصاعُد وتيرة التحديث، وتَولِّي العناصر القومية للحكم وقيامها بعمليات التمصير، سقطوا "ضحية" هذه العملية إلى أن اختفوا تماماً. والشيء نفسه يحدث حينما تبدأ بنية المجتمعات التقليدية في التآكل، فتبدأ عملية التحديث وتضطلع الدولة القومية المركزية الحديثة بكل مهام الجماعة الوظيفية عن طريق مؤسسات مختلفة: يحل الجيش النظامي محل المرتزقة والمليشيات الخاصة، وتحل المصارف والشركات محل الجماعات التجارية، وتحل المصانع محل(2/387)
جماعات الحرفيين، وتتم إدارة هذه المؤسسات وتزويدها بالعمالة اللازمة من خلال عناصر الأغلبية أو الأقلية أو عناصر من بين الوافدين والسكان الأصليين وتقوم بتدريبهم على كل المهام والوظائف والحرف دون اكتراث باعتبارات اللون أو الجنس أو الدين، وهذا جزء من عملية الترشيد العامة التي تقوم بها الدولة القومية المركزية العلمانية، وهي عملية تتم على جميع المستويات؛ فيتم توحيد السوق المحلية بحيث يصبح خاضعاً للعرض والطلب وحسب، ويتم ترشيد العمالة البشرية فيفقد الإنسان أية قداسة أو رهبة أو خصوصية، ويصبح الجميع مادة بشرية نافعة دون أي تمييز بين المقدَّس والمباح، ويتم ترشيد الإنسان من الداخل فيقبل أن يجرد نفسه ويستجيب بحماس لأهداف مجردة غير إنسانية (التراكم الرأسمالي ـ مصلحة الدولة) . ومع تَزايُد عمليات حوسلة أعضاء المجتمع وسيادة العلاقات الحيادية، تفقد الجماعة الوظيفية وظيفتها وحدودها الواضحة ويبدأ المجتمع في التخلص منها. ويتم هذا عادةً إما بالتدريج حين يتحول أعضاء الجماعة الوظيفية إلى أعضاء في الطبقات الصاعدة، كما حدث ليهود إنجلترا في القرن الثامن عشر، وكما حدث لطبقة الساموراي في اليابان حين أصبح أعضاؤها هم أنفسهم الرأسماليون الجدد. وقد يُطرَد أعضاء الجماعة الوظيفية كما يحدث للعرب في بعض بلاد أفريقيا. وقد يُبادون تماماً كما حدث للمماليك في مصر ولليهود في ألمانيا. وقد تتم عملية التصفية من خلال عدة آليات مختلفة كما حدث للجماعة الوظيفية اليونانية في مصر، فقد طُرد بعضهم وهاجر البعض الآخر واستقر الباقون في مصر وانصهروا في شعبها.
المجتمعات العلمانية والعلاقات الوظيفية (التعاقدية ((2/388)
ثمة علاقة بين سمات الجماعة الوظيفية (التعاقدية ـ الغربة والعزلة والعجز ـ الانفصال عن الزمان والمكان والإحساس بالهوية الوهمية ـ ازدواجية المعايير والنسبية الأخلاقية ـ الحركية ـ التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع) والرؤية المعرفية العلمانية. ونحن نذهب إلى أن المجتمع العلماني الحديث يستند إلى فكرة القانون الطبيعي/المادي والتعاقد ومبدأ المنفعة (واللذة) . وتظهر الدولة القومية العلمانية المركزية التي تضطلع بدور الجماعة الوظيفية وتقضي على كل الجماعات والمؤسسات الوسيطة والجماعات الوظيفية وتحوِّل كل أعضاء المجتمع إلى مواطنين يتم توظيفهم وحوسلتهم لصالح الدولة القومية ولأي هدف يقرره القائمون عليها، ومن ذلك تحقيق المنفعة واللذة لأعضاء المجتمع. ولذا، يتحول كل البشر إلى بشر وظيفيين يشبهون، في كثير من الوجوه، المتعاقدين الغرباء الذين لا تربطهم علاقات جوانية تراحمية وإنما يدخلون في علاقات رشيدة محسوسة. ولعل هذا هو مصير الإنسان العلماني الذي يُعمل عقله في كل شيء وينزع القداسة عن كل شيء (وضمن ذلك ظاهرة الإنسان ذاته) فيَرُدّ كل الظواهر والأشياء إلى المبدأ المادي الواحد ويحطم كل العلاقات الكونية ويخضعها للتفاوض والترشيد المادي المتزايد، فتختفي كل الأسرار ويصبح العالم عارياً تماماً ونصبح كلنا غرباء متعاقدين: نتوهم أننا نعرف كل شيء ونتحكم في كل شيء، فتزداد غربتنا وتعاقديتنا بسبب ازدياد تَحكُّمنا أو تَوهُّم مثل هذا التحكم. وحين يزداد تَحكُّمنا في الواقع، سنحاول إعادة إنتاجه كله مستخدمين عقولنا المحايدة على هيئة مادة متجانسة وحداتها متشابهة، بحيث لا يصبح الحب شيئاً آخر غير الجنس، والترابط ليس سوى الدوافع الاقتصادية، والمشاعر السامية ليست إلا تفاعلات كيماوية معروفة ومفهومة ومحسوبة ستكون في المستقبل مضبوطة ومحكومة تماماً مع تقدُّم العلم، وبذا يجابهنا عالمنا إما كغابة من الدوافع الدنيئة الواضحة(2/389)
أو كعدد هائل من المعادلات الرياضية الأكثر وضوحاً. وعلى كلٍّ، فإن هذا هو ميراث عصر الاستنارة: أن يكون هناك قانون واحد للإنسان والطبيعة وألا تكون هناك استثناءات أو فراغات. والجماعة الوظيفية في عزلتها وعلاقتها التعاقدية، وحساباتها الدقيقة، كانت قريبة جداً من هذه الحالة. ولذا، ليس من الغريب أن تصبح هي النموذج الكامن الذي يأخذ في الانتشار.
ويمكن أن نضع يدنا على بعض آليات تحويل الإنسان التراحمي (أو الإنسان الرباني متعدد الأبعاد) إلى إنسان تعاقدي وظيفي علماني ذي بُعد واحد (طبيعي مادي) ، إنسان متشيِّئ يشبه عضو الجماعة الوظيفية.
1 ـ ثورة التوقعات المتزايدة:(2/390)
لعل أهم هذه الآليات ثورة التطلعات المتزايدة، فهذه الثورة أساسها أن الإنسان مجموعة من الرغبات (المادية) التي لا تُشبَع وأن النمو مرتبط تماماً بهذا الافتراض. ومهمة هذه الثورة هو تصعيد توقعات الإنسان وتطلعاته وترشيده في اتجاه الإفصاح عنها من خلال قنوات مادية حتى لا يتطلع إلى الآخرة أو الروحانيات أو أية أمور مركبة أخرى غير خاضعة للقياس أو التحكم، ويظل تَطلُّعه متجهاً دائماً إلى تعظيم المنفعة واللذة من خلال الحصول على مزيد من السلع، وهي سلع لا يستطيع الحصول عليها إلا بمزيد من العمل وبذل الطاقة، أي أنه لابد أن يُحوسِّل نفسه، أي يتحول إلى إنسان وظيفي حركي غير منتج (مجرد) ينظم استهلاك نفسه ليُولِّد أكبر قدر من الطاقة يحصل مقابله على أكبر قدر ممكن من السلع والخدمات حتى يمكنه إشباع رغباته. ولكن الرغبات متجددة متطورة (أو بالأحرى يتم تجديدها وتطويرها دائماً) . ولذا، يصبح التَحوسُل حالة نهائية ورؤية للكون، وتظهر التعاقدية والوظيفية والتَشيُّؤ. ويساعد على هذا أن ثورة التطلعات نفسها، من خلال آليات مختلفة، ولا سيما استخدام الدافع الجنسي، تحطِّم كل المؤسسات الوسيطة (مثل الكنيسة أو الأسرة الممتدة) التي تشجع التراحم والترابط، الأمر الذي يترك الفرد وحيداً أمام الدولة ووسائل الإعلام التي تُعمِّق عملية الحوسلة وتجعلها حالة نهائية مقبولة: جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة البشرية!
2 ـ النماذج البشرية الوظيفية والأحلام المستحيلة:(2/391)
يُلاحَظ في المجتمعات العلمانية الحديثة الترويج لنماذج بشرية مختلفة يَكمُن وراءها نموذج الإنسان الوظيفي، أحادي البُعد، الذي تم اختزاله إلى مبدأ واحد وتم تجريده من كل خصائصه الإنسانية المركبة المُتعيِّنة بحيث يمكن تعريفه في إطار وظيفته التي يضطلع بها. ففي النظم الاشتراكية، كان هناك دائماً بطل الإنتاج الذي كانت كفاءته وإنتاجيته تفوق كفاءة وإنتاجية أي إنسان سويّ، فهو إنسان تَوحَّد تماماً مع وظيفته وأصبح إنساناً وظيفياً يكتسب معنى وجوده من الكم الذي ينتجه من سلع. أما في المجتمعات الرأسمالية، فقد ظهرت أسطورة الإنسان العصامي الذي يصعد من الأسمال إلى الثروة الرأسمالية. وهذا العصامي هو إنسان نجح في ترشيد حياته تماماً في إطار الربح الاقتصادي والتراكم الرأسمالي، فراكم الثروات الهائلة وقمع ذاته تماماً.
ويُلاحَظ أن الشخصية القدوة هنا شخصية مستحيلة من الناحية الإنسانية، ومع هذا يستمر الترويج لها مع عدم ذكر أي شيء عن التكلفة النفسية والأخلاقية لعملية اختزال الإنسان إلى وظيفة. والحلم الأمريكي تعبير عن نفس الظاهرة، فهو حلم مستحيل بالنسبة للغالبية الساحقة من الشعب الأمريكي، ومع هذا فإن أجهزة الإعلام تروج له، كما تروج لمعدلات كفاءة الأداء التي لا علاقة لها بالإمكانيات الحقيقية للإنسان وإنما تتجاوزها، وتفترض إنساناً بلا أسرة ولا أبناء ولا جيران، إنساناً متجرداً مما هو إنساني.(2/392)
وتُلاحَظ الظاهرة نفسها داخل قطاع اللذة، مع اختلاف طفيف. فالشخصية التي تُقدَّم كقدوة، هي شخصية كانت هامشية في المجتمعات التقليدية ولكنها تصبح شخصية رئيسية في المجتمع الحديث. ففي المجتمعات التقليدية، كان لاعب السيرك والمهرج والغانية شخصيات لها وظيفة محددة، ولكنها كانت تُهمَّش دائماً، فهي شخصيات متحوسلة تُعرَّف في ضوء وظيفتها، ولذا كانت تُعَزل عن المجتمع بأسره. أما في المجتمع الحديث، فقد أصبحت هذه الشخصيات كثيرة ومركزية، وأُعيدت صياغة الهرم الوظيفي بحيث أصبحت هذه الشخصيات الوظيفية المجردة في قمة الهرم.
ولنأخذ المقابل الحديث للمهرج أو لاعب السيرك وهو الرياضي: المفترض أن الرياضة شكل من أشكال اللعب والتسلية، ولكنها تفقد مضمونها هذا وتصبح نشاطاً مركزياً يخضع لعملية ترشيد كاملة وتتبعها عملية تسويق، ويتم تجريد الرياضي تماماً من إنسانيته بحيث يصبح لاعباً وحسب (واحدية وظيفية) يكرس جل وقته للتمرين ويخضع لتدريبات قاسية ليحقق معدلات في الكفاءة والأداء غير إنسانية. ويتوحد كل الشباب والصبية مع هذه الشخصية المجردة، هذا النشاط الرياضي المحض الذي لا علاقة له بأية إنسانية متعينة.
ويمكن أن نقول الشيء نفسه بشأن ملكات الإغراء الجنسي (بالإنجليزية: سكس كوينز sex queens) ، إذ يتم تجريدهن تماماً من إنسانيتهن ليصبحن جسداً محضاً (واحدية وظيفية) تماماً مثل الرياضي، ويُروَّج لهذا الجسد ويُنشَر في كل مكان. وهو يطرح معدلات للجاذبية الجنسية تتجاوز كثيراً أية معدلات إنسانية، فملكة الإغراء قد تكرس حياتها لجسدها وللحفاظ عليه ولإبراز مفاتنه، وهكذا.(2/393)
وتُعَد شخصية البلاي بوي المعادل الذكوري لملكة الإغراء، فهو يستهلك النساء والسلع بكفاءة عالية جداً تتجاوز كفاءة واحتياجات أي إنسان عادي. ويحلم الرجال والنساء بملكات الإغراء والبلاي بوي الذين يصبحون معياراً تُقاس به الأمور ومبدأ واحداً يُرد إليه الكون، الأمر الذي تنجم عنه عمليات تجريد غير إنسانية للذات، فهذا المعيار ليس مستمداً من أي كيان إنساني حقيقي. وعلى كلٍّ، فإن هذا ليس مستغرباً على حضارة حققت معدلات من التقدم والاستهلاك غير إنسانية لأن تكرارها مستحيل، ولذا فهي تطرح أحلاماً مستحيلة على الجميع لا يمكن تحقيقها ولكنها تجعل البشر قادرين على السعي نحوها، وفي سعيهم هذا يتحولون بصورة كاملة إلى مادة وظيفية، ويتراجع العنصر الرباني والتراحمي فيهم ويظهر الإنسان الطبيعي/المادي الوظيفي التعاقدي.
3 ـ الانتقال والهجرة (الترانسفير ((2/394)
من أهم الآليات الأخرى لتحويل الإنسان التراحمي إلى الإنسان التعاقدي الوظيفي، الانتقال والهجرة، إذ أن الإنسان المقتلع من زمانه ومكانه، أي من تاريخه ووطنه، هو إنسان يُردُّ إلى حاجاته المباشرة ويصبح البقاء بالنسبة له هو الهدف الأوحد، وتصبح الوظيفة آلية البقاء الأساسية. والعصر الحديث هو عصر الهجرات والانتقال (والترانسفير) . وينطبق هذا على الحضارة الغربية الحديثة بشكل كامل، فهي تشكيل حضاري يستند إلى فكرة أن الإنسان مادة محضة يمكن نقلها وتوظيفها بشكل كفء. وقد بدأت هذه الحضارة بما يُسمَّى «حركة الاستكشافات» ، أي انتقال بعض العناصر البشرية الغربية لاستكشاف أماكن جديدة والاستيلاء عليها. وقد كانت هذه الأماكن الجديدة، من منظور غربي، أماكن لا تاريخ لها، ومن ثم فهي مجرد مكان يُوظَّف، والسكان الأصليون كانوا مجرد مادة بشرية خاضعة للتوظيف أو الإبادة. وتتبع ذلك عملية الاستيلاء. وقد تم ذلك عن طريق نقل كتلة بشرية من العالم الغربي إلى هذه الأماكن الجديدة، وتم توظيفها بدرجة عالية من الكفاءة. وهذا هو ما يُسمَّى «التشكيل الاستيطاني الاستعماري الغربي» الذي حقق إنجازاته الضخمة بسبب حركية العنصر البشري المزروع في البيئة الجديدة، فهو لا يحمل أية أعباء تاريخية أو أخلاقية أو مطلقات، اللهم إلا الديباجات اللازمة للقيام بعملية الإبادة (عبء الرجل الأبيض) . ثم نُقلت بعد ذلك مادة بشرية من أفريقيا السوداء حتى يمكن توظيفها في المزارع وفي كل الأعمال اليدوية والشاقة. وكانت هذه المادة البشرية على درجة عالية من الكفاءة لأن أفريقيا تتكون من تشكيلات حضارية جميلة صغيرة ولم تتمتع بفترات طويلة من حكم الإمبراطوريات المركزية القوية، ولذا فقد كان الأفارقة يتحدثون مئات اللغات ويؤمنون بمئات العقائد. وحينما تم نقلهم، لم يحدث بينهم تَواصُل وبدأوا يفقدون لغتهم الأصلية وتراثهم الحضاري، ولم يكتسبوا اللغة الإنجليزية ولم يتملكوا(2/395)
ناصية الخطاب الحضاري الغربي لعدة سنوات، بل لم يكن يُسمَح لهم في بادئ الأمر بالانخراط في الكنائس المسيحية، وذلك حتى يظلوا مادة وظيفية محضة. وحينما تنصروا، أصبحت لهم كنائسهم الخاصة، أي أن الكنائس أصبحت أدوات عزل لا أدوات دمج، فظلوا غرباء متعاقدين رغم مرور عشرات السنين على استقرارهم في الأرض الجديدة، ورغم أنهم فقدوا علاقتهم تماماً بالوطن الأصلي.
ومازالت حركة الهجرة مستمرة في العالم، سواء من أوربا إلى أمريكا أو من العالم الثالث لأوربا وأمريكا. والآن، نشاهد هجرة شعوب شرق أوربا (ومن بينها يهود الجمهوريات السوفيتية سابقاً) . كما أن حركة السياحة الضخمة التي تضم الملايين هي جزء من نفس النمط، بل يمكن القول بأن الإنسان الحديث، لا سيما الإنسان الغربي الحديث، إنسان مهاجر دائماً مقيم مؤقتاً، علاقته واهية بالزمان والمكان، ولعل من أهم آليات زيادة الحركة تحويل المنزل إلى عملية استثمارية، فيعيش الإنسان في منزله وهو يفكر في بيعه، ومن ثم لا يضرب جذوراً في أي زمان أو مكان ويصبح وطنه الحقيقي هو منفعته ولذته. فالهجرة والحركة سمة بنيوية في الحضارة الغربية الحديثة وهي إحدى أهم آليات تفتيت أواصر القربى والتراحم وتعميق عدم الانتماء وعدم الاتزان وعدم الاستقرار، الأمر الذي يزيد قابلية المرء للتحوسل ويزيد إنتاجيته (على الأقل في المراحل الأولى) بشكل مدهش.
4 ـ ازدياد عدم الطمأنينة:(2/396)
في الماضي كانت كل المجتمعات تهدف إلى إدخال قدرٍ معقول من الطمأنينة على أفرادها حتى يمكنهم الاستمرار في حياتهم اليومية، على خلاف المجتمعات الحديثة التي لا تهدف إلى إدخال الطمأنينة بقدر ما تحاول أن تولِّد الإحساس بعدم الاستقرار وعدم الانتماء لدى الفرد حتى تتصاعد درجة حرارته ويزيد عدم اتزانه وشكوكه وتربصه بمن حوله ومقدرته على التنافس، فتزداد حركيته ومن ثم إنتاجيته واستهلاكيته، وتزداد معدلات التقدم (الهدف النهائي من الوجود في المجتمعات العلمانية) . فالإنسان المطمئن المستقر الذي يعيش داخل شبكة من العلاقات التراحمية هو ولا شك أقل إنتاجية وإن كان أكثر اتزاناً، أما الإنسان غير المتزن فهو شخصية إمبريالية تُحوسل ذاتها وتُحوسل الآخر والعالم.
5 ـ تفكيك الأسرة:(2/397)
يمكن القول بأن الأسرة أهم المؤسسات التي تُدخل الطمأنينة والسكينة على قلب الإنسان، وهي الإطار الذي يتعلم فيه الإنسان كيف يصبح كائناً اجتماعياً مركباً، عضواً في الجماعة وفرداً منفرداً في الوقت نفسه، ذلك لأن العلاقات داخل الأسرة علاقات مادية اجتماعية مفعمة بالحب والمودة. والمجتمعات العلمانية تضرب كل المؤسسات الوسيطة (وأهمها الأسرة) وتفكِّكها حتى أصبحت الأسرة (كمؤسسة) لا تختلف عن بقية المجتمع: مكاناً للصراع والتناحر لا المأوى الذي يهجع إليه الإنسان. فالجميع داخل الأسرة الحديثة لهم علاقة بالسوق، فالأب يعمل والأم تعمل، وفي الدول المتقدمة يعمل الصبية أيضاً. وقد أصبحت الأسرة ترتيباً مؤقتاً، فحين يصل الأطفال إلى سن السادسة عشرة، فإنهم يتركون المنزل، وحينما يصل الآباء إلى سن التقاعد فإنهم ينتقلون إلى بيوت المسنين. وفي أغلب الأحيان، يعيش أعضاء الأسرة في منزل سيتركونه بعد عدة سنوات إما لتحقيق الربح (فهو الاستثمار الأكبر لأعضاء الطبقات المتوسطة في الغرب) أو من أجل الانتقال إلى مكان آخر للحصول على فرص عمل أفضل وتحقيق الحراك الاجتماعي. أما احتمال أن تنحل هذه الأسرة نفسها من خلال الطلاق احتمال قوي جداً (60 %. واحتمال تكوين أسرة لا يرتبط أعضاؤها برباط مباشر (زوج وأطفال من زواج سابق مع زوجة وأطفال من زواج سابق ... إلى آخر التنويعات التي ذكرناها في مدخل «الترانسفير» ) ، فقد أصبح عالياً بشكل مذهل. وفي واقع الأمر، فإن كل هذا يعني مزيداً من التمركز حول الذات ومزيداً من الإحساس بالعزلة ومزيداً من الانغماس في الآليات اليومية المادية التي تقضي على الدفء والحب والمودة والتراحم.(2/398)
ويُلاحَظ أن العلاقة الزوجية، هي الأخرى، تنضوي تحت النمط الحركي التعاقدي الوظيفي نفسه. وقد أشرنا إلى ارتفاع معدلات الطلاق، ويمكن أيضاً أن نشير إلى ظهور علاقات تعاقدية بين الذكر والأنثى تحل محل علاقة الزواج، فالزوجة في الإطار التقليدي شريكة جوانية في السراء والضراء، ولكنها في الإطار العلماني الوظيفي الرشيد تصبح رفيقة برانية تتواجد ما دامت تؤدي وظيفة: تحقيق اللذة والمنفعة وحسب (تماماً مثل السكرتيرة أو العشيقة أو المضيفة) . ومن هنا، بدأت تتزايد ظاهرة التعايش (بالإنجليزية: كوهابيتيشانco-habitation) ، أي أن يتعايش شخصان معاً فترة من الزمان (تتراوح طولاً أو قصراً حسب الظروف) دون أن يتزوجا، فالتعايش يعني الحركية والتعاقدية والنفعية (ومن ثم العزلة والغربة) بحيث يكون متاحاً لأي طرف في العلاقة أن يقطعها بشكل هادئ ومحايد إن ثبت له أنها لم تعد تأتيه بالمنفعة أو اللذة (على عكس العلاقة الزوجية التي يجب أن تستمر في السراء والضراء) ، أي أن كل طرف في العلاقة يُحوسل الطرف الآخر ويعرِّفه في ضوء وظيفته ونفعه وكأنه عضو في جماعة وظيفية!
6 ـ النسبية المعرفية والأخلاقية:(2/399)
قد يكون تَزايُد معدلات النسبية المعرفية والأخلاقية من أهم آليات تحويل الإنسان الرباني إلى إنسان وظيفي تعاقدي. فمع اختفاء القيم الأخلاقية المتجاوزة لذات الإنسان، يتمركز الإنسان حول ذاته ويصبح هو المعيار الأوحد، وهو ما يؤدي إلى ظهور إرادة القوة وإنسان نيتشه والحرية الكاملة. ولكن تمركزه حول ذاته دون وجود منظومات معرفية وأخلاقية تحظى بقبول المجتمع ككل، ومع ظهور فكرة القانون الطبيعي/المادي العام الذي يتجاوز كل الغائيات الإنسانية ولا يمكن تجاوزه، فإنه ينتهي إلى أن يفقد ذاته ويتمركز حول الموضوع ويقع ضحية لأية منظومة أخلاقية قوية سائدة، فيُذعن لكل ما يَصدُر إليه من أوامر، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور أخلاقيات التكيف البرجماتي والإنسان البيروقراطي والجبرية الكاملة. وهذا هو الاستقطاب بين التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع الذي يسم المنظومات الحلولية الكمونية، وضمن ذلك العلمانية، بميسمه.
7 ـ الهجوم على الطبيعة البشرية:
لعل الهجوم على الطبيعة البشرية، كمرجعية نهائية للإنسان، من أهم آليات تحويل رؤية الإنسان لنفسه بحيث يرى نفسه مادة وظيفية (انظر: «فشل النموذج المادي في تفسير ظاهرة الإنسان» ـ «العقلانية المادية واللاعقلانية المادية» (.
8 ـ عمليات الترشيد المادية:
) انظر: «الترشيد في إطار العلمانية الشاملة [العقلانية التكنولوجية أو المادية [» ((2/400)
لكل ما تقدَّم، تَحوَّل الإنسان في المجتمعات العلمانية إلى ما يشبه عضو الجماعة الوظيفية: إنسان متحوسل حركي منعزل مغترب لا وطن له، إنسان ذي بُعد واحد متمركز حول ذاته متكيف مع الواقع وتسيطر عليه شبكة من العلاقات التعاقدية الصارمة التي تُحوِّله إلى مادة متسلِّعة مُتحوسلة (ظاهره مثل باطنه) . ولعل هذا ما عناه ماكس فيبر حينما تحدَّث عن أن زيادة عملية الترشيد، أي إخضاع كل العلاقات، وضمنها العلاقات الإنسانية، إلى حسابات دقيقة تنتهي بنا إلى تحويل العالم بأسره إلى حالة المصنع الذي سيفضي بنا إلى القفص الحديدي التعاقدي، حيث لا تراحُم ولا دفء وإنما حسابات دقيقة باردة، وهذه هي نفسها عملية «تهويد المجتمع» على حد قول ماركس.
أشكال جديدة من الجماعات الوظيفية فى المجتمعات الحديثة
بيَّنا أن المجتمع العلماني الحديث (المبني على القانون الطبيعي/المادي والتعاقد ومبدأ المنفعة واللذة) تظهر فيه الدولة القومية العلمانية المركزية التي تضطلع بأدوار ووظائف الجماعات الوظيفية، فتقوم هي بتوظيف وحوسلة كل أعضاء المجتمع. ومع هذا، يمكن القول بأن الجماعات الوظيفية لم تختف تماماً رغم سيادة العلاقات الوظيفية وإن كانت تختلف درجات الحوسلة من حيث حدتها، كما أن درجات التحييد والموضعة تكون متفاوتة، ولذا تأخذ الجماعات الوظيفية أشكالاً جديدة أقل تبلوراً وأكثر كموناً. وقد بيَّنا أيضاً أن أعضاء الجماعات الوظيفية يتسمون بمعظم سمات الجماعات الوظيفية، ولكن من النادر أيضاً أن نجد جماعة وظيفية نماذجية تتسم بكل سمات الجماعة الوظيفية.
1 ـ جماعات المهاجرين:(2/401)
ثمة اتفاق على أن أهم أشكال الجماعات الوظيفية في القرن العشرين هو جماعات المهاجرين الذين يتركزون في وظائف بعينها دون غيرها ويتخصصون فيها ثم يحتكرونها. وموقف المجتمع منهم لا يختلف كثيراً عن موقف المجتمع التقليدي من جماعات الغرباء المتعاقدين. ولكن لابد من الإشارة إلى أن وضع هذه الجماعات من المهاجرين يتسم بالسيولة إذ أن الدولة القومية الحديثة تحاول دمجهم ولا تُوصد دونهم باب أية وظائف. كما أن مؤسسات الدولة متغلغلة في كل مجالات المجتمع، ولذا فإنهم إما أن يختفوا تماماً أو تبقى أصداء باهتة لأصولهم الإثنية والوظيفية كما حدث لكثير من جماعات المهاجرين في الولايات المتحدة، مثل الأيرلنديين واليهود واليابانيين.
ومع هذا، تُوجَد جماعات من المهاجرين يحاول المجتمع أن يعطيها صفة المقيم الدائم المؤقت ولا يطلب ولاءها، بل يبذل قصارى جهده لعزلها وتحويلها إلى جماعة وظيفية على الطريقة التقليدية. ومن أهم الجماعات الوظيفية التي تتبع هذا النمط المهاجرون من العالم الثالث الذين يقومون ببعض الأعمال المشينة التي تُسمَّى «العمل الأسود» في أوربا، مثل: جمع القمامة أو بيع الجرائد أو غير ذلك من المهن. وهي أعمال أساسية، ولكن المجتمعات الأوربية تكون مضطرة لاستيراد بعض العناصر البشرية الأجنبية للاضطلاع بها نظراً لأن العناصر المحلية تعاف القيام بها إما لضعف المردود المالي أو لأن المجتمع يعتبرها مشينة لسبب أو آخر.(2/402)
ومن أهم الجماعات الوظيفية المهاجرون الأتراك في ألمانيا، والمغاربة والجزائريون في إسبانيا وهولندا وفرنسا، والإيطاليون في سويسرا، والأسبان في إنجلترا. وفي تصورنا أن شرق أوربا قد تصبح مصدراً أساسياً للمادة البشرية اللازمة للاضطلاع بمهام الجماعات الوظيفية، التي قد تحل محل العناصر العربية والإسلامية في أوربا، فهم سلافيون (الأمر الذي يحقق قدراً لازماً من العزلة) ، ولكنهم مسيحيون غربيون (الأمر الذي يحقق قدراً من الألفة لوجودهم داخل المجتمعات المضيفة دون توليد توترات اجتماعية وثقافية تهدد نسيج المجتمع) .
2 ـ المتعاقدون في البلاد العربية:(2/403)
يمكن أن نصنف العاملين الأجانب في دول الخليج (ممن يُسمَون «المتعاقدين» ) من العرب وغير العرب، المسلمين وغير المسلمين، كجماعات وظيفية من المتعاقدين الغرباء والمقيمين الدائمين والمؤقتين، يحرص المجتمع على عزلهم والاحتفاظ بهم على مسافة تختلف طولاً وعمقاً باختلاف المجتمع ووظيفة المتعاقد. فإن كان المتعاقد في أعلى السلم الاجتماعي والوظيفي، حاول المجتمع أن يختزل المسافة، ولكنه مع هذا يبقيه خارج المجتمع. ومما يساعد على ذلك أن المتعاقد نفسه يحاول الاحتفاظ بالمسافة ويبرز انتماءه الإثني الأصلي. أما إذا كان المتعاقد في أدنى السلم، فإن المجتمع يجعل المسافة أطول والثغرة أعمق، ويكون هذا عن طريق الأزياء فيرتدي عمال النظافة مثلاً زياً رسمياً ملوناً خاصاً بهم، ويصر سكان الخليج بدورهم على ارتداء الزي العربي التقليدي في بلادهم فهو يحقق المسافة بينهم وبين المتعاقدين العرب الذين يرتدون الزي الغربي (المصريون مثلاً) أو يرتدون الأزياء الخاصة بهم (السودانيون مثلاً) . كما يتم العزل عن طريق المناطق السكنية، فيُوطَّن عمال النظافة الآسيويون في معسكرات (جيتوات فقيرة) أما أساتذة الجامعة مثلاً، فيُوطَّنون في مساكن خاصة (جيتوات فاخرة) . وهناك رموز أخرى عديدة للإبقاء على المسافة، من بينها اللغة وأرقام السيارات وطريقة تَناوُّل الطعام ونوعه والإصرار على وجود " كفيل" خليجي حتى تظل المسافة واضحة، فالكفيل يوجد عادةً في قمة المجتمع أما المكفول فيعيش في أسفله.(2/404)
ويُلاحَظ أن المسافة في المملكة العربية السعودية أقل حدة بسبب إقامة الصلوات في مواقيتها إذ يفرض هذا جواً من التراحم والتساوي بين الجميع بشكل يتجاوز ما يمكن أن تفرضه الآليات الاجتماعية غير الواعية. هذا على عكس الوضع في الكويت، على سبيل المثال، حيث تأخذ عملية العزل شكلاً أكثر حدة وضراوة بسبب تَصاعُد معدلات العلمنة في المجتمع. كما أن صغَر عدد السكان عادةً ما يزيد مخاوف أعضاء المجتمع المضيف من أن يكتسحهم المتعاقدون وأن يقوضوا هويتهم ويصبحوا جزءاً لا يتجزأ من مجتمعهم.
3 ـ قطاع اللذة:
وقطاع اللذة شكل جديد من أشكال الجماعات الوظيفية في العصر الحديث وهو جزء من قطاع تزجية أوقات الفراغ. ولفهم وضع هذه الجماعات، لابد أن نشير إلى أن النموذج العلماني للمجتمع يدور حول مفهومين أساسيين هما المنفعة واللذة، ولكن المفهومين متداخلان منذ البداية إذ أن ما يُدخل اللذة على أكبر عدد ممكن من الناس يُعدُّ خيِّراً ونافعاً. بل إن المنفعة واللذة يكادان يكونان مترادفين لأن كليهما عُرِّف داخل إطار المرجعية المادية. ومع هذا، يبدو أن جانب المنفعة العملية هو الذي ساد في الفترة التقشفية التراكمية الرأسمالية حتى نهاية القرن التاسع عشر، ثم بدأ جانب اللذة يسود بالتدريج في الفترة الاستهلاكية أو الفردوسية، إلى أن أصبح مفهوماً أساسياً وهدفاً أسمى للإنسان في المجتمعات العلمانية. وقد عُرِّفت اللذة بشكل حسي إلى أن أصبح العنصر الجنسي تدريجياً أساساً فيها.(2/405)
وقد نشأت الصناعات المختلفة للذة التي تهدف إلى إشباع الرغبات وإلى إثارتها في آن واحد، بل نجد أن عنصر اللذة بدأ يصبح عنصراً أساسياً في كثير من الوظائف العملية (إذ يُعرَّف نفع الوظيفة بمقدار إدخالها اللذة على المستهلك) . ويُلاحَظ أن قطاع الإعلانات في المجتمعات الاستهلاكية من أهم القطاعات التي تلتقي فيها المنفعة باللذة، ولذا يُستخدَم الجنس للإعلان عن سلع نفعية محضة ليست لها علاقة باللذة مثل صابون الحمام والسفر على الطائرة، وتُستخدَم أجمل الفتيات بأكثر الطرق إثارة للإعلان عن أكثر السلع نفعاً! وبعد أن كانت البغيّ في الماضي تقوم بإشباع اللذة بمعزل عن المنفعة، بدأت تظهر شخصيات أخرى تُعَدُّ تنويعات حديثة على شخصية البغي (تختلف في قربها وبُعدها عنها) تمزج المنفعة واللذة. ويمكن النظر إلى السكرتيرة الخاصة في المجتمعات الغربية المتقدمة كوريثة للبغي التقليدية بعد ترشيد دورها، فهي لم تَعُد تُقدِّم الخدمات الجنسية وحسب (اللذة) بل أصبحت تقدم خدمات فنية أخرى مثل الكتابة والاختزال والاتصالات التليفونية (المنفعة) . فالجنس، هنا، إن هو إلا جزء من كل، فالسكرتيرة تقدم خدمات شاملة للمدير، فهي بديل الزوجة والعشيقة والبغي دون أن تكون زوجة أو عشيقة أو بغياً، فوظيفتها تحقق المنفعة واللذة في آن واحد. والإصرار على العنصر التعاقدي الواضح، في هذه الحالة، يهدف إلى خلق مسافة بين السكرتيرة ومخدومها حتى يمكن ضمان سير العمل وحتى يتم ترشيد عنصر اللذة. والسكرتيرة ترتدي أزياء خاصة (جونيلات قصيرة ـ فساتين ذات صدر مفترح مثلاً) تبرز جاذبيتها الجنسية حتى يتلذذ مخدومها وزواره أثناء أدائها عملها، ولكن يجب ألا تكون ملابسها فاضحة حتى لا يتوقف سير العمل؛ إنها تمتع رئيسها وتكتب له على الآلة الكاتبة في الوقت نفسه. وعلاقة السكرتيرة الحسناء برئيسها تشبه، من بعض النواحي، علاقة المرتزقة بالنخبة الحاكمة، فهي تقوم على خدمته (نفعياً(2/406)
وحسياً) وتقترب منه (حرفياً ومجازياً) حتى يعتمد عليها، وقد تصل درجة الاعتماد إلى حد أنها قد تهيمن عليه، فهي تعرف كل أسراره (ومع هذا يُوجَد ما يُسمَّى «السكرتيرة التي لا تجيد الكتابة على الآلة الكاتبة» وهي تُعيَّن لجمالها وحسب، وتكون مصدراً للذة والمتعة فقط)
ومن أهم التنويعات الحديثة على هذا النمط (حيث يصبح النفع الأساسي للوظيفة هو اللذة التي تمنحها للمستهلك) نجمات السينما، وخصوصاً ملكات الإغراء الجنسي (بالإنجليزية: سكس كوينز sex queens) . فالنجمة السينمائية هي العنصر الأساسي في استثمار ضخم هو صناعة الأفلام التي تهدف إلى إشباع رغبة المتفرجين في اللذة، ولذا تضع النجمة السينمائية نفسها (قلباً وقالباً، روحاً [إن كان هناك مثل هذا الروح داخلها] وجسداً) تحت تَصرُّف المجتمع: مخرج الفيلم ووسائل الإعلام والجمهور الذي يحلم بنجمته. ولذا، يتعين عليها أن تربي أردافها وأن تظهر دائماً في أحسن صورة وأكثرها خلاعةً وترتدي آخر الموضات. ولابد أن يكون الماكياج فاقعاً وكذلك الأصباغ وأن تعطي إشارات حسية واضحة (فالاحتشام يشوه صورتها الإعلامية التي يروج لها وكيل أعمالها) . كما يتعيَّن عليها ألا تظهر "على الطبيعة" وإلا أصبحت بشراً عادياً مثلنا وانفض المعجبون عنها (ولذا، نجد أن رؤية النجمة "على الطبيعة"، تُعدُّ دائماً مسألة نادرة تثير الدهشة وخيبة الأمل، وعادةً ما يُقال "إن النجمة فلانة عادية جداً في الحياة الواقعية"!) . كما أن حياتها الخاصة لابد أن تكون جزءاً من الصورة الإعلامية، تُوظَّف في خدمة النجومية. وحينما ترتكب فضائح أخلاقية، فهذه مسألة طريفة ومسلية. وتظهر مجلات كاملة مهمتها تزويد الجمهور بآخر الأخبار المسلية عن فضائح النجوم وزيجاتهم وطلاقهم ومغامراتهم وصورهم العارية وغير العارية، وهذه عملية حوسلة تعاقدية كاملة.(2/407)
وتُعَد المضيفة أيضاً استمراراً لنفس النمط، فمهمتها إسعاد الركاب لا مجرد خدمتهم. ولذا، فلابد أن تكون جميلة وصغيرة ولابد أن تكون أنثى (وكم ستكون خيبة أمل الركاب لو أن شاغل هذه الوظيفة ذكر له شوارب) ، ولابد أن تبتسم المضيفة للجميع وأن تكون ظريفة معهم ومع أولادهم وأن تقول في نهاية الرحلة ذات الهدف العملي النفعي (الانتقال من مكان لآخر) " أرجو أن تكونوا قد استمتعتم برحلتكم ". ومع هذا، لابد أن تظل العلاقة تعاقدية باردة، ولذا فهي ترتدي زياً يفصلها عن الركاب، كما ينبغي ألا تقضي وقتاً طويلاً مع راكب بعينه، أي لابد أن توزع وقتها بطريقة تعاقدية باردة (ولذا، فإن نصيب راكب الدرجة الأولى من وقت المضيفة يزيد عن نصيب راكب الدرجة الثانية) . ولعل ما يلخص الموقف هو العبارة الإنجليزية «كوفي، تي، نوت مي coffee, tea, not me» (أي: أطلب ما شئت، قهوة أو شاياً، وليس المضيفة نفسها) ، وفي رواية أخرى «كوفي، تي، أور مي coffee, tea, or me» (أي: أطلب ما شئت، قهوة أو شاياً، أو حتى المضيفة نفسها) . والمسألة على كلٍّ خاضعة للتفاوض، كما هو الحال في معظم العلاقات الوظيفية، فهي موجودة في بقعة رمادية، ولكن البنية الأساسية لهذه العلاقة تظل تعاقدية تماماً. وتنضوي العاملات في المطاعم والملاهي تحت نفس النمط حيث تختلط المنفعة باللذة.
4 ـ قطاع السياحة:(2/408)
ويمكننا أن نُصنِّف السائحين باعتبارهم جماعات من متعاقدين غرباء مؤقتين (يشبهون من بعض الوجوه العمالة المهاجرة إلى أوربا) يدعون أنهم يبحثون عن المنفعة (رؤية الأنا والتعرف على الآخر) ، ولكنهم في غالب الأمر باحثون شرهون عن اللذة (الملاهي الليلية ـ التجول في مجتمع الآخر المباح) . وطبيعة علاقة السائح بالمجتمع لا تختلف كثيراً عن علاقة الجماعة الوظيفية بالمجتمع التقليدي، فهي علاقة نفعية محايدة كل طرف فيها ينظر للآخر باعتباره مصدراً للنفع وشيئاً مباحاً. فالسائح يأتى للاستمتاع وحسب حتى لو أدَّى هذا إلى دمار المجتمع المضيف، والمجتمع يرحب بالسائح لا بسبب قيمته الإنسانية وإنما لأنه يحمل نقوداً ولأنه على استعداد لدفعها نظير المتعة التي سيحصل عليها، فالحسابات مادية غير أخلاقية. والسائح لا يدين بالولاء للمجتمع المضيف، كما أن المجتمع المضيف بدوره لا يُكن له أي احترام إنساني أو حب أو مودة. ولكن العلاقة التعاقدية هنا علاقة مؤقتة تماماً وليست جزءاً من بنية المجتمع، وإن كانت تؤثر فيه حينما يزيد عدد السائحين ويتضخم قطاع السياحة.
5 ـ النخب العسكرية:(2/409)
ويمكن القول بأن القطاعات العسكرية في كثير من دول العالم الثالث يُعاد إنتاجها على هيئة جماعات وظيفية ُجنِّد أعضاؤها من داخل المجتمع. ويتم عزل هذه الجماعات عن طريق المزايا والرموز المختلفة، بل يتم أحياناً عزل هذه الجماعات داخل أحياء سكنية متميزة تتمتع بعدد من الخدمات، وقد تُخصَّص مستشفيات ومدارس مقصورة على أعضائها وعلى أولادهم. وبعد إنجاز عملية العزل، يصبح للقطاع العسكري وقيادته "مصالح" مختلفة عن مصالح المجتمع، ومن ثم يكون بوسع هذه الجماعات أن تنظر لهذا القطاع بشكل محايد، ويكون بوسع القوى الأجنبية أو النخب الحاكمة أن تُوظِّف هذه الجماعات لصالحها. كما يمكن لهذه الجماعات أن تسيطر على المجتمع وتديره لصالحها وتصبح مثل المرتزقة والمتعاقدين الغرباء رغم أن خطابها السياسي قد يكون قومياً وثورياً واشتراكياً.
6 ـ النخب الثقافية والسياسية المرتبطة بالإمبريالية الغربية:
يمكن أن يتحول بعض قطاعات النخب الحاكمة والمثقفين في العالم الثالث إلى جماعات وظيفية (عميلة) تعمل لصالح الإمبريالية أو النظام العالمي الإمبريالي الجديد. فهؤلاء يمكن استيعابهم من خلال الشبكة الاقتصادية والثقافية الضخمة (شركات متعددة الجنسيات ـ مؤسسات بحوث ـ مؤتمرات علمية ـ مشاريع بحثية مشتركة ... إلخ) . وهذه القطاعات يتم عزلها عن مجتمعاتها بحيث تصبح غريبة، فتكون داخلها ولكنها ليست منها. ويمكن أن تكون العزلة فعلية كأن يعيش أعضاء هذه القطاعات في منازل توجد على أطراف المدينة أو في أحياء خاصة ذات طُرُز معمارية معينة (عادةً غربية) أو يرتدون أزياء غربية ويتحدثون بالإنجليزية أو العربية المطعمة بالإنجليزية. كما أن شبكة المصالح العالمية تستوعبهم فتصبح مصالحهم الاقتصادية مرتبطة بالآلة العالمية وباستمرارها وباستمرار مؤسساتها الثقافية.(2/410)
ولكن العزلة يمكن أن تتم بشكل أكثر تبلوراً وتركيباً فتأخذ طابعاً نفسياً فيحس المثقف بالعزلة عن مجتمعه وبعدم التجذر فيه وبالغربة عنه، ويحس عضو النخبة السياسية بعدم الانتماء لبلده، كما أنهما ينظران إلى أهليهما نظرة دونية حيث يشعران بتخلف المجتمع الذي يعيشان فيه وبحاجته إليهما (مركب الشعب المختار) . كما أنهما يمارسان هذا الشعور عادةً بسبب إيمانهما بأيديولوجيا تُجسِّد نماذج معرفية وأخلاقية مستوردة متحيِّزة ضد واقعهما. ورغم أنهما قد يتحدثان بلغة بلدهما، إلا أن خطابهما السياسي يبدأ في التحول التدريجي حتى لا يفهمه سواهما ويصبح أداة للعزلة عن الجماهير لا للتواصل معها.(2/411)
ولا شك في أن أعضاء هذه الجماعة يتسمون بحركية شديدة. كل هذا يجعلهم كيانات مجردة وأدوات قمع في نظر مجتمعاتهم، تماماً كما أنهم لا ينظرون إلى مجتمعاتهم باعتبارها كيانات حية ينتمون إليها. فهم ينظرون إلى الفلاح الذي يرتدي جلبابه، مثلاً، باعتباره عبئاً لابد من التخلص منه ومشكلة تحتاج للحل. وهؤلاء المثقفون يشبهون في كثير من الأحيان يهود البلاط الذين كانوا يشكلون جماعة وظيفية تقف بين عالمين (عالم اليهود وعالم الأغيار) جماعة تتعامل مع كليهما بكفاءة دون أن تنتمي لأي منهما. ولذا، فإن أعضاء هذه الجماعة يعيشون في عدم طمأنينة، يحاولون إرضاء أسيادهم قدر استطاعتهم عن طريق الخضوع لقوانينه، ولكنهم في الوقت نفسه لا يمكنهم الانضمام له تماماً لأن وظيفتهم تتطلب منهم أن يطوروا مجتمعاتهم حتى يمكن إدخالها إلى النظام العالمي. ولكن شرعيتهم وقوتهم تظلان مستندتين إلى القوة الإمبريالية. وقد وصف أحد علماء الاجتماع يهود البلاط بأنهم "مخصيون لم يتم خصيهم" وهو وصف دال أيضاً لأعضاء النخب الثقافية والسياسية في العالم الثالث الذين تم إعادة إنتاجهم على هيئة جماعة وظيفية عميلة تخدم النظام الإمبريالي العالمي الجديد. ونحن نرى أن النظام العالمي الجديد ينطلق من إدراك الدول الغربية صعوبة المواجهة العسكرية والأيديولوجية الواضحة مع شعوب العالم الثالث (وخصوصاً الشعوب الإسلامية) ، وإدراكها أيضاً ظهور نخبة ثقافية محلية على استعداد كامل للتعاون معها والقيام على خدمتها، فقررت أن تلجأ إلى التفكيك الداخلي (من خلال النخبة المحلية العميلة) بدلاً من المواجهة المباشرة من خلال الجيوش وآليات الحرب التقليدية الأخرى.
7 ـ الدول الوظيفية:(2/412)
يمكن اعتبار الدول الاستيطانية إعادة إنتاج للجماعة الوظيفية في العصر الحديث، ولعل الدولة الصهيونية هي أهم مثل لذلك (انظر: «الدولة الصهيونية الوظيفية» ) . ولكن، يُلاحَظ في العصر الحديث أن الاستعمار الغربي يُحوِّل بعض الدول، وبخاصة الدول الصغيرة، إلى دول وظيفية تسير في فلكه وتخدم الاتجاه نحو العولمة. وتتم عملية التحويل هذه من دولة قومية إلى دول وظيفية، إما من خلال عملية رشوة لشعب هذه الدول، أو من خلال تحويل النخبة الحاكمة في دولة ما إلى جماعة وظيفية تعمل لصالح النظام الاستعماري الجديد. والدول الصغيرة ذات الموارد الطبيعية الضخمة هي المرشحة أكثر من غيرها لأن تكون دولاً وظيفية عميلة، فبنية هذه الدويلات (موارد ضخمة وكثافة بشرية ضعيفة) يجعلها في حالة صراع دائم مع جيرانها ولكنها تفشل في الوقت نفسه في الدفاع عن نفسها، ومن ثم لابد أن تعتمد على قوة عسكرية خارجية تدافع عنها وتضمن بقاءها فتتحول بالتالي، شاءت أم أبت، إلى دولة وظيفية عميلة، إذ يكون عليها أن تدفع ثمن بقائها وفاتورة الدفاع عنها.
8 ـ جماعات المهنيين:
يميل بعض علماء الاجتماع في الغرب إلى وصف جماعات المهنيين (مثلاً الأطباء والمهندسين) بأنها إعادة إنتاج لنمط الجماعات الوظيفية في العصر الحديث. والله أعلم.(2/413)
المجلد الثانى: الجماعات اليهودية.. إشكاليات
الجزء الأول: طبيعة اليهود في كل زمان ومكان
الباب الأول: إشكالية الجوهر اليهودي
الجوهر اليهودي
Jewish Essence
«الجوهر» هو مجموعة الخصائص الثابتة في ظاهرة ما أو هو ما لا يتغيَّر بتَغيُّر المكان أو الزمان. وفكرة الجوهر اليهودي الخالص (الثابت) هي فكرة كامنة وراء عديد من المفاهيم والمصطلحات والنماذج التفسيرية المُستخدَمة في دراسة الجماعات والعقائد اليهودية، مثل: «التاريخ اليهودي» ، و «الشخصية اليهودية» ، و «العبقرية اليهودية» ، و «الجريمة اليهودية» ، و «الشعب اليهودي» ، و «العرْق اليهودي» ، و «الإثنية اليهودية» . فكل هذه المصطلحات تفترض وجود هذا الجوهر اليهودي الخالص الثابت الذي يجعل من يهودية اليهودي النقطة المرجعية الأساسية لتفسير سلوكه. أما العناصر غير اليهودية، مثل السياق الحضاري الإنساني الذي يوجد فيه أعضاء الجماعات اليهودية، أو حركيات المجتمعات التي ينتمون إليها، أو تفاعلهم مع أعضاء الأغلبية، بل والعناصر الإنسانية المشتركة مع بقية البشر، فهي عناصر يُفترَض فيها أنها عَرَضية تنتمي إلى السطح ولا تفيدنا كثيراً في تفسير الظواهر اليهودية، حيث يتم تفسير هذه الظواهر من الداخل فقط.(3/1)
ففي حالة دراسة تاريخ يهود بولندا، على سبيل المثال، يتم التركيز على ما جاء في التوراة والتلمود وعلى الحياة داخل الشتتل، ولا يظهر العالم الخارجي غير اليهودي إلا على هيئة هجمات ومذابح ضد اليهود أو تسامح معهم. ولكل هذا، تبدو حياة أعضاء الجماعات اليهودية وكأنها لا علاقة لها بحياة كل البشر، وتختلف تماماً عن حياة الأقليات الأخرى. ويَبرُز الجوهر اليهودي باعتباره محركاً أساسياً للأحداث. وغني عن الذكر أن المعادين لليهود يتبنون النموذج نفسه ويرددون، على سبيل المثال، أن عزلة اليهود هي تعبير عن جوهرهم الانعزالي، وأن اشتغالهم بالتجارة تعبير عن نزوعهم الطبيعي إلى الاشتغال بأمور المال، وأن اتجاههم نحو الصحافة الإباحية هو تعبير عن نزوعهم الأزلي نحو الشر.
وهذا النموذج التفسيري الذي يفترض وجود الجوهر اليهودي، هو نموذج صهيوني بشكل واع أو غير واع حيث إن كلاًّ من الصهاينة والمعادين لليهود يُسقطون عن اليهود إنسانيتهم ولا يرونهم بشراً يتسمون بالقدر نفسه من الخير والشر الذي تتسم به بقية البشر. لكن مفهوم الجوهر اليهودي هو تعبير عن نموذج اختزالي عنصري، مقدرته التفسيرية منخفضة للغاية، إذ أنه يستبعد كثيراً من تفاصيل الواقع ومستوياته وبنيته. فلا يمكن فهم وضع اليهود في بولندا إلا بالعودة إلى حركيات التاريخ البولندي ابتداءً من تَوسُّع بولندا وضمها أوكرانيا، مروراً بظهور الإمبراطوريات الثلاث المجاورة لبولندا (روسيا وألمانيا والنمسا) ، وانتهاءً بتقسيم بولندا. كما لا يمكن فهم الشتتل إلا في ضوء نظام الأرندا البولندي الذي كان يخدم مصالح طبقة النبلاء البولنديين (شلاختا) . كما أن علاقة يهود بولندا بمجتمعهم لا تختلف كثيراً عن علاقة أية أقلية بالأغلبية التي تعيش بينها.(3/2)
وقد يكون هناك بعض الأنماط المتكررة والسمات المشتركة التي تسم وجود كثير من الجماعات اليهودية. ولكن هذه السمات ليست أساسية، وبالتالي فإن مقدرتها التفسيرية ضعيفة. وهذه السمات مرتبطة بعشرات التفاصيل والسمات الأخرى النابعة من البيئات المختلفة التي يوجد فيها أعضاء الجماعات اليهودية. وإذا كانت ثمة سمة أو سمات أساسية متكررة في معظم الجماعات اليهودية، فهي اضطلاعهم بدور الجماعة الوظيفية وتَصاعُد الحلولية الكمونية داخل النسق الديني اليهودي. وهاتان السمتان ذاتهما تأخذان أشكالاً مختلفة. فهناك جماعة وظيفية قتالية استيطانية في جزيرة إلفنتاين في مصر الفرعونية، وهناك جماعة وظيفية استيطانية في قبرص العثمانية، وجماعة وظيفية وسيطة في أوربا حتى عصر النهضة. وهذه السمة بالذات ليست مقصورة على أعضاء الجماعات اليهودية وإنما هي سمة مشتركة تجمع بينها وبين أقليات أخرى (مثل الصينيين في جنوب شرق آسيا) .
وفيما يتصل بتَصاعُد الحلولية الكمونية داخل النسق الديني اليهودي وهيمنتها عليه تماماً، حتى أصبحت اليهودية، في معظم أنحاء العالم، ديانة حلولية كمونية واحدية، فهذا بدوره ليس مقصوراً على اليهودية وإنما هو تعبير عن نمط أكثر عمقاً وكموناً، إذ يُلاحَظ أن العقيدة المسيحية أيضاً قد بدأت تهيمن عليها الحلولية الكمونية بعد حركة الإصلاح الديني. كما أن لاهوت موت الإله (وهو تعبير عن حلولية كمونية بدون إله) هو اتجاه ديني طالما ساد في المجتمعات العلمانية الغربية، وليس أمراً مقصوراً على اليهودية.
طبيعة اليهود
The Nature of the Jews(3/3)
«طبيعة اليهود» عبارة تتواتر في كثير من الدراسات التي تُكتَب عن الجماعات والعقائد اليهودية، وتفترض أن ثمة جوهراً يهودياً كامناً في أي يهودي يُعبِّر عن نفسه من خلال «طبيعة يهودية» ويتجلى في العقائد اليهودية ويحدِّد رؤية اليهود للواقع وسلوكهم. ولذا، فإن أعضاء الجماعات اليهودية ـ حسب هذا المفهوم ـ يعملون بالتجارة والربا والأمور المالية بسبب طبيعتهم، وهم يعيشون في عزلة ويرفضون الاندماج للسبب نفسه. لكن هذا المفهوم تعبير عن نموذج تفسيري اختزالي عنصري يتبناه الصهاينة والمعادون لليهود، ويُبْرز اليهود كتجمع بشري يتمتع بقدر عال من الوحدة والاستقلال وله حركيات مستقلة عن بقية البشر. وغني عن القول أن هذا المفهوم يُفسِّر الواقع كله بصيغة واحدة بسيطة جاهزة، ومن ثم فهو يتجاهل واقع أعضاء الجماعات اليهودية المُركَّب غير المتجانس، وهو واقع لا يخضع لقانون عام ولا ينضوي تحت نمط متكرر واحد.
الأخلاقيات اليهودية
Jewish Ethics or Morality(3/4)
«الأخلاقيات اليهودية» عبارة تفترض أن ثمة أنماطاً سلوكية يهودية متكررة تُعبِّر عن جوهر يهودي وطبيعة يهودية وشخصية يهودية تنعكس في رؤية أخلاقية محددة. وهي أنماط متكررة باعتبار أن هذه الأخلاقيات ثابتة لا تتغيَّر، وأينما وُجد يهود في أي زمان ومكان فإن المتوقع أن يسلكوا السلوك اللاأخلاقي نفسه الذي ينم عن الرغبة في تحطيم الآخرين والتآمر ضدهم. وبسبب هذه الأخلاقيات اليهودية المزعومة، يتسم سلوك اليهود بحب العزلة عن الآخرين وعدم الولاء للدولة والانحلال الجنسي، كما أنهم لهذا السبب ينخرطون بأعداد كبيرة في المحافل الماسونية وينضمون إلى صفوف دعاة العلمانية الشاملة، كما أنهم عادةً ما يعملون بالتجارة والربا والأعمال المالية. ومصدر هذه الأخلاقيات، حسب هذه الرؤية، هو كتب اليهود المقدَّسة كالعهد القديم والتلمود، ويُضاف إلىها الآن بروتوكولات حكماء صهيون، وهي كتب تعبِّر عن طبيعتهم وجوهرهم. لكن هذا النموذج التفسيري متهافت تماماً، فسلوك اليهود يختلف باختلاف الزمان والمكان. ومن هنا يجري حديثنا عنهم، لا باعتبارهم أعضاء شعب يهودي، وإنما باعتبارهم أعضاء جماعات يهودية.(3/5)
ومن المعروف أن أعضاء الجماعة اليهودية لم يعزلوا أنفسهم في بابل ولا في الجزيرة العربية قبل الإسلام، ولا في إسبانيا الإسلامية، بل اندمجوا إلى حدٍّ كبير في محيطهم الحضاري. أما في آشور والصين، فقد انصهروا تماماً. وكان العبرانيون القدامي بدواً رُحلاً، وعملوا بالزراعة (وليس بالتجارة أو الربا) حين استقروا في كنعان. وكذلك، فإن ولاء يهود ألمانيا في القرن التاسع عشر لدولتهم كان كاملاً إلى درجة أن نسبة مئوية ضخمة منهم تَنصَّرت حتى أنهم أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الشعب الألماني. كما أن ولاء الأمريكيين اليهود للولايات المتحدة من القوة بحيث إنهم يموتون من أجلها. أما عداء اليهود للأغيار فإنه ليس مطلقاً، فقد ساعدوا المسلمين في الفتح الإسلامي، سواء في فلسطين أو في إسبانيا. كما أن انحلالهم الجنسي غير مطلق أيضاً، فظاهرة الطفل اليهودي غير الشرعي أو البغيِّ اليهودية كانت غير معروفة تقريباً في أوربا حتى منتصف القرن التاسع عشر. وأما الماسونية والعلمانية، فإن اليهودية الأرثوذكسية تعاديهما بشراسة، وهكذا. ولا يصعب على أي دارس مُتحيِّز أن ينتقي مجموعة من التفاصيل والقرائن مُنتزعة من سياقها الزمني والمكاني للتدليل على أية مقولة عامة، كأن يأخذ قرينة من المدىنة أيام الرسول علىه الصلاة والسلام، وأخرى من إسبانيا أثناء الغزو المسيحي، وثالثة من روسيا في القرن التاسع عشر، ثم يستخدمها جميعاً لإثبات مقولة ما مثل «عدم ولاء اليهود» متجاهلاً كل القرائن الأخرى، كتلك التي ذكرناها.(3/6)
والصورة العامة التي ترسخت في أذهان الكثيرين عن أعضاء الجماعات اليهودية تعود ولا شك إلى الرؤى الإنجيلية الخاصة بالشعب المختار الذي لا يسلك سلوكاً حراً وإنما يُعبِّر دائماً عن قصد إلهي. كما أن اضطلاع أعضاء الجماعات اليهودية بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة في الغرب، ساهم في ترسيخ هذه الصورة الإدراكية. فالجماعات الوسيطة لا تدين بالولاء للأغلبية، وتستخدم عادةً المعايير الأخلاقية المزدوجة باعتبار أن أعضاء الجماعة يتمتعون بالقداسة، أما أعضاء الأغلبية فهم مباحون لا قداسة ولا حرمة لهم. ولكن المصدر المباشر لهذه الصورة السلبية للأخلاقيات اليهودية هو يهود اليديشية في مرحلة ضعفهم وتَفسُّخهم في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر حتى ثلاثينيات القرن العشرين، إذ تركزت نسبة كبيرة منهم في تجارة البغاء حتى أصبحت شخصية القواد اليهودي والبغي اليهودية أمراً شائعاً. كما أن نسبة المهاجرين منهم كانت مرتفعة للغاية. والمهاجر في كثير من الأحيان، شخصية غير منتمية لا ولاء لها، كما أن معدلات العلمنة بين المهاجرين مرتفعة للغاية. وهكذا، فإن الصورة العنصرية النمطية السائدة عن الأخلاقيات اليهودية قد يكون لها أساس واقعي، ولكنها تنتمي إلى زمان ومكان محدَّدين، كما أنها فقدت كثيراً من فعاليتها إذ اختفى يهود اليديشية تقريباً وظهرت أنماط سلوكية جديدة بين أعضاء الجماعات.
وتنتشر فكرة الأخلاقيات اليهودية بين المعادين لليهود، ولكنها شائعة أيضاً بين الصهاينة الذين يعطونها مضموناً إيجابياً. فالأخلاقيات اليهودية تعبير عن العبقرية اليهودية التي تجعل من اليهودي مبدعاً قادراً على التماسك الاجتماعي، محباً لقومه وقوميته اليهودية وأرضه ... إلخ. وغني عن القول أن رؤية المعادين لليهود لا تختلف في بنيتها عن رؤية الصهاينة، فاليهود في نظرهم هم اليهود، يسلكون دائماً السلوك نفسه أينما وُجدوا.
المادية اليهودية
Jewish Materialism(3/7)
لمصطلح «المادية» معنيان:
1 ـ المعنى الفلسفي: الإيمان بأن العالم كله مادة تتحرك وأن كل ما يبدو وكأنه ليس مادة (العقل والروح والنفس والفكر والوعي) إنما هو في واقع الأمر مادة ويمكن تفسيره من خلال مقولات مادية، وأن كل الظواهر الإنسانية العقلية والروحية ما هي إلا جزء من بناء فوقي يمكن أن يُرَد في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير إلى المادة (البناء التحتي) . وأن كل شيء في الكون يمكن تفسيره تفسيراً مادياً لأن كل التغيرات لها سبب مادي. ولذا، فإن التفسيرات المادية هي التفسيرات الوحيدة الممكنة، كما أن العقل الإنساني ليست له أية فعالية سببية ولا علاقة له بحركة الكون الذي يتحرك بذاته، والكون لا يوجد فيه غرض ولا سبب ولا هدف ولامعنى ولا يوجد إله ولا غيب (وراء الطبيعة) ، فالمادة وحركتها أزليتان ولا يوجد سبب أو محرِّك أوَّل. وقد تتغير أشكال الظواهر المادية وقد تتبدل تجلياتها ولكن المادة لا تُخلَق ولا تُستحدَث من العدم، ولا توجد حياة أزلية سوى المادة.
2 ـ المعنى الدارج: وهو حب النقود (التي يشار إليها على أنها «مادة» ) . فيُقال «فلان مادي» بمعنى أنه يحب المال حباً جماً.
والمدلولان قد يغطيان رقعة مشتركة، فالإنسان المادي (بالمعنى الفلسفي) قد يكون محباً للمال، والمحب للمال قد يكون مادياً بالمعنى الفلسفي، ولكنهما على أية حال مختلفان، فالمادية بالمعنى الفلسفي رؤية شاملة للكون تغطي علاقة الإنسان والطبيعة والإله، أما المادية بالمعنى الدارج فهي تنصرف إلى جانب واحد في الطبيعة البشرية وهو حب المال.(3/8)
وإذا نظرنا إلى عبارة «المادية اليهودية» بالمعنى الفلسفي، فإننا سنواجه صعوبات بالغة، فاليهودية عقيدة دينية يؤمن كثير من أتباعها بالإله واليوم الآخر والملائكة والشياطين والثواب والعقاب، ومن ثم لا يمكن الحديث عن المادية اليهودية بهذا المعنى. ومع هذا، يمكن من قبيل التحفظ أن نقول إن الطبقة الحلولية الكمونية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي التراكمي تتبدَّى (في مرحلة وحدة الوجود) في شكل رؤية مادية، كما أنها تخلق لدى المؤمن تَقبُّلاً للفكر المادي بالمعنى الفلسفي. ولعل هذا يفسر ظهور النزعات المشيحانية التي عادةً ما تصبح حركات عدمية بالمعنى الفلسفي، كما يفسر ظهور كثير من الفلاسفة الماديين من أصل يهودي (من أهمهم إسبينوزا وماركس) .
ويمكننا الآن تَناوُل عبارة «المادية اليهودية» بالمعنى الدارج. وهنا أيضاً لا يمكننا أن نتحدث عن أعضاء الجماعات اليهودية المختلفة في كل زمان ومكان باعتبار أنهم محبون للمال حباً جماً. ومثل هذه المقولات التحليلية معادية لليهود وصهيونية في آن واحد لأنها تفترض وجود جوهر يهودي واحد لا يتغيَّر بتَغيُّر الزمان والمكان.(3/9)
والدراس لتواريخ الجماعات اليهودية سيكتشف أن حب اليهود للمال لا يختلف في معدله كثيراً عن حب أعضاء الأغلبية له. فيهود الجزيرة العربية قبل الإسلام كانوا يتصفون بصفات الكرم والسخاء (إلى درجة التبذير) ، شأنهم في هذا شأن العرب في عصرهم، بينما نجد أن يهود الولايات المتحدة يتصفون بأنهم أكثر حرصاً وتقتيراً، وهذا جزء من ميراثهم البروتستانتي التعاقدي الذي يؤكد على قيم التقشف الذي يؤدي إلى التراكم المالي (المادي) . وكان كثير من يهود شرق أوربا من يهود اليديشية يتهمون اليهود الأمريكيين بالبرود والحرص الزائد، وهذا يعود إلى أن يهود شرق أوربا جاءوا من مجتمعات شبه زراعية ومن خلفية سلافية لا تعرف التقتير والتراكم أو لا تشجعه (على عكس اليهود الأمريكيين من أصل ألماني بروتستانتي)
ومع هذا، يمكن القول بأن أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب يميلون، أكثر من غيرهم، إلى جمع المال ومراكمته. ولكن هذا لا يُفسِّره يهوديتهم وإنما يُفسِّره أنهم أعضاء في جماعات وظيفية لابد أن تقوم بمراكمة الخبرات والأموال وأن تمارس قدراً عالياً من ضبط النفس في عمليات الاستهلاك (وشيلوك مثل جيد على ذلك) . والدارس للجماعات الوظيفية (خصوصاً الوسيطة) ، سيجد أن أعضاءها (يهوداً كانوا أم باكستانيين أو صينيين) يتسمون بالصفات نفسها تقريباً. والصينيون في وطنهم غير معروفين بالبخل أو الحرص الشديدين، ولكنهم حينما تحولوا إلى جماعات وظيفية، أصبحوا «ماديين» يحبون المال حباً جماً. والباكستانيون مشهورون بكرمهم الزائد في بلدهم، بينما نجد أن البريطانيين (المعروفون بحرصهم البالغ) يتهمون الباكستانيين المقيمين في بلادهم بأنهم بخلاء.
تهويد المجتمع
Judaization of Society(3/10)
«تهويد المجتمع» عبارة استخدمها ماركس في كتابه المسألة اليهودية، وهي تفترض وجود جوهر يهودي ثابت، له ملامح معينة، يتم تعميمه على المجتمع، الأمر الذي يتناقض مع فكر ماركس، ولذا فالأمر يتطلب قدراً من التعمق. وقد يكون من المفيد ألا نبدأ بالجوهر اليهودي وإنما بالإنسان الوظيفي، عضو الجماعة الوظيفية، الذي يدخل في علاقة تعاقدية نفعية باردة مع مجتمع الأغلبية، ولا يكترث بقيم المجتمع ويعيش على هامشه أو في مسامه. هذا النمط الإنساني كان مُهمَّشاً، شأنه في هذا شأن الجماعة الوظيفية. ولكن مع تحوُّل المجتمعات الغربية (ثم بقية المجتمعات في العالم) من الزراعة إلى الصناعة تم إشاعة نموذج الإنسان الوظيفي. وقد وصف كارل ماركس هذه العملية بدقة بالغة في البيان الشيوعي في إطار حديثه عن دور البورجوازية الثوري في التاريخ، تلك البورجوازية التي سحقت تحت أقدامها جميع العلاقات الإقطاعية والبطريركية والعاطفية، ولم تُبق أية صلة بين الإنسان والإنسان إلا صلة المصلحة الجافة والدفع الجاف نقداً وعداً. وأغرقت الحمية الدينية وحماسة الفرسان ورقة البورجوازية الصغيرة في مياه الحساب الجليدية المشبعة بالأنانية، وجعلت الكرامة الشخصية مجرد قيمة تبادل لا أقل ولا أكثر، وقضت على الحريات الجمة، المُكتسَبة والممنوحة، وأحلَّت محلها حرية التجارة وحدها، هذه الحرية القاسية التي لا تُشفق ولا تعرف الشفقة أو الرحمة. فالمجتمع البورجوازي مجتمع تعاقدي تحل فيه قيمة التبادل محل القيم الإنسانية كافة، ويُعرِّف البشر في ضوء نفعهم وتسود فيه النظم المعرفية والاقتصادية والأنانية التعاقدية. وقد أشار ماركس إلى التجربة الرأسمالية (البروتستانتية) الكبرى في أمريكا الشمالية بقوله: "إن مامون (إله المال) هو الوثن الذي يعبدونه هناك بجميع قوى أجسادهم وأرواحهم. فالأرض في نظرهم ليست سوى بورصة وهم موقنون بأنهم لا مصير لهم في الحياة الدنيا سوى أن يصبحوا أغنى(3/11)
من جيرانهم. لقد استولت المتاجرة على جميع أفكارهم وليس لديهم تسلية أخرى سوى تبديل أمتعتهم"، وهم "لا يتحدثون إلا عن المنفعة والربح" و"النبوءة الدينية أصبحت سلعة تجارية".
ورغم أن اليهود لم يكونوا وحدهم الضالعين في هذه العملية (كما يعرف ماركس تماماً) إلا أنه وصفها بأنها عملية «تهويد» . وحتى نفهم هذا التعميم الماركسي الكاسح، يجب أن نشير إلى أن ماركس كان يرى أن روح الرأسمالية مُستمدة من اليهودية (لا البروتستانتية كما قال فيبر) . ولعله كان يعني أن النموذج المعرفي الذري المتفتت الأناني الذي يُشكِّل جوهر الرأسمالية - في نظره - يوجد في اليهودية بشكل أكثر تبلوراً منه في المسيحية ("جوهر اليهودية هو المتاجرة وأساسها المنفعة العملية والأنانية" - "تحتوي اليهودية على عنصر عام ومناهض للمجتمع") . وسيادة النمط المعرفي الكامن في اليهودية يعني في واقع الأمر الانتصار الكامل للرأسمالية. واليهودي، بالنسبة إلى ماركس، هو سيِّد السوق المالية، وبواسطته أصبح المال (إله إسرائيل الطماع) قوة عالمية، وأصبحت الروح العملية اليهودية هي الروح العملية للشعوب المسيحية.(3/12)
ويمكن القول بأن ماركس كان لا يفرِّق بين كلمة «يهودي» و «تاجر» ، ومن ثم نجده يقرن بشكل ضمني بين "اليهودي" من جهة و"التاجر" و"البروتستانتي" من جهة أخرى وبين "اليهودية" من جهة و"المتاجرة" و"المنفعة العملية" و"الأنانية" من جهة أخرى. فهو يقول: "التبادل التجاري هو الإله الحقيقي لليهود وأمامه لا ينبغي أن يعيش أي إله آخر" - "المال هو إله إسرائيل الطماع ولا إله سواه" - "لقد أصبح المسيحيون يهوداً" أي بورجوازيين. وتاريخ التحوُّل التدريجي للمجتمعات الغربية وهيمنة العلاقات البورجوازية التعاقدية هو في واقع الأمر تاريخ التهويد التدريجي لأوربا، وهو أيضاً تاريخ علمنة إله إسرائيل وتحويله إلى إله العالم، فالبنكنوت (الرب العملي لإسرائيل) أصبح رب العالم الغربي الرأسمالي. وهذا الترابط العضوي بين اليهودية والبورجوازية هو الذي أدَّى إلى ظهور قومية اليهود الوهمية وقومية التاجر وقومية رجل المال (وربما كانت هذه الملاحظات هي أساس مفهوم أبراهام ليون عن الطبقة/الأمة) . ومن ثم "لن يُحرِّر المجتمع نفسه إلا بتحرُّره من المتاجرة والمال، وبالتالي من اليهودية الواقعية"، وحين "ينجح المجتمع في إلغاء الجوهر العملي لليهودية، [أي] المتاجرة وشروطها، عندئذ يصبح وجود اليهودي مستحيلاً".(3/13)
لقد حوَّل ماركس الكينونة اليهودية إلى وظيفة، ومن ثم يمكننا الحديث عن "التاجر" و"اليهودي" باعتباره «الإنسان الوظيفي» . والسمات الأساسية لهذا التاجر/اليهودي/الوظيفي هي أنه إنسان مجرد، يوجد خارج إطار العلاقات الأولية المُتعيِّنة، ويدخل في علاقة تعاقدية محايدة وباردة مع أعضاء المجتمع، وتم تعريفه في إطار وظيفته أو دوره الوظيفي لا في إطار إنسانيته المُتعيِّنة، أي أنه إنسان ذو بُعد واحد، مُتشيِّئ، مُتسلِّع، لا قداسة له، يدور في إطار المرجعية النهائية المادية وفي إطار نموذج الطبيعة/المادة (وهذه هي السمات الأساسية لعضو الجماعة الوظيفية) . ومن ثم، فإن تهويد المجتمع يعني في واقع الأمر تحويل كل أعضاء المجتمع إلى مادة بشرية تُوظَّف وتحوسل، وتعني سيادة النظم المعرفية والاقتصادية البورجوازية إحلال المجتمع التعاقدي الذري المُفتَّت المبني على الأنانية (جيسيلشافت) محل المجتمع العضوي المترابط التقليدي (جماينشافت) .
وقد قام ماركس بعملية التعميم الكاسحة هذه وهو واع لها تمام الوعي، ولذا فهو كان يتحدث عن «تهويد المجتمع» باعتباره مجازاً كاشفاً، وليس باعتباره حقيقة إمبريقية. فماركس لم يكن يُفكر في اليهودي وإنما في الإنسان الوظيفي، أي الإنسان الذي يتوحَّد تماماً مع وظيفته ويفقد إنسانيته وينظر للآخرين باعتبارهم وظيفة (مصدر ربح - مصدر متعة) فيفقدهم إنسانيتهم المركبة.(3/14)
وماركس لا يختلف كثيراً عن كثير من المفكرين الاشتراكيين أو علماء الاجتماع الغربي. فألفونس توسينيل يُحذِّر قُراءه من أنه يستخدم كلمة «يهودي» لا بمعناها الشائع وإنما بمعنى «مصرفي» أو «مراب» أو «تاجر» . ومن قبله تحدَّث شكسبير عن تاجر البندقية وهو يعني في واقع الأمر "يهودي البندقية". ويتحدثون في أدبيات علم الاجتماع الغربي عن الصينيين باعتبارهم "يهود جنوب شرق آسيا" واللبنانيين باعتبارهم "يهود أفريقيا"، وهكذا. كما يشيرون إلى "المهن والحرف اليهودية"، أي المهن والحرف التي عادةً ما يقوم بها أعضاء الجماعات اليهودية. وكل هذه الاستخدامات تبيِّن أن المعنيَّ هو «الإنسان الوظيفي» وليس «اليهودي» ، ولكن يُطلَق عليه «اليهودي» من باب إطلاق الجزء على الكل.(3/15)
ولتوضيح وجهة نظرنا يمكن أن نضرب مثلاً عكسياً، أي حين يُطلَق على اليهودي اسماً غير اسمه، فيُلاحَظ أن كثيراً من المهاجرين العرب واليهود إلى أمريكا اللاتينية يضطلعون بدور الجماعة الوظيفية، ولكن بدلاً من أن يُطلَق على العربي عضو الجماعة الوظيفية كلمة «يهودي» يحدث العكس إذ يُطلَق على كل من اليهود والعرب - كجماعة وظيفية - لفظة «لوس توركوس los turquos» الإسبانية، أي «الأتراك» . ويُسمَّى تجار بعض دول شرق أوربا (بغض النظر عن انتمائهم الإثني الفعلي) «اليونانيون» أو «الأرمن» . ونحن هنا أمام أربعة دوال أو أسماء مختلفة (يهودي - تركي - يوناني - أرمني) تشير إلى مدلول أو مُسمَّى واحد وهو عضو الجماعة الوظيفية المالية أو «الإنسان الوظيفي» . ولذا، قد يكون من الواجب أن نضع في اعتبارنا أننا حينما نتحدث عن «الوظائف اليهودية» فإننا في واقع الأمر نتحدث عن وظيفة قد يقوم بها اليهودي في مكان وزمان ما، ولكن قد يقوم بها شخص آخر في مكان وزمان آخر. فالوظيفة (وسماتها) يجب أن تكون المقولة التحليلية لا الجوهر اليهودي أو الشخصية اليهودية. وفي هذه الحالة، فإننا سندرك الواقع بطريقة أكثر تركيبية وحركية، إذ أننا لن نبحث طوال الوقت عن اليهودي الجوهري أو اليهودي الخالص (ذي الأنف المعقوف والظهر المحدودب الذي يرتبط بوظائف طفيلية أو مشينة، حامل الأفكار العلمانية الشاملة الذي يفكك نسيج المجتمع لأنه لا ولاء له، يقضي سحابة ليله في قراءة البروتوكولات ويقضي نهاره في تنفيذ خططه الشيطانية التي تعلمها في الليل) فمن الأجدى لنا أن نبحث عن «اليهودي الوظيفي» أو بالأحرى «الإنسان الوظيفي» الذي يضطلع بالدور الوظيفي ويتسم بصفات عضو الجماعة الوظيفية فيدخل في علاقة تعاقدية باردة مع المجتمع ويُعرَّف في إطار دوره ووظيفته ويُعرِّف هو المجتمع في إطار المنفعة. وهذا الإنسان قد يكون يهودياً أو مسيحياً أو مسلماً أو بوذياً أو شخصاً لا ملة له ولا(3/16)
دين.
وفي تَصوُّرنا أن النظام العالمي الجديد سيقوم بتحويل قطاعات عديدة في المجتمعات الإنسانية (نخب ثقافية وسياسية محلية - قيادات ثورية سابقة - قطاعات اقتصادية) إلى جماعات وظيفية تعمل لصالحه، وذلك في محاولته تفكيك مجتمعاتنا بعد أن فشل في عملية المواجهة وبعد تزايد نفقات المواجهة العسكرية. وهذه النخب تقيم بيننا وتتحدث لغتنا وترتدي زينا وتقيم الصلاة معنا في مواقيتها، وبعضهم مستمر في استخدام الخطاب الثوري أو الخطاب الديني، حتى بعد أن تحولوا إلى جماعة وظيفية تعمل لصالح الاستعمار الغربي، أي حتى بعد أن تم تهويدهم (بالمعنى الماركسي) . ومما يَجدُر ذكره أن بعض هذه العناصر التي تمت حوسلتها لصالح الاستعمار الغربي ستضطلع بالدور الوظيفي (اليهودي) المُوكَل لها، أحياناً عن وعي وأحياناً أخرى بدون وعي. ولذا، فإن البحث عن اليهودي الجوهري هو بحث عنصري لا طائل من ورائه، ولا يؤدي إلا إلى عدم إدراك عملية التفكيك التي يضطلع بها اليهود الوظيفيون أو بالأحرى البشر الوظيفيون من أبناء العرب والإسلام. ولهذا، فإن الأجدى هو أن نبحث عن الإنسان الوظيفي.(3/17)
وقد ساهم وضع الجماعات اليهودية كجماعات وظيفية في المجتمعات الغربية في توليد الصور الإدراكية النمطية التي تُشكِّل أساس معاداة اليهود في الغرب. فعداء كثير من الناس لليهود واليهودية هو في جوهره عداء للعلمانية الشاملة (المادية - الطبيعية - العدمية) ولوظيفيتها التي تحوِّل العالم (الإنسان والطبيعة) إلى مادة استعمالية ولا تكترث بقيم أو مطلقات، ولا تعرف سوى قانون مادي واحد، يدور حول ثنائية بسيطة: العرض والطلب، والربح والخسارة، والقوة والضعف، والذكاء والغباء، والبقاء والهلاك. ولا تعرف غايات سوى مراكمة الثروة وتحقيق المتعة واللذة، دون تساؤل عن أي مضمون أخلاقي أو أي معنى كلي أو نهائي، أي أنه عداء للإنسان الوظيفي الذي يدخل في علاقة نفعية تعاقدية مع المجتمع ولا يعرف التراحم ولا يعرف سوى وظيفته ولا يحترم حرمات أو محرمات، والذي يؤدي وجوده في أي مجتمع إلى تفتُّت النسيج المجتمعي وتآكُل القيم.(3/18)
كان ماركس - كما أسلفنا - يُسمِّي الإنسان الوظيفي «اليهودي» ، ويُسمِّي عملية الانتقال من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي الرأسمالي عملية «تهويد» . ولكن ماركس كان يفعل ذلك مدركاً الطبيعة المجازية لاستخدامه، فهو كان يعرف الطبيعة الاجتماعية العامة لهذه العملية الانقلابية. ولكن الوجدان الشعبي غير قادر على إدراك ترابط الظواهر الاجتماعية، ولذا فهو يُركِّز على العناصر المباشرة الواضحة. وأكثر العناصر وظيفية ورواد الوظيفية هم أعضاء الجماعة اليهودية (فهو عنصر تعاقدي - نفعي - غريب معتزل.. إلخ) . ولذا فهم الجوهر الثابت والعنصر الواضح والسبب المباشر لعملية التحوُّل المؤلمة. وكان كثيراً من أعضاء الجماعات اليهودية يضطلعون بدور الجماعة الوظيفية، ولكن لم يكونوا هم وحدهم الذين يضطلعون بهذا الدور. ومع هذا ارتبط الإنسان اليهودي بالإنسان الوظيفي في الوجدان الشعبي الغربي، بل وتم التوحيد بينهما بحيث أصبح الإنسان اليهودي هو الإنسان الوظيفي بامتياز. ومن خلال عملية التعميم والاختزال، تم استبعاد كل أعضاء الجماعات الوظيفية غير اليهودية وتم إدراك كل اليهود باعتبارهم جماعة وظيفية بحيث أصبح كل يهودي إنساناً وظيفياً وأصبح كل إنسان وظيفي يهودي، إلى أن أصبح الإنسان اليهودي وحده، دون غيره من البشر، الإنسان الوظيفي.(3/19)
ولذا بدلاً من إدراك ظواهر مثل تآكُل القيم وتزايُد الاغتراب وسيادة العلاقات التعاقدية وانتشار الإباحية باعتبارها نتاج عملية اجتماعية انقلابية كبرى. وبدلاً من إدراك أن الإنسان الوظيفي هو ذاته الإنسان العلماني (الشامل) والإنسان الطبيعي/المادي الذي لا انتماء ديني أو إثني له وأن هذا الإنسان ليس ثمرة مؤامرة يهودية وإنما نتيجة عمليات اجتماعية لا يتحكم فيها اليهود، فهم جزء صغير من كل أكبر، بدلاً من كل هذا تم التركيز على اليهودي وحده دون بقية أعضاء المجتمع باعتباره مسئولاً عما يحدث من تفتُّت مجتمعي وإباحية وانتقال من التراحم إلى التعاقد. وأصبح اليهودي هو وحده المسئول عن كل الشرور من انحلال وتفسخ وتشيئ وتآكُل مؤسسات الأسرة وغيرها من المؤسسات الوسيطة التي تحمي الفرد، وزاد الحديث عن «الجوهر اليهودي» و «الخطر اليهودي» و «الثورة اليهودية» وغيرها.
والنموذج التفسيري المركب الذي نطرحه يدور حول ما نسميه «الإنسان الوظيفي» الذي يمكن أن يكون يهودياً أو مسيحياً أو مسلماً أو بوذياً، أو بدون ذمة ولا دين، مادام يدخل في علاقة تعاقدية نفعية باردة مع المجتمع ويُعرَّف في إطار دوره ووظيفته ويضطلع بالوظائف التي يُفترَض أن اليهودي يضطلع بها. ولذا قد يكون من الأدق والأشمل تحليلياً أن نتحدث عن وظيفة ما، قد يقوم بها اليهودي (في مكان ما) ، وقد يقوم بها شخص آخر (في مكان آخر) . فالوظيفة، لا الجوهر اليهودي، هي التي يجب أن تكون المقولة التحليلية.
وقد استخدمت سوزان هاندلمان تعبير «يهودي» بنفس طريقة ماركس ولكن في سياق جديد. فهي تذهب إلى أن المثقف اليهودي بسبب وضعه داخل الحضارة الغربية (طرد وتشتيت ونفي) أصبح عنصراً من عناصر الاستنارة المظلمة والتفكيك. فوجَّه كل طاقته، في بداية الأمر، نحو تفكيك وتقويض الشريعة اليهودية ثم توجَّه إلى ثوابت الحضارة الغربية نفسها يحاول تقويضها وتفكيكها.(3/20)
ولكن المثقف اليهودي الذي يقوم بالتفكيك يدَّعي أنه يقوم بالتفسير وحسب، ولكنه في واقع الأمر يقوم بما سمته سوزان هاندلمان «الهرمنيوطيقا المهرطقة» ، ذات الطابع التفكيكي العدمي.
وتضيف سوزان هاندلمان أن أي مثقف يقوم بعملية تفسير تهدف إلى تقويض وتفكيك كتب حضارته المقدَّسة، وفي نهاية الأمر كل مقدَّساتها وثوابتها، هو يهودي بالمعنى الوظيفي.
العرْق اليهودي
Jewish Race
«العرْق» هو جملة السمات البيولوجية (مثل حجم الجمجمة ولون الجلد أو العيون أو الشعر ... إلخ) التي يُفترَض وجودها في جماعة بشرية وتَميُّزها بشكل حتمي (بيولوجي) عن غيرها من الجماعات. وكلمة «عرْق» ترادف أحياناً كلمة «سلالة» أو «جنس» أو «دم» . وهناك تقسيمات عدّة للسلالات أو الأعراق أو الأجناس البشرية المختلفة أو الدماء التي تجري في عروقها.(3/21)
وهناك اتجاه صهيوني يؤمن بأن ثمة عرْقاً يهودياً مستقلاً، وأن أساس الهوية اليهودية والشخصية اليهودية هو الانتماء العرْقي. ولعل المفكر الصهيوني موسى هس (1812 ـ 1875) مؤسِّس الفكرة الصهيونية (في ديباجتها الاشتراكية) هو أول من طرح تعريفاً لليهود على أساس بيولوجي أو عنصري حين ذكر أن العرْق اليهودي من الأعراق الرئيسة في الجنس البشري، وأن هذا العرْق حافظ على وحدته رغم التأثيرات المناخية فيه، فحافظت اليهودية على نقاوتها عبر العصور. وقد تنبأ هذا المفكر الصهيوني بأن الصراع بين الأجناس سيكون أهم الصراعات، وأسهم في المحاولة الرامية إلى التمييز بين العنصرين الآري والسامي، وهو التمييز الذي قُدِّر له أن يكون بعد عدة سنوات أحد المفاهيم الأساسية التي تبناها مُنظِّرو الفكر العنصري الأوربي. وقد داعبت هرتزل فكرة الهوية العرْقية، فترة من الزمن على الأقل فاستخدم عبارات مثل «الجنس اليهودي» أو «النهوض بالجنس اليهودي» ، كما أنه كان يفكر في تمييز اليهود عن غيرهم على أساس بيولوجي. وعندما قام هرتزل بأول زيارة له إلى معبد يهودي في باريس، كان أكثر ما أثار دهشته التشابه العرْقي الذي تصوَّر وجوده بين يهود فيينا ويهود باريس: «الأنوف المعقوفة المُشوَّهة، والعيون الماكرة التي تسترق النظر» . كما يقول ماكس نوردو الذي يُعَدُّ واحداً من أهم مفكري العنصرية الغربية (حتى قبل تَحوُّله إلى الصهيونية) ، في لغة لا تقبل الشك وتخلو تماماً من الإبهام، «إن اليهودية ليست مسألة دين وإنما هي مسألة عرْق وحسب» .(3/22)
ولا يخرج مارتن بوبر في تعريفه لليهودي عن هذا الإطار، رغم استخدامه مصطلحه الحلولي الكموني العضوي لنقل فكرته، فقد تحدَّث عن: «أزلية الأجيال كجماعة يربطها الدم. فالدم قوة مُتجذِّرة في الفرد تغذيه، والدم هو الذي يحدد المستويات العميقة لوجودنا، ويصبغ صميم وجودنا وإرادتنا بلونه. والعالم من حوله إن هو إلا آثار وانطباعات، بينما الدم هو عالم الجوهر» . ونظراً لأن الدم الذي يجري في عروق اليهود يربطهم بالتربة، فقد كان بوبر يشير إلى اليهود باعتبارهم آسيويين «لأنهم إذا كانوا قد طُردوا من فلسطين، فإن فلسطين لم تُطْرَد منهم» .
ويبدو أن مسألة الدم هذه لم تكن شائعة في صفوف الفلاسفة والصهاينة المتأثرين بالتراث الألماني وحسب، بل كانت شائعة في صفوف الصهاينة الأنجلو ساكسون أيضاً. فقد ادَّعى الزعيم الصهيوني نورمان بنتويتش، في حديث أدلى به في عام 1909، أن اليهودي لا يمكن أن يكون مواطناً إنجليزياً كاملاً مثل هؤلاء الإنجليز الذين وُلدوا «لأبوين إنجليزيين وانحدروا من أسلاف خلطوا دماءهم بالإنجليز لأجيال كثيرة» . وعرَّف الأمريكي لويس برانديز اليهودية، في خطاب ألقاه في عام 1915، بأنها «مسألة تتعلق بالدم» . وذكر أن هذه الحقيقة لقيت قبولاً من جانب غير اليهود الذين يضطهدون اليهود، ومن جانب اليهود الذين يُحسِّون بالفخر «عندما يُبدي إخوانهم من ذوي الدم اليهودي تفوقاً أخلاقياً أو ثقافياً أو عبقرية أو موهبة خاصة، حتى إذا كان هؤلاء النابهون قد تخلوا عن الإيمان بالدين، مثل إسبينوزا أو ماركس أو دزرائيلي أو هايني» .(3/23)
ويبدو أن الصهاينة حاولوا، على طريقة المفكرين العنصريين في الغرب، أن يُثبتوا أنهم عرْق مستقل بطريقة «علمية» وليس فقط على طريقة بوبر الفلسفية. ولذا، فإننا نجد في صفوفهم كثيراً من «العلماء» المهتمين بهذه القضية. وقد أشار عالم الاجتماع الصهيوني آرثر روبين إلى "الكتابات المتعلقة بقضية الجنس اليهودي" وأورد في كتابه اليهود في الوقت الحاضر أسماء كثير من «المراجع القيمة» في ذلك الموضوع. ومن بين الأسماء التي يذكرها اسم عالم صيهوني هو إغناتز زولتشان (1877 ـ 1948) الذي وصف اليهود بأنهم «أمة من الدم الخالص لا تشوبها أمراض التطرف أو الانحلال الخلقي» . وقدَّم روبين نفسه تعريفاً عرْقياً لليهود بيَّن فيه أنهم «استوعبوا عناصر عرْقية أجنبية بدرجة محدودة، ولكنهم في أغلبيتهم يمثلون جنساً متميِّزاً، على عكس ما هو سائد في دول وسط أوربا» .
وكان اللورد بلفور، الصهيوني غير اليهودي، يفكر في اليهود على أساس عرْقي، وربما كان من المهم هنا أن نتذكر أن إحدى المسودات الأولى لوعد بلفور كانت تدعو إلى إقامة «وطن قومي للجنس اليهودي» ، وهي جملة تحمل في طياتها تعريفاً بيولوجياً واضحاً للهوية اليهودية.(3/24)
ثمة، إذن، إجماع صهيوني على التعريف العرْقي لليهودي. وهو أمر متوقع ومفهوم، فقد كانت الصهيونية تبحث عن الشرعية من أوربا لا من اليهودية، ولذا كان علىها أن تصبح عرْقاً مستقلاً لأن العرْق المستقل وحده هو الذي من حقه أن تكون له دولة مستقلة (حسب الإطار المعرفي السائد في أوربا العلمانية) . ولكن من الواضح أن تعريف اليهودي كعضو في عرْق مستقل أمر مغرق في الخيال والوهم، إذ يدحض واقع الأقليات اليهودية بسهولة مثل هذه الأساطير. وكان على الصهاينة بالذات أن يتعاملوا لسوء حظهم مع يهود بيض ويهود سود وبضعة يهود صفر إلى جانب الكثير من الظلال اللونية. وكما أشرنا من قبل، فقد كان هرتزل معجباً بالنظرية العرْقية، ولكنه كان صديقاً لإسرائيل زانجويل (1864 ـ 1926) الروائي الإنجليزي والزعيم الصهيوني اليهودي ذي الأنف الطويل والشبيه بأنوف الزنوج والشعر الكث الحالك السواد، وكانت نظرة واحدة إلىه تكفي، على حدّ قول هرتزل نفسه، لدحض أي تصور عرْقي لليهود.
وثمة سبب آخر لاختفاء التعريف العرْقي لليهود يرتبط بالمجال الدلالي لكلمة «عرْق» ، إذ أنه بحلول الثلاثينيات كانت الحياة في الغرب قد تحولت عن العنصرية التي فقدت إلى حدٍّ كبير ما كانت تحظى به من قبول وتأييد في الأوساط العلمية. وكما يقول الزعيم الصهيوني ناحوم سوكولوف: بعد أن عشنا عصراً أصبحت فيه كلمة «عنصر» أو «عرْق» معادلة للقسوة والبربرية، فإن معظم الناس ينفرون من استخدام هذا المصطلح. ويُضاف إلى هذا أن علم الأجناس قد أظهر أن هذا المصطلح لا يمكن أن يُطبَّق حقاً على اليهود، وذلك رغم أنه كان من المعتاد تماماً الإشارة إلى اليهود في عصر ما قبل هتلر على أنهم «جنس» ، وكان الكثيرون يعتقدون أن يهودية المرء مسألة تتعلق بمولده وسماته.(3/25)
ولذا، كان لابد من العدول عن استخدام كلمة «عرْق» . وبدلاً من ذلك، بدأ تعريف اليهودي على أساس إثني، أي على أساس التراث والثقافة المشتركة، ومن ثم حلت الإثنية محل العرْقية كنقطة مرجعية وكأساس للهوية. لكن التعريف الإثني لا يختلف في جوهره عن التعريف العرْقي، فكلاهما يفرز نظرية في الحقوق (العرْقية أو الإثنية) تعطي صاحب الهوية العرْقية أو الإثنية مزايا معينة وقوة مطلقة تنكرها على غيره من البشر. (انظر الباب المعنون «ثقافات أعضاء الجماعات اليهودية [تعريف وإشكالية] » ) .
الباب الثانى: إشكالية الوحدة اليهودية والنفوذ اليهودي
الوحدة اليهودية
Jewish Unity
«الوحدة اليهودية» عبارة تفترض أن ثمة وحدة تربط بين أعضاء الجماعات اليهودية كافة في كل زمان ومكان، وأن هذه الوحدة تتمثل في وحدة الهوية والشخصية والسلوك، وفي أشكال مختلفة من التضامن، وفي نهاية الأمر في القومية اليهودية وفي الشعب اليهودي الواحد ذي الهوية الواحدة المستمرة وكذلك في التاريخ اليهودي الواحد. ويذهب البعض إلى القول بوجود عرْق يهودي واحد. وينتهي هذا الافتراض إلى أن اليهود حافظوا على هذه الوحدة منذ خروجهم من مصر الفرعونية حتى يومنا هذا. وقد فُسِّر مصدر هذه الوحدة تفسيرات عدة، فالصهاينة الدينيون يرون أن مصدر الوحدة هو حلول الروح الإلهية أو الشخيناه وكمونها في الشعب اليهودي، فهي تَقطُن وسطهم، وهي التي تُحوِّلهم إلى شعب من الكهنة والقديسين، بينما يرى الصهاينة اللادينيون أن مصدر وحدة اليهود هو الجوهر اليهودي الكامن في كل اليهود، أو هو نزعة معاداة اليهود في مجتمعات الأغيار، أو تَميُّز اليهود وظيفياً واضطرارهم إلى الاضطلاع بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة وبالأعمال التجارية والربوية. ويميل الخطاب الصهيوني في الوقت الحاضر إلى تأكيد أن هذه الوحدة هي تعبير عن تَطلُّع قومي في حالة اللادينيين، وعن تَطلُّع قومي ديني في حالة الدينيين.(3/26)
ولكن النموذج الصهيوني الاختزالي يختلف عن بنية الواقع التاريخي المُركَّب المتعيِّن لأعضاء الجماعات اليهودية، وهو واقع لا يتسم بالوحدة. فمن الناحية الدينية، تأخذ اليهودية شكل تكوين جيولوجي تراكمي غير متجانس تتعايش فيه العناصر المختلفة جنباً إلى جنب أحياناًً وتتفجر أحياناًً أخرى. وقد حدثت تَفجُّرات وانقسامات كثيرة من البداية، من أهمها ما كان يحدث داخل المملكتين العبرانيتين (المملكة الشمالية والمملكة الجنوبية) من صراع بين عبادة يهوه وعبادة بعل، وصراع بين عبادة مملكة الشمال وعبادة مملكة الجنوب. وعند عودة بعض اليهود من بابل إلى فلسطين، حدث انقسام حاد بينهم وبين اليهود المقيمين الذين جاء منهم فريق السامريين. وقد انقسم اليهود دينياً بعد ذلك إلى صدوقيين وفريسيين وأسينيين، ثم ظهر الاحتجاج القرّائي على اليهودية الحاخامية، كما ظهرت الحركات المشيحانية المختلفة (وآخرها الحركة الحسيدية) ، وهي حركات احتجاج ضد المؤسسة الحاخامية تنفي مفهوم الوحدة تماماًً. كما انفصلت بعض الجماعات اليهودية مثل الفلاشاه ويهود الهند عن اليهودية الحاخامية، وأصبح لها صيغ يهودية مختلفة جوهرياً عن الصيغة الحاخامية. وفي العصر الحديث، انقسمت اليهودية إلى فرق: اليهودية الإصلاحية، واليهودية المحافظة، واليهودية التجديدية، واليهودية الأرثوذكسية، واليهودية الأرثوذكسية الجديدة. وهناك، بطبيعة الحال، الانقسام بين الإشكناز والسفارد على المستوى الديني. وكثير من هذه الفرق قد تُكفِّر بعضها البعض وقد تجد أن الانقسام من الحدة بحيث تُقاطع الواحدة منها الأخرى، وهو ما يجعل الحديث عن الوحدة اليهودية أمراً صعباً. ومما زاد من تعميق هذا التفتت، غياب سلطة مركزية يهودية جماعية، دينية أو دنيوية، تُحدِّد المعايير لأعضاء الجماعات اليهودية.(3/27)
والخاصية الجيولوجية التراكمية نفسها تسم أعضاء الجماعات اليهودية وهوياتهم المختلفة. فحتى قبل دخول العبرانيين إلى مصر، يُحدِّثنا العهد القديم عن الخلاف بين يوسف وأعضاء أسرته. كما أن القبائل العبرانية تشترك جميعها في الثورة ضد الفلستيين وأعداء العبرانيين الآخرين إبَّان حكم القضاة. وقد اندلعت الثورات الأهلية داخل مملكة داود وسليمان، ووصل التوتر إلى درجة عالية داخل المملكة المتحدة، فانحلت بعد موت سليمان وانقسمت إلى مملكتين تتصارعان معاً. واستعانت المملكة الجنوبية بآشور ضد المملكة الشمالية، الأمر الذي أدَّى إلى تَدخُّل هذه القوة العظمى، فقامت بتدمير المملكة الشمالية تماماًً وتهجير نخبتها الحاكمة.(3/28)
وقد حقق اليهود قدراً من الوحدة والاستقرار حينما سيطرت الدولة الفارسية على الشرق الأدنى القديم، حيث كانت كل التجمعات اليهودية تحت هيمنتها. وقد انتهت هذه الوحدة المؤقتة بانحسار نفوذ هذه الإمبراطورية بعد غزو الإسكندر لكلٍّ من مصر وسوريا وفلسطين وغيرها من المناطق. وقد كانت الخصومات بين بعض قطاعات اليهود تتطور إلى حروب أهلية طاحنة يقتتل فيها اليهود ويتعرضون للإبادة الجسدية على أيدي بعضهم البعض كما حدث في العام الرابع الميلادي في عهد أرخيلاوس ابن هيرود الذي أباد ثلاثة آلاف يهودي، أو كما حدث في تَمرُّد عام 70م حين قتل المتطرفون من اليهود اثنى عشر ألف يهودي من الأثرياء. وقد كان هناك، إلى جانب تيتوس، جيش يهودي تحت قيادة أجريبا الثاني يحارب ضد المتمردين اليهود. وفي العصور الوسطى، كان لسكان أي جيتو في أوربا حق تحريم استيطان اليهود الآخرين فيه (حيرىم هايشوف) ، وهو حق كانت تمارسه كل الجيتوات. وكان الصراع بين أعضاء الجماعات اليهودية واضحاً في أوربا في القرن السابع عشر. أما في الدولة العثمانية، فكان لكل مجموعة يهودية معبدها اليهودي وحاخامها الخاص، وكانت كل مجموعة يهودية تستعدي السلطة على المجموعة الأخرى. وعندما هاجر يهود اليديشية إلى الولايات المتحدة، ناصبهم اليهود ذوو الأصل الألماني العداء. وكان هؤلاء قد لاقوا رفضاً من جانب اليهود السفارد الذين سبقوهم. غير أن الولايات المتحدة قامت بصهرهم ضمن من صهرتهم من مهاجرين، فحققوا شيئاً من الوحدة والتماسك لا بوصفهم يهوداً بشكل عام وإنما بوصفهم يهوداً أمريكيين تحولوا بالتدريج إلى أمريكيين يهود.(3/29)
وقد تكررت الظاهرة في أمريكا اللاتينية. ولكن نظراً لأن الحضارة الكاثوليكية هناك لم تقم بصهر أعضاء الجماعات اليهودية الذين هاجروا إلىها، فقد احتفظوا بخاصية عدم التجانس، وقامت كل جماعة يهودية تنتمي إلى هذا البلد أو ذاك بتنظيم نفسها بشكل مستقل. فنجد أن المكسيك تضم عشرات التنظيمات اليهودية، من بينها تنظيمان ليهود سوريا: واحد للدمشقيين والآخر للحلبيين. والمعركة الدائرة بين اليهود الأرثوذكس واليهود غير الأرثوذكس حول تعريف اليهودي، داخل وخارج إسرائيل، أصبحت معركة أساسية تفوق في أهميتها الصراع بين الإشكناز والسفارد.
ويمكننا أن نقول إن أعضاء الجماعات اليهودية لم يحققوا وحدة عامة شاملة إلا حينما كانوا جماعة عرْقية أو إثنية دينية متماسكة (عبرانيين) . ولكنهم، حتى في تلك الآونة، كانت تُمزِّقهم الخلافات السياسية، وأحياناًً الثقافية والدينية. ومع انتشار الجماعات اليهودية، لم تَعُد الخلافات مجرد خلافات سياسية، وإنما أصبحت خلافات حضارية قومية عميقة. وقد حققت بعض الجماعات اليهودية وحدة «قومية» داخل التشكيلات الحضارية المختلفة، كما حدث ليهود شرق أوربا من يهود اليديشية، ويهود الولايات المتحدة. ولكن أية وحدة بين هؤلاء هي وحدة يتمتعون بها داخل التشكيل القومي الذي ينتمون إلىه، ومن خلاله وبسببه، لا من خارجه ورغماً عنه. كما أنها، من ناحية أخرى، لا ترقى ألبتة إلى مستوى الوحدة اليهودية العالمية الشاملة.(3/30)
وقد تمتع أعضاء الجماعات اليهودية في الحضارة الغربية، منذ العصور الوسطى، بشكل من أشكال الوحدة، وذلك من خلال علاقاتهم كجماعات وظيفية وسيطة تشكل ما يشبه النظام الائتماني العالمي ومن مصلحتهم الحفاظ على هذه العلاقات. ورغم أنها بدت كما لو كانت وحدة قومية، فقد كانت علاقات مالية فحسب، إذ أن كل جماعة وظيفية يهودية كانت مرتبطة، في نهاية الأمر، بالمجتمع الذي تنتمي إلىه وتتفاعل معه وتستمد هويتها منه. ولكن الصهاينة يؤكدون، مع هذا، أن هناك وحدة أزلية لليهود، ويَخلُصون من هذا إلى أن الدولة الصهيونية في فلسطين أمر منطقي بل وحتمي.
الاستقلال اليهودي
Jewish Independence
«الاستقلال اليهودي» عبارة تفترض أن لليهود شخصيتهم اليهودية المستقلة وتاريخهم اليهودي المستقل عن تواريخ الأغيار. وتشير الأدبيات الصهيونية إلى مؤسسات الإدارة الذاتية، مثل القهال ومجلس البلاد الأربعة، باعتبارها مؤسسات الحكم الذاتي، كما تشير إلى اللهجات التي يتحدث بها أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارها لغات اليهود. وتستند كل من العقيدة الصهيونية ونزعة معاداة اليهود إلى المفهوم الواحد نفسه، فيتحدث أعداء اليهود عن حب اليهود للعزلة ورفضهم الاندماج وتفضيلهم الجيتو على الحياة مع الأغيار، بل ويتحدثون عن سمات جوهرية داخل الطبيعة البشرية اليهودية تجعلهم مستقلين عن باقي البشر ومختلفين عنهم. ومن المفارقات أن القبَّالاه اللوريانية تذهب إلى درجة من التطرف حيث تطرح تصوراً لليهود باعتبارهم قد خُلقوا من عجينة مغايرة لتلك التي خُلق منها الأغيار، وهذا يتناقض مع قصة الخلق في العهد القديم.(3/31)
وغني عن القول أنه لا يوجد استقلال يهودي، إذ تدل القرائن التاريخية على أن أعضاء الجماعات اليهودية اندمجوا وانصهروا في مجتمعاتهم، وأن ما يتمتع به أعضاء الجماعات اليهودية من استقلال أو انفصال نسبي عن مجتمع الأغلبية لا يختلف بأية حال عما يتمتع به أعضاء أية أقلية دينية أو إثنية في أي مجتمع، وخصوصاً في المجتمعات التقليدية. ويعود شيوع مفهوم مثل مفهوم استقلال اليهود إلى اضطلاع أعضاء الجماعات اليهودية في كثير من المجتمعات، خصوصاً في العالم الغربي، بوظيفة الجماعة الوظيفية التي يعيش أعضاؤها في عزلة عن بقية أعضاء المجتمع.
ونحن نرى أن استخدام مصطلح كمصطلح «اليهود» يؤكد مثل هذا الاستقلال، وقد يشي بدرجة من الوحدة والتجانس لم يتمتع بهما اليهود قط. ولذا، فإننا نؤثر استخدام مصطلح مثل «الجماعات اليهودية» لأنه يؤكد التنوع وعدم التجانس والانفصال ولا ينفي في الوقت نفسه ذلك القدر من الوحدة والتجانس.
الوعي اليهودي
Jewish Consciousness(3/32)
«الوعي اليهودي» عبارة تفترض أن ثمة هوية يهودية محدَّدة وشخصية يهودية لها خصوصية يهودية وتاريخاً وتراثاً مستقلين عن تاريخ وتراث الشعوب، بل وتفترض أن ثمة جوهراً يهودياً وطبيعة يهودية. ويرى المعادون لأعضاء الجماعات اليهودية أن اليهود يتمتعون بوعي عميق لخصائصهم اليهودية هذه، وأن هذا الوعي يتبدى في دفاعهم عن مصالحهم اليهودية، وفي انعزالهم داخل الجيتو، وفي نهاية الأمر في المؤامرة اليهودية الكبرى (وهي المؤامرة التي يقول البعض إن اليهود يحيكونها ضد الأغيار في كل زمان ومكان) . ومثل هذه النظرة تتجاهل عدم تجانس الجماعات اليهودية، وخاصيتها الأساسية كتركيبة جيولوجية، وانفصالها الواحدة عن الأخرى عبر التاريخ. كما تتجاهل الصراعات الحادة التي نشبت بين هذه الجماعات، لا بسبب اختلاف المصالح وحسب وإنما بسبب اختلاف الهوية والرؤية. وفي الحقيقة، فإن الصراع بين السفارد والإشكناز، ذلك الصراع الممتد منذ القرن السابع عشر حتى الوقت الحاضر، هو تعبير عن هذا الاختلاف الذي يجعل من مقولة الوعي اليهودي الواحد أمراً محالاً.
لكن الصهيونية تؤمن بأن اليهود شعب واحد، ومن ثم فلابد أن يُقوَّى الوعي اليهودي للمحافظة على وحدة هذا الشعب وعلى هويته. ومن المفارقات أنه، بعد إنشاء الدولة الصهيونية، اتضح تهافت ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» وانقسامها إلى عشرات الهويات، كما اتضح أن أبناء المستوطنين الصهاينة من جيل الصابرا لهم هوية جديدة مختلفة عن هوية أعضاء الجماعات الموجودين في العالم، بل ويُكِّن الكثير منهم الاحتقار ليهود المنفى، أي معظم يهود العالم. ومن ثم، فقد أُدخلت مادة الوعي اليهودي في مقررات الدراسة في المدارس الإسرائيلية.(3/33)
ويؤكد المقرر الجوانب الإيجابية لوجود اليهود على هيئة جماعات منتشرة في العالم، ويمجِّد إنجازاتهم الحضارية، وهو ما يعطي صورة إيجابية لحياتهم في المنفى، أي في أنحاء العالم خارج فلسطين. ولكن هذا التمجيد يتنافى مع العقيدة الصهيونية التي تصدر عن الإيمان بأن حياة اليهود خارج فلسطين إن هي إلا انحراف عما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» . ومن ثم، فإن مثل هذه الرؤية لا تزيد ألبتة من الوعي اليهودي الأحادي. ولكن، إن تم التركيز على الجوانب السلبية وحدها، وُصوِّر تاريخ الجماعات على أنه تاريخ هجمات ومذابح، كما تفعل بعض كتب التاريخ الصهيونية (وهو ما سميناه «التأريخ من خلال الكوارث» ) ، فإن هذا سيقلل من احترام الأجيال الصاعدة ليهود العالم، وبالتالي سيقوض دعائم الوعي اليهودي. ولذا، فإن هناك اتجاهاً الآن للتأكيد على عنصر المقاومة بين يهود المنفى. واليهود، حسب هذه الرؤية، كانوا دائماً معرضين للاندماج، ولكنهم تصدوا له فأبدعوا وأبقوا على جوهرهم اليهودي. وعندما تعرضوا للمذابح، ثاروا ضد من قاموا بذبحهم، ومن هنا التأكيد على أهمية التمرد الحشموني والأحداث المماثلة في التاريخ اليهودي مثل: التمرد اليهودي الأول، والتمرد اليهودي الثاني ضد الرومان، وتمرد جيتو وارسو. بل ويصبح تاريخ الصهيونية هو تاريخ هذا الوعي اليهودي وتاريخ تلك المقاومة المستمرة. ويشكو اليهود السفارد والشرقيون من أن مادة الوعي اليهودي تركز على إسهامات اليهود الإشكناز وحدهم ولا تؤكد على إسهاماتهم الحضارية.
عدم الانتماء اليهودي
Jewish Rootlessness(3/34)
«عدم الانتماء اليهودي» عبارة تفترض وجود انتماء يهودي مستقل للجماعة اليهودية يتبدَّى في شكل ولاء كامل للشعب اليهودي وعدم انتماء للشعوب أو الأوطان الأخرى. ونحن نرى أنه إن كان ثمة انتماء يهودي فهو انتماء إلى العقيدة أو العقائد اليهودية، إذ لا يوجد تراث أو ماضٍ يهودي مشترك، فماضي أو تاريخ كل جماعة يهودية هو ماض أو تاريخ المجتمع الذي توجد فيه.
ومن الإشكاليات الأساسية التي تُثار في الأدبيات الغربية (اليهودية وغير اليهودية) إشكالية الانتماء اليهودي. وقد طُرح السؤال منذ البداية كما يلي: هل ينتمي اليهودي إلى الجنس البشري ككل أم إلى الشعب اليهودي المختار أو (المقدَّس) ؟ وهل الخالق هو إله اليهود وحدهم (كما يتصور بعض اليهود) أم إله العالمين؟ والإجابة القاطعة عن هذا السؤال داخل النسق الديني اليهودي غير ممكنة؛ فهناك من القرائن ما يؤيد النزعة العالمية والانتماء إلى الجنس البشري، وهناك من القرائن ما يساند الرأي المناقض. ففي تراث القبَّالاه، أصبح التمييز بين الشعب اليهودي والأغيار حاداً إلى أقصى درجة، حتى أن القبَّاليين ذهبوا إلى أن اليهود قد خُلقوا من طينة مختلفة عن تلك التي خُلق منها بقية البشر وإلى أن الأغيار خُلقوا على شكل الإنسان حتى يمكنهم القيام بخدمة اليهود. وفي فكر الاستنارة، وفي اليهودية الإصلاحية، بل وفي التلمود ذاته، ما يناقض هذا الموقف، وذلك بالتأكيد على الانتماء الإنساني العالمي لليهود.(3/35)
ولكن الانتماء اليهودي قضية ترتبط بالدور الذي لعبته الجماعات اليهودية في كثير من المجتمعات، خصوصاً المجتمعات الغربية، كجماعة وظيفية وسيطة. بيد أن أية جماعة وظيفية وسيطة داخل أي مجتمع لا تنتمي إليه، وإنما تنتمي عاطفياً إلى الوطن الأصلي (الوهمي أو الفعلي) ، كما تنتمي فعلياً إلى الطبقة الحاكمة فهي أداتها وسوط العذاب في يدها. وقد نَجَم عن ذلك الوضع ابتعاد الجماعة اليهودية عن الجماهير الشعبية وهامشيتها بالنسبة إلى الحركات الجماهيرية الكبرى. ويرى ماكس فيبر، على سبيل المثال، أن الرأسمالية اليهودية رأسمالية منبوذة لم تساهم في نمو الرأسمالية الرشيدة، كما أن الفكر الاشتراكي الغربي كان يرى أن انتماء اليهودي هو انتماء إلى رأسماله وحسب. وقد عبَّرنا عن هذه الإشكالية بمصطلح «الشعب العضوي المنبوذ» .
والواقع أن قضية الانتماء طُرحت بحدة مع ظهور الدولة القومية المركزية التي حاولت توحيد السوق وتوحيد الأمة حسب نموذج ثقافي أحادي موحَّد يستبعد الجيوب القومية الإثنية الأخرى، ويتطلب انتماءً كاملاً من المواطن. وقد نجح كثير من أعضاء الجماعات اليهودية في تحديد انتمائهم القومي بالاندماج في محيطهم الثقافي. ويرى الدارسون أن تَصاعُد معدلات العلمنة في العالم الغربي سيؤدي إلى ضعف الانتماء الديني للجماعات اليهودية، وهو أمر تساهم الصهيونية في خلقه طارحةً نفسها كعقيدة علمانية تحل محل العقيدة الدينية.(3/36)
وقد أكد الصهاينة والنازيون عدم انتماء أعضاء الجماعات اليهودية إلى التشكيلات الحضارية أو القومية التي يتواجدون فيها مفترضين أن ثمة انتماءً يهودياً خالصاً. وأكد البرنامج السياسي الصهيوني وجود مثل هذا الانتماء. ولكن السلوك الفعلي ليهود أمريكا، على سبيل المثال، يبين أنهم ينتمون إلى وطنهم الأمريكي، ومن ثم لا يهاجر منهم إلى إسرائيل إلا نسبة ضئيلة جداً. وكذلك، فإن انتماء يهود الاتحاد السوفيتي (سابقاً) كان انتماءً إلى مصالحهم الاقتصادية أو السياسية. ولذلك، فإنهم يحاولون الهجرة إلى الولايات المتحدة ولا يتوجهون إلى إسرائيل إلا عند الاضطرار. كما أن تَفجُّر قضية الهوية داخل إسرائيل يبين أن لليهود انتماءات مختلفة وليس انتماءً يهودياً واحداً. وترتبط قضية ازدواج الولاء بقضية الانتماء اليهودي، إذ أن من يؤمن بأن اليهود لا انتماء لهم لابد أن ينظر إلى اليهود بعين الشك ويرى أن ولاءهم لأوطانهم أمر مستحيل، أو يرى على الأقل حتمية ازدواج هذا الولاء، باعتبار أن ولاءهم اليهودي شيء راسخ متأصل.
ويحاول الصهاينة في الوقت الحاضر أن يُعرِّفوا انتماء اليهود تعريفاً جديداً يتفق مع واقعهم كجماعات تعيش خارج فلسطين وترفض الهجرة. ومن ثم، أصبح الانتماء السياسي والاقتصادي لليهودي إلى وطنه الفعلي، أما انتماؤه الديني والثقافي فلوطنه المثالي أو الوهمي، أي الدولة الصهيونية. وبهذا، لا تصبح الترجمة العملية للبرنامج الصهيوني الهجرة إلى فلسطين المحتلة وإنما تعميق الأبعاد اليهودية الإثنية للهوية، وهو ما يُسمَّى «صهيونية الدياسبورا» أو «الصهيونية الإثنية» .
الولاء اليهودي المزدوج
Jewish Double Loyality(3/37)
«الولاء اليهودي المزدوج» مصطلح يستخدمه المعادون لليهود والصهاينة الذين ينطلقون من الإيمان بأن اليهود لا يدينون بالولاء إلا لوطنهم القومي ومصالحهم اليهودية، لأنهم لا جذور لهم في مجتمعاتهم ولا ينتمون إليها انتماءً حقيقياً، فاليهود شعب عضوي مرتبط بأرضه. لذلك فهم دائماً موزعو الولاء، يمارسون إحساساً عميقاً بازدواج الولاء.
وقد أكد الزعماء والمفكرون النازيون أثناء محاكمات نورمبرج، الواحد تلو الآخر، أنهم تَعرَّفوا إلى اليهود واليهودية والمسألة اليهودية من خلال الكتابات الصهيونية التي تتحدث عن عدم انتماء اليهود إلى أوطانهم الواقعية وعدم ولائهم لها. وتنطلق التشريعات النازية من هذا الفهم، ومن تَصوُّر أن اليهود لا ينتمون إلى الوطن القومي الألماني، إذ أن لكل شعب عضوي وطنه! وفي الوقت الحاضر، يشير أعداء اليهود إلى قرائن عدة تدل على عدم انتماء اليهود مثل كمية الأموال التي تُرسل إلى إسرائيل من أعضاء الجماعات اليهودية في العالم وتحديد هذه الجماعات اليهودية لمواقفها السياسية بطريقة تتفق ومصالح إسرائيل، ووقوف كثير من المفكرين اليهود الليبراليين والثوريين ضد حرب فرنسا في الجزائر وحرب الولايات المتحدة في فيتنام في الوقت الذي يؤيدون فيه إسرائيل في حروبها العدوانية ضد العرب.(3/38)
ولا يمكن الحديث عن ولاء يهودي محدد ومطلق، فولاء أعضاء الجماعات اليهودية يتحدد بحسب مركب تاريخي طبقي إنساني أخلاقي، كما لا يمكن تحديد كيفية تصرف أعضاء الجماعات اليهودية مسبقاً، وكأنهم كائنات بسيطة تعيش بمعزل عن التاريخ الإنساني. وتدل تواريخ أعضاء الجماعات اليهودية على أن ازدواج الولاء ليس سمة أساسية أو لصيقة بهم، وعلى أنهم في كثير من الأحيان أخلصوا لأوطانهم (التي يعيشون في كنفها) وانتموا إليها انتماءً كاملاً واندمجوا فيها، وتمثلوا قيمها واستبطنوها تماماً. ومنذ أيام التهجير البابلي، حيث ظهرت أول جماعة يهودية خارج فلسطين، طوَّرت الشريعة اليهودية مفهوم «شريعة الدولة هي الشريعة» ، الأمر الذي يحدد ولاء أعضاء الجماعة بشكل صارم باعتبارهم جماعة بشرية لا تدين بالولاء إلا لقوانين الدولة التي يعيشون في كنفها. وقد التزم معظم أعضاء الجماعات اليهودية بهذا المفهوم عبر التاريخ الإنساني، شأنهم في هذا شأن كثير من البشر من أعضاء الأقليات والأغلبية. وعلى كل حال، لم يكن هناك احتمال لازدواج الولاء لعدم وجود حكومة أو دولة يهودية يدين لها اليهودي بالولاء. وبتحول أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعة وظيفية وسيطة داخل التشكيل الحضاري الغربي، منذ العصور الوسطى وحتى الثورة الفرنسية، توجه ولاء اليهودي إلى جماعته أساساً، ثم إلى الطبقة الحاكمة التي تحمي هذه الجماعة وتضمن بقاءها. وهذه سمة أساسية تسم مثل هذه الجماعات وليست مقصورة على الجماعات الوظيفية اليهودية، فنجد أن الصينيين في الفلبين، والعرب في بعض البلاد الأفريقية وإندونيسيا، يندرجون تحت هذا النمط. وعلى كلٍّ، لم تكن مفاهيم الوطن (والولاء القومي له) واضحة أو متبلورة حتى نهايات القرن الثامن عشر وظهور الفكر القومي.(3/39)
وقد طُرحت قضية الولاء في عصر التنوير في أوربا، حينما وُصف اليهود بأنهم «دولة داخل دولة» بسبب خصوصيتهم وانعزاليتهم الحقيقية أو الوهمية، وقد طُلب إلى أعضاء الجماعات اليهودية، وكذلك إلى الأقليات الإثنية والدينية كافة، أن يدينوا بالولاء للدولة القومية وحدها وأن يرفضوا أية ولاءات أخرى. وبالفعل، كان اليهود من أكثر العناصر ترحيباً بهذه الدعوة، فاندمجوا في مجتمعاتهم بنسبة عالية كلما سنحت لهم الفرصة. ولم يُعرْقل هذه العملية سوى تَعثُّر التحديث سواء في روسيا أو في ألمانيا، وهي المجتمعات التي طرحت تصوراً عضوياً لفكرة الولاء.(3/40)
وفي العصر الحديث، يشعر يهود الولايات المتحدة بالولاء العميق لبلدهم أمريكا، فهم ينتمون إليه انتماءً كاملاً ويحاربون ويموتون دفاعاً عنه، ومصيرهم مرتبط بمصيره. وحينما يشكك الدعاة الصهاينة في هذا الولاء، فإن أعضاء الجماعات اليهودية يثورون. ويتضح ولاؤهم أيضاً في رفضهم الهجرة إلى إسرائيل وفي اندماجهم في مجتمعاتهم. أما يهود جنوب أفريقيا، فهم لا يشعرون بالولاء تجاه وطنهم لأن وضعهم في بلادهم مقلقل، وبالتالي فقد يكون ولاؤهم غير راسخ، ولذا فهم يفكرون في الهجرة منها. ولكن عدم ولائهم لا ينبع من مصالحهم اليهودية أو من جوهرهم أو طبيعتهم أو شخصيتهم، وإنما ينبع من أن المستوطن الأبيض في جنوب أفريقيا قد بدأ يتعرض لضغوط حقيقية من السكان الأصليين تهدد وجوده. وحينما يهاجر اليهود الروس من روسيا، فهم لا يفعلون ذلك من باب الولاء اليهودي، وإنما من باب الولاء الدنيوي للمستوى المعيشي المرتفع، ومن ثم يتجهون إلى الولايات المتحدة بدلاً من إسرائيل. وقد اتخذت الولايات المتحدة من التشريعات ما يكفل إغلاق باب الهجرة لتحويلهم عنوة إلى الدولة الصهيونية. وفي هذا، لا يختلف المهاجرون اليهود المرتزقة من روسيا أو أوكرانيا كثيراً عن معظم أعضاء المجتمعات العلمانية في الغرب. فماركس يتحدث عن ولاء الرأسمالي، وهو ولاء يتجاوز الولاء القومي، كما يتحدث بنتام (فيلسوف النفعية) عن المنفعة الشخصية، وهي منفعة تتجاوز الصالح القومي.(3/41)
ويَصدُر الصهاينة عن فكرة ازدواج الولاء، شأنهم في هذا شأن النازيين والمعادين لليهود، وينطلق برنامجهم السياسي منها. فيتحدث المفكرون الصهاينة، كلاتزكين وجولدمان وبن جوريون، عما يسمُّونه «الولاء القومي اليهودي» . وبالتالي، فإن اليهودي الذي يعيش في بلد غير الدولة اليهودية لن يشعر تجاهه بأي ولاء، أو سيكون ولاؤه له ضعيفاً إذ سيكون موزعاً بين وطنه الفعلي الذي يقيم فيه ووطنه القومي الصهيوني، وهو ما يُطلق عليه «ازدواج الولاء» . وقد كان هرتزل يتفاوض مع السلطات الإمبريالية المختلفة في إطار تصور أنه قادر، حسب قوله، على تحويل كل يهود العالم إلى عملاء يدينون بالولاء لا لأوطانهم وإنما لأية دولة تساند الفكرة الصهيونية. والعميل إما شخص عديم الولاء أو شخص ذو ولاء مزدوج.
وتنطلق الدولة الصهيونية من الإيمان بازدواج الولاء لدى أعضاء الجماعات اليهودية في العالم. ولذلك، فهي تحاول دائماً تجنيدهم لخدمة مصالحها ومآربها، بل إن بن جوريون قد صرح بأن السفير الإسرائيلي في كل عاصمة هو الممثل الحقيقي للجماعة اليهودية فيها.(3/42)
وثمة قوانين في الكيان الصهيوني لتكريس هذا الاتجاه، مثل قانون العودة وقانون الجنسية. وقد عُدِّل هذا القانون الأخير بحيث تستطيع الدولة الصهيونية أن تمنح أي مواطن يهودي جنسيتها وهو لا يزال بعد في وطنه الأصلي، دون أن يتنازل عن جنسيته الأصلية، ويكفي أن تكون لديه النية للهجرة. والصهيونية، بوصفها حركة سياسية ودولة استيطانية، تحاول ترجمة فكرة الولاء اليهودي، أي ازدواج الولاء، إلى واقع عملي. ومما له دلالته أن بيان إعلان قيام الدولة الصهيونية عام 1948 قد تم عن طريق مجلس قومي يتحدث باسم كل «الشعب اليهودي» ، سواء في فلسطين أو خارجها. وقد اكتشفت الدولة الصهيونية (بعد إعلانها) أنها لن تستطيع الوصول بسهولة ويُسر إلى جميع أعضاء الشعب اليهودي، نظراً لضآلة سلطتها خارج حدودها. ولذا، حوَّلت المنظمة الصهيونية نفسها إلى أداة موظفة في يد الدولة الصهيونية، تصل عن طريقها إلى أعضاء الجماعات اليهودية.
وقد كانت حادثة بولارد ترجمة عملية لنظرة الصهاينة لأعضاء الجماعات اليهودية. فقد قامت المخابرات الإسرائيلية بتجنيده باعتبار أنه مزدوج الولاء، ولكن أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة رفضوا هذا التعريف وأكدوا أن ولاءهم للولايات المتحدة أولاً وأخيراً، واحتجوا على سلوك إسرائيل. ولكن حادثة بولارد ليست سوى جزء من نمط عام، إذ قامت الحركة الصهيوينة من قبل بتجنيد بعض يهود البلاد العربية للتجسس ضمن قسم خاص أسِّس لهم في الوكالة اليهودية قبل عام 1948، كما أن حادثة لافون تُبيِّن أن المخابرات الإسرائيلية قامت بتجنيد بعض يهود مصر للتجسس لصالح الدولة الصهيونية.(3/43)
ولا شك في أن هذا الوضع يخلق كثيراً من المشكلات لليهود في العالم. وقد تنبَّه سير إدوين مونتاجو، العضو اليهودي الوحيد في الوزارة البريطانية التي أصدرت وعد بلفور، إلى هذا البعد حيث احتج على إصدار هذا الوعد لأن الاتهام بازدواج الولاء، بحسب رأيه، اكتسب لأول مرة أساساً موضوعياً. وتحاول الصهيونية التوطينية التغلب على هذا الوضع الذي يسبب الحرج لأعضاء الجماعات اليهودية، بأن تعود إلى الصيغة الصهيونية الإثنية التي ترى أن اليهود ينتمون سياسياً إلى الوطن الذي يعيشون فيه، مع أنهم، من ناحية القيم الدينية والثقافية والروحية، ينتمون إلى مركزهم الروحي (أو الإثني) في إسرائيل. ويحاول الصهاينة في الولايات المتحدة أن يُذيبوا ازدواج الولاء داخل النمط الأمريكي العام بحيث تصبح علاقة الأمريكي اليهودي بإسرائيل مثل علاقة الأمريكي الإيطالي بإيطاليا، وبالتالي يصبح لليهودي وطنان قوميان: الأول هو مسقط الرأس الذي هاجر منه، والثاني هو البلد الذي هاجر إليه.
المصالح اليهودية
Jewish Interests
«المصالح اليهودية» عبارة تفترض أن ثمة مصالح يهودية محددة متفقاً علىها بين «اليهود» (أعضاء الجماعات اليهودية) ، وأنهم يدافعون عنها علناً أو سراً متى وأينما سنحت لهم الفرصة، وهو افتراض شائع في الكتابات الصهيونية والمعادية لليهود. وتذهب الكتابات التي تتبني مثل هذا النموذج التفسيري إلى أن اليهود لا يدينون بالولاء إلا لما يُسمَّى «المصالح اليهودية» ، وبالتالي فهم لا يعملون إلا من أجلها.(3/44)
ولكن من الثابت تاريخياً أنه لم تكن هناك مصالح يهودية واحدة، بل إن الصراعات بين الجماعات اليهودية المختلفة حقيقة تاريخية. وكثيراً ما كانت تستعدي جماعة ما السلطات على جماعة أخرى وتطالب بطردها. ويظهر الصراع في حق حظر الاستيطان (حيريم هايشوف) ، أي حق أية جماعة يهودية في أن ترفض إيواء أي يهودي من جماعة أخرى، وهو حق كانت تسعى الجماعات اليهودية في أوربا في العصور الوسطى للحصول عليه. ولعل أهم الصراعات عبر التاريخ هو الصراع بين الإشكناز والسفارد في العالم الغربي، والذي لا يزال له أصداؤه في إسرائيل حتى الآن. وكذلك، فإن مصالح الدولة الصهيونية تتعارض في كثير من الأحيان مع مصالح الجماعات اليهودية كما اتضح في حادثة بولارد على سبيل المثال، أو في تَورُّط الإسرائيليين في تجارة المخدرات في كولومبيا. وقد فجرت الانتفاضة قضية التعارض بين مصالح الجماعات اليهودية ومصالح إسرائيل، إذ أن منظر الجنود الإسرائيليين (ممثلي الدولة اليهودية) وهم يكسرون أذرع الشباب الفلسطيني، لم يُحِّسن الصورة الإعلامية ليهود العالم، ولم يخدم مصالحهم، مع أنه يخدم مصلحة الدولة التي يُقال إنها «يهودية» !
ونحن نرى أن أعضاء الجماعات اليهودية لهم مصالح مختلفة باختلاف الزمان والمكان، ولتفسير سلوكهم لابد من العودة إلى سياقهم الحضاري والتاريخي والإنساني العريض، لأن النموذج التفسيري الذي يُركِّز على المصالح اليهودية والمرجعية اليهودية سيعجز عن تفسير كثير من جوانب هذا السلوك.(3/45)
وفي مجموعة المداخل التي تلي هذا المدخل سنتناول سيَر بعض مشاهير اليهود ممن شغلوا مواقع مهمة تجعلهم في موضع التأثير في صنع القرار (ابتداءً من بيرنيكي عشيقة الإمبراطور تيتوس وانتهاءً بكيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة) . وسنحاول أن نُبيِّن أن سلوكهم السياسي وغير السياسي (في معظم الأحيان) لم تكن تحكمه المصالح اليهودية وإنما مجموعة من العناصر الأخرى المرتبطة عادةً بمصالح الدولة التي ينتمي لها عضو الجماعة اليهودية.
بيرنيكي (32م-؟)
Berenice
«بيرنيكي» اسم يوناني معناه «حاملة النصر» ، وتُنطَق «بيرنيس» في اللغات الأوربية الحديثة. وهي حفيدة أخت هيرود الأعظم «ملك اليهود» وابنة أجريبا الأول. وُلدت عام 33 ميلادية، وكانت مشهورة بجمالها وبتعدد أزواجها وعشاقها. تزوَّجت وهى بعد في الثالثة عشرة من ماركوس، ابن ألكسندر ليسيماخوس كبير موظفي (ألبارخ) الإسكندرية. وبعد موته، تزوَّجت عمها شقيق أبيها هيرود حاكم كالخيس. وبعد موت هذا الأخير، عاشت مع أخيها أجريبا الثاني. وقد انتشرت الشائعات بين الرومان أنها كانت على علاقة آثمة بأخيها هذا. ويُلاحَظ أن الجماع بالمحارم في فترة انحلال الإمبراطورية الرومانية لم يكن أمراً غريباً بين أعضاء الأرستقراطية التي كانت تنتمي إليها بيرنيكي وأخوها. وربما لإسكات الشائعات، ونظراً لغيرتها من أختها دروسيلا التي تزوجت من ملك، أقنعت بيرنيكي بوليمون الثاني ملك كليكيه بأن يتهود ويتختن ويتزوجها فتزوجها في عام 69م. ولكن بيرنيكي لم تكن على مستوى عال من الأخلاق أو الوفاء الزوجي الأمر الذي أثار اشمئزاز بوليمون منها ومن عقيدتها فطلَّقها. وعادت بيرنيكي لتعيش مع أخيها، ووقفت إلى جواره في محاولته تهدئة الجماهير اليهودية الحانقة مع بدايات التمرد اليهودي الأول (66 ـ 70م) ، ولكن الجماهير أضرمت النار في قصرها.(3/46)
ومع سقوط القدس في يد المتمردين، فرَّت بيرنيكي إلى الإسكندرية عند أقاربها (تايبريوس يوليوس ألكسندر ابن عم فيلون السكندري، وغيره) . وهناك، قابلت الجنرال تيتوس ابن الإمبراطور فسبسيان الذي كان يُعدُّ حملته لقمع التمرد اليهودي الأول وأصبحت عشيقته، وأعلن هو عن حبه لها وكان عمرها (حينذاك) تسعة وثلاثين عاماً. وقد صاحبته هي وأخوها أجريبا الثاني (الذي كان يقود جيشاً يهودياً صغيراً) أثناء حملته التي انتهت بسقوط القدس وتحطيم الهيكل. وحين عاد تيتوس إلى روما، انضمت إليه هناك عام 75م، واستمرا في علاقتهما، بل وكان يشار إليها باعتبارها «زوجة تيتوس» . ويبدو أنه كان على وشك الزواج منها بالفعل، ولكن الأرستقراطية الرومانية عارضت ذلك. وحينما عادت بيرنيكي إلى روما مرة أخرى عام 79م، بعد أن أصبح تيتوس إمبراطوراً، وبعد أن بلغت هي الخمسين، تجاهلها عشيقها السابق، فعادت أدراجها إلى فلسطين حيث لم يُسمع عنها شيء بعد ذلك التاريخ.
ووجود بيرنيكي اليهودية (وجيش أخيها) إلى جوار تيتوس أثناء حملته على القدس لهدم الهيكل لم يُغيِّر شيئاً في خطته العسكرية التي كانت تمليها الاعتبارات الإستراتيجية الكبرى للإمبراطورية الرومانية. ربما لو كان تيتوس قد عدل عن تحطيم الهيكل في آخر لحظة (لاعتبارات خاصة بمصالح الإمبراطورية الرومانية) لانقض على هذه الواقعة أصحاب النماذج الاختزالية وتحدثوا عن نفوذ المرأة اليهودية، وكيف أن اليهود يستخدمون الجنس في تنفيذ مخططاتهم. بل ولأضافوا أن بيرنيكي، صاحبة الاسم اليوناني والسلوك الوثني والرؤية المنحلة، ظلت مع هذا يهودية تخدم المصالح اليهودية، وهو ما يدل (حسب رأيهم) على أن وظيفة اليهود ثابتة عبر الزمان والمكان. ولا تتحدث المراجع الصهيونية عن عبقرية بيرنيكي اليهودية في اصطياد الرجال بخاصة من فئة الملوك وقواد الجيوش.(3/47)
ولم تكن بيرنيكي المرأة اليهودية الوحيدة التي لعبت دوراً في دهاليز النخبة الحاكمة. فقد تزوجت اختها دروسيلا من ملك يُدعَى عزيز في إميسيا (حمص) . ويبدو أن إيزاط ملك حدياب في بابل (36 ـ 60م) تَهوَّد بسبب علاقته بامرأة يهودية.
ديفيد باسيفيكو (1784-1854 (
David Pacifico
تاجر ودبلوماسي بريطاني يهودي وُلد في جبل طارق وأخذته أعماله التجارية إلى البرتغال حيث استقر عام 1812. ورغم أنه ظل من رعايا بريطانيا، إلا أنه نشط في السياسة المحلية البرتغالية وعُيِّن قنصلاً عاماً للبرتغال لدى المغرب في الفترة بين عامي 1835 و1837 ثم لدى اليونان في الفترة بين عامي 1837 و1842، ولكنه أُقيل من منصبه نتيجة خلافات مع الحكومة البرتغالية. كل هذا يدل على أن المارانو، حتى منتصف القرن التاسع عشر، وحتى بعد ذلك التاريخ، كانوا لا يزالون يضطلعون بدورهم كممثلين للبلد الذي طردهم والذي ينتمون إليه لغوياً وحضارياً.(3/48)
وقد ظل باسيفيكو في اليونان أعوام 1843 ـ 1847 مشتغلاً بالتجارة، ولكنه دخل عام 1847 في مواجهة خطيرة مع الحكومة اليونانية أسفرت عن مجئ الأسطول البريطاني إلى شواطئ اليونان وهو ما أثار ضجة كبيرة في أنحاء أوربا وداخل بريطانيا. ففي هذا العام منعت الحكومة اليونانية الجماهير المسيحية من إجراء الطقوس التقليدية لعيد الفصح، وهو إحراق تمثال خشبي يرمز إلى يهوذا، وذلك احتراماً لوجود أحد أفراد عائلة روتشيلد المالية اليهودية في أثينا لإجراء مفاوضات مع الحكومة اليونانية بشأن قرض. وقد استثار ذلك غضب الجماهير التي تظاهرت وهاجمت منزل باسيفيكو ودمرته وأحرقت أوراقه. وقد طالب باسيفيكو الحكومة اليونانية بتعويض قدره أكثر من 800 ألف دراخمة وأيده في ذلك ممثل إنجلترا لدى اليونان باعتبار أن باسيفيكو من رعايا بريطانيا. وقد رفضت الحكومة اليونانية طلبه بل قامت بمصادرة أملاكه. وإزاء ذلك، أمر بالمرستون، وزير الخارجية البريطاني آنذاك، الأسطول البريطاني بفرض حصار على ميناء بيريوس اليوناني Piraeus كما استولى البريطانيون على 200 سفينة يونانية. واستمر هذا الحصار من يناير 1850 حتى أبريل من العام نفسه عندما رضخت الحكومة اليونانية ودفعت لباسيفيكو تعويضاً قدره 150 ألف دراخمة.(3/49)
وقد أثارت هذه الحادثة، التي تضمنت تحريك الأسطول البريطاني لمعاقبة حكومة مسيحية لصالح يهودي، ضجة كبيرة في أنحاء أوربا وداخل بريطانيا، فأعربت كلٌّ من روسيا وفرنسا وبروسيا عن غضبها البالغ وتشكلت في إنجلترا جبهة معارضة لبالمرستون حاولت إقصاءه من منصبه. وكان من بين أفراد هذه الجبهة السياسي البريطاني دزرائيلي (اليهودي الأصل) . وقد دافع بالمرستون عن نفسه قائلاً: «إن أي إنسان من رعايا بريطانيا يجب أن يتأكد أينما وُجد أن ذراع إنجلترا الطويلة ستحميه من أية إساءة أو ظلم. وهذا الموقف يجب أن يسري على جميع الرعايا وضمن ذلك من يعتنق اليهودية منهم» . ورغم حديثه الليبرالي المعسول كانت لبالمرستون دوافع أخرى جعلته يُحرِّك الأسطول البريطاني ضد اليونان، فقد كان يسعى لتأديب وإذلال الأسرة المالكة البافارية التي كان أفرادها يحكمون اليونان، على حين مثلت قضية باسيفيكو ذريعة مواتية لتبرير هذا الإجراء. والواقع أن يهودية باسيفيكو أو عدم يهوديته لم تمثل أي اعتبار حقيقي في هذه الحادثة التي خضعت أولاً وأخيراً، سواء بالنسبة إلى الحادثة نفسها أو بالنسبة إلى الاعتراضات التي أثيرت بشأنها، لاعتبارات سياسية دولية أو لاعتبارات السياسة الداخلية البريطانية وصراعاتها. وقد تحرك الأسطول البريطاني دفاعاً عن باسيفيكو، لا بسبب قوة اللوبي اليهودي (فلم يكن هناك مثل هذا اللوبي) وإنما دفاعاً عن المصالح البريطانية.
بنيامين دزرائيلي (1804-1881)
Benjamin Disraeli(3/50)
سياسي ورجل دولة بريطاني شهير. لعب، بوصفه رئيساً لوزراء بريطانيا، دوراً مهماً في رسم سياستها الخارجية والاستعمارية وترسيخ مصالحها في الشرق الأوسط، وهو الدور الذي تحدَّد على أساسه فيما بعد مصير مصر وفلسطين، وقد حظيت مهارته بمكانة بارزة في تاريخ السياسة البريطانية الاستعمارية. ومما له دلالته أن هذا الإمبريالي القح الذي وسَّع نطاق الإمبريالية الإنجليزية في الخارج، قام في الوقت نفسه بتوسيع نطاق الديموقراطية والعدالة الاجتماعية في الداخل.
وُلد دزرائيلي لعائلة بريطانية يهودية ذات أصول إيطالية سفاردية (مارانية) . وكان اليهود السفارد في أوربا مختلفين عن الإشكناز، فرغم أن كليهما كان جزءاً من جماعة وظيفية، إلا أن السفارد كانوا يشكلون جزءاً من أرستقراطية مالية متقدمة مندمجة إلى حد ما في المجتمع، على عكس الإشكناز الذين كانوا جماعة وظيفية تضطلع بالوظائف الاقتصادية الوضيعة (الربا والتجارة الصغيرة) وتقف على هامش المجتمع. لكن اندماج السفارد أضعف هويتهم تماماً. ورغم أن اندماجهم في المجتمع لم يكن كاملاً (فالمجتمعات الغربية كانت لا تزال تدور في إطار مسيحي) ، إلا أن عملية الاندماج، التي أدَّت في نهاية الأمر إلى الانصهار في حالة السفارد، كانت قد قطعت أشواطاً كبيرة. ويظهر ضعف الهوية في حادثة خروج والد دزرائيلي على اليهودية. فقد اختلف مع مجلس الماهاماد، الذي كان يتولى قيادة الجماعة اليهودية السفاردية في لندن، حول مقدار الضرائب المقررة عليه، فاستقال منه واعتنق المسيحية. وكان بنيامين في الثالثة عشرة من عمره، فعُمِّد ونُشِّئ تنشئة مسيحية.(3/51)
وقد دخل دزرائيلي مجال السياسة وانتُخب عضواً في البرلمان عن حزب المحافظين عام 1837، كما تزعَّم حركة إنجلترا الشابة، وهي حركة رومانسية تستند إلى الإيمان بضرورة بناء قاعدة شعبية لحزب المحافظين الأرستقراطي واستقطاب الطبقات العاملة من خلال الإصلاحات الاجتماعية والسياسية. ومن الجدير بالذكر أن وضع دزرائيلي الاجتماعي والاقتصادي تَدعَّم بعد زواجه من أرملة مسيحية ثرية تكبره بنحو اثنى عشر عاماً وأصبح من ملاك الأراضي الأثرياء.
وفي عام 1852، أصبح دزرائيلي رئيساً لمجلس العموم. وفي عام 1868، أصبح رئيساً للوزراء، وهو منصب تقلده مرة أخرى في الفترة ما بين عامي 1874 و1880. وقد صدرت قرارات تشريعية عديدة في عهده ذات طابع ليبرالي مثل تنظيف الأحياء الشعبية والاعتناء بمؤسسات الصحة العامة وتحسين أحوال العمل في المصانع. وقد حقق دزرائيلي أهم إنجازاته في مجال السياسة الخارجية، فقد كان وراء الصفقة التي اشترت بريطانيا بمقتضاها نصيب مصر من أسهم قناة السويس في عام 1875، وذلك بمساعدة مالية من عائلة روتشيلد (اليهودية) . وتُعتبَر هذه الصفقة من أهم خدماته للإمبراطورية البريطانية حيث حققت لها السيطرة الإستراتيجية على أهم الممرات المؤدية إلى الشرق. كما أعطت هذه الصفقة أهمية خاصة لمصر بالنسبة لبريطانيا والتي احتلتها في آخر الأمر. وقد أعقب كل هذا موافقة البرلمان الإنجليزي على منح الملكة لقب «إمبراطورة الهند» . كما مُنح دزرائيلي لقب «إيرل أوف بيكونزفيلد» تقديراً لخدماته.(3/52)
وقد تَبنَّى دزرائيلي سياسة تهدف إلى الحفاظ على الدولة العثمانية وإلى تأييدها في صراعها مع روسيا. وجاءت سياسته هذه في الواقع تعبيراً عن صراع القوى الأوربية الكبرى في تلك الفترة، ومن بينها بريطانيا وروسيا، للحصول على أكبر نصيب ممكن من تركة الإمبراطورية العثمانية. وبالتالي، جاء دعم بريطانيا لتركيا بهدف صد التوسع الروسي باتجاه الجنوب والذي كان يشكل تهديداً للممرات الحيوية المؤدية إلى الهند. وقد نجح دزرائىلي في مؤتمر برلين (عام 1878) في عدم المساس بوضع الدولة العثمانية، كما حصل لبريطانيا على قبرص التي كانت تُعتبَر البوابة لآسيا الصغرى. كما حصل للجماعات اليهودية في دول البلقان على بعض الحقوق والامتيازات. وقد اعتبر دزرائيلي هذا المؤتمر تتويجاً لحياته السياسية. وقيل إنه قدَّم، في هذا المؤتمر، مذكرة غير موقعة حول المسألة اليهودية تدعو إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين. وتبيَّن، فيما بعد، أن من قدمها شخص آخر.
لم تكن مسألة توطين اليهود في فلسطين غائبة عن ذهن دزرائيلي كما لم تكن غائبة عن أذهان الساسة البريطانيين المعاصرين له، وقد كانت أهمية فلسطين لبريطانيا تزداد مع تزايد مصالحها الإمبريالية وأطماعها في ثروات الشرق، ففلسطين كانت تشكل حلقة وصل برية بين الشرق والغرب، وبين آسيا وأفريقيا. وقد زاد ذلك من الأطماع البريطانية فيها، ومن ثم التوجه الصهيوني للسياسة البريطانية الخارجية، حتى قبل ظهور الحركة الصهيونية بين أعضاء الجماعة اليهودية.(3/53)
كتب دزرائيلي عدة روايات ومؤلفات ليست لها أهمية أدبية كبيرة، ولا يتعرض معظمها للموضوع اليهودي مثل رواية سيبيل أو الأمّتان (1845) التي تصف الهوة الساحقة التي تفصل بين الفقراء والأغنياء في عصره ويُبيِّن أوضاع العمل غير الإنسانية في المصانع في ذلك الوقت. ومن بين رواياته التي تتعرض للموضوع اليهودي قصة داود الرائي المدهشة (1833) وهي عن ذلك الماشيَّح الدجال، ورواية كونينجسبي أو الجيل الجديد (1844) ويشرح فيها دزرائيلي أفكاره السياسية ويصف وضع اليهود (بشكل هامشي) . أما رواية تانكريد أو الحرب الصليبية الجديدة (1847) فهي تدور حول حياة أرستقراطي بريطاني يسافر إلى القدس ليبحث عن شفاء لروحه من المادية الغربية. وفي السيرة التي كتبها دزرائيلي عن لورد جورج بنتتيك (1852) شرح نظريته الخاصة بتفوق العنصر السامي وروحانية اليهود التي تتبدَّى كلها في الكنيسة المسيحية! ولدزرائيلي روايات أخرى مثل إندميون.
ويمكننا الآن أن نتناول قضية هوية دزرائيلي اليهودية. ومن المعروف أن بعض معاصريه وجهوا له بعض الانتقادات حول سياسته الخاصة بمصير الدولة العثمانية إذ اتهموه بأنه يحدد هذه السياسة (وسياسة بريطانيا الخارجية بشكل عام) في ضوء موقفها من الجماعات اليهودية. وقد ساعد دزرائيلي بنفسه على ترسيخ صورته اليهودية، فقد كان يتباهى بأصله اليهودي العرْقي، كما أن دفاعه عن قضية إعتاق اليهود أمام البرلمان البريطاني كان ينبع من اعتقاده بأن اليهود يمثلون جنساً أكثر سمواً بين سائر الأجناس الأخرى في كثير من الصفات. ومن جهة أخرى تتخلل كتابات دزرائيلي فكرة صهيونية مبهمة تدور حول «الارتباط الأزلي لليهود بأرض فلسطين» . وقد اتهمه الروائي الروسي دوستويفسكي بأنه يُدبر مؤامرة يهودية لهزيمة روسيا ونصرة الدولة العثمانية. ومع هذا، يمكن أن نشير إلى ما يلي:(3/54)
1 ـ كان دزرائيلي مبتعداً تماماً عن العقيدة اليهودية وشعائرها ورموزها، كما هو الحال مع بقية أعضاء الجماعة اليهودية في إنجلترا، خصوصاً السفارد منهم. وقد خرج أبوه على الجماعة لسبب واه ـ كما تَقدَّم ـ وعَمَّد ابنه. ويُلاحَظ أن دزرائيلي يُعرِّف اليهود تعريفاً عرْقياً لا دينياً لا علاقة له بالدين اليهودي.
2 ـ وكان دزرائيلي يرى اليهود شعباً عضوياً متماسكاً، له شخصيته المستقلة وتفوقه (التجاري في العادة) وارتباطه الأزلي بفلسطين، وهذا الخطاب الصهيوني لم يكن خاصاً بدزرائيلي وإنما كان جزءاً لا يتجزأ من الخطاب الغربي بشأن اليهود.
3 ـ ولم تكن سياسة دزرائيلي تجاه الدولة العثمانية سوى تعبير عن المصالح الإمبريالية ودفاع ذكي عنها. وبالتالي، فإن هوية من قام بتنفيذ هذه السياسة ليس أمراً مهماً على الإطلاق.
لكل هذا، ورغم اتهام أعدائه له بتحيزه اليهودي (بل واتهامه بأنه «يهودي متخفي» ) ورغم إدعاءاته هو عن نفسه، إلا أن سلوك دزرائيلي لا يمكن تفسيره على أساس يهوديته وإنما على أساس انتمائه للتشكيل الاستعماري الغربي. ولعل أدق وصف لدزرائيلي هو وصفه لنفسه بأنه يشبه الصفحة البيضاء التي تفصل العهد القديم عن العهد الجديد، أي أنه فَقَد هويته اليهودية ولم يكتسب الهوية المسيحية رغم تَنصُّره. وهو في هذا لا يختلف عن كثير من يهود المارانو (السفارد) الذين فقدوا هويتهم الدينية وتحولوا إلى عنصر أساسي نافع في التشكيل الرأسمالي الغربي والتشكيل الاستعماري الغربي (بشقّيه العسكري والاستيطاني) .
ومما له دلالته أن الموسوعة البريطانية (ماكروبيديا) أفردت مدخلاً كاملاً طويلاً لتناول حياة دزرائيلي الخاصة والعامة، ولم يُشر إلا بشكل عابر في بداية المدخل لأصوله اليهودية، ثم أهملتها تماماً بعد ذلك، لأنها ليست ذات قيمة تفسيرية تُذكَر.
إسحق كرمييه (1796-1880 (
Isaac Cremieux(3/55)
رجل دولة فرنسي. تلقَّى تعليماً فرنسياً علمانياً في مدارس الليسيه الإمبراطورية حيث كان من أوائل الطلبة اليهود الدارسين بها، ثم درس القانون بعد ذلك، وأصبح خلال فترة دراسته من أشد المعجبين بنابليون. اشتغل عام 1817 بالمحاماة واكتسب سمعة طيبة في هذا المجال بفضل مهارته القانونية، وكان من أشد المؤيدين لقضايا الليبرالية حيث ترافع في عديد من المحاكمات السياسية أثناء فترة عودة الملكية. وبعد قيام ثورة عام 1830، انتقل إلى باريس حيث تعاون مع العناصر الليبرالية في نشاطها المعادي لحكم الملك لويس فيليب وطالب بحرية الصحافة. وفي الفترة بين عامي 1842 و1846 انتُخب نائباً في البرلمان الفرنسي حيث كان من قادة المعارضة. واشترك كريمييه في ثورة 1848، وتولى منصب وزير العدل في الحكومة الجديدة لعدة أشهر حيث عمل على إدخال عدة إصلاحات من أهمها إلغاء نظام الرق في المستعمرات الفرنسية وإلغاء عقوبة الإعدام في القضايا السياسية. ودخل البرلمان مرة أخرى خلال الجمهورية الثانية وظل نائباً حتى عام 1852، ثم ابتعد عن الحياة السياسية في فرنسا منذ ذلك العام نظراً لخلافه مع إدارة لويس نابليون، وبقي كذلك حتى عام 1869 حينما دخل البرلمان مرة أخرى. وقد تولى كريمييه منصب وزير العدل مرة أخرى عام 1870 في الحكومة الانتقالية التي حلت محل حكم لويس نابليون بعد هزيمته العسكرية في العام نفسه. كما انتُخب كريمييه عام 1871 نائباً ممثلاً للجزائر، ثم انتُخب عام 1875 عضواً لمجلس الشيوخ مدى الحياة.(3/56)
وظل كريمييه مهتماً بالقضايا الخاصة بالجماعات اليهودية سواء في فرنسا أو خارجها، فعمل منذ عام 1827 على إلغاء القَسَم اليهودي في فرنسا (الذي ألغي بالفعل عام 1846) ، وتعاون مع موسى مونتيفيوري عام 1840 بشأن حادثة دمشق، واشترك عام 1866 في الدفاع عن بعض اليهود المتهمين في قضية قتل في روسيا، كما اهتم بالقضايا الخاصة بحقوق يهود رومانيا، وعمل من خلال مؤتمر برلين عام 1878 على دعم قضية إعتاق يهود دول البلقان. وقد اختير كريمييه عام 1863 رئيساً للأليانس إسرائيليت يونيفرسل، وعمل بها حتى عام 1866، ثم مرة أخرى من عام 1868 وحتى وفاته. كما أصدر كريمييه عام 1870، عندما كان وزيراً للعدل، قانون كريمييه الذي منح الجنسية الفرنسية لأعضاء الجماعة اليهودية في الجزائر.
ورغم اهتمام كريمييه بالقضايا اليهودية، إلا أن هذا الاهتمام كان مرتبطاً في المقام الأول بمصالح الدولة الفرنسية. والواقع أن منحه الجنسية الفرنسية ليهود الجزائر، والذي اعتُبر من نجاحاته الكبرى في مجال القضايا اليهودية، كان إجراءً يهدف إلى تحويل يهود الجزائر إلى جماعة وظيفية استيطانية تزيد الكثافة السكانية الفرنسية، ومن ثم تخدم مصالح الاستعمار الفرنسي في الجزائر. كما أن نشاط الأليانس إسرائيليت، التي تولى رئاستها، كان يهدف أيضاً إلى صبغ أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الإسلامي بصفة عامة، ودول المغرب العربي بصفة خاصة، بالثقافة الفرنسية وتحويلهم إلى جماعات وظيفية وسيطة تعمل في مؤسسات الاحتلال الفرنسي وتدين له بالولاء وتخدم مصالحه في المنطقة. ومن الجدير بالذكر أن كريمييه اضطر عام 1845 إلى التخلي عن منصبه كرئيس للمجلس الكَنْسي المركزي اليهودي في باريس بعد أن تبيَّن أنه سمح لزوجته بتنصير أبنائهما. وكان كريمييه نشطاً في الحركة الماسونية في فرنسا وكان من أبرز قياداتها.
ديفيد يولي (1810-1886 (
David Yulee(3/57)
سياسي أمريكي وأول عضو يهودي في مجلس الشيوخ الأمريكي. وُلد في جزيرة سانت توماس ببحر الكاريبي. وفي عام 1818، انتقل إلى الولايات المتحدة مع والده الذي كان من أوائل من استوطنوا ولاية فلوريدا الأمريكية. وقد أدار يولي إحدى مزارع والده ثم درس القانون وأصبح محامياً عام 1832، ثم انخرط في السياسة وانتُخب عام 1837 عضواً بالهيئة التشريعية الإقليمية. وفي عام 1838 اشترك يولي في المؤتمر الذي وضع دستور فلوريدا. وشارك بحماس في الحملة المطالبة بانضمام فلوريدا إلى اتحاد الولايات الأمريكية. وبعد انضمامها عام 1845، انتُخب يولي ليكون أول عضو في مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية فلوريدا، كما أصبح أول عضو يهودي به، وظل عضواً بالمجلس حتى عام 1851 وأعيد انتخابه مرة أخرى عام 1855 وحتى عام 1861. وقد أيد يولي نظام العبودية في الولايات المتحدة بشدة ورفض إلغاءه، كما رفض إلغاء عقوبة الجلد في البحرية الأمريكية، وكان من أشد من دافعوا عن حق البيض في الاستيطان (وخصوصاً خلال حروب السيمينول، وهي الحروب التي دارت بشكل متقطع بين عامي 1817 و1858 والتي شنها الجيش الأمريكي ضد قبائل السيمينول من الهنود الحمر لإرغامهم على التخلي عن أراضيهم وإفساح المجال أمام استيطان الرجل الأبيض) . وقد أيَّد يولي انفصال فلوريدا عن الاتحاد عام 1861، واشترك في كونجرس اتحاد ولايات الجنوب أثناء الحرب الأهلية الأمريكية. وبعد هزيمة الجنوب، سُجن لمدة عام خرج بعدها ليعتزل السياسة ويتفرغ لأعمال إعادة بناء خطوط السكك الحديدية في فلوريدا، وهي عملية حقق من خلالها مكاسب كثيرة. وقد تزوج يولي عام 1846 من ابنة حاكم سابق لولاية كنتاكي، وبعد زواجه مباشرةً أضاف اسم يولي إلى اسمه الذي كان حتى ذلك الحين ديفيد ليفي فقط. وبرغم أنه لم يعتنق المسيحية بشكل رسمي، إلا أنه كان يذهب إلى الكنيسة كما قام بتنشئة أبنائه على العقيدة المسيحية.(3/58)
ولا يمكن الحديث عن ديفيد يولي في إطار المصالح اليهودية الخاصة. فسيرته السياسية لا تختلف عن سيرة كثيرين غيره من رجال السياسة الأمريكيين الذين راهنوا على الجانب الخاطئ في الحرب الأهلية الأمريكية.
جوليوس فوجل (1835-1899)
Julius Vogel
رئيس وزراء نيوزيلندا. وُلد في إنجلترا لأسرة يهودية، واشتغل في تجارة جدِّه الثري، ثم انتقل إلى أستراليا عام 1852 بعد اكتشاف الذهب هناك. ولكنه لم ينجح في مجال التنقيب عن الذهب واتجهت اهتماماته بعد ذلك نحو السياسة والصحافة، فهاجر عام 1861 إلى نيوزيلندا حيث قام بتحرير أول جريدة يومية في المستعمرة. وفي عام 1863 انتُخب عضواً في مجلس مقاطعة أوتاجو، كما انتُخب في العام نفسه عضواً في مجلس النواب ليصبح أول عضو يهودي به. وقد عارض خلال عضويته في المجلس تعليم الدين في المدارس. كما ظهرت كفاءته في الشئون المالية، الأمر الذي أدَّى إلى تعيينه وزيراً للمالية بالمستعمرة عام 1869. وقد اكتسب مكانة واحتراماً كبيراً بفضل مفاوضاته الناجحة مع الحكومة البريطانية للحصول على القروض اللازمة لفتح البلاد للاستيطان وتمويل مشاريع بناء الطرق والسكك الحديدية. وفي عام 1873 أصبح رئيساً للوزراء حتى عام 1875. وفي الفترة ما بين عامي 1876 و1881 أصبح وكيلاً عاماً لنيوزيلندا في إنجلترا، ثم عاد إلى نيوزيلندا عام 1884 ليتولى وزارة المالية مرة أخرى، ولكن سياسته تعرضت لانتقادات حادة الأمر الذي دفعه إلى الاستقالة عام 1887. وكان قد سبق أن تعرض للهجوم عام 1880 (أثناء وجوده في إنجلترا) بسبب تَورُّطه في فضيحة خاصة بشركة نيوزيلندا الزراعية التي كانت تقوم ببيع الأراضي للراغبين في الهجرة. وفي عام 1888 انتقل فوجل إلى إنجلترا حيث استقر بصفة دائمة حتى وفاته.(3/59)
ويُعدُّ فوجل من أبرز رجال السياسة والدولة في نيوزيلندا، حيث نجح في تطويرها اقتصادياً وفي توسيع رقعة الاستيطان بها، وقد مُنح فوجل لقب «سير» عام 1875. وهو نموذج جيد لليهودي الغربي الذي يفقد ما يُميِّزه كيهودي أو يُهمِّشه ليصبح جزءاً لا يتجزأ من التشكيل الحضاري الاستعماري الغربي، خصوصاً الأنجلو ساكسوني.
أيزاك أيزاكس (1855-1948 (
Isaac Isaacs
رجل دولة أسترالي يهودي، عمل حاكماً عاماً لأستراليا. وُلد في ملبورن لأبوين من أصل بولندي هاجرا إلى أستراليا بعد اكتشاف الذهب بها. ودرس القانون في جامعة ملبورن وتَخرَّج ليشتغل بالمحاماة واكتسب سمعة طيبة بفضل كفاءته القانونية. وفي عام 1892 انخرط في العمل السياسي حيث انتُخب عضواً في البرلمان وظل عضواً به حتى عام 1901. وفي عام 1894 عُيِّن نائباً عاماً. وقد اشترك أيزاكس في المداولات التي مهدت لتشكيل الحكومة الفدرالية في أستراليا، وكان عضواً في اللجنة التي وضعت الدستور. كما انتُخب عام 1901 عضواً في أول برلمان فيدرالي وساهم في تنظيم النظام القضائي الفيدرالي. وفي عام 1906 عُيِّن قاضياً في المحكمة الفيدرالية العليا حيث خدم حتى عام 1930 حينما عُيِّن في منصب كبير القضاة في أستراليا. وفي عام 1931 عُيِّن أيزاكس حاكماً عاماً لأستراليا ليصبح أول شخص أسترالي المولد يتولى هذا المنصب الذي احتفظ به حتى عام 1936. وحصل أيزاكس على لقب «سير» عام 1928.(3/60)
وقد عارض أيزاكس الصهيونية بشدة واعتبر اليهودية عقيدة دينية رافضاً أي مضمون قومي أو سياسي لها، ونشر عام 1943 سلسلة من المقالات في جريدة يهودية أدان فيها الصهيونية السياسية وأكد أن اليهود مواطنون عاديون يتجه ولاؤهم إلى أستراليا أو إلى غيرها من الدول التي ينتمون إليها واعتبر كل من يخالف هذا الرأي خائناً. وقد أيَّد أيزاكس سياسة الحكومة البريطانية في فلسطين واعتبر الاعتراضات التي أثيرت عام 1941 حول سياسة الكتاب الأبيض البريطانية في فلسطين عملاً يتنافى مع الانتماء لأستراليا. والبُعد اليهودي في تفكير أيزاكس وسلوكه كان قد تقلص تماماً واختفى، إذ أن ما كان يحركه هو انتماؤه لكلٍّ من إنجلترا والتشكيل الاستعماري الاستيطاني الأنجلو ساكسوني في أستراليا.
عمانويل قاراصو (1862-1934 (
Emmanuel Carasso
محام وسياسي تركي من يهود الدونمه، من أعضاء حركة تركيا الفتاة وأحد قادة الحركة الماسونية. وُلد في سالونيكا، وحاضر في جامعتها، وانضم في عهد السلطان عبد الحميد إلى حركة تركيا الفتاة حيث كان واحداً من أبرز أعضائها، وبعد استيلاء الحركة على السلطة عام 1908 انتُخب نائباً في البرلمان التركي كما ترأس اللجنة الرباعية التي تولت مهمة إبلاغ السلطان عبد الحميد بقرار خلعه. وفي عام 1912 كان عضواً في اللجنة البرلمانية التي تولت إجراء مفاوضات السلام مع إيطاليا. وخلال الحرب العالمية الأولى، لعب قاراصو دوراً سياسياً مهماً في إستنبول، ومُنح مقابل خدماته حق تصدير السلع التركية إلى ألمانيا، الأمر الذي مكَّنه من جمع ثروة ضخمة. ومع وصول كمال أتاتورك إلى الحكم عام 1923، فقد قاراصو مكانته، ويُقال إنه لعب دوراً مهماً في مساعدة الاحتلال الإيطالي نظير مبلغ من المال دفعته إليه إيطاليا واضطُر نتيجة خيانته للدولة التركية إلى أن يهرب إلى إيطاليا ويحصل على حق المواطنة الإيطالية حيث عاش في فقر وعزلة حتى وفاته.(3/61)
ويمكن ملاحظة ما يلي:
1 ـ أن قاراصو لم يكن يهودياً حاخامياً، وإنما كان من يهود الدونمه وهم جماعة خارجة على اليهودية، ولا يعتبرها الحاخاميون يهوداً، كما أن معظم أعضاء الجماعة اليهودية الذين لعبوا دوراً نشطاً في حركة كمال أتاتورك كانوا من يهود الدونمه.
2 ـ أن قاراصو فقد حظوته لدى كمال أتاتورك، ثم مات فقيراً، وهذا ما يُهمَل ذكره في كثير من الدراسات، حتى يبدو أعضاء الجماعات اليهودية كما لو كانوا المحركين لكل شيء والمسئولين عن سقوط الخلافة العثمانية، مع أن أسباب سقوطها كانت أسباباً تاريخية مركبة. ومما لا شك فيه أن ثورة الأقليات والجماعات العرْقية والدينية والإثنية على الدولة العثمانية كانت ضمن مركب الأسباب الذي أدَّى إلى سقوطها. ولكن الجماعة اليهودية لم تكن سوى أقلية واحدة ضمن أقليات أخرى أكثر عدداً وفعالية. كما أن موقف أعضاء الجماعات اليهودية من الدولة العثمانية لم يكن موحَّداً، وإنما انقسموا بين مؤيد ومعارض، تماماً مثل بقية أعضاء المجتمع العثماني وطبقاته.
هربرت صمويل (1870-1963 (
Herbert Samuel
سياسي بريطاني يهودي، وأول مندوب سام بريطاني في فلسطين. وُلد لعائلة يهودية أرثوذكسية تعمل بتجارة الذهب والأعمال المالية (كان أبوه شريكاً في شركة صمويل ومونتاجو) . وقد تلقَّى تعليمه في جامعة أكسفورد، وانضم إلى الحزب الليبرالي ورشح نفسه للانتخابات ونجح (عام 1902) . وتدرج صمويل في عدد من الوظائف إلى أن أصبح وزيراً في الوزارة البريطانية، وكان بذلك أول إنجليزي يهودي يشغل مثل هذا المنصب.(3/62)
بدأ صمويل اهتمامه بالأمور اليهودية حين عيَّنته الحكومة البريطانية في بعثة خاصة لتقصي أحوال يهود اليديشية الذين كانوا يتوافدون على إنجلترا بأعداد متزايدة. كما دخل في نقاش على صفحات الجرائد مع السفير الروسي في إنجلترا بشأن تهمة الدم التي وُجِّهت لليهودي الروسي منديل بليس. وقد اهتم صمويل بالشئون الاجتماعية وكان مسئولاً عن إصدار قانون تعويض العمال، كما كان مسئولاً عن إصدار ميثاق للأطفال.
كان صمويل، باعتباره يهودياً مندمجاً، يرى أن الحل الصهيوني حل غير عملي وضد مصالح اليهود، ولذا كان مشهوراً بعدائه للصهيونية. ولكن، مع ظهور تلك البوادر التي دلت على أن الدولة العثمانية ستُهزَم، اكتشف صمويل، شأنه شأن جميع الصهاينة اليهود غير اليهود، إمكانية حل المسألة اليهودية عن طريق توطين اليهود في إطار الدولة الوظيفية التابعة للغرب، وهو تَغيُّر في موقف صمويل لم يتوقعه أو يلحظه وايزمان. ولذا، حين اقترح لويد جورج على وايزمان (بعد عودته من سويسرا مع اندلاع الحرب العالمية الأولى) أن يجتمع بصمويل، رفض وايزمان ذلك ظناً منه أن صمويل لا يزال معادياً للصهيونية، ولكنه اضطر إلى أن يقبل على مضض ليفاجأ بأن صمويل يؤيد المشروع الصهيوني. بل والأدهى من ذلك أنه حينما تَقدَّم إليه وايزمان بالمطالب الصهيونية، أخبره صمويل بأنها مطالب متواضعة للغاية وأن عليه أن يفكر بشكل أكبر، وذُهل الزعيم الصهيوني (من شرق أوربا) وقال إنه لو كان مؤمناً بالعقيدة اليهودية لظن أن تَحوُّل صمويل هو إحدى علامات مَقْدم الماشيَّح.(3/63)
وقد كتب صمويل مذكرة (عام 1915) مررها على أعضاء الوزارة البريطانية تنطلق من افتراض أن تركيا ستُهزَم، واقترح فيها إنشاء محمية إنجليزية في فلسطين بعد الحرب وتشجيع الاستيطان اليهودي فيها، وإعطاء الأولوية للهجرة اليهودية ولبناء مؤسسات استيطانية تساعد في نهاية الأمر على توطين جماعة يهودية يبلغ عددها ثلاثة ملايين تصبح مكتفية ذاتياً إلى أن تشكل دولة ذات سيادة تكون مركزاً لحضارة جديدة وتنظر في الوقت ذاته بعين الاعتبار للمصالح البريطانية في المنطقة. وقد جذبت المذكرة اهتمام لويد جورج، لكن رئيس الوزراء إسكويث لم يكن متحمساً بقدر كاف. وحين تولَّى لويد جورج رئاسة الوزارة (التي كانت تضم بلفور) ، قرر تَبنِّي هذا المشروع الذي سُمِّي «وعد بلفور» . وبسبب اهتماماته الاستعمارية، عُيِّن صمويل أول مندوب سام بريطاني في فلسطين عام 1920 (أي بعد وضعها تحت الانتداب) . وفي أغسطس من العام نفسه، استصدر قانون الهجرة الذي سمح لـ 16.500 يهودي بدخول فلسطين. ولكن، بسبب رد الفعل العربي الرافض، عدلت بريطانيا عن سياستها قليلاً وبدأت تتحرك في إطار مفهوم القوة الاستيعابية للبلد. ولكن، ومع هذا، زاد عدد السكان اليهود في الفترة 1918 ـ 1925 من 105 آلاف إلى 118 ألفاً. وقد ساعد صمويل النشاط الاستيطاني الصهيوني على مستويات أخرى عديدة من بينها الاعتراف بالمؤسسات السياسية الصهيونية في فلسطين والاعتراف باللغة العبرية كإحدى اللغات المحلية في فلسطين. وقد زاد عدد المستوطنات الصهيونية في عهده من 44 إلى 100 مستوطنة.
وقد استمر اهتمامه بالمُستوطَن الصهيوني بعد تركه منصبه، فكان رئيساً لشركة فلسطين للكهرباء، ورئيساً للجامعة العبرية. وقد هاجم صمويل الكتاب الأبيض لعام 1939، كما هاجم سياسة بيفين المعادية للصهيونية.
وكان هربرت صمويل زعيماً للحزب الليبرالي في مجلس اللوردات بين عامي 1924 و1955، وله مؤلفات عديدة في الفلسفة الليبرالية.(3/64)
وصمويل نموذج جيد للصهيوني اليهودي غير اليهودي الذي لا تختلف رؤيته لليهود عن رؤية أي منتم للحضارة الغربية، فهو لا يهتم بالإثنية اليهودية ولا بالمصالح اليهودية ولا بالتاريخ اليهودي ولا بالعقيدة اليهودية: إنه يهودي مندمج تماماً يود الحفاظ على وضعه. ولكنه، شأنه شأن أي سياسي غربي، كان ينظر إلى اليهود من الخارج ويراهم كمادة بشرية نافعة يمكن أن تُوظَّف لصالح الحضارة الغربية.
ويبدو أن قطاعات من أعضاء الجماعات اليهودية في فلسطين وخارجها صنفت صمويل باعتباره أول حاكم يهودي لفلسطين منذ سقوط الهيكل. وهذا التصنيف لا يأخذ في اعتباره التكوين الثقافي أو السياسي لدى صمويل ولا الإطار الذي تم فيه تقليده منصبه. فقد كان صمويل، في واقع الأمر، مندوب الإمبراطورية البريطانية لدى اليهود، وليس مندوب اليهود لدى الإمبراطورية البريطانية.
ليون بلوم (1872-1950)
Leon Blum
رجل دولة وكاتب فرنسي، كان أول يهودي واشتراكي فرنسي يتولى رئاسة وزراء فرنسا. وُلد لعائلة يهودية تجارية ثرية في باريس، ودرس القانون في جامعة السوربون ونجح في تحقيق مكانة مرموقة كرجل قانون حيث عُيِّن في مجلس الدولة عام 1895 ووصل إلى أعلى المناصب فيه. كما كان يُعَدُّ، وهو مازال في الثانية والعشرين من عمره، من الكتاب والأدباء الفرنسيين اللامعين في تلك الفترة. وقد كتب عدة مؤلفات من بينها كتابه في الزواج (1907) الذي أثار ضجة واسعة بسبب آرائه الجريئة حول الزواج وحقوق المرأة.(3/65)
وقد تأثر بلوم بقضية دريفوس واشترك عام 1896 في الحملة من أجل إطلاق سراحه. وكانت هذه القضية من العوامل التي دفعته إلى العمل السياسي حيث انضم عام 1898 إلى الحزب الاشتراكي وساهم في جريدته لومانيتيه ككاتب وناقد أدبي. وقد أصبح بلوم بعد الحرب العالمية الأولى من الزعماء البارزين للحزب، وانتُخب في البرلمان الفرنسي عام 1919. وعمل بلوم على إعادة بناء الحزب بعد انشقاق العناصر الشيوعية عنه في عام 1920، ويُعتبَر بذلك أحد المؤسسين الرئيسيين للحزب الاشتراكي الفرنسي الحديث. وقد أعيد انتخابه في البرلمان عامي 1924 و1929. ونجح عام 1936 في أن يصبح رئيساً لوزراء فرنسا بعد أن نجحت جبهة واسعة من الأحزاب اليسارية في الانتخابات. وقد أدخلت حكومته بعض الإصلاحات الاجتماعية الواسعة واتخذت إجراءات تأميمية في قطاعي المال والتجارة. وقد اتُهم بلوم من جانب قوى اليسار الفرنسي بمهادنة دول المحور بسبب تَبنِّيه سياسة عدم التدخل في الحرب الأهلية الإسبانية، كما واجه معارضة شديدة من رجال الصناعة بسبب إصلاحاته الاجتماعية والعمالية. وقد اضطُر بلوم عام 1937 إلى الاستقالة من منصبه وعمل نائباً لرئيس الوزراء في حكومة الجبهة الشعبية ثم رئيساً للوزراء مرة أخرى عام 1938.
وقد أُلقي القبض عليه بعد سقوط فرنسا في أيدي الألمان عام 1940، وظل في معسكر اعتقال ألماني حتى عام 1945. ولكنه عاد إلى فرنسا في العام نفسه، وشَكَّل عام 1946 حكومة انتقالية اشتراكية ظلت في الحكم شهراً واحداً فقط. وابتعد بلوم بعد ذلك عن الحياة العامة فيما عدا فترة قصيرة (عام 1948) عمل خلالها نائباً لرئيس الوزراء. ويُعتبَر بلوم من أبرز الشخصيات في الحركة العمالية الفرنسية ومن مؤسسي الدولية الاشتراكية خلال الفترة بين الحربين العالميتين.(3/66)
وقد كان بلوم من مؤسِّسي اللجنة الاشتراكية من أجل فلسطين عام 1928، وقَبل دعوة وايزمان للانضمام إلى الوكالة اليهودية كممثل ليهود فرنسا، ولعب بلوم دوراً مهماً في التأثير على تصويت الحكومة الفرنسية في الأمم المتحدة والمؤيد لقرار تقسيم فلسطين. ولا يمكن تفسير سلوك بلوم في إطار المصالح اليهودية الخالصة أو النفوذ اليهودي، فباستثناء بعض التفاصيل اليهودية الهامشية في حياته، نجد أن حياته السياسية وتوجهاته الفكرية لا تختلف عن حياة وتوجهات أي سياسي اشتراكي فرنسي آخر.
بيير منديس فرانس (1907-1982)
Pierre Mendes-France
رجل دولة فرنسي وُلد في باريس لعائلة يهودية من المارانو، وتلقى تعليماً فرنسياً علمانياً. فدرس القانون في جامعة السوربون حيث كتب رسالته الجامعية عام 1928، ووجَّه فيها انتقادات حادة للسياسات المالية للحكومة آنذاك، وطالب باقتصاد أكثر عدلاً وبدور أكبر للدولة. وحظيت الدراسة باهتمام واسع بين رجال القانون والاقتصاد والسياسة في فرنسا كما نالت إعجاب الأحزاب اليسارية الفرنسية، وأصبح منديس فرانس من المستشارين الماليين للحزب الراديكالي. واتسم فكره بالعقلانية الشديدة وبابتعاده عن أية تصورات مثالية، كما تأثر بالفكر الاقتصادي لكينز. وقد انتُخب منديس فرانس عام 1932 ليكون أصغر نائب في البرلمان الفرنسي، وأُعيد انتخابه مرة أخرى في عام 1936. وعمل فرانس في حكومة الجبهة الوطنية تحت رئاسة ليون بلوم عام 1938 نائباً لوزير الخزانة حيث عمل على تطبيق سياساته الاقتصادية.(3/67)
وبعد سقوط فرنسا في أيدي الألمان عام 1940، رحل منديس فرانس إلى المغرب حيث حاول تنظيم المعارضة ضد حكومة فيشي، ولكن تم إلقاء القبض عليه وترحيله إلى فرنسا حيث نجح في الفرار عام 1941 إلى إنجلترا، وانضم إلى حركة الفرنسيين الأحرار تحت قيادة ديجول الذي عينه فيما بعد في منصب المندوب المالي للجزائر. وقد تولى منديس فرانس منصب وزير الشئون الاقتصادية في الحكومة المؤقتة بين عامي 1944 و1945، إلا أنه استقال بسبب الخلافات حول السياسات الاقتصادية. وعُيِّن عام 1946 في منصب المدير الفرنسي للبنك الدولي للإنشاء والتعمير. وفي عام 1954، نجح منديس فرانس في الوصول إلى رئاسة الوزراء وعمل من خلال هذا المنصب على إنهاء الوجود الفرنسي في الهند الصينية بعد هزيمة قوات الاستعمار الفرنسي أمام قوى التحرر الوطني في المنطقة. ثم قدَّم استقالته عام 1955 إثر فشل سياسته الخاصة بمنح الاستقلال للمغرب وتونس. وعاد منديس فرانس مرة أخرى وزيراً بلا وزارة في حكومة الجبهة الجمهورية عام 1956، إلا أنه استقال بعد عدة أشهر بسبب خلافه مع رئيس الوزراء حول السياسة الفرنسية بشأن الجزائر إذ كان يرى ضرورة الاستمرار في ضم الجزائر إلى فرنسا.
وقد ظل منديس فرانس شخصية مهمة في السياسة الفرنسية، كما كان من المؤيدين للصهيونية وإسرائيل. وقد أيَّد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ولكن موقفه هذا كان ينبع في المقام الأول من كونه سياسياً فرنسياً حريصاً على حماية المصالح الفرنسية والغربية في فترة اتسمت بانحسار الاستعمار ونمو قوى التحرر الوطني في بلاد آسيا وأفريقيا والعالم العربي. وقد كان منديس فرانس من المؤيدين لفتح الحوار بين العرب وإسرائيل في الفترة 1968 - 1973.
برونو كرايسكي (1911-1990)
Bruno Kreisky(3/68)
رجل دولة نمساوي وأول يهودي يتولى منصب مستشار النمسا. وُلد في فيينا وكان والده تاجر منسوجات ثرياً. انضم كرايسكي في سن مبكرة إلى الحزب الاشتراكي. وعندما مُنع الحزب من مزاولة نشاطه عام 1934، اشترك كرايسكي في نشاطه السري وتم إلقاء القبض عليه عام 1935 وحُكم عليه بالسجن ستة عشر شهراً. وفي عام 1938، تَخرَّج في جامعة فيينا. وبعد أن قامت ألمانيا النازية بضم النمسا إليها، طُرد كرايسكي واستقر في السويد حيث عمل كمراسل أجنبي. ومع نهاية الحرب، التحق بالسلك الدبلوماسي النمساوي واشتغل في سفارة بلاده في السويد. وفي عام 1951، عاد إلى النمسا حيث عُيِّن مساعداً للرئيس النمساوي الاشتراكي، ثم أصبح عام 1953 وكيل وزارة الخارجية ولعب دوراً أساسياً في المفاوضات التي جرت مع الاتحاد السوفيتي والتي أُبرمَت بمقتضاها معاهدة النمسا عام 1955 والتي أعطت النمسا استقلالها مقابل تعهدها بالحياد الدائم. ومنذ عام 1959، وحتى عام 1966، أصبح كرايسكي وزيراً للخارجية. وفي عام 1967، اختير رئيساً للحزب الاشتراكي وزعيماً للمعارضة، فقاد حزبه للحكم عام 1970 وتولى منصب مستشار النمسا. وقد حققت النمسا في ظل حكمه قدراً كبيراً من الرخاء الاقتصادي، كما لعب دوراً متميِّزاً في السياسة الدولية، خصوصاً في علاقة الشرق بالغرب والشمال بالجنوب.
كتب كرايسكي كتابه النمسا بين الشرق والغرب (1968) ، الذي اتهم فيه إسرائيل باحتكار تعاطف الأحزاب الاشتراكية وتأييدها بسبب عقدة الذنب تجاه اليهود بعد الإبادة النازية، وبيَّن أن الوقت قد حان لتتخلص هذه الأحزاب من هذا الاحتكار الإسرائيلي وهذا الإحساس بالذنب. كما حثّ كرايسكي أوربا على ضرورة القيام باتصالات مع العالم العربي لتحقيق حل سلمي للشرق الأوسط. ورفض كرايسكي مفهوم الأمة اليهودية الواحدة، فاليهودية بالنسبة له عقيدة وليست انتماءً عرْقياً.(3/69)
وقد لعب كرايسكي أيضاً دوراً بارزاً في قضايا الشرق الأوسط يتسم بقدر من التوازن، وهو ما جعله هدفاً لانتقادات حادة من جانب إسرائيل. ففي عام 1973 قَبل كرايسكي مطالب مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين الذين استولوا على قطار نمساوي يحمل عدداً من اليهود السوفييت المهاجرين إلى إسرائيل وطالبوا بوقف الهجرة اليهودية المارة عبر فيينا إلى إسرائيل. وقد أثار ذلك غضب إسرائيل ووصفت جولدا مائير كرايسكي بأنه يهودي كاره لنفسه. وفي عام 1980، كان كرايسكي أول زعيم غربي يلتقي بياسر عرفات ويمنح منظمة التحرير الفلسطينية اعترافاً دبلوماسياً على أرض الواقع (دي فاكتو) . كما عمل على تخفيف موقف الدولية الاشتراكية (المتحيِّز) لإسرائيل وعلى تبنيها موقفاً أكثر حياداً. وفي الوقت نفسه، حثّ منظمة التحرير الفلسطينية على الاعتراف بوجود إسرائيل نظير اعتراف إسرائيل بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة، أي أن الحل الذي اقترحه هو الاعتراف المُتبادَل بين الدولتين على أساس قرار 242. كما ساهم كرايسكي عدة مرات في بعض المفاوضات التي جرت من وراء الكواليس للإفراج عن الرهائن والأسرى الإسرائيليين لدى بعض المجموعات الفدائية الفلسطينية.
وقد استقال كرايسكي من منصب المستشارية ثم من رئاسة الحزب الاشتراكي عام 1983 بعد أن فشل حزبه في الحصول على أغلبية مطلقة في الانتخابات.
هنري كيسنجر (1923 (
Henry Kissinger(3/70)
عالم سياسة أمريكي، وأول أمريكي يهودي يتولى منصب وزير الخارجية الأمريكية، وكذلك أول أمريكي غير أمريكي المولد يتولى هذا المنصب. وُلد في مقاطعة بافاريا في ألمانيا، وقضى صباه في ظل الحكم النازي حيث طُرد مع أخيه من المدارس الحكومية، كما طُرد والده من وظيفته كمعلم. وفي عام 1938، رحل كيسنجر مع أسرته إلى الولايات المتحدة حيث استقروا في نيويورك. وجُنِّد في الجيش الأمريكي عام 1943 ثم عمل في المخابرات حتى عام 1946، وخدم في ألمانيا كمترجم وكمدرس في المدرسة الأوربية لقيادة المخابرات.
وبعد الحرب، درس في هارفارد ثم انضم إلى هيئة التدريس وتدرَّج في السلم الأكاديمي حتى حصل على درجة الأستاذية عام 1962. واكتسب كيسنجر مكانة مهمة كمفكر مختص في شئون الدفاع والأمن القومي وكتب عدة كتب مهمة في هذا المجال. وعمل كيسنجر مستشاراً لعدة رؤساء أمريكيين (أيزنهاور، وكنيدي، وجونسون) . وفي عام 1968، عمل بصفة دائمة في شئون الرئاسة الأمريكية. وحين عمل مستشاراً للرئيس نيكسون للأمن القومي، اتسمت علاقتهما بقدر كبير من التفاهم وأتاح نيكسون لكيسنجر مساحة كبيرة من حرية العمل. وقد اكتسب كيسنجر سمعة عالمية من خلال تمهيده للزيارتين التاريخيتين التي قام بهما الرئيس الأمريكي نيكسون إلى الصين والاتحاد السوفيتي عام 1972، وتدشينه سياسة الوفاق الدولي مع الاتحاد السوفيتي وتَوصُّله لمعاهدة الحد من الأسلحة الإستراتيجية الأولى (سولت) عام 1972.(3/71)
ومع انتهاء حرب فيتنام، وجَّه كيسنجر اهتمامه نحو الشرق الأوسط حيث كانت الإدارة الأمريكية تسعى إلى الحد من النفوذ السوفيتي في المنطقة وتقليصه في نهاية الأمر من خلال خلق وجود أمريكي متزايد في العالم العربي وضمان استمرار تدفق النفط العربي إلى الغرب. وبالفعل، لعب كيسنجر دوراً بارزاً في ترتيب وقف إطلاق النار في أثناء حرب 1973، ثم في عقد مفاوضات بين الجانبين العربي والإسرائيلي، وأخيراً في إعادة العلاقات الدبلوماسية مع مصر، الأمر الذي مهَّد بالفعل لتزايد الوجود الأمريكي بالمنطقة وتزايد دور أمريكا في قضية الشرق الأوسط وما انتهى إليه من معاهدة صلح بين مصر وإسرائيل.
وقد مُنح كيسنجر عام 1973 جائزة نوبل للسلام، كما عُيِّن في العام نفسه وزيراً للخارجية الأمريكية. ومع مجئ الرئيس كارتر إلى الحكم، انتهى عمله بهذا المنصب. وقد تولى كيسنجر بعد ذلك، مواقع مرموقة في المؤسسات الأكاديمية والمالية والتجارية الأمريكية، فعمل أستاذاً في جامعة جورج تاون، وعُيِّن نائباً لرئيس اللجنة الاستشارية الدولية لبنك تشيز مانهاتن، كما عمل مستشاراً للشئون العالمية لشركة إن. بي. سي. NBC وفي مؤسسة جولدمان ساخس للمال والسمسرة لتقديم المشورة حول تأثير التطورات السياسية الدولية على الشئون الاقتصادية والمالية للشركة وعملائها.
وفي عام 1983 اختاره الرئيس الأمريكي ريجان لرئاسة اللجنة الخاصة بشئون أمريكا اللاتينية المنوط بها مهمة تقييم السياسة الخارجية الأمريكية في هذه المنطقة.(3/72)
ويتمحور فكر كيسنجر الإستراتيجي حول مفهوم النظام الدولي الشرعي والمستقر. فالاستقرار يصنع السلام (وليس العكس) وهو لا يتحقق إلا بوجود شرعية دولية تقبلها الأطراف الأساسية في النظام الدولي. والشرعية والاستقرار لا يتحققان إلا من خلال أداتين لا انفصال بينهما هما الدبلوماسية والقوة المسلحة. وهذا النظام لا ينفي الصراع تماماً بل يخفضه إلى نوع من التنافس والتوتر المحكوم بإطار مقبول من الترتيبات والقواعد حول السلوك والأهداف والوسائل المسموح بها. والمعضلة الأساسية بالنسبة لكيسنجر هي كيفية الحفاظ على النظام الشرعي المستقر في ظل عصر الأسلحة النووية وفي مواجهة النظم الثورية التي ترفض الإطار القائم وتشكل مصدراً للصراعات التي تعيق (في نظره) التطور، ومن هنا كان اقتراحه القائل بتَبنِّي إستراتيجية تعتمد على التزاوج بين الدبلوماسية والمفاوضات من جهة، والحرب المحدودة من جهة أخرى.(3/73)
وقد كانت القضية الأساسية التي شغلت كيسنجر وحدَّدت مواقفه من القضايا الدولية كافة هي قضية العلاقة بين القوتين الأعظم والتوازن الدقيق بينهما. فأية مشكلة تمس هذا الميزان، وتهدد المصالح الأمريكية والغربية، كانت تثير اهتمامه وتَحرُّكه السريع، مثل مشكلة الأمن الأوربي وحرب فيتنام وأزمة الشرق الأوسط بخاصة بعد حرب 1973، في حين نجد أن اهتمامه يتراجع بمشاكل أخرى لا تمس هذا التوازن مثل غزو تركيا لقبرص عسكرياً عام 1974 وتحديها لليونان، رغم أن كلتا الدولتين عضو في حلف ناتو، وكذلك إهماله التام لأفريقيا وعدم اهتمامه بقضاياها إلا بعد دخول الاتحاد السوفيتي طرفاً في حرب تحرير أنجولا، فعندئذ جاء تَحرُّكه السريع لغلق الباب الأفريقي أمام السوفييت. وإلى جانب تَحدِّي الكتلة الشرقية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي كان كيسنجر يرى أن حركات التحرر الوطني والنظم الثورية الوطنية في العالم الثالث تشكل تحدياً آخر للولايات المتحدة والمعسكر الغربي؛ فهي تنزع نحو فرض نظام عالمي جديد يتسم بقدر أكبر من المساواة، وترى القوة الأمريكية المالية نوعاً من الاستعمار الجديد ومن ثم كان اقترابها أكثر من الاتحاد السوفيتي وتأثير ذلك على العلاقات والتوازن بين القوتين الأعظم. وهو يرى إمكانية احتواء هذه النظم الثورية "بالغواية والتخويف وكذلك ضربها بالحروب المحدودة حتى بغير اشتراك الولايات المتحدة. وعلى الولايات المتحدة أن تتأكد أنه يوجد لها في كل منطقة من العالم الثالث سوط مستعد في كل لحظة لأن يهوي على أي ظهر يحاول أن يرفع رأسه بعد حد معيَّن".(3/74)
ومحاولة اكتشاف البُعد اليهودي في تفكير كيسنجر أمر لا طائل من ورائه، فطريقة تفكيره وأولوياته وإدراكه لمصالح العالم الغربي وإدارته للأزمات الدولية (سواء في الشرق الأوسط أو غيرها من المناطق) هي جزء لا يتجزأ من التفكير الإستراتيجي العام في الغرب بمنطلقاته الصراعية الداروينية والتي تعود إلى عصر النهضة، وفلسفة الدولة. وهو تفكير يسعى إلى حماية أمن الغرب والدفاع عن مصالحه من خلال استخدام كل أشكال القوة (من ضغط سياسي إلى نشاط استخباري إلى انقلابات عسكرية مُدبَّرة إلى استخدام القوة العسكرية بشكل مباشر) . وفي داخل هذا الإطار يرى كيسنجر أن الولايات المتحدة هي زعيمة العالم الغربي ويرى أن لمصالحها أسبقية على مصالح الدول الأخرى وضمن ذلك الدول الغربية واليابان. ومن هنا اهتمامه بالبترول العربي فهو أداة ضغط أساسية على الدول "الحليفة" التي تعتمد على البترول المستورد. وما يُحدِّد موقف كيسنجر من إسرائيل ليس يهوديته أو رغبته في الدفاع عن المصالح اليهودية أو زيادة النفوذ اليهودي أو حماية الدولة اليهودية، وإنما حرصه على أن تكون إسرائيل حليفاً إستراتيجياً للولايات المتحدة وسوطاً رادعاً في يدها. ومن ثم لا يمكن تفسير مواقف كيسنجر السياسية على أساس يهوديته، كما يفعل بعض المحللين العرب.
المال اليهودي
Jewish Money(3/75)
«المال اليهودي» عبارة تتواتر في الأدبيات المُتداوَلة عن أعضاء الجماعات اليهودية، وهي عبارة تفترض وجود ثروة (ضخمة) يمتلكها اليهود ويوظفونها بالطريقة التي تروق لهم. ولعل أساس العبارة هو دور اليهود كجماعة وظيفية تجارية تمتلك رأسمال توظفه في التجارة البدائية والربا ويدر عليها ربحاً (كان النبيل الإقطاعي يستولي على معظمه) . ونظراً لوجود هذا الرأسمال خارج العملية الإنتاجية الزراعية، فقد بدا كما لو كان مستقلاً. أما في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، فقد تَركَّز أعضاء الجماعات اليهودية في قطاعات اقتصادية بعينها، فكان يبدو كما لو كان اليهود عنصراً مستقلاً.
ويذهب البعض إلى أن هذا المال اليهودي هو سر قوة اليهود، فهم يوظفونه في شراء النفوذ وفي ممارسة السلطة وفي تخريب الضمائر وإفساد العباد. وهذه أيضاً تهمة لها جذورها، فأعضاء الجماعات اليهودية كانوا يشترون المواثيق والحماية والمزايا من الملك أو الأمير، كما أنهم تركزوا في كثير من القطاعات المشينة في المجتمعات الحديثة (البغاء - المجلات الإباحية) .
وكما هو واضح، فإن ثمة أساساً موضوعياً أو مادياً لكل التهم، ومع ذلك يظل الواقع أكثر تركيباً من التهم الاختزالية البسيطة ومن الواقع المادي المباشر. فالمال اليهودي في المجتمع الإقطاعي كان بالفعل في قبضة أعضاء الجماعات اليهودية، ولكنهم هم أنفسهم كانوا في قبضة الأمير الإقطاعي، وكانت المواثيق الممنوحة لهم تتحدث عن تبعيتهم للأمير تبعية المملوك للمالك. وكانت بعض المواثيق تشير إلى هذا بشكل مجازي، بينما كان البعض الآخر يشير إليه بشكل حرفي.(3/76)
والمال اليهودي في العصر الحديث لا يختلف كثيراً عن المال اليهودي في العصور الوسطى في الغرب. فرأس المال اليهودي يتحرك حسب حركة رأس المال المحلي الذي يتحرك بدوره حسب حركة رأس المال العالمي. ولعله بعد عمليات التدويل المختلفة التي خاضها العالم، وظهور النظام العالمي الجديد والشركات متعددة الجنسيات، زادت تبعية المال اليهودي وتناقصت مقدرة الرأسمالي من أعضاء الجماعات اليهودية على التحكم في رأس ماله.
وكل هذا لا ينفي ما يلي:
1 ـ أن هناك رقعة من الحرية للرأسمال اليهودي يتحرك فيها، خصوصاً إذا تماثلت الظروف.
2 ـ أن كثيراً من القرارات السياسية التي اتخذها غير اليهود كانت تَصدُر عن الإيمان بوجود هذا المال اليهودي، ومن ثم أخذه صانع القرار في الحسبان وهو يتخذ قراره، أي أن المال اليهودي (في هذه الحالة) عنصر مؤثر تأثيراً لا يتناسب بتاتاً مع قوته الفعلية.
العجز اليهودي (بسبب انعدام السيادة وعدم المشاركة في السلطة (
Jewish Powerlessness(3/77)
«العجز بسبب انعدام السيادة وعدم المشاركة في السلطة» عبارة ظهرت مؤخراً في الأدبيات الصهيونية وغيرها، وهي عبارة تحاول أن تفسر المسألة اليهودية على أنها تتلخص في افتقار اليهود إلى السيادة القومية وعدم مشاركتهم في صنع القرار. وتعود هذه الحالة (حسب التصور الصهيوني) إلى عام 70م عندما قام تيتوس بهدم الهيكل رمز السيادة القومية وأصبح اليهود جماعات مشتتة ليست لها سيادة قومية مستقلة، يوجد أعضاؤها خارج نطاق مؤسسات صنع القرار بعيداً عن أية سلطة، وبالتالي أصبحوا غير متحكمين في مصيرهم. ويستند هذا النموذج التفسيري إلى عدة افتراضات اختزالية من بينها تَصوُّر أن العبرانيين القدامى والعبرانيين اليهود، أي اليهود حتى عام 70م، كانوا يمارسون سيادة قومية كاملة. وهذا أمر مشكوك فيه. فلقد كان العبرانيون ـ حسب ما وصلنا من معلومات - أقناناً أو عبيداً أو قبائل رحلاً. وبعد التسلل العبراني في كنعان، ظل العبرانيون جيوباً متفرقة لا تمتلك كثيراً من السيادة القومية. والاستثناء الوحيد من هذه الصورة العامة هو حكم كلٍّ من داود وسليمان (المملكة العبرانية المتحدة) الذي لم يدم أكثر من أربعين عاماً بسبب الغياب المؤقت للقوى العظمى في الشرق الأدنى القديم. ثم ظهرت الدويلتان العبرانيتان اللتان كانتا تتبعان في سياستهما إما آشور وبابل أو مصر أو آرام دمشق. وقد دام حكم الحشمونيين فترة قصيرة لا تزيد على مائة عام، بدأت بتوقيع معاهدة مع روما (القوة العظمى الصاعدة) وانتهت بتَدخُّل بومبي في تعيين الملك الحشموني.
ويفترض هذا النموذج التفسيري أيضاً وحدة المصير اليهودي ووحدة أعضاء الجماعات. وهذا أمر يتناقض تماماً مع الحقائق التاريخية، فقد كان مصير كل جماعة يهودية يتحدد بآليات وحركيات التشكيل الحضاري والسياسي الذي تواجدت داخله.(3/78)
ويُنكر هذا النموذج التفسيري أن أعضاء الجماعات اليهودية كانوا في كثير من الفترات، شأنهم شأن أعضاء الجماعات الدينية والإثنية الأخرى، يشاركون في السلطة من خلال المؤسسات التقليدية للحكم. فالمجتمعات التقليدية كان لها نظامها الخاص في تقسيم السلطة بحيث تسيطر السلطة الحاكمة على الجيش والسياسة الدولية. أما الشئون الأخرى، وضمنها الأمن الداخلي، فكان تسييرها يتم عن طريق مؤسسات الإدارة الذاتية.
ثم يفترض هذا النموذج التفسيري وجود إدارة وسيادة يهودية مستقلة، وهو افتراض خاطئ تماماً. ففي العصر الحديث، يشارك أعضاء الجماعات، منفردين أو مجتمعين، في السلطة وفي صنع القرار من خلال مؤسسات الدولة الحديثة (البرلمانات والأحزاب السياسية) . فعلى سبيل المثال، يُعدُّ تعيين هنري كيسنجر وزيراً للخارجية الأمريكية، وهو من أهم المناصب السياسية في العصر الحديث، تعبيراً عن هذا الشكل من أشكال المشاركة في السلطة. وبالمثل فإن اللوبي الصهيوني شكل آخر لهذه المشاركة؛ حيث يشكل بعض أعضاء الجماعة اليهودية قوة ضغط داخل الكونجرس الأمريكي تقوم بممارسة الضغط لصالح الدولة الصهيونية. وهذه هي إحدى الآليات الأساسية للنظام السياسي الديموقراطي في الغرب.
وسيجد الدارس المدقق لهذا النموذج التفسيري أن المفكرين الصهاينة، ومعظمهم من أصول إشكنازية شرق أوربية، حين يتحدثون عن العجز بسبب انعدام السيادة وعدم المشاركة في السلطة، إنما يفكرون في تجربة أعضاء الجماعات اليهودية في أوربا ابتداءً من العصور الوسطى حتى بداية القرن الحالي. ولذا، فإن المقولة تحمل شيئاً من الصحة إن تَحدَّد مجالها الدلالي على هذا النحو.(3/79)
ومن المعروف أن أعضاء الجماعات اليهودية في العصور الوسطى في الغرب، كانوا تجاراً ومرابين وأقنان بلاط وأرندا ويهود بلاط، وكلها أشكال مختلفة من أنماط الجماعة الوظيفية، وكانوا كذلك قريبين دائماً من الحاكم ملتصقين به، كما كانوا يشكلون أدواته الطيعة في عملية الاستغلال وامتصاص فائض القيمة من الجماهير. ولكنهم، مع هذا، لم يشاركوا في صنع القرار، فقد كانوا منبتي الصلة بالجماهير وتعوزهم القوة العسكرية، وهذا ما جعلهم في حالة عجز واعتماد كامل على الحاكم الذي كانت ثقته بهم تتزايد لأنهم لا يشكلون أية خطورة عليه بسبب عجزهم عن الاستيلاء على السلطة أو لعدم وجود أساس من القوة يؤهلهم للمطالبة بنصيب فيها.
وقد طرحت الصهيونية نفسها على أنها الحركة التي ستحل هذه الإشكالية وتضع نهاية لعجز اليهود وعدم مشاركتهم في السلطة عن طريق تأسيس دولة يهودية مستقلة ذات سيادة. وذلك على اعتبار أنه، مهما تكن مشاركة أعضاء الجماعات في صنع القرار، فإن هذا القرار يظل في النهاية غير يهودي، ويظل اليهودي بالتالي مهدداً في أية لحظة بسحب البساط من تحت قدميه. وفي هذا المقام، يُشار دائماً إلى ألمانيا النازية حيث كان كثير من يهود ألمانيا يشغلون، حتى ظهور النازية (عام 1933) ، مناصب حكومية وسياسية قيادية. وينسى الصهاينة أن النظام السياسي الألماني لم يَحرم أعضاء الجماعات اليهودية وحدهم من المشاركة في السلطة، فقد حَرَم قطاعات كبيرة من الشعب الألماني والشعوب الأخرى التي سيطرت عليها القوات الألمانية من أية سلطة أو إرادة مستقلة.(3/80)
والأهم من ذلك كله أن الاستعمار الصهيوني كان استعماراً عميلاً منذ بداية الاستيطان، كما أن شرعيته لم تكن تستند إلى قوة اليهود أو إلى حركة جماهيرية وإنما استندت إلى وعد أصدرته القوة الإمبراطورية الصاعدة في الشرق وإلى الضمانات العسكرية التي قدَّمتها، أي أن النمط الذي ساد أوربا حتى القرن التاسع عشر، داخل التشكيل السياسي الغربي، عاد وأكد نفسه بحيث أصبح المستوطنون الصهاينة عنصراً قريباً من القوة الإمبريالية الحاكمة لصيقاً بها، ولكن القرار الخاص بالسياسة الاستعمارية الدولية ظل من اختصاص الحاكم الإمبريالي، أي أن الصهاينة أسسوا في نهاية الأمر دولة وظيفية ليست لها إرادة مستقلة؛ بل وعاجزة عن البقاء والحركة بدون الدعم الإمبريالي.
لكن الدولة، بعد إنشائها، تمتعت بشيء من الاستقلال النسبي نتيجة تَصارُع القوى الإمبريالية فيما بينها على مناطق النفوذ في الشرق الأوسط. ومع صعود قوة الولايات المتحدة وتزايد اعتماد المستوطن الصهيوني على الدعم الأمريكي، تناقص الاستقلال اليهودي وتضاءل تحكم الإسرائيليين في مصيرهم، وأصبحت المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية تتخذ قراراتها وعيونها على الممول الموجود في واشنطن. ومن المتوقع أن يزداد هذا الاتجاه مع تزايد الرفض العربي للمُستوطَن الصهيوني.(3/81)
وقد وجدت إشكالية العجز طريقها إلى التفكير الديني اليهودي، فيذهب ريتشارد روبنشتاين إلى أن اليهودية الحاخامية قد ولَّدت لدى اليهود استعداداً كامناً للاستسلام والخنوع والخضوع والعجز. ولا يمكن تفسير تعاون المجالس اليهودية في أوربا مع القوات النازية واشتراكها في تسليم اليهود إلى النازي إلا بالتراث الحاخامي الذي يجعل من العجز والسلبية فضيلة. أما إرفنج جرينبرج، فقد ساهم في تطوير ما يُسمَّى «لاهوت البقاء» الذي يجعل الحصول على السيادة هدف التاريخ اليهودي الزمني والمقدَّس، ويجعل دستور إسرائيل كتاب إسرائيل المقدَّس، ويجعل دولة إسرائيل التجسد الحقيقي لهدف التاريخ اليهودي (تيلوس) .
وتجدر ملاحظة أن مصطلح «عجز اليهود» يُستخدَم في الكتابات الدينية، وخصوصاً الأرثوذكسية، للإشارة إلى أن اليهود شعب مختار ذو صلة خاصة بالإله، وأن هذه العلاقة الخاصة تجعله يقف خارج التاريخ ليشهد على الأمم، ولذا فإنه لابد أن يظل خارج نطاق السلطة والسيادة. والمصطلح، في هذا السياق، لا يحمل أية تضمينات قدحية، بل العكس هو الصحيح إذ أن العجز هنا يصبح علامة من علامات الاختيار.(3/82)
الباب الثالث: إشكالية العبقرية والجريمة اليهودية
العبقرية اليهودية
The Jewish Genius
كلمة «عبقرية» تعني مجموعة من السمات الخاصة لا تفترض بالضرورة تَميُّزاً أو علواً مثلما نقول «عبقرية المكان» حيث لكل مكان عبقريته الخاصة، أو «عبقرية اللغة الإنجليزية» حيث لكل لغة عبقريتها الخاصة. وحينما تُستخدَم العبارة بهذا المعنى في الكتابات الصهيونية (أو غيرها) كأن يُقال «العبقرية اليهودية» ، فهي تشير عادةً إلى «الخصوصية اليهودية» (انظر: «الخصوصية اليهودية» ) . ولكن هذا الاستعمال نادر، والاستعمال الشائع هو أن تشير كلمة «عبقرية» إلى درجة من درجات التَميُّز إلى جانب الخصوصية. وعبارة «العبقرية اليهودية» تفترض وجود عبقرية يهودية مستقلة، وأن العباقرة اليهود يتمتعون باستقلال عما حولهم، وأن وجودهم مؤشر على تَميُّز اليهود ككل، ولذا نجد حديثاً مستفيضاً عن فضل العباقرة اليهود على الحضارة الإنسانية وعن زيادة عددهم بالنسبة للعباقرة من الشعوب والأقليات الأخرى.
لكن الحديث عن «العبقرية اليهودية» لا يختلف بنيوياً، في واقع الأمر، عن حديث المعادين لليهود عن «الجريمة اليهودية» أو عن «عبقرية اليهود المتأصلة في ارتكاب الموبقات والسرقة والفساد» . فالحديث عن العبقرية اليهودية، تماماً مثل الحديث عن الجريمة اليهودية، يَصدُر عن تَصوُّر أن اليهودي «يهودي» وحسب أو يهودي بالدرجة الأولى ثم أمريكي أو روسي بالدرجة الثانية أو الثالثة، وأن ما يحدد سلوكه (عبقريته في الخير والشر) هو البُعد اليهودي في وجدانه ورؤيته. كما يتفق الصهاينة والمعادون لليهود على اختزال اليهودي وتجريده من أي سياق اجتماعي أو تاريخي أو إنساني وعلى وضعه على هامش التاريخ أو خارجه، حيث يقف ليساهم فيه بعبقرية فذة، أو يحاول تخريبه بكل ما أوتي من قوة ودهاء وحيلة وعبقرية إجرامية.(3/83)
ولو نظرنا إلى العباقرة اليهود، بعد أن نضعهم في سياقهم التاريخي المتعيِّن، سنكتشف على الفور أن مقولة «العبقرية اليهودية» لا تملك مقدرة تفسيرية عالية. وسيظهر قصورها التفسيري حينما نسأل عن تلك السمات "اليهودية المشتركة" بين عباقرة مثل فيلون (الفيلسوف الذي عاش في العصر الهيليني) ، وشعراء العرب اليهود (في الجاهلية) ، وموسى بن ميمون (المفكر الديني اليهودي الذي عاش في العالم الإسلامي في القرن الحادي عشر) ، وفرويد (المفكر النمساوي اليهودي الذي عاش في أواخر القرن التاسع عشر) ، وشاجال (الفنان التشكيلي الذي عاش معظم حياته في النصف الأول من القرن العشرين) ، وبرنارد مالامود (الروائي الأمريكي الذي عاش في النصف الثاني من القرن العشرين) . والإجابة الوحيدة هي أن مثل هذه السمات المشتركة غير موجودة. وإن اكتشف أحد عناصر يهودية مشتركة بين كل هؤلاء العباقرة، فإن تصنيفهم على أنهم يهود بالدرجة الأولى لا يفيد كثيراً في فَهْم فكرهم أو طبيعة مساهمتهم في التراث الإنساني. فيهوديتهم المشتركة ليست ذات مقدرة تفسيرية أو تصنيفية عالية، ولابد لنا أن نعود إلى التقاليد الحضارية والظروف التاريخية التي شكلت فكر ووجدان كل واحد منهم حتى يتسنى لنا الإحاطة بها. فموسى بن ميمون كاتب عربي أندلسي كان يؤمن باليهودية وتفاعُل مع التراث العربي الإسلامي. ومن خلال هذا التفاعُل نضجت عبقريته العربية، ولم تكن اليهودية سوى أحد العناصر في تكوين هذه العبقرية (وحتى هذه اليهودية كانت قد اصطبغت بصبغة إسلامية) . وقصص برنارد مالامود تنتمي إلى التراث الأدبي الأمريكي لأن كاتب هذه القصص تأثر بتقاليد هذا الأدب وأتقن اللغة الإنجليزية الأمريكية وكتب روايات أمريكية تعالج موضوعات أمريكية يهودية. وحين صرح شاجال ذات مرة لمجلة تايم بأنه غير مهتم باليهودية، قامت الدنيا ولم تَقعُد، وأرسل كثير من القراء برسائل احتجاج أوضحوا فيها تأثُّر شاجال باليهودية(3/84)
الحسيدية. وقد يكون هذا أمراً صحيحاً، ولكن شاجال يظل نتاج الحركات الفنية في أوربا في القرن العشرين، وبخاصة في روسيا وفرنسا. وقد تكون لبعض لوحاته نكهة حسيدية، خصوصاً أنها تعالج موضوعات يهودية مثل التوراة والحاخام، ولكنها تظل مع هذا لوحات رسمها فنان روسي فرنسي متأثر وبعمق بالتراث المسيحي!
وإذا ما تركنا مجال الفنون والإنسانيات، يصبح الحديث عن العبقرية اليهودية عبثاً وهراء لا طائل من ورائه. فبأي معنى يمكننا أن نقول إن نظرية النسبية قد تَوصَّل إليها أينشتاين من خلال عبقريته اليهودية، وكأن أينشتاين كان من الممكن أن يصل إلى ما وصل إليه من اكتشافات باهرة دون جهود من سبقه من علماء مسيحيين وبوذيين؟ وهل كان من الممكن أن يصل إلى ما وصل إليه من اكتشافات دون وجوده داخل الحضارة الغربية الحديثة؟ وإلا فبماذا نفسر عدم ظهور علماء طبيعة متفوقين تَفوُّق أينشتاين بين يهود الفلاشاه الإثيوبيين؟
ويُلاحَظ أن نسبة المتعلمين والمخترعين بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الغربي مرتفعة. ولكن هذا أمر طبيعي وينطبق على كل أعضاء الأقليات في أي مكان حينما تتاح أمامهم الفرصة. لكن أعضاء الأقلية يخضعون، مع ذلك، في معظم الأحيان إن لم يكن كلها، لدرجة تَقدُّم وتَخلُّف المجتمع الذي يعيشون بين ظهرانيه، فإن تَقدَّم تَقدَّموا وإن تخلف صاروا متخلفين. ولذا لم يكن هناك عباقرة يهود بين العرب إبَّان فترات الانحلال في الحضارة العربية حين أُغْلقَت فيها الحلقات الفقهية والمدارس التلمودية العليا في العراق بسبب انتكاس الحضارة العربية، بينما ازدهر الفكر العربي اليهودي في الأندلس بسبب ازدهارها.(3/85)
وحتى لو رصدنا العبقرية اليهودية بشكل مطلق، كما يفعل الصهاينة، فإننا سنكتشف أن العبرانيين وأعضاء الجماعات اليهودية، لم يلعبوا دوراً كبيراً في خلق الحضارة الإنسانية. فحينما ظهر العبرانيون على مسرح التاريخ منذ عام 1200 ق. م. رعاةً رُحَّلاً، كانت الإمبراطورية الفرعونية في مصر قد شيدت مئات المعابد والأهرامات والسدود، وكان الفن المعماري وعلوم الفلك المصريان قد وصلا إلى قمم شامخة. وحينما تأسست المملكة العبرانية المُوحَّدة على يدي داود وسليمان، لم تكن هذه المملكة سوى مملكة صغيرة ازدهرت في غياب القوى الإمبراطورية العظمى في الشرق الأدنى القديم، واعتمدت حضارياً على الدول والأقوام المجاورة اعتماداً كاملاً. أما في مجال الأدب والفن والفكر، فلا توجد أية مساهمة حقيقية من جانب العبرانيين في تراث العالم القديم، ولا نسمع عن عباقرة يهود في فن الهندسة المعمارية (على سبيل المثال) . ولا يأتي ذكر اليهود في الكتابات اليونانية أو الرومانية إلا بوصفهم شحاذين ومصدر ضيق لكُتَّاب مثل شيشرون. وإذا نظرنا إلى الحضارة العربية إبَّان فترة نهضتها، فإننا نجد أن دور اليهود كان مقصوراً بالدرجة الأولى على الترجمة والنقل من اللغات الأجنبية. وقد دفعهم اضطلاعهم بوظيفة الجماعة الوظيفية الوسيطة التي يعمل أعضاؤها بالتجارة الدولية في العالم القديم إلى معرفة العديد من اللغات، كما جعلهم ناقلين لحضارات الآخرين. ولم يكن يوجد شاعر كبير أو مفكر فلسفي عربي مشهور يعتنق اليهودية، فكنت ترى بينهم الأطباء والصيادلة والتجار حيث ظلوا مرتبطين بالإنتاج اليومي المادي، ولكن لم يُوجَد بينهم الفنانون أو المفكرون. وبعد أن انتقل مركز الحضارة إلى الغرب، ظل الأمر على ما كان عليه. ففي شرق أوربا، التي كانت تضم غالبية يهود العالم (يهود اليديشية) ، ظلت الجماعات اليهودية غارقة حتى أذنيها في التأملات القبَّالية. وكانت الحياة العقلية في الجيتو منفصلة(3/86)
عن العالم الخارجي، هذا في الوقت الذي كانت أوربا تعيش عصر نهضتها. ولذا لا نجد في أدب وحضارة العصور الوسطى أو عصر النهضة مفكراً أو رساماً أو أديباً يهودياً واحداً شهيراً. بل إن المفكرين اليهود الذين ظهروا خلال هذه الفترات الطويلة، مثل الحاخام عقيبا أو راشي أو موسى بن ميمون، كانوا مهتمين بأمور دينية يهودية ذات أهمية إنسانية محدودة. كما نعرف أنهم كانوا بلا ثقَل يُذكَر داخل مجتمعاتهم، فموسى بن ميمون لم يكن معروفاً باعتباره مفكراً دينياً، وإنما باعتباره طبيباً ومؤلف كتب في الطب وحسب. وما من شك في أن اقتصار نشاط اليهود على نشاطات إنسانية معيَّنة دون غيرها أمر طبيعي للغاية من أقلية تلعب دور الجماعة الوظيفية الوسيطة المنعزلة اقتصادياً ووجدانياً بسبب وظيفتها.
ونحن لا نسمع عن العباقرة اليهود إلا مع بدايات ظهور الرأسمالية والعلمانية. وربما لم يكن من قبيل المصادفة أن إسبينوزا، أول فيلسوف يهودي غربي في العصر الحديث، ظهر في هولندا مهد الرأسمالية الحديثة. ومما له دلالة بالمثل ظهور إسبينوزا من بين اليهود السفارد المتمتعين بمستوى حضاري مرتفع بسبب احتكاكهم بالحضارة الإسلامية، على عكس اليهود الإشكناز الذين تَدنَّى وضْعُهم الحضاري داخل الحضارة المسيحية. وقد كان إسبينوزا أيضاً من أوائل المفكرين العلمانيين الذين طرحوا انتماءهم اليهودي جانباً، فلم يكن إبداعه وبروزه نتيجة انتمائه اليهودي، وإنما تم هذا الإبداع وذلك البروز رغماً عن هذا الانتماء وبسبب رفضه (وذلك مع عدم إنكار أن التراث اليهودي القبَّالي لعب دوراً مهماً في تحديد معالم فكره أو في تأكيد الواحدية المادية الكونية والاتساق الهندسي عنده واللذين يشكلان جوهر نسقه الفلسفي) .
العباقرة من أعضاء الجماعات اليهودية
Geniuses from the Jewish Communities(3/87)
ظل العباقرة من أعضاء الجماعات اليهودية يساهمون في بناء الحضارة الأوربية باعتبارهم أوربيين علمانيين أولاً وأخيراً، أي أن يهودية العبقري لم تكن العنصر الأساسي في إسهامه. وقد زادت هذه المساهمة بازدياد انتشار القيم الليبرالية ثم الثورية في الغرب والشرق، إذ أن هذه القيم فتحت المجال أمام أعضاء الجماعات اليهودية.
ونحن لا نُنكر أثر البُعد اليهودي في تكوين العبقري اليهودي، فأثر القبَّالاه اللوريانية واضح تماماً على تفكير إسبينوزا وفرويد وجاك دريدا فيلسوف التفكيكية. كما نرى أن للمدرسة التفكيكية (في النقد والفلسفة) علاقة قوية بمدارس التفسير الدينية اليهودية، وأن اليهودية بوصفها تركيباً جيولوجياً تحوي داخلها عناصر كثيرة متناقضة (بعضها عبثي وبعضها عدمي أو غنوصي) تتيح للعبقري اليهودي استعداداً كامناً (أكثر من غيره) لاكتشاف مثل هذه التيارات في المجتمع والتعبير عنها بطريقة مباشرة. كما أن البُعد الحلولي الكموني القوي في اليهودية ولَّد استعداداً كامناً قوياً لدى أعضاء الجماعات اليهودية لتَقبُّل المنظومة العلمانية (وهي منظومة حلولية كمونية) . ولكن يجب أن نشير أيضاً إلى أن البُعد اليهودي ذاته هو نتاج تفاعل اليهود مع ما حولهم من حضارات، فالغنوصية هي حركة سادت الشرق الأدنى القديم وتأثرت بها اليهودية. كما أن العبقري اليهودي قد يكون لديه استعداد كامن لاكتشاف شيء ما، لكن هذا الشيء سيظل جزءاً من تشكيل حضاري غير يهودي، بمعنى أن الحركيات النهائية هي حركيات الحضارة التي يعيش فيها اليهودي. فمهما كان علم فرويد مثلاً بتراث القبَّالاه، لا يمكن تَخيُّل أن بوسعه التوصل إلى نظرياته وهو في اليمن (التي يعرف حاخاماتها القبَّالاه اللوريانية بطريقة تفوق فرويد وحاخامات أوربا في عصره) . ففرويد هو نتاج مجتمع فيينا في أواخر القرن التاسع عشر بكل ما كان يحويه من إبداع وانحلال وتركيب وتَخثُّر.(3/88)
ويُلاحَظ أن بعض المؤلفين والرسامين اليهود في الحضارة الغربية بدأوا، منذ نهاية القرن التاسع عشر، في تناول مضامين يهودية في أدبهم وفنهم. ولكن مثل هؤلاء لا يختلفون البتة عن المؤلفين غير اليهود الذين يتناولون مضامين يهودية، ذلك أن طريقة التناول ـ بكل مزاياها وعيوبها ـ تظل جزءاً من التشكيل الحضاري الغربي. إن سول بيلو وفيليب روث ـ وكلاهما كاتب أمريكي يهودي ـ يتناولان شخصيات أمريكية يهودية، إلا أن أدبهما لا يمكن أن يُصنَّف أدباً يهودياً، وعبقريتهما لا تُصنَّف كعبقرية يهودية إذ يظل هذا الأدب أدباً أمريكياً مكتوباً بالإنجليزية، ينتمي إلى التراث الأدبي الأمريكي ولا يمكن فهمه خارج هذا التراث، وتظل عبقريتهما نتاج تفاعلهما مع محيطهما الحضاري. وهما في هذا لا يختلفان عن جيمس جويس في رواية يوليسيس حينما جعل أحد أبطال روايته يهودياً، ومع هذا لم يصنفها أحد باعتبارها من عيون الأدب اليهودي، شأنها في هذا شأن رائعة شكسبير تاجر البندقية.
وفيما يتصل بالعبقريات التي تنتجها إسرائيل، فإن الأمر يتوقف على جنسية العبقري، فإن كان هذا العبقري إسرائيلياً فهو تعبير عن العبقرية الإسرائيلية، أما إذا كان من أصل روسي أو ألماني فهو عبقري روسي أو ألماني، أي أن العبقرية اليهودية تظل مقولة مجردة لا وجود لها إلا بين صفحات الكتب الصهيونية أو المعادية لليهود. وبدلاً من ذلك، يتعيَّن علىنا أن نتحدث عن «عباقرة يؤمنون بالدين اليهودي» ، أو عن «عباقرة ذوي بعد إثني يهودي» ، وينتمون إلى الحضارات الإنسانية المختلفة في مختلف الأماكن والأزمان.
ومن الأمور الجديرة بالدراسة نسبة العباقرة بين الإسرائيليين ومدى اختلافها عن مثيلتها بين الدول التي حققت معدلات التحديث والتصنيع والتقدم التكنولوجي والعلمي نفسها. وكل المؤشرات تدل على أنها غير مختلفة على الإطلاق، وإن كان الأمر يحتاج إلى مزيد من الدراسة.
بروز اليهود وتَميُّزهم(3/89)
Jewish Eminence and Distinctiveness
جاء في المعاجم العربية «تميَّز الشيء» بمعنى «بدا فضله وانفصل عن غيره» ، و «برز بروزاً» بمعنى «فاق الآخرين في فضل أو علم» ، و «برَّز الشيء» معناها «أظهره وبيَّنه» . ومن الموضوعات الأساسية التي تتواتر في الكتابات الصهيونية والمعادية لليهود، موضوع «بروز أعضاء الجماعات اليهودية وتَميُّزهم» في كثير من مجالات النشاط والمعرفة الإنسانيتين بنسبة تفوق بمراحل نسبتهم إلى عدد السكان في المجتمعات التي يعيشون في كنفها. ودارس تواريخ أعضاء الجماعات اليهودية سيجد قرائن على كلٍّ من البروز الإيجابي والتميز في الخير والإبداع، والبروز المشين والتميز في الشر والهدم والإجرام. أما البروز الإيجابي، فعليه من الأدلة الكثير، مثل: كثرة عدد العباقرة والمهنيين بين أعضاء الجماعات اليهودية، ونسبة التعليم المرتفعة بينهم، وارتفاع دخولهم. أما البروز المشين، فهناك أيضاً مؤشرات كثيرة عليه، مثل: اشتغال أعضاء الجماعات اليهودية بالربا عبر العصور الوسطى في الغرب بل واحتكار هذه المهنة في بعض المناطق، واشتغالهم بتجارة الرقيق في القرنين السابع عشر والثامن عشر. ثم اشتغال أعضاء الجماعات اليهودية في القرن التاسع عشر، بتقطير الخمور والاتجار فيها، وتهريب البضائع والرقيق الأبيض، وبكثير من الأعمال الطفيلية غير المنتجة.(3/90)
ويُلاحَظ أن أي مؤشر على بروزهم الإيجابي قد يُعدُّ مؤشراً على بروزهم المشين، فالثراء (وهو عادةً مؤشر على حركية الإنسان وذكائه) يُعتبَر من منظور آخر دليلاً على عدم الانتماء وعلى الرغبة في الثروة وفي مراكمتها دون أية تحفظات أخلاقية. كما أن التميُّز الوظيفي لليهود هو أيضاً من علامات البروز الإيجابي والمشين، بل إن الجيتو ذاته كان علامة من علامات البروز، إذ كان اليهود يسعون للحصول على إذن بإقامته والإقامة فيه ليتمتعوا داخله بالمزايا الممنوحة للجماعة اليهودية والمقصورة عليهم وليعزلهم عن بقية السكان الأمر الذي يُيسِّر لهم إدارة مؤسساتهم الدينية والقضائية والتربوية الخاصة. ولكن الجيتو أصبح بالتدريج هو المكان الذي يتعيَّن عليهم البقاء فيه، وهكذا تحوَّل من ميزة إلى قيد.(3/91)
ويذهب كثير من الدارسين إلى أن بروز بعض أعضاء الجماعات اليهودية من أهم الأسباب التي تجلب عليهم عداء أعضاء الأغلبية من غير اليهود؛ وهو تعميم متعسف. فقد كان البروز يؤدي أحياناً إلى مثل هذه النتائج، كما حدث في ألمانيا النازية. ولكن، في إسبانيا الإسلامية أو أمريكا العلمانية، لم يؤد البروز والتميز إلى أي عنف أو تمييز ضد أعضاء الجماعة اليهودية. أما في بولندا، خصوصاً في أوكرانيا التي ضمت من منظور التطورات التاريخية اللاحقة أهم الجماعات اليهودية عبر التاريخ، فإن بروزهم قد أدَّى دون شك إلى استجلاب السخط عليهم لا بسبب البروز في حد ذاته وإنما بسبب طبيعته، إذ أن أعضاء الجماعة اليهودية كانوا قريبين من الطبقة الحاكمة عملاء لها، في إطار الإقطاع الاستيطاني البولندي في أوكرانيا، وبذا أصبحوا عنصراً استيطانياً تجارياً يمثل الأرستقراطية البولندية في وسط فلاحي، وعنصراً يهودياً ينوب عن عنصر كاثوليكي في وسط أرثوذكسي أوكراني، يتحدثون اليديشية أو البولندية في وسط يتحدث الأوكرانية، أثرياء في وسط من الفقراء والمعدمين. وقد تَحوَّل أعضاء الجماعة اليهودية إلى أداة يمسك بها النبلاء في وارسو يعتصرون بها الفلاحين. وحينما يكون البروز على المستويات الطبقية والدينية والثقافية، فإن الانفجار الشعبي يكون ساحقاً ماحقاً، وهذا ما حدث مع انتفاضة شميلنكي.(3/92)
وقد يتشابك التَميُّز المشين مع التَميُّز الإيجابي، فمع نهاية القرن التاسع عشر كان يهود البلاد الغربية قد حققوا صعوداً طبقياً ومكانة اجتماعية عالية وهو ما يعني تَميُّزاً يهودياً إيجابياً. ثم وصل يهود اليديشية، وكانوا متخلفين فقراء تتفشى بينهم الأمراض الاجتماعية المختلفة كما تَفشَّى التعصب الديني، وكان هذا يعني تَميُّزاً يهودياً مشيناً، وحدث تَشابُك بين الجماعتين أدَّى إلى إحساس المجموعة الأولى بالحرج ثم إلى فَزَعها. ومن هنا فقد كان من أهداف الصهيونية أن تُبقي ليهود الغرب تميزهم الإيجابي، وأن تُريحهم من يهود اليديشية بتَميُّزهم المشين عن طريق توطينهم في فلسطين.
ويحاول الصهاينة تفسير بروز وتميُّز بعض أعضاء الجماعات اليهودية على أساس طبيعة اليهود والخصوصية اليهودية والجوهر اليهودي والعبقرية اليهودية، وهو منطق خطر للغاية لأن البروز والتميُّز اليهودي الإيجابي إن فُسِّر على أساس الطبيعة اليهودية، فلابد من تفسير البروز والتميز المشين على الأساس نفسه أيضاً. وهذا ما لا يحجم عنه أعداء اليهود بل وبعض الصهاينة (خصوصاً العماليين) .(3/93)
ويُلاحَظ أن اليهودي الذي يحقق اندماجاً في مجتمعه ويسلك سلوك الآخرين، لا يرصد أحد سلوكه باعتباره سلوكاً عادياً. ولكن حينما ينخرط بعض أعضاء الجماعات اليهودية في أنشطة مشينة أو متطرفة كأن يصبحوا أعضاء في جماعات ثورية أو ماسونية أو يحققوا قدراً عالياً من الثراء، فإن أعداء اليهود يتجاهلون اليهود العاديين والفقراء ويتناسون العباقرة من أعضاء الجماعات اليهودية ويرصدون بعناية فائقة الأنشطة المشينة وحدها. وحينما يحقق البعض الآخر من أعضاء الجماعات اليهودية بروزاً إيجابياً، فإن الصهاينة يؤكدون ذلك ويستبعدون كلاً من اليهود العاديين وهؤلاء الذين حققوا بروزاً مشيناً. وربما إذا أُخضعت الظاهرة للدراسة الإحصائية المتأنية لاكتشفنا أن بروز اليهود في الخير والشر إنما هو خاضع لآليات اجتماعية ليسوا مسئولين عنها، وأن نسبة المتطرفين بينهم، في الخير والشر، قد لا تختلف كثيراً عن النسبة السائدة في المجتمع، أو عن النسبة السائدة بين أعضاء الأقليات على وجه العموم في أي مجتمع.(3/94)
ومما يُظهر عدد اليهود المتميِّزين أكثر من حقيقته أن دارسي الجماعات اليهودية ينظرون إليهم كما لو كانوا يُشكِّلون كلاًّ واحداً. ومن هذا المنظور، فإن يهود اليمن والولايات المتحدة والصين وإثيوبيا وجنوب أفريقيا وجنوب أمريكا، كلهم يهود في نهاية الأمر. ومن هنا، فإن البحث عن البارزين فيهم داخل أية جماعة يتم دون أية دراسة إحصائية تبيِّن العلاقة بين نسبة هؤلاء البارزين إلى المعدل السائد في كل مجتمع. كما يتجاهل الدارسون أن تَركُّز اليهود في قطاعات وعلوم بعينها يؤدي إلى كثرة البارزين فيها (مهنة الطب والعلوم الطبيعة وعالم التجارة والموسيقى وعلم الاجتماع) . ولكن هذا يعني أيضاً غيابهم عن قطاعات وعلوم أخرى كثيرة أو ندرتهم فيها. كما أنهم يتجاهلون اللحظة التاريخية، فبروز اليهود في مجتمع ما في لحظة تاريخية معينة لا يعني بالضرورة بروزهم الدائم في كل زمان ومكان.
ويتبنَّى أعداء اليهود منهجاً مماثلاً، فهم يركزون على اليهود الذين حققوا بروزاً مشيناً في بعض المجتمعات، وكأن جميع اليهود يُكوِّنون كلاًّ واحداً ولا يقارنون نسبة اليهود الذين حققوا مثل هذا البروز قياساً إلى المعدل الإحصائي السائد في المجتمع، كما أنهم يهملون أخيراً اليهود الذين حققوا بروزاً إيجابياً. ونحن نذهب إلى أن أعضاء الجماعات اليهودية يحققون البروز والتميز داخل الحضارة التي يعيشون في كنفها وبسبب عناصر موجودة داخلها لا على الرغم منها. وتعود معدلات إبداعهم (وإجرامهم) لا إلى التراث اليهودي وإنما إلى العناصر الحضارية والاجتماعية التي تكوِّن محيطهم الحضاري والاجتماعي.
ويمكننا أن نحاول رصد أسباب بروز وتَميُّز أعضاء الجماعات اليهودية، مقسمين الأسباب إلى قسمين: أسباب عامة تسري على أعضاء معظم الأقليات في العالم، وأخرى مقصورة على اليهود في الحضارة الغربية الحديثة. ولنبدأ بالأسباب العامة:(3/95)
1 ـ يتسم أعضاء الأقليات في جميع المجتمعات بشيء من البروز نظراً لاختلافهم في بعض النواحي أو في كثير منها عن أعضاء المجتمع.
2 ـ يتميَّز أعضاء الأقليات في المجتمعات التقليدية، بل وأحياناً في المجتمعات الحديثة، تَميُّزاً وظيفياً إذ يضطلعون بوظائف دون غيرها.
3 ـ يسكن أعضاء الأقليات في المجتمعات التقليدية في أماكن مقصورة عليهم وهو ما يساعد على هذا البروز، وقد قطن أعضاء الجماعات اليهودية في الجيتو.
4 ـ تتسم المجتمعات الغربية بأنها مجتمعات لا تضم أقليات كثيرة، وذلك على عكس المجتمعات الشرقية الفسيفسائية، ولذا فإن أقلية تكاد تكون وحيدة مثل الأقلية اليهودية تحقق بروزاً غير عادي.
5 ـ لا شك في أن من يوجد في المدينة يحقق بروزاً لا يحققه عادةً من يكون في الريف، وقد تركزت الغالبية الساحقة من يهود العالم الغربي في العصر الحديث في المدن.
6 ـ ولا شك أيضاً في أن ارتباط أعضاء إحدى الأقليات بالطبقات الحاكمة يساهم في زيادة بروزهم، وقد ارتبط أعضاء الجماعات اليهودية في العصر الوسيط في الغرب بالطبقات الحاكمة.
7 ـ يكون أعضاء الأقليات دائماً واقعين تحت ضغط نفسي يدفعهم إلى إثبات تفوقهم أمام أنفسهم وأمام الآخرين، ومن ثم فهم يجتهدون في أن يُساهموا في الإبداع الحضاري بدرجة تزيد عن المعدل السائد في المجتمع. ولذا يُلاحَظ في معظم الأحيان أن نسبة المتعلمين والمخترعين (في قطاعات معيَّنة) من بين أعضاء الأقليات مرتفعة نوعاً (ويُلاحَظ الشيء نفسه بالنسبة للإجرام والانحراف) .
8 ـ عضو الأقلية عادةً ما تكون لديه عقلية نقدية في رؤيته للمجتمع (بسبب عدم إحساسه الكامل بالأمن والاستقرار) ، وهو ينظر لمنظومة المجتمع الدينية والقيمية نظرة شك. وهذه النظرة النقدية الحادة تخلق تربة خصبة للإبداع التفكيكي، وربما التركيبي أيضاً.
9 ـ عضو الأقلية يتسم بروح الريادة وبالحركية، الأمر الذي يجعله سبَّاقاً إلى الخير والشر.(3/96)
أما بروز أعضاء الجماعات اليهودية وتَميُّزهم داخل الحضارة الغربية على وجه التحديد فيمكن تفسير كثير من جوانبه من خلال مُركَّب من الأسباب والنماذج التفسيرية المترابطة:
1 ـ يُلاحَظ ارتباط تَميُّز أعضاء الجماعات اليهودية بتَصاعُد معدلات العلمنة في المجتمع. وليس من قبيل الصدفة أن أول عبقري يهودي حقق تَميُّزاً وبروزاً لا داخل سياقه اليهودي وإنما داخل سياق الحضارة الغربية ككل هو إسبينوزا، فيلسوف الحلولية والكمونية. ويمكن القول بأن العباقرة اليهود في الغرب الحديث يحققون التميز والبروز لا بمقدار تعبيرهم عن يهوديتهم وإنما بمقدار تخليهم عنها. ولعل أصدق شاهد على هذا هو إسبينوزا نفسه الذي حقق بروزه وتَميُّزه بمقدار ابتعاده عن اليهودية، ثم تبعه ماركس وفرويد وأينشتاين وكلهم يهود ملحدون، أي يهود غير يهود، تبرأوا من يهوديتهم.
ويمكن القول بأن الجماعات اليهودية في أوربا كانت تُعَدُّ، مع اندلاع الثورة الفرنسية، أكثر قطاعات المجتمع تَخلُّفاً وهامشية. إلا أن معظم يهود العالم الغربي كانوا مع انتصاف القرن من أكثر القطاعات علمانية وحداثة. وقد تبعهم وبسرعة يهود اليديشية من شرق أوربا، سواء من بقي منهم داخل الاتحاد السوفيتي أو من هاجر منهم إلي الولايات المتحدة.(3/97)
2 ـ يُلاحَظ أن علمنة النخب اليهودية (قيادات اليهود الثقافية) تمت بسرعة فائقة وبشكل كامل وجذري، كما تمت علمنة الجماهير اليهودية بشكل كامل وقاس وفجائي ومخطط من قبَل الدول المطلقة المختلفة (الدولة الفرنسية أو النمساوية أو الروسية) . واستمرت هذه العملية حتى بعد أن حكمت هذه الدول نظم ليبرالية أو ثورية. وقد أدَّى هذا إلى انقطاع واضح بين انتمائهم الديني وتراثهم من ناحية، ووجودهم في العصر الحديث من الناحية الأخرى، ولذا فإنهم لم يحتفظوا بقيمهم الدينية التقليدية إلى جانب الرؤية العلمانية التي اكتسبوها. ويُلاحَظ كذلك أنهم لم يحتفظوا بأية رواسب دينية من خلال الرموز العلمانية ذات الأصول المسيحية، إذ أنهم لا يشتركون أصلاً في هذه الرموز باعتبارهم يهوداً. كما أن غالبية أعضاء الجماعات اليهودية في غرب أوربا وجميع يهود الولايات المتحدة وكندا وأمريكا اللاتينية، عناصر مهاجرة، وبالتالي فهم عناصر حركية متحررة من القيم والمطلقات تبحث عن الحراك الاجتماعي.(3/98)
وقد أدَّى كل هذا إلى علمنة اليهود بشكل حاد وبمعدل يفوق معدلات العلمنة بين معظم قطاعات المجتمع الأخرى. ولذا، أصبح أعضاء الجماعات اليهودية من أكثر العناصر تَحرُّراً من القيم التقليدية وغير التقليدية في المجتمعات الغربية، وأصبح الإنسان اليهودي في الغرب هو الإنسان الحديث بشكل نماذجي متبلور، لا انتماء له ولا جذور، لا يشعر بحرمة أي شيء وينزع القداسة عن الإنسان والعالم. ومن ثم أصبح أعضاء الجماعات اليهودية من أكثر العناصر مقدرة على التحرك في المجتمع العلماني الحديث وأصبح لديهم من الكفاءات اللازمة للتعامل مع المجتمع العلماني الجديد أكثر مما لدى بقية أعضاء هذا المجتمع من المسيحيين أو حتى العلمانيين ذوي الجذور المسيحية، فاستطاعوا أن يحققوا بروزاً وصعوداً بدرجة تفوق ما يحققه أقرانهم من القطاعات البشرية الأخرى في المجتمع، ولكنه صعود من يستطيع أن يسبح مع التيار بكل قوة، لا أن يسبح ضده فيعوقه ويصده.
وقد لاحَظ أحد وزراء داخلية روسيا القيصرية وجود اليهود بأعداد كبيرة في الحركات الثورية، فبيَّن له أحد الحاخامات أن الشباب اليهودي كان بعيداً كل البعد عن الحركات الثورية والفوضوية حينما كان يتلقى تعليماً دينياً تقليدياً، وأن هذه الظاهرة لم تَبرُز إلا بعد أن انخرطوا في المدارس العلمانية التي أسسها القياصرة.(3/99)
3 ـ ويمكن أن نضيف إلى هذا أن اليهود كانوا يشكلون جماعة وظيفية وسيطة في المجتمع الغربي لعدة قرون، فأصبحت سمات الجماعة الوظيفية من سماتهم الأساسية. ويوجد أعضاء هذه الجماعات داخل المجتمع وخارجه في وقت واحد، فهم على هامشه لا يخضعون لقوانينه، ولكن عليهم التعامل معه، ولذا كان عليهم أن يفهموا هذه القوانين، حيث إن علاقاتهم بالمجتمع علاقات موضوعية غير حميمة، فهم ينظرون إلى المجتمع بطريقة تحليلية تفكيكية تعاقدية نقدية، وخصوصاً أنهم من القرب بحيث يمكنهم فهم آلياته، كما أنهم بعيدون بقدر يُمكِّنهم من الاحتفاظ بالمسافة النقدية. وأعضاء الجماعات الوظيفية هم من أولى القطاعات في المجتمع التي تتم علمنتها وتجريدها من القداسة، وصبغها بالصبغة الموضوعية. وبالتالي، فإن أعضاء الجماعات الوظيفية الوسيطة هم أول من يحمل الفكر العلماني النفعي الدنيوي وينشره ويذيعه.
4 ـ يُقال إن النزعة المشيحانيّة عند اليهود، والتي أخذت شكلاً علمانياً عند المثقفين اليهود الغربيين، تساهم في إضعاف الأواصر التي تربط بين اليهودي وبين المعطيات التاريخية والاجتماعية، الأمر الذي يجعله أكثر رفضاً للمجتمعات التي يوجد فيها، وأشد عمقاً في نقده لها، وأكثر موضوعية. ويُلاحَظ أن المثقفين اليهود من أكثر العناصر تطرفاً في الحركات الثورية والفوضوية والعدمية (تروتسكي ـ روزا لوكسمبورج ... إلخ) .(3/100)
5 ـ ويمكننا هنا أن نحاول تقديم فرضية تلقي بعض الضوء على بروز المثقفين اليهود في الحضارة العلمانية، وهذه الفرضية تستخدم نموذج الحلولية الكمونية (وتَصاعُد معدلاتها داخل النسق الديني اليهودي وداخل الحضارة الغربية) لتفسير هذا التَميُّز. ويمكن القول أن ثمة تشابها بنيويا شبه كامله بين وحدة الوجود الروحية (لا موجود إلا هو، أي الإله) ووحدة الوجود المادية (لا موجود إلا هي، أي المادة) . وهنا، فإننا نذهب إلى أن بروز المثقفين اليهود في الحضارة الغربية بدأ حينما بدأت هذه الحضارة في تَبنِّي أنساق فكرية حلولية كمونية (البروتستانتية - النزعة الإنسانية الهيومانية - النزعة العقلانية المادية) . فهؤلاء المثقفون اليهود، بخلفيتهم الحلولية، وبإنكارهم إمكانية تجاوز المادة كانوا مهيئين بشكل كامل لامتلاك ناصية الخطاب الحضاري العلماني، ومن ثم تحقيق البروز من خلاله. ولعل الأهمية المركزية لإسبينوزا تتضح من خلال هذا النموذج التحليلي. فهو أول مثقف يهودي حقق بروزاً واضحاً في العصر الحديث، ويعود هذا إلى أنه ربط بين النسقين الحلوليين، الروحي والمادي، وعادل بين الإلهي والطبيعي، ومن ثم فقد عَلْمَن الحلولية تماماً وجعلها تصب في الأنساق المادية والعلمية.(3/101)
6 ـ يُلاحَظ أيضاً تَركُّز اليهود في حقل الإعلام، خصوصاً في الصحافة والإذاعة، وهو ما جعلهم في موقع يُمكِّنهم من تسليط الأضواء على الأنشطة التي يقومون بها وإعطائها من الأهمية ما تستحق وربما أكثر مما تستحق. كما أن اليهود الجدد متمركزون في المدن، وهي مراكز صنع القرار في كل أنحاء العالم. فضلاً عن أنهم بانتقالهم إلى الضواحي لم يبعدوا كثيراً عن هذه المراكز، إذ أن معظم أعضاء النخبة في الولايات المتحدة يوجدون في هذه الضواحي. ويمكن أن نضيف أيضاً أن ارتفاع دخل المواطن الأمريكي اليهودي بالنسبة إلى المعدل القومي قد زاد من بروزهم، وكذلك تمركزهم في بعض المهن البارزة، مثل الطب والجامعات والمراكز العلمية.
7 ـ ويجب التأكيد ـ كما أسلفنا ـ على أن بروز المثقفين اليهود في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لا يعود إلى أنهم يهود، بل إلى أنهم أمريكيون يوجدون داخل الحضارة الغربية، وهي الحضارة المهيمنة على معظم المصادر الطبيعية في العالم، والتي نجحت في تأسيس بنيتها التحتية، وبالتالي بإمكان أي شخص ينتمي إليها أن يُحقِّق كل إمكانياته الفكرية والإبداعية.
كما أن الحضارة الغربية، بسبب هيمنتها على معظم أرجاء العالم، تنسب لنفسها صفة العالمية وتسلط عليها الأضواء. والمفكرون البارزون من أعضاء الجماعات اليهودية يتمتعون بهذه المزايا. ولعل ظاهرة العرب من أصل مصري أو لبناني أو فلسطيني وغيرهم (فاروق الباز ـ إدوارد سعيد) ممن يُحقِّقون بروزاً في الحضارة الغربية تُلقي بعض الضوء على الظاهرة نفسها بين أعضاء الجماعات اليهودية. فلو قُدِّر لهؤلاء البقاء في بلادهم فلربما أُجْهضَت إمكاناتهم بسبب الحدود المادية. وربما حتى لو تحققت إمكاناتهم لما وُصفت بالعالمية ولما سُلطت عليها الأضواء.(3/102)
هذه هي بعض العناصر التي تَصلُح في مجملها لتفسير معظم جوانب هذه الظاهرة. ومع هذا يجب ألا نَسقُط في الاختزالية والواحدية بألا نعطي أية قدرة تفسيرية للبُعد اليهودي في تَميُّز العباقرة (والمنحرفين) من أعضاء الجماعات اليهودية. وكل ما نفعله هنا هو أننا ننكر على مثل هذا البُعد أية أولوية أو مركزية تفسيرية. فالبُعد اليهودي لا يُفسِّر تَميُّز اليهود وبروزهم ولكنه يُساهم ولا شك في تفسير حدَّته ودرجته ونسبته.
ويمكننا أن نقول إن آليات المجتمع العلماني التي أدَّت إلى بروز اليهود هي ذات الآليات التي قد تؤدي إلى اختفائهم وانصهارهم، فالمجتمع العلماني يزداد ترشيداً وتطبيعاً ويتطلب من أعضائه كافة أن يُعيدوا صياغة ذاتهم حتى تزداد كفاءتهم في الأداء العام، وهو ما يعني ضرورة التخلص من كل الخصوصيات والنتوءات. فإنسان عصر الاستنارة والعقل المادي إنسان عالمي لا يتمتع بأية خصوصية. كما أن عملية الدمج في المجتمع العلماني لا تتم من خلال الدمج بين هويات دينية وإثنية مختلفة وإنما تتم من خلال نزع جميع الهويات أو إخفائها أو تهميشها حتى يكتسب الجميع هوية علمانية عامة تُزيد كفاءتهم في الأداء في رقعة الحياة العامة. وبما أن أعضاء الجماعات اليهودية ليسوا استثناء من القاعدة، فنحن نتنبأ بأن يتزايد اندماجهم وانصهارهم في الغرب إلى أن يختفي بروزهم ويصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الآلة ذات الكفاءة الكبرى.
الجريمة اليهودية
Jewish Crime(3/103)
«الجريمة اليهودية» مصطلح يفترض وجود جرائم ذات خصوصية يهودية (أي جرائم مقصورة على أعضاء الجماعات اليهودية وتتبع نمطاً بعينه وتأخذ أشكالاً بعينها) . ومن ثم، فإن يهودية اليهودي هي النموذج الذي يمكن من خلاله تفسير وتصنيف السلوك الإجرامي لبعض أعضاء الجماعات اليهودية. وحيث إننا لم نعثر على مثل هذا النموذج، فإننا نؤثر استخدام مصطلح «المجرمون من أعضاء الجماعات اليهودية» باعتبار أن النموذج الكامن وراءه ذو مقدرة تفسيرية وتصنيفية أعلى، كما أنه ينطوي على دعوة إلى أن يدرس الباحث كل حالة إجرامية يرتكبها عضو من أعضاء الجماعات اليهودية على حدة، داخل ملابساتها الخاصة وإطارها الحضاري.
ولا يمكننا التحدث عن «الجريمة اليهودية» أو «خصوصية الإجرام اليهودي» تماماً كما لا يمكننا الحديث عن «الجوهر اليهودي» أو عن «التاريخ اليهودي» أو عن «العبقرية اليهودية» ، إذ أن الجماعات اليهودية في العالم لا تعيش تحت ظروف خاصة بها مقصورة عليها. ولذا، فإننا نجد أن معدلات الجريمة بين أعضاء الجماعات اليهودية لا تختلف بشكل جوهري عن المعدل السائد في المجتمع أو بين الأقليات الأخرى في المجتمع. ولذا، فنحن نتحدث عن «المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية» .
المجرمون من أعضاء الجماعات اليهودية
Criminal Elements from Jewish Communities
من المعروف أن النسق الأخلاقي الذي تطرحه العقيدة اليهودية (حينما تكون تعبيراً عن الطبقة التوحيدية الكامنة فيها) يشبه، في كثير من الوجوه، الأنساق الأخلاقية التي تطرحها الديانات السماوية. فالقتل والزنى والسرقة والشذوذ الجنسي والجماع مع المحارم، كلها أمور مُحرَّمة يعاقب عليها القانون الديني. ولتفسير السلوك الإجرامي لأحد أعضاء الجماعات اليهودية، لابد من العودة لحركيات وقيم المجتمع الذي يعيش فيه هذا اليهودي، ولابد من دراسة القوانين الاجتماعية والجنائية والظروف الاقتصادية والعناصر الأخرى كافة.(3/104)
ومع هذا، يمكن ملاحظة أن بعض الأنماط المتكررة يمكن تفسيرها على أساس أن الجماعات اليهودية تُشكِّل أقليات وجماعات وظيفية، علماً بأن أعضاء الأقلية يخضعون عادةً لحركيات المجتمع ولكنهم يشعرون بها بشكل أكثر حدة، كما توجد بينهم دوافع وضوابط مختلفة إلى حدٍّ ما عن تلك التي توجد في المجتمع ككل. ولكن، قبل الاستمرار في الدراسة، تجب الإشارة إلى أن بعض الأرقام الموجودة لدينا غير موثوق فيها بسبب عنصرية النموذج الإحصائي والتفسيري الذي تم بمقتضاه جمع المادة. كما أصبح العكس صحيحاً الآن؛ إذ ترفض كثير من الدول الغربية أن تكشف عن الانتماء الديني أو الإثني للمجرم خوفاً من إشاعة صورة عنصرية كريهة عن أعضاء الأقليات. وبعد هذا التحفظ، يمكن القول بأنه قد لُوحظ، على سبيل المثال، أن نسبة الجريمة بين أعضاء الجماعة اليهودية تكون أحياناً أقل من النسبة العامة في المجتمع، وقد تكون مساوية لها أو أعلى منها، ولكن لكل وضع تفسيره. ويمكن استخدام الأحكام الصادرة ضد أعضاء الجماعة كمؤشر. ولكننا لن نقدِّم هنا عرضاً لأنماط الجريمة بين العبرانيين وأعضاء الأقليات اليهودية عبر التاريخ وفي مختلف المجتمعات، ذلك لأن مثل هذا العرض سيشغل حيزاً ضخماً، إلى جانب أن ما نهدف إلىه في هذا المدخل هو أن نُبيِّن مدى الخصوصية أو العمومية في ظاهرة الجريمة بين أعضاء الجماعات اليهودية. ولهذا، فإننا سنركز على العصر الحديث وحسب.(3/105)
ثمة تباين واضح بين معدل الجريمة بين أعضاء الجماعة اليهودية ومعدلها بين أعضاء مجتمع الأغلبية الذي يعيشون في كنفه، فمعدلات الجريمة بين أعضاء الجماعات اليهودية كانت منخفضة قبل منتصف القرن التاسع عشر ثم أخذت في التزايد بعده إلى أن وصلت إلى معدلات ضخمة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ثم أصبحت معدلات الجريمة بينهم لا تختلف كثيراً عن المعدلات السائدة في المجتمع. ولتفسير هذا التباين، يمكن القول بأن أعضاء الأقلية يتمتعون عادةً بدرجة أعلى من التماسك العائلي والتضامن الاجتماعي، وأن هناك مؤسسات دينية واجتماعية (وهي عادةً مقصورة عليهم) تقوم بعملية الرقابة الداخلية والضبط الاجتماعي والأخلاقي. كما أن أعضاء الأقليات يخضعون دائماً لرقابة شديدة من أعضاء الأغلبية، خصوصاً في فترات التعصب والتمييز العنصري. وهذه الرقابة الخارجية الصارمة من شأنها أن تجعل عضو الأقلية حذراً يراقب سلوكه ولا يُقبل على ارتكاب الجريمة أو التفكير فيها إلا في أضيق الحدود وللضرورة القصوى. ولا شك في أن تَميُّز اليهود مهنياً ووظيفياً كان له دور في ذلك، وكان هذا يعني المزيد من البروز ومن ثم المزيد من الرقابة.(3/106)
لكل ما تَقدَّم، نجد أن تَزايُد انعتاق أعضاء الجماعات اليهودية واندماجهم يؤدي إلى تَزايُد معدل الجريمة بينهم، وهذه مفارقة لاحظها أيضاً دارسو وضع المرأة. فكلما ازدادت مساواة المرأة بالرجل، في الحقوق والواجبات، زاد معدل الإجرام بين النساء، فكأن تحرير المرأة يعني أن تصبح مثل الرجل في الخير والشر، وأن تُتاح أمامها فرص متساوية للخير والشر على حدٍّ سواء. وقد لُوحظ أن معدل الجريمة بين يهود المجر في أوائل القرن العشرين مرتفع عنه بين يهود روسيا مثلاً. ولا يمكن تفسير هذا إلا على أساس أن يهود المجر كانوا أكثر الجماعات اليهودية انعتاقاً واندماجاً. وقد لوحظ أيضاً أن معدل الجريمة بين يهود ألمانيا (الذي كان منخفضاً) تَساوَى تقريباً مع النسبة العامة في المجتمع في الفترة ما بين عامي 1882 و1910، وذلك مع تَزايُد اندماج اليهود وازدياد معدل التعليم بينهم وتَحسُّن وضعهم الاقتصادي. وقد لاحَظ ليتشنسكي أن معدل الأحكام الصادرة ضد يهود النمسا من المتعلمين كان يزيد بواقع 50% مقارناً بمعدل الأحكام الصادرة ضد يهود جاليشيا الفقراء الجهلاء. أما في هولندا، فكان معدل الجريمة بين أعضاء الجماعة اليهودية أقل من المعدل على المستوى القومي في عام 1902. ومع تَزايُد انعتاقهم واندماجهم، أصبح المعدلان متساويين. أما في البلاد العربية، فيُلاحَظ أن معدل الجريمة بين أعضاء الجماعات اليهودية قَلَّ بعد إعلان دولة إسرائيل، ربما بسب زيادة الرقابة وتشديد القبضة عليهم.(3/107)
ولابد أن هناك استثناءات كثيرة من هذا النمط، ففي الولايات المتحدة يُلاحَظ أن معدل الجريمة بين المهاجرين اليهود يصل أحياناً إلى نصف المعدل على المستوى القومي في الجيل الأول ثم يتزايد بالتدريج مع الجيل الثاني، ومع الجيل الثالث يقترب معدل الجريمة من المعدل العام. ومن المعروف أن أعضاء الجيل الثالث في الولايات المتحدة من أبناء المهاجرين هم الذين يصلون إلى معدلات عالية من الاندماج والأمركة بحيث يصبحون أمريكيين مائة في المائة. وهذا النمط ينطبق كذلك على معظم الدول الاستيطانية.
ومع هذا، توجد ظاهرة عكسية وهي أن معدل الجريمة بين العناصر المهاجرة في قطاعات حرفية أو طبقية معينة قد يكون أعلى من نظيره بين أعضاء المجتمع المضيف. كما أن الجماعات المهاجرة تتخصص في أنواع من الجريمة غير معروفة في المجتمع أو كانت موجودة فيه بشكل جنيني وحسب. ويعود هذا إلى أن العناصر المهاجرة هي دائماً عناصر رائدة، وأعضاء الأقلية المهاجرة الباحثون عن الحراك الاجتماعي لا يلتزمون بقيم خلقية ولا يشعرون بالولاء نحو المجتمع الجديد، كما أنهم في العادة شخصيات حركية قادرة على إدراك الثغرات في المجتمع وعلى التسلل منها. وبالفعل، نجد أن جماعات من المهاجرين اليهود كوَّنوا في الثلاثينيات عصابات جريمة منظمة (مافيا) في نيويورك تمارس نشاطات المافيا المختلفة من ابتزاز وتهريب مخدرات واغتيال نظير أجر والبغاء، واستمرت في ذلك حتى الخمسينيات. (وقد كُشف النقاب مؤخراً عن أن عصابات الجريمة المنظمة اليهودية قد دعمت الحركة الصهيونية مالياً وسياسياً، واشتركت في جمع التبرعات لها، بل واستخدمت نفوذها مع بعض حكام أمريكا اللاتينية المتعاونين مع عصابات الجريمة المنظمة لتهريب السلاح للمستوطنين الصهاينة ((3/108)
وقد ظهرت الجريمة المنظمة أيضاً بين المهاجرين اليهود السوفييت والإسرائيليين في الولايات المتحدة، وتُعَدُّ لوس أنجلوس من أهم مراكزها. ولعل تَفشِّي الجريمة بين المهاجرين السوفييت هو أحد الأسباب التي دعت أمريكا لإغلاق أبوابها أمام المزيد من المهاجرين السوفييت. ومن الطريف أن أعضاء هذه العصابات اليهودية قد تخصصوا في ابتزاز أعضاء الجماعة اليهودية إلى جانب ممارسة النشاطات الإجرامية العادية والعامة. ويبدو أن هذه العصابات بدأت تمارس نشاطها في إسرائيل وفي بعض دول الشرق الأوسط. ومن الظواهر التي يجب تسجيلها أيضاً أن أفراد عصابات المافيا في الولايات المتحدة (وهم من أصل إيطالي في العادة) يستعينون في الغالب بمحامين من بين أعضاء الجماعة اليهودية للدفاع عنهم في جرائمهم ولإدارة أعمالهم المشينة.
وقد فوجئ الصهاينة بأن المهاجرين اليهود قادرون على ارتكاب جميع الجرائم الخطيرة مثل القتل والاغتصاب والسرقة في بلدهم. ولكن هذا يعود دون شك إلى إحساس المستوطنين بأنهم مواطنون يتمتعون بكل الحقوق السياسية والضمانات القانونية، ومن ثم تخف عمليات الرقابة الخارجية التي كانوا يخضعون لها كأعضاء أقلية. ومما لا شك فيه أن العقيدة الصهيونية التي تشجع على العنف والاغتصاب تلعب دوراً في استثارة الاستعداد الكامن أو القابلية لدى المستوطنين الصهاينة لارتكاب الجرائم بمعدل يفوق نظيره في المجتمعات الأخرى التي تعيش تحت الظروف نفسها.(3/109)
وداخل هذه الأنماط العامة، يمكننا أن نكتشف نمطاً آخر وهو أن وضع أعضاء الأقليات قد يزيد قابليتهم لارتكاب جرائم دون أخرى. فعلى سبيل المثال، نجد أن أعضاء الجماعات اليهودية يرتكبون الجرائم ضد الملْكية وكذلك جرائم القتل بمعدل أقل من المعدل القومي. وربما يعود هذا إلى مستواهم التعليمي المرتفع وقلة استهلاكهم للمواد الكحولية، وإلى عملية الضبط الاجتماعي التي تمارسها الجماعة مع أعضائها ويمارسها المجتمع مع الجماعة ككل. وعلى أية حال، فالملاحَظ أن معدل الجرائم التي يرتكبها أعضاء الجماعة يرتفع مع تزايد معدلات الاندماج والعلمنة.
ولكن يُلاحَظ أن ثمة جرائم يزيد معدل ارتكابها بين أعضاء الجماعة عن المعدل العام السائد في المجتمع، وهي الجرائم التي يتم فيها انتهاك الحرمات والتي تتطلب من صاحبها التخطيط وإعمال العقل وتحقِّق لمرتكبها عائداً سريعاً (أي تتطلب المهارات نفسها التي يتطلبها الاضطلاع بوظائف الجماعة الوظيفية) . ومن هذه الجرائم ما يُسمَّى «جرائم الآداب» . ففي تونس، كان أعضاء الجماعة اليهودية يمثلون 1.7% من مجموع السكان، ومع ذلك كانت نسبة النساء اليهوديات المسجلات في جرائم الآداب تفوق هذه النسبة كثيراً. وكانت نسبة الأحكام الصادرة ضد أعضاء الجماعة اليهودية في ألمانيا لارتكاب أعمال غير أخلاقية تفوق كثيراً (مرتين ونصف) نسبة الأحكام الصادرة ضد أعضاء الأغلبية.(3/110)
ومن الجرائم المماثلة، جرائم التزييف والغش التجاري. ومن المعروف أن هذه الجرائم انتشرت بين أعضاء الجماعات اليهودية في القرن التاسع عشر في الغرب إلى درجة اضطرت معها الحكومات إلى استصدار تشريعات خاصة. ويبدو أن تَركُّز أعضاء الجماعات اليهودية في القطاع التجاري من المجتمع التقليدي ساعد على ذلك، فهو قطاع لم يكن يعرف نظام الضرائب ولم يكن يرتبط بشبكات الرأسمالية الرشيدة من مصارف ووسائل نقل أو غيرها. ولذا، كان التهرب من الضرائب، وكذلك تهريب البضائع، جزءاً عضوياً من مثل هذا النشاط التجاري، كما أن تَركُّز كثير من أعضاء الجماعات اليهودية في المناطق الحدودية والمدن شجع على هذا الاتجاه. وقد استمر هذا النمط حتى الوقت الحاضر. ويبدو أن لأعضاء الجماعات اليهودية دوراً ملحوظاً في ترويج المخدرات في الولايات المتحدة، كما يوجد عدد لا بأس به من الجواسيس من بين أعضاء الجماعات اليهودية في الدول الغربية.
ويمكن هنا أن نسأل: ما الفعل الإنساني الذي يشكل جريمة؟ فعلى سبيل المثال، تُعَدُّ الثورة ضد نظام مُستغل عملاً بطولياً من منظور الثوار، ولكنها تُعَدُّ جريمة ضد أمن الدولة يعاقب عليها القانون من منظور القائمين على النظام. والعكس صحيح، فدعم نظام مُستغل ظالم جريمة من منظور المدافعين عن العدالة، ولكنه واجب وطني من منظور القائمين على النظام، أي أن مسألة المنظور في غاية الأهمية في دراسة الجريمة.(3/111)
ويمكننا الآن أن نتناول الجرائم المرتبطة بأمن الدولة والنظام العام. ويُلاحَظ أن معدل ارتكاب أعضاء الجماعات اليهودية لمثل هذه الجرائم يتناسب طردياً مع معدل التمييز العنصري ضدهم، ومن ثم فإن الأحكام الصادرة ضدهم تَصلُح مؤشراً على نوعية المعاملة التي يلقاها أعضاء الجماعات اليهودية وعلى معدل الإعتاق والاندماج. ففي منتصف القرن التاسع عشر، كان حوالي 30% من المسجونين السياسيين في روسيا القيصرية من الشباب اليهودي. وفي عام 1907 كان اليهود يشكلون 4% من عدد السكان، ومع هذا نجد أن ما يزيد على 17% من الجرائم التي ارتُكبت ضد أمن الدولة والنظام العام ارتكبها أعضاء في الجماعة اليهودية. وفي بولندا (1924 ـ 1937) ، كان 43.6% من الجرائم التي ارتكبها اليهود جرائم سياسية، وتنخفض النسبة إلى 25% في ألمانيا (1899 ـ 1902) ، وإلى 6.25 في هولندا (1931 ـ 1933) . وقد لوحظ إبَّان الستينيات أن عدد الشبان اليهود في الولايات المتحدة الذين يشتركون في المنظمات اليسارية والتظاهرات يبلغ 30%، بينما كانت نسبتهم إلى عدد السكان لا تزيد عن 2.5%. ولكن هذه النسبة أخذت تتناقص مع زيادة هيمنة الجو المحافظ على يهود الولايات المتحدة.
ويمكن أن ننظر إلى المسألة من جانب آخر، وهو مدى مساعدة أعضاء الجماعات اليهودية للنظم المستغِلة والظالمة، باعتبار أن ذلك أحد أشكال الجريمة. ففي جنوب أفريقيا، في عصر التفرقة اللونية، على سبيل المثال، كان يُلاحَظ وجود أعضاء الجماعة اليهودية بشكل واضح في المؤسسات الأمنية. ويمكن أن نطرح هنا الدعم اليهودي للدولة الصهيونية باعتباره شكلاً من أشكال الإجرام. بل إن زيارة إسرائيل للسياحة، وهي شكل من أشكال الدعم الاقتصادي والمعنوي لها، تشكل دعماً للاستعمار الاستيطاني الذي استولى على أرض فلسطين، ومن ثم يمكن تصنيفها على أنها عمل إجرامي.(3/112)
ويمكن النظر إلى الإجهاض أيضاً باعتباره قضية أخلاقية، فهو قد يكون (كما يرى البعض) حقاً مشروعاً للمرأة (إذا نظرنا إليها كفرد وحسب لا كأم وكائن اجتماعي) ، وقد يكون جريمة يعاقب عليها القانون (إن أُخذ البُعد الاجتماعي والأخلاقي في الاعتبار) . ويُلاحَظ هنا وجود عدد كبير من الأطباء اليهود بين أولئك الذين يجرون عمليات الإجهاض في الولايات المتحدة وفي غيرها من البلاد.
ولابد أن ارتكاب أعضاء الجماعة اليهودية جرائم الغش التجاري والآداب، وهي جرائم بارزة تمس حياة الجماهير الشعبية مباشرة، كان له أكبر الأثر في تغذية الأنماط الإدراكية السلبية التي تستند إليها أدبيات معاداة اليهود. ومما يجدر ذكره أن الأدبيات الصهيونية، بتأكيدها خصوصية اليهود، تَقبَل (نظرياً على الأقل) إمكانية أن تعبِّر هذه الخصوصية عن نفسها من خلال الجريمة اليهودية. ولابد أن نضيف هنا أيضاً أن الصهاينة يرون أن الشخصية اليهودية تصبح شخصية إجرامية مدمرة في المنفى لأنها شخصية مُقتلَعة لا انتماء لها، ومن هنا فإن المفكرين الصهاينة يحذرون دول العالم من وجود اليهود فيها.
ويبدو أن المؤسسة الصهيونية تقوم في الوقت الحاضر بتصدير الجريمة إلى أنحاء العالم. فالشرطة الإسرائيلية تشجع المجرمين على الهجرة إلى خارج إسرائيل كوسيلة للتخلص منهم، فيستقرون في كل أنحاء العالم، خصوصاً في هولندا وألمانيا الغربية حيث يسيطرون على كثير من النشاطات الإجرامية التي من أهمها البغاء. وقد دخلت كلمات عبرية كثيرة على لغة الجريمة في العالم، خصوصاً لغة القوادين السرية في أوربا. ويُقال إن لغة القوادين في أمستردام هي العبرية، ولعلها لغة سرية خليط من الهولندية والعبرية. كذلك تُصدِّر إسرائيل مرتزقة إلى الخارج لتدريب قوات تجار المخدرات في كولومبيا أو حرس بعض رؤساء دول أمريكا اللاتينية.(3/113)
وتوجد الآن مافيا إسرائيلية قوية مركزها لوس أنجلوس، ولكنها منتشرة في كل أرجاء الولايات المتحدة. وقد بدأت هذه العصابات نشاطها بفرض إتاوات على فقراء اليهود (عادةً من بقايا يهود معسكرات الإبادة) ، ثم دخلت عالم المخدرات وجرائم الغش التجاري. ويبلغ عدد أعضاء قيادة المافيا الإسرائيلية نحو 100 عضو. وتعقد سلطات الأمن الأمريكية مؤتمراً قومياً كل عام لمناقشة نشاط المافيا الإسرائيلية.
عتاة المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية في العصر الحديث
Famous Criminals from Jewish Communities in Modern Times
يوجد الكثير من المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية ولا يمكن تفسير تَميُّزهم في الإجرام بناء على يهوديتهم، ولنبدأ بإدوارد ديفيس (1816 ـ 1841) وهو لص أسترالي يهودي وُلد في إنجلترا، وأدين عام 1832 بتهمة السرقة وحُكم عليه بالترحيل إلى أستراليا لمدة سبع سنوات. وفي أستراليا، نجح في الفرار من سجنه عام 1839 وكوَّن عصابة من السجناء الهاربين قامت على مدى عامين بالإغارة على المدن الصغيرة والقرى بقطع الطريق على المسافرين، الأمر الذي أثار الرعب في نفوس الكثيرين. وقد اتخذت هذه العصابة لقب «عصابة الولد اليهودي» . وكان ديفيس يعتبر نفسه «روبين هود أستراليا» ، لأنه كان يسرق من الأغنياء ويعطي الفقراء، كما كان يرفض استخدام العنف إلا دفاعاً عن النفس. وجاءت نهايته بعد أن قتلت عصابته صاحب متجر في إحدى غاراتها، الأمر الذي دفع السلطات لتكثيف البحث عنه. وقد ألقي القبض عليه، وعلى عدد آخر من أفراد عصابته عام 1840، وأدين بتهمة القتل وحُكم عليه بالإعدام.(3/114)
وديفيس ينتمي إلى نمط من اللصوص يمكن تفسيره من خلال دراسة درجة السخط الشعبي والاستقطاب الطبقي، فهو ليس مجرماً بالمعنى المألوف وإنما مجرم يسرق من الأغنياء ليعطي الفقراء. ولكن النمط الأكثر شيوعاً هو المجرم المتميِّز من أعضاء الجماعات اليهودية الذي يمكن تفسير سلوكه باستخدام نموذج العلمانية الشاملة والنيتشوية.
ولنبدأ باثنين من أهم المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية وهما ريتشارد لويب (1905 ـ 1936) وفروينتال ليوبولد (1904 ـ 1975) . كان لويب وليوبولد من خريجي الجامعة، وكانا أيضاً من أبناء الأسر اليهودية الثرية في الولايات المتحدة. وفي عام 1924، قررا أن يرتكبا جريمة بلا دافع فقاما باختطاف صبيّ في الرابعة عشرة من عمره ثم قتلاه. وقد حُكم على أحدهما بالسجن مدى الحياة، وحُكم على الآخر بالسجن لمدة تسعة وتسعين عاماً. وقد قُتل لويب في السجن وأُعفي عن ليوبولد. والجريمة التي ارتكبها لويب وليوبولد ليس لها مضمون يهودي واضح أو كامن، فدوافع المجرمين ليست إنسانية تقليدية، فهما لم يكونا مدفوعين بدوافع اقتصادية (فهما من أعضاء الطبقة الثرية في الولايات المتحدة) أو دوافع جنسية (فهما لم يغتصبا الصبي المخطوف) . ولفهم هذه الجريمة، لابد أن نصنفها على أنها جريمة حديثة تماماً، فمرتكباها افتقدا المعنى في حياتهما الرتيبة وقررا استرجاع شيء من المعنى عن طريق شكل من أشكال الإثارة الشديدة. وقد وجدا الإثارة في ارتكاب جريمة بلا دافع، أي أن الأداء الإجرامي الكفء أصبح غاية في ذاته، فهي جريمة محايدة تتم بلا حب أو كره أو غاية، وهي جريمة كاملة، يفترض فيها أنها من الدقة والإحكام بحيث يستحيل اكتشافها (أي أنها نسق مغلق تماماً) ، وكل هذا تعبير عن رغبة الإنسان الحديث في التحكم الإمبريالي الكامل في كل شيء بحيث يصبح الإنسان إلهاً يُحيي ويُميت دون مكافأة أو عقاب. وفي هذا لذة أيما لذة، فهنا يصبح اللامعنى هو المعنى، ويصبح العبث(3/115)
هو الغاية، وتصبح الصورة المجازية الحاكمة الكبرى هي أن الحياة بأسرها إنما هي لعبة أو مباراة وأن ذَبْح الأطفال إنما هو جزء من هذه اللعبة المسلية.
ويمكن أن نشير أيضاً إلى أرنولد روثشتاين (1882 ـ 1928) ، وهو من رواد الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة. وُلد في نيويورك لعائلة يهودية تجارية متوسطة الحال، واتجه في سن مبكرة إلى القمار ثم المراهنات، ونجح في إقامة أكبر إمبراطورية للقمار في الولايات المتحدة، وامتد نشاطه إلى تهريب الخمور وتجارة المخدرات والابتزاز، ونجح في حماية نفسه وأنشطته الإجرامية من خلال رشوة رجال الأمن والقانون والسياسة ومن خلال استثمار أمواله في بعض الأنشطة المشروعة. وقد تَمتَّع روثشتاين بنفوذ واسع، وأصبح يُلقَّب بـ «قيصر عالم الجريمة» ، وقد تتلمذ على يديه عدد من مشاهير المجرمين الأمريكيين، أمثال مائير لانسكي، والذين تعلموا منه أهمية التعاون والتحالف في عالم الجريمة بغض النظر عن الانتماء الإثني أو الديني. فاللص هنا، مثل الإنسان الطبيعي أو الأممي، لا جذور له ولا حدود، ولا تعوقه أية مطلقات غيبية أو إنسانية. وهو، مثل عضو الجماعة الوظيفية والإنسان الاقتصادي، لا يدين بالولاء إلا لصالح جماعته وما يحققه لها ولنفسه من ربح، «وليس للدولار سوى قومية واحدة ودين واحد وهو الربح» على حد قول روثشتاين، الذي اغتيل في أحد فنادق نيويورك نتيجة خلاف حول سداد دين قمار.
أما لويس بوكالتر «ليبكي» (1897 ـ 1944) فهو أحد زعماء الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة. وُلد في نيويورك لعائلة من المهاجرين اليهود، وانخرط في حياة الإجرام في سن الثامنة عشرة، حيث انضم إلى عصابة من الأحداث تحترف النشل وسرقة الباعة المتجولين. وقد اشتهر بوكالتر باسم «ليبكي» ، وهو الاسم الذي أطلقته عليه والدته ويعني باليديشية «لويس الصغير» .(3/116)
وقد أمضى بوكالتر ثلاثة أعوام في السجن بتهمة السرقة، خرج بعدها ليتزعم عصابة من مائتي مجرم تخصصت في الابتزاز. ولم يكن بوكالتر يؤمن بالتخصص فحسب وإنما بالتنظيم والترشيد أيضاً. وقد استخدمت عصابته جميع أساليب الإرهاب للسيطرة على النقابات العمالية في قطاع صناعة الملابس والمأكولات في نيويورك، ثم ابتزاز أصحاب الأعمال «لحمايتهم» من الإضرابات العمالية. وجمعت علاقة وثيقة بين بوكالتر ومائير لانسكي، وكان من زعماء الإجرام الذين أسسوا الاتحاد القومي للجريمة، والذي تأسس بغرض تنسيق وترشيد النشاط الإجرامي على مستوى الولايات المتحدة. وقد تولى بوكالتر رئاسة الجناح التنفيذي للاتحاد والذي أطلقت عليه الصحافة الأمريكية اسم «شركة القتل المساهمة» لأنه قام تحت إشرافه بتنفيذ مئات الاغتيالات وجرائم القتل.
وفي عام 1933، ألقي القبض على بوكالتر بتهمة مخالفة القانون المناهض للاتحادات الاحتكارية، وحُكم عليه بالسجن والغرامة، إلا أن الحكم تم نقضه وأفرج عنه بكفالة. ثم قُدِّم للمحاكمة مرة أخرى عام 1939 في جريمة مخدرات، وحُكم عليه بالسجن لمدة أربع عشرة سنة. وأثناء ذلك، قُدِّم (عام 1941) للمحاكمة بتهمة جريمة قتل ارتكبها عام 1936 وحُكم عليه بالإعدام. ونُفِّذ فيه الحكم عام 1944.(3/117)
ويمكن أن نشير أيضاً إلى بنجامين سيجل (1906 - 1947) الذي كان أعداؤه يلقبونه باسم «بجزي Bugsy» ، نسبةً إلى البجز (bugs) أي «الحشرات» . وقد كان سيجل أحد زعماء اتحاد الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة. وُلد في نيويورك، وبدأ منذ سن الرابعة عشرة في الانخراط في الأنشطة الإجرامية. وكوَّن عصابة مع مائير لانسكي عُرفت باسم «عصابة بجز ومائير» قامت بحماية الملاهي الليلية نظير إتاوة منتظمة، كما قامت بعمليات السطو المسلح والخطف والقتل بالأجر لحساب عصابات تهريب الخمور. وقد تَورَّط سيجل في عدد من قضايا التهريب والاغتصاب والسرقة والاغتيال، حيث اتُهم بقتل بعض شركائه القدامى. كما اشترك سيجل مع عدد من كبار المجرمين الأمريكيين في تأسيس الاتحاد القومي للجريمة. وفي الثلاثينيات، انتقل سيجل إلى كاليفورنيا للإشراف على عمليات الاتحاد بها كما أشرف على عمليات القمار وتجارة المخدرات، ومد نشاطه إلى مجال السينما حيث قام بعمليات ابتزاز عديدة.
وقد عاش سيجل حياة مُترَفة مع كثير من أصدقائه نجوم السينما، جين هارلو وكلارك جيبل وكاري جرانت وغيرهم. وأثناء الحرب العالمية الثانية، اكتشف سيجل إمكانات ضخمة في القمار المشروع في نيفادا، فاقترض بعض النقود من اتحاد الجريمة وبنى فندق الفلامنجو الضخم في لاس فيجاس، وقد حاول أن يُبقي كل الأرباح لنفسه دون أن يشرك الاتحاد فيها. وكانت فلسفته في الحياة عملية داروينية إذ كان يقول دائماً: «كل ما نفعله هو أن يقتل الواحد منا الآخر» ، وهذا ما حدث له في يونيه 1947 إذ كَلَّف اتحاد الجريمة قاتلاً صوَّب مسدسه إلى رأس سيجل وأفرغ فيه عدداً من الرصاصات.(3/118)
أما فلاتو شارون، فهو من كبار المجرمين الفرنسيين. تهرَّب من الضرائب في فرنسا باللجوء إلى إسرائيل مستفيداً من قانون العودة. ورشح نفسه لعضوية البرلمان (الكنيست) كي يحصل على الحماية البرلمانية، ونجح مرتين في الانتخابات بشراء الأصوات صراحةً وعلانية، حيث موَّل حملته الانتخابية أحد زعماء الجريمة المنظمة. وبعد أن فرّ يعقوب الله كوهين زعيم الجريمة المنظمة في إسرائيل (وهو يهودي من أصل إيراني) إلى البرازيل، تردد اسم فلاتو شارون خلفاً له في الزعامة. ويوجد الآن في إسرائيل عطر ومساحيق تجميل تحمل اسم «فلاتو» ، وهو ما يدل على تغلغل المُثُل الإجرامية في المُستوطَن الصهيوني (ويُلاحَظ أن فلاتو شارون هذا كان شريكاً لعزرا وايزمان في تجارة السلاح مع جنوب أفريقيا) .
واستخدام نموذج الخصوصية اليهودية والعبقرية اليهودية والجريمة اليهودية في تفسير سلوك هذه الشخصيات الإجرامية لا يفيد كثيراً، فقيمته التفسيرية ضئيلة. أما إذا وضعناهم في سياق المجتمع العلماني الحديث الذي يتسم بتَزايُد تهميش القيم الأخلاقية والإنسانية المطلقة وتَصاعُد معدلات النسبية والنيتشوية، فيمكن إلقاء مزيد من الضوء على دوافعهم وسلوكهم.
عباقرة ومجرمون من أعضاء الجماعات اليهودية
Geniuses and Criminals from Jewish Communities(3/119)
في محاولة تفسير عبقرية العباقرة وإجرام المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية، لابد أن يبتعد الدارس عن نموذج الخصوصية اليهودية العالمية. وبدلاً من ذلك يمكن أن نضبط مستوى التعميم والتخصيص للوصول إلى النموذج التفسيري الملائم. ومثل هذا النموذج لابد أن تتم صياغته من خلال دراسة السياق الحضاري والاقتصادي والاجتماعي والديني الذي يوجد فيه العبقري أو المجرم من أعضاء الجماعات اليهودية. وفي المداخل التالية سنحاول أن نطبق هذا المنهج على مجموعة من العباقرة والمجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية عبر التاريخ مثل أينشتاين وتشومسكي ولانسكي، وعلى مجموعة من المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودي في العصر الحديث.
بنيامين التُطيلي (القرن الثاني عشر (
Benjamin of Tudela
رحالة إسباني يهودي في القرن الثاني عشر الميلادي لا نعرف الكثير عن حياته الشخصية. ترك سرقسطة في عام 1160، وقام برحلة استغرقت ما بين خمسة وثلاثة عشر عاماً، زار خلالها نحو ثلاثمائة موضع من بينها: إيطاليا واليونان وكيليكية وفلسطين وبلاد الرافدين وإيران والهند، وعاد ماراً بعدن واليمن ومصر وصقلية. وقد دوَّن بنيامين التُطيلي ملاحظاته في كتابه رحلات الحاخام بنيامين وهي تتضمن عديداً من الروايات والتفاصيل الطريفة والمهمة. وقد انصب اهتمامه على حضارات البلدان التي زارها وعلى الجماعات اليهودية فيها من حيث أسلوب حياتهم ووظائفهم الأساسية وتنظيماتهم الاجتماعية وحياتهم الدينية. كما أورد إحصاءات عن عدد كل جماعة. ويُعَدُّ كتابه من المصادر الفريدة لعدد أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، وإن كانت بعض الأعداد التي يوردها تبدو غامضة أو مبالغاً فيها. وقد تُرجم كتابه إلى معظم اللغات الأوربية وضمنها اللاتينية.
داهية الكاهنة (أوائل القرن الثامن الميلادي (
Dahiya Al-Kahina(3/120)
«داهية الكاهنة» (ويُقال إن اسمها هو «ضميا» أو «ضحيا» ) هي محاربة من قبيلة الجراورة في جبال أوراس في الجنوب الشرقي للجزائر، وهي فرع من قبيلة زناتة البربرية الكبيرة تَهوَّد في القرن السابع بعد الميلاد، أي قبيل الفتوحات الإسلامية بقليل. قادت داهية القبائل البربرية وقامت بصد الزحف الإسلامي عام 688م حين دمرت جيش حسان بن النعمان الغساني واضطرته إلى الانسحاب إلى طرابلس. وكانت الكاهنة تظن أن القوات الإسلامية هي مجرد جماعات من البدو المغيرين الطامعين في الثروة، ولذلك قامت بحرق المدن والحقول حتى يرحلوا. ولكن أفعالها جعلت السكان يجأرون بالشكوى منها ويناصبونها العداء وانفض أتباعها من حولها وانضموا تدريجياً إلى جيش الإسلام. وفي الجولة الثانية مع القوات الإسلامية، يُقال إنها تنبأت بهزيمتها ومقتلها، وبالفعل نشبت المعركة في عام 695 وهُزمت داهية الكاهنة ولقيت حتفها خلالها.
ولا يمكن رؤية مقاومة داهية الكاهنة للزحف الإسلامي باعتباره جزءاً من العداء الأزلي بين المسلمين واليهود ولا يمكن فهمه من خلال نموذج تفسيري يهودي. ففي مناطق أخرى ومدن أخرى ساعد أعضاء الجماعات اليهودية المسلمين. ولذا، يجب أن تُوضَع هذه المقاومة في سياق أكثر عمومية وهو مقاومة القبائل الوثنية للزحف الإسلامي. ونحن لا نعرف كثيراً عن نوع اليهودية التي كانت تتبعها الكاهنة. بل إن بعض المؤرخين يشككون أصلاً في انتمائها اليهودي. لكل هذا يكون الحديث عنها باعتبارها عبقرية يهودية أمراً ليس ذا قيمة تفسيرية تُذكَر.
ابن نغريلة (993-1055 (
Ibn Nagrila
هو صموئيل اللاوي بن يوسف بن نغريلة المشهور بين اليهود باسم «شموئيل هانجيد» . وقد عرفه العرب باسم إسماعيل بن يوسف بن نغريلة. وهو رجل سياسة وشاعر وعالم وقائد عسكري عربي يهودي، ويُعَدُّ أهم شخصية يهودية في الأندلس.(3/121)
وُلد في قرطبة من عائلة غنية، وأتقن العبرية والعربية واللاتينية ولغات البربر، كما درس القرآن الكريم والتوراة والتلمود على يدي حنوخ بن موسى في قرطبة. وكان يُشيع عن نفسه أنه من نسل داود. فرَّ من قرطبة في القرن الحادي عشر الميلادي بعد غزو المرابطين لها وفتح دكان توابل في ملقا، ثم ألحقه الملك حبوس بخدمته حيث عَمل بجمع الضرائب، ثم كاتباً ومساعداً للوزير أبي العباس. وبعد أن أيَّد باديس، في معركته ضد أخيه على العرش، كافأه الملك الجديد وقرَّبه منه وعيَّنه وزيراً له بحيث أصبح ابن نغريله من أهم الشخصيات في المملكة. وحيث إن باديس كان مستغرقاً في لذاته ومسراته، فإن ابن نغريلة كان الحاكم الفعلي، فقاد جيوش غرناطة في معاركها الدائمة مع أشبيلية، وحقق انتصارات عسكرية عديدة فيها.
ألَّف ابن نغريلة عدة كتب في الشريعة اليهودية، من بينها مقدمة للتلمود، وحرَّر معجماً لعبرية التوراة. كما وضع كتاباً يطعن في الإسلام وكتابه الكريم، فرد عليه أبو محمد بن حزم في كتاب سماه الرد على ابن نغريلة اليهودي. ومع هذا، كان ابن نغريلة مندمجاً تماماً في الحضارة العربية الإسلامية، فقلَّد أمراء عصره باجتذاب الشعراء وكوَّن لنفسه حاشية منهم، وكان من بينهم عدد من الشعراء المسلمين. وكان هو نفسه يقرض الشعر باللغتين العربية والعبرية وله عدة دواوين. وتتناول قصائده العبرية موضوعات شتى. وقد طعم الشعر العبري بفنون جديدة اقتبسها من الأدب العربي، كالشعر القصصي والخمريات والغزل ووصف المعارك ووصف الطبيعة والرثاء. كما طرق فنون الشعر العبري التقليدية مثل قصائد البيوط والأدعية. ولم يكن الشعر الذي كتبه ابن نغريلة بالعربية أو بالعبرية متميِّزاً. ومهما كانت طبيعة إنجازاته فلا يمكن تفسيرها إلا من خلال نموذج تفسيري يضعه في سياق الحضارة العربية الإسلامية.
رودريجو لوبيز (1525-1594 (Rodrigo Lopez(3/122)
طبيب برتغالي من يهود المارانو انتقل إلى لندن نحو عام 1559، وتَخلَّى عن الكاثوليكية التي اعتنقتها أسرته منذ ستين عاماً لينضم إلى الكنيسة البروتستانتية الإنجليزية ولكنه ظل على يهوديته في حياته الخاصة. اكتسب سمعة طيبة في مجال الطب نظراً لعبقريته الفائقة في هذا المجال، وأصبح واحداً من أهم أطباء لندن، ودخل في خدمة أحد النبلاء البريطانيين المقربين للملكة إليزابيث، ثم أصبح رئيس أطباء الملكة عام 1586. ويُقال إن لوبيز حصل على احتكار استيراد العديد من السلع، كما منحته الملكة سفينة ملأى بصكوك الغفران أصدرها البابا وكانت في طريقها إلى العالم الجديد لتباع هناك، واستولى عليها الأسطول البريطاني وهي في طريقها. ولعل الملكة منحته حمولة هذه السفينة لأنه يهودي له اتصالات كاثوليكية ومن ثم ليست هناك مشكلة أخلاقية ولا عملية في بيعه هذه السلعة شبه المقدَّسة. ومع هذا، لم ينجح لوبيز في تسويق سلعته.
ولم يقتصر نشاط لوبيز في بلاط الملكة على الطب، إذ اتضحت عبقريته أيضاً في مقدرته على تدبير الخطط والمؤامرات بالاشترك مع وزراء الملكة، وساعدته على ذلك شبكة علاقاته بأقاربه من يهود المارانو في انتورب وليجهورن وإستنبول. فانضم إلى الدائرة البيوريتانية في بلاط الملكة التي كانت تسعى للحرب مع إسبانيا الكاثوليكية، ونجح من خلال شبكة علاقاته في توفير معلومات ساعدت في هزيمة الأسطول الإسباني عام 1588. وقد كان صهره سليمان أبنايس من مؤيدي السياسة البريطانية داخل البلاط التركي، حيث كان يعمل مستشاراً للسلطان. وعمل لوبيز على حث إنجلترا على تأييد دوم أنتونيو المطالب بعرش البرتغال، وساهم في كسب دعم الملكة إليزابيث لخطة تقضي بغزو دوم أنتونيو للبرتغال عام 1589، وهي خطة انتهت بالفشل.(3/123)
ورغم كل ذلك، يبدو أن لوبيز كانت له علاقة مشبوهة بالحكومة الإسبانية. فرغم أن هذه العلاقة تمت بمعرفة الحكومة البريطانية ولصالحها، إلا أنه تبيَّن فيما بعد أنها كانت علاقة ذات أبعاد مريبة وغامضة، أثارت الشكوك حول لوبيز، ويبدو أن هذه العلاقة بدأت مع تَوسُّط لوبيز للإفراج عن أحد عملاء إسبانيا في إنجلترا، والذي كان قد ألقي القبض عليه بعد أن حاول استدراج دوم أنتونيو وإيقاعه في أيدي الإسبان. ومن خلال هذا العميل أبلغ لوبيز الحكومة الإسبانية استعداده للتوسط بينها وبين إنجلترا في التفاوض من أجل السلام. وقد تمت هذه الخطوة على ما يبدو بعلم وزير الخارجية البريطاني بغرض الكشف عن خطط إسبانيا واستدراجها للتخلي عن حذرها. ومع ذلك، اتُخذَت هذه الواقعة فيما بعد دليلاً على تورط لوبيز مع إسبانيا وعمالته لها. وقد فَقَد لوبيز صداقته مع دوم أنتونيو نتيجة توسطه للإفراج عن العميل الإسباني بسبب الخلاف الذي ثار بين دوم أنتونيو وسليمان أبنايس صهر لوبيز، حيث اتهمه دوم أنتونيو بخداع الحكومة البرتغالية والإثراء من ورائها. وقد نجح دوم أنتونيو في الإيقاع بين لوبيز وأحد النبلاء البريطانيين وهو إيرل أوف إسيكس Earl of Essex، وهو ما دفع هذا الأخير للبحث عن دلائل تؤكد عمالة لوبيز لإسبانيا. وبالفعل، نجح إيرل أوف إسيكس في إلقاء القبض على ثلاثة من البرتغاليين من عملاء إسبانيا، وقد تبيَّن من أقوالهم والخطابات التي وُجدت في حوزتهم أن لوبيز كانت له علاقة سرية بإسبانيا بل وكان عميلاً لها يُسرِّب لها المعلومات ويخطط لاغتيال دوم أنتونيو بالسم وإرغام وريثه على الخضوع لملك إسبانيا، وأنه كان يعمل على دفع إنجلترا باتجاه السلام مع إسبانيا.(3/124)
وعند تقديم هذه الأدلة للحكومة البريطانية، لم تتخذ هذه الحكومة أية إجراءات ضد لوبيز، حيث إنها كانت على علم باتصالاته بإسبانيا للأغراض التي سبقت الإشارة إليها. وقد رفضت الملكة إليزابيث هذه الاتهامات. ولكن، في أعقاب ذلك، ظهرت دلائل جديدة تشير إلى أن لوبيز كان يخطط لوضع السم للملكة إليزابيث نفسها، فتم إلقاء القبض عليه. وقد أكد لوبيز في البداية أن علاقته بإسبانيا كانت بغرض الحصول على معلومات لصالح إنجلترا، ولكنه اعترف فيما بعد بأنه وعد بالفعل بوضع السم للملكة، ولكنه في واقع الأمر لم يكن ينوي الإقدام على ذلك. وبرغم أنه سحب هذا الاعتراف فيما بعد، إلا أنه كان كافياً للحكم عليه بالإعدام. وقد لُقِّب لوبيز طوال فترة محاكمته بـ «اليهودي الخسيس» . والتمس لوبيز العفو عدة مرات لدى الملكة إليزابيث، كما تَدخَّل لصالحه سليمان أبنايس ولكن دون جدوى، ونُفِّذ فيه حكم الإعدام عام 1594. وقد نالت قضية لوبيز اهتماماً جماهيرياً واسعاً في إنجلترا، واتخذها بعض الأدباء مادة لأعمالهم، واتخذوا لوبيز نموذجاً لشخصيات روائية مثل مسرحية يهودي من مالطة لمارلو ومسرحية تاجر البندقية، التي يُقال إن شكسبير كتبها نتيجة هذه المحاكمة وأن شخصية المرابي شايلوك اقتُبست عن نموذج لوبيز.
وقد بيَّنت الوثائق التاريخية فيما بعد صحة جوانب كثيرة من الاتهامات الموجهة للوبيز، لكنها بيَّنت أيضاً عدم وجود دلائل قاطعة تؤيد تَورُّطه في مؤامرة لاغتيال الملكة إليزابيث.(3/125)
ولوبيز مثل جيد على العبقرية التي يتداخل فيها الشر مع الخير، والإبداع البناء مع القدرة على التدمير (الإبداع التفكيكي) . وهو شخصية مكيافيللية كاملة كانت توجد بكثرة في بداية عصر النهضة في الغرب، وقد تناولها أدباء العالم الغربي في أعمالهم الأدبية. ولا يمكن تفسير عبقرية لوبيز في الخير والشر بناء على يهوديته، وإن كان انتماؤه ليهود المارانو يُفسِّر بعض الجوانب الخاصة، مثل اتساع نطاق حركته وزيادة مقدراته بسبب شبكة الاتصالات الدولية المارانية ومعرفته بعدد كبير من اللغات.
جوزيف أوبنهايمر (1635-1703 (
Joseph Oppenheimer
يُسمَّى أيضاً «يود سوس» أي «اليهودي سوس» . وهو يهودي بلاط ومموِّل، وُلد في هايدلبرج (ألمانيا) ، لممثل يهودي متجول كان يقوم أيضاً بجمع الضرائب، ويُشاع أنه كان الابن غير الشرعي لفارس ألماني. تلقى في طفولته تعليماً دينياً حتى أصبح حاخاماً، ولكنه آثر العمل في الأمور المالية. ولم يكن مكترثاً كثيراً باليهودية، إلا أنه لم يَتنصَّر على عكس أخويه.(3/126)
ويبيِّن أسلوب حياته مدى عمق التغير الذي طرأ على حياة الجماعات اليهودية في أوربا، أو على الأقل على قيادتها، وهي تغيرات لا تعدو أن تكون صدى للتغيرات التي لحقت بالمجتمعات الغربية. فأوبنهايمر لم يمارس أياً من شعائر اليهودية، إذ كان ربوبياً أي يؤمن بالرب الذي يحل في الطبيعة دون أن يؤمن بأي دين، شأنه شأن الكثير من مثقفي عصر الاستنارة. وكان يحيا حياة كبار نبلاء أوربا إبَّان عصر الملكيات المطلقة ويرتدي زي النبلاء المسيحيين. وكانت مكتبته مُكوَّنة من أعمال ألمانية في السياسة والتاريخ والقانون. وكان له منزل في كلٍّ من فرانكفورت وشتوتجارت على الطراز الأوربي، عُلِّقت على حوائطهما لوحات لرمبرانت وغيره من الفنانين الغربيين. وكان أوبنهايمر إنساناً حديثاً بمعنى الكلمة، طموحاً، يبغي أن يحقق حراكاً اجتماعياً سريعاً. وقد تقدَّم للإمبراطور بطلب الحصول على لقب النبيل، ولكن لم يُستجَب لطلبه. ويبدو أنه كان إنساناً جسمانياً لا يكف عن ملاحقة النساء، سواء كن من طبقة النبلاء أم من الخادمات. ورغم كل هذا، كان أوبنهايمر يتباهى بيهوديته، وهو ما يدل على أنه عرَّفها تعريفاً إثنياً خالياً من أي مضمون أخلاقي، وهو التعريف الذي قُدِّر له الشيوع في العالم الغربي الحديث.(3/127)
عمل أوبنهايمر مع قريبه يهودي البلاط صموئيل أوبنهايمر، وجمع ثروة كبيرة إلى أن أصبح هو نفسه يهودي بلاط (وهي وظيفة تشبه وظيفة وزير المالية أساساً، ولكن يدخل ضمنها أيضاً الشئون الخارجية والمخابرات) حينما أصبح الدوق كارل ألكسندر حاكماً لدوقية ورتمبرج، وكان الدوق كاثوليكياً في حين كانت جماهير دوقيته لوثرية. وكان يود تطوير دوقيته على أسس مركنتالية تجارية ومطلقة، ولكنه كان، في ذات الوقت، يحيا حياة شخصية فاسدة، ولذا نشأت عنده حاجة ماسة إلى المال. ومن هنا كان دور أوبنهايمر الذي كان إنساناً اقتصادياً بمعنى الكلمة يود تعظيم الربح بالنسبة للدولة ولنفسه، وكان يُعدُّ عبقرية في اكتشاف مصادر جديدة للريع. وبعد أن قام الدوق بعزل كل مستشاريه، أصبح أوبنهايمر مستشاره الوحيد تقريباً فبذل قصارى جهده لتقوية قبضة الدولة على كل المصادر المالية عن طريق فرض ضرائب جديدة. كما احتكر بيع الملح والجلد والخمور والتبغ، وأسَّس مصنعاً للخزف وآخر للحرير، وأنشأ داراً لصك النقود، وأقام أول بنك في جنوب ألمانيا. ولم يتوان أوبنهايمر عن توظيف كل من المسيحيين واليهود لتحقيق الربح، فضغط على الكنيسة لتودع أموالها في البنك المركزي، الأمر الذي أثار حقد وغيظ الكنيسة ضده. وقد قام بتوطين جماعة من اليهود في ورتمبرج، وأوكل إليهم حق توريد المعدات الحربية وحقق من خلال ذلك أرباحاً كثيرة.
وقد تَسبَّب فساد الدوق في إفقار جماهير دوقيته وتزايد السخط ضده. وحينما مات الدوق، ألقي القبض في اليوم نفسه على أوبنهايمر الذي دافع عن نفسه بقوله إنه لم يفعل شيئاً دون أمر الدوق، ولكن المحكمة حكمت بإعدامه شنقاً. وقد كُتبت عدة روايات عن حياته. ويشير النازيون في دعايتهم إلى أوبنهايمر باعتباره نموذج المموِّل اليهودي العبقري، ولكن عبقريته من النوع الإجرامي فهو يستغل المسيحيين وينهب أموال الدولة ويُفسد الإناث من جميع الطبقات.(3/128)
وموقف النازيين من اليهود لا يختلف كثيراً عن موقف الصهاينة. فكلاهما ينزع العبقرية اليهودية من سياقها ويؤكد البُعد اليهودي على حساب كل الأبعاد الأخرى. فلا يمكن فهم أوبنهايمر باعتباره يهودياً خالصاً يُعبِّر عن جوهر يهودي، وإنما باعتباره نموذجاً لإنسان العصر الحديث الذي بدأت تتحدد ملامحه منذ عصر النهضة الغربية. فأوبنهايمر ربوبي، يضع نفسه خارج أية منظومة دينية، ولكننا نكتشف أنه ليس ربوبياً وحسب بل كان إنساناً طبيعياً يضع نفسه خارج أية منظومة أخلاقية. فقد كان أوبنهايمر إنساناً اقتصادياً حقيقياً يحاول تعظيم الربح، وإنساناً جسمانياً يحاول تعظيم اللذة، وهو في هذا ليس نموذجاً فريداً على الإطلاق، وإنما شخصية نماذجية: إنسان طبيعي لا تحده حدود أو قيود يعيش حسب قوانين الطبيعة/المادة.
أما يهوديته التي كان يتباهى بها فإنها لم تحدد سلوكه الإجرامي ولا عبقريته المالية، فهو ابن عصره، أداة في يد الدوق/الدولة، لا يختلف في هذا عن أيخمان وبريا وغيرهما من جزاري العصر الحديث البيروقراطيين، الذين يذبحون بمنهجية شديدة وحسبما يَصدُر لهم من تعليمات لا يتجاوزونها.
جيكوب بريير (1715 – 1780)
Jacob Periere
أول معلم للصم البكم في فرنسا. وُلد في إسبانيا عام 1715 لأب من يهود المارانو، وبعد وفاة والده، هربت أمه به إلى مقاطعة بوردو في فرنسا، وهناك أعلن يهوديته. ويُقال إن حب بريير لفتاة بكماء كان وراء محاولاته إيجاد وسيلة للاتصال بالصم البكم.(3/129)
أمضى عشر سنوات في دراسة التشريح والفسيولوجيا وتجريب طرق مختلفة للاتصال بالصم البكم (خلقياً) إلى أن تَمكَّن من اختراع طريقة للاتصال معهم. واعتمدت طريقته هذه في تدريب الصم البكم على إصدار أصوات محددة واضحة وعلى حركة الشفاه وليس على الإشارات كما كان مُتبَعاً من قبل، ومن ثم كان أول من أحرز بعض النجاح معهم. ألهمت طريقته هذه كثيراً من المربين المهتمين بتعليم الصم البكم، ومن أهمهم أدوار سجوين. ولم تقتصر جهود بريير على تعليم الصم البكم، بل عمل الكثير من أجل أن ينالوا معاملة تليق بإنسانيتهم.
وقد ذاعت شهرة بريير، وتلقى كثيراً من الدعوات للتعليم في أنحاء أوربا. وفي عام 1749، قدَّم إلى الأكاديمية الملكية في باريس بحثاً يشرح فيه طريقته في تعليم الصم والبكم. وفي العام الذي يليه نال منحة من الملك لويس الخامس عشر قدرها ثمانمائة جنيه لاختراعه آلة حسابية، كما أصبح عضواً في الجمعية الملكية في لندن عام 1760، ثم عُيِّن مترجماً ملكياً للغتين الإسبانية والبرتغالية عام 1765.
لعب بريير دوراً فعالاً تجاه اليهود السفارد في باريس، حيث تَطوَّع ليعمل كمستشار غير رسمي لهم منذ عام 1749، إلى أن عُيِّن رسمياً في هذا المنصب عام 1761.
وقد تُوفي بريير عام 1780 ودُفن في مدافن لافيليت، بعد أن حصل على قرار بذلك، ومن ثم فإنها تُعتبَر من المدافن القانونية الأولى لليهود في فرنسا. وفي عام 1929، أقيم له نصب تذكاري في البرتغال.
ولم يكتب بريير كثيراً، إلا أن فكره كما نقله سجوين نال اهتمام التربويين في القرن العشرين، وأهم مؤلفاته هو ملاحظات عن الصم البكم.(3/130)
ولا يمكن تفسير اهتمام بريير بالصم والبكم والاتصال بهم على أساس يهوديته. ومع هذا، يمكن الإشارة إلى أن الجماعات الوظيفية لها دائماً لغتها الخاصة، بل وأحياناً لغتها السرية، وهو أمر ينطبق على المارانو ولا شك. واللغة السرية هي لغة خاصة، لا تُفهَم إلا من خلال شفرة خاصة، ولعل من نشأ يتحدث لغة سرية تتولَّد داخله مقدرة غير عادية في تطوير مثل هذه اللغات.
يعقوب صنوع (1839-1912 (
Yaqub Sanu
كاتب عربي مصري يهودي وأحد رواد المسرح المصري والصحافة المصرية الساخرة. كان يعقوب الابن الوحيد لوالديه اللذين فقدا أربعة أولاد بعد ولادتهم، وحينما حملت به أمه نصحتها إحدى صديقاتها المسلمات (كما هو الحال في البيئة المصرية الصميمة في ذلك الوقت) أن تطلب بركة إمام مسجد الشعراني الذي كان يكتب التمائم والتعاويذ والأحجبة. ويَذكُر يعقوب صنوع أن الشيخ قال للأم: «إن ربنا سيبارك ثمرة أحشائك وستُرزَقين بولد» ثم أكمل نبوءته: «وإن نذرتيه للدفاع عن الإسلام فلسوف يعيش، اكسيه من حسنات المؤمنين ليكون متواضعاً، ولسوف يجد ما يريد بفضل بركة خالقه» . وأطاعت المرأة ما أمرها به الشيخ، وأقرها زوجها على أن يَهَب ابنه للإسلام والمسلمين، غير أنه اعترض في أول الأمر على فكرة كساء الطفل المرتقب من حسنات المحسنين، واعتبر في ذلك مهانة لا تليق به، وهو يتمتع بالحظوة لدى البلاط ويستشيره الأمراء في مسائلهم الخاصة (أي أن المكانة الاجتماعية داخل المجتمع المصري عنده كانت أكثر أهمية من الانتماء الديني) . غير أن الزوجة أصرت على أن تلبي نصيحة شيخ الضريح بحذافيرها لتضمن سلامة وليدها حين يرى النور! (اعتمدنا في هذا المدخل بالدرجة الأولى على السيرة التي كتبها الدكتور إبراهيم عبده ليعقوب صنوع وعلى مقال للدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى (.(3/131)
يذكر أبو نظارة أنه حين كبر حفظ القرآن وعاهد والدته على أن يُوفِّي نذرها وأن يُجنِّد نفسه لخدمة الإسلام والمسلمين وأنه جعل رسالته «مكافحة الأباطيل التي تُفرِّق بين المسلمين والمسيحيين، بإظهار سماحة القرآن وحكمة الإنجيل، وهكذا تتسنى لي الملاءمة بين قلوب الفريقين» . ويقول كاتب سيرة يعقوب صنوع الدكتور إبراهيم عبده «إنه لم يشر قط في تاريخه إلى أنه وُلد لأبوين يهوديين» . فإذا أضفنا إلى هذا موقف والده من الانتماء الديني، فإن هذا يعني أن أسرة صنوع كانت مندمجة حضارياً تماماً في المجتمع المصري وأن البُعد اليهودي (حتى من الناحية الدينية الشكلية) كان قد شارف على الاختفاء. وحينما بلغ يعقوب صنوع الثانية عشرة من عمره كان يقرأ التوراة بالعبرية والإنجيل بالإنجليزية والقرآن بالعربية. كما كان قد أجاد عدداً من اللغات منها: العربية والعبرية والتركية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية. ثم أرسل في بعثة دراسية إلى إيطاليا في مدينة ليجهورن (على نفقة الحكومة المصرية) . فمكث ثلاث سنوات درس أثناءها الاقتصاد السياسي والقانون الدولي والعلوم الطبيعية والفنون الجميلة.
ولكن الأهم من هذا أن الحركة القومية الإيطالية (الهادفة إلى التحرر من السيطرة النمساوية وتحقيق الوحدة الإيطالية) كانت آنذاك محتدمة وظهرت جمعيات سرية وطنية مثل الكاربوناري وجمعية إيطاليا الفتاة.(3/132)
ويرى الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى أن يعقوب صنوع قد تَشرَّب كثيراً من هذه الأفكار القومية، إبان إقامته. وعند عودته اشتغل بالتدريس في مدرسة الهندسة، كما قام بتعليم أبناء رجال البلاط. ولكنه لم يقنع بهذه الوظيفة المريحة فشخصيته كانت مبدعة حركية، ففكر في إنشاء مسرح وطني يقدم تمثيليات عربية. وكانت أولى محاولاته المسرحية عام 1869 إذ مثَّل مسرحية فودفيل قصيرة تتخللها أشعار مُلحَّنة تلحيناً شعبياً في القصر أمام باشوات وبكوات البلاط الخديوي الذين ضحكوا للتمثيلية من أعماق قلوبهم. وشجعوه على عرض مسرحياته في حديقة الأزبكية. فألَّف فرقة مسرحية من تلاميذه وكان هو مدير المسرح ومؤلف التمثيليات، كما كان يقوم أحياناً بدور الملقن. وكان يُقدِّم تمثيليات مُترجَمة عن الفرنسية والإنجليزية والإيطالية. وقد أعجب به الخديوي في أول الأمر وخلع عليه لقب «موليير مصر» (ولكنه قام بتعنيفه حينما كتب مسرحية عن تَعدُّد الزوجات (.
ولكن يعقوب صنوع لم يكن يتحرك داخل دائرة البلاط الملكي والمسرح وحسب، إذ بدأ يحتك بالدائرة الفكرية التي تَحلَّقت حول جمال الدين الأفغاني، الذي شجعه هو والشيخ محمد عبده على الكتابة في الصحف، بل وعلى إنشاء صحيفة عربية تُكتَب بالعامية. وحكى لنا يعقوب صنوع كيف وقع اختياره على اسم أبو نظارة. فبعد أن قرر تأسيس مجلة خرج من بيت الأفغاني فأحاط به المكارية (أصحاب الحمير) وكان كل واحد منهم يريد أن يختار يعقوب حماره، ويقول: «ده يا أبو نظارة» ، فأعجبه النداء واختاره اسماً لصحيفته. وقد أعجب بهذا الاسم كثيرون من أصدقاء يعقوب، حيث يوحي بأن صاحبه رجل يرى من بعيد، وفي ذلك ما يعني أنه رجل ملهم (ذو نظر) لا تفوته فائتة. وكانت الصحيفة ذات تَوجُّه اجتماعي ناقد؛ فنددت بزيادة الضرائب والتدخل الأجنبي وهاجمت الوزراء بأسلوب ساخر ملتو ونكات وفكاهات، وشجعت المصريين على الشكوى وبصَّرتهم بحقوقهم.(3/133)
وهنا لابد أن نتوقف عند علاقة يعقوب صنوع بالماسونية، إذ يذكر الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى أن يعقوب صنوع وجمال الدين الأفغاني قد نشطا في التنظيمات الماسونية، وأن هذه التنظيمات لعبت دوراً «في دعم الحركة الوطنية المصرية الوليدة» . وقد بيَّنا في مدخل الماسونية في هذه الموسوعة أنه لا توجد ماسونية واحدة بل عدة ماسونيات. وكانت التنظيمات الماسونية في بلاد أفريقيا وآسيا تضم الأجانب بالدرجة الأولى، حيث كانوا يتمتعون بمزايا وحقوق خاصة وبمساندة القناصل الأوربيين. وقد استخدمت كل دولة أوربية المحفل الماسوني التابع لها كأداة في صراعها الاستعماري بين بعضها البعض. وقد استفاد كثير من زعماء الحركات الوطنية من هذا الوضع، تماماً كما يحدث الآن حين يتمتع زعيم حركة وطنية بدعم فرنسا على سبيل المثال فيُعطَى حق اللجوء السياسي للإقامة في باريس، بل وممارسة نشاطه السياسي. ووجود مثل هذا الزعيم يمثل بالنسبة لدولة المأوى ورقة ضغط في صراعها مع القوى الغربية الأخرى. كما أن هناك دائماً احتمال أن يصل إلى الحكم، ولذا فمن الحكمة أن تَبقَى الجسور مفتوحة معه. وفي هذا الإطار يمكن فهم انضمام يعقوب صنوع والأفغاني لمثل هذه التنظيمات وترحيبها بهما وبغيرهما من المثقفين والسياسيين الثوريين.(3/134)
وقد أدَّى تَوجُّه مجلة أبو نظارة إلى مصادرتها المستمرة ولذا كان يعقوب صنوع يضطر لتغيير اسمها، فهي مرة أبو نظارة ومرة أخرى أبو نظارة زرقاء وثالثة رحلة أبي نظارة زرقاء ورابعة النظارة المصرية. بل وكان يصدر ما يسميه إبراهيم عبده «مجلات الضرورة» (الضرورة التي فرضتها عليه القوانين المتعسفة) فكان يصدر المجلة تلو الأخرى فلا يُغيِّر سوى اسمها، فهي أبو صفارة وحينما أغلقت أبو صفارة ظهرت أبو زمارة التي جاء في افتتاحيتها التي تعبِّر عن روح الدعابة المصرية ما يلي: «بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أنبيائه أجمعين. أما بعد فيقول العبد الحقير أبو زمارة. لما بلغني بأن صدر أمر من ناظر الخارجية. بقفش وكسر الصفارة. الساعية في استحصال التمدن والحرية. قلت ياربي نور عقلي وفهمي. وانصرني على الواد الأمرد مصطفى فهمي. إللي أمر بتعطيل صفارتي البهية. العزيزة عند الشبان المصرية» .
وحينما أغلقت أبو زمارة صدرت مجلة الحاوي التي وصفها صاحبها بأنها «الحاوي الكاوي إللي يطلَّع من البحر الداوي عجايب النكت للكسلان والغاوي ويرمي الغشاش في الجب الهاوي» .
ويقول الدكتور عبد الرحيم مصطفى إن يعقوب صنوع قام بتأسيس جمعيتين علميتين أدبيتين أطلق على أولاهما اسم «محفل التقدم» ، وعلى الثانية اسم «محفل محبي العلم» وترأسهما بنفسه. وفي هاتين الجمعيتين كانت تُلقَى المحاضرات عن تَقدُّم الآداب والعلوم في أوربا مع الاهتمام بالتاريخ والسياسة والأدب والممارسات التعليمية والإشارة بوجه خاص إلى ما حققته فرنسا وإيطاليا في هذا المضمار. وأشار يعقوب صنوع إلى أنه كان يَحضُر اجتماعات كل من الجمعيتين المسلمون والمسيحيون واليهود، وأن الجمعيتين لقيتا الإقبال من طلبة الأزهر وكبار ضباط الجيش، كما ذهب إلى أنهما هما اللتان وفرتا الإطار فيما بعد لظهور الحزب الوطني (القديم) .(3/135)
وقد أغلقت الجمعيتان ونُفي يعقوب صنوع إلى خارج البلاد عام 1878 فاستقر في باريس إلى آخر حياته. وهناك التقى بأديب إسحاق والأفغاني ومحمد عبده وإبراهيم المويلحي وخليل غانم ثم مصطفى كامل وغيرهم، وواصل دعايته للقضية الوطنية بعد الاحتلال البريطاني، فأصدر العديد من الصحف بالعربية والفرنسية. وأخذ يتنقل في أوربا للدفاع عن وطنه واشترك في الحملات التي شُنَّت على الخديوي إسماعيل والاحتلال البريطاني، وراسل عرابي في منفاه في سيلان، وعبَّر عن ابتهاجه بانتصار اليابانيين على قوة غربية بيضاء مثل روسيا القيصرية.
وقد ظل يعقوب صنوع شأنه شأن كثير من رواد الحركة الوطنية في مصر يتصور أن بعض القوى الغربية (فرنسا على وجه التحديد) يمكنها أن تساعد المصريين ضد الاحتلال الإنجليزي، ولكن خابت آماله عام 1904 بعد توقيع صفقة الاتفاق الودي بين فرنسا وإنجلترا التي تم بمقتضاها حسم التناقضات بين القوتين الاستعماريتين. وقد ظل يعقوب صنوع يُعبِّر عن إعجابه بالسلطان عبد الحميد طيلة عشرين عاماً نتيجة مقاومته الأطماع الأوربية (وكان السلطان يبادله الإعجاب) . ومع هذا رحَّب يعقوب صنوع بدستور 1908 ظناً منه أنه بداية حقيقية للإصلاح وللتصدي للنهم الاستعماري الغربي.
وقد كتب يعقوب صنوع قصيدة بالعربية الفصحى بعنوان «القول الوجيز في دخول الإنجليز» وكيف سلمها الخونة للغزاة جاء فيها:
مصر الفتاة أبو سلطان أسلمها
وإنما أسلم الإسلام بالذهب
هم رأسوه على النواب يرشدهم
فكان نائبه من أكبر النوب
وقد أثارت لهيب النار ندوته
فصار أولى بأن يُدعَى أبا لهب
تبت يداه على ما جاء من عمل
لم يأته خائن في سالف الحقب
ولا يمكن القول بأن القصيدة من عيون الشعر العربي، فهي لا تختلف كثيراً عن مثل هذه القصائد التي تُكتَب في المناسبات وتتبع قوالب لفظية ومجازية جاهزة. ولكن ما يهمنا هنا هو المصطلح العربي الإسلامي الواضح.(3/136)
وتتبدَّى عبقرية يعقوب صنوع بشكل أوضح وأكثر بلورة حين يترك الخطاب البلاغي التقليدي ويستخدم روح الفكاهة المصرية ويُعبِّر عن الشخصية المصرية، كما في مقاله الفكاهي عن الخديوي إسماعيل الذي يتحدث فيه عن «مناقبه» فقال: «وكفاك أنه لا يعرف معروفاً ولا ينكر مُنكَراً. ولا يُوجَد في وقت الصلاة إلا جُنباً. وفي رمضان إلا مُفطراً. نعم يصوم ولكن عن الخيرات. ويستقبل الفجور متلطخاً بنجاسة الفحشاء. فاجر يقتات بالكبائر. ويتَفكَّه بالصغائر. ويروح من مولاه شاكياً ولشيطانه شاكراً، فكأنه عاهد إبليس فلم يَخُن له عهداً، ووعده أن يجد عنده كل معصية فلم يُخلف له وعداً» .
ورغم أن المقال مكتوب بالفصحى إلا أنه كُتب على طريقة كُتَّاب هذه المرحلة، كما أنه يتلاعب بالألفاظ وبترابطها بطريقة تُصعِّد حدة السخرية والفكاهة.
ولكن عبقرية يعقوب صنوع الحقيقية تظهر في استخدامه العامية المصرية للتعبير عن روحه الفكاهية فالخديوي هو «شيخ الحارة» ، والخديوي توفيق هو «توقيف» ، والفلاح المصري هو «أبو الغُلب» وهكذا، وقد أشرنا من قبل إلى افتتاحيات أبو زمارة والحاوي. وتظهر روح الدعابة المصرية في القصيدة الساخرة التي كتبها يعقوب صنوع بعد نشوب الثورة المهدية في السودان والتي يُشيد فيها بشجاعة السودانيين ويُشهِّر بالإنجليز:
يا محلا لنجليزية
أم عين زرقا وشعر أصفر
ياخسارة دالصبية
في جوزها العسكري الأحمر
شفتها امبارح يااسيادي
ماكنش حولها انجليز
فقلت لها ياميليدي (My lady) (1)
جيف مي إي كيس إيف يو بليز (Give me a kiss if you please) (2)
أنا في عرضك وان كيس (One kiss) (3)
قالت جودام بلادي فول (Goddam bloody fool) (4)
بلا فول بلا شعير
ماتتبغدديش علي
أنا ابن المهدي الكبير
احلمي علي شوية
فشفنا المهدي منصور
والجردون في الشق مكتوم
تاني يوم جابوه أسير
في مصيدة سودانية
أمام المهدي الشهير
مع ضباطه لنجليزية(3/137)
) ومعنى العبارات الإنجليزية على التوالي هو: 1) سيدتي ـ 2) أعطيني قبلة واحدة من فضلك ـ 3) قبلة واحدة ـ 4) لعنة الله عليك يا مجنون) . والقصيدة كما نرى مصرية تماماً، تُعبِّر عن الروح الشعبية المصرية أحسن تعبير، في محاولتها استيعاب الآخر المعتدي داخل منظومتها وتحويله إلى مجرد هدف للسخرية.
وحينما هُزمت الثورة المهدية بكَّت يعقوب صنوع المصريين على تَخاذُلهم وسخر من الإنجليز الذين مَثَّلوا بجثة المهدي بعد استرجاع السودان.
والآن، هل يمكن ليهودي خالص، صاحب عبقرية يهودية خالصة أن يأخذ مثل هذه المواقف الفكرية والسياسية، وأن يستخدم الفصحى والعامية بهذه الطريقة، وأن يترجم مواقفه السياسية اللاذعة المعارضة إلى مجموعة من النكت اللاذعة؟ السؤال بطبيعة الحال خطابي غير حقيقي، فلا يمكن أن يفعل هذا إلا مصري عاش في صميم المجتمع المصري (لا في مسامه) وتَشرَّب خطابه الحضاري المصري العربي الإسلامي؛ مصري كتب له إمام المسجد الشعراني حجاباً ونذرته أمه لخدمة الإسلام والمسلمين فعاهد أمه على الوفاء بنذرها، فهو ثمرة رائعة للمجتمع المصري (العربي الإسلامي) بتركيبيته وعراقته وتَسامُحه! ومع هذا لابد أن نشير إلى أن البُعد اليهودي قد يُفسِّر حركية يعقوب صنوع الزائدة وقدرته الفائقة على التحرك داخل تشكيلات حضارية مختلفة واستيعابها وتَعلُّمه العديد من اللغات. ومع هذا يظل انتماؤه إلى مجتمعه المصري العربي المسلم هو العنصر الأكثر تفسيرية.
ويثير أبو نظارة قضية الهوية اليهودية والثقافة اليهودية، إذ تصنفه المراجع الصهيونية باعتباره «مثقفاً يهودياً» وهو تصنيف لا يُفسِّر أياً من الجوانب المهمة من حياته، أدبية كانت أم سياسية، وهي حياة لا تُفهَم في كليتها إلا بالعودة إلى حركيات المجتمع المصري وتقاليد الفكاهة المصرية وحركة التحرر الوطني في مصر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
هاري هوديني (1874-1926 ((3/138)
Harry Houdini
اسمه الأصلي إريك فايز. ساحر استعراضي أمريكي يهودي وُلد في الولايات المتحدة لعائلة يهودية من رجال الدين من أصل مجريّ. التحق في سن مبكرة بالسيرك لتقديم الاستعراضات البهلوانية، ثم انتقل مع عائلته إلى نيويورك حيث بدأ في تقديم الاستعراضات السحرية واتخذ اسم هاري هوديني. وتميَّزت استعراضاته بالإبهار وبالحيل السحرية الفذة وتَخصَّص في عملية الهرب من السلاسل أو الحبال والأماكن المُحكَمة الإغلاق. وقد أصبح هوديني من أكثر مقدمي الاستعراضات شهرة في عصره وأعلاهم أجراً، وقدَّم عروضه في العديد من الدول وأصبح يُشار إليه بلقب «أعظم ساحر في العالم» ، كما ساهم في تأسيس نادي السحرة في لندن وفي تأسيس جمعية السحرة الأمريكيين.
وقد اعتمد هوديني في تقديم عروضه على درايته بعلم الميكانيكا وعلى المؤثرات البارعة وعلى اللياقة البدنية الفائقة. كما اهتم بفضح الدجالين والمشعوذين وتحذير الجمهور ممن يدَّعون امتلاك قدرات خارقة للطبيعة أو اتصالهم بالأرواح. وقد ألَّف كتابين في هذا الشأن: تجار المعجزات وأساليبهم (1920) ، وساحر بين الأرواح (1924) .
ومن الصعب بمكان محاولة تفسير مقدرات هوديني بناءً على انتمائه اليهودي. والتفوق في مجال الرياضة التي تعتمد على القوة العضلية هو إحدى الطرق المفتوحة والسهلة التي يمكن لعضو الأقلية إثبات تَفوُّقه من خلالها، وهو أمر ليس مقصوراً على أعضاء الجماعات اليهودية وحدهم. فمجال الملاكمة في الولايات المتحدة شهد في بداية الأمر تفوق الملاكمين من أصل إيطالي ثم الملاكمين من أصل أفريقي (وأشهرهم محمد علي كلاي) . وانتصار عضو الأقلية في حلبة المصارعة على ممثل الأغلبية يرفع معنويات أعضاء الأقلية بدرجة ملحوظة.
ألبرت أينشتاين (1879-1955)
Albert Einstein(3/139)
عالم طبيعة، ومكتشف نظرية النسبية وحائز على جائزة نوبل. وُلد في ألمانيا ونشأ وتَعلَّم فيها، وعمل بعد تَخرُّجه في مكتب براءات الاختراع بمدينة برن في سويسرا وأصبح مواطناً سويسرياً. تَمكَّن أثناء هذه الفترة من إنجاز عدة أبحاث. وفي عام 1905، نشر دراسات عن: النظرية الخاصة بالنسبية وعلم البصريات، وعُيِّن أستاذاً على أثر ذلك في عدة جامعات بألمانيا. وفي عام 1920، نشر دراسته عن: النسبية العامة والنسبية الخاصة، حيث بيَّن أن مبدأ النسبية ينطبق على الحركة وشرح فكرة البُعد الرابع وانثناء الفراغ.
ويُعَدُّ ألبرت أينشتاين أحد رواد الفيزياء الحديثة، فهو صاحب نظرية النسبية الخاصة التي نجحت في التوصل إلى أساس لعلاج التناقضات بين نظرية نيوتن للحركة ونظرية ماكسويل للحركة الكهرومغناطيسية. وكان من أهم نتائج النسبية الخاصة مفهوم تَداخُل الزمان والمكان وتَرادُف الطاقة والكتلة. وقد تبع ذلك بالنظرية النسبية العامة التي تُعتبَر تعميماً للنسبية الخاصة حيث تتضمن حركة الأجسام تحت تأثير الجاذبية. وبالإضافة إلى نظرية النسبية، ساهم أينشتاين في تطوير النظرية الكمِّية من خلال تفسير التأثير الكهروضوئي. وترتكز النظرية الكمية على مبدأ ازدواجية المادة، وهو أن الجسيم يأخذ أحياناً شكل الموجة وأن الموجة تأخذ أحياناً شكل الجسيم.
وبعد أن فرغ من صياغة النظرية النسبية العامة، انشغل أينشتاين في مسألتين: المسألة الأولى تفنيد مبدأ اللايقين الذي يفترض استحالة دقة قياس نقطة ما وسرعة جسيم في آن واحد من حيث المبدأ (لا من حيث قصور آلات القياس) ، أو بصياغة أخرى: مبدأ استحالة فصل التجربة عن المجرب. والمسألة الثانية هي وضع نظرية عامة واحدة تفسِّر أنواع القوى (التفاعلات) الأولية كافة، ولكنه لم يكن موفقاً في محاولاته هذه.(3/140)
وفي عام 1933، اضطر أينشتاين إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة بعد أن استولى هتلر على السلطة. وأصبح أينشتاين مواطناً أمريكياً، واستمر في بحوثه العلمية. ولكنه كان قد بدأ يدرك أن العلم أصبح مثل حدِّ موسي في يد طفل في الثالثة من عمره، إذ أدَّى امتلاك وسائل الإنتاج العجيبة في تَصوُّره، إلى تزايد القلق والجوع بدلاً من الحرية.
وقد لعب أينشتاين دوراً مهماً في تطوير القنبلة الذرية أثناء الحرب، ولكنه عارض استخدامها بل وطالب بتحريم القنابل الذرية والهيدروجينية. وأثناء الحقبة المكارثية (الإرهابية) طالب أينشتاين العلماء بألا يدلوا بشهادتهم أمام لجان التحقيق. وقد استمر أينشتاين في أبحاثه العلمية حتى وفاته.
وموقف أينشتاين من الإله والدين يستحق بعض التأمل، وهو موقف يشبه موقف كثير من المفكرين العلمانيين الذين فقدوا الإيمان الديني، ولنبدأ بموقفه من الإنسان. لقد أدرك أينشتاين أن الإنسان كيان غريب مليء بالأسرار، فقد صرح ذات مرة أن «قانون الجاذبية غير مسئول عن الحب» ، أي أن القانون الطبيعي لا يُفسِّر الوجود الإنساني، ولكنه اتجه في بعض تصريحاته إلى ما يمكن تسميته «الديانة الإنسانية» فعبَّر عن إعجابه بمقدرة الإنسان على فهم ما حوله، ورأى أن هذه المقدرة شكل من أشكال التفوق اللانهائي على الطبيعة، ومن هنا فإن الإنسان يقع عليه عبء أخلاقي، ولكن مسئوليته الأخلاقية تكون تجاه نفسه وليس تجاه أي إله.(3/141)
بيد أن هذه ليست نهاية القصة، إذ يستمر تأرجحه دون تَوقُّف فيصرح بأن الإله لا يلعب بالعالم، أي أن العالم يتبع نظاماً واضحاً يتجلى من خلال الإرادة الإلهية. ولكن هذا الإله يشبه من بعض النواحي إله إسبينوزا. فهو ليس إلهاً ذا إرادة يحب البشر ويعطف عليهم، يُثيب الناس ويعاقبهم، وإنما هو مبدأ آلي عام. ولكن العَالم الكبير، صاحب نظرية النسبية، يجد أن هذا الموقف لا يُعبِّر عن الحقيقة كلها، ويؤكد أن العلم الحديث ألقى بظلال من الشك على السببية الآلية التي تشكل إطار الرؤية الإسبينوزية الساذجة.
ولم يكن موقف أينشتاين، في بداية حياته على الأقل، رافضاً للصهيونية. فقد نشأ وتعلَّم في ألمانيا. ولذا، فإننا نجد أنه كان يؤمن بفكرة الشعب العضوي، وبأن السمات القومية سمات بيولوجية تُوَّرث وليست سمات ثقافية مكتسبة. وقد صرح أينشتاين بأن اليهودي يظل يهودياً حتى لو تخلى عن دينه، وهذه مقولة أساسية في معاداة اليهود على أساس عرْقي. وليوضح فكرته، شبَّه أينشتاين مثل ذلك اليهودي بالحلزون الذي يظل حلزوناً حتى بعد أن يُسقط محارته. وموقفه من معاداة اليهود، في هذه المرحلة، لا يختلف كثيراً عن موقف الصهيوني، فقد كان يرى أن معاداة اليهود مسألة ستظل موجودة مادام هناك احتكاك بين اليهود والأغيار، بل وأضاف أن اليهود مدينون لأعدائهم بأنهم استمروا عرْقاً مستقلاًّ.
وقد أدلى أينشتاين بتصريح ذي مضمون صهيوني عرْقي، إذ صرح (قبل ظهور النازيين) بأنه ليس مواطناً ألمانياً، ولا حتى مواطناً ألمانياً من أتباع العقيدة اليهودية، وإنما يهودي ويسعده أن يظل يهودياً. وقد عبَّر أينشتاين في عدة مناسبات عن حماسه للمشروع الصهيوني وتأييده له، بل واشترك في عدة نشاطات صهيونية.(3/142)
ولكن موقف أينشتاين هذا لم يكن نهائياً، وربما كان تعبيراً عن عدم نضج سياسي، إذ عَدَل عن هذه المواقف فيما بعد، فقد صرح بأن القومية مرض طفولي، وبأن الطبيعة الأصلية لليهودية تتعارض مع فكرة إنشاء دولة يهودية ذات حدود وجيش وسلطة دنيوية. وأعرب عن مخاوفه من الضرر الداخلي الذي ستتكبده اليهودية، إذا تم تنفيذ البرنامج الصهيوني، فقال: «إن اليهود الحاليين ليسوا هم اليهود الذين عاشوا في فترة الحشمونيين» ، وفي هذا رَفْض للفكر الصهيوني ولفكرة التاريخ اليهودي الواحد. ثم أشار إلى أن «العودة إلى فكرة الأمة، بالمعنى السياسي لهذه الكلمة، هي تَحوُّل عن الرسالة الحقيقية للرسل والأنبياء» . ولهذا السبب، وفي العام نفسه، فسَّر انتماءاته الصهيونية وفقاً لأسس ثقافية، فصرح بأن قيمة الصهيونية بالنسبة إليه تكمن أساساً في «تأثيرها التعليمي والتوحيدي على اليهود في مختلف الدول» . وهذا تصريح ينطوي على الإيمان بضرورة الحفاظ على الجماعات اليهودية المنتشرة في أرجاء العالم وعلى تراثها، كما يشير إلى إمكانية التعايش بين اليهود وغير اليهود في كل أرجاء العالم. وفي عام 1946، مَثل أمام اللجنة الأنجلو أمريكية وأعرب عن عدم رضاه عن فكرة الدولة اليهودية، وأضاف قائلاً: «كنت ضد هذه الفكرة دائماً» . وهذه مُبالَغة من جانبه حيث إنه، كما أشرنا من قبل، أدلى بتصريحات تحمل معنى التأييد الكامل لفكرة القومية اليهودية على أساس عرْقي.(3/143)
والشيء الذي أزعج أينشتاين وأقلقه أكثر من غيره هو مشكلة العرب. ففي رسالة بعث بها إلى وايزمان عام 1920، حذر أينشتاين من تجاهل المشكلة العربية، ونصح الصهاينة بأن يتجنبوا «الاعتماد بدرجة كبيرة على الإنجليز» ، وأن يسعوا إلى التعاون مع العرب وإلى عَقْد مواثيق شرف معهم. وقد نبه أينشتاين إلى الخطر الكامن في الهجرة الصهيونية. ولم تتضاءل جهود أينشتاين أو اهتمامه بالعرب على مر السنين. ففي خطاب بتاريخ أبريل سنة 1948، أيَّد هو والحاخام ليو بايك موقف الحاخام يهودا ماجنيس الذي كان يروج فكرة إقامة دولة مشتركة (عربية ـ يهودية) ، مضيفاً أنه كان يتحدث باسم المبادئ التي هي أهم إسهام قدَّمه الشعب اليهودي إلى البشرية. ومن المعروف أن أينشتاين رَفَض قبول منصب رئيس الدولة الصهيونية حينما عُرض عليه.
وإسهامات أينشتاين في علم الطبيعة لا يمكن تفسيرها إلا باعتباره جزءاً من المنظومة العلمية الغربية. وقد يكون ليهوديته دور في تَوجُّهه نحو النسبية، ولكن المنظومة العلمية الغربية ككل تظل العنصر المحدد النهائي، إذ كان قد طُرح داخلها بضعة أسئلة تتطلب الإجابة، الأمر الذي جعل الجو مُهيَّئاً لتَغيُّر النموذج.
مائير لانسكي (1902 – 1983 (
Meyer Lansky(3/144)
مجرم أمريكي يهودي اسمه الأصلي مايير سوشو لانسكي. وُلد في بولندا وهاجر مع أسرته إلى الولايات المتحدة عام 1911. وقد بدأ حياته الإجرامية بسرقة السيارات ثم قام بتهريب الخمور والقتل بالأجر. ثم انتقل إلى ممارسة نشاطه في عالم القمار، وأصبح من كبار زعماء الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة. وقد كوَّن عصابة مع المجرم الأمريكي اليهودي بنجامين سيجل «بجزي» لحماية الملاهي الليلية نظير إتاوة منتظمة. وفي عام 1934، ساهم لانسكي في تأسيس الاتحاد القومي للجريمة الذي جمع في إطاره جميع العصابات وزعماء الإجرام في البلاد، وترأس مجلس إدارة هذا الاتحاد الذي عمل تحت قيادته على تحويل الجريمة في الولايات المتحدة إلى نشاط يتسم بقدر كبير من التنظيم والتنسيق والإدارة العلمية والترشيد، وأصبح يشرف على جملة من الأنشطة الإجرامية مثل القمار والدعارة والمخدرات والابتزاز والرشوة والفساد السياسي. وحينما حاولت السلطات الأمريكية القبض عليه بتهمة التَهرُّب الضريبي في عام 1970، تَمحَّك في أصله اليهودي وفرَّ إلى إسرائيل. ثم حاول الحصول على الجنسية بمقتضى قانون العودة، لكن طلبه رُفض. ومما يذكر، أن لانسكي كان من كبار المساهمين في المنظمات اليهودية، خصوصاً النداء اليهودي الموحَّد. وقد عاد إلى الولايات المتحدة عام 1972 حيث حوكم، ولكن تمت تبرئته من جميع التهم التي وُجِّهت إليه.(3/145)
ولا يمكن اكتشاف أية خصوصية يهودية في عبقرية لانسكي الإجرامية. فبروزه وتَميُّزه مرتبط بتَضخُّم قطاع اللذة في المجتمع مع تَصاعُد معدلات العلمنة فيه وانتشار الدعارة والقمار والمخدرات. وقد ظهرت مؤخراً دراسة تذهب إلى أن لانسكي لم يلعب هذا الدور المحوري والمركزي في الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة، وترى هذه الدراسة أنه في حين أن لانسكي كان بالفعل مجرماً وزعيم عصابة ذات صلة وثيقة بأهم رموز الإجرام في الولايات المتحدة وأخطرها، إلا أنه لم يَظْهر أبداً أي دليل يُثبت أو يؤكد بشكل قاطع أن لانسكي كان العقل المدبر والمحرك الرئيسي وراء الجريمة المنظمة، وأن هذه الادعاءات ليست سوى جزء من الأسطورة التي نُسجت من حوله.
ليوبولد تريبر (1904-1982 (
Leopold Trepper
عميل مخابرات سوفيتي سابق، ورئيس شبكة الجاسوسية التي عملت ضد ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية والتي عُرفت باسم «الأوركسترا الحمراء» . وُلد في بولندا، وكان نشطاً في حركة الشبيبة الشيوعية البولندية، وسُجن عدة أشهر ثم انضم فيما بعد إلى المنظمة الصهيونية هاشومير هاتزعير، وذهب عام 1926 إلى فلسطين. وهناك، ارتبط بالحزب الشيوعي، واحتُجزَ عدة مرات بسبب نشاطه السري. ثم أصبح عضواً في الهستدروت، وترأس داخله جناح إيحود، أي الوحدة، والذي كان ينادي بوحدة الشيوعيين من اليهود والعرب. وبعد المؤتمر الأول لإيحود عام 1927، طُرد تريبر من فلسطين، فذهب إلى فرنسا ونشط هناك في القسم اليهودي للحزب الشيوعي الفرنسي. كما عمل أيضاً مع المخابرات السوفيتية، ولكنه اضطر مرة أخرى إلى الرحيل بعد أن كُشف النقاب في فرنسا عن شبكة تَجسُّس سوفيتية.(3/146)
وانتقل تريبر إلى الاتحاد السوفيتي حيث درس في الجامعة الشيوعية للعمال الغربيين في موسكو، ويبدو أنه تلقى إلى جانب ذلك تدريباً في الأعمال الاستخباراتية. وفي عام 1938 أُرسل إلى فرنسا وبلجيكا حيث لعب دوراً مهماً وحيوياً لصالح المخابرات العسكرية السوفيتية، ونجح في تأسيس وقيادة شبكة جاسوسية واسعة النطاق كان لها عملاء في مواقع مهمة داخل الجهاز العسكري الأمني في برلين. وقد أطلق جهاز مكافحة الجاسوسية الألماني على هذه الشبكة اسم «الأوركسترا الحمراء» . ويبدو أن تريبر نجح إلى حدٍّ كبير في نشاطه، فقد حذر موسكو عام 1941 من الهجوم الألماني الوشيك وتنبأ بالتاريخ المحدد له، إلا أن ستالين تَجاهَل هذه التحذيرات حيث اعتبرها نوعاً من الإثارة البريطانية.(3/147)
وقد كان لشبكة التجسس دور حيوي في الإستراتيجية والتكتيكات السوفيتية خلال الحرب مع ألمانيا. إلا أن الألمان نجحوا في إلقاء القبض على تريبر عام1942 في باريس وحاولوا تجنيده ليعمل لصالح ألمانيا كعميل مزدوج. ويبدو أن تريبر تَظاهَر بقبول هذا العرض بناءً على أوامر سابقة لقيادته تَحسُّباً لمثل هذا الاحتمال واستطاع خلال سجنه تهريب تقرير مفصل حول ظروف اعتقاله ومدى الاختراق الألماني لشبكة التجسس. وقد نجح تريبر في الهروب بعد أقل من عام، وعاود مرة أخرى نشاطه الاستخباراتي. ولكن يبدو أن بعض الشكوك والشبهات قد أحاطت به، فعند عودته إلى موسكو عام 1945 تم إلقاء القبض عليه وسُجن لمدة عشرة أعوام تَعرَّض خلالها لعديد من الاستجوابات، وتم الإفراج عنه عام 1955 ورُد له اعتباره. وقد كرس تريبر مجهوداته بعد ذلك للشئون اليهودية. فقدَّم للقيادة السوفيتية خطة لإحياء المؤسسات والحياة الثقافية اليهودية في الاتحاد السوفيتي، إلا أن هذه الخطة رُفضت، فانتقل بعد ذلك إلى وارسو حيث ترأس، تحت اسم ليبا دومب، الجمعية الثقافية الاجتماعية اليهودية تحت رعاية الحكومة البولندية، كما ترأس دار النشر اليديشية التابعة لها. وفي عام 1968، قدم تريبر طلباً للهجرة إلى إسرائيل حيث كان بعض أفراد أسرته قد استقروا فيها، إلا أن السلطات البولندية رفضت طلبه. وقد أثارت الدوائر الصهيونية مسألة هجرته على المستوى العالمي، كما تم استغلال قضيته لإثارة الرأي العام العالمي ضد حكومة بولندا الاشتراكية وضد الاتحاد السوفيتي الذي كان يسود اعتقاد بأنه وراء موقف الحكومة البولندية. وفي تلك الآونة، قام عميل سابق للمخابرات الفرنسية هو جان روشيه باتهام تريبر على صفحات جريدة لوموند بأنه تعاون مع النازيين خلال الحرب، وبأنه خان رفاقه في المقاومة. ولكن تريبر أقام دعوى قذف ضد روشيه واستطاع أن يكسبها.(3/148)
وقد سمحت السلطات البولندية لتريبر في آخر الأمر، بالرحيل إلى إنجلترا لأسباب صحية، وفي عام 1974 استقر في إسرائيل. وفي عام 1975 نشر مذكراته بعنوان اللعبة الكبيرة والتي حاول فيها تأكيد دور شبكة «الأوركسترا الحمراء» في محاربة النازيين والدور البارز الذي لعبه اليهود في ذلك. وتُوفي تريبر عام 1982 ودُفن في القدس.
وحياة تريبر المثيرة لا تختلف كثيراً عن حياة أمثاله من الجواسيس. أما هجرته لإسرائيل فهي لا تختلف عن هجرة المجرم لانسكي في دوافعها ولا علاقة لها بانتمائه اليهودي.
آرثر كوستلر (1905-1983 (
Arthur Koestler(3/149)
كاتب يهودي وُلد في المجر وتَعلَّم في النمسا وألمانيا. وغيَّر لغته من المجرية إلى الألمانية في سن السابعة عشرة، ثم من الألمانية إلى الإنجليزية في سن الخامسة والثلاثين. وقد كان شيوعياً في الثلاثينيات، ولكنه رفض بعد ذلك المبادئ الشيوعية، ووصف تجربته (هو وآخرين) في كتاب الإله الذي هوى. وقد عبَّر كوستلر عن اشمئزازه من العصر الحديث في قصته الشهيرة الظلمة في وقت الظهيرة. وأظهر كوستلر أيضاً اهتماماً بالموضوعات اليهودية، خصوصاً أنه عمل مراسلاً في فلسطين لإحدى الجرائد الألمانية. وقصته اللصوص في الليل تصف الصراع بين العرب والمستوطنين الصهاينة. وقد لاحَظ كوستلر في هذه الرواية الخليط العجيب من التصوف والاشتراكية الذي يُميِّز العقل الصهيوني. ولكن الرواية، مع هذا، تبدي تعاطفاً مع المستوطنين. وقد كتب كوستلر أثناء حرب عام 1948 كتاب الوعد والإنجاز: فلسطين 1917-1949 يصف فيه فلسطين أثناء الانتداب وبعد إنشاء الدولة الصهيونية، ويُعلن أن يهود العالم أمامهم اختياران لا ثالث لهما: الهجرة إلى إسرائيل أو الانتماء الكامل إلى أوطانهم والولاء لها. وقد اختار هو نفسه البديل الثاني. وكوستلر له مؤلفات قصصية وفلسفية أخرى مثل: الشبح في الآلة، ونفاية الأرض، واللوتس والقوميسار، والسائرون نياماً، واللوتس والإنسان الآلي.
وفي آخر سني حياته، انضم كوستلر إلى جمعية تُطلق على نفسها اسم «جمعية من أجل موت كريم» تدعو إلى الانتحار. وقد انتحر هو وزوجته بالفعل في مارس 1983.(3/150)
وقد نشر كوستلر عام 1955 كتاباً بعنوان قافلة الديناصور يضم دراسة بعنوان «يهودا في مفترق الطرق» والتي أشار فيها إلى عدم صحة القول بوجود تراث حضاري يهودي مشترك. وفي كتابه القبيلة الثالثة عشرة: إمبراطورية الخزر وميراثها (1976) يناقش كوستلر ظهور إمبراطورية الخزر اليهودية وما يسميه «الشتات الخزري» . وقد أثار الكتاب ضجة في الأوساط اليهودية والصهيونية عند صدوره. فالكتاب يذهب إلى أن يهود بولندا، الذين كانوا يشكلون أهم وأكبر تَجمُّع يهودي في العالم، هم من نسل الخزر وبالتالي فهم مختلفون عرْقياً وثقافياً عن بقية يهود العالم وعن العبرانيين القدامى.
ومن ثم فإن كوستلر يهدم الاعتذاريات العرْقية والإثنية لنظرية الحقوق الصهيونية التي ترى أن فلسطين من حق اليهود بسبب أصولهم السامية، أو بسبب تماسكهم الثقافي عبر التاريخ والتفافهم حول فلسطين كمركز للهوية الثقافية اليهودية.
ويرى بعض دارسي تاريخ الأفكار أن كوستلر من كبار الكُتَّاب والمفكرين وأنه نجح في أن يتناول في كتاباته بعض أهم القضايا الفكرية في القرن العشرين من خلال رؤيته الواسعة (البانورامية) والثاقبة، ويرى البعض الآخر أنه مجرد ناقل للأفكار ومروج لها. بل ويرى البعض أن كتابه الإله الذي هوى قد كُتب بإيعاز من المخابرات الأمريكية. ومهما كان تقييم المرء لعبقرية كوستلر، فمن الصعب القول بأن البُعد اليهودي هو أهم أبعادها أو أن له مقدرة تفسيرية عالية.
جيكوب كرايزر (1905-1969 (Jacob Kreiser(3/151)
جنرال سوفيتي يُصنَّف أحياناً باعتباره يهودياً، وأحد أبطال الحرب العالمية الثانية في الاتحاد السوفيتي. كان والده جندياً يهودياً ممن جُنِّدوا في الخدمة العسكرية تجنيداً إجبارياً لفترة طويلة في سن مبكرة واعتنقوا المسيحية إبان فترة الخدمة. وقد انضم كرايزر في سن مبكرة إلى الجيش الأحمر وتدرَّج سريعاً في صفوفه ليصبح جنرالاً في سن الحادية والثلاثين. وخلال الحرب العالمية الثانية، تولى قيادة فرقة مشاة البروليتاريا التي تميَّزت في دفاعها عن موسكو، وهو ما أكسبه لقب «بطل الاتحاد السوفيتي» . وقد خدم كرايزر بعد ذلك في عدد من المواقع المهمة خلال الحرب، وتولى قيادة الجيوش السوفيتية في عدد من الجبهات، وساهم في تدمير القوات الألمانية في غرب أوكرانيا، وفي تحرير شبه جزيرة القرم ودول البلطيق. وقد أدَّى قيام ضابط يهودي بتحرير القرم إلى تسليط الضوء على مسألة تأسيس جمهورية يهودية ذات حكم ذاتي في القرم والتي كانت تخطط لها الحكومة السوفيتية لتحل محل مشروع بيروبيجان الفاشل. وقد كانت اللجنة اليهودية المناهضة للفاشية، والتي كان كرايزر عضواً بها، من المؤيدين لهذا المشروع الذي لم يسفر عن أي شيء في نهاية الأمر.
ومع انتهاء الحرب، كان كرايزر قد حصل على أعلى الرتب في الجيش السوفيتي واكتسب مكانة وسمعة واسعتين، ولكنه جُرِّدَ من منصبه خلال فترة الإرهاب الستاليني بعد أن رفض التوقيع على خطاب نُشر في صحيفة البرافدا ينفي وجود معاداة لليهود في الاتحاد السوفيتي. وبعد وفاة ستالين، أعيدت له قيادته، وعُيِّن عام 1962 نائباً في مجلس السوفييت الأعلى. ثم تولى كرايزر القيادة في منطقة الشرق الأقصى، وهي منطقة حدودية ذات أهمية خاصة، وظل يشغل منصبه حتى وفاته.(3/152)
ويمثل كرايزر نموذجاً متكرراً في أوساط العسكريين السوفييت اليهود، وإن لم ينتبه إليه الكثيرون، وهو نموذج يعود إلى أيام تروتسكي مؤسس الجيش الأحمر والذي فتح المجال أمام أعضاء الأقليات للانخراط في صفوف هذا الجيش الجديد، الذي كان يدعم نظاماً يدعو إلى تجريم أشكال التمييز العنصري والإثني (وضمن ذلك العداء لليهود) . وقد انخرطت أعداد كبيرة من أعضاء الجماعات اليهودية بنسبة تزيد عن نسبتهم على المستوى القومي. وكانت هناك نسبة عالية من اليهود في القيادة العليا للجيش السوفيتي خلال الحرب العالمية الثانية. ولكن يُلاحَظ أنه جرى العمل على إحالة أعداد كبيرة منهم إلى التقاعد.
روبرت ماكسويل (1923 – 1991 (
Robert Maxwell(3/153)
ناشر بريطاني، وُلد في تشيكوسلوفاكيا، وكان اسمه الحقيقي يان لودفيج هوخ. وُلد لعائلة يهودية ريفية يُقال إنه قُضي على معظم أعضائها خلال الحرب العالمية الثانية، وانضم إلى الجيش التشيكي عام 1939، ثم فرّ إلى بريطانيا مع الاحتلال النازي، حيث انضم إلى صفوف الجيش البريطاني. وحاز في عام 1945 ميدالية الصليب العسكرية. وقد بدَّل اسمه عدة مرات، ثم استقر في عام 1945 على الاسم الإسكتلندي الحالي إيان روبرت ماكسويل. عمل ماكسويل لحساب الاستخبارات البريطانية، وترأس القسم الصحفي للقوات البريطانية المتمركزة في ألمانيا في الفترة بين عامي 1945 و1947. وخلال وجوده في ألمانيا، التقى بناشر ألماني كان تحت يده عدد ضخم من الوثائق والنشرات العلمية التي خَلَّفها الحكم النازي، وبالتالي لاحت أمام ماكسويل فرصة ذهبية للعمل في مجال النشر العلمي. وبالفعل، أسس في عام 1949 شركة برجامون برس التي جعلها من أكبر دور النشر المتخصصة في المطبوعات العلمية، والتي شملت أعمالها برنامجاً واسعاً لترجمة الكتب والمجلات العلمية السوفيتية. وقد كانت دار نشر برجامون اللبنة الأساسية في إمبراطوريته الصحفية والإعلامية التي احتلت المرتبة التاسعة أو العاشرة في العالم على حد تقدير ماكسويل نفسه. وكانت إمبراطورية ماكسويل تضم عدداً كبيراً من الشركات القابضة والمؤسسات العائلية والهيئات الخيرية التي توزعت مقارها الرئيسية في بريطانيا والولايات المتحدة وإسرائيل وأوربا الشرقية وجبل طارق وليختنشتاين.(3/154)
وقد امتلك ماكسويل حصصاً متفاوتة في عدد كبير من الصحف في ثلاث عشرة دولة. فمجموعة ميرورنيوز (التي امتلكها ماكسويل عام 1984) تنشر عدداً من الصحف البريطانية المهمة مثل ديلي ميرور وصاندي ميرور. كما امتلك ماكسويل نسبة ستة في المائة من أسهم صحيفة ذي إندبندنت اليومية البريطانية. كما سيطر في عام 1991 على صحيفة ديلي نيوز الصادرة في نيويورك. وفي المجر، امتلك حصة كبيرة في صحيفة ماجيار هيرلاب اليومية. وفي عام 1986، أصدر صحيفة الصين اليومية تشاينا ديلي التي كانت تَصدُر بالإنجليزية في بكين ولندن، إلا أنه تَوقَّف عن نشرها بعد أحداث الصين عام 1989. كما أصدر عام 1988 الصحيفة الأوربية الأسبوعية ذي يوروبيان. واشترى ماكسويل في العام نفسه دارين للنشر في الولايات المتحدة هما: دار ماكميلان التي كانت ثاني أكبر دار نشر أمريكية، والدار التي تَنشُر الدليل الرسمي لشركات الطيران. وقد وضعت هذه الممتلكات الجديدة عبئاً كبيراً من الديون على كاهل ماكسويل تجاوزت عند وفاته ثلاثة مليارات جنيه إسترليني، الأمر الذي دفعه إلى بيع بعض ممتلكاته، ومن أهمها دار نشر برجامون لسداد ديونه. كما كان ماكسويل يمتلك، منذ عام 1981، شركة للاتصالات هي ماكسويل كوميونيكيشن كوربوريشن.
وقد كان لماكسويل اهتمام خاص بأوربا الشرقية، وكانت له علاقات مع عدد من رؤساء الكتلة الشرقية. وقد أسس عام 1990، بالتعاون مع مؤسسة مريل لينش، شركة للاستثمار في أوربا الشرقية رأسمالها 250 مليون دولار. وكان ماكسويل قد أسس قبل ذلك ببضع سنوات شركة للاستثمار في الصين بالمشاركة مع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، لكن أعمال الشركة توقفت بعد أحداث عام 1989 في الصين. كما دخل ماكسويل حلبة السياسة البريطانية حيث تولى منصب نائب في البرلمان عن حزب العمال البريطاني في الفترة بين عامي 1964 و1970.(3/155)
ومن جهة أخرى كان لماكسويل اهتمام كبير وارتباط خاص بإسرائيل. ومما يُذكَر أنه لم يكن يعلن عن أصله اليهودي في البداية، كما كان يذهب إلى الكنيسة مع زوجته الفرنسية البروتستانتية (أي أنه كان يهودياً متخفياً مثل عشرات الألوف الآخرين) . ولكنه حين عُرف أصله، لم يستمر في إنكاره. وفي السنوات الأخيرة، أصبح واحداً من أهم المستثمرين الكبار في إسرائيل وأحد كبار مؤيديها. ويُعتقَد أنه كان أكبر المستثمرين فيها على الإطلاق. فكان يمتلك ثلث حصص صحيفة معاريف الإسرائيلية التي تحتل المرتبة الثانية بين الصحف الإسرائيلية من ناحية التوزيع. واشترى عام 1990 خمسين في المائة من حصص دار كيتر للنشر بمبلغ خمسة ملايين دولار وهي الشركة التي تُصدر الموسوعة اليهودية (جودايكا) . كما امتلك ماكسويل حصصاً في شركتين إسرائيليتين هما: شركة سايتكس وهي من الشركات الرائدة في مجال الرسوم البيانية بالكومبيوتر والطباعة بالألوان، وشركة تيفا فارماسوتيكال للمنتجات الطبية. وقد ترددت أنباء عن أن ماكسويل كان ينوي استثمار مائة مليون دولار في تأسيس شركة قابضة في إسرائيل تجمع استثماراته القائمة والمتوقعة هناك.
وفي نهاية عام 1988، أصبح ماكسويل رئيس شركة سندات إسرائيل في بريطانيا، إذ اشترى سندات بملايين الجنيهات الإسترلينية أصبح بعدها أكبر مشترٍ للسندات الإسرائيلية في بريطانيا. وكانت الشركة تأمل في أن يساهم تعيين رئيس للشركة ذي شهرة واسعة في جذب أعداد كبيرة من المستثمرين لشراء السندات الإسرائيلية.(3/156)
وقد كان ماكسويل من مؤيدي سياسات حكومة الليكود الإسرائيلية، وصرح قبل وفاته ببضعة أسابيع بأن آراءه تتطابق تماماً مع آراء رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق شامير. وأيَّد ماكسويل مبدأ إبعاد الفلسطينيين عن أرضهم وتوطينهم في البلدان العربية، كما كان يصرح دائماً بأن الأردن هي الدولة الفلسطينية (كما يفعل الإسرائيليون والصهاينة) . وفي عام 1989، وبَّخ ماكسويل رئيس تحرير جريدة معاريف لنشره مقالاً عرض فيه تقرير الاستخبارات الإسرائيلية ومؤداه أنه ليس هناك بديل عن الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية. كما بيَّن ماكسويل أن الدافع وراء محاولته الفاشلة شراء صحيفة جيروساليم بوست في عام 1989 كان وقف النقد الذي كانت توجهه الصحيفة للحكومة الإسرائيلية.
وقد تَورَّط ماكسويل قبل وفاته بقليل في قضية تَجسُّس وتجارة سلاح. فقد ذكر الصحفي الأمريكي سيمور هيرش في كتابه الخيار شمشون أن لماكسويل علاقات بالمخابرات الإسرائيلية (الموساد) ، وأنه تَورَّط مع محرر الشئون الخارجية لجريدته الديلي ميرور في تسهيل عقد صفقات سلاح سرية لإسرائيل وفي تسهيل اختطاف موردخاي فانونو، وهو أحد العاملين في مفاعل ديمونة والذي كشف عن وجود مائتي قنبلة نووية لدى إسرائيل. كما ادعى ضابط في المخابرات الإسرائيلية، وهو آرييه منَسَّى، أن ماكسويل كان متورطاً في مبيعات الأسلحة إلى إيران (أثناء حربها مع العراق) وهي مبيعات تمت بموافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق شامير ونائب الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش، فكان ماكسويل يتلقى عمولات عن هذه الصفقات ثم يُجري عملية «غسل» للأموال المتحصَلة بهذه الطريقة غير النظيفة لتبدو كما لو كانت نظيفة وشرعية (وتتم عملية الغسل هذه بطرق عديدة مثل وضع النقود في المصارف من خلال منافذ عديدة أو استثمارها في مشاريع تجارية خاسرة ثم إعلان أنها حققت أرباحاً خيالية، وتُودَع الأموال في المصارف بعد ذلك (.(3/157)
وقد نفى ماكسويل أية علاقة له بالموساد أو بصفقات السلاح، وأقام دعوى ضد هيرش يُوجِّه فيها إليه تهمة السب العلني. وبعد أقل من شهر من إثارته هذه الفضيحة، لقي ماكسويل حتفه، وقيل أنه سقط ميتاً وهو على ظهر يخته في البحر قرب جزر الكناري. وتراوحت الآراء حول ظروف موته بين التلميح إلى اتهام الموساد بقتله، أو ترجيح انتحاره بسبب متاعبه المالية الكبيرة أو اتهامه بالعمالة لإسرائيل، أو القول بأن موته كان مجرد حادث عادي. وقد دُفن ماكسويل في إسرائيل وفقاً لرغبته.
وقد تفجرت فضيحة مالية كبرى في أعقاب وفاة ماكسويل، حيث تبيَّن أنه حوَّل أكثر من 700 مليون جنيه إسترليني (1.27مليار دولار) من صناديق المعاش في مجموعة الشركات العامة ميرور جروب التي كان يديرها، وذلك لتغطية خسائر شركاته الخاصة ولمساعدة إمبراطوريته الإعلامية التي كانت تنوء تحت ثقل الديون. وتبيَّن أيضاً أنه احتال على مؤسسة مالية سويسرية للحصول على قرض قيمته 100 مليون دولار، وأنه استخدم الأصول نفسها لضمان أكثر من قرض. وكان ماكسويل قد تَعرَّض من قبل للمساءلة حول سلامة ممارساته، حيث أجرى مجلس التجارة البريطاني تحقيقاً عام 1969 حول أوضاع شركة برجامون برس وكشف بالفعل عن بعض المخالفات. وقد تَضمَّن التقرير الذي انتهى إليه المجلس أن ماكسويل «شخص لا يُعوَّل عليه في إدارة شركة مساهمة عامة» . وقد عمل ماكسويل منذ ذلك الحين على إسكات منتقديه وردعهم عن طريق مقاضاتهم وتوجيه تهمة التشهير به إليهم. وقد وُصف ماكسويل عقب تَفجُّر هذه الفضيحة بأنه «محتال القرن» ، الأمر الذي زاد التكهنات القائلة بأنه مات منتحراً. كما قُبض على ابنيه، اللذين توليا أمور بعض شركات والدهما بعد وفاته، بتهمة التورط في الغش التجاري. ولكن لم يثبت ضدهما أي شيء، فحُكم ببراءتهما.(3/158)
ومن الواضح أن ماكسويل عبقرية حقيقية بالمعنى المحايد (أو النيتشوي) للكلمة، أي أنه عبقرية لا تهتم كثيراً بالمعايير الأخلاقية أو الإنسانية، فهو مثل الإنسان الأعظم (السوبرمان) يُسخِّر الآخرين لحسابه، ولذا كان عبقرياً في عمليات التنظيم الإداري وتحقيق الأرباح وتعظيمها وعقد الصفقات الرابحة، ولكنه كان عبقرياً أيضاً في نهب الآخرين والتجسس واستخدام النفوذ. وتحدثت كثير من الصحف عن ماكسويل باعتباره يهودياً مع أن هذه مسألة خلافية، فقد أخفى يهوديته بعض الوقت، وحين اكتُشفت اعترف بها بل ووظفها، ولكن توظيفه مسألة هويته اليهودية لا يجعل منه يهودياً، ولا يمكن تفسير عبقريته في إطار يهوديته، وإنما في إطار النيتشوية الداروينية، التي يشترك فيها مع مئات المموِّلين والمستثمرين الآخرين في القرن العشرين.
الباب الرابع: إشكالية العزلة والخصوصية اليهودية
العزلة اليهودية
Jewish Isolationism
«الانعزالية اليهودية» عبارة تفترض أن اليهود يعيشون في حالة عزلة عن الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها. وتُفسَّر هذه الانعزالية في الأدبيات الصهيونية على أساس أنها فُرضت فرضاً على اليهود وأنهم غير مسئولين عنها. كما تُفسَّر أيضاً بأن اليهود لا يمكنهم الاندماج في مجتمعات الأغيار بسبب هويتهم أو شخصيتهم أو طبيعتهم أو تاريخهم أو جوهرهم اليهودي. ولا يختلف تفسير معاديي اليهود لهذه الظاهرة عن تفسير الصهاينة، فاليهود بحسب تصورهم يعزلون أنفسهم عن الأغيار لأن هذه هي طبيعتهم وشخصيتهم وهويتهم، وتنعكس هذه السمة في سلوكهم وتاريخهم. يتفق الصهاينة والمعادون لليهود، إذن، على أن الانعزالية سمة أساسية وأنها لا علاقة لها بالحركيات الاجتماعية التي يوجد فيها اليهود، وإنما يُسبِّبها شيء ما داخلهم.(3/159)
ولا يمكن، بطبيعة الحال، إنكار أهمية بعض جوانب النسق الديني اليهودي مثل عقيدة الشعب المختار، وكذلك كثرة الشعائر الدينية، في تشجيع اليهود على العزلة. وقد وصل هذا الاتجاه في النسق الديني اليهودي إلى ذروته في القبَّالاه اللوريانية الدينية، حيث تُطرح فكرة أن اليهود خُلقوا من طينة مغايرة للطينة التي خُلق منها البشر. ولكن علاقة الأفكار الدينية، وأية أفكار، بسلوك الإنسان ليست علاقة سببية بسيطة. فالأفكار لا تحدد سلوك الإنسان أبداً ولكنها تخلق لديه استعداداً كامناً أو قابلية ليسلك سلوكاً معيَّناً ويبتعد عن أنماط معينة من السلوك. كما أن من الصعب بمكان تحديد ما إذا كانت فكرة مثل فكرة الشعب المختار هي التي أدَّت إلى عزلة اليهود أو أن الفكرة هي نتيجة هذه العزلة، أو أن العلاقة هي علاقة تأثير وتأثر، وما مدى التأثير وما عمق التأثر.(3/160)
وعلى أية حال، لا يكمن الخلل الأساسي في النموذج التفسيري الصهيوني والمعادي لليهود في سببيته البسيطة وحسب وإنما في مستواه التعميمي المرتفع وفي تجريديته الزائدة، إذ أن كلا الفريقين يتحدث عن «اليهود ككل» وبشكلٍّ عام ويُفسِّر الظاهرة داخل هذا الإطار. ولو أننا تحركنا في إطار الجماعات اليهودية لأمكننا اكتشاف التنوع وعدم التجانس، وأن أعضاء الجماعات اليهودية انعزلوا عن بعض المجتمعات واندمجوا في البعض الآخر، وأنهم انصهروا في بعض المجتمعات وطُردوا من البعض الآخر، وأن هذه الظواهر يمكن تفسيرها من خلال مُركَّب من الأسباب الحضارية والاقتصادية الخارجية التي تختص بمجتمع الأغلبية، والأسباب الداخلية التي تختص بأعضاء الجماعة. ومن أهم هذه الأسباب، في تَصوُّرنا، اضطلاع أعضاء الجماعات اليهودية بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة في كثير من المجتمعات، خصوصاً المجتمع الأوربي ابتداءً من العصور الوسطى. والجماعة الوظيفية الوسيطة لا يمكنها أن تقوم بدورها إلا في حالة عزلة، إذ أنها تضطلع بوظائف مشينة أو بوظائف تتطلب الحياد والموضوعية مثل البغاء أو التجارة.
ومن أشهر حالات عزلة اليهود، وجودهم داخل الجيتوات القسرية في أوربا ابتداءً من أواخر عصر النهضة. ولكن العزلة وصلت قمتها في أوكرانيا، حيث كان اليهود يشكلون جماعة وسيطة تمثل طبقة النبلاء (شلاختا) الحاكمة في بولندا. وكانت عزلة اليهود على عدة مستويات:
1 ـ طبقية: جماعة تجارية مالية تمثل النخبة الحاكمة في وسط زراعي فلاحي وتساندها القوة العسكرية البولندية.
2 ـ لغوية: جماعة تتحدث اليديشية في وسط يتحدث الأوكرانية.
3 ـ ثقافية: جماعة ترتدي أزياءً وتأكل طعاماً يختلفان عن أزياء وطعام الفلاحين.
4 ـ دينية: جماعة يهودية تمثل النبلاء الكاثوليك في وسط أرثوذكسي.(3/161)
وحينما تصبح العزلة على كل هذه المستويات، فإنها عادةً ما تكون متطرفة، إذ إن العزلة على مستوى ما تدعم العزلة على مستوى آخر. ولكن، ورغم هذه العزلة، فإن من المعروف أن الجماعة اليهودية تأثرت بوسطها الفلاحي السلافي، وظهر هذا التأثر في انتشار الحسيدية التي نبعت من الفلكلور الديني المسيحي السلافي، أي أنه لا يمكن أن تُوجَد عزلة مطلقة إلا في كتابات العنصريين الاختزاليين من الصهاينة والمعادين لليهود.
اليهودي الخالص
Quintessential or Pure Jew
«اليهودي الخالص» عبارة تفترض وجود هوية يهودية خالصة لا تشوبها أية شوائب حضارية، فهذه الهوية تتمتع بنقاء عرْقي وحضاري إثني. لكن هذا المصطلح لا يرد إلا نادراً في الكتابات الصهيونية، مثل إشارة المفكر الصهيوني كلاتزكين إلى «النمط القومي الخالص» وإشارة بن جوريون إلى «اليهودي الذي هو يهودي مائة في المائة» . ومع هذا، فإن هذا المفهوم كامن في كل الكتابات الصهيونية، بل يمكن القول بأن اليهودي الخالص هو اليهودي المثالي الذي يحاول المشروع الصهيوني تحقيقه، فباسم هذا «اليهودي الخالص» ترفض الصهيونية الموروث الثقافي لأعضاء الجماعات اليهودية بل وترفض وجودهم ذاته، وباسمه تحاول تأسيس الدولة اليهودية حتى يتحقق هذا الجوهر. واليهودي الخالص، بكل ما فيه من حيوية وإبداع وولاء يهودي مطلق، هو نقيض اليهودي المنفي بكل ما فيه من هامشية وتَمزُّق وازدواج في الولاء. ويحاول الصهاينة تطبيع يهود المنفى لإعادة صياغتهم في صورة «اليهودي الخالص» .
نقاء اليهود عرْقياً
Racial Purity of the Jews(3/162)
«نقاء اليهود عرْقياً» عبارة تفترض أن أعضاء الجماعات اليهودية قد حافظوا، عبر التاريخ وفي كل زمان ومكان، على نقائهم العرْقي، فلم يختلطوا بالأجناس والشعوب الأخرى، وهذه فكرة يروِّج لها المعادون لليهود ويسوقونها دليلاً على رغبة اليهود في عزل أنفسهم وعلى خطورة العرْق اليهودي. فهوستون تشامبرلين يزعم أن ذلك النقاء العرْقي هو سر قوة اليهود، وأنه هو أيضاً ما يجعلهم «غرباء بين الأمم» .
وكان الصهاينة كذلك يروجون هذه الفكرة ويؤسسون عليها ادعاءهم حتمية إنشاء دولة يهودية مستقلة تكون يهودية مثلما أن إنجلترا إنجليزية وفرنسا فرنسية؛ دولة يعيش فيها الشعب اليهودي المنفصل عرْقياً عن بقية شعوب الأرض من الأغيار. ولذا، بذل كثير من «العلماء» الصهاينة كثيراً من المحاولات التي ترمي إلى إثبات نقاء اليهود عرْقياً. ومن أهم المحاولات في هذا المضمار محاولات عالِم الاجتماع الصهيوني آرثر روبين في كتابه اليهود في الوقت الحاضر حيث أورد أسماء كثير من المراجع في الموضوع من بينها اسم إغناتز زولتشان (1877 ـ 1944) الذي وصف اليهود بأنهم «أمة من الدم الخالص لا تشوبها أمراض التطرف أو الانحلال الخلقي الناجمة عن عدم النقاء» . وقد أكد زولتشان أن «حظر الزواج المُختلَط في اليهودية قد أدَّى إلى عدم اختلاط اليهود بأجناس لم تحافظ على نقائها بالدرجة نفسها» . وقد قدَّم روبين نفسه تعريفاً عرْقياً لليهود فبيَّن أنهم «استوعبوا عناصر عرْقية أجنبية بدرجة محدودة، ولكنهم في أغلبيتهم يمثلون جنساً متميِّزاً، على خلاف الحال في دول وسط أوربا» . وأضاف أن من الواجب الحفاظ بشكل واع على الاستمرار العرْقي اليهودي الذي تحقق بشكل تلقائي عبر التاريخ، وأكد أن أي جنس راق يتدهور بسرعة إذا ما تزاوج بجنس أقل رقياً، ذلك لأن التزاوج بالأجناس الأخرى يضرُّ بمحاولات المحافظة على الصفات الممتازة للجنس، ومن ثم فـ «لابد من محاولة منع التزاوج للمحافظة(3/163)
على انفصالية اليهود» .
ومن الواضح أن روبين وزولتشان حينما يتحدثان عن اليهود فهما يتحدثان عن اليهود الإشكناز وحسب أو يهود العالم الغربي ويستبعدان أعضاء الجماعات اليهودية الأخرى ويُروِّج المعادون لليهود المقولة نفسها. وما يُسمَّى «الصفات العرْقية الشائعة عن اليهود» هو في واقع الأمر «الصفات العرْقية الشائعة عن اليهود الإشكناز أو يهود العالم الغربي» . وفي كتاب المفكر المصري الدكتور جمال حمدان اليهود دراسة مستفيضة لبعض هذه الصفات مثل قصر القامة وضيق الصدر والسمنة والأنف المعقوف وشكل الرأس. ويشير الدكتور جمال حمدان إلى أن الدراسات المترية تُظهر اليهودي في أغلب الحالات أقصر من غيره بضع بوصات. ولكنه يبيِّن أن طول القامة لا يمكن اعتباره صفة جسمية أصيلة، فمن الثابت علمياً أنها صفة مطاطة تتكيف بالبيئة الطبيعية والاجتماعية، كما يُعَدُّ ضيق الصدر من هذه الصفات الشائعة، الأمر الذي تؤكده الأدلة العلمية، فمحيط صدر اليهودي (الإشكنازي) أقل كثيراً منه عند «الأغيار» . ولكن هذه الصفة ـ كما يبيِّن الدكتور جمال حمدان ـ نتيجة طبيعية للبيئة والحرفة، فالحرف التقليدية لليهود الإشكناز (خياطة ـ صباغة ـ صناعة أحذية) ترتبط بتلك الظاهرة. وتُعَدُّ صفة «السحنة» اليهودية أكثر هذه الصفات شيوعاً، والمُحقَّق علمياً أنها لا تُوجَد عند كل اليهود ولا تكاد تُعرَف في أشكناز أمريكا كما أنها معروفة بين غير اليهود. وسحنة الوجه تعبير اجتماعي مُكتسَب من البيئة أكثر من كونها صفة جسمية، حتى سماها البعض «تعبير الجيتو» ، فهي من فعل الانتخاب الصناعي لا الوراثة.(3/164)
أما مسألة الأنف المعقوف، كصفة مميِّزة لليهودي في المخيلة الشعبية، فهي أسطورة أخرى. فلقد أثبتت الدراسات الأنثروبولوجية أن هذه الصفة غير موجودة إطلاقاً بين أنقى عنصر سامي وهم البدو، ولكنها صفة غالبة بين القبائل القوقازية المختلفة، وكذلك في آسيا الصغرى، وتشمل العناصر المحلية في المنطقة مثل الأرمن والجورجيين. ونجده بين شعوب البحر المتوسط أكثر مما نجده بين يهود أوربا الشرقية، ويَكثُر انتشارها بين الهنود الحمر في أمريكا الشمالية!
ومن أهم المقاييس الأنثروبولوجية، لتحديد الانتماء العرْقي، شكل الرأس. وقد بيَّن الدكتور جمال حمدان في كتابه اليهود أنثروبولوجياً أن من بين المجموعات الرئيسية الثلاث (الإشكناز والسفارد والشرقيين) يقع الإشكناز بين عراض الرؤوس وأحياناً عراض الرؤوس جداً، هكذا هم في كل أوربا والعالم الجديد ابتداءً من الفولجا حتى كاليفورنيا. ولكن الأهم من هذا أنهم يشبهون السكان المحيطين محلياً ويقتربون جداً من شكل ونسبة رأسهم، فمثلاً ليس ثمة فارق في شكل الرأس بين اليهود والمسيحيين في كل من روسيا وبولندا، بينما في منطقة القوقاز تتحول رؤوسهم لشكل «قمع السكر» الشهير عند الأرمن والقفقاز بل ونجده حتى بين يهود التركستان.
وكان من الشائع أن السفارد على النقيض من ذلك تماماً، أي أنهم طوال الرؤوس جميعاً. ولكن هذه المقابلة تبسيطية أكثر مما ينبغي، فرغم أن طول الرأس يَغلُب بين السفارد فإن منهم جماعات استعرَضَت رؤوسهم كما في شمال إيطاليا وربما كانت بينهم جماعات أخرى من سفارد البلقان. ويُلاحَظ أن السفارد يعيشون جملة بين شعوب طويلة الرأس كالبربر والعرب بحيث لا يمكن أن يغيِّر التزاوج شكل رؤوسهم بل على العكس يؤكده.(3/165)
ويأتي اليهود الشرقيون في حدود التصنيف، فجزء منهم طوال الرؤوس كالسفارد ويشمل يهود مصر والشام واليمن والعراق وجنوب إيران (والسكان المحيطون بهم طوال الرؤوس، إلا أن حجم الرأس عندهم أطول بدرجة أو أخرى من حجم الرأس عند اليهود) . أما الجزء الآخر منهم، كالإشكناز، فقد استعرضت رؤوسهم كما في شمال العراق ومنطقة جبال القوقاز وشمال إيران ويهود التركستان الروسية بكل شظاياها، وأخيراً هناك اليهود القرّاءون في القرم وليتوانيا. ففي كل هذه الحالات يعيش اليهود في محيط واسع من العرض الشديد للرأس، وقد استعرضت رؤوسهم بشدة فأصبحوا لا يختلفون عنه أبداً.
ويحاول بعض العلماء أن يجعلوا من اليهود طوال الرأس من السفارد وبعض الشرقيين وحدة إثنولوجية قائمة بذاتها، قد تتباين فيما بينها من منطقة إلى منطقة ولكنها بعامة تتباين أكثر مع السكان المحيطين. ولذا فهم يصورون اليهود الإشكناز ومعهم بقية الشرقيين وحدة إثنولوجية أخرى. ومع هذا يعترف هؤلاء العلماء بأن كل نوع أو سلالة جنسية معروفة في أوربا يمكن بسهولة أن تُلتَقط من بين يهود القارة، وأن أغلب اليهود يمثلون بطريقة أو بأخرى خليطاً من عديد من تلك السلالات والأنواع، ولذا من السهل جداً أن نلتقط من بين يهود الروسيا أفراداً يتميَّزون بالصدغ الواسع والأنف العريض القصير وعظام الوجنة البارزة بدرجة لا تفرق بينهم وبين جماعات الفن المغولية التي تَسكُن منطقة الفولجا، بينما يُوجَد بين اليهود الألمان أفراد هم بكل معنى الكلمة نورديون مثاليون.(3/166)
ويمكن من ناحيتنا (والكلام لا يزال للدكتور جمال حمدان) أن نضيف على مستوى العالم متناقضات كالموزايك [الفسيفاء] تكاد تغطي كل ما نعرف بين البشر من اختلافات في الصفات الجنسية، فهناك اليهود السود في الحبشة وجنوب الصحراء الكبرى، وهناك اليهود المُلوَنون في الهند، بل والصفر أحياناً في التركستان، وأخيراً اليهود الشقر في أوربا. وكما لاحظ دالبي في أواخر القرن الماضي، هناك كل الأنواع والألوان بين اليهود البيض والسمر، فهناك اليهودي الربعة غليظ الملامح عريض الرأس من الإشكناز واليهودي النحيف دقيق الملامح طويل الرأس من السفارد، وهناك الأنف اليهودي المُحدَّب والأنف المُقعَّر بين كثير من يهود روسيا. وهناك العيون اللوزية في السفارد، والمكتنزة الضخمة في الأشكناز، والعيون المغولية المسحوبة في بعض يهود وسط آسيا. وبعامة، فإن السفارد أشبه بعنصر البحر المتوسط والإشكناز أشبه بالصقالبة الشماليين، وفضلاً عن هذا فإن الدراسات السيرولوجية أثبتت تماماً أن هناك بين اليهود معدل تَفاوُت كبير جداً في فئات الدم وهو ما ينفي تَجانُس الأصل. وأكثر من ذلك، لا تُبدي تلك الفئات أية علاقة بفئات الدم عند اليهود السامريين الأمر الذي يؤكد عمق انفصالهم جنسياً عن الأصل القديم (إن كان هذا الأصل واحداً) .
فالحديث عن الوحدة العرْقية بين اليهود (كما بيَّن الدكتور جمال حمدان وغيره من العلماء) لا محل له من حقيقة أو علم على الإطلاق. واليهود لا يعرفون الوحدة العرْقية أكثر مما يعرفون الوحدة الجغرافية، وثمة اتفاق بين الدارسين في الوقت الحاضر على أن نقط التشابه بين أعضاء الجماعات اليهودية وبين أبناء المجتمعات التي يعيشون فيها يفوق كثيراً أي تَشابُه قد يُوجَد بين أية جماعة يهودية وأية جماعة يهودية أخرى في مجتمع آخر.(3/167)
وهذا أمر مُتوقَّع تماماً، ورغم التشريعات اليهودية الخاصة بتحريم الزواج المختلط، فمن المعروف أن اليهود تزاوجوا بغيرهم من الشعوب. بل وكان من الصعب علىهم أن يفعلوا غير ذلك لأنهم كانوا شعباً من البدو الرحل الذين يتنقلون من مكان إلى آخر. لقد جاء الآباء، أسلاف العبرانيين، من بابل، فهم إذن من أصل سامي عربي. وحينما وصلوا إلى كنعان، تزاوجوا مع الحيثيين الذين هم من أصل أرمني. ولا شك في أن العبرانيين تأثروا حضارياً وعرْقياً بالمصريين أثناء إقامتهم في مصر بعد هجرة يوسف ويعقوب. وقد خرجوا من مصر ومعهم «اللفيف العرْقي» الذي يشير إلىه العهد القديم. وقد تزوج موسى أثناء الخروج أو الهجرة من مصر من امرأة مدينية (من مدين) ثم من كوشية. وتزاوج العبرانيون بالكنعانيين بعد تسللهم إلى أرض كنعان وبغيرهم من الأقوام السامية التي كانت تقيم هناك. ومن الطريف أن أم داود (الذي سيأتي من نسله الماشيَّح ملك اليهود) لم تكن، حسبما ورد، يهودية. أي أنه هو نفسه مشكوك في انتمائه إلى الشعب اليهودي. وفي العصر الهيليني، كانت نسبة التزاوج بالأجانب مرتفعة إلى حدٍّ كبير.
ورغم أن اليهودية ليست ديانة تبشيرية، فإن كثيراً من الشعوب قد تَهوَّدت. فقد فرض الحشمونيون اليهودية قسراً على بعض الشعوب المجاورة لهم، مثل الأدوميين والإيطوريين. كما تَهوَّدت قبائل الخزر (أو نخبتها القائدة) في ظروف لا تزال غامضة. ويُلاحَظ أن الكنيسة، في العصور الوسطى، كانت تكرِّر من آونة لأخرى تحريم الزواج بين اليهود والمسيحيين، وهو أمر يدل على استمرار الظاهرة. أما في العصر الحديث، فإن معدلات الزواج المُختلَط في ألمانيا في الثلاثينيات، في روسيا السوفيتية (سابقاً) وفي الولايات المتحدة وفي معظم البلاد التي تزايدت فيها معدلات العلمنة، تصل إلى نحو 50% في كثير من الأحيان. وكانت نتيجة الزواج المختلط هي عدم النقاء العرْقي.(3/168)
وقد اتضحت الخلافات العرْقية بين اليهود في الدولة اليهودية بشكل مثير لا يمكن الجدل بشأنه: فاليهود الإشكناز الشقر ويهود الفلاشاه السود ويهود بني إسرائيل الداكنو اللون (الذين جاءوا من الهند) لا يمكن أن ينتموا إلى عرْق واحد مهما بلغت الادعاءات العنصرية (الصهيونية أو المعادية لليهود) من حنكة وموضوعية!
ولو كانت هناك سمات يهودية عرْقية واضحة لما ادعى بعض اليهود (أيام هيمنة النازية) أنهم ينتمون للجنس النوردي وأنهم لا علاقة لهم بالجنس السامي، ولما طلب النازيون من أعضاء الجماعات اليهودية أن يُعلِّقوا نجمة داود، حتى يستطيع الآريون التعرف عليهم. ولكن التفكير العنصري الاختزالي يمكنه التعايش ببساطة مع مثل هذه التناقضات، فهو لا يشعر بالأمن أو الاستقرار إلا في عالم واحدي مادي كل الأمور فيه بسيطة ويمكن ردها لعنصر مادي واحد يُدرَك بالحواس الخمس، مثل العرْق وشكل الأنف وحجم الرأس.
الأمراض اليهودية (الخصوصية اليهودية الطبية)
(Jewish Diseases) Jewish Medical Specificity
«الأمراض اليهودية» ، هي تلك الأمراض التي يُفترض أنها تصيب اليهود وحدهم. وتذخر الكتابات الطبية المعنية بالمسألة الوراثية بالحديث عن إشارات إلى مناعة اليهود ضد أمراض مُعْدية معينة كالسل أو الطاعون. وتصل هذه الدراسات إلى حد الشطط حين تتحدث عن التفوق المعرفي والعلمي والعقلي لليهود وعن ارتفاع معدلات الذكاء الوراثي بينهم. والواقع أن مثل هذه الأفكار تفترض أن ثمة خصوصية بيولوجية وراثية يهودية، أي خصوصية طبية ونفسية وعرْقية تسم اليهود كافة في كل زمان ومكان.(3/169)
ولكن دراسة ظاهرة الأمراض اليهودية (أو الأمراض التي يُصاب بها أعضاء الجماعات اليهودية) بتعمق، ومن خلال استخدام نموذج تفسيري أكثر تركيباً وثراءً من ذلك النموذج التبسيطي الاختزالي السائد في بعض الكتابات الغربية، تبين لنا وبشكل قاطع عدم صحة هذا الافتراض. كما تبين لنا الدراسة المتأنية مدى التنوع والاختلاف في الأمراض التي تصيب الجماعات اليهودية المختلفة.
ويمكن تصنيف الأمراض التي تُصيب أعضاء الجماعات اليهودية المختلفة إلى قسمين من منظور الخصوصية أو انعدامها:
1 ـ أمراض تصيب أعضاء الجماعات اليهودية دون غيرهم من سكان المجتمعات التي يعيشون بينها (ويندرج تحت هذا التصنيف زيادة مناعة أعضاء الجماعات اليهودية ضد بعض الأمراض بمعدل يفوق المعدل السائد بين أعضاء الأغلبية) . وهذه الخصائص الطبية يمكن تفسيرها من خلال نموذج تفسيري يؤكد أهمية العناصر الثقافية (بالمعنى العام للكلمة) المقصورة على أعضاء الجماعات اليهودية. ومع هذا يبيِّن هذا النموذج أن الخصوصية الطبية التي تسم جماعة يهودية ما ليست خصوصية طبية يهودية عالمية عامة، أي أنها لا تشمل كل يهود العالم وإنما تقتصر على جماعة يهودية دون غيرها من الجماعات. ومن ثم لا يمكن الحديث عن خصوصية طبية أو بيولوجية عالمية عامة. ويُلاحَظ أن هذا التنوع وذلك الاختلاف نابعان أساساً من مُركَّب من العوامل البيئية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي نتج عنها ظهور بعض الأمراض الوراثية التي اختلفت من جماعة إلى أخرى ونتج عنها ارتفاع نسبة الإصابة ببعض الأمراض بين جماعة دون أخرى.(3/170)
ثمة أمراض بعينها تكثر بين أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة من أصل يديشي أو إشكنازي، وثمة أمراض وراثية تنتشر بينهم دون غيرهم من السكان. ومن بين هذه الأمراض مرض «جاوشر» ، وهو مرض وراثي يَنجُم عن صفة متنحية (والصفة المتنحية هي الصفة التي لا تظهر إلا عندما يكون الوالدان حاملين للصفة الوراثية نفسها) . ومن أهم أعراض مرض جاوشر، انخفاض نسبة خميرة (إنزيم) تدخل في أيض نوع من أنواع الدهون في الدم، وهو ما يتسبب عنه تراكم هذه المادة في كلٍّ من الكبد والطحال والجهاز العصبي، مؤدياً إلى أعراض مرضية متلازمة في النمط المزمن الذي يظهر في البالغين، أو إلى الوفاة في غضون عامين أو ثلاثة أعوام في النمط الحاد الذي يظهر بين الأطفال. وتبلغ نسبة حاملي هذه الصفة الوراثية بين يهود الولايات المتحدة من أصل يديشي حوالي واحد بين كل ستين بينما تبلغ هذه النسبة بين غير اليهود حوالي واحد بين كل ستمائة.
وهناك أيضاً مرض «تاي ـ ساكس» ، وهو مرض يَنجُم عن غياب خميرة تدخل في أيض الدهون أيضاً، ويؤدي هذا المرض إلى موت الأطفال المصابين به في غضون عامين أو ثلاثة أعوام. وتبلغ نسبة حاملي الصفة المتنحية المسببة لهذا المرض بين يهود الولايات المتحدة من أصل يديشي نحو واحد بين كل ثلاثين، بينما تصل هذه النسبة في غير اليهود إلى واحد بين كل ثلاثمائة، ونسبة احتمال ولادة طفل مصاب بهذا المرض تصل إلى واحد بين كل ثلاثة آلاف وستمائة من اليهود من أصل يديشي بينما تنخفض إلى واحد بين كل ثلاثة ملايين وستمائة ألف بين غير اليهود.(3/171)
وهناك أيضاً مرض «نيمان بيك» ، وهو مرض ينجم عن تطفُّر جيني له علاقة بغياب خميرة تدخل أيضاً في أيض الدهون، ونسبة حاملي هذه الصفة عالية بين يهود الولايات المتحدة من أصل يديشي. وهناك بالمثل ما يُسمَّى «متلازمة بلوم» (و «المتلازمة» ، هي مجموعة من الأعراض المرضية المتلازمة، والتي يُقال لها بالإنجليزية «سندروم syndrome» . وتتمثل متلازمة بلوم في انخفاض وزن المولود وضعف نموه وحساسية جلده للشمس وتَراكُم اللمف وظهور شكل الفراشة على الوجه.
ويُلاحَظ أيضاً ارتفاع نسبة إصابة يهود الولايات المتحدة من أصل يديشي بنقص غير عادي في الخميرة 21 - هيدروكسيليز غير التقليدي. ويؤدي هذا النقص إلى تَراكُم مواد دهنية في الأنسجة العصبية والكبد والطحال.
ومما يلفت النظر في هذه المجموعة من الأمراض الوراثية، والتي تزيد نسبة تواترها بين يهود الولايات المتحدة من أصل يديشي، أنها تتعلق أساساً بنقص خمائر أيض الدهون! والواقع أن ثمة ظاهرة مماثلة تتعلق بقبائل الهوي في أمريكا الشمالية حيث يزداد عدد الأفراد من «أعداء الشمس» ، أو الألبينو، ونظراً لارتفاع قيمة هذا الشكل بين قبائل الهوي، يحدث ما يُسمَّى «الانتقاء الثقافي» ، أي أن الثقافة تفرض على المجتمع أو الجماعة نوعاً من الانتقائية الوراثية نظراً لأهمية عنصر معيَّن. وهذا العنصر، في حالة اليهود، هو الوصية التي تقول «لا تطبخ العجل بلبن أمه» ، والتي تتضمن تحريماً ضمنياً على استخدام الدهون. ويمكننا بالمثل رؤية الأمراض الوراثية التي تزداد نسبتها بين يهود الولايات المتحدة، المهاجرين من مناطق اليديشية، كنوع من الانتقاء الثقافي وأيضاً الطبقي، ذلك أن معظم هؤلاء المهاجرين من أصول فقيرة، ويصبح الامتناع عن تناول الدهون نوعاً من الالتزام الديني والذي قد يكون أيضاً بسبب عجز القدرة المادية.(3/172)
ومن الأمراض العصبية التي ترتفع نسبة الإصابة بها بين يهود اليديشية في العصر الحديث (بخاصة بين المهاجرين) مرض ذهان الهوس والاكتئاب أو المرض الدوري، وهو المرض الذي تنتاب المريض فيه حالات متعاقبة من الهوس ثم الاكتئاب، وأحياناً تكون الحالات اكتئابية فقط أو هوسية فقط. ويُذكَر أن هذا المرض يكون مقترناً (لدى بعض اليهود غير اليديشيين المصابين به) بعمى الألوان وبنقص في الخميرة المسؤولة عن انتزاع هيدروجين الجلوكوز 6 فوسفات من على الصبغية س، ومن ثم يُفترض أن يكون لهذا أصل وراثي.
ومرة أخرى، يُفسِّر نموذج الانتقاء الثقافي سبب تَفشِّي هذا المرض بين اليهود من أصل يديشي أو إشكنازي. وكما يقول رفائيل باتاي في كتابه العقل اليهودي، تزداد نسبة إصابة فقراء اليهود والطبقة العاملة اليهودية التي تمثل نسبة ضئيلة من إجمالي الطائفة بهذا المرض، فذهان الهوس والاكتئاب هو من أمراض عدم التَكيُّف ويزداد بشدة عندما تزداد الهوة الاجتماعية بين أفراد الطبقة الواحدة. واليهودي الفقير يزداد إحساسه بالغربة وعدم التكيف لإحساسه بأن اليهود الآخرين أكثر غنى منه، ومن ثم تبدأ نوبات السخرية من الذات التي تتلوها نوبات الاكتئاب والإحباط.(3/173)
وكذلك يُفسِّر لنا هذا النموذج انخفاض معدلات الخصوبة بين اليهود من أصل يديشي في الولايات المتحدة حتى أصبحت تساوي النسبة العامة للمواطن الأمريكي من الطبقة الوسطى. فالحراك الطبقي الذي حققه يهود اليديشية في الولايات المتحدة غيَّر نمط حياتهم وجعلهم أقرب إلى التمسك بقيم الطبقة الوسطى أكثر من المواطن الأمريكي العادي. فاليهودي اليديشي المنتمي إلى الطبقة الوسطى الأمريكية لن يَقبَل أن يحرمه الإنجاب من كل المزايا الفردية التي يتمتع بها، وذلك على العكس من جده الفقير في بولندا الذي كان ينجب كثيراً لأن الأولاد يشكلون مصدراً للدخل (كقوة عمل) ، ولأن الثقافة السائدة لا تأبه كثيراً بالانتماء الفردي بقدر ما تحرص على الانتماء الجماعي.
أما اليهود القرّاؤن، فيُلاحَظ أن من بين الأمراض الوراثية التي ترتفع نسبة ظهورها بينهم مرض فردبخ هوفمان، وهو مرض أيضي يؤدي إلى تَحلُّل خلايا الدماغ ويؤدي إلى موت الأطفال المصابين به. وتبلغ نسبة الأشخاص حاملي المرض بين القرّائين نحو واحد بين كل ثلاثين.(3/174)
ويُفترَض أن ليهود الولايات المتحدة من أصل يديشي مناعة خاصة ضد الإصابة بالسل. وقد ذكرت بعض المراجع التاريخية أنه إبَّان تَفشِّي وباء الطاعون في أوربا في القرون الوسطى وما بعدها، كانت نسبة إصابة اليهود به أقل بكثير من نسبة إصابة الآخرين. والواضح أن المناعة النسبية ليهود الولايات المتحدة من أصل يديشي ضد السل يمكن فهمها في ضوء نموذج الانتقاء الثقافي، فمعظم هؤلاء من أصول فقيرة عاشت في مناطق فُرضت عليها العزلة، وبذلك تَفشَّى السل في أجدادهم، والناجون هم أولئك الذي استطاعوا اجتياز المرض واكتسبوا مناعة نسبية ورَّثوها للأجيال التالية التي هاجرت إلى الولايات المتحدة وارتقت في السلم الاجتماعي إلى مستوى الطبقة الوسطى. أما بالنسبة إلى وباء الطاعون، فقد استطاع كثير من يهود أوربا خلال العصور الوسطى تَجنُّب هذا المرض، مثلهم مثل سائر الأثرياء، لمقدرتهم على الابتعاد عن المناطق الموبوءة، وكذلك لنظافتهم والطبيعة الخاصة لطعامهم.
وفيما يختص بيهود المشرق، نجد أن نسبة الإصابة بأمراض نزف الدم (الهيموفيليا) تقل قياساً بغيرهم. ويمكننا في ضوء نموذج الانتقاء الثقافي أيضاً أن نرى انخفاض نسبة أمراض الدم بين اليهود الشرقيين، حيث أن اتباع تعاليم التلمود يخلق هذا النوع من الانتقائية. فقد ورد في التلمود فقرة تدعو إلى عدم ختان الطفل المولود لامرأة مات لها طفل من النزيف بعد ختانه، وإلى عدم تحبيذ زواج تلك المرأة من رجل من العائلة نفسها.
ومن المعروف أن ختان الذكور تقليد مصري اعتاد عليه اليهود وأخذوا معه جميع التعاليم المرتبطة به. وبذا، يمكننا أن نقول إن هذا أدَّى إلى عملية انتقائية خاصة تؤدي إلى عزل جيني معيَّن يقلل من الإصابة بهذا المرض.
2 ـ أمراض تصيب أعضاء الجماعات اليهودية بنسبة لا تختلف عن أعضاء الأغلبية:(3/175)
يُلاحَظ أن هناك تشابهاً في النمط الوراثي أو في مسألة الإصابة بالمرض بين أعضاء الجماعات اليهودية وبين الشعوب التي يتواجدون بينها. فهم ينتمون إلى ثقافة هذه الشعوب ويعيشون ظروفها. وفي دراسة أجريت في إسرائيل أعوام 1964 ـ 1966، يُلاحظ الباحث أن نسبة الإصابة بمرض ارتفاع ضغط الدم المصاحب للحمل ترتفع بين النساء اليهوديات من أصل إيراني. وكذا بين المسلمات العرب، عنها بين النساء اليهوديات من أصل يديشي أو سفاردي. وهو يحاول أن يربط بين المرض وبين ما دعاه بـ «الأصل العرْقي» ، ولكنه يعود في فقرة أخرى ليتحدث عن العوامل الاقتصادية الاجتماعية، وليس عن الأصل العرْقي، دون أن يُلاحظ ما في قوله من تَناقُض، فيقول: إن المرض أكثر انتشاراً بين الأمهات الفقراء وغير المتعلمات!
في هذا الصدد، تَذكُر دراسة أجريت في إسرائيل بين عامي 1952 و1953 أن معظم حالات أمراض الجهاز الهضمي بين يهود اليديشية هي حالات قرحة المعدة والقولون العصبي، وهي حالات عصبية جسمية. وعلى العكس من ذلك، تزداد الأمراض المعدية بين اليهود الشرقيين. فيهود اليديشية القادمون من أوربا يعانون أساساً من أمراض الحضارة الغربية، أما اليهود الشرقيون فيعانون من أمراض المنطقة العربية.
ونحن نلاحظ أيضاً أن غالبية الأمراض الوراثية، التي تُعزَى إلى اليهود بشكل أو آخر، ما هي إلا أمراض تزيد نسبتها بين صفوف يهود الولايات المتحدة من أصل يديشي. ويرجع هذا أولاً وقبل كل شيء إلى ارتفاع مستواهم المادي مقارنةً بغيرهم من البشر في الولايات المتحدة حيث يحتلون مراكز قوية داخل صفوف الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة، الأمر الذي يتيح لهم قدراً عالياً من التعليم، وبالتالي يمكنهم الاستفادة من عملية فحص الأبوين وفحوص ما قبل الزواج التي تتطلب تكاليف باهظة لا يقدر عليها المواطنون من أصل أفريقي مثلاً.(3/176)
وعلى أية حال، فإن هذه الدراسات لا تتطرق إلى الأمراض الوراثية العائلية التي تصيب العائلات اليهودية الثرية كعائلة روتشيلد على سبيل المثال. والملاحَظ أن النمط الوراثي هنا يختلف عن النمط العام لأمراض يهود اليديشية ويقترب من النمط الوراثي للعائلات الأرستقراطية الأوربية كآل رومانوف الروس مثلاً، حيث تنتشر بينهم أمراض الدم مثل الهيموفيليا، وهي أمراض تعني شدة انغلاق العائلة على نفسها، وهو ما يؤدي إلى العزل الجيني أو التثبيت الوراثي لصفة مُتنحية.
لكن الحديث عن الأمراض اليهودية، دون مقارنة هذه الظاهرة بالظواهر المماثلة في المجتمع، يؤدي إلى نزع الظاهرة من سياقها ويفتح الباب على مصراعيه للنظريات العنصرية، والمنطق نفسه الذي يحاول إثبات التفوق الوراثي لليهود يمكن أن يحاول أيضاً إثبات خطورتهم الوراثية وضرورة اتخاذ الإجراءات لوضع حد لهذا الخطر.
نقاء اليهود حضارياً (إثنياً)
Cultural (Ethnic) Purity of the Jews
«نقاء اليهود حضارياً (إثنياً) » هي عبارة تعني أن ثمة شعب يهودي ذو تقاليد حضارية يهودية خالصة، احتفظت باستقلالها ووحدتها ونقائها.
والنقاء الحضاري هو المفهوم الأساسي الكامن في الكتابات الصهيونية عن اليهود. ومن ثم، فهم يتحدثون عن «الخصوصية اليهودية» أو «التراث اليهودي» أو «الثقافة اليهودية» وعن «التاريخ اليهودي» وكأن هناك بنية تاريخية مستقلة يدور اليهود في إطارها بمعزل عن الأغيار، وذلك برغم انتشارهم في كل أنحاء الأرض، بل ويتحدثون عن «النظام السياسي اليهودي» و «الاقتصاد اليهودي» ، وهكذا، باعتبارها كلها ناتجة عن هذا النقاء الحضاري اليهودي، وباعتبارها الأطر التي احتفظ اليهود من خلالها بنقائهم.(3/177)
ويُلاحَظ أن النقاء الثقافي غير منفصل عن النقاء العرْقي، فاستناداً إلى فكرة الشعب العضوي (فولك) ، ترتبط حضارة أي شعب بالدماء التي تجري في عروقه. ومن ثم، فإن هناك وحدة لا تنفصم عراها بين الحضارة والعرْق. وقد سادت هذه الفكرة أوربا في القرن التاسع عشر، وكانت من أكثر الأفكار شيوعاً، وأثَّرت في الفكر القومي الغربي وفي الفكر النازي والصهيوني وفي النظرية الإمبريالية الغربية.
ونحن نذهب إلى أن هناك ثقافات يهودية مختلفة باختلاف التشكيلات الحضارية التي يوجد داخلها اليهود - ومن هنا عدم نقاء الظواهر الحضارية اليهودية ابتداءًً باللغة العبرية ذاتها، وانتهاءً بالنشيد الوطني الإسرائيلي «الهاتيكفاه» (أي الأمل) - (انظر الباب المعنون «ثقافات أعضاء الجماعات اليهودية [تعريف وإشكالية] » ) .
والواقع أن الامتزاج مع الحضارات والشعوب الأخرى ليس أمراً معيباً أو مشيناً، فهو قانون الوجود الإنساني. ولكن الصهاينة، شأنهم شأن المعادين لليهود، يحاولون خلع صفة النقاء الحضاري وأحياناً العرْقي على اليهود، وفي هذا إنكار لإنسانيتهم لأنهم حين ينتزعون اليهود من سياقهم التاريخي المتعيِّن إنما ينتزعونهم من سياقهم الإنساني الوحيد.
الخصوصية اليهودية
Jewish Specifcity(3/178)
«الخصوصية اليهودية» تعبير ينطلق من أن هناك سمات وخصائص ثابتة يُفتَرض أنها مقصورة على أعضاء الجماعات اليهودية ومن ثم تمنحهم خصوصيتهم. وهذه الفكرة كامنة في جميع الأدبيات الصهيونية والأدبيات المعادية لليهود، إذ أن كلاًّ منهما يرى أن ثمة طبيعة بشرية يهودية أو تاريخاً يهودياً خاصاً مقصوراً على اليهود. ولكن دارس الجماعات اليهودية في العالم سيرى أن مفهوم الخصوصية اليهودية ليس له ما يسنده في الواقع، إذ يتسم أعضاء الجماعات اليهودية، بل والنسق اليهودي الديني ذاته، بعدم التجانس. ولذا، فقد يكون من الأدق الحديث عن خصوصيات الجماعات اليهودية، وهي خصوصيات أدَّت العناصر التالية إلى ظهورها:
1 ـ اضطلعت أعداد كبيرة من الجماعات اليهودية بدور الجماعات الوظيفية الأمر الذي أدَّى إلى عزلها عن المجتمع، ومن ثم كان لهذه الجماعات لون خاص بها وشخصية شبه مستقلة. لكن هذه الخصوصية وظيفية أكثر منها حضارية، أي مرتبطة بالوظيفة لا بالتراث المشترك.
2 ـ ما يضفي على أعضاء الجماعات اليهودية، (في معظم الأحوال) طابع الاستقلال النسبي الإثني هو ميراثهم من تشكيل حضاري سابق كانوا يتواجدون فيه، وحملوا بعض عناصره وسماته معهم إلى التشكيل الحضاري الجديد الذي انتقلوا إليه، وتمسكوا بها وحافظوا عليها دون أن تكون هذه العناصر والسمات يهودية بالضرورة.
3 ـ الخصوصية اليهودية التي تتمتع بها الجماعات اليهودية الوظيفية هي أقرب إلى الحالة الذهنية الافتراضية منها إلى الحالة الواقعية الفعلية، فرغم العزلة التي يفرضها المجتمع على الجماعة الوظيفية فإن أعضاء الجماعة اليهودية يكتسبون كثيراً من خصائص هذا المجتمع ويندمجون فيه.(3/179)
لكل هذا، لا يمكن الحديث عن خصوصية يهودية واحدة عالمية مُستمَدة من معجم حضاري واحد، بل يمكننا أن نقول إن هناك خصوصيات يهودية شتى اكتسبها أعضاء الجماعات اليهودية لا من تراث يهودي عالمي أو من خلال حركيات حضارية يهودية عامة، وإنما من خلال التفاعل مع عدة تشكيلات حضارية، ومن خلال التكيف معها بطرق مختلفة، ومن خلال الاندماج فيها في نهاية الأمر. ومن ثم أصبح أعضاء الجماعة اليهودية في الصين يهوداً صينيين (أو صينيين يهوداً) تحددت خصوصيتهم داخل التشكيل الحضاري الصيني وبسببه، لا خارجه وبالرغم منه. ولذا، انضمت قيادة الجماعة اليهودية في الصين إلى طبقة كبار الموظفين العلماء (ماندرين) ، وتطبَّع أعضاء الجماعة اليهودية بطبائع الصينيين في كثير من النواحي. ويُقال الشيء نفسه عن يهود الهند ويهود إثيوبيا ويهود العالم العربي. بل ونجد، داخل التشكيل الحضاري الواحد، كالتشكيل الحضاري العربي، أن يهود العراق يختلفون عن يهود اليمن بمقدار اختلاف العراق عن اليمن. وفي اليمن، يختلف يهود صنعاء عن يهود الجبال (صعدا وغيرها) بمقدار اختلاف أهل صنعاء عن أهل الجبال.(3/180)
وتختلف الأزياء التي يرتديها أعضاء الجماعات اليهودية باختلاف التشكيل الحضاري الذي ينتمون إليه. فالبنطلون الجينز أو الميني جيب (زي الفتاة اليهودية الأمريكية الحديثة) يختلف عن زي الفتاة اليهودية الأمريكية في الجنوب الأمريكي قبل الحرب الأهلية حيث كانت تلبس أزياء الأرستقراطية الإنجليزية. وزي كلتيهما لا علاقة له بالزي الذي ترتديه الفتاة اليهودية من قبائل البربر في المغرب وتونس. وكل هذه الأزياء لا علاقة لها بما ترتديه الفتاة اليهودية المحجبة في بخارى أو نساء السفارد الأرستقراطيات في شبه جزيرة أيبريا اللائي كن يرتدين ملابس الأرستقراطية الإسبانية (أو العربية) . ويُقال الشيء نفسه عن فلكلور المجتمعات اليهودية الذي هو في واقع الأمر فلكلورات الجماعات المختلفة التي ينتمون إلىها، فطاسة الخضة التي يستخدمها يهود مصر أمر غير معروف ليهود بولندا الذين تأثروا بالتراث الشعبي السلافي، وكلاهما سيُصدَم حينما يعرف بعض العادات التي يمارسها يهود إثيوبيا مثل ختان الإناث وعزل المرأة في كوخ مستقل أثناء الحيض. والشيء نفسه ينطبق على الفنون الجميلة، فرسوم شاجال تختلف اختلافاً جوهرياً عن الزخارف الهندسية التي تظهر على النحاسيات المملوكية التي لا يزال الحرفيون اليهود يصنعونها في دمشق، وكلاهما يختلف عن الحلي الفضية التي يصنعها الصاغة اليهود في اليمن أو تونس.(3/181)
وقد يُقال إن اللغة العبرية تشكل عنصراً مشتركاً بين أعضاء الجماعات اليهودية، لكن من المعروف أن العبرية ظلت في معظم الأحيان لغة الصلاة التي كُتبت بها بعض الكتابات الفقهية، ولم يكن يجيدها سوى أعضاء الأرستقراطية الدينية. وبعبارة أخرى، كانت اللغة العبرية، كعنصر مشترك مستمر، مقصورة على فئة صغيرة من الجماعات اليهودية، ولا تمتد إلى كل النشاطات الإنسانية. أما الغالبية الساحقة من أعضاء الجماعات اليهودية، فكانوا يتحدثون لغات ولهجات استقوها من الحضارات والمجتمعات التي وُجدوا فيها، وهذه اللغات تحدِّد ولا شك جانباً كبيراً من رؤيتهم للعالم.
ولعل الصورة اللغوية بين يهود العالم توضح ما نرمي إلى تأكيده. فالغالبية الساحقة ليهود العالم في نهاية القرن التاسع عشر كانت تتحدث اليديشية (لا العبرية) . وفي الوقت الحالي نجد أن غالبية يهود العالم (الولايات المتحدة ـ إنجلترا ـ كندا ـ جنوب أفريقيا ـ أستراليا ـ نيوزيلنده) يشكلون جزءاً لا يتجزأ من التشكيل الاستعماري الاستيطاني الأنجلو ـ ساكسوني، ولذا فهم يتحدثون الإنجليزية لا العبرية (وفي تَصوُّرنا أن إسرائيل هي أيضاً جزء من هذا التشكيل، ولكن الغرب رأى أن يحتفظ هذا الجيب ببعض السمات اليهودية مثل العبرية حتى يمكنه استيعاب الفائض البشري اليهودي من شرق أوربا والذي كان يتدفق على غرب أوربا في نهاية القرن التاسع عشر) . أما يهود الفلاشاه فهم يتحدثون الأمهرية ويتعبدون بالجعيزية التي لم يسمع بها كثير من أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، تماماً كما لم يسمع الفلاشاه من قبل بالعبرية أو اليديشية وربما الإنجليزية.(3/182)
والواقع أن مصدر الاختلاف بين اللغات التي يتحدث بها أعضاء الجماعات اليهودية، والأزياء التي يرتدونها، والفنون التي يعجبون بها أو ينتجونها، هو دائماً اختلاف التشكيلات الحضارية التي انتمى إليها أعضاء الجماعات اليهودية في الماضي، أو التي ينتمون إليها في الوقت الحاضر، وهذا ما حمل أحدهم على الإشارة إلى أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة بأنهم «واسب يهود» . وكلمة «واسب» هي اختصار لعبارة «وايت أنجلو ساكسون بروتستانت White Anglo Saxon Protestant» أي «بروتستانتي أبيض من أصل أنجلو ساكسوني» . ويشير يهود فرنسا الأصليون إلى المهاجرين المغاربة بوصفهم «كوشر كُسْكُس» ، أي أن يهودية يهود المغرب مرتبطة ولصيقة بهويتهم المغربية، فطعامهم لا تقرِّره العقيدة اليهودية وحدها، ولذا فهو ليس «كوشير» وحسب، وإنما يقرره أيضاً انتماؤهم الإثني، ولذا فهو أيضاً «كُسْكُس» . والخصوصية اليهودية هنا ليست سمة عامة وإنما هي سمة مرتبطة بانتمائهم المغربي. ولذلك، يرى البعض أن هؤلاء لو فقدوا خصوصيتهم المغربية لفقدوا هويتهم اليهودية أيضاً.(3/183)
وقد يُقال إن ثمة رابطة دينية قوية بين أعضاء الجماعات اليهودية، وإن الخصوصية اليهودية تكمن في هذه العقيدة الفذة. ولكننا لو دققنا النظر لوجدنا أن العقيدة اليهودية لا تختلف كثيراً عن الإثنية اليهودية، فالعقيدة اليهودية ذاتها تأخذ شكل تركيب جيولوجي غير متجانس تتراكم داخله أنساق دينية مختلفة، بعضها توحيدي وبعضها الآخر حلولي أو تشاوبي (انظر الباب المعنون «اليهودية باعتبارها تركيباً جيولوجياً تراكمياً» ) . والرؤية اليهودية في الصين اكتسبت مضموناً صينياً صريحاً، وانغمس اليهود تحت تأثير الكونفوشيوسية في عبادة الأسلاف وكانوا يطلقون على الإله اسم «تاين» أي السماء، أو «تاو» ، أي الطريق، وكانوا يعبدونه في معبد يهودي يقف بجواره معبد آخر خُصِّص لعبادة الأسلاف. وكان بعضهم يأكل لحم الخنزير (مثل الصينيين) ولكنهم كانوا لا يضحون به لأسلافهم بل كانوا يقدمون لهم لحم الضأن وحسب. والأسلاف هنا، بالمناسبة، هم إبراهيم ويعقوب وإسحق. وفي الهند تأثرت اليهودية بنظام الطوائف المغلقة وبالعديد من الشعائر الخاصة بالنجاسة، تحت تأثير الهندوكية. أما في إثيوبيا، فقد تأثرت اليهودية هناك بكل من الإسلام والمسيحية، فيهود الفلاشاه يخلعون نعالهم ويصلون في مسجد، ولكنهم يتلون صلواتهم بالجعيزية، لغة الكنيسة القبطية، كما أن يهوديتهم دخلتها عناصر وثنية عديدة. وفي المحيط الإسلامي، قام موسى بن ميمون بتطوير عناصر التوحيد في اليهودية وأكدها، بل وحاول ابنه من بعده إضفاء الطابع الإسلامي على اليهودية. كما تأثرت اليهودية في المحيط السلافي الفلاحي بالمسيحيين الأرثوذكس، وبحركات المتصوفة التي ظهرت بينهم، وكانت هذه العناصر من بين الأسباب المهمة التي أدَّت إلى ظهور الحسيدية. أما في ألمانيا، والولايات المتحدة فيما بعد، فقد تأثرت اليهودية بالمحيط البروتستانتي وظهرت اليهودية الإصلاحية في بلد لوثر. أما في البلاد الكاثوليكية، خصوصاً في أمريكا(3/184)
اللاتينية، فقد تأثرت اليهودية بالعقيدة الكاثوليكية في كثير من جوانبها، ولذلك لا توجد يهودية إصلاحية في أمريكا اللاتينية. وقد حدا هذا ببعض الدارسين إلى الحديث عن «يهودية كاثوليكية» ، و «يهودية بروتستانتية» ، و «يهودية إسلامية» ، ويمكن أن نضيف «يهودية كونفوشيوسية» وأخرى «هندوكية» وثالثة «أفريقية» ، فهذه كلها يهوديات تستمد خصوصياتها من محيطها الديني.
وهذا الأمر طبيعي وإنساني إلى أقصى حد. فالبشر، شاءوا أم أبوا، يتأثرون بمحيطهم الحضاري ويؤثرون فيه. كما أن أعضاء الأقليات عادةً يتأثرون بمحيطهم الحضاري أكثر مما يؤثرون فيه، إلا إذا كانوا من الغزاة، ففي هذه الحالة يصبح الغزاة نخبة عسكرية حاكمة يتقرب منها أعضاء المجتمع ويتعلمون لغتها ويتشبهون بها إلى أن يفقدوا لغتهم وهويتهم الأصليتين. وعلى أية حال، لم يكن العبرانيون ولا أعضاء الجماعات اليهودية في مثل هذا الوضع في يوم من الأيام، باستثناء فترة احتلال فلسطين على يد المستوطنين الصهاينة (وهم، على أية حال، جماعة غير متجانسة حضارياً، كما أن الفلسطينيين العرب جماعة واعية ومتماسكة حضارياً إلى أقصى حد) .(3/185)
هذا إذن أمرٌ طبيعي وإنساني، لكن المشكلة تنشأ حينما يصرُّ المؤرخون الصهاينة وغيرهم على استخدام كلمة «يهود» للإشارة إلى أعضاء الجماعات اليهودية كافة، كما لو كانوا كلاًّ واحداً متماسكاً متجانساً، ومن ثم فإنهم يتحدثون عن «فن يهودي» و «أزياء يهودية» بل و «لغات يهودية» تُجسِّد كلها خصوصية يهودية مطلقة لا علاقة لها بالتشكيلات الحضارية المختلفة. والواقع أن حديث الصهاينة عن «الخصوصية اليهودية» ناجم عن ملاحظة أن الجماعات اليهودية منفصلة عما حولها من ظواهر مماثلة. فمما لا شك فيه أن كثيراً من الجماعات اليهودية، خصوصاً في الغرب، كانت معزولة عن محيطها الحضاري إلى حدٍّ ما، وقد تركت هذه العزلة أثرها على أعضاء الجماعات اليهودية على شكل تَميُّز وخصوصية. ولكن معظم الجماعات الوظيفية، يهودية كانت أم غير يهودية، تُضرَب عليها العزلة أيضاً وتكتسب خصوصية ما مرتبطة بوضعها الاجتماعي الحضاري المحدَّد. وكما أشرنا من قبل، فإن هذه الخصوصية ليست خصوصية واحدة ولا عالمية، بل هي خصوصيات مختلفة مُستمَدة من تشكيلات حضارية غير يهودية مختلفة.(3/186)
كما أن حديث الصهاينة متأثر بتجربة يهود شرق أوربا من يهود اليديشية، الذين كانوا كتلة بشرية ضخمة (تشكل 80% من يهود العالم) تتميَّز بشكلٍّ مباشر عن محيطها الحضاري. ولكن من الواضح أن هذا التميز ناجم عن عناصر حضارية حملها يهود اليديشية من الحضارات السابقة التي عاشوا في كنفها، وأدخلوا عليها عناصر تبنوها من الحضارة التي انتقلوا إليها. فاليديشية (أهم مظاهر خصوصيتهم) هي ألمانية العصور الوسطى التي كانوا يتحدثون بها قبل هجرتهم بعد أن دخلت عليها بضع كلمات سلافية وعبرية، ورداؤهم هو الكفتان (القفطان) رداء الأرستقراطية البولندية، وهو من أصل تتري تركي. كما أنهم تأثروا بمحيطهم السلافي في معتقداتهم الدينية، فالحسيدية هي نتاج الفكر الصوفي الفلاحي السلافي وعقائد المنشقين على الكنيسة الأرثوذكسية، وقبعتهم المعروفة بالستريميل المزينة بالفرو هي ذات أصل سلافي. ويمكن القول بأن خصوصية يهود اليديشية تكمن في عدة عناصر مستمدة من عدة حضارات، وأن وجودها مجتمعة فيهم هو ما قد يشكل خصوصيتهم. وقد كوَّن يهود اليديشية كتلة بشرية ضخمة مترابطة متميِّزة عن محيطها الحضاري مع تأثرها العميق به، ولذا فإنها تُعدُّ أقلية قومية مثل كثير من الأقليات القومية الأخرى التي كانت توجد داخل الإمبراطورية القيصرية، فهي لا تشكل شعباً يهودياً وإنما أقلية قومية شرق أوربية. وقد انطلق أعضاء حزب البوند من هذا المفهوم، وطلبوا حل مشكلة الجماعة اليهودية في شرق أوربا باعتبارها أقلية قومية يهودية شرق أوربية لا شعباً يهودياً عالمياً. وينطلق فكر دبنوف من المفهوم نفسه، فالحديث عن قومية الدياسبورا هو في واقع الأمر حديث عن الخصوصيات اليهودية، وقومية الدياسبورا هي حديث عن أقليات قومية، وعن أقلية قومية واحدة على وجه التحديد، وهي يهود اليديشية. ومن هنا كان رفض هؤلاء اللغة العبرية ودفاعهم عن اليديشية، لا باعتبارها لغة اليهود التي تُعبِّر عن خصوصية(3/187)
يهودية عالمية، وإنما باعتبارها لغة يهود شرق أوربا، التي تُعبِّر عن خصوصيتهم.
ولكن هذه الخصوصية اليهودية اليديشية وغيرها من الخصوصيات اليهودية، تم اكتساحها مع ظهور العلمانية الشاملة في الغرب وعصر العقل والاستنارة. فالفكر العلماني والعقلاني ينظر إلى الكون في إطار فكرة القانون العام والطبيعة البشرية العامة والإنسان الطبيعي. وقد ظهر هذا الفكر قبل تَطوُّر الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية التي أدَّت إلى تَراجُع فكرة الإنسان الطبيعي والإنسانية العامة، حيث حل محلها إدراك أعمق للطبيعة البشرية ولتَداخُل العناصر التاريخية والحضارية الخاصة مع بنية الطبيعة البشرية ذاتها. وقد طالب عصر العقل أعضاء الجماعة اليهودية وغيرهم بالتخلص من خصوصيتهم ليصبحوا بشراً بالمعنى العام للكلمة. وكان يُنظَر إلى اليهود الذين يُؤثرون الإبقاء على خصوصيتهم الدينية أو الإثنية على أنهم «دولة داخل دولة» . وقد شن الفكر العقلاني هجوماً شرساً على جميع الأقليات العرْقية واللغوية والدينية في المجتمع الغربي وضمن ذلك الجماعة اليهودية، ودعاهم إلى التخلي عن انعزاليتهم وإلى إصلاح وتحديث هويتهم، أي تطبيعها وتخليصها من أية خصوصية تكون قد علقت بها.(3/188)
وقد استجاب اليهود إلى هذه الدعوة وبسرعة غير عادية لأسباب عدة، من بينها عدم وجود خصوصية يهودية عالمية كما أسلفنا، وعدم وجود سلطة مركزية يهودية تحدد الخصوصية اليهودية وتحدد معاييرها. ويُلاحَظ أن أعضاء الجماعات اليهودية، بسبب غياب هذه السلطة، كانوا قد تشربوا قدراً كبيراً من الثقافة المحيطة بهم، عن وعي أو عن غير وعي، ولذا فلم يكن من الصعب إنجاز عملية التخلص من أية علامات على الخصوصية. كما ظهرت بين اليهود حركات إصلاح ديني وتنوير أسهمت في تخليص اليهود من أية خصوصية دينية أو غير دينية. ومع هذا، يجب ملاحظة أن أشكال العلمنة ومعدلاتها ذاتها كانت تختلف من بلد إلى آخر حسب الخصوصية الدينية والحضارية لهذا البلد أو ذاك.
وأكبر دليل على الاختفاء السريع للخصوصية هو ما حدث للكتلة البشرية الشرق أوربية الضخمة من يهود اليديشية، والتي كانت تشكل 80% من يهود العالم. فقد اختفت اليديشية، أهم مظاهر هذه الخصوصية بسرعة غير عادية، ولم يعد هناك سوى بضعة جيوب وأفراد يتحدثونها. وتُعَدُّ تجربة المهاجرين اليهود مع الولايات المتحدة من أهم التجارب في التخلص من الخصوصية، فقد كان أعضاء الجماعة اليهودية هم أسرع أقلية تمت أمركتها رغم كثرة الحديث عن انعزالهم وتطلعاتهم القومية، وذلك لأن المجتمع الأمريكي هو المجتمع العلماني النموذجي. وفي الوقت الحاضر، تدل الصورة العامة للخصوصيات اليهودية في العالم على تآكلها، وعلى تزايد معدلات اندماج اليهود في مجتمعاتهم.(3/189)
وبطبيعة الحال، لا يمكن الحديث في الوقت الحاضر عن أية خصوصية إسرائيلية. ولكن، حتى إن ظهرت مثل هذه الخصوصية، فإنها لن تكون خصوصية يهودية عالمية وإنما خصوصية التجمع البشري الاستيطاني في الشرق الأوسط، ذلك المجتمع الذي يتحدث سكانه اللغة العبرية مع أنهم جاءوا من تشكيلات حضارية شتى وأحضروا معهم خصوصياتهم الحضارية المختلفة. والنزاع القائم بين الأرثوذكس وغير الأرثوذكس، وبين الدينيين واللادينيين، وبين السفارد والإشكناز، هو أكبر دليل على عدم وجود الخصوصية اليهودية العالمية أو العامة.
الاندماج
Assimilation
«الاندماج» هو تَبنِّي أعضاء الأقليات عادات الشعوب التي يعيشون في كنفها، وكذلك تراثها الحضاري من مأكل وملبس وطرق تفكير ولغة، بحيث لا يختلفون في كثير من الوجوه عن بقية أعضاء المجتمع. والاندماج عكس الانعزال، وهو مختلف عن الانصهار (أي الذوبان الكامل في المجتمع المضيف أو مجتمع الأغلبية واختفاء أي شكل من أشكال الخصوصية) . وأعضاء الجماعات اليهودية، باندماجهم في محيطهم الحضاري وانصهارهم أحياناً أو بانعزالهم عنه أحياناً أخرى، لا يختلفون عن بقية أعضاء الأقليات والجماعات الإثنية، أو عن بقية البشر.
ولا يوجد قانون واحد يحكم ظاهرة اندماج أعضاء الجماعات اليهودية وانصهارهم أو انعزالهم، وبالتالي لا يمكن القول بأن اليهود يميلون بطبيعتهم إلى الانعزال عمن حولهم. كما لا يمكن الأخذ بعكس ذلك، كأن نقول إن اليهود يميلون بطبيعتهم إلى الاندماج فيمن حولهم، وهكذا. ففي غياب حركيات تاريخية اجتماعية يهودية مستقلة، لابد من العودة إلى أُطر مرجعية مختلفة، ومن ثم فإن من الضروري دراسة كل حالة على حدة بالإشارة إلى مرجعيتها التاريخية والثقافية غير اليهودية. ومع هذا، سنحاول أن نصل في المداخل التالية إلى بعض التعميمات الفضفاضة بمقارنة الحالات المختلفة ومقارنة أوضاع الجماعات اليهودية بجماعات وأقليات أخرى.
الاندماج البنيوي(3/190)
Structural Assimilation
«الاندماج البنيوي» هو الاندماج النابع من حركيات المجتمع وبنيته وظروفه الموضوعية، هذا في مقابل «الدمج المدني» وهو إعطاء اليهود حقوقهم الدينية والسياسية والمدنية من خلال تشريعات وقوانين تصدرها الدولة وتشرف مؤسساتها على تنفيذها. وينطبق هذا الاندماج المدني على معظم يهود العالم الغربي، أي أغلبية يهود العالم.
وتتم عملية الدمج المدني على مستوى البنية الشكلية السطحية، ولذا فهي لا تضرب بجذورها في الواقع المتعين، ومن ثم فهي مهددة بالاختفاء في أية لحظة. وقد حدث شيء مماثل في ألمانيا في ثلاثينيات هذا القرن. فأعضاء الجماعة اليهودية كانوا قد حققوا درجات عالية من الاندماج المدني، بعد أن حصلوا على حقوقهم السياسية والدينية كافة، وبعد أن أُتيح لهم مختلف الوظائف وفتحت المؤسسات التعليمية أبوابها لهم. وقد تم ذلك بمقتضى القانون. ولكن حين وصل النظام النازي إلى الحكم، فقدوا كل هذه الحقوق بسبب بنية المجتمع الألماني وعلاقة أعضاء الجماعة اليهودية بها، والتي أدت في نهاية الأمر، إلى وصول النازيين إلى سدة الحكم.
ويمكن القول بأن آليات الدمج والعزل ليست مسألة ذاتية أو إرادية تماماً، وإنما مسألة لصيقة ببنية المجتمع، ومن ثم فهي قد تتجاوز رغبة المؤسسة الحاكمة في دمج الأقلية أو عزلها، بل وتتجاوز موقف أعضاء الأقلية من عمليتي الدمج والعزل. فمن المعروف أن الدولة الروسية القيصرية كانت راغبة تماماً في دمج اليهود، لأن هذا كان يخدم مصلحتها ويتفق مع رؤيتها. وبالفعل أصدرت الدولة الروسية العديد من القوانين لحث اليهود على الاندماج. ولكن كانت هناك عناصر عديدة ذات طابع بنيوي تعوق عملية الدمج المدني مثل تَخلُّف وفساد البيروقراطية الروسية التي كانت تشرف على عملية الدمج. كما أن تَخلُّف أعضاء الجماعات اليهودية لم يساعد كثيراً على عملية الدمج.(3/191)
ولنضرب مثلاً آخر من كوبا. حينما استولت قوات كاسترو على الحكم، كانت الحكومة الثورية الجديدة متعاطفة تماماً مع أعضاء الجماعة اليهودية، وأصدرت التشريعات اللازمة لمنحهم حقوقهم السياسية والمدنية ولتهيئة الجو اللازم لممارسة الشعائر الدينية اليهودية. ولكن على المستوى البنيوي كان الاقتصاد الاشتراكي يضطر الحكومة لتأميم العديد من المصانع التي كان يمتلكها أعضاء الجماعة اليهودية والاستيلاء على رؤوس أموالهم وتصفية كثير من الوظائف التي كانوا يشغلونها (فهم كانوا مرتبطين بالاقتصاد القديم والمصالح الأمريكية) . كل هذا يعني في واقع الأمر أن بنية المجتمع نفسها كانت تلفظهم، رغم كل المحاولات المخلصة من جانب الحكومة الثورية أن تحافظ عليهم وتستفيد من خبراتهم.
وقد يكون من المفيد أن نتناول بعض آليات الاندماج والانعزال البنيويين فيما يلي:(3/192)
1 - يُلاحَظ حينما يتحول أعضاء الجماعة الدينية إلى جماعة وظيفية، أي حينما يضطلعون بوظائف تتطلب نوعاً من الحياد والانفصال عن المجتمع، أنهم يحققون أقل درجات الاندماج، إذ أن عُزلَتهم تصبح أمراً وظيفياً مطلوباً. ومثال ذلك، الجماعة اليهودية في جزيرة إلفنتاين في مصر (قرب أسوان) والتي كانت تشكِّل جماعة وظيفية قتالية ابتداءً من عصر بسمتيك الثاني (594 - 588 ق. م) ، وكذلك الجماعات اليهودية في الغرب والتي عمل بعض أعضائها أقنان بلاط في العصور الوسطى، وكذلك يهود الأرندا في بولندا ابتداءً من القرن الخامس عشر حتى القرن التاسع عشر. وحينما يترك اليهود هذه الوظيفة، فإن الأسباب الداعية إلى عزلتهم تنتفي ويبدأ أعضاء الجماعة في الاندماج في المجتمع بل والانصهار فيه، تماماً كما حدث في حالة يهود الصين في مدينة كايفنج. ويمكن النظر إلى انخراط بعض يهود اليديشية (من يهود شرق أوربا) في صفوف الطبقة العاملة والوسطى داخل منطقة الاستيطان في روسيا في أواخر القرن التاسع عشر، أو تَحوُّل المهاجرين منهم في الولايات المتحدة إلى عمال ومهنيين وتجار في القرن العشرين، بوصفه تعبيراً عن هذه العملية التي يتحوَّل من خلالها أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة المنعزلة والتي توجد في مسام المجتمع إلى طبقة وسطى أو عاملة توجد في صلبه.(3/193)
2 - يبدو أن أعضاء الجماعات اليهودية حينما ينخرطون في صفوف المهن الحرة، فيعملون كأطباء ومحامين ومديرين وموظفين كبار، تصبح معدلات الاندماج بينهم عالية للغاية شريطة وجود ظروف معينة أهمها ألا تكون المهنة مقصورة عليهم، وألا يعمل بها أعداد كبيرة من أعضاء الجماعة اليهودية، وإلا تَحوَّلوا إلى جماعة وسيطة. فحينما تضم مهنة ما أعداداً كبيرة من أعضاء الأغلبية، فإن الانتماء إلى المهنة والاستفادة بشبكة الاتصال التي يتم تَبادُل أسرار المهنة من خلالها سيتطلب التخلي عن كل خصوصية قومية. وهذا ما حدث في الصين في كايفنج، حين انخرط اليهود في سلك طبقة الماندرين من كبار الموظفين من خلال الامتحان الإمبراطوري في منتصف القرن السابع عشر، فاندمجوا فيهم وأصبحوا صينيين تماماً. ونحن نرى أن ما يحدث للجماعات اليهودية في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (سابقاً) هو من هذا القبيل. فأبناء العمال اليهود وأعضاء الطبقة الوسطى يدخلون الجامعات بنسبة عالية ويتحولون إلى مهنيين وعلماء، وهنا فإن ولاءهم ينصرف إلى أعمالهم وبالتالي إلى جماعتهم الجديدة. كما أنهم جزءٌ لا يتجزأ من المجتمع في ثقافته ولغته، الأمر الذي يشجع اليهود على الاندماج الثقافي.(3/194)
3 - يُلاحَظ أنه إذا ظهرت الخصوصية، وظهر التَميُّز والتمايز على المستويات الدينية والاقتصادية والثقافية، تصبح درجة العزلة عالية للغاية، إذ تدعم العزلة الاقتصادية العزلة الدينية التي تقوم بدورها بإضفاء القداسة على العزلة الاقتصادية. وربما كان وضع يهود الأرندا في أوكرانيا مثلاً متبلوراً يُجسِّد هذه الصورة، حيث كانوا يمثلون الإقطاع الاستيطاني البولندي في أوكرانيا، ويعملون بالأمور المالية والتجارية في وسط زراعي فلاحي، ويتحدثون اليديشية والبولندية في وسط يتحدث الأوكرانية. كما كانوا يهوداً يمثلون نخبة كاثوليكية في وسط أرثوذكسي، بل ويرتدون أزياء مختلفة عن تلك التي يرتديها الفلاحون، ويقصون شعورهم بطريقة متميِّزة في شكل لحية وسوالف، وبالتالي لم تكن تربطهم علاقات قوية بالمجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها. والصينيون، في جنوب آسيا، مَثَل آخر لهذا. وهذا يختلف عن تَميُّز الأقلية وتمايزهم على مستوى واحد فقط كما في حالة الأقلية القبطية في مصر، فالتميز ديني وحسب (وحتى على هذا المستوى توجد أرضية مشتركة عريضة) ، أما على المستويات الثقافية والاقتصادية فهم جزء لا يتجزأ من التشكيل الحضاري العربي الإسلامي في مصر (يتحدثون العربية ولا يختلفون عن بقية أعضاء المجتمع في مأكلهم أو ملبسهم أو مشربهم) .(3/195)
4 - يزداد مستوى العزلة والخصوصية إن كان هناك وطن أصلي يتبعه أعضاء الأقلية ويشكل النقطة المرجعية النهائية لهم يستمدون منه هويتهم ورؤيتهم لأنفسهم. وربما كان الصينيون في جنوب شرق آسيا مثلاً جيداً لذلك، فالصين هي دائماً وطنهم الأصلي ونقطة جذب حضارية ضخمة لها ثقلها ووزنها بالنسبة إليهم. وتزداد معدلات الاندماج باختفاء مثل هذا المركز، إذ يستمد أعضاء الأقلية رؤيتهم لأنفسهم من المجتمع الذي يوجدون فيه أياً كانت درجة انعزالهم عنه. وغياب مثل هذا المركز يعني أيضاً غياب معايير مركزية دينية أو ثقافية، وهو ما يعني أن كل أقلية لابد أن تتطور بحسب المعايير المحلية. وهذا ما حدث للجماعات اليهودية في كل أنحاء العالم، فرغم انفصالهم النسبي عن الأغلبية، فقد استمدوا هويتهم المستقلة منها (بسبب غياب ثقافة يهودية عالمية ومركز يهودي واحد) ، ومن ثم حققوا معدلات عالية من الاندماج (رغم استقلاليتهم الظاهرة)(3/196)
5 - من الواضح أن ثمة علاقة بين معدلات الاندماج وحجم الجماعات اليهودية. فالجماعات الصغيرة تميل نحو الاندماج بسرعة على عكس الكتل البشرية الكبيرة، ومن هنا فإن تَركُّز أعداد كبيرة من أعضاء الجماعة اليهودية أو غيرها في منطقة سكنية واحدة يساعدها على العزلة ويؤكد خصوصيتها، إذ يُمكِّنها من ممارسة معظم الأنشطة الحياتية داخل نطاق الجماعة ومن خلال أعضائها، أما إذا خَفَّت الكثافة السكانية فإن معدلات الاندماج تتزايد. كما أن صغر حجم الجماعة يجعلها غير قادرة على المساهمة في صياغة الأفكار التي تسود المجتمع، ولهذا فإنها تَتبنَّى الأفكار السائدة وتستبطنها تماماً. وربما كانت منطقة الاستيطان في روسيا (ثم الاتحاد السوفيتي) ، بكثافتها البشرية اليهودية، هي أكثر المناطق التي ساعدت على انتشار الخصوصية اليهودية الشرق أوربية اليديشية، حتى أن بعض مثقفي هذه الجماعة اليهودية كانوا يتحدثون عن قومية يهودية شرق أوربية يديشية. ولكن، بعد الثورة البلشفية في الاتحاد السوفيتي، فُتحت أمام اليهود أبواب الحراك الاجتماعي وسُمح لهم بترك منطقة الاستيطان. وقد ساهم هذا في نزوح اليهود وتَناثُرهم وزيادة معدلات الاندماج بينهم. والواقع أن انخراط أعضاء الجماعة في سلك المهنيين يساعد على هذه العملية إذ أن المهني يحاول أن يغتنم الفرص أينما وجدها، فيترك المنطقة ذات الكثافة السكانية اليهودية وينتقل إلى مناطق نائية تجعل حفاظه على خصوصيته كعضو في الجماعة اليهودية أمراً صعباً بالنسبة له.(3/197)
6 - يُلاحَظ أن يهود العالم يوجدون الآن في مناطق حضرية كبيرة مثل نيويورك. ويُلاحَظ أن ذلك يشجع على الاندماج، ذلك لأن هذه المناطق غير مقصورة على أعضاء الجماعة اليهودية، وهنا فإنهم يجدون أنفسهم في محيط ثقافي غير يهودي يضطرهم إلى التعامل معه بشكل دائم ويومي والتكيف معه في نهاية الأمر، خصوصاً إذا كانوا لا يعيشون داخل جيتوات مقصورة عليهم، ومن الواضح أن نشوء مثل هذه الجيتوات في المدن الكبيرة الحديثة أمر صعب.
7 - تتزايد معدلات الاندماج في وجود نظم ديموقراطية تمنح اليهود حقوقهم السياسية والمدنية، وهو المناخ الذي يعيش فيه معظم يهود العالم الغربي، أي أغلبية يهود العالم.
يُلاحَظ تزايد معدلات الاندماج مع وجود دولة قومية قوية ذات مؤسسات مركزية تُيسِّر عملية دمج كل المواطنين، مثل: نظام تعليمي قوي، ونظام شرطة بوسعه أن يكبح جماح المتطرفين من أعضاء الأقلية والأغلبية، ونظام إعلامي يعمل على نشر الصورة القومية المطروحة. كما تَخْلق مثل هذه المؤسسات القومية المركزية فرصاً اقتصادية متزايدة يستطيع أعضاء الأقلية أن يحققوا من خلالها شيئاً من طموحاتهم. وبدون هذه المؤسسات، تظل الصورة القومية مجرد فكرة وطموح عام.
8 - يبدو أن العلاقات الاجتماعية كلما ازدادت قوة بين أعضاء الأغلبية قلَّت احتمالات الاندماج. بينما تتزايد فرص الاندماج بالنسبة لأعضاء الأقليات مع تَفكُّك النسيج المجتمعي واختفاء المعايير المركزية.
9 - يؤدي وجود أقليات دينية أو إثنية أخرى في المجتمع إلى تزايد معدلات الاندماج في بعض الحالات، إذ أن عضو الأقلية لا يصبح شيئاً فريداً مُحاصَراً وإنما يصبح عضواً في مجتمع ذي سلطة مركزية واحدة وأطراف متعددة. ولكن الوضع نفسه قد يؤدي إلى تزايُد الخصوصية. فمع وجود أقليات عديدة، تَضعُف سلطة المركز وتستمر الأطراف في تطوير خصوصياتها المختلفة وفي إضفاء نوع من الشرعية على فكرة الخصوصية.(3/198)
هذه بعض التعميمات التي يجب التعامل معها بحذر شديد، ويجب ألا يركن الباحث لها وإنما أن ينظر لها باعتبارها مؤشرات عامة، قد تكون مضللة في ظروف معينة. ولذا ينبغي عليه أن يطرح أسئلة محددة، يحاول من خلال الإجابة عليها أن يصل إلى المنحنى الخاص للظاهرة. ولذا بدلاً من أن يتحدث عن " المهاجرين اليهود " بشكل عام، عليه أن يسأل عن نوعية المهاجرين اليهود الذين يصلون إلى المجتمع (مستواهم الاقتصادي - مستواهم التعليمي - مرحلتهم العمرية ... إلخ) . وبدلاً من أن يتحدث عن المجتمع المضيف بشكل مطلق عليه أن يتعامل مع هذا المجتمع في خصوصيته (درجة تقدُّمه - مدى احتياجه لخبرات معينة - نظام الحكم فيه ... إلخ) .
ويمكن أن نضرب مثلاً لذلك باليهود السفارد الذين هاجروا إلى فرنسا في القرن السابع عشر بعد طردهم من إسبانيا. وكانت عملية اندماجهم سريعة بسبب صغر حجم الجماعة اليهودية، ولأنهم كانوا ذوي خبرة بالشئون المالية المتقدمة التي كان المجتمع يحتاج إليها، كما أن لهجة اللادينو التي كانوا يتحدثونها كانت لهجة إسبانية غير بعيدة عن الفرنسية. ومن ناحية أخرى، لم يكن السفارد مختلفين كثيراً عن الفرنسيين في ردائهم وعاداتهم الثقافية. ويختلف هذا تماماً عن حالة اليهود الإشكناز الذين استوطنوا فرنسا وغيرها من بلاد أوربا في القرن التاسع عشر، فقد جاءوا من بولندا وكانوا يتحدثون اليديشية، كما أنهم كانوا يشتغلون بأعمال الربا والرهونات وتجارة التجزئة وكانوا مختلفين عن الفرنسيين في ردائهم وعاداتهم الثقافية، وكان مستواهم الحضاري بالنسبة للمجتمع الفرنسي مُتدنياً. وهو ما جعل عملية دمجهم طويلة وصعبة ومُعقَّدة.(3/199)
وقد استخدمنا هنا معيارين: واحد اقتصادي (درجة الثراء) والآخر حضاري (التقدم والتخلف) ، كما استخدمنا معياراً يتصل بالمجتمع المضيف (مدى حاجته للوافدين) . إذا طبقنا هذه المعايير المركبة على ظاهرة مماثلة، فإنها قد تأتي بنتائج مختلفة تماماً. فقد تم توطين بعض أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا (مع التجار الألمان) لتشجيع التجارة. وكان يهود ألمانيا يتمتعون بمستوى حضاري أكثر تركيباً بالقياس للوسط الفلاحي البولندي ثم الأوكراني، وهنا نجد أن التقدم الحضاري قد أدى إلى الانعزال، فاحتفظ المهاجرون اليهود الألمان بلغتهم التي تطورت وأصبحت اليديشية. وقد جاء اليهود بناء على حاجة المجتمع لهم، وبدعوة منه، وهو أمر يُفتَرض فيه أن يؤدي إلى اندماجهم، ولكن العكس قد حدث، لأن الدعوة لم تأت من المجتمع ككل وإنما من النخبة الحاكمة التي أرادت أن تستخدم العنصر اليهودي في تطوير البلاد من الناحية التجارية، كما أنها استخدمته فيما بعد في استغلال الفلاحين وفي قمع البورجوازية، الأمر أدى إلى عزلة شبه كاملة لأعضاء الجماعة اليهودية.(3/200)
ومن المتصوَّر عقلياً أن يؤدي الاندماج إلى تقليل حدة التوتر ضد أعضاء الجماعات اليهودية، وهو ما يحدث بالفعل في معظم الأحيان، كما هو الحال في الولايات المتحدة وإنجلترا. ولكن من الثابت أيضاً أن اندماج أعضاء الجماعة اليهودية وتحرُّكهم من مسام المجتمع إلى مركزه وتواجدهم فيها بأعداد كبيرة قد يثير الحقد ضدهم. كما أن غياب الحدود والإشارات المميِّزة قد يؤدي إلى تصاعُد معدل التوتر بين أعضاء الجماعة اليهودية وأعضاء الأغلبية، إذ تظهر الرغبة في تأكيد الحدود (بين أعضاء الأقلية والأغلبية) ، ثم تظهر النماذج التفسيرية العنصرية التي تتحدث عن المؤامرة اليهودية الخفية، وعن تغلغل اليهود في كل مناحي الحياة وتَخفِّيهم وتآمرهم ضد المجتمع. ومن هنا كان النازيون يناصبون اليهود الاندماجيين العداء بسبب عدم وضوحهم، بينما كانوا يتعاونون مع الصهاينة لأنهم يقبلون هوية يهودية متميِّزة وواضحة ومستقلة غير مندمجة في المجتمع. ولهذا، ساهم النازيون في إحياء الثقافة العبرية وشجعوا النشاط الصهيوني. وإذا كان نظام الحكم شمولياً، وأصيب الاقتصاد بكساد وزادت معدلات البطالة، فقد يتحول الهمس العنصري إلى مُخطَّط للطرد والإبادة (كما حَدَث في ألمانيا النازية) .
ويتصور معظم الباحثين أن تصاعُد معدلات العلمنة في المجتمع يزيد روح التسامح تجاه أعضاء الأقليات، ومن ثم تتزايد معدلات دمجهم. وهو افتراض سليم في بعض الأحيان، ولكن هناك أمثلة تدل على أن العكس قد يحدث. فمع تصاعُد معدلات العلمنة في الغرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ظهرت موجة من العنصرية، تستند إلى محاولة تعريف الإنسان من خلال عنصر مادي كامن فيه (حجم جمجمته - لون جلده - لون شعره) وهو ما أدى إلى ظهور النظريات العنصرية الغربية التي خلقت التربة الخصبة للحركات الشمولية والفاشية التي قامت بعزل اليهود والحرب ضد دمجهم.
العزلة اللفظية والاندماج البنيوي(3/201)
Verbal Isolation and Structural Assimilation
«العزلة اللفظية» هي أن يدَّعي أعضاء الجماعة اليهودية أن لهم هوية متميِّزة، مختلفة بشكل جوهري عن الهوية السائدة في المجتمع، في الوقت الذي تتآكل فيه هويتهم وتنتهي عزلتهم من خلال عمليات الدمج البنيوي. ولعل الولايات المتحدة أفضل مثل لذلك في الوقت الحاضر. فرغم أن النبرة الإثنية اليهودية عالية للغاية، إلا أن الهوية اليهودية آخذة في التآكل وأكبر دليل على هذا معدلات الزواج المُختلَط العالية التي تزيد في بعض الولايات عن 60% من مجموع الزيجات اليهودية. ولذا لا يكف الصهاينة عن التحذير من الاندماج، باعتباره أكثر خطورة على اليهود من الإبادة النازية (الهولوكوست) .
ويركن معظم الدارسين العرب إلى اقتباس ادعاءات اليهود عن هويتهم باعتبارها حقائق، ثم يدرسون واقع الجماعات اليهودية في إطار هذا الادعاء، ويبدأون في مراكمة الشواهد على صدقه، متجاهلين كماً هائلاً من المعلومات يدل على العكس. ومن الثابت تاريخياً أن الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة حققت أسرع معدلات الاندماج بالمقارنة بمعدلات اندماج الأقليات المهاجرة الأخرى.
الاندماج السياسي والاقتصادي والاندماج الحضاري: أشكالهما المختلفة
Political and Economic, and Cultural Assimilation: Their Different Forms عملية الاندماج عملية مركبة يوجد فيها أساساً طرفان: أعضاء الأغلبية وأعضاء الأقلية. ولكن الطرفين ليسا متساويين، إذ أن مجتمع الأغلبية هو العنصر الحاسم في تقرير طبيعة العلاقة بين الأغلبية والأقلية، فهو الذي يسم الأقلية بميسمه، ومن هنا فالمسئولية (الاجتماعية والأخلاقية) تقع على عاتق الأغلبية بالدرجة الأولى.
ويمكن أن ننظر للعلاقة بين الأغلبية والأقلية من منظور سياسي واقتصادي مباشر، كما يمكن أن ننظر إليها من منظور أكثر تركيباً، وهو المنظور الحضاري:
1 - منظور سياسي اقتصادي:(3/202)
أ) يمكن القول بأن أعضاء الجماعات اليهودية يندمجون في النخبة الحاكمة ويصبحون جزءاً منها وتصبح مصالحهم من مصالحها، حينما يصبحون جماعة وظيفية وسيطة. وفي العصور الوسطى في الغرب، اندمج أعضاء الجماعات اليهودية في الطبقة الحاكمة وأصبحوا أقنان بلاط، ويهود أرندا في بولندا، ويهود بلاط في وسط أوربا وفي نواح أخرى منها. وغني عن القول أن اندماج اليهود في الطبقة الحاكمة يعني انعزالهم عن بقية الشعب.
ب) واندماج أعضاء الجماعات اليهودية في الطبقة الوسطى يختلف عن ذلك تماماً، وهذا ما حدث في أوربا بعد الثورة الفرنسية وفي الولايات المتحدة عند بدايات الاستيطان حينما جاء أعضاء الجماعات اليهودية بخبرات تجارية مهمة ورؤوس أموال كبيرة، فانخرطوا في سلك الطبقة المتوسطة واندمجوا فيها وفقدوا كثيراً من ملامحهم الإثنية.
جـ) اختلف الأمر تماماً مع وصول يهود اليديشية في أواخر القرن التاسع عشر، إذ تحوَّلت أعداد كبيرة منهم إلى عمال يعملون بصناعة النسيج على وجه الخصوص نتيجة ميراثهم الاقتصادي الأوربي. ولكنهم، مع هذا، لم يكوِّنوا طبقة عمالية مستقلة تماماً، إذ كانوا جزءاً من الطبقة العاملة الأمريكية التي كانت تشكل جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الأمريكي. ومع منتصف القرن الحالي، كان أبناء العمال من أعضاء الجماعة اليهودية قد دخلوا الجامعات وأصبحوا مهنيين وانخرطوا في صفوف الطبقة الوسطى بحيث أصبحت أغلبية يهود العالم أعضاءً في هذه الطبقة، وهو ما يعني تزايد معدلات الاندماج.(3/203)
د) يمكن أن يندمج أعضاء الجماعات اليهودية في المصالح الإمبريالية، وهذا هو جوهر الحل الصهيوني، إذ تذهب الصهيونية إلى أن أعضاء الجماعة اليهودية في أوربا قد فشلوا تماماً، كجماعات وظيفية أو كأفراد، في الاندماج في التشكيلات الحضارية القومية الغربية. ولكنهم كدولة وظيفية قتالية استيطانية، يمكنهم تحقيق ما فشلوا فيه كأفراد، إذ أن هذه الدولة ستندمج في التشكيل الإمبريالي الغربي من خلال تمثيل مصالحه في الشرق الأوسط والدفاع عن هذه المصالح، وذلك نظير أن يقوم هو بتمويلها والدفاع عنها. والواقع أن هذا الوضع لا يختلف كثيراً عن وضع اليهود في العصور الوسطى في الغرب حينما اندمجوا في الطبقة الحاكمة في أوربا وانعزلوا عن بقية الشعب. فالدولة اليهودية أصبحت جزءاً من التشكيل الإمبريالي الغربي (وهو المقابل الموضوعي للنخبة الحاكمة) وانعزلت تماماً عن الدول المحيطة بها، وبهذا حل محل عزلة الجماعة الوظيفية عزلة الدولة الوظيفية.
1 - منظور حضاري:
إن غياب التَجانُس بين الجماعات اليهودية في العالم هو أكبر دليل على معدلات الاندماج الحضاري العالية، ذلك أن عدم التجانس يقف دليلاً على أنه لا توجد خصوصية يهودية عالمية بقدر ما توجد خصوصيات يهودية نابعة من المجتمعات المختلفة وتتحدد من خلالها وبسببها لا من خارجها ورغماً عنها. ويمكن أن نضرب العديد من الأمثلة على ذلك:(3/204)
أ) خضع يهود كايفنج في الصين تماماً لحركيات المجتمع الصيني الحضارية، وهو المجتمع الذي كان يتسم بالتعددية الدينية ورَفْض مفهوم القومية. فالإمبراطورية هي العالم، وبالتالي فهي تضم أقواماً مختلفة. ولم يتم حصر اليهود داخل دور اقتصادي أو اجتماعي محدَّد بل أتيحت أمامهم كل الوظائف، فبدأوا يتبنون لغة المجتمع الثقافية وفقدوا أية خصوصية جلبوها معهم، وبدأت العناصر غير اليهودية تدخل اليهودية (وهذا تقليد صيني في حد ذاته: أن تستوعب العبادة عناصر من خارجها) ، فاختلطت العقيدة اليهودية بعبادة الأسلاف وأطلقت أسماء صينية على الإله، وانتهى الأمر بأن فقد اليهود هويتهم تماماً.
ب) اندمج أعضاء الجماعات اليهودية في الهند في مجتمعهم الهندي المبني على فكرة الطائفة المغلقة والفصل الحاد بين الجماعات، فتَبنَّى أعضاء الجماعات اليهودية هذه اللغة الثقافية وفصلوا بينهم وبين أعضاء المجتمع. بل وساد داخل الجماعات اليهودية نفسها هذا الفصل الحاد بين البيض والسود وبين اليهود البغدادية وغيرهم، بحيث تكونت طوائف مغلقة داخل الجماعات اليهودية. وثمة مفارقة طريفة تستحق الملاحظة وهي أن عزلة أعضاء الجماعة اليهودية هي في الواقع تعبير عن الاندماج وتعبير عن تَقبُّل لغة المجتمع الحضارية وعاداته وتقاليده.
جـ) اندمج يهود جمهورية جورجيا السوفيتية (سابقاً) تماماً في مجتمعهم، وتَبنَّوا مأكله وملبسه ولغته، وانخرطوا في شبكة العلاقات التقليدية التي ظلت قائمة بعد سنوات طويلة من الحكم البلشفي. وكانوا يشاركون الجورجيين في رفض الحكم السوفيتي المركزي. وحينما سنحت ليهود جورجيا فرصة الهجرة إلى إسرائيل، فعلوا ذلك. فهجرتهم الاستيطانية، هنا أيضاً، تعبير عن اندماجهم لا عن رفضهم مجتمعهم.(3/205)
د) تَحوَّل أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة إلى أمريكيين يهود، وهم الأمريكيون الذين يكتسبون الهوية الأمريكية ويحتفظون بأبعاد إثنية خاصة لا تتناقض مع انتمائهم الأمريكي. والواقع أن الاستقلال النسبي الذي يتمتع به الأمريكيون اليهود في مجتمعهم هو، بالمثل، علامة على اندماجهم الكامل، فهذه هي اللغة الحضارية السائدة والنمط المتكرر في المجتمع. فالعقد الاجتماعي الأمريكي لا يمانع بتاتاً في أن يحتفظ المواطنون الأمريكيون برابطة ما مع وطنهم، وأن يحتفظوا بقَدْر من إثنيتهم الحقيقية أو الوهمية، ما دامت هذه الإثنية لا تتعارض مع انتمائهم لوطنهم الأمريكي ولا مع مصالحه. ولذا، فإن المجتمع الأمريكي مُكوَّن من أمريكيين إيطاليين (أي من أصل إيطالي) وأمريكيين أيرلنديين (من أصل أيرلندي) وهكذا. ويظهر مدى اندماج يهود الولايات المتحدة في مجتمعهم في موقفهم من تجارة الرقيق والحرب الأهلية الأمريكية. فيهود الشمال عارضوا هذه التجارة، شأنهم شأن أهل الشمال، وتَبنَّوا موقفاً مناوئاً لهذه التجارة. أما يهود الجنوب، فقد تَبنَّوا موقف أهل الجنوب، فاقتنوا العبيد والمحظيات السود، وكان منهم تجار الرقيق بمعدل يفوق المعدل على المستوى القومي. ولم تظهر شخصية يهودية واحدة في الجنوب عبَّرت عن تَحفُّظها على تجارة الرقيق، كما لم يُثر أي صحفي أو كاتب أو داعية يهودي أيَّ تساؤل بشأن العدالة الاقتصادية والاجتماعية لمؤسسة الرقيق. ولم يساهم اليهود في حركة تهريب العبيد إلى الشمال بهدف إعتاقهم، فلا يوجد سوى سجل لحالة واحدة. فاليهود، إذن، كانوا بشراً يشكلون جزءاً لا يتجزأ من محيطهم الحضاري والإنساني بكل ما يتضمن من خير وشر.(3/206)
ذ) وقد لاحظ بعض المراقبين أن يهود الجنوب الأمريكي حققوا حراكاً اجتماعياً أكثر من يهود الشمال وتم تَقبُّلهم من جانب المجتمع ومن جانب النخبة، كما شغلوا تقريباً مختلف الوظائف المتاحة لأعضاء النخبة. وتُفسَّر هذه الظاهرة على أساس وجود العبيد في الجنوب. فالجنوب تَبنَّى اللون (أي العرْق) معياراً وحيداً لتعريف الآخر وأساساً للتضامن، ومن ثم أسقط المعيار الديني أو الإثني، وأصبح اليهودي (الأبيض) أيضاً جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الجنوبي، وذلك على عكس الشمال حيث كانت النخبة بروتستانتية بيضاء وتَبنَّت المعيار الإثني العرْقي الديني الذي صُنفت على أساسه الجماعات. فكان البروتستانت البيض في أعلى الهرم، والزنوج في أسفله، أما الكاثوليك البيض فكانوا يأتون في مرتبة أقل من البروتستانت البيض ويليهم في المنزلة اليهود البيض، وهكذا حتى نصل إلى قاع السلم. ويُلاحَظ، مع تزايد معدلات العلمنة، أن اللون أصبح الأساس الوحيد للتصنيف، ومن ثم تزايد اندماج اليهود والتحامهم بالنخبة. ومن هذا المنظور، لعبت مؤسسة الرقيق دوراً حاسماً في صياغة شكل الحياة العامة في الجنوب وفي العلاقات الاجتماعية والإنسانية فيه، وضمن ذلك حياة أعضاء الجماعة اليهودية وعلاقاتهم ببقية طبقات المجتمع وقطاعاته. وقد حدث هذا رغم أن أعضاء الجماعات اليهودية لم يلعبوا دوراً ملحوظاً أو مؤثراً أو فريداً في تأسيس أو تسيير هذه المؤسسة ولا في التصدي لها.(3/207)
بل يمكننا القول بأن صهيونية الأمريكيين اليهود نفسها تعبِّر عن اندماجهم، فصهيونيتهم تعبير عن الأبعاد الإثنية في شخصيتهم الأمريكية، أي أنها نابعة عن حركية أمريكية خاصة لا حركية يهودية عامة. ولهذا، فهي تأخذ شكل صهيونية توطينية تدعم إسرائيل (مسقط الرأس!) مالياً وسياسياً ولا تأخذ شكل صهيونية استيطانية تتطلب الهجرة. كما أن سلوك اليهود لا يختلف كثيراً عن سلوك الأمريكيين الأيرلنديين الذين يشكلون لوبي ضغط لصالح بلدهم الأصلي، مع أنهم لا يفكرون أبداً في العودة إليه.
هـ) اندمج يهود جنوب أفريقيا في مجتمع يشجع الفصل بين الشعوب والأعراق. ولذا، شكَّل أعضاء الجماعات اليهودية هناك جماعة عرْقية مستقلة، وأصبحوا من أكثر الجماعات اليهودية صهيونيةً في العالم. وهنا يمكن القول بأن صهيونيتهم تعبير عن اندماجهم في مجتمعهم. لكن جنوب أفريقيا مجتمع استيطاني يعتبر الهجرة منه خيانة وطنية. ولذا، فإن صهيونية يهود جنوب أفريقيا هي الأخرى من النوع التوطيني لا الاستيطاني، وإن كانت توطينيتها تنبع من حركيات مختلفة تماماً.
و) يتجلَّى الاندماج في المؤسسات الاجتماعية والدينية للجماعات اليهودية المختلفة. فالقهال في بولندا، الذي يتم انتخاب أعضائه من بين أعضاء النخبة، لم يكن سوى صدى للسييم أو البرلمان البولندي الذي كان يضم النبلاء الذين كان من حقهم انتخاب الملك رئيساً لجمهورية بولندا الملكية. ويُلاحَظ أن إنجلترا التي يُوجَد فيها أسقف كانتربري باعتباره رئيساً للكنيسة الإنجليزية، يُوجَد فيها أيضاً منصب الحاخام الأكبر الذي يُعَدُّ صدى لأسقف كانتربري. كما تَقبَل المعابد اليهودية في بريطانيا التنظيم المركزي على نمط كنيسة إنجلترا. أما في الولايات المتحدة، حيث لا يوجد تنظيم مركزي ينتظم كل الكنائس الأمريكية، فإننا نجد أن المعابد اليهودية تَتبنَّى نوعاً من الوحدة الفيدرالية. ولا يوجد، بطبيعة الحال، منصب مثل الحاخام الأكبر.(3/208)
ز) بل يمكن أن نرى الاندماج الحضاري متبدياً من خلال العقيدة اليهودية، فهي في العالم الإسلامي تميل نحو التوحيد والفلسفة. أما ألمانيا، بلد الإصلاح الديني، فقد ظهرت فيها اليهودية الإصلاحية. وفي روسيا وبولندا، حيث كانت توجد جماعات المنشقين والمتصوفة من الأرثوذكس، ظهرت الحسيدية. وهكذا، فإن العقيدة اليهودية تتبنى اللغة الحضارية السائدة. وفي الهند، كان اليهود يظنون أن اليهودية تُحرِّم أكل لحم البقر. وفي الصين، كانوا يؤمنون بحُرمة التضحية للأسلاف بلحم الخنزير، ولكنهم كانوا يأكلونه باعتباره لحماً مباحاً شرعياً، وهكذا. أما في إثيوبيا، فإن يهود الفلاشاه يصلون في مكان يُسمونه المسجد، ولهم كهنة يُسمون القساوسة، كما يوجد لديهم رهبان. ويتحدث يهود الفلاشاه الأمهرية ويتعبدون بالجعيزية، لغة الكنيسة القبطية في إثيوبيا، وهذا كله انعكاس للسياق الإسلامي المسيحي الذي يعيش الفلاشاه في كنفه.
اندماج الجماعات اليهودية: تاريخ
Assimilation of the Jewish Communities: History(3/209)
ظواهر الاندماج والانصهار والانعزال بين اليهود قديمة قدم ظهور العبرانيين في التاريخ. فمن الواضح أن العبرانيين، أثناء وجودهم في مصر، تبنَّوا معظم مكونات الثقافة المصرية إن لم يكن كلها، وربما كانوا يتحدثون لغة المصريين القدماء، وفي فلسطين تبنوا لسان كنعان. أما العبادة اليسرائيلية، وهي عقيدة العبرانيين قبل تبلور اليهودية (كنسق ديني) ، فقد تأثرت بالتراث الديني الكنعاني تأثراً عميقاً، واندمج العبرانيون في المحيط الكنعاني وفي عبادة بعل، ومن هنا سخط الأنبياء عليهم. وقد انصهر العبرانيون، الذين هجَّرهم الآشوريون من فلسطين، في محيطهم الثقافي إلى أن اختفوا تماماً، في حين اندمج هؤلاء الذين هجَّرهم البابليون. ولذا، حينما أصدر قورش الأخميني مرسومه الخاص بعودة اليهود، رفضت أغلبيتهم التمتع بهذا الامتياز. ويُعَدُّ انتشار النزعة الهيلينية بين اليهود، سواء في فلسطين أو في مصر، تعبيراً آخر عن ظاهرة الاندماج. وبعد انحلال الدولة الرومانية، اندمج أعضاء الجماعات اليهودية في التشكيلين الحضاريين الإسلامي والمسيحي. وقد تَحدَّث يهود العالم العربي الإسلامي اللغة العربية، واشتغلوا بمعظم المهن والحرف، وتأثر تراثهم الديني بالفكر الديني الإسلامي. أما في العالم الغربي، فقد كان وضع اليهود متميِّزاً، إذ شكَّل اليهود فيه جماعة وظيفية وسيطة تضطلع بوظائف لا يقوم بها أعضاء الأغلبية وتحتفظ بعزلتها لضمان قيامها بهذه المهن. وانعكس هذا الوضع على التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية للجماعات اليهودية، مثل القهال والجيتو (في شرق أوربا أساساً) ، وهي تنظيمات كانت تهدف إلى الحفاظ على عزلة اليهود. وقد ازدادت عزلة اليهود في بولندا التي احتفظوا فيها برطانتهم الألمانية اليديشية التي هاجرت معهم.(3/210)
ولم تكن عزلة أعضاء الجماعات اليهودية مسألة مقصورة عليهم. فالمجتمعات التقليدية كانت قائمة على الفصل بين الطبقات والأقليات والجماعات لتسهيل عملية إدارة المجتمع في غياب مؤسسات الدولة المركزية القومية. ولكن، بَتفسُّخ النظام الإقطاعي في أواخر القرن الثامن عشر، ظهرت الدولة العلمانية القومية المركزية، وهي دولة تستمد شرعيتها من التاريخ المشترك ومن مقدرتها على إدارة المجتمع بكفاءة. كما أن هذه الشرعية تستند أيضاً إلى مدى تعبيرها عن روح الشعب وإرادته. وقد كانت الدولة القومية العلمانية دولة رأسمالية، في العادة، تحاول أن تخلق السوق القومية الموحدة التي لم تَعُد بحاجة إلى الجماعات الوظيفية الوسيطة، إذ أنها تضطلع بمعظم مهامها. ولكل هذا، تساقط النظام القائم على الفصل بين طبقات الشعب وفئاته، وحل محله نظام يحاول دمج كل المواطنين الذين يدينون له وحده بالولاء، على عكس النظام الإقطاعي حيث تستند الدولة إلى شرعية دينية أو شرعية تقليدية، ولذا يدين الفرد بالولاء إما للكنيسة أو للنبيل أو للملك، وهكذا.(3/211)
وتكتسب الدولة القومية العلمانية قدراً كبيراً من شرعيتها من التاريخ والتراث المشترك (الحقيقي أو الوهمي) لمجموعة البشر التي تعيش داخل حدودها، ولذا طالبت الثورة الليبرالية البورجوازية، والدولة القومية، أعضاء الجماعات اليهودية، وغيرهم من الجماعات، بأن يتخلوا عن خصوصيتهم الإقطاعية شبه القومية وأن يكتسبوا هوية عصرية متجانسة تعبِّر عن هذا التراث المشترك بين أعضاء المجتمع. وقد قال أحد خطباء الثورة الفرنسية في ديسمبر سنة 1789: " نحن نرفض أن نمنح اليهود كأمة أي شيء، أما اليهود كأفراد فإننا نمنحهم كل شيء ". وتم إعتاق أعضاء الجماعات اليهودية في معظم أنحاء أوربا، وبدأت عملية تحديثهم بحيث تم القضاء على تميزهم وتمايزهم الوظيفي والاقتصادي. وقد استجاب أعضاء الجماعات اليهودية لهذا النداء الذي شكَّل تياراً تاريخياً أفرز تحولاته الاجتماعية، خصوصاً وأن اليهودية الحاخامية (وهي الإطار الفكري ليهود أوربا) كانت في حالة أزمة حادة منذ دعوة شبتاي تسفي المشيحانية وظهور الحسيدية، فقامت بينهم حركة التنوير اليهودية الداعية إلى الاندماج. كما ظهرت اليهودية الإصلاحية التي حاولت تخليص اليهودية من الجوانب القومية فيها، وهي الجوانب التي تدعم ما يُسمَّى «الخصوصية اليهودية» ، وتأكيد الجوانب الدينية الروحية حتى يتحقق للمواطن اليهودي الانتماء القومي الكامل والاندماج السوي. وقد حقق أعضاء الجماعات اليهودية بالفعل قسطاً كبيراً من الاندماج في فرنسا وإنجلترا.
وقد اتسمت محاولات الاندماج في بلدان شرق أوربا ووسطها بالبطء والتعثر بسبب ظهور القوميات العضوية فيها وبسبب سرعة معدل تَطوُّر الرأسمالية المحلية، الأمر الذي لم يتح لأعضاء الجماعات اليهودية الذين كانوا يلعبون دور الجماعة الوظيفية الوسيطة فرصة للتَأقلُم والتَكيُّف.(3/212)
وإلى جانب هذا، كان يهود شرق أوربا من أكثر القطاعات الإنسانية تَخلُّفاً، كما أن قيادتهم لم تُدرك أبعاد التحدي القومي العلماني الجديد ومدى جاذبيته بالنسبة لجماهيرهم، الأمر الذي أعاق أعضاء الجماعة اليهودية عن الاستجابة الخلاقة للوضع الجديد في معظم الأحيان. ومن المفارقات أن هذا التخلف نفسه أدَّى إلى نتائج عكسية تماماً بالنسبة للشباب، إذ كانوا يهرعون إلى عالم الأغيار وينصهرون فيه، هرباً من الجو الخانق للجيتو.
ويركز الصهاينة على تَعثُّر محاولات التحديث والاندماج لتأكيد حتمية المشروع الصهيوني. ورغم كل الادعاءات عن فشل الاندماج، فإن الوضع الثقافي لليهود يثبت أن هذا الواقع هو الحقيقة الأساسية في حياة معظم الجماعات اليهودية إن لم يكن الحقيقة الأساسية في حياتها جميعاً. فنسبة الزواج المُختلَط في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (سابقاً) ، اللذين يضمان أغلبية اليهود في العالم، مرتفع للغاية (تبلغ في المتوسط 50% وتصل في بعض المناطق إلى حوالي 80%) . والاندماج وحده هو الذي يفسر سلوك أعضاء الجماعات اليهودية المتعيِّن، فهم يرفضون الهجرة إلى إسرائيل رغم تلويح الحركة الصهيونية لهم بخطر معاداة اليهود بل وبالإبادة. وفضلاً عن ذلك، فإنهم يرفضون زيارة الدولة الصهيونية للسياحة حيث لم يزرها سوى 15% من يهود أمريكا الذين يفضلون قضاء إجازاتهم في جزر الكاريبي.(3/213)
وفي نهاية الأمر، لا تزال الغالبية العظمى من يهود العالم (75%) منتشرة في أنحاء العالم فيما يُسمَّى «المَهْجَر» أو «المَنْفَى» أو «الشتات» ، وهو في واقع الأمر ليس بمَهْجَر ولا مَنْفَى ولا شتات، فهم موجودون في أوطانهم بشكل دائم لا مؤقت، وهم يعيشون هناك بحُرِّ إرادتهم دون قسر أو إكراه. والغالبية الساحقة من أبنائهم (90%) لا تتلقى أي تعليم يهودي ولا علاقة لها بما يُسمَّى «الثقافة اليهودية» . وهذا الوضع ينهض دليلاً على اندماجهم وتَقبُّلهم مجتمعاتهم بكل محاسنها ومثالبها وتَبنِّيهم قيمها الحضارية والأخلاقية بشكل كامل. ويذهب بعض الدارسين إلى أن الدولة العلمانية (القومية الرأسمالية أو الأممية الاشتراكية) هي دولة تُعبِّر عن قوانين العقل، ومن ثم فهي لا تتعامل إلا مع الإنسان العام (الطبيعي أو العقلاني أو الأممي) . ولذا، لابد من القضاء على أية خصوصية. والواقع أن اندماج يهود العالم الغربي، هذا الاندماج الكامل في مجتمعاتهم المتقدمة، تعبير عن هذا الاتجاه.
بيريك يوسيليفيتش (1768-1809 (
Berek Yoselewicz(3/214)
ضابط بولندي يهودي. وُلد في ليتوانيا ثم عمل بالتجارة وأصبح يهودي بلاط أمير فلنا. وفي إطار مهامه التجارية، سافر إلى باريس عام 1789 عشية الثورة الفرنسية وتأثر بأجوائها وأفكارها، ثم عاد إلى بولندا لينضم إلى العناصر القومية البولندية التي كانت تناضل ضد تقسيم بولندا. وقد انضم يوسيليفيتش ضمن عدد كبير آخر من أعضاء الجماعة اليهودية إلى حركة العصيان المسلح التي اندلعت عام 1794 ضد كلٍّ من روسيا وبروسيا. وقد تم تأسيس الفيلق اليهودي بقيادة يوسيليفيتش، والذي ضم خمسمائة يهودي ناشدهم يوسيليفيتش القتال «مثل الأسود والفهود من أجل طرد العدو من أرضنا» . وقد شاركت قواته في الدفاع عن حيّ براجا في وارسو والذي كان يضم أغلبية من اليهود ضد القوات الروسية. وبعد فشل العصيان، فرَّ يوسيليفيتش إلى النمسا ثم إلى فرنسا حيث انضم إلى الفيلق البولندي في الجيش الفرنسي، ثم أصبح ضابطاً في سلاح الفرسان الفرنسي وشارك في حروب نابليون. وبعد تأسيس دوقية وارسو عام 1807، انضم يوسيليفيتش إلى الجيش البولندي النظامي وتولى قيادة سرية خيالة ومُنح وساماً بولندياً، كما سُمح له بالانضمام إلى محفل ماسوني أرستقراطي يحمل اسم «الإخوة البولنديون المتحدون» . وقد شارك يوسيليفيتش أيضاً في الحملة ضد النمسا عام 1809 وتولى قيادة سريتي خيالة، ولكنه قُتل في العام نفسه أثناء المعارك ليصبح بطلاً قومياً بولندياً.(3/215)
وقد أشار كثير من اليهود الداعين للاندماج في بولندا إلى يوسيليفيتش باعتباره نموذجاً لليهودي المندمج المنتمي إلى وطنه البولندي. وهو في الواقع من النماذج النادرة، إذ أن غالبية يهود بولندا كانوا مرتبطين بنظام الأرندا الذي جعلهم حلفاء الطبقة البولندية الحاكمة وأعداء لكل الطبقات الأخرى. كما أن ثقافة يهود بولندا اليديشية ساعدت على عَزْلهم لغوياً وثقافياً عن بقية الشعب البولندي. ولم ينجح يهود بولندا في الاندماج في الحركة القومية البولندية، ولذا فقد ظل يوسيليفيتش الاستثناء الذي يُثبت صحة القاعدة. وقد وصلت هذه العزلة إلى ذروتها إبان الحرب العالمية الثانية، حيث لم ينجح أعضاء المقاومة اليهودية في بولندا في التعاون مع المقاومة البولندية في نضالها ضد المستعمر النازي.
الانصهار أو الذوبان
Dissolution
«الانصهار» أو «الذوبان» هو تَزايُد معدلات الاندماج إلى درجة أن أعضاء الجماعات اليهودية يفقدون هويتهم الدينية أو الإثنية الخاصة فيذوبون أو ينصهرون تماماً في الأغلبية بمرور الزمن. ويمكننا تخيل ذلك على شكل مُتَّصل يُشكل أحد طرفيه الانعزال الكامل، وهي حالة نادرة وتكاد تكون مستحيلة، وفي الطرف الآخر الانصهار، وهي حالة ليست متكررة وإن لم تكن محالة. فثمة أمثلة عديدة، عبر تواريخ الجماعات اليهودية، للانصهار الكامل. فلا يمكن تفسير اختفاء أسباط يسرائيل العشرة الذين هجَّرهم الآشوريون إلا على أساس أنهم انصهروا في الشعوب التي عاشوا بين ظهرانيها. والحالة الكلاسيكية للانصهار الكامل هي حالة يهود الصين (في مدينة كايفنج) حيث انخرطوا في السلك الوظيفي الإمبراطوري فتفرَّق أعضاء الجماعة، خصوصاً النخبة، واكتسبوا سمات وخصائص صينية بشكل متزايد وتزاوجوا مع الصينيين. ومع حلول القرن التاسع عشر، لم يكن قد بقي منهم سوى عدة أفراد لا يزيدون على أصابع اليدين.(3/216)
ومن حالات الانصهار الأخرى، حالة اليهود السفارد في الولايات المتحدة الذين استوطنوا بعد المستوطنين البيوريتانيين ثم انصهروا تماماً في فترة وجيزة. ويُلاحَظ أن ثمة أعداداً كبيرة من أعضاء الجماعة اليهودية كانت تنصهر دون أن تنصهر الجماعة ذاتها، فتستمر الجماعة دون أن يتزايد عدد أعضائها، وهذا يُفسِّر قلة عدد اليهود في العالم. وكان قد وصل عددهم في القرن الأول الميلادي (بحسب بعض التقديرات) ما بين خمسة وسبعة بل عشرة ملايين. ولعل هذا يُفسِّر مقولة «موت الشعب اليهودي» ، فمن أهم أسباب موته (أي تَناقُص عدده بشكل ملحوظ) انصهار أعداد كبيرة منه.
ويمكن أن نشير إلى ذلك الاندماج الذي يقترب من الانصهار. فالنزعة الهيلينية بين أثرياء اليهود في القرنين السابقين على الميلاد واللاحقين له هي شكل من أشكال الاندماج يكاد يكون انصهاراً، كما يمكن القول أيضاً بأن الصيغة الفريسية لليهودية هي نتاج تفاعل الفكر اليهودي مع الحضارة الهيلينية، أي أنها مَثَل من أمثلة الاندماج. ويبدو أن قطاعات كبيرة من يهود ألمانيا، في القرن التاسع عشر، كانت تنصهر تماماً في المجتمع المسيحي وتتخلى عن أي شكل من أشكال الهوية الدينية اليهودية. ويمكن أن نُصنَّف أمركة يهود الولايات المتحدة باعتبار أنها من قبيل الأشكال الحادة من الاندماج الذي يقترب من الانصهار، ومن هنا يُشار إليهم بأنهم «الهيلينيون الجدد» . وتشكل أمريكا اللاتينية مثلاً فذاً يتخطى تعميمنا الذي يفترض أن الاندماج يزداد تدريجياً إلى أن يصبح انصهاراً. ومع هذا نلاحظ عدم وجود معدلات عالية من الاندماج في كثير من بلاد أمريكا اللاتينية، وفي الوقت ذاته أظهرت هذه القارة مقدرة فائقة على صهر اليهود وهضمهم مباشرة دون عملية دمج تدريجية.(3/217)
وعادةً ما تساوي الصهيونية بين الانصهار والاندماج برغم اختلافهما. فالجماعات الدينية العرْقية يمكنها أن تندمج في المجتمع دون أن تفقد قسماتها الخاصة. ويمكن ضرب أمثلة عديدة من تواريخ الجماعات اليهودية في العالم على الاندماج الذي لم يؤد بالضرورة إلى الانصهار كما حدث مع يهود الأندلس في الماضي، وكما يحدث مع يهود الولايات المتحدة في الوقت الحالي. وإن كانت هناك مؤشرات وقرائن عديدة تدل على أن أعضاء الجماعة اليهودية سيأخذون في الاختفاء من خلال الانصهار مع تَعاظُم معدلات العلمنة في المجتمع الأمريكي.
دمج اليهود
Forcible Assimilation of the Jews
«دمج اليهود» هو جزء من عملية تحديث أعضاء الجماعات اليهودية وتحويلهم من جماعة وظيفية وسيطة إلى جزء لا يتجزأ من طبقات المجتمع الحديث، الذي ظهر بعد الانقلاب الصناعي الرأسمالي في الغرب. وهي عملية تَحوُّل اجتماعي ضخمة لم يكن أعضاء الجماعات اليهودية هم المسئولين عنها، ولم يكونوا الوحيدين الذين خاضوها، ويُشار إليها أحياناً بأنها «عملية تحويل اليهود إلى قطاع منتج» .
وفي معظم الأحوال، كانت عملية الدمج تأخذ شكل القسر. والواقع أن عملية الدمج تتضمن نوعاً من الجهد الواعي والمُخطَّط، وهي بهذا المعنى مختلفة عن عملية الاندماج أو الانصهار التي تتم عادةً من خلال حركيات المجتمع وآلياته الكامنة التي ربما لا يدركها لا أعضاء الجماعة اليهودية ولا أعضاء مجتمع الأغلبية. ومع هذا، فإن عملية الدمج، بعد المراحل الأولى القسرية الواعية، تتحول عادةً إلى اندماج تلقائي غير واع. كما حدث في كثير من بلاد أوربا، ذلك لأن أعضاء الجماعة اليهودية عادةً ما يستبطنون المُثُل المفروضة عليهم، وتضبط سلوكهم من الداخل، وما كان قسرياً برانياً يصبح بعد قليل تلقائياً جوانياً.
الاندماج: الموقف الصهيوني
Assimilation: The Zionist Position(3/218)
يتفق الصهاينة والمعادون لليهود على رفض الاندماج قولاً وفعلاً. أما المعادون لليهود، فيرون اليهودي شخصية عضوية لا يمكن استيعابها في المجتمع، ولو تم استيعابها فإنها تصبح مثل البكتريا التي تسبب تَآكُله وتَخثُّره. واليهود الذين يَّدعون أنهم اندمجوا في المجتمع هم، بحسب هذه النظرة، أخطر العناصر اليهودية، لأنهم يصبحون اسمياً جزءاً من المجتمع يستقرون داخله، ولكنهم فعلياً (عن وعي أو عن غير وعي) يظلون جسماً غريباً عنه يشبه الخلية السرطانية التي تسبب انحلاله وتآكُله. ولذا، فإن الحل الوحيد للمسألة اليهودية، وفقاً لهذه الرؤية، هو الحل الصهيوني، أي استبعاد اليهود إلى رقعة خاصة بهم.
والموقف الصهيوني من الاندماج لا يختلف عن ذلك كثيراً، فالصهاينة يرون أن الاندماج أمر مستحيل لأن الهوية اليهودية العضوية لا يمكنها أن تحقق ذاتها إلا في تربة يهودية وفي وطن قومي يهودي. وبالتالي، فاليهودي الذي يدَّعي أنه اندمج هو شخصية كاذبة ومريضة نفسياً، منقسمة على نفسها كارهة لها مثله مثل المتسول الباحث عن انتماء قومي. واليهودي المندمج يعاني ازدواج الولاء، إذ ليس بإمكانه أن يَدين بالولاء إلا لوطنه اليهودي الذي تربطه به وشائج عضوية قوية. ويُشار إلى اليهود المندمجين في الأدبيات الصهيونية بوصفهم عبدة بعل إله الأغيار أو محبي بابل (أي المنفى) .(3/219)
ويسوي الصهاينة بين الاندماج والذوبان الكامل، أي الانصهار، إذ يرون أن كلاًّ منهما يؤدي بالضرورة إلى الآخر. رغم أن الاندماج هو أن يصبح الإنسان جزءاً من كل دون أن يفقد بالضرورة بعض صفاته الخاصة، أما الانصهار والذوبان فيفترضان فقدان الجزء لقسماته الخاصة. ولذا، يُشار إلى الاندماج في الأدبيات الصهيونية بأنه خطر يتهدد الحياة اليهودية، وجريمة وخطيئة وعار يحط من كرامة اليهود، ووصمة في جبينهم. ويتم الربط بين الاندماج والإبادة إذ يُشار إلى الاندماج باعتباره الإبادة الصامتة، مع أن الإبادة هنا روحية نفسية، وليست جسدية فعلية. ومع هذا، فإن الإبادة تؤدي في نهاية الأمر إلى اختفاء اليهودي المندمج فعلياً في مجتمع الأغيار، وهي الوظيفة نفسها التي تؤديها أفران الغاز. ومؤخراً صرح يوسي بيلين (نائب وزير خارجية إسرائيل) بأن الاندماج (والزواج المُختلَط) يهددان يهود أمريكا أكثر من تهديد العرب ليهود إسرائيل.
ومع هذا، تظهر فكرة الاندماج في الفكر الصهيوني ذاته بشكل آخر، إذ يُطالب الصهاينة بتطبيع الشخصية اليهودية، أي جعلها طبيعية مثل الشخصية غير اليهودية، وفي هذا تَقبُّل لمعايير مجتمعات الأغيار. كما أن الصهيونية تطمح إلى خلق دولة يهودية تندمج في المجتمع الدولي حتى يصبح اليهود شعباً مثل كل الشعوب. لكن الاندماج، كما يظهر في الفكر الصهيوني، يُفترَض إمكانية تَحقُّقه على المستوى القومي وحسب، واستحالته في ذات الوقت على المستوى الفردي. وقد أثبت الواقع التاريخي أن كلا الافتراضين خاطئ. فأعضاء الأقليات آخذون في الاندماج، ولا تزال الدولة اليهودية مرفوضة من العرب.(3/220)
ومن المفارقات التي يشير إليها دارسو الصهيونية أنها بدأت باعتبارها حركة تهدف إلى الحفاظ على الهوية اليهودية والخصوصية اليهودية، ولكنها في نهاية الأمر أدَّت إلى زيادة معدلات الاندماج. فقد ساهمت الصهيونية، ابتداءً، في زيادة معدلات العلمنة بين اليهود حين طرحت تعريفاً قومياً أو عرْقياً لليهودي ليحل محل التعريف الديني الإثني، وحين جعلت التزام اليهودي ينصبُّ على إثنيته أساساً، بينما جعلت الالتزام الديني مسألة ثانوية مكملة للانتماء الإثني أو يُمثِّل تجلياً له. وقد أدَّى هذا بكثير من اليهود إلى التخلي عن عقيدتهم وعن كثير من شعائرها، وكانت هذه مصدراً أساسياً لخصوصيتهم. وقد تساءل الحاخام موريتز جوديمان، كبير حاخامات فيينا، في رده على تيودور هرتزل وعلى الدعوة القومية فقال: «من هو أكثر ذوباناً وانصهاراً: اليهودي القومي الذي يتجاهل الشعائر الخاصة بيوم السبت وبالطعام أم اليهودي المؤمن الذي يؤدي الشعائر الدينية ويكون في الوقت نفسه مواطناً كاملاً مخلصاً لبلاده؟» . وتبلغ معدلات العلمنة ذروتها بين أعضاء الجماعات اليهودية الذين توجد أغلبيتهم الساحقة في مجتمعات علمانية، وهي تؤدي إلى مزيد من الاندماج والزواج المُختلَط، وفي نهاية الأمر إلى الانصهار.(3/221)
وقد ذكر أحد المفكرين اليهود أن الصهيونية وإسرائيل تريان أن بإمكان يهود فرنسا أن يصبحوا أكثر فرنسية (أي أكثر اندماجاً في مجتمعهم) . وهو يفسر عبارته هذه فيقول إن اليهودي بدأ بعد تحطيم الهيكل الثاني يحمل معه ما سماه فرويد «المبنى غير المنظور» ، وهو عبء الشك والإحساس بالنقص وعدم الانتماء، فأينما ذهب اليهود وعملوا، مثلهم مثل بقية البشر، كانوا يشعرون بأن ثمة شيئاً ما ينقصهم. فجميع الشعوب الأخرى لها أرضها وقراها وشرطتها وجيشها، أما اليهود فكانوا يعيشون دائماً في شك. ولأن ثمة مبنى جديداً منظوراً يراه الجميع وهو إسرائيل، فقد اختفى الشك والإحساس بالنقص، ومن ثم يستطيع كل اليهود الآن أن يشعروا بالهدوء ويمكنهم الاندماج في مجتمعاتهم. وبرغم عدم اتفاقنا مع مقدمات الكاتب، فيُلاحَظ من الناحية الفعلية أن انتشار الصهيونية هو غطاء براق يخفي معدلات الاندماج العالية. بل إن الصهيونية أصبحت هي الوسيلة التي يريح بها اليهودي المندمج ضميره، إذ يمكنه أن يُجزل العطاء للدولة اليهودية ويحقق بذلك إحساساً زائفاً ومتضخماً بالهوية والانتماء ثم ينصرف بعد ذلك لحياته العلمانية الأمريكية اللذيذة بكل جوارحه. وقد لاحظ بن جوريون هذه الظاهرة وحَذَّر منها.
ويُعَدُّ الاندماج من أهم الأسباب التي تؤدي إلى ما يُسمَّى في علم الاجتماع في الغرب ظاهرة «موت الشعب اليهودي» ، أي تَناقُص أعداد اليهود بشكل ملحوظ الأمر الذي يؤدي إلى اختفاء بعض الجماعات اليهودية. وقد شُكِّلت في إسرائيل لجنة صهيونية تهدف إلى مكافحة الاندماج بين أعضاء الجماعات اليهودية.
الزواج المختلط
Mixed Marriage; Intermarriage(3/222)
تُحرِّم اليهودية الزواج بين اليهود وغير اليهود، وهي في هذا لا تختلف عن كثير من الأديان. ولكن هذا الحظر في شكله المتطرف يُعبِّر عن الطبقة الحلولية الكمونية التي تفصل الشعب المقدَّس عن الآخرين الذين لا يتمتعون بالقداسة نفسها. فقد جاء في العهد القديم: «ولا تصاهرهم. بنتك لا تعط لابنه وبنته لا تأخذ لابنك» (تثنية 7/3) . ولكن رغم هذا الحظر، فإن أنبياء اليهود وزعماءهم كانوا يتزوجون من غير اليهوديات. فقد تزوج إبراهيم من هاجر المصرية، وتزوج حفيده يعقوب من امرأتين من الأغيار، وتزوج رءوبين وسيمون ويهودا من كنعانيات، وتزوج دان من مؤابية، وتزوج زبلون (وقبله موسى) من مَدْيَنية، وتزوج يوسف من مصرية، وتزوج داود من امرأة حيثية أنجبت له سليمان الذي تزوج من إناث من جميع الأجناس المعروفة في زمنه. ومع هذا، منع يعقوب دينه من الزواج من شكيم، وحذَّرت راحيل أولادها من الزواج من بنات كنعان. ومن الواضح أن الهدف من الحظر في هذه المرحلة لم يكن دينياً بقدر ما كان عرْقياً. فراحيل، مثلاً، كانت حسب الرواية التوراتية وثنية تسرق الأصنام وتخبئها. ومع هذا، يرد في العهد القديم أن تحريم الزواج مردّه أن اليهودي قد يعبد آلهة آخرىن. وبعد العودة من بابل، طبق نحميا وعزرا قوانين تحريم الزواج المُختلَط تطبيقاً صارماً وحرفياً، وطالبا اليهود الذين تزوجوا من أجنبيات بأن يطلِّقوا زوجاتهم. ورغم أن التحريم كان يتجه أساساً، كما يبدو، نحو الأقوام الكنعانية السبعة (الوثنية) ، فإن الفقهاء اليهود وسّعوا نطاقه بحيث أصبح ينطبق على كل الأغيار دون تمييز، بل امتد الأمر ليشمل القرّائين والسامريين.(3/223)
وعلى هذا النحو، كان زواج اليهودي من غير اليهودية يُعتبَر فجوراً وزنى مستمرين، والأولاد الذين يُولَدون من هذه المعاشرة المرذولة يُعتبَرون أبناء زنى أو «مامزير» . وقد كان يُعَدُّ يهودياً من يُولَد لأم يهودية وأب غير يهودي. أما من يُولَد لأب يهودي وأم غير يهودية فلا يُعتبَر يهودياً.
وقد حاول فقهاء اليهود تبرير هذا الحظر الديني. فحاول موسى بن ميمون تفسيره تفسيراً عقلياً. أما راشي، فقد اكتفى بتأكيد أنه بلا سبب. وتحريم الزواج المُختلَط، حسب تَصوُّره، أمر مَلَكي (باعتبار أن الإله هو الملك: ملك اليهود) ، ولذا يجب عدم التساؤل عن سببه كما يجب عدم التساؤل بشأن فكرة الشعب المختار. ومع هذا، فقد استمر الزواج المُختلَط بين اليهود وغيرهم، واختفى يهود الصين، على سبيل المثال، بسبب زواجهم بالمسلمين وبغيرهم.
وقد تزايدت معدلات الزواج المُختلَط بشكل ملحوظ في العصر الحديث للأسباب التالية:
1 ـ كان الذكور اليهود، حتى عهد قريب، هم الذين يتزوجون من إناث غير يهوديات. ولكن الوضع تغيَّر مؤخراً (خصوصاً بعد حركة التمركز حول الأنثى) ، إذ أن كثيراً من الإناث اليهوديات اخترقن الحاجز الديني والنفسي الخاص بحظر الزواج المُختلَط، فتصاعدت نسبته بينهن حتى كادت تقترب من مثيلتها بين الرجال.
2 ـ كان الزواج المُختلَط ظاهرة تكاد تكون مقصورة على المتعلمين، فهم أكثر انفتاحاً وتَقبُّلاً لبقية أعضاء المجتمع وأكثر معرفة بأسلوب حياته. ولكن لُوحظ مؤخراً أن معدلات الزواج المُختلَط بين غير المتعلمين بدأت تقترب من مثيلتها بين المتعلمين. ولا شك في أن الإعلام يلعب دوراً أساسياً في هذا، فهو يساعد على تحطيم كل الحواجز وعلى إزالة ما قد يحيط بعضو الأقلية (أو عضو الأغلبية) من أسرار، ويروِّج ثقافة شعبية عامة وأسلوب حياة عام يشارك فيه الجميع.(3/224)
3 ـ لُوحظ أن أعضاء الجماعات اليهودية الذين يتزوجون وهم في سن متقدمة نوعاً ما أكثر استعداداً للزواج المُختلَط. يرجع ذلك إلى أن مثل هؤلاء قد حققوا لأنفسهم استقلالاً اقتصادياً، وهم عادةً جزء من شبكة علاقات وصداقات مركبة تضم يهوداً وغير يهود. وكل هذا يعني أنهم لا يخافون من عَزْلهم عن الشبكة اليهودية. كما أن إمكان العثور على قرين مناسب داخل الجماعة اليهودية، بالنسبة ليهودي متقدم في السن، ليس مسألة متيسرة.
4 ـ لُوحظ كذلك أن أعضاء الجماعات اليهودية الذين يتزوجون للمرة الثانية أكثر استعداداً للزواج المُختلَط، فهم يبحثون عن زوجة من «نوع مختلف» ، وعن «أسلوب حياة مختلف» ، ولذا فهم لا يمانعون في الانسلاخ عن الشبكة اليهودية، بل ربما يرحبون بذلك.
5 ـ لُوحظ أن اليهود العلمانيين أو الإثنيين يُقبلون على الزواج المُختلَط بمعدلات عالية تفوق كثيراً المعدلات السائدة بين اليهود الذين يعتبرون أنفسهم يهوداً بالمعنى الديني. ويعود هذا إلى أن اليهودي الإثني أو العلماني هو يهودي لا يكترث كثيراً بيهوديته كبُعد أساسي من أبعاد رؤيته للكون، فهي شيء من قبيل الفلكلور (انظر: «الهوية اليهودية الجديدة في المجتمعات العلمانية الغربية الحديثة» ) .
6 ـ لُوحظ أن أعضاء الجماعات اليهودية الذين يُعرِّفون هويتهم دينياً، ومع هذا لا ينتمون إلى أية فرقة يهودية، هم أكثر إقبالاً على الزواج المُختلَط من اليهود الذين ينتمون إلى فرقة دينية محدَّدة، فرغم أنهم يسمون أنفسهم عادةً «يهوداً متدينين» إلا أنهم في غالب الأمر غير مكترثين كثيراً بهويتهم الدينية (رغم ادعاء الانتماء الديني) ولا يمارسون إلا قدراً صغيراً من الشعائر.(3/225)
7 ـ فيما يخص اليهود المنتمين لإحدى الفرق الدينية، لُوحظ أن الزواج المُختلَط يكاد ينعدم بين اليهود الأرثوذكس ويصل إلى معدلات عالية بين اليهود الإصلاحيين ويليهم اليهود المحافظون. فاليهود الأرثوذكس يعيشون حسب الرؤية والقيم اليهودية ويقيمون الشعائر اليهودية، الأمر الذي يجعل مشاركة غير اليهودي أمراً صعباً بل من المستحيل في مثل هذه الحياة. أما اليهود المحافظون، والإصلاحيون بدرجة أكبر، فهم يؤمنون بأشكال مُخفَّفة من اليهودية لا تحكم العقيدة والشعائر اليهودية كل جوانبها، ولذا يمكن لغير اليهودي المشاركة فيها بسهولة ويُسر.
8 ـ لُوحظ أن أعضاء الجماعات اليهودية حينما يتخلون عن دور الجماعات الوظيفية ويندمجون اقتصادياً في المجتمع، تأخذ معدلات الزواج المُختلَط في الزيادة. فعضو الجماعة الوظيفية هو جزء من شبكة يهودية قوية تتحكم في جوانب حياته الدينية والزمنية وتضمن بقاءه، وفي ذات الوقت تقوم بضبط إيقاع حياته من الخارج ومن الداخل.
9 ـ يؤدي وجود أعضاء الجماعات اليهودية في وظائف معيَّنة مثل المهن الحرة إلى تَزايُد معدلات الزواج المُختلَط، ويعود هذا إلى أن حياة من يشغل مثل هذه الوظائف تتسم بدرجة عالية من الحركية والتنقل والبُعد عن المراكز السكانية اليهودية. كما أن كثيراً من عملائه ليسوا بالضرورة من أعضاء الجماعة اليهودية.
10 ـ لُوحظ أن معدلات الزواج المُختلَط في العصر الحديث ترتبط ارتباطاً عكسياً بحجم الجماعة اليهودية، فيَقل الزواج المُختلَط إذا كان حجم الجماعة كبيراً، وهو ما يتيح فرصة العثور على القرين اليهودي المناسب، ويزيد إذا كان حجمها صغيراً إذ تتناقص هذه الفرصة. ومن هنا يؤدي تَوزُّع اليهود في العديد من المراكز السكانية إلى زيادة معدلات الزواج المُختلَط.(3/226)
11 ـ قد يُقال ـ رغم تَعدُّد المراكز ـ إن أعداداً كبيرة من أعضاء الجماعات اليهودية مُركَّزة في المدن الغربية الكبرى ومن ثم لابد أن تتراجع نسبة الزواج المُختلَط حسبما ذكرنا في البند السابق. ولكن الأمر عكس ذلك، فسكان المدن الكبرى هم أعضاء في الجيسيلشافت (المجتمع التعاقدي) حيث الوحدة الأساسية هي الفرد الحركي الذي ينتقل من مكان لآخر ولا يرتبط بالجماينيشافت (المجتمع التراحمي) ، ولذا، فرغم وجود تجمعات يهودية كبيرة في المدن الغربية الكبرى إلا أنها في واقع الأمر مجرد تجمعات وحسب وليست جماعات أو مجتمعات، ولهذا يَصعُب على اليهودي أن يصل إلى القرين اليهودي المناسب. كما أن سكان المدن يكونون عادةً أكثر انفتاحاً وحركية من سكان الريف. ولهذا، ورغم وجود أعضاء الجماعات اليهودية بأعداد كبيرة في المدن الغربية الكبرى، فإن معدلات الزواج المُختلَط آخذة في التزايد بينهم.
12 ـ يؤدي تَزايُد اندماج أعضاء الجماعات اليهودية في المجتمعات التي يعيشون فيها إلى ازدياد معدلات الزواج المُختلَط، إذ تتاح لهم الفرص الاقتصادية والحراك السياسي والاجتماعي، ويبدأ أسلوب حياتهم في الاقتراب من أسلوب حياة أعضاء الأغلبية ويتساقط كثير من المحظورات.(3/227)
13 ـ وفي العصر الحديث، فإن السبب الأساسي والحاسم في تَصاعُد معدلات الزواج المُختلَط في المجتمعات الغربية، بدرجات ليس لها مثيل في تجارب أعضاء الجماعات اليهودية والتاريخية، هو تصاعد معدلات العلمنة في هذه المجتمعات. ومن المعروف أن المجتمعات العلمانية يسود فيها قدر كبير من التسامح. ولكن التسامح العلماني لا يعني (في تَصوُّرنا) التعايش بين الانتماءات الدينية المختلفة، وإنما يعني، في واقع الأمر، التعايش بين أعضاء المجتمع بعد أن يُهمِّش كل منهم انتماءه الديني أو الإثني ويتجاوزه بحيث يتعايش الجميع فيما يُسمَّى «رقعة الحياة العامة» التي تتحكم فيها القيم العلمانية مثل المنفعة وتعظيم الإنتاج واللذة. وعادةً ما تختفي في مثل هذه المجتمعات الرموز الدينية المقصورة على الجماعة الدينية ويحل محلها رموز المجتمع ككل (نشيد وطني ـ تاريخ مشترك ـ الانتماء لأرض الأجداد) أو رموز ذات مضمون اجتماعي طبقي (منازل من نوع خاص - رداء من نوع خاص - سيارات.. إلخ) . وهذه الرموز تُسقط الخصوصيات الدينية والإثنية. كما تسود هذه المجتمعات قيم ثقافية مشتركة من حب للموسيقى الشعبية أو فنان بعينه وهكذا.
14 ـ وقد واكبت هذا عملية ضخمة لإعادة تعريف الهوية اليهودية لتتفق مع الأوضاع (والحقوق والواجبات) الجديدة في عصر ما بعد الانعتاق، بحيث يصبح بإمكان اليهودي أن يكون يهودياً ومواطناً عادياً في آن واحد. وكان التصور أن تعريف الهوية الجديد سيحفظ يهودية اليهودي (الدينية أو الإثنية) وسيحقق لها الاستمرار داخل مجتمعات ما بعد الانعتاق، بخاصة المجتمع الأمريكي، وهو مجتمع حقق الانعتاق تماماً لكل أعضاء الأقليات فيه، كما أنه وطن نصف يهود العالم.(3/228)
ولكن يبدو أن هذا الحلم تَبخَّر تماماً، إذ ظهر أن تطوير الهوية اليهودية على هذا النحو أدى في واقع الأمر إلى ظهور ما يُسمَّى «اليهودي غير اليهودي» ، أي اليهودي الذي تم تهميش يهوديته بحيث أصبحت عنصراً ثانوياً في هويته العامة، لا تُوجِّه سلوكه ولا تشكل إطاراً عقائدياً كلياً يضبط حياته من الداخل والخارج. فيهودية اليهودي غير اليهودي تظهر في تَمسُّكه ببعض الشعائر (إن كان متديناً) ولا تتجاوز قدراً من التمسك الرومانسي بما يُسمَّى «التراث اليهودي» (الذي لا يعرف عنه شيئاً) أو تأييد إسرائيل بشكل أكثر حدة من أقرانه الأمريكيين، وإن كان ذلك لا يختلف في مُجمله عن الموقف الأمريكي العام.
وهذا التعريف للهوية اليهودية يجعلها هامشية تماماً لا تتدخل في ترتيب الأولويات الجوهرية. ولذا، فإن دَخَل إنسان يهودي في علاقة رومانسية مع شخص غير يهودي وبدأ يفكر في الزواج منه فسيجد أن هوية الطرف الآخر (اليهودية) هوية هامشية لا تتدخل في تحديد الاختيارات الأساسية والقرارات المصيرية، ولن يكون لها دخل كبير في حياتهما وأن بالإمكان تحقيق هذه الهوية الهامشية داخل الزواج مع تحييدها. فهذه الاختيارات والقرارات سيتم تحديدها على أُسس علمانية لا دينية، لا علاقة لها بالمسيحية أو اليهودية. فاقتناء عمل فني يهودي ودفع تبرعات لأحد صناديق الغوث اليهودية وتأييد إسرائيل لن يسبب مشاكل كبيرة. هذا على خلاف أن تكون الهوية اليهودية هي أساس ترتيب الأولويات والمعايير الأخلاقية التي يحكم بها اليهودي على حياته وأن تكون هي الإطار الذي يحدد من خلاله الهدف من وجوده ووَضْعه في المجتمع والتاريخ.(3/229)
15 ـ لاحَظ أحد الباحثين أن هوية اليهود الجدد الهشة يمكن أن تكون حافزاً على الزواج المُختلَط. ففي المجتمعات العلمانية ثمة بحث دؤوب عن اللذة والمتعة والمغامرة والإثارة. ويُعَدُّ الزواج بين يهودي وغير يهودي شكلاً من أشكال الإثارة الذي لا يُكلِّف كثيراً باعتبار أن يهودية الطرف اليهودي (ومسيحية الطرف المسيحي) مُهمَّشة، ومن ثم يمكن استدعاؤها للإثارة ويمكن تجميدها عند اتخاذ القرارات المصيرية.
16 ـ ومما يساعد على تَصاعُد معدلات الزواج المُختلَط أن معظم اليهود لا يعارضونه في الوقت الحاضر، كما يوجد عدد لا بأس به من الحاخامات الإصلاحيين ممن تَقبَّلوا عقد الزيجات المُختلَطة، ولذا فإن من يتزوج من غير يهودي لن يجد نفسه خارج الجماعة اليهودية.
ونسبة الزيجات المُختلَطة في العصر الحديث آخذة في التصاعد بشكل يثير قلق القيادات اليهودية (ويسمونه «الهولوكوست الصامت» ) . فقد وصلت نسبة الزيجات المُختلَطة في كوبنهاجن (بين عامي 1880 و1905) إلى 68% من جملة الزيجات. ووصلت في ألمانيا (عام 1932) إلى نحو ستين زيجة مُختلَطة بين كل مائة زيجة يهودية، وفي أمستردام 70% (عام 1930) . وفي الولايات المتحدة تصل النسبة في الوقت الحاضر إلى أعلى من هذا في بعض المناطق، ولكن النسبة العامة بين عامي 1985 و1990 هي 25% من كل الزيجات اليهودية التي تمت في هذه الفترة. وتصل النسبة في بعض المناطق إلى 80%. وفي روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء لا يختلف الوضع عن هذا كثيراً.(3/230)
ويحدث أحياناً أن يَتهوَّد الفرد الذي تزوج يهودياَ أو يهوديةً. ولفظ «يهودي» ، بالنسبة لمثل هؤلاء الأفراد، ذو مضمون ديني يُسقط الجانب الإثني والقومي تماماً، ولكنه ديني من حيث الاسم فقط، لأن اعتناق اليهودية خطوة يتخذها المتهود حتى لا يسبب حرجاً لرفيق حياته الجديد أمام أسرته. فالدافع وراء التهود هنا في غالب الأمر علماني وليس دينياً. ويبلغ عدد الذين تهودوا بسبب الزواج المُختلَط في الولايات المتحدة حوالي 185 ألفاً يسمون الواضح منهم في الوقت الحاضر «يهودي باختياره» (بالإنجليزية: جو باي تشويس Jew by choice) بدلاً من «كونفرت convert» أي «متهود» أو «مهتد» بسبب الإيحاءات القدحية لهذه الكلمة. وهذا العدد صغير (بالنسبة لعدد من لم يتهودوا، والذي يُقال إنه بلغ 210 ألف) كما أنه آخذ في التناقص مع تَصاعُد معدلات العلمنة في المجتمع، لأن الضغوط الاجتماعية التي تدفع الطرف غير اليهودي نحو التهوُّد قد ضعفت. وقد ورد في تقرير لمركز كوهين للدراسات اليهودية الحديثة في جامعة برانديز أن العنصر غير اليهودي يتهود في زيجة واحدة من كل أربع زيجات مُختلَطة.
ويقول الحاخام آرثر هرتزبرج إن معدلات الزواج المُختلَط في المجتمعات المنفتحة، مثل الولايات المتحدة وبلاد غرب أوربا (حيث تم فيها إعتاق اليهود) تصل منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى حوالي الثلث في الجيل الثالث (أحفاد المهاجرين أو اليهود الذين تم إعتاقهم) . ثم يأخذ هذا المعدل في الازدياد بعد ذلك (حدث ذلك في نيويورك وفيلادلفيا عام 1840، وحدث في برلين وفيينا عام 1920، وحدث مرة أخرى في الولايات المتحدة في الثمانينيات) . وقد كانت موجات الهجرة في الماضي هي التي تُقلِّل معدل الزيجات المُختلَطة، ذلك لأن المهاجرين (وأغلبيتهم من شرق أوربا) كانوا من خلفيات يهودية تقليدية يُعَدُّ الزواج المُختلَط فيها جريمة أخلاقية. ومع التكيف التدريجي يزداد معدل الزواج المُختلَط.(3/231)
وهذا يعني أن معدلات الزواج المُختلَط ستتزايد بشكل ملحوظ مع تَوقُّف الهجرة من خارج الولايات المتحدة (إذ أن مصدر المهاجرين الأساسي، الاتحاد السوفيتي سابقاً، قد بدأ يجف تماماً) . وإذا وصل مهاجرون فهم عادةً يتسمون بمعدلات عالية من العلمنة، ويكون هناك عادةً طرف غير يهودي في الأسرة المهاجرة. أما أبناء الزيجات المُختلَطة فوضعهم لا يقل سلبية (من منظور يهودي) . فقد لُوحظ أن 90% من أولاد الزيجات المُختلَطة في الاتحاد السوفيتي سابقاً يختارون ألا يُصنَّفوا «يهوداً» . ولا يختلف الوضع كثيراً في الولايات المتحدة، فقد قيل إنه لو أن نصف كل أبناء الزيجات المُختلَطة نشأوا يهوداً، لما حدث أي نقصان في أعداد اليهود، ولكن الدراسات الأخيرة أثبتت أن هذا لا يحدث، فنسبة من يُنشأون باعتبارهم يهوداً يصل إلى الربع (أو حتى الخُمس حسب بعض الإحصاءات) . ويوجد الآن في أمريكا الشمالية 415 ألف شخص فوق سن الثامنة عشرة من أصل يهودي ولكنهم نُشِّئوا على غير اليهودية. ويوجد 700 ألف دون سن الثامنة عشرة لم يتم تعريفهم بوصفهم يهود اً، رغم أن لهم أباً أو جداً يهودياً وهذا يؤدي إلى تَناقُص الأعداد. وحتى حينما يتقرَّر أن يُنشَّأ أبناء مثل هذه الزيجات على أنهم يهود، فعادةً ما يكونون يهوداً اسماً وأبعد ما يكونون عن اليهودية بالمعنى الديني أو الإثني. وقد لُوحظ أنهم يصبحون عادةً من أكثر العناصر إقبالاً على الزواج المُختلَط.(3/232)
ولا تعترف اليهودية الأرثوذكسية بالزيجات المُختلَطة. أما اليهودية المحافظة، فتشترط على الطرف غير اليهودي أن يَتهوَّد. ومع هذا، فهي لا تَطرُد من الأبرشية من يتزوج من خارج وسط اليهود، بل وتسمح له بعض المعابد المحافظة بحضور الصلوات على شرط أن يوافق على أن يكون ثمرة الزواج يهوداً. أما اليهودية الإصلاحية، فإنها توافق على الزيجات المُختلَطة (وتترك الأمر لكل حاخام لكي يقرر ما يراه مناسباً) ، وتشجع الطرف غير اليهودي على التهود ولكنها لا تشترطه، وتعتبر أن اليهودي وزوجته غير اليهودية أعضاء في الأبرشية، أي أنها تُقّر حق الطرف غير اليهودي في حضور الصلوات.
أما بالنسبة للموقف من أبناء هذه الزيجات، فإن اليهودية الأرثوذكسية لا تعترف إلا بمن وُلد منهم لأم يهودية، أما من وُلد لأب يهودي فليس يهودياً (على عكس موقف اليهودية الإصلاحية) .
ومن المشاكل الأخرى التي يُثيرها أبناء الزواج المُختلَط انضمامهم للمدارس اليهودية، فبعض الأطفال غير يهود ومع هذا يسجلهم آباؤهم في مثل هذه المدارس ليُعرِّفوهم بالجذور الإثنية أو الدينية للطرف اليهودي في الأسرة أو ليطرحوا أمامهم البدائل الدينية المختلفة (ومن بينها البديل اليهودي) حتى يختار الطفل بنفسه فيما بعد. ويخلق هذا مشاكل لا حصر لها لهذه المدارس، التي تُعدّ المقررات التي تلائم الدارسين اليهود وحسب.
والصهيونية تعتبر الزواج المُختلَط أكبر خطر يتهدد اليهود واليهودية. ومن المستحيل عقد مثل هذا الزواج في إسرائيل حيث تسيطر المؤسسة الأرثوذكسية. ويواجه المامزير، أي أبناء الزيجات المُختلَطة، مشاكل وتعقيدات كثيرة لأنهم أطفال غير شرعيين. وقد ازدادت المشكلة تفاقماً بعد هجرة اليهود السوفييت، حيث إن معدلات الزواج المُختلَط بينهم مرتفعة بشكل ملحوظ.
الإبادة الصامتة
Silent Holocaust(3/233)
«الإبادة الصامتة» مُصطلَح شائع في الولايات المتحدة (في الأوساط الصهيونية) يُستخدَم للإشارة إلى معدلات الاندماج والزواج المُختلَط المرتفعة باعتبارهما عناصر ستؤدي إلى إبادة اليهود وإلى «موت الشعب اليهودي» .
الشعب العضوي (فولكVolk)
تعبير «الشعب العضوي» هو ترجمتنا للكلمة الألمانية «فولك Volk» التي تُستخدَم بمنطوقها الألماني في كثير من اللغات الأوربية. والشعب العضوي هو الشعب الذي يترابط أعضاؤه ترابط الأجزاء في الكائن العضوي الواحد والذي تربطه رابطة عضوية بأرضه وتراثه. ويُشار إلى الفكر القومي، الذي يَصدُر عن مفهوم الشعب باعتباره الفولك أو الكيان العضوي المتماسك، بعبارة «الفكر القومي العضوي» كما يُقال «القومية العضوية» .
القومية العضوية
Volk (Organic) Nationalism
«القومية العضوية» هي شكل القومية التي يُعبِّر الشعب من خلالها عن نفسه ككيان عضوي متماسك، يحوي داخله مركزه، فهو مرجعية ذاته، أي أنه يدور في إطار المرجعية الكامنة، والنموذج الكامن وراء هذه الفكرة هو نموذج عضوي مادي واحد. والشعب العضوي والقومية العضوية هما البديل والمقابل العلماني والحلولي الكموني الواحدي لفكرة الجماعة الدينية أو الأمة بالمفهوم الديني. ومفهوم القومية العضوية مفهوم رحمي تماماً يُلغي إرادة الإنسان الفرد وحريته. وقد ظهرت فكرة القومية العضوية في الغرب، خصوصاً في ألمانيا في القرن التاسع عشر، تحت تأثير الفكر المعادي للاستنارة. والقومية العضوية تدور في إطار الأفكار التالية:
1 ـ الشعب هو كلٌ عضوي متماسك يشبه علاقة أعضائه، الواحد بالآخر وبمجموع الشعب، علاقة أجزاء الكائن الحي بعضه بالبعض الآخر، ومن ثم فإن الشعب الحقيقي لا يقبل التفتيت ولا يمكن فصل أحد أعضائه عنه. وإذا غيَّر أحد أعضاء الفولك مكانه وانتقل من ألمانيا إلى روسيا مثلاً فهو يظل ألمانياً.(3/234)
2 ـ الانتماء القومي لهذا الشعب ليس مسألة اختيار أو دعاية وإنما رابطة كلية عضوية حتمية تكاد تكون بيولوجية في حتميتها (إن لم تكن كذلك بالفعل) تربط بين الفرد والجماعة التي يتبعها، ولذا فإن الانتماء لشعب معيَّن مسألة تُورَّث ولا تُكتسَب.
3 ـ لا تقتصر الرابطة العضوية على العلاقة بين الفرد والشعب وإنما تمتد لتربط بين الشعب ككل والأرض التي يعيش عليها وبها. فالشعب العضوي يستمد الحياة من أرضه وتربته، وهي أيضاً تستمد منه الحياة، فهو وحده القادر على تعميرها.
4 ـ تمتد العلاقة العضوية لتشمل أيضاً الأشكال الثقافية والاجتماعية التي تسود بين أعضاء هذا الشعب العضوي والتي أبدعها أعضاؤه على مر التاريخ. فهذه الأشكال تُعبِّر عن عبقرية هذا الشعب وروحه (بالألمانية: فولكس جايست Volksgeist) ، ولهذا السبب فإن الآخر الغريب لا يمكنه أن يمتلك ناصية الخطاب الحضاري لهذا الشعب مهما بذل من جهد، فثقافة الشعب العضوي مسألة موروثة تجري في الدم تقريباً ولا يمكن اكتسابها مهما بلغ الآخر من ذكاء ومهارة.
5 ـ والشعب العضوي يحوي داخله (وداخل أرضه وتراثه) عناصر قوته وانحلاله وتَطوُّره ورُقيِّه، كما أن قوانين حركته التي ينمو على أساسها كامنة فيه أيضاً، أي أنه يدور في إطار المرجعية المادية الكامنة. ويُلاحَظ اختفاء كل المسافات بين الشعب ومصادر قوته وأرضه وتراثه، فالجميع يُكوِّنون كُلاًًّ متماسكاً مستمراً عضوياً لا ثغرات فيه ولا انقطاع.(3/235)
6 ـ ويمكننا أن نقول إن فكرة الشعب العضوي (والقومية العلمانية) ككل هي حلولية مرحلة وحدة الوجود المادية (من النوع الثنائي الصلب) . فالمُطلَق حلَّ في المادة (الأرض والشعب والتراث أو الشعب المرتبط بأرضه وتراثه) وفقد تَجاوُزه وتنزهَّه وذاب في الشعب، بحيث أصبح الشعب هو ذاته القيمة المطلقة ومرجعية ذاته. ولعل النمط الكامن الأساسي وراء فكرة الشعب العضوي هو النمط الذي ورد في أسفار موسى الخمسة، فالعبرانيون أمة أو قبيلة اختارها الإله وحل فيها أو سكن في وسطها، وهو إله مقصور على أعضاء هذه القبيلة، ولذا كان ينتقل معهم في ترحالهم (أو كانوا يحملونه معهم في سفينة العهد) وكان يساعدهم (وحدهم دون سواهم) ضد أعدائهم ويغار عليهم، وكانوا لا يترددون في الضغط عليه كي يستجيب إلى طلباتهم. وقد تعدلت هذه الصورة قليلاً بعد ذلك في كتب الأنبياء. ولكن أسفار موسى الخمسة ظلت أكثر أسفار العهد القديم قداسة، وأصبح تاريخها المقدَّس، وما جاء فيها من صُوَر حلولية كمونية عضوية من أهم مفردات الوجدان الغربي. ومع تَصاعُد معدلات العلمنة، أعيد إنتاج هذه الصورة القَبَلية العضوية الحلولية على هيئة الفكر العلماني القومي. وقد أَحَلَّ هذا الفكر، محل الإله الواحد المتجاوز (المُنزَّه عن الطبيعة والتاريخ، مركز الكون، المفارق له) ، كياناً عضوياً متماسكاً هو الشعب أو الأمة التي تحوي مركزها داخلها، فهي موضع الحلول والكمون وفوق الجميع. وأصبحت الأمة، ذلك الكيان العضوي المُنغلق على ذاته، مصدر السلطات وموضع التقديس، وأصبحت الهوية القومية والحفاظ عليها (بغض النظر عن أية قيم) قيمة مطلقة ومرجعية نهائية (تَوثُّن الذات كما سماها أحد المفكرين العرب) . بل وأصبح تراب الوطن أو أرضه موضع التقديس، فهو الرقعة التي تتحقق عليها الذات القومية المقدَّسة. وقد تم التعبير عن هذا من خلال مفهوم الدم والتربة: الدم الذي يجري في عروق أبناء الشعب والتراب أو(3/236)
التربة التي يعيش عليها، وهما العنصران اللذان يجسدان فكرة الوطن. وأصبح الصالح العام لهذا الوطن، وهذه الدولة التي تمثله وتمثل الشعب، هو المُطلَق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو الخير الأعظم والمُطلَق الأوحد، ولهذا فإن العمل ضد صالح الدولة وإفشاء أسرارها (المقدَّسة المُطلَقة) خيانة عظمى عقوبته عادةً الإعدام. وباختصار شديد، أصبح الوطن المقدَّس (والشعب المقدَّس) مرجعية ذاته وأصبحت مصلحته قيمة نهائية، ومن ثم أصبح من المستحيل محاكمة أي شعب من منظور منظومة قيمية خارجة عنه.
7 ـ أفرزت فكرة الشعب العضوي والقومية العضوية مجموعة شعارات ومفردات ذات طابع عضوي حلولي كموني واحدي (شبه صوفي) عنصري، مثل: «أمتنا فوق الجميع» ، و «الأمة ذات الرسالة الخالدة» ، «المصير القومي الواحد المحتوم» ، «المجال الحيوي للشعب» .
8 ـ مفهوم الشعب العضوي مفهوم استبعادي، نسق مغلق لا يسمح بأي شكل من أشكال عدم التجانس ويفصل بحدة بين أعضاء الشعب العضوي والشعوب الأخرى. كما أن أعضاء الأقليات الذين يعيشون بين أعضاء هذا الشعب يصبحون بالمثل شعباً عضوياً، ولكنهم شعب عضوي منبوذ.
9 ـ فكرة الشعب العضوي والقومية العضوية تُترجم عادةً إلى فكر عرْقي يؤكد التفاوت بين الناس والأعراق، فينسب التَميُّز للأنا الجماعية العضوية والتدني للآخر. فالأنا هي تَجسُّد المركز الكامن في العالم، والآخر مجرد مادة وحسب، والأنا هو المرجعية النهائية والمقدَّس، والآخر هو التابع المباح. ويشكل الفكر العضوي الاستبعادي الأرضية الفلسفية للرؤية العنصرية داخل أوربا والرؤية الإمبريالية خارجها. وقد حقَّق المفهوم شيوعاً كبيراً في أوربا ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر. وكانت الكتب العنصرية أكثر الكتب شيوعاً في أوربا في تلك الفترة. ومن هنا، فإن الفكر الإمبريالي، والفكر النازي والصهيوني، وكذلك فكر أعداء اليهود، فكر عضوي.(3/237)
10ـ يُعبِّر الشعب العضوي عن إرادته من خلال الدولة القومية المطلقة التي تكون مرجعية ذاتها، ويُعبِّر عن هذه الإرادة في حالة النُظُم الشمولية من خلال إرادة الزعيم.
ويُميِّز بعض المؤرخين بين القومية العضوية من جهة والقومية الليبرالية (التعاقدية) من جهة أخرى. فإذا كان أعضاء القومية العضوية لا يختارون مسألة انتمائهم القومي بل يرثونه بشكل يكاد يكون بيولوجياً، فإن أعضاء القومية الليبرالية ـ حسب رأي هؤلاء المؤرخين ـ يختارون هذا الانتماء ويدخلون في تعاقد يمكن فكّه على الأقل من الناحية النظرية. ويُصنَّف الفكر القومي الألماني والسلافي بوصفه فكراً عضوياً يُبشر بقومية عضوية، وذلك على عكس النظريات القومية في كلٍّ من فرنسا وإنجلترا. ونحن نرى أن التمييز قد يفسر بعض نقط الاختلاف التي لا أهمية لها، ولكنه يُخبئ نقط تشابه ذات أهمية محورية. كما نذهب إلى أن الحضارة الغربية العلمانية العلمية ككل تدور في إطار عضوي وفي إطار المرجعية المادية الكامنة، فالنموذج يحوي مركزه داخله، وقد تَقلُّ درجة تَماسُكه واستبعاديته وحلوليته في حالة التشكيلين الحضاريين الفرنسي والإنجليزي (والقومية الفرنسية والإنجليزية) ، وقد تزيد هذه الدرجة في حالة التشكيلين الألماني والسلافي (الجامعة الألمانية والجامعة السلافية) وفي حالة الصهيونية. ولكن الإطار الذي يدور في إطاره الجميع هو المرجعية المادية الكامنة والحلولية العضوية، فتصبح الأمة مرجعية ذاتها، وتصبح هي ذاتها مصدر شرعيتها، وتصبح إرادتها مصدر وحدتها وتَماسُكها (تماماً كما أن إرادة القوة في المنظومة النيتشوية هي مصدر تَماسُك الفرد ووحدته وهويته) .
الشعب العضوي المنبوذ
Pariah Volk(3/238)
«الشعب العضوي المنبوذ» عبارة قمنا بصياغتها للتعبير عن نموذج تفسيري كامن في معظم الكتابات الصهيونية والمعادية لليهود. ويعود هذا النموذج إلى الفكر الألماني الرومانسي الذي طرح فكرة الشعب العضوي (بالألمانية: فولك Volk) ، والتي ترى أن الانتماء القومي ليس مسألة اختيار أو إيمان، وإنما هو رابطة كلية عضوية حتمية تكاد تكون بيولوجية في حتميتها بين الفرد والجماعة التي يتبعها والتربة (الأرض) التي تتواجد عليها هذه الجماعة، ومن هنا الحديث عن التربة والدم. وحسب هذا النموذج، تتسم الأشكال الثقافية والاجتماعية المختلفة التي تسود بين أعضاء هذه الجماعة بأنها هي الأخرى مترابطة ترابطاً عضوياً لا تنفصم عراه، وبأنها فريدة تُعبِّر عن عبقرية الجماعة. ويؤكد نموذج الشعب العضوي الاختلافات بين الجماعات البشرية المختلفة على حساب المساواة بين أعضاء الجنس البشري. ولهذا نجد أنه أفرز مجموعة شعارات ذات طابع عضوي عنصري شبه صوفي، مثل: روح الشعب - أمة واحدة ذات رسالة خالدة ـ المصير القومي الواحد الحتمي والأمة فوق الجميع - المجال الحيوي للشعب. وقد استُخدم هذا النموذج لتبرير التوسع ولاستبعاد الآخرين بل وإبادتهم. كما تَحكَّم في إدراك الإنسان الغربي لكل المجموعات البشرية وضمنهم اليهود، بحيث أصبح هناك شعب عضوي ألماني وشعب عضوي إنجليزي وشعب عضوي يهودي، كل منها مترابط ترابطاً عضوياً ويضرب بجذوره في تربته. وقد تَبنَّى الفكر الصهيوني هذا النموذج التفسيري الذي عبَّر عنه مارتن بوبر في كتاباته حيث يجعل من الشعب العضوي ركيزة أساسية لرؤية العالم.(3/239)
ومن مفارقات الأمور أن إحدى خصائص الشعوب العضوية أنها تَنبُذ العناصر الغريبة عنها والتي تُوجَد بين ظهرانيها مثل اليهود. ولهذا كان النموذج الذي أسبغ على اليهود هوية عضوية فريدة، وحوَّلهم من مجرد أقلية دينية أو جماعة دينية إلى كيان مستقل، يأخذ شكل شعب عضوي له صفات ثابتة محددة يضرب بجذوره في فلسطين، هو نفسه الذي جعل منهم مادة بشرية غريبة لم تُشكِّل قط جزءاً من التاريخ الحقيقي للغرب وإنما وقفت دائماً على هامشه. بل إن وجودهم داخل الحضارة الغربية لم يكن دائماً أمراً إيجابياً، ومن ثم فلا مكان لهم في هذه الحضارة، أي أن «الشعب العضوي» تَحوَّل إلى «شعب عضوي منبوذ» . وقد أدَّى هذا النموذج إلى الهجوم على خصوصية الشعب العضوي اليهودي وإظهار مدى قبحها وضرورة القضاء عليها، فظهرت الدعاوى المعادية لليهود، كما ظهرت الدعوات إلى دمجهم في المجتمعات الغربية بعد إصلاحهم وتطبيعهم، أي بعد أن يتخلصوا من خصوصيتهم وسماتهم السلبية، بأن يتخلوا عن يهوديتهم، وهذا هو فكر عصر الاستنارة والتنوير.
ويمكن القول بأن نموذج الشعب العضوي المنبوذ هو الحلقة التي تربط بين العداء لليهودية والصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة. وتنطلق صهيونية غير اليهود من فكرة أن الفولك أو «الشعب العضوي اليهودي» لا مكان له حقاً في العالم الغربي (وهذه هي نفسها دعوى أعداء اليهود) ولكن يمكن الاستفادة منه كأداة يمكن توظيفها لصالح الغرب في مشروعاته المختلفة التي أصبح من أهمها، مع مرور الوقت، المشروع الاستيطاني في فلسطين. ويستند نموذج الشعب العضوي المنبوذ إلى عنصرين أساسيين في الحضارة الغربية:(3/240)
1 ـ موقف الحضارة الغربية المسيحية من اليهود. ويمكن القول بأن نموذج الشعب العضوي يعود إلى فكرة الشعب الشاهد، أي اليهود بوصفهم أقلية دينية رفضت المسيح، وتقف في ذُلِّها وخضوعها وتَدنِّيها شاهداً على صدق العقيدة المسيحية وعلى عظمة الكنيسة. ولذا، دافعت الكنيسة الكاثوليكية عن بقاء اليهود كجماعة مستقلة وحمتهم ضد الهجمات الشعبية حتى يقوموا بدورهم في الشهادة. ثم تحوَّلت هذه الفكرة إلى العقيدة الاسترجاعية أو الألفية في الفكر البروتستانتي، وهي عقيدة تُحوِّل اليهود إلى أداة من أدوات الخلاص إذ أنه لا يمكن أن يتم الخلاص النهائي إلا بعودة اليهود.
2 ـ الأمر الآخر الذي يعود إليه نموذج الشعب العضوي المنبوذ هو الدور الذي لعبه اليهود في المجتمع الغربي كجماعة وظيفية وسيطة تشتغل بالتجارة والربا والنشاطات المالية. ويمكن القول بأن الشعب العضوي المنبوذ، في كثير من الأحوال، هو الجماعة الوظيفية التي فَقَدت وظيفتها.
ويُلاحَظ أن كلا الأمرين يضع اليهود على هامش التاريخ الغربي لا في صميمه، كما يجعلهم مجرد أداة إما للخلاص النهائي أو للربح.
ويمكن القول أيضاً بأن نموذج الشعب العضوي المنبوذ هو تعبير علماني عن فكرة الشعب المختار والشعب المقدَّس (الدينية) ، فالشعب المختار شعب مقدَّس، والقداسة تعني الانفصال عن كل الشعوب، فهو شعب عضوي، ولكن إحدى علامات اختياره هي أن كل الشعوب ترفضه، فهو شعب عضوي مقدَّس منبوذ.
وقد تداخل العنصران الديني والدنيوي لبعض الوقت. ومع تَزايُد علمنة الحضارة الغربية، فَقدَ النموذج كثيراً من ديباجاته الدينية ليصبح نموذجاً دنيوياً محضاً. ومن هذا المنظور، تم الهجوم على اليهود لا باعتبارهم قتلة المسيح وإنما باعتبارهم شعباً عضوياً بالمعنى العرْقي. كما أن استخدام اليهود كوسيلة أخذ يفقد ديباجاته الدينية تدريجياً، حيث أصبح اليهودي غير مُثقَل بأية قيمة وتَحوَّل إلى أداة محضة.(3/241)
ويمكننا أن نَعُدَّ مارتن لوثر من أوائل المفكرين الذين تعاملوا مع اليهود من منطلق هذا المفهوم في صيغته الدينية، فقد وصف اليهود انطلاقاً من عدائه العميق لهم بأنهم «عبء ثقيل علينا وبلاء وجودنا» ، وأشار إلى أكاذيبهم وطالب بمساعدتهم للعودة إلى أرضهم في يهودا «فالتخلص من اليهود هو الهدف الأسمى» . ومن الواضح أن لوثر لم يكن قد أدرك بعد إمكانية الاستفادة منهم وإمكانية نفعهم. ويُعَدُّ الفيلسوف إسبينوزا من أوائل المفكرين الذين بَلْوروا هذا المفهوم في صيغته العلمانية، إذ شن هجوماً شرساً على اليهود وطالب بالقضاء على خصوصيتهم بدمجهم أو عودتهم إلى فلسطين.
وشهدت الفترة نفسها ظهور فكرة الاستفادة من «الشعب العضوي المنبوذ» كأداة. فقد دافع كرومويل عن عودة اليهود إلى إنجلترا بسبب نفعهم وإمكانية استخدامهم كجواسيس. وقد بدأت تظهر فائدة اليهود في تلك الفترة كعنصر استيطاني يمكن استخدامه في المشاريع الاستيطانية في سورينام وكايين وكوراساو.
ويُعَدُّ نموذج الشعب العضوي المنبوذ حجر الزاوية في فكر الاستنارة، فقد هاجم كلٌّ من فولتير وهولباخ اليهود على أنهم شعب عضوي له صفاته السلبية الخاصة به. وعرَّف الفيلسوف هردر اليهود بأنهم غرس طفيلي في أوربا يلتصق بكل الشعوب الأوربية ويمتص نخاعها. ويُلاحَظ وجود المفهوم نفسه في كتابات فخته الذي أكّد أيضاً الفساد الأخلاقي عند اليهود وأكد أنهم يُكوِّنون دولة داخل الدولة. ولذا، عارض منحهم الحقوق المدنية والسياسية، إذ أن ذلك لن يتحقق إلا بأن تُقطَع رؤوسهم ذات ليلة وتُوضَع مكانها رؤوس أخرى لا تحوي فكرة يهودية واحدة. وقد اقترح فخته، ومن قبله فولتير، حلاًّ صهيونياً لمشكلة الشعب العضوي المنبوذ، فقال: "لا يوجد بديل إلا بغزو أرض الميعاد وإرسالهم إليها، لأنهم لو حصلوا على حقوقهم المدنية في أوربا فإنهم سيدوسون على كل المواطنين الآخرين".(3/242)
وقد بدأت تظهر في هذه الفترة فكرة نفع اليهود. وقد عبَّر الكاتب الإنجليزي أديسون، محرر مجلة الإسبكتاتور، عن هذا الجانب من المفهوم بشكل دقيق للغاية في مقال بتاريخ 27 ديسمبر 1712 قال فيه: «إن اليهود منتشرون في جميع المناطق التجارية في العالم حتى أنهم أصبحوا الأداة التي تتحدث من خلالها الأمم التي تفصل بينها مسافات شاسعة، فهم مثل الأوتاد والمسامير في بناء شامخ. ورغم أنهم بلا قيمة في حد ذاتهم، فإن أهميتهم مطلقة لأنهم يحفظون للهيكل كله تماسكه» . وما يهمه من اليهود كشعب عضوي، إذن، هو كونهم أداة مهمة وحسب. ولذلك فهو لا يَشُنُّ عليهم هجوماً ولا يُشهِّر بهم، فما يهمه هو توظيف هذه الكتلة البشرية. وستتكفل عملية التوظيف هذه بتخليص أوربا منهم بالطرق السلمية، أي أن نموذج الشعب العضوي المنبوذ تَحوُّل تدريجياً ليصبح نموذج الشعب العضوي المنبوذ النافع (وهذا هو جوهر الصهيونية) . وقد طُرحت في عصر الاستنارة إشكالية مدى نفع اليهود وإمكانية إصلاحهم حتى يتسنى الاستفادة منهم.(3/243)
وهكذا أصبح نموذج الشعب العضوي المنبوذ نموذجاً تفسيرياً أساسياً في الوجدان العقلي والعاطفي في الغرب بما يؤدي إليه من حلول صهيونية واضحة أو كامنة. وقد أصبح هذا النموذج، مع بداية القرن التاسع عشر، بُعداً أساسياً في الفكر السياسي الغربي تجاه اليهود والشرق. كما تمت مزاوجة المسألة اليهودية (الشعب المنبوذ) بالمسألة الشرقية (الدولة العثمانية وتقسيمها) بحيث يمكن حل المسألة الأولى، أي التخلص من اليهود، عن طريق استخدامهم كمادة بشرية في المسألة الثانية. وكان نابليون من أوائل السياسيين الذين توصلوا إلى هذه الصيغة. فهو أول سياسي يدعو اليهود، من حيث هم يهود، إلى الاستيطان في فلسطين، محاولاً الاستفادة منهم كمادة استيطانية في مشروعه الاستعماري. أما على مستوى فرنسا ذاتها، فقد كان الأمر جدُّ مختلف. فقد أصدر نابليون من التشريعات ما قضى عليهم كشعب عضوي، ووضع الخطط التي أدَّت في نهاية الأمر إلى دمجهم في الأمة الفرنسية.(3/244)
ونموذج الشعب العضوي المنبوذ هو ذاته النموذج الرئيسي وراء فكر بول باستيل زعيم حركة الديسمبريين في روسيا، فقد كان يرى أن اليهود «يحافظون دوماً على روابط وثيقة بدرجة لا تُصدَّق، بسبب الدين والسيطرة الحاخامية على أوجه الحياة جميعاً» ، أي أنهم شعب عضوي. والحل هو «إما تخليص اليهود من خصوصيتهم، واستيعابهم استيعاباً تاماً، أو مساعدتهم على تأسيس دولتهم الخاصة المستقلة في منطقة ما من آسيا الصغرى. ولهذا يجب تعيين نقطة تَجمُّع الشعب اليهودي بمساعدة بعض الجنود. وإذا تَجمَّع في مكان واحد جميع اليهود الروس والبولنديين، فإن عددهم سيبلغ أكثر من مليونين، وبعد أن يجتازوا أوربا التركية فإنهم يستطيعون أن يعبروا إلى تركيا الآسيوية حيث يمكنهم بعد الاستيلاء على أرض كافية لتأسيس دولة يهودية مستقلة» . وبهذا، فإن باستيل ينظر إلى اليهود باعتبارهم مادة استيطانية يمكنه استخدامها كوسيلة في الصراع الناشب بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية.
وقد أصبح النموذج أيضاً بُعداً أساسياً في الفكر الاستعماري الإنجليزي، فنجد أن لورد شافتسبري يتحدث عن اليهود باعتبارهم عنصراً مستقلاً له سماته القومية المستقلة، ولكنه عنصر طفيلي فاسد. وانطلاقاً من هذا، فقد عارض مَنْحَهم الحقوق الدينية، ولكنه بذل جهوداً كبيرة في سبيل اتخاذ الخطوات اللازمة لتوطينهم في فلسطين. وقد تبنَّت وزارة المستعمرات رأيه منذ عام 1840.(3/245)
ويستمر هذا الخط ليصل إلى بلفور الذي كان يؤمن إيماناً جازماً بأن اليهود كيان تختلط فيه القومية بالدين. وأنهم كيان غريب على الحضارة الغربية التي لم تستطع استيعابهم. وكان بلفور يرى أن اليهود، بطفيليتهم وعدم انتمائهم، يشكلون عبئاً على الحضارة الغربية، فاستصدر عام 1905 من القوانين ما يُوقف مد الهجرة اليهودية إلى إنجلترا. ولكن وزارته وافقت في العام نفسه على مشروع شرق أفريقيا. ثم ساهم بلفور، بعد ذلك، في استصدار الوعد الذي سُمي باسمه. والواقع أن كلا المشروعين يهدف إلى تخليص أوربا من اليهود، وذلك عن طريق الاستفادة منهم في مكان آخر.
وفي الفكر الاشتراكي الغربي، ظهر نموذج الشعب العضوي المنبوذ في فكر فورييه وتلاميذه، خصوصاً توسينيل وأدولف إلايزا الذي شبَّه اليهود بالبكتريا القذرة التي تحمل العفن إلى أي مكان تحل فيه. ويُلاحَظ أن الصورة المجازية هنا عضوية، تماماً مثل الشعب العضوي، وهي صورة مجازية استخدمها الزعيم الصهيوني نوردو والزعيم النازي هتلر. وقد تَبنَّى هؤلاء حلاًّ صهيونياً للمسألة اليهودية وطلبوا من اليهود أن يرحلوا إلى "بلادهم"!(3/246)
وحينما ظهرت الصهيونية بين اليهود، كان هناك تَلازُم أيضاً بين نموذج الشعب العضوي المنبوذ وبين الاستيطان الصهيوني. وقد تَقبَّل كثير من الصهاينة هذا النموذج التفسيري وأسسوا عليها نظريتهم الصهيونية، فرددوا أن اليهود طفيليون، كريهون لا أخلاقيون، ويجب تطبيعهم عن طريق تطويعهم من أجل خدمة المشروع الاستعماري الغربي وتوطينهم في فلسطين. وفي أوائل القرن الحالي، كانت الزعامة الصهيونية في ألمانيا تؤكد تَدنِّي اليهود ووضاعتهم وعدم انتمائهم لإسباغ الشرعية والمعقولية على المشروع الصهيوني. ولهذا فقد قَبلت المقولات الأساسية لمعاداة اليهود واستوعبتها في بناء النسق الفكري الصهيوني ذاته. وقد ظهر الفكر النازي في هذه التربة، وهو فكر ينطلق من فكرة أن الشعب العضوي الألماني والشعب العضوي اليهودي المنبوذ يجب ألا يختلطا حتى يحتفظ كلٌّ بهويته العضوية. وقد بيَّن ألفريد روزنبرج، أهم مُنظِّري العقيدة النازية، إبان محاكمته في نورمبرج، أنه تَبنَّى رؤية بوبر حيث أعلن أن اليهود يجب يعودوا إلى أرض آسيا حتى يمكنهم (هناك فقط) العثور على جذور الدم اليهودي.(3/247)
وقد وردت في قوانين نورمبرج الفقرة التالية عن الصهيونية ومبرراتها: "لو كان لليهود [أي الشعب العضوي المنبوذ] دولة خاصة بهم تضمهم جميعاً في وطن واحد، لأمكن اعتبار المشكلة اليهودية محلولة حتى بالنسبة إلى اليهود أنفسهم". ومن ثم، فإن النازيين لم يكونوا ضد المشاريع الاستيطانية الصهيونية التي تهدف إلى التخلص من اليهود. ولكن، لسوء حظ ألمانيا واليهود، لم يكن لدى ألمانيا مستعمرات في آسيا وأفريقيا (بعد إجهاض مشروعها الاستعماري على أيدي الدول الاستعمارية الأخرى) . وربما، لو وُجدت مثل هذه المستعمرات الألمانية، لقام هتلر بكفاءته المعهودة بنقل فائض أوربا المنبوذ وانتفع منه ومن إمكانياته، بدلاً من إبادته وحرقه. ولكن مجال ألمانيا الحيوي في أوربا كان آهلاً بالسكان، ولذا، لم يكن بوسع هتلر سوى إبادة اليهود بدلاً من نقلهم (حسب منطق أوربا العملي المادي) .
وقد لاحَظ كثير من المثقفين الألمان اللوثريين أعداء النازية ذلك التَطابُق بين الفكرة الغربية الخاصة بالشعب العضوي ونموذج الشعب العضوي كما عبَّر عنها الصهاينة، وقال ريتشارد كودينهوف كاليرجي، وهو من أكبر مناهضي العنصرية، إن القوميتين اليهودية والنازية حركتان حولتا الدنيا والمادة إلى مقولات ميتافيزيقية، أي إلى دين، وكلتاهما تُضفي صفة نسبية على كل القيم باستثناء القيم العرْقية وعلاقات الدم والتربة، بحيث تختفي جميع المعايير إلا معيارالعرْق. ثم أشار كاليرجي إلى أن كلتا الحركتين قبلتا القول بأن ألمانيا لا يمكنها استيعاب اليهود.(3/248)
وقد اختفى نموذج الشعب العضوي المنبوذ إلى حدٍّ كبير من كتابات الصهاينة والمفكرين الغربيين بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنه لا يزال النموذج الفعال الكامن في كل الكتابات والمشاريع الصهيونية. وقد ظهرت في الآونة الأخيرة فكرة الشعب المقدَّس بين أعضاء جماعة جوش إيمونيم. وعندهم، كذلك، أن هذا الشعب يعيش وحده ولا يُحسَب بين الأمم، فهو شعب مقدَّس عضوي منبوذ. وتَنبُع أهمية فكرة الشعب العضوي المنبوذ من أنها تُبيِّن العلاقة العضوية الكامنة بين الصهاينة وأعداء اليهود.
الباب الخامس: منفى وعودة أم هجرات وانتشار؟
إحساس اليهودي الدائم بالنفي الأزلي ورغبته الثابتة في العودة
The Jewish Sense of Eternal Exile and Permanent Desire for Return
» إحساس اليهودي الدائم بالنفي ورغبته في العودة» هي عبارة تُبلوِّر النموذج الكامن وراء كثير من الدراسات التي تتناول الجماعات اليهودية في العالم، إذ يتم رصد أعضاء الجماعات اليهودية وتحركاتهم وكأن عندهم إحساساً بالنفي الأزلي ورغبة دائمة في العودة، وكأن هذا الإحساس وهذه الرغبة هما جزء من جوهر يهودي ثابت ومن المكونات الأساسية لطبيعة اليهود البشرية.
واليهودي حسب هذا النموذج التفسيري هو غريب ينتقل من مكان لآخر (ومن هنا صورة اليهودي المتجول) ، الذي يحس بأنه في المَنْفَى، ومن ثم فعنده رغبة عارمة دائمة في إنهاء حالة النفي هذه والعودة إلى «وطنه الأصلي» فلسطين. ولذا أصبحت عبارات مثل «المَنْفَى» و «الشتات» و «الدياسبورا» و «العودة» كلمات متواترة مألوفة في الأدبيات الخاصة باليهود واليهودية (الصهيونية والمعادية لليهود وغيرها) ، وتم تطبيعها تماماً، وكأنها مجرد وصف موضوعي ومحايد لأعضاء الجماعات اليهودية ولسلوكهم.(3/249)
وفي مداخل هذا الجزء والذي يليه سنقوم بتفكيك هذه المفاهيم وإعادة تركيبها في ضوء دراستنا للتواريخ المتعينة لأعضاء الجماعات اليهودية حتى نبيِّن ضعف المقدرة التفسيرية لمثل هذه المفاهيم. وسنقترح اصطلاح «الانتشار» بديلاً عن «النفي والعودة» باعتباره أكثر تفسيرية.
المنفى وااعودة
Exile and Return
تشير كلمة «جالوت» ، أو «جولا» إلى المَنْفَى، والمَنْفَى القهري بالذات خارج إرتس يسرائيل أي فلسطين (مقابل المَنْفَى الطوعي أي «تيفوتسوت» ) ، ولذا فهي تُترجَم عادةً إلى العربية بكلمة «المَنْفَى» . كما تُستخدَم كلمة «دياسبورا» أي «الشتات» للإشارة إلى الجماعات اليهودية التي تعيش مشتتة بين الشعوب الأخرى. وأحياناً تُستخدَم كلمة «دياسبورا» بشكل محايد بحيث تعني «الانتشار» بوصفه ظاهرة إنسانية عادية طبيعية. ويستخدم اليهود الإصلاحيون والاندماجيون المصطلح بهذا المعنى. وفي اللغة العربية، تُستخدَم كلمتا «الشتات» و «المَهْجَر» للإشارة إلى المكان الذي هاجر إليه اليهود أو هُجِّروا إليه. وتعني الكلمات السابقة ( «المَنْفَى» و «الدياسبورا» و «الشتات» و «المَهْجَر» ) وجود أعضاء الجماعات اليهودية المؤقت خارج إرتس يسرائيل (أي فلسطين) حتى تتحقق لهم الحالة الأصلية العادية والطبيعية بعودتهم إليها.
أما العودة فيُشار إليها في المصطلح الديني بكلمة «تشوفاه» (بمعنى التوبة أيضاً، على عكس «حزره» وهي عودة بالمعنى الدنيوي) ، كما تُوجَد عبارة «كيبوتس جاليوت» أي «تجميع المنفيين» (بالإنجليزية: إنجاذرينج أوف ذي إكزايلز (ingathering of the exiles(3/250)
وتشكل عقيدة المَنْفَى والعودة إحدى النقاط المحورية في الرؤية اليهودية إلى التاريخ والكون، وهي ترتبط، مثل كل العقائد الدينية اليهودية، بعقائد أخرى مثل عقيدة الماشيَّح والشعب المختار. وحسب هذه العقيدة، فإن إله اليهود حَكَم على شعبه المختار بالنفي والتشتت في بقاع الأرض لسبب يختلف الحاخامات اليهود في تحديده. وستستمر حالة المَنْفَى هذه إلى أن يعود الماشيَّح المخلِّص. وكالمعتاد، أحاط بهذه العقيدة ضرب من القداسة والخصوصية، فنجد أن الشعور بالنفي ليس نتيجة حتمية للنفي ذاته وإنما هو إحساس مقصور على اليهود حينما يبتعدون عن أرض الميعاد، وذلك بسبب ارتباطهم الحلولي أو العضوي بها، أي أنهم يجعلون المَنْفَى سمة أساسية وخاصية مقصورة على ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» ، ويصبح الإحساس بالغربة أمراً ينفرد به اليهود وحدهم. أما الفلسطينيون، فليس من حقهم ممارسة هذه الأحساسيس السامية إن نُفوا من أرض فلسطين أو ابتعدوا عنها، وذلك لانتفاء الصلة الحلولية أو العضوية بالأرض المقدَّسة. ونجد أيضاً أن «الشخيناه» (التجسيد الأنثوي للإله) قد نُفيَت مع الشعب خارج الأرض المقدَّسة، ولم يبق منها إلا جزء في حائط المبكى يذرف الدموع كل عام في ذكرى خراب أو هدم الهيكل.(3/251)
وقد قامت القبَّالاه اللوريانية، بمنحاها الحلولي المتطرف، بتحويل النفي إلى صورة مجازية كونية شاملة. فبعد تَهشُّم الأوعية (شيفرات هكليم) أصبحت كل المخلوقات في حالة تَبعثر وشتات دائم وسقطت من حالة التماسك العضوي الناجم عن الحلول الإلهي في الإنسان والطبيعة. ومن ثم، فإن النفي حالة تنسحب على الكون بأسره، وضمن ذلك الإله ذاته الذي تَبعثَّر وتَشتَّت بعد هذه الواقعة الكونية. ويمكن أن تتم عملية الخلاص ـ خلاص الإله والكون والإنسان ـ بالتدريج. وهي عملية يشارك فيها الإنسان، ولكنها تعتمد بالدرجة الأولى على اليهود. فهم باتباعهم الوصايا الإلهية، وتنفيذهم الأوامر والنواهي، يمكنهم أن يساعدوا الرب والكون وسائر المخلوقات على العودة إلى حالة التكامل والتماسك الأصلية. وتحوُّل النفي إلى حادثة كونية (في القبَّالاه اللوريانية) هو صدى لحادثة الصلب في المسيحية.
وقد حار المفسرون اليهود في تفسير عقيدة وظاهرة النفي هذه والتي لا تتفق مع كونهم الشعب المختار. ولذلك فُسِّر النفي بأنه إحدى علامات التميُّز والاختيار. فاليهود الذين تقطن الشخيناه في وسطهم، والذين يقطنون بدورهم وسط الأغيار، لا يحملون أوزارهم وحدهم وإنما يحملون أيضاً أوزار الأمم كافة. ولذلك، فإنهم بمثابة المشحاء (جمع «ماشيَّح» ) المصلوبين من أجل البشر، وهم بمثابة الروح التي تُوجَد في المادة. وبالتالي، فإن نفيهم تمهيد لخلاص البشر. وهكذا يصبح النفي عقوبةً على الذنوب وعلامةً من علامات التميز في آن واحد. وحينما يَحلُّ اليوم الموعود، سيأتي الماشيَّح ويقود شعبه ويعود به إلى الأرض المقدَّسة. ولكن بعض الحاخامات ذهبوا إلى أن المَنْفَى والشتات عقاب حَلَّ على اليهود بسبب تَركْهم طُرُق الرب وبسبب تأغرقهم. ويذهب المسيحيون إلى أن الشتات عقاب لليهود على إنكارهم المسيح عيسى بن مريم.(3/252)
وقد تركت عقيدة النفي أثرها العميق على الوجدان اليهودي، فقد أضعفت إحساس اليهود بالزمان والمكان، وأضفت طابعاً مؤقتاً على كل شيء. وربما ساعد اضطلاع اليهود بدور الجماعة الوظيفية واشتغالهم المستمر بالتجارة والأعمال المالية والربا، وانتقالهم من مكان إلى مكان دون الانتماء الكامل لأي مكان (فالجماعة الوظيفية تُوجَد في المجتمع لكنها لا تصبح منه) ربما ساعد كل هذا على استمرار عقيدة المَنْفَى والعودة، وعلى اكتسابها هذه المركزية.
ولكن الموقف الديني التقليدي من المَنْفَى والعودة ليس واضحاً ولا قاطعاً. فعلى سبيل المثال، أكد الحاخامات أن محاولة العودة الفردية والفعلية، دون انتظار مقدم الماشيَّح، هو من قبيل التجديف والهرطقة، ومن قبيل «دحيكات هاكتس» أي «التعجيل بالنهاية» ، أو من قبيل تَحدِّي الإرادة الإلهية. وقد عارض بعض اليهود الأرثوذكس الحركة الصهيونية بالفعل لأنها عودة مشيحانية دون ماشيَّح. بل إن هناك أوامر قاطعة في التلمود بألا يترك اليهودي بلده أو منفاه ليعود إلى بابل، لأن من يعيش في بابل كأنه يعيش في أرض يسرائيل. وجاء في موضع آخر: «صلوا لسلامة الدولة، فلولا خوف الناس منها لابتلع بعضهم بعضاً» . وقد أكد أحد الحاخامات أن مبدأ أو عقيدة العودة إلى فلسطين لا تُوجَد أية إشارة إلىها في كافة المحاولات التي تمت في العصور الوسطى لصياغة عقيدة يهودية. وقد نادى دعاة حركة التنوير اليهودية بأن المَنْفَى واقع مؤلم ومؤقت يجب أن يزول عن طريق الاندماج. أما العودة إلى صهيون، فهي مجرد فكرة روحية وليست رغبة حرفية. وقد حذفت اليهودية الإصلاحية الصلوات التي تُذكِّر اليهود بصهيون.(3/253)
ولكن تُوجَد في اليهودية الحاخامية، وفي التلمود، نصوص ومواقف يُفهم منها أن هناك ضرباً من التَقبُّل أو التأييد لفكرة إنهاء المَنْفَى والعودة. وقد ذكر بعض الحاخامات أن كل يهودي يتعيَّن علىه أن يوّد (في قلبه) العودة إلى الأرض، فإن لم يتمكن من العودة فعلىه أن يساعد على الأقل في إرسال يهودي آخر، أي أن كلاًّ من الصهيونية الاستيطانية والصهيونية التوطينية كامنتان في النسق الديني اليهودي ذي الطبيعة الجيولوجية التراكمية.(3/254)
وعلى وجه العموم، يمكن القول بأن أعضاء الجماعات اليهودية قد قبلوا وجودهم في الأوطان التي كانوا يعيشون فيها، وأن الحديث عن المَنْفَى أصبح جزءاً من الخطاب الديني، وأصبحت العودة تَطلُّعاً دينياً وتعبيراً عن حب صهيون، أي تعبيراً عن التَعلُّق الديني بالأرض المقدَّسة وهو تَعلُّق ذو طبيعة مجازية، لا يترجم نفسه إلى عودة حرفية إلى فلسطين، حتى وإن خلق استعداداً كامناً لذلك. ولكن، مع بدايات العصر الحديث والحركة الإمبريالية، وظهور الفكر الوضعي والتجريبي والنماذج المادية العلمانية المعرفية وتفسيرات العهد القديم الحلولية والحرفية، بدأ يظهر في صفوف المسيحيين البروتستانت فكر استرجاعي قوي تَرَك أثراً عميقاً في الجماعات اليهودية في أوربا، وبدأت تظهر حركات مشيحانية تهدف إلى تحويل فكرة العودة من تَطلُّع ديني مجازي إلى عودة فعلية، أي إلى استيطان. وقد تدعمت الفكرة مع ظهور الفكر القومي الغربي والتعريفات العرْقية للإنسان. ومع تَصاعُد الحركة الإمبريالية، بدأت الأفكار الصهيونية تتغلغل بين اليهود، خصوصاً وأن هذا قد تَزامَن مع ضعف اليهودية الحاخامية الأرثوذكسية التي تَقبَّلت المَنْفَى كحالة نهائية. وأخيراً، ظهرت الصهيونية بين اليهود في أواخر القرن التاسع عشر وأخذت من التراث الديني اليهودي ما يتفق مع أهوائها السياسية، واستولت على الخطاب الديني، وحوَّلت كل المفاهيم الدينية المجازية إلى مفاهيم قومية حرفية.
وطرحت الصهيونية رؤية للتاريخ تَصدُر عن تَصوُّر أن اليهود في حالة نفي قسرية فعلية منذ هَدْم الهيكل، وأنهم لو تُركوا وشأنهم لعادوا إلى فلسطين بدون تَردُّد. بل إن التواريخ الصهيونية ترى أن ثمة نمطاً متكرراً فيما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» : نفي من فلسطين ثم عودة إليها، ونفي إلى مصر ثم عودة إلى فلسطين، ونفي إلى بابل ثم عودة إلى فلسطين، وأخيراً نفي إلى أرجاء العالم بأسره ثم عودة نهائية إلى إسرائيل، أي فلسطين.(3/255)
إن إحدى مقولات الصهيونية الأساسية هي أن وجود اليهود على هيئة جماعات في أنحاء العالم هو حالة مؤقتة، وأن هذا الوجود إن هو إلا جسر يَعبُر عليه الشعب اليهودي إلى فلسطين. ومن دعاة هذا الرأي بن جوريون وممثلو الصهيونية الاستيطانية. ولكن ليس كل الصهاينة على هذا الرأي. فالصهيونية الإثنية، على سبيل المثال، ترى أن وجود الجماعات اليهودية خارج فلسطين ليس أمراً مؤقتاً وإنما حقيقة ثابتة، وأن هذه الجماعات لا تحتاج إلى إسرائيل موطناً، وإنما تحتاج إليها كمركز روحي لا كبلد يهاجر إليه جميع اليهود، فالنفي هنا حالة ثقافية ومن ثم يتم علاجه بطرق ثقافية أيضاً!(3/256)
وبعد إنشاء إسرائيل، لم يهرْع اليهود إلى أرض الميعاد، ولم يتم تجميع المَنْفَيين كما كان يتوقع الصهاينة، وهو ما اضطر بن جوريون إلى ابتداع مصطلح «منفيُّو الروح» ليصف اليهود الذين يحيون حياة جسدية مريحة في المَنْفَى، ولكنهم بلا شك معذبو الروح. وهو بهذا يتبنَّى الصيغة الصهيونية الثقافية. ولكن المُلاحَظ أن منفيِّي الروح هم الأغلبية العظمى بين يهود العالم، أي أن اليهودية حتى بعد إنشاء الدولة الصهيونية لا تزال يهودية الدياسبورا. ولذلك فالجالوت، أو «المَنْفَى القسري» أصبح يُسمَّى «تيفوتسوت» ، أو «المَنْفَى الاختياري» ، وهذا تَناقُض عميق في المصطلح. ويبدو أن الولايات المتحدة تشكل تحدياً عميقاً لفكرة المَنْفَى، إذ أنها تشكل نقطة جذب هائلة للغالبية الساحقة من يهود العالم. وقد اتجهت لها الكتلة البشرية اليهودية من شرق أوربا (يهود اليديشية) وغيرها من أنحاء العالم. ولم تتجه سوى أقلية صغيرة إلى فلسطين، لأن أبواب الولايات المتحدة كانت مُوصَدة دونها. وقد بدأ يهود الولايات المتحدة ينظرون إلى إسرائيل لا باعتبارها وطناً قومياً، وإنما باعتبارها «الوطن الأصلي» أو «مسقط الرأس» ، تماماً كما ينظر الأمريكيون من أصل أيرلندي إلى أيرلندا. ولكن هذه النظرة تفترض أن الولايات المتحدة ليست بمَنْفَى وإنما البلد التي يهاجر إليها أعضاء الجماعات اليهودية بمحض إرادتهم، بحثاً عن فرص جديدة. وإن كانت الولايات المتحدة ليست هي أرض الميعاد التي تُحقِّق أحلامهم الدينية ـ وهي أحلام أصابها الضمور على أية حال ـ فهي على الأقل «جولدن مدينا» أي البلد الذهبي التي حققت لهم معظم أحلامهم الدنيوية. وهذه الرؤية تعني أن يهود الولايات المتحدة لا يعتبرون بلدهم الجديد مَنْفَى. وبالفعل، نجد أن كتاب هوارد ساخار الأخير الذي صدر بعنوان الدياسبورا لا يضم فصولاً عن الولايات المتحدة، وذلك باعتبار أنها وطن قومي جديد. كما تعني هذه الرؤية أن يهود(3/257)
الولايات المتحدة لا يفكرون أيضاً في العودة لأن العودة لا تكون إلا إلى الوطن الأصلي. بل إن من الطريف أن الحاخام مناحم شنيرسون وحاخامات جماعة الناطوري كارتا (المعادية للصهيونية) يعتبرون دولة إسرائيل جزءاً من المَنْفَى.
أما في إسرائيل، فقد ظهر جيل جديد من الصابرا لا يفهم سيكولوجيا يهود المَنْفَى، وإن فهمها فهو لا يُكِّن لها احتراماً كبيراً. وهذا الانقسام بين يهود العالم ويهود إسرائيل من الصابرا وغيرهم يمثل مشكلة ضخمة تواجه الفكر الصهيوني. بل يبدو أن الولايات المتحدة بجاذبيتها تُهدِّد المستوطن الصهيوني ذاته، إذ أن أعداداً كبيرة من المستوطنين، وضمن ذلك الصابرا يهاجرون إلى الولايات المتحدة فيتركون الوطن إلى المَنْفَى! ويُطلَق على المهاجرين الإسرائيليين إلى الولايات المتحدة الدياسبورا الإسرائيلية.
وينطلق الصهاينة من افتراض وحدة الشعب اليهودي وضرورة تجميع المنفيين وصَهْرهم ومَزْجهم في شخصية نمطية واحدة (برغم تَعدُّد خلفياتهم الثقافية والحضارية) حتى يُشْفَوا من كل أمراض المنفى. ولكن، كلما تم مَزْج أو صَهْر مجموعة من المهاجرين، تأتي مجموعة جديدة من المَنْفَى فيستعيد من انصهر كثيراً من السمات الحضارية التي كان قد فقدها إما من خلال الالتحام بالمهاجرين الجدد، إن كانوا من بني جلدتهم، أو من خلال مجابهتهم إن كانوا من تَجمُّع قومي آخر، أي أن تجميع المنفيين يتعارض بشكل حادّ مع مَزْجهم وصَهْرهم. وتظهر هذه المشكلة في موقف جماعات السفارد واليهود الشرقيين من المهاجرين الأشكناز واليهود الغربيين وخصوصاً السوفييت.
ونحن لا نستخدم كلمات ذات طابع عاطفي عقائدي مُتحيِّز، مثل «المَنْفَى» أو «الشتات» ، إلا إذا تَطلَّب السياق ذلك، ونستخدم بدلاً من ذلك مصطلحات محايدة فنقول: الجماعات اليهودية في العالم وانتشارها فيه.
العودة
Return(3/258)
تشير كلمة «العودة» في الأدبيات اليهودية والصهيونية إلى عودة اليهود إلى فلسطين، أي «إرتس يسرائيل» أو «صهيون» أو «أرض الميعاد» بعد نفيهم منها.
وقد تكون العودة تحت قيادة الماشيَّح، وقد يقوم بها اليهودي بإرادته، دون انتظار مشيئة الإله. انظر: «المَنْفَى والعودة» .
الشتات
Dispersion; Diaspora; Exile
«الشتات» مصطلح يُستخدَم أحياناً للإشارة إلى «المَنْفَى» أو «الدياسبورا» .
الدياسبورا
Diaspora
«دياسبورا» كلمة يونانية تعني «الشتات» أو «الانتشار» . وقد كانت الدياسبورا نمطاً شائعاً في العالم الهيليني الروماني، فلم يكن مقصوراً على اليهود بل كانت هناك جماعات من التجار اليونانيين الذين يؤسسون جماعاتهم ومجتمعاتهم الصغيرة في المدن التي يستقرون فيها، فكانوا يبنون فيها معابدهم ويعبدون آلهتهم، ويمارسون جميع مؤسسات حياتهم الهيلينية الأخرى مثل الجيمنازيوم. كما أن المدن اليونانية المختلفة خارج بلاد اليونان، بسكانها من المستوطنين اليونانيين، كانت تشكل دياسبورا. وبرغم أن الكلمة محايدة إلى حدٍّ كبير، لأن الانتشار تم بإرادة المنتشرين، إلا أنها في نهاية الأمر تعني تَشتُّتاً من مركز ما، والمركز في العقل الإنساني أفضل من الأطراف. أما في الكتابات اليهودية والصهيونية، فهي تحمل معنى سلبياً أكيداً، باعتبار أن اليهودي الموجود خارج فلسطين أو «إرتس يسرائيل» أو «صهيون» (في المصطلح الديني) أو «الوطن القومي» (في المصطلح السياسي) موجود خارج وطنه رغم أنفه، وبالتالي فهو في المَنْفَى. وتُميِّز هذه الكتابات بين المَنْفَى الاختياري والمَنْفَى القسري. ويتجلى ذلك في العبرية على وجه الخصوص إذ توجد كلمة «جولا» بمعنى المَنْفَى القسري، كما حدث ليهود المملكة الجنوبية حينما هُجِّروا إلى بابل. وتوجد كلمة «تيفوتسوت» بمعنى «المَنْفَى الاختياري أو الطوعي» ، وهي تشير إلى اليهودي الذي يترك فلسطين بمحض إرادته ليستوطن بلداً آخر، وإلى(3/259)
الجماعات اليهودية التي ترفض العودة إلى فلسطين رغم وجود سلطة سياسية يهودية مستقلة أو سلطة شبه مستقلة، كما حدث ليهود بابل أيضاً بعد عودة نحميا وعزرا، وكما هو حادث ليهود العالم الغربي بل ويهود العالم بأسره الآن.
وقد ظهر استخدام جديد لكلمة «دياسبورا» . فكثير من يهود الولايات المتحدة يرفضون استخدام الكلمة بمعنى «المَنْفَى المؤقت» ، فالولايات المتحدة أو كندا هي وطنهم النهائي وليس المؤقت. ولذا، ففي كتاب هوارد ساخار الأخير الدياسبورا (عام 1985) لا توجد أية إشارة إلى الجماعات اليهودية في إسرائيل أو أمريكا الشمالية (الولايات المتحدة أو كندا) باعتبار أنهما لا يشكلان «مَنْفَى» ، وبالتالي لا يمكن الحديث عنهما باعتبارهما دياسبورا. فكأن كلمة «دياسبورا» تستبعد كلاًّ من فلسطين والولايات المتحدة وكندا!
ونحن نُفضِّل في هذه الموسوعة أن نشير إلى «الجماعات اليهودية في العالم وانتشارها فيه» باعتبار أن استخدام كلمة «مَنْفَى» ، أو حتى كلمة «دياسبورا» ، يفترض علاقة قومية ما بين أعضاء هذه الجماعات وفلسطين، وهو ما تدحضه قراءة سلوكهم وأحداث التاريخ قراءة متأنية.
والواقع أن أعضاء الجماعات اليهودية في العالم قد يرتبطون عاطفياً أو دينياً بإسرائيل (فلسطين) ، ولكن حياتهم ككل تكون في العادة أكثر تركيباً، ومحاولة تفسير جميع تجاربهم التاريخية (المتنوعة وغير المتجانسة) في ضوء عنصر واحد، هو أمر تعسفي يَسقُط في الأحادية ويتجاهل منحنى الظواهر الخاص ويختزلها كلها داخل نمط واحد.
وقد نحت آرثر كوستلر مصطلح «الدياسبورا الخزرية» ، كما ظهر مؤخراً مصطلح «الدياسبورا الإسرائيلية» . وقد استُخدم من قبل مصطلح «الدياسبورا السامرية» .
انظر: «المَنْفَى والعودة» - «العودة» - «الشتات» .
المنفى القسري (الجالوت أو الجولا)
Galut(3/260)
«المَنْفَى القسري» ترجمة للكلمة العبرية «الجالوت» أو «الجولا» ، وهي ممقابل كلمة «تيفوتسوت» أو «المَنْفَى الطوعي» . وكلمة «جالوت» ترجمة عبرية غير دقيقة لكلمة «دياسبورا» ذات المعنى المحايد إلى حدٍّ ما، فهي تعني كلاًّ من التشتت والانتشار. والانتشار يمكن أن يكون تلقائياً ويمكن كذلك أن يكون إرادياً، أما «الجالوت» فليس كذلك بل حالة يخضع لها الإنسان وتُفرَض عليه فرضاً.
المنفى الطوعي (تيفوتسوت)
Tefuzot
«المَنْفَى الطوعي» ترجمة للكلمة العبرية «تيفوتسوت» المُشتَقة من فعل «هفّيتس» ، بمعنى «نثر» أو «بَعثَر» أو «فرَّق» ، وهي مقابل كلمة «جالوت» ، أي «المَنْفَى القسري» ، وهما المقابل العبري غير الدقيق لكلمة «دياسبورا» اليونانية. فكلمة «دياسبورا» محايدة نوعاً، وتصف واقعاً قائماً، أي انتشار بعض الجماعات اليونانية خارج اليونان في مدن حوض البحر الأبيض المتوسط، وهو انتشار لم يتم قسراً. أما «تيفوتسوت» و «الجالوت» فهما يُدخلان في الاعتبار عنصر الإرادة والحالة العقلية. وعلى أية حال، فإن كلمة «تيفوتسوت» أقرب في المعنى إلى كلمة «دياسبورا» .
شريعة الدولة هي الشريعة
Dina de Malkuta dina(3/261)
«شريعة الدولة هي الشريعة» هي الترجمة العربية للعبارة الأرامية الآتية: «دينا دي ملكوتا دينا» . وهي من أهم المبادئ في تاريخ الشريعة اليهودية. وقد ظهر المفهوم، أول ما ظهر، خارج فلسطين في صفوف الجماعة اليهودية في بابل أثناء حكم الأسرة الساسانية الفارسية، إذ أن وضع الجماعة اليهودية تَطلَّب توضيح قضية نطاق الشريعة اليهودية مقابل نطاق قانون أو شريعة الدولة، والعبارة في نهاية الأمر هي محاولة لحل قضية الولاء وازدواجه. وقد قَلَّصت عبارة «شريعة الدولة هي الشريعة» نطاق تطبيق شريعة التوراة، إذ أنها تتضمن اعترافاً بالقانون المدني غير اليهودي، كما تعترف بأنه يَحلُّ محل الشريعة الدينية في الأمور الدنيوية، وهو ما يعني وجوب اتباع شريعة الدولة حتى لو تناقضت مع الشريعة اليهودية. ولم يكن هذا المبدأ ينطبق بطبيعة الحال على الطقوس والشعائر الدينية. وينم تَبنِّي هذا المبدأ عن مقدرة أعضاء الجماعات اليهودية على التكيف مع محيطهم الحضاري والاندماج فيه، وهو الأمر الذي هيأ البقاء لليهود والاستمرار لليهودية. وقد استُخدمت هذه المقولة أحياناً لتقويض دعائم الشريعة اليهودية، كما حدث مع دعاة التنوير الذين آمنوا بالنظرية السياسية الغربية التي حوَّلت الدولة إلى مُطلَق، فاستخدموا هذه المقولة لهدم سلطة الدين. ومعنى هذا أنهم ولَّدوا الفكر العلماني الإلحادي من داخل النسق الديني ذاته.
تجميع المنفيين
Ingathering of the Exiles(3/262)
«تجميع المنفيين» ترجمة للعبارة العبرية «كيبوتس جاليوت» . وهو مصطلح ديني تبنته الصهيونية يشير إلى فكرة عودة كل أعضاء الجماعات اليهودية المنفيين أو المنتشرين في أنحاء العالم إلى فلسطين وتجميعهم هناك. لكن تجميع المنفيين (حسب التصور اليهودي الأرثوذكسي التقليدي) هو مَثَل أعلى ديني لا يتحقق إلا بعد عودة الماشيَّح كما لا يتحقق إلا بإرادة الإله، وعلى المؤمن أن ينتظر بصبر وأناة إلى أن يأذن الإله بذلك. ولكن الصهيونية، كعادتها، فهمت الفكرة فهماً حرفياً وجعلتها أساس عقيدتها السياسية، وجعلت من واجب اليهودي ألا ينتظر الإرادة الإلهية بل يعمل من أجل هذا الهدف بنفسه، وهو ما يُسمَّى «التعجيل بالنهاية» . وأصبحت العبارة تعني استيطان اليهود في فلسطين (إسرائيل) . ورغم كل المحاولات الصهيوينة الدائبة، لم يتحقق هذا الهدف حتى الآن، إذ تظل غالبية من يُقال لهم المنفيين من أعضاء الشعب اليهودي لا تَشعُر بحالة النفي الافتراضية. ومن ثم، فإنهم يؤثرون البقاء في أوطانهم على العودة إلى أرض الميعاد.
التعجيل بالنهاية (دحيكات هاكتس)
(Forcing the End) Dahikat ha-Ketz
«التعجيل بالنهاية» ترجمة للعبارة العبرية «دحيكات هاكتس» ، ومعناها «الضغط على الإله لإجبار الماشيَّح على المجيء» ، ويُشار إلى المُعجِّلين بالنهاية على أنهم «دوحاكي هاكتس» . فاليهودية الحاخامية، في أحد جوانبها، تؤمن بأن العودة إلى أرض الميعاد ستتم في الوقت الذي يحدده الإله وبالطريقة التي يقررها، وأن العودة ليست فعلاً يحدث بمشيئة البشر. وقد جاء في التلمود (سفر الكتبوت) : "لا تعودوا ولا تحاولوا أن تُرغموا الإله".
وقد اتهم الحاخامات الصهيونية بأنها تسعى إلى التعجيل بالنهاية وتَحدِّي مشيئة الإله. والصهيونية ذاتها واعية بأن موقفها من العودة مختلف عن الموقف الديني التقليدي الذي انتقده بن جوريون ووصفه بالسلبية والاتكالية.
بداية الخلاص
Beginning of Redemption(3/263)
«بداية الخلاص» ترجمة للعبارة العبرية «هتحالات جئولاه» . وهي محاولة تستهدف تَجاوُز المفهوم التلمودي الذي يُحرِّم على اليهود العودة إلى أرض الميعاد، ويفرض عليهم انتظار وصول الماشيَّح بمشيئة الإله. وقد وُصف من يحاول أن يأخذ الأمور في يديه بأنه يستعجل النهاية (دوحاكي هاكتس) . وقد كانت متتالية الخلاص كما يلي: نفي ـ انتظار ـ عودة الماشيَّح ـ عودة اليهود معه أو تحت قيادته.
ولكن، بعد صهينة اليهودية، بدأت قطاعات داخل اليهودية الأرثوذكسية ذاتها تحاول أن تصل إلى تَفاهُم مع الصهيونية، فَعدَّلت المتتالية إلى ما يلي: نفي ـ عودة بعض اليهود للإعداد للخلاص ـ عودة الماشيَّح ـ عودة اليهود. وبالتالي، فإن الاستيطان الصهيوني يصبح من قبيل العودة للإعداد لعودة الماشيَّح، وتصبح الدولة الصهيونية بداية الخلاص، أي أن عودة الماشيَّح تصبح نتيجة عودة اليهود لا سبباً لها. وهذا تكرار للنمط الحلولي الذي نلاحظه في اليهودية: تَوازي الإله والإنسان ثم تفوُّق الإنسان على الإله في الأهمية.
الشتات السامري أو انتشار السامريين
Samaritan Diaspora
يُشار إلى «الشتات السامري» أحياناً بمصطلح «الدياسبورا السامرية» . ويتمثل الشتات السامري في واقعة هجرة بعض السامريين من فلسطين وانتشارهم في مدن وبلاد مختلفة واستيطانهم فيها بشكل نهائي ودائم، ثم تأسيس جماعات سامرية مختلفة، وقد تأسست جماعات سامرية في كلٍّ من: سالونيكا وروما وحلب ودمشق وغزة وعسقلان ومصر. وقد بدأ انتشار السامريين من فلسطين مع الفتح اليوناني للمنطقة في عام 323 ق. م.
الشتات الخزري أو انتشار يهود الخزر
Khazar Diaspora(3/264)
«الشتات الخزري» عبارة تُستخدَم للإشارة إلى شتات أو هجرة سكان إمبراطورية الخزر اليهودية منها بعد سقوطها إلى أماكن متفرقة من أهمها المجر ثم بولندا. وثمة نظرية تذهب إلى أن تَزايُد عدد يهود بولندا ابتداءً من القرن الثاني عشر لا يعود إلى هجرة يهود أوربا إليها أثناء حروب الفرنجة، كما تقول معظم الدراسات التاريخية، وإنما يعود إلى الشتات الخزري واستيطان بقايا يهود الخزر فيها. ولو صَدَقت هذه المقولة، فإن أصل معظم يهود العالم خزري تركي وليس سامياً. وعلى كلٍّ، لم تَعُد هذه نقطة مهمة في الأدبيات الصهيونية، باعتبار أن الصهاينة يؤسسون نظريتهم في الحقوق لا على أساس عرْقي وإنما على أساس إثني وعلى أساس الأمر الواقع، الإرهاب والقوة.
البلد الذهبي (جولدن مدينا)
Golden Medina
«جولدن مدينا» عبارة يديشية تعني «البلد الذهبي» ، وكان يستخدمها المهاجرون اليهود من شرق أوربا (يهود اليديشية) للإشارة إلى الولايات المتحدة.
وبمعنى من المعاني، لا تزال الولايات المتحدة هي «الجولدن مدينا» أو البلد الذهبي التي يتجه إليها يهود العالم، ومنهم الإسرائيليون، بدلاً من أرض الميعاد، وهذا ما حدا بالبعض للإشارة إلىها بأنها الـ «جولدن كاف golden calf» » أي «العجل الذهبي» . والجولدن مدينا هي أرض الميعاد العلمانية، التي لا تَعد أحداً بالخلاص الروحي، ولكنها تَعد الجميع بخلاص الجسد من خلال السلع والترف والراحة. ولعل تَصاعُد معدلات العلمنة بين يهود العالم هو الذي يجعلهم يتجهون بهذه الصورة إلى الولايات المتحدة. وقد أثبت المهاجرون السوفييت أن ولاءهم الحقيقي يتجه نحو صهيون العلمانية هذه، وأن دولة إسرائيل إن هي إلا مبيت مؤقت ينتظرون فيه وصول الإشارة على هيئة تأشيرة هجرة إلى الولايات المتحدة.
الدياسبورا الثانية
Second Diaspora(3/265)
«الدياسبورا الثانية» مصطلح يتواتر في الخطاب الصهيوني للإشارة إلى هجرة اليهود السوفييت إلى الولايات المتحدة بدلاً من إسرائيل، باعتبار أنهم ينتقلون من دياسبورا أولى (الاتحاد السوفيتي) إلى دياسبورا ثانية (الولايات المتحدة) . وقد قال أحد المتحدثين الصهاينة إن اليهود السوفييت حوَّلوا الوكالة اليهودية والدولة الصهيونية إلى ما يشبه شركة رحلات سياحية متخصصة في نقل المسافرين اليهود السوفييت من مَنْفَى إلى آخر.
الخروج الثاني (أو خروج صهيون (
(Second Exodus) or Exodus of Zion
«الخروج الثاني» مصطلح يُستخدَم للإشارة إلى عدة مدلولات متناقضة. والخروج الأول هو، في العادة، الخروج من مصر إلى أرض كنعان، أي فلسطين. أما مصطلح «الخروج الثاني» ، فيُستخدَم للإشارة إلى هجرة الصهاينة من بلادهم واستيطانهم فلسطين، فهو خروج للتحرر من العبودية عن طريق الاستيلاء على الأرض الفلسطينية، وهو يشبه خروج جماعة يسرائيل من مصر تحت قيادة موسى واستيلاءهم على أرض كنعان، بل إن هذا الخروج الثاني يعد أهم من الأول إذ أنه خروج نهائي وأخير.
ويُستخدَم المصطلح مؤخراً للإشارة إلى نزوح كثير من المستوطنين الصهاينة من إسرائيل، فكأن خروجهم الأول كان من أوطانهم الأصلية أما خروجهم الثاني فهو من المُستوطَن الصهيوني. كما تتحدث الصحف الإسرائيلية عن «خروج صهيون» ، أي خروج اليهود من وطنهم القومي.
الدياسبورا الإسرائيلية
Israeli Diaspora(3/266)
«الدياسبورا الإسرائيلية» عبارة تُستخدَم للإشارة إلى المستوطنين الصهاينة الذين ينزحون عن إسرائيل ويستوطنون خارجها، في الولايات المتحدة عادةً. وهذا المصطلح ينطوي على تَناقُض عميق. فكلمة «دياسبورا» تشير عادةً إلى اليهود الموجودين خارج فلسطين برغم إرادتهم، ولذا فهم «منفيون» . ولكن أن تكون الدياسبورا إسرائيلية، أي مجموعة بشرية يهودية كانت تقطن في أرض الميعاد ذاتها، في ظل الكومنولث اليهودي الثالث أي الدولة الصهيونية، وتقرر بكامل إرادتها أن تهاجر (بحثاً عن الرزق والحراك الاجتماعي غالباً) ، فهذا أمر صعب، إذ كيف يمكن الحديث عن «دياسبورا» أو عن «مَنْفَى» إذا لم يكن هناك قسر؟ ويمكن أن نقول (لذلك) إن كلمة «دياسبورا» مُستخدَمة هنا بمعناها المحايد أي مجرد الانتشار.
والواقع أن الدياسبورا الإسرائيلية تتحدى نظامنا التصنيفي، فالمهاجرون الإسرائيليون ليسوا صهاينة استيطانيين بطبيعة الحال، إذ أنهم تخلَّوا عن المشروع الصهيوني. كما أنهم ليسوا بصهاينة توطينيين، إذ ليس من المُحتَمل أن يقوموا بتشجيع الآخرين على الاستيطان. ومجرد وجودهم في البلد الذهبي (جولدن مدينا) ، أي الولايات المتحدة، يقف دليلاً على عدم جاذبية الدولة الصهيونية. وهم يسببون كثيراً من الحرج ليهود الولايات المتحدة وللصهاينة التوطينيين حين يُطرَح هذا السؤال: هل من الواجب إغاثة هؤلاء اللاجئين باعتبارهم «يهوداً» أم يجب مقاطعتهم باعتبارهم مرتدين أو هابطين تركوا أرض الميعاد ونكصوا على أعقابهم؟(3/267)
ويبلغ عدد أعضاء الدياسبورا الإسرائيلية في الولايات المتحدة حوالي 500 ألف حسب التقديرات الرسمية. وحسب التقديرات غير الرسمية، يبلغ العدد 750 ألفاً، ولكنه يبلغ مليوناً إن حسبنا أبناء المهاجرين. وقد أشارت إحدى الصحف الإسرائيلية إلى هذه الظاهرة باعتبارها «خروج صهيون» . كما ذكرت صحيفة أخرى للإسرائيليين أن عدد سكان الدولة الصهيونية (عند إنشائها في عام 1948) كان لا يتجاوز 700 ألف، أي أقل من عدد المهاجرين منها، وهو ما يُفقدها كثيراً من الشرعية.
انتشار الجماعات اليهودية
Diffusion of the Jewish Communities
نحاول في هذه الموسوعة أن نستخدم الكلمة المحايدة «انتشار» (وأحياناً «هجرة» أو «تهجير» ) بدلاً من العبارات الشائعة مثل «المَنْفَى» و «الدياسبورا» و «الشتات» و «المَهْجَر» ، فهي جميعاً مصطلحات وعبارات إما مُشتقَّة مباشرةً من المُعجم الديني اليهودي أو متأثرة به، فمقدرتها التفسيرية والتصنيفية والوصفية ضعيفة.
الباب السادس: هجرات وانتشار أعضاء الجماعات اليهودية
هجرات أعضاء الجماعات اليهودية: مقدمة
Migrations of Memebers of Jewish Communities: Introduction
يُلاحَظ أننا في هذه الموسوعة لا نستخدم مصطلح «الهجرة اليهودية» قدر استطاعتنا وإنما نستخدم بدلاً من ذلك مصطلح «هجرة أعضاء الجماعات اليهودية» ، فالمصطلح الأول يعني أن ثمة حركيات مستقلة ذات طابع يهودي هي التي تحكم عملية الهجرة وتدفعها. ونحن نذهب إلى أن أعضاء الجماعات اليهودية المختلفة خاضعون لحركيات جذب وطرد لا تختلف كثيراً عما يخضع له سائر أعضاء المجتمع الذي ينتمون إليه. كما أننا نستخدم مصطلح «انتشار» لنصف ظاهرة هجرة أعضاء الجماعات واستقرارهم في أرجاء المعمورة. ويُلاحَظ أننا نُميِّز بين الاستقرار والاستيطان، فالأول لا ينطوي على أي عنف أو اغتصاب أرض، أما الثاني فهو على عكس ذلك.(3/268)
وتذهب التواريخ الصهيونية والمعادية لليهود إلى أن أعضاء الجماعات اليهودية لا يستقرون في وطن واحد، فهم دائمو التنقل والترحال والهجرة (وهذا تعبير عن إحساسهم الأزلي بالنفي ورغبتهم الثابتة في العودة إلى أرض الميعاد!) . وتُجرِّد التواريخ الصهيونية هذه السمة وتعتبرها، مثلها مثل سمات أخرى كالهامشية والطفيلية، سمةً مُطلَقة تتصف بها «الهوية اليهودية» وما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» . ولكننا نرى أنه لا توجد «هوية يهودية» واحدة أو «تاريخ يهودي» وإنما هناك هويات يهودية وتواريخ يهودية (أو تجارب تاريخية) للجماعات اليهودية تختلف باختلاف الزمان والمكان. وإذا درسنا هذه التجارب في سياقها المتعيِّن، فسوف نكتشف أن الهجرة ليست سمة مُطلَقة ولا تنطبق على اليهود أينما وُجدوا. فالجماعة اليهودية في إثيوبيا والمسماة بالفلاشاه مكثت مئات السنين في موطنها لا تتحرك منه ولا تغادره، ولم تهاجر إلا في الثمانينيات حينما قامت الدولة الصهيونية بتهجير أعضائها في ظروف المجاعة في أفريقيا لتحرز انتصاراً مذهبياً أمام يهود العالم، ولتظهر مرة أخرى بمظهر الدولة التي "تنقذ" اليهود. كما أن يهود بابل ظلوا في موطنهم منذ الألف الأول قبل الميلاد حتى عام 1951، حينما قام العملاء الصهاينة المتخفون بإلقاء المتفجرات عليهم ليبثوا الرعب في قلوبهم ولإيهامهم بأن حياتهم تحفها المخاطر. أما اليهود الذين هُجِّرو إلى آشور (أسباط يسرائيل العشرة المفقودة) ، فيبدو أنهم انصهروا تماماً واختفوا. وفي الوقت الحاضر، فإن خروج يهود الاتحاد السوفيتي هو نتيجة حركيات داخلية خاصة بالمجتمع السوفيتي ولانهيار المنظومات الاشتراكية.
ومع هذا، توجد جماعات إنسانية تتنقل بشكل دائم وتنتقل من مكان لآخر، ويعود هذا التنقل إلى ظاهرة إنسانية لها آلياتها وحركياتها التاريخية والإنسانية المفهومة.(3/269)
وقد قضت القبائل التركية مئات السنين في التجوال، وكان من بينها قبيلة الخزر التي تهوَّد أعضاؤها فيما بعد. ويمكن الإشارة كذلك إلى المغول وحروب الفرنجة، وإلى هجرة قبائل الهون الذين تُمثِّل غزواتهم جزءاً من عمليات التنقل التي تعود إلى أسباب اقتصادية وسكانية وحضارية مختلفة. وفي العصر الحديث، يمكن الإشارة إلى هجرة الأرمن والأيرلنديين ومجموعات بشرية أخرى هاجرت من أوربا إلى الولايات المتحدة وغيرها من البلدان لعدة أسباب مركبة.
ويُلاحَظ أن كثيراً من أعضاء الجماعات اليهودية يتنقلون ويهاجرون لأنهم أعضاء في جماعات وظيفية، قتالية أو استيطانية أو تجارية. ولهذا السبب، انتقل بعض الجنود العبرانيين إلى مصر ليعملوا كمرتزقة، كما وطَّن السلوقيون والرومان اليهود كعنصر استيطاني في بعض أرجاء إمبراطورياتهما. ومع حلول العصور الوسطى في الغرب، خضع أعضاء الجماعات اليهودية لعمليات من الطرد والتهجير والتوطين كجماعة وظيفية وسيطة مرتبطة بحرفتي التجارة والربا. فالجماعة الوسيطة لا جذور لها في المجتمع، تعيش في مسامه، وهي دائماً على استعداد للرحيل لأن المجتمع يبقيها بمقدار نفعها وبمقدار اضطلاعها بوظيفتها. ولذا، فإن أعضاء الجماعة الوسيطة دائمو التنقل، لا يشتغلون بالأعمال الزراعية ولا بالأعمال الإنتاجية التي تتطلب الاستقرار. ومع ظهور طبقات محلية، واضطلاع الدولة القومية الحديثة بدور اليهود، زادت عمليات الطرد وبالتالي التنقل. وصورة «اليهودي التائه» ، برغم إيحاءاتها الدينية والعنصرية المختلفة، تضرب بجذورها في عملية التنقل هذه.(3/270)
وإذا نظرنا إلى أهم فترتين تَنقَّل فيهما أعضاء الجماعات اليهودية (المرحلة العبرانية ثم المرحلة الحديثة في أوربا من منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين) ، فسنكتشف أن العبرانيين وأعضاء الجماعات اليهودية كانوا يشكلون جزءاً من كلٍّ أكبر. لقد كان العبرانيون جزءاً من جماعات سامية ضخمة تتحرك في الشرق الأدنى القديم، ابتداءً من الألف الثاني قَبْل الميلاد، وتضم الخابيرو والأخلامو والآراميين والهكسوس وغيرهم. ونحن نسمِّي هذه المرحلة المرحلة السامية السديمية لأن معالم الأشياء لم تكن واضحة ولأن القبائل والأقوام المهاجرة المتنقلة كانت متداخلة. كما شهدت مرحلة الإمبراطوريات الكبرى، البابلية والآشورية ثم الفارسية واليونانية والرومانية، بدايات الهجرة التي تعاظمت بالتدريج حتى وصلت ذروتها مع نهاية الألف الأول قبل الميلاد وأصبح عدد اليهود خارج فلسطين أكثر من ضعف عددهم داخلها. ويُلاحَظ أن الهجرة اليهودية تتعاظم داخل إطار الإمبراطوريات التي تُيسِّر لهم حرية الحركة.(3/271)
وهجرة يهود شرق أوربا (يهود اليديشية) إلى الولايات المتحدة وكندا وفلسطين وغيرها من الدول الاستيطانية بأعداد هائلة، حتى انتقلت الكتلة البشرية اليهودية إلى الولايات المتحدة وإسرائيل (فلسطين) ، هي بالمثل هجرة تمت داخل إطار إمبراطوري. فقد تمت داخل التشكيل الاستعماري الغربي وتجربته الاستيطانية في أنحاء العالم، تلك التجربة التي بدأت في القرن السابع عشر وزادت حدتها في أوائل القرن التاسع عشر ووصلت ذروتها في أواخره، واستمرت بعد ذلك ثم بدأت تخبو بعد الحرب العالمية الثانية مع تَوقُّف الانفجار السكاني في الغرب. لقد هاجر من سكان أوربا نحو 65 مليوناً خلال قرن ونصف القرن (1800 ـ 1950) ، وكان من بينهم الإيطاليون والأيرلنديون والألمان وكثير من سكان شرق أوربا، وكان من بين هؤلاء أعضاء الجماعات اليهودية. وقد هاجر إبان هذه الفترة أربعة ملايين يهودي، أي 6% من جملة المهاجرين، كانوا لا يشكلون سوى 1.5ـ 2% من سكان أوربا، أي أن معدل الهجرة بين اليهود كان أربعة أضعاف معدلها العام. ولكن، في الفترة من عام 1801 إلى عام 1921، هاجر نحو ثمانية ملايين أيرلندي، ولاتزال عملية الهجرة مستمرة من بلد لا يزيد عدد سكانه على ثلاثة ملايين ونصف المليون. وكانت هجرة الأيرلنديين أكثر من هجرة اليهود كما أنها كانت محمومة. وبلغت نسبة اليهود الذين يرجعون إلى بلادهم الأصلية 8%، أما نسبة الأيرلنديين العائدين فكانت لا تزيد على 7%. ويُلاحَظ أن الهجرة اليهودية إلى الولايات المتحدة كانت تضم في الأساس عناصر إشكنازية.(3/272)
وقد كانت الهجرة اليهودية تأخذ في الماضي شكل التقهقر من المناطق المتقدمة إلى المناطق الأقل تقدماً؛ من الشرق القديم إلى أوربا التي كانت من أكثر مناطق العالم تخلفاً. وفي أوربا نفسها، أخذت الهجرة في العصور الوسطى شكل التحرك من إنجلترا وفرنسا إلى ألمانيا ومنها إلى شرق أوربا أكثر المناطق تخلفاً. وابتداءً من القرن السابع عشر، أخذت الهجرة شكلاً مغايراً وهو الهجرة من الأماكن الأقل تقدماً إلى الأماكن الأكثر تقدماً؛ من شرق أوربا إلى وسطها وإلى إنجلترا والولايات المتحدة. وإذا كان هذا هو نمط الهجرة، فإن الولايات المتحدة تصبح منطقياً نقطة الجذب المُطلَقة، وهذا هو الوضع القائم حتى الوقت الحالي.
ويُلاحَظ أن العنصر المشترك في كلتا الهجرتين (من البلاد المتقدمة إلى المتخلفة والعكس) هو أن اليهود كانوا عنصراً استيطانياً ريادياً يبحث عن الفرص الجديدة للاستثمار والحراك. وحينما كانت الفرصة موجودة في المناطق المتخلفة، كانت الهجرة تتجه نحوها. ولكن، مع الثورة التجارية، تغيَّر الوضع تماماً وأصبح البحث عن الفرص الاقتصادية يدور في الدول الاستيطانية المتقدمة. ويُلاحَظ أن هجرة اليهود قلما كانت تتجه إلى فلسطين.(3/273)
وهنا لابد من التفرقة بين الهجرة والاستعمار الاستيطاني. فالهجرة من بلد إلى آخر تعني قبول أهل البلد الجديد للقادمين نظراً للحاجة إليهم، وهي تنتهي باستقرار المهاجر في بلده الجديد. ولكن إذا فَرَض القادمون الجدد أنفسهم عن طريق العنف، فإن من الصعب أن نسمي ذلك «هجرة» . والواقع أننا يمكن أن نتحدث عن هجرة الأيرلنديين إلى الولايات المتحدة واستقرارهم فيها بعد أن استوطنها الإنسان الأبيض وأباد سكانها الأصليين، حيث لم تَعُد هناك حاجة إلى العنف من جانب المهاجرين الجدد بعد أن تولى المستوطنون الأوئل هذه المهمة نيابة عنهم. أما في جنوب أفريقيا (حتى وقت قريب) وفي فلسطين، فإن الوضع جدُّ مختلف، ذلك أن السكان الأصليين لا يزالون مستمرين في المقاومة، وهو ما يجعل العنف ضدهم ضرورياً. وعلى هذا، فيمكن الحديث عن استيطان الهولنديين في جنوب أفريقيا والصهاينة في فلسطين، أو عن هجرتهم للاستيطان أو هجرتهم الاستيطانية.
ويُلاحَظ أن كثيراً من المهاجرين اليهود تم توطينهم في أمريكا اللاتينية، بل وفي روسيا السوفيتية، بمعرفة مؤسسات يهودية توطينية كوَّنها يهود العالم الغربي لتحويل تيار الهجرة عن بلادهم للحفاظ على وضعهم الطبقي ومكانتهم الاجتماعية. ولذا، فنحن نفرِّق بين «الاستيطان» و «التوطين» . ويستطيع القارئ أن يعود إلى مداخل الباب المعنون «الصهيونية التوطينية» والباب المعنون «المؤسسات التوطينية» .
الاستقرار
Settlement(3/274)
«الاستقرار» هو أن يهاجر شخص من بلده نتيجة ظروف موضوعية (عوامل طَرْد في الوطن الأصلي) أو ذاتية (رغبة في الحراك الاجتماعي) فيحمل متاعه ويذهب إلى بلد آخر يوافق على هجرته أو يرحب به. ويتم ذلك عادةً في إطار قانوني. ومن ثم، فإن هجرة أعضاء الجماعات اليهودية من أوربا إلى الولايات المتحدة هي عملية استقرار في الوطن الجديد. و «الاستقرار» ، بطبيعة الحال، غير «الاستيطان» . وفي اللغة الإنجليزية لا يُوجَد سوى كلمة واحدة هي «ستلمنت settlement» للتعبير عن المعنيين المختلفين.
هجرات أعضاء الجماعات اليهودية حتى بداية العصر الحديث
Migrations of Memebers of Jewish Communities up to the Beginning of Modern Times
ينتقل بعض أعضاء الجماعات اليهودية من وطن إلى آخر بحثاً عن الرزق ولتحسين المستوى المعيشي بصفة عامة، أو لأسباب أخرى مثل التهجير والطرد أو الاضطهاد أحياناً. وإن قبلنا الرأي القائل بأن الخابيرو الذين ورد اسمهم في لوحات تل العمارنة هم العبرانيون، فإن أول إشارة إليهم كانت باعتبارهم شعباً متجولاً. وقد اتسمت حياة العبرانيين في عصر الآباء (منذ عام 2000 ق. م) بالتنقل البدوي من بلد إلى آخر وبالبقاء على حواف المدن أو على طُرُق التجارة. وفي هذه المرحلة، استوطنت بعض العناصر العبرانية أرض كنعان وفي مصر دون أن تضرب جذوراً في أي منهما. وقد خرج العبرانيون من مصر أو هاجروا منها (عام 1645 ق. م) ليبدأوا فترة أخرى من التجوال في سيناء انتهت بالتغلغل العبراني في كنعان (عام 1189 ق. م) الذي أعقبته فترة من الاستقرار النسبي بعد قيام اتحاد القبائل العبرانية في شكل المملكة العبرانية المتحدة ثم المملكتين العبرانيتين: المملكة الشمالية والمملكة الجنوبية. وقد انتهت هذه المرحلة بالتهجير الآشوري ثم التهجير البابلي.(3/275)
وبعد هذه المرحلة، ينتهي التهجير ليبدأ اليهود في الانتشار في بقاع الأرض بوصفهم جماعات يهودية لا يربطها رابط سوى الانتماء إلى العقيدة الدينية الإثنية نفسها. وتبدأ هذه المرحلة حين فضلت أعداد كبيرة من اليهود الاستمرار في بابل مُكوِّنةً بذلك نواة أول جماعة يهودية تستقر خارج فلسطين بعد مرحلة التهجير البابلي. ومن الممكن أيضاً الإشارة إلي الجماعة الصغيرة في جزيرة إلفنتاين التي كانت تشكل حامية عسكرية تحمي حدود مصر الجنوبية.
ثم قامت الإمبراطورية اليونانية بفرض هيمنتها على أجزاء كبيرة من البحر الأبيض والشرق الأدنى القديم (332 ق. م) ، وهو ما يسَّر عملية انتقال اليهود وانتشارهم، فاستقرت أعداد كبيرة منهم (كجماعات وظيفية استيطانية وقتالية ومالية) في مصر، وفي الإسكندرية على وجه الخصوص. كما استقروا في برقة وقبرص وآسيا الصغرى. وقد بدأ الانتشار في أوربا الغربية في تلك المرحلة أيضاً.
وحين قضى الرومان على فلسطين كإحدى نقاط تَجمُّع الجماعات اليهودية وأحد مراكزها، وحتى حين هدم تيتوس الهيكل (عام 70م) ، لم يؤثر ذلك كثيراً في حركة تَدفُّق اليهود أو على شكلها، إذ أنها بدأت على أية حال قبل ذلك التاريخ، حيث استمر تَدفُّق اليهود خارج فلسطين وإلى مختلف البلدان، خصوصاً إلى أوربا وحوض البحر الأبيض المتوسط. ويُقال إن هجرة اليهود إلى الجزيرة العربية تعود إلى هذه الفترة أو بعدها، وقد تم طَرْد اليهود منها مع ظهور الإسلام، ولكن يبدو أن أعداداً كبيرة لم تغادرها. كما أن الجماعة اليهودية في اليمن لم تتأثر بقرار الطرد، فقد بقيت أعداد منها واستمر وجودها حتى العصر الحديث. وفي أوائل القرن العشرين، قام المستوطنون الصهاينة بتوطين عدد من يهود اليمن في فلسطين لسد حاجتهم إلى العمالة، ثم هاجرت أغلبيتهم في عام 1948 إلى فلسطين، ولا تزال توجد بقايا من هذه الأقلية في صعدا وغيرها من المناطق.(3/276)
وقد شهدت بداية العصور الوسطى في الغرب (القرن الرابع الميلادي) شيئاً من الاستقرار النسبي بالنسبة إلى الجماعات اليهودية في الغرب المسيحي ثم في الشرق الإسلامي بسبب استقرار الأحوال السياسية والاقتصادية فيها. وبدأ نمط الهجرة في هذه الفترة يتضح، أي الهجرة من البلاد المتقدمة إلى البلاد المتخلفة؛ وقد كانت أوربا من أكثر المناطق تخلفاً في العالم آنذاك. وكانت توجد ثلاثة خطوط أساسية للهجرة إلى أوربا: من فلسطين إلى جنوب إيطاليا ومنها عَبْر جبال الألب إلى فرنسا وألمانيا، ومن الإمبراطورية الرومانية الشرقية (بيزنطة) عَبْر وادي الدانوب إلى وسط أوربا، ومن العراق ومصر عَبْر المغرب إلى إسبانيا. وهكذا انتقلت الكثافة السكانية اليهودية (بين عامي 500 ق. م 1000م) من الشرق الأوسط إلى أوربا.
ورغم أن نمط الهجرة إلى البلاد الأكثر تخلفاً هو النمط السائد، إلا أنه ليس النمط الوحيد، فمع تدهور الخلافة العباسية في القرن العاشر، هاجرت كذلك أعداد من اليهود المقيمين في العراق إلى الهند والصين. ولذا، قد يكون من الأفضل أن نقول إن هجرة أعضاء الجماعات اليهودية تتجه حيث توجد فرص أكبر لممارسة نشاطهم الاقتصادي، وأحياناً ما تتيح البلاد المتخلفة هذه الفرصة لهم أكثر من البلاد المتقدمة، خصوصاً حين تبدأ هذه البلاد في التآكل والانهيار ويصبح عدم الاستقرار سمة أساسية فيها.(3/277)
ومع إرهاصات التحول التجاري الرأسمالي في المجتمع الغربي في القرن الحادي عشر، ومع ظهور طبقات من التجار والمموِّلين المسيحيين، تم طَرْد اليهود من إنجلترا في عام 1290 (ويُقال إن عددهم كان لا يتجاوز أربعة آلاف) ، كما طُردوا من فرنسا عامي 1306 و1394، فاستقروا في بادئ الأمر في ألمانيا وإيطاليا وشبه جزيرة أيبريا، ولكنهم طُردوا أيضاً من إسبانيا في عام 1492 ثم من البرتغال، فهاجروا أساساً إلى شمال أفريقيا وإلى إيطاليا وصقلية. كما هاجرت أعداد كبيرة (نصفهم كما يُقال) إلى الإمبراطورية العثمانية التي كانت تشجع اليهود على الهجرة إليها لتنشيط التجارة. ولقد تدخلت الدول الغربية لمنع هجرة اليهود منها خشية أن يؤدي ذلك إلى انهيار النظام المصرفي والمالي والتجاري، الذي كان اليهود يلعبون فيه دوراً أساسياً. وقد شهدت هذه الفترة سقوط مملكة الخزر اليهودية في القرن العاشر حيث هاجر سكانها إلى المجر ثم إلى بولندا.
ومع أواخر العصور الوسطى، بدأت الإمارات الألمانية في طرد أعضاء الجماعات اليهودية. وقد ساهمت حملات الفرنجة، وهي تعبير عن إرهاصات التحول التجاري الرأسمالي، في اجتثاث جذور أعضاء الجماعات في وادي الراين وغيره من المناطق، فهاجرت أعداد كبيرة منهم إلى بولندا. ومعنى هذا، أن هجرة أعضاء الجماعات اليهودية مع نهايات العصور الوسطى (ابتداءً من القرن الرابع عشر) تأخذ مرة أخرى شكل هجرة من البلاد المتقدمة إلى البلاد المتخلفة نسبياً؛ من إنجلترا وفرنسا وإيطاليا إلى ألمانيا ومنها إلى بولندا، أي أنها هجرة إلى الماضي. وكان شرق أوربا هو الجهة الأخيرة تقريباً بالنسبة إلى أعضاء الجماعات اليهودية الذين كانوا يُطردون من البلاد المتقدمة نتيجة ظهور طبقات تجار محليين مسيحيين، إذ لم تَعُد هناك جيوب متخلفة أخرى يستطيع اليهود التقهقر إليها في الغرب.(3/278)
وتجب الإشارة إلى أن الهجرة كانت تتم في هذه المرحلة بالتدريج وببطء شديد نتيجة عدم وجود وسائل مواصلات سريعة وطرق ميسرة كما هو الحال في العصر الحديث. وكثيراً ما كان اليهود المحليون يتصدون لليهود الوافدين لأنهم يشكلون خطورة اقتصادية عليهم، فكانوا يمارسون حق حظر الاستيطان، كما كان يهود البلاط يمنعون هجرة أي يهودي إلى المنطقة التي يتولون قيادتها.
هجرات أعضاء الجماعات اليهودية في العصر الحديث
Migrations of Memebers of Jewish Communities in Modern Times
تغيَّر اتجاه هجرة أعضاء الجماعات اليهودية مع بداية عصر النهضة في أوربا لثلاثة أسباب أساسية:
1 ـ شهد عصر النهضة بدايات الانقلاب التجاري الرأسمالي الحقيقية بما تبعه من اكتشافات جغرافية ومشاريع استعمارية غربية: إسبانية وبرتغالية ثم هولندية وإنجليزية. وكانت إسبانيا والبرتغال قد طردتا اليهود من أراضيهما، أما هولندا وإنجلترا فقد فتحتا أبوابهما لهجرة اليهود نظراً لحاجتهما إلى أيد عاملة ورؤوس أموال وخبرات تجارية، ثم تبعتهما فرنسا. وأدَّى هذا الوضع إلى تَدفُّق المهاجرين اليهود إلى هذه البلاد وإلى مستعمراتها فيما بعد.
2 ـ كانت الدولة العثمانية قد بدأت تدخل مرحلة الجمود التي أدَّت إلى سقوطها في نهاية الأمر، ولم تَعُد قادرة على استيعاب المزيد من اليهود.
3 ـ وفي تلك المرحلة، كان معظم يهود أوربا مُركَّزين في بولندا التي شهدت ثورة الزعيم الشعبي الأوكراني بوجدان شميلنكي عام 1648 والذي قاد ثورة الفلاحين الأوكرانيين ضد الاحتلال البولندي، وضد النبلاء البولنديين (شلاختا) المستفيدين من هذا الاحتلال، وضد عمال النبلاء وممثليهم من يهود الأرندا الذين كانوا يقومون بجمع الضرائب وتوقيع العقوبات على الفلاحين. وقد هزت هذه الثورة جذور الدولة البولندية على وجه الخصوص، ثم تبع ذلك غزو السويد وروسيا لها.(3/279)
وقد أدَّى تَزامُن هذه الأحداث (طرد اليهود السفارد من شبه جزيرة أيبريا، ثم اهتزاز الأساس الاقتصادي والسياسي لليهود الإشكناز في بولندا مع فَتْح أبواب الهجرة إلى أوربا الغربية، ودخول الدولة العثمانية في طور الجمود) ، إلى تغيير مسار هجرة أعضاء الجماعات اليهودية في أوربا وظهور النمط الحديث، أي هجرة اليهود من البلاد المتخلفة في شرق أوربا إلى البلاد المتقدمة في وسطها وغربها وإلى العالم الجديد. والهجرة اليهودية في العصر الحديث هي أساساً جزء من حركة الاستعمار الاستيطاني التي بدأت في القرن السادس عشر، خصوصاً التشكيل الأنجلو ساكسوني (بعد بداية قصيرة مع الاستعمار الإسباني ثم الهولندي) . وما الهجرة الصهيونية إلا تعبير عن هذا النمط العام. ومع هذا، ظلت الولايات المتحدة هي نقطة الجاذبية الأساسية للهجرة اليهودية من البداية حتى الوقت الراهن، للأسباب التالية:
1 ـ تشكل الولايات المتحدة أهم وأنجح تجربة استيطانية غربية. وقد اجتذبت ثم استوعبت أعداداً كبيرة من المهاجرين من أوربا بلغت أكثر من 80%
2 ـ الولايات المتحدة دولة علمانية لم تعرف أية تقاليد أو حتى أية رموز دينية إلا لفترة وجيزة للغاية من تاريخها، كما أنها نجحت في إقامة مؤسسات علمانية لاستيعاب وصَهْر المهاجرين و «أمركتهم» وأتاحت لهم فرصة الانتماء الثقافي الكامل لوطنهم الجديد الأمر الذي زاد من جاذبيتها، وذلك على عكس أمريكا اللاتينية التي احتفظت بكاثوليكيتها وبالتالي استبعدت البروتستانت واليهود.
3 ـ كان اليهود يشكلون جماعة وظيفية مالية تعمل بالتجارة والمال، وبالتالي لم تكن بينهم أعداد كبيرة من العمال أو الفلاحين. والمجتمع الأمريكي هو مجتمع الاقتصاد الحر الذي يشكل القطاع التجاري والمالي أكبر قطاعاته، والذي سادت فيه القيم التجارية الموضوعية. ومن ثم فهو مجتمع ذو جاذبية خاصة بالنسبة إلى المهاجر اليهودي.(3/280)
وقد تنبأ المؤرخ الروسي اليهودي دبنوف بأن مسار الهجرة اليهودية سيكون إلى الولايات المتحدة، وطالب بأن يتم تقنين العملية وتنظيمها.
ويمكن القول بقدر من التبسيط غير المخل بأن هجرة أعضاء الجماعات اليهودية تدور حول قطبين أساسيين هما: شرق أوربا (روسيا/بولندا) كقوة طاردة ومصدر للمادة البشرية، والولايات المتحدة كقوة جاذبة. وقد كان النمط الأساسي القديم للهجرة اليهودية هو تَحرُّك أعضاء الجماعات داخل أُطر الإمبراطوريات الكبرى (الفارسية أو الرومانية أو الإسلامية) ، أما في القرن العشرين فقد كانت هناك إمبراطوريتان أو قوتان عظميان تحددان من خلال سياستهما حركة هجرة أعضاء الجماعة اليهودية، وقد تَطوَّر الأمر بعض الشيء بعد ذلك في منتصف القرن العشرين.
ولكن هناك مصادر أخرى ثانوية طاردة للمادة البشرية مثل أوربا الشرقية أو أمريكا اللاتينية أو جنوب أفريقيا أو بقايا يهود الشرق والعالم الإسلامي. كما أن هناك مناطق جذب ثانوية أخرى مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا وبعض بلاد أوربا. إلا أن النمط الأساسي الذي أشرنا إليه ظل سائداً. وتمثل إسرائيل نقطة مُبهَمة، فهي مصدر طَرْد حيث يبلغ عدد النازحين منها بين 700 ألف ومليون، كما أنها مصدر جذب ليهود البلاد العربية والشرق حيث إنها تحقق حراكاً اجتماعياً. كما تمثل محطة انتقال لهؤلاء اليهود الذين لا يمكنهم الوصول إلى الولايات المتحدة مباشرةً أو أولئك الذين لا توجد عندهم الكفاءات المطلوبة للعمل فيها.
ويمكن تقسيم هجرات أعضاء الجماعات اليهودية في العصر الحديث إلى المراحل التالية:
أ) المرحلة الأولى: ابتداءً من القرن السادس عشر حتى بداية القرن التاسع عشر.(3/281)
وهي مرحلة البدايات الأولى للثورة التجارية الرأسمالية الصناعية في أوربا. وهي الفترة التي شهدت توطين السفارد من يهود المارانو في هولندا وفرنسا وإنجلترا، كما شهدت بدايات الهجرة الاستيطانية اليهودية إلى العالم الجديد. وكانت الهجرة تتبع النمط التالي: تهاجر مجموعة صغيرة من السفارد (عادةً من كبار المموِّلين وعائلاتهم) يلحق بهم أعداد ضخمة من الإشكناز، كما حدث في أمستردام بعد استقلالها عن إسبانيا، وكما حدث في إنجلترا وفرنسا وبعض مدن ألمانيا. وقد زاد عدد أعضاء الجماعة اليهودية في أمستردام من 200 سفاردي عام 1690 إلى 2400 سفاردي و21 ألف إشكنازي عام 1795. أما لندن، فقد كان يوجد فيها عام 1695 نحو 458 سفاردياً و203 من الإشكناز. ومع حلول عام 1720، زاد عدد الإشكناز عن عدد السفارد. وفي عام 1800، كان يوجد ألفا سفاردي وحسب بين العشرين ألف يهودي. ولم يستوطن فلسطين أي عدد يذكر من اليهود في تلك المرحلة.
ب) المرحلة الثانية: من القرن التاسع عشر حتى عام 1880.(3/282)
وهي المرحلة التي وقعت فيها الحروب النابليونية والاضطرابات السياسية التي أعقبتها، الأمر الذي تَسبَّب في هجرة بعض الجماعات اليهودية من ألمانيا وبوهيميا والنمسا إلى فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة وأستراليا وغيرها. ولم يزد عدد المهاجرين اليهود إلى خارج القارة الأوربية على 200.000. ويمكن تفسير ذلك بعدة أسباب، من بينها أن الانفجار السكاني الذي حدث بين يهود اليديشية في شرق أوربا، والذي أدَّى إلى تَزايُد أعدادهم بين عامي 1800 و1933 بنحو ستة أضعاف، لم يكن قد ظهر أثره بعد، كما أنه وصل إلى ذروته بعد عام 1880. وفضلاً عن ذلك، كان معظم يهود العالم مُركَّزين في شرق أوربا وروسيا وبولندا التي كان قد تم ضمها إلى روسيا. ولم تكن معدلات العلمنة والتحديث قد ازدادت بينهم بعد، الأمر الذي كان يعني أنهم لا يزالون جماعة متماسكة تَصعُب الحركة على أعضائها، كما كان كثير من اليهود لا يزالون يلعبون دورهم الاقتصادي التقليدي كجماعة وظيفية. وحتى عندما تزايدت عمليات التحديث والعلمنة في روسيا، وتركت تلك العملية أثرها على الجماعة اليهودية التي بدأت تفقد شيئاً من تماسكها وبدأ يختفي كثير من مؤسساتها التقليدية التي تربط بين الفرد والجماعة مثل الأسرة والدين، فإن هذا لم يتسبب في أية هجرة خارج أوربا إذ لم تكن محاولات التحديث في الإمبراطورية الروسية قد كابدت من التعثر بعد، وكان الاقتصاد الروسي قادراً على استيعاب اليهود الذين كانوا يتزايدون ويتركون قراهم وأماكن إقامتهم الأصلية. ولذا، فقد كانت هجرة اليهود داخلية؛ من المناطق الكثيفة سكانياً في منطقة الاستيطان إلى روسيا الجديدة على شواطئ البحر الأسود. كما هاجرت أعداد صغيرة إلى بعض الدول الأوربية والولايات المتحدة.(3/283)
وشهدت هذه المرحلة هجرة يهود المناطق البولندية التي ضمتها ألمانيا (1772 ـ 1815) . وفي بروسيا بالذات، كان يوجد عام 1837 نحو 145.364 يهودياً 70% منهم (حوالي 101.152) كانوا في المناطق البولندية، أي أن أغلبية يهود بروسيا كانوا مُركَّزين هناك. ولكن، مع عام 1871، تَناقُص عددهم عن طريق الهجرة إلى ألمانيا ذاتها، وأصبحت نسبة اليهود في المناطق البولندية 31.8% ثم انخفضت عام 1890 إلى 24.8% وإلى 17.4% عام 1910. وقد اتجه هؤلاء اليهود إلى برلين التي ارتفع عدد اليهود فيها من 47.489عام 1871 إلى 181.141عام 1925. وقد ساهم هذا الارتفاع في تغذية الدعاية العنصرية النازية بشأن تَكاثُر اليهود والخطر اليهودي ومحاولة سيطرة اليهود على كل شيء.
جـ) المرحلة الثالثة: من عام 1881 حتى عام 1939.
وهي مرحلة الهجرة الكبرى اليهودية وغير اليهودية، والتي بدأت عام 1881 مع تَعثُّر التحديث في روسيا وتَزايُد العنصرية في كل أوربا، وانتهت عام 1939 بصدور قوانين عام 1924 التي حدَّت من هجرة يهود شرق أوربا، ثم بالكساد الاقتصادي وإغلاق أبواب الهجرة من روسيا تماماً.(3/284)
ووفقاً لإحصاءات الموسوعة اليهودية، بلغ عدد المهاجرين في هذه الفترة أربعة ملايين، في حين يذهب آرثر روبين إلى أن العدد أكبر من ذلك، فهو يرى أن الفترة من عام 1881 إلى عام 1930 هاجر خلالها نحو 3.975.000. فإذا أضفنا إلى ذلك، وفقاً لليستشنكي، الرقم 507.845 وهو عدد الذين هاجروا من عام 1931 إلى عام 1939، فإن العدد الكلي يصبح 4.482.845. ويجب أن نضيف إلى هذه الهجرة حركة اليهود داخل الإمبراطوريات العظمى في أوربا، الأمر الذي قد يصل بالعدد إلى خمسة ملايين. وقد أخذت الحركة داخل الإمبراطورية النمساوية اتجاهها من الشرق (جاليشيا وبكوفينا وبوزنان) إلى الغرب، وحدث الشيء نفسه في ألمانيا. أما في روسيا، فقد اتجهت الهجرة نحو الجنوب، إلى أوديسا ومناطق البحر الأسود. وكان عدد اليهود الذين انتقلوا في هذه الفترة من بلد أوربي إلى آخر هو 350 ألفاً، ويرى روبين أنهم 490 ألفاً.
كما شارك اليهود في حركة الهجرة من القرية إلى المدينة، فزاد عدد يهود فيينا (بلدة تيودور هرتزل مؤسِّس الحركة الصهيونية) ، على سبيل المثال، من ستة آلاف في عام 1857 إلى 99 ألفاً في عام 1890، وإلى 175 ألفاً عام 1910، وهي زيادة تمت أساساً عن طريق الهجرة حيث إن معدلات الزيادة الطبيعية كانت آخذة آنذاك في التناقص.(3/285)
وربما يكون الدافع الأكبر وراء الهجرة في هذه الفترة هو تَعثُّر محاولات التحديث في روسيا ثم تَوقُّفها تقريباً، وهو ما انعكس في شكل الاضطهاد الروسي القيصري ضد جميع الأقليات في الإمبراطورية. ولذلك هاجرت أعداد كبيرة من يهود الإمبراطورية الروسية إلى خارجها بحثاً عن مجالات جديدة للحراك الاجتماعي، وللحصول على الحقوق المدنية والسياسية. وكانت الأغلبية العظمى من المهاجرين اليهود من بين يهود اليديشية، ويهود روسيا على وجه الخصوص، حيث كانوا يشكلون ما بين 70% و80% من جملة يهود العالم، وقد كان عددهم نحو عشرة ملايين، وهو ما يعني أن نصفهم تقريباً، أي واحد من كل اثنين، كان في حالة حركة وهجرة وانتقال في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين. وهذه نسبة عالية للغاية ولا شك في أنها أسهمت في تفتيت كثير من المؤسسات والروابط والأواصر. ومع أن نسبة الهجرة بين يهود اليديشية كانت أعلى من نسبتها بين الإيطاليين، فإنها كانت أقل من نسبتها بين الأيرلنديين. وقد كان عدد الأيرلنديين عام 1830 ثمانية ملايين يشكلون نصف سكان إنجلترا، وقد هاجر منهم أربعة ملايين بين عامي 1830 و1900.(3/286)
وهاجر معظم اليهود في الفترة من عام 1881 إلى عام 1914، خصوصاً الأربعة عشر عاماً الأخيرة منها. وتذكر الموسوعة اليهودية أن عدد المهاجرين بلغ 2.750.000. فإذا أنقصنا من هذا العدد حوالي 250 ألفاً هاجروا داخل أوربا، وذلك على اعتبار أن عدد المهاجرين في الفترة من 1881 حتى 1935 هو حوالي 490 ألفاً، يكون عدد المهاجرين إلى خارج القارة هو 2.550.000 بمعدل هجرة سنوية تصل إلى 135 ألفاً. وتُعَدُّ سنة الذروة هي 1905ـ 1906 حيث هاجر ما بين 200 و250 ألفاً في ذلك العام وحده. لكن الهجرة توقفت أثناء الحرب. وعند استئنافها عام 1907، تَدفَّق السيل مرة أخرى إذ هاجر في ذلك العام وحده 141 ألفاً. ثم صدر أول قانون لتحديد الهجرة في العام التالي، الأمر الذي أدَّى إلى تغيير الصورة.
وإذا كانت روسيا نقطة الطرد الكبرى، فقد كانت الولايات المتحدة نقطة الجذب الكبرى في أواخر القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي أحرزت فيها الرأسمالية الأمريكية تَقدُّمها الضخم بعد أن هزمت الجنوب وفتحت أسواقه. وفي هذه الفترة، بدأت الرأسمالية الأمريكية تجربتها الإمبريالية في أمريكا اللاتينية والفلبين حيث كانت في حاجة ماسة إلى الأيدي العاملة التي لم يكن من الممكن تجنيدها من خلال الزيادة الطبيعية. وقد استوعبت الولايات المتحدة نحو 85% من المهاجرين اليهود بل واستوعبت النسبة نفسها تقريباً من جملة المهاجرين في العالم. ولا توجد سجلات بأعداد المهاجرين اليهود إلى الولايات المتحدة إلا ابتداءً من عام 1899.
وقد هاجر من روسيا في خلال ستة عشر عاماً (1899 - 1924) نحو مليون ونصف المليون يهودي. وفيما يلي جدول بأعداد اليهود الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة من روسيا وغيرها في الفترة من عام 1899 إلى عام 1914:
37415 -1899) مهاجر) (1900 - 60764 مهاجر) (1901 - 85098 مهاجر ((3/287)
57688- 1902) مهاجر) (1903 - 76203 مهاجر) (1904 - 106236 مهاجر (1299001905) مهاجر) (1906 - 153748 مهاجر) (1907 - 149182 مهاجر (
103387-1908) مهاجر) (1909 - 57551 مهاجر) (1910 - 84260مهاجر (
91223-1911) مهاجر) (1912 - 80595 مهاجر) (1913 - 101330 مهاجر (
138051- 1914) مهاجر (
ليكون إجمالي عدد المهاجرين هو 1.512.631.
ويُعَدُّ عام 1906 عام الذروة بالنسبة إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة. ويبلغ متوسط عدد المهاجرين سنوياً 93 ألفاً، وقد استقر كل هؤلاء المهاجرين في الولايات المتحدة بشكل دائم، ولم يهاجر منهم سوى نسبة ضئيلة تبلغ 8% مقابل 30.76% من بقية الجماعات المهاجرة، وكانت نسبة الأيرلنديين العائدين أقل إذ كانت لا تزيد على 7%. وكان المهاجر اليهودي يصل إلى الولايات المتحدة ولديه النية في الاستقرار الدائم، وليس ادخار بعض الأموال ثم العودة إلى الوطن الأم، ومن ثم فقد كان يُحضر معه أسرته. وكانت نسبة النساء والأطفال بينهم عالية، فكان نحو 44% من جملة المهاجرين اليهود من الإناث مقابل 31.7% بالنسبة إلى الجماعات المهاجرة الأخرى. وكان 24% من المهاجرين اليهود أطفالاً تحت سن الثالثة عشرة، أما في الجماعات الأخرى فكانت النسبة 12.4%. وكان يوجد بين المهاجرين اليهود نسبة عالية من العمال الصناعيين تصل إلى 66% من الأجراء، على عكس الإيطاليين والأيرلنديين الذين كانوا من أصول فلاحية. وبحسب إحصاءات الهجرة الأمريكية (1899 - 1914) ، كان المهاجرون اليهود يشكلون 31% من جملة العمال الصناعيين، وكانوا يشكلون أحياناً الأغلبية المطلقة في بعض الفروع مثل صناعة الملابس. وكان عدد العمال الزراعيين بين اليهود هو 2.6% مقابل 28.1% بالنسبة إلى جملة المهاجرين. وكان عدد العاملين في صناعة الملابس 39.6% وفي الصناعات الأخرى 26% (أي 65.6% من الأجراء) مقابل 17.8% بين غير اليهود. كما أن 9.2% من المهاجرين اليهود كانوا(3/288)
يعملون في التجارة والنقل مقابل 6.7% من جملة المهاجرين. وقد ساهم ذلك في سرعة اندماجهم في المجتمع وتحقيقهم حراكاً اجتماعياً أعلى مما حققته كثير من جماعات المهاجرين الأخرى. وهذا هو الذي ساهم في نهاية الأمر في «أمركتهم» الكاملة وفي تَركُّزهم في صناعات بعينها دون غيرها. وكان التركيب الإثني للمهاجرين اليهود خلال الفترة بين عامي 1899 و1914 كما يلي حسب بلد الأصل:
(روسيا - 71.7%) (الامبراطورية النمساوية والمجرية - 16.2%) (رومانيا 4.2%) (بريطانيا العظمى 4%) (كندا 1.2%) (المانيا 0.7%) (بلاد اخرى 2.0 (%
ولكن معظم اليهود الذين جاءوا من خارج روسيا هم من يهود اليديشية أيضاً. وقد توقفت الهجرة أثناء الحرب العالمية الأولى، ولكن أبوابها فُتحت مرة أخرى عام 1914. وكان عدد المهاجرين في البداية ضئيلاً ثم أخذ في الازدياد إلى أن وصل إلى الذروة في عام 1921 ثم انخفض في أعوام 1922 و1923 و1924 بسبب نظام النصاب. وفيما يلي بيان بأعداد المهاجرين:
1915 - 26.497) مهاجر) (1916 - 15108 مهاجر) (1917 - 17342مهاجر (
1918 – 3762) مهاجر) (1919 - 3055 مهاجر) (1920 - 14292 مهاجر (
1921 – 119036) مهاجر) (1922 - 53524 مهاجر) (1923 - 49719 مهاجر (
1924 – 49989) مهاجر (
ليكون إجمالي عدد المهاجرين هو 352.324.
ولنا أن نُلاحظ أن هذه الفترة الثانية هي فترة ظهور الصهيونية ونشاطها أيضاً. ولابد أن ندرك أن حركة أعضاء الجماعات اليهودية الضخمة كانت مصدر قلق الدول الغربية، لخوفها على أمنها الداخلي، وليهود الغرب المندمجين الذين كان وصول يهود الشرق يهدد مكانتهم الاجتماعية.(3/289)
ويَنبُع تأييد الدول الغربية وأثرياء اليهود المندمجين للمشروع الصهيوني من مخاوفهم هذه. ومن هنا كان تَبنِّيهم لما نسميه «الصهيونية التوطنية» . ويمكن أن نضرب مثلاً على ذلك بإنجلترا التي اتجه إليها نحو 210 آلاف من المهاجرين اليهود في الفترة من عام 1881 إلى عام 1935. وقد كان لوصولهم أثره في إثارة قلق السلطات البريطانية. وظهرت المحاولات الرامية إلى تحويل تيار الهجرة اليهودية بعيداً عن إنجلترا ابتداءً بمشروع شرق أفريقيا لإنشاء دولة صهيونية هناك، مروراً بقانون الأجانب عام 1906 للحد من دخول اليهود إلى إنجلترا (وهو المشروع الذي كان بلفور من أكبر المدافعين عنه) ، وانتهاءً بوعد بلفور الذي حوَّل فلسطين إلى أرض يُلقَى فيها الفائض البشري اليهودي، كما كان يُطلَق على المهاجرين اليهود آنذاك.
ولم يتجه إلى ألمانيا في الفترة نفسها سوى مائة ألف يهودي، ولكن هذا لا يتضمن اليهود الذين هاجروا من المقاطعات البولندية وهم من يهود اليديشية غير المندمجين. وبالتالي، قام النازيون بالدعاية ضد اليهود وببث السموم عن خطر التكاثر اليهودي والهيمنة اليهودية في وقت كانت فيه أعداد اليهود آخذة في التناقص الفعلي. وإذا كان بلفور قد حل المسألة اليهودية في إنجلترا بالتخلص من اليهود عن طريق إرسالهم إلى فلسطين، فإن هذا الحل لم يكن متاحاً لهتلر لعدم وجود مستعمرات لدى ألمانيا، ولهذا تَخلَّص منهم بإبادتهم.(3/290)
ونُلاحظ أن عدد المهاجرين إلى فلسطين كان في بداية الفترة 1.806، وبلغ 8.175 عام 1923، أي بعد فتح أبواب الهجرة وإنشاء المؤسسات الصهيونية الاستيطانية، ثم قفز العدد إلى 13.892عام 1924. وشهدت الفترة من عام 1925 إلى عام 1933 احتدام الأزمة الاقتصادية الرأسمالية العالمية، وهو ما أدَّى إلى خوف كثير من الدول من الأيدي العاملة المهاجرة لأنها قد تؤدي إلى تفاقم ظروف البطالة فيها، فأخذت الدول تغلق أبواب الهجرة وتسمح بدخول المهاجرين بالقدر الذي تسمح به مقدرتها الاستيعابية، ومن هذه البلاد كندا والأرجنتين والبرازيل وجنوب أفريقيا وأستراليا. وقد أدَّى تَصاعُد المقاومة العربية في فلسطين إلى الحد من الهجرة الاستيطانية، ولكن فلسطين ظلت مع هذا مفتوحة الأبواب أمام الهجرة. ولعل أكبر مَثَل على محاولة الدول الغربية الحد من الهجرة الأجنبية هو الولايات المتحدة التي أصدرت أولاً قانون النصاب في عام 1923 وأعقبته بقانون جونسون في عام 1924، حيث لم يكن يُسمَح ـ بحسب هذا القانون ـ إلا بهجرة ما يساوي نسبة 2% من عدد أعضاء كل جماعة قومية تعيش في الولايات المتحدة وفق إحصاء عام 1890. وقد عُرِّفت المجموعة القومية بنسبتها إلى البلد الأم وليس بنسبتها إلى الانتماء الديني أو الإثني. وكان العدد المسموح له بالهجرة من شرق أوربا وروسيا هو 10.341 مقابل نحو 50 ألفاً عام 1924 و153.748عام 1906. وكانت أعداد المهاجرين في تلك الفترة كما يلي:
1925 - 10.292) مهاجر) (1926 - 10.267مهاجر) (1927 -11.483 مهاجر)
1928 - 11.639) مهاجر) (1929 - 12.479مهاجر) (1930 -11.526 مهاجر)
1931 - 119.692) مهاجر) (1932 - 2.755مهاجر) (1933 -2.372 مهاجر)(3/291)
أي أن الهجرة بلغت الحد الأقصى المسموح به حتى عام 1930. وهكذا، فبعد أن كانت الولايات المتحدة تستوعب 85% من جملة المهاجرين اليهود في الفترة من عام 1881 إلى عام 1914، انخفضت النسبة إلى 25% في الفترة من عام 1926 إلى عام 1930، وقد أغلق كثير من البلاد أبوابه. وكما يقول روبين، أصبحت معظم البلاد مُغلَقة أمام المهاجرين عام 1933، ولم يبق أمامهم سوى فلسطين (المُستعمَرة) ، بمعنى أن الدول الغربية خلقت صهيونية بنيوية، أي بنية قانونية وظروفاً موضوعية تفرض على اليهود الهجرة إلى فلسطين شاءوا أم أبوا. وبالفعل، قفز عدد المهاجرين الاستيطانيين من 4000 عام 1931إلى 12.553 عام 1932 وإلى 37.337 عام 1933. ولذا، يمكننا القول إن عنصر الطرد من الولايات المتحدة وليس الجذب إلى أرض الميعاد هو الذي حدد مسار الهجرة. ومع هذا، يُلاحَظ أن الفترة من عام 1926 إلى عام 1930، حيث كانت أبواب أمريكا اللاتينية أكثر انفتاحاً، هاجر إليها 72.387 من مجموع المهاجرين اليهود البالغ عددهم 172.908 (أي 42%) ولم يهاجر في الفترة نفسها سوى 10.179 إلى فلسطين.(3/292)
ورغم تَبَاكي الدول الغربية على مصير اليهود، فإن معظمها أوصدت أبوابها دونهم. كما أن المنظمات الصهيونية كانت تؤيد هذا الموقف انطلاقاً من العقيدة الصهيونية التي تدعو إلى توطين اليهود في فلسطين وفلسطين فقط. ومن هنا، كانت جهود الصهاينة المكثفة من أجل إفشال مؤتمر إفيان لحل مشكلة اللاجئين والمهاجرين ورَفْض أية عروض لتوطين اليهود خارج فلسطين لخَلْق ما سميناه «الصهيونية البنيوية» . وفي الفترة من عام 1933 حتى عام 1948،والتي يمكن أن تُسمَّى المرحلة النازية، بلغ عدد المهاجرين من ألمانيا النازية والبلاد التي يهيمن عليها النازيون، والمهاجرون من كل أوربا 540 ألفاً، بخلاف عشرات الألوف من اليهود الذين هجَّرهم الاتحاد السوفيتي إبان الحرب لإنقاذهم، وعشرات الألوف الذين لجأوا إلى الاتحاد السوفيتي فراراً من النازي. وقد هاجر 250 ألفاً (أي 46%) منهم إلى فلسطين بسبب سياسة إغلاق الأبواب، وهاجر الباقون وهم 290 ألفاً إلى بلاد أخرى أهمها الولايات المتحدة التي هاجر إليها 110 آلاف (أي 20%) . وهاجر في الفترة من عام 1940 إلى عام 1948 نحو 300 ألف يهودي، منهم 120 ألفاً (أي 40%) إلى فلسطين. والباقون، وهم 180 ألفاً (أي 60%) ، هاجروا إلى بلاد أخرى أهمها الولايات المتحدة التي هاجر إليها 125 ألفاً (أي 42%) . وهكذا أصبحت الولايات المتحدة، مرة أخرى، بلد الجذب الأكثر، حتى أثناء سنى الحرب والإبادة النازية. ويمكننا أن نقول إن المُستوطَن الصهيوني لم يشكل ملجأ ليهود أوربا، فمن مجموع 750 ألف مهاجر (ويمكن أن نضيف إليهم مئات الألوف من المهاجرين إلى الاتحاد السوفيتي) لم يهاجر إلى فلسطين سوى 370 ألفاً، أي أن مسار الهجرة لم يتجه إلى فلسطين رغم شراسة الصهيونية البنيوية ولا إنسانيتها.
وفيما يلي جدول بعدد المهاجرين ونسبهم المئوية - حسب الموسوعة اليهودية - بين عامي 1881 و1948.(3/293)
الولايات المتحدة من 1881 - 1914 عدد المهاجرين 2.040.000 بنسبة 85% ومن 1915 - 1948عدد المهاجرين 650000بنسبة 41%
كندا من 1881 - 1914 عدد المهاجرين150000بنسبة 4% ومن 1915 - 1948عدد المهاجرين 60000بنسبة 4%
الارجنتين من 1881 - 1914 عدد المهاجرين 113000 بنسبة 5% ومن 1915 - 1948عدد المهاجرين115000بنسبة 7%
بقية امريكا الاتينية من 1881 - 1914 عدد المهاجرين 14000بنسبة 0.6% ومن 1915 - 1948عدد المهاجرين140000بنسبة 9%
جنوب افريقيا من 1881 - 1914 عدد المهاجرين 43000 بنسبة 2% ومن 1915 - 1948عدد المهاجرين25000بنسبة 1.6%
فلسطين من 1881 - 1914 عدد المهاجرين 70000 بنسبة 3% ومن 1915 - 1948عدد المهاجرين485000بنسبة 30%
بلاد اخرىمن 1881 - 1914 عدد المهاجرين 15000 بنسبة.6% ومن 1915 - 1948عدد المهاجرين125000 بنسبة 8%
مجموع المهاجرين من 1881 -1914 (2400000 مهاجر)
مجموع المهاجرين من 1915 - 1948 (1600000مهاجر)(3/294)
والجدول هنا يبيِّن أن الولايات المتحدة هي بلد الهجرة بلا منازع أو منافس. وتشغل الأرجنتين وكندا المرتبتين الثانية والثالثة، ولا تأتي فلسطين إلا في المرتبة الرابعة - وهي مرتبة رابعة تَجاوُزاً لأن مجموع عدد المهاجرين إليها يظل أقل كثيراً من مجموع عدد المهاجرين إلى بلاد الاستيطان الأخرى. أما في الفترة من 1915 إلى 1948، فإن الولايات المتحدة كانت لا تزال تشغل المرتبة الأولى وكانت فلسطين تشغل مرتبة ثانية قريبة من المرتبة الأولى. ومن الطريف أن مجموع عدد المهاجرين إلى أمريكا اللاتينية وكندا خلال الفترتين يساوي تقريباً عدد المهاجرين إلى فلسطين. ولكن أحد المصادر الأخرى يذهب إلى أن عدد المهاجرين إلى أمريكا اللاتينية وحدها، من عام 1881 حتى عام 1948، يعادل مجموع عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين خلال الفترة نفسها. وإذا استبعدنا الولايات المتحدة، وعقدنا مقارنة بين عدد المهاجرين إلى فلسطين من جهة وبقية بلاد العالم من جهة أخرى، لوجدنا أن عدد المهاجرين إلى فلسطين هو 555 ألفاً مقابل 682 ألفاً هاجروا إلى بقية بلاد العالم، أي أن عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين أقل من عدد المهاجرين إلى بقية البلاد. وحتى في الفترة من عام 1915 إلى عام 1948، وهي الفترة التي شهدت قمة النشاط الصهيوني، حيث فتحت حكومة الانتداب أبواب فلسطين أمام الهجرة الاستيطانية، وحيث أغلقت بلاد العالم الحر أبوابها دون المهاجرين اليهود وغير اليهود، كان عدد المهاجرين إلى فلسطين 485 ألفاً مقابل 465 ألفاً للبلاد الأخرى فيما عدا الولايات المتحدة. وكل هذه الإحصاءات تبيِّن أن فلسطين ليست نقطة الجذب لليهود كما تدَّعي الأدبيات الصهيونية وأن الحركة الصهيونية لم تُحرز نجاحاً فيما كانت تهدف إليه. ويُلاحَظ أن جميع البلاد التي يهاجر إليها اليهود هي بلاد شهدت تجارب استعمارية استيطانية أسسها الرجل الأبيض. ومن ثم، فإن الهجرة اليهودية ليست ظاهرة يهودية(3/295)
بمقدار ما هي جزء من الظاهرة الاستعمارية الاستيطانية الغربية.
د) المرحلة الرابعة: منذ عام 1948 حتى الوقت الحاضر.
وبانتهاء الأربعينيات، أصبحت الكتلة اليهودية الكبرى موجودة في الولايات المتحدة، مع وجود كتلة أخرى في أوربا آخذة في التناقص، ومع وجود أقليات متناثرة في أنحاء العالم. وقد ظهرت الكتلة اليهودية الاستيطانية في فلسطين، فأصبح هناك قطبان أساسيان يتنازعان هجرة اليهود هما الولايات المتحدة وإسرائيل (فلسطين) ، وكلاهما بلد استيطاني يستطيع المهاجر اليهودي أن يحقق فيه الحراك الاجتماعي الذي فشل في تحقيقه في بلده. ومع هذا، تشكل دول أخرى مثل أستراليا وفرنسا جاذبية خاصة بالنسبة إلى بعض المهاجرين اليهود.
ويمكن أن نضيف بُعداً آخر يساعد على اتجاه أعضاء الجماعات اليهودية إلى الولايات المتحدة وإسرائيل (فلسطين) ، ألا وهو ميراث الجماعات اليهودية الاقتصادي كجماعة وظيفية تَركَّز أعضاؤها في قطاعات المال والتجارة. والواقع أن هذا يعني تأثرهم السلبي بالثورات القومية أو الاشتراكية التي تستولي على هذه القطاعات فتؤممها، أو تحاول صبغها بصبغة قومية، أو تتدخل فيها بما يُقلل من فرص الحراك أمام أعضاء الجماعة اليهودية. ويمكننا في واقع الأمر أن نفسِّر حركة هجرة أعضاء الجماعات اليهودية في العصر الحديث بكل تناقضاتها من منظور هذين العنصرين (الحراك الاجتماعي وميراث الجماعة الوظيفية الوسيطة) باعتبارها هجرة إلى بلاد الوفرة والاقتصاد الحر والاستقرار السياسي من بلاد الاقتصاد الاشتراكي والفقر والثورات القومية الاشتراكية:(3/296)
1 ـ فمثلاً يمكن تفسير الهجرة من الاتحاد السوفيتي على أنها تعبير عن ضيق يهود الاتحاد السوفيتي بالنظام الاشتراكي الذي يضيِّق الخناق على القطاع التجاري. وفي الإطار نفسه يمكن تفسير الظاهرة التي تُسمَّى في المصطلح الصهيوني «التَساقُط» ، أي خروج اليهود من الاتحاد السوفيتي بزعم الهجرة إلى إسرائيل ثم تغيير الاتجاه والذهاب إلى بلد آخر هو الولايات المتحدة في العادة. فهم يفضلون الهجرة إلى الولايات المتحدة حيث يمكنهم تحقيق معدلات عالية من الحراك الاجتماعي، في حين لا تشكل إسرائيل أية جاذبية بالنسبة لهم. وقد هاجر يهود جورجيا بأعداد كبيرة إلى إسرائيل فحققت مثل هذه الهجرة لهم قسطاً من الحراك الاجتماعي، خصوصاً أن مؤهلاتهم لم تكن عالية، بينما نجد أن نسبة التَساقُط بين يهود أوكرانيا تصل إلى 90% لأن مستواهم المعيشي مرتفع. وإذا نجح يلتسين في تحقيق الإصلاحات الاقتصادية والانفتاح التجاري الذي يطمح إليه، فإننا نتصور أن أعداد المهاجرين ستتناقص لأن فرص الحراك الاجتماعي ستتزايد أمامهم.
وبعد الانتفاضة الفلسطينية، التي خلقت جواً من عدم الاستقرار السياسي، وصلت نسبة التَساقُط بين اليهود السوفييت إلى 90% من جملة المهاجرين. ومع هذا، أدَّى انهيار الدولة الاشتراكية السوفيتية وإغلاق الولايات المتحدة أبوابها أمام المهاجرين السوفييت إلى زيادة خروجهم من الاتحاد السوفيتي واستيطانهم في فلسطين. ولكنهم، على أية حال، يذهبون إلى إسرائيل بنيَّة التوجه إلى بلد آخر يحقق لهم طموحهم في الحراك الاجتماعي، وذلك عندما تسنح الفرصة.(3/297)
2 ـ وقد ظل يهود إيران يمارسون نشاطهم تحت حكم الشاه، ثم خرجوا من إيران بأعداد هائلة بعد قيام الثورة الإيرانية لأنها حاولت أن تُوجِّه الاقتصاد وجهة لا تتفق مع معايير الاقتصاد الحر. وفي كوبا، كانت هناك جماعة يهودية، ولكن حينما حدثت الثورة الاشتراكية انخفض العدد إلى العُشْر، وذلك رغم أن الثورة الكوبية كانت تتبادل العلاقات الدبلوماسية مع إسرئيل ولم تقف في طريق النشاط الصهيوني ولم تُسئ معاملة اليهود على الإطلاق باعتراف المراجع الصهيونية. والشيء نفسه يُقال بالنسبة إلى يهود شيلي الذين تركوها حينما وصل أليندي بتَوجُّهه الاشتراكي إلى الحكم، وعادوا إليها مع بينوشيه ممثل الفاشية العسكرية. فارتباط أعضاء الجماعات اليهودية في كثير من بلاد العالم بنمط إنتاجي معيَّن وعقلية تجارية محددة، وامتلاكهم خبرات إدارية ومهنية معيَّنة، جعل استمرارهم في المجتمع الجديد عسيراً، فهم «ضحايا التأميم» كما يقول أحد المراجع الإسرائيلية. ومع تزايد الثورات وعدم الاستقرار السياسي في أمريكا اللاتينية، يُلاحَظ زيادة هجرة أعضاء الجماعات. والوضع نفسه ينطبق على يهود جنوب أفريقيا، فمع تَزايُد ثورات السود يتجه أعضاء الجماعة إلى الولايات المتحدة.(3/298)
3 ـ وربما تعود هجرة اليهود من البلاد العربية في الخمسينيات إلى مركب من الأسباب؛ منها قيام الدولة الصهيونية وما خلقته من مشاكل لليهود العرب، ومنها ارتباط عدد كبير من أعضاء الجماعات اليهودية بالدول الاستعمارية. ومما لا شك فيه أن التحول البنيوي الذي خاضته بعض المجتمعات العربية، مثل المجتمعين المصري والسوري، وقيام تجارب تنموية تحت إشراف الدولة، قد ساهما بشكل عميق في عملية خروج اليهود، التي لا يمكن رؤيتها كظاهرة منفصلة عن خروج جماعات تجارية وسيطة أخرى مثل الإيطاليين واليونانيين من مصر ممن لم يستطيعوا التلاؤم مع إجراءات التمصير والتعريب والتأميم. وإلى جانب هذا، حققت إسرائيل ليهود البلاد العربية المهاجرين قسطاً من الحراك الاجتماعي باعتبار أن المستوى المعيشي في البلاد العربية أقل منه في إسرائيل. كما أن يهود البلاد العربية لم يكن لديهم الخبرات الكافية المطلوبة في الولايات المتحدة. ويُلاحَظ أن عدداً كبيراً من أعضاء نخبتهم الاقتصادية والثقافية هاجرت إلى فرنسا وغيرها من البلاد ذات المستوى المعيشي المرتفع الذي يفوق نظيره في إسرائيل والتي تتميَّز باقتصاد متقدم ومن ثم تحتاج إلى خبراتهم ورأسمالهم. ومن ناحية أخرى، هاجرت جماهير يهودية إلى فرنسا حينما سنحت لها الفرصة، فقد هاجر إليها معظم يهود الجزائر وأعداد كبيرة من يهود المغرب.
4 ـ وفي هذا الإطار، يمكن تفسير ظاهرة هجرة يهود أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا إلى الولايات المتحدة، فالهجرة إلى إسرائيل لن تؤدي إلى أي تَحسُّن في مستوى معيشتهم. كما أن التجمع الصهيوني لن يمكنه استيعابهم بخبراتهم المهنية والإدارية المتقدمة.(3/299)
5 ـ ويُلاحَظ أن يهود البلاد الغربية (أوربا والولايات المتحدة وكندا) لا يهاجرون إلى إسرائيل أو غيرها من البلاد الاستيطانية، فمثل هذه الهجرة ليس لها ما يبررها وفق نموذجنا التفسيري، وإن كان يُلاحَظ أن يهود إنجلترا يهاجرون بأعداد متزايدة إلى الولايات المتحدة، ربما لتفاقم الأزمة الاقتصادية في إنجلترا، فهي بلد ذات مستقبل اقتصادي مظلم على حد قول أحد المهاجرين البريطانيين اليهود إلى الولايات المتحدة.
6 ـ بل يُلاحَظ أن هناك هجرة إسرائيلية متزايدة إلى الولايات المتحدة، شكلت ما يُسمَّى «الدياسبورا الإسرائيلية» يبلغ عددها في بعض الإحصاءات نصف مليون ومنهم عدد كبير من جيل الصابرا.
7 ـ وفي الإطار نفسه أيضاً، يمكن تفسير هجرة أو تهجير يهود الفلاشاه تحت ظروف المجاعة، فهي هجرة سيحققون من خلالها حراكاً اجتماعياً كبيراً.
ويمكن القول بأن مصادر المهاجرين إلى الدولة الصهيونية آخذة في النضوب، فأعضاء أكبر جماعة يهودية في العالم (في الولايات المتحدة) لا يهاجرون، ويهود العالم الغربي إن هاجروا يتجهون إلى الولايات المتحدة. ويتبع يهود أمريكا اللاتينية وغيرهم النمط نفسه. وقد تمت تصفية يهود العالم الشرقي والإسلامي، فلم يبق سوى أفراد قلائل. وتُساهم معدلات الاندماج والزواج المختلط، وكذلك عزوف اليهود عن الإنجاب، في تَناقُص عدد اليهود الكلي وبالتالي تَناقُص عدد المهاجرين المحتمل، وهو ما يعني أن الوقود البشري للكيان الصهيوني لم يَعُد متوافراً بالكثافة نفسها. ولم يبق سوى الاحتياطي البشري الوحيد للكيان الصهيوني في الاتحاد السوفيتي. إلا أن خروج اليهود السوفييت وتَوجُّههم إلى إسرائيل يخضع للنمط نفسه الذي اقترحناه: شرق أوربا مصدر المادة البشرية، والولايات المتحدة مستورد لها. ولكن، كما أسلفنا، أدَّى انهيار الدولة الاشتراكية السوفيتية، وإغلاق باب الهجرة إلى أمريكا، إلى تحويل هذه الأعداد إلى إسرائيل.(3/300)
ولابد من التفرقة بين الهجرة والتهجير؛ فالهجرة طوعية أما التهجير فهو قسري. ويمكن رؤية الحركة الصهيونية باعتبارها حركة تقف في وجه الهجرة اليهودية إلى الولايات المتحدة وتحاول تهجير اليهود من كل أنحاء العالم إلى إسرائيل.
انتشار أعضاء الجماعات اليهودية في العالم وعلاقتهم بفلسطين
Diffusion of Memebers of Jewish Communities in the World and Their Relation to Palestine
يدَّعي الصهاينة أن فلسطين التي يُطلقون علىها مصطلح «إرتس يسرائيل» أو «أرض الميعاد» ، أو ما شابه ذلك من مصطلحات دينية أخرى، هي مركز الوجدان اليهودي، وأنها النقطة التي يتجه إليها اليهود معنوياً حينما يعجزون عن الاستيطان فيها، وهي الأرض التي «يعودون» إلىها فعلىاً وبمحض إرادتهم من «المَنْفَى» أو «الشَتات» حينما تُفتَح أبوابها لهم. ويحاول الصهاينة أن يجدوا تبريراً دينياً أو عرْقياً أو إثنياً لرؤيتهم هذه. كما يقدِّمون رؤية للتاريخ تساند هذه الرؤية، ولذلك فإنهم يجتزئون من الوقائع والحقائق ما يدعم رؤيتهم ويستبعدون ما عدا ذلك.
وإذا نظرنا إلى الرؤية الصهيونية من الناحية الدينية، لوجدنا أنها تتعارض مع واحد من أهم التيارات داخل اليهودية الحاخامية، التي تُحرِّم على اليهودي أن يعود إلى صهيون (فلسطين) ، إذ أن عليه الانتظار حتى يأذن الرب له بذلك، وأية محاولة للعودة هي بمنزلة الهرطقة والتعجيل بالنهاية. ولذلك، فلا يوجد في يهودية العصور الوسطى، أي في معظم التاريخ الديني لليهودية، أي حديث عن العودة إلا باعتبارها حدثاً دينياً يتم بمشيئة الرب. ومع هذا، يجب أن نشير إلى أن اليهودية، بوصفها تركيباً جيولوجياً، تحوي تياراً حلولياً قوياً يشجع على العودة الفعلىة. وإذا كانت هناك نزعة صهيونية في النسق الديني اليهودي، فهي نزعة كامنة مع مئات النزعات الأخرى.(3/301)
هذا من الناحية الدينية. أما من الناحية التاريخية، فالأمر أكثر تحدُّداً وتعيُّناً، إذ يدل تاريخ العبرانيين وتواريخ الجماعات اليهودية على أن المسرح الذي دارت فيه أحداث هذه التواريخ لم يكن فلسطين، باستثناء فترة قصيرة للغاية. وحتى حينما كان يوجد في فلسطين حكم يهودي مستقل، لم تكن فلسطين دائماً مركزهم وإطارهم المرجعي، إذ كان لكل جماعة حركياتها المستقلة وتوجهاتها التي يُحتِّمها عليها وضعها الاجتماعي والثقافي المرتبط بوضع البلد الذي توجد فيه. ولذا، يمكن أن نقول إن الحقيقة الأساسية في تواريخ الجماعات اليهودية هي انتشارها في كل أنحاء الأرض وليس تَمركُّزها في فلسطين. والقراءة الصهيونية لتواريخ الجماعات اليهودية، والتي ترى أن اليهود قد تم تشتيتهم قسراً من فلسطين، وأنهم لو تُركوا وشأنهم لعادوا تلقائياً وبشكل طوعي إليها، هي قراءة متحيزة ومغلوطة. فتاريخ العبرانيين في بداياته السديمية يبدأ بهجرة إبراهيم من أور إلى أرض كنعان ومنها إلى مصر. كما هاجر يعقوب ويوسف فيما بعد إلى مصر أيضاً. والهجرة من مكان إلى آخر نمط أساسي في حياة العبرانيين في فترة الآباء (2000 ق. م) التي تنتهي بالـ «خروج» ، أي هجرة موسى وقومه من مصر. وقد آثر بعضهم، بحسب الرواية التوراتية، الاستمرار في الحياة بمصر، فخرج مع موسى «اللفيف» ، أي مجموعات عرْقية أخرى غير عبرية وغير متجانسة. وبعد التسلل العبراني إلى أرض كنعان، وبعد اتحاد القبائل العبرانية فيما يعرف باسم «المملكة العبرانية المتحدة» والتي انقسمت إلى المملكة الشمالية والمملكة الجنوبية، تم تهجير أعداد كبيرة من العبرانيين إلى آشور (720 ق. م) ثم إلى بابل (580 ق. م) . ولكن أغلبيتهم العظمى آثرت البقاء خارج فلسطين، حتى بعد أن أصدر قورش الأخميني مرسومه الذي سمح بعودة اليهود إلى فلسطين، ولكن يبدو أن الفقراء فقط هم الذين عادوا. كما كانت هناك فرقة المرتزقة اليهود في جزيرة إلفنتاين التي(3/302)
استمرت في وجودها على حدود مصر الجنوبية.
ورغم إعادة بناء الهيكل وقيام السلطة الكهنوتية في فلسطين، تحت رعاية الفرس أول الأمر ثم اليونانيين بعد ذلك، حدثت هجرة يهودية طوعية كبيرة من فلسطين في عهد البطالمة، وقد استعان هؤلاء بالجنود اليهود المرتزقة الذين استقروا في مصر مع أُسَرهم. كما هاجرت إلى مصر أعداد أخرى من اليهود لأسباب اقتصادية، فكان منهم الفقراء والأغنياء والفلاحون والرعاة والجنود المرتزقة والقادة العسكريون. وقد أسس البطالمة مستعمرات في برقة كان يوجد فيها يهود. كما ظهرت جماعات من اليهود في مدن آسيا الصغرى بعد أن استولى السلوقيون على فلسطين بعد عام 200 ق. م، فقام أنطيوخوس الثالث بنقل عدة آلاف جندي يهودي (هم وأُسَرهم) من بابل إلى آسيا الصغرى. وكانت توجد جماعات يهودية في اليونان ومقدونيا على شواطئ البحر الأسود والبلقان وبلغاريا وأرمينيا وقبرص وقرطاجة وبرقة. ويُلاحَظ أن قيام الأسرة الحشمونية اليهودية في فلسطين، التي تمتعت بقدر من الاستقلال السياسي في بعض مراحلها، لم يُغيِّر هذه الصورة العامة لانتشار أعضاء الجماعات اليهودية خارج فلسطين.
وحينما ظهرت روما بوصفها قوة عظمى وفرضت إطاراً سياسياً مُوحَّداً على منطقة البحر الأبيض المتوسط، يسَّر ذلك انتشار اليهود فظهروا أولاً عبيداً في العاصمة، ثم هاجرت أعداد منهم وأصبحت مدن جنوب إيطاليا مراكز يهودية مهمة. وكانت توجد جماعات يهودية في الغال (فرنسا) ،وفي المدن الرومانية العسكرية على نهر الراين.(3/303)
وكانت الإسكندرية تضم جماعة يهودية كبيرة (في العصر الهيليني ثم الروماني) تتحدث أغلبية أعضائها اليونانية أو اللاتينية. كما كانت أسماؤهم والنقوش التي على قبورهم يونانية ولاتينية في الغالب، عبرية في النادر. أما وثائق الزواج والدفن الخاصة بهم، فلم تكن تختلف عن الوثائق الخاصة ببقية المواطنين. وكان ليهود مصر هيكلهم الخاص في لينتوبوليس، حيث كانت جماعتهم الدينية والفكرية مستقلة إلى حدٍّ كبير عن هيكل فلسطين، ولذا استمرت هذه الجماعات اليهودية في حياتها الدينية والثقافية المستقلة بعد هدم هذا الهيكل. وربما كان أكبر دليل على أن الإسكندرية كانت مركز جذب أقوى من فلسطين ذاتها أنه حينما وقعت فيها بعض الاشتباكات بين اليهود والمواطنين الهيلينيين، أصدر الإمبراطور الروماني قراراً يحذر فيه اليهود من تشجيع هجرة إخوانهم من فلسطين.(3/304)
وقد قدَّر الفيلسوف السكندري اليهودي فيلون أن عدد يهود مصر في القرن الأول الميلادي كان مليوناً، بينما كان يُقدَّر عدد اليهود في الأماكن الأخرى (ومنها فلسطين) بمليونين ونصف المليون. ويرى آرثر روبين أن عدد اليهود كان، في واقع الأمر، أربعة ملايين ونصف المليون، يوجد منهم مليون في فلسطين والباقون خارجها. وقد لا تتسم هذه الأرقام بالدقة، فهي في معظمها تستند إلى التقديرات التخمينية. وثمة إحصاءات أخرى ترى أن عدد اليهود في سوريا ومصر وآسيا الصغرى كان ثلاثة ملايين، وأن مليوناً رابعاً كان يوجد في مناطق متفرقة أخرى داخل الإمبراطورية الرومانية ومليوناً خامساً في بابل. أما فلسطين، فيُقال إنها كانت تضم مليونين فقط، وأن نصف مليون من سكان فلسطين كانوا مواطنين يونانيين وعناصر بشرية أخرى غير يهودية. وتذكر الموسوعة اليهودية أن عدد يهود العالم في تلك الفترة كان ثمانية ملايين، لم يكن منه سوى مليونين ونصف المليون في فلسطين. ولكن، أياً كان الأمر، ثمة إجماع على أن عدد أعضاء الجماعات اليهودية خارج فلسطين كان يفوق عدد اليهود داخلها قبل أن يقوم تيتوس بهدم الهيكل، وأن عدد يهود الإسكندرية كان يفوق عدد يهود القدس وربما فلسطين كلها. ولهذا، فإن محاولة ربط انتشار أعضاء الجماعات اليهودية في العالم بواقعة هدم الهيكل وسقوط القدس، واعتبار ذلك تشتيتاً قسرياً، هي من قبيل التفكير الأسطوري المتحيز لآراء مسبقة.(3/305)
وقد استمر انتشار أعضاء الجماعات اليهودية في كل أنحاء العالم بعد ضمور واختفاء المركز الديني في فلسطين. وقد كان لهذا الانتشار أعمق الأثر في تمايز اليهود وظيفياً واقتصادياً وتَحوُّلهم إلى جماعة أو جماعات وظيفية تضطلع بوظائف التجارة والربا. ويمكننا أن نضيف أن علاقة الانتشار بعملية تَحوُّل اليهود إلى جماعات وظيفية هي علاقة سبب ونتيجة في آن واحد. فقد ساهم الانتشار ـ ولا شك ـ في تَحوُّل أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعات تجارية ومالية وسيطة، ذلك أن الوظائف التجارية والمالية هي وظائف يضطلع بها الوافدون الجدد دائماً. وقد كوَّنت الجماعات اليهودية الوظيفية شبكة تجارية عالمية ضخمة في العالمين الإسلامي والمسيحي، وكانت لهم مراكز في الغرب (في إسبانيا وغيرها من الدول) ،وفي معظم ربوع العالم الإسلامي. ولكن تَحوُّلهم إلى جماعة وظيفية وسيطة زاد بدوره من عملية الانتشار ودعمها وكرَّسها ووسع نطاقها.
ومثلما اتجهت الجماعات اليهودية إلى أنحاء العالم كافةً، اتجهت بعض جماعات من اليهود إلى الهند والصين واستقرت فيها. وظل هذا الوضع من الانتشار قائماً خلال العصور الوسطى في الغرب، فلا نسمع عن أية محاولات يهودية للعودة إلى فلسطين. ومع طَرْد اليهود من إسبانيا، وجد يهود المارانو ملجأً لهم في الإمبراطورية العثمانية، وفي بعض الدول الأوربية مثل هولندا. وكان اليهود من رعايا السلطان العثماني يتمتعون بحرية الهجرة إلى فلسطين أو منها، إلا أن اللاجئين الأوربيين والرعايا اليهود كانوا ينجذبون إلى إستنبول والقاهرة ودمشق وغير ذلك من حواضر الإمبراطورية التي كانت تتمتع بأوضاع أفضل اقتصادياً وسياسياً بالمقارنة مع فلسطين. أما بالنسبة ليهود الخزر، فقد اتجهوا نحو شرق أوربا (إلى المجر فبولندا) ، وذلك بعد تحطيم إمبراطوريتهم الصغيرة على يد الروس أولاً ثم على يد المغول في القرن الثاني عشر، ولا نعرف أية جماعة منهم اتجهت إلى فلسطين.(3/306)
ومع عصر النهضة والاكتشافات والاستعمار الغربي والإصلاح الديني، بدأت في أوربا المسيحية إرهاصات الفكر الاسترجاعي؛ أي إعادة توطين اليهود في فلسطين باعتبار أن عودتهم هي التمهيد لعودة المسيح. ولكن هذا الفكر لم يؤثر في الجماعات اليهودية في بادئ الأمر، سواء في الشرق أو في الغرب، بل ظل تفكيراً مسيحياً بروتستانتياً بالدرجة الأولى. ولا نسمع عن دعوات يهودية للعودة إلى فلسطين والاستيطان فيها إلا مع الانفجارات المشيحانية مثل حركة الماشيَّح اليهودي الدجال شبتاي تسفي في القرن السابع عشر، وهي الانفجارات التي وقف ضدها حاخامات اليهود. ويظهر الفكر الصهيوني اليهودي لأول مرة، في منتصف القرن التاسع عشر، مع انتشار الفكر القومي والعنصري والإمبريالي. ولكن، حتى بعد أن ظهرت الحركة الصهيونية اليهودية في أواخر القرن التاسع عشر، فقد عارضتها جميع المنظمات اليهودية المعروفة في ذلك الوقت، ولم تتمكن من عقد مؤتمرها في ميونيخ حيث وُجدت واحدة من أكبر الجماعات اليهودية وبسبب احتجاج حاخاماتها، اضطرت إلى نقله إلى بازل حيث كانت هناك جماعة صغيرة بلا أهمية تُذكَر.(3/307)
لكل ما تَقدَّم، يصبح من العسير الحديث عن «نفي» اليهود أو عن تَطلُّعهم الدائم للهجرة إلى فلسطين، فحركة انتشارهم في العالم لا يمكن تفسيرها في إطار مركز جذب صهيوني في فلسطين، مقابل أطراف هامشية في كل أنحاء العالم. ولمحاولة فهمها بعيداً عن التحيزات الصهيونية العميقة المسبقة، سنحاول أن نرصد بعض الآليات التي تشجع على الانتشار وتساهم فيه وتُيسِّره. ويمكننا أن نقول أولاً إن انتشار أعضاء الجماعات اليهودية مرتبط أساساً بالإمبراطوريات العظمى التي توفر شبكة المواصلات والإطار القانوني الموحَّد، وهما تعبير عن رغبة الإمبراطورية في تشجيع التجارة. وقد تأسست الجماعة اليهودية في بابل في إطار الإمبراطوريتين الآشورية والبابلية، واتسعت دائرة الانتشار مع الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية. وحدث الشيء نفسه مع الدولة الإسلامية ثم العثمانية. وقد كانت بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط الساحة الأساسية لانتشار الجماعات اليهودية، وظلت مراكز اليهود الأساسية فيه هي: روما وإسبانيا والمغرب والدولة العثمانية وسالونيكا وإيطاليا وفرنسا. أما الجماعات التي وجدت في الصين والهند وإثيوبيا والجزيرة العربية، فهي جماعات صغيرة ليست ذات أهمية كبيرة.(3/308)
وقد ظل هذا هو النمط الأساسي إلى أن استقر اليهود في شرق أوربا وحدث الانفجار السكاني بين يهود اليديشية في القرن التاسع عشر، بحيث أصبحت أغلبية يهود العالم توجد داخل إطار الإمبراطورية الروسية التي كانت تعاني من تَعثُّر التحديث. ومن ثم فإنها لم تحقق لأعضاء الجماعات اليهودية وغيرها من الجماعات ما كانوا يطمحون إلىه من حراك اجتماعي، كما أنها لم تكن تشجع المواطنين على الحركة. وكان الاستثناء الوحيد هو تشجيع اليهود على الاستيطان في روسيا الجديدة على ساحل البحر الأسود. ومن هنا كانت أكبر حركات انتشار اليهود في التاريخ هي انتقال الكتلة البشرية اليهودية (بأكملها تقريباً) من شرق أوربا إلى الولايات المتحدة وغيرها من البلاد. وقد استفاد أعضاء الجماعات اليهودية من حركة المواصلات ومن وجود بنية قانونية دولية. كما استفادوا من الحركة الإمبريالية الغربية، خصوصاً الجانب الاستيطاني منها (والتشكيل الأنجلو ساكسوني على وجه الخصوص) . ومما يجدر ذكره، أن الحضارة الغربية كانت تنظر إلى اليهود باعتبارهم مادة بشرية استيطانية، ولذا فإن الانتشار اليهودي الحديث يتبع حركة الاستيطان الغربي بمعنى أنها حركة داخل إطار الإمبراطورية الإمبريالية الجديدة، ولا تختلف كثيراً عن حركة الجماعات اليهودية داخل الإمبراطوريات القديمة. وقد بدأ الاستيطان اليهودي في دول أمريكا اللاتينية، ثم اتجه بعد ذلك إلى الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وجنوب أفريقيا. ولكن الولايات المتحدة، أهم التجارب الاستيطانية الغربية على الإطلاق، كانت مركز الجاذبية الأكبر، وقد اتجهت الجماهير اليهودية إلىها أساساً حتى أصبحت تضم أكبر التجمعات اليهودية وأكثرها قوة. ويمكن القول بأن معظم الدول التي انتشر فيها اليهود هي دول ساد فيها الاقتصاد الحر والوفرة الاقتصادية وتُحقِّق نوعاً من الحراك الاجتماعي للوافدين إليها.(3/309)
وتُعَدُّ فلسطين آخر بلد للاستيطان اليهودي في العصر الحديث وأقلها جاذبية، ربما لأنها لا تقع في وسط العالم الغربي الذي يتجه إليه معظم يهود العالم في العصر الحديث وإنما تقع على أطرافه، أي أن نمط الهجرة من منظور المركز الفلسطيني لا يختلف في القرن الأول من الألف الأول الميلادي عنه في القرن الأخير من الألف الثاني، فهي هجرة لا تتجه إليه وإنما هي هجرة تتجه بعيداً عنه.
حركة هجرة اليهود في العالم من 1840 - 1942
وجدول (1) يبيِّن حركة هجرة اليهود في العالم من 1840 إلى 1942، وهي أهم فترات الهجرة.
يُلاحَظ من جدول (1) أنه من مجموع 3.917.388 من المهاجرين، لم يتجه سوى 378.956 إلى فلسطين في فترة مائة عام تمتد من 1840 حتى عام 1942، وذلك رغم كل النشاط الاستعماري والصهيوني المكثف. ومن الطريف أن هذا العدد مساو تقريباً لعدد اليهود الذين اتجهوا إلى أمريكا اللاتينية في الفترة نفسها، (376.227) بفارق 2.629 يهودياً. ولو استبعدنا الهجرة فيما بعد عام 1931 حيث أغلقت أمريكا اللاتينية أبوابها، فسنكتشف أن عدد المهاجرين إلى أمريكا اللاتينية كان 270.601 مقابل 125,944إلى فلسطين. بل إن بلداً واحداً مثل الأرجنتين هاجر إليه 191.551، أي أكثر من كل الذين هاجروا إلى فلسطين في الفترة نفسها (وبحسب إحصاءات روبين، كان يوجد في الأرجنتين في عام 1930 نحو 220 ألفاً و291 ألفاً في أمريكا اللاتينية كلها) . كما أن بلداً مثل كندا كان يضم 150 ألف يهودي في عام 1930، بينما كانت فلسطين لا تضم سوى 170 ألفاً. ولكن التحدي الأكبر لأرض الميعاد كان يأتي من البلد الذهبي أو «الجولدن مدينا» ، أي الولايات المتحدة. ففي الفترة التي نشير إلىها، هاجر إلى الولايات المتحدة 2.801.890 مقابل 378.956 هاجروا إلى فلسطين.
عدد المهاجرين إلى كل من الولايات المتحدة وفلسطين فى الفترة 1915- مايو 1948 (جدول 2 ((3/310)
1915) الولايات المتحدة 26497 فلسطين 0) (1916 الولايات المتحدة 15108 فلسطين 0) (1917 الولايات المتحدة 17342 فلسطين 0 1918) (الولايات المتحدة 3672 فلسطين 0) (1919 الولايات المتحدة 3055فلسطين1806 1920) الولايات المتحدة 14292فلسطين8223) (1921الولايات المتحدة119036فلسطين8294) (1922الولايات المتحدة53524فلسطين8685) (1923الولايات المتحدة49719فلسطين8175) (1924الولايات المتحدة 49989فلسطين13892) (1925 الولايات المتحدة 10292فلسطين34386) (1926 الولايات المتحدة 10267فلسطين13855) (1927الولايات المتحدة 11483فلسطين3034) (1928 الولايات المتحدة 11639 فلسطين5249) (1929 الولايات المتحدة 12479 فلسطين 5249) (1930 الولايات المتحدة 11526 فلسطين 4944) (1931 الولايات المتحدة 5692 فلسطين 4075) (1932 الولايات المتحدة 2755 فلسطين 12553) (1933 الولايات المتحدة 2372 فلسطين 37337) (1934 الولايات المتحدة 4134 فلسطين 45267) (1935الولايات المتحدة 4837 فلسطين 66472) (1936 الولايات المتحدة 6252 فلسطين 29595) (1937 الولايات المتحدة 11352 فلسطين10629) (1938 الولايات المتحدة 19736 فلسطين 14675) (1939 الولايات المتحدة 43450 فلسطين 31195) (1940 الولايات المتحدة 36945 فلسطين 10643) (1941 الولايات المتحدة 23737 فلسطين 4592) (1942 الولايات المتحدة 10608 فلسطين 4206) (1943 الولايات المتحدة 4705 فلسطين 10063) (1944 الولايات المتحدة 15552) (1945 الولايات المتحدة 15259) (1946 الولايات المتحدة 18760) (1947 الولايات المتحدة 22098)
(1948 الولايات المتحدة 17165 ((3/311)
ويُلاحَظ من جدول (2) أن الولايات المتحدة استوعبت نحو 2.000.000 مهاجر يهودي من مجموع المهاجرين اليهود البالغ عددهم 2.650.000 والذين أتوا أساساً من أوربا الشرقية ثم الوسطى، أي أنها استوعبت حوالي 86% من مجموع المهاجرين اليهود. وقد استقر نحو 350 ألف مهاجر يهودي في أوربا الغربية، ونحو 300 ألف في باقي بلدان العالم، واستوعبت كندا نحو 4% والأرجنتين 5% وجنوب أفريقيا 2%. ولم يستوطن فلسطين سوى 50 ألفاً، أي حوالي 2% من مجموع المهاجرين. وقد استمر الوضع على ذلك في الفترة 1915 - 1931، أي قبل ظهور هتلر، إذ استوعبت الولايات المتحدة 55% من مجموع 760 ألف مهاجر يهودي واستوعبت كندا 6%، والأرجنتين 10%، واستوعبت بلدان أمريكا اللاتينية الأخرى 9%، وجنوب أفريقيا 2%، والبلاد الأخرى 3%. ولم يستوطن فلسطين سوى 15% على الرغم من أنه لم تكن توجد آنذاك قيود على الاستيطان فيها.
ولم يحدث أي تغيير إلا بعد إغلاق أبواب الهجرة إلى الولايات المتحدة ثم إلى بلاد الاستيطان الأخرى في أوربا وأمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا.(3/312)
وقد بلغ الاستيطان اليهودي في فلسطين ذروته في الفترة بين عامي 1932 و1939، حيث استوطن فلسطين حوالي 46% من مجموع المهاجرين اليهود البالغ عددهم 540 ألفاً، ولم يستوطن الولايات المتحدة سوى 20%. وقد بلغ عدد المستوطنين الصهاينة في الفترة 1931 ـ 1935، أي خلال أربعة أعوام، حوالي 147.502 (165.704 بحسب تقديرات الموسوعة اليهودية) وهو عدد يساوي عدد كل المستوطنين الموجودين بالفعل والذين كانوا قد استوطنوا فلسطين خلال الفترة من عام 1882 إلى عام 1930. وفي الفترة من عام 1936 إلى عام 1939، هاجر 75.510 تَذكُر الموسوعة اليهودية هذا الرقم على أنه 86.049) . وشهدت الفترة بين عامي 1940 و 1948 تَحوُّلاً طفيفاً في نمط الهجرة إذ اتجه 125 ألف مهاجر يهودي من مجموع 300 ألف، أي 42% من مجموع المهاجرين، إلى الولايات المتحدة، واتجه إلى فلسطين 120 ألفاً أي 40% فقط. وقد أدَّى هذا إلى ظهور كثافة سكانية يهودية في فلسطين لم تكن موجودة قبل وصول هتلر إلى الحكم، فكأن الفوهرر نجح خلال ثمانية أعوام، عن طريق خَلْق الظروف الموضوعية لهجرة الىهود من أوربا، في إنجاز ما لم تنجح الحركة الصهيونية والاستعمار العالمي في إنجازه خلال نصف قرن (1882 ـ 1931) ، أي أن الصهيونية الموضوعية البنيوية أكثر كفاءة وفعالية من الصهيونية العقائدية. فقد هاجر في تلك الفترة نحو ثلاثة ملايين يهودي من وطنهم الأصلي ولم تتجه سوى قلة منهم إلى فلسطين. ومع هذا، لا يمكن إنكار دور الصهيونية والاستعمار في خلق هذا الموقف الصهيوني البنيوي. والواقع أن الدول الغربية، ومنها الولايات المتحدة، أوصدت بابها دون اللاجئين اليهود وغير اليهود بسبب ظروف الكساد الاقتصادي. أما الصهاينة، فقد أبرموا مع النازيين معاهدة الهعفراه التي ساهمت في توجيه هجرة يهود ألمانيا إلى فلسطين بحيث يتحولون إلى مستوطنين. وقد سمحت لهم السلطات الألمانية بأخذ جزء كبير من ثرواتهم معهم.(3/313)
ويمكننا أن نَخلُص من ذلك إلى أن فلسطين لا تمثل نقطة جذب بالنسبة إلى يهود العالم، وإلى أن اليهود هاجروا إلىها بسبب عوامل الطرد الحادة في أوربا وعدم وجود منافذ أخرى لا بسبب عوامل الجذب فيها.
ولعل الاستثناء الأساسي الآخر من النمط العام لهجرة أعضاء الجماعات اليهودية في العصر الحديث هو الفترة الممتدة من 1948 حتى أواخر الخمسينيات، حيث قامت الحركة الصهيونية بحركة ضغط هائلة لنقل اللاجئين اليهود من ضحايا الحرب العالمية الثانية إلى فلسطين. وفي الفترة نفسها، أدَّى إعلان الدولة اليهودية، ونشاط العملاء الصهاينة، وجَهْل بعض الحكومات العربية، إلى خَلْق وضع متوتر بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية في العالم العربي الإسلامي، فهاجرت أعداد كبيرة منهم واستوطنت فلسطين. وعلى أية حال، يمكن رؤية حركة الهجرة اليهودية من البلاد العربية إلى فلسطين أيضاً بوصفها حركة هجرة إلى فلسطين باعتبارها البلدة الذهبية اليهودية وليس باعتبارها أرض الميعاد. والهدف ليس خلاص الروح، بطبيعة الحال، وإنما تحقيق الحراك الاجتماعي. فالعرب اليهود لم تُمكِّنهم ظروفهم الحضارية والاقتصادية، ولا خبراتهم، من الهجرة إلى أوربا والولايات المتحدة، فهاجروا إلى إسرائيل لتحقيق الحراك الاجتماعي الذي فشلوا في تحقيقه بالدرجة التي يطمحون إلىها داخل مجتمعاتهم العربية. ويُلاحَظ أن عدداً كبيراً من أعضاء النخبة الاقتصادية والثقافية هاجروا إلى فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية، كما هاجر يهود الجزائر إلى فرنسا لأن ظروفهم سمحت بذلك.(3/314)
وبعد تصفية هذه الكتلة البشرية اليهودية، يعود نمط الهجرة بين أعضاء الجماعات اليهودية إلى سابق عهده، أي يتجه اليهود مرة أخرى إلى الولايات المتحدة التي أصبحت نقطة جذب كما كانت من قبل. ومن ثم، نجد أن الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفيتي تواجه مشاكل عميقة ـ من المنظور الصهيوني ـ لأن المهاجرين يغيرون اتجاههم في النمسا أو أية محطات انتقالية أخرى، وبدلاً من أن يتوجهوا إلى فلسطين المحتلة ليصبحوا مستوطنين صهاينة يتجهون إلى الولايات المتحدة ليصبحوا مهاجرين. وحينما هاجر يهود الجزائر عام 1965، ويهود أمريكا اللاتينية منذ الستينيات وحتى الآن، ثم يهود إيران، فإنهم لم يتجهوا إلى فلسطين وإنما إلى فرنسا والولايات المتحدة. ويُلاحَظ أن يهود جنوب أفريقيا يتجهون أيضاً إلى الولايات المتحدة، وربما إلى جيوب استيطانية أخرى مثل أستراليا، ولقد بدأ المستوطنون الصهاينة أنفسهم يتبعون هذا النمط. ويبلغ أعضاء الدياسبورا الإسرائيلية في الولايات المتحدة نحو 750 ألف، حيث يزيد عدد النازحين من إسرائيل إلى الولايات المتحدة على عدد اليهود الذين يذهبون إلى الدولة الصهيونية للاستيطان.(3/315)
ويدل تَدفُّق الهجرة اليهودية على وطن الاقتصاد الحر والفرص الاقتصادية بعيداً عن «أرض الميعاد» ، على أن حركيات التاريخ وتركيبية النفس البشرية تؤكد نفسها على الدوام وتكتسح في طريقها كثيراً من التحيزات العقائدية الاختزالية. ولتزويد الكيان الصهيوني بالمادة القتالية اللازمة لاستمرار اضطلاعه بدوره القتالي، أغلقت الولايات المتحدة أبوابها أمام المهاجرين السوفييت حتى يضطروا إلى التدفق صاغرين إلى الدولة الصهيونية. كما تمارس المنظمة الصهيونية شتى أنواع الضغط على ألمانيا لكي لا تفتح أبوابها أمام المهاجرين السوفييت الذين يقرعون أبوابها. كما أنها تعلن عن شتى المغريات المالية للمهاجرين الجدد. وعلى كلٍّ بعد تَدفُّق نصف مليون يهودي روسي على إسرائيل (وليس الملايين التي تَحدَّث عنها الإعلام العالمي، أي الغربي، والعربي) على مدار عشرة أعوام تقريباً، نضبت منابع المادة البشرية الاستيطانية اليهودية في شرق أوربا، خصوصاً العناصر الشابة الراغبة في الهجرة والقادرة عليها. وسيعود النمط القديم ليؤكد نفسه، أي تَدفُّق اليهود على أرض الميعاد الذهبية الأمريكية، أو أي أرض ميعاد أخرى تُحقِّق لهم الحراك الاجتماعي.
وبدلاً من تسمية الظواهر بأسمائها، تشير الأدبيات الصهيونية إلى الهجرة اليهودية إلى الولايات المتحدة أو العالم المتقدم أو الحر بما يسمونه «الشتات الجديد» ونشير إلى ذلك بأنه «الدياسبورا الدائمة» .
الدياسبورا الدائمة
Permanent Diaspora(3/316)
«الدياسبورا الدائمة» مصطلح قمنا بصكه لنَصف وَضْع أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، فرغم كل الادعاءات الصهيونية، ورغم استخدام مصطلح «الدياسبورا» لوصف وضعهم، إلا أن غالبيتهم تؤثر البقاء خارج فلسطين في المَنْفَى. فالدياسبورا أو الشتات اليهودي مسألة طوعية وليست مسألة مرتبطة بعملية قسر خارجية. وحالة الدياسبورا أو الانتشار هي حالة دائمة بغض النظر عما يحدث في فلسطين. بل إن اتجاه بعض أعضاء الجماعات اليهودية إلى فلسطين للاستقرار فيها أحياناً، ينبع من حركيات لا علاقة لها بصهيون.
وفيما يلي جدول بأعداد أعضاء الجماعات اليهودية في فلسطين المحتلة والعالم، يدل على أن الدياسبورا حالة دائمة ونهائية بالفعل.
أعداد اليهود في فلسطين المحتلة والعالم
(سنة 1882 عددهم قي فلسطين 24000 نسبتهم ليهود العالم 0.3%) (سنة1900 عددهم قي فلسطين 50000 نسبتهم ليهود العالم 0.5%) (سنة 1925 عددهم قي فلسطين 122000 نسبتهم ليهود العالم 0.8%) (سنة 1940 عددهم قي فلسطين 467000 نسبتهم ليهود العالم 2.8%) (سنة 1948 عددهم قي فلسطين 650000 نسبتهم ليهود العالم 5.7%) (سنة 1951 عددهم قي فلسطين 1404000 نسبتهم ليهود العالم 12.2%) (سنة 1965 عددهم قي فلسطين 2299000 نسبتهم ليهود العالم 17.1%) (سنة 1975 عددهم قي فلسطين 2959000 نسبتهم ليهود العالم 20.9%) (سنة 1980 عددهم قي فلسطين 3282700نسبتهم ليهود العالم 25%) (سنة 1985 عددهم قي فلسطين 3510000 نسبتهم ليهود العالم 27 (%
أي أن رُبع الشعب اليهودي وحسب قرر الاستيطان في فلسطين، الأمر الذي يعني أن أغلبيته الساحقة آثرت العيش في «المَنْفَى» ،رغم أن الدولة الصهيونية فتحت أبوابها على مصراعيها أمامهم.
كل هذا يعني في واقع الأمر أن المنفى ليس بمَنْفَى، وأن أرض الميعاد والعودة ليست أرض الميعاد أو العودة رغم كل الادعاءات الصهيونية.
الدياسبورا الإلكترونية
Electronic Diaspora(3/317)
«الدياسبورا الإلكترونية» مُصطلَح صهيوني جديد ظهر مؤخراً يعبِّر عن أن المؤسسة الصهيونية قد قبلت الدياسبورا كحالة نهائية، ولذا بدلاً من مطالبة أعضاء الجماعات اليهودية في العالم بأن يهاجروا إلى إسرائيل ويستوطنوا فيها، وبدلاً من النظر إليهم باعتبارهم " خونة " لعدم " عودتهم " إلى إسرائيل، تقبل الحركة الصهيونية بقاء يهود العالم في أوطانهم وتحاول أن تربط الخبراء والفنيين منهم بمستقبل إسرائيل بحيث يساهمون في تقدُّم إسرائيل العلمي بخاصة في مجال الإلكترونيات، وعلى أن تطوِّر إسرائيل شبكة للتعاون الإلكتروني يتحكم فيها يهود العالم تحت إشراف إسرائيل.
وهذا التصوُّر تعبير عن اليأس الصهيوني من "عودة" اليهود، ولعل هذا يُفسِّر نغمته البروتوكولية (يهود العالم - الدولة الصهيونية - شبكة إلكترونية يهودية.. إلخ) .
الجزء الثاني: يهود أم جماعات يهودية؟
الباب الأول: الجماعات اليهودية الأساسية
الجماعات اليهودية الأساسية
Major Jewish Communities
«الجماعات اليهودية الأساسية» هي الجماعات اليهودية التي يؤمن أعضاؤها باليهودية الحاخامية. وتعيش هذه الجماعات أساساً في العالم الغربي والعالم الإسلامي. وقد انقسمت هذه الجماعات على أساس قومي (فرنسي ـ أمريكي ـ إنجليزي) ، أو على أساس ديني (إصلاحي ـ محافظ ـ لاديني ... إلخ) ، أو على أساس إثني (يهودي إثني ـ يهودي غير يهودي.. إلخ) . ونحن نضع الجماعات اليهودية الأساسية مقابل الجماعات المنقرضة (مثل الخَزَر) أو الهامشية (مثل يهود الهند) .
«سفارد وإشكناز» كمرادفين لمصطلحي «يهود شرقيون ويهود غربيون»
Sephardim and Ashkenazim as Synonymous with Oriental and Western Jews(3/318)
شاع في الدراسات العربية استخدام مصطلحي «إشكناز» و «سفارد» باعتبارهما مرادفين لمصطلحي «يهود غربيون» و «يهود شرقيون» . وفي الدولة الصهيونية، تُستخدَم عبارة «عيدوت مزراحي» للإشارة إلى الجماعات الشرقية بأسرها بغض النظر عن انتمائها الديني أو الإثني، وهو استخدام غير دقيق في تَصوُّرنا ويطمس كثيراً من معالم التجمع الصهيوني التي لابد من رصدها.
لقد تكونت الدولة الصهيونية عند إنشائها من أعضاء ينتمون إلى جماعات يهودية كثيرة. ولتبسيط الأمر قليلاً، يمكن تقسيمهم إلى قسمين أساسيين:
1 ـ اليهود الغربيون: وهؤلاء هم اليهود الذين ينتمون حضارياً إلى العالم الغربي بغض النظر عن أصولهم سواء أكانت إشكنازية أم سفاردية. ومن ثم يُشار إلى جميع المهاجرين من أمريكا أو من الاتحاد السوفيتي بأنهم «غربيون» ، وقد يُضم إليهم يهود من جورجيا وسفارد من هولندا.
2 ـ يهود شرقيون: وهؤلاء يضمون يهود الشرق والعالم الإسلامي والعربي، والجماعات اليهودية المتفرقة.
ومضمون المصطلحين ثقافي، فيهود جنوب أفريقيا يُعتبَرون غربيين نظراً لانتمائهم إلى الجيب الاستيطاني الأبيض.
ولكن يبدو أن الأدبيات الصهيونية تُؤْثر استخدام مصطلحي «سفاردي» وإشكنازي» على «شرقي» و «غربي» ، وذلك للأسباب التالية:
1 ـ كلمتا «شرقي» و «غربي» كلمتان عامتان، أما مصطلحا «سفاردي» و «إشكنازي» فهما خاصان ومقصوران على اليهود، كما أنهما مأخوذان من تراثهم اللغوي والديني. والحديث عن «سفارد» و «إشكناز» هو حديث عن «يهود في يهود» أما الحديث عن «شرقيين» و «غربيين» فيشير إلى اختلافات حضارية حقيقية وعميقة تتجاوز الإطار المرجعي اليهودي.
2 ـ كلمتا «سفارد» و «إشكناز» ليس لهما حدود دلالية واضحة، بل متداخلتان، الأمر الذي يجعل استخدامهما كأدوات تحليلية أمراً صعباً.(3/319)
3 ـ وهذا التَرادُف التصنيفي الخاطئ، «شرقي» و «سفاردي» من جهة و «غربي» و «إشكنازي» من جهة أخرى، يعود إلى الرغبة المتزايدة في التصنيفات الثنائية (سالب وموجب ـ ذكر وأنثى ـ نعم ولا ـ أبيض وأسود) المرتبطة بتَغلغُل العقلية العلمية المادية. لكن الجنوح نحو التصنيف الثنائي يخدم الصهاينة بشكل خاص، فهو يستبعد عشرات الجماعات اليهودية التي لا ينتمي أعضاؤها إلى أيٍّ من الفريقين، مثل الفلاشاه وبني إسرائيل، ويُبسِّط الأمر تماماً، فيصبح اليهود جماعتين إثنيتين كلٌّ منهما تشبه الأخرى في نهاية الأمر. أما إذا أخذنا بتصنيف تَعدُّدي ثلاثي أو رباعي أو خماسي، أو بتصنيف يَتعدَّد بعدد الجماعات اليهودية في العالم فسيُمكننا إدراك التنوع، وهذا ما يحققه مصطلحا «شرقي» و «غربي» . فرغم أن هذا التصنيف ثنائي أيضاً فإنه ليس مغلقاً وإنما هو تصنيف مفتوح، فكلمة «شرقي» تشير إلى عشرات التشكيلات الحضارية الفعلية والممكنة، وكذا كلمة «غربي» .(3/320)
4 ـ يُلاحَظ أن مصطلحي «سفارد» و «إشكناز» يصلحان إلى حدٍّ كبير لتصنيف يهود العالم الغربي، وبالتالي يمكن استخدامهما إذا كان اليهود داخل التشكيل الحضاري الغربي هم موضوع النقاش. ولذا، فحينما يتناول الدارس تاريخ الجماعة اليهودية في إنجلترا مثلاً، فبإمكانه أن يتحدث عن النخبة السفاردية والجماهير الإشكنازية (اليديشية) حتى أواخر القرن التاسع عشر. وينطبق الشيء نفسه على يهود هولندا وفرنسا وهكذا. والمصطلحان يستبعدان الجماعات اليهودية الأخرى في العالم كافةً، ولا غضاضة في هذا مادام مجال النقاش هو يهود الغرب. ولكن الصورة تتغيَّر إذا كان منظور التحليل هو العالم. وقد أصبح هذا هو الأمر الغالب بعد ظهور المنظمة الصهيونية التي تعطي نفسها صورة العالمية، وتَدَّعي الحديث باسم كل يهود العالم، وتجعل العالم كله ساحتها. عندئذ يصبح مصطلحا «سفارد» و «إشكناز» قاصرين عن تناول الظاهرة. وهنا، فلابد من استخدام مصطلحي «شرقي» و «غربي» للوصول إلى أعلى مستوى تعميمي، مع استخدام عدد آخر من المصطلحات إن أراد الباحث تناول الجماعات اليهودية على مستوى أكثر تخصيصاً. فاليهودية الغربية، أو الجماعات اليهودية في الغرب، لم تَعُد الإطار المرجعي الوحيد. وهذا التحول في مجال النقاش، من يهود الغرب إلى يهود العالم، هو ما أدَّى إلى تَداخُل المصطلحين وحدوث الخلل الذي نحاول تحاشيه.(3/321)
5 ـ كان مصطلحا «سفارد» و «إشكناز» صالحين بصفتهما أداتين تحليليتين حتى القرن التاسع عشر. ولكن، مع ظهور الدولة القومية الحديثة، واتساع نطاق الثورة العلمانية، لم يَعُد الانتماء الديني الإثني هو محك الهوية، وبدأ يهود الغرب يُصنِّفون أنفسهم بناء على انتمائهم القومي؛ فهذا يهودي إنجليزي وذلك يهودي هولندي، وهلم جرا. أما على الأساس الديني فهم يهود إصلاحيون أو محافظون أو أرثوذكس أو إلحاديون وعلى مستوى الهوية يمكن تصنيفهم على أنهم يهود إثنيون أو إندماجيون أو يهود غير يهود ... إلخ. وهكذا ضمر الانتماء السفاردي أو الإشكنازي، ولم يَعُد المصطلحان صالحين.
لكل هذا، فإننا نستخدم هنا مصطلحي «سفارد» و «إشكناز» حين يكون موضوع النقاش هو يهود الغرب حتى منتصف القرن التاسع عشر، أو حينما نود الإشارة إلى السفارد أو الإشكناز بالمعنى المحدد. وفيما عدا ذلك، فإننا نستخدم مصطلحي «شرقي» و «غربي» ، فهما مصطلحان عامان يغطيان كل التنويعات والهويات اليهودية المختلفة. كما أننا نستخدم مصطلحات أكثر تحدُّداً، مثل: يهود البلاد العربية والإسلامية، أو يهود اليديشية، أو يهود بني إسرائيل، أو يهود الفلاشاه. كما نستخدم مصطلح «الجماعات اليهودية» في صيغة الجمع ثم نشير، على سبيل المثال، إلى الجماعة اليهودية في هولندا في القرن التاسع عشر (مثلاً) من باب التخصيص المكاني والزماني.
السفارد
Sephardim(3/322)
«سفارد» مصطلح مأخوذ من الأصل العبري «سفارديم» . ويُشار إلى السفارد أيضاً بكلمة «إسبانيولي» ، وباليديشية بكلمة «فرانك» التي تشبه قولنا بالعربية «الفرنجة» (ومن هنا تسمية جيكوب فرانك، أي جيكوب السفاردي) . و «سفارد» اسم مدينة في آسيا الصغرى تم ربطها بإسبانيا عن طريق الخطأ فتُرجمت الكلمة في الترجوم (الترجمة الآرامية لأسفار موسى الخمسة) إلى «إسباميا» ، و «سباميا» ، أما في البشيطا (الترجمة السريانية لأسفار موسى الخمسة) فهي «إسبانيا» . وابتداءً من القرن الثامن الميلادي، أصبحت كلمة «سفارد» هي الكلمة العبرية المستخدمة للإشارة إلى إسبانيا. وتُستخدَم الكلمة في الوقت الحاضر للإشارة إلى اليهود الذين عاشوا أصلاً في إسبانيا والبرتغال، مقابل الإشكناز الذين كانوا يعيشون في ألمانيا وفرنسا ومعظم أوربا. وقد استقر أعضاء الجماعة اليهودية في شبه جزيرة أيبريا في أيام الإمبراطورية الرومانية. ولكن أهم فترة في تاريخهم هي الفترة التي حكم فيها المسلمون شبه جزيرة أيبريا والتي يُشار إليها باسم «العصر الذهبي» . وكان أعضاء الجماعة اليهودية يتحدثون العربية في تلك الفترة، ويفكرون ويكتبون بها. ثم جاء الغزو المسيحي لشبه الجزيرة واستردادها، فاكتسب اليهود الصبغة الإسبانية وتحدثوا باللادينو، وهي لهجة إسبانية، ثم تم طردهم من إسبانيا عام 1492، ومن البرتغال عام 1497، فاتجهت أعداد منهم إلى الدولة العثمانية التي كانت تضم شبه جزيرة البلقان وشمال أفريقيا. ويُعَدُّ ميناء سالونيكا (في شبه الجزيرة اليونانية) عاصمة السفارد في العالم حتى الحرب العالمية الأولى، فقد كانت هذه المدينة تضم أغلبية سفاردية. ومن أهم المدن الأخرى التي استقر فيها السفارد في الدولة العثمانية: أدرنة والأستانة وصفد والقدس والقاهرة.(3/323)
وبعد قرن من الزمان، لحقت بجماعة السفارد جماعات المارانو، وهم من يهود السفارد المُتخفِّين (البرتغاليين) ، فاتجهت جماعات منهم إلى هولندا وفرنسا، كما اتجهت جماعات أخرى إلى أماكن أخرى في أوربا، مثل: إنجلترا وألمانيا وإيطاليا والدنمارك والنمسا والمجر، وإلى العالم الجديد (البرازيل والولايات المتحدة) ، حيث أعلنت أعداد منهم عن هويتهم الدينية ومارسوا العقيدة اليهودية بشكل علني. وكان المُبعَدون من السفارد إسبانيين أو برتغاليين في تراثهم وثقافتهم ولباسهم وطَهْوهم وأسمائهم، ولذا كان يُطلَق عليهم اسم «الأسبان» أو «البرتغاليون» . وقد احتفظ هؤلاء المُبعَدون بعلاقاتهم الثقافية بوطنهم الأصلي، حيث كانوا معتزين بهذا التراث وبالمكانة العالية التي حققوها في هذه البلاد.
وقد ظهر في صفوف السفارد عدد كبير من المفكرين مثل أورييل داكوستا. وليس من قبيل الصدفة أن أول مفكر يهودي يُعتَدُّ به في العصر الحديث كان سفاردي الأصل، وهو إسبينوزا. كما أن قبَّالاة الزوهار، وكذلك القبَّالاه اللوريانية التي اكتسحت أوربا الإشكنازية، كانت من أصل سفاردي، وكذا الشولحان عاروخ، أهم المصنفات الفقهية اليهودية، حيث وضعه يوسف كارو. وكان شبتاي تسفي (الماشيَّح الدجال) من أصل سفاردي أيضاً، أي أن كل التطورات التي حدثت بين الجماعات اليهودية في هذه الفترة كانت ذات أصول سفاردية.(3/324)
وقد كان السفارد يُصرّون على الاحتفاظ بمسافة بينهم وبين الإشكناز، الذين كانوا يتسمون بقدر كبير من العزلة والتخلف الحضاريين. وأخذت هذه المسافة شكل مؤسسات دينية وتعليمية مستقلة، ورفض الزواج المُختلَط من الإشكناز، حتى أن السفاردي الذي يتزوج من إشكنازية كان يُطرَد من الجماعة السفاردية ولا يُدفَن في مدافنها. وحينما كانت الجماعة السفاردية تضطر إلى السماح لبعض الإشكناز بحضور الصلوات في معبدها، فإن أعضاءها كانوا يصلون وراء حاجز خشبي يُقام بهدف الفصل بين أعضاء الجماعتين. وحينما كانت أية جماعة سفاردية تهاجر إلى أية مدينة، فإنها كانت تحتفظ باستقلالها وبإحساسها بتَفوُّقها وتَفوُّق قيمها، حتى أنها كانت تصبغ بقية الجماعة بصبغة سفاردية. هذا ما حدث على سبيل المثال في الدولة العثمانية، حين امتزج اليهود الروم (الرومانيوت) واليهود المستعربة باليهود السفارد، فأصبحت اللادينو هي اللغة السائدة بينهم. وقد حدث الشيء نفسه في شمال أفريقيا.(3/325)
وفي العصر الحديث، كانت الهجرة اليهودية في الغرب تأخذ الشكل التالي: يستقر أعضاء جماعة سفاردية تمتلك من الخبرات ورؤوس الأموال والاتصالات الدولية ما يجعل منها جماعة تجارية إدارية متقدمة، ثم تأتي الجماهير الإشكنازية وتلحق بهم، وكان السفارد يشغلون في معظم الأحيان قمة الهرم. ولذا، لعب السفارد دوراً مهماً في تَطوُّر الرأسمالية الغربية وبروز النظام الاقتصادي الجديد (في العالم) واتساع نطاق حركة الاكتشافات الجغرافية. وقد بدأ السفارد يستثمرون في كثير من المشروعات الاستعمارية الهولندية، فامتلكوا عدداً كبيراً من أسهم شركة الهند الغربية الهولندية. في حين ظل الإشكناز على هامش هذا التطور، فكان منهم صغار التجار وكان منهم المرابون المرتبطون بالنظام الاقتصادي القديم. ولعل هذا يُفسِّر بقاء المسألة اليهودية مسألة إشكنازية بالدرجة الأولى. ففي فرنسا مثلاً، اصطدم النظام الجديد بعد الثورة بيهود الألزاس واللورين، وهم من يهود اليديشية الإشكناز، بينما لم تَحدُث أية مواجهة بين هذا النظام وبين يهود بايون وبوردو من السفارد. وفي إنجلترا، لم تكن هناك مسألة يهودية إلا بعد هجرة يهود اليديشية بجحافلهم المتخلفة إليها.(3/326)
وقد حقق السفارد بروزاً غير عادي في المجتمعات الغربية خصوصاً هولندا. وكان منهم أعداد كبيرة من يهود البلاط. كما اشتركوا في تمويل بعض الشركات الاستيطانية. وقد بلغ اليهود السفارد قمة نفوذهم المالي في نهاية القرن السابع عشر. ولكن وَضْعَهم أخذ في التدهور بعد ذلك التاريخ، وذلك مع ظهور القوة البريطانية وانكماش القوة الهولندية، ومع تَزايُد حجم التجارة الدولية التي لم يتمكن رأس المال السفاردي من استيعابها، ومع ظهور بورجوازيات محلية حلت محل يهود البلاط. وقد أدَّى وصول قوات الثورة الفرنسية إلى هولندا إلى قطع علاقة أعضاء الجماعات اليهودية فيها بالشبكة التجارية اليهودية في ألمانيا وبولندا والدولة العثمانية، ومن ثم فَقَد السفارد ما تَبقَّى لهم من قوة وثروة، وحدث التراجع الذي رجَّح كفة الإشكناز.(3/327)
والجدير بالذكر أن عبرية السفارد مختلفة عن عبرية الإشكناز. وهذا يعود إلى أن يهود العالم العربي كانوا منذ أيام الأندلس لا يتحدثون إلا العربية، واقتصر استخدام العبرية على الكتابة الدينية المتخصصة. وقد كان لاحتكاك اليهود بالعرب أثر عميق في لغتهم، فقد ازدادت عبريتهم فصاحة بمجاورتها اللغة العربية التي تُعدُّ أرقى لغات المجموعة السامية كلها. وقد تَرتَّب على ذلك أن دولة إسرائيل، التي قامت على أكتاف الإشكناز، وجدت نفسها رغم كل شيء مُضطرَّة إلى اعتبار عبرية السفارد هي لغة المسرح الرسمية وكذلك لغة الإذاعة والتعليم في الجامعات والمدارس. وقد اضطر المؤلفون في الأدب العبري الحديث، أو العاملون في مجال الدراسات اللغوية، حتى وإن كانوا من الإشكناز، إلى الخضوع المُطلَق للسان السفارد. ولكن هذا لا ينفي أن هناك مزيجاً لغوياً في جبهة السفارد ذاتها، فبعضهم (مثل المارانو) يتحدث اللادينو أو البرتغالية، أما البعض الآخر فيتحدث اليونانية أو التركية وهم أقلية. وقد انعكس هذا التباين اللغوي على طريقة نطقهم للعبرية. بل إن هذا التباين يمكن ملاحظته في نُطْق العبرية بين اليهود الذين يتحدثون اللغة نفسها، فثمة سمات محلية في النطق أصبحت تُميِّز اليهودي العراقي عن اليهودي اليمني أو المغربي، ليست نتيجة احتكاكه باللغة العربية الفصحى وحسب بل ونتيجة احتكاكه العميق باللهجة التي يتحدث بها مواطنو بلده. وفي الوقت الحاضر، بدأ السفارد يتحدثون (أساساً) لغة البلاد التي يتواجدون فيها.(3/328)
ولا يوجد اختلاف جوهري بين السفارد والإشكناز في العقائد، فكلاهما يعتبر أن التلمود البابلي هو المرجع النهائي. ومع هذا، كان ليهود إسبانيا طريقتهم الخاصة في الصلاة وإقامة الشعائر الدينية التي تُعَدُّ استمراراً للتقاليد الدينية اليهودية التي نشأت وتطورت في بابل. أما الإشكناز، فتعود عبادتهم أساساً إلى أصول يهودية فلسطينية. وقد تعمَّقت الفروق بين الفريقين نتيجة تأثر السفارد في عبادتهم وتلاوتهم وترتيلهم وإنشادهم بالذوق العربي، كما انفردوا بنصوص شعرية ونثرية في أدعيتهم وصلواتهم قريبة الشبه بما يماثلها عند المسلمين.
ويُلاحَظ أن السفارد، بسبب مستواهم الثقافي العالي، كانوا أكثر تَسامُحاً وأوسع أفقاً. ومن هنا نجد أن الشولحان عاروخ (المُصنَّف التشريعي الذي وضعه كارو السفاردي) أكثر ليبرالية من تلك الرؤية التي سادت بين الإشكناز عند صدوره. وهناك اختلافات بين السفارد والإشكناز تعود إلى اختلاف البيئات الحضارية التي عاش في كنفها أعضاء الجماعات اليهودية السفاردية والإشكنازية. ففي عيد الفصح، يستخدم السفارد الخس باعتباره أحد الأعشاب المُرَّة التي تُؤكل في هذه المناسبة بدلاً من الفجل الحار. أما الصلوات في المعبد، فهي مختلفة في كثير من النواحي السطحية، وعلى سبيل المثال، يرفع السفارد مخطوطة التوراة قبل قراءتها على خلاف الإشكناز الذين يفعلون ذلك بعدها. كما أن الخط المستخدم في كتابة المخطوطة مختلف. وكذلك، فإن معمار المعبد السفاردي يختلف، في بعض التفاصيل، عن معمار المعبد الإشكنازي.
وتختلف المصطلحات الدينية بين الإشكناز والسفارد على النحو التالي:
(المصطلح: صلاة العشاء- يقابلها عند السفاردي: عربت - ويقابلها عند الأشكنازي: معاريف)
(المصطلح: تابوت العهد - يقابلها عند السفاردي: هيكل - ويقابلها عند الأشكنازي: آرون)(3/329)
(المصطلح: صلاة عيد الفصح - يقابلها عند السفاردي: هاجاداه - ويقابلها عند الأشكنازي: سيدر (
(المصطلح: يوم الغفران - يقابلها عند السفاردي: كيبور - ويقابلها عند الأشكنازي: يوم كيبور (
(المصطلح: حاخام - يقابلها عند السفاردي: ربي / راف - ويقابلها عند الأشكنازي: راباي (
(المصطلح: كتاب صلاة - يقابلها عند السفاردي: تيفيلوت - ويقابلها عند الأشكنازي: سيدور (
وبسبب هذه الاختلافات وغيرها، اكتسب مصطلح «سفارد» دلالة دينية إلى جانب دلالته الإثنية الأصلية، وأصبح يُطلَق على كل اليهود الذين يتبعون التقاليد السفاردية في العبادة سواء أكان أصلهم يعود إلى شبه جزيرة أيبريا أم يعود إلى غير ذلك.
ويُطلَق المصطلح الآن على كل اليهود الذين لا ينتمون إلى أصل إشكنازي غربي في التجمع الإسرائيلي. ولكن مما يثير بعض المشاكل في التصنيف أن الحسيديين، وهم من الإشكناز، اقتبسوا كثيراً من التقاليد والطقوس السفاردية، كما أن بعض اليهود الهولنديين والإنجليز يتبعون التقاليد السفاردية في العبادة. ولذا، فحينما نتحدث عن سكان التجمع الصهيوني من اليهود نقول: «اليهود الإشكناز» و «اليهود السفارد» ، و «يهود البلاد الإسلامية» ، أو نقول: «يهود شرقيون» و «يهود غربيون» بدلاً من «سفارد» و «إشكناز» حتى لا نَسقُط في التصنيفات الثنائية البسيطة والسهلة التي تُشوِّه الواقع.(3/330)
وقد تَدهَور وضع اليهود السفارد، كما أسلفنا، بعد أن كانوا الأكثر عدداً والأعلى مكانة والأكثر ثقافة. ففي العصور الوسطى، كانوا يشكلون نصف يهود العالم، وكانوا على احتكاك بمؤسسات صنع القرار في بلادهمـ، كما كانوا يشتغلون بالشئون المالية المتقدمة. ولكن، ابتداءً من القرن السابع عشر، بدأ صعود الإشكناز عددياً ثم ثقافياً. ورغم وجود أقليات سفاردية مهمة في لندن وأمستردام حتى القرن التاسع عشر، زاد المد الإشكنازي وغطى الانفجار السكاني في صفوفهم على السفارد تماماً. ومع الحرب العالمية الثانية، كان يهود العالم يبلغون 16.500.000، منهم 15 مليون إشكنازي، والباقي سفارد بالمعنىين الديني والعرْقي. وتُوجَد أغلبية السفارد في شمال أفريقيا (ما بين 250 ألفاً إلى 300 ألف) وأوربا (250 ألفاً) . كما كان هناك عدد كبير في أمريكا اللاتينية (120 ألفاً) ، وتركيا (73 ألفاً) ، وفلسطين (47 ألفاً) ، وتَوزَّع الباقي على ثلاث دول أخرى. لكن هذه الأرقام غير دقيقة، كما أنها تضم اليهود المستعربة ضمن السفارد، وكذلك أعضاء الجماعات اليهودية الأخرى (مثل الفلاشاه وبني إسرائيل والدونمه (.
وقد أدَّت تَقلُّبات القرن العشرين، من تحديث في اليونان والدولة العثمانية، وحروب بين اليونان وتركيا، إلى تشتيتهم من مراكز تَجمُّعهم الأساسية، لا سيما وأن عاصمتهم سالونيكا كانت مدينة تركية في شبه الجزيرة اليونانية. وقد تم إخلاء سكانها وتهجيرهم إلى تركيا، وضمن ذلك اليهود، باعتبارهم أتراكاً، خصوصاً وأن نسبة كبيرة من سفارد سالونيكا كانوا من الدونمه، أي من اليهود المتخفين الذين أظهروا الإسلام، ولذلك تم تصنيفهم باعتبارهم مسلمين. وهاجرت أعداد كبيرة منهم إلى أوربا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية حيث كان الجو الحضاري اللاتيني مواتياً لهم.(3/331)
وقد انعكس الانقسام بين السفارد والإشكناز على الجماعة اليهودية في فلسطين، إذ كانت هذه الجماعة تنقسم بدورها إلى إشكناز وسفارد، ولكل جماعة حاخام خاص بها. وقد ارتبط اليهود غير الغربيين (المغاربة والمستعربة) بالحاخامية السفاردية، ومن هنا كان اختلاط المجال الدلالي للكلمة بحيث أصبحت تشير إلى كل من ليس بإشكناز. وكانت السلطات الإنجليزية تُفضِّل السفارد واليهود المستعربة على الإشكناز، نظراً لأن الفريق الأول كان يعرف تقاليد فلسطين أكثر من الوافدين الجدد.
وإذا كانت المسألة اليهودية مسألة إشكنازية، فإن الصهيونية أيضاً ظاهرة إشكنازية. والواقع أن كل مفكري الصهيونية، بدون استثناء، إشكناز. وربما كان الاستثناء الوحيد هو الحاخام القلعي الذي تنبع صهيونيته من رؤاه القبَّالية، وكان يعيش في أطراف الدولة العثمانية (في شبه جزيرة البلقان) . وقد كانت الصهيونية إشكنازية لدرجة أن كلمة «يهودي» في الأدبيات الصهيونية الأولى كانت مرادفة لكلمة «إشكنازي» بمعنى «يديشي» . كما أن المشروع الصهيوني كان مشروعاً غربياً لحماية مصالح الغرب في الشرق. ولكن بعد تأسيس الدولة، هاجر الألوف من يهود الشرق إليها، الأمر الذي أدَّى إلى زيادة العنصر غير الإشكنازي في الدولة. وقد أعطاها هذا الطابع الذي يُقال له «سفاردي أو شرقي» .(3/332)
وتتسم العلاقات في المُستوطَن الصهيوني بين الشرقيين والسفارد من جهة، والإشكناز من جهة أخرى، بالتوتر الشديد، فيشير الإشكناز للشرقيين بوصفهم «شفارتز» (أي «سود» أو «شحوريم» ، مع تحميل الكلمة إيحاءات قدحية) ، وهناك مَثَل يديشي يقول " فرانك كرانك "، أي «السفارد مرض» ، والرد الشرقي السفاردي هو الإشارة إلى «الإشكي نازي» بكل تداعيات الكلمة في الذهن الإسرائيلي. ويبدو أن التمييز العنصري مستمر بالنسبة لأبناء اليهود الشرقييبن ممن وُلدوا ونشأوا في إسرائيل. وقد اتضح هذا في النظام الحزبي في إسرائيل، فقد ظهرت فيه الأحزاب الإثنية بعد إعلان الدولة الصهيونية، وقد أعلن الصهاينة حينذاك أن هذا أمر مؤقت وأن الصهيونية (أي القومية اليهودية) ستصهر الجميع في بوتقة واحدة. ولكن ظهر في التسعينيات أحزاب تعبِّر عن الانقسام الإثني فيضم حزب شاس (الديني) اليهود السفارد، أما حزب إسرائيل بعالياه (العلماني) فيضم المهاجرين السوفييت.
الإشكناز
Ashkenazim
«الإشكناز» من «إشكنازيم» العبرية. و «الإشكناز» هم يهود فرنسا وألمانيا وبولندا. و «إشكناز» ، حسب الرواية التوراتية، اسم أحد أحفاد نوح. ومن المحتمل أن تكون الكلمة قد استُخدمت للإشارة إلى قبيلة ظهرت في زمن أسرحدون تَحالَف أعضاؤها مع آشور. وهم الذين تشير إلىهم المدونات الآشورية في القرن السابع قبل الميلاد بلفظ «إشوكوزا» ، وهم الذين أشار إليهم اليونانيون بكلمة «إسكيثيانز Scythians» وهم الإسكيثيون. ويبدو أن هذه الأقوام كانت تشغل المنطقة الموجودة على حدود أرمينيا في أعالي الفرات، وجزءاً من مملكة الميديين. ويقرن يوسيفوس كلمة «إشكناز» بمدينة في مركز ميديا. وفي بعض الكتابات الحاخامية، يُشار إلى آسيا بأسرها باعتبارها «إشكناز» ، كما كان يُشار إلى الخَزَر باعتبارهم «إشكناز» ، بل واستُخدمت الكلمة للإشارة إلى حملات الفرنجة.(3/333)
أما الاشتقاق الحالي لكلمة «الإشكناز» ، فهو من كلمة «إشكناز» بمعنى «ألمانيا» . ومن الصعب معرفة متى حدث هذا التَرادُف. وثمة آراء احتمالية عدة، فهناك من يربط بين إشكناز وإسكندنافيا، وهناك من يربط بينها وبين الساكسون ومن ثم بينها وبين ألمانيا. ومع زمن راشي، أصبح هذا الترادف أمراً مقبولاً تماماً، فهو يشير إلى «لشون إشكناز» ، أي «اللسان الألماني» أو «اللغة الألمانية» . وكان يشير إلى «إرتس إشكناز» أي «أرض ألمانيا» . ومن هنا، أصبح المصطلح يشير إلى يهود فرنسا وألمانيا ونسلهم من اليهود الذين هاجروا إلى إنجلترا وشرق أوربا (بولندا وليتوانيا) بعد حروب الفرنجة. ويطرح آرثر كوستلر نظرية أخرى عن أصل أكبر كتلة بشرية إشكنازية (أي يهود بولندا) ، فيرى أن الجماعات اليهودية في فرنسا وألمانيا قد أبيدت تماماً أو اختفت، وأن يهود بولندا هم في الواقع بقايا يهود الخزر الذين نزحوا عن أراضيهم بعد سقوط دولتهم وأسسوا دولة المجر ثم هاجروا منها إلى بولندا. وبالتالي، فإن الإشكناز عنصر تركي غير سامي.
وقد انتشر الإشكناز من بولندا إلى أوربا، خصوصاً بعد هجمات شميلنكي في أوكرانيا (1648) ، فاستقرت أعداد منهم في بولندا وألمانيا وإنجلترا والعالم الجديد. ثم هاجر الملايين منهم في نهاية القرن التاسع عشر إلى الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وأستراليا ونيوزيلندا، بعد الانفجار السكاني الذي حدث في صفوفهم. كما أنهم توجهوا إلى آسيا وأفريقيا مع حركة التوسع الإمبريالي. ولما كان يهود شرق أوربا هم أهم كتلة بشرية يهودية، فقد ارتبط المصطلح بهم، ولكننا نُفضِّل أن نشير إلى هؤلاء باعتبارهم «يهود اليديشية» .(3/334)
وتُذكَر كلمة «إشكناز» عادةً مقابل «سفارد» ، وبالتالي أصبحت كلمة «إشكناز» مرادفة لمعنى «غربي» وأصبحت «سفاردي» بمعنى «شرقي» ، وهو تَرادُف خاطئ لأن كثيراً من يهود الشرق (يهود الفلاشاه وبني إسرائيل) ليسوا من السفارد، ولا علاقة لهم بالتراث السفاردي الإثني أو الديني. ولكن هذا الترادف التصنيفي الخاطئ ربما يعود إلى الرغبة المتزايدة في التصنيفات الثنائية (مثل: سالب وموجب ـ ذكر وأنثى) ، وإلى جَعْل مرجعية اليهود الوحيدة والأساسية هي تراثهم، ومحاولة رؤيتهم داخل إطار يهودي مُوحَّد، وهو أمر يصبح صعباً لو أخذنا بتصنيف تَعدُّدي ثلاثي يراعي وجود أقسام مختلفة من اليهود في العالم. ومما يزيد الأمور اختلاطاً، أن الحسيديين، وهم من أشد اليهود إشكنازيةً إن صح التعبير، تَبنَّوا بعض الممارسات الدينية السفاردية في محاولة لتأكيد استقلالهم عن المؤسسة الحاخامية الإشكنازية. ومع تَزايُد فقدان الجماعات اليهودية سماتها الخاصة، وتَزايُد اندماجها وتَحوُّل أعضائها إلى أمريكيين يهود أو فرنسيين يهود ... إلخ، يصبح من الأدق استخدام مصطلح «يهود غربيون» للإشارة لما يُسمَّى الآن «اليهود الإشكناز» .
وثمة اختلافات دينية غير جوهرية بين الإشكناز والسفارد تعود إلى اختلاف الأصول. فالإشكناز تَبنَّوا الصيغة الفلسطينية لليهودية، مقابل الصيغة البابلية التي تبناها السفارد. ومع أن كلا الفريقين تَبنَّى التلمود البابلي، في نهاية الأمر، مرجعاً وحيداً في الأمور الدينية والفقهية، فقد ظلت بعض نقط الاختلاف. فالسفارد، على سبيل المثال، يتسمون باتساع الأفق، أما الإشكناز فلم ينفتحوا على الحضارات التي عاشوا بين ظهرانيها برغم تأثرهم بها، وانغلقوا على الكتاب المقدَّس والتلمود وعلى تفسير النصوص الجزئية. كذلك لم يحاول الإشكناز جَمْع الشريعة وتقنينها والتوصل إلى مبادئها العامة.(3/335)
والاختلافات بين السفارد والإشكناز في الأمور الدينية ليست عميقة، وقد حصرنا بعضها في مدخل السفارد. ولكن يُلاحَظ أن تأثير السفارد الفكري الديني في الإشكناز كان عميقاً. فرغم أن بدايات القبَّالاه إشكنازية، فإن تَحوُّلها إلى نسق متكامل في قبَّالاة الزوهار ثم القبَّالاه اللوريانية تم على يد السفارد، بل إن الفكر القبَّالي ذاته يكاد يكون فكراً سفاردياً، وهو الذي اكتسح الفكر الحاخامي الإشكنازي. كما أن أهم كتب الشريعة اليهودية (الشولحان عاروخ) كتاب سفاردي كتب عليه أحد الإشكناز شروحاً وتعليقات. وقد لاحَظ أحد المفكرين أثر الفكر المسيحي في الفكر الديني للإشكناز، فظاهرة الاستشهاد فيما يُعرَف بمصطلح «تقديس الاسم» (بالعبرية: «قيدوش هاشيم» ) هي ظاهرة إشكنازية لعلها جاءت نتيجة تأثير واقعة الصلب في المسيحية على اليهود. أما المارانية، وهي شكل من أشكال التَقية، فهي ظاهرة سفاردية. ويمكن ملاحظة تأثير الفكر المسيحي في الحسيدية أيضاً، على عكس الفكر السفاردي الذي تأثر في بعض جوانبه بالفكر الديني الإسلامي.
ومن الظواهر التي تستحق التسجيل أن المشيحانية (وهي المعبِّرة عن إحباط الجماهير) حركة إشكنازية بالدرجة الأولى رغم أن الفكر القبَّالي فكر سفاردي، ورغم أن شبتاي تسفي (أول ماشيَّح دجال في العصر الحديث) سفاردي. كما أن قيادة هذه الحركات انتقلت إلى الغرب بعد حركة شبتاي تسفي. فجيكوب فرانك إشكنازي (رغم تَبنِّيه بعض الأساليب السفاردية، ورغم أن أعداءه سموه «فرانك» ، أي السفاردي باليديشية) والحركة الحسيدية أيضاً حركة إشكنازية. ويُلاحَظ أيضاً أن الوضع تغيَّر بعد سنوات من التبعية للفكر السفاردي وبدأ الإشكناز في الإبداع في مجال الفكر الديني والدنيوي، فظهرت حركة التنوير في صفوفهم، كما ظهر بينهم علم اليهودية، وكذلك جميع الحركات الدينية في اليهودية الإصلاحية والمحافظة والأرثوذكسية والتجديدية.(3/336)
وكان معظم الإشكناز يتحدثون اليديشية التي اختفت بالتدريج مع عشرينيات هذا القرن، وبالتالي فهم يتحدثون في الوقت الحاضر لغة البلد الذي يوجدون فيه. ولغتهم الأساسية الآن هي الإنجليزية باعتبار أن أغلبيتهم تُوجَد ضمن التشكيل الاستعماري الاستيطاني الأنجلو ـ ساكسوني (الولايات المتحدة الأمريكية ـ كندا ـ أستراليا ـ جنوب أفريقيا) . والعبرية السائدة بين الإشكناز مختلفة عن عبرية السفارد حيث ينطقونها بطريقة مختلفة.
وكان أكثر من نصف يهود العالم، في العصور الوسطى وحتى بدايات القرن الثامن عشر، من السفارد ويهود العالم الإسلامي. ولكن، بعد ذلك التاريخ، أخذ الإشكناز في التَزايُد إلى أن حدث الانفجار السكاني في صفوفهم في القرن التاسع عشر وأصبحوا يشكلون نحو 90% من يهود العالم. ولا تزال نسبتهم عالية. ومع أنها قد هبطت قليلاً في الآونة الأخيرة، بسبب تَناقُص معدلات الإنجاب بينهم، فإن الأغلبية الساحقة من يهود العالم تظل إشكنازية (بمعنى: غربية) . كما أنهم نظراً لوجودهم في المجتمع الغربي، فإن لهم بروزاً عالمياً. ولذا، فإن معظم مشاهير اليهود الآن من الإشكناز، ابتداءً بأينشتاين ومروراً بكيسنجر وانتهاءً براكيل ويلش.(3/337)
ويُلاحَظ أن البناء الوظيفي والمهني للإشكناز مختلف عن بناء السفارد. فالإشكناز كانوا يقفون دائماً على هامش المجتمع الغربي، كشعب شاهد، ثم كأقنان بلاط ويهود بلاط ومرابين وتجار ووسطاء في النظام الإقطاعي، على عكس السفارد الذين كان بعضهم يضطلع بالوظائف الهامشية نفسها، ولكنهم كانوا أكثر اندماجاً في النظام الاقتصادي الجديد في الغرب باعتبارهم من كبار المموِّلين الذين ساهموا، في أمستردام وغيرها، في تأسيس بعض الشركات الرأسمالية الجديدة، كما استثمروا أموالهم في المشاريع الاستعمارية والاستيطانية. أما من الناحية الثقافية، فقد كان السفارد أقل انغلاقاً على المجتمع الغربي وأكثر استيعاباً لثقافته وأسلوب حياته على عكس الإشكناز. ولذلك، فإن المسألة اليهودية مسألة إشكنازية، لم تُوجَد إلا في البلاد التي تُوجَد فيها أقلية إشكنازية. وحينما وُجدت أقلية سفاردية وأخرى إشكنازية في بلد واحد، كما كان الحال في فرنسا، فإن السفارد كانوا يندمجون في الاقتصاد الجديد دون أن يصادفوا عقبات كثيرة، ودون أن يواجهوا مشكلة ازدواج الولاء. ولهذا، فحينما تَوجَّه نابليون لحل مشكلة يهود فرنسا، انصبت جُلَّ جهوده على حل مشكلة يهود الألزاس واللورين من الإشكناز، ولم يضم لهم يهود بوردو وبايون من السفارد.(3/338)
لكل ما تَقدَّم، نجد أن مصطلح «إشكناز» اكتسب دلالة حضارية وإثنية وعرْقية ودينية، وأصبح هذا المصطلح يشير إلى مركب إشكنازي من العناصر والعلاقات، وقد انعكس هذا على الوضع في فلسطين. وقدكان أعضاء اليشوف القديم (وهي مؤسسة دينية محضة) ينقسمون إلى إشكناز وسفارد، وهذا الانقسام لا يزال قائماً في إسرائيل، فهناك حاخامان يشرف كل منهما على الشئون الدينية لجماعته. وبشكل عام، كان السفارد يُبقون مسافة اجتماعية واسعة بينهم وبين الإشكناز، ويحاولون تأكيد نقط الاختلاف بين الفريقين. وقد كتب المفكر اليهودي السفاردي إسحق دي بنتو رسالة إلى فولتير يبين له فيها أن السفارد لا يتزاوجون مع الإشكناز، وأن لهم معابدهم المستقلة، وأن أزياء السفارد لا تختلف عن أزياء الأغيار على عكس الإشكناز، وأن أثرياء السفارد يتسمون بالتحضُّر ولا يختلفون عن الأغيار إلا في الدين. وختم دي بنتو خطابه بقوله: «لو تزوج سفاردي من إشكنازية، فإنه يفقد كل حقوقه ويُطرَد من المعبد اليهودي السفاردي ويُستبعَد تماماً من الجماعة السفاردية ولا يُدفَن في مدافنهم» . وفسَّر دي بنتو هذا الاختلاف على أساس عرْقي، فالإشكناز لا تجري في عروقهم دماء يهودية نقية، أما السفارد فهم من نسل كبار أسرة قبيلة يهودا الذين أرسلوا إلى إسبانيا أثناء التهجير البابلي.(3/339)
وإذا كانت المسألة اليهودية مسألة إشكنازية، فإن الحركة الصهيونية هي الأخرى حركة إشكنازية. بل إن جميع الظواهر اليهودية الحديثة تبلورت في صفوف الإشكناز، فالحسيدية نشأت في بولندا وانتشرت منها، والإصلاح الديني بدأ في ألمانيا وتبعه تزايد معدلات الاندماج والانصهار. وقد كان المؤتمر الصهيوني الأول يضم وفوداً إشكنازية بالدرجة الأولى. بل إن السفارد الذين حضروا، كانوا من بلاد أوربية مثل بلغاريا أو فرنسا. وظل الاستيطان الصهيوني (أساساً) استيطاناً إشكنازياً. ومن ناحية أخرى، فإن مصطلح «يهودي» كان يعني في الأدبيات الصهيونية الأولى «الإشكنازي» . ولا تزال النخبة الحاكمة في إسرائيل إشكنازية، كما أن المؤسسات الأساسية (مثل الكيبوتس) كلها إشكنازية. والواقع أن هذه المؤسسات تحاول أن تحافظ على توجه الدولة الإشكنازي، لكن العنصر اليهودي الإشكنازي في الدولة الصهيونية قد أصبح، مع ذلك، أقل من 50% بسبب هجرة اليهود السفارد واليهود الشرقيين. ويَتجلى التوتر الحاد، بين اليهود الشرقيين والسفارد من جهة والإشكناز من جهة أخرى، في إشارة الأولين إلى الآخرين باعتبارهم «أشكي نازي» . ويُقال إن الاهتمام المحموم، من جانب المؤسسة الحاكمة في إسرائيل، بالهجرة السوفيتية لا يعود إلى حاجة المُستوطَن الصهيوني إلى مادة بشرية قتالية وحسب وإنما إلى حاجته إلى مادة إشكنازية على وجه التحديد تُوازن العنصر الشرقي السفاردي، بعد أن انخفض عدد اليهود الغربيين في الدولة الصهيونية إلى أقل من النصف.
اليهود الغربيون
Western Jews(3/340)
«اليهود الغربيون» مصطلح يُستخدَم للإشارة إلى اليهود الذين هاجروا من العالم الغربي إلى إسرائيل. ولما كانت أغلبيتهم من الإشكناز، أي من يهود بولندا ذوي الأصول الألمانية، فإن مصطلح «اليهود الغربيون» أصبح مرادفاً لمصطلح «الإشكناز» . ولكن مصطلح «اليهود الغربيون» يظل (مقابل «اليهود الشرقيون» ) هو المصطلح الأدق والأشمل لأنه يشير إلى الانتماء العرْقي والحضاري والإثني لهؤلاء اليهود، في حين نجد أن مصطلح «الإشكناز» تداخله أبعاد دينية تطمس معالمه وتجعله أداة غير دقيقة. فيهود هولندا يُشار إليهم بلفظ «إشكناز» ، مع أن بعضهم يتبع التقاليد السفاردية في العبادة. وأغلبية اليهود الغربيين من يهود اليديشية (يهود شرق أوربا) ، إلا أنهم فقدوا هويتهم اليديشية هذه وأصبحت أغلبيتهم تتحدث الإنجليزية (في الولايات المتحدة وإنجلترا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا) وبقيتهم تتحدث لغات بلادهم. كما أن هناك جماعات من يهود الغرب، مثل: يهود اليونان (الرومانيوت أو الجريجوس) ، ويهود إيطاليا، ويهود جورجيا. لكن هؤلاء الغربيين لا ينتمون إلى التشكيل الإشكنازي (إن صح التعبير) من قريب أو بعيد. واليهود الغربيون في إسرائيل هم الأقلية العرْقية والحضارية المسيطرة على الحكومة والجيش والأحزاب والاقتصاد وعلى التوجه الحضاري العام، وهو ما يسبب حالة اغتراب شديدة لليهود الشرقيين، ويعمق الفوارق الاجتماعية. ويُلاحَظ أن مصطلح «اليهود الغربيون» مصطلح حضاري ثقافي، ومن ثم يُشار إلى يهود جنوب أفريقيا بوصفهم غربيين، مع أن أفريقيا جزء من الشرق.
اليهود الشرقيون
Oriental Jews(3/341)
«اليهود الشرقيون» مصطلح كان يُطلَق على نسل أولئك اليهود الذين اتجهوا، عندما غادروا فلسطين قديماً، إلى العراق وإيران وأفغانستان وشبه الجزيرة العربية ومصر وبلدان شمال أفريقيا، وعلى يهود القوزاق (يهود جورجيا والجبال) . ولكنه يشير الآن، في التجمع الاستيطاني الصهيوني، إلى اليهود الذين لا ينحدرون من أصل غربي، وقد أصبح لفظ «سفارد» مرادف للفظ «شرقيين» لأن معظم اليهود الشرقيين، في البلاد العربية على وجه الخصوص، يتبعون التقاليد السفاردية في العبادة. ولكن مصطلح «سفارد» غير دقيق، فبعض اليهود الغربيين في هولندا وإنجلترا وإيطاليا من السفارد. كما أن الحسيديين يتبعون بعض التقاليد السفاردية في العبادة. لذا، يجب أن نستخدم مصطلح اليهود الشرقيين باعتبار أنه الكل الذي يضم معظم السفارد كجزء، وهذا الكل يضم يهود الفلاشاه ويهود الهند وغيرهم، وباعتبار أن مصطلح اليهود الشرقيين ذو مضمون طبقي عرْقي ثقافي مُتعيِّن، على عكس مصطلح «سفارد» ذي المضمون الديني غير المُحدَّد. كما يُستخدَم مُصطلَح «اليهود الغربيون» للإشارة إلى كل يهود الغرب.(3/342)
ويبدو أن مصطلح «الشعب اليهودي» يستبعد هؤلاء الشرقيين على مستوى فعلي، وذلك بعد أن كان يستبعدهم اسماً وفعلاً في الماضي. فاليهود الشرقيون، وغيرهم من أعضاء الجماعات، يهود بشكل عام وأعضاء في «الشعب اليهودي» ماداموا في الخارج. ولكنهم حينما يصلون إلى إسرائيل، يصبحون مغاربة أو مصريين، وتتحدد مكانتهم الاجتماعية بل ووضعهم الطبقي حسب هذا التصنيف. ويلجأ بعض يهود المغرب العربي إلى ادعاء أنهم من أصل فرنسي حتى يُحسِّنوا صورتهم أمام الآخرين. وهذا يعني أن النقطة المرجعية لإدراكهم لأنفسهم ولغيرهم ليس الهوية اليهودية المجردة وإنما هويات يهودية مختلفة. ويُلاحَظ أن مصطلح «يهود شرقيون» مصطلح ذو بُعد حضاري ثقافي. ومن ثم، يُشار إلى يهود جنوب أفريقيا بأنهم غربيون نظراً لانتمائهم إلى تشكيل حضاري غربي هو الجيب الاستيطاني الأبيض في جنوب أفريقيا. وتُصِّر النخبة الحاكمة في الدولة الصهيونية على الطبيعة الغربية (الإشكنازية) للدولة. وقد صرح شاعر الصهيونية الأكبر نحمان بياليك، وهو إشكنازي من يهود اليديشية، بأنه يكره العرب لأنهم يُذكِّرونه باليهود الشرقيين. ولعل خوف النخبة الإشكنازية من العزلة الحضارية هو ما يدفعها إلى إثارة الحروب من آونة إلى أخرى في المنطقة حتى لا يندمج الشرقيون في المحيط الحضاري العربي، فهم في حقيقة الأمر، ينتمون حضارياً وعرْقياً إلى هذه المنطقة. ولو تَحقَّق مثل هذا الاندماج، لوجدت النخبة الحاكمة الإشكنازية نفسها في موضع الأقلية مرة أخرى، وهو الأمر الذي خططت هذه النخبة وأنفقت كل أيامها من أجل الهرب منه. وعلى كلٍّ، فقد تحولت الأغلبية الإشكنازية إلى أقلية عددية، ولكنها لا تزال تملك ناصية الأمور وتحتكر صنع القرار.(3/343)
وفي إطار هذا التصوُّر، يمكننا فهم الحملات الصهيونية التي وُجِّهت ضد الاتحاد السوفيتي (سابقاً) للسماح لليهود السوفييت بالهجرة، فهي محاولة من جانب الإشكناز لاستعادة التوازن العرْقي والحضاري داخل إسرائيل لصالحهم، خصوصاً أن الهجرة من أوربا قد توقفت، كما أن نسبة التوالد بين الشرقيين أعلى منها لدى الإشكناز. ولكن الهجرة من روسيا وأوكرانيا تثير من المشاكل أكثر مما تحل. فالمهاجرون الروس والأوكرانيون يُعامَلون معاملة خاصة لتشجيعهم، إذ أن هجرتهم غير عقائدية وتأتي في سياق بحثهم عن مكاسب اقتصادية لم يجدوها في وطنهم الأم. لكن هذه المعاملة الخاصة تثير حفيظة الشرقيين، وتُصعِّد حدة التناقض بين «الأمتين» (وهو المصطلح المُستخدم في إسرائيل للإشارة إلى الإشكناز من جهة وغير الإشكناز [من السفارد والشرقيين] من جهة أخرى) . ويُقال إن علم الاجتماع الإسرائيلي يُؤثر، في الوقت الحالي، استخدام هذا المصطلح باعتباره مصطلحاً تحليلياً وصفياً للوضع القائم في إسرائيل. وتوجد أحزاب سياسية وقوائم انتخابية في المُستوطَن الصهيوني تحاول جميعاً تمثيل مصالح اليهود الشرقيين، ومن بين هذه القوى حزب تامي وحزب شاس الديني.
ورغم أن اليهود الشرقيين يشكلون أقلية بين يهود العالم (كانت لا تتجاوز 10% عند بدء الحركة الصهيونية في نهاية القرن الماضي) إلا أن عددهم يزيد عن 55% بسبب تدفقهم على الدولة الصهيونية وازدياد معدل الزيادة الطبيعية.
اليهود المستعربة
Arabized Jews(3/344)
«اليهود المستعربة» هم يهود البلاد العربية الذين اكتسبوا خصائص الحضارة العربية فأصبحوا عرباً، وهم أغلبية يهود العالم العربي، ولا سيما قبل دخول الاستعمار الغربي الذي فرنج عدداً منهم. وهم يُسمَّون خطأ «السفارد» . والواقع أن كثيراً منهم يتبع المنهاج السفاردي في العبادة، ولكن هذا لا يجعلهم من السفارد بالمعنى الإثني، الذي لا ينطبق إلا على اليهود الذين خرجوا من إسبانيا والذين ينتمون إلى أولئك الذين كانوا يتحدثون اللادينو ومنهم المارانو (أو البرتغاليون) . واليهود المستعربة جزء ممن نُطلق عليهم الآن مصطلح «يهود الشرق
الصابرا: جيل ما قبل عام 1967
Sabra: Pre 1967 Generation(3/345)
«صابرا» كلمة عبرية مُشتقَّة من الكلمة العربية «الصبار» أو «التين الشوكي» ، وقد تَردَّد المصطلح بمعناه الاجتماعي، لأول مرة، في أعقاب الحرب العالمية الأولى مباشرة حيث أطلق في مدرسة هرتزليا الثانوية في تل أبيب على التلاميذ اليهود من مواليد فلسطين والذين كانوا يُحسّون نقصاً حيال أقرانهم الأوربيين الأكثر تَفوُّقاً في الدراسة مما كان يجعلهم يلجأون إلى تعويض هذا الشعور بتَحدِّي هؤلاء الأوربيين بنوع من النشاط الخشن يرد لهم اعتبارهم. وقد تمثل ذلك النشاط في الإمساك بثمرات التين الشوكي وتقشيرها بالأيدي العارية، وهي مهارة يدوية تأتي بالمران والممارسة وليس من خلال الدراسة الفكرية. وقد أصبحت كلمة «الصابرا» تُطلَق اسماً على كل يهودي يُولَد في فلسطين. ومن المصطلحات الأخرى المرتبطة بها كلمة «شوتسباه» اليديشية التي تشير إلى مجموعة من الصفات مثل الجرأة الزائدة، التي قد تصل إلى حد الوقاحة، والسذاجة المختلطة بالذكاء. وحسب الرؤية الإسرائيلية الشائعة، فإن جيل الصابرا يتسم بالشوتسباه، أي الجرأ الزائدة هذه. ومن صفات الصابرا أيضاً ما يُسمَّى «تسيفتسوف إيحاد جادول» ، وهي عبارة عبرية تعني «تصفيرة واحدة كبيرة» ، وتشير إلى مقدرة جيل الصابرا على أن يسخر من كل المشاكل ويقابلها بهذه التصفيرة. ويُشار إلى لغة الصابرا بأنها لغة «الدوغري» ، وهي كلمة عامية مصرية شائعة معناها «مباشر ولا يحب اللف أو الدوران» .(3/346)
ومصطلح «الصابرا» ، والمصطلحات المرتبطة به، تؤكد صفات مُحدَّدة في شخصية صاحبها، أي أبناء المستوطنين الصهاينة الذين وُلدوا ونشأوا في فلسطين، ومن أهمها معاداة الفكر والمقدرة على التعامل مع الواقع بشكل مباشر. وهذه الصورة موضوع أساسي كامن في الفكر الصهيوني الذي يَصدُر عن نقد ما يُسمَّى «شخصية يهود المنفى» ، باعتبارهم شخصيات مريضة ضعيفة هزيلة حزينة شاحبة منغلقة هامشية قلقة يغمرها الإحساس بالذنب ولا تسيطر بأية حال على مستقبلها أو مصيرها مما يُسمَّى في الأدبيات الصهيونية «العجز وانعدام السيادة وممارسة السلطة» . وكانت الصهيونية تطرح فكرة تطبيع الشخصية اليهودية، أي جعل اليهود شخصيات طبيعية عن طريق الاستيطان في فلسطين وأداء أعمال يدوية، وعدم الاعتماد على العمالة غير اليهودية، باعتبار أن هذه العملية ستؤدي في نهاية الأمر (حسب التصور الصهيوني) إلى نفي الدياسبورا، أي القضاء على الجماعات اليهودية في الخارج. وقد طرح الصهاينة ما سمّوه «اليهودي الخالص» ، وهو اليهودي مائة بالمائة الذي يُجسِّد القيم الصهيونية الجديدة، بديلاً ليهودي المنفى. وكان من المُتوقَّع أن يكون المُستوطن الصهيوني هو آخر يهود المنفى وأول اليهود الخُلَّص الذين لا تشوبهم شائبة من عالم الأغيار، وهذا هو ما عبَّروا عنه في قولهم: "فلتكن آخر اليهود وأول العبرانيين". وقد تنبأ الشاعر الصهيوني نحمان بياليك بتطبيع اليهود، وأنهم سيصلون إلى هذا المستوى حين تظهر أول بغيّ عبرية، وأول لص عبري في فلسطين!(3/347)
وأخذ المستوطنون يحاولون وَضْع هذه الرؤية موضع التنفيذ بحيث يصبح الإنسان العبراني الجديد نقيض يهود المنفى. وكما قال الشاعر الإسرائيلي تسفي جرينبرج في قصيدة له: "الأمهات اليهود أحضرن أطفالهن إلى الشمس ليحترق الدم الذي يجري في عروقهم ويزداد حمرة، بعد أن بهت في الجيتو وعالم الأغيار! ". والإنسان الجديد هو الصابرا؛ هذا الإنسان العبراني المعادي للفكر، القوي البسيط المباشر الذي يرفضه يهود المنفى ولا يفهم هو سلوكهم أو خضوعهم. والصابرا يدين بالولاء لدولته القومية ولا يعاني من أي ازدواج في الولاء، ويحب أن يسير مع الجماعة (وقد جاء في إحدى القصائد الإسرائيلية أن الصابرا، حينما يحلم، يحلم بضمير جمع المتكلمين) ولا ينفصل عنها (جاء في إحدى النكات الإسرائيلية أن عضواً في الكيبوتس قد تركه أصدقاؤه بمفرده، ففكر في الانتحار، وحاول ذلك بالفعل، ولكنه فشل لأنه كان بمفرده) . والصابرا لا يؤمن بالدين، فقد تمت علمنته بشكل كامل على النمط الأوربي، كما أن هويته العبرانية هوية قومية مرتبطة بالأرض لا بالقيم الدينية. وهو، علاوة على كل هذا، شخصية منتجة - حسب التصوُّر الصهيوني - تتحكم في مصيرها. وينعكس كل هذا في الأبعاد العسكرية لشخصيته، ولذا نجد أن ذروة هذه الشخصية وأقصى تَحقُّق لها هو الكيبوتسنيك، أي عضو الكيبوتس الذي لا ينتمي إلى أسرة مُحدَّدة ويعيش في مجتمع شبه زراعي شبه عسكري في بيئة مختلفة تماماً عن الجيتو.(3/348)
وقد وصف عالم الاجتماع الفرنسي جورج فريدمان أفراد هذا النموذج الجديد بأنهم "أغيار يتحدثون العبرية"، فهم يتسمون بكل سمات الأغيار، ومنها معاداة اليهود، ولا يختلفون عنهم إلا في اللغة. وقد أشار آرثر كوستلر إلى النموذج الجديد باعتباره "طرزاناً يهودياً"، أي إنساناً طبيعياً مجرداً من التاريخ والقيم يعيش بقيم الغابة الغربية الداروينية، ولم يبق له من اليهودية سوى الشكل، أي أنه علماني تماماً. ويُشار إليه أحياناً بوصفه «سوبرمان يهودي» قياساً على سوبرمان أو بطل نيتشه الأرقى الذي يُمجِّده الفكر النازي والصهيوني. وبالفعل، نجد أن الصابرا يُجسِّد مجموعة من القيم النيتشوية التي تُعلي من شأن القوة والفعل مقابل الضعف والفكر.
ولكن هذه الرؤية المختلة للذات، والتي لا تستند إلى التاريخ، تحوي داخلها عدة تناقضات نوجزها فيما يلي:
1 - صورة يهود المَنْفَى صورة كاريكاتورية ساذجة للغاية لا تُعبِّر عن ثراء حياتهم أو عن إنجازاتهم الحقة أو عن تواريخهم المتنوعة، وخصوصاً أن تواريخ اليهود التي يُشار إليها باعتبارها «التاريخ اليهودي» لم تأخذ مسارها في أرض فلسطين وإنما خارجها في المَنْفَى.
2 - حينما يلجأ أبناء جيل الصابرا إلى رَفْض يهود المَنْفَى، فإنهم يرفضون الماضي الوحيد الذي يمكن أن تستند هويتهم إليه، إذ لا يمكن إدراك الهوية دون ماض. ويُقال إن من صور الصابرا الأساسية المتواترة في الأدب الإسرائيلي أنه جيل يتيم لا أب له؛ طفل أزلي غير قادر على النضوج لأنه لا يتفاعل مع الماضي.
3 - ومع أن جيل الصابرا يرفض اليهود واليهودية، فإن مشروعه الصهيوني يهدف إلى إنشاء دولة يهودية لحماية اليهود ولتحقيق الهوية اليهودية والجوهر اليهودي. ومعنى ذلك أن شرعية وجوده في فلسطين، والأساس الأخلاقي لطَرْد سكانها، يستندان إلى أساس يهودي افتراضي: رؤى دينية (أو إثنية) يهودية مثل الميثاق أو أرض الميعاد.(3/349)
وقد تبدَّت هذه التناقضات في شكل تناقص إحساس الصابرا بيهوديتهم. فحين تم استطلاع رأي جيل الصابرا (بعد إنشاء الدولة) ، وُجد أن لديهم إحساساً شديداً بهويتهم المُخلَّقة الجديدة تأخذ شكل اعتزاز شديد بالنفس واحتقار عميق ليهود العالم، وخصوصاً أن الملايين التي كان من المفترض قدومها للاستيطان في الأرض المحتلة آثرت البقاء في أوطانها التي يُشار إليها بلفظ «المَنْفَى» . كما أفاد الاستطلاع أن الرؤية المباشرة المعادية للفكر عند الصابرا تبدَّت في صورة رَفْض للفكرة الصهيونية ذاتها، وذلك باعتبار أن الصهيونية ليست تجربة وجودية حية وإنما مجرد نظرية تُعبِّر عن استجابة يهود المَنْفَى لعالم الأغيار وعن تطلعاتهم للخلاص منه وبرنامج لإصلاحهم وتطبيعهم، الأمر الذي لا ينطبق على الصابرا الذين يعيشون واقعهم الجديد. أما معاداة اليهود، إحدى ركائز الصهيونية، فهي بالنسبة للصابرا محض ذكريات الآباء والأجداد، لا يشاركون هم فيها. بل إن الفرد من جيل الصابرا، حينما ينظر إلى هذه الذكريات أو «الماضي اليهودي» ، لا يُبدي سوى الازدراء له لاقترانه بالضعف والسلبية، فهو لا يقبل مثلاً سلوك الستة ملايين الذين يُزعَم أنهم أبيدوا بغير مقاومة على يد النازيين.(3/350)
لكل هذا، أصبح الصابرا، من منظور القائمين على المجتمع الصهيوني، مرادفاً للتَحلُّل العقائدي ولازدياد الشك والنزعة العلمية على حساب الالتزام العقيدي. ومن هنا، بدأت عملية إعادة تثقيف، أخذت شكل التأكيد على الإبادة النازية لليهود، وبالذات عناصر المقاومة اليهودية، والتأكيد على ما يُسمَّى «المصير اليهودي المُشترَك» الذي يربط اليهود بعضهم ببعض أينما كانوا. كما تم تقرير مادة تُسمَّى «الوعي اليهودي» في المدارس حتى لا يبتعد جيل الصابرا تماماً عن الجذور اليهودية التي رفضتها الصهيونية. ولكن هذه المحاولة التخليقية، التي ترمي إلى الحفاظ على صهيونية العبراني الجديد، قابلت هي الأخرى عدة صعوبات من أهمها أن تطبيع المجتمع الإسرائيلي أدَّى إلى تَبنِّي جيل الصابرا قيماً علمانية أمريكية برجماتية ترفض الماضي وأية عقيدة أو نظرية، الأمر الذي عمَّق رفضهم الفكر النظري أو العقائدي، وإلى انتشار ما يُسمَّى بعقلية «روش قطان» وهي عبارة عبرية تعني «الرأس الصغير» وتشير إلى الإنسان العلماني الاستهلاكي الذي يهتم بمصالحه الخاصة ولا يهتم بالأهداف القومية (ولذا، فإن معدته كبيرة ورأسه صغير) . كما أن أزمة الصهيونية، داخل وخارج المستوطَن الصهيوني، تجعل بعث هذه العقيدة، التي لم تَعُد تَصلُح دليلاً للعمل، مهمة صعبة. ولكل هذا، يزداد الانصراف عن الصهيونية كعقيدة. وقد انعكس هذا الاتجاه البرجماتي الاستهلاكي العملي في تزايد معدلات العلمنة الشاملة وتَقبُّل قيم المنفعة واللذة بين الإسرائيليين، وزيادة أمركة المجتمع الإسرائيلي، فأصبحت الدولة الاستهلاكية العظمى في الغرب (الولايات المتحدة) هي المثل الأعلى لا الدولة الصهيونية الصُغرَى في فلسطين المحتلة. ومن هنا، تَزايُد نزوح الأفراد من جيل الصابرا عن إسرائيل، بل تم تَقبُّل قرار النزوح اجتماعياً بعد أن كانت تلك مسألة مرفوضة تماماً تشبه الخيانة القومية. وقد أدَّى هذا إلى ظهور ما(3/351)
يُسمَّى «الدياسبورا الإسرائيلية» حيث هناك مئات الألوف من المرتدين أو النازحين الإسرائيليين من جيل الصابرا أو غيرهم (ويُقال إنهم يبلغون 700 ألف، أي أكثر من سكان التجمُّع الصهيوني عند إعلان الدولة، وحسب بعض الإحصاءات يبلغ عددهم مليونًا) . وعلى المستوى العملي، يتضح هذا الاتجاه البرجماتي المعادي للصهيونية بكل جلاء في واقع أن كثيراً من الصابرا لا يعتبرون الولايات المتحدة جزءاً من المنفى بل وطناً قومياً ثانياً!(3/352)
وإلى جانب هذا، تُوجَد في الوقت الحاضر عناصر أخرى في تجربة جيل الصابرا تدفعه أيضاً بعيداً عن الصهيونية، لا إلى الاستهلاكية والبرجماتية والتأمرك فقط وإنما إلى أحضان الماضي اليهودي الذي كان يهرب منهم وكانوا هم يرفضونه بحثاً عن الجذور (بالإنجليزية: روتس roots) ، وهذا ليس بعودة إلى الماضي، وإنما عودة إثنية إلى الذات الإثنية القومية! ومن أهم هذه العناصر، تفاقم أزمة العلمانية الشاملة في التجمُّع الصهيوني وظهور أزمة هوية بصورة حادة. فالصابرا بدون تاريخ هو في نهاية الأمر بدون هوية. كما أن الصابرا، هذا العلماني الشامل البرجماتي، يجد نفسه في دولة كل ما فيها رموز دينية، مثل نجمة داود والمينوراه، وحتى الاسم «يسرائيل» معناه «المدافع عن الإله» . كما يجد نفسه مضطراً لأن يخوض حروباً باسم هذه القيم الدينية التي يُفترض فيه أنه لا يؤمن بها إلا باعتبارها فلكلورًا شعبيًا! وقد آتت مادة «الوعي اليهودي» أكلها، إذ بدأ بعض أعضاء جيل الصابرا يدركون عناصر هذا الماضي ويفهمونها في سياقها. ومن ثم بدأوا ينظرون إلى عالم المَنْفَى بشيء من الإعجاب وبكثير من الشك في شخصية الصابرا المجردة التي لا جذور لها ولا تراث. وقد كان يهودي المَنْفَى - حسب هذه الرؤية - ذا هوية حدودها واضحة مُتعيِّنة على الأقل، وله لغته وثباته وتراثه. كما كانت الجماعة اليهودية تتسم بالتماسك الشديد والتضامن، على عكس المجتمع الصهيوني الذي يفتقد الهوية الواضحة وتُفتِّته النزعات الحزبية ويفتقد الاجماع القومي في الوقت الحاضر. (فكَّر سكان الكيبوتسات بالفعل في ذلك الوقت في الطرق المختلفة للانتحار) .(3/353)
كما بدأ موقف أبناء جيل الصابرا يتغيَّر من الإبادة النازية (قصة الفشل اليهودي الأكبر) إذ بدأوا يسألون: هل كان بوسع اليهود أن يفعلوا شيئاً أمام قوة النازي وسطوته؟ ويجرى الآن طرح السؤال التالي: لو وصل روميل إلى فلسطين، هل كان بمقدور المستوطنين أن يفعلوا شيئاً سوى الاستسلام أو الانتحار؟
ومما عقد الأمور أن أزمة الصهيونية رافقها نجاح يهود المَنْفَى (وبخاصة في الولايات المتحدة) من إنجازات اقتصادية وثقافية واندماج في مجتمعاتهم وحراك طبقي وثقة بالنفس، وهو نجاح أدَّى إلى أن الدولة الصهيونية وجدت نفسها معتمدة في بقائها على هؤلاء الذين ترفضهم من الناحية العقائدية أو تطلب تصفيتهم.(3/354)
لكل ما تَقدَّم، تزايد ارتباط بعض أعضاء جيل الصابرا في الآونة الأخيرة بيهود المَنْفَى، فوجدوا أنفسهم يعودون إلى شبكة المصير اليهودي والتراث اليهودي. والعودة هنا ليست عودة إلى الصهيونية وإنما إلى شيء يتصورونه أكثر عمقاً، عودة إلى ما يتصورن أنه «التراث اليهودي» ، فظهر ما يُسمَّى الاتجاه «اليهودي» الجديد، لا «الصهيوني» الجديد، ومن هنا كان النظر بإعجاب إلى عالم المنفى وتراثه الثقافي واللغوي، والواقع أن هذا الموقف يُناقض الموقف الصهيوني الذي ينطلق من رفض هذا العالم وهذا التراث. كما أنهم بدأوا يتحدثون اليديشية، ويرفضون عبرنة أسمائهم، ويطلقون لحاهم وأحياناً سوالفهم. لكن العودة إلى التراث والجذور والسلف رد فعل لتعاظم العلمنة بكل ما تؤدي إليه من اغتراب وتَبعثُّر (وإن كان اغتراب المستوطن الصهيوني أعلى كثيراً من اغتراب الفلاح الهندي الذي ينتقل إلى المدينة مثلاً، ومن هنا حدة استجابة الصابرا) . وحينما يتحدث الصابرا عن «التراث اليهودي» ، فهم يتحدثون، عادةً، عن تجربة يهود اليديشية في شرق أوربا (في الشتتل وفي منطقة الاستيطان) لا عن تجربة اليهود السفارد أو يهود العالم الإسلامي. وقد أخذ هذا الاتجاه نحو التراث يتمثل في تَبنِّي القيم الدينية الأرثوذكسية كمصدر من مصادر الشرعية والهوية. ومن أهم شخصيات جيل الصابرا الممثل يوري زوهار الذي عبَّر عن كل سمات جيل الصابرا بشكل متبلور فكان يرتدي الصندل ويسير دون أن يأبه بالقيم أو التراث. وبالتدريج، أخذ زوهار في التحول، فلبس قبعة اليرملك ثم أطلق سوالفه ولحيته حتى أصبح في هيئة الحسيديين في الشتتل. ومن الصابرا من ينضم إلى الجماعات اليهودية الأرثوذكسية التي ترفض الدولة، وترى أن حالة المَنْفَى نهائية لا تصل إلى نهايتها إلا حين يأذن الإله وذلك حتى لا يرتكب جريمة «دحيكات هاكتس» ، أي «التعجيل بالنهاية» ، أي أن الصابرا الذي كان يرفض يهود المَنْفَى ويهرب منهم ينتهي به(3/355)
الأمر في الآونة الأخيرة إلى معانقتهم والهرب إليهم!
ومن المهم جداً أن نشير إلى أن الدراسات السكانية الإسرائيلية، في تصنيفاتها لسكان التجمُّع الإسرائيلي، تعترف بالفروق العرْقية والإثنية بين اليهود المولودين في فلسطين والمهاجرين إليها. إلا أنها، مع هذا، تحاول إنكار وجود مثل تلك الفروق بين الأبناء المولودين في فلسطين، وذلك بوضعهم جميعاً تحت اسم «الصابرا» . ويتسق ذلك مع حديث علماء الاجتماع وعلم النفس الإسرائيلي عن الصابرا باعتبارها كتلة واحدة متسقة لها خصائصها النفسية والاجتماعية المُوحَّدة. ومثل ذلك الموقف يعني تجَاهُلاً تاماً لحقيقة أن أساليب التنشئة الاجتماعية (طرق التربية) التي يمارسها المهاجرون تتباين تبعاً لأصولهم الحضارية. وبالتالي، فإن تكوينات هؤلاء الأطفال النفسية لابد أن تتباين، ولفترة طويلة تبعاً لتباين أساليب التنشئة الاجتماعية التي اتُبعت معهم. ومن هنا، فإن تعبير «الصابرا» يخدم في نهاية الأمر هدفاً سياسياً صهيونياً هو الإيهام بأن الصهر الاجتماعي لمختلف أصول اليهود الحضارية قد تَحقَّق في إسرائيل وتَمثَّل في جيل جديد هو جيل الصابرا الذي تتلاشى فيه مثل هذه الفروق الحضارية. وعلى أية حال، فإن استقراء الكتابات الإسرائيلية في هذا الصدد بشكل دقيق يكشف عن أن الحديث عن الصابرا يَنصَبُّ عملياً على أولئك المنتمين إلى أصول إشكنازية فحسب. وكما قال الكاتب الإسرائيلي شيمون بلاس (من أصل عراقي) ، فإن كلمة «صابرا» لا تشير من قريب أو بعيد إلى يهود الشرق. ويوافقه في هذا ميلفورد إسبيرو حيث يرى في دراساته أن أهم ما يميِّز الصابرا من أبناء الكيبوتسات هو كراهية الغرباء عامة، والمهاجرين من العالم الإسلامي على وجه الخصوص، إذ ينظرون إليهم كمواطنين من الدرجة الثانية، ويُطلقون عليهم لفظ «شحوريم» أي «السود» . كما أن هناك عدداً من الدراسات الأخرى تؤكد على أن أخطر ما يزعج الصابرا هو ارتفاع معدل تكاثر(3/356)
اليهود الشرقيين، وهم يرون في ذلك أمراً يمكن أن يدفع بإسرائيل إلى أن تصبح شعباً متخلفاً أسود البشرة.
وتزداد أهمية الصابرا (بمعنى المولودين داخل إسرائيل) في استمرار تزايد نسبتهم إلى إجمالي السكان، فبينما لم تتجاوز نسبة الصابرا إلى إجمالي السكان 34% عام 1962، وصلت هذه النسبة عام 1964 إلى 39.4%. وقد استمرت هذه الزيادة في التصاعد بسبب انخفاض معدلات الهجرة الشرقية والغربية على السواء، وهو ما جعل التركيب السكاني عام 1989 مختلفاً تمام الاختلاف حتى أن نسبة المولودين داخل إسرائيل تصل إلى 64% من إجمالي سكان إسرائيل اليهود، أي أن الصابرا قد وصلت إلى حد التكافؤ مع العناصر المهاجرة الشرقية والغربية مجتمعة (وإن كانت هجرة اليهود من روسيا وأوكرانيا غيَّرت الصورة قليلاً فقد وصلت النسبة إلى 60%عام 1991) ، مع العلم بأن مصطلح «المولودون داخل إسرائيل» أصبح يشير إلى المواليد من أصل غربي أو شرقي ولا يميِّز بينهما.
وقد نتج عن ازدياد إسهام الصابرا في التكوين السكاني، عاماً بعد عام، أمران في غاية الأهمية، أولهما: ظهور ما يُطلَق عليه «الوطنية الإسرائيلية» مقابل «القومية اليهودية» ، بمعنى أن معظم سكان إسرائيل لا يعرفون الآن وطناً آخر لهم، ومن ثم، فهم لا يشعرون إطلاقاً بأي إحساس بالذنب إزاء ما وقع للفلسطينيين من اغتصاب أرضهم وطردهم منها. والأمر الثاني: ارتفاع نسبة من هم في سن الإنتاج والقتال بالنسبة إلى إجمالي السكان، وهو ما يترتب عليه استمرار بل تَصاعُد روح المخاطرة والتطلع إلى التوسع والسيطرة على المنطقة. وعلى أية حال، فإن ارتفاع نسبة العلمنة والاستهلاكية قد حيَّد هذا العنصر إلى حدٍّ ما. ومع هذا لابد أن نأخذ في الاعتبار التركيب النفسي لجيل الشباب (كما يُبيَّن مدخل «جيل ما بعد 1967 [أو أزمة الخدمة العسكرية» ] ) .
حركة الكنعانيين
Canaanite Movement; Semitic Action(3/357)
«حركة الكنعانيين» حركة سياسية ثقافية ذات نظرة خاصة لما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» . بدأت نشاطها في الأربعينيات في فلسطين. وينطلق دعاتها من أسطورة مفادها أن اليهود عندما عادوا من مصر إلى أرض كنعان لم يجدوا قبائل معادية لهم أو مختلفة عنهم من الناحية العرْقية، وإنما وجدوا شعباً يتكلم العبرية ويُشبههم في الملامح والخصائص البدنية، ولذلك فإن اليهود أو العبرانيين ليسوا إلا كنعانيين وما الإسرائيليون المحدثون سوى «الكنعانيين الجدد» ، وبهذا تكون للأمة الإسرائيلية الجديدة جذور راسخة في الأرض الفلسطينية، وهي جذور تمتد إلى العبرانيين القدامى قبل أن تنتشر بينهم اليهودية، وهم بهذا يؤكدون وحدة الشعب الإسرائيلي وتربة فلسطين، أو كما يقول يتسوري (الذي اشترك في اغتيال اللورد موين في القاهرة عام 1934) : «نحن لسنا صهاينة، نحن الأبناء الطبيعيون لتربة إسرائيل» .
وعن طريق تأكيد هذه الوحدة، يُسقط الكنعانيون من حسابهم تراث يهود الدياسبورا (أعضاء الجماعات اليهودية في العالم) بل والتراث اليهودي كله، فيهود الدياسبورا ـ حسب تَصوُّرهم ـ ليست لهم أية سمات قومية متميِّزة، فلغتهم وأنماطهم الثقافية وجنسيتهم أو مواطنتهم، تنتمي جميعاً إلى البلدان التي يعيشون فيها، فهم من البولنديين أو الإنجليز أو الأمريكيين، ولهذا السبب فإن لهم أثراً ضاراً على الإسرائيليين لأنهم يعوقون تَطوُّر الأمة العبرانية الجديدة. وهذه الأمة الجديدة تتكون من كل المولودين في إسرائيل، حتى ولو كانوا مسلمين أو مسيحيين، شريطة أن يَتقبَّلوا الهوية الكنعانية الجديدة.(3/358)
ويمكن القول بأن فكر حركة الكنعانيين هو تعبير عن وجهة نظر إسرائيلية تختلف عن وجهة النظر الصهيونية، فهو تعبير متطرف عن إحساس جيل الصابرا باختلافهم عن يهود العالم وانفصالهم النفسي والثقافي والعرْقي عنهم. ولعل أهم نقط الاختلاف بين وجهتي النظر تتلخص في محاولة الكنعانيين التملص من التصور الصهيوني لما يُسمَّى «الشعب اليهودي» و «القومية اليهودية» ذات الأبعاد الدينية القومية، فالكنعانيون يحاولون إضفاء شيء من السواء على الظاهرة الإسرائيلية عن طريق إلغاء الجانب الديني من المقدَّسات القومية الإسرائيلية والإبقاء على الجانب القومي وحده، آملين أن يتحوَّل النمط الإسرائيلي عن طريق ذلك إلى نمط قومي عادي يشبه بقية الأنماط القومية المعروفة، أي أن فكرة الشعب المختار صاحب الحقوق المطلقة وموضع الحلول الإلهي والذي يضم اليهود أينما كانوا تحل محلها فكرة الشعب الإسرائيلي الموجود في الشرق الأوسط في فلسطين والذي له حقوق قومية عادية. وإذا كان المفكر الصهيوني يتباهى عادةً بأن الشعب اليهودي لا يُصنَّف، فإن الكنعانيين يؤكدون أنهم أمة مثل كل الأمم. ويؤمن الكنعانيون بأن أمامهم بديلين لا ثالث لهما: إما أن يكونوا آخر اليهود أو أن يكونوا بداية لأمة جديدة (على حد قول بيرديشفسكي) وهم يفضلون البديل الثاني. ولذلك فالكنعاني يؤمن بأن الدولة الجديدة هي نهاية المنفى والجيتو بل ونهاية اليهودية ذاتها، وأن أية سمات «يهودية» للدولة الجديدة هي سمات متخلفة ورواسب من الماضي الميت، وأن على الإسرائيليين أن يخلقوا حضارة جديدة مستقلة تماماً عن التراث اليهودي ومرتبطة بحضارة الشرق الأدنى القديم (ولذلك كانوا يطالبون بعبادة عشتروت زوجة الإله بعل الكنعاني) . وفكر الحركة الكنعانية متأثر ببيرديشفسكي وأفكاره الكونية وبالنزعات النيتشوية الفلسفية، وزعيم الحركة هو الكاتب يوناثان رطوش (اسمه الحقيقي: أويل هالبرين شيلا) ، ومن بين أعضائها الكاتب(3/359)
آهارون أمير وبنيامين تموز. ورغم أن هذه الحركة لا تؤثر بأي شكل في الحياة السياسية في إسرائيل، فإن لها بعض الأثر في الحياة الثقافية. كما أنها تُعبِّر عن مدى الأزمة التي يعيشها الوجدان الإسرائيلي وعن محاولة الإسرائيلي أن يتعامل بشكل ما مع الواقع الغريب الذي يحيط به. وقد انحلت حركة الكنعانيين، وحلت محلها حركة العمل السامي (نسبة إلى الجنس السامي) ، والتي اختفت بدورها وحلت محلها جماعة «هاعولام هازه/قوة حاداش» (هذا العالم/القوة الجديدة) .
ويبدو أن الكنعانيين لم يختفوا تماماً، إذ أنهم عاودوا الظهور عام 1969 وطالبوا بتجنيد العرب في الجيش الإسرائيلي، وتعليمهم اللغة العبرية باعتبارهم عبرانيين، وتحقيق المساواة بينهم وبين العبرانيين، وإلغاء كل المزايا التي يتمتع بها المواطنون اليهود لكونهم يهوداً. كما نادوا بضرورة إنشاء جيش قوي والاحتفاظ بالأراضي المحتلة، وتصعيد الهجرة اليهودية، وزيادة نسبة المواليد، وإنشاء علاقات قوية مع الأقليات الأخرى في المنطقة مثل الأكراد والدروز. وطالبوا أيضاً بإنشاء فيدرالية تضم إسرائيل وجبل الدروز والموارنة في لبنان.
ورغم اختلاف الكنعانيين مع الصهاينة في محتوى تفكيرهم، فإن ثمة تشابهاً طريفاً بينهم من الناحية البنيوية. فكلا الفريقين يلغيان المنظور التاريخي ويُبسِّطان التاريخ ويختزلانه ويحولانه إلى أسطورة تخدم أهواء الحركة وبرنامجها السياسي وتُسهِّل لها التعامل مع الواقع دون مجابهته، كما أن كلاًّ من الفريقين يقابل الوجود الفلسطيني مسلحاً بأسطورته الاختزالية المُسبَقة.
الباب الثانى: الجماعات اليهودية المنقرضة والهامشية
الجماعات اليهودية المنقرضة والهامشية
Extinct and Marginal Jewish Communities
«الجماعات اليهودية المنقرضة والهامشية» هي تلك الجماعات اليهودية التي لا تنتمي إلى أيٍّ من الجماعات الأساسية الثلاث:
1 ـ الإشكناز.
2 ـ السفارد.
3 ـ يهود العالم الإسلامي.(3/360)
ويُلاحَظ أن الجماعات الثلاث الأساسية تُشكِّل، من ناحية الكم، ما يزيد على 98%، ويمتد وجودها إلى عدة قرون ويستمر حتى الوقت الحاضر. وتدور الجماعات الثلاث في إطار اليهودية الحاخامية. كما أنها تنتمي إما إلى العالم الغربي أو العالم الإسلامي. أما الجماعات المنقرضة والهامشية، فهي جماعات كبيرة أو صغيرة اندثرت تماماً أو على وشك الاندثار (الخَزَر ـ المارانو ـ السامريين ـ الكرمشاكي ـ يهود الصين) ، أو جماعات صغيرة للغاية (العبرانيون السود ـ يهود كوشين) . كما نُلاحظ أن معظم هذه الجماعات الهامشية قد انفصل عن تيار الجماعات اليهودية الأساسي وأحياناً عن اليهودية الحاخامية (الدونمه ـ يهود مانيبور ـ يهود الصين ـ الفلاشاه ـ القرَّائين) . ويُلاحَظ أن الجماعات الهامشية هذه، نظراً لانفصالها عن المراكز الدينية والثقافية اليهودية الكبرى، قد استوعبت عناصر إثنية ودينية من محيطها الحضاري بشكل ملحوظ وانفصلت عن أية معيارية يهودية. وتَكمُن أهمية دراسة الجماعات اليهودية المنقرضة والهامشية في أنها تتحدى النظام التصنيفي الصهيوني والمعادي لليهود، الذي يُصنِّف كل أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم «يهود والسلام» بطريقة اختزالية تبسيطية. كما يمكن القول بأن هذه الجماعات اليهودية المنقرضة والهامشية تشكل لحظة تَبلور النموذج (اليهود كجماعات غير متجانسة واليهودية كتركيب جيولوجي لا ككل عضوي أو شبه عضوي متماسك) ، ومن ثم فهي تلقي عليه الضوء وتبين طبيعته رغم أنها تشكل لحظة متطرفة من عدم التجانس والبُعد عن أية معيارية.
اليهود المتخفون
Crypto-Jews(3/361)
«اليهود المُتخفّون» هم اليهود الذين يتظاهرون باعتناق دين آخر غير اليهودية، بسبب الظروف المختلفة، ويظلون على دينهم في الواقع. ومن أهم فرق اليهود المتخفين «المارانو» ، ويُشار إليهم أيضاً باسم «المسيحيين الجدد» و «الكونفرسوس» و «البرتغاليين» في شبه جزيرة أيبريا، كما يُشار إليهم باسم «الدونمه» في تركيا، وباسم «جديد الإسلام» في إيران، وباسم «التشويتاس» في جزيرة مايوركا.
وقد لاحظ أحد المستشرقين أن ظاهرة اليهود المتخفين لم تظهر أساساً إلا داخل التشكيل الحضاري الإسلامي في إسبانيا التي كان سكانها من اليهود على علاقة وثيقة بهذا التشكيل، وحاول أن يُفسِّر ذلك في إطار مفهوم الاستشهاد في الإسلام حيث لا يكون ذلك إلا أثناء الجهاد والمعركة (أما فيما عدا ذلك، فإن المسلم يتعيَّن عليه أن يحمي نفسه بالتَقية) ، ومن هنا ظهرت فكرة التخفي. ويقف هذا على الطرف النقيض من الحضارة المسيحية حيث تُعَدُّ واقعة الصلب في منظورها واقعة أساسية، وهي حضارة تشجع على الاستشهاد وتجعل منه قيمة في ذاته. ولذا، نجد أن اليهود الإشكناز كانوا يقومون بما يُسمَّى «تقديس الاسم» (بالعبرية: قيدوش هاشم) أي تأكيد وحدانية الإله، والاستشهاد بدلاً من الارتداد حتى ولو ظاهرياً.
ويُلاحظ المؤرِّخون أن المارانية هي شكل من أشكال الموسوية، أي الإيمان بالعهد القديم دون حاجة إلى حاخامات، كما أنها عبادة تُركِّز على الجوهر وحسب، وتتجاوز كل الشعائر والتحريمات، ومن هنا التقاؤها باليهودية الإصلاحية.
ويجب التمييز بين يهود المارانو ويهود الدونمه، من حيث أن المارانو اضطروا إلى أن يكونوا يهوداً متخفين، أما الدونمه فقد اعتنقوا الإسلام باختيارهم للتمويه على المسلمين واليهود على حدٍّ سواء.(3/362)
وتقرن الدراسات بين المسيحيين الجدد والمارانو وتوحد بينهما، وإذا كان المارانو هو الذي يُظهر غير ما يُبطن، أي اليهودي المتخفي، فإن كثيراً من المسيحيين الجدد كانوا مسيحيين بصدق. وقد تَهوَّد بعضهم أو اضطروا إلى التهوُّد فيما بعد، ومن ثم يكون من الخطأ أن نستخدم المصطلحين كما لو كانا مترادفين. ومع هذا نظراً لشيوع هذا الترادف، فإننا نستخدم كلمة «المارانو» للإشارة إلى كلٍّ من «المارانو» و «المسيحيين الجدد» .
أنوسيم
Anusim
«أنوسيم» كلمة عبرية تعني «المُكرَهون» ، أو «المغلوبون على أمرهم» ، وهو اسم آخر ليهود المارانو واليهود المتخفين.
البرتغاليون
The Portuguese
«البرتغاليون» مصطلح يُستخدَم للإشارة إلى اليهود المتخفين من المارانو الذين خرجوا من شبه جزيرة أيبريا (إسبانيا والبرتغال) . ومن المُرادفات الأخرى «كونفرسوس» أي «المهتدون» ، و «المسيحيون الجدد» ، وبالعبرية «أنوسيم» أي «المُكرَهون» بل و «السفارد» . ولعل تسمية «البرتغاليون» تعود إلى أن أغلبية المارانو جاءت من البرتغال. كما أن مصطلح «برتغالي» كان أكثر تهذيباً من مصطلح «مارانو» ، وكذلك أكثر إبهاماً من مصطلح «المسيحيون الجدد» . وبالتالي، كانت الدول (مثل إنجلترا) تسمح لليهود بالاستقرار فيها باعتبارهم «برتغاليين» (اسماً) وهي تعلم جيداً أنهم «مارانو» (فعلاً) . وكان هؤلاء يمارسون شعائرهم الدينية إما سراً وإما علناً. وكانت المؤسسة الحاكمة تغض النظر عن كل هذا. وقد لجأت بعض المؤسسات الحاكمة إلى هذا الحل لحاجتها الشديدة إلى اليهود بسبب نفعهم ولأنهم مادة استيطانية مهمة، حيث لم يكن بوسعها استصدار التشريعات اللازمة لذلك بسبب المعارضة الشعبية وبسبب الهيكل القانوني ذاته الذي كان يستند إلى شرعية دينية. ومع نهاية القرن السابع عشر، بدأت كثير من الدول تعترف بالبرتغاليين كيهود.
يهود المارانو: تاريخ وعقيدة
The Marranos History and Doctrine(3/363)
كلمة «مارانو» أطلقت على أولئك اليهود المتخفين، في إسبانيا والبرتغال، الذين تراجعوا ظاهرياً عن اليهودية وادعوا اعتناق الكاثوليكية حتى يتمكنوا من البقاء في شبه جزيرة أيبريا مع تَراجُع الحكم الإسلامي وبعد طَرْد يهود البرتغال عام 1480 وطَرْد يهود إسبانيا عام 1492. وقد أطلق عليهم أيضاً تعبير «كونفرسوس» ، أي «الذين اهتدوا إلى دين جديد» ، و «كريستاوس نوفوس» ، أو «المسيحيون الجدد» . وكلمة «مارانو» التي أحرزت شيوعاً في القرن السادس عشر ليست معروفة الأصل على وجه التحديد. وفيما يلى بعض الكلمات والعبارات التي قد تكون أصلاً للكلمة:
1 ـ «مارانو» كلمة باللهجة الإسبانية القديمة معناها «خنزير» .
2 ـ «ماترانثا» كلمة إسبانية معناها «الملعون» .
3 ـ «المُرائي» كلمة عربية معناها «منافق» .
4 ـ «مارئيت عيين» عبارة عبرية معناها «ظاهر للعين» ، فهو يُظهر المسيحية ويبطن اليهودية.
5 ـ «محوّرام أتاه» كلمة عبرية معناها «أنت مطرود من حظيرة الدين» .
6 ـ «مَارَن أث» عبارة آرامية معناها «أنت مولانا» ، والخطاب فيها موجَّه إلى المسيح. وكان محتوماً على اليهودي أن ينطق بها كثيراً لإبعاد الشبهة عن نفسه.
والأصل الإسباني للكلمة هو الأكثر رجوحاً.(3/364)
ولم يكن المصطلح ذائعاً في الأوساط الرسمية، ولم يرد في أي من الوثائق الرسمية الخاصة بمحاكم التفتيش. والمقابل العبري هو «أنوسيم» ، أي «المُكرَهون» أو الذين «قُسروا» على التنصر. ويُشار أحياناً إلى المارانو بعد خروجهم من شبه جزيرة أيبريا واستيطانهم مختلف دول أوربا، خصوصاً هولندا، باسم «البرتغاليون» ، باعتبار أن أغلبيتهم جاءت من هناك، كما يشار إليهم كذلك بكلمة «السفارد» باعتبار أنهم جميعاً من السفارد، أي من شبه جزيرة أيبريا. ورغم أن الدراسات تُوحِّد بين المسيحيين الجدد ويهود المارانو وتقرن بينهما، فإننا، كما سنبين فيما بعد، نرى أن هذا الترادف خاطئ. ولكننا، مع هذا، نضطر إلى استخدامه بسبب شيوعه وبسبب إبهام هوية المارانو كما سنبين لاحقاً.
وقد كانت هناك حالات متفرقة من التَنصُّر القسري في العالمين الإسلامي والمسيحي. وقد وقعت مثل هذه الحالات في إسبانيا قبل الفتح الإسلامي، وفي أوربا المسيحية مع حروب الفرنجة وغيرها. لكن مثل هذا التنصر ظل الاستثناء لا القاعدة، لأن الكنيسة كانت تقف ضده، نظراً لأن مثل هذه العملية تُفقد فكرة الشعب الشاهد مضمونها. فهذه الفكرة، التي كانت تَحكُم علاقة الكنيسة بأعضاء الجماعات اليهودية، تذهب إلى أن اليهود في ذُلِّهم وضعفهم يقفون شاهداً على عظمة الكنيسة وانتصارها، وسيكون تَنصُّرهم في نهاية الأمر أكبر قرينة على هذه العظمة. ومن ثم، يكون التَنصُّر اليهودي طوعاً علامة على هذه العظمة. أما التنصُّر القسري فلا يضيف إلى أمجاد الكنيسة، ولذلك كانت الكنيسة تسمح لليهود الذين نُصِّروا عنوة بالعودة إلى دينهم الأصلي.(3/365)
ولكن الأمر يختلف بالنسبة للمارانو الذين يبدأ تاريخهم عام 1391 حين نشبت اضطرابات ضد يهود إسبانيا وقامت مظاهرات عرضت عليهم إما «الموت أو الصلب» . وقد أدَّت هذه الاضطرابات إلى تَنصُّر أعداد كبيرة من اليهود بشكل قسري. ولكن تبع هذا موجة تَنصُّر طوعي، بسبب انكسار أعضاء الجماعات اليهودية وهبوط الروح المعنوية. فضلاً عن أن يهود إسبانيا كانوا مُستوعَبين في الثقافة العقلانية الرشدية (نسبة إلى ابن رشد) التي قوضت إيمانهم الديني. كما أن كثيراً من أعضاء النخب الثقافية والمالية اليهودية كانت لهم مصالح مالية متشابكة مع مجتمع الأغلبية (المسيحي) . ثم قامت حركة تنصير أخرى عام 1411 - 1412. ويمكن القول بأن تَنصُّر الغالبية العظمى كان حقيقياً، ولكن ظلت هناك أعداد ممن مارسوا الطقوس اليهودية بشكل خفي. وقد عاش اليهود المتنصرون ومدَّعو التَنصُّر جنباً إلى جنب مع أعضاء الجماعة اليهودية، بينما حاولت الدولة الإسبانية قَدْر استطاعتها أن تفصل بين الفريقين. وقد احتفظ كثير من المتنصرين بمهاراتهم الحرَفيِّة والإدارية واتصالاتهم التجارية كأعضاء في الجماعة الوظيفية اليهودية، وقد حققوا بسبب ذلك حراكاً اجتماعياً غير عادي، ولَّد الأحقاد ضدهم من قبَل بعض عناصر الأرستقراطية القديمة.
وبعد سقوط غرناطة (واستعادة كل شبه جزيرة أيبريا) واجهت الدولة الجديدة مشكلة سكانية، وهي أن معظم سكان شبه الجزيرة كانوا إما مسلمين أو يهوداً أو من أصول مسلمة أو يهودية، ولم تكن توجد سوى أقلية مسيحية، ومن هنا لم يكن مفر من طرد العناصر غير المسيحية، لخَلْق التوازن السكاني لصالح المسيحيين، الأمر الذي يتطلبه أمن الدولة.(3/366)
لهذا كان لابد من طرد المسلمين واليهود، فعُرض عليهم إما التنصر أو مغادرة البلاد. وقد تَنصَّرت أعداد كبيرة من اليهود انضمت إلى الأعداد التي تَنصَّرت قبل ذلك. لكن العناصر الدينية الصلبة قررت اللجوء إلى البرتغال التي قدَّمت لهم حق اللجوء المؤقت، نظير ضريبة يدفعونها. ولكن حينما اعتلى مانويل الأول العرش عام 1495 تغيَّرت السياسة تجاه اليهود. فمانويل كان يطمح إلى تحويل البرتغال إلى قوة تجارية عالمية، ووجد أن السبيل إلى ذلك هو أن يحكم ابنه مملكة موحَّدة في كل شبه جزيرة أيبريا، ولذا حاول أن يزوج ابنه من إبنة فرديناند وإيزابيلا، فوافق الملكان شريطة أن يقوم بطرد اليهود من البرتغال. وقد سبَّب هذا حيرة حقيقية لمانويل، فهو من ناحية كان حريصاً على إتمام هذا الزواج، ولكنه في الوقت نفسه كان يهمه الحفاظ على أعضاء الجماعة الوظيفية اليهودية ليستفيد من خبراتهم التجارية في بناء إمبراطوريته التجارية. وقد حلّ مانويل هذه المشكلة بأن احتفظ باليهود وفرض عليهم التنصُّر القسري، ولكنه منحهم في الوقت ذاته حريتهم الدينية والحصانة ضد محاكم التفتيش لمدة عشرة أعوام. وقد اندمج المتنصِّرون في مجتمع الأغلبية، ولكن، كما هو الحال في إسبانيا من قبل، ظلت هناك عناصر تمارس الطقوس اليهودية سراً.(3/367)
ويُلاحَظ أن اليهود المتنصرين في البرتغال كانوا يشكلون كتلة بشرية كبيرة (كانت تصل، حسب بعض التقديرات، إلى 10% من إجمالي عدد السكان) .وكان اليهود الذين فُرضت عليهم اليهودية في البرتغال من العناصر الصلبة، كما أسلفنا، ولذا احتفظوا بتماسكهم حتى أنهم كانوا يُسمّون أحياناً «اليهود» بشكل علني أو «الأمة» أو «رجال الأعمال» (بالبرتغالية: أومينز دي نيجوسيوس homens de negocios) ،كما كانت لهم اتصالاتهم التجارية والمالية المهمة. وقد أدَّى هذا إلى بروزهم في التجارة الدولية حتى أصبحت كلمة «برتغالي» مرادفة لكلمة «يهودي» في أنحاء أوربا. وقد كوَّنوا جماعة ضغط قوية داخل البرتغال نفسها وكان لهم سفير خاص في روما، نجح في تقديم الرشاوى التي أخّرت إنشاء محاكم التفتيش في البرتغال.
وتُشكل كل هذه العناصر مكونات مشكلة المارانو: عناصر يهودية تَنصَّرت قسراً وادعت المسيحية، وعناصر أخرى تَنصَّرت طوعاً وآمنت بالمسيحية فعلاً، وكلها عناصر ذات خطاب حضاري واحد (أيبيري كاثوليكي) ، يوحِّد بينها، رغم اختلاف العقائد أو الادعاءات الدينية.(3/368)
وقد تأخر إنشاء محاكم التفتيش في البرتغال بعض الوقت ولكنها بدأت نشاطها بشكل رسمي عام 1536، ثم مارست نشاطها بشكل فعال في منتصف القرن السادس عشر، وبدأت في تَعقُّب اليهود المتخفين الذي تخفوا ما يزيد عن قرن ونصف القرن (1391 ـ 1550) أي الذين كانوا قد دُمجوا حضارياً تماماً إن لم يكن دينياً أيضاً. ومما زاد الأمور تعقيداً صدور القرار الخاص بنقاء الدم (بالإسبانية: لامبيثا دي سانجري limpieza de sangre) عام 1566 الذي جعل من الأصول العرْقية (لا الإيمان الديني) معياراً للتمييز. وبعد أن كان التنقيب يتم عمن يمارسون الطقوس اليهودية خفية، أصبح التنقيب عن ذوي الأصول غير النقية، ومن ثم أصبح مصطلح «المارانو» لا يشير إلى اليهود المتخفين وحسب وإنما إلى ذوي الأصول اليهودية حتى ولو كانوا من المسيحيين الأتقياء (ولذا يميِّز البعض بين «المارانو المسيحيين» و «المارانو اليهود» ) .(3/369)
وقد مارس المارانو (اليهود) جميع الشعائر التي تقتضيها الديانة المسيحية في العلن. ولكن بعضهم ظل، في الوقت ذاته، يمارس شعائر الديانة اليهودية سراً. فكان اليهودي المارانو يُعمِّد أطفاله ويذهب إلى الكنيسة يوم الأحد ويذهب للاعتراف دون أن يدلي بأية اعترافات حقيقية، ويتناول القربان في الكنيسة ثم يبصقه خارجها. وقد تأثرت عقيدتهم اليهودية بطول التخفي، فاختفت شعائر يهودية، مثل: الختان، والذبح الشرعي، واستخدام شال الصلاة، وكثير من الأعياد. واكتسبت الشعائر ملامح جديدة ابتعدت بهم تماماً عن دينهم الأصلي. وكان أساس عقيدة المارانو هو الإيمان بأن الخلاص يتم من خلال شريعة موسى لا من خلال الكنيسة أو المسيح، وكانوا يؤمنون بأن تنصيرهم القسري هو جزء من العقاب الإلهي الذي حاق باليهود، تماماً مثل النفي (في حالة اليهودية الحاخامية) . وقد تبوأت إستير مكانة خاصة في فكرهم الديني، فكان يُنظَر إليها باعتبارها صورة مُسبَقة لما يحدث لهم. فإستير، هي الأخرى، اضطرت إلى إخفاء هويتها الدينية مدة من الزمن حتى تحرز مكانة متميِّزة داخل البلاط الفارسي. وقد تمكنت خلال ذلك من إنقاذ شعبها من المذبحة التي كان يدبرها هامان لهم. وقد أنكر المارانو أن المسيح عيسى بن مريم هو الماشيَّح، وأصبح هذا الإنكار ركناً أساسياً في عقيدتهم، وهو ما زاد من أهمية العقيدة المشيحانية وانتظار مجىء الماشيَّح، ولعلها أصبحت المبدأ الوحيد. وكان المارانو يحتفلون بشعائر السبت يوم الأحد، وإن كان الاحتفال يأخذ شكلاً يسمح بالتخفي مثل: تنظيف المنزل، وتغيير الملاءات والملابس، والاستحمام، وإعداد وجبة تُسمَّى «أدافينا» (وكانت تُعَدُّ قبل يوم السبت) . كما كانوا يحتفلون بأعياد اليهود المهمة الأخرى (مثل عيد الفصح وعيد الغفران) بعد العيد بعدة أيام حتى لا تتعقبهم محاكم التفتيش. وكان الصوم من أهم الشعائر التي يمارسونها لسهولة إخفائه، كما أن صوم إستير كان أهم(3/370)
أعيادهم، حيث كانوا يتلون مزامير داود أو قصائد من نظمهم باللغة الشائعة بينهم. وكانت هذه الصلوات تؤكد وحدانية الخالق (مقابل التثليث المسيحي) ، بل وكان لديهم طقس يهدف إلى محو أثر التعميد المسيحي.
وقد بهت انتماء يهود المارانو بالتدريج بعد أن ترك التخفي لمدة طويلة أثره العميق. فعلى سبيل المثال، أصبحت عبادة الخالق في الخفاء جزءاً عضوياً من عقيدتهم، وأصبح الإعلان عن عقيدة الإنسان أمراً لا يليق (ومن هنا، استمر عدد كبير من يهود المارانو في التخفي حتى بعد أن أصبح من حق اليهود ممارسة شعائر دينهم علناً في إسبانيا والبرتغال) . وقد تأثر المارانو بالطقوس الكاثوليكية، فهم يشيرون إلى «سانت إستير» ، كما تأثروا بتقاليد التصوف الكاثوليكية فكانوا يصومون من أجل الأحياء والموتى (وهو تقليد كاثوليكي) . وأصبحت لهم عبادات وأدعية خاصة بهم تختلط فيها الطقوس والعبادات الكاثوليكية بالطقوس والعبادات اليهودية. وكان المارانو لا يتزوجون إلا فيما بينهم ولا يتزاوجون مع غيرهم من اليهود. وكانت القيادة الروحية للجماعة في يد النساء العجائز، وكان الأطفال لا يعرفون الهوية الدينية الحقيقية إلا بعد سن الخامسة عشرة. كما أن يهود المارانو كانوا يُشكلون شبكة متماسكة، فكان التاجر المارانو يرفض أن يشارك تاجراً آخر إلى أن يتأكد من هويته. وقد أدَّى ذلك إلى تسهيل عملية التجارة والائتمان، وساعد هذا التَماسُك على تسهيل الحراك الاجتماعي للمارانو.(3/371)
ثم بدأت محاكم التفتيش نشاطها في كل شبه جزيرة أيبريا. ومما يجدر ذكره أن محاكم التفتيش لم تتعقب اليهود الذين أعلنوا عن هويتهم الدينية، فهؤلاء لم يكن يُسمَح لهم بالبقاء أساساً، وإنما تعقبت المسيحيين المشكوك في أمرهم والذين كان يُظَن أنهم مارانو، أي «مواطنون يُظهرون المسيحية ويُبطنون اليهودية» ، فهؤلاء كانوا في رأي محاكم التفتيش يشكلون خطراً على العقيدة المسيحية وعلى أمن الدولة. ولكن هناك بعداً آخر بدأت الدراسات الحديثة تؤكده، وهو أن محاكم التفتيش في إسبانيا لم تكن تابعة للبابا. بل إن روما كانت تعترض في كثير من الأحيان على تَطرُّف قضاة هذه المحاكم، وعلى أن هذه المحاكم كانت تستخدم ديباجات دينية تستغل الشرعية الدينية لتَعقُّب من كانت تظنهم أعداء الدولة. وتبين هذه الدراسات أن رجال الدين الذين عُيِّنوا قضاة في هذه المحاكم نُصِّبوا من قبَل الدولة الإسبانية لا من قبل روما. وتذهب هذه الدراسات إلى أن الدولة الإسبانية كانت في الواقع أول دولة مطلقة تضع مصلحتها الدنيوية فوق أية مصلحة أخرى، وهي ظاهرة بدأت تتضح في بقية أوربا في تاريخ لاحق، وتذهب أيضاً إلى أن هذه الدولة طالبت رعاياها لهذا السبب بولاء مطلق. وتحل الدولة العلمانية الحديثة مشكلة الولاء عن طريق جعل الدين أمراً خاصاً، على أن يتم التضامن داخل المجتمع على أساس مصلحة الدولة. ولكن في حالة الدولة الإسبانية، لم يكن هذا ممكناً برغم تَوجُّهها الدنيوي لأن التحالفات في أوربا كانت تتم في إطار ديني، ولم تكن العقيدة العلمانية قد تطورت أو أحرزت شيوعاً بعد. ومن هنا كان تَمسُّك الدولة الإسبانية بالديباجات الدينية برغم تَوجُّهها الدنيوي.(3/372)
ويذهب أصحاب هذه النظرية إلى أن عملية المطاردة أصبحت بعد قليل مثل مطاردة أجهزة المخابرات الحديثة لمن يُسمَّون «أعداء الدولة» . وهذه الأجهزة كثيراً ما تختلق الاتهامات ضدهم وتخترعها اختراعاً إن لم تجدها، حتى يُكتَب لوظيفتها الاستمرار وحتى تُحكم قبضتها على الحاكم ويتزايد نفوذها وهيبتها. ومن هنا مطاردتها لبعض المسيحيين الجدد الذين تَنصَّروا عن صدق، حتى يُكتَب لها الاستمرار وتحقيق الرسالة!
ويُضيف أصحاب هذه النظرية بُعداً اجتماعياً أخيراً، وهو أن محاكم التفتيش لم تكن تهدف في واقع الأمر إلى القضاء على الهرطقة اليهودية بين المارانو كما كانت تدَّعي، وإنما كانت تهدف إلى وقف الحراك الاجتماعي لكل المسيحيين الجدد. ولم تكن تميِّز بين من اعتنق المسيحية عن صدق وبإرادته من جهة وبين من ادعى الإيمان بها من جهة أخرى. فالمسيحيون الجدد كانوا يشكلون طبقة وسطى جديدة لها إمكانيات غير متوافرة لكثير من قطاعات النخبة الحاكمة. ومن المعروف أنه، مع نهاية القرن السابع عشر، لم يكن هناك فرق بين المسيحيين الجدد والمسيحيين القدامى. ولكن، مع هذا، تم تأكيد الفروق لتكون مسوِّغاً لمطاردة أعضاء الطبقة الجديدة. وقد استخدمت محاكم التفتيش معياراً دنيوياً غير ديني ( «درجة نقاء الدم» ) وبالتالي تكون محاكم التفتيش هي أولى علامات العنصرية العلمانية (مقابل التعصب الديني) والتي تعتمد العرْق (لا الدين) معياراً للتفرقة بين البشر. ولم تتوقف المطاردة إلا عام 1773 حين تَقرَّر إحراق الوثائق التي تُفرِّق بين المسيحيين الجدد والمسيحيين القدامى.(3/373)
ومن القرائن التي تُذكَر كدليل على أن هؤلاء المسيحيين الجدد قد تَنصَّروا فعلاً بإرادتهم وأنهم كانوا مسيحيين عن صدق، موقف الشرع اليهودي منهم، فكثير من الحاخامات كانوا لا يعتبرونهم يهوداً. بل ورفضت المؤسسة اليهودية البعض ممن تهوَّدوا وعاملت من قبلتهم باعتبارهم متهودين أو غرباء (بالعبرية: جير) اعتنقوا اليهودية، أي أنها كانت تراهم مسيحيين تهودوا. ويُقال إن المؤسسة الحاخامية كانت سعيدة بملاحقة محاكم التفتيش للمسيحيين الجدد واضطهادها لهم، على أساس أنهم تركوا دينهم عن قصد. وعلى وجه العموم، كان اليهود يحتقرون المسيحيين الجدد (المارانو) الذين كانوا بدورهم لا يكنون أي احترام لليهود.
ومن القرائن الأخرى التي يجب ذكرها أن كثيراً من المسيحيين الجدد لم يعتنقوا اليهودية حتى بعد طردهم من شبه جزيرة أيبريا، لأنهم كانوا مسيحيين بالفعل. كما يُفسِّر هذا اتجاه أغلبيتهم إلى العالم المسيحي وعدم تَوجُّههم إلى الدولة العثمانية الإسلامية. وقد جاء في إحدى الدراسات قصة تبيِّن غباء البشر في بعض الأحيان وعُمْق تعصبهم، فقد قامت محاكم التفتيش بطرد فتاة بتهمة أنها مارانو تدَّعي المسيحية وتُبطن الإسلام. وعند وصولها إلى المغرب أكدت للناس هناك أنها مسيحية مؤمنة، فقاموا بتعذيبها باعتبارها مرتدة فأصرت على موقفها وقُتلت، فاحتُفل بها في شبه جزيرة أيبريا باعتبارها شهيدة مسيحية!
وقد لاحظ بعض الدارسين أن كثيراً من المارانو كانوا في واقع الأمر ملحدين أو بغير هوية دينية على الإطلاق. ولهذا طالب المفكر الهولندي الشهير جروتيوس بأن يؤكد كل يهودي (فوق سن الرابعة عشرة) إيمانه بالإله والأنبياء واليوم الآخر للتأكد من يهوديته.
تبقى بعد ذلك قضية المارانو أو «المسيحيون الجدد» الذين تهوَّدوا عند خروجهم. ولتفسير حالة هؤلاء، نورد الأسباب التالية:(3/374)
1 ـ لم يكن كل المسيحيين الجدد، كما أسلفنا، مؤمنين بالعقيدة المسيحية، بل كان منهم بالفعل مارانو يتحينون الفرصة لإظهار ما يُبطنون.
2 ـ يُعتقَد أن بعض المسيحيين الجدد، الذين كانوا يؤمنون بالمسيحية عن حق، اعتنقوا اليهودية نتيجة مطاردة محاكم التفتيش وملاحقتها لهم، وهم في هذا يشبهون المتهم الذي يعترف بجريمة لم يرتكبها، تحت وطأة التعذيب، حتى يُريح نفسه. كما أن هناك أيضاً عنصر الانتقام من مؤسسة عنصرية غبية.
3 ـ يُعتقَد أن كثيراً من المسيحيين الجدد تهوَّدوا بعد أن وصلوا إلى أمستردام وغيرها من البلاد، حتى يحصلوا على عمل أو يمكنهم الالتحاق بإحدى النقابات الحرفية، أو المهنية. إذ أن المارانو كانوا قد وصلوا إلى بلد غريب ذي تنظيم ينتمي إلى العصر الوسيط ولا يسمح باستيعاب الغريب. وإذا أراد المرء أن يُكتَب له البقاء، خصوصاً إذا كان وافداً جديداً، كان عليه أن ينتمي إلى إحدى النقابات أو المؤسسات. ولكن لم يكن من المتوقع أن تقبله نقابات المهنيين أو إحدى التنظيمات الوسيطة الأخرى باعتباره مسيحياً. وهناك حالات رُفض فيها السماح لبعض المسيحيين الجدد بالتنصُّر الفعلي حتى لا يحصلوا على حقوق المسيحيين. وقد كان أمام هؤلاء فرصة الانضمام إلى إحدى النقابات اليهودية عن طريق التَهوُّد.
4 ـ ولقد أتى هؤلاء المسيحيون الجدد من شبه جزيرة أيبريا، ومن ثم فإن من كان منهم مسيحياً حقاً كان يؤمن بالكاثوليكية، ثم استقروا في هولندا، وكانت حينذاك بلداً بروتستانتياً معادياً لإسبانيا، يتسامح مع اليهودية ويقبلها ولا يتسامح مع الكاثوليكية. فالدول البروتستانتية الجديدة في أوربا كانت تنظر إلى الكاثوليكية والكاثوليك (لا اليهودية واليهود) باعتبارهم الخطر الأعظم. ومن ثم كان من المنطقي أن يَتبنَّى هؤلاء المطرودون من بلادهم البديل الوحيد المقبول وهو اليهودية.(3/375)
وقد ظهرت نظرية مؤخراً تذهب إلى أن المارانية هي نتاج شكل من أشكال العبادة الشعبية التي كانت موجودة في شبه جزيرة أيبريا، وهي عبادة اختلطت فيها العناصر اليهودية بالعناصر المسيحية والإسلامية (كما هو الحال مع العقائد الشعبية) .وقد شاعت هذه العبادة بين الجماهير اليهودية التي كانت تَشعُر بالاغتراب عن اليهودية الحاخامية الرسمية بنزعتها العقلية والعقلانية، خصوصاً بعد تأثرها بالفلسفة العقلانية الرشدية. والديانات الشعبية عادةً ما يتم تَوارُثها من خلال الأسرة، ولذا كان اليهودي المتنصِّر عن صدق يصبح من المارانو إن كان من ممارسي هذه الديانة الشعبية. ومهما كانت الأسباب والدوافع لتَعقُّب محاكم التفتيش للمارانو وتهوُّدهم بعد خروجهم من شبه جزيرة أيبريا، وبغض النظر عما إذا كانوا مسيحيين عن صدق أم يهوداً، فما يهمنا هنا هو تأكيد أن المضمون اليهودي لهوية المسيحيين الجدد، والمارانو بعد خروجهم من شبه جزيرة أيبريا، إما أنه لم يكن موجوداً أساساً أو أنه قد ضعف تماماً أو اختفى كليةً. وقد انضمت أعداد كبيرة منهم إلى الجماعات اليهودية في أوربا، الأمر الذي ترك أعمق الأثر في هذه الجماعات. فهوية المارانو كانت هوية هامشية بالنسبة إلى المجتمعات كافة. ذلك أنهم بعد انضمامهم إلى الجماعات اليهودية، لا يكونون مسيحيين في المجتمع المسيحي، ولا يهوداً من منظور اليهودية الحاخامية. ولذا، قُدِّر لهم أن يلعبوا دوراً تحديثياً ضخماً بوصفهم «غرباء هامشيين» وكجماعات وظيفية داخل المجتمعات الغربية وبين الجماعات اليهودية.(3/376)
وقد انتشر يهود المارانو في كل أنحاء العالم بعد طردهم، فذهبت أعداد كبيرة منهم إلى الدولة العثمانية واستوطنوا سالونيكا، فكان عدد يهود المارانو في هذه المدينة يفوق عدد اليهود بل وعدد غير اليهود فيها. ولذا، كانت هذه المدينة تُعَدُّ عاصمة المارانو في العالم. كما اتجهوا إلى الأستانة والقاهرة وكونوا نخبة متفوقة، الأمر الذي أدَّى إلى اندماج مختلف الجماعات اليهودية الأخرى فيهم، وأصبحت اللادينو لغة يهود الدولة العثمانية.
وقد اتجه المارانو إلى الدول الغربية، خصوصاً البروتستانتية، حيث كانت محاكم التفتيش محط كراهية عميقة، وكان كثير من البروتستانت من ضحاياها. فاستوطن المارانو في إنجلترا وأمستردام وهامبورج، بل واتجه بعضهم إلى الدول الكاثوليكية فاستقروا في بايون وبوردو وليون في فرنسا، وفي بعض المستعمرات الاستيطانية التابعة لإسبانيا أو البرتغال في العالم الجديد. وكانت بعض الدول مثل هولندا تعترف بالمارانو كيهود عند وصولهم. أما بعض الدول الأخرى، فكانت تتسامح في وجودهم وحسب، وتلجأ في ذلك إلى حيل قانونية أو غير قانونية. فكانت بعض الدول، مثل إنجلترا، تغض النظر عن هويتهم الحقيقية، فيظلون مسيحيين اسماً ويمارسون عقيدتهم اليهودية سراً أو علناً، ولكن دون اعتراف رسمي، لأن الاعتراف الرسمي كانت تنجم عنه بكل تأكيد تعقيدات إدارية بالغة في مجتمع تستند كل مؤسساته إلى العقيدة المسيحية وإلى الإيمان بها. وكما أشرنا سالفاً، فإن كلمة «برتغالي» كانت في كثير من الدول تعني «مارانو» أو «يهودي» .(3/377)
وكان يهود المارانو عادةً يستوطنون في بلد ما ليُشكِّلوا نواة سفاردية متقدمة تلحق بها عناصر إشكنازية تزيد من عددها. وقد ظل السفارد النخبة التي كانت تلعب دوراً قيادياً. أما الإشكناز فكانوا هم الجماهير، أو الفائض غير المرغوب فيه. وقد زادت الهجرة الإشكنازية من شرق أوربا بعد هجمات شميلنكي في القرن السابع عشر، ومع تَفاقُم المسألة اليهودية في القرن التاسع عشر، حتى زاد عدد اليهود الإشكناز على عدد يهود السفارد من المارانو السابقين وأصبحوا هم الأغلبية العظمى.
وفي الأدبيات الصهيونية يتحدثون عن «المارانو الجدد» ، وهم اليهود المندمجون الذين يحاولون الاندماج في محيطهم الثقافي ويخفون يهوديتهم بقدر الإمكان. ولكن كما قال حاخام فيينا بعد لقائه بهرتزل: "من هو اليهودي الحقيقي: هل هو الذي يمارس شعائر دينه ويندمج في مجتمعه، أم هو الصهيوني الذي يتحدث عن العودة إلى فلسطين ولا يمارس أياً من الأوامر والنواهي؟ ". ويمكننا من هذا التساؤل أن نقول إن الصهيوني هو مقلوب المارانو، فهو يتباهى بهويته اليهودية ولكنه في داخله إنسان غير منتم إلى الدين اليهودي. وقد لاحظ بن جوريون نفسه أن يهود أمريكا يستخدمون الصهيونية كغطاء يستترون به حتى يزيدوا من اندماجهم الفعلي في مجتمعاتهم، وتنحصر يهوديتهم الظاهرة في إرسال التبرعات إلى إسرائيل لإخفاء باطنهم المندمج، ومن هنا الإشارة ليهودية هؤلاء باعتبارها «يهودية دفتر الشيكات» .(3/378)
وقد اختفى أثر المارانو في إسبانيا، أما في البرتغال، حيث كانت توجد أعداد كبيرة منهم، فقد استمر وجودهم حتى القرن العشرين على هيئة جماعات متفرقة يبلغ عدد أعضائها نحو عشرة آلاف. ومن الطريف أن جيرانهم يعرفون أنهم مارانو وأنهم فقدوا الصلة تماماً بالجماعات اليهودية في العالم وإن كانوا يحتفظون بالصلة فيما بينهم. وقد أصبحت ممارستهم الخفية جزءاً أساسياً من عقيدتهم، كما أصبحت طقوسهم الباهتة التي توارثوها عبر الأجيال هي ممارستهم الدينية اليهودية الوحيدة. ورغم أن البرتغال أعلنت حرية العبادة عام 1910، فإن المارانو لم يغتنموا الفرصة وظلوا على ممارستهم.
ومن أهم جماعات المارانو جماعة مدينة بلمونت، فهم يتصورون أنهم من نسل اليهود البرتغاليين مباشرةً، وأنهم غير مُخلَّطين. كما أنهم لا يزالون يمارسون بعض الشعائر الدينية اليهودية، فهم يوقدون الشموع يوم السبت، ويصومون يوم الغفران، ويقيمون بعض شعائر عيد الفصح، فلا يأكلون لحم الخنزير في يوم السبت أو في الأعياد ولكنهم يأكلونه في الأيام الأخرى، وهم يحتفلون بهذه الأعياد في أيام غير تلك التي حددها التقويم اليهودي حتى يحولوا الأنظار عنهم. ويتم عقد الزيجات باسم الإله أبراهام وإسحق ويعقوب. كما احتفظوا ببعض شعائر الدفن مثل الطهارة، أي تغسيل الميت. وقد اختفت اللغة العبرية في صلواتهم، فلم يبق سوى عبارات مُحرَّفة تكاد تكون غير مفهومة. وقد أصبحت عقيدتهم بعيدة عن اليهودية وتتضمن خرافات كثيرة. ويبدو أن الممارسات الدينية مقصورة على النساء، ربما لصرف الأنظار.(3/379)
وتحاول بعض الجماعات اليهودية، خصوصاً في إنجلترا حيث يوجد يهود كثيرون من أصل برتغالي، أن يُهوِّدوا المارانو ويُدخلوهم حظيرة اليهودية العلنية. وقد بذلت الأليانس جهوداً كبيرة في هذا المضمار، واتصلت بهم الوكالة اليهودية مؤخراً، ويبدو أنها أقنعتهم بالتهود والهجرة إلى إسرائيل. وهذا يعني بالنسبة إليهم حراكاً اجتماعياً لأن معظمهم فقراء يعملون بائعين متجولين.
والمارانو يشبهون من بعض الوجوه ظاهرة الموريسكيين، وهم العرب المسلمون الذين اضطروا إلى التنصُّر بعد استرداد المسيحيين لإسبانيا. وقد نسي الموريسكيون اللغة العربية وإن كانوا يتحدثون بلهجة يُقال لها «الألخميادو» (تحريف لكلمة "أعجمية") ، وهي اللغة القشطالية بعد أن دخلت عليها كلمات عربية ولاتينية، وكانت تُكتَب بحروف عربية. وكان الموريسكيون صناعاً مهرة وفنيين في العديد من المهن، مثل: صناعة الحرير، والذهب والفضة، والنقش والبناء، والفلاحة وأساليب الري الفنية. كما كانوا وراء تعميم زراعة البرتقال والموالح وقصب السكر ومختلف الأشجار المثمرة كالتوت، ومن الواضح أنهم كانوا مُركَّزين في قطاعات الاقتصاد الإنتاجية، على خلاف يهود إسبانيا الذين كانوا مركزين في التجارة والمال والأعمال الوسيطة. وقد حاولت الدولة الإسبانية صبغهم بالصبغة الإسبانية بعد تَنصُّرهم، فكان يُحرَّم عليهم لبس الرداء العربي أو التحدث بالعربية أو اقتناء كتب عربية أو طبخ الكُسكُس (الطعام المغربي الشهير) . وقد اندلعت الثورات بينهم من أهمها ثورة الموريسكيين الكبرى في البشرات (قرب غرناطة) سنة 1569 (وتُسمَّى ثورة البشرات الثانية) . وحينما فشل النظام الإسباني في إسقاط هويتهم العربية، قام بطردهم سنة 1609 (كان مجموع المسلمين الذين طُردوا يتراوح ما بين 900 ألف و 300 ألف، وفي بعض التقديرات يُقال إن مجموع من طُرد من المسلمين يصل إلى ثلاثة ملايين) .(3/380)
ومع هذا، بقي كثير من المسلمين يمارسون شعائر دينهم في الخفاء، ويتداولون الكتب الدينية المكتوبة بالألخميادو. وقد تعقبتهم محاكم التفتيش، وبالفعل وُجد في غرناطة (عام 1727) قساوسة من أصل موريسكي يمارسون شعائر الدين الإسلامي سراً. وكانت بعض الأسر الموريسكية تُشهر إسلامها بعد مغادرتها إسبانيا. وفي سنة 1757، حُوكم موريسكي بتهمة اتباع شعائر الدين الإسلامي سراً. وقد لاحَظ بعض الرحالة الإنجليز في أواخر القرن الثامن عشر أن بعض الأسبان مازالوا يمارسون شعائر الدين الإسلامي سراً. ويقول بعض الأساتذة الأسبان إنه لا تزال توجد في إسبانيا قرى بأسرها موريسكية. وقد بدأ بعض دعاة القومية الأندلسية في إسبانيا الحديثة يصر على أن تراث أهل الأندلس هو التراث الإسلامي، بل إن بلاسي إنفانتي بيريز (1885 ـ 1936) أبا حركة البعث الأندلسي، وهو من نسل الموريسكيين القدامى، اعتنق الإسلام، وقد أعدمته قوات فرانكو رمياً بالرصاص في 10 سبتمبر 1936.
جديد الإسلام
Jedid al-Islam
«جديد الإسلام» مصطلح إيراني بمعنى «المسلمون الجدد» ، ويشير هذا المصطلح إلى اليهود المتخفين الذين أُرغموا عنوة على اعتناق الإسلام في إيران في القرنين السابع والثامن عشر، فأظهروا الإسلام وأبطنوا اليهودية. ويشير المصطلح على وجه التحديد إلى أعضاء الجماعة اليهودية في مشهد، والذين اضطروا إلى اعتناق الإسلام إبان حكم أسرة الكاجار عام 1839.
ولا نعرف شيئاً عن مصير اليهود الذين اعتنقوا الإسلام عنوة في القرنين السابع عشر والثامن عشر. والظن الغالب، أنه تم استيعابهم في المجتمع الإسلامي. أما جماعة مشهد، فقد احتفظت بهويتها ولم يتزاوج أعضاؤها إلا فيما بينهم، ثم هاجر بعضهم إلى القدس عام 1890. أما بقية الجماعة، فقد ظلت في مشهد حتى أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، وكونت جماعة اقتصادية مستقلة.
تشويتاس
Chuetas(3/381)
«تشويتاس» من كلمة «تشويا» وتعني «لحم خنزير» بلهجة جزيرة مايوركا، إحدى جزر البالياريك التابعة لإسبانيا. غير أن هناك نظرية أخرى تذهب إلى أن الكلمة مُشتقَّة من كلمة «تشوهينا» وتعني «يهودي» بلهجة الجزيرة. وهم من أهم جماعات المارانو التي استمر وجودها حتى الوقت الحالي في جزيرة مايوركا. وأعضاء هذه الجماعة يعملون أساساً بالتجارة وصناعة الحلي الفضية. وقد فَقدوا كل علاقة باليهودية، ومع هذا فهم لا يزالون يحتفظون بعزلتهم وهويتهم الخاصة الباهتة. ولا يُعرَف عددهم على وجه الدقة، وإن كان لا يتجاوز مائتين أو ثلاثمائة. وقد هاجرت أعداد منهم إلى إسرائيل وتم تهويدهم واستوطنوا فيها، ولكن التجربة فشلت فعادوا إلى مايوركا.
الرومانيوت
Romaniot
تُستخدَم كلمة «رومانيوت» للإشارة إلى الجماعة اليهودية داخل الإمبراطورية البيزنطية في آسيا الصغرى وشبه جزيرة البلقان. وكان الرومانيوت يُسمَّون أيضاً «الجريجوس» ، كما تُستخدَم الكلمة للإشارة إلى نسلهم ومن ورثوا تراثهم اللغوي والثقافي. وكان الرومانيوت يتسمَّون بأسماء يونانية، كما كانت معابدهم تُعرَف بأسماء يونانية أيضاً. وقد تأثروا بعمق بالتراث اليوناني وباللغة اليونانية التي أصبحت لغة الصلاة في المعبد. وقد صدرت عام 1547 ترجمة العهد القديم باليونانية الحديثة واللادينو. ومع بداية القرن السادس عشر، بدأ يهود السفارد يصلون لاجئين إلى الدولة العثمانية، وكان مستواهم الثقافي الرفيع وخبراتهم الإدارية والمالية واتصالاتهم العالمية تؤهلهم لاستلام قيادة الجماعات اليهودية في الدولة العثمانية، الأمر الذي وضع يهود الرومانيوت في حالة دفاع عن النفس. وعلى أية حال، فقد بدأت معابدهم في التناقص وأصبحت لهجتهم اليونانية مقصورة على بضعة تجمعات يهودية متناثرة. وقد انتهى الأمر باندماج معظمهم في السفارد وتَبنِّيهم اللادينو التي أصبحت لغة معظم يهود الدولة العثمانية في الكتابة والحديث.(3/382)
يهود الهند
Indian Jews
توجد عدة جماعات يهودية في الهند من بينها بني إسرائيل في بومباي، ويهود كوشين على ساحل مالابار، في ولاية كيرالا، واليهود البغدادية في بومباي أيضاً، ويهود مانيبور على الحدود مع بورما. وقد بلغ عددهم عام 1947 نحو 26.000. أما في عام 1961، فقد بلغ عددهم 14.608 في الهند ذاتها، إضافة إلى 23 ألفاً في إسرائيل، و2000 في إنجلترا حسب إحصاءات عام 1968، أي أن عددهم يبلغ نحو 39.500، وهو ما يعني أن نسبة التكاثر بين يهود الهند من أعلى النسب بين الجماعات اليهودية (إذا كانت الإحصاءات دقيقة) . وقد تأثرت كل هذه الجماعات اليهودية بالبيئة الهندية وبنظام الطوائف المغلقة. وهي لا تنتمي إلى أيٍّ من الكتل اليهودية الثلاث الكبرى: الإشكناز، والسفارد، ويهود العالم الإسلامي. ولذا، فهم يُعَدُّون ضمن الجماعات الهامشية مثل الفلاشاه ويهود كايفنج.(3/383)
ويُلاحَظ أن قبول اليهود في مجتمع ما، واندماجهم فيه، يؤدي إلى ذوبانهم وانصهارهم. ولكن يهود الهند يمثلون نمطاً مغايراً تماماً إذ أن اندماجهم أدَّى إلى الحفاظ على هويتهم. وهذه مفارقة واضحة تعود إلى حركيات المجتمع الهندي ذاتها، فهو مجتمع تُعَدُّ الوحدة الأساسية فيه القرية والطائفة المغلقة. وتستطيع أنواع مختلفة من البشر الاحتفاظ بهوياتهم فيه، ماداموا يقبلون الطائفة المغلقة إطاراً للتنظيم الاجتماعي، وربما ببعض المعتقدات الهندوكية الأساسية. وتقوم عملية التضامن داخل الجماعة المغلقة بتقوية الهوية مادامت لا تهدد النظام الاجتماعي. وبالتالي، فإن ثمة هويات هندية يهودية مختلفة، بل ومتصارعة، لكلٍّ سماتها الواضحة. وهذا، بطبيعة الحال، مختلف عن وجود هوية يهودية محددة داخل كل مجتمع، وعن الافتراض الصهيوني القائل بوجود هوية يهودية عامة أو عالمية. ويُلاحَظ أن الهويات اليهودية الهندية آخذة في الاختفاء بسبب الهجرة من الهند سواء إلى إسرائيل أو إلى غيرها من البلدان. كما أن الأجيال الجديدة من الهنود اليهود بدأت تتمرد على نظام الطوائف المغلقة، تماماً مثل جيل الشباب الهندي ككل.
ويعيش القسم الأكبر من يهود الهند الذين هاجروا إلى إسرائيل في مدن التنمية، خصوصاً تلك الموجودة في النقب والمنطقة الجنوبية مثل: بئر سبع وعسقلان وعراد إضافة إلى بيسان في غور الأردن. ويعيش قسم آخر في المدن الكبرى الثلاث: القدس، وتل أبيب، وحيفا. ويعيش عدد قليل للغاية في بعض الكيبوتسات (وهي مؤسسات إشكنازية بالدرجة الأولى) والموشافات. ومن الظواهر التي تستحق التسجيل أن ثمة قائمة خاصة بمهاجري الهند ظهرت في انتخابات عام 1984.
بني إسرائيل
Bene Israel(3/384)
«بني إسرائيل» اسم عَلَم يُطلَق على مجموعة من يهود الهند كانت تقطن أساساً في منطقة كونكان، ولكنها، ابتداءً من القرن الثامن عشر، انتقلت إلى بومباي حيث أسست أول معبد يهودي عام 1796. ومع حلول عام 1833، كان ثلثا يهود بني إسرائيل يعيشون في بومباي. ولا نعرف الكثير عن أصل يهود بني إسرائيل، إلا أنهم، حسب روايتهم، يعودون إلى ما قبل الميلاد. وقد انقطعت صلتهم باليهودية الحاخامية، ولكنهم بعد احتكاكهم بيهود كوشين تَعلَّموا على أيديهم أصول عقيدتهم مرة أخرى، كما انضم إليهم اليهود البغدادية في القرن التاسع عشر. ولون يهود بني إسرائيل أميل إلى البياض مقارنةً بلون بشرة الهنود العاديين، وهم يرتدون الملابس الهندية ويتحدثون الماراثي (وهي اللغة الشائعة في المنطقة التي يعيشون فيها) ، ويتسمَّون أسماءً هندية. ونظراً لانفصالهم عن اليهودية الحاخامية لعدة قرون، فإن شعائرهم الدينية تختلف عن شعائر باقي يهود العالم في كثير من النواحي، فهم لا يعرفون التلمود، بل كانوا قد نسوا التوراة بعض الوقت ولكنهم أعادوا اكتشافها من بعد. ولم يُترجَم العهد القديم إلى اللغة التي يتحدثونها إلا في بداية القرن التاسع عشر. ومع هذا، فهم يعرفون صلاة عبرية هي صلاة الشماع، وللنبي إلياهو مكانة خاصة في عبادتهم. ومن عاداتهم الدينية عادة تُسمَّى «ماليدا» وهي إعداد طعام خاص يقدم قرباناً. وتُتلَى بعض الصلوات اليهودية في مناسبات مهمة مثل الختان والزواج. وأعيادهم وأيامهم المقدَّسة هي: رأس السنة (ويُحتفَل به لمدة يوم واحد) ، ويوم الغفران، وعيد الفصح. ولكنهم كانوا لا يعرفون عيد التدشين. كما كانوا لا يعرفون شيئاً عن هَدْم الهيكل على يد تيتوس. وهم يقيمون شعائر السبت والختان وبعض قوانين الطعام، ويمارسون صيام رمزان (وقد يكون هذا الاسم تصحيفاً لكلمة «رمضان» ) . وكان يترأس الجماعة اليهودية من الناحية الدينية والدنيوية الكاجي (القاضي؟) . وقد أصبحت(3/385)
الوظيفة وراثية حتى صارت كلمة «كاجي» هي اسم العائلة. وبعد احتكاك يهود بني إسرائيل باليهودية الحاخامية في بقية العالم وتأسيسهم معابد يهودية، ظهرت وظيفة المقدَّم الذي اضطلع بالوظيفة الدنيوية للكاجي، كما حل المرتلون (حزان) محل الكاجي في الجوانب الشعائرية. ولا يوجد عندهم حتى الآن حاخام مُعتَمد تَلقَّى التدريب الصحيح.
وكان يهود بني إسرائيل يعملون أساساً بالزراعة واستخراج الزيت وببعض الحرف اليدوية. وبعد احتلال الإنجليز للهند، خدم يهود بني إسرائيل في الفرق العسكرية الإنجليزية وعملوا في المهن المختلفة وفي وظائف ذوي الياقات البيضاء وفي المهن التجارية والمالية الأخرى، أي أنهم تحولوا إلى جماعة وظيفية في خدمة الاستعمار. وهناك 10% من يهود بني إسرائيل يعملون بالتجارة، ولكن أغلبيتهم العظمى تعمل كَتَبة في الحكومة والمكاتب الخاصة. ولذا، يُشار إليهم الآن بوصفهم «طائفة الكتبة المغلقة» ، كما تضم الجماعة بعض الأساتذة الجامعيين.
ويمكننا أن نقول إن يهود بني إسرائيل قد استطاعوا الحفاظ على هويتهم من خلال نشاطهم داخل المجتمع الهندي لا ضده، أي من خلال اندماجهم فيه. ومن هنا، فإن بعض أنماط سلوكهم يختلف عن أنماط سلوك يهود الغرب. ورغم أن سمعة الأطباء اليهود جيدة في الهند، فإن أبناء الجماعة لا يترددون عليهم. ونادراً ما يستخدم أرباب العمل اليهود عمالاً يهوداً، على عكس ما كان عليه الأمر في أوربا قبل الثورة الصناعية. ونادراً ما يرسل أعضاء الجماعة أبناءهم إلى مدارس يهودية. كما لا تُوجَد نسبة كبيرة من التجار بينهم.(3/386)
ولكن الاندماج يظهر، أكثر ما يظهر، في استيعاب نظام الطوائف المغلقة (الهندوكي) لأعضاء الجماعات اليهودية، وكذلك في تأثيره العميق عليهم وعلى رؤيتهم للذات وللآخر. فأعضاء الجماعات اليهودية ينقسمون إلى قسمين: اليهود البيض (جورا إسرائيل) ، الذين يعتبرون أنفسهم اليهود الحقيقيين والأكثر رقياً (وهم حسب أسطورتهم أبناء العائلات السبع نقية الدم التي وصلت إلى الهند واستقرت في ساحل كونكان) ، واليهود السود (كالا إسرائيل) وهم هنود مُتهوِّدون أو نتاج زواج مختلط. ويُعتبَر الجورا إسرائيل أنفسهم في مكانة اجتماعية أعلى من الكالا إسرائيل، ويحاولون الحفاظ على نقائهم ولا يتزاوجون معهم، بل ولا يلمسون أدوات الطبخ الخاصة بهم. وقد انعكست الثورة على النظام الطائفي في الهند على بني إسرائيل إذ أن أعضاء الكالا إسرائيل يُظهرون الآن تَذمُّراً من عنصرية الجورا إسرائيل.
ويُطلق جيران اليهود عليهم مصطلح «شانو ارتيليس» ، أي «زياتو السبت» باعتبار أن أعداداً كبيرة منهم تعمل في استخراج الزيت وبيعه، الأمر الذي يعني أنهم كانوا طائفة مُغلَقة متدنية في سلم الطوائف، ويسبب مجرد لمس أحد أشخاص هذه الطائفة الدناسة. ولم يتأثر يهود بني إسرائيل بالملابسات الاجتماعية وحسب، وإنما نجد أن بعض العقائد الهندوكية وجدت طريقها إلى يهوديتهم. فمثلاً كان يُحرَّم الزواج من الأرامل، وكانوا يتصورون أن أكل لحم البقر مُحرَّم عليهم وأن ذلك منصوص علىه في التوراة!(3/387)
وينقسم يهود بني إسرائيل في الوقت الحاضر إلى ثلاثة اتحادات دينية: أولها اتحاد الأبرشيات الأرثوذكسية، وهو مرتبط بالاتحاد الذي يحمل الاسم نفسه في الولايات المتحدة. والثاني معبد الهند المتحد، ويرتبط بالمجلس العالمي للمعابد المحافظة. وليس هناك فارق واضح بين هاتين الطائفتين (وقد يكون من قبيل المفارقات أن كلا الاتحادين قد أخذ بالطقوس السفاردية) . وهناك اتحاد ثالث هو الاتحاد اليهودي الديني، وهو مرتبط بحركة اليهودية الليبرالية الإصلاحية في إنجلترا ويضم أعضاء بني إسرائيل الذين حققوا مكانة اجتماعية عالية. ولا تختلف شعائر هذا الاتحاد الثالث عن الاتحادين الآخرين. ولذا، يظل الاختلاف هو الاختلاف في الانتماء الطبقي للأعضاء.(3/388)
وعندما اتصلت الحركة الصهيونية بيهود بني إسرائيل ليرسلوا ممثلين لهم للمؤتمرات الصهيونية، رفضوا في بداية الأمر إذ أنهم كانوا في انتظار «اليد المقدَّسة» لتقودهم إلى أرض الميعاد. وبعد عدة سنوات، وتحت تأثير الوكالة اليهودية التي بدأت تُشرف على أمورهم الدينية والدنيوية، هاجر بضعة آلاف منهم إلى إسرائيل حيث عانوا من التفرقة العنصرية وفشلوا في العثور على وظائف، وهو ما اضطرهم إلى الإضراب والمطالبة بالعودة إلى الهند. وقد عاد بعضهم بالفعل. أما الفريق الذي استوطن إسرائيل نهائياً، فقد وُطِّن في موشاف جديد يقطنه أساساً يهود عراقيون وهنود. وفي عام 1961، أصدر حاخام السفارد (الحاخام نسيم) قراراً (بإيعاز من اليهود البغدادية) بالتحقق من أصل يهود بني إسرائيل الذين يودون التزاوج من خارج جماعتهم الدينية الإثنية، لأنه لم يكن متأكداً إن كان أسلافهم قد راعوا القوانين اليهودية في الزواج والطلاق، وكذلك التحريمات الخاصة بالزواج المُختلَط، وذلك حتى يتسنى للحاخامية أن تقرر إن كان أولادهم شرعيين أم غير شرعيين (مامزير) . وقد أدَّى هذا إلى إضراب عام من جانب بني إسرائيل عام 1964، الأمر الذي اضطر الحاخامية إلى تغيير موقفها بالنسبة لهم. ومن أشهر الإسرائيليين المنتمين إلى هذه الأقلية آبي نيثان، وهو من الموافقين على حل الصراع العربي الإسرائيلي سلمياً ومن معارضي سياسة التوسع الإسرائيلية. وقد قابل آبى نيثان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وزُجَّ به في السجن لذلك السبب. وكان عدد بني إسرائيل في الهند: 5255 عام 1837، و7000 عام 1881، و14.805عام 1941. أما في عام 1947، فقد بلغ عددهم 17.500، ثم هاجرت أعداد منهم إلى الدولة الصهيونية. وهبط عددهم إلى 15 ألفاً عام 1960 وإلى 13 ألفاً عام 1968. ثم هبط عددهم بعد ذلك إلى 12 ألفاً. ويبدو أن عدد يهود بني إسرائيل في الهند قد أخذ في التناقص بسبب الهجرة إلى إنجلترا وكندا وأستراليا إذ بلغ(3/389)
عام 1981 نحو أربعة آلاف.
يهود كوشين
Cochin Jews
«كوشين» مدينة هندية، وتُسمَّى بهذا الاسم أيضاً منطقة على ساحل مالابار تقع جنوب غربي الهند، وهي الآن جزء من ولاية كيرالا. وتضم كوشين جماعة يهودية متميِّزة تمثلت كثيراً من سمات الحضارة الهندية. وتعود أصول هذه الطائفة إلى عصور قديمة. ويَدَّعي يهود كوشين أنهم من قبيلة منَسَّى، وأنهم وصلوا إلى مالابار بعد هَدْم الهيكل. وفي حوزة يهود كوشين وثيقة مكتوبة على ألواح من النحاس تتضمن صك الانتماء إلى طائفة النبلاء، وقد منحها الراجا الهندي لليهودي يوسف رابان. وحسبما جاء فيها، فإن الصك يعطي يوسف هذا عدة مزايا، فقد أصبح من حقه أن يركب فيلاً، وأن يُحمَل في محفَّة، وأن يُحمَى من الشمس بمظلة من مظلات الدولة، ومن حقه أيضاً أن يفرض الضرائب، وأن تسبقه الطبول والمزامير كلما خرج إلى الشوارع، كما مُنح قرية انجوفانام على حدود كوشين يتوارثها أبناؤه من بعده. وقد كان يهود كوشين يساعدون الراجا في حروبه ضد الإمارات المجاورة، وانضمت إليهم عناصر يهودية جديدة في القرن السادس عشر (مع وصول الاستعمار الغربي) ، فجاء يهود من هولندا وإسبانيا وألمانيا وحلب. وقد وقعت كوشين تحت حكم البرتغاليين (1502 ـ 1663) . ولكن الراجا حمى اليهود من ممارسات البرتغاليين العنصرية، وعيَّن لهم رئيساً (مداليار) . وقد أعقب ذلك مرحلة هولندية (1663 ـ 1795) كانت تتسم باستقرار اليهود النسبي حيث تَحوَّل بعض أعضاء الجماعة إلى وسطاء تجاريين، ونشأت علاقة بينهم وبين يهود هولندا. ثم جاء الاستعمار الإنجليزي بعد ذلك وعمَّق هذا الاتجاه.
ويُقسَّم يهود كوشين إلى:
1 ـ اليهود البيض أو «ميوحاسيم» ، أي «المنتسب إلى» ، ويُسمون أيضاً «بارناس» أي «شخص» . فهم من نسل يهود أوربا الذين جاءوا مع الاستعمار وتزاوجوا مع أثرياء اليهود المحليين، وكونوا طائفة مغلقة متميِّزة عن اليهود السود.
2 ـ اليهود السود أو «ميشواريم» .(3/390)
3 ـ اليهود المعتَقين أو «ميشو حراريم» .
ويشكل اليهود السود أغلبية أعضاء الجماعة اليهودية. أما اليهود البيض، فهم أقل عدداً، ولون جلدهم مختلف، وهم يدَّعون أنهم من نسل المهاجرين الأوربيين، وأن جلدهم قد اكتسب لونه الداكن نتيجة تَعرُّضهم للشمس الاستوائية. أما الفريق الثالث، فهو من سلالة عبيد الفريقين السابقين، أو ثمرة العلاقة بين اليهود البيض والسود من ناحية والمحظيات أو الجواري من ناحية أخرى. ولذا، يُقسَّم هذا الفريق أحياناً إلى مُعتَقين بيض ومُعتَقين سود.
ويهود كوشين مُستوعَبون تماماً في مجتمعهم الهندي، فهم يرتدون الأزياء الهندية ويتحدثون لغة المالايالام (وهي لغة سكان الهند الأصليين) ، ويتحدث اليهود البيض منهم الإنجليزية إلى جانب هذه اللغة.
وقد ترك نظام الطوائف المغلقة فيهم أعمق الأثر. ولذا، فإن الفرق الثلاثة أو الأربعة لا تتزاوج فيما بينها إلا نادراً. ويعيش كلٌّ في حيٍّ مقصور عليه، ولا يسمح لأعضاء الفرق الأخرى بالسكنى فيه. ولم يكن من حق أعضاء الفريق الثالث، حتى عام 1932، أن يجلسوا في المعبد اليهودي أو يشاركوا في الصلوات. ويستخدم يهود كوشين العبرية في صلواتهم، وشعائرهم سفاردية مع بعض الأشكال الإشكنازية نتيجة الهجرة المُختلَطة في القرن السابع عشر. وكان عدد يهود كوشين عام 1781 نحو 422 أسرة، أي حوالي 2000 شخص. ونَقَص عددهم عام 1873 إلى 1039، وعام 1931 بلغ عددهم نحو 1774 حيث كانوا مُقسَّمين على النحو التالي: 1600 يهودي أسود، و144 أبيض، و30 ميشوحراريم أو مُعتَقين. وفي عام 1948، بلغ عددهم 2500، منهم مائة يهودي أبيض. وفي عام 1968، هاجر اليهود السود، ولم يهاجر من اليهود البيض أحد لأن الحكومة الهندية لم تسمح لهم بأخذ أموالهم.(3/391)
ويبلغ عدد يهود كوشين الآن (في إسرائيل) ما يزيد على أربعة آلاف. وقد وُضعوا تحت الحجر الصحي بسبب انتشار مرض الفيل بينهم. ولا ندري هل اعترفت دار الحاخامية بهم يهوداً أم لا، فهم لا يعرفون إلا القليل من التلمود وتراث التوراة الشفوية بشكل عام. ويُقال إن عدد يهود كوشين المتبقين في الهند لا يزيد عن ثلاثين فرداً.
يهود مانيبور
Mainpur Jews
«مانيبور» منطقة في الهند، على حدودها مع بورما، تُوجَد فيها جماعة يهودية لا يزيد عددها عن مائة شخص. ويرى يهود مانيبور أن أصولهم تعود إلى يهود الصين، وأنهم هربوا من كايفنج منذ ثمانمائة عام أمام الغزو المغولي، ثم استوطنوا الكهوف في الهند الصينية ووصلوا مانيبور في القرن الثامن عشر. وقد نسي أعضاء الجماعة تراثهم اليهودي. وهم لا يمارسون معظم الشعائر، مثل الختان، ولا يعرفون التلمود، ونسوا حتى التوراة مثل يهود الصين. ولكن من المفارقات أنهم حينما احتكوا بالإرساليات المسيحية، اكتشفوا التوراة وبدأوا يمارسون بعض شعائرها، وإن كان بعضهم يمارس الشعائر المسيحية أو العبادات الوثنية السائدة في المنطقة مع الشعائر اليهودية جنباً إلى جنب. ويذهب يهود بني إسرائيل إلى أن يهود مانيبور ليسوا يهوداً، ولذا فإن عليهم التهود إن أرادوا الانضمام للجماعة اليهودية.
اليهود البغدادية
Baghdadi Jews(3/392)
«يهود البغدادية» مجموعة من يهود بغداد السفارد هاجروا إلى الهند في القرن التاسع عشر، وكانوا على مستوى ثقافي راق كما كانوا من الأثرياء. وأسسوا كثيراً من الصناعات التي خلقت عدداً كبيراً من الوظائف. وقد رحب بهم يهود بني إسرائيل في البداية حيث لم يكن بينهم كاهن يقوم بالطقوس الكهنوتية، إلا أن اليهود البغدادية كونوا جماعة مستقلة عن يهود بني إسرائيل ويهود كوشين بسبب إحساسهم بالتفوق على أعضاء الجماعتين. ولذلك، أقام اليهود البغدادية سياجاً من العزلة حولهم وادعوا أن الدماء اليهودية الخالصة لا تسري إلا في عروقهم وحدهم. وأصبح لهم مؤسساتهم الدينية والخيرية المستقلة، وكانت لهم مدارسهم الخاصة التي يتم التدريس فيها بالإنجليزية. وقد بلغ إحساسهم بالتفوق أنهم كانوا لا يحسبون أعضاء بني إسرائيل ضمن النصاب اللازم لإقامة الصلاة في المعبد، كما لم يكن يُنادى على أيٍّ منهم لتلاوة التوراة. وحاولوا استبعادهم من استخدام الأسرَّة المخصصة لليهود في بعض المستشفيات، بل ومن العضوية في معبد رانجون. ولا يتزاوج اليهود البغدادية مع بني إسرائيل إلا في حالات نادرة. وقد بلغ تعداد اليهود البغدادية 6500 نسمة عام 1947، لكن هذا العدد تناقص بسبب الهجرة بحيث أصبح لا يزيد على الألف. ويبدو أنه لم يهاجر منهم سوى أعداد قليلة للغاية إلى إسرائيل، وربما يعود هذا إلى أن لديهم من رأس المال والخبرات ما يسمح لهم بالاستقرار في الغرب، تماماً كما استقرت النخبة الثرية والمثقفة من يهود المغرب العربي في فرنسا ولم تتجه إلى إسرائيل.
يهود القوقاز
The Jews of the Caucasus(3/393)
تُعَدُّ القوقاز من أكثر المناطق تنوعاً من الناحية العرْقية. ويحيط بمنطقة القوقاز روسيا الأوربية شمالاً، والبحر الأسود غرباً، وتركيا وإيران جنوباً، وبحر قزوين شرقاً. وهي مقسَّمة إلى ثماني عشرة منطقة إدارية وهو ما يعكس ثراءها الحضاري. وقد احتفظت عناصر قومية كثيرة بهويتها المستقلة، وذلك بسبب عزلتها في الجبال والوديان. ويبلغ عدد سكان القوقاز اثنى عشر مليوناً تشمل ما لا يقل عن ثلاثين قومية أساسية. وقد انعكس هذا على الجماعات اليهودية، إذ توجد عدة جماعات يهودية في القوقاز منها يهود جورجيا الذين يختلفون عن يهود الجبال (أو يهود داغستان) ، أو يهود بخارى، أو عن بقايا يهود الكرمشاكي.
ويبدو أن معظم يهود القوقاز جاءوا من إيران، إذ يظهر أثر ذلك في لهجاتهم الخاصة. والواقع أن أول إشارة وردت عنهم كانت في كتب الرحالة العرب. وبعد أن ضمت الحكومة الروسية القيصرية القوقاز، سمحت لهم بالاستمرار في حياتهم والتمتع بحقوقهم، باعتبار أنهم كانوا مزارعين مندمجين في مجتمعاتهم، لا جماعات هامشية غير منتجة مثل يهود اليديشية. وقد مُنع يهود اليديشية في بداية الأمر من الانتقال من منطقة الاستيطان إلى القوقاز. ولكن الحظر رُفع فيما بعد حتى بلغ عدد يهود القوقاز في عام 1897 نحو 56.773، منه 7.038 من يهود الجبال 6.034 من يهود جورجيا والباقي من يهود اليديشية. وقد زاد عدد اليهود في القوقاز، فبلغ عددهم في عام 1959 نحو 125 ألفاً، منهم 35 ألفاً من يهود جورجيا و25 ألفاً من يهود الجبال. وقد انخفض عدد يهود القوقاز بسبب معدلات الاندماج المرتفعة وهجرة أعداد كبيرة من يهود جورجيا إلى إسرائيل. وقد بيَّن إحصاء عام 1989، وهو أول إحصاء قُسِّم يهود الاتحاد السوفيتي فيه إلى جماعات يهودية إثنية مختلفة، أن عددهم لا يتجاوز 72.691، منه 16.123 في جورجيا و20.000 من يهود الجبال و 36.568من يهود بخارى.
يهود جورجيا
Georgian Jews(3/394)
«جورجيا» هي إحدى جمهوريات دول الكومنولث (الاتحاد السوفيتي سابقاً) ، وتقع على الساحل الشرقي للبحر الأسود. ويعتقد يهود جورجيا أنهم من نسل قبائل يسرائيل العشر المفقودة التي هجَّرها شلمانصر. وهم يدعمون هذا بقولهم إنه لا يوجد بينهم كهنة. ومهما يكن الأمر، فإن جذورهم في جورجيا موغلة في القدم، وقد قامت علاقات ثقافية بينهم وبين يهود الخزر. وتوجد إشارات عديدة إليهم في الوثائق التاريخية، وقد تحوَّل بعضهم (بعد الغزو المغولي) إلى أقنان يعمل بعضهم بالزراعة والحرف (النسيج والصباغة) والتجارة. وكان الأقنان يعيشون في ضياع أسيادهم وقراهم بمعزل عن يهود العالم، الأمر الذي أدَّى إلى ضمور الهوية والانتماء الديني لديهم، وكان الأقنان يُقسَّمون إلى: أقنان الملك، وأقنان الإقطاعيين، وأقنان الكنيسة. ومع ضم جورجيا إلى روسيا عام 1801، تحوَّل أقنان الملك إلى أقنان الخزانة إذ كان عليهم دفع ضريبة للخزانة. وقد اعترفت الحكومة القيصرية بحقوق اليهود في جورجيا (على خلاف يهود اليديشية الذين كانوا خاضعين لبعض القيود) . وألغيت القنانة في جورجيا في الفترة 1864 ـ 1871.(3/395)
وبعد اندلاع الثورة البلشفية، قامت حركة قوية للاستقلال في جورجيا اشتركت فيها عناصر يهودية معادية للصهيونية (وتحالف معهم أعضاء جماعة حبد) . وقد هاجم الجيش الأحمر جورجيا، وبدأت عملية دمج جورجيا في الدولة السوفيتية وهو ما تضمن دمج أعضاء الجماعة اليهودية. ولم تتدخل الحكومة في الشئون الدينية، ففُتحت المعابد اليهودية، بل وسمحت الحكومة بالنشاطات الصهيونية لبعض الوقت. ولكن، بعد أن تزايدت النشاطات المعادية للسوفييت، تغيَّر موقف السلطات السوفيتية. وفي منتصف العشرينيات، بذلت هذه السلطات جهداً مضاعفاً لعلمنة يهود جورجيا، ففتحت أبواب المصانع للعمال اليهود، كما فتحت لهم المزارع الجماعية اليهودية. ولكن، في منتصف الثلاثينيات، قررت السلطات السوفيتية أن تحطم ما تصورته الانغلاق الإثني لليهود في المزارع الجماعية، فأسست مزارع مختلطة (أممية) تضم يهوداً وأرمن. وقد فكرت السلطات السوفيتية في أن تُطوِّر ثقافة سوفيتية جورجية على نمط الثقافة السوفيتية اليديشية، لكن المحاولة توقفت بعد فترة قصيرة من البدء فيها. ويعمل يهود جورجيا أساساً بالتجارة كما يعمل كثيرون منهم بالمهن الحرة، فمنهم العلماء ومنهم المهندسون والمدرسون. ويوجد بينهم كذلك عمال مهرة.
والجو الحضاري في جورجيا تعددي متسامح. ولا يتَّسم تاريخ الجماعة اليهودية بظاهرة العزل أو الطرد أو المذابح، كما هو الحال مع يهود اليديشية في أواخر القرن التاسع عشر.
ولا تختلف أسماء يهود جورجيا عن أسماء جيرانهم المسيحيين، بل إن لهم العادات نفسها، ويرتدون الأزياء نفسها، ويتبعون أسلوب حياة واحد. وهم يشاركون جيرانهم المسيحيين أعيادهم فيحتفلون بالكريسماس معهم، في حين يشاركهم المسيحيون الاحتفال في عيد النصيب، ويرقصون معهم في عيد نزول التوراة.(3/396)
ويبدو أن يهود جورجيا فقدوا، بمرور الزمن، علاقتهم باليهودية الحاخامية. ولذا، كان سكان المدن من المتمسكين بدينهم اليهودي يشيرون إليهم باسم «الكنعانيين» . ولا يأكل يهود جورجيا لحم الخنزير، ولكنهم لا يحافظون على قوانين الطعام الأخرى. وهم يعرفون الذبح الشرعي ولا يمارسونه بصورة دائمة. وبشكل عام، يُلاحَظ أنهم لا يعرفون كثيراً من الشعائر اليهودية، وحينما يعرفونها فإنهم يتجاهلون معظمها. والفاصل الأساسي بينهم وبين جيرانهم من غير اليهود هو أنهم لا يتزاوجون معهم، ولكن يُلاحَظ أن نسبة الزواج المختلط بينهم آخذة في الزيادة منذ الستينيات.
ويتحدث معظم أعضاء الجماعة اليهودية في جورجيا اللغة الجورجية (91%) ويكتبونها بالحروف الجورجية (وهؤلاء هم اليهود الأصليون) ، كما تتحدث أقلية من يهود جورجيا اليديشية والروسية. ولم تكن العلاقة جيدة دائماً بين يهود جورجيا ويهود اليديشية الذين هاجروا من منطقة الاستيطان في أواخر القرن التاسع عشر (باعتبارهم عنصراً روسياً) ليستوطنوا المناطق الآسيوية التي ضمتها الحكومة القيصرية (فهم جماعة وظيفية استيطانية) . ورغم جو التسامح، وعدم وجود معاداة لليهود، ورغم معدل الاندماج العالي الذي حققه اليهود في جورجيا، فإنهم حين فُتحت أبواب الهجرة إلى إسرائيل هاجر منهم ما يساوي نصف عددهم الكلي. والسؤال الآن: إذا كان يهود جورجيا مندمجين ومتساوين في الحقوق مع غير اليهود، فلم هاجرت أعداد كبيرة نسبياً منهم إلى الدولة الصهيونية؟ وللإجابة عن هذا السؤال، لابد من العودة إلى حركيات المجتمع الجورجي حتى يتسنى لنا فهم العناصر التي أدَّت إلى الهجرة، عناصر الطرد من الاتحاد السوفيتي ثم عناصر الجذب إلى إسرائيل.(3/397)
يستند المجتمع الجورجي إلى شبكة اتصالات واسعة. وهذه الشبكة هي مؤسسة وسيطة تشبه علاقاتها علاقات القرابة أو العلاقات القَبَلية، وهي تضم مجموعة من الأفراد يدخلون في علاقة متعيِّنة مباشرة، فتزوِّد الشبكة العضو بالعون في لحظة حاجته، وبالطمأنينة في لحظات الأزمة، وتَشدُّ من أزره في كل الأحوال في مواجهة المجتمع ككل، وبالذات في مواجهة الدولة الحديثة (بكل تجريديتها) وفي مواجهة البيروقراطية السوفيتية التي تتَّسم أفعالها بمستوى عال من العقلانية وعدم الاكتراث بالعناصر الشخصية. وليس بإمكان عضو أن يوجد خارج هذه الشبكة التي يُعَدُّ اعتماده عليها مصدر عزته وكرامته، وعليه بالمقابل أن يقدم لها ما تريد. ويُلاحَظ أن اليهود ينتظمون في شبكات اتصال غير يهودية، كما أن هناك مسيحيين ينتظمون في شبكات اتصال يهودية. وفي هذا الإطار، يُعتبَر الولاء للدولة أمراً ثانوياً قياساً بالولاء إلى الجماعة/الشبكة المباشرة. ويُنظَر إلى كل من الدولة والشبكة باعتبارهما طرفين متعارضين. فالدولة السوفيتية هي الكيان المجرد البيروقراطي، والشبكة هي الجهاز المتعيّن المحلي الذي يستطيع الفرد التعامل معه بشكل إنساني ومباشر.(3/398)
وهذه الشبكة الهائلة المتطورة، وهذا التمازج بين الفرد والأسرة، هما أساس القومية الجورجية، وهي قومية معادية للضغوط الخارجية التي تأتي عادةً من موسكو. ويتمثل رفض الحكومة المركزية فيما يُسمَّى «الاقتصاد الثاني» ، وهو القطاع الحر غير الشرعي الذي تديره الشبكة بطبيعة الحال لصالح أعضائها، والذي يُعبِّر عن الهوية الجورجية القومية في وقوفها ضد تَدخُّل الدولة الحديثة ومحاولاتها في خلق اقتصاد موحَّد يُدار مركزياً. ويشارك يهود جورجيا هذا الإحساس القومي الجورجي الرافض للدولة الحديثة، والذي يتبدَّى في شكل الارتباط بالشبكة، أي أن هوية يهود جورجيا هي هوية جورجية قوية ذات أبعاد يهودية خاصة تلعب دوراً حاسماً في تشجيع الهجرة إلى إسرائيل. غير أن هذه الهجرة لم تتم لأسباب يهودية عامة وإنما بسبب حركيات المجتمع الجورجي. وتحتوي كل عملية هجرة على عنصر جذب إلى الوطن الجديد وعلى عنصر طرد من الوطن القديم.
ـ عنصر الجذب: عند نشوب حرب 1967، وقف السوفييت إلى جانب العرب ضد إسرائيل، الأمر الذي جعل الجورجيين (بعدائهم التقليدي للروس) يتعاطفون مع إسرائيل ضد العرب وحلفائهم الروس. وقد غذى هذا الشعور التراث الجورجي المحلي المعادي للإسلام. فتحوَّلت الدولة الصهيونية إلى ما يشبه المثل الأعلى: الدولة الصغيرة التي يمكنها الحفاظ على هويتها والوقوف ضد السوفييت. وكان هذا الإحساس الجورجي المحلي قوياً للغاية عند يهود جورجيا. ولعل هذا يمثل عنصر الجذب.(3/399)
ـ عنصر الطرد: حكم مجافنادزة (السكرتير الأول للحزب الشيوعي الجورجي) جورجيا مدة تسعة عشر عاماً، وكان الفساد قد وصل في عهده إلى مستويات لم يسبق لها نظير، إذ يبدو أن الشبكة الجورجية نجحت في التسلل والاستيلاء على مؤسسات الحزب الشيوعي ذاتها هناك، وفي تسخيرها لصالح أعضاء الشبكة أو الشبكات، وبعد إقالته، عُيِّن مكانه شفارنادزة المشهور بنزاهته. ولذا، كان من المتوقع أن يقوم بمناهضة الاقتصاد الثاني الذي كان يرتبط به عدد كبير من اليهود بنسبة تفوق نسبة غير اليهود. وقد شكلت هذه التحولات الاقتصادية عنصر الطرد.(3/400)
ويُلاحَظ أن كلاً من عنصري الجذب والطرد محليان تماماً، وأن اختلاف اليهود عن غير اليهود كان اختلافاً في الدرجة وحسب وليس في النوعية، إذ أن استجابتهم للأحداث كانت استجابة جورجية أساساً وذات بعد يهودي يزيد من حدة الاستجابة عندهم. وقد كانت درجة تعاطفهم مع الدولة الصهيونية بطبيعة الحال أعلى، كما أن درجة الضرر الذي لحق بهم نتيجة الإصلاحات الاقتصادية كانت أكبر كما بيَّنا. ويمكن أن نضيف هنا عناصر أخرى مساعدة، فعلى سبيل المثال رأى يهود جورجيا أن الدولة الصهيونية زاخرة بفرص العمل الحر (الاقتصاد الثاني) الأمر الذي كان يزيد ولا شك من عنصر الجذب. ومن هنا تأتي معاداة معظم المهاجرين من جورجيا للصهيونية العمالية التي تؤيد تَدخُّل الدولة في الاقتصاد. ومن العناصر المساعدة الأخرى، أن عناصر الشبكة التي انتقلت إلى إسرائيل لعبت دوراً أساسياً في جذب أعداد كبيرة من يهود جورجيا. فالمهاجرون السوفييت، كي يحصلوا على تأشيرة هجرة، كان عليهم أن يحصلوا على دعوة من قريب لهم في الخارج. وقد حصل يهود جورجيا على أعلى نسبة من الدعوات وصلت إلى نحو 118%، حيث كان بعض اليهود يتلقون أكثر من دعوة. وحينما كان جزء من الشبكة اليهودية ينتقل إلى إسرائيل، كان بقية الأفراد الذين تخلفوا يجدون الحياة صعبة للغاية ولا معنى لها خارج نطاق الشبكة، فيهاجرون هم أيضاً ليلحقوا بإخوانهم.
وفيما يلي أعداد اليهود الذين هاجروا من جورجيا:
(السنة 1971 عدد المهاجرين 4300) (السنة 1972 عدد المهاجرين 10900) (السنة 1973 عدد المهاجرين 7750) (السنة 1974 عدد المهاجرين 2700)(3/401)
ولم يزد عدد المهاجرين بعد ذلك التاريخ على ألف، مع أن السوفييت لم يتخذوا سياسة متشددة في منح تأشيرات الخروج إلا بعد عام 1979، أي أن الأعوام الخمسة التالية للفترة التي شهدت الهجرة اليهودية المكثفة من الاتحاد السوفيتي شهدت أيضاً تراجعاً بين يهود جورجيا. ويمكن تفسير ذلك مرة أخرى في ضوء حركيات الجذب والطرد الخاصة بالمجتمع الجورجي، فعنصر الجذب الأساسي، وهو حرب 1967، كان آخذاً في التضاؤل التدريجي، وفقد كثيراً من بريقه في حرب الاستنزاف، واختفى تقريباً بعد حرب 1973. أما عنصر الطرد، وهو التحولات الاقتصادية التي هَّزت الاقتصاد الثاني، فيبدو أنه بدأ يقل، إذ أن مخاوف الجورجيين، ومن بينهم اليهود، أخذت تهدأ قليلاً، وظهر أن الأمر لم يكن مخيفاً كما توهموا في بداية الأمر، ومن هنا تناقصت الهجرة.
ويشكل يهود جورجيا في إسرائيل مشكلة كبيرة، فهم لا يشعرون بالسعادة هناك، كما أنهم يعانون من التفرقة العنصرية التي تُمارس ضدهم. وقد أصبحوا من أهم مصادر الجريمة المنظمة في الدولة الصهيونية وتخصصوا في تزييف النقود. وهاجرت أعداد منهم إلى الولايات المتحدة وشكَّلوا هناك بعض عصابات الجريمة المنظمة، والجريمة المنظمة هي أحد أشكال الاقتصاد الثاني.(3/402)
وكان عدد يهود جورجيا 52 ألفاً عام 1959 (وجاء في إحصاء آخر أن عددهم كان 80 ألفاً من الناحية الفعلية) ، وانخفض إلى 43 ألفاً عام 1970. أما إحصاء عام 1989، الذي يتميَّز بأنه يُقسِّم يهود الاتحاد السوفيتي إلى جماعات يهودية إثنية مختلفة، فيذكر أن عدد يهود جورجيا 16.123يعيش أغلبهم في تفليس عاصمة الجمهورية. ولا يزال الجو العام في جورجيا تعددياً، وإن كانت الوظائف الإستراتيجية تُحْجَب عن اليهود لأنهم سيهاجرون إلى إسرائيل. وقد أخذت معدلات الاندماج والعلمنة في التزايد، وبدأ اليهود يصطبغون بالصبغة الروسية لا الجورجية. وإذا أضفنا إلى ذلك هجرة اليهود المتدينين، فليس من المستبعد أن يختفي يهود جورجيا في المستقبل. وقد أصبحت جورجيا جمهورية مستقلة، وهو ما يعني أن الإطار الذي يتحرك فيه أعضاء الجماعة اليهودية قد تغيَّر بشكل جوهري.
يهود بخارى
Bukhara Jews(3/403)
«بخارى» إمارة إسلامية تركية ضمتها الإمبراطورية الروسية في القرن التاسع عشر. وتقع بخارى الآن ضمن جمهورية أزبكستان. وتعود جذور يهود بخارى إلى عصور قديمة، فتقول أساطيرهم إنهم منحدرون من أسباط يسرائيل العشرة المفقودة. وهم مندمجون في الوسط الحضاري الذي يعيشون فيه، ويتحدثون اللغة الطاجيكية، وهي لهجة فارسية. وقد كان يهود بخارى وأفغانستان ووسط آسيا يُشكِّلون وحدة ثقافية واحدة، ثم انقسمت هذه الجماعة في القرن السادس عشر، مع بداية الحكم الشيعي في إيران، إلى يهود إيران ويهود وسط آسيا ويهود أفغانستان الذين ظلوا تحت الحكم السني. ثم انقسمت الجماعة الأخيرة، في القرن الثامن عشر، وتفرَّع عنها يهود بخارى ويهود أفغانستان. ويبلغ عددهم، حسب إحصاء 1959، ثمانية وعشرين ألفاً يعيش ثلاثة وعشرون ألفاً منهم في أزبكستان، في سمرقند وبخارى، والباقون في طاجيكستان. أما إحصاء 1989، فيحدد العدد بنحو 36.568 ألفاً. وإن صدقت هذه الأرقام، تكون الجماعة اليهودية في بخارى هي الجماعة الوحيدة في كومنولث الدول المستقلة التي زاد عدد أعضائها.
وكان يهود بخارى يعملون بالتجارة والصباغة عشية الثورة وازدهر حالهم بعد ضم الإمارات الإسلامية إلى الإمبراطورية نظراً لفتح الأسواق أمامهم. ولكن، مع قيام الثورة الاشتراكية، تدهور وضع التجارة عامة، وبدأت الحكومة السوفيتية في إنشاء مزارع جماعية لهم، لكن التجربة فشلت.
ويبدو أنهم فقدوا، في مرحلة من المراحل، علاقتهم باليهودية الحاخامية ونسوا شريعة موسى. ولذا، فإنهم كانوا لا يمارسون الذبح الشرعي بل ويأكلون اللحوم التي يذبحها المسلمون. وكانت زوجاتهم يلبسن الحجاب مثل نساء المسلمين. كما كانوا يمضغون الطباق ويدخنون النرجيلة.(3/404)
ويظهر الأثر الإسلامي أيضاً على المعبد اليهودي الذي يشبه المسجد ويغطيه السجاد الفاخر. ويصلي فيه اليهود جالسين القرفصاء. وهم يُنادون بعضهم البعض بالاسم الأخير مع إضافة لفظة «أخ» أو «عم» ، كما يُنادَى العلماء بلفظ «ملاّه» . أما رجال الدين، فيسمونهم «الحاخامات» وليس «الرابي» كما هو الحال في الغرب. وتشبه مدارسهم الدينية الكتاتيب.
يهود الجبال (يهود التات، يهود داغستان)
(Mountain Jews) Tat Jews; Daghestan Jews
«يهود الجبال» جماعة يهودية لها خصوصياتها الإثنية واللغوية، يعيش أعضاؤها في مقاطعة داغستان السوفيتية وأذربيجان (ومن هنا يشار إليهم بلفظ «يهود داغستان» ) كما يُشار إليهم كذلك باسم «يهود التات» . ويُسمِّي يهود الجبال أنفسهم «جوهور» . ولكن مصطلح «يهود الجبال» ذاته هو مصطلح روسي صكته السلطات الروسية القيصرية في منتصف القرن التاسع عشر بعد ضم المنطقة إليها.
وتشير الدلائل اللغوية والتاريخية إلى الأصول الإيرانية ليهود الجبال، فلهجتهم من أصول إيرانية شمالية دخلت عليها كلمات تركية وعبرية. وقد تكوَّنت الجماعة نتيجة هجرة اليهود المستمرة من شمال إيران (وربما من الإمبراطورية البيزنطية) لأذربيجان حيث استوطنوا بين متحدثي لغة التات التي أصبحت لغتهم. وقد بدأت هذه العملية في منتصف القرن السابع الميلادي مع الفتح الإسلامي للمنطقة، واستمرت حتى غزاها المغول في القرن الثالث عشر. وفي هذه الفترة، اتصل يهود الجبال بيهود الخزر. وقد انقطعت الصلة بعد ذلك بين يهود الجبال وبقية يهود العالم حتى بداية القرن التاسع عشر تقريباً.(3/405)
وليهود الجبال عادات وقيم قَبَلية، فهم يمجدون الشجاعة، ويدافعون عن شرفهم مستخدمين السيف، ويأخذون بالثأر، وتنتشر بينهم الخرافات، ويعيشون في بيوت طينية منخفضة تعلَّق على حوائطها أسلحتهم المصقولة، وهو ما يدل على اندماجهم في الحضارة القوقازية الإسلامية في هذه المنطقة. وهم يتَّسمون بأسماء توراتية بعد إضافة النهاية الروسية «أوف» ، فيصبح «بنيامين» مثلاً «بنيامينوف» . وتشبه معابدهم المساجد من الخارج، وكانت تُستخدَم كمدرسة دينية على طريقة المسلمين حيث يجلس الأطفال على الأرض ويحفظون التوراة على يد الحاخام. وهم يحتفلون بالأعياد اليهودية، وخصوصاً عيد النصيب وعيد الفصح، وإن كانت الطقوس الخاصة بعيد الفصح مختلفة عن تلك المعروفة بين اليهود. كما أن طقوس الزواج عندهم مختلفة عن تلك الطقوس المعروفة لدى يهود أوربا، إذ يدفع الزوج ما يُسمَّى «الكالين» أو «الفدية» . وهم يقسمون بالنار ويشعلون النار بجوار المرضى، الأمر الذي يشير إلى أصولهم الإيرانية. والوحدة الاجتماعية الأساسية هي الأسرة الممتدة، والتي تضم ثلاثة أو أربعة أجيال ويبلغ عددها نحو سبعين عضواً. وكان يهود الجبال يمارسون تعدد الزوجات. ويشكل كل سبع أو ثماني أسر قرية يهودية.(3/406)
وقد تدهورت أحوال الجماعة اليهودية بتدهور المنطقة ككل نتيجة تحولها إلى ساحة صراع بين كلٍّ من روسيا وتركيا وإيران إلى جانب الصراع بين عدد من الحكام المحليين. وقد نجحت روسيا في نهاية الأمر في ضمها عام 1813. وقد طلب يهود الجبال من السلطات القيصرية أن تضعهم تحت حمايتها. كما حدثت تحولات عميقة للجماعة اليهودية بعد ضم القوقاز لروسيا، فانتقلت أعداد كبيرة من اليهود من المناطق الجبلية إلى المدن حتى أنه كان هناك في منتصف القرن التاسع عشر نحو 41% من أعضاء الجماعة في المدن، ولكن، مع هذا، ظل حوالي 58% منهم في القطاع الزراعي، بل إن سكان المدن من اليهود كانوا يعملون في صناعات مرتبطة بالمحاصيل الزراعية مثل تقطير الكحول. وكان أثرياء يهود الجبال من أصحاب شركات تقطير الخمور وبيعها، كما أن إحدى العائلات كانت تمتلك أهم شركة صيد في داغستان، وكان الكثيرون من أعضاء الجماعة يقومون بزراعة نبات الروبيا Rubia وهو نبات كانت تُستخلص من جذوره صبغة حمراء، كما كانوا يشتغلون بدباغة الجلود وبصيد بعض الحيوانات لاستخدام جلودها. وقد أصبح كثير من أعضاء الجماعة اليهودية عمال صيد أو عمالاً أجراء وانتقلوا إلى باكو ودربنت بعد أن تصاعدت معدلات التصنيع والتحديث في روسيا القيصرية، وهو ما جعل الصناعات اليدوية غير قادرة على الاستمرار، كما عمل كثيرون منهم تجاراً صغاراً.
وبعد الثورة البلشفية، تغيَّر وضع يهود الجبال بشكل أعمق. وكما طلب يهود داغستان من السلطات القيصرية من قبل وضعهم تحت الحماية، فإنهم تحالفوا تماماً مع السلطات السوفيتية ضد غالبية السكان. ولذا، فحينما قامت حركة انفصالية ضد السوفييت، كان 70% من الحرس الأحمر في المنطقة من يهود داغستان. وكانت الأعمال الأدبية التي كتبها أدباء من يهود الجبال تتبنى خط الحزب بشكل كامل. وقد جلب كل هذا على أعضاء الجماعة اليهودية كره الجماهير.(3/407)
وقد أدَّت حركة التصنيع في الاتحاد السوفيتي، والخطط الخمسية المتتالية، إلى فك التضامن القبلي بين يهود داغستان، فتركوا الجبال وبدأوا يعملون بالمصانع. ومع هذا، فإن أصولهم القبلية وترابطهم العائلي يساعدانهم على الاحتفاظ بقسط كبير من خصوصيتهم الجبلية.
وحسب إحصاءي 1959 و1970، كان عدد يهود الجبال يبلغ ما بين 50 ألفاً و70 ألفاً (وهو في تصورنا عدد مبالغ فيه) . وقد هاجر حوالي 12 ألفاً في الفترة بين عام 1974 ومنتصف الثمانينيات إلى إسرائيل، وبحسب إحصاء عام 1989 (وهو أول إحصاء يُقسِّم يهود الاتحاد السوفيتي إلى جماعات إثنية مختلفة) ، يبلغ عددهم حوالي 20 ألفاً، ولعل انخفاض العدد بهذا الشكل الملحوظ يرجع إلى استبعاد يهود اليديشية المقيمين في داغستان. وأهم مراكزهم السكانية باكو عاصمة أذربيجان. أما في داغستان، فإن معظمهم يعيشون في دربنت وفي عاصمة الجمهورية.
يهود الخَزَر
Khazar Jews
«الخَزَر» قبيلة من أصل تركي عاشت في منخفض الفولجا جنوب روسيا وكوَّنت مملكة كان حكامها وبعض سكانها يدينون بعبادات وثنية ولكنهم تحولوا إلى اليهودية. ويُنطق الاسم أحياناً «خازارا» كما هو الحال في العربية. ولكن ثمة دلائل على أن هناك طرائق أخرى للنطق، فهو بالعبرية «كوزاي» وبالصينية «كوزا» . وربما يعود الاسم إلى الكلمة التركية «قزمق» بمعنى «يتجول أو ينتقل كالبدو» (المشتق منها كلمة «قوزاق» ) أو ربما يعود إلى كلمة «قوز» أو «جاز» بمعنى «جانب الجبل المتجه إلى الشمال» ، وقد يُفسِّرهذا الاشتقاق الأخير النطق العبري (كوزاري) .(3/408)
وقد وصل الخَزَر إلى منطقة الفولجا والقوقاز من أقصى الشرق في تاريخ غير معروف، وإن كان آرثر كوستلر يذكر نقلاً عن برسكس، رسول الإمبراطور البيزنطي لقبائل اليهود في القرن السادس الميلادي، أن الخَزَر ظهروا على المسرح الأوربي حوالي منتصف القرن الخامس الميلادي باعتبارهم شعباً خاضعاً لسيادة قبائل الهون. ويمكن أن يُعتبروا هم والمجر وغيرهم من القبائل نسل قبيلة أتيلا زعيم البرابرة الشهير. وتُطلق التواريخ الروسية المعاصرة على الخَزَر مصطلح «الأوجاريين البيض» ، مقابل «الأوجاريين السود» ،وهم الهنغار أو المجريون. وقد أدى موت أتيلا إلى ظهور فراغ كبير وهو ما يسر عملية ظهور الخزر باعتبارهم قوة فى المنطقة التى شغلوها، فقاموا بصهر واستيعاب وقهر بعض القبائل التركية الأخرى، ثم هزموا البلغار فى نهاية الأمر واضطروهم إلى الهجرة.
ولكن، قبل استقلال الخزر الكامل فى المملكة، كان الخزر يشكلون جزءاً مما كان يسمى الإمبراطورية التركية الغربية أو المملكة التركية أو جزء من أتراك التركستان، وكانوا يشكلون اتحاد قبائل تخضع لحاكم واحد هو الخاقان، أو الكاجان. ويقال إن الخزر ساروا مع سنجيبو، أول خاقانات الأتراك الغربيين، ضد إحدى القلاع الساسانية الفارسية. وقد استمرت المملكة التركية مدة قرن (550 - 650) ، وأصبحت كلمة "تركي" بعد ذلك تشير إلى الأتراك وحسب دون الشعوب التركية الأخرى.(3/409)
كانت المملكة الخزرية تقع على المعبر الحيوي الواقع بين البحر الأسود وبحر قزوين، بين القوتين الشرقيتين العظميين فى ذلك الوقت: الدولتين الإسلامية والبيزنطية (دولة الروم) . وقد أصبحت تمثل عازلة حدودية تحمى بيزنطة من الغارات الهمجية التى تشنها قبائل الإستبس الشمالية مثل البلغار والمجر، كما أنها أوقفت التقدم الإسلامى. فقد قامت بين الجزر والعرب عدة حروب كانت أولها بين عامى 642 و 652 حينما أصدر الخليفة عمر (رضى الله عنه) أمره للقوات الإسلامية بالهجوم على عاصمتهم بالانجار، ولكن المسلمين لم ينجحوا فى مهمتهم واستشهد قائدهم عام 653. وقامت الحرب الثانية بين عامى 722 و 737 وانتهت بهزيمة الخزر على يد مروان بن محمد (مروان الثانى) وأسلم بعدها خاقان الخزر، ولكنه عاد وتحول إلى ديانته الأصلية. ويقول المسعودى إن الخزر قد نقلوا عاصمتهم (تحت ضغط الهجمات العربية) إلى أتل، عند مصب نهر الفولجا، بعد عام 737. ويبدو أنهم خلال الفترة بين اتخاذهم كلاً من بالانجار وأتل عاصمة لهم، كانت لهم عاصمة ثالثة هى سمندر.(3/410)
ومما يجدر ذكره أن كتب الرحالة والمؤرخين العرب القدامى (مثل: ابن فضلان، والأصطخرى، وابن حوقل، والمسعودى، وابن سعيد المغربى، والبلخى، واليعقوبى، وابن رسته، والمقدسى، وابن النديم، والطبرى، وابن مسكوبه، والبيرونى، وياقوت) لا تزال من أهم المصادر عن الخزر، سواء فيما يتعلق بتاريخهم أو عاداتهم. ومع أنه توجد مصادر أخرى بيزنطية وروسية، فإن كتب الرحالة العرب لا تزال المصدر الأساسى. ومن المفارقات التى يجب أن تسبب لنا، نحن عرب القرن العشرين، الإحساس بالحرج أننا لم نستفد بهذه الدراسات وإنما استفدنا بدراسات كتاب غربيين معظمهم من اليهود مثل آرثر كوستلر فى كتابه دولة الخزر وميراثها (القبيلة الثالثة عشرة) (والذى استفدنا منه كثيراً فى هذا المدخل) . وكتاب العالم اليهودى دنلوب، والموسوعات اليهودية المختلفة، فى حين استمد هؤلاء الكتاب معلوماتهم من المصادر العربية بالدرجة الأولى.
ورغم انتصارهم، لم يتمكن العرب من القضاء على مملكة الخزر، بسبب المشاكل الداخلية للخلافة الأموية، ولعل هذا هو الذى أنقذ الخزر فى نهاية الأمر. وتشهد فترة الحرب الثانية قيام تحالفات مع الإمبراطورية البيزنطية ربما للرد على الهجوم الإسلامى. وقد زوج الإمبراطور البيزنطى ابنه من أميرة خزرية عام 732، وكانت ثمرة هذا الزواج الإمبراطور ليو الخزرى (775 – 780) .(3/411)
ولا يعرف أحد بالضبط مدى اتساع مملكة الخزر (خزارياً) ، فيجعلها بعض المؤرخين مملكة صغيرة على الفولجا والدون، فى حين يرى البعض الآخر أنها كانت فى قمة اتساعها وتطورها، فى منتصف القرن الثامن حيث شكلت مملكة مترامية الأطراف تمتد حدودها بين سواحل البحر الأسود الشمالية، ونهر الدنيبر فى الغرب، وبحر قزوين ونهر الفولجا فى الشرق، حتى حدودها الجنوبية وجبال القوقاز فى الجنوب. كما اتجه الخزر شمالاً. ويقال إن حدود المملكة وصلت إلى كييف، لكن القرائن على ذلك ضعيفة. ويقول آرثر كوستلر إن الخزر، فى ذروة قوتهم، فرضوا الجزية على ما يزيد على ثلاثين عشيرة وقبيلة مختلفة تقطن المساحات الشاسعة فيما بين القوقاز وجبال الأورال ومدينة كييف والإستبس الأوكرانية. ومن بين الشعوب الواقعة تحت سلطان الخزر: البلغار (بلغار الفولجا) ، والغز، والمجريون (الهنغار) ، وسكان المستعمرات الجرمانية واليونانية فى القرم، وبعض القبائل السلافية. وكانت الجيوش الخزرية تشن غاراتها أيضاً جنوب المناطق الواقعة وراء مناطق سيادتها المترامية، جورجيا وأرمينيا، وتغلغلت فى الأراضى العربية حتى شارفت الموصل. ولم يكن للخزر، حتى القرن التاسع، أى منافس لسيادتهم فى المناطق الواقعة شمال البحر الأسود وما يلحقها من مناطق الإستبس والغابات على نهر الدنيبر. وقد ظلوا القوة العظمى فى النصف الجنوبى من أوروبا الشرقية مدة قرن ونصف قرن، وكانوا حاجز حماية منيع يسد ممر الأورال وقزوين فيما بين آسيا وأوروبا. وقد صدوا طوال هذه الفترة غارات القبائل البدوية الزاحفة من الشرق. وقد بدأ تدهور الخزر فى القرن العاشر بسبب تزايد قوة قبائل البيشنج فى الشمال والغرب والروس فى إمارة كييف.(3/412)
وبرغم تدهورها وضعف نفوذها، احتفظت مملكة الخزر باستقلالها حتى القرن العاشر، حين قام حاكم كييف (الأمير سفياتوسلاف) بالهجوم على أتل عام 965 وتحطيم قوتها وتدمير عاصمتها وكذلك قلعة سمندر وساكريل على نهر الدون. ولكن هذا لا يعنى أن الخزر قد أبيدوا، وإنما يعنى تناقص قوتهم وانكماش نفوذهم، إذ أن ذكرهم يأتى فى المدونات المختلفة حتى القرن الثانى عشر. ويمكن القول بأن الإمبراطورية الخزرية تهاوت تماماً باعتناق الأمير الروسى فلاديمير الديانة المسيحية، فقد أدى هذا إلى ظهور تحالف مسيحى يضم بيزنطة فى الغرب وروسيا فى الشمال، وهذا ما جعل مملكة الخزر اليهودية دون قيمة إستراتيجية كدولة عازلة، وسقطت تماماً فى نهاية الأمر تحت هجمات الروس أواخر القرن العاشر وأوائل القرن الحادى عشر. ويقال إن خاقان الخزر اعتنق الإسلام فى تلك الفترة لعقد تحالف مع المسلمين. وقضى الغزو التترى على ما تبقى من الخزر فى وادى الفولجا عام 1247 حين اختفوا تماماً كجماعة مستقلة. ويلاحظ أن دولة الخزر تقع فى المنطقة التى تلتقى فيها عدة إمبراطوريات ولم تحقق الازدهار إلا بسبب الفراغ الموجود فى تلك المنطقة. وهى فى هذا، تشبه، فى كثير من الوجوه، الدولة العبرانية المتحدة (فى الماضى) ، والدولة الصهيونية (فى العصر الحديث) .(3/413)
وحضارة الخزر آسيوية قبلية بدائية احتفظت بكثير من الطقوس البدائية حتى بعد أن أحرزت قدراً لا بأس به من التقدم. وقد عرف الخزر نظام الملكية المزدوجة المعروف بين القبائل التركية وبعض الشعوب الآسيوية إذ كان يحكمهم الخاقان أو الكاجان الأكبر الذى لم يكن يظهر إلا مرة واحدة كل أربعة أشهر ولا يتحدث إلا إلى نفر محدود من الناس. وكان الخاقان موضع تبجيل كبير، ويجرى تتويجه فى احتفال مهيب للغاية. وقد كان دائماً من سلالة ملكية، وكان المنصب يورث فى العائلة نفسها، حتى لو كان الوريث شخصاً عادياً فقيراً كما يلاحظ الرحالة العرب. وكانت سلطة الخاقان مطلقة حتى أنه لو طلب إلى أحد أن يقتل نفسه لفعل. ولكن الخاقان كان فى نهاية الأمر مبعداً معزولاً إذ كان نائبه، كاجان بك أو البك وحسب، هو الذى يصرف شئون الدولة شاملة إعداد الجيوش وقيادتها، وهو الذى يظهر للعامة ويقودهم فى الحروب، وهو الذى كان يمتلك كل القوى ذات التأثير. ورغم أن البك كان يدين بالطاعة لحضرة الخاقان الأكبر ويأتيه كل يوم فى إذعان وخضوع، فإنه هو الذى كان يعينه كما يذكر الأصطخري، أو ربما كان مؤثراً فى اختياره. وربما كان التقسيم للسلطة بين الخاقان والبك تقسيماً للسلطتين الدينية والدنيوية. فالخاقان الأكبر صاحب السلطة الروحية المطلقة، والبك صاحب السلطة الدنيوية الفعلية. وهذه العلاقة تشبه إلى حد كبير علاقة الإمبراطور (أو الميكادو) بالحاكم العسكرى (الشوجن) فى اليابان، فالأول هو صاحب السلطة المطلقة الذى يخضع له الشوجن، ولكن هذا الأخير هو الذى يقدر على الحل والربط. وقد عقدت مقارنة طريفة بين نظام الحكم لدى الخزر ولعبة الشطرنج، الملكية المزدوجة، تمثل على رقعة الشطرنج بالملك (الكاجان) والوزير (البك) حيث يظل الملك فى عزلة يحميه أتباعه ضعيف الحلول لا يجد حراكاً لأكثر من خطوة قصيرة واحدة فى كل مرة. أما الوزير فهو على النقيض من ذلك، له الوجود الأقوى على(3/414)
الرقعة التى يسيطر عليها. وبرغم ذلك، فإن من المحتمل أن "يموت" الوزير وتظل اللعبة قائمة فى حين يكون "موت" الملك الكارثة العظمى التى تنهى اللعبة. وإن أردنا استخدام المصطلح الذى نستخدمه فى هذه الموسوعة لقلنا إن الملك هو اللوجوس أو المطلق، وإنه ركيزة النسق النهاية أو المرجعية التى لا مرجعية بعدها.
وكانت التجارة المصدر المالى الأساسى لمملكة الخزر حيث كانت متحكمة فى الطرق التجارية الموصلة بين الشرق الأقصى والإمبراطورية البيزنطية، وكذلك فى الطرق الموصلة بين العرب والبلاد السلافية. وقد كانت تفرض الضرائب على البضائع التى تمر فيها. كما كان الحرج من الدول الخاضعة لها مصدراً للريع.
وكانت ديانة الخزر فى المراحل الأولى شامانية بدائية يهيمن عليها الشامان (الكاهن/الساحر/الطبيب) الذى يدعى المقدرة على شفاء المرضى والسيطرة على الأرواح الشريرة ويدعى معرفة الغيب. ويبدو أن الخزر أحرزوا قسطاً كبيراً من التحضر قبل تهودهم وبعده، فقد تركوا خيامهم وبنوا البيوت من الحجر المحروق. وكان للمسلمين مساجد متعددة فى مملكتهم، منها مسجد كانت مئذنته ترتفع إلى ما يفوق ارتفاع القلعة الملكية. كما أنهم مارسوا الزراعة، واتسع نطاق تجارتهم الدولية. وقد ازدهرت أيضاً الفنون والحرف، ومنها صناعة الأزياء النسائية وصناعة الفضة. أما نمط الفن الخزرى، فقد كان متأثراً بالفن الفارسى. وقد تطور نظامهم القضائى أيضاً بحيث كان فى عاصمة الخزر سبعة قضاة، اثنان منهم للمسلمين واثنان لليهود واثنان للمسيحيين وواحد للوثنيين.(3/415)
وكما أسلفنا الذكر، بلغت مملكة الخزر أوج عظمتها وقوتها بين القرنين الثامن والعاشر. وأثناء هذه الفترة، اعتنق ملكها بولان (786 - 809) ، ومعه أربعة آلاف من النبلاء، الديانة اليهودية وجعلها الديانة الرسمية، وهو ما يؤكده المسعودى حين يشير إلى أنهم تهودوا فى عهد هارون الرشيد. ويبدو أنهم عرفوا اليهودية من خلال عشرات من المهاجرين اليهود الذين فروا من اضطهاد الإمبراطورية البيزنطية بخاصة فى عهد هرقل (فى القرن السابع الميلادى) . وقد كتب أحد يهود الأندلس (حسداى ابن شبروط) ، حين عرف بقيام هذه المملكة، إلى يوسف ملك الخزر، فيما يعرف باسم "المراسلات الخزرية"، يسأله عن القبيلة العبرية التى ينتمى إليها وعن أمور أخرى. وقد أكد له الملك أن أصل الخزر تركى وليس سامياً، ولا علاقة له بأسباط إسرائيل العشرة المفقودة ولا بفلسطين. وفى رده على ابن شبروط، يذكر الملك يوسف كيف اعتنق بولان اليهودية، فيقول إنه بعث فى طلب زعماء الديانات السماوية وأقام بينهم حواراً ليشرح كل منهم دينه ويناقش الأديان الأخرى، وقد اقتنع الملك بعد هذه المناقشة بالدين اليهودى. وقد تخيل الشاعر الأندلسى اليهودى يهودا اللاوى هذا الحوار الفلسفى ورواه فى كتاب له عن هذا الموضوع. وقام أحد أحفاد بولان بإصلاح دينى، فترجم العهد القديم والتلمود (ربما بضعة أجزاء منه نظراً لضخامته) . ويقول كوستلر إن يهودية بولان كانت قرائية تؤمن بالعهد القديم دون التلمود، ثم تطورت إلى يهودية حاخامية. وقد ظهر مذهب القرائين فى القرن الثامن فى العراق، وكان للقرائين حركة تبشيرية قوية. ومن المعروف أن القرائية ظلت فى بلاد الخزر قائمة بشكل واضح حتى النهاية، ولا تزال قرى اليهود القرائين الناطقين بالتركية قائمة حتى الآن فى روسيا. ولم تكن يهودية الخزر كاملة، بل احتفظوا بكثير من العادات الشامانية من تراثهم التركى البدائى. فكانوا، على سبيل المثال، يقتلون الملك عادة بعد أن يحكم(3/416)
أربعين عاماً، وهذا دليل على استمرار عبادات الخصب حتى بعد اعتناقهم اليهودية، كما أنهم كانوا يقتلون من يتولون حفر قبر الخاقان الأكبر (ولعل هذا يفسر عدم اكتراث يهود العراق بهم، فلم يكونوا من وجهة نظر المؤسسة الدينية يهوداً خلصاً) . وقد رد يوسف ملك الخزر على سؤال ابن شبروط عن آخر الأيام رداً ميهماً للغاية. وليس من المعروف إن كان أعضاء قبائل الخزر كلهم قد تهودوا، أم أن الأمر ظل مقصوراً على الملك والنبلاء وأقلية من الشعب.
وقد حاول المؤرخون تفسير ظاهرة تهود الخزر، فيقال إنهم تهودوا لأسباب سياسية حيث كانوا واقعين بين الإمبراطوريتين البيزنطية والإسلامية، وكانت الإمبراطورية الروسية حينذاك فراغاً. ولكى يحتفظوا باستقلالهم، تبنوا عقيدة دينية مختلفة عن عقيدة القوتين العظميين. ويقال أيضاً إن التهود كان لأسباب اقتصادية إذ أن الخزر كانوا قد بدأوا فى احتراف التجارة وكان على من يوّد ممارسة هذه المهنة فى هذه المناطق وغيرها أن يتهود حتى يستفيد من شبكة الاتصالات اليهودية فى العصور الوسطى، والتى كانت تعتبر نظام ائتمان دولي. وقد أصبح بوسع الخزر، بتهودهم، أن يلعبوا دور الوسيط أو الدولة الوظيفية الوسيطة بين القوتين العظميين، إذ كان لكل منهما قوانينها وشرائعها، ولم تكن توجد بينهما قنوات اتصال ولا يمكن لتجار كل طرف أن يعبروا إلى أرض الطرف الآخر إلا بصعوبة. ولذا، كان من الضرورى ظهور طرف ثالث هامشى محايد، مثل الجماعة الوظيفية الوسيطة، ليقوم بالنشاط التجارى بينهما. ويقال إن النخبة الحاكمة الخزرية قد تبنت ديانة سماوية توحيدية مثل اليهودية، وذلك حتى تضفى على نفسها هيبة ووقاراً، وتوجد مسافة بينها وبين العبادات الشامانية البدائية السائدة، وتربط بينها وبين النخب الحاكمة فى العالمين الإسلامى والمسيحى.(3/417)
ويرى بعض المؤرخين، ومن بينهم العالم الإسرائيلى إ. ن. بولياك أستاذ التاريخ اليهودى الوسيط فى جامعة تل أبيب، وكذلك علماء الأجناس، أن يهود شرق أوروبا الإشكناز ليسوا من نسل يهود فلسطين وإنما من نسل الخزر الذين استوطنوا هناك بعد تشرذمهم. وقد وصفهم الجغرافيون العرب بأنهم ذوو بشرة بيضاء وعيون زرقاء وشعر غزير ضارب للحمرة. ومن هنا، فإن مقولة أن يهود أوروبا الإشكناز من أصل خزرى تركي ليست مقولة فكرية محضة ذات مقدرة تفسيرية عالية تستند إلى العقل والمنطق وحسب، وإنما هى مقولة تستند أيضاً إلى المعطيات التاريخية المحسوسة. ومن أهم ما كتب فى هذا الموضوع كتاب المؤلف الإنجليزى المجرى الأصل، اليهودى العقيدة، آرثر كوستلر، والذى أسلفنا الإشارة إليه، حيث يبرهن فيه على المقولة الخاصة بهجرة يهود الخزر إلى شرق أوروبا، بالإشارة إلى العلاقة الوثيقة بين الخزر والمجر وكيف أسهم خاقان الخزر فى تأسيس دولة المجر بأن عين لقبائل المجر ملكاً يخضع لسلطانه. وقد ظلت العلاقات قوية بين الشعبين إلى أن طرد المجريون من بلادهم عام 896 وعبروا سلسلة جبال الكربات وانتزعوا المنطقة التى أصبحت موطنهم الحالى. ويبين كوستلر كيف انضمت إلى المجريين فى هجرتهم إلى هنغاريا قبائل خزرية معروفة باسم "الكابار"، وقادتهم إلى موطنهم الجديد. وقد استمرت العلاقة الوثيقة بين المجر والخزر حتى استقرار المجموعات الخزرية المجرية فى الوطن الجديد. وقد دعا دوق تاكسونى المجرى عدداً غير معلوم من الخزر ليستوطنوا بلاده، ولاشك فى أن نسبة كبيرة منهم كانت من اليهود. بل ويرى كوستلر أن تدفق اليهود لم يكن على المجر وحسب بسبب العلاقات المجرية الخزرية كما أنه لا يمثل حالة خاصة، فهذه الهجرة كانت جزءاً من هجرة أكبر وهى الهجرة الجماعية الشمالية من الإستبس الأوراسية تجاه الغرب، أى تجاه أوروبا الوسطى والشرقية. ولذلك، فهو يتحدث عن "الشتات الخزرى" أى انتشار اليهود من(3/418)
بلاد الخزر إلى أرجاء أوروبا، مقابل "الشتات" وحسب، أى انتشار اليهود من فلسطين.
ويلاحظ كوستلر أن اختفاء الشعب الخزرى من موطنه التاريخى قد صاحبه الظهور المعاصر لأكبر تجمع يهودى فى الشمال الغربى من أوروبا. ولهذا، اتفق المؤرخون على أن الهجرة من خزاريا قد أسهمت بالتأكيد فى نمو الجماعات اليهودية البولندية. ولكن يظل هناك سؤال يتصل بحجم هذا الإسهام؟ وما إذا كان اليهود الخزر قد كونوا مجرد نواة للجماعة اليهودية وحسب، أم أنهم لم يكونوا مجرد نواة؟
وهنا يستعرض كوستلر تاريخ يهود أوروبا فيبين ضآلة عددهم، ثم يستعرض تاريخ طرد اليهود من بلد أوروبى إلى آخر، ويشير إلى أن يهود حوض الراين (حتى القرن الحادى عشر) كانوا ضئيلى الأهمية قليلى العدد، وقد تعرضت هذه الجماعات للإبادة وتناقصت أعدادها أثناء حروب الفرنجة. أما أعضاء الجماعات اليهودية التى كان يتم تدميرها تماماً، فقد كانوا يتركون مكان إقامتهم بعض الوقت ثم يعودون إليه، أى أنهم لم يكونوا يهاجرون منها. وقد ظهر الطاعون أو الموت الأسود الذى تفشى فى الفترة 1347 - 1350 وقضى على ثلث سكان أوروبا. لكل هذا، يرى كوستلر أن فكرة هجرة يهود غرب أوروبا إلى شرقها يتعذر إثباتها تاريخياً، بل إنها مجرد خرافية، أو افتراض خلقه المؤرخون، وكان عليهم اختلافه لتفسير ظاهرة ازدياد عدد يهود أوروبا الشرقية فى القرن الخامس عشر، خصوصاً فى بولندا، زيادة مفاجئة وهائلة، حتى أن معظم يهود أوروبا كانوا فى القرن السادس عشر يقيمون فى بولندا. واستمر هذا الوضع قائماً، فنجد أن معظم يهود أوروبا كانوا فى القرن السادس عشر يقيمون فى بولندا. واستمر هذا الوضع قائماً، فنجد أن معظم يهود العالم (مع بداية القرن التاسع عشر) موجودون فى بولندا بحيث يمكن القول بأن يهود العالم الحديث من أصل بولندى.(3/419)
وفى محاولة تفسير تزايد عدد يهود بولندا، اختلق المؤرخ الروسى اليهودى دبنوف وغيره فريضة هجرة يهود غرب أوربا إلى شرقها (بسبب المذابح التى ارتكبت ضد الجماعات اليهودية إيبان الحروب الصليبية) ، وذلك على الرغم من أن الحوليات المعاصرة لا تتحدث عن مثل هذه الهجرة، بل ومن الصعب تخيلها. ومرد ذلك جهل المؤرخين بتاريخ يهود الخزر، وتاريخ هذه المرحلة السديمية التى كانت تنتقل فيها شعوب أوربا أو قبائلها من مكان إلى آخر. أما كوستلر، فيهتم بقضية يهود الخزر باعتباره يهودياً رافضاً لفكرة الاستمرار العرقى اليهودى فى فلسطين، باعتباره مدافعاً عن حقه فى أن يظل منتمياً (كيهودي إنجليزي) إلى وطنه إنجلترا. وهو يستخلص النتيجة التالية: "أن الدلائل المعروضة تدعم الحجة القوية التى قدمها أولئك المؤرخون المحدثون، سواء النمساويون أو الإسرائيليون أو البولنديون، أو أولئك الذين أثبتوا (مع استقلال كلًّ عن الآخر) أن الأغلبية العظمى من اليهود المعاصرين ليسوا من أصل فلسطينى وإنما من أصل قوقازى وأن تيار الهجرات اليهودية الرئيسى لم ينبثق من حوض البحر المتوسط عبر فرنسا وألمانيا متجهاً نحو الشرق ثم عائداً أدراجه ثانية ولكنه تحرك فى اتجاه ثابت دائماً (نحو الغرب) بادئاً من القوقاز عابراً أوكرانيا إلى بولندا ومنها إلى وسط أوربا. وعندما حدث فى بولندا هذا الاستيطان الضخم الذى لم يسبق له نظير، لم يكن إلى جانبه (فى الغرب) سوى عدد قليل ولا يعتد به من اليهود، فى حين أن شعبنا بأسره (فى الشرق) كان فى سبيله إلى التحرك نحو حدود جديدة".(3/420)
وتحاول الصهيونية، فى أحد أشكالها، أن تؤسس نظرية الحقوق اليهودية فى فلسطين على أساس عرقى. إذ تدعى أن اليهود، بالمعنى العرقى، شعب ارتبط دائماً بفلسطين (أو أرض الميعاد) ، وأن هذا النقاء العرقى وهذا الارتباط الأزلي بأرض الأجداد، يبرران الاستيلاء على فلسطين. ولكن تهود الخزر، مثل تهود الآدميين وغيرهم من الأقوام، يمثل تحدياً لهذه الفكرة الخاصة بالنقاء العرقى. فالأصل الخزرى لمعظم يهود الغرب، أى الأغلبية العظمى من يهود العالم، يفند فكرة الحقوق اليهودية التى تساند إلى أساس عرقى. ومع هذا، يجب التنبيه على أن الصهيونية تعرف الهوية اليهودية الآن تعريفاً أثنياً فضفاضاً ولا تركز إلا نادراً على النظرية العرقية ونظرية النقاء العرقى، كما أنها تؤسس نظرية الحق اليهودى على الارتباط الإثنى والدينى والحضارى وليس على الارتباط العرقى.
الكرمشاكى (تاريخ يهود شبه جزيرة القرم)
(Krimchaki) History of the Jews of the Crimean Peninsula
«يهود الكرمشاكى» جماعة يهودية صغيرة ذات سمات إثنية خاصة، تسكن شبه جزيرة القرم، ويتحدث أعضاؤها لهجة تترية دخلت عليها كلمات عبرية آرمية وكلمات قليلة من اللادينو واليديشية، وهى تكتب بحروف عبرية. وكان الكرمشاكى يطلقون على أنفسهم لفظ "يهودى" أو "سريلى بالالارى" (أبناء إسرائيل) .ولكنهم، مع نهاية القرن التاسع عشر، بدأوا يستخدمون الكلمة الروسية "كرمشاك" أى "سكان شبه جزيرة القرم". وقد ظهر هذا الاسم لأول مرة فى السجلات الروسية عام 1859. ويبدو أن السلطات الروسية قد صاغت هذا الاسم للتمييز بينهم وبين القرائين والإشكناز.(3/421)
ويعود تاريخ اليهود فى القرم القرن الثانى قبل الميلاد (مع الاستيطان اليونانى فيها) . ويبدو أنهم كانوا يعملون بالتجارة وفى بعض الحرف، كما عملوا فى الدولة والجيش. وقد تغيرت هوية أعضاء الجماعة اليهودية عدة مرات، ويبدو أن تتريكهم بدأ فى حكم إمبراطورية الخزر، ولكنهم اكتسبوا هويتهم التترية التركية مع الغزو التترى عام 1239، فارتدوا الأزياء التركية الإسلامية وتبنوا اللغة التترية. وتأثر بناء الأسرة التترية، فظلوا يمارسون تعدد الزوجات حتى بدايات القرن التاسع عشر. وكانوا بمعزل عن الحركات الفكرية التى اكتسحت يهود أوروبا مثل الاستنارة والصهيونية والإصلاح الدينى. وكانت غالبيتهم من الحرفيين، واشتغلت أقلية منهم بالزراعة وعدد قليل جداً منهم فى التجارة. ورغم تبنيهم الأنماط الحضارية التركية والتترية، إلا أن أسماء عائلات الكرمشاكى تدل على تنوع أصولهم العرقية، فهناك أسماء تركية (لولباكش - ديمارجى - أزميرلى) ، وأسماء قوقازية (أبابيف) ، وإيطالية وإسبانية (كونفينو - مانتو) ، كما توجد أسماء من أصل إشكنازى (سليزر - أورى) وهناك أسماء عبرية (كوهين - مزراحى) . وبعد ضم روسيا القيصرية للقرم، تغير وضع الكرمشاكى تماماً إذ بدأت عملية تحديثهم وترويسهم، ولكنهم لم يستجيبوا لذلك فى بداية الأمر ورفضوا التزاوج مع يهود اليديشية الذين كانوا يعدون عنصراً روسياً ويوطنون فى القرم كعنصر استيطانى. وقد تصاعدت هذه العملية مع الثورة البلشفية، وزاد المستوى التعليمى بينهم، الأمر الذى نجم عنه تآكل أشكال الحياة التقليدية. وقد قام كثير من أعضاء الجماعة الذين عملوا مهنيين (مهندسين أو مدرسين أو أطباء) بقطع صلتهم بمجتمع الكرمشاكى.(3/422)
وقد انخفض عدد الكرمشاكى عام 1989 إلى 1559. ويمكن القول بأن الكرمشاكى يذوبون بسرعة فى اليهود الروس والأوكرانيين ويتزاوجون منهم، ولا يوجد منهم الآن سوى مائة أسرة فى الولايات المتحدة. ويبدو أن أعضاءها خضعوا لحركيات المجتمع الأمريكى، كما بدأوا يتزاوجون بأعضاء الجماعات اليهودية الأخرى.
اليهود الأكراد
Kurdish Jews
«اليهود الأكراد» جماعة يهودية لها سماتها الإثنية الخاصة، يعيش معظم أعضائها فى العراق، رغم أن معظم الأكراد يعيشون فى تركيا، حيث توجد 146 قرية يهودية فى العراق و19 فى إيران و11 فى تركيا، كما توجد أيضاً مجموعة فى سوريا. وتوجد بين أكراد العراق أقليتان دينيتان: المسيحيون النسطوريون (الذين يسمون أيضاً الآشوربين) ، واليهود. وقد تأثر أعضاء الجماعتين بالثقافة الكردية. ولكنهم، مع هذا، لم يتبنوا اللغة الكردية إذ أنهم يتحدثون الآرامية ويتحدث يهود الموصل العربية، وهم بذلك لا يصنفون باعتبارهم أكراداً. ويقال إن وجود اليهود فى هذه المنطقة يعود إلى أيام التهجير الآشورى ومملكة أديابنى.
وقد وضع أغوات الأكراد (أى كبار ملاك الأراضى) جماعة اليهود تحت حمايتهم، فكان اليهود يعدون ملكية خاصة لهم يجمعون منهم المحاصيل ويُخضعونهم للسخرة، بل وكان فى مقدور الأغا أن يبيع ما يملك من يهود (وهذا أمر نادر فى الحضارة الإسلامية وإن كان يشبه ما حدث فى أوروبا) . وفى منتصف القرن العشرين، كان 80% من يهود كردستان يعيشون فى المدن ويعملون تجاراً صغاراً وبقالين، وكان الحرفيون يعملون صباغين وترزية ونجارين ودباغين ومراكبية ينقلون الأخشاب فى قوارب أنهار الموصل. وكان العشرون فى المائة الباقية يعيشون فى المناطق الريفية.(3/423)
ولا تختلف عادات الأكراد اليهود عن عادات الأكراد بصفة عامة. وعلى سبيل المثال، فإن عادات الزواج بينهم لا تختلف كثيراً عن عادات الزواج السائدة فى المجتمع الكردى، حيث تتزوج الفتيات فى سن مبكرة، وعلى العريس أن يدفع مهراً لوالد العروسة تعويضاً له عن تربيتها وتنشئتها. ولا تختلف طقوس الزواج بينهم عن الطقوس السائدة بين الأكراد من تمسك بعذرية الفتاة عند الزواج إلى غير ذلك من القيم والشعائر. وفى ليلة الزفاف، يتم التحقق من ذلك وتعلن النتيجة على المدعون، وإن اكتشفوا أن الفتاة غير عذراء يقوم أبوها بقتلها. ويعتبر تعدد الزوجات أمراً مباحاً. كما أن علاقة الزوجة بزوجها وأمه لا تختلف عما هو سائد بين أهل هذه المنطقة. وهذه مجرد أمثلة عابرة تعبر عن مدى اندماج الجماعة اليهودية فى محيطها الحضارى ومدى اندماج الجماعة اليهودية فى محيطها الحضارى ومدى استيعابهم لها.
وكان تعداد الأكراد اليهود حوالى 14.835 عام 1920، زاد إلى 19.767 عام 1947، وهم يعيشون فى 146 قرية. وبعد إعلان دولة إسرائيل، هاجر الأكراد اليهود جميعاً إلى إسرائيل (19 ألفاً من العراق وثمانية آلاف من إيران وثلاثة آلاف من تركيا) .
يهود الصين) يهود كايفنج (
Chinese Jews (K'aifeng Jews)(3/424)
«يهود الصين» جماعة يهودية كبيرة كانت تعيش فى مدينة كايفنج عاصمة مقاطعة هونان الواقعة على ضفاف النهر الأصفر، ولذا يقال لهم أيضاً «يهود كايفنج» . ويبدو أن تاريخهم يعود إلى القرنين التاسع والعاشر، حيث هاجرت مجموعة من يهود إيران وربما الهند. ويبدو أن الجماعة اليهودية كانت مهمة نوعاً، فقد عين أباطرة أسرة تانج أحد أعضاء طبقة الماندرين (وهى الأرستقراطية الثقافية من الموظفين/ العلماء) مسئولاً عنهم، فكان يزور معبدهم باسم الإمبراطور مرة كل عام، ويحرق البخور أمام المذبح. وكان المهاجرون اليهود (فى بداية الأمر) يتحدثون الفارسية، وكانوا متخصصين فى المنسوجات القطنية وصباغتها وطباعة الألوان عليها، وهى صباغة كانت متقدمة فى الهند. وكان سكان الصين يتزايدون فى تلك المرحلة، الأمر الذى أدى إلى نقص حاد فى المنسوجات الحريرية ونشوء حاجة إلى المنسوجات القطنية، وهو ما قد يفسر استقرار اليهود فى الصين فى ذلك الوقت. ومن الناحية الاجتماعية والطبقية، كان اليهود ينتمون إلى طبقة التجار والصناع التى تقع بين الفلاحين من جهة وطبقة الموظفين/العلماء من جهة أخرى. ومن ثم كان طموحها الاجتماعى، مثلها مثل الطبقات التى تقع فى الوسط، هو الاتصال بالطبقة العليا والابتعاد عن طبقة الفلاحين.
وقد تأسس أول معبد يهودى فى عام 1163، حيث كان يسمى معبد الطهر والحقيقة - وهو اسم ذو نكهة كونفوشيوسية. وكان يترأس الجماعة الحاخام وأحد الوجهاء الذين كانوا يحتفظون يكتب اليهود المقدسة المكتوبة بالعبرية ويقرؤون أسفار موسى الخمسة مرة كل عام.
وقد اندمج يهود كايفنج بالتدريج، وتزاوجوا مع الصينيين، خصوصاً المسلمين. وفى مرحلة من المراحل، كان اليهود يصنفون بوصفهم مسلمين، حتى اختفى أثرهم تقريباً.(3/425)
ويفسر اندماجهم، ثم أنصارهم فى نهاية الأمر، على أساس انعزالهم عن يهود العالم وعدم وصول مهاجرين يهود إليهم، وكذلك على أساس الزواج المختلط وعدم وجود معاداة لليهود فى هذا المجتمع. ولكن هذه الأسباب الجاهزة لا يمكنها أن تفسر الظاهرة، إذ أن السؤال يظل يطرح نفسه: لماذا تزايد الزواج المختلط؟ فهناك مجتمعات لا يوجد فيها عداء لليهود، ومع ذلك لم ينصهر اليهود فيها مثل الهند. ولتفسير هذه الظاهرة، لابد أن نعود إلى حركيات المجتمع الصينى. فمن المعروف أن الكونفوشيوسية، وهى العقيدة الرسمية للدولة الصين قبل الثورة، كانت لا تعارض التعددية الدينية ما دامت هذه التعددية لا تهدد النظام السياسى، فكان المطلوب من أعضاء أية جماعة دينية أن تعترف بعبادة الأسلاف والمكانة الدينية للإمبراطور. كما لم تكن توجد أفكار دينية أو قومية تؤدى إلى عزل الأقليات الدينية، ذلك أن مفهوم الأمة لم يكن مفهوماً أساسياً فى الصين. فالإمبراطورية هى العالم، وهى تتكون من دوائر متداخلة وتزداد درجة الهمجية فيها كلما ابتعدنا عن المركز الصينى، وهكذا فإن اليهود (وكذلك المسلمين الذين كان اليهود يقرنون بهم) عاشوا فى هذا العالم دون تمييز قانونى أو اقتصادى أو اجتماعى. كما أن تركيب المجتمع الصينى (من الأسرة الممتدة، والعشيرة، والحكم من خلال السلطة المركزية) قد ساعد على هذا النمط، فهو يقلل الاحتكاك المباشر بين الأعضاء كما يقلل احتمالات الصراع، فيتم الاحتكاك بين الجماعات من خلال مؤسسات الدولة، وهو ما يساعد على تنظيم العلاقة وتقليل التوترات. وقد أدى كل هذا إلى اندماج اليهود تدريجياً وتمثلهم كثيراً من عناصر العبادة الكونفوشيوسية التى تشكل أساس التعامل بين الجماعات. وبدأ أعضاء الجماعة اليهودية يتبنون كثيراً من الطقوس البوذية والطاوية مع الطقوس اليهودية جنباً إلى جنب. والواقع أن قبول عناصر غير يهودية فى اليهودية أمر ليس بجديد على اليهودية، بسبب(3/426)
تركيبها الجيولوجى، كما أنه جزء من التقاليد الصينية الدينية التى لا تمانع فى استيراد عناصر من الديانات الأخرى.
وكان من الممكن أن يظل الاندماج على هذا المستوى ولا ينصهر اليهود تماماً لو أن الجماعة اليهودية ظلت تتعامل مع الجماعات الأخرى من خلال مؤسسات الدولة. فربما، لو حدث ذلك، كما حدث ليهود الهند، من خلال نظام الطائفة المغلفة. ولكن، ابتداء من القرن الرابع عشر، أعيد تنظيم طبقة العلماء/الموظفين (بشكل أكثر انفتاحاً) من خلال نظام الامتحانات الإمبراطورى، ذلك النظام الذى أتاح أمام يهود كايفنج فرصاً ضخمة للحراك الاجتماعى. فدخلت عناصر من قياداتهم الامتحانات ونجحت فيها وانضمت إلى البيروقراطية الحاكمة. وقد كان الانخراط فى هذه الوظائف يعد، فى نظر المجتمع الصينى، أكثر أهمية وقيمة من الأعمال التجارية، كما كان يعنى نقلة طبقية كبيرة وإعفاء من السخرة الجسدية، فالعمل كموظف بالحكومة كان يمنح الإنسان فى الصين السلطة والمكانة والثروة.
لكن هذا النجاح أفقد أعضاء الجماعة اليهودية البعد اليهودى فى هويتهم الصينية اليهودية، إذ أن العمل فى مثل هذه الوظائف كان يتطلب دراسة الكلاسيكيات الصينية والتفقه فيها، واستيعاب المثل الكونفوشيوسية واستبطانها تماماً. فالانخراط فى سلك المثقفين الكونفوشيوسيين لم يكن مجرد عمل أكاديمى، وإنما كان أمراً يؤثر فى شخصية الإنسان نفسه وفى منظوره الفلسفى والدينى. لهذا، كان يتوقع من اليهودى الذى ينخرط فى سلك العلماء/الموظفين، أن يتصرف باعتباره كونفوشيوسياً داخل إطار الفكر الكونفوشيوسى، أى أن الانتماء إلى الوظيفة كان يتطلب تحولاً جوهرياً داخلياً وخارجياً.(3/427)
ورغم أن المؤسسة الدينية اليهودية فى الصين نظرت بعين الشك إلى طبقة العلماء/الموظفين من اليهود، فإن هؤلاء أصروا على أن الكونفوشيوسية واليهودية لا تعرض بينهما. وبالتدريج، تحولوا إلى النخبة القائدة فى الجماعة، وبدأت رؤيتهم الكونفوشيوسية تتسلل إليها ككل حتى امتزجت اليهودية بالكونفوشيوسية. والأمر الذى أسرع بهذا الاتجاه أن الانتماء إلى طبقة العلماء/الموظفين كان يعنى تناقص عدد أعضاء الجماعة، إذ أن هذا النظام يمنع تعيين الموظف فى محل ميلاده لمنع الوساطة والمحسوبية. ولذا كان على اليهودى الذى يعين عالماً/موظفاً أن يترك كايفنج، الأمر الذى كان يؤدى بالتالى إلى تناقص عدد الجماعة والعناصر القيادية.
وقد كانت طبقة العلماء/الموظفين طبقة متآزرة مع أن التعين فيها كان يتم عن طريق الامتحان الإمبراطورى. ولذلك، كان على اليهودى الذى ينضم إليها أن يصبح واعياً بمكانته الاجتماعية وبوضعه الطبقى وبانتمائه إلى الطبقة الجديدة، وهو ما جعل الزواج المختلط من داخل الطبقة مسألة شبه حتمية، خصوصاً وأن العلماء/ الموظفين كانوا يعيشون بعيداً عن أسرهم وعشائرهم.
والواقع أن تحول القيادة، وكذلك تشتتها، هو الذى ساعد على تحويل اليهودية من الداخل. فبدأ اليهود بالإشارة إلى الخالق بالمصطلح الكونفوشيوسي، فكانوا يشيرون إليه بأنه "تاين"، أى "السماء"، أو "طاو"، أى "الطريق". ثم تعمق الأمر وبدأ اليهود يتبعون عبادة الدولة التى تتضمن تبجيل بل وتقديس كونفوشيوسى.(3/428)
وتأثر اليهود كذلك بأهم مظاهر العبادة الكونفوشيوسية وهى عبادة الأسلاف. ومن ثم، نشأت إلى جوار المعبد اليهودى صالات الأسلاف التى كانت تضم الآباء العبرانيين وأولاد يعقوب الاثنى عشر وموسى وهارون ويوشع وعزرا وآخرين من مشاهير اليهود وتبنى اليهود كذلك طقوساً كونفوشيوسية للاحتفال ببلوغ سن التكليف الشرعى والزواج والموت والدفن. كما أنهم حاولوا أن يجدوا أساساً لأعيادهم وشعائرهم الدينية فى الكلاسيكيات الكونفوشيوسية لا فى الكتاب المقدس. وراح اليهود ينصرفون عن كثير من أهم شعائرهم التى كانت تحفظ لهم عزلتهم وهويتهم مثل أكل لحم الخنزير الذى كان يمتنعون عن أكله فى الأعياد. وكانوا، عند تقديم القرابين إلى أسلافهم، يقدمون لهم لحم الضأن. كما أن اليهود لم يترجموا قط كتبهم المقدسة من العبرية إلى الصينية. ولهذا كان كيان الجماعة مهدداً دائما بالاختفاء فى حالة نسيانً القيادة للعبرية، ويبدوا أن هذا هو ما حدث بالفعل عام 1723 إذ أن العبرية كانت قد نسيت فى ذلك التاريخ.
لكل هذا، تقوضت هوية الجماعة اليهودية من الداخل تماماً. وحينما مات آخر حاخام فى القرن التاسع عشر، انتهى ما تبقى من اليهودية بحيث أصبح أعضاء الجماعة مع ستينيات القرن الماضى صينيين فى ملامحهم وردائهم وعاداتهم ودينهم. وفى عام 1900، قامت مجموعة من اليهود الإنجليز فى شانغهاى بتأسيس "جماعة إنقاذ يهود الصين" التى حاولت إحياء اليهودية فى كايفنج دون جدوى، حيث كانوا قد اندمجوا تماماً وكان كل ما يعرفونه عن اليهودية هو أنهم يهود. ولا يزال هناك نحو مائتين وخمسين صينياً من سلالة يهود كايفنج ولكنهم منصهرون تماماً. وشبه يهود كافينج، من بعض الوجوه، يهود الولايات المتحدة فى نجاحهم وانتمائهم إلى طبقة المهنيين، وفى استبطانهم القيم الأمريكية، وفى توزعهم الجغرافى، وتزايد معدلات الزواج المختلط بينهم وكذلك فى انتمائهم الكامل إلى مجتمعهم.
اليهود الزنوج
Negro Jews(3/429)
» اليهود الزنوج» مصطلح يستخدم للإشارة إلى الزنوج السود الذين يؤمنون باليهودية جميعاً. وبالتالى، فإن المصطلح يضم الفلاشاه والعبرانيين السود، وكذلك جماعات بشرية أخرى ذات هويات يهودية سديمية. وقد وجد أحد الباحثين فى ساحل لوانجو فى غرب أفريقيا جماعة تصنف باعتبارها يهودية ويسمى أعضاؤها أنفسهم "مافانبو" ويقيمون شعائر السبت. ومن المعروف أن ساحل لوانجو لا يبعد كثيراً عن جزيرة ساوتومى البرتغالية التى أحضر إليها الأطفال اليهود الذي تم تنصيرهم عنوه عام 1493 - ولعل هذا هو مصدر تسميتهم باليهود. وتوجد بالقرب من ساحل مدغشقر فرقة يهودية تسمى "زافي إبراهيم"، يدعى أفرادها أنهم يهود، ولكن ليس هناك أى شىء يميزهم عن بقية السكان.
وفى عام 1750، أسست مستوطنة بالقرب من سورينام (غينيا الهولندية) تضم أبناء اليهود الذين تزوجوا من العبيد الأفريقيين السود، وكانوا يتحدثون لهجة "الدجو تونجو" أى "لغة اليهود"، وهى خليط من البرتغالية والعبرية وبعض الكلمات المحلية.
العبرانيون السود
Black Hebews
» العبرانيون السود» فريق من الأمريكيين السود الذين يؤمنون باليهودية ويلتزمون بتطبيق الشريعة اليهودية بتشدد يفوق تشدد اليهود البيض. ويدعى العبرانيون السود الانتساب إلى قبائل يسرائيل العشر المفقودة، وأنهم هم وحدهم (وليس يهود الأرض المحتلة أو يهود العالم) سلالة اليهود القدامى الحقيقية. ويؤكد العبرانيون السود أن أنبياء اليهود من السود، وأن إسرائيل القديمة كانت أيضاً دولة سوداء، وأن قناة السويس ما هى إلا ثغرة صنعها الإنسان الأبيض لفصل إسرائيل عن أفريقيا السوداء.(3/430)
وانطلاقاً من هذا، كتب شاليح بن يهودا، مساعد رئيس الجماعة، إلى رؤساء الدول الأفريقية يحثهم على المطالبة بحقوقهم فى إسرائيل والتى سرقها اليهود. ويطمع رئيس الجماعة، بن عمى كارتر، إلى أن يترأس الدولة الصهيونية. بل أنهم يقولون إن إسرائيل بأسرها ملك خاص لهم سرقها الإشكناز، أى اليهود البيض. وقد بدأ العبرانيون السود فى التوافد إلى إسرائيل ابتداء من أغسطس عام 1969 من شيكاغو، احتجاجاً على أوضاع الزنوج هناك. ثم استمرت جماعات منهم فى الاستيطان حتى بلغ عددهم 1500 مهاجر (ويرتفع هذا العدد حسب التقديرات الأخرى إلى 3000) .
ويتركز تجمع العبرانيون السود فى إسرائيل فى الأماكن التالية:
- ديمونة ويقيم فيها 1500.
- عراد حيث يقيم 400.
- متسبى رامون حيث يقيم 80.
وجميعها قرى فى النقب. كما تتوزع عشرات الأسر بين رعنانا وعدة مناطق أخرى فى النقب أيضاً. والمنطقة التى يقيمون بها فى ديمونة معزولة ومحاطة بالأشجار والنباتات التى تفصلهم عن بقية المدينة. وفى البداية، سمحت السلطات الإسرائيلية لهؤلاء العبرانيين السود بالإقامة المؤقتة، إلا أنها سرعان ما حاولت التخلص منهم بدعوى أنهم مصدر للمشاكل ويمثلون عبئاً اقتصادياً. وفى 8 ديسمبر 1971، وصلت إلى إسرائيل مجموعة مكونة من 48 شخصاً ومنعت من الدخول ووجهت إلى الولايات المتحدة.(3/431)
ولا يحمل العبرانيون السود أى بطاقة رسمية أو وثيقة تبين هويتهم، الأمر الذى يعد فى حد ذاته مخالفة للقانون الإسرائيلى. ويحمل معظمهم تأشيرة سائح لمدة ثلاثة أشهر لا تجدد بعد انتهائها. ويعتبر وضعهم فى الزواج غير منظم من الناحية القانونية. فالزواج والطلاق بالمعنى المألوف للكلمة لا وجود له بين أعضاء الجماعة، كما أنهم يمارسون تعدد الزوجات. وتتسبب كثافة العبرانيين السود المخيفة، وانحطاط مستواهم المعيشى، فى تفاقم وتوتر العلاقات بينهم وبين جيرانهم اليهود. وللعبرانيين السود نظام تعليمي مستقل، وهم لا يقومون بتسجيل حالات الولادة أو الوفاة لديهم، ويوفرون لأنفسهم كل الخدمات اللازمة حيث أقاموا مدارس وفصولاً مستقلة وعيادات وورش خياطة.
وليس من المتوقع أن تجد مجموعة بشرية مثل العبرانيين السود كثيراً من الاستقرار فى مجتمع استيطانى عنصرى استبعادى، كما هو الحال فى إسرائيل. وبالفعل، ثار المستوطنون الصهاينة ضد توطين العبرانيين السود إلى جوارهم، وهدد أولياء الأمور بالإضراب احتجاجاً على تسجيل أبنائهم فى مدارس ديمونة، كما هددوا سكان عراد بالقتل إذا باع أحدهم شقته لأى منهم، بل وشكلوا لجنة قومية تسمى " اللجنة الإسرائيلية لطرد الزنوج العبرانيين".
وقد أثارت وسائل الإعلام الإسرائيلية الشك حول يهودية الزنوج، كما أن المؤسسة الدينية أنكرت تماماً انتمائهم إلى الدين اليهودى وهو ما دفعهم إلى التظاهر أمام مقر دار الحاخامية الرئيسية كى تعترف بصفتهم اليهودية. وتقدم قادتهم بشكوى إلى الأمم المتحدة اتهموا فبها حكام إسرائيل باستخدام أساليب الجستابو والقمع العنصرى.(3/432)
وتسبب القضية الكثير من الحرج للكيان الصهيونى، بخاصة أمام الأمريكيين السود فى الولايات المتحدة. ولذا، تحاول المؤسسة الصهيونية تشويه صورتهم إعلامياً، فتشيع أن الجريمة تنتشر فى صفوفهم وأن ما لا يقل عن خمسة وعشرين من أعضاء هذه الجماعة مطلوب القبض عليهم من قبل البوليس الفيدرالى الأمريكى. كما تقول السلطات الصهيونية إن زعيم الجماعة هو الزعيم المطلق الذى يقوم بجمع الأموال والتصرف فيها.
ومن الطريف إن المستوطنين الصهاينة يخفقون فى التفرقة بين العبرانيين من جهة ويهود الفلاشاه من أثيوبيا من جهة أخرى. فهؤلاء جميعاً "سوداً" على العموم، وهو ما يدل على إن عملية التصنيف والإدراك داخل التجمع الصهيونى تتم على أساس عرقى بين اليهود أنفسهم، فالأبيض يوضع مقابل الأسود، والشرقى مقابل الغربى.
اليهود السود
Black Jews
» اليهود السود» هم العبرانيون السود، وإن كان الإسرائيليون يخلطون بينهم وبين الفلاشاه. انظر:» العبرانيون السود» .
الفلاشاه: تاريخ وهوية
Falashas: History and Identity
«الفلاشاه» كلمة أمهرية تعنى «المنفيين» ، كما أنها تعنى أيضاً «غريب الأطوار» . وأصل الكلمة يعود إلى الجذر «فلاشا» فى اللغة الجعزية، ويعنى «يهاجرا» أو «يهيم على وجهه» . ويستخدم أهل إثيوبيا الكلمة للإشارة إلى جماعة إثنية أفريقية تدين بشكل من أشكال اليهودية، وهى لا تنتمى إلى أى من الكتل اليهودية الكبرى الثلاث: الأشكناز والسفارد ويهود العالم الإسلامى. كما يستخدمون كلمة "إيهود"، أى "يهود" أما الفلاشاه فيشيرون إلى أنفسهم بوصفهم "بيت إسرائيل".
وأصول الفلاشاه ليست سامية خالصة هى حامية أيضاً، إن قبلنا هذا التمييز العرقى والحضارى، فهم ينتمون إلى مجموعة القبائل السامية من جنوب الجزيرة العربية. ويقال إن اليهودية انتشرت بينهم من خلال يهود الجزيرة العربية قبل الإسلام (ويقال إن عبد الله بن سبأ من أصل فلاشى) .(3/433)
وثمة رأى قائل بأن أصل الفلاشاه يعود إلى جنوب شبه الجزيرة العربية، وربما وصلتهم اليهودية عن طريق مصر وربما جاءوهم أنفسهم من صعيد مصر. قد كانت توجد جماعة من الجنود المرتزقة اليهود على حدود مصر الجنوبية (فى جزيرة إلفنتاين) بالقرب من الشلال الأول فى أسوان. وثمة رأى آخر يذهب إلى أن أصلهم يرجع إلى جماعة من اليهود استوطنوا بشكل دائم. ويقال إن عدد الفلاشاه كان كبيراً قبل إن تعتنق أسرة إكسوم الحاكمة الديانة المسيحية فى القرن الرابع. ولكن، بعد هذا التحول إلى المسيحية، نشبت صراعات حادة وحروب عديدة بينهم وبين جيرانهم المسيحيين.
واشترك الفلاشاه فى التمرد الذى قامت به قبائل الأجاو ضد إكسوم فى القرن العاشر، حيث أسقطوا النجاشى وفتكوا بالرعايا المسيحيين وهدموا كنائسهم وأديرتهم. ولكن أسرة زاج، التى حلت محل أسرة إكسوم، كانت هى الأخرى مسيحية وحاولت تأكيد السلطة المسيحية.
وفى عام 1270، وتحت تأثير الكنيسة، اعتلى أحد أعضاء أسرة إكسوم القديمة العرش. وقرر ملوك الأسرة المالكة، بعد استعادة الحكم، إن يضعوا حداً لاستقلال الفلاشاه، خصوصاً وأنهم كانوا يعتبرونهم عنصراً مشكوكاً فى ولائه فى حروبهم مع الممالك الإسلامية المجاورة. ولذلك، قام ملوك إكسوم بتجريد مجموعة من الحملات ضدهم.(3/434)
وأثناء حكم النجاشى لينادنجل (1508-1540) ، غزاً المسلمون إثيوبيا. وقد انضم الفلاشاه، فى بادئ الأمر، إلى المسلمين تحت زعامة ملكهم جدعون وملكتهم جوديث (يهوديت) ، بل وتعقبوا النجاشى المهزوم الفار. ولكنهم انضموا بعد ذلك إلى الإثيوبيين، فألحق المسلمون الهزيمة بهم وبحلفائهم الإثيوبيين، ووقع ملك وملكة الفلاشاه فى الأسر. وقد ظل هذا الشد والجذب قائماً حتى حكم النجاشى سوسينيوس (1607-1632) الذى ألحق بالفلاشاه هزيمة نكراء، بفضل تجهيز جيشه بالأسلحة النارية، وهدم قراهم ومعابدهم وصادر أرضيهم، فتحولوا إلى عاملين أجراء. وقد ظلوا على هذا الوضع حتى القرن التاسع عشر حين وصلت الإرساليات المسيحية البروتستانتية التى حققت نجاحاً ملحوظاً بين صفوفهم. وقد يفسر هذا النجاح التناقص الكبير فى أعدادهم إن صدقت الإحصاءات.
ولا يعرف عدد الفلاشاه على وجه الدقة، وإن كان قد قدر عددهم فى بداية القرن الثامن عشر بمائة ألف، بل إن أحد أعضاء الإرساليات قدره بربع المليون. ولكن، مع بداية القرن العشرين، وصل عددهم إلى خمسين ألفاً على أحسن تقدير، وإلى سبعة آلاف حسب أسوئها. وحسب تقديرات عام 1976، وصل عددهم نحو 28 ألفاً موجودين فى 490 قرية مختلفة.
ويتركز الفلاشاه أساساً فى شمال إثيوبيا فى المنطقة الواقعة بين نهر نازى فى الشمال والشرق، وبحيرة تانا والنيل الأزرق فى الجنوب، والحدود السودانية فى الغرب. وهم يعيشون فى قرى صغيرة مقصورة عليهم تضم كل قرية نحو خمسين أو ستين عائلة وتوجد أهم القرى بجوار مدينة جوندار. كما يوجد داخل جوندار نفسها جماعة صغيرة من الفلاشاه تعيش فى حى مقصور عليها. وتوجد قرى الفلاشاه عادة على قمة أحد التلال القريبة من النهر. وتتكون كل قرية من مجموعة من الأكواخ المستديرة يغطيها القش، ويخصص أحد الأكواخ معبداً لهم، كما يخصص كوخان آخران بعيدان عن القرية لعزل النساء وقت الطمث وبعد الإنجاب.(3/435)
ولا تختلف ملامح الفلاشاه كثيراً عن ملامح غيرهم من الإثيوبيين، كما لا يمكن الحديث عن نمط فلاشى متميز إذا اختلطت فيهم الدماء الحامية والسامية. ولذا، لا توجد اختلافات فى لون الجلد وملامح الوجه. ولا يختلف أسلوب حياتهم، من معظم الوجوه، عن أسلوب حياة جيرانهم، كما أنهم يرتدون نمط الثياب نفسه ويأتزرون بالعباءة المسماة "الشامة". وهم يعملون أساساً بالزراعة كعمال أجراء، كما يعملون فى بعض الحرف الأخرى مثل صناعة الفخار والعزل والنسيج وصنع السلاسل، كما يعملون حدادين وصاغه وحائكى ملابس، ويعمل كثير منهم الآن بحرفة البناء فى المدن.
ولم تكن طريقة توزيع الأراضى فى إثيوبيا تسمح للفلاشاه باقتناء الممتلكات، لأنهم لم يكونوا من موظفى الدولة. فالحال هناك كانت أشبه بأوربا الإقطاعية حيث كانت الخدمة العسكرية الإلزامية للدولة أو الكنيسة شرطاً للتملك. وإذا كان بعض الفلاشاه، وخصوصاً أولئك الذين سكنوا أقصى الغرب، يملكون الأرض، فإنهم فى المناطق الأخرى كانوا يعملون حرفيين. أما ممارستهم الزراعة، فقد اقتصرت على زراعة الأرض لأصحابها المسيحيين. ولم ينطبق حظر التملك على الفلاشاه هو حسب، وإنما على مجمل الحرفيين بصرف النظر عن طوائفهم.
ويتحدث معظم الفلاشاه الأمهرية. وثمة أقلية منهم تعيش فى تيجري وفى إريتريا وتتحدث اللغة التيجرينية. وهناك أقلية أخرى فى الجزء الشمالى تتحدث لهجات قبائل الأجاو. أما أدبهم، فكله مكتوب باللغة الجعزية أو الإثيوبية (لغة إثيوبيا الكلاسيكية) وهى أيضاً لغة الكنيسة القبطية الإثيوبية.
ولكن ثمة نصوصاً تدل على إن الفلاشاه كانوا يتحدثون ويتعاملون بلغة قبائل الأجاو، ولا تزال توجد بينهم بعض الصلوات بهذه اللغة. والفلاشاه يجهلون العبرية تماماً، فمعرفتهم بها مقصورة على بضع كلمات لا يدركون هم أنفسهم أنها من هذه اللغة.(3/436)
ويضم أدب الفلاشاه المكتوب بالجعزية عدة كتب موجودة على هيئة مخطوطات. ومن الطريف إن بعض هذه الكتب متداول بين اليهود والمسيحيين فى آن واحد. بل إن بعض اليهودية تضم أشعاراً من العهد الجديد (أهم الكتب المقدسة لدى المسيحيين) .
وفلكلور الفلاشاه، كما هو الحال فى أفريقيا، ثري للغاية، فلهم أغان ورقصات عديدة. كما إن لهم تاريخهم الأسطورى، فهم يعودون بأصولهم إلى منليك، ابن الملك سليمان، الذى عاد إلى أمة بلقيس ليعتلى عرش إثيوبيا. ولما كان الإثيوبيون المسيحيون يؤمنون بالأصول الأسطورية نفسها، فإننا نجد أن الفلاشاه قد أضافوا إلى القصة ما يفسر انفصالهم، إذ يقولون أن ملكة سبأ سافرت إلى القدس واعتنقت اليهودية بتأثير ملكها سليمان وأنجبت منه منليك الذى عاد يوماً لزيارة أبيه فأكرم وفادته وأمر بعض رجال حاشيته وبلاطه الملكى بمرافقة الأمير عند عودته. وقد سرق منليك سفينة العهد وعبر نهراً يوم السبت الذى يحرم فيه السفر والسير لمسافات طويلة. وقد تبعه بعض الخاطئين (مسيحيو إثيوبيا) ، أما الأتقياء الذين امتنعوا عن عبور النهر فهم يهودها، أى الفلاشاه.
ويمارس الفلاشاه عادة الزرار لطرد الأرواح. ويقال إن هذه العادة بدأت فى إثيوبيا وانتشرت منها إلى بعض بلاد الشرق الأوسط. كما أنهم يقومون بصنع الاحجبة والتعاويذ اتقاء للعيون الشريرة. وبسبب اشتغالهم حدادين يعتبرهم أهل القرى من السحرة.(3/437)
ويمكننا هنا إن نثير قضية ما إذا كان يهود الفلاشاه يشكلون جماعة وظيفية أم لا. الواقع إن أعضاء الجماعات اليهودية فى الغرب قد اضطلعوا بوظيفة الجماعة الوظيفية الوسيطة وعملوا بالتجارة والصيرفة فى أماكن متفرقة من أوربا، أما يهود إثيوبيا فكانوا يعملون بالزراعة، ولم يشتغلوا بالتجارة والصيرفة، كما أنهم كانوا أعضاء فى مجتمع قبلي مبنى على الاقتصاد الطبيعى، لا يوجد فيه نقد ولا قطاع تجارى أو مالى يذكر. فالفلاشاه لم يضطلعوا بدور الجماعة الوظيفية المالية والوسيطة ولكنهم مع هذا أصبحوا جماعة وظيفية تشتغل ببعض الحرف التى يعتبرها المجتمع إما وضيعة أو هامشية أو مشبوهة، أو فى غاية الأهمية، أو تتطلب خبرة معينة لابد من توارثها مثل الحدادة. ومن هنا كان اتهامهم بالسحر، وهى تهمة كانت توجه إلى المرابى اليهودى فى أوربا، وتوجه عادة إلى الشخصيات الهامشية فى المجتمع. لكن الهامشية لا تعنى بالضرورة عدم الأهمية، فالهامشية قد تنتج من التفرد والتميز.
وحتى الآن، لم نطلق على الفلاشاه صفة "يهود". وأرجأنا ذلك إلى إن نستغرق عقيدتهم الدينية. وتعرف الفلاشاه فى الموسوعة اليهودية يلقى كثيراً من ظلال الشك على انتمائهم الدينى، إذ جاء فيه ما يلى: "الفلاشاه جماعة إثنية فى إثيوبيا تزعم أنها من أصل يهودى، ومرتبطة بنوع من أنواع الديانة اليهودية يستند إلى العهد القديم والكتب الخارجية (أبو كريفا) ، أى الكتب غير المعتمدة والكتب الدينية الأخرى التى ظهرت بعد الانتهاء من تدوين العهد القديم".
والواضح إن التعريف يرى أنهم من أصول اثنيه ليست بالضرورة يهودية، وأنهم ليسوا يهوداً وإن كانوا "يزعمون" أنهم من أصول يهودية. كما أن ما يعرفونه عن اليهودية يختلف عن اليهودية التى يتبعها معظم يهود العالم والسائدة فى الدولة الصهيونية. ففى أى شئ تختلف يهودية الفلاشاه عن اليهودية الحاخامية؟(3/438)
تستند عبادة الفلاشاه إلى العهد القديم الذى لا يعرفونه إلا باللغة الجعزية لغة الكنيسة الإثيوبية. ويضم العهد القديم الذى يعرفونه كل الكتب المعتمدة وبعض كتب الأبوكريفا غير المعتمدة مثل: كتاب يهوديت، وحكمة سليمان، وحكمة بن صيرا، وكتاب المكابيين الأول والثانى، وكتاب باروخ. ولم يصل التلمود إلى الفلاشاه. وغنى عن الذكر أن التلمود هو عمود اليهودية الحاخامية الفقرى وعصبها، وعدم الاعتراف به ينطوى على عدم اعتراف بها.
والعناصر اللاهوتية والحضارية المشتركة بين المسيحيين واليهود فى إثيوبيا كبيرة. وقد أشرنا إلى إن بعض الكتب الدينية متداولة بين الفريقين معاً، وإلى إن الجعزية هى لغة العبادة بين اليهود والمسيحيين هناك، كما أن أسطورة الأصيل مشتركة مع تنويعات خفيفة. ويمكن أن نضيف هنا أن الفلاشاه ليس لديهم حاخامات وإنما قساوسة يطلق على واحدهم لفظة "قس". كما أنهم ينتسبون، مثل الكهنة القدامى فى يهودية ما قبل التهجير، إلى هارون. وينتخب الكهنة فى كل منطقة كاهناً أعظم لهم لكى يصبح زعيماً دينياً للجماعة، ويصبح من صلاحياته ترسيم الكهنة.
ويقدم الكهنة القرابين فى المناسبات الدينية المختلفة. ويعيش بعض هؤلاء الكهنة فى الأديرة رهباناً وراهبات على النمط المسيحى، ويطلق عليهم لقب "ناذير" وهى لفظة عبرية تعنى "الذى نذر نفسه للشعائر الدينية وانقطع لها". كما أن البعض الآخر يعيش على طريقة النساك فى الغابات والصحارى وعلى حواف القرى. ومن الطريف أن عادة الاعتراف المسيحية موجودة عند الفلاشاه فهم يدلون باعترافاتهم إلى الكاهن من آونة إلى أخرى وعند نهاية اليوم. وإلى جانب الرهبان والكهنة، يوجد علماء يستخدمون صحن المعبد لتعليم الدين.(3/439)
ويقيم الفلاشاه شعائر يوم السبت بصرامة غير عادية، فيمتنعون عن الجماع الجنسى فى ذلك اليوم، ويقضى الرجال يومهم فى الصلاة. لكن التحريمات الخاصة به مختلفة من بعض الوجوه عن تحريمات اليهود الأرثوذكس. فهم مثلاً لا يعتبرون استخدام النور الكهربائى من المحرمات. كما أنهم يحتفلون بعدد من الأعياد أكبر من المنصوص عليه فى الشريعة اليهودية، فعندهم أعياد شهرية لتذكرهم بالأعياد السنوية. وفى العاشر من كل شهر قمرى، يوجد احتفال يذكرهم بعيد يوم الغفران. وفى اليوم الخامس عشر من كل شهر، يحتفلون بذكرى عيد الفصح وعيد المظال. ويعد ثالث سبت فى خامس شهر قمرى هو سبت الأسبات يتلون فيه الصلوات والأدعية. وفى الثامن عشر من الشهر السادس القمرى يحيون ذكرى وفاة إبراهيم وإسحق ويعقوب. وهم لا يحتفلون بعيد التدشين أو عيد النصيب فلم يرد لهما ذكر فى التوراة.
وإلى جانب هذه الأعياد والاحتفالات توجد أيام صيام أسبوعية وشهرية وسنوية، فيصومون يوم الخميس إحياء لذكرى طلب عزراً من المنفيين أن يصوموا. ويصومون كذلك فى الفترة 1- 17آب (أغسطس) إحياء لذكرى سقوط القدس (ولا يصوم اليهود الحاخاميون إلا فى يوم التاسع من الشهر نفسه لإحياء هذه الذكرى) ويصومون فى العاشر من أيلول (سبتمبر) تذكرة بيوم الغفران. وهم يحافظون على شعائر الزواج والختان اليهودية، ولكنهم يختنون البنات على عادة بعض الشعوب الأفريقية. ويحافظون كذلك على التحريمات الخاصة بالطعام، ولكنهم لا يستعملون أوانى منفصلة للمأكولات من الحليب واللحم على غرار الجماعات اليهودية الأخرى.(3/440)
ويختن المسيحيون الإثيوبيون (هم الآخرون) أولادهم الذكور، ويمتنعون عن تناول المأكولات المحرمة عند اليهود. كما أنهم، ولفترة طويلة، كانوا يتخذون السبت يوم راحة لهم بدلاً من الأحد. ومن الجوانب اليهودية الأخرى فى المسيحية الإثيوبية، التشديد على أهمية العهد القديم فى الكتاب المقدس. وكذلك يلاحظ وجود الرموز المتعلقة بسفينة العهد فى الكثير من الكنائس المسيحية الإثيوبية.
واشتهر الفلاشاه أيضاً بمغالاتهم فى التطهر، ولذا فهم يمتنعون قدر الإمكان عن لمس الغرباء. وإذا حدث إن لمس أحدهم غريباً، فإن عليه أن يتطهر (ولذلك توجد قراهم على مقربة من الأنهار حتى يمكنهم التطهر دائماً) . ومن هنا، فإن الفلاشاه الذين يعيشون فى جوندار، ويفرض عليهم أسلوب حياتهم الاحتكاك الدائم بالأجانب والغرباء، يعدون "غير طاهرين" فى نظر بقية الفلاشاه.
وتتبدى مغالاة الفلاشاه فى قوانين الطهارة فى تعاملهم مع النساء. فبعد إن تلد المرأة ولداً، فإنها تعد غير طاهرة مدة أربعين يوماً. وإن وضعت بنتاً، فإن المدة تتضاعف. وبعد نهاية المدة، تحلق المرأة شعر رأسها وتغطس فى الماء وتغسل ملابسها قبل أن تعود إلى منزلها. وأحياناً يحرق الكوخ الذى قضت فيه فترة العزل.(3/441)
والمعبد هو مركز الحياة الدينية بين الفلاشاه، والذى تطلق عليه كلمة "مسجد" أو "بيت إجزا بهير" أو "بيت الإله". وهو يتكون من حجرتين، يطلق على الحجرة الداخلية أسم "قدستا قدوسان"، أى "قدس الأقداس"، تماماً كما فى هيكل سليمان القديم، ولا يدخله إلا الكاهن والشماس. ويحفظ فى هذه الحجرة التوراة وملابس الكاهن الشعائرية. ولا يسمح للنساء، إلا غير المتزوجات والعجائز، بدخول المسجد. وتقام سبع صلوات فى اليوم الواحد، وإن كان معظم الفلاشاه يكتفون بإقامة صلاتين: واحدة فى الصباح والأخرى فى الليل. ويستخدم الفلاشاه اللغة الجعزية فى الصلاة، ويقضون معظم يوم السبت وأيام الأعياد فى الصلاة داخل المسجد، ويقفون لتناول الطعام فى مأدبة جماعية. كما أنهم يغنون ويرقصون فى الأعياد.
ويؤمن الفلاشاه بإله واحد ويؤمنون بالبعث والعالم الآخر والثواب والعقاب، كما يؤمنون بعقائد اليهود الأخرى كإيمانهم بأنهم من الشعب المختار وأنه سيظهر بينهم ماشيح. وقد حدث عام 1862، أثناء حكم الإمبراطور تيودور الثانى، أن ظهر ماشيح دجال أقنع الفلاشاه بالعودة إلى أرض الميعاد سيراً على الأقدام، ولكن معظمهم مات فى الطريق.
ويبدو إن بعض الفلاشاه ممن تقع قراهم على مقربة من قرى المسلمين قد استوعبوا أيضاً عناصر إسلامية فى عقيدتهم، وربما كان بينهم مسلمون بالفعل. إذ ذكرت الصحف الإسرائيلية أن بعضهم قد اعتنق الإسلام فى إسرائيل. كما أوردت أن بعضهم، أثناء زيارة حائط المبكى، سمع صوت الأذان فاتجه إلى المسجد لإقامة الصلاة. كما ذكرت إحدى الصحف الإسرائيلية إن بعضهم أقام الصلاة على طريقة المسلمين فى المطار فور وصوله إلى إسرائيل وقد وصفتهم الصحيفة بأنهم "فلاشاه سنيون".(3/442)
وقد احتفظ الفلاشاه بهويتهم المتميزة، وهى هوية إثنية أفريقية استمدوها من بيئتهم ومن طبيعة التشكيل الحضارى الأفريقى. ويرى بعض المتخصصين فى مجتمع الفلاشاه أنهم من قبيلة الأجاو، وأنهم عرق إثيوبي صاف. أما تقاليدهم وعاداتهم فتشمل خليطاً من المعتقدات والطقوس الوثنية واليهودية والمسيحية وربما الإسلامية. وقد نفى أحد المؤرخين صفة اليهودية عنهم ووصفهم بأنهم مسيحيون تمسكوا لسبب أو آخر بالعهد القديم بدلاً من العهد الجديد. وهو يرى إن علاقات الفلاشاه الحضارية والعرقية مع جيرانهم المسيحيين الإثيوبيين، تتخطى تلك التى يشاركون بها يهود العالم. وقد تكون هذه الطبيعة المختلطة لهوية الفلاشاه هى ما حدا بأحد المسئولين فى الوكالة اليهودية فى أوائل الخمسينيات إلى أن ينصح الذين فكروا منهم فى الهجرة إلى إسرائيل بالتنصر وحل مشكلتهم بهذه الطريقة بدلاً من الهجرة إلى إسرائيل.
ومع هذا، تم تهجيرهم باسم الهوية اليهودية العالمية. ومن الواضح أنهم سيفقدون فى إسرائيل هويتهم الأفريقية هذه ولن يكتسبوا هوية جديدة، لأن المجتمع ينظر إليهم بعين الشك بسبب لون جلدهم وتوجههم الثقافى بل ومعتقداتهم الدينية. وقد شككت دار الحاخامية فى يهوديتهم.
تهجير الفلاشاه
Transfer of the Falashas(3/443)
ابتداء من عام 1973، حدث تحول فى الموقف الصهيونى تجاه الفلاشاه. فقد أعلن الحاخام شلومو غورن إن أعضاء هذه الجماعة اليهودية هم فى الواقع من أحفاد قبيلة دان، ومن ثم فهم يهود حقيقيون. وقد طبق عليهم قانون العودة (بعد إن كانت الوكالة اليهودية تنصحهم بالتنصر) . وبدأت عملية التهجير حوالى 1977، فكانت تصل بضع مئات. وحينما قامت الثورة الإثيوبية، توقفت العملية ثم استمرت بشكل سرى. ثم وضع مخطط التهجير فى أواخر السبعينيات. وفى عام 1984، نفذ مخطط التهجير على نطاق واسع فيما عرف باسم "عملية موسى" إذ تم نقل حوالى12 ألف إثيوبى فى جسر جوى سرى عبر السودان (كان عدد المهجرين الإجمالى فى هذه الفترة 37,14) . وقد تمت العملية فى سرية كاملة حيث فرض تعتيم إعلامى كامل، إلى أن نشرت إحدى نشرات المستوطنين الصهاينة فى الضفة الغربية (نكوداه) أن معظم يهود إثيوبيا موجودون فى إسرائيل. ويقال إن تسريب نبأ هجرة يهود الفلاشاه قام به موظف كبير من حزب المفدال الدينى بهدف وقف الهجرة، وهو ما يدل على وجود انقسام فى الأوساط الصهيونية حيال هذه العملية. وكانت حكومة الولايات المتحدة من أكثر الحكومات حماساً، بل وألمحت صحيفة واشنطن بوست إلى إن الحكومة الأمريكية هى التى ضغطت على الدولة الصهيونية لتقبل الفلاشاه، وقد خصص صندوق اللاجئين التابع لحكومة الولايات المتحدة 15 مليون دولار لاستيعاب المهاجرين. وعلى أية حال، فقد بلغت تكاليف عملية موسى مائة مليون دولار قامت جماعات يهودية أمريكية بتغطيتها. كما تمت عملية أخرى باسم "عملية سليمان" فى مايو 1991 بعد سقوط نظام منجستو، وتم فيها نقل 19,879 من الفلاشاه بواسطة جسر جوى بين أديس أبابا وتل أبيب شمل أربعين رحلة مكوكية. كما هجر 3,500 عام 1992 (إذا أضفنا لهؤلاء عدد 6,422 وهم أبناء الفلاشاه المولودون فى إسرائيل فإن إجمالى عددهم يصل 51,429) .(3/444)
لقد أسلفنا إن الحاخامية فى إسرائيل اعترفت بالفلاشاه كيهود تمهيداً لعملية التهجير. ومع هذا، لم يكن الاعتراف بهم كاملاً، فيهوديتهم حسب التصور الدينى ناقصة. ولذا، طلب منهم عند وصولهم أن يعاد تختينهم، وأن يأخذوا حماماً طقوسياً لتطهيرهم. ولوحظ أنه لا تصدر لهم بطاقة هوية إلا بعد هذه الطقوس، بل ويتسلمها بعضهم دون تحديد الديانة حتى بعد الختان والاستحمام الطقوسى. ومن الطريف إن هؤلاء الفلاشاه، المشكوك فى يهوديتهم، ذهلوا من علنانية المجتمع الصهيونى وعدم حرصه على الشعائر اليهودية إذ لا حظوا أن يهود الكيان الصهيونى لا يلتزمون بشعائر السبت.
ولكن الرفض على أساس إثنى وعرقى كان أعمق وأشد حدة، فعلى سبيل المثال رفضت مدينة إيلات (عدد سكانها عشرون ألفاً) تزويد المستوطنين الفلاشاه بالماء والكهرباء، كما رفض المجلس المحلى لمستوطنة يروحام إدخال الفلاشاه إليها. وفى صفد تظاهر السكان ضد إعطاء المهاجرين من إثيوبيا بيوتاً، كما هدد أولياء أمور الطلاب فى المدارس الدينية بالامتناع عن إرسال أطفالهم إليها إذا استمر أطفال الفلاشاه معهم. وشكا رئيساً بلدية عكا ونهارياً من توطين الفلاشاه فى بلدتيهما بحجة أن هذه مدن اصطياد سياحية ووجود الفلاشاه لا يساعد كثيراً على اجتذاب السياح، فهو يخلق التوتر ويزيد تفاقم ظاهرة العنصرية فى المدينة.(3/445)
وليس من المتوقع إن تحقق محاولة استيعاب الفلاشاه فى التجمع الصهيونى نجاحاً كبيراً. فمع تفاقم الأزمة الاقتصادية فى المجتمع الصهيونى، لن يمكن تدبير المبالغ اللازمة لاستيعابهم وتحقيق المستوى المعيشى العالى الذى يضمن سكوتهم. وقد انعكس الصراع بين الدينيين واللادينيين داخل التجمع الصهيونى عليهم، فقد دأبت الوكالة اليهودية على إرسال أبنائهم إلى المدارس الدينية، وهو أمر لا يقبله الصهاينة اللادينيون، كما أن كثيراً من المهاجرين الفلاشاه الجدد (من سكان المدن) لا يتمسكون كثيراً بالذين، وبالتالى فهم أيضاً يمانعون فى إرسال أولادهم إلى المدارس الدينية. وقد بدأ يصل مع المهاجرين الفلاشاه نموذج جديد وهو الفلاشى المتعلم الذى لا يحتقر ثقافته الوطنية بالضرورة ويجيد التعامل مع المؤسسات الحديثة، وهذه العناصر بدأت تتولى القيادة بين المهاجرين والدفاع عن حقوقهم.
وأكبر دليل على فشل عملية الاستيعاب تلك الأخبار التى نشرتها الصحافة الإسرائيلية عن حوادث الانتحار الفعلية وعن محاولات الانتحار العديدة التى قام بها يهود الفلاشاه، وعن تهديدهم بالانتحار الجماعى. وقد أنشأ بعض اليهود منظمة "مهاجرى إثيوبيا"، لا لتسهيل استيعابهم وتوطينهم بل للعمل على تهجير جزء منهم إلى كندا.(3/446)
ويمكن طرح السؤال التالى: ما الذى يمكن إن تربحه الدولة الصهيونية من تهجير ما بين 25-35 ألف يهودى من إثيوبيا (العدد الكلى للفلاشاه فى إسرائيل) ، خصوصاً أنها كانت تدرك بعض المشاكل التى ستنجم عن هذه الهجرة؟ يمكننا ابتداء استبعاد العنصر الإنسانى، فلو كان الدافع إنسانياً لا نصب اهتمام الكيان الصهيونى على تحسين أحوالهم فى بلادهم، وعلى الدفاع عن حقوقهم هناك، ولشمل كل ضحايا المجاعة فى إثيوبيا. ولعل أول الدوافع الحقيقية هو الدافع المالى، فالقصص المثيرة عن تدهور حال يهود إثيوبيا تؤدى إلى تدفق التبرعات. كما أن هناك مردوداً إعلامياً، فإسرائيل دولة معروفة للعالم الغربى بعنصريتها. ولذا فإن إنقاذ يهود الفلاشاه (السود الأفارقة) قد يحسن صورتها بعض الشىء.
وهذه الدوافع المادية، المالية والإعلامية، دوافع حقيقية ولكنها سطحية. أما الدافع الحقيقى الكامن وراء تهجير الفلاشاه فهو أزمة النظام الصهيونية العقائدية والسكانية العميقة. فالكيان الصهيونى يعانى من نضوب مصادر الهجرة اليهودية، إذ أن يهود الغرب المتحمسين يكتفون بإرسال الشيكات وبرقيات التأييد الحارة ولا يهاجر منهم إلا القليل النادر. أما يهود الاتحاد السوفيتى فهم بالمثل يؤثرون الهجرة، إن هاجروا، إلى الولايات المتحدة. لكن العنصر البشرى أساسى بالنسبة للاستعمار الاستيطانى الإحلالى، والفلاشاه سيساهمون بلا شك فى سد هذا العجز، وسيساعدون آلة الاستيطان والحرب على الاستمرار. كما أن الفلاشاه زراع مهرة، وقد يمكنهم زراعة الأرض الفلسطينية التى استولت عليها الدولة الصهيونية، خصوصاً بعد انصراف المستوطنين الصهاينة عن فلاحتها. وتعانى المؤسسات الزراعية الصهيونية من ندرة الأيدى العاملة اليهودية وتضطر إلى استئجار عمالة عربية، وقد يبطئ وجود الفلاشاه هذه العملية قليلاً.(3/447)
ومن الواضح إن الفلاشاه هو تعبير عن مقدرة الصهاينة على الحركة والإنجاز ولكنه أيضاً تعبير عن أزمة صهيونية. وهى عملية تحل بعض المشاكل مؤقتاً، ولكنها ستفجر بعض المشاكل الأخرى، وبكل حدة، داخل الكيان الصهيونى. وقد تفجرت مرة أخرى مع وصول الفلاشاه مسألة من هو اليهودى. كما أنها قد تساعد على التشكيك فى المقولة الصهيونية الخاصة بوحدة الشعب اليهودى، إذ يأتى الفلاشى بملامح وقيم وعادات مختلفة. ولنتخيل يهودياً أمريكياً أشقر من أصحاب المذهب الإصلاحى أو يهودياً علمانياً أو يهودياً ملحداً يقف بجوار يهودى من الفلاشاه أسود البشرة يرقص فى "مسجده" اليهودى فى الأعياد، فهل سيقتنع الاثنان بأنهما ينتميان إلى شعب واحد؟
وينتشر الفلاشاه فى إسرائيل داخل أراضى فلسطين المحتلة منذ عام 1948، كما ينتشرون فى الأراضى العربية المحتلة بعد عام 1967. وأكبر تركيز لهم (فى الضفة الغربية المحتلة) فى مستوطنة كريات أربع الخليل، وفى مناطق الجليل الأعلى (مدينة صفد) . ويتركز عدد لا بأس به منهم فى مدينة عسقلان، أما الباقون فهم موزعون على الضواحى الاستيطانية حول مدينة القدس مثل راموت وبيت مئير وتلة زئيف.
وقد نشبت أزمة مؤخراً حين كشف النقاب عن إن بنك الدم الإسرائيلى قد أخذ يتخلص بالتدريج من مخزون الدم الذى يتبرع به يهود الفلاشاه خوفاً من أن تكون هذه الكميات ملوثة بفيروس مرض الإيدز، وأيد وزير الصحة الإجراءات التى يقوم بها البنك.
الفلاشاه مورا
Falasha Mura
«فلاشاه موراً» جماعة قبلية فى إثيوبيا يقال لها أيضاً «فلاس مواراً» . وكلمة «فلاشاه» كلمة أمهرية تطلق على يهود إثيوبيا، وتعنى «الغرباء» . أما «موا» ، فيبدو أنها تعنى «الأغيار» ، أى غير اليهود. ويطلق الاصطلاح على يهود الفلاشاه الذين تنصروا على يد المبشرين المسيحيين. وهم ينقسمون إلى قسمين:
- فلاشاه تنصروا منذ حوالى قرنين من الزمان.
- فلاشاه تنصروا منذ ثلاثين عاماً.(3/448)
ويمكن تقسيمهم أيضاً، على أساس معدلات الاندماج إلى قسمين:
- فلاشاه تنصروا واحتفظوا باستقلالهم كجماعة يهودية متنصرة.
- فلاشاه تنصروا واندمجوا فى مجتمع الأغلبية.
وتميل الصحافة الإسرائيلية الآن إلى الإشارة إلى الفلاشاه موراً باعتبارهم "يهود مارانو» ، أى اليهود المتخفين، وهو اصطلاح يطلق فى الأدبيات اليهودية على يهود إسبانيا الذين يقال إنهم أجبروا على ترك عقيدتهم وتبنى العقيدة الكاثوليكية، فتظاهروا بأنهم كاثوليك واستمروا فى ممارسة شعائر دينهم فى الخفاء، وقد استمر بعضهم فى ممارسة هذه الشعائر حتى الوقت الحاضر. ويبلغ عدد الفلاشاه موراً 175 ألفاً، منهم 15 ألفاً ممن تنصروا واحتفظوا باستقلالهم كجماعة فلاشيه متنصرة. وهناك 60 ألفاً تنصروا واندمجوا فى المجتمع المسيحى، وكل ما يربطهم باليهودية جذورهم الفلاشيه (الإثنية (.
ويبدو إن الفلاشاه أنفسهم يعتبرون الفلاشاه موراً (أياً كان نوعهم) غير يهود. ولذا، فإن أحدهم إذا أراد العودة إلى حظيرة الدين اليهودى، تطبق عليه الشعائر الخاصة بمن يريد التهود، فيحلق شعر رأسه وجسمه، وهى شعائر لا تطبق إلا على غير اليهود (ومهما يكن من أمر سخرية الصحافة الإسرائيلية من هذه الشعائر، فإنها على أية حال الشعائر نفسها التى كانت تطبق فى الماضى قبل ظهور اليهودية الحاخامية (.(3/449)
وقد بدأ الحديث عن تهجير الفلاشاه موراً إلى إسرائيل (مع حوالى ثلاثة آلاف يهودى من يهود الفلاشاه الذين لا يزالون موجودين فى إثيوبيا) . لكن المؤسسة الحاخامية اعترضت، بطبيعة الحال، على تهجير هؤلاء لأنهم ليسوا يهوداً، وذلك بعد أن كانت قد اعترضت فى بداية الأمر على تهجير الفلاشاه ذاتهم، بدعوى أن اليهودية التى يؤمنون بها غير تلمودية وغير حاخامية وتضم شعائر لا مثيل لها بين يهود العالم، بل وتنطوى على عناصر مسيحية ووثنية. ومن المعروف إن قانون العودة فى إسرائيل لا يسمح بهجرة من يعتنق ديناً آخر حتى ولو ولد يهودياً. ولذا، فحينما تجمع ثلاثة آلاف من الفلاشاه موراً ليهاجروا مع الفلاشاه، لم يسمح لهم بالهجرة ونصحوا بالعودة إلى ديارهم.
وتشير المؤسسة الحاخامية (وكل من يعارض هجرة الفلاشاه موراً) إلى إن هؤلاء لم يتنصروا قسراً، وأنهم تحولوا عن يهوديتهم لتحقيق المغانم الاقتصادية والحراك الاجتماعى وللاستفادة من المعونات المالية التى يقدمها المبشرون. كما يؤكد أصحاب هذا الرأى أن الفلاشاه موراً يودون الهجرة إلى إسرائيل للأسباب نفسها. ومن ثم، فإن دوافعهم ليست دينية ولا أيديولوجية، فهم إذن مرتزقة. ويحذر هؤلاء من إن عشرات الآلاف من الإثيوبيين، خصوصاً من الأمهريين الذين فقدوا نفوذهم بعد سقوط منجستو، قد ينتهزون الفرصة ويدعون أنهم فلاشاه موراً حتى يهاجروا إلى إسرائيل.(3/450)
ولكن يبدو إن المؤسسة الحاكمة فى إسرائيل لا تمانع فى هجرتهم، كما إن الولايات المتحدة بدأت تدعو إلى تهجيرهم. والدافع وراء هذا، على ما يبدو، هو تعطش المستوطن الصهيونى للمادة البشرية. كما يلاحظ إن الوظائف الدنيا فى الهرم الإنتاجى أصبحت شاغرة بعد أن حقق اليهود الشرقيون شيئاً من الحراك الاجتماعى. وبدأ العرب فى ملئها، الأمر الذى أدى تزايد اعتماد المستوطن الصهيونى على العمالة العربية، وهو أمر يهدد أمنه. ولعل المادة البشرية الوافدة، يهودية كانت أم غير يهودية، تسد هذه الثغرة. فالدولة الصهيونية بدأت عام 1948 دولة يهودية استيطانية إحلالية مبنية على طرد العرب أو إبادتهم لتحل يهوداً محلهم، ثم تحولت بعد عام 1967 إلى دولة يهودية استيطانية مبنية على التفرقة اللونية التى تمكن العنصر اليهودى من استغلال العنصر العرب. ويبدو إن الدولة الصهيونية بدأت تدخل مرحلة جديدة تبهت فيها يهوديتها لتصبح دولة استيطانية مبنية على التفرقة اللونية وتصر على استجلاب مادة بشرية غير عربية وليست بالضرورة يهودية (ويهوديتها هى إما مجرد ديباجات لفظية أو محض علاقة واهية اسمية) . وهى فى هذا لا تختلف كثيراً عن جنوب أفريقيا التى بدأت دولة استيطانية إحلالية بيضاء مسيحية، ثم أصبحت دولة استيطانية تمارس التفرقة اللونية لصالح البيض المسيحيين، وتحولت المسيحية إلى مجرد ديباجة دون إصرار على المادة البشرية المسيحية وقد تبدى هذا أيضاً فى هجرة اليهود السوفييت حيث وصل مئات الألوف من أشياء اليهود ممن تآكلت علاقتهم العقائدية والإثنية باليهودية، وبالتالى فهم ليسوا يهوداً بالعقيدة ولا بالإثنية وإنما بجذورهم البعيدة وحسب. وكما قال أحد الحاخامات، فإن كل ما يربط هؤلاء اليهود باليهودية هو جد يهودى مدفون فى موسكو. وقد وصل مع المهاجرين السوفييت أيضاً مئات الألوف من مدعى اليهودية، إلا إن المؤسسة الأشكنازية الحاكمة غضت نظرها عن ذلك رغم احتجاج(3/451)
المؤسسة الدينية. وكما قلنا، فقد غلبت المؤسسة الأشكنازية الاعتبارات العملية على الاعتبارات الأيديولوجية أو العقائدية الضيقة. ولعلها تفعل الشىء نفسه مع الفلاشاه موراً.
الباب الثالث: إشكالية الهوية اليهودية
من هو اليهودي؟
Who is a Jew?
«من هو اليهودي؟» سؤال يُثار من آونة إلى أخرى داخل الكيان الصهيوني. ويُعبِّر هذا السؤال عن فشل الإسرائيليين في تعريف «الشخصية اليهودية» أو «الهوية اليهودية» .
الشخصية أو الهوية اليهودية
Jewish Character or Identity
مصطلح «الشخصية اليهودية» في اللغة العربية مأخوذ من لفظ «شخص» ويعني مجموعة الصفات التي تميِّز هذا الشخص. أما في الأصل الأوربي، فإن المصطلح مأخوذ من اللفظ اللاتيني «بيرسونا Persona» ، وهو القناع الذي يرتديه الممثل ليُعبِّر عن السمة الأساسية للشخصية التي يؤديها. و «الشخصية» هي صيغة منظمة نسبياً لمجموعة من الخصائص الجسمية والوجدانية والنزوعية والإدراكية التي تميِّز الفرد عن غيره من الأعضاء. ويُفترَض أن الشخصية الفردية، في جوانب عديدة منها، هي نتيجة عملية تَفاعُل مركبة بين الإنسان الفرد من جهة، وبنيان مجتمعه وثقافته وتاريخه وبيئته الطبيعية والاجتماعية من جهة أخرى. ومن هنا، يتحدث بعض العلماء عن الشخصية القومية، وهي شخصية تَنتُج من عملية تَفاعُل تمتد ردحاً من الزمن بين جماعة من الجماعات البشرية من جهة وتشكيل اجتماعي وتاريخي وبيئة طبيعية من جهة أخرى. ومن خلال الامتداد الزمني تكتسب هذه الجماعة سمات معيَّنة وهوية محددة تصبح ثابتة أو شبه ثابتة يُفترَض أنها تُميِّزها عن غيرها من الجماعات البشرية الأخرى. ومصطلح «الشخصية اليهودية» مصطلح يفترض أن ثمة شخصية قومية يهودية ذات سمات مميَّزة وثابتة.(3/452)
أما كلمة «هوية» فهي اسم منقول من المصدر الصناعي «هوية» المأخوذ من كلمة «هو» ، وتعني: مجموعة الصفات الجوهرية والثابتة في الأشياء والأحياء. فكأن مصطلح «هوية يهودية» يعني أن ثمة جوهراً يهودياً ثابتاً يسم أعضاء الجماعات اليهودية أينما كانوا ويمنحهم شخصيتهم اليهودية المحددة، ويفرقهم عمن سواهم من البشر. وغني عن القول إن هذا المصطلح، مثل مصطلح «الشخصية اليهودية» ، يُعبِّر عن نموذج اختزالي لا يتفق كثيراً مع الحقيقة التاريخية المتعيِّنة ولذلك فمقدرته التفسيرية ضعيفة للغاية. ويشكل استخدام مصطلحات مثل «شخصية يهودية» و «هوية يهودية» تبنيٍّا غير واع للنماذج التفسيرية الاختزالية، الصهيونية والمعادية لليهود، التي تفترض وجود طبيعة يهودية ثابتة وعبقرية يهودية وجريمة يهودية ووجود سمات أساسية للشخصية اليهودية. فهي من منظور المعادين لليهود شخصية متآمرة عدوانية استغلالية ومنحلة، وهي كذلك شخصية تجارية بطبعها، أما الصهاينة، فينسبون إلى هذه الشخصية اليهودية المستقلة سمات إيجابية، فاليهودي يتسم بالإبداع والمقدرة على الانسلاخ من مجتمع الأغيار، وهو يدافع عن نفسه ضد العنف لكنه لا يرتكب العنف أبداً ضد الآخرين، وهكذا. ومن السمات الأخرى التي تُنسَب إلى الشخصية اليهودية حبها للنكتة، ومقدرتها النقدية أو حسها النقدي. ويؤسس الصهاينة نظريتهم في القومية اليهودية والشعب اليهودي انطلاقاً من تأكيد وجود هذه الشخصية اليهودية. كما أن الصهيونية العمالية تصف الشعب اليهودى بأنه شعب طفيلى من السماسرة.(3/453)
وإذا اختبرنا النموذج الكامن وراء مقولات مثل «الشخصية أو الهوية اليهودية الثابتة الواحدة» فإننا سنكتشف مدى قصوره، فأعضاء الجماعات اليهودية ليسوا تجاراً بطبعهم، إذ عمل العبرانيون بالزراعة في فلسطين، كما كان منهم الجنود المرتزقة في الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية، ومعظمهم الآن من المهنيين في الغرب. وهم ليسوا متآمرين بطبعهم، بل وسقط منهم ضحايا للتآمر، لكن هذا لا يمنع وجود متآمرين وتجار بينهم. وهم ليسوا منحلّين في كل زمان ومكان، إذ كانت هناك أزمنة وأمكنة استمسك فيها أعضاء الجماعات اليهودية بأهداب الفضيلة ولم تُعرَف بينهم ظواهر مثل ظاهرة الأطفال غير الشرعيين.
وهناك خلل يتمثل في الحديث عن اليهود بشكل مجرد، فمن يود أن ينسب العبقرية إلى الهوية أو الشخصية اليهودية سيجد قرائن على ذلك في مكان وزمان معيَّنين، ومن يود أن ينسب إليهم التآمرية سيجد أيضاً قرائن على ذلك في مكان وزمان آخرين، ثم يتم تعميم الجزء على الكل. وهذا ما يقوم به الصهاينة، عن وعي أو عن غير وعي، حينما يتحدثون عن الشخصية اليهودية أو عن الهوية اليهودية.(3/454)
ولكن الشخصية (أو الهوية) ، كما أسلفنا، هي بنية مركبة، نتاج تَفاعُل بين مجموعة من البشر ومُركَّب من الظروف التاريخية والبيئية الثابتة على مدى زمني معقول، وهو الأمر الذي لم يتوفر إلا للعبرانيين، ولم يتوفر للجماعات اليهودية التي انتشرت في بقاع الأرض المختلفة وعاشت تحت ظروف اجتماعية مختلفة. ولذا، نرى أنه يجب الابتعاد عن التعميم المتعسف والكف عن استخدام صيغة «الشخصية اليهودية» لنتحدث بدلاً من ذلك عن «الشخصيات اليهودية» و «الهويات اليهودية» . وصيغة الجمع لا تنكر الخصوصيات اليهودية، ولكنها لا تجمع بينها وكأن هناك صفة جوهرية أو عالمية كامنة في كل اليهود. ومن هنا، يمكننا أن نتحدث عن الشخصية (أو الهوية) اليمنية اليهودية في أواخر القرن التاسع عشر، أو الشخصية الخَزَرية اليهودية في القرن التاسع، أو الشخصية الإشكنازية في إسرائيل، أو الشخصية السفاردية من أصل سوري في أمريكا اللاتينية. ويمكن دراسة تَطوُّر هذه الشخصيات اليهودية المتنوعة والمختلفة بدراسة سماتها المُستمَدة من أزمنة وأمكنة مختلفة. وفي هذه الحالة، سنكتشف أن حب النكتة ليس خاصية لصيقة بالشخصية اليهودية. فالفقه اليهودي (حتى القرن التاسع عشر) يُحرِّم النكات، كما أن هجاء الحاخامات أمر لم يكن مسموحاً به. ونجد أن حب النكتة هذا ظاهرة مقصورة على يهود أوربا في القرن التاسع عشر ومرتبط بضعف مؤسساتهم الدينية والاجتماعية. ولم يكن الحس النقدي ولا المستوى العلمي الرفيع معروفاً بين أعضاء الجماعات اليهودية في أوربا حتى القرن الثامن عشر، إذ حرَّمت قيادتها الدينية قراءة كتب الفلاسفة اليهود ودواوين الشعر العبري الدنيوي، كما حرَّمت دراسة اللغات الأجنبية ودراسة الرياضيات والجغرافيا والتاريخ ولم تستثن من ذلك تواريخ الجماعات اليهودية. وكان الجهل بالجغرافيا عميقاً إلى درجة أن الحاخامات كانوا عاجزين عن تحديد اتجاه القدس. ولكن، مع دَمْج اليهود في الحضارة(3/455)
الغربية وتَزايُد معدلات العلمنة بينهم، وانفكاك قبضة المؤسسة الحاخامية التقليدية، تَملَّك أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب في العصر الحديث ناصية العلوم الحديثة، فظهر العلماء وظهر الحس النقدي، وظهر الإحساس بالنكتة.
ومما تَجدُر ملاحظته أن كثيراً من الأدبيات الصهيونية والغربية، حينما تتحدث عن الشخصية اليهودية أو الهوية اليهودية، تشير عادةً إلى تجربة تاريخية محددة هي تجربة يهود اليديشية، أي الجماعة اليهودية في شرق أوربا والتي كانت تشكل جماعات وظيفية يتحدث أعضاؤها اليديشية، ويعيشون في الظروف الاقتصادية والاجتماعية نفسها، وفي المحيط الحضاري السلافي (المسيحي) نفسه، وهو ما أفرز شخصية يهودية شرق أوربية يمكن أن تُسمَّى «الشخصية اليديشية» تتحدد ملامحها لا من خلال تشكيل تاريخي يهودي عالمي وإنما من خلال التشكيل الحضاري الشرق أوربي. وقد أكد آرثر روبين في كتابه اليهود في الوقت الحاضر أن كلمة «يهودي» تعني بالنسبة إليه «إشكنازي» ولا تضم اليهود السفارد أو الشرقيين. ورغم أن يهود اليديشية كانوا يشكلون الغالبية الساحقة من الجماعات اليهودية في العالم في نهاية القرن التاسع عشر (حوالي 80%) ، إلا أن هذا لا يجعل منهم شخصية يهودية عالمية، إذ أن هذه الشخصية اليديشية (القومية) هي ثمرة تَفاعُل الجماعة اليهودية مع المجتمع الشرق أوربي في بولندا وروسيا داخل تركيبة اجتماعية وثقافية مُحدَّدة. وينبع مشروع حزب البوند السياسي من الإيمان بوجود شخصية يهودية قومية شرق أوربية، لا شخصية يهودية عالمية، ولذا كان الحل المطروح هو تطوير هذه الشخصية اليديشية دون الانزلاق إلى أبعاد تعميمية تجريدية. وقد تبنت روسيا السوفيتية هذا الحل في نهاية الأمر بعد أن رفضه لينين في بدايته، كما تتجلى ملامحه في تجربة ببروبيجان.(3/456)
وقد اختفت الشخصية اليديشية مع التحولات الاجتماعية الضخمة التي حدثت في مجتمعات شرق أوربا، ولم يُكتَب لها الاستمرار. ويبدو أن المكوِّن الأساسي لهذه الشخصية مرتبط تمام الارتباط بالوظيفة الاجتماعية للجماعات اليهودية كجماعات وظيفية تنمي شخصيتها المستقلة ليضمن المجتمع عزلتها ومن ثم مقدرتها على أداء وظيفتها. وقد تحوَّل يهود اليديشية من جماعات شبه قومية متماسكة إلى جماعات مختلفة: يهود روسيا ويتحدثون الروسية، ويهود بولندا ويتحدثون البولندية، ويهود أوكرانيا ويتحدثون الأوكرانية، أما يهود اليديشية الذين استقروا في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة فقد اندمجوا في مجتمعاتهم وتحدثوا لغاتها.
ومن المفارقات المهمة أن الصهاينة الذين يمجدون الشخصية اليهودية يقومون في الوقت نفسه بالهجوم عليها ورفضها، فهم يرون أن هذه الشخصية مريضة وهامشية. وعند هذه النقطة أيضاً، يلتقي الصهاينة مع المعادين لليهود، بل إن الصهاينة استمدوا نقدهم للشخصية اليهودية من أدبيات معاداة اليهود. ويطرح الصهاينة فكرة الشخصية اليهودية الحقيقية بوصفها شخصية يهودية خالصة عبَّرت عن نفسها من خلال الكيان اليهودي القومي سواء في الكومنولث الأول أو الثاني، وهي تُعبِّر عن نفسها من خلال الكومنولث الثالث، أي الدولة الصهيونية. لكن دارس هذه الدولة يعرف أن علم الاجتماع الإسرائيلي قد تَقبَّل، كحقيقة شبه نهائية، انقسام أعضاء التَجمُّع الصهيوني إلى جماعات يهودية لكلٍّ شخصيتها المستقلة التي تكونت عبر مئات السنين في المنفى، أي في أنحاء العالم.(3/457)
ورغم استخدامنا مصطلح «شخصية» في هذا المدخل، إلا أننا سنناقش الإشكالية مستخدمين كلمة «هوية» بسب شيوعها في الأدبيات التي تناقش الموضوع، إذ أن كلمة «شخصية» عادةً ما تعني «شخصية قومية» ، بينما تُستخدَم كلمة «هوية» دائماً في عبارات مثل «هوية إثنية» . ولا شك في أن الصهاينة يفضلون كلمة «هوية» لإمكان استخدامها في الإشارة إلى يهود إسرائيل وإلى أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، فهي كلمة لن تسبب حرجاً ليهود الولايات المتحدة التي تقبل الهويات الإثنية طالما أنها لا تتعارض مع الانتماء القومي. أما كلمة «شخصية» ، فهي باستدعائها فكرة الشخصية القومية، ستسبب الكثير من الحرج والفرقة.
الهويات اليهودية بوصفها تركيباً جيولوجياً تراكمياً
Jewish Identities as a Cumulative Geological Construct
موضوع الهوية/الهويات اليهودية في غاية التركيب لأسباب عديدة يمكن أن نورد بعضها فيما يلي:
1 ـ تم تعريف الهويات اليهودية على أساس ديني، وعلى أساس قومي ديني، وعلى أساس قومي وحسب. وقد دارت معارك بين أعضاء الجماعات اليهودية (خصوصاً منذ نهاية القرن التاسع عشر) حول رؤيتهم لهويتهم وتعريفهم لهذه الهوية.
2 ـ لا تتفق رؤية الإنسان لهويته، بصورة حتمية ومباشرة، مع ممارساته العملية وبنية واقعه وأفعاله. فالرؤية قد تكون تعبيراً عن مثل أعلى أو عن مجموعة من الرغبات، أما الواقع فإنه يتطور بطريقة لا تتفق بالضرورة مع رغبات الإنسان. ومن ناحية أخرى، فإن رؤى أعضاء الجماعات اليهودية للهوية اليهودية لم تكن تتفق بالضرورة مع تطوُّر واقعهم التاريخي، بل وكانت تتناقض أحياناً الواحدة مع الأخرى.
3 ـ ولكن هذا لا يعني أن رؤية الإنسان لهويته لا تتدخل البتة في تحديد سلوكه، إذ تظل الرؤية، برغم عدم اتفاقها مع الواقع، عنصراً مهماً ومؤثراً في هذا السلوك، دون أن تكون بالضرورة العنصر المحدد الوحيد له.(3/458)
4 ـ تحددت الهويات اليهودية المختلفة في غياب سلطة يهودية مركزية، دينية أو دنيوية، عبر الاحتكاك مع عشرات التشكيلات الحضارية ومن خلالها، الأمر الذي نجم عنه تنوُّع هائل في الهويات اليهودية. وتتسم هذه الهويات باستقلال نسبيّ عن سياقها الحضاري، شأنها شأن هويات الجماعات الإثنية والدينية، ولكنها في الوقت نفسه لا تنتمي إلى هوية يهودية واحدة عالمية. ومع هذا، فقد استمر الجميع (اليهود وغير اليهود) في الحديث عن اليهود كما لو كانوا كلاًّ واحداً.
لكل هذا، ظهر ما نسميه «التركيب الجيولوجي التراكمي» للهويات اليهودية. وفي حديثنا عن النسق الديني اليهودي، نشير إلى أنه ليس كلاًّ واحداً يتسم بقدر من الاتساق، وإنما هو عبارة عن تركيب جيولوجي تراكمي مُكوَّن من طبقات تراكمت الواحدة فوق الأخرى، ولم تُلغ كل طبقة جديدة ما قبلها. وقد تكون هذه الطبقات متشابهة أو متناقضة، ولكنها مع هذا تعيش متجاورةً ومتزامنة وغير متفاعلة، وسُمِّيت كل هذه الطبقات «النسق الديني اليهودي» .
ويمكننا أن نقول إن الهويات اليهودية أيضاً تركيب جيولوجي تراكمي ولكنه لم يكن ملحوظاً بسبب انفصال أعضاء الجماعات اليهودية ووجودهم في أماكن متفرقة من العالم. فيهود اليديشية نتاج مجتمعاتهم، وكذا يهود اليمن ويهود فرنسا، وهكذا. ومع ذلك، كان يُشار إليهم جميعاً باسم «الشعب اليهودي» ، مع افتراض وجود وحدة ما دون أن يختبر أحد مدى صدق هذه المقولة. ولكنها حين وُضعت موضع الاختبار، بعد تأسيس الدولة الصهيونية، ظهرت الخاصية الجيولوجية التراكمية، وتفجرت قضية من هو اليهودي تعبيراً عن اكتشاف أن ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» ليست كلاًّ يتسم بقدر من التجانس وإنما هي في واقع الأمر تركيب جيولوجي تراكمي. وقد أظهرت مجتمعات كلٍّ من أمريكا اللاتينية وجبال القوقاز هذه الخاصية الجيولوجية التراكمية في الهويات اليهودية بشكل واضح.(3/459)
ومن ثم، فلابد من نموذج تفسيري أقل عمومية، يمكنه أن يصف المتغيرات التاريخية والثقافية والدينية التي دخلت على هذه الهوية وحولتها إلى هويات مختلفة. ولذلك، فإننا سوف نتحدث بصيغة الجمع فنشير إلى «الهويات اليهودية» (كما نتحدث عن «أعضاء الجماعات اليهودية» ) فهو مصطلح يعبر عن نموذج أكثر تركيبية ومن ثم أكثر تفسيرية لواقع أعضاء الجماعات اليهودية، يؤكد استقلالهم النسبي عن محيطهم دون أن ينسبهم إلى تاريخ يهودي عالمي أو جوهر ثابت، بل ينسبهم إلى مجتمعاتهم وحسب. ومن هنا محاولتنا فَهْم هذه الهويات لا من خلال العودة إلى ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» ، أو العودة إلى كُتب اليهود المقدَّسة أو شبه المقدَّسة، أو إلى بروتوكولات حكماء صهيون، وإنما بالعودة إلى التشكيلات الحضارية والتاريخية المختلفة التي ينتمي إليها أعضاء الجماعات اليهودية والتي تفاعلوا معها وأثروا فيها وتأثروا بها، وإن كانت درجة تأثرهم تفوق كثيراً درجة تأثيرهم كما هو الحال عادةً مع أعضاء الأقليات. فهناك هوية بابلية يهودية، وأخرى فارسية يهودية، وثالثة أمريكية يهودية، ورابعة عربية يهودية.
ولكن نموذجنا التفسيري لا يُهمل البُعد اليهودي في بناء هذه الهويات، فالدين اليهودي (بخاصيته الجيولوجية التراكمية) عنصر أساسي فيها، كما أن الرؤية الدينية بُعد حيوي ومهم. وكل ما نفعله أننا لا نجرده وإنما نراه في تفاعله مع الأبعاد الحضارية الأخرى. كما أننا لا نرى أن له مركزية تفسيرية. ولذا، فنحن لا نتحدث عن «هوية يهودية» عامة مُطلَقة، ولا نتحدث عن غياب أية هوية يهودية، وإنما نتحدث عن هويات يهودية مُتعيِّنة متنوعة.(3/460)
والفكر الصهيوني يَصدُر عن نموذج اختزالي يُنكر واقع الجماعات اليهودية الحضاري الفسيفسائي الجيولوجي التراكمي، ويطرح فكرة الهوية اليهودية العالمية الواحدة، وتتم عملية تسمية الواقع وتصنيفه من هذا المنظور. ومن ثم، فإن هناك مصطلحات مثل «يهود الدياسبورا» و «يهود المنفى» و «الشعب اليهودي» ، وهي جميعاً مصطلحات تفترض وحدة اليهود وتَجانُسهم. ولكن حين يصل أصحاب هذه الهويات إلى إسرائيل، يتضح للجميع أنهم ليسوا مجرد يهود، إذ يصبحون مرة أخرى مصريين ومغاربة وروس! وتتحدد مكانتهم الاجتماعية بحسب ذلك. ولذا، ينكر كثير من المغاربة هويتهم العربية، ويصرون على أنهم فرنسيون وليسوا يهوداً وحسب! وكذلك فإن يهود العالم العربي، الذين تم تهجيرهم باعتبارهم يهوداً بشكل عام، يصبحون مرة أخرى يهوداً شرقيين يقبعون في آخر درجات السلم الاجتماعي الإسرائيلي، كما يصبح يهود روسيا إشكنازاً أو غربيين، ويُعطَون المنح والقروض وأفخر المنازل، ثم يشغلون قمة السلم الاجتماعي. ومن هنا تظهر الهويات اليهودية المختلفة، وهو ما يؤدي إلى طرح قضية «الهوية اليهودية» على بساط البحث.
تاريخ الهويات اليهودية حتى الوقت الحاضر
History of Jewish Identities till the Present(3/461)
تاريخ الهويات اليهودية طويل ومُركَّب ويغطي عدة أزمنة وأمكنة لا يربطها رابط في كثير من الأحيان. وأولى الهويات اليهودية هو ما نسميه «الهوية العبرانية» أي هوية العبرانيين قبل أن يتم تهجيرهم إلى آشور وبابل. وكانت الهوية العبرانية تستند إلى تعريف ديني قومي، كما كان الحال في الشرق الأدنى القديم. ونحن نستخدم مصطلح «قومي» لعدم وجود مصطلح أدق، ونظن أن مصطلح «أقوامي» (نسبة إلى كلمة «أقوام» ) قد يكون أكثر دقة (مع قُبحه) لأنه مُستمَد من الواقع التاريخي القديم إذ تشير الدراسات التاريخية إلى «الأقوام الكنعانية» التي سكنت فلسطين (التي كان يُقال لها آنذاك كنعان) وإلى «الأقوام الآرامية» ، وهي مجموعات بشرية متماسكة على نحو فضفاض، تتصف ببعض السمات القومية، مثل اللغة المشتركة والثقافة المشتركة والدين المشترك، ولكنها ليست شعوباً ولا قوميات بالمعنى الحديث للكلمة. ولم يكن التعريف الديني القومي للهوية العبرانية منغلقاً تماماً، فثمة إشارات عديدة في الكتابات العبرية التي تعود إلى هذه الفترة أو تتحدث عنها إلى الأجنبي أو الغريب (جير) الذي بوسعه أن ينتمي إلى الجماعة العبرانية عن طريق التهود. وجاء في سفر التثنية «لا تظلم أجيراً مسكيناً وفقيراً من إخوتك أو من الغرباء الذين في أرضك في أبوابك، في يومه تعطيه أجرته ولا تغرب عليها الشمس لأنه فقير وإليها حاملٌ نفسه لئلا يصرخ عليك إلى الرب فتكون عليك خطيَّة» (تثنية 24/14 ـ 15) . وعند الحديث عن هجرة العبرانيين من مصر، أو ربما طردهم، ترد إشارة إلى أن بعض العبرانيين قد تَخلَّفوا فيها، كما خرج معهم «اللفيف» (خروج 12/38) ، وهي إشارة إلى جماعات ليست متجانسة عرْقياً ولا تنتمي إلى العبرانيين، ولكنهم على أية حال أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الجماعة العبرانية. وبعد التغلغل العبراني في أرض كنعان، امتزج العبرانيون بالكنعانيين وتزاوجوا معهم. ولكن الحظر التوراتي على الزواج من(3/462)
الأجانب، وعلى ذرية مثل هذا الزواج، لا ينطبق على الأدوميين أو المصريين، وإنما ينطبق على العمونيين والمؤابيين وحسب. «لا يدخل عموني ولا مؤابي في جماعة الرب حتى الجيل العاشر، لايدخل منهم أحد في جماعة الرب إلى الأبد ... لا تكره أدومياً لأنه أخوك، لا تكره مصرياً لأنك كنت نزيلاً في أرضه. الأولاد الذين يُولَدون لهم في الجيل الثالث يدخلون منهم في جماعة الرب» (تثنية 23/3، 7 ـ 8) . فالحظر هنا ليس مُطلقاً ولا ضَيِّقاً. ومع هذا، فإن ثمة إشارات إلى أن الغريب ليس مقبولاً قبولاً كاملاً بأية حال (تثنية 14/21) . وبذا، يمكننا أن نقول إن رؤية العبرانيين لهويتهم وتعريفهم لها كان مرناً منفتحاً إلى حدٍّ ما.(3/463)
أما على مستوى الممارسة، فقد كانت الهوية العبرانية منفتحة تماماً. فعند التهجير إلى بابل، كان العبرانيون يشكلون جماعة شبه قَبَلية تتحدث العبرية، كما كان لهم نسقهم الديني المقصور عليهم. ومع هذا، كانت هذه الجماعة مندمجة إلى حدٍّ كبير في المحيط الثقافي والسياسي الذي تواجدت فيه، متأثرة به أكثر من تأثيرها فيه. فالعبرانيون الذين تسللوا إلى كنعان كانوا قد أحضروا معهم من مصر (وأرض مدين) فكرة الإله الواحد. ولكن اليهودية (كنسق ديني متماسك) لم تكن، مع هذا، قد اكتمل تكوينها بعد واستوعبت عناصر كثيرة من عبادات الخصب الكنعانية، كما أن «يهوه» ذاته لم يكن قد اصطبغ بعد بصبغة كنعانية. وتَبنَّى العبرانيون كثيراً من أعياد الكنعانيين وعباداتهم، واكتسبوا الثقافة الكنعانية، وتحدثوا بإحدى اللهجات أو اللغات الكنعانية والتي أصبحت تُدعَى «العبرية» . وحينما تم تأسيس المملكة المتحدة في عهد داود وسليمان، لم يتوقف دخول العناصر الأجنبية. ولقد كانت سيرة داود هي سيرة تحالفه مع الفلستيين، ثم تَنكُّره لهم، ثم تَحالُفه مع دويلات أخرى مجاورة، وهكذا. وحينما فتح داود القدس التي كانت لا تزال في يد اليبوسيين (وهم بطن من بطون كنعان) ، تم استيعابهم في الجماعة العبرانية حسبما يُقال.(3/464)
وبعد موت سليمان، انحلت المملكة المتحدة إلى دويلتين عبرانيتين: المملكة الشمالية، والمملكة الجنوبية. وكان لكلٍّ مركز ديني مستقل عن الأخرى. ومسألة المركز الديني في العبادات القربانية القديمة، التي تدور حول المعبد، مسألة شديدة الأهمية، فالمعبد هو مصدر الشرعية السياسية ومصدر الدخل الأساسي للدولة، وهو في نهاية الأمر مصدر الهوية القومية وأساسها. وقد كان ملوك الدويلتين العبرانيتين يتزوجون، كنوع من التحالفات السياسية، من أميرات أجنبيات كن يحضرن آلهتهن معهن ويقمن المعابد لهم وينشرن العبادات الخاصة بهم بين الأثرياء وفي البلاط، الأمر الذي كان يزيد التعددية الدينية وعدم التجانس القومي. والزواج من أجنبيات هو عادة ترجع إلى سليمان الذي لم تكن أمه عبرانية. وثمة رأي يذهب إلى أن العبرانيين كانوا يتحدثون في تلك المرحلة بلهجات مختلفة، ولم تكن هناك بالتالي هوية لغوية موحَّدة. وكانت الدويلتان اليهوديتان في حالة حرب وصراع دائمين، كما كانتا تستعينان بالدول والدويلات الأجنبية في صراعهما (الواحدة ضد الأخرى) . فقد قامت آشور بالهجوم على الدويلة الشمالية، وفعلت ذلك بناء على طلب من دويلة يهودا الجنوبية التي طالبت بحمايتها من الضغوط التي كان يمارسها عليها الحلف المعادي لآشور، والذي تَشكَّل بين الدويلات الآرامية والمملكة الشمالية.
وفي هذا الإطار، يكون الحديث عن هوية عبرانية متسماً بالتجاوز، ولكنه مع هذا يَصلُح إطاراً أو تعريفاً إجرائياً ضرورياً لتقسيم تَطوُّر ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» عبر المراحل التاريخية.(3/465)
ونستخدم أحياناً مصطلح «الهوية العبرانية اليهودية» للإشارة إلى الهوية اليهودية بعد العودة من بابل بتصريح من قورش الأخميني إمبراطور فارس. وقد بدأت ملامح الدين اليهودي في التحدد في تلك المرحلة، وظهر نسق ديني يهودي أخذ شكل عبادة قربانية مرتبطة بالهيكل الذي أعيد بناؤه بأمر من قورش، وبأرض فلسطين، وبالتراث العبراني. ومن هنا تسميتنا الهوية اليهودية في هذه المرحلة بأنها «هوية عبرانية يهودية» ، فهي عبرانية في جانبها الإثني المحدد ويهودية في جانبها الديني الآخذ في التحدد. وقد ظهر مصطلح «يهودي» بعد التهجير إلى بابل. ومع هذا، يمكن القول بأن هذا المصطلح فيه شيء من التجاوز أيضاً، إذ أن معظم العبرانيين كانوا قد فقدوا لغتهم إبّان الإقامة في بابل، وبدأت أغلبيتهم تتحدث الآرامية. ولذا، فإن كلمة «عبرانية» تشير هنا إلى الانتماء الإثني العام وليس اللغوي. كما أن النسق الديني اليهودي لم يكن قد تَحدَّد تماماً إذ كانت تدخل عليه مؤثرات بابلية وفارسية قوية، ثم هيلينية فيما بعد. وكما هو واضح، تُعَدُّ هذه المرحلة مرحلة انتقالية من منظور الهوية. ولذلك، فإننا نستخدم مصطلح «هوية يهودية» على سبيل التبسيط.(3/466)
ولم يكن تعريف الهوية العبرانية اليهودية في فلسطين يتسم بكثير من المرونة، إذ أن أعضاء الجماعة العبرانية العائدة من بابل كانوا يشعرون بأنهم أقلية تتهددهم الأقوام التي سكنت فلسطين، خصوصاً أن العبرانيين الذين لم يهاجروا تزاوجوا مع نساء تلك الأقوام ورجالهم. ولذلك، طالب عزرا كل من يود أن ينتمي إلى الجماعة اليهودية العبرانية بأن يطلق زوجته الأجنبية. «إنكم قد خنتم واتخذتم نساء غريبة لتزيدوا على إثم إسرائيل، فاعترفوا الآن للرب إله آبائكم، واعملوا مرضاته، وانفصلوا عن شعوب الأرض وعن النساء الغريبة» (عزرا 10/10ـ 11) . وعند هذه النقطة، ظهرت جماعة السامريين التي شكلت جماعة دينية مستقلة ذات هوية دينية قومية مستقلة، ورفض أعضاؤها الخضوع لأوامر عزرا (لكن التفسير السامري للانفصال عن الجماعة اليهودية يخالف ذلك تماماً، إذ يرى السامريون أنهم أتباع موسى الحقيقيون الذين لم يُفسدوا أسفار موسى الخمسة بتعاليم الحاخامات وتفسيراتهم، أي التلمود) . وقد ظل تعريف عزرا (الديني الإثني) الصارم للهوية سائداً حتى العصر الهيليني.(3/467)
لكن أهم التطورات، في هذه المرحلة، كان انتشار الجماعات اليهودية خارج فلسطين. فهذه الجماعات كانت تشكل في معظم الأحيان جماعة وظيفية. وحتى يَتسنَّى لأعضاء هذه الجماعة الاضطلاع بالوظيفة الموكلة إليها بكفاءة وعلى أحسن وجه، كان لابد لها أن تحتفظ بعزلتها الإثنية والدينية عن مجتمع الأغلبية. وتُعبِّر هذه العزلة عن نفسها في صورة التمسك الشديد بالهوية والاحتفاظ بقدر من الاستقلال عن المحيط الحضاري الذي يعيش فيه أعضاء الجماعات اليهودية، في الرؤية والمأكل والملبس واللغة والعقيدة (مجتمعة أو منفردة) . ولكن يجب أن نشير إلى أن هوية الجماعة الوظيفية تكون عادةً حالة عقلية أكثر من كونها أمراً واقعاً، فأعضاء الجماعة الوظيفية يستبطنون الدور المفروض عليهم ويتوحدون به، ويجدون أن العزلة أمر طبيعي بل ومرغوب فيه، وأن تَحقُّق الذات والهوية لا يمكن أن يتم بدونه. ويُلاحَظ أن أعضاء الجماعة الوظيفية لا يعيدون صياغة هويتهم من خلال عناصر مُستمَدة من التراث اليهودي أو العقيدة اليهودية وحسب، وإنما من عناصر مُستمَدة (وربما بالدرجة الأولى) من المجتمع المضيف الذي يعيشون في كنفه أو من مجتمع مضيف سابق، أو من خلالهما مجتمعين. ولكن الحالة العقلية الانعزالية تخبئ أحياناً معدلات عالية من الاندماج في المجتمع، فهم يحتفظون بقدر من الاستقلال عن محيطهم الحضاري، ولكنهم يكتسبون سماتهم ورؤيتهم لأنفسهم ولغيرهم من محيطهم الحضاري (شأنهم في هذا شأن أعضاء الجنس البشري كافة) وذلك رغم استقلالهم عن هذا المحيط. فهويتهم (الوظيفية) اليهودية لا تتحدد من خارج التشكيل الحضاري الذي ينتمون إليه أو رغماً عنه، وإنما من خلاله ومن داخله وبسبب تفاعلهم معه. وفي الحقيقة، فإن تَفرُّد الهوية اليهودية في أي مجتمع لا تعود إلى تَفرُّد العناصر التي تُكوِّن الهوية وإنما تعود إلى وجودها مجتمعة. كما أن حركيات المجتمع الذي يعيشون فيه يمكن أن تُفسِّر هذا(3/468)
الاختلاف. وهذه التركيبة المزدوجة (قدر من العزلة الفعلية والعقلية مع قدر من الاندماج الفعلي) هي التركيبة المثلى للجماعة الوظيفية. فثمة ضرورة لقدر من الاندماج لأنهم يتعاملون يومياً مع أعضاء المجتمع ويتحركون داخله وبحسب قواعده، ولكن ثمة ضرورة أيضاً لقدر من العزلة لضمان الحياد واستمرار العلاقة التعاقدية بين أعضاء الجماعة الوظيفية وأعضاء المجتمع المضيف، أي أن التركيبة المزدوجة تضمن أن يظل أعضاء الجماعة الوظيفية في المجتمع دون أن يكونوا منه.
وأولى الجماعات الوظيفية اليهودية التي ظهرت خارج فلسطين هي الحامية العبرانية في جزيرة إلفنتاين، التي وَطَّنها فراعنة مصر هناك (في أسوان) كجماعة وظيفية استيطانية قتالية لحماية حدود مصر الجنوبية. وقد فَقَد هؤلاء علاقتهم بفلسطين ونسوا شعائر دينهم أو ربما احتفظوا ببعض العناصر الوثنية من العبادة اليسرائيلية واختلطوا بالمحيط المصري. فعندما أراد الفرس استخدامهم كجماعة وظيفية قتالية تابعة لهم ضد المجتمع المصري، أرسل الإمبراطور الفارسي رسالة يشرح لهم فيها طقوس عيد الفصح ليؤكد هويتهم اليهودية ويضمن عزلتهم عن محيطهم المصري، ومن ثم ولاءهم. ومع هذا، يرى بعض المؤرخين أن هوية هؤلاء اليهودية أو حتى العبرانية أمر مشكوك فيه، فقد كانوا يتحدثون الآرامية، كما كانت عبادتهم مشوبة بعناصر وثنية عديدة. ويمكن القول أيضاً بأن الجماعة العبرانية في مصر، قبل خروجها منها، كانت جماعة وظيفية، فقد عمل يوسف مديراً لمخازن فرعون، كما كان يضطلع بالأعمال المالية.(3/469)
أما أهم هذه الجماعات طراً فهي الجماعة اليهودية في بابل والتي رفضت العودة إلى فلسطين (فيما عدا قلة صغيرة) . وقد بدأ أعضاء هذه الجماعة في الاشتغال بالتجارة والربا والانصراف عن الزراعة والتركز في المدن، أي أنهم تحولوا بالتدريج إلى جماعة وظيفية وسيطة تجارية ومالية ونسوا العبرية. وقد كان لهذا التجمع اليهودي علماؤه ومدارسه الدينية وتَوجُّهه الثقافي الذي أخذ يزداد قوة واستقلالاً، حتى أصبح في مرحلة من المراحل مركز اليهودية الأساسي في العالم. ويتضح تَفتُّت الهوية اليهودية في ظهور المفهوم الديني القائل بأن شريعة الدولة هي الشريعة التي يجب أن يتبعها اليهودي في حياته العامة، أي أن نطاق الشريعة اليهودية تم تقليصه بحيث أصبح مقصوراً على حياة اليهود الدينية الخاصة وتعاملاتهم فيما بينهم، ولا يضم حياة اليهود العامة أو القومية. وأصبحت اليهودية (على مستوى الممارسة) ديناً، وتَحوَّل الجانب القومي فيها إلى مجرد رموز وتَطلُّعات دينية وانتماء إثني يضمن للجماعة الوظيفية الوسيطة اليهودية العزلة اللازمة لها. وهذا هو المبدأ الذي لا يزال سائداً بين أعضاء الجماعات اليهودية رغم كل الادعاءات.(3/470)
ومما زاد من استقلال يهود بابل عن بقية الجماعات اليهودية في فلسطين أو خارجها، أن اليهود، حتى عام 333 ق. م، كانوا يعيشون داخل إطار إمبراطورية واحدة يدورون في فلكها ويستمدون هويتهم منها، وهي الإمبراطورية الفارسية. أما بعد ذلك، فقد كان الجيب البابلي يدور في فلك فارسي (أخميني ثم فرثي ثم ساساني) ، بينما كان يهود فلسطين والبحر الأبيض المتوسط يدورون في فلك هيليني ثم روماني. وقد واكب ظهور الجماعات اليهودية خارج فلسطين تَفتُّت الهوية العبرانية اليهودية في فلسطين. فقد شهد العصر الهيليني، خصوصاً في القرن الأول قبل الميلاد والقرن الأول الميلادي، تخلخلاً في الهوية العبرانية اليهودية في فلسطين (في الرؤية والممارسة) من المنظورين الديني والقومي لأسباب عديدة:
1 ـ أدَّى تسامُح الحضارة الهيلينية، وجاذبيتها الشديدة، واستعدادها للاعتراف بأي يهودي على أنه هيليني، متى أجاد اللغة اليونانية ومارس أسلوب الحياة اليونانية، إلى انجذاب العبرانيين اليهود (في بلدان البحر الأبيض المتوسط ومن بينها فلسطين) بأعداد متزايدة إلى تلك الحضارة، وإلى تَبنِّيهم طرق تفكيرها وزيها واحتفالاتها، وفي نهاية الأمر لغتها. وسُمح للعبرانيين اليهود الذين طرحوا هويتهم جانباً (مثل تايبريوس الإسكندر، ابن أخي فيلون الفيلسوف السكندري، وكثيرين غيره) بأن يصبحوا مواطنين يونانيين تماماً. أما بقية أعضاء الجماعة اليهودية الذين احتفظوا بعقيدتهم، فلم يكتسبوا المواطنة اليونانية لعدم استطاعتهم المشاركة الكاملة في نشاطات المدينة (البوليس polis) ، إذ كانت الحياة في المدينة تدور حول العبادة اليونانية الوثنية. وكانت القيادة اليهودية في فلسطين ذاتها مصطبغة بالصبغة الإغريقية، الأمر الذي أدَّى إلى نشوب الثورة الحشمونية ضد السلوقيين. ولكن القيادة الحشمونية ما لبثت، هي ذاتها، أن تأغرقت بعد استيلائها على الحكم واصطنعت أسماء إغريقية مثل أنتيجون والإسكندر.(3/471)
2ــ لم تكن الهوية العبرانية اليهودية، داخل فلسطين ذاتها، محددة بشكل صارم، حيث كانت تعيش في فلسطين أعداد كبيرة من أقليات غير يهودية (يونانيون وفينيقيون وبقايا الفلستيين وبقايا الأقوام السامية) . ويتضح عدم التحدد في فرض الملوك الحشمونيين اليهودية بالقوة إذ فُرضت بالقوة على الأدوميين (في شرق الأردن) وعلى الإيطوريين (في الجليل) . وكان هيرود (ملك اليهود) من أصل أدومي، وكان هؤلاء المتهوّدون يشكلون هوية جديدة أيضاً.
3 ـ كانت اليهودية، كنسق ديني، تخوض تحولات عميقة في تلك المرحلة، نتيجة احتكاكها بالفكر الهيليني وانتشار اليهود في حوض البحر الأبيض المتوسط. وظهرت فرق يهودية كثيرة من بينها الصدوقيون (من طائفة الكهنة) الذين كانوا لا يؤمنون باليوم الآخر، والأسينيون (من أبناء الشعب) الذين كانوا يحيون حياة تَقشُّف ورهبنة. بالإضافة إلى الفريسيين (من أبناء الطبقة الوسطى أساساً) الذين كانوا يؤمنون باليوم الآخر وإليهم يرجع الفضل في إعادة صياغة اليهودية، وهو ما جعلهم أهم هذه الفرق. كما كان هناك أبناء الطبقات الثرية المتأغرقون، فضلاً عن الفرق الشعبية المتطرفة مثل الغيورين (قنائيم) ، وعصبة الخناجر (سيكاري) ، وكُتَّاب «كتب الرؤى» (أبوكاليبس) ، وكُتّاب «الكتب الخفية» (أبوكريفا) . وكان لكل فريق رؤيته وعقيدته. ومن ثم، كانت كلمة «يهودي» في تلك المرحلة التاريخية، تضم تعريفات كثيرة متضاربة الأمر الذي زاد من خلخلة الهوية على مستوى الرؤية والممارسة.(3/472)
4 ـ وفي هذا الإطار، طرح الفريسيون رؤية جديدة للهوية تُحرِّرها من المفهوم القديم المرتبط بالمجتمع القَبَلي العبراني أو المجتمع الزراعي الملكي، أو المجتمع الكهنوتي المرتبط بالهيكل والعبادة القربانية. فأعيد تعريف الهوية بحيث أصبحت أساساً هوية دينية روحية ذات بُعد إثني مُتقلِّص، ليس بالضرورة قومياً متضخماً، وهي علاوة على هذا غير مرتبطة بالهيكل. وواكب هذا التعريف الجديد استعداد للتصالح مع الدولة الحاكمة أو القوة العظمى في المنطقة، وعدم الاكتراث بنوعيتها مادامت لا تتدخل في حياة اليهود الدينية. وقام الفريسيون بنشاط تبشيري خارج فلسطين، الأمر الذي يفسر زيادة عدد اليهود في الإمبراطورية الرومانية في تلك المرحلة.
5 ـ كما شهدت تلك المرحلة الصدام بين الإمبراطورية الرومانية والقيادات الشعبية العبرانية اليهودية في فلسطين، التي أجهدها دفع الضرائب للإمبراطورية، فاندلعت الثورة في صفوفها. وعارض الصدوقيون والفريسيون التمرد ضد الرومان، ولم يكترث أعضاء الجماعة اليهودية في بابل به. ووقفت بعض المدن ذات الأغلبية اليهودية الواضحة، مثل صفد وطبرية، موقف التأييد من الرومان. وانضم اليهود المتأغرقون إلى الرومان وحاربوا في صفوفهم، فكان هناك جيش يهودي تحت قيادة أجريبا الثاني أثناء حصار القدس وكانت أخته بيرنيكي هي عشيقة القائد الروماني تيتوس. وكانت جهود الرومان موجهة لإخماد التمرد وحسب، وليس للقضاء على اليهودية كدين أو على اليهود كإثنوس أو قوم (كما تَزعُم التواريخ الصهيونية أو المتأثرة بها) .(3/473)
6 ـ وفي هذه المرحلة، ازداد انتشار الجماعات اليهودية في العالم نتيجة الهجرة من فلسطين والتهوّد، بحيث أصبح عدد اليهود المقيمين خارج فلسطين يفوق عدد المقيمين فيها. وكما بيَّنا، كانت أعداد متزايدة من يهود فلسطين تفقد صبغتها العبرانية لتكتسب صبغة هيلينية. أما خارجها، فقد نسي يهود حوض البحر الأبيض المتوسط، ولا سيما في مصر، العبرية تماماً، وتمت ترجمة العهد القديم إلى اليونانية (الترجمة السبعينية) بتشجيع من البطالمة حتى يفهم يهود مصر معانيه. وبتشجيع منهم أيضاً، تم تشييد هيكل في مصر (في ليونتوبوليس) وهو هيكل أونياس، وذلك حتى يستقلوا عن هيكل القدس، ويبتعدوا عن نفوذ السلوقيين، وحتى يمكن الاستفادة منهم كجماعة وظيفية، مقاتلة وسيطة، وهو ما كان يعني ظهور هوية يهودية في مصر الهيلينية مستقلةً عن الهوية اليهودية في فلسطين.
وهكذا كانت الهوية اليهودية، داخل فلسطين وخارجها، تخوض عملية تَفتُّت على المستويين الديني والقومي. ولذلك، يمكن القول بأن تحطيم الهيكل على يد تيتوس لم يكن سبباً مباشراً في القضاء على الهوية العبرانية اليهودية، وإنما كان تجسيداً لعملية تاريخية مركبة أدَّت إلى القضاء على هذه الهوية وإلى تفتيتها، ولم يكن تحطيم الهيكل سوى تعبير نهائي عن هذه العملية. فأثناء الحرب الرومانية، استسلم قائد قوات الجليل يوسيفوس فلافيوس للرومان ثم انضم إليهم، كما فرَّ يوحنان بن زكاي من القدس أثناء حصارها، وكلاهما كان من الفريسيين الذين انضموا إلى صفوف المتمردين على مضض. وقد سمح الرومان ليوحنان بن زكاي بتأسيس مدرسة يفنه الدينية التي تمت فيها صياغة اليهودية المعيارية أو اليهودية الحاخامية المنفصلة تماماً عن العبادة القربانية، وهو النسق الديني الذي نعرفه، بينما اختفت القوى الأخرى مثل الأسينيين (الذين استُوعبوا في المسيحية) والصدوقيين وغيرهم.(3/474)
ويمكن القول بأن الهوية العبرانية والهوية العبرانية اليهودية ذات التوجه القومي قد اختفت تماماً عند هذه النقطة التاريخية وظهرت مراكز عديدة في بابل والإسكندرية. ولا يمكننا التحدث منذ ذلك التاريخ عن «عبرانيين» ولا عن «عبرانيين يهود» ، وإنما عن «أعضاء الجماعات اليهودية» ، وعن هوياتهم المختلفة. وقد حدث تمرُّد يهودي وهو تمرد بركوخبا، فقضى عليه الإمبراطور هادريان وأصدر مرسوماً بهدم القدس. ولكن، ومع ذلك، حينما مُنحت المواطنة لكل سكان الإمبراطورية عام 212م لم يُستثن اليهود من ذلك، وأصبحوا مواطنين رومانيين.
ويمكننا أن نحصر هنا بعض الهويات اليهودية مستخدمين معيارين: أحدهما ديني والآخر قومي أو إثني. فعلى المستوى الديني، كان هناك السامريون، كتَجمُّع ديني، مقابل بقية اليهود الذين كانوا ينقسمون بدورهم إلى عدة فرق لكلٍّ فهمه الخاص لليهودية، ومن أهمها الصدوقيون والفريسيون.(3/475)
وإذا ما أخذنا بالمعيار الإثني، فيمكن الإشارة إلى يهود فلسطين المتأغرقين، وكانوا يتركزون أساساً داخل المدن وفي أوساط الأثرياء. رغم أن التأغرق معيار إثني، إلا أنه يحمل تضمينات دينية، إذ أن اليهود المتأغرقين كانوا يقفون ضد كثير من الطقوس الدينية، ويحاولون التملص منها بل والقضاء عليها بالتعاون مع الدولة السلوقية الهيلينية. وهناك يهود فلسطين (الساميون) ، الذين كانوا يتحدثون الآرامية ويتركزون في الريف. كما كان هناك يهود فلسطين (المتهودون) من أبناء الإيطوريين والأدوميين. وهناك يهود مصر المتأغرقون (ويبدو أنه كانت هناك جماعة يهودية خارج الإسكندرية اكتسبت أيضاً الهوية المصرية المحلية ولم يكن أعضاؤها يُصنَّفون ضمن المتأغرقين) . وهناك أيضاً يهود جزيرة إلفنتاين وكانوا يتحدثون الآرامية، وأخيراً يهود روما (الذين كانوا يتحدثون اليونانية واللاتينية) . كما كانت تُوجَد جماعات يهودية في آسيا الصغرى وفي ليبيا (برقة) ، وفي أنحاء متفرقة من أوربا. ويمكن أن نذكر أخيراً أهم هذه الجماعات طراً، وهي الجماعة اليهودية في بابل التي انفصلت عن يهود الإمبراطوريات الهيلينية ثم عن الدولة الرومانية. وقد اكتسب أعضاء هذه الجماعات كثيراً من السمات الإثنية من المحيط الحضاري الذي كانوا يعيشون فيه، الأمر الذي أدَّى إلى قَدْر هائل من التنوع وعدم التجانس. وستظل هذه هي السمة الأساسية والعامة للهويات اليهودية المختلفة التي ظهرت عبر العصور وفي مختلف المناطق.(3/476)
ومما زاد من عدم تجانس الجماعات والهويات اليهودية، انتشار اليهود في كل أنحاء العالم دون وجود سلطة مركزية دينية أو قضائية في فلسطين أو في غيرها من الأماكن. كما لم تكن تُوجَد في العالم القديم وسائل مواصلات أو إعلام تقرب بين أطراف العالم كما يحدث الآن. لكل هذا، تطوَّرت كل جماعة يهودية على حدة، بمعزل عن الأخرى، على المستويين الديني والقومي. وقد ظلت هذه الفسيفساء قائمة إلى أن انحلت الإمبراطورية الرومانية وانتشرت المسيحية في الغرب وانتشر الإسلام في الشرق، فظهرت فسيسفاء أخرى احتفظت بعناصر من الفسيفساء القديمة، كما دخلت عليها عناصر جديدة. وقد انقسمت اليهودية ودخلت مدارين أساسيين: المدار الإسلامي والمدار المسيحي. وازدادت اليهودية توحيدية داخل المدار الإسلامي. ومن ثم، ظهر ما يمكن تسميته «هوية يهودية عربية إسلامية» ، وهي التي أنتجت موسى بن ميمون. وقد حَدَث، داخل هذا الإطار، الانقسام الخطير الثاني، وهو الانقسام القرّائي. أما في الغرب، فقد ازدادت اليهودية غيبية، ودخلت عليها عناصر صوفية متطرفة. وازدادت الهوة اتساعاً بين الهويات اليهودية في الشرق والغرب. فيهود الأندلس والعالم العربي كانوا يتحدثون العربية ويكتبون بها، بينما كان يهود فرنسا يتحدثون برطانة فرنسية ويكتبون بالعبرية. ثم ظهرت اليديشية (لغة الإشكناز في شرق أوربا) ، واللادينو (لغة يهود السفارد في حوض البحر الأبيض المتوسط) . وكانت هناك بقايا يهود الرومانيوت الذين يتحدثون اليونانية ويهود إيطاليا الذين يتحدثون الإيطالية. كما ظهرت هويات يهودية مختلفة في أماكن متفرقة، مثل: الخَزَر في منطقة القوقاز، والفلاشاه في إثيوبيا، وبني إسرائيل في الهند، ويهود الصين في كايفنج، ويهود مانيبور، والتشويتاس، واليهود السود. ولم يكن انتماء هؤلاء الديني إلى اليهودية الحاخامية، وإنما كان انتماؤهم إلى تقاليد دينية مختلفة دخلت عليها عناصر دينية وإثنية محلية. وكان(3/477)
يُوجَد كذلك يهود إيران وأفغانستان الذين يتحدثون اللغة الفارسية وغيرها من اللغات، وبعض اليهود الأكراد الذين يتحدثون الكردية. وظهر عدد ضخم من الجماعات اليهودية الصغيرة في القوقاز مثل: يهود الجبال ويهود جورجيا ويهود الكرمشاكي، وظهرت جماعات يهودية في جبال الأطلس تتحدث البربرية. ومن الانقسامات الدينية المهمة، ظهور الحركة الشبتانية وظهور يهود المارانو في حوض البحر الأبيض المتوسط ويهود الدونمه في الدولة العثمانية.
هذه هي الفسيفساء التي كانت قائمة حينما ظهرت العلمانية في المجتمعات الغربية والتي زلزلت اليهودية الحاخامية وعمَّقت عدم التجانس.
التعريف الديني للهويات اليهودية
Religious Definition of Jewish Identities(3/478)
في العصور القديمة، كانت اليهودية ديانة توحيدية في محيط وثني، وكانت تكتسب هويتها من هذا التعارض الواضح والبسيط. أما في العصور الوسطى الغربية وفي العالم الإسلامي، فقد اختلف الأمر تماماً، إذ وجدت اليهودية نفسها في محيط توحيدي (إسلامي أو مسيحي) أدَّى إلى انطماس معالمها. ولذلك، حاول علماء اليهود أن يخلقوا هوة بين اليهود وأعضاء الديانات التوحيدية الأخرى، وكان التلمود هو ثمرة هذه المحاولة. وخلال هذه الفترة، ظهر تعريف الشريعة (هالاخاه) للهوية اليهودية، فعُرِّف اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية أو من تهوَّد. وهذه التعريف هو الذي ساد منذ ظهور اليهودية الحاخامية مع بدايات العصور الوسطى في الغرب حتى بداية القرن التاسع عشر، وبالتالي فهو التعريف الذي يُعَدُّ الإطار المرجعي لكثير من الكتابات والإشكالات التي تُثار حول الهوية اليهودية. وهو تعريف ديني إثني مُغلَق يشبه إلى حدٍّ ما تعريف نحميا وعزرا ولكنه مُتحرِّر من الارتباط بالهيكل. ولذا، نجد أن الحاخامات عارضوا أية محاولة للعودة الفعلية ووقفوا ضد أي ماشيَّح دجال من أمثال شبتاي تسفي، باعتبار أن العودة لا يمكن أن تتم إلا بأمر إلهي سيأتي في آخر الزمان، أي أن العنصر القومي للهوية تم تسكينه وتحويله إلى تَطلُّع ديني، ولكنه مع هذا ظل كامناً.(3/479)
وقد كانت هناك إشكالية أساسية داخل هذا التعريف تتعلق بالجانب القومي أو العرْقي للتعريف، حيث يتضمن أن من يُولَد لأم يهودية يظل يهودياً حتى ولو لم يمارس تعاليم الدين اليهودي، فهو يهودي بالمعنى الإثني. أما اليهودي المتهود، فكان عليه أن يقوم بتنفيذ جميع الأوامر والنواهي، أي يجب أن يكون يهودياً بالمعنى الديني. لكن هذه الإشكالية كانت، هي الأخرى، في حالة كُمون لأن عدد اليهود المتهودين كان صغيراً إلى حدٍّ كبير، كما أن تَرابُط الجماعات الدينية والإثنية، في العالمين الإسلامي والمسيحي، كان قوياً لدرجة أن أي يهودي يترك دينه كان عادةً ما يتبنى ديناً آخر ويندمج في المجتمع الخارجي وينصهر فيه تماماً، الأمر الذي يحلّ الإشكالية. وكان الفيلسوف إسبينوزا أول يهودي يترك الدين اليهودي ولا يتبنى ديناً آخر، أي أنه كان أول يهودي إثني وعلماني.
وعلى أية حال، فإن المشكلة كانت تظهر عند إقراض النقود بالربا، فاليهودية تبيح لليهودي أن يقرض غير اليهودي بالربا، لكنها تُحرِّم إقراض بني ملته. فإذا ما طلب يهودي مُتنصِّر قرضاً من أحد المرابين اليهود، كانت قضية يهوديته تطرح نفسها. وقد أفتى بعض الحاخامات بأن مثل هذا اليهودي المتنصر يجوز إقراضه بالربا لأنه ليس يهودياً على الإطلاق، ولكن أغلبية الحاخامات أفتوا بأنه يهودي حسب الشريعة اليهودية، لأنه وُلد لأم يهودية (أي أنه يهودي بالمعيار العرْقي) .(3/480)
وفي القرن الثامن، شهدت اليهودية حركة إصلاح ديني من جانب القرّائين الذين تأثروا بالتراث الديني الإسلامي وعلم الكلام والنزعة العقلانية في التراث الديني الإسلامي، فرفضوا الشريعة الشفهية التي جُمعَت معظم أحكامها في التلمود، ونادوا بأن لا قداسة إلا للتوراة وحسب. أما الشريعة الشفوية، فهي مجرد تفسيرات واجتهادات غير مُلزمة. وهو موقف مختلف تماماً عن موقف اليهودية الحاخامية التي ترفع الشريعة الشفوية (أي تفسيرات الحاخامات) إلى مرتبة التوراة، بل إلى مرتبة أعلى منها أحياناً. ومن ثم، حدث انقسام كامل بين الفريقين. وكان الفقه اليهودي يواجه دائماً مشكلة ما إذا كان القرّاءون يهوداً أم لا؟ وهل يحلّ الزواج بهم أم يٌعدُّ زواجاً مُختلَطاً؟.(3/481)
ومن أهم المشاكل الأخرى التي واجهها الفقه اليهودي، مشكلة يهود المارانو (اليهود المتخفون) الذين لم يتركوا شبه جزيرة أيبريا وتظاهروا باعتناق المسيحية بعد استرداد المسيحية لهذه الجزيرة، واحتفظوا بانتمائهم اليهودي سراً. ويرى الفقه اليهودي أن اليهودي الذي اضُطر إلى اعتناق دين آخر يظل يهودياً، ويمكنه أن يعود إلى حظيرة الدين متى سنحت له الفرصة. ولكن كثيراً من المارانو اعتنقوا المسيحية بإرادتهم للاحتفاظ بممتلكاتهم وثرواتهم، كما أنهم لم يفروا من شبه جزيرة أيبريا حينما سنحت لهم الفرصة. بل إن انتماءهم اليهودي ضعف بشكل واضح بمرور الزمن، ولم يبق منه سوى قشرة رقيقة أو بضعة طقوس. وفي النهاية، أصبح من الصعب عليهم التأقلم مع اليهودية الحاخامية أو المعيارية كما حدث لإسبينوزا (ولأورييل داكوستا من قبله) . بل إن ثمة نظرية حديثة تذهب إلى أن المارانو كانوا مسيحيين صادقين في مسيحيتهم، وأن بعض العناصر داخل الدولة الإسبانية هي التي قامت بتوجيه تهمة المارانية لهم لوقف حراكهم الاجتماعي، إذ أن هؤلاء المسيحيين الجدد، كما كانوا يُسمَّون أحياناً، كونوا طبقة وسطى صاعدة وقوية كانت تهدد مصالح بعض الطبقات المهيمنة.(3/482)
وقد شكل يهود الدونمه من أتباع شبتاي تسفي مشكلة أخرى، فقد اعتنقوا الإسلام علناً، وأبقوا على انتمائهم اليهودي سراً. ولم يكن الفقه اليهودي، منذ أيام موسى بن ميمون، يعتبر اعتناق الإسلام من جانب اليهود شركاً أو إنكاراً لوحدانية الله (على خلاف التنصر) . وبالتالي لم تكن هناك مشكلة من الناحية النظرية على الأقل. لكن الدونمه لم يُرغَموا على اعتناق الإسلام، كما أن الادعاءات المشيحانية لقائدهم قُوبلت بحرب شرسة من جانب الحاخامات الذين أعلنوا أنها هرطقة وتجديف. ومع هذا، كان يهود الدونمه في الدولة العثمانية يدرسون التلمود مع بقية أعضاء الجماعة اليهودية حتى منتصف القرن التاسع عشر، وظلوا محتفظين بكثير من طقوسهم اليهودية سراً دون أن يرغمهم أحد على ذلك! ولهذا كان من الصعب تقرير ما إذا كان المارانو والدونمه يهوداً أم لا، وهي مشكلة لم يحسمها الفقه اليهودي.
وقد ازداد انتشار أعضاء الجماعات اليهودية في أنحاء العالم، وازداد بشكل واضح غياب التجانس الثقافي والديني بينهم مع الثورة العلمانية الكبرى التي بدأت تترك أثرها التدريجي في الجماعات اليهودية (ولعل ظهور الحركات الشبتانية المختلفة هو تعبير عن تزايد معدلات العلمنة) .(3/483)
ولكن رغم كل المشاكل والتوترات الداخلية والخارجية، فإن تعريف الشريعة لليهودي (من وُلد لأمٍّ يهودية أو تَهوَّد) ، وهو التعريف الحاخامي الأرثوذكسي، كان تعريفاً مقبولاً ويَصلُح أساساً للتفرقة بين اليهود وغير اليهود. ولكن الوضع اختلف تماماً مع ظهور العلمانية التي بدأت تترك أثرها التدريجي في الجماعات اليهودية إلى أن دخلت اليهودية في الغرب مرحلة الأزمة، فظهر فكر حركة التنوير ثم ظهرت اليهودية الإصلاحية ومن بعدها اليهودية المحافظة واليهودية التجديدية ولا تعترف اليهودية الأرثوذكسية بأتباع هذه الفرق أو بحاخاماتها يهوداً. هذا إلى جانب انتشار نزعات الإلحاد والشك الديني بين اليهود، وظهور ما يُسمَّى «اليهودية الإثنية» (في الولايات المتحدة وروسيا وأوكرانيا وغيرهما من كومنولث الدول المستقلة) وهي يهودية من لا يؤمنون بالعقيدة اليهودية وإن كانوا يمارسون بعض شعائرها باعتبارها شكلاً من أشكال الفلكلور الذي يدعم إثنيتهم اليهودية ويرفع روحهم المعنوية. كما ظهرت اليهودية الإنسانية التي تحاول أن تؤسس عقيدة يهودية لا تستند إلى الإيمان بالشريعة المُوحَى بها وإنما بالقيم الإنسانية العامة. وظهرت أيضاً جماعات يهودية أخرى مثل العلماء اليهود الذين يؤمنون بأن الطب الحديث لا طائل من ورائه، وبأن سر الشفاء يوجد في العهد القديم، وكانوا في الواقع متأثرين بفرقة دينية مسيحية تُسمَّى «العلماء المسيحيون» . وانضم كثير من اليهود إلى فرقة الموحدانيين (يونيتريان Unitarian) المسيحية، واحتفظوا في الوقت نفسه بيهوديتهم. بل وظهرت جماعة تُسمَّى «اليهود من أجل المسيح» ، وقد اعتنق هؤلاء المسيحية، واعتبروا المسيح عيسى بن مريم هو الماشيَّح اليهودي، ولكنهم لم يعترفوا ببنوته للرب، وهكذا. وقد أصر كل هؤلاء (رغم إلحادهم الكامل أو رفضهم معظم مقولات الشريعة اليهودية) على أن يُسموا «يهوداً» ، الأمر الذي ولَّد موقفاً غريباً إلى أقصى درجة وهو(3/484)
أن الغالبية العظمى ليهود العالم لم تَعُد تلتزم بالشريعة اليهودية، ولم يَعُد ينطبق عليها مصطلح «يهودي» ، حسب التعريف الحاخامي، ولكن هذه الغالبية تصرُّ في الوقت نفسه على الاحتفاظ بلقب «يهودي» ، بينما لا توجد سوى أقلية صغيرة للغاية ملتزمة بالشريعة تحتفظ هي الأخرى بلقب «يهودي» وتدَّعي لنفسها حقّ أن تقرر من هو اليهودي، ولذا فهي تذهب إلى أن أغلبية اليهود الساحقة ليسوا يهوداً! وقد صرح آفى بيكر، محرر إحدى التقارير التى أصدرها المؤتمر اليهودى عن أوضاع الجماعات اليهودية فى العالم، أن الانفصال بين اليهود الأرثوذكس واليهود العلمانيين قد خلق شعبين مختلفين لايتفاعلان.
الخريطة العامة للهويات اليهودية فى الوقت الحاضر
General Map of Jewish Identities at the Present
لاحظنا التطور التاريخي للهويات اليهودية المختلفة والذي نجم عنه ظهور هويات لا حصر لها ولا عدد. كما لاحظنا أن تعريف الشريعة اليهودية لمن هو اليهودي كان تعريفاً يعاني من الخلل، فلا هو بالديني ولا هو بالعرْقي، بل يجمع عناصر دينية وعرْقية دون تعريف حدود كل عنصر. وقد زادت الصورة اختلاطاً وسوءاً مع ظهور الفرق اليهودية الحديثة، وظهور اليهودية الإثنية والإنسانية، وإصرار كل هؤلاء على أن يسموا أنفسهم يهوداً.
كل هذا يعني أن كلمة «يهودي» تشير إلى أشخاص يؤمنون بأنساق دينية متعارضة من بعض النواحي، وينتمون إلى تشكيلات حضارية مختلفة، أي أنها دال يشير إلى مدلولات دينية وقومية مختلفة. ولتوضيح الصورة قليلاً، يمكن القول بأن مصطلح «يهودي» كان يشير، منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى عشية ظهور الدولة الصهيونية، إلى عشرات الهويات والانتماءات الدينية والوثنية والطبقية:(3/485)
1 ـ يهود اليديشية، ويُطلَق عليهم عادةً يهود شرق أوربا أو الإشكناز. وهم أكبر القطاعات اليهودية في العالم. وكان هؤلاء يوجدون في أوكرانيا ومنطقة الاستيطان اليهودية في روسيا وبولندا. وكانوا ينقسمون بدورهم إلى قسمين أساسيين:
أ) يهود متدينون يعرِّفون يهوديتهم على أساس ديني.
ب) يهود تمت علمنتهم ويعرِّفون يهوديتهم على أساس إثني.
وكان معظم أعضاء هذا التجمع اليهودي يتحدثون اللغة اليديشية، وقد حملوها معهم إلى إنجلترا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا، ولكن كانت بينهم قطاعات تتحدث البولندية والأوكرانية والروسية والألمانية.
2 ـ يهود العالم الغربي المندمجون الذين كانوا يتحدثون لغة بلادهم. وهؤلاء كانوا ينقسمون إلى عدة أقسام، فمنهم يهود متدينون يعرِّفون أنفسهم على أسس دينية مختلفة (إصلاحى ـ محافظ ـ تجديدى ـ أرثوذكسى) ومنهم أيضاً يهود لادينيون. وأكبر تَجمُّع لهؤلاء يُوجَد في الولايات المتحدة. وقد تزايد عددهم بوصول يهود اليديشية الذين اندمجوا بدورهم في المجتمعات التي وصلوا إليها، واكتسبوا سماتها الإثنية والحضارية، وفقدوا هويتهم السلافية اليديشية وظهر ما نسميه «الهوية اليهودية الجديدة» . كما أن العناصر السفاردية في المجتمعات الغربية اندمجت هي الأخرى في محيطها الحضاري، خصوصاً أن أعدادهم كانت صغيرة.(3/486)
3 ـ يهود أمريكا اللاتينية الذين يتحدثون الإسبانية والبرتغالية أساساً. وقد انضم إليهم آلاف من يهود اليديشية واليهود السفارد من العالمين الغربي والعربي. وقد احتفظت كل جماعة يهودية مهاجرة بلغتها وهويتها التي أحضرتها من بلدها الأصلي لأن المجتمع الكاثوليكي اللاتيني كان محتفظاً بهويته، فكان التعبير عن الهوية اليهودية هو ذاته صدى لبنية المجتمع المضيف. وحينما بدأ المجتمع اللاتيني يفقد هويته بالتدريج، وبدأت تتصاعد فيه معدلات العلمنة، أخذ أعضاء الجماعات اليهودية يفقدون هم أيضاً هويتهم ويندمجون، ولكن في محيطهم اللاتيني.
4 ـ يهود الشرق والعالم الإسلامي والعالم العربي، وكان من بينهم اليهود العرب (اليهود المستعربة) ، واليهود السفارد الذين يتحدثون اللادينو، وكانت توجد جماعات كبيرة منهم في العالم العربي، وقد انضمت إليهم أعداد كبيرة من يهود اليديشية، ويهود البلاد الغربية (خصوصاً فرنسا) . كما تم صبغ كثير من اليهود المحليين العرب بالصبغة الغربية، وحصلت أعداد كبيرة منهم على جنسيات أوربية.
5 ـ الجماعات اليهودية المتفرقة (مثل الفلاشاه وبني إسرائيل) التي استمر معظمها في البقاء، ولم يختف في واقع الأمر سوى يهود الخزر، إذ لا يزال يُوجَد بعض أعضاء من يهود كايفنج ومئات وربما آلاف من يهود المارانو والدونمه، وإن كان ثمة نظرية تذهب إلى أن اليهود القرّائين الذين يتحدثون التركية هم من بقايا يهود الخَزَر.
6 ـ تم تصنيف جميع الجماعات السابقة إلى يهود غربيين يُسمَّون «الإشكناز» ، ويهود شرقيين يُسمَّون «السفارد» (أحياناً) برغم خطأ التسمية.
7 ـ نحن نرى أن كل التقسيمات السابقة آخذة في الاختفاء وأن ثمة ثلاثة أقسام أساسية الآن في العالم:(3/487)
أ) خارج فلسطين، ظهر ما يمكن تسميته «الهوية اليهودية الجديدة» وهي هوية ظهرت في المجتمعات الغربية الحديثة، وهي ذات ملامح يهودية إثنية أو دينية، ولكن البُعد اليهودي فيها هامشي، لا يؤثر في سلوك أعضاء الجماعات اليهودية، إذ أن ما يحكم هذا السلوك هو الرؤية العامة السائدة في المجتمع (المتعة واللذة) والتي تُوجِّه سلوك المسيحيين واليهود والبوذيين والملحدين ... إلخ.
ب) داخل المُستوطَن الصهيوني ظهرت هوية جديدة تماماً لا علاقة لها بكل الهويات السابقة، وهي جيل الصابرا ويتنبأ الدارسون بأن هؤلاء الصابرا سيكونون أغيارا يتحدثون العبرية لاتربطهم بأعضاء الجماعات اليهودية فى العالم سوى روابط واهية لاتختلف كثيرا عن علاقة اليونانيين المحدثين بالاغريق القدامى. ويميل كثير من علماء الاجتماع إلى أن اليهود المولودين في إسرائيل ينقسمون أيضاً إلى شرقيين وغربيين، ومن ثم يُطلَق مصطلح «الصابرا» في واقع الأمر على أولاد اليهود الغربيين وحدهم.
جـ) يهود متدينون (أرثوذكس) وهم أقلية صغيرة خارج إسرائيل وأقليه كبيرة داخلها.(3/488)
والصورة، كما نرى، مركبة وغير متجانسة على جميع المستويات. فهذه الجماعات التي كانت تفصل بعضها عن البعض هوة من الخلافات الدينية، وكانت تتحدث عشرات اللغات واللهجات، تقع ضمن تشكيلات اجتماعية وثقافية لا حصر لها، ابتداءً من يهود الغرب المندمجين في مجتمعاتهم الرأسمالية ومروراً بيهود اليمن الذين يشكلون جزءاً متكاملاً من مجتمعهم العربي بكل فنونه وتقاليده ومزاياه وعيوبه، وانتهاء بيهود الفلاشاه (في إثيوبيا) الذين ينتمون إلى تشكيل قَبَلي بسيط ويتحدثون الأمهرية لغة أغلبية أهل إثيوبيا ويتعبدون بالجعزية لغة الكنيسة القبطية فيها! ويُلاحَظ هنا كيف يتداخل الانتماء الإثني مع الأبعاد الدينية. وربما كان هذا التداخل هو ما جعل مندوب الوكالة اليهودية في الخمسينيات لا يتردد في أن ينصح الفلاشاه بحل مشاكلهم كلها لا بالهجرة إلى إسرائيل وإنما عن طريق التنصر والانضمام إلى الكنيسة القبطية في إثيوبيا!
وهذه الهويات اليهودية المختلفة لا وجود لها خارج محيطها الحضاري. فإن فقد يهود الفلاشاه الأمهرية والجعزية والشعائر الدينية المختلفة التي استقوها من محيطهم الحضاري، فإنهم يفقدون هويتهم التي يُقال لها «يهودية» . ويسري الشيء نفسه على يهود الولايات المتحدة، فخصوصيتهم نابعة من انتمائهم إلى المجتمع الأمريكي، ولا يمكن تَخيُّلهم خارج هذا المحيط الثقافي.(3/489)
وإذا كانت هناك هوية يهودية مستقلة نسبياً عن محيطها الحضاري، فهذا لا يعني بالضرورة أن هناك هوية يهودية عالمية واحدة مترابطة. والواقع أن هناك هويات يهودية مختلفة متعددة بعدد المجتمعات التي تتواجد فيها هذه الهويات، إذ أن انفصالها النسبي لم يؤد بالضرورة إلى ترابط الواحدة مع الأخرى. فيهود شرق أوربا كانوا يكتسبون هويتهم الشرق أوربية اليهودية من خلال اليديشية. وكان اليهود السفارد يكتسبون هويتهم الإسبانية من خلال اللادينو. وكانت كل من اليديشية واللادينو تعزل أعضاء الجماعة عن محيطهم. ومن ثم كان الصدام بين السفارد والإشكناز حاداً دائماً في جميع نقط التماس، سواء في أوربا في القرن السابع عشر أو في العالم الجديد في القرن الثامن عشر أو في المُستوطَن الصهيوني في القرن العشرين.
الهوية اليهودية الجديدة في المجتمعات الغربية الحديثة
New Jewish Identity in Modern Western Societies
«الهوية اليهودية الجديدة» مصطلح قمنا بصكه لوصف الهوية اليهودية الجديدة التي نشأت تدريجياً في العالم الغربي بعد عصر الانعتاق وتَصاعُد معدلات العلمنة حتى أصبحت النموذج السائد فيه. واليهود الجدد هم أصحاب هذه الهوية الجديدة. ويمكن القول بأن الهويات اليهودية المختلفة، بعامة، قد تحدَّدت معالمها وتَشكَّل مضمونها في المجتمعات التقليدية (قبل الرأسمالية) بطريقة مختلفة عن تَشكُّلها في المجتمعات العلمانية الحديثة. فالمجتمعات التقليدية هي مجتمعات تدور حول منظومة عقيدية تستند إلى ميتافيزيقا ومطلقات معرفية وأخلاقية ويأخذ تقسيم العمل فيها شكل الفصل الحاد بين الطبقات والأقليات والجماعات. وبذا اضطلع اليهود فيها بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة (وأحياناً العميلة) المنغلقة على نفسها، شأنهم في هذا شأن الأرمن في تركيا والصينيين في جنوب شرقي آسيا.(3/490)
لكن يهود العالم الغربي، شأنهم شأن بقية قطاعات المجتمع الغربي، خضعوا بعد القرن التاسع عشر لعملية ضخمة من العلمنة والتحديث، ووجدوا أنفسهم يتفاعلون مع بيئة حضارية وسياسية مختلفة تماماً عما ألفوه من قبل، فقد تزايد معدل العلمنة في المجتمعات الغربية إلى أن أصبحت المجتمعات تُهيمن عليها العقيدة العلمانية (الشاملة) التي لا تتبنى أية معايير دينية أو أخلاقية للحكم على الفرد. فهي مجتمعات تدور حول مبدأي المنفعة واللذة وحول مفهوم الإنسان الطبيعي (الاقتصادي والجسماني) ، ولا تحكم على الفرد إلا على أساس كفاءته ومدى نفعه وتكيفه مع قيم المجتمعات بحيث يصبح مواطناً يتوجه ولاؤه نحو الدولة وخدمة مصلحتها، قادراً على البيع والشراء والبحث عن اللذة وتعظيم الإنتاج والإشباع والقتال حينما يُطلَب منه ذلك.(3/491)
وتتسم هذه المجتمعات بتَراجُع العقيدة المسيحية وعدم الاكتراث بها وبكل الأديان والمقدسات والغيبيات. ففي الماضي، أي حتى منتصف القرن التاسع عشر وربما أواخره، كان على اليهودي الذي يود الاندماج الكامل في مجتمعه أن يُغيِّر دينه ويعتنق ديناً آخر، أي المسيحية، كما فعل هايني ووالدا كلٍّ من ماركس ودزرائيلي. ولكن المسيحية دين له رموزه المركبة والمعادية لليهود واليهودية، ولذا كانت تجربة التنصر مريرة ولا شك. أما يهود العالم الغربي في الوقت الحاضر، فيمكن لمن يريد منهم أن يتخلَّى عن دينه أن يفعل ذلك ببساطة شديدة دون أن يُضطر بالضرورة إلى التنصر أو اعتناق أي دين آخر (كما فعل الفيلسوف إسبينوزا أول يهودي إثني) ، وبوسعه بعد ذلك أن ينتظم في صفوف الملايين التي تدخل الآلة الرشيدة اليومية والتي يتم تنميطها من الداخل والخارج بشكل دائم من خلال البنية التحتية المادية والمؤسسات الإعلامية والتربوية. وهذه الملايين لا تكترث بالخصوصية، إلا باعتبارها مصدراً متجدداً للمتعة والإثارة. وهذه المجتمعات الغربية التي يعيش فيها اليهود الجدد لا تهتم كثيراً بالدين (أو أية أبعاد معرفية كلية نهائية) ، ولذا فهو لا يُوجِّه سلوك أعضائها ولا رؤيتهم لذاتهم أو للواقع، وإن كان هناك بُعد ديني فهو عادةً هامشي ضامر. وهي مجتمعات لا ترى اليهودي باعتباره قاتل المسيح أو عدو الإله، ولا ترى اليهود باعتبارهم الشعب الشاهد. وأعضاء هذه المجتمعات قد يتحدثون عن التراث اليهودي/المسيحي ولكن الإنسان بالنسبة لهم، في التحليل الأخير، هو الإنسان الاقتصادي، المنتج والمستهلك، والإنسان الجسماني، الباحث عن المتعة. وهي مجتمعات لم تَعُد تكترث كثيراً بالشعائر المسيحية ولا بالأعياد المسيحية باستثناء الكريسماس الذي فُرِّغ من مضمونه الديني وأصبح مناسبة اجتماعية وموسماً للبيع والشراء. وبدلاً من العقيدة المسيحية، ظهرت مجموعة من العقائد العلمانية المختلفة (مثل(3/492)
الوجودية والماركسية والنازية والليبرالية أو حتى الاستهلاكية) يمكن أن يؤمن بها كل من يشاء.
ولا تمارس هذه المجتمعات أي تمييز ضد اليهود أو ضد أية أقلية أخرى، فرقعة الحياة (العلمانية) العامة مفتوحة أمام الجميع، وبإمكان الجميع الالتقاء فيها بعد أن يطرحوا جانباً خصوصياتهم الثقافية والدينية، أو بعد أن يتركوها في منازلهم في رقعة الحياة الخاصة (وقد طلبت حركة الانعتاق من اليهودي أن يكون يهودياً في المنزل مواطناً في الشارع) .وفي رقعة الحياة العامة يمكنهم أن ينخرطوا، ما حلا لهم الانخراط، في البيع بأعلى الأسعار، والشراء بأرخصها، والبحث الدائم (المنهجي أو التلقائي) عن اللذة وعن التخفيضات والأوكازيونات، دون أي تمييز على أساس العقيدة أو الجنس أو اللون. ومن ثم لا يوجد أي تمايز ثقافي أو وظيفي أو مهني لليهود في مواجهة غيرهم، وإن كان هناك مثل هذا التمايز فهو من رواسب الماضي، فالجميع يلتقي على أرض علمانية صلبة.(3/493)
هذه صورة المجتمع العلماني النماذجية، أي أنها صورة غير واقعية ولكنها، مع هذا، ممثلة للواقع. وداخل هذا الإطار، ظهرت الهوية اليهودية الجديدة، التي نطلق على أصحابها مصطلح «اليهود الجدد» لنميزهم عن يهود ما قبل القرن التاسع عشر وعن يهود مرحلة ما قبل الانعتاق. وفي بعض الدراسات المتخصصة، يُقال لليهود الجدد «يهود ما بعد مرحلة الإعتاق» ، كما يمكن أن يُشار إليهم ببساطة بوصفهم «يهود العالم الغربي» ، أو «اليهود الغربيين» ، مع إسقاط المصطلحات التي تشير إلى هويات إثنية أو إثنية دينية مختلفة، مثل: «يهود اليديشية» أو «السفارد» أو «الإشكناز» ، لأنها لم تَعُد تَصلُح إطاراً مرجعياً. فاليديشية اختفت تقريباً، كما اختفت أية ملامح إثنية أتى بها المهاجرون اليهود من أوطانهم الأصلية. وأهم كتلة يهودية بين اليهود الغربيين تتمثل في الأمريكيين اليهود (وليس اليهود الأمريكيين) الذين استُوعبوا في الحضارة الأمريكية تماماً ولا وجود لهم خارجها ولا يمكن فَهْم سلوكهم دون الرجوع إليها.
والأمريكيون اليهود هم أهم قطاعات هؤلاء اليهود الجدد وأكبرها، إذ يشكلون نحو 90% منهم، ويمثلون جماهير الصهيونية الغربية وعمودها الفقري ويؤثرون في صنع القرار الأمريكي، وحيث إن يهود أوربا الغربية بل ويهود أوربا الشرقية أيضاً آخذون في التلاشي (باستثناء يهود فرنسا التي هاجر إليها يهود المغرب) ، فإننا نستخدم أحياناً مصطلح «اليهود الجدد» كمرادف لمصطلح «الأمريكيون اليهود» . وقد ساهمت خصوصية الولايات المتحدة الأمريكية في سرعة ظهور الهوية اليهودية الجديدة وفي بلورتها، وتتمثل هذه الخصوصية في العناصر التالية:(3/494)
1 ـ المجتمع الأمريكي مجتمع استيطاني يتكون من فسيفساء إثنية. ورغم أن ثمة نواة بروتستانتية بيضاء أسست المجتمع وشكلت أغلبية أعضاء النخبة، فإن المجتمع لا تُوجَد فيه أغلبية متجانسة. ولذا، لا يشكل اليهود الأقلية الإثنية أو الدينية الوحيدة، وإنما توجد بالإضافة إليهم عشرات الأقليات الأخرى، مثل الإيطاليين والأيرلنديين والمهاجرين ذوي الأصل الإسباني من بورتوريكو وأمريكا اللاتينية، إلى جوار العرب والسلاف. كما تُوجَد الآن أعداد كبيرة من الآسيويين من الهند والصين واليابان، وهناك أيضاً أعداد كبيرة من الأقليات الدينية من كل شكل ولون.
2 ـ المجتمع الأمريكي مجتمع جديد منفتح يوجد فيه مجال للريادة والاستثمارات والحراك الاجتماعي، الأمر الذي يسَّر لأعضاء الجماعات اليهودية أن يحققوا كل إمكانياتهم الاقتصادية وأن يستثمروا كفاءاتهم ورؤوس أموالهم بشكل كامل. والمجتمع الأمريكي الرأسمالي، الذي تشتغل فيه قطاعات ضخمة بالتجارة والبيع والشراء والأعمال المالية، لم يفرض على أعضاء الجماعات اليهودية دور الوسيط، ولم يُحرِّم عليهم أي نشاط اقتصادي.
3 ـ لم يمارس المجتمع الأمريكي أي تمييز ضد أعضاء الجماعات اليهودية في الحقوق السياسية أو المدنية، بل منحهم هذه الحقوق كاملة منذ البداية. ولم يُظهر هذا المجتمع سوى أشكال طفيفة من التفرقة الاجتماعية (هي شكل من أشكال التحامل أكثر من كونها تفرقة عنصرية) مثل حرمان اليهود من عضوية النوادي الاجتماعية الأرستقراطية أو التعيين في بعض المناصب الحيوية. وقد تهاوت هذه الحواجز ذاتها في أوائل السبعينيات حين عُيِّن كيسنجر وزيراً للخارجية عام 1973، وإرفينج شابيرو مديراً لواحدة من أكبر الشركات الأمريكية (شركة دي بونت) عام 1974.(3/495)
4 ـ المجتمع الأمريكي مجتمع ليس له تاريخ طويل أو تراث مُركَّب، ومن ثم لا تسيطر علىه أية أساطير عرقية أو مفاهيم دينية قديمة ذات امتداد زمني أو ذات جذور تاريخية راسخة. وإن كانت هناك رواسب حملها بعض المهاجرين معهم، مثل الأيرلنديين أو الألمان وغيرهم، فهي مجرد رواسب لم تكتسب أية مركزية ولم تضرب بجذور عميقة. ويقول بعض علماء الاجتماع إن التعصب الأمريكي عادةً ما يستهدف السود بالدرجة الأولى، ثم الكاثوليك بالدرجة الثانية، ولكنه لا يستهدف أعضاء الجماعات اليهودية إلا بالدرجة الأخيرة.
5 ـ المجتمع الأمريكي هو أكثر المجتمعات علمانية على وجه الأرض، حيث تم فصل الدين والأخلاق وكل القيم عن الدولة وعن رقعة الحياة العامة (أي عن 90% من حياة الإنسان الأمريكي) .
لكل هذا، وجد المهاجرون اليهود أنفسهم في وضع حضاري جديد تماماً، إذ أن المجتمع الأمريكي مجتمع منفتح بمعنى الكلمة، بخلاف المجتمعات الغربية المنغلقة المثقلة بالأساطير القديمة والتقاليد التاريخية والقيم التي ورثتها. ولذلك اندمجوا فيه بسرعة وتهاوت أسوار العزلة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية عنهم، فلم يُضطروا إلى السكنى في أماكن خاصة بهم (الجيتو) ، ولم يُفرَض عليهم أن يرتدوا أزياء مُميَّزة. ولهذا، اختفت بقايا ثقافة يهود اليديشية الإثنية من شرق أوربا، كما اختفت تقريباً اللغة اليديشية ذاتها بسرعة، وكذلك الأمر مع المدارس ذات الطابع اليهودي التقليدي بل وغير التقليدي.(3/496)
ومع هذا، يمكن القول بأن الهوية اليهودية الجديدة في الولايات المتحدة، رغم تبلورها بسرعة وبشكل حاد، فإنها لا تشكل سوى حالة متقدمة من متتالية نماذجية آخذة في التحقق. فالهوية اليهودية الجديدة هي ثمرة التفاعل التلقائي واليومي بين أعضاء الجماعات اليهودية ومجتمعاتهم العلمانية، إلا أنها في الوقت نفسه ثمرة تخطيط واع. فبعد انهيار أسوار الجيتو، وفتح أبواب الانعتاق، والاندماج، أدرك بعض قيادات الجماعات اليهودية الفكرية ضرورة تحديث الهوية اليهودية لتتفق مع الأوضاع الجديدة، بكل ما تعطيه لليهود من حقوق جديدة، وبكل ما تُلزمهم به من واجبات جديدة أيضاً. وقد كان مُتصوَّراً أن تحديث الهوية اليهودية هو السبيل الوحيد لاحتفاظ اليهودي بيهوديته (الدينية أو الإثنية) وتحقيق الاستمرار لها داخل مجتمعات ما بعد الانعتاق، لأن الاصطدام بالمنظومة العلمانية أمر لا جدوى له. ولكن ما حدث كان عكس المتوقع. إذ اندمج اليهود تماماً في مجتمعاتهم بحيث أصبحت أنماط سلوكهم وأسلوب حياتهم لا تختلف كثيراً عن الأنماط والأساليب السائدة في مجتمعاتهم، كما أن أحلامهم وطموحاتهم لا تختلف عن أحلام وطموحات معظم أعضاء مجتمعاتهم التي ارتفعت فيها معدلات العلمنة. أما البُعد اليهودي في هويتهم فقد أصبح هامشياً للغاية، وظهر أن الهوية اليهودية الجديدة (من منظور خصوصيتها اليهودية الدينية أو الإثنية) هوية هشة رخوة تنتمي يهوديتها إلى المظهر والقشرة لا إلى المخبر والجوهر.(3/497)
فعلى المستوى الديني، نجد اليهودي الجديد «المتدين» (باستثناء قلة صغيرة) ينتمي عادةً إلى فرقة من الفرق اليهودية الجديدة (الإصلاحية أو المحافظة أو التجديدية) التي تؤمن بصياغة مخففة للغاية من اليهودية. وهو قد يُصنِّف نفسه يهودياً متديناً ومع هذا لا ينتمي إلى أي من الفرق. وهذا الانتماء الديني يأخذ شكل الإيمان ببعض الأفكار الغامضة عن وجود الإله وبعض المبادئ الأخلاقية العامة الموجودة في معظم الأديان والمنظومات الأخلاقية. وهو إيمان منفصل تماماً عن الشعائر الدينية والإثنية اليهودية، فقد اختفت، بشكل كامل تقريباً، الشعائر الدينية اليومية التي تنظم حياة اليهودي بل واختفت الشعائر الأسبوعية والشهرية ولم يبق سوى الشعائر السنوية ذات الطابع الاحتفالي والتي لا تتطلب أية عملية ضبط للذات. بل، على العكس، يتحول الاحتفال بالشعائر إلى فرصة لتأكيد الذات والإفصاح عنها وإدخال قدر من المتعة عليها. ولذا، تم التركيز على تلك الشعائر ذات القيمة الجمالية أو الإثنية أو تلك التي تشبه بعض الطقوس والشعائر (المسيحية) بحيث يستطيع الجميع الاحتفال بشعائرهم في ذات الوقت وفي رقعة الحياة العامة. وانطلاقاً من هذا، نجد أن الشعائر تأخذ شكل تناول العشاء أو وجبة مطبوخة بطريقة معينة في بعض الأعياد أو إيقاد شموع السبت (لا يقيم شعائر السبت كلها سوى 5% من يهود أمريكا) أو إيقاد شمعدان الحانوخاه في ديسمبر أو تزيين المنزل بشجرة الحانوخاه التي ليس لها أي مضمون ديني (وتشبه تماماً شجرة الكريسماس) . بل وهناك العم ماكس رجل الحانوخاه، بديل بابا نويل أو سانتا كلوز. وهذا اليهودي الجديد قد يذهب إلى المعبد اليهودي ولكنه يفعل ذلك مرة أو مرتين في السنة (عادةً في يوم الغفران وربما في عيد الفصح) . والشعائر تُقام لا باعتبارها شعائر دينية وإنما باعتبارها حدثاً اجتماعياً إذ تحوَّل الزمان الديني المقدَّس (بالإنجليزية: سيكريد تايم sacred time) إلى(3/498)
احتفال عائلي، أي إلى زمن عائلي (بالإنجليزية: فاميلي تايم family time) ، ثم تحول الزمن العائلي بدوره إلى "وقت الفراغ" أو "الويك إند".
ويمكن أن يغالي اليهودي الجديد قليلاً ويصر على ضرورة ممارسة شعائر الطعام الشرعي ولكنه عادةً ما يقيم بعضها لا كلها، كما يمكنه أن يُصر على إقامة احتفال بلوغ سن التكليف (بارمتسفاه) لأطفاله (حتى لا يختلف عن أقرانه المسيحيين ممن يحتفلون بتثبيت التعميد) . ولكن هذا الاحتفال، تماماً مثل الاحتفال بالحانوخاه، مُفرَّغ تماماً من أي مضمون ديني أو حتى أي مضمون إثني حقيقي. فهو حَدَث بورجوازي استهلاكي ضخم يُشبه الاحتفال بعيد الميلاد حين يحتفل الإنسان بميلاده البيولوجي لا بميلاده الديني. وبدلاً من أن يتذكر اليهودي أنه قد وصل إلى السن الذي يجب عليه أن يحمل فيها نير العهد ويُنفذ الوصايا والأوامر والنواهي، فإنه يعقد حفلة فاخرة مكلفة وسوقية (تثير حفيظة كثير من الحاخامات) . وقد لخص أحد الحاخامات الموقف الديني في الولايات المتحدة بقوله: «إن يهود أمريكا قد أصبحوا أقل تديناً وأصبحت يهوديتهم أكثر تأمركاً» . ويمكن إعادة صياغة هذا القول لينطبق على يهود المجتمعات الغربية ككل فنقول: «إن يهود العالم الغربي العلماني قد أصبحوا أقل تديناً وأصبحت يهوديتهم أكثر علمانية» .
أما من الناحية الإثنية، فيُلاحَظ أن اليهود الجدد يتحدثون لغة البلد الذي ينتمون إليه وقد يستخدمون كلمة عبرية هنا وكلمة يديشية هناك من قبيل التظاهر الإثني، ولكن هذا لن يعوق عملية التواصل الرشيد البرجماتي. وتُعَدُّ الإنجليزية، وليس العبرية، لغة معظم يهود العالم إذا أضفنا يهود أستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا وإنجلترا وكندا إلى الأمريكيين اليهود، وهي اللغة التي يتحدثون بها ويحبون ويكرهون ويتعبدون ويدبجون مؤلفاتهم الدنيوية والدينية بها.(3/499)
ومن الواضح أن الحضارة الغربية الحديثة قد بهرت الكثيرين من اليهود وحلت محل ثقافتهم اليهودية التقليدية تماماً. وكما قال أحد المعلقين، فإن يهود العالم الغربي يعرفون موتسارت ومايكل جاكسون، ولكنهم لم يسمعوا قط بموسى بن ميمون ولا يعرفون عن مضمون التلمود شيئاً، وبعضهم يصاب بصدمة عميقة حينما يعرف عن بعض جوانب التلمود المظلمة والسلبية. وغني عن القول أن النسق القيمي الذي يتبناه عامة اليهود الجدد والأمريكيون اليهود هو نسق مادي استهلاكي، شأنهم في هذا شأن عامة جماهير المجتمعات الغربية. والواقع أن الإسهامات الثقافية المتميِّزة ليهود العالم الغربي، في مجالات الأدب والفنون التشكيلية والعلوم، تُعَدُّ من أكبر الشواهد على مدى اندماجهم في هذه الحضارة وتَملُّكهم ناصية مصطلحها. فهي إسهامات غربية علمانية بالدرجة الأولى، وقد تكون لها نبرة يهودية حين تتناول أحياناً موضوعات يهودية، ولكن المجتمعات الغربية لا تُمانع في هذا بتاتاً ما دامت هذه النبرة لا تتعارض مع أداء اليهودي في رقعة الحياة العامة. والعقد الاجتماعي الأمريكي يسمح للأمريكيين بأن يحتفظوا بشيء من عقائدهم الدينية وثقافتهم الأصلية بشرط ألا يتناقض ذلك مع الانتماء الأمريكي الكامل.
ولذا، يستطيع اليهودي أن يُعبِّر عن إحساسه بالانتماء للتراث اليهودي (دون إلمام به) ، وأن يتباهى أمام الجميع بذلك، وأن يشعر بالفخر بالإنجازات اليهودية، ويشتري أعمالاً فنية يهودية (نجمة داود ـ شمعدان المينوراه ـ أعمال شاجال ـ أفلام وودي آلن) ، ويشتري أيضاً بعض الهدايا التذكارية (سوفينير) من إسرائيل، ويُساهم في المناسبات والمؤسسات الخيرية والثقافية اليهودية أكثر من أقرانه من غير اليهود. ولكن كل هذه أمور هامشية بالنسبة لانتمائه لمجتمعه ولأدائه في رقعة الحياة العامة.(3/500)
ولا يتفاعل اليهود الجدد مع ثقافة إسرائيل العبرية إلا باعتبارها ثقافة أجنبية يربطهم بها اهتمام خاص، تماماً مثلما يتفاعل المهاجر الإيطالي مع الثقافة الإيطالية حينما يدفعه الحنين الرومانسي إلىها (نوستالجيا nostalgia) وذلك دون أن يضحي بهويته الأمريكية.
ويُعَدُّ تزايد معدلات الزواج المُختلَط من أهم علامات تآكل الهوية اليهودية وهشاشتها. فقد أصبحت هذه الهوية اليهودية الجديدة، بسبب هامشيتها بالنسبة لسلوك اليهودي في المجتمعات الغربية، لا تُشكِّل عائقاً أمام الزواج المُختلَط. فحينما يقرر شخص غير يهودي، مثلاً، أن يتزوج من يهودي رجلاً كان أو امرأة، فإن انتماء هذا الأخير لا يمس جوهر رؤيته للكون أو لنفسه ولا يؤثر في سلوكه بشكل كبير. فاليهودي، شأنه شأن المسيحي، يؤسس حياته على أسس علمانية، ولذا لا يتردد اليهودي في الزواج من شخص غير يهودي. بل ويُقال إن إعادة تعريف الهوية اليهودية لم تَعُد تشكل فقط حاجزاً أمام الزواج المُختلَط، بل وأصبحت حافزاً على مثل هذا الزواج في المجتمعات العلمانية، حيث يبحث الجميع عن مغامرات جديدة ومغايرة وعن أساليب حياة مختلفة، واليهودي يتيح هذه الفرصة ويُحقق مثل هذه الأمنية لمن يقترن به.(4/1)
ومن أكبر العلامات الأخرى على الاندماج الكامل ما يُعرَف بالاندماج الاقتصادي. فلم يَعُد اليهود يشكلون كتلة اقتصادية مستقلة داخل المجتمعات الغربية. ولم يَعُد لهم هرم وظيفي مستقل عن الهرم السائد في المجتمع (إلا من بعض الجوانب فقط) . كما لا يمكن الحديث عن «رأسمالية يهودية» أو حتى عن «رأسمالية يهودية أمريكية أو إنجليزية» ، فرؤوس الأموال التي يملكها الرأسماليون اليهود إنما هي رؤوس أموال أمريكية أو إنجليزية ليس لها حركية مستقلة أو اتجاه مستقل، أي أنها جزء صغير من كلٍّ أكبر. والرأسمالي أو المهني أو العامل اليهودي لا يواجه مشاكل خاصة به، بل يواجه المشاكل نفسها التي يواجهها أقرانه في الشريحة الاجتماعية نفسها أو في المهن نفسها. ويُلاحَظ أن الأمريكيين اليهود يتركزون في الوقت الحالي في المهن (الطب والجامعات والإعلام ... إلخ) وهو اتجاه آخذ في التعمق باعتبار أن عدد الشباب اليهودي في الجامعات الأمريكية يتزايد على مر الأيام. ولكن هذا هو الاتجاه العام في المجتمعات الاستهلاكية، إذ يزيد قطاع الخدمات تدريجياً بازدياد الرفاهية. ومع تزايد اعتماد المجتمعات الحديثة على الآلات العلمية والإلكترونيات، يزداد احتياج المجتمع إلى المهنيين. وإذا كانت نسبة اليهود المهنيين أعلى من النسبة العامة في الولايات المتحدة، فهذا ليس دليلاً على التمييز العنصري وإنما هو دليل على أن اليهود، باعتبارهم أقلية، يتسمون بقدر من الحركية أعلى من تلك التي يتسم بها بقية أعضاء المجتمع، فيسارعون باغتنام الفرص التعليمية المتاحة ويحققون درجة من الحراك الاجتماعي تزيد عن تلك التي يحققها بقية أعضاء المجتمع، وهم في هذا لا يختلفون عن أعضاء الأقليات الأخرى.(4/2)
ويهود الدول الغربية الحديثة لا يعيشون في جيتوات مقصورة عليهم وإنما يتقرر مكان معيشتهم بحسب دخولهم وبحسب ما تمليه مصالحهم (الطبقية والمهنية والحرفية) . وقد نجم عن هذا أن اليهود الجدد، والأمريكيين اليهود على وجه الخصوص، يعيشون إما في المدن الكبرى أو في مدن صغيرة أو جديدة قريبة من المدن الكبرى (الضواحي) . ويتسبب هذا التوزيع في تشتيت اليهود الجدد، وفي ابتعادهم عما تبقى من مراكز الثقافة اليهودية وعن أقرانهم، وفي اقترابهم من غير اليهود، الأمر الذي يزيد معدل اندماجهم والزواج المُختلَط بينهم. ومن المفارقات التي تستحق الذكر أن الحراك الاجتماعي يُعتبَر من أهم أسباب تَشتُّت اليهود الجدد، وارتقائهم في سلم المجتمع وفي مراحل التعليم العالي، وفي بحثهم الدائب عن أفضل المؤسسات التعليمية وأحسن الفرص الاقتصادية. وتكمن المفارقة في أن القيمة الإيجابية التي يعلقها اليهود الجدد على التعليم هي نفسها التي تسبب انتشارهم، بكل ما يتضمنه هذا الانتشار من سلبيات من منظور التماسك الاجتماعي.
وفي هذا الإطار، سنجد أن توجهات يهود العالم الغربي السياسية (بما في ذلك تأييدهم لإسرائيل والصهيونية) لا يختلف عن الأنماط السياسية السائدة في المجتمع، وأن طريقة تصويتهم في الانتخابات لا تختلف (إلا في بعض التفاصيل) عن النمط السائد في المجتمع. فيُلاحَظ مثلاً أن يهود الولايات المتحدة كانوا يتجهون حتى عهد قريب اتجاهاً ليبرالياً وكان أغلبيتهم يصوتون لصالح الحزب الديموقراطي. وهم، في هذا، لا يختلفون كثيراً عن أعضاء الأقليات الأخرى أو عن سكان المدن. وهم يكونون جماعات ضغط تتحرك داخل النظام السياسي ولكنها لا تختلف في هذا عن الأقليات وجماعات الضغط الأخرى (فالديموقراطية الأمريكية لم تَعُد ديموقراطية انتخابية وإنما صارت ديموقراطية جماعات الضغط) .(4/3)
وقد أدَّى تَزايُد معدلات الاندماج إلى الابتعاد عن التراث أو الموروث الثقافي التقليدي، وبالتالي إلى ضعف الهوية الإثنية الخاصة. ومن المُلاحَظ أن أزمة الهوية والإحساس بالاغتراب، وهما من الموضوعات الأساسية في الأدب الغربي الحديث وفي المجتمعات الغربية، قد أصابا اليهود الجدد أيضاً، ومن هنا بحثهم الدائب عن هوية. والواقع أن هذا البحث ترجم نفسه إلى حاجة نفسية لافتراض وجود ظاهرة معاداة اليهود في كل مكان. ففي غياب أي مضمون إيجابي للهوية، يصبح الآخر المعادي عنصراً ضرورياً لوجودها ومصدراً أساسياً لها. وقد ذكر أحد المعلقين الأمريكيين أن سارتر يرى أن المعادي لليهود إن لم يجد يهوداً لاخترعهم اختراعاً. ولكن الوضع أصبح معكوساً بالنسبة للأمريكيين اليهود واليهود الجدد، فهم إن لم يجدوا أعداء اليهود لاخترعوهم. والمؤسسة الصهيونية تدرك هذه الحاجة النفسية للأمريكيين اليهود، فتقوم بتعميق إحساسهم بالمخاطر الحقيقية أو الوهمية المحيطة بهم والمؤامرات التي تُحاك ضدهم، وتؤكد على الهولوكوست أو الإبادة النازية باعتبارها موضوعاً أساسياً فيما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» وعلى إمكانية قيام أفران الغاز في بروكلين (نيويورك) أو في كولومبوس (أوهايو) أو حتى في باريس (فرنسا) أو موسكو (روسيا) .(4/4)
ولكن الشكل الأساسي للهوية المعلنة بين الأمريكيين اليهود واليهود الجدد بشكل عام هو إعلان انتمائهم الصهيوني بشكل متشنج حتى يضفوا ما يشبه المضمون الإيجابي الصلب على هذه الهوية اليهودية الجديدة الهشة السطحية، فهي تجعل الأمريكي اليهودي فرداً من الشعب اليهودي القديم فخوراً بتراثه ورموزه القومية، خصوصاً الرمز القومي الأكبر، أي الدولة الصهيونية. ولكن، بشيء من التحليل المتعمق، سنكتشف أن يهود العالم الغربي والأمريكيين اليهود قبلوا الصهيونية حسب شروطهم هم. ونحن نقسم الصهيونية إلى نوعين: صهيونية استيطانية، أي أن يهاجر المواطن اليهودي من بلده ويتحول إلى مستوطن صهيوني في فلسطين، وصهيونية توطينية أو صهيونية الغوث والمعونة والهوية، وهذه صهيونية تترجم نفسها إلى تبرعات مالية لإسرائيل للمساعدة في توطين اليهود الآخرين، وإلى تأييد وضغط سياسيين من أجلها، وإلى مصدر من مصادر الهوية، بحيث تصبح إسرائيل بالنسبة لهؤلاء الأمريكيين اليهود هي البلد الأصلي (مسقط الرأس) مثل إيطاليا بالنسبة إلى الإيطاليين وأيرلندا بالنسبة إلى الأيرلنديين ولبنان بالنسبة إلى اللبنانيين، فكأن الأمريكيين اليهود قد تَقبَّلوا الصهيونية بعد أمركتها، تماماً مثلما فعلوا مع اليهودية!(4/5)
لكل هذا، لا يهاجر اليهود الجدد إلا بأعداد صغيرة، فمعدل هجرة الأمريكيين اليهود في السنة هو 1250 فقط (ولعل هذا العدد قد تزايد قليلاً مع انتشار البطالة في المجتمع الأمريكي) ، ولكنهم دائماً على استعداد لإحداث الضوضاء والتظاهر من أجل إسرائيل والكتابة إلى الكونجرس ودفع التبرعات الآخذة في التناقص (لا يُساهم سوى 02% من يهود أمريكا في الجباية اليهودية الموحَّدة،كما لُوحظ مؤخراً أن ما تحصل عليه الجمعيات الخيرية غير اليهودية من أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة يزيد على ما تحصل عليه الجمعيات اليهودية) . وقد لاحظ أحد الدارسين أن الهجرة إلى إسرائيل تتناسب تناسباً عكسياً مع تَصاعُد نبرة هذه الصهيونية التوطينية وازدياد حدتها.
لكن الأهم من هذا كله أن هذه الصهيونية لا تشكل رؤية متكاملة للحياة، فهي لا تتحكم إلا في جانب واحد وسطحي من الشخصية، إذ تظل قيم اليهودي الجديد وهويته المتعيِّنة غربية علمانية استهلاكية. ومما ييسر الأمر بالنسبة إلى اليهود الجدد أنه لا يوجد أي تعارض أو تناقض بين مصالح بلادهم ومصالح إسرائيل التي تمثل هذه المصالح في الشرق الأوسط. فتأييدهم للمُستوطَن الصهيوني لا يختلف في أساسياته (وإن اختلف أحياناً في نبرته) عن تأييد غير اليهود للمشروع الصهيوني. وهو تأييد مؤسِّسي عام تشترك فيه الحكومات الغربية والمؤسسات الإعلامية والثقافية. وحين يُشارك اليهودي الجديد في هذا لا يعدو أن يكون صوتاً في جوقة، يسبح مع التيار لا ضده. ويمكن الزعم بأن تأييد يهود أمريكا لإسرائيل ينبع أساساً من أمريكيتهم، أي من انتمائهم الأمريكي وليس من خصوصيتهم اليهودية.(4/6)
ولكن هذا الانتماء الصهيوني يخبئ كثيراً من التناقضات والمفارقات. فأولاً: إذا كانت إسرائيل هي حقاً البلد الأصلي، فإن هذا يعني أنها البلد الذي هاجر المهاجر منه لا البلد الذي يهاجر إليه، أي أن الأسطورة الصهيونية في محاولة التكيف مع الواقع الأمريكي قضت على نفسها. وثانياً: يساعد هذا الانتماء الصهيوني السطحي على مزيد من الاندماج والانصهار، فهو انتماء إثني لا ديني يُفقدهم ما تبقَّى لهم من انتماء ديني. وحيث إنهم يكتسبون سماتهم الإثنية الحقيقية من مجتمعاتهم، فهم يزدادون في واقع الأمر تأمركاً وعلمنة وتظل الاختلافات بينهم وبين بقية المواطنين باهتة وطفيفة، ويصبح مضمون الحياة اليهودية الوحيد هو دفع التبرعات إلى إسرائيل وحضور المظاهرات التي ينصرف اليهودي الجديد بعدها إلى بيته الوثير في الضاحية، بعد أداء واجبه تجاه هويته اليهودية الجديدة الهشة، ليتمتع بحياة استهلاكية هنيئة ويلتهم كل أنواع الطعام، المباح وغير المباح شرعاً. وقد لاحظ بن جوريون نفسه هذا الوضع حينما ذكر أن صهيونية يهود أمريكا (والعالم الغربي) ليست إلا غطاء لعملية الاندماج السريعة. ويمكن تلخيص الموقف بالقول بأنه من منظور الهوية بين اليهود الجدد، يُوجَد سطح صهيوني لامع تزدهر فيه الهوية الإثنية الوهمية السطحية، وباطن غربي علماني تتآكل فيه الهوية الدينية أو التقليدية وتتشكل داخله الهوية اليهودية الجديدة. وإذا كان الصهاينة قد وصفوا اليهود المندمجين بأنهم المارانو الجدد (أي اليهود المتخفون، مثل يهود إسبانيا الذين اضطروا إلى التنصر، فأظهروا مسيحيتهم وظلوا في الباطن يهوداً) ، فيمكننا أن نصف اليهود الجدد بأنهم مقلوب المارانو، أي أنهم يظهرون اليهودية بطريقة صاخبة ولكنهم يبطنون العلمانية والاستهلاكية والأمريكية.(4/7)
ولكن كل هذا لا يعني عدم وجود تناقضات بين اليهود الجدد والمجتمعات التي ينتمون إليها، كما لا يعني أن كل أشكال التفرقة ضدهم قد اختفت تماماً. فهناك التوتر المتزايد بين الأمريكيين اليهود والسود، وبينهم وبين الكثير من أعضاء الجماعات المهاجرة. وهناك أشكال من التفرقة الاجتماعية غير الملحوظة (نسميه «تحامل» ) . ولكن مثل هذه التناقضات ومثل هذه التفرقة هي جزء من أي كيان اجتماعي. ويشبه وضع اليهود الجدد، في كثير من نواحيه، وضع أية أقلية في أي مجتمع غربي حديث منفتح، وهذا الوضع شيء جديد تماماً بالنسبة إلى يهود العالم الغربي.
يهودي غير يهودي ويهودى بشكل ما
Non-Jewish Jew and Jewish in Some Way
«اليهودي غير اليهودي» هو عنوان أحد كُتب المؤرخ والمفكر التروتسكي إسحق دويتشر. ويذهب دويتشر إلى أن ثمة جانباً عالمياً في اليهودية تَبدَّى في الفكر الثوري العالمي للمفكرين اليهود أمثال إسبينوزا وماركس، فهذا الجانب العالمي دفعهم لأن يطوروا أنساقاً فكرية ثورية عالمية تجاوزت حدود اليهودية بل وحدود كثير من الأنساق الفكرية الأخرى. ومعنى ذلك أن تَحقُّق النزعة العالمية الكامنة في اليهودية يؤدي إلى نفي اليهودية. وهؤلاء المفكرون، في تَصوُّر دويتشر، يمثلون كل ما هو عظيم في الفكر الحديث سواء في الفلسفة أو علم الاجتماع أو الاقتصاد أو السياسة في القرون الثلاثة الأخيرة. ويرى دويتشر أن السمات الأساسية لهؤلاء المهرطقين اليهود هي ما يلي:
1 ـ الإيمان بالحتمية، وبأن العالم يحكمه قانون.
2 ـ الإيمان بأن الواقع في حالة حركة دائمة وليس جامداً.
3 ـ عدم انفصال النظرية عن الممارسة.
4 ـ الإيمان بتضامن البشر في عملية انعتاق إنسانية كاملة.(4/8)
والعناصر الثلاثة الأولى تعني، في واقع الأمر، الإيمان بالمرجعية المادية الكامنة ونموذج الطبيعة/المادة، أما الرابع فهو الإيمان بعقيدة التقدم. ويضيف دويتشر أن هؤلاء المثقفين اليهود المهرطقين يعيشون على حدود الحضارات، وهذا يعمق إيمانهم بصيرورة العالم وبالتضامن الإنساني العالمي.
ويمكن القول بأن المثقفين اليهود غير اليهود لا يختلفون كثيراً عن المثقفين المسيحيين غير المسيحيين. فاليهودي غير اليهودي، هو فرد من أصل يهودي وحسب، فَقَد إيمانه بمنظومته العقيدية، وهو مع هذا لا يختلف عن المثقف من أصل مسيحي الذي فَقَد إيمانه بالعقيدة المسيحية، فالجميع يلتقي في رقعة الحياة العامة والرؤية الأممية العالمية الكوزموبوليتانية. وهذا على كلٍّ هو ميراث عصر الاستنارة الذي يسعى إلى ظهور الإنسان الأممي الذي لا يرتبط بأية خصوصيات قومية أو دينية أو طبقية، وإن ارتبط بشيء فهو شيء أممي عام مثل الحفاظ على البيئة أو مصالح الطبقة العاملة التي ستلغي كل الطبقات وتُحقِّق المجتمع الشيوعي الذي سيسير حسب قوانين الاشتراكية العلمية.
وهناك كثير من النشطاء السياسيين في الأحزاب الشيوعية والحركات الثورية الغربية من أصل يهودي، ولكنهم فقدوا علاقتهم باليهودية وتحولوا إلى ثوريين متطرفين يعملون من أجل المثل الثورية الأممية العالمية النابعة (كما يتصورون) من قوانين الحركة المادية الكامنة والتي تتبدَّى في جدلية التاريخ، ومن ثم فهي مُثُل لا تعرف أية خصوصيات. وقد جعل هؤلاء الثوريون همهم القضاء على ما تبقَّى من جيوب إثنية يهودية (يديشية في معظمها) تحت شعار دمج اليهود في مجتمعاتهم وحل المسألة اليهودية من خلال الطرح الثوري. ومن أهم هذه الشخصيات فرديناند لاسال وكارل ماركس وروزا لوكسمبورج وليون تروتسكي وإيسنر كورت وبيلا كون وراكوس ماتياس وأرنو جيرو ورودولف سلانسكي وآنا بوكر.(4/9)
ورغم العداء الشرس من قبل هؤلاء المثقفين اليهود غير اليهود لليهود واليهودية، ظلت الجماهير الشعبية تصنفهم على أنهم «يهود» ، حتى أن الثورة البلشفية كانت تُدعَى «الثورة اليهودية» . ويعود هذا إلى أن أعداد هؤلاء اليهود غير اليهود في صفوف الحركات الثورية والاشتراكية، بل وفى قياداتها، كان أمرا ملحوظًا. ولكن هناك بُعداً خاصاً للقضية في شرق أوربا (حيث كانت تُوجَد غالبية اليهود وحيث استولت الأحزاب الشيوعية على نُظُم الحكم) . فأعضاء الجماعات اليهودية كانوا يلعبون دور الجماعة الوظيفية في مجتمعاتهم التقليدية، وكانوا أداة قمع في يد الطبقة الحاكمة (فكانوا جامعي الضرائب وكانوا وكلاءهم الماليين والتجاريين) . ووجود اليهود غير اليهود الملحوظ في الأحزاب الشيوعية في شرق أوربا، خصوصاً في النظم الستالينية، جعل الناس يدركون مرة أخرى أنهم جماعة وظيفية يهودية جديدة تلعب مرة أخرى دور العميل لحساب القوة الشيوعية الروسية أو المحلية التي تقوم بابتزازهم. ورغم أن هؤلاء المفكرين والمواطنين الثوريين من اليهود غير اليهود لم يميِّزوا بين اليهود وغير اليهود، وكانوا أداة أمينة في يد نظمهم الحاكمة في عملية القمع، إلا أن العقل الشعبي لا يميل إلى التمييز بين الظلال المختلفة بل يميل إلى إدراك الواقع من خلال نماذج مختزلة له، خصوصاً أن هناك تراثاً تاريخياً يدعم هذا النموذج. ولذلك، فهناك مفارقة تستحق التأمل وهي أنه رغم اختفاء اليهود من هذه البلاد، إلا أن شعوبها لا تزال تمارس عداءً حقيقياً لليهود.(4/10)
ويمكن أن نوسِّع نطاق مصطلح «يهودي غير يهودي» لنشير إلى أي مواطن من أصل يهودي تآكل انتماؤه اليهودي (سواء من الناحية الإثنية أو الدينية) أو اختفى تماماً، فهو إنسان مندمج تماماً في محيطه يُقبل على الزواج المُختلَط ولا يعيش في جيتو أو في أي قسم من أقسام المدينة مقصورة عليه، كما لا يتسم بأي تَميُّز وظيفي أو مهني أو ثقافي فهو من اليهود الجدد أصحاب الهوية اليهودية الجديدة، ورغم كل هذا يُصنَّف على أنه «يهودي» إما من قبَل ذاته أو من قبَل الآخرين، ومن ثم تصبح يهوديته إما شيئاً مفروضاً عليه من الخارج أو ادعاء ليس له ما يسانده لا في سلوكه ولا رؤيته.
1 ـ وإذا كان «اليهودي غير اليهودي» قد صُنِّف يهودياً رغم أنفه (وهذا ما كان يحدث في العالم الغربي حتى الحرب العالمية الثانية) ، فهو عادةً لا يكترث بجوانب سلوكه أو شخصيته التي يسميها الآخرون «يهودية» ، بل يحاول قدر استطاعته أن يبيِّن أنها هامشية ويُحس بالاستياء إن أصر الآخر على مركزية انتمائه اليهودى.
2 ـ يمكن أن نُصنِّف اليهود الخفيّين (بالإنجليزية: إنفيسيبل جوز invisible Jews) ضمن هؤلاء، ففى أثناء الحرب العالمية الثانية آثر الكثير من اليهود أن يخفوا هويتهم خوفا من الاضطهاد النازى، كما أن الفاتيكان أعطى الألوف شهادات تعميد لتسهل لهم عملية الهجرة أو التخفى. وفى الاتحاد السوفيتى كان من حق المواطن اليهودى أن يسجل نفسه روسياً أو أوكرانياً إن شاء، أو يهودياً إن فضَّل ذلك. وقد آثر مئات الألوف تسجيل أنفسهم روساً. ومن أشهر هؤلاء مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية، التى أُكتشف أمرها؛ وكذلك روبرت ماكسويل، الناشر الإنجليزى.
3 ـ ولا شك في أن اليهودي الكاره لنفسه هو أيضاً يهودي غير يهودي.(4/11)
4 ـ بل وعلى المستوى العميق، يمكن القول بأن كل الصهاينة هم «يهود غير يهود» ، فالمضمون اليهودي لحياة معظم صهاينة الغرب يكاد يكون منعدماً، وهم يهود كارهون ليهوديتهم ويودون إلغاء الوجود اليهودي في العالم ليُحلوا محله نمطاً إنسانياً جديداً (طبيعياً) لا يتسم بأي شذوذ أو طفيلية، وهو ما يُسمَّى الإنسان العبري الجديد.
5 ـ بلغ الاختلاط درجة كبيرة حتى أنه ظهرت فى الاحصاءات الخاصة بالجماعات اليهودية فى العالم مقولة جديدة كل الجده وهى «يهودى بشكل ما» (بالانجليزية: جويس إن سم وبى Jewish in some way) وهى مقولة كوميدية لاتختلف عن تعريف سارتر لليهودى بأنه «هو من يشعر فى قرارة نفسه بأنه كذلك» .
6 ـ أما «اليهودي غير اليهودي» الذي يدعي اليهودية ويتباهى بها (وهذا هو النمط السائد بعد وعد بلفور والحرب العالمية الثانية) ، فهو على العكس من ذلك، حيث يتباهى بانتمائه اليهودي مع أن حياته وسلوكه وهويته تكاد تكون خالية تماماً من أي مضمون يهودي ديني أو إثني. وهو يسعى دائماً إلى إبراز جوانب شخصيته التي يتصور أنها يهودية.
فريدريك ستاهل (1802-1861)
Friedrich Stahl
اسمه الأصلي يوليوس شلسنجر. وُلد في بافاريا الكاثوليكية. وهو رجل سياسة وقانون ألماني محافظ وأحد قادة البروتستانتية اللوثرية الألمانية. وُلد لأسرة يهودية وتلقى تعليماً أرثوذكسياً يهودياً، ولكنه تَنصَّر ثم دخل الكنيسة اللوثرية عام 1819، أي وهو بعد في سن السابعة عشرة. وقد كان في هذا مثل عدد كبير من اليهود الألمان في عصره الذين تَنصَّروا لأسباب مختلفة.
درس ستاهل القانون في عدة جامعات ألمانية، وكان نشطاً في الحركات الطلابية، وعمل أستاذاً للقانون الروماني والكنسي. وعُيِّن عضواً في المجلس التشريعي في بروسيا، وعضواً في مجمع الكنيسة البروسية، كما ساهم في إنشاء مجلس الشيوخ في بروسيا وعين عضواً فيه مدى الحياة، وكان قائداً للحزب المحافظ.(4/12)
ويتناول أهم أعمال ستاهل الذي نُشر عام 1829 فلسفة القانون، حيث ينكر في هذا العمل كل العقائد العقلانية وينادي بأن أساس القانون والسياسة هو الوحي المسيحي وأن العرش الزماني لابد من ربطه بالعرش السماوي، أي مُلْك الإنسان بمُلك الإله، كما ينادي بتجنيد الجماهير ضد الليبرالية والديموقراطية.
وباعتباره قائداً للحزب المحافظ، كان ستاهل مسئولاً عن صياغة برنامجه السياسي الذي يُسمَّى برنامج تيفولي، والذي كان ينادي بعدم إعتاق اليهود. وكان ستاهل يؤكد دائماً أن اليهودية متدنية أخلاقياً بالقياس إلى الفولك (الشعب العضوي) الألماني. وقد تأثر بسمارك والمؤرخ الألماني ترايتشكه بأفكار ستاهل الذي يعده بعض المؤرخين المُنظِّر الحقيقي للفكر المحافظ الرجعي الألماني.
وُلد ستاهل ونشأ يهودياً أرثوذكسياً في مقاطعة كاثوليكية، وتَنصَّر ودخل الكنيسة اللوثرية البروسية وأصبح أحد قادتها ومن قادة الحزب المحافظ، وأخذ موقفاً معادياً تماماً لليهود لا من قبيل الانتهازية وإنما انطلاقاً من رؤية محافظة ساهم في صياغتها. ومع هذا، كان المعادون لليهود يشيرون إليه وإلى غيره من المفكرين من أصل يهودي بوصفهم يهوداً، الأمر الذي يُبيِّن مدى سذاجة مثل هذه التصنيفات ومدى عدم جدوى الإصرار على أن المفكر من أصل يهودي يظل بصورة حتمية يهودياً مهما تغيَّرت آراؤه ومواقفه وأفعاله. فمثل هذا الإصرار يؤدي إلى تكوين صورة عن المفكر لا علاقة لها ببنية فكره أو بمواقفه المتعيِّنة.
وقد يكون من التعسف إنكار أن أصول المفكر اليهودية تترك أثرها في فكره، ولكن لا يمكن، بأية حال، رد فكره بقضه وقضيضه إلى أصوله اليهودية.
فرديناند لاسال (1825-1864 (
Ferdinand Lassalle(4/13)
زعيم وفيلسوف اشتراكي ألماني يهودي. وُلد في براسلاو لتاجر ثري، وانضم إلى الحركة اليهودية الإصلاحية وأصبح من أشد المؤمنين بها. وقد درس لاسال في جامعتي براسلاو وبرلين، وتأثر بكتابات هيجل، وانضم لفترة قصيرة لحركة الشباب الهيجلي وعمل على استخدام اليهودية الإصلاحية لضرب اليهودية الأرثوذكسية. وخلال الفترة 1843 ـ 1845، طوَّر لاسال مفهومه حول الاشتراكية الديموقراطية والصناعية التي تستند إلى حكم القانون. وفي عام 1845، انتقل إلى باريس حيث التقى بالشاعر هايني، وتوطدت علاقتهما برغم خلافاتهما العميقة اللاحقة. وقد اشترك في ثورة 1848 أن رؤاهما تباعدت في كثير من الأمور، فتَبنَّى لاسال نهجاً إصلاحياً ونادى بحق الاقتراع العام وبالملكية الدستورية كما أيد القومية ورفض اعتبار الحركة القومية السلافية في روسيا معادية للثورة.
وقد أسس لاسال عام 1863 الجمعية العامة للعمال الألمان والتي تطورت فيما بعد لتصبح الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني. وكانت زعامته لهذه الجمعية ومعاداته للحركة الليبرالية أحد أسباب التقارب بينه وبين بسمارك الذي كان أيضاً معادياً للبيراليين. وقد أدَّت هذه العلاقة إلى اتهام لاسال بخيانة الطبقة العاملة وبالانتهازية السياسية.
وبرغم اهتمام لاسال في شبابه بالعقيدة اليهودية، وخصوصاً اليهودية الإصلاحية، إلا أنه رفضها فيما بعد واعتبرها مرحلة ضرورية في التطور الإنساني في الماضي، ولكنها لا تُعتبَر ذات قيمة أو نفع في الوقت الحاضر، وكان في رأيه هذا متأثراً بهيجل. كما أشار لاسال أنه لا يعتبر نفسه يهودياً، ولا يرى في اليهودية سوى البقايا الفاسدة لماض عظيم غابر، وأن اليهود بعد قرون من العبودية اكتسبوا خصائص العبيد. وقد لقي لاسال مصرعه في مبارزة دفاعاً عن شرفه حين رفضت أسرة خطيبته الكاثوليكية قبوله زوجاً لها بسبب أصوله اليهودية وماضيه الثوري.
كورت إيسنر (1867-1919 (
Kurt Eisner(4/14)
زعيم اشتراكي ألماني يهودي ومؤسس الجمهورية البافارية وأول رئيس وزراء لها. وُلد في برلين لأب ثري يعمل بالتجارة، واشتغل في الصحافة فساهم في تحرير عدد من الصحف الألمانية. وأظهر كورت إيسنر اهتماماً شديداً بالفلسفة فدرس مع هرمان كوهين وله دراسة عن نيتشه. وفي عام 1910، أصدر جريدة نالت شعبية كبيرة. ومع اندلاع الحرب العالمية، عارض بشدة الأطماع الإمبريالية للحكومة الألمانية وسياستها الحربية. وفي عام 1918، حُوكم وسُجن بتهمة الخيانة بعد مشاركته في إضراب عمالي مطالباً بالسلام في ميونيخ، وقد أُفرج عنه بعد عدة أشهر فقام بترشيح نفسه عن الحزب الاشتراكي الديموقراطي المستقل في الانتخابات البرلمانية. وفي نوفمبر من العام نفسه، تَزعَّم كورت إيسنر الانتفاضة الثورية التي جرت في ميونيخ ثم اختير رئيساً لمجلس الوزراء في الجمهورية البافارية الجديدة. ولكي يفضح مسئولية الحكومة الألمانية عن الحرب، قام بالكشف عما جاء في تقارير الحكومة البافارية وسفارتها في برلين. وقد أدَّى ذلك إلى اتهامه من قبل أعدائه بالتعاون مع دول الحلفاء وتَلقِّي الرشاوى منهم لإشعال الثورة في ميونيخ. وفي عام 1919، اغتيل كورت إيسنر وهو في طريقه إلى البرلمان لكي يقدم استقالة حكومته بعد أن أحرز حزبه (الحزب الاشتراكي المستقل) نتائج ضعيفة في الانتخابات، وكان قاتله من أصل يهودي. ومما يُذكَر أن إيسنر نفسه كان ملحداً، أي يهودياً غير يهودي. ومع هذا، استفادت الدعاية النازية المعادية لليهود من وجود إيسنر وغيره في صفوف الحركة الاشتراكية لتتحدث عن المؤامرة اليهودية ضد الشعب الألماني.
بيلا كون (1886-1935)
Bela Kun(4/15)
مؤسس الحزب الشيوعي المجري، وأحد أهم الزعماء الشيوعيين. وُلد لأسرة يهودية من الطبقة الوسطى إذ كان أبوه من صغار التجار، ولكنه كان علمانياً تماماً ولا علاقة له باليهودية. وانضم إلى الحزب الديموقراطي الاشتراكي وهو بعد في السادسة عشرة من عمره. فعمل صحفياً في جريدة الحزب وكاتباً في الحزب ومديراً في قسم التأمينات الخاص بالحزب ثم فُصل لسوء سلوكه. انضم للجيش وكان يعمل ضابطاً برتبة ملازم في جيوش الإمبراطورية النمساوية المجرية فأَسَرته القوات الروسية عام 1916. وحين نشبت الثورة، انضم إلى البلاشفة وأصبح تابعاً متحمساً للينين وقام بتجنيد الأسرى لصالح الحركة الثورية.(4/16)
عاد بيلا كون إلى المجر عام 1918وساهم في تأسيس الحزب الشيوعي المجري وجريدته وكتب العديد من الكتيبات الثورية، واشترك في الثورة التي أتت بالحزب الديموقراطي الاشتراكي وبالحزب الراديكالي للحكم. وقد حاول بيلا كون أن يطيح بالنظام الحاكم ولكنه سُجن في فبراير 1919. ثم أُفرج عنه في 21 مارس 1919 وهو اليوم نفسه الذي أُعلنت فيه المجر جمهورية سوفيتية، فعُيِّن قوميساراً للشئون الخارجية والعسكرية وأصبح القائد الحقيقي للوزارة والدولة. وكانت الوزارة (التي كان ثلثا أعضائها من اليهود) عبارة عن ائتلاف من الاشتراكيين والبلاشفة، فعمل بيلا كون على القضاء على العناصر المعتدلة وأعلن ديكتاتورية البروليتاريا، وأمم البنوك ورؤوس الأموال الكبيرة والملكيات الزراعية الكبيرة. وقد نجح بيلا كون في بادئ الأمر إذ كوَّن جيشاً شيوعياً أحمر قوياً صد هجوم التشيك والرومانيين واستعاد الأراضي المجرية التي كانت قد استولت عليها كلٌّ من تشيكوسلوفاكيا ورومانيا. ولكن الضربات بدأت تتوالى بعد ذلك، فامتنع الفلاحون عن تزويد المدن بالمحاصيل الزراعية بعدما رفض بيلا كون توزيع الأرض عليهم بعد أن أممها، وتحالف ملاك الأراضي والطبقة الوسطى ضد تأميم الملكية وضد الإجراءات الثورية المختلفة (مثل تقويض دعائم الثقافة القومية وإقامة محاكم ثورية) وضد سوء سلوك البيروقراطية الثورية. وعلى مستوى الجبهة الخارجية، طالبه كلمنصو بسحب قواته. وانهارت شبكة توزيع الطعام تماماً، ورفض الجيش أن يحارب ضد الرومانيين مما أدَّى إلى هزيمته، ففرَّ في أغسطس من العام نفسه إلى النمسا (حيث سُجن ووضع في مصحة عقلية بعض الوقت) ومنها ذهب إلى موسكو حيث عُيِّن قوميساراً سياسياً للجيش الأحمر في الجنوب، ثم عُيِّن قوميساراً مدنياً لشبه جزيرة القرم حيث تَعامَل بصرامة بالغة مع العناصر المعارضة للبلاشفة. وقد كان بيلا كون عضواً في المجلس التنفيذي للكومنترن حيث ساهم في تشجيع(4/17)
النشاط الشيوعي العلني في ألمانيا والنشاط السري في المجر. ويبدو أنه عارض في عام 1937 سياسة الجبهة المتحدة وطالب باتباع الطرق الثورية على طريقة البلاشفة الأصليين، فقُدِّم للمحاكمة واتُهم بالتروتسكية وسُجن، ويُقال إنه أُعدم (ولكن الأرجح أنه كان مصاباً بالسكر، فأُفرج عنه وعُزل عن الحياة العامة) . ولبيلا كون مؤلفات عديدة عن الشيوعية، كما أنه كتب عدة مقالات أثناء إقامته في فيينا، وحرَّر إحدى المجلات الشيوعية أثناء إقامته في موسكو، وعُيِّن مديراً لإحدى دور النشر أثناء وجوده في موسكو.
وبيلا كون ليست له أهمية تُذكَر من منظور يهودي، لأنه كما أسلفنا فَقَد انتماءه الديني والإثني (مثل كثيرين من يهود المجر) ـ فهو، إذن، يهودي غير يهودي. ولفهم سلوكه، لابد من فهم حركيات التاريخ الغربي والحركة الثورية فيها وكذلك موازين القوى بين الدول المختلفة وتطورات الفكر السياسي السوفيتي. أما يهوديته، فهي لا تمثل سوى دور ثانوي للغاية. وقد قدَّمنا سيرته هنا لا باعتباره يهودياً وإنما باعتباره نموذجاً متطرفاً لشخص يُصنَّف بوصفه يهودياً مع أن سلوكه لا يمكن تفسيره إلا بالعودة للحركيات الاجتماعية العامة.
ماتياس راكوسي (1892-1971 (
Matyas Rakosi
سياسي وزعيم مجري شيوعي يهودي درس في بودابست ثم اشتغل كاتباً في بنك. وعاش لفترة قصيرة في إنجلترا حيث انضم إلى الحركة الاشتراكية. وخلال الحرب العالمية الأولى، قاتل في صفوف الجيش النمساوي المجري ولكنه وقع في أسر القوات الروسية عام 1915وأمضى عاماً في معسكر لأسرى الحرب.(4/18)
وبعد اندلاع الثورة البلشفية انضم للحزب الشيوعي وعاد عام 1919 إلى المجر مع الحكم الجمهوري السوفيتي الجديد بها تحت قيادة بيلا كون. وبعد سقوطه في العام نفسه، هرب إلى الاتحاد السوفيتي. وفي عام 1924، عاد إلى المجر سراً لتنظيم وإحياء الحزب الشيوعي المحظور ولكنه وقع في أيدي السلطات وحُكم عليه بالإعدام. وكان لتَدخُّل بعض المفكرين الأوربيين البارزين لصالحه الفضل في تخفيف الحكم إلى السجن مدى الحياة.
وفي عام 1940، تم الإفراج عنه وانتقل إلى موسكو حيث تَزعَّم المنفيين المجريين. وفي عام 1944، عاد إلى المجر حيث عمل على إعادة تنظيم الحزب الشيوعي المجري. كما تولى في الفترة ما بين عامي 1945 و1948 منصب نائب رئيس الحكومة الإئتلافية. وقد نجح خلال هذه الفترة في إخراج العناصر غير الشيوعية من الائتلاف الحاكم، وعمل بعد ذلك على إبعاد وإسكات جميع التيارات والاتجاهات المعارضة للحكم حتى بين صفوف الشيوعيين. وقد تولى عام 1952 رئاسة الوزراء، وتَبنَّى سياسة ستالينية صارمة. وبعد وفاة ستالين، تعرض لانتقادات حادة من جانب القيادة السوفيتية الجديدة، خصوصاً بسبب فشل سياسته الاقتصادية، الأمر الذي دفعه للاستقالة عام 1953، ولكنه عاد مرة أخرى لرئاسة الوزراء عام 1955 واستمر في ذلك حتى عام 1956 حينما استقال قبل اندلاع أحداث الانتفاضة المجرية بفترة قصيرة. وقد اضطر راكوسي إلى الفرار مرة أخرى إلى الاتحاد السوفيتي في أعقاب هذه الأحداث ولم يَعُد إلى المجر حتى بعد قمع الانتفاضة إلا قبل وفاته بقليل. وقد طُرد من الحزب الشيوعي عام 1962.(4/19)
لم يُبد راكوسي أي اهتمام بالشئون اليهودية، بل وحاول إخفاء أصله اليهودي، كما أنه كان مناهضاً للصهيونية، وقدم الكثير من الصهاينة للمحاكمة، فهو إذن «يهودي غير يهودي» على حد تعبير إسحق دويتشر. وقد لعب هؤلاء اليهود غير اليهود دوراً كبيراً في نشر الشيوعية في شرق أوربا وفي حكوماتها الشيوعية بعد ذلك. وقد تأثر كثير من أعضاء الجماعة اليهودية في المجر تأثراً سلبياً من سياسات راكوسي الاقتصادية التي أدَّت إلى تأميم المؤسسات التجارية الخاصة وإلى نقل آلاف السكان خارج العاصمة وغيرها من المدن الكبيرة. ولكنه، مع هذا، ظل يُصنَّف على أنه «يهودي» .
ادعاء اليهودية
Claiming Jewishness
«ادعاء اليهودية» هو أن يدَّعي شخص غير يهودي، وليست له أية جذور يهودية على الإطلاق، أنه يهودي. والمصطلح نفسه ينطبق على يهودي مندمج تماماً (يهودي غير يهودي) نسي يهوديته، ولكنه تحت ظروف معيَّنة يدَّعي أنه يهودي. وهذه الظاهرة ظاهرة حديثة تماماً، فعبر التاريخ كان «التهوّد» يعني الانضمام لأقلية لها طقوسها وشعائرها ووظائفها التي تعزلها عن المجتمع، والتي لها وضع مختلف عن وضع الأغلبية، ولذا لم يكن هناك أي مبرر لادعاء اليهودية.
وقد ظل الوضع كذلك إلى أن ظهرت الحركة الصهيونية وأُقيمت دولة إسرائيل التي فتحت أبوابها للمهاجرين (بخاصة من الدول الغربية) وقدَّمت لهم هي والحركة الصهيونية تسهيلات مادية وعينية مختلفة ومنحاً مالية مباشرة. وقد شجع هذا بعض العناصر اليهودية ممن فقدوا علاقاتهم باليهودية على إعادة اكتشاف هذه العلاقة حتى يمكنهم عن طريقها تحقيق المزايا المادية. ولكن الظاهرة ظلت هامشية إلى حدٍّ كبير.(4/20)
ومع هجرة اليهود السوفييت في بداية التسعينيات (والتي تزامنت مع تآكُل الاتحاد السوفيتي ثم سقوطه) ، تفاقمت الظاهرة حتى أن كثيراً من «اليهود المتخفين» ، أي المواطنين السوفييت من أصل يهودي، الذين سجلوا أنفسهم على أنهم غير يهود (وهو أمر كان يسمح به القانون السوفيتي) ، بدأوا يؤكدون هويتهم اليهودية المزعومة، وانضمت لهم بأعداد متزايدة عناصر غير يهودية على الإطلاق (من بينها عناصر مسيحية بل ومسلمة) . ويُقال إن ما بين نصف أو ثلث المهاجرين اليهود السوفييت في التسعينيات غير يهود (مدعو اليهودية أو زوجات وأزواج غير يهود) .
ولا يقتصر الأمر على الاتحاد السوفيتي (سابقاً) ، فمن المعروف أن عدد اليهود في مدينة مكسيكوسيتي كان يبلغ حوالي عشرة آلاف ثم قفز إلى 35 ألفاً في عام واحد بعد أن بدأت بعض المنظمات اليهودية الأمريكية تقديم العون للجماعة اليهودية في المكسيك.
وقد تكررت الظاهرة مرة أخرى في إثيوبيا، فالفلاشاه ليسوا يهوداً بالمعنى الحاخامي، ومع هذا سُمح لهم بالهجرة إلى إسرائيل. ثم بدأ الفلاشاه موراه بالمطالبة بالهجرة باعتبارهم يهوداً، مع أنهم فلاشاه تَنصَّروا منذ قرنين من الزمان.(4/21)
ويرى الإسرائيليون أن العبرانيين السود أو اليهود السود (من الولايات المتحدة) مدَّعو اليهودية. وفي الأعوام الأخيرة، بدأت الظاهرة تأخذ شكلاً حاداً إذ بدأ أفراد بعض القبائل في آسيا وأفريقيا يعلنون أنهم «يهود» (من نسل القبائل العبرانية العشر المفقودة) ومن ثم يحق لهم الهجرة إلى إسرائيل بمقتضى قانون العودة. وبعض هذه القبائل تُوجَد في شعائرها بالفعل عناصر عبرية أو يهودية، ولكنها لا تجعل عقيدتهم عقيدة يهودية (بأقصى المعايير تسامحاً بل ونسبية) ومن ثم لا يمكن تصنيف أعضائها على أنهم يهود. ولكن معظم أعضاء الجماعات اليهودية لا يعترفون بمعيارية اليهودية الحاخامية. وقد عرَّفت المحكمة الإسرائيلية العليا اليهودي بأنه من يرى نفسه كذلك. وهذا يخلق ورطة حقيقية للمُستوطَن الصهيوني. ولذلك، فقد تعالت الأصوات ولأول مرة في تاريخ الصهيونية مطالبة بإلغاء قانون العودة.
أغيار يتحدثون العبرية
Heberw-Speaking Gentiles
«أغيار يتحدثون العبرية» مصطلح صكه عالم الاجتماع الفرنسي (اليهودي) جورج فريدمان في كتابه موت الشعب اليهودي ويستخدمه للإشارة إلى جيل الصابرا الإسرائيلي، فهم من وجهة نظره يختلفون تماماً عن يهود العالم (يهود المنفى) ، وهويتهم لا علاقة لها بما يُسمَّى «الهوية اليهودية» . ولذا، فهم ليسوا يهوداً وإنما أغيار وحسب، حتى وإن كانوا يتحدثون العبرية. والمصطلح تعبير عن إشكالية الهوية أو الهويات اليهودية.
أعضاء الجماعات اليهودية وقضية الهوية القومية
Members of Jewish Communities and the Issue of National Identity(4/22)
ما يُقال له «المسألة اليهودية» هو، في جانب أساسي منه، مشكلة «الهوية اليهودية» في التشكيل الحضاري الغربي. وتعود بجذورها إلى العصور الوسطى في الغرب إذ أن أعضاء الجماعات اليهودية لعبوا هناك دور الجماعة الوظيفية الوسيطة كتجار ومرابين، الأمر الذي أدَّى إلى عزلهم عن بقية أعضاء المجتمع. ومما دعم هذه العزلة، علاقات الجماعة الوظيفية اليهودية (في كل بلد أو مدينة أوربية) مع الجماعات الوظيفية اليهودية الأخرى في أنحاء العالم الغربي والإسلامي، وهي علاقات كانت تشكل ما يشبه النظام المصرفي والائتماني العالمي. وقد خلقت هذه العلاقات وهم الوحدة، بحيث كان المراقب الخارجي يتصور أن اليهود يشكلون وحدة قومية بسبب علاقاتهم التجارية والمالية، وَهْم في الواقع جماعات غير متجانسة تنتمي إلى تشكيلات حضارية مختلفة ويربطها رباط الوظيفة الاقتصادية والاجتماعية (وهذا ما سماه أبراهام ليون «الطبقة/الأمة» ) . ومن أسباب تدعيم العزلة، أيضاً، التصور المسيحي لهم باعتبارهم قتلة المسيح والشعب الشاهد (على عظمة الكنيسة وصدقها) . وقد تَبدَّى كل هذا في شكل استيطان وتوطين اليهود في الجيتو. وهذه بالطبع صورة نموذجية مثالية تختلف كثيراً عن الواقع الحي الذي كان أكثر تماوجاً وتركيباً.(4/23)
وقد ظل هذا الوضع قائماً في أوربا، بصور مختلفة، حتى القرن السابع عشر، حين بدأت تظهر الطبقات البورجوازية المحلية (المسيحية) ثم الدول المطلقة ووريثتها الدولة القومية الحديثة التي بدأت تضطلع بكل وظائف الجماعات الوظيفية، وهو ما أدَّى إلى الاستغناء عنها، وانهيار الهيكل القانوني والسياسي الذي كان يجسد عملية الفصل بين الطبقات من ناحية، والجماعات الدينية والإثنية التي كانت تدار على أساسها الدولة في المجتمع التقليدي من الناحية الأخرى. وقد طالبت الدولة القومية الحديثة أعضاء الجماعات اليهودية وكل الأقليات بالتخلص من خصوصيتهم الدينية أو الإثنية أو العرْقية، وبأن يقوموا بإعادة تعريف هويتهم بشكل يتفق مع ما تتطلبه من ولاء قومي كامل من كل المواطنين، وحاولت تخليصهم من تمايزهم الوظيفي والاقتصادي. وهذه عملية يمكن أن نطلق عليها مصطلح «تحديث الهوية» أو «علمنة الهوية» . وتتم هذه العملية وتكتمل حينما يتحول أعضاء الجماعة اليهودية من جماعة وظيفية وسيطة إلى أعضاء في الطبقة الوسطى، أو أيٍّ من الطبقات الأخرى في المجتمع.(4/24)
ومن منظور التحديث، يمكننا أن نقول إن هويتين يهوديتين أساسيتين ظهرتا في التشكيل الحضاري الغربي في القرن التاسع عشر، أولاهما، الهوية اليهودية في مجتمعات غرب أوربا ووسطها، في إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، وفي ألمانيا بدرجة أقل، ثم في الولايات المتحدة، وهي مجتمعات تتسم بأنها لم تكن تضم أعداداً كبيرة من أعضاء الجماعات وبأن عملية التحديث نجحت فيها إلى حدٍّ كبير، وتم إعتاق أعضاء الجماعات وإعطاؤهم حقوقهم السياسية والمدنية، كما تم دمجهم في المجتمع اقتصادياً وثقافياً، حيث أصبح الاندماج هو المثل الأعلى. وقد نشأت، في هذا الإطار الاندماجي، اليهودية الإصلاحية التي فصلت الهوية الدينية عن الهوية القومية أو الإثنية تماماً، وعرَّفت الهوية اليهودية تعريفاً دينياً خالصاً. وقد أنجزت اليهودية الأرثوذكسية أمراً مماثلاً بأن جعلت هوية اليهودي مسألة دينية أساساً، وجعلت تحقيق الجانب القومي من العقيدة اليهودية مرتبطاً بالإرادة الإلهية، وهو كما تَقدَّم الحل التقليدي الذي طرحته اليهودية الحاخامية للإشكالية المشيحانية. وقد اندمج يهود هذه المجتمعات اندماجاً كاملاً، وكانوا يتحدثون الفرنسية في فرنسا والإنجليزية في كلٍّ من إنجلترا والولايات المتحدة. والهوية اليهودية في ألمانيا، وفي كثير من بلاد وسط أوربا، تنتمي إلى النمط نفسه رغم اختلاف الظروف، ولا يمكن فهم هوية الجماعات اليهودية في هذه البلاد إلا في السياق الحضاري لكلٍّ منها. وبالتدريج تراجع البُعد الديني مع تَصاعُد معدلات العلمنة فأعيد تعريف الهوية اليهودية على أساس إثني علماني ولكن البُعد اليهودي (الإثني والديني) ظل هامشياً للغاية. ولذلك، تأخذ التطلعات القومية اليهودية ليهود الغرب، إذا وُجدت، شكل حنين ديني للعودة إلى صهيون (الروحية) إن كان اليهود من المتدينين. أما إذا كانوا من العلمانيين، فإنها تأخذ شكل حماس عاطفي لهويتهم الإثنية، لا يترجم نفسه أبداً إلى هجرة(4/25)
استيطانية وإنما يأخذ شكل صهيونية توطينية، أي ينصرف إلى توطين اليهود الآخرين حتى يحموا مواقعهم الطبقية ومكانتهم الاجتماعية. وهذه هي هوية ما بعد الانعتاق أو الهوية اليهودية بعد تحديثها أو الهوية اليهودية الجديدة.
أما الهوية اليهودية الثانية، فقد نشأت في مجتمعات شرق أوربا بين يهود اليديشية، خصوصاً في بولندا وروسيا. وهذه مجتمعات دخلت العصر الحديث متأخرة وسادت فيها (في القرن التاسع عشر) ظروف تشبه الظروف السائدة في العالم الثالث في الوقت الحاضر، إذ تعثَّر فيها التحديث لسنوات طويلة ابتداءً من عام 1882، كما أنها كانت تضم أعداداً ضخمة من أعضاء الجماعات اليهودية، بل معظم يهود العالم. وكان أعضاء الجماعات اليهودية في هذه المجتمعات يتحدثون اليديشية في محيط سلافي، ويؤمنون باليهودية في محيط مسيحي أرثوذكسي محافظ. كما أن روسيا كانت تأخذ شكل إمبراطورية مُكوَّنة من قوميات لكل منها لغتها وثقافتها. ولذا، لم يكن اليهود، كتَجمُّع له ثقافته ولغته، يمثل استثناءً كبيراً. وقد بُذلت محاولات، في نهاية القرن التاسع عشر، لصبغ اليهود، وغيرهم من الجماعات، بالصبغة الروسية أو البولندية. ولكن، مع تَعثُّر التحديث، توقفت هذه المحاولات.
وداخل هذا الإطار، وفي هذه المرحلة (أواخر القرن التاسع عشر) طُرحت في شرق أوربا عدة تصورات للهوية اليهودية تستند إلى تجربة أعضاء الجماعات اليهودية في تلك المنطقة. فكان هناك التصور الاندماجي الذي يشبه تَصوُّر يهود الغرب للهوية. ولكن، كان هناك تصوران آخران هما اللذان قُدِّر لهما الشيوع في صفوف يهود شرق أوربا.
أ) قومية الدياسبورا:(4/26)
حاول دعاة قومية الدياسبورا (سيمون دبنوف، وحزب البوند) ، المتأثرون بتجربة يهود شرق أوربا وتراثهم، أن يعرِّفوا الهوية اليهودية تعريفاً ثقافياً أو تراثياً وحسب، بإسقاط الجانب الديني تماماً، إذ رأوا أن الهوية اليهودية هي أساساً انتماء إلى التراث الثقافي اليهودي. كما لم يربطوا هذا التراث بفلسطين أو بأي مركز محدَّد آخر، فهم يرون أن مركز اليهودية الثقافي ينتقل من بلد إلى آخر. كما أنهم يرفضون أي إطار عالمي لليهودية، ولا يعترفون بوجود ثقافة يهودية عالمية، ويرون أن كل جماعة يهودية مرتبطة بحركيات تاريخية مختلفة ولها هوية مختلفة وتراث يهودي مختلف، ولذا فإن كل جماعة تبحث عن حلول لمسألتها داخل حدود تاريخها الخاص والمتعيِّن وخارج أية رؤية تاريخية عالمية. ولهذا، يمكن القول بأنهم لا يتحدثون في واقع الأمر عن «قومية الديسبورا» (كما يتوهمون) ، وإنما عن هوية يهودية شرق أوربية (يديشية) متفاعلة مع التشكيل الحضاري الذي تُوجَد فيه. وانطلاقاً من تلك الرؤية، يرى دعاة قومية الدياسبورا أن اللغة التي تُعبِّر عن هذه الهوية اليهودية ليست العبرية (اللغة الدينية العالمية لليهود) ، وإنما اليديشية. وحينما استأنفت الثورة البلشفية عملية التحديث في روسيا، ناصبت حزب البوند العداء لأسباب سياسية في البداية، كما رفضت تَصوُّره للهوية اليهودية المحدودة الشرق أوربية، ولكنها عادت في الثلاثينيات واعترفت بها وبلغتها المستقلة وبشخصيتها الثقافية المستقلة التي يمكن أن تتحقق داخل الإطار السوفيتي. وانطلاقاً من ذلك، حددت مقاطعة بيروبيجان، كمقاطعة مستقلة، لغتها الرسمية اليديشية. وكان بإمكان هذه المقاطعة، من الناحية النظرية، أن تتحوَّل إلى جمهورية مستقلة (داخل اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية) لو هاجر إليها عدد كاف من اليهود. وقد ظلت الهوية اليديشية مزدهرة في الفجوة الزمنية بين تَعثُّر التحديث واستئنافه في الاتحاد السوفيتي(4/27)
وبين هجرة يهود شرق أوربا إلى الولايات المتحدة واندماجهم فيها، وهي تقع على وجه التقريب بين بداية القرن الحالي وأواخر الأربعينيات. ولكن مع تَصاعُد معدلات التحديث والعلمنة بدأت الهوية اليديشية في التآكل السريع، وساهم النازيون في القضاء على البقية الباقية من هذه الهوية، ومع الستينيات لم يَعُد للهوية اليديشية من أثر في العالم.
ب) الحل الصهيوني:
حاول الصهاينة العلمانيون، أو اللادينيون، إعادة تعريف الهوية اليهودية تعريفاً يؤكد الجانب القومي ولا يُعنى بالجانب الديني إلا بمقدار تعبيره عما يُسمَّى «القومية اليهودية» . وقد أسس هؤلاء مجتمعهم الصهيوني استناداً إلى هذه الرؤية. ومع هذا، ظهرت داخل الحركة الصهيونية جماعات من الصهاينة المتدينين الذين يرون أن الدين اليهودي والقومية اليهودية هما شيء واحد، وأن الهوية اليهودية هويةٌ قومية دينية، الأمر الذي أدَّى إلى تصعيد التفجرات داخل الكيان الصهيوني.
التعاريف الصهيونية للهويات اليهودية
Zionist Definitions of Jewish Identities(4/28)
تُعَدُّ الصهيونية، في أحد جوانبها، محاولة لإعادة تعريف اليهود تعريفاً يتفق مع وضعهم الجديد في الغرب بعد ظهور الدولة القومية العلمانية وعصر الإعتاق وسقوط الجيتو. وهي، من هذا المنظور، واحدة من كثير من المحاولات اليهودية الأخرى، مثل: اليهودية الإصلاحية، واليهودية الأرثوذكسية، وقومية الدياسبورا. وينطلق الصهاينة اللادينيون من تعريف للهوية هو في جوهره علمنة لكثير من الأفكار القومية الكامنة في التراث الديني اليهودي. فهم يرون أن ثمة هوية قومية يهودية واحدة متميزة متجانسة تفرق بين اليهود وسواهم من أقوام وشعوب في كل زمان ومكان، وأن ثمة مصدرين لها. أما المصدر الأول، فهو الضغوط من الخارج، أي أن مصدر الهوية اليهودية ليس من داخل اليهودية ذاتها وإنما هو مجرد رد فعل لهجمات أعداء اليهود عليهم، باعتبار أن اليهود جسم قومي غريب في أوطان الآخرين. ومن جهة أخرى يرى بعض الصهاينة المتأثرين بالخطاب الاشتراكي أن مصدر الهوية اليهودية هو الوضع الطبقي المتميِّز لليهود في المجتمع الغربي كجماعة وظيفية وسيطة. واليهودي، بحسب الرؤية السابقة، يكتسب هويته من الغير، وهو تعريف أخذ به معظم الصهاينة الأوائل مثل: تيودور هرتزل، وماكس نوردو، وأهارون جوردون، وغيرهم. ويبدو أن هذا كان الاتجاه السائد في أوربا. فعلى سبيل المثال، صرح كارل ليوجر (المرشح المعادي لليهود لمنصب عمدة فيينا) بأنه هو الذي يحدد من هو اليهودي.(4/29)
لكن معظم الاتجاهات الصهيونية لا تأخذ بهذا الرأي الآن، وتطرح تصوراً للهوية اليهودية على اعتبار أنها شيء نابع من مصدر آخر هو حركيات ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» المرتبط بفلسطين (إرتس يسرائيل في الخطاب الديني) . وهذا المجال الزماني المكاني هو المجال الوحيد الذي تستطيع فيه هذه الهوية أن تُعبِّر عن نفسها تعبيراً كاملاً، مثلما حدث تحت حكم المملكة العبرانية المتحدة (أو الكومنولث الأول) وحكم الدولة الحشمونية (أو الكومنولث الثاني) ، إلى أن تم هدم الهيكل.
ويرى الصهاينة أن هويات يهود المنفى المندمجين ليست إلا انحرافاً عن مسار هذا التاريخ. ولذا، فهم ينطلقون في تعريفهم الهوية اليهودية «الحقة» من انتقاد جذري لهذه الهويات، مستخدمين كثيراً من أطروحات أدبيات معاداة اليهود. فاليهود المندمجون شخصيات مريضة مصابة بالازدواج والانقسام، مشوهة وهامشية، وهم يحاولون إخفاء هويتهم اليهودية الحقة المتأصلة ويبذلون قصارى جهدهم في إظهار هويتهم غير اليهودية المُكتسَبة والإعلان عنها بشكل مُقزِّز، الأمر الذي يجعلهم يشبهون القردة التي تقلد ما لا تعي. وستُلغَى كل هذه الأوضاع الشاذة حالما يؤسس الصهاينة وطناً قومياً تتمكن الشخصية اليهودية من خلاله التعبير عن نفسها بشكل سوي تعبيراً كاملاً، بحيث يصبح اليهود شعباً مثل كل الشعوب. وسيحقق اليهود من خلال الدولة، وبوصفهم شعباً، ما فشلوا في تحقيقه بوصفهم أعضاء في مجتمعاتهم. وهذا ما يُسمَّى في المصطلح الصهيوني «تطبيع الشخصية اليهودية» . وبحسب الرؤية الصهيونية، فقد بدأت هذه العملية بالفعل في عام 1948ـ عام إعلان الدولة الصهيونية (الكومنولث الثالث) . لكن تطبيع اليهود لا يعني تصفية الهوية اليهودية وإنما يعني منحهم هوية يهودية جديدة سوية؛ هوية اليهودي الخالص (اليهودي مائة بالمائة على حد قول بن جوريون) . وقد طُرحت تصورات عدة لمصدر يهودية هذا اليهودي الخالص ولسماته وجوهره:(4/30)
1 ـ التعريف العرْقي:
يُصُّر المدافعون عن هذا التعريف على رؤية اليهود كعنصر عرْقي متميِّز، ولذا فهم يتحدثون عن «الجنس اليهودي» وعن اليهود باعتبارهم «جنساً متميِّزاً» . وقد عرَّف كثير من الزعماء الصهاينة اليهودية بأنها «مسألة تتعلق بالدم» . وانطلاقاً من ذلك، يرى الصهاينة أن التزاوج مع الأجانب سيؤدي إلى تدهور العرْق اليهودي، وأنه لابد من تأسيس وطن قومي (لهذا الجنس الفريد) ودولة مستقلة يُعبِّر فيها عن عبقريته ويمارس فيها إرادته. ولكن تم التخلي عن هذا التعريف تماماً في هذه الأيام، إذ أن النظريات العرْقية لم تَعُد مقبولة في الغرب، خصوصاً بعد أن نجح هتلر في تدمير أعداد كبيرة من اليهود باسم هذه النظريات والاعتذاريات.
2 ـ التعريف الإثني أو التراثي:
يرى فريق من الصهاينة أن اليهود جماعة مترابطة ذات تاريخ مُشترَك منفصل ومحدَّد، وأن ثمة روابط تراثية (وليست عرْقية) فريدة بقيت على مدى قرابة أربعة آلاف سنة بين اليهود، وأن ثمة تماثلاً في أوضاع اليهود الإثنية والتاريخية، والمختلفة من بلد إلى بلد. وهم يرون أن ما حفظ وحدة اليهود هو الدين اليهودي، لا من حيث هو عقيدة وإنما من حيث هو إطار رمزي وبُعد أساسي من أبعاد التراث اليهودي. فالدين هو الوعاء الوحيد الذي ضمن الاستمرار والتجانس الإثني. وبناءً عليه، تكون الدولة الصهيونية هي الإطار الأمثل لكي تُعبِّر هذه الإثنية عن نفسها.
3 ـ التعريف الديني:(4/31)
لم يقبل الصهاينة الدينيون التعاريف اللادينية السابقة، وحاولوا استرجاع قداسة الهوية اليهودية. وهكذا، فهم يرون أن هوية اليهود القومية مصدرها الدين، إذ لا يمكن التفرقة بين القومية اليهودية والعقيدة اليهودية. فاليهود أمة مقدَّسة وكيان منعزل غريب مقدَّس يكتسب هويته من علاقته الخاصة مع الرب، ومن رسالته الخالدة بين الشعوب الأخرى. والتعريف الديني لا يستبعد العنصر الإثني، فالهوية اليهودية (بحسب تعريف الشريعة كما تقدَّم) ذات أساس ديني إثني. كما أن الهوية اليهودية (كما يُعرِّفها الصهاينة المتدينون) لا تحمل معها أية أعباء أخلاقية، بل تمنح اليهود حقوقهم القومية كاملة دون أية مسئولية تجاه الأغيار. ولذا، لا يوجد أي تناقض جوهري بين التعريف الإثني اللاديني والتعريف الإثني الديني. ومع هذا، يظل مصدر الشرعية في كلا التعريفين مختلفاً، فمصدر الشرعية والقداسة في القول الصهيوني العلماني هو الشعب اليهودي ذاته. أما في القول الديني، فإن مصدر الشرعية هو الحلول الإلهي في هذا الشعب. وحينما يتحدث المتدينون عن اليهودي، فإنهم يستخدمون، كما هو مُتوقَّع، معياراً أرثوذكسياً.
والتعريف السائد الآن في المُستوطَن الصهيوني هو التعريف الصهيوني اللاديني الإثني بالدرجة الأولى، ويليه التعريف الصهيوني الديني الإثني. ومن الملاحَظ أن التعريف الديني أخذ في الشيوع والانتشار منذ نهاية الستينيات. كما أن الصراع بين التيارين يفجر قضية الهوية التي يُشار إليها بسؤال «من هو اليهودي» ؟.(4/32)
ومن الضروري أن نتنبه إلى أن مقولة الهوية اليهودية في السياق الصهيوني الاستيطاني ليست مجرد مقولة نفسية أو فلسفية أو دينية، فهي مقولة قانونية تحمل مضموناً سياسياً واقتصادياً محدَّداً. فلليهودي، في الدولة الصهيونية، مزايا وحقوق معينة لا يتمتع بها غير اليهودي. كما أن ثمة وكالات ومؤسسات صهيونية عديدة يمولها يهود الخارج وتُعدُّ الترجمة الفعلية والمؤسسية لمقولة اليهودي هذه، فهي مؤسسات تمد يد المساعدة لليهود وحسب، وتحجبها عن غير اليهود. وأهم هذه المؤسسات الصندوق القومي اليهودي الذي يمتلك معظم أراضي فلسطين المحتلة باسم الشعب اليهودي، والذي تُحرِّم قوانينه بيع هذه الأراضي أو تأجيرها لغير اليهود، أو حتى استخدامهم للعمل فيها. وبذلك يمكننا أن نقول إن التعريف الصهيوني للهوية اليهودية هو الأساس النظري للممارسات الصهيونية العنصرية ضد العرب، بل إن عمليات ضم الأراضي تتم باسم هذه الهوية. وبالفعل، حذَّر الحاخام آرون سولوفاشيك (زعيم اليهودية الأرثوذكسية في الولايات المتحدة) من أن قبول التعريف العلماني لليهودي سيقوي عناصر الضغط على إسرائيل لأن تتنازل عن الأراضي المحتلة وعن أجزاء من القدس وحائط المبكى، حيث إنها ضمتها باسم الهوية اليهودية وباسم الحقوق التي يتمتع بها اليهود.
الهويات اليهودية والتناقض بين الرؤية الصهيونية والممارسة الإسرائيلية
Jewish Identities and the Contradiction Between the Zionist Outlook and Israeli Practice
كانت كل جماعة يهودية تمارس تجربتها التاريخية والدينية بمعزل عن الجماعات الأخرى، وكانت كل منها تُطوِّر هويتها الدينية والإثنية من خلال التشكيل الحضاري الذي تُوجَد فيه وتتعامل معه وتُسمِّي نفسها «يهودية» ، وذلك دون البحث عن خاصية جوهرية ما تربط كل أعضاء الجماعات معاً، ودون الحاجة إلى تعريف دقيق وعالمي وشامل لليهودي.(4/33)
وكان الصهاينة اللادينيون، حتى عام 1948، يتحدثون بحرية شديدة عن «الشعب اليهودي الواحد» (بالألمانية: أين فولك Ein Volk) ، وبالتالي عن «الهوية اليهودية الواحدة» و «القومية اليهودية» . كما كان الصهاينة المتدينون قانعين بدورهم الثانوي في الحركة الصهيونية، ولكنهم كانوا يتحينون الفرصة ليفرضوا تعريفهم القومي الديني الأرثوذكسي. وقد تم إعلان قيام الدولة الصهيونية لا باعتبارها دولة مستقلة وحسب، وإنما باعتبارها دولة يهودية ليست مقصورة على مواطنيها، فهي أيضاً دولة الشعب اليهودي بأسره داخل فلسطين وخارجها. وترى هذه الدولة أن مصدر شرعية وجودها هو يهوديتها، ومن هنا محورية تعريف الهوية اليهودية، ومن هنا أيضاً حتمية ظهور التناقضات الكامنة.
وقد أصدرت الدولة الصهيونية عدة قوانين تعطي حقوقاً لصاحب الهوية اليهودية. وكان أول هذه القوانين قانون العودة (عام 1950) الذي يعطي لأي يهودي الحق، أينما كان، في الهجرة إلى إسرائيل (فلسطين المحتلة) ، والاستيطان فيها. ثم صدر عام 1952 قانون تكميلي هو قانون المُواطَنة الإسرائيلية، والذي يمنح الجنسية الإسرائيلية لكل المهاجرين اليهود. ولكن كلا القانونين لم يُعرِّف من هو اليهودي، وتُركت القضية معلقة. وقانون العودة ليس القانون الوحيد الذي يتطلب تعريف اليهودي، إذ تتم الإشارة إلى اليهودي في الدولة الصهيونية في سياقين آخرين. فقانون تسجيل المواطنين يتعرض لهذه القضية إذ تتضمن الهوية في إسرائيل البنود المعتادة مثل الجنسية (إسرائيلي) ، والديانة (يهودي أو مسلم أو مسيحي) ، ولكن هناك بنداً ثالثاً خاصاً بالقومية (عربي بالنسبة للعرب المسلمين والمسيحيين ويهودي بالنسبة للإسرائيليين اليهود) . ولابد أن يتفق البندان الخاصّان بالديانة والقومية في حالة الإسرائيليين اليهود باعتبار أن الصهيونية في أحد تعاريفها للهوية تُوحِّد بينهما.(4/34)
أما السياق الثالث الذي تتم الإشارة فيه إلى اليهودي، فهو المحاكم الحاخامية التي تمارس السلطة المُطلَقة في أمور الزواج والطلاق. والتعريف الذي تأخذ به هذه المحاكم هو التعريف الديني القومي (الأرثوذكسي) وحسب، وهو يستبعد أي تعريف آخر. ويمكننا أن نتحدث عن عدة تناقضات أساسية، واجهها الصهاينة في محاولتهم تطبيق المُثُل الصهيونية، ولكنهم فضلوا إرجاءها وعدم التعرض لها:
1 ـ التناقض بين الدينيين واللادينيين:
التعريف الديني الأرثوذكسي لليهودي أمر معروف أقرته الشريعة اليهودية الحاخامية. أما التعريف القومي (غير الديني) ، فهو مسألة غامضة للغاية، إذ أن من الصعب تعريف هذه الخاصية القومية الفريدة التي تُميِّز هذا الحشد الهائل من الجماعات اليهودية التي تتمتع بهويات متعددة. ومن الصعب كذلك، بل وربما من المستحيل، تعريف اليهودي الملحد أو اليهودي الإثني، أو اليهودي غير اليهودي. وفي نهاية الأمر، تصبح المسألة مسألة إحساس داخلي غامض يمارسه اليهودي بوجود هذه الخاصية اليهودية داخله. ولذلك، يشير بعض المعلقين إلى التعريف الديني بأنه تعريف موضوعي، أي يستند إلى مقاييس خارجة عن الذات ويمكن الاحتكام إليها. أما التعريف العلماني، فهو تعريف ذاتي يستند إلى حالة شعورية تتفاوت في حدتها وعمقها من شخص إلى آخر. وبالفعل، تُعرِّف الأوساط العلمانية اليهودي بأنه من يشعر في قرارة نفسه بأنه يهودي ويعلن ذلك بإخلاص دون الحاجة إلى قرائن خارجية، وهو تعريف يخلق من المشاكل أكثر مما يحلّ.(4/35)
ولإيضاح هذه النقطة، يمكن أن نشير إلى العاهرات وتجار الرقيق الأبيض والقوادين من أعضاء الجماعة اليهودية ممن تركزوا في الأرجنتين، وكونوا قطاعاً اقتصادياً كبيراً وجماعة ضغط، وأصبحت لهم مؤسساتهم الخاصة من نواد ومسارح ونظام رفاه اجتماعي. وهذه مسألة مفهومة تماماً في إطار علماني مادي حيث يقوم من لهم مصالح مشتركة بتنظيم أنفسهم. ولكن المشكلة ظهرت حينما أصر هؤلاء المشتغلون بهذه المهنة الشائنة على انتمائهم أو هويتهم اليهودية، ومن ثم كانت لهم معابدهم الخاصة وحاخاماتهم الذين يفون باحتياجاتهم الروحية، بل وكانوا يخرجون في استعراضات أو مواكب في الأعياد الدينية اليهودية! وغني عن القول أن هذا كان يسبب حرجاً شديداً لأعضاء الجماعة اليهودية، فظلوا يحاربون هذا الجيب الذي يُصرُّ على يهوديته حتى نجحوا في القضاء عليه تماماً. وكل ما تَبقَّى من هذا الجيب هو ملجأ للبغايا اليهوديات العجائز في بيونس أيرس.
2 ـ التناقض بين السفارد والإشكناز:(4/36)
يمكن القول بأن الصهيونية، على مستوى الممارسة منذ أول أيامها وحتى عام 1948، قد عرَّفت اليهودي بأنه اليهودي الأبيض (الإشكنازي) . وكانت، في هذا، متسقة تماماً مع نفسها، فقد كانت تُقدِّم نفسها باعتبار أنها تجربة تتم داخل إطار التشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي، ولذا كان على الصهاينة إثبات بياض بشرة اليهودي حتى يتسنى للمستوطنين أن يشاركوا في حَمْل عبء الرجل الأبيض، ويستفيدوا في الوقت نفسه من الأمن العسكري والدعم الاقتصادي الذي يوفره القائمون على المشروع الاستعماري، ويحلوا محل أحد شعوب آسيا وأفريقيا. وقد بذل آرثر روبين، أحد أهم علماء الاجتماع الصهاينة والمسئول عن الاستيطان في فلسطين لفترة طويلة قبل إنشاء الدولة، جهداً «علمياً» فائقاً لإثبات أن اليهودي هو الإشكنازي وحده وأن الشرقيين ليسوا يهوداً. وهناك العديد من البيانات والتصريحات تُعبِّر عن هذا الموقف. لكن هذا الموقف يتناقض تماماً مع موقف الصهيونية الأصلي، فالصهيونية تكتسب شرعيتها من زعمها بأنها حركة الشعب اليهودي بأسره.
3 ـ التناقض بين التعاريف الدينية المختلفة:(4/37)
لا تنحصر المسألة في التناقض بين الدينيين والعلمانيين وحسب، أو بين الإشكناز والسفارد فقط، وإنما تمتد لتشمل مجال الدينيين ذاته. فالأرثوذكس لا يعترفون بالحاخامات الإصلاحيين ولا بالحاخامات المحافظين كيهود. ولذا، فهم لا يعترفون بالمتهوّدين على أيدي مثل هؤلاء الحاخامات. وفي معرض دفاعهم عن وجهة نظرهم، يذكر الأرثوذكس أن الشريعة، بحسب اليهودية الحاخامية، حدَّدت الخطوات اللازمة للتهوّد بشكلٍّ واضح تماماً كما حدَّدت من هو اليهودي. فلكي يَتهوَّد إنسان ما، يجب أن يتم ختانه إن كان ذكراً، أما الأنثى فعليها أن تأخذ حماماً طقوسياً وهي عارية أمام ثلاثة حاخامات (وهو الأمر الذي يسبب الحرج للإناث المتهوّدات) . وعلى المتهوّد أن يَتقبَّل نير المتسفوت (الفرائض أو الأوامر والنواهي) ، أي أن يعيش حسب قانون التوراة. أما الحاخامات الإصلاحيون، فلا يلتزمون بهذه الخطوات، إذ يكفي عندهم أن يحضر راغب التهود محاضرة عن التاريخ اليهودي، أو يقرأ مقطوعة من العهد القديم. ويقر الحاخامات الإصلاحيون بأن مراسم التهويد التي يقومون بها لا تتَّبع الشريعة، ولكنهم يصرون في الوقت نفسه على أن هذا لا يمنع كونها مقدَّسة. أما المحافظون، فيرون أنهم يتبعون الشريعة، لكن الأرثوذكس لا يوافقونهم على ذلك.
ومن المشاكل الأخرى التي ظهرت داخل المعسكر الديني مشكلة قيام اليهودية الإصلاحية بإعادة تعريف اليهودي بحيث أصبح من يُولَد لأب يهودي أو أم يهودية، وهو ما لا توافق عليه اليهودية الأرثوذكسية واليهودية المحافظة.
4 ـ تناقضات أخرى:
هناك تناقضات يصعب تصنيفها لأنها ذات طابع ديني إثني، وقد نشأت هذه التناقضات أساساً بين المؤسسة الدينية وبعض الجماعات اليهودية الصغيرة بشأن انتمائهم الديني والإثني وما إذا كان هذا الانتماء خالصاً أم أنه هجين.(4/38)
وكانت أولى المشاكل التي واجهها الصهاينة التناقض بين السفارد والإشكناز، وهو انقسام سبق إعلان الدولة. وقد لجأت السلطات البريطانية لطرق عملية غير عقائدية لحله، إذ سمحت بوجود حاخاميتين: واحدة سفاردية، والأخرى إشكنازية، بكل ما ينطوي عليه ذلك من انقسام أساسي وجذري. والانقسام بين الإشكناز والسفارد انقسام عميق ذو طابع ديني، ولكنه ذو أبعاد طبقية وإثنية. وهو من العمق بحيث يتبدَّى من خلال تَنوُّع الأحزاب الإسرائيلية وبنيتها وأنماط التصويت في الانتخابات التي تجري في المُستوطَن الصهيوني. ومع هجرة اليهود الشرقيين من العالم العربي والعالم الإسلامي وبلاد الشرق الأخرى، مثل الهند، زاد العنصر الشرقي على حساب العنصر الغربي، وأصبح الشرقيون أغلبية في المجتمع، الأمر الذي اضطر المؤسسة الحاكمة إلى إخفاء تعريف الهوية الذي يعادل بين الإشكنازي واليهودي، وكفت المؤسسة عن إطلاق التصريحات العنصرية ضد اليهود السفارد ويهود البلاد الإسلامية. لكن الرؤية الكامنة التي تُوجِّه الدولة الصهيونية لا تزال، أولاً وأخيراً إشكنازية، وهي تحاول القضاء على الأشكال الحضارية الشرقية التي أحضرها اليهود الشرقيون معهم، ولا تزال النخبة الحاكمة في إسرائيل غربية بوجه عام وإشكنازية بالدرجة الأولى.(4/39)
ومن الأمثلة الأخرى التي انفجرت فيها قضية الهوية من منظور ديني، قضية يهود الهند المعروفون باسم بني إسرائيل. فالحاخاميتان، السفاردية والإشكنازية، لم تعترفا بهم كيهود، لأنهم يمارسون الزواج المُختلَط ولا يعرفون التلمود. وقد استمرت مشكلتهم قائمة إلى أن اضطرت المؤسسة الدينية إلى الرضوخ لضغط المؤسسة السياسية. ولم تعترف الحاخاميتان أيضاً بيهود الفلاشاه، ولم تشجع هجرتهم طيلة الأعوام الثلاثين الماضية لعدة أسباب، من بينها أنهم هم أيضاً لا يعرفون التلمود، ولكن حينما طُلب إليهم التهود، رفضت أعداد كبيرة منهم ذلك. فاقترحت الحاخاميتان صيغة مخففة للتهويد تتضمن عملية تختين رمزية (حين قبل بعضهم ذلك سارع ممثل الحاخامية السفاردية بتختينهم قبل أن يقوم ممثل الحاخامية الإشكنازية بهذه العملية. ولكن حينما حضر الأخير قام هو الآخر بالعملية نفسها، أي أنهم تم تهويدهم وتختينهم مرتين خلال عدة أيام) . وتثار قضية اليهود القرّائين واليهود السامريين من آونة إلى أخرى، خصوصاً حينما يتم زواج مُختلَط بين أحد أعضاء إحدى هاتين الجماعتين وفرد ينتمي إلى اليهودية الحاخامية. ولم تضطر الدولة الصهيونية ولا المؤسسة الدينية إلى الدخول في صراع عميق مع أيٍّ من هذه الجماعات بسبب صغر أحجامها وقلة نفوذها داخل وخارج إسرائيل. ولم تأخذ المؤسسة السياسية موقفاً حاسماً في هذه القضية، بل تركت الأمر للمؤسسة الدينية تصرفه بطريقتها.(4/40)
ومع منتصف الخمسينيات، ظهرت التناقضات بين الدينيين واللادينيين، وكذلك بين الأرثوذكس من ناحية وبقية الفرق الدينية من ناحية أخرى، وذلك حينما بدأت المؤسسة الأرثوذكسية في الخارج تضغط على المؤسسة الدينية في إسرائيل حتى تتبنى موقفاً أكثر تشدداً من مسألة تعريف اليهودي. وقد تزامن ذلك مع موجة من الهجرة من شرق أوربا ضمت عدداً كبيراً من الزيجات المُختلَطة. وفي عام 1957، قرر رئيس قسم تسجيل الهوية في وزارة الداخلية (وهو عضو في الحزب الديني القومي) ألا يقبل وصف المهاجر لنفسه بأنه يهودي باعتباره المقياس الوحيد معتبراً أنه معيار علماني ذاتي، وأصدر أمراً إدارياً للموظفين في إدارته بذلك. ورداً على ذلك، أصدر وزير الداخلية (وكان علمانياً من حزب اتحاد العمال «أحدوت هاعفود» ) قراراً في مارس 1958 يؤكد فيه التوجيهات القديمة التي تقبل المعيار الذاتي. فانسحب الحزب الديني القومي من الائتلاف الحاكم احتجاجاً. فقام بن جوريون بالكتابة إلى خمسين شخصية يهودية (دينية وفكرية) في أنحاء العالم يطلب إليهم الفتوى في هذا الأمر (وكان يشار إليهم بعد ذلك بوصفهم «حكماء إسرائيل» !) . وجاءت الإجابات مشتملة على سائر التناقضات المتوقعة والتي لم يحسمها الفكر الصهيوني قبل قيام الدولة. فقد عرَّف القسم الأكبر منهم (37) الهوية اليهودية على أساس الشريعة، ولكن نفراً منهم تَبنَّى معيار الاختيار الشخصي (اليهودي هو من يعتبر نفسه كذلك) ، وتَبنَّى نفر آخر معيار القسر الخارجي، أي أن اليهودي هو من يعتبره الأغيار كذلك. ومع هذا، صدر عام 1959 توجيه إداري ينص على تعريف اليهودي بأنه الشخص الذي وُلد لأم يهودية، وذلك لاسترضاء الحزب الديني القومي حتى يعود إلى التحالف.(4/41)
وقد ضمت الوزارة التالية وزيراً للداخلية من الحزب الديني القومي، فأصدر توجيهات إدارية عام 1960 يُعرِّف فيها اليهودي بأنه من يثبت أن أمه يهودية أو أنه تَهوَّد حسب الشريعة وعلى يد حاخام أرثوذكسي. وقد وعد الحزب الديني بأن التعديل ستتم الموافقة عليه، ولكن الرأي العام الإسرائيلي أفشل هذه المحاولة.
ثم تفجرت القضية مرة أخرى بهجرة الأخ دانيال (أوزوالد روفايزين) الذي وُلد لأبوين يهوديين في بولندا، وانضم إلى المقاومة ضد النازية وأنقذ كثيراً من اليهود. وبعد أن قُبض عليه فرَّ إلى دير راهبات وعاش فيه متخفياً في زي راهبة حتى انتهت الحرب، فاعتنق المسيحية ودخل سلك الرهبنة، وهاجر إلى إسرائيل بموافقة الفاتيكان، وطلب اعتباره يهودياً بمقتضى قانون العودة. وقد عُرضت عليه الجنسية الإسرائيلية على أساس التجنس، ولكنه رفض وأصر على أن يحصل على الجنسية بموجب قانون العودة، أي باعتباره يهودياً. وقد ذكر في طلبه أن الشريعة اليهودية تقرر أن اليهودي لا ينسلخ بتاتاً عن دينه اليهودي مهما بلغت ذنوبه وذلك بحسب ما جاء في كتاب السنهدرين في التلمود. وقد ذكر الأخ دانيال أنه إذا كان بوسع الملحد أن يظل يهودي القومية، فمن باب أولى أن يُعتبَر هو (المسيحي) يهودياً!! وقد رفضت المحكمة العليا طلبه عام 1966، وقالت في حكمها إنه وفقاً للعرف المعمول به فإن كل من يغير دينه بدين آخر يُعَدُّ غير يهودي لأنه اختار أن ينفصل عن مصير الشعب اليهودي وتاريخه (ويُلاحَظ أن فكرة المصير هذه ستصبح بالتدريج ركيزة التعريف اللاديني الأساسية) . وقد بيَّنت المحكمة أن حكمها هذا مناف للشريعة اليهودية وأكثر تشدداً منها، وأن الأخ دانيال قد يكون يهودياً بحسب الشريعة، ولكن لا يمكن اعتباره يهودياً من منظور قانون العودة، أي أن المحكمة أخذت بتعريف لا ديني لليهودي، وجعلت أساس اليهودية الانتماء القومي.(4/42)
ومن المفارقات، أن المؤسسة الدينية الأرثوذكسية كانت تقف ضد طلب الأخ دانيال، أي أنها أخذت موقفاً أكثر تشدداً من الشريعة ذاتها بل ومنافياً لها. وقد قيل في معرض نقد هذا الحكم إنه يتعلق بتعريف من هو غير اليهودي ولكنه لا يعرِّف اليهودي من قريب أو بعيد. ولم تترك القضية أثراً عميقاً في الدولة الصهيونية لأنها لم تؤثر على علاقتها بيهود العالم. بل وشعر كثير من الإسرائيليين بأنها لا تخصهم.
وأثيرت القضية مرة أخرى وبحدة عام 1968 حينما طلب الضابط بنيامين شاليط (المتزوج من إنجليزية غير يهودية رفضت التهود بسبب لا أدريتها) تسجيل أولاده باعتبارهم إسرائيليي الجنسية يهوديي القومية، على أن يُكتَب في بند الدين عبارة «لا يوجد» ، أي أنه طلب الأخذ بالتعريف الإثني دون الديني. وحينما رُفض طلبه، رفع قضية في المحكمة العليا التي حكمت لصالحه عام 1970، وذكرت المحكمة في حكمها أن مصطلح «قومية» خاضع للتفسير العلماني، فأولاد شاليط ارتبطوا بمصير الشعب اليهودي وتاريخه. ومع هذا، أكدت المحكمة أن حكمها ينصب على الوضع المدني، أي على قانون العودة وقانون المواطنة والإجراءات الخاصة بالتسجيل، ولا ينصرف إلى الأحوال الشخصية (مثل الزواج والطلاق) التي تختص بها المحاكم الحاخامية. وقد رفض اليهود الأرثوذكس الأخذ بهذا الحكم، لأنه في تَصوُّرهم سيُقسِّم اليهود إلى قسمين: يهود مؤمنين ويهود غير مؤمنين. ولذا، صدر عام 1970 تعديل لقانون العودة، وعُرِّف اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية بشرط ألا يكون على دين آخر. ونص أيضاً على أن اليهودي هو المتهوِّد، وهو تعريف يعتمد الجانبين الإثني والديني، ولا يزال هذا التعريف هو المعتمد.(4/43)
ومع هذا، أثار التعريف غضب الدينيين واللادينيين. كما أن جورج طامارين، المحاضر في جامعة تل أبيب، أثار جانباً آخر غير مُتوقَّع للقضية. فقد رأى أن التعريف الأخير تعريف ثيوقراطي، أي يستند إلى أساس ديني. ولذا، طالب بأن يُسجَّل في بند القومية لفظ «إسرائيلي» بدلاً من «يهودي» . وقد رُفض طلبه بطبيعة الحال، لأن ذلك يعني رفض الصهيونية من أساسها.
أما الأرثوذكس، فلم يعجبهم التعريف الجديد إذ أنه يعترف ضمناً باليهود المتهوِّدين على يد حاخامات إصلاحيين ومحافظين، وهم في نظر الأرثوذكس ليسوا يهوداً، أو على الأقل مشكوك في يهوديتهم، ولذلك فهم يطالبون بإضافة عبارة «تهود حسب الشريعة» (بالعبرية: كاهالاخاه) أي على يد حاخام أرثوذكسي. وتحوَّلت القضية، من ثم، إلى من هو الحاخام؟ وقد قُدِّم إلى الكنيست مشروع قرار بهذا المعنى، رُفض في 16 يناير 1985، وتَسبَّب المعراخ أساساً في إسقاطه. والملاحَظ أن هذا التعديل الأخير المُقترَح سيثير من المشاكل أكثر مما يحلّ، فهو على سبيل المثال سيهز أحد الأسس التي يستند إليها التجمع الصهيوني، وهي فكرة «الوضع الراهن» . والعبارة تشير إلى الوضع السائد في فلسطين إبان حكم الانتداب. وقد تَوصَّل الصهاينة الدينيون والصهاينة اللادينيون، عشية إنشاء الدولة، إلى اتفاق على أن الدولة الصهيونية ستلتزم بالشعائر والأعراف السائدة في ذلك الوقت في المجال الديني. ولا يزال الاتفاق يحكم مدى التزام الدولة بتنفيذ الشعائر الدينية.(4/44)
وقد أثيرت عام 1987 قضية شوشانا ميلر المواطنة الأمريكية التي اعتنقت اليهودية على يد حاخام إصلاحي ثم هاجرت عام 1985 إلى إسرائيل، حيث رفضت وزارة الداخلية الإسرائيلية منحها الجنسية بمقتضى قانون العودة. وطلب إليها وزيرالداخلية أن تتهوَّد مرة أخرى على يد حاخام أرثوذكسي، فرفضت طلبه وتقدمت بشكوى إلى القضاء. ولحسم المسألة، اقترح الوزير أن يُكتَب على بطاقة تحقيق الشخصية الخاصة بالمتهوِّدين لفظة «متهوِّد» بدلاً من «يهودي» ، سواء أكان التهود قد تم على يد حاخام إصلاحي أم على يد حاخام محافظ أم أرثوذكسي، فرفضت المواطنة ذلك أيضاً باعتبار أن هذا سيحولها إلى يهودية من الدرجة الثانية. وقد حكمت المحكمة لصالح الشاكية، فاستقال وزير الداخلية واتهم اليهود الإصلاحيين بأنهم «يقودون أمة إسرائيل إلى التهلكة» . ولكن الوزارة اضطرت في نهاية الأمر إلى تسجيل بعض مَنْ تهوَّدوا على يد حاخامات غير أرثوذكس باعتبار أنهم يهود.
وهناك حالات قامت فيها المحاكم الحاخامية بالتشكيك في يهودية بعض ضحايا الإبادة النازية الذين استقروا في إسرائيل، بل وهناك حالة قامت فيها السلطات الدينية بالرجوع إلى الأرشيف النازي للتأكد من هوية أحد اليهود.
وكأن مشاكل الهوية لا تنتهي، فقد طُرحت القضية من جديد وبحدة بالغة في فبراير 1988، حين حضر يهوديان اسمهما جيري وشيرلي بيرسفورد، ينتميان إلى جماعة دينية مسيحية تبشيرية اسمها رامات هاشارون، ويشبه وضعهما وضع الأخ دانيال من بعض الوجوه، ويختلفان عنه من البعض الآخر. فهما يهوديان بالمعنى الإثني وهما يؤمنان بالمسيح، تماماً مثل الأخ دانيال، ولكنهما يختلفان عنه في أنهما لم يتنصرا، أي لم يعتنقا الديانة المسيحية. ولا يبيِّن المصدر ما معنى هذه العبارة، وإن كان من الواضح أنها تعني أنهما آمنا بأن عيسى هو المسيح أو الماشيَّح المُنتظَر دون الإيمان ببنوته للرب.(4/45)
وقد طُرح حل صهيوني للمشكلة باعتبار أن قانون العودة قانون سياسي صهيوني لمن يشاء، وقانون ديني لمن يشاء، ويمكن لكل فريق أن يفسره بالطريقة التي يراها، على أن تحتفظ السلطة الأرثوذكسية بسلطتها كاملة في أمور الأحوال الشخصية وفي عمليات التهويد التي تتم داخل إسرائيل. وتحاول بعض الأحزاب الدينية تَبنِّي موقف مماثل، لكنهم بدلاً من المطالبة بتغيير قانون العودة يطالبون بتغيير قانون المحاكم الحاخامية بحيث يصبح من صلاحياتها أن تقرر من هو اليهودي ومن هو غير اليهودي، بدلاً من وزارة الداخلية. وفي هذه الحالة، سيمكنها أن تسقط صفة اليهودية عن الحاخامات الإصلاحيين والمحافظين. ولكن جماعة حبد الأرثوذكسية ترفض مثل هذا الحل.(4/46)
وفي تَصوُّرنا أن أزمة الهوية اليهودية ستتعمق ولن تُحسَم في المستقبل القريب لأسباب عديدة تتصل بالتطورات داخل المُستوطَن الصهيوني وخارجه. أما داخل المُستوطَن الصهيوني، فقد لوحظ، على عكس ما تَوقَّع المفكرون الصهاينة، أن التطورات والآليات الاجتماعية لم تؤد إلى صهر العناصر اليهودية الدينية واللادينية والإشكنازية والسفاردية وغيرها، وإنما ازدادت الصورة استقطاباً وتطرفاً. وإذا ما ركزنا على الجانب الديني مقابل العلماني، نُلاحظ ظهور هوية يهودية جديدة بالإضافة إلى عدم التجانس، وهي هوية الصابرا من الإشكناز التي يتسم أصحابها بسمات خاصة، كمعاداة العقل والفكر وحب العنف والتحلل من القيم الأخلاقية، بل إنهم يكنون احتقاراً عميقاً ليهود المنفى، أي يهود العالم كله (وقد كان المؤمَّل في الصابرا أن يكونوا الترجمة العملية لليهودي الخالص) . وإلى جانب ذلك، يُلاحَظ تَزايُد معدلات العلمنة في التجمع الصهيوني (الذي وصفه أمنون روبنشتاين بأنه من أكثر المجتمعات إباحية على وجه الأرض) . وبحسب بعض الإحصاءات، يبلغ عدد المواطنين الذين لا يؤمنون بالخالق 80% من كل الإسرائيليين. وهؤلاء ينظرون إلى الشعائر الدينية باعتبارها فلكلوراً قومياً. وتُعدُّ الأعياد الدينية بالنسبة إليهم أعياداً قومية، والعبرية ليست لغة الصلاة (اللسان المقدَّس) وإنما هي لغة البيع والشراء والجماع. وقد أصبح يوم السبت، وهو يوم راحة وتَعبُّد من الناحية الدينية، يوم صخب ولهو في الدولة التي يُقال لها «يهودية» . ولا يراعي كثير من الإسرائيليين قوانين الطعام الشرعي، ويُقال إن نصف اللحم المستهلك في إسرائيل من لحم الخنزير.(4/47)
لكل هذا، حينما عُرضت قضية جيري وشيرلي بيرسفورد على الرأي العام الإسرائيلي، قال 78% منهم إنه يجب منحهما الجنسية الإسرائيلية إن كانا صهاينة، وعلى استعداد لأن يرتبطا بالمصير اليهودي. ومعنى هذا أن الإسرائيليين استخدموا معياراً قومياً لا دينياً صرفاً، ولو تم الأخذ به سيظهر نوع جديد من اليهود الذين يؤمنون بالمسيح عيسى بن مريم، ولأصبح الأخ دانيال يهودياً برغم حكم المحكمة العليا.
مقابل هذا التعاظم في معدلات العلمنة، هناك تعاظم أيضاً في النزعة الدينية يتضح في هجوم المؤسسة الدينية على الصور والمظاهر الإباحية في إسرائيل، وإصرارها على إقامة شعائر السبت، وفي إصرارها على تعديل قانون العودة. وينعكس هذا الاستقطاب القومي في واقعة حرق اللادينيين معبداً يهودياً احتجاجاً على نشاط المتدينين. ويتضح الاستقطاب أيضاً في ظهور عاصمتين للتجمع الصهيوني؛ إحداهما علمانية تماماً في تل أبيب، والأخرى في القدس يتزايد فيها نفوذ الأرثوذكس. وفي مثل هذا الإطار، يصبح الإجماع القومي، أو حتى الهدنة الاجتماعية القومية بشأن تعريف الهوية اليهودية، أمراً مستبعداً. ومما يعمق المشكلة أن ثمة استقطاباً مماثلاً يحدث بين يهود العالم الذين تزداد بينهم معدلات العلمنة والزواج المُختلَط.(4/48)
ويُلاحَظ أن مشكلة السفارد قد ازدادت تفاقماًً، خصوصاً مع ازدياد عددهم وازدياد ثقتهم بأنفسهم. فالتجمع الصهيوني يعتبرهم يهوداً وحسب ماداموا في بلادهم، وهذا جزء من حملته الإعلامية، ولكنهم يصبحون يهوداً شرقيين فور وصولهم إلى إسرائيل، إذ أن التجمع الصهيوني يحتاج إليهم باعتبار أنهم مادة بشرية قادرة على حل أزمة المصادر البشرية التي يعاني منها، وعلى العمل في قاعدة الهرم الاقتصادي الإنتاجية. لكن إصرار السفارد على الحراك الاجتماعي، باعتبارهم يهوداً بشكل عام، سيجعلهم يشغلون الدرجات العليا من الهرم، ويتركون قاعدته خالية يشغلها العرب. وبهذا تشتبك مشكلة الهوية مع واحدة من أعمق مشكلات التجمع الصهيوني، وهي مشكلة الإنتاجية، خصوصاً أن الصهاينة يدَّعون أن اليهودي الجديد شخصية منتجة على خلاف يهود المنفى الهامشيين المرابين.
وقضية الهوية اليهودية قضية محورية. فالدولة الصهيونية تكتسب شرعيتها، أمام نفسها وأمام الكثيرين، من ادعائها أنها دولة يهودية، لكن استمرار تَفجُّر هذ القضية يقوض دعائم هذه الشرعية. كما أن تعديل قانون العودة سيؤدي إلى استبعاد ما يقرب من 80% من يهود العالم (وربما أكثر) ممن يُعرِّفون اليهودي على أسس دينية ذاتية أو على أسس إصلاحية ومحافظة ولا يقبلون اليهودية الأرثوذكسية.
ومن القضايا الأخرى المرتبطة بقضية «من هو اليهودي؟» قضية «من هو الصهيوني؟» ، وهل هو اليهودي الذي يهاجر إلى إسرائيل، أي من يمارس الصهيونية الاستيطانية أم اليهودي الذي يدعم المستوطن الصهيوني دون أن يهاجر ويكتفي بالصهيونية التوطينية؟ وهي قضية تمس الهوية ولكنها لا تصل في عمقها إلى قضية «من هو اليهودي؟» .(4/49)
وكل هذه العناصر والتوترات والتناقضات تجعل من العسير على اليهود أنفسهم تصديق مقولة الشعب اليهودي الذي يتجاوز الأزمنة والأمكنة والذي يحمل داخله جوهراً يهودياً. فقد أثبت الواقع العملي أنه لا يوجد جوهر واحد، بل هي سمات عديدة متنوعة بتنوع التشكيلات الحضارية والتاريخية التي يتواجد فيها اليهود. وقد أثُيرت القضية مرة أخرى مع وصول المهاجرين اليهود السوفييت. وكما بيَّنت المؤسسة الدينية، فإن معظمهم ليسوا يهوداً، فهم إما من أصل مسيحي تزوجوا من يهود أو هم من مدعي اليهودية. بل واتضح أن اليهودية بالنسبة لليهودي منهم لا تمثل سوى أصداء خافتة للغاية. ومع هذا، رحبت المؤسسة الصهيونية بوصولهم، فهي في حاجة ماسة للمادة الاستيطانية. والحاجة نفسها هي التي تُفسِّر الترحيب بالفلاشاه موراه (وهم أشباه يهود تَنصَّروا بكامل إرادتهم منذ قرنين من الزمن) . وكل هذه المؤشرات تدل على أن المؤسسة الصهيونية، نظراً لحاجتها للمادة البشرية الاستيطانية، قد تجعل من اليهودية قشرة رقيقة للغاية (مثل الانتماء المسيحي في جنوب أفريقيا) إذ أن المطلوب هو مادة استيطانية غير عربية يضمن الكيان الصهيوني لنفسه الاستمرار من خلالها.
الأخ دانيال (1922 (–
Brother Daniel(4/50)
راهب كاثوليكي وُلد لأبوين يهوديين، وكان يُدعَى عند مولده أوزوالد روفايزين. لجأ إلى دير كاثوليكي أثناء الاجتياح النازي لبولندا، ثم اعتنق المسيحية وعُمِّد وأصبح راهباً من الطائفة الكرملية. وفي عام 1958، أُرسل إلى دير جبل الكرمل في حيفا. وعند وصوله إلى إسرائيل، طلب منحه الجنسية الإسرائيلية بمقتضى قانون العودة الذي يُعرِّف اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية (دون إشارة إلى العقيدة) . وقد بيَّن الأخ دانيال أنه إذا كان الشرع اليهودي يعترف بالملحد يهودياً، فمن باب أولى أن يعترف بالكاثوليكي يهودياً! وعندما رفضت وزارة الداخلية طلبه، رفع قضية في المحكمة العليا التي أيَّدت قرار وزارة الداخلية (خمسة أصوات ضد أربعة) . وفي حكمها، اعترفت المحكمة بأن الشريعة اليهودية تُعرِّف اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية وأن المرتد عن اليهودية يظل يهودياً، ولكنها بينت أن قانون العودة قانون علماني، ومن ثم يجب تفسيره بما يتفق مع الفهم العام للكلمة، ولذا فالكلمة لابد أن تُفهَم بالطريقة التي يفهمها بها المواطن العادي، الذي يرى أن كون الإنسان يهودياً يتعارض مع الإيمان بعقيدة أخرى. ويستند هذا المعنى العادي اليومي، في تَصوُّر المحكمة، إلى التاريخ اليهودي والأهداف الصهيونية والرغبة الجماعية في الإبقاء على الصلة بين إسرائيل ويهود العالم (الدياسبورا) . وقد عُدِّل قانون العودة بعد ذلك ليصبح تعريف اليهودي «من وُلد لأم يهودية ولم يَتبنَّ عقيدة أخرى» . وقد حصل الأخ دانيال على الجنسية بمقتضى قانون التجنيس، وهي عملية لا تستند إلى قانون العودة.(4/51)
وقد أدَّت حادثة الأخ دانيال إلى طرح قضية «من هو اليهودي؟» وهي قضية لم تجد حلاًّ حتى الوقت الحالي. ولعل الذين أثاروا قضية الأخ دانيال لم يدركوا أن الفيلسوف «اليهودي» ليف شستوف والمفكرة الدينية «اليهودية» إتي هلسوم والروائي «اليهودي» بوريس باسترناك كلهم كانوا يؤمنون بالمسيحية أو كانوا يؤثرونها كنسق ديني على اليهودية، ومع هذا تظهر أسماؤهم في الموسوعات اليهودية باعتبارهم يهوداً.
إديث شتاين (1891-1942 (
Edith Stein
مساعدة الفيلسوف الألماني هُسرل. وُلدت لأم يهودية أرثوذكسية لم توفر تعليماً دينياً لأولادها، ولذا ألحدت إديث وهي في سن صغيرة. ثم قرأت السيرة الذاتية لحياة سانت تيريزا، وتأثرت بها تأثراً عميقاً، فتكثلكت وغيرت اسمها إلى تيريزيا بنديكتا. ويبدو أنها كانت تشير إلى نفسها على أنها يهودية (بمعنى أن اليهودي هو من وُلد لأم يهودية) . وقد قبض عليها الجستابو عام 1942 وماتت في أوشفتس بعد ثمانية أيام من القبض عليها.
وقد أعلنت الكنيسة الكاثوليكية عام 1990 أن إديث شتاين قديسة، فثارت ثائرة المؤسسة اليهودية لأن هذا ـ من وجهة نظرهم ـ يُعَدُّ محاولة للاستيلاء على أوشفتس باعتبارها رمزاً يهودياً (يحتكره اليهود وحدهم) . كما أن المؤسسة اليهودية أشارت إلى أن إديث شتاين تم القبض علىها لأنها يهودية. والطريف في الموضوع أن الأخ دانيال، وهو يهودي تكثلك (تماماً مثل إديث شتاين) ، وذهب إلى إسرائيل باعتباره يهودياً وطالب بالحصول على الجنسية الإسرائيلية حسب قانون العودة ورُفض طلبه. فكأن المؤسسة اليهودية في العالم الغربي هي التي تقرر من هو اليهودي، دون الالتزام بأية معايير إلا مصالحها وأهوائها.
استجابة أعضاء الجماعات اليهودية للتعاريف الصهيونية للهويات اليهودية
Response of the Members of the Jewish Communities to the Zionist Definitions of Jewish Identities(4/52)
طرحت الصهيونية (في صيغتها اللادينية) نفسها كحركة لتطبيع اليهود، وطرحت مفهوم «اليهودي الخالص» صاحب الهوية اليهودية الحقيقية ليحل محل «يهودي المنفى» الذي يخفي هويته ويتقمَّص هوية الآخرين. والدولة الصهيونية التي يُقال لها «يهودية» ستكون هي المسرح الذي تتحقق عليه هذه الهوية. وقد قبل بعض الصهاينة الدينيين المشروع الصهيوني وتحالفوا مع اللادينيين على أمل أن تُتاح لهم الفرصة بعد ذلك أن يفرضوا رؤيتهم الدينية بحيث يصبح «اليهودي الحقيقي» هو اليهودي حسب التعريف الأرثوذكسي. وقد أدَّى هذا إلى توترات عميقة بين الدولة الصهيونية من جهة والجماعات اليهودية في العالم، بكل ما تتسم به من تنوُّع وعدم تجانس، من جهة أخرى.
والصهيونية، كما بيَّنا، ترى أن الهوية اليهودية خارج المُستوطَن الصهيوني هوية ناقصة مريضة يجب إلغاؤها، وهذا ما يُسمَّى «نفي الدياسبورا» في المصطلح الصهيوني (أي تصفية الجماعات اليهودية أو استغلالها) . وقد نجم عن ذلك صراع حاد بين أعضاء الجماعات اليهودية والمُستوطَن الصهيوني، إذ أن أعضاء الجماعات يرون أن هويتهم، أو هوياتهم اليهودية، ليست مريضة وإنما هي جديرة بالحفاظ عليها وتنميتها، في حين تحاول المؤسسة الصهيونية أن تقلل من شأنها وأن تجعل منها وقوداً يغذي الدولة الصهيونية. ولذا، فهي تجعل من الهجرة إلى فلسطين المحتلة والاستيطان فيها، المعيار الوحيد لتقييم مدى صهيونية اليهودي ومدى يهوديته. وهذه المشكلة تنفجر دائماً داخل المؤتمرات الصهيونية وخارجها.(4/53)
1 ـ وانطلاقاً من المفهوم الصهيوني للهوية اليهودية الحقيقية، تتصرف الدولة الصهيونية أحياناً بطريقة لا تخدم صالح أعضاء الجماعات اليهودية وإنما تخدم مصالحها هي على حسابهم. وربما تكون حادثة بولارد نقطة مهمة في هذا الصراع، فهي تمثل تصادماً بين رؤيتين للهوية: واحدة صهيونية والأخرى أمريكية يهودية. فتذهب الرؤية الصهيونية إلى أن الأمريكي اليهودي يهودي أولاً وأخيراً، ولذا لابد أن يخدم الدولة الصهيونية، في حين تذهب الرؤية الأمريكية اليهودية إلى أن الأمريكي اليهودي هو أمريكي في المقام الأول وله مصالح تختلف عن مصالح الدولة الصهيونية.
2 ـ عندما ينظر يهود العالم، خصوصاً المتدينين منهم، إلى الدولة التي يُقال لها «يهودية» ، يكتشفون أن هويتها وهوية سكانها ليست يهودية على الإطلاق. فمعدلات العلمنة عالية للغاية بين الإسرائيليين، وهو الأمر الذي يصدم الزوار اليهود للدولة الصهيونية الذين يهربون من مجتمعاتهم الاستهلاكية ويحضرون إلى إسرائيل فيفاجأون بمجتمع إباحي مفتوح أكثر علمانية من المجتمعات غير اليهودية التي تركوها وراءهم. والواقع أن المجتمع الإسرائيلي بدأ، منذ السبعينيات، يتوجه توجهاً استهلاكياً حاداً لا يضبطه أي ضابط أخلاقي أو حضاري أو عقائدي. وهذه التساؤلات ليست مقصورة على المتدينين، فاليهود اللادينيون، أو المندمجون الذين لا يقيمون شعائر دينهم، يحاولون التمتع بشيء من الهوية والتجربة الدينية عن طريق إسرائيل. فبرغم أنهم يتمتعون تماماً بالاستهلاك والحضارة العلمانية في بلادهم، فإنهم يذهبون إلى إسرائيل ويدفعون لها الإعانات ليعيشوا تجربة دينية قومية (ولو بشكل مؤقت، وكأن إسرائيل ديزني لاند يهودية، على حد قول أحد الحاخامات) . ولكن العلمانية الصريحة للدولة اليهودية تحرمهم من هذه المتعة وتلك الإثارة.(4/54)
3 ـ كما يسأل اليهود المتدينون: بأي معنى يمكن إطلاق تسمية الدولة الصهيونية على الدولة اليهودية وهي تُسوِّي كل خلافاتها مع الآخرين عن طريق العنف العسكري ولا يمكن محاكمتها بمعايير أخلاقية يهودية؟ كما أن الطريقة التي يتم بها قمع الانتفاضة يصعب تسميتها «يهودية» مهما تحلى الإنسان بالكرم والخيال.
4 ـ يشكو اليهود المتدينون من أن التعريف الصهيوني للهوية اليهودية قد صادر الرموز والمصطلحات الدينية، بحيث يتصور كثير من اليهود الآن أن اليهودية والصهيونية أمران مترادفان، وأن المرء يمكنه أن يحقق هويته اليهودية عن طريق التبرع للدولة الصهيونية وعن طريق شراء سندات إسرائيل. وكما قال الحاخام ألكسندر شندلر: «يتصور بعض اليهود الآن أن إسرائيل هي معبدهم اليهودي وأن رئيس وزرائها هو حاخامهم الأكبر» .(4/55)
ولكن نقطة الاشتباك الكبرى بين أعضاء الجماعات والدولة الصهيونية هي في مجال تعريف هوية اليهودي والمعيار المُستخدَم في هذا التعريف، إذ تُصرُّ المؤسسة الدينية، مُمثَّلة في أحزابها الدينية، على تَبنِّي تعريف أرثوذكسي. وقد حدثت مواجهة سريعة بين يهود العالم والمؤسسة الدينية في حالة يهود الهند (بني إسرائيل) في الخمسينيات، وفي حالة يهود الفلاشاه في الثمانينيات، ومع القرّائين والسامريين عبر كل هذه السنوات. وكان جوهر المواجهة دائماً هو إصرار المؤسسة الدينية على التمسك بتعريفها لليهودي، والذي يستبعد أعضاء هذه الجماعات. وقد حُسمت هذه المواجهات إما بتهود أعضاء هذه الجماعات مرة أخرى حسب الشريعة، وإما بتراجعهم وقبولهم مرتبة ثانوية في الهرم الديني اليهودي. كما أن المؤسسة أبدت من جانبها شيئاً من المرونة تجاههم. ولكن كل هذه المواجهات كانت مع جماعات صغيرة لا نفوذ لها انفصلت منذ قرون طويلة عن اليهودية الحاخامية، ولذا لم تتسبب المواجهة في تفجير أزمة عامة ذات أثر عميق. أما المواجهة مع يهود الولايات المتحدة وروسيا وأوكرانيا وغيرهم من الجماعات اليهودية بشأن الموضوع نفسه، فهي مواجهة مهمة وعميقة لها أعمق الأثر في كل من الدولة الصهيونية وأعضاء الجماعات.(4/56)
ولنفهم مدى عمق هذه المواجهة، لابد أن نتناول وضع الجماعات اليهودية في العالم. فلو نظرنا إلى الهويات اليهودية في أنحاء العالم الغربي خصوصاً في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي حيث يتركز معظم يهود العالم لوجدنا أن ثمة هويات متعددة غير متجانسة مندمجة في مجتمعاتها تتفاعل معها بحيث أصبح الإطار المرجعي لهويتهم وأساسها هو تجربتهم التاريخية في أوطانهم وليس التعريف الصهيوني أو اليهودي وإن كان ثمة عنصر مشترك بينها فهو المرجعية العلمانية النهائية التي أدَّت إلى ظهور «الهوية اليهودية الجديدة» فهوية يهود أمريكا على سبيل المثال هوية أمريكية ذات أبعاد إثنية دينية يهودية هامشية والحديث الصارخ عن بعث الإثنية في الولايات المتحدة والتمسك بها إنما هو من قبيل الادعاءات اللفظية المريحة للغاية. فمفهوم الهوية في الإطار الأمريكي لا يختلف أبداً عن مفهوم الدين، وكل من الدين والهوية شيئان يمكن تَقبُّلهما شريطة أن يتم تهميشهما حتى لا يتعارضا مع أداء اليهودي في رقعة الحياة العامة ولا يهددا الانتماء إلى المجتمع الأمريكي. ولكن إذا استبعدنا الهوية والدين من الحياة العامة ومن الإحساس بالانتماء، فلا يبقى شيء سوى زخارف أو تسلية تُمارس في أوقات الفراغ من آونة لأخرى، ولا تشكل بعدًا حقيقيا في بناء شخصية المرء ولا في رؤيته للكون.(4/57)
كما أن أوضاع أعضاء الجماعات في إنجلترا وفرنسا وجنوب أفريقيا لا تختلف في أساسياتها عن الصورة العامة السائدة بين أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة. بل إن وضع يهود روسيا وأوكرانيا ينطبق عليه أيضاً مصطلح «يهود ما بعد الانعتاق» أو «الهوية اليهودية الجديدة» ، فقد حصلوا على حقوقهم السياسية والمدنية، وتوجد أطر ومنابر يمكنهم من خلالها التعبير عما تبقَّى من هويتهم الشرق أوربية. كما ينتشر بينهم الزواج المُختلَط (وهو من أهم معايير الاندماج) بدرجة تفوق أحياناً درجته في الولايات المتحدة. وقد صرح شارنسكي، بطل الصهاينة في الاتحاد السوفيتي، حينما أُفرج عنه واستقر في إسرائيل، بأن درجة اندماج اليهود في المجتمع السوفيتي «درجة مَرضية» ، والمقصود أنها «عالية» . ورغم أنه يستخدم معياراً صهيونياً للهوية، إلا أنه يعترف ضمنياً بحقيقة ارتفاع معدلات الاندماج. وإذا كانت بين يهود الاتحاد السوفيتي (سابقاً) أعداد كبيرة ترغب في الهجرة، فإن هذا يعود إلى بعض المشكلات الخاصة بالمجتمع الاشتراكي وبمجتمعات كومنولث الدول المستقلة. وعلى أية حال، فإن أغلبية من تتاح له فرصة مغادرة روسيا وأوكرانيا، يهاجر إلى الولايات المتحدة، ولا تهاجر سوى أعداد صغيرة إلى إسرائيل. وحتى هؤلاء الذين يصلون إلى هناك يكتشفون أن هويتهم وطموحاتهم تختلف عن الهوية اليهودية كما عَرَّفها الصهاينة. بل إن يهود روسيا وأوكرانيا الذين يصلون إلى الولايات المتحدة يكتشفون أنهم روس، ومن ثم لا يختلطون باليهود في الولايات المتحدة ولا يندمجون فيهم وإنما يندمجون في المجتمع الأمريكي. بل ويُقال إن الإسرائيليين المهاجرين إلى الولايات المتحدة يظلون أيضاً بمعزل عن يهود الولايات المتحدة ولا يتزاوجون معهم، إذ يكتشفون أنهم إسرائيليون وليسوا مجرد يهود.(4/58)
وبشكلٍّ عام، يمكن القول بأن القيم العلمانية تنتشر في الوقت الراهن بين أغلبية يهود العالم، فهم إما منصرفون عن الدين تماماً وإما يتبنون الصيغ المخففة منه والمتمثلة في اليهودية الإصلاحية والمحافظة، ولم يَعُد بينهم سوى أقلية أرثوذكسية. ففي الولايات المتحدة، يبلغ عدد اليهود الإصلاحيين والمحافظين مليونين ولا يوجد سوى 400 ألف أرثوذكسي. أما بقية اليهود، فهم إما لاأدريون أو غير مكترثين باليهودية، ولكنهم يلجأون إلى حاخامات إصلاحيين أو محافظين في أمور الزواج وغيره. وربما تكون درجة علمنة يهود روسيا وأوكرانيا أعلى من ذلك بكثير. ومع هذا، وبرغم علمنة هؤلاء اليهود، وبرغم ابتعاد المتدينين منهم عن الأرثوذكسية، فإنهم يتمسكون ببقايا هويتهم الإثنية، ربما بتأثير الصهيونية. ولذا، فهم يصرّون على تسمية أنفسهم «يهود» برغم انصرافهم عن العقيدة، ثم يطالبون بتبني تعريف تعددي لليهودية، أي بأي تعريف يروق لهم بحيث يتم قبول أي يهودي يرى أنه يهودي. وهم ينظرون إلى الدولة الصهيونية باعتبارها دولة تعددية يهودية، بالمعنى الإثني، يمكنهم تحقيق هويتهم من خلالها. وفي هذا الإطار، ليس من المستغرب أن يؤدي التعديل المقترح لقانون العودة (بحيث يعرَّف اليهودي بأنه «المتهوِّد بحسب الشريعة» أي على يد حاخام أرثوذكسي) إلى تفجير التناقضات الكامنة إذ أنه، في واقع الأمر، يستبعد أغلبية المتهوِّدين وعائلاتهم في الولايات المتحدة. ومن المعروف أن عشرة آلاف أمريكي يتهوَّدون سنوياً نظراً لزواجهم من أقران يهود، ولا يتهود سوى ألف منهم أمام محاكم أرثوذكسية، أما الباقون فيتهوَّدون على يد حاخامات إصلاحيين ومحافظين، ولا تعترف الحاخامية في إسرائيل بهم كيهود.(4/59)
وهناك مشكلة أخرى أُثيرت عدة مرات ولن يحسمها التعريف الجديد حتى لو تم تبنيه. فالحاخامات الأرثوذكس يطلبون ما يُسمَّى «جيط» من كل يهودية مُطلَّقة، أي شهادة طلاق من محكمة شرعية يهودية ليصبح الطلاق شرعياً، وهو تقليد أبطله الحاخامات الإصلاحيون. ولذا، فإن أية يهودية مُطلَّقة تتزوج دون أن تحصل على شهادة طلاق شرعي، يُعتبَر أطفالها (بحسب التصور الأرثوذكسي) غير شرعيين، حتى لو كانت هي يهودية معترفاً بيهوديتها من المؤسسة الأرثوذكسية. ولهذا، فمن المتوقع أن تتفاقم المشكلة بسبب ازدياد معدلات الطلاق غير الشرعي بين اليهود في الخارج، سواء في الولايات المتحدة أو في كومنولث الدول المستقلة (الاتحاد السوفيتي سابقاً) ، وبسبب جهل كثير منهم بقضية الجيط هذه!(4/60)
ويدرك أعضاء الجماعات اليهودية، خصوصاً في الولايات المتحدة، المضمون الخفي الكامن وراء تعديل قانون العودة تماماً، والمحاولة الرامية إلى ذلك. ومن هنا كانت حدة استجابتهم لهذه المحاولة إلى درجة أدهشت القيادات في اجتماع لمجلس الفيدراليات الأمريكية الذي خُصِّص لمناقشة هذه القضية (1988) ، ومجلس الفيدراليات هو التنظيم الذي يضم سائر التنظيمات اليهودية الأمريكية. فعندما حاولت القيادة التقليل من أهمية التعديل المقترح والتهوين من شأنه، ثارت القاعدة وأعلنت سخطها وأعلنت كذلك عن نيتها أن تترجم هذا السخط إلى فعل ضد إسرائيل. بل إن بعضهم اشتكى إلى نوابهم في الكونجرس الأمريكي من التعديل المزمع، وقام هؤلاء النواب، وبعضهم من غير اليهود، بنقل شكوى ناخبيهم من اليهود إلى حكومة الدولة اليهودية. وتتحدث الصحف الإسرائيلية عن احتمال أن تُناقَش المسألة في الكونجرس الأمريكي عند مناقشة المعونة الأمريكية لإسرائيل. وهكذا، فبدلاً من أن تستخدم الدولة الصهيونية الدياسبورا أداة للضغط على الولايات المتحدة لتحقيق مصالحها، يقوم أعضاء الجماعة الأمريكية اليهودية بالضغط على الدولة الصهيونية من خلال الولايات المتحدة للحفاظ على مصالحهم. ويُقال إن استجابة يهود الولايات المتحدة لتعديل قانون العودة يشبه في حدته استجابتهم لحرب 1967، حين أحسوا بالفخر الشديد لانتصار القوات الإسرائيلية، أي حين تضخمت هويتهم اليهودية المزعومة بسبب انتصار جيوش الدولة اليهودية. وقانون العودة يمس هذه الهوية، ذلك أن تعديله ينزع عنهم هويتهم هذه ويجعل منهم مجرد يهود إصلاحيين أو محافظين، أي يهود من الدرجة الثانية. ويجب ملاحظة أنه بينما أصبحت اليهودية، بالنسبة إلى معظم سكان المُستوطَن الصهيوني مسألة قومية وليست دينية محضة (ولهذا فهم لا يكترثون بموقف المؤسسة الأرثوذكسية) ، فإن الأمر جد مختلف بالنسبة إلى يهود العالم، فيهوديتهم برغم علمانيتهم الواضحة لا(4/61)
يمكن أن تُعرَّف تعريفاً قومياً وحسب، حيث يتنافى هذا مع انتمائهم القومي. ولذلك، يظل البُعد الديني، برغم شكليته وضموره، أكثر أهمية بالنسبة إليهم من أهميته بالنسبة إلى الإسرائيليين.
ومن إنجازات الانتفاضة أنها، بوصولها إلى الإعلام الخارجي، قد حوَّلت النضال الفلسطيني من قضية سياسية أو أخلاقية إلى قضية إعلامية تمس صورة اليهودي وبالتالي هويته ورؤيته لها. ولعل الأفلام اليومية على شاشة التليفزيون الأمريكي قد ساعدت على تهيئة الجو لثورة الأمريكيين اليهود، وغيرهم من أعضاء الجماعات، على القيادات الصهيونية ورفضهم تعديل قانون العودة.
وثمة تَطوُّر ثالث شديد الأهمية يتمثل في البقعة التي يلتقي فيها يهود العالم بالمُستوطَن الصهيوني: أي المنظمة الصهيونية العالمية. فقد شهد العقدان السابقان صهينة قطاعات كبيرة من يهود الولايات المتحدة كانت ترفض الصهيونية من قبل. فاليهودية الإصلاحية التي تشجع الاندماج، كانت ترفض الصهيونية بشكل عقائدي عند نشأتها، كما كان بعض مفكري اليهودية المحافظة يرفضونها. ولكنهم، بمرور الزمن، تناسوا هذه الاعتراضات وانتهى بهم الأمر إلى الانضمام إلى المنظمة الصهيونية العالمية. هذا، بينما يُلاحَظ أن الجماعات اليهودية الدينية، وضمن ذلك بعض الأحزاب الدينية في إسرائيل، إما معادية للصهوينة وإما غير صهيونية وغير مُمثَّلة في المنظمة الصهيونية.(4/62)
وقد انعكس هذا الوضع على انتخابات المؤتمر الصهيوني الحادي والثلاثين (1987) التي أسفرت عن فوز أغلبية من حزب العمال الإسرائيلي وممثلي اليهود الإصلاحيين والمحافظين والعلمانيين. وهذه هي المرة الأولى التي لا يعكس فيها تكوين المنظمة الصهيونية موازين القوى داخل الدولة الصهيونية. وقد قضى المؤتمر (291 صوتاً ضد 271 صوتاً) بضرورة المساواة الكاملة بين جميع اتجاهات اليهودية، الأمر الذي أدَّى بحركة المزراحي (الصهيونية الدينية) إلى التهديد بإعادة النظر في وضعها داخل الحركة الصهيونية. والواقع أن هذا الوضع يناقض الوضع داخل الدولة الصهيونية حيث يتنامى نفوذ الأحزاب الدينية.(4/63)
وقد أثار وصول المهاجرين السوفييت مشكلة الهوية مرة أخرى. فعدد اليهود السوفييت حسب آخر إحصاء هو 1.500.000 وحسب، فمن أين أتت الأعداد الضخمة، خصوصاً ونحن نعرف أن اليهود السوفييت حققوا معدلات عالية من الاندماج وأنهم جماعة مسنة؟ ولتفسير هذا نذهب إلى أن اليهود الذين يهاجرون إلى إسرائيل يضمون في صفوفهم عدداً كبيراً من اليهود المتخفين الذين كانوا قد فقدوا علاقتهم باليهودية تماماً ولم يسجلوا أنفسهم كيهود، ولكنهم اكتشفوا مؤخراً أن مسألة الانتماء اليهودي مسألة مربحة وأنها ستضمن لهم تأشيرة خروج من الدولة السوفيتية وتأشيرة دخول إلى الدولة الصهيونية. ولعل هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يظهر فيها مثل هذا الموقف: أن يكون في صالح المرء أن يكتشف جذوره اليهودية ويعلنها ويوظفها. وأشباه اليهود هؤلاء غير مختنين وغير متزوجين من يهوديات وأولادهم غير يهود ولا يربطهم باليهودية سوى أن لهم جداً مدفوناً في موسكو (على حد قول أحد الحاخامات الإسرائيليين) . كما أن هناك فريقاً آخر ممن نسميهم مدَّعي اليهودية، وهؤلاء ليسوا يهوداً ويشترون شهادة ميلاد تثبت أنهم يهود. وهذه الآلاف تصل إلى إسرائيل وتطالب بالجنسية حسب قانون العودة. ويُقال إن نسبتهم بين المهاجرين يمكن أن تصل إلى 30% وقد بدأت المؤسسة الحاخامية تحذر من أن إسرائيل قد تصبح دولة غير يهودية. ولكن المؤسسة الإشكنازية الحاكمة (اللادينية) لا تجد أية غضاضة في استقبال هؤلاء المهاجرين ماداموا سيحلون المشكلة السكانية لإسرائيل، ولا تمانع في تَقبُّل التعريف العلماني الذي وضعه شارانسكي لليهودي باعتباره من يشعر أنه يهودي مُضطهَد. وهو تعريف لا تأخذ به، بطبيعة الحال، المؤسسة الحاخامية. ولهذا أُسِّست محكمة شرعية في موسكو للتحقق من الهوية اليهودية للمهاجرين، الأمر الذي يثير حفيظتهم ويؤدي إلى احتجاج العناصر اللادينية في إسرائيل.(4/64)
وتُعتبَر الأزمة التي تعتمل داخل الدولة الصهيونية، وفي صفوف الجماعات اليهودية في العالم، نتيجةً لمحاولة تَبنِّي التعريف الديني أو التعريف اللاديني الصهيوني للهوية، أمراً طبيعياً ومتوقعاً. فهذا التعريف لا يأخذ في الاعتبار تموجات التاريخ وتعرجاته ولا ينبع منها، ويتجاهل التركيب الجيولوجي للعقائد والجماعات اليهودية، كما أنه مجرد تعريف عقائدي يفرض نفسه فرضاً على واقع متنوع. فهو يفترض وجود هوية يهودية واحدة رغم وجود هويات يهودية عديدة متنوعة أهمها «الهوية اليهودية الجديدة» التي تُهمِّش العنصر اليهودي. والتعريف الصهيوني يرى أن اليهود شعب واحد له تاريخ واحد، وهم في واقع الأمر جماعات منتشرة لها تجارب تاريخية متنوعة ذات انتماءات قومية وإثنية وطبقية ودينية متعددة. كما أن أعضاء هذه الجماعات، حين يستوطنون فلسطين المحتلة، يحملون معهم انتماءاتهم وتجاربهم التاريخية، شاءوا أم أبوا. وحينما يتبنون تعريفاً صهيونياً لهويتهم، تنفجر الأزمة إذ تكتشف أغلبيتهم العظمى أنهم ليسوا يهوداً أو أن يهوديتهم مشكوك فيها بل ومرفوضة، كما حدث ليهود بني إسرائيل والفلاشاه، وكما سيحدث ليهود الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لو تم تعديل قانون العودة.
الباب الرابع: اليهود والجماعات اليهودية
اليهود: مشكلة التعريف
The Jews: The Problem of Definition
كلمة «يهودي» هي من أكثر الدوال إشكالية رغم بساطتها، فكلمة «يهودي» يمكن أن تُستخدَم للإشارة إلى العبرانيين القدامى باعتبارهم جماعة عرْقية أو إثنية (قوم) أو باعتبارهم جماعة دينية (شعب مختار) . ثم تُستخدَم الكلمة للإشارة إلى اليهود الحاخاميين والقرّائين والسامريين ويهود الصين وإثيوبيا.(4/65)
ويُشار إلى اليهود باعتبارهم شعباً مقدَّساً في التراثين الدينيين المسيحي واليهودي. وبعد ظهور العلمانية، أصبحوا شعباً عضوياً يُشار إليهم بوصفهم «الشعب اليهودي» أو بالمعنى اللاديني مجرد «اليهود» (بالإنجليزية: جوري Jewry) . ويُشار إلى السفارد والإشكناز والصابرا ويهود الولايات المتحدة على أنهم «يهود» . وتزداد الأمور اختلاطاً حينما يُستخدَم الدال «يهودي» للإشارة إلى يهود العالم وإلى صهاينة العالم والمستوطنين الصهاينة في إسرائيل. ولعل المصدر الأساسي لهذا الخلط هو التراث الإنجيلي الذي يتحدث دائماً عن اليهود ككل باعتبارهم «الشعب» ، وهي طريقة للرؤية ورثها العالم الغربي ككل. ولذا، نجد أن المحايدين العلميين والمعادين لليهود والصهاينة المتحيزين كلهم يتحدثون عن اليهود ككل.
وغني عن القول إن استخدام الدال «يهودي» بهذه الطريقة يجعله عديم الفائدة، إذ يشير إلى حقل دلالي متضارب ومدلولات مختلفة. وسنحاول في مداخل هذا المجلد أن نحدد الحقل الدلالي لبعض المصطلحات السائدة وأن نقترح مصطلحات جديدة لتحل محل مصطلح «يهودي» .
اليهود بوصفهم كُلاًّ متماسكاً
Jewry
«اليهود بوصفهم كُلاًّ متماسكاً» هي ترجمتنا للكلمة الإنجليزية «جوري» Jewry» ، والتي كانت تُستخدَم أصلاً للإشارة إلى الجيتو أو الشارع أو الحي الذي يسكنه اليهود. وهي تشير إلى اليهود من حيث هم كُلٌّ متماسك لا من حيث هم جماعات شتى لكل منها انتماؤها العرْقي أو الإثني أو الحضاري وتضم في صفوفها أعضاءً يهوداً لكلٍّ طموحاته وتصوراته الخاصة به. والكلمة تفترض أن هناك علاقة عضوية بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، وأنهم يخضعون للحركيات نفسها التاريخية التي تَجبُّ الانتماءات المختلفة والتناقضات الكامنة والظاهرة. وتُوجَد كلمات مماثلة في اللغات الأوربية الأخرى، مثل جويفيري Juiverie الفرنسية، وجويديتشا Guidecca الإيطالية.(4/66)
ويحبذ الصهاينة استخدام هذا المصطلح لأنه يُعبِّر عن رؤيتهم ونموذجهم التفسيري. وهذا المصطلح لا يختلف كثيراً في تضميناته عن مصطلحات مثل «الشعب اليهودي» أو «الشعب العضوي» ، فهي جميعاً تشير إلى كلٍّ عضوي متماسك.
الشعب اليهودي
The Jewish People
«الشعب اليهودي» عبارة تفترض أن اليهود شعب بالمعنى القومي أو العرْقي للكلمة، كما تفترض أن لديهم قوميتهم اليهودية المستقلة. ويستطيع القارئ أن يعود إلى مدخل «القومية اليهودية» و «الجماعات اليهودية» .
الشعب
The People
«الشعب» كلمة تتواتر في الأدبيات الدينية اليهودية والمسيحية وفي الدراسات الدنيوية أيضاً. ويختلف معنى الكلمة في السياق الديني عنه في السياق الدنيوي والتاريخي. فهي في السياق الديني تعني «جماعة دينية» ترتبط بميثاق بينها وبين الإله وتنتفي عنها صفة الشعب بعدم تنفيذها العهد. وهذا الشعب قد يرى نفسه شعباً مختاراً أو شعباً مقدَّساً أو أمة الروح أو الأمة المقدَّسة أو الشعب الأزلي أو المفضل على العالمين، ومن أسمائه «بنو يسرائيل» و «شعب يسرائيل» . وترى الكنيسة المسيحية أن المسيحيين هم الشعب الحقيقي وأن اليهود قد تحولوا إلى مجرد «شعب شاهد» .
أما في السياق الدنيوي، فالأمر أكثر تركيباً، حيث يعني «الشعب» مجموعة القبائل العبرانية التي تسللت إلى كنعان ثم اتحدت في المملكة العبرانية المتحدة ثم انفكت إلى مملكتين: المملكة الشمالية والمملكة الجنوبية. وقد اعتبره اليونانيون والرومان «إثنوس» أي قوماً يترأسهم رئيس القوم (إثنآرخ) ، ثم تحولوا إلى جماعات يهودية مختلفة منتشرة. وفي العصر الحديث، عاد الحديث بين الصهاينة عن «الشعب اليهودي» أو «الشعب العضوي (فولك) » . وقد قمنا بوضع مصطلح «الشعب العضوي المنبوذ» لوصف رؤية العالم الغربي للجماعات اليهودية.
الجماعات اليهودية
Jewish Communities(4/67)
«الجماعات اليهودية» مصطلح نستخدمه في هذه الموسوعة بدلاً من مصطلح «اليهود» . ونحن نذهب إلى أن العبرانيين (والعبرانيين اليهود) ، أي اليهود القدامى، كانوا يشكلون وحدة ثقافية وإثنية تتسم بقدر من التماسك والتجانس والوحدة. ولكن، مع انتشار اليهود في أرجاء العالم في مجتمعات مختلفة، لكلٍّ تقاليدها الحضارية والدينية، وتواريخها، تَفاعَل اليهود مع هذه التقاليد والتواريخ وخضعوا لمؤثراتها، شأنهم شأن كل الأقليات والبشر. وقد بدأت عملية الانتشار مع التهجير البابلي، ولكن وتيرتها تصاعدت مع ظهور الحضارة الهيلينية والرومانية. وقد اكتملت عملية الانتشار والتَفرُّق مع هدم الهيكل في عام 70م على يد تيتوس، وكذلك سقوط العبادة القربانية المركزية وأية سلطة دينية مركزية يهودية. وقد تَحوَّل اليهود نتيجة هذه العملية إلى جماعات مختلفة متفرقة غير متجانسة. ونحن نفضل استخدام مصطلح «جماعات يهودية» على مصطلح «يهود» لأن المصطلح الأخير يؤكد التَماسُك والتَجانُس والوحدة حيث لا تَماسُك ولا تَجانُس ولا وحدة.(4/68)
وإذا حاول الدارس أن يدرس أعضاء الجماعات اليهودية في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين كيهود وحسب فإنه سيحاول دون شك أن يرصد عناصر الوحدة بين هؤلاء اليهود. ومع أن هناك عناصر مشتركة قد تجمع بين هذه الجماعات، إلا أنها ليست في أهمية العناصر غير المشتركة من الناحية التفسيرية والتصنيفية. ولعل الاستعراض التاريخي الجغرافي للجماعات اليهودية يوضح هذه النقطة، فقد كانت الجماعات اليهودية في كل أنحاء العالم، في القرنين العاشر والحادي عشر، تُوجَد داخل عدة تشكيلات حضارية سياسية مستقلة وسمت كل جماعة بميسمها. وقد أصبح أعضاء الجماعات اليهودية في أوربا أقنان بلاط وتجاراً ومرابين داخل النظام الإقطاعي، بل وبدأوا يواجهون مشكلة ظهور طبقات تجارية ومالية محلية. أما يهود العالم الإسلامي فلم يتسموا بتَميُّز وظيفي حاد بل وشاركوا في الثورة التجارية التي ظهرت آنذاك، وكانوا من الناحية الثقافية جزءاً لا يتجزأ من محيطهم الحضاري كما هو واضح في العصر الذهبي في الأندلس. وقد كانت أعداد من يهود فارس (وربما الهند) قد بدأت تستقر في الصين لأسباب تتصل بالحضارة الصينية (وهو تَزايُد الحاجة إلى المنسوجات الحريرية) . وكان يهود الخزر قد تبعثرت دولتهم بسبب صعود القوة السلافية الروسية وتَنصُّرها، ولكنهم كانوا يشاركون في تأسيس المجر. وكان يهود الفلاشاه قد أصبحوا جزءاً من التشكيل الحضاري الأفريقي في إثيوبيا، وكونوا قبيلتهم بل ومملكتهم وانخرطوا في الحروب القَبَلية المختلفة. ولا يمكن لإطار واحد أن يشمل كل هذه الظواهر. ولفهم سلوك هذه الجماعات وحركتها ومصيرها، لابد من العودة إلى التشكيلات الحضارية التاريخية التي كانوا يُوجَدون فيها، لا إلى جوهر يهودي يتجاوز الزمان والمكان ويشكل وحدتها الجوهرية أو إلى تاريخ يهودي يتطور حسب قوانينه الداخلية ويتطور اليهود في إطاره منعزلين عن تواريخ الجماعات التي يعيشون بين ظهرانيها.(4/69)
وقد ازداد عدم التجانس بين الجماعات اليهودية بعد القرن الحادي عشر على المستويين الديني والاجتماعي، حيث تَعمَّق التوحيد في النسق الديني اليهودي في العالم الإسلامي، بينما تَعمَّق العنصر الحلولي الكموني في اليهودية الغربية وظهرت عناصر الثنوية والشرك مع هيمنة التراث القبَّالي. بينما كان يهود العالم الإسلامي يزدادون اندماجاً وتَحضُّراً، كان يهود العالم الغربي يزدادون انعزالاً وتَخلُّفاً. ولكن، مع الصعود الاقتصادي للعالم الغربي بعد الثورة التجارية والصناعية والرأسمالية، نجد أن يهود الغرب مارسوا تحولاً عميقاً ولعبوا دوراً في هذه العملية التي لم تترك أي أثر في يهود الدولة العثمانية أو يهود كوشين في الهند على سبيل المثال.
وفي العصر الحديث، نجد أن اليهود الأرثوذكس يُكفِّرون الإصلاحيين والمحافظين والتجديديين. ويوجد الآن فريق من اليهود المسيحيين الذين يؤمنون بالمسيح باعتباره الماشيَّح دون الاعتراف بألوهيته. كما أن غالبية يهود العالم إما ملحدون أو لاأدريون أو غير مكترثين بالدين. ويهود الفلاشاه لا يعرفون التلمود ويتعبدون بالجعزية، مع أن التلمود يُشكل العمود الفقري لليهودية الحاخامية (أي اليهودية الأرثوذكسية (.(4/70)
وكل جماعة يهودية لها مشاكلها الخاصة النابعة من وجودها داخل بناء تاريخي مستقل، فيهود الفلاشاه يواجهون مشكلة المجاعات التي تجتاح أفريقيا في الآونة الأخيرة كما بدأوا يواجهون مشكلة التحديث في إسرائيل. أما يهود اليمن، فهم يواجهون مشكلة عدم توافر المعلمين الدينيين والكتب الدينية بسبب انقطاع صلتهم بمراكز الدراسات الحاخامية في الغرب، كما يواجهون مشكلة أن اليمن بلد عربي في حالة صراع سياسي حاد مع دولة تُسمِّي نفسها «الدولة اليهودية» . وهم يعانون أيضاً من التَدخُّل الدائم من المنظمة الصهيونية التي تحاول إنقاذهم شاءوا أم أبوا. واليهود القرّاءون في إسرائيل يواجهون مشكلة وجودهم في مجتمع تسيطر عليه المؤسسة الحاخامية التي لا يعترفون بها، وكذلك مشكلة تَزايُد معدلات العلمنة. أما القرّاءون في الاتحاد السوفيتي، فيواجهون مشاكل مختلفة. ومشاكل كلا الفريقين تختلف عن تلك التي يواجهها اليهود القرّاءون في مصر أو في الولايات المتحدة. واليهود السامريون في نابلس يواجهون مشاكل فريدة باعتبارهم أصغر أقلية دينية في العالم لا تزال محتفظة بعبادتها القربانية المرتبطة بجبل جريزيم. ومشاكل يهود جورجيا تختلف عن مشاكل يهود الكرمشاكي أو يهود أوكرانيا أو يهود بيروبيجان. ويواجه يهود الولايات المتحدة مشاكل من بينها الخوف من الاندماج (الهولوكوست الصامت) نتيجة تقبل المجتمع لهم ونجاحهم فيه. وهذا التقبل والنجاح يسبب لهم مشاكل مع السود، فالسود متركزون في المدن نفسها التي يوجد فيها اليهود وعادةً ما يشغلون «الجيتو» الذي كان يشغله المهاجرون اليهود قبل أن يحققوا الحراك الاجتماعي وينتقلوا إما إلى جيرة أفضل أو إلى الضواحي. فحي هارلم الشهير كان حياً يهودياً يجعل من «المالك اليهودي» ممثلاً للرأسمالية الأمريكية المستغلة أمام الأمريكيين السود، الأمر الذي يسبب كثيراً من المشاكل للجماعة اليهودية ككل. كما أن تَزايُد وعي السود بأنفسهم،(4/71)
وبقوتهم ورغبتهم في المشاركة في السلطة، يجعل احتكاكهم باليهود أكثر حدة بسبب تَركُّز الجماعتين في الأماكن نفسها. ويواجه يهود هولندا مشكلة عدم الامتزاج بين الإشكناز والسفارد حتى أن كل طائفة لها مدارسها. وكلا الفريقين يواجه مشاكل ناجمة عن تَصاعُد معدلات العلمنة في هولندا. ويجابه أعضاء الجماعة اليهودية في فرنسا مشاكل الانقسام، فالمهاجرون اليهود من البلاد العربية لا يتزوجون في كثير من الأحوال من يهود فرنسا الأصليين، وإن كانت هذه الظاهرة قد بدأت تقل.(4/72)
كما نجد أن الجماعات اليهودية لا تعترف أحياناً الواحدة بالأخرى. وتتضح هذه الظاهرة بحدة في أمريكا اللاتينية حيث حافظت كل جماعة يهودية على هويتها وبالتالي كان الصدام حاداً بين الجماعات، خصوصاً بين السفارد والإشكناز. وفي سويسرا، يجابه اليهود مشكلة أن الذبح الشرعي محظور منذ أمد طويل مع أن سويسرا هي مقر كثير من المنظمات اليهودية. وفي إنجلترا، يجابه الجيل اليهودي القديم مشكلة انصراف اليهود عن التعليم اليهودي والتقاليد اليهودية، فخمسة في المائة فقط من الأطفال اليهود يدخلون مدارس يهودية و75% يدرسون موضوعات اليهودية في مدارس الأحد و20% لا يتلقون أية ثقافة يهودية على الإطلاق. والواقع أن مشكلة التعليم و «الانتماء اليهودي» على وجه التحديد هي مشكلة تواجهها جميع الجماعات اليهودية في الغرب، وسببها ازدياد علمانية هذه المجتمعات وانتشار العقلية الاستهلاكية التي لا تهتم كثيراً بالتاريخ أو التراث أو الهوية. ومما يزيد المشكلة حدة أن الجيل الجديد يدخل طرفاً في زيجات مُختلَطة، الأمر الذي لابد أن يؤدي إلى تَناقُص عدد أعضاء الجماعة. كما أن أعضاء الأجيال الجديدة يحجمون عن الزواج بشكل عام، وإن تزوجوا فهم يُحجمون عن الإنجاب. ومن الملاحَظ أن متوسط أعمار اليهود في كثير من بلدان الغرب أعلى من متوسط العمر في هذه البلدان بسبب اختفاء العناصر الشابة. وكل هذا يهدد بموت الشعب اليهودي وهي مشكلة لا يعاني منها اليهود الشرقيون بعد.(4/73)
إن مشاكل الجماعات اليهودية متنوعة ونابعة من وجودها في مجتمعات مختلفة ذات مستويات مختلفة من التقدم والتخلف. ولكن استخدام اصطلاح «يهود» على إطلاقه لن يساعد كثيراً على التحليل والتفسير. ومن هنا، فإننا نرى أن كلاًّ من العقيدة اليهودية والهوية اليهودية هما، في واقع الأمر، عقائد وهويات تأخذ شكل تركيب تراكمي جيولوجي يحوي داخله طبقات غير متجانسة تعيش بعضها فوق بعض. (وإذا ما أطلقنا على هذا اسم «يهود» و «يهودية» لكان في الأمر تعسف وليٌّ لعنق الواقع لا يساعدان كثيراً على فهم الظاهرة) . ولذا، فنحن نشير إلى العقائد وإلى الجماعات اليهودية، بحيث تؤكد كلمة «جماعات» على استقلال كل جماعة وعلى خضوعها لحركيات تاريخية وحضارية مختلفة.(4/74)
كما أن لفظ «جماعة» أفضل من لفظ «طائفة» أو «أقلية» . فلفظ «طائفة» يشير عادةً إلى طائفة دينية، بينما يؤكد لفظ «أقلية» الجانب الكمي للظاهرة. أما كلمة «جماعة» ، فهي وإن كانت لا تؤكد الجانب الكمي (أي عدد اليهود كأقلية) ، إلا أنها لا تستبعده تماماً. كما تتضمن فكرة أنها جزء من كل أكبر، كما أن كلمة «جماعة» ، وهذا هو الأهم، تؤكد أن ثمة عناصر تُميِّز هذه المجموعة البشرية وأن هذه العناصر ليست دينية وحسب، فقد تكون حضارية أو ثقافية أو وظيفية. ونحن حين نستخدم اصطلاح «جماعة وظيفية» ، فإننا نربط على مستوى المصطلح بين «الجماعة اليهودية» و «الجماعة الوظيفية» . ومما يجدر ذكره أن العرب، في شبه جزيرة أيبريا، استخدموا لفظ «الجماعة» للإشارة إلى اليهود، وقد استبقاه المسيحيون من بعدهم. والمقدرة التفسيرية لمصطلح «الجماعة اليهودية» أعلى بكثير من مصطلح «اليهود» الذي يجعل الباحث يواجه اليهود ككتلة متماسكة لها قوانينها الخاصة المقصورة عليها ولها منطقها الداخلي. أما مصطلح «أعضاء الجماعات اليهودية» ، فيؤكد عدم التجانس وعلى استقلال كل جماعة عن الأخرى، ويؤكد أن هذه الجماعات قد تكون خاضعة لقوانينها الخاصة ومنطقها الداخلي (من حيث هي يهودية) ولكنها مع ذلك خاضعة أيضاً لقانون أكبر ومنطق أشمل من حيث هي «جماعات» تشكل جزءاً من كل، فهو إذن مصطلح يعيِّن الظاهرة باعتبارها ظاهرة يهودية ولكنه لا يجعل هذا الأمر النقطة المرجعية الأساسية بل مجرد نقطة فرعية، إذ تظل الحقيقة الأساسية المرجعية أنها جماعة بشرية في مجتمع الأغلبية، وأنها جزء من كل تاريخي حضاري أكبر تستمد منه هويتها وتَرقَى حركيتها برقيه وتنحدر وتهوى بانحداره وسقوطه، شأنها في هذا شأن الجماعات المماثلة.(4/75)
ومن المفيد أن نؤكد أن مصطلحاً مثل «الجماعات اليهودية في مصر» قد يكون مضللاً رغم أنه يشير إلى يهود مصر، فلابد من تأكيد البُعد الزمني إلى جانب البُعد الجغرافي. والواقع أن يهود مصر، على سبيل المثال، يبدأ تاريخهم منذ أن كانوا في مصر عبيداً عبرانيين يتحدثون لغة المصريين القدماء أو ربما لغة أخرى لا نعرف ما هي (ثم حينما تسللوا إلى كنعان اكتسبوا لسان كنعان) . وكانت حامية إلفنتاين العبرانية، في عهد الأسرة 26، تتحدث العبرية والآرامية، وتتعبد حسب صيغة وثنية يهودية إذ كانوا يعبدون يهوه وآلهة أخرى. ثم نجد أن يهود مصر راحوا يتأغرقون بعد ذلك ويتخذون من اليونانية لغةً لهم، كما اكتسبت عبادتهم بُعداً هيلينياً. وأخيراً، بعد الفتح الإسلامي، استعرب يهود مصر وأصبحت يهوديتهم أكثر توحيدية. وفي العصر الحديث، تم علمنتهم وتغريبهم. إن هذه الجماعات المختلفة إثنياً ودينياً يُطلَق عليها جميعاً «يهود مصر» كما لو كانت كُلاًّ واحداً مستمراً بلا انقطاع، مع أن من الواضح أن ثمة انقطاعات عديدة.(4/76)
ومن أكثر الأمثلة دراميةً وطرافة يهود القرم ويهود شبه جزيرة تامان المجاورة لها. ويعود تاريخ استقرار اليهود في هذا المكان إلى القرن الثاني قبل الميلاد، حينما استجلب مثراديتيس الأكبر مستوطنين يهوداً من آسيا الصغرى ووطنهم ذلك الجزء من مملكته (حول مضيق البوسفور) . ومن المؤكد أنه، في القرن الأول الميلادي، كانت توجد مستوطنات من اليهود المتأغرقين في المملكة البوسفورية. ولذا، كانت شواهد قبورهم تُكتَب بكل من اليونانية والعبرية، كما كان الحال في مصر بعد تأغرقهم. وهناك وثائق تدل على وجود جماعة استيطانية قتالية من عَبَدة الإله الأعظم. وقد حطمت قبائل الهن هذه المملكة في عام 370 مما ساهم في نَزْع الصبغة الإغريقية عن الجماعة اليهودية. ثم غزت الإمبراطورية البيزنطية هذه المنطقة في القرن السادس، ولابد أن هوية اليهود في هذه المنطقة قد تَغيَّرت بتَغيُّر التشكيل الحضاري الذي ساد فيها. وفيما بعد، غزت قبائل الخَزَر شبه جزيرة القرم في منتصف القرن السابع، وهو ما أدَّى إلى دخولها في فلك إمبراطورية الخَزَر فتترَّك اليهود فيها وتهوَّدت النخبة الحاكمة. وبعد سقوط دولة الخَزَر، التي اختفى آخر أثر لها في القرم في القرن الحادي عشر، اكتسح التتار شبه الجزيرة عام 1227. وقد اندمج اليهود في التتار أيضاً وتَبنَّوا لغتهم وأزياءهم. وهؤلاء هم أسلاف يهود الكرمشاكي الذين انتقلت بقاياهم مؤخراً من الاتحاد السوفيتي إلى الولايات المتحدة. وتحت حكم التتار، بدأ القرّاءون يدخلون القرم. وقد قامت مدينة جنوة بتأسيس بعض مستعمرات تجارية على الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة في منتصف القرن الرابع عشر. ويبدو أن بعض أعضاء الجماعة اليهودية اكتسبوا الثقافة الإيطالية أو انضم إليهم يهود من إيطاليا. ونحن نعرف أن الجماعة اليهودية في تامان كان يرأسها (عام 1419) يهودي إيطالي يُدعَى سيمون دي جوبزولفي.(4/77)
ومع سقوط القسطنطينية عام 1543، أصبحت القرم تابعة للدولة العثمانية. ولابد أن هذا ترك أيضاً أثره الثقافي في اليهود. ثم ضمت روسيا القرم في عام 1783، وبدأت هجرة العناصر الإشكنازية، كما بدأ تحديث يهود القرم.
ورغم كل هذه التحولات اللغوية والحضارية، يُشار لهم باسم «يهود القرم» بكل ما ينطوي عليه المصطلح من استمرار وتَجانُس وعدم انقطاع حيث لا استمرار ولا تَجانُس، وإن وُجدت عناصر استمرار فإنها لا تكون في أهمية عناصر الانقطاع وعدم الاستمرار. ولذا، نقترح أن نقول «يهود القرم في العصر الخزري» و «يهود مصر في العصر البطلمي» وهكذا.
وأخيراً، يجب ملاحظة أن إحدى الدول قد تضم جماعة يهودية واحدة متجانسة حضارياً وتضم دولة أخرى عدة جماعات. فالجماعة اليهودية في إنجلترا، مثلاً، جماعة واحدة يتصف معظم أعضائها ببعض السمات الأساسية، وغالبيتهم الساحقة يتحدثون الإنجليزية. والأمر نفسه ينطبق على يهود الولايات المتحدة، حيث تُوجَد جماعة يهودية رئيسة يتحدث أعضاؤها الإنجليزية وجماعات أخرى صغيرة للغاية مهملة إحصائياً، خصوصاً أن أعضاءها في طريقهم إلى الاندماج والاختفاء. هذا على عكس يهود الاتحاد السوفيتي (سابقاً) ، فقد كانت أغلبيتهم الساحقة من يهود اليديشية الإشكناز الذين اصطبغوا بالصبغة الروسية، ولكن كانت هناك جماعات أخرى (تُشكل حوالي 15%) لها هويات أخرى. والشيء نفسه ينطبق على أمريكا اللاتينية، فما نقوله عن الجماعة اليهودية في إنجلترا والولايات المتحدة، وكذلك ما يُقال عن الجماعات اليهودية في الاتحاد السوفيتي (سابقاً) ، يَصدُق على الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية.
طائفة
Community; Taifa(4/78)
كان يُشار لكل جماعة يهودية بأنها «طائفة» ، فكان يُشار إلى «طائفة اليهود» وإلى «الطائفتين» (القرّائين والحاخاميين) وإلى «رئيس الطائفة اليهودية» . ويقوم بعض الدارسين العرب في الوقت الحاضر باستخدام هذا المصطلح. وقد آثرنا استخدام «جماعة» لأنه أكثر عمومية من طائفة، فكلمة «طائفة» مرتبطة بالتشكيل الحضاري والسياسي الإسلامي وكان المطلوب هو التوصل إلى مصطلح أكثر عمومية ليضم كلاًّ من طوائف اليهود في العالم الإسلامي والجماعات اليهودية في بقية العالم ومن هنا استقر اختيارنا على هذا المصطلح. هذا وقد استُخدم لفظ «الجماعة» للإشارة إلى الجماعة اليهودية في كلٍّ من إسبانيا الإسلامية وإسبانيا المسيحية.
عبري
Hebrew
«عبري» هي أقدم التسميات التي تُطلَق على أعضاء الجماعات اليهودية، ويُقال أيضاً «عبراني» ، وجمعها «عبرانيون» . وهناك تسمية أخرى هي «بنو يسرائيل» أو «جماعة يسرائيل» أو «يسرائيلي» ، ثم يأتي بعد ذلك لفظ «يهودي» للتعبير عن المسمى نفسه.
والكلمة ذات معان ومدلولات عديدة، فيرى بعض الكُتَّاب أن الكلمة ترادف كلمة «عبيرو» التي ترد في المدونات المصرية، و «خابيرو» التي ترد في المدونات الأكادية. ولكن البعض الآخر يُشكك في هذا الاشتقاق باعتبار أن كلمة «عبري» صفة تدل على النسب أو الانتماء لوجود ياء النسب في آخرها، في حين أن كلمة «خابيرو» أو «حبيرو» لا تعني غير المُزامَلة والمرافقة.(4/79)
ومن الآراء المطروحة أيضاً أن كلمة «عبري» مشتقة من «العبور» من عبارة «عبر النهر» : «فهرب هو وكل ما كان له وقام وعبر النهر وجعل وجهه نحو جبل جلعاد» (تكوين 31/21) . ويرى البعض أنه حين يقول الساميون «عبر النهر» دون ذكر اسم هذا النهر فإنهم يعنون نهر الفرات، والإشارة هنا إلى عبور يعقوب الفرات هارباً من أصهاره. ويرى بعض الباحثين أن عبور يعقوب النهر هو أساس اسم العبرانيين، حيث ينتسبون إلى من قام بهذا العبور، أي يعقوب الذي سُمي «يسرائيل» .
وربما كان الاسم إشارة إلى جماعة قَبَلية إثنية كبيرة. ويظهر هذا الاستعمال في العلاقة بين المصطلح «عبري» واسم «عابر» حفيد سام (تكوين 10/24 ـ 25، 11/15 ـ 16) الذي تنتسب إليه مجموعة كبيرة من الأنساب. ولكن أول شخص يُشار إليه بأنه عبري هو إبراهيم (تكوين 14، 13) في سياق لا يدل على أن الإشارة إشارة إثنية، وإنما إشارة تدل على الوضع الاجتماعي باعتباره غريباً أو أجنبياً ليست له أية حقوق. وتشير كلمة «عبري» في التوراة إلى العبرانيين أيضاً باعتبارهم غرباء. والعبري «غريب في منزلة الخادم» ويدل هذا على أن كلمة «عبري» هنا تشير إلى غير اليهودي في حكم التوراة، ويظهر هذا في الأحكام الخاصة بشراء عبد عبري (خروج 21/2 (.
وثمة رأي يذهب إلى أن العبرانيين كانوا غرباء في مصر مدة طويلة، وبالتالي ارتبط الاسم بهم، وتَحوَّل من صفة لوضع اجتماعي إلى وصف لجماعة إثنية. ولذا، فإن ثمة إشارات إلى يوسف على أنه غلام عبراني (تكوين 41/12) ، أو رجل عبراني (تكوين 39/14) . كما أن ثمة إشارة أيضاً إلى النساء العبرانيات (خروج 1/19) . ورغم أن الإشارة ذات طابع إثني واضح، فإنها لم تفقد بعدها الاجتماعي تماماً. وفي سفر التكوين نجد إشارة إلى يوسف كعبد عبراني (39/18) وهي إشارة ذات دلالة تخلط العنصرين الإثني والطبقي.(4/80)
وترد كلمة «عبري» أحياناً مرادفة لكلمة «يهودي» على نحو ما جاء في سفر إرميا (34/9) : «أن يُطلَق كل واحد عبده وكل واحد أَمته، العبراني والعبرانية، حُريَّن حتى لا يستعبدهما، أي أخويه اليهوديين، أحد» . كما كانت الكلمة مرادفة لكلمة «يسرائيلي» (خروج 9/1 ـ 4) : «هكذا يقول الرب إله العبرانيين ... ويميِّز الرب بين مواشي يسرائيل ومواشي المصريين» . وفي صمويل الأول (4/9) ، يقول أحد الفلستيين: «تشددوا ... وكونوا رجالاً لئلا تُستعبَدوا للعبرانيين» وهو يتحدث عن جماعة يسرائيل.(4/81)
ويُفضل بعض الصهاينة العلمانيين أن يستخدموا كلمة «عبري» أو «عبراني» على استخدام كلمة «يسرائيلي» أو «يهودي» باعتبار أن الكلمة تشير إلى العبرانيين قبل اعتناقهم اليهودية، أي أن مصطلح «عبري» يؤكد الجانب العرْقي على حساب الجانب الديني فيما يُسمَّى «القومية اليهودية» . بل إن بعض أصحاب الاتجاهات الإصلاحية والاندماجية، في مرحلة من المراحل، كانوا يفضلون كلمة «عبري» على كلمة «يهودي» بسبب الإيحاءات القدحية للكلمة الأخيرة. وقد ظهرت في هذه الآونة كلية الاتحاد العبري Hebrew Union Collegeوجماعة هياس (وهي اختصار Hebrew Immigration Aid Society، أي الجمعية العبرية لمساعدة المهاجرين) . كما أنهم في إسرائيل، يشيرون عادةً إلى اللغة العبرية والأدب العبري والصحافة العبرية، ولكننا نفضل استخدام «عبراني» للإشارة إلى اليهود القدامى من حيث هم تَجمُّع بشري حضاري ذو خصائص متميِّزة. أما لفظ «عبري» ، فنقصر استخدامه على الناحية اللغوية والأدبية، كما نستخدم كلمة «جماعة يسرائيل» (أو «يسرائيلي» ) للإشارة إلى العبرانيين القدامى من حيث هم تَجمُّع ديني، تمييزاً لهم عن الصهاينة المستوطنين في فلسطين، وعن أبنائهم الذين يمكن أن نطلق عليهم مصطلح «إسرائيليين» ، على أن تظل كلمة «يهودي» مصطلحاً يشير إلى المؤمنين باليهودية، بغض النظر عن انتمائهم العرْقي أو الإثني أو الحضاري، ويشير إلى كل من يطلق على نفسه هذه الصفة.
ونحن في هذا لا نختلف كثيراً عن الاستعمال الشائع للكلمة. ويقول الدكتور ظاظا: «بعد العودة من بابل في القرن الخامس قبل الميلاد، اقتصر استخدام مصطلح «عبرانيين» على الإشارة إلى الرعيل الأول من اليهود حتى عصر التهجير البابلي، واستُخدمت كلمة «يهود» أو «يسرائيلي» للإشارة إلى الأجيال التي أتت بعد ذلك، والتي لم تَعُد تستخدم اللغة العبرية وإنما تتحدث الآرامية وتكتب بها» .(4/82)
ولعل الدقة الكاملة كانت تتطلب أن نستخدم اصطلاح «عبراني يهودي» للإشارة للعبرانيين في الفترة ما بعد العودة إلى بابل (538 ق. م) حتى سقوط الهيكل (70م) ، فإبان هذه الفترة بدأت ملامح النسق الديني اليهودي كما نعرفه في التحدد مع بداية الفترة واكتملت مع نهايتها. ومع هذا، كانت العبادة القربانية المركزية لا تزال الإطار الديني المرجعي الأساسي للعبرانيين اليهود. ولكننا، مع هذا، نستخدم كلمة «يهودي» وحدها للإشارة إلى العبرانيين اليهود من قبيل التبسيط، وحتى لا يصبح هيكل المصطلحات مركباً لدرجة يصعب معها استخدامه. ويستطيع القارئ أن يعود إلى مدخل «الهويات اليهودية (تاريخ) » .
يسرائيل
Israel; Yisrael
«يسرائيل» كلمة عبرية قديمة غامضة المعنى، يمكن تقسيمها إلى «يسرا» ، أي الذي يحترب أو يصارع، و «إيل» وهو الأصل السامي لكلمة «إله» . والكلمة تعني حرفياً «الذي يصارع الإله» أو «جندي الإله إيل» ، وفي كل التفسيرات معنيان أساسيان هما معنى الصراع والحرب ومعنى القداسة.
ومما يجدر ذكره أن كلمة «يسرائيل» وردت في الكتابات المصرية في عهد مرنبتاح في عام 1230 ق. م بوصفها اسماً لإحدى المدن، أو ربما لبطن من بطون القبائل في جنوبي كنعان. ولعل هذا يدل على أن الكلمة كنعانية الأصل، وأنها كانت ذات ارتباطات مقدَّسة بين سكان المنطقة آنئذ. وهناك نظرية تذهب إلى أنها كانت اسم بطن من بطون القبائل العبرانية.(4/83)
وقد اكتسب يعقوب هذا الاسم بعد أن صارع الإله في حادثة غامضة لا يُفهَم مكنونها أو دلالتها «فبقي يعقوب وحده وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر. ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه. وقال أطلقني لأنه قد طلع الفجر. فقال لا أطلقك إن لم تباركني. فقال ما اسمك، فقال يعقوب. فقال لا يُدعَى اسمك فيما بعد يعقوب بل يسرائيل، لأنك جاهدت مع الإله والناس وقدرت. وسأل يعقوب وقال أخبرني باسمك. فقال لماذا تسأل عن اسمي، وباركه هناك» (تكوين 32/25 ـ 29) . والقصة متأثرة بعناصر الملحمة الأكادية، حيث يكتسب البطل بصراعه المادي مع الإله صفات تجعله فوق البشر أو نصف إله، وتكسبه بانتصاره على الإله حق نصرة الإله له دائماً في علاقاته مع الآخرين. وهذا الصراع مع الإله يشبه وقائع مماثلة في الأساطير اليونانية.
وكلمة «يسرائيل» تشير أيضاً إلى نسل يعقوب، ثم أصبحت تشير إلى المملكة الشمالية «يسرائيل» قبل التهجير الآشوري. ثم استُخدمت الكلمة للإشارة إلى سكان المملكة الجنوبية «يهودا» بعد سقوط مملكة يسرائيل إلى أن حلت كلمة «يهودي» محلها.
وللكلمة في دلالتها الاصطلاحية معنيان أساسيان: فهي تعني اليهود بوصفهم شعباً مقدَّساً، وتعني فلسطين بوصفها أرضاً مقدَّسة. وهي ترد مضافة إلى كلمات أخرى، مثل: «عام يسرائيل» أي «شعب إسرائيل» و «بنو يسرائيل» أي «بنو إسرائيل» ، و «بيت يسرائيل» أي «بيت إسرائيل» . و «كنيست يسرائيل» أي «مجمع إسرائيل» أو «جماعة يسرائيل» . وقد بُعثت كلمة «يسرائيلي» مرة أخرى، في عصر الانعتاق، في القرن التاسع عشر الميلادي، كما بعثت أيضاً كلمة «عبراني» لأن كلمة «يهودي» كانت تحمل إيحاءات سلبية.(4/84)
وفي العصر الحديث، تُستخدَم عبارة «مدينة إسرائيل» العبرية للإشارة إلى الدولة الصهيونية وكلمة «إسرائيليين» للإشارة إلى أعضاء التجمع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. ولكننا، إذا أردنا التفرقة، فمن المستحسن أن نطلق كلمة «إسرائيليين» على سكان التجمع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين وحدهم، وأن نسمِّي اليهود القدامى، من حيث هم تَجمُّع بشري له خصائص إثنية مُتميِّزة، «عبرانيين» (ومفردها عبراني) وأن نسميهم «جماعة يسرائيل» (وأحياناً «اليسرائيليين» ) لنصفهم من حيث هم جماعة دينية، على أن تظل كلمة «يهودي» مصطلحاً يشير إلى كل من يعتنق اليهودية وهي العقيدة التي اكتسبت ملامحها الرئيسية في القرن الأول قبل الميلاد. مصطلح «عبري» فيَصلُح في الناحيتين اللغوية والأدبية وحسب.
بنو إسرائيل
Banu Israel
«بنو إسرائيل» عبارة ترد في القرآن الكريم (وفي كثير من الكتب الفقهية الإسلامية) للإشارة إلى اليهود. كما تُوجَد كلمات أخرى، مثل: «أهل الكتاب» و «الكتابيون» و «أهل الذمة» و «الذميون» لتشير إلى كل من اليهود والمسيحيين. وقد عُرِّف النطاق الدلالي لكلمة «بني إسرائيل» إسلامياً بشكل واضح ومحدد، فهي تشير إلى جماعة محددة الأوصاف يؤمن أصحابها بالإله والتوراة. ومن ثم، فإن هذا المصطلح لا ينطبق على غالبية يهود العالم في الوقت الحالي. لكن هؤلاء هم موضع الدراسة في هذه الموسوعة، ومن ثم فإننا لا نستخدم هذه العبارة. وترد عبارة «بني إسرائيل» للإشارة إلى الجماعة اليهودية التي تُوجَد في الهند وتحمل هذا الاسم.
شعب يسرائيل
The People of Yisrael
«شعب يسرائيل» هو أحد الأسماء التي تُطلَق على العبرانيين من حيث هم جماعة دينية قديمة تسبق تَبلوُّر اليهودية، وهو مرادف للكلمات «بني يسرائيل» و «اليسرائيليين» ، وكذلك «كنيست يسرائيل» أي «جماعة يسرائيل» .
جماعة يسرائيل
Israel; Yisrael(4/85)
» جماعة يسرائيل «مصطلح قمنا باشتقاقه من كلمة «يسرائيل» ، وهي كلمة من المعجم الديني اليهودي وتعني» الذي يصارع الإله» . ونحن نستخدم الكلمة لنشير إلى العبرانيين القدامى من حيث هم جماعة دينية مقابل العبرانيين القدامى كجماعة عرْقية أو إثنية. ومن ثم نشير إلى عقيدتهم باعتبارها «عبادة يسرائيل القربانية المركزية» لتمييزها عن اليهودية التي هي ثمرة تطورات مختلفة دخلت على هذه العبادة في بابل وبعد العودة منها وخلَّصتها من جوانبها الوثنية. كما نستخدم كلمة «يسرائيل» للإشارة إلى مملكة يسرائيل الشمالية العبرانية (مقابل مملكة يهودا الجنوبية) لتمييزها عن دولة إسرائيل الحديثة. أما المستوطنون اليهود من مواطني الدولة الصهيونية، فنحن نشير إليهم على أنهم إسرائيليون.
ونحن نفعل ذلك حتى لا نخلط بين النسق الديني اليهودي والواقع الاستيطاني في فلسطين المحتلة، ولا نخلط بين العبرانيين القدامى والمستوطنين الصهاينة، وهو خلط تحرص كلٌّ من الإمبريالية الغربية والمؤسسة الصهيونية عليه باستخدام دال واحد يشير إلى مدلولين مختلفين للإيهام بوجود استمرار وتَرادُف بين النسق الديني والواقع الاستيطاني، وبالتالي إكساب عملية الاغتصاب الصهيوني لفلسطين شرعية بل وقداسة، وكذلك تصوير الهجوم على المستوطنين الصهاينة على أنه معاداة لليهود ونوع من التعصب الديني!
ونستخدم كلمة «يهودي» للإشارة إلى أعضاء الجماعات اليهودية بعد صدور مرسوم قورش بعودة المهجَّرين إلى بابل. أما كلمة «صهيوني» فهي تشير إلى كل من يؤمن بالعقيدة الصهيونية بغض النظر عن انتمائه الديني.
عَم هآرتس
Am Haaretz(4/86)
«عَم هآرتس» عبارة عبرية تعني حرفياً «شعب الأرض» ، أي «أبناء الأرض» . وقد وردت هذه العبارة في العهد القديم بمعنيين، الأول للإشارة إلى سكان فلسطين الأصليين مثل الحيثيين الذين اشترى منهم إبراهيم مغارة مكفيلة (تكوين 23) مقابل العبرانيين. أما المعنى الثاني، فيشير إلى السامريين والأقوام الأخرى التي كانت تسكن فلسطين وعارضت استيطان العبرانيين العائدين من بابل (عزرا 4) .
وكانت العبارة تُستخدَم كذلك للإشارة إلى عامة العبرانيين مقابل الأسرة المالكة والنبلاء والطبقة العسكرية والكهنة والأنبياء، وذلك قبل التهجير البابلي. ولكن بعد العودة من بابل، حيث صارت النخبة الحاكمة هي الكهنة أساساً، أصبحت العبارة تشير إلى الشعب مقابل الكهنة الأثرياء. وقد أخذت الحواجز بين الفريقين في التحدّد والتبلوّر، فكانت طبقة الكهنة تقيم جميع شعائر الطهارة الخاصة بالعبادة القربانية، كما كانت تتلقى العشور من المصلين ولا تأكل طعاماً إلا إذا دُفعت ضريبة العشور عنه. وقد قام الفريسيون والفرق اليهودية الأخرى، مثل الأسينيين، بإقامة شعائر الطهارة رغم أنهم لم يكونوا من طبقة الكهنة، وكانوا أيضاً لا يأكلون من محاصيل لم تُدفَع عنها العشور. وحتى يضمنوا أن يظلوا ضمن النخبة الحاكمة الطاهرة، كانوا حريصين على الإبقاء على الحواجز الفاصلة بينهم وبين العامة.
ولكن رغم توسيع نطاق النخبة ليضم الفريسيين وغيرهم، ظلت أعداد كبيرة من اليهود غير قادرة على إقامة شعائر الطهارة بسبب تزمتها وصرامتها، خصوصاً في المناطق التي ضمها الحشمونيون وهوَّدوا أهلها عنوة (الإيطوريون والأدوميون الذين أصبحوا يهوداً ولكنهم باتوا ينوءون تحت نير هذه الشعائر) . وقد توجهت المسيحية إلى هؤلاء فانضموا إلى صفوفها، إذ أن الدين الجديد لم يثقل المؤمن بقيود شعائر الطهارة والعبادة القربانية.(4/87)
ومع هدم الهيكل، فقدت العبارة معناها القديم حيث اختفت قوانين الطهارة والعبادة القربانية مع اختفاء الهيكل. ومع ظهور المعبد كمركز للعبادة اليهودية، أصبحت العبارة تفيد معنى قدحياً وتشير إلى اليهودي الذي لا يرتدي تمائم الصلاة (تيفلين) ، ولا الشال (طاليت) ، ولا يضع تمائم الباب (مزوزاه) على منزله، ولا يعلِّم أولاده التوراة. بل وتشير العبارة إلى العامة الذين لا يتفرغون لدراسة التوراة مقابل النخبة الحاخامية التي تفرغت لها. ويبدو أن الهوة قد اتسعت بين الفريقين حتى أن الحاخام عقيبا، الذي بدأ دراسته في سن متأخرة، قال إنه حين كان ضمن عم هآرتس (أي العامة) كان من الممكن أن ينهش لحم أي حاخام يقابله في طريقه. وقد جاء في التلمود أن العالم يجب ألا يتزوج من ابنة أحد من العم هآرتس فهم كريهون وزوجاتهم مثل الديدان وينطبق على بناتهم ما جاء في التوراة " ملعون من يضطجع مع بهيمة " (تثنية 27/21) . فعبارة عم هآرتس تعني ببساطة «الإنسان الجاهل» ولو أنها، عند الحسيديين، كانت تعني «الساذج وطيب القلب» .
وقد استمر التمييز الحاد بين النخبة والعامة من يهود اليديشية، فهم يميِّزون بين «شيد يدين» ، وهي عبارة يديشية تعني «الرجال الذين يتحلون بالجمال» ، وبين «بروست يدين» ، أي الرجال العاديون، وهي تكاد تكون مرادفاً يديشياً لعبارة «عم هآرتس» . وفي العصر الحديث، تُطلَق كلمة «عم هآرتس» أحياناً على اليهود السفارد والشرقيين والفلاشاه.
اليشوف
Yishuv(4/88)
«يشوف» كلمة عبرية تعني «التَوطُّن» أو «السَكَن» ، وهي تشير إلى الجماعات اليهودية التي تستوطن فلسطين لأغراض دينية. ويُستخدَم اصطلاح «اليشوف القديم» للإشارة إلى الجماعات اليهودية التي كانت تعيش على الصدقات التي ترسلها لهم الجماعات اليهودية فيما يُعرَف باسم «حالوقة» . وكان اليشوف القديم يتكون من جماعتين منفصلتين تمام الانفصال: الأولى إشكنازية والأخرى سفاردية، وكانت كل جماعة تنقسم بدورها إلى أقسام فرعية مختلفة حسب مصدر الصدقة التي تأتي لها (وهذا يذكرنا بعض الشيء بالنظام الحزبي في إسرائيل ونظام تمويله عن طريق مساعدات يهود الدياسبورا، فحزب حيروت مثلاً يحصل على أكبر قسط من المعونة من اليهود اليمينيين وبالذات في جنوب أفريقيا، أما حزب الماباي فيموله اليهود الليبراليون في الغرب) .
ولم يكن عند أعضاء اليشوف القديم أية مطامع سياسية لأن الغرض من وجودهم كان دينياً محضاً، ولذلك كانت علاقاتهم بالعرب طبيعية وطيبة للغاية. وعلى العكس من هذا كان أعضاء اليشوف الجديد (وهو الاصطلاح الذي يطلقه الصهاينة على التجمع الاستيطاني الصهيوني ابتداءً من عام 1882) ، إذ كانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم جماعة «قومية» ذات برنامج سياسي محدَّد يتلخص في إنشاء الوطن اليهودي. ولذلك، ركزوا جهدهم في تأسيس أبنية اقتصادية سياسية حضارية منعزلة تمام الانعزال عن العرب (بل وعن أعضاء اليشوف القديم) ، كما كانوا يدورون في إطار مفاهيم انعزالية مثل اقتحام الأرض والعمل والحراسة والإنتاج. وقد تَسبَّب هذا في حدوث توتر ثم صراع حاد أدَّى إلى نشوب القتال بينهم وبين العرب، وهذا الصراع هو الذي يُعرَف الآن باسم الصراع العربي الإسرائيلي.
والملاحَظ أن الكتابات الصهيونية تستخدم كلمة «يشوف» لتوحي بأن ثمة استمراراً يهودياً عبر التاريخ، وأن الوجود اليهودي في فلسطين كان مستمراً ومتصلاً، وفي الوقت نفسه مستقلاً ومنفصلاً عن تاريخ المنطقة العربية.(4/89)
يهودي Jew
كلمة «يهودي» كانت تشير إلى الشخص الذي يعتنق اليهودية، وقد ظهرت بعد الكلمتين الأخريين «عبراني» و «يسرائيلي» أو عضو «جماعة يسرائيل» . و «يهودي» كلمة عبرية مشتقة من «يهودا» وهو اسم أحد أبناء يعقوب والذي سُمِّيت به إحدى قبائل العبرانيين الاثنتي عشرة.
والاسم مُشتَق من الأصل السامي القديم «ودي» التي تفيد الاعتراف والإقرار والجزاء مثل كلمة «دية» عند العرب. وقد اكتسبت هذه المادة معنى الإقرار والاعتراف بالجميل. وقد استوحت ليئة زوجة يعقوب اسم ابنها الرابع من هذا المعنى: " هذه المرة أحمد الرب لذلك دعت اسمه يهودا " (تكوين 29/35) . فكلمة «يهوه» تعني الرب و «دي» تعني الشكر ومنهما «يهودي» .
وكانت الكلمة ذات دلالة جغرافية تاريخية في بادئ الأمر، إذ كانت تشير إلى سكان المملكة الجنوبية (يهودا) وحسب، ولكن دلالتها اتسعت لتشمل اليهود كافة، خصوصاً بعد انصهار سكان المملكة الشمالية (يسرائيل) بعد التهجير الآشوري، واختفائهم من مسرح التاريخ، واستمرار مملكة يهودا قرنين من الزمان.
وهكذا أصبحت كلمة «يهودي» عَلَماً على كل من يعتنق اليهودية في أي زمان ومكان بغض النظر عن انتمائه العرْقي أو الجغرافي. ومن هنا، فإن فيلون السكندري يهودي، وموسى بن ميمون العربي يهودي. ولكن المسألة ليست بهذه البساطة، فكلمة «يهودي» متسعة الدلالة تختلف دلالتها باختلاف الزمان والمكان.(4/90)
ومع أن الشرع اليهودي قد عَرَّف اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية أو تَهوَّد، فإن الشرع الإسلامي لم يقبل، في جميع مراحله التاريخية، بهذا التعريف العرْقي، فكان يُعرِّف اليهودي تعريفاً دينياً وحسب، أي أنه عرَّفه بأنه من يعتنق اليهودية سواء كان من الحاخاميين أو القرّائين أو السامريين. وثمة اختلاف جوهري بين التعريفين، فأحدهما عقائدي محض والآخر ديني عرْقي، وبالتالي تنشأ مشكلة من هو اليهودي، وهل اليهودي هو الذي يعتقد أنه كذلك من منظور يهودي أم أنه اليهودي الذي نسميه نحن كذلك انطلاقاً من عقيدتنا؟
أما في العالم الغربي، فقد مرت الكلمة بعدة تطورات دلالية. ففي العالم الهيليني والدولة الرومانية، كانت كلمة «يهودي» تشير إلى الفرد في الإثنوس أي القوم اليهودي، وكانت مسألة العقيدة ثانوية. وفي العصور الوسطى الكارولينجية في الغرب، حتى القرن الحادي عشر الميلادي، أصبحت كلمة «يهودي» تعني الانتماء إلى الجماعة اليهودية، كما كانت مرادفة لكلمة «تاجر» . وبعد القرن الحادي عشر الميلادي، أصبحت كلمة «يهودي» مرادفة لكلمة «مرابي» . ولم تتخلص اللغات الأوربية تماماً من تلك التضمينات التي كانت تُحمِّل كلمة «يهودي» معنى قدحياً، مثل «بخيل» أو «غير شريف» أو «عبد للمال» وغير ذلك من المعاني التي ارتبطت بأعضاء الجماعات اليهودية، نظراً لاضطلاعهم بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة التي هي محط كراهية أعضاء المجتمع المضيف. وهذا ما كان يعنيه ماركس حينما تَحدَّث عن انتشار العلاقات الإنتاجية الرأسمالية في المجتمع بوصفه «تهويد المجتمع» . ويساوي الفكر الاشتراكي الغربي، خصوصاً كتابات فورييه، بين اليهودي والمرابي. وفي اللغة الإنجليزية، ارتبطت الكلمة باسم يهوذا Judas الإسقريوطي الذي باع المسيح بحفنة قطع من الفضة.(4/91)
ولذا، أسقط بعض اليهود، في القرن التاسع عشر الميلادي، مصطلح «يهودي» واستخدموا مصطلحات مثل «عبراني» و «إسرائيلي» و «موسوي» حتى أصبحت كلها مترادفة. ولكن حدث تَراجُع عن ذلك بعد الحرب العالمية الثانية وأصبح مصطلح «يهودي» أكثر شيوعاً. وكثير من المعاجم الأوربية لا تورد الآن المعاني القدحية لكلمة «يهودي» بل وتوصي بعدم استخدامها. ويُلاحَظ أن كلمة «يهودي» بدأت، منذ القرن التاسع عشر الميلادي، تحمل إيحاءات بالقداسة مع بَعْث أسطورة اليهودي التائه وإعطائها مضموناً إيجابياً.
ومع ظهور حركة التنوير وضعف اليهودية الحاخامية، ترك كثير من اليهود عقيدتهم الدينية واستمروا في تسمية أنفسهم «يهوداً» ، وهذا ما يُطلَق عليه «اليهودي غير اليهودي» . وبين هؤلاء نجد «اليهودي الملحد» و «اليهودي العلماني» و «اليهودي الإثني» ممن نطلق عليهم نحن «اليهود الجدد» . وغني عن القول أنه حينما كان مصطلح «يهودي» يُستخدَم للإشارة إلى هؤلاء، فإن محيطه الدلالي كان يختلف تماماً عن محيطه الدلالي حتى أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، حيث كان الانتماء اليهودي يعني الإيمان بالعقيدة اليهودية. أما هؤلاء، فإنهم لا يتبعون تعاليم دينهم بل ويرفضها بعضهم تماماً ويُسمي نفسه يهودياً استناداً إلى ما يتصور أنه موروثه الثقافي. ويوجد الآن تعريفان لليهودي: أحدهما ديني يعتمد الشريعة ويأخذ به نحو 18% من يهود العالم، والآخر علماني ويأخذ به نحو 61%. والباقون مترددون متضاربون في الرأي. فإن شعر أحدهم في قرارة نفسه بأنه يهودي، فإنه يمكن اعتباره يهودياً.(4/92)
وقد حاول جان بول سارتر تعريف «اليهودي» فأخذ بهذا التعريف الذاتي، وقال إن اليهودي يكون يهودياً أصيلاً حينما يصبح واعياً بحالته كيهودي ويشعر بالتضامن مع سائر اليهود. ولكن سارتر نفسه كان قد عرَّف اليهودي من قبل بأنه من يراه الأغيار كذلك. وفي كلتا الحالتين، لا يُوجَد معيار موضوعي للتعريف. وقد انتهى الأمر به إلى القول بأن اليهودي هو رجل يبحث عن هويته. وهذا ليس بتعريف أيضاً، وإنما إشارة إلى حالة عقلية. وقد علق أحد المثقفين الفرنسيين على الوضع قائلاً: «إنني مثل جميع اليهود الفرنسيين، فأنا يهودي من الناحية الخيالية ولكني فرنسي من الناحية الفعلية» .
ويمكن القول بأن كلمة «يهودي» في الوقت الحالي لها معنيان:
1 ـ يهودي بالمعني الديني الإثني.
2 ـ يهودي بالمعنى الإثني المحض.
فهي تشير إذن إلى الكتل اليهودية الثلاث الأساسية، وهي الإشكناز والسفارد ويهود العالم الإسلامي، وإلى الجماعات اليهودية الأخرى التي انفصلت عن الكتل الثلاث الكبرى مثل الفلاشاه ويهود الهند. وهي تشير أيضاً إلى اليهود من شتى الفرق التي نشأت في العالم الغربي: الإصلاحيين والمحافظين والأرثوذكسيين والتجديديين حتى ولو كفَّر أعضاء هذه الفرق بعضهم بعضاً. ويُستخدَم المصطلح للإشارة إلى المستوطنين الصهاينة مع أن مسألة من هو اليهودي لا تزال دون إجابة داخل الدولة الصهيونية، أي أنها كلمة ذات مجال دلالي مُختلَط وغير محدَّد.(4/93)
ونحن نستخدم كلمة «عبراني» للإشارة إلى اليهود القدامى كتَجمُّع إثني ذي خصائص متميِّزة. وكلمة «جماعة يسرائيل» تشير إلى المجموعة البشرية نفسها كتَجمُّع ديني. وتُستخدَم كلمة «إسرائيل» للإشارة إلى المُستوطَن الصهيوني أما السكان، فهم «إسرائيليون» . كما أننا نستخدم عبارة «أعضاء الجماعات اليهودية» للإشارة إلى يهود العالم بعد المرحلة البابلية، ولا نستخدم كلمة «يهود» أو «يهودي» إلا إذا تَطلَّب السياق ذلك، كأن ننقل وجهة نظر أحد الباحثين أو إن كان الحديث عن اليهود كجماعة دينية. وبسبب اختلاط المجال الدلالي للكلمة، فإننا نضطر إلى استخدام كلمة «يهود» للإشارة إلى اليهود ممن لا يؤمنون بالتوراة أو الإله والذين يصنفون أنفسهم يهوداً.
وغني عن البيان أن مصطلح «صهيوني» لا علاقة له بمصطلح «يهودي» ، فليس كل اليهود صهاينة وليس كل الصهاينة يهوداً، وهناك صهاينة مسلمون وصهاينة مسيحيون وصهاينة بوذيون وصهاينة لا دين لهم ولا ملة.
صهيوني Zionist
«الصهيوني» هو من يؤمن بالعقيدة الصهيونية (إما في شكلها الاستيطاني أو في صورتها التوطينية) . ولذا، فإن هناك اختلافاً عميقاً بين الصهيوني واليهودي، وبينهما من جهة وبين الإسرائيلي من جهة أخرى. ويستطيع القارئ أن يعود للمجلد السادس من هذه الموسوعة والذي يتناول موضوع الصهيونية.
إسرائيلي Israeli
«الإسرائيلي» هو مواطن الدولة الصهيونية. وهو يختلف عن «اليسرائيلي» أو عضو «جماعة يسرائيل» وهم العبرانيون كجماعة دينية. وليس كل الإسرائيليين صهاينة، تماماً كما أن كل الصهاينة ليسوا بالضرورة إسرائيليين. ولا يوجد أي تَرادُف بين «إسرائيلي» و «يهودي» ، بل إن هناك إسرائيليين كثيرين يرفضون العقيدة اليهودية. ويستطيع القارئ أن يعود إلى المداخل المختلفة عن إسرائيل.(4/94)
الباب الخامس: إشكالية التعداد
أعداد الجماعات اليهودية وتوزُّعها في العالم حتى الوقت الحاضر
Worldwide Number and Distribution of the Jewish Communities to the Present
بلغ تعداد العبرانيين في عام 1000 ق. م، حسب بعض التقديرات التخمينية، نحو 1.800.000 نسمة، منهم 450 ألفاً في المملكة الجنوبية ومليون وثلاثمائة وخمسون ألفاً في المملكة الشمالية. ولكن ثمة رأياً يذهب إلى أن هذا العدد مُبالَغ فيه، حيث أن الإمكانات الطبيعية لفلسطين واقتصادها ما كان يمكن لهما في تلك المرحلة بمستوى التطور التكنولوجي السائد آنذاك أن يُمدا مثل هذا العدد الضخم بأسباب الحياة، مع ملاحظة أن عدد سكان مصر كان نحو ستة ملايين بكل إمكاناتها ومعدل نموها.
وعلى أية حال، فقد تناقص التعداد بسبب تدهور الأحوال السياسية والاقتصادية في المملكتين، حتى بلغ خلال الفترة بين عامي 733 و701 ق. م نحو مليون ومائة ألف نسمة، منهم 300 ألف في المملكة الجنوبية و800 ألف في المملكة الشمالية. أما في عام 568 ق. م، بعد التهجير البابلي، فقد بلغ عدد اليهود 150 ألفاً يعيشون جميعاً في المملكة الجنوبية، ولم يبق أحد في المملكة الشمالية إذ أن اليهود الذين هُجِّروا إلى آشور انصهروا وذابوا في سكانها، أما من تَبقَّوا فقد انصهروا في السكان المحليين أو فقدوا هويتهم العبرانية من خلال آليات مختلفة، بعضها معلوم لدينا، وبعضها لا يزال مجهولاً. ويبدو أن عدد سكان مقاطعة يهودا لم يتجاوز فيما بعد مرسوم قورش ما بين 60 و70 ألفاً.(4/95)
وتختلف الصورة السكانية لليهود مع نهاية القرن الأول قبل الميلاد. وقد وصل بعض الدارسين إلى أن عدد يهود العالم في تلك الفترة كان 8.000.000، عاش منهم ما بين 2.350.000 و2.500.000 فقط في فلسطين، وذلك قبل هدم الهيكل على يد تيتوس عام 70 ميلادية، 3.200.000 في سوريا وآسيا الصغرى وبابل (أكثر من 1.000.000 في كل منها) ، وتوزع الباقون في أماكن أخرى مختلفة. ويُقال إن الإسكندرية وحدها كانت تضم ما يتراوح بين نصف مليون ومليون يهودي، أي نحو 40% من كل سكانها وأكثر من سكان القدس من اليهود. ويبدو أن هذه الأعداد مُبالَغ فيها، إذ أن ثمة تقديراً تخمينياً آخر يرى أن عدد اليهود لم يزد على خمسة ملايين: ثلاثة ملايين في سوريا وفلسطين ومصر وآسيا الصغرى، ومليون في أماكن أخرى متفرقة من الإمبراطورية الرومانية، ومليون في بابل التي كانت تابعة للفرس ثم للفرثيين ومن بعدهم الساسانيين.
ويبدو أن ازدياد العدد يرجع إلى عدة أسباب من بينها قيام الدولة الحشمونية بتهويد بعض السكان غير اليهود داخل حدودها، مثل الإيطوريين وبعض الشعوب المجاورة مثل الأدوميين الذين حكمت أرضهم. وقد قام الفريسيون بحركة تبشير ضخمة لاقت نجاحاً غير عادي بسبب أن الوثنية الرومانية بدأت تدخل مرحلة الأزمة التي أدَّت في نهاية الأمر إلى سقوطها وإلى تَبنِّي الرومان للمسيحية ديناً رسمياً. وقد انتشرت اليهودية بين أعداد كبيرة من الرومان، من بينهم بعض أعضاء النخبة الحاكمة، في الفجوة الزمنية التي تفصل بين بداية الضعف والاضمحلال وبين السقوط النهائي وتَبنِّي المسيحية من حيث هي دين وعقيدة تفسر الكون لأتباعها وتمنحهم الإجابات للأسئلة الكونية الكبرى التي تجابههم.(4/96)
ويبدو أن ما يُسمَّى «السلام الروماني» (باللاتينية: باكس رومانا pax (romana، الذي ساد المناطق التي كان يعيش فيها أعضاء الجماعة اليهودية، قد وفر من الأمن والطمأنينة ما شجع اليهود على التزايد. وربما كانت بداية اشتغال اليهود بالأعمال التجارية تعني ارتفاع مستوى المعيشة والابتعاد عن المهام القتالية، وهو ما كان يعني تناقص نسبة الوفيات.
وأخيراً، يُقال إنه بعد سقوط قرطاجة، انضمت الدياسبورا الفينيقية والقرطاجية إلى أعضاء الجماعات العبرانية اليهودية باعتبارهم جميعاً ساميين ينتمون إلى التشكيل الحضاري نفسه وباعتبار أنهم يضطلعون بالوظيفة نفسها.(4/97)
وقد بدأت الصورة تأخذ شكلاً مغايراً مع بدايات العصور الوسطى في الغرب والعصر الإسلامي في الشرق، حيث اختفت أعداد كبيرة من اليهود من خلال عمليات الاندماج والانصهار. فمع ظهور المسيحية، تَنصَّرت أعداد ضخمة من اليهود، كما حدث في الإسكندرية على سبيل المثال. ومع انتشار الإسلام، تبنت أعداد كبيرة منهم الدين الجديد، وتحولت الجماعات اليهودية إلى جماعات صغيرة متناثرة. وكان من الصعب تخمين عدد اليهود في العالم آنذاك إذ أن الإحصاءات كانت متناقضة للغاية، ففي العالم الإسلامي كانت الإحصاءات غير موثوق بها، وفي أوربا لم تكن هناك سجلات إحصائية. ومع هذا، ترى معظم المراجع أن عدد اليهود في العالم كان يتراوح بين مليون ومليونين، وأن أغلبهم (85 ـ 90%) قد تركز في العالم الإسلامي مع نهاية القرن الثاني عشر. ولكننا نفضل الأخذ بالرقم مليون، خصوصاً في ضوء الأعداد اللاحقة، حيث أن عدد يهود أوربا لم يكن يزيد على نحو 100 - 350 ألفاً (من مجموع سكان أوربا البالغ 53 مليوناً) في حين وصل العدد إلى 450 ألفاً في عام 1300 (300 ألف فقط عند روبين) من مجموع 53 مليوناً كان معظمهم مُركَّزاً في إسبانيا. وقد بلغ تعداد يهود العالم في القرن الخامس عشر حسب أحد التخمينات الإحصائية نحو مليون وخمسمائة ألف.
وحتى ذلك التاريخ، كانت أغلبية يهود العالم من السفارد المستقرين في حوض البحر الأبيض المتوسط: روما ـ الإسكندرية ـ إسبانيا ـ المغرب (التابعة للدولة العثمانية) ـ سالونيكا ـ إيطاليا ـ فرنسا، ومن يهود العالم الإسلامي، ولم يكن الإشكناز من يهود أوربا سوى أقلية صغيرة. ثم تغيَّرت الصورة بالتدريج ابتداءً من تلك الفترة حتى أصبح الإشكناز هم الأغلبية العظمى.(4/98)
ولتفسير ذلك الوضع، يجب الوقوف عند ظاهرة تزايد عدد أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا وتَحوُّلها إلى أكبر الجيوب اليهودية في العالم. وتقول الإحصاءات إن عدد يهود بولندا (في عام 1500) كان يبلغ نحو 10 - 15 ألفاً، ولكنه زاد فجأة إلى 150 ألفاً بين عامي 1500 و1648. وتقول الموسوعة اليهودية إنهم أصبحوا بذلك أكبر تَجمُّع يهودي في العالم إذ كان قد تم طرد يهود إسبانيا.
واستمرت الزيادة حتى بلغ عدد اليهود في العالم في أواخر القرن السابع عشر نحو مليونين، حسب رأي آرثر روبين، نصفهم سفارد ويهود من العالم الإسلامي والنصف الآخر إشكناز (في أوربا) إذ أن عدد يهود أوربا كان أساساً في بولندا وبلغ 500 ألف حسب هذه التقديرات. ولكن، مع العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر (عام 1770) ، بلغ عدد يهود العالم مليونين و250 ألفاً، غالبيتهم العظمى (1.75 مليون) في أوربا، منهم 1.2 مليون في بولندا وحدها، أي أن يهود أوربا أصبحوا يهود بولندا. وفي عام 1800، بلغ عدد يهود العالم وفقاً لتقديرات روبين، مليونين ونصف المليون، منهم مليون وخمسمائة ألف في أوربا ومليون في الشرق.
وقد بيَّن آرثر كوستلر في كتابه عن يهود الخَزَر أنه لا يمكن تفسير هذا الانقلاب السكاني إلا بما يسميه «الشتات الخَزَري» ، أي انتقال يهود الخَزَر، بعد سقوط مملكتهم، إلى شرق أوربا وخصوصاً بولندا. ولا يختلف المؤرخون الآن في أن أعداداً من يهود الخَزَر استقرت في بولندا، ولكنهم يختلفون حول حجم هذا العدد. ونحن، على أية حال، نميل إلى الأخذ برأي كوستلر لأنه، على الأقل، يفسر ظاهرة محيِّرة لا يمكن تفسيرها من خلال أية فرضية أخرى.
وقد صاحب زيادة يهود أوربا انخفاض تعداد يهود العالم الإسلامي الذين بلغ عددهم 600 ألف في عام 1800. ويذهب روبين إلى أن عددهم لم ينخفض وإنما ظل على ما كان عليه. ولذا، فهو يرى أن عددهم ظل يدور حول المليون.(4/99)
وقد ظهرت في تلك المرحلة (القرن الثامن عشر) نواة الجماعة اليهودية في العالم الجديد، وتراوح عدد أعضائها بين عشرة آلاف وخمسة عشر ألفاً.
ولكن، بعد انعقاد مؤتمر فيينا في عام 1815، بدأت مرحلة جديدة تماماً إذ حدث انفجار سكاني بين اليهود. فإذا كان عدد اليهود في عام 1800 هو مليونان وخمسمائة ألف، فقد بلغ هذا العدد عشية الحرب العالمية الثانية نحو 16.724.000. ومعنى ذلك أنهم زادوا ستة أضعاف في أقل من 150 عاماً. وفي الفترة من عام 1820 إلى عام 1825، كان عدد اليهود 3.280.000، وزاد إلى 10.602.500 مع عام 1900. وبهذا، فقد زادوا ثلاثة أضعاف خلال 75 عاماً. ويُلاحَظ أن الزيادة كانت بين يهود العالم الغربي فقط، ذلك أن تعداد يهود الشرق لم يزد بل انكمش إلى 900 ألف عام 1840، وإلى 800 ألف عام 1860، ثم زاد إلى 950 ألفاً بسبب هجرة بعض يهود اليديشية من الغرب عام 1900. ولكن هذا النمو لم يكن مقصوراً على أعضاء الجماعات اليهودية، ففي الفترة نفسها تقريباً (من عام 1815 إلى عام 1914) زاد سكان أوربا من 190 مليوناً إلى 400 مليون. وزاد سكان الولايات المتحدة من 7.240.000 عام 1810 إلى 91.972.000 عام 1910، وإن كانت الزيادة في الولايات المتحدة يمكن تفسيرها على أساس الهجرة، فهذا هو عصر الهجرة الأوربية الكبرى (اليهودية وغير اليهودية) . وقد استوعبت الولايات المتحدة نحو 85% من المهاجرين، لكن الزيادة في أوربا لا يمكن تفسيرها إلا على أساس زيادة نسبة المواليد وقلة نسبة الوفيات. ومع هذا، يُلاحَظ أن نسبة زيادة أعضاء الجماعات اليهودية كانت أعلى من النسبة العامة في أوربا، ولعل هذا يعود إلى أن أعضاء هذه الجماعات كانوا يعيشون تحت الظروف نفسها التي أدَّت إلى زيادة سكان أوربا، وتحت ظروف أخرى خاصة بهم ساهمت في رفع النسبة عن النسبة العامة في أوربا. فيُلاحَظ أن تَحسُّن الأحوال الصحية، نتيجة الثورة الصناعية في أوربا، قد ترك أثره(4/100)
الإيجابي في أعضاء الجماعات اليهودية، ولكن يبدو أن المستوى الصحي داخل الأحياء اليهودية كان أعلى من المستوى الصحي العام بسبب الرقابة على اللحوم والأطعمة نظراً لتطبيق قوانين الطعام.
وفي شرق أوربا، حيث تَركَّز معظم اليهود، كان دخل أعضاء الجماعة اليهودية أكثر ارتفاعاً وكان أسلوب حياتهم أكثر راحة ووفرة من دخل وأسلوب حياة معظم الجماهير الفلاحية، كما كان أعضاء الجماعة يتمتعون بمستوى ثقافي أعلى. وقد انعكس هذا، بطبيعة الحال، على نوعية الطعام الذي يستهلكونه وأدَّى إلى اختفاء أو تناقص الأمراض المرتبطة بالفقر وسوء التغذية. وكانت الأسرة اليهودية تتمتع بدرجة عالية للغاية من التماسك، الناجم عن التمسك بالقيم الدينية والتقليدية، بقدر يفوق كثيراً تَماسُك الأسر غير اليهودية. ويظهر هذا في إحصاءات الأطفال غير الشرعيين، حيث كانت نسبتهم بين اليهود في كثير من الأحيان أقل بدرجة ملحوظة من نسبتهم بين غير اليهود. والعنصران السابقان يسهمان معاً في خفض نسبة الوفيات بين الأطفال كما يشجعان على الإنجاب.(4/101)
ومن أهم العناصر الأخرى التي ساعدت على هذا الانفجار زواج اليهود في سن مبكرة للغاية. فقد كان من الشائع أن يتزوج الشبان من سن 15 إلى 18 بفتيات من سن 14إلى 16. وكانت الحكومات المركزية القومية المطلقة في روسيا والنمسا تلجأ أحياناً إلى تحديد سن الزواج وعدد المسموح لهم بالزواج (نتيجة شيوع آراء مالتوس ولغير ذلك من الأسباب) . وحينما كانت الشائعات تنطلق حول أحد القوانين وشيكة الصدور، كان اليهود يسرعون بتزويج كل صغار السن قبل صدوره. وفي إحدى الإحصاءات البولندية (في القرن الثامن عشر) ، ورد ذكر لزوجة عمرها ثماني سنوات. وفي عام 1712، منعت السلطات في أمستردام زواج طفلين يهوديين تحت سن الثانية عشرة. ومن العناصر الأساسية التي ساهمت في تزايد عدد اليهود أن الفترة من عام 1800 إلى عام 1914 لم تشهد الأماكن التي يوجد فيها أغلبية يهود العالم أية حروب، بل إن معارك نابليون وقعت بعيداً عن مراكز التجمع اليهودي. وعلاوة على كل هذا، لم تكن هناك دول كثيرة تقوم بتجنيد اليهود، ففي روسيا القيصرية، لم يبدأ تجنيدهم إلا عام 1827، ولم يُجنَّدوا في بولندا حتى عام 1845، ولا في الدولة العثمانية حتى عام 108. وفيما يتصل بالمذابح التي تطنطن بها المراجع الصهيونية، فلم يقع ضحيتها سوى بضع مئات طيلة هذه الفترة.
لكل هذه الأسباب، حدثت الطفرة السكانية التي أشرنا إليها في الفترة من عام 1820 إلى عام 1825 حيث بلغ عدد يهود العالم 3.281.000 نسمة، منهم 2.730.000 في أوربا (1.600.000 في روسيا ومعها بولندا ـ 80 ألفاً في رومانيا ـ 568 ألفاً في الإمبراطورية النمساوية/المجرية - 223 ألفاً في ألمانيا ـ 50 ألفاً في فرنسا ـ 45 ألفاً في هولندا) . وكانت البقية موزعة على أنحاء العالم، فلم يكن يوجد سوى عشرة آلاف في الأمريكتين منهم ثمانية آلاف في الولايات المتحدة.(4/102)
وفي عام 1850، بلغ عدد يهود العالم 4.750.000، منه 72% في شرق أوربا (2.350.000 في روسيا وبولندا) و14.5% في غرب أوربا، و1.5% في الولايات المتحدة، و12% فقط في الشرق الأوسط. وقد قفز هذا العدد قفزة كبيرة عام 1880 (تاريخ ظهور الصهيونية بين اليهود) إلى 7.500.000 موزعاً على النحو التالي: أربعة ملايين في روسيا وبولندا (56.2%) ، ومليون وخمسمائة ألف في الإمبراطورية النمساوية (20%) ، وفي دول أوربا الأخرى مليون (13.3%) ، ومائتان وخمسون ألفاً في الولايات المتحدة (3.3%) ، والبقية في آسيا وأفريقيا وغيرها من المناطق. ومما لا شك فيه أن زيادة حجم الكتلة البشرية اليهودية في العالم الغربي، في روسيا وبولندا على وجه التحديد، قد ساهم في تَفاقُم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لأعضاء الجماعات اليهودية، وهو ما يُطلَق عليه «المسألة اليهودية» . وإذا لاحظنا تناقص يهود العالم الإسلامي والسفارد، قياساً إلى تعداد اليهود في العالم، إلى أقل من 8%، يصبح من الدقة العلمية ألا نتحدث عن المسألة اليهودية بشكل مطلق وإنما عن المسألة اليهودية الأشكنازية في روسيا وشرق أوربا.
وقد قفز عدد اليهود إلى 10.602.000 عام 1900، ثم بلغ عشية الحرب العالمية الأولى 13 مليوناً. وهذا يمثل، مرة أخرى، قفزة كبيرة. وكان هؤلاء موزعين على النحو التالي: 5.500.000 في روسيا (من نحو 127 مليون روسي) ويمثلون 42.3% من يهود العالم. وقد قفزت الولايات المتحدة إلى المرتبة الثانية نتيجة الهجرة اليهودية الضخمة إذ بلغ عدد اليهود فيها 2.500.000، أي 19.2.% من يهود العالم. ويُلاحَظ أن هذه الهجرة لم تسهم كثيراً في تخفيف حدة التوتر بالنسبة إلى يهود روسيا وبولندا، نظراً لأن أعدادهم كانت تتزايد بسرعة تفوق أعداد المهاجرين. أما بقية الجماعات اليهودية في العالم، فقد كان عدد أعضائها على النحو التالي:(4/103)
الإمبراطورية النمساوية: 2.500.000، أي 19.2% من يهود العالم. دول أوربا الأخرى: 1.700.000، أي 13.1%، موزعين على النحو التالي:
300.000رومانيا ـ وزاد العدد إلى 850 ألفاً بعد أن ضمت رومانيا بعض المناطق التي تضم جماعات يهودية.
600.000 ألمانيا.
250.000 إنجلترا.
100.000 هولندا.
100.000 فرنسا.
47.000 إيطاليا.
750.000 في الشرق أي 5.8 %.
85.000 في فلسطين أي 0.1 %.
وتذكر الموسوعة اليهودية (جوديكا) أن تعداد يهود العالم عام 1939 بلغ 16.724.000، منهم.9.480.000 في أوربا (من مجموع تعداد السكان البالغ 512.849.000) ، و2.825.000 في الاتحاد السوفيتي (من مجموع تعداد السكان البالغ 132.519.000) ، وفي بولندا 3.250.000 (من مجموع السكان البالغ 32.183.000) . ويُلاحَظ أن بولندا استقلت عن روسيا، وبالتالي أصبح اليهود يشكلون نسبة 10.1% من السكان، وهي أعلى النسب التي وصل إليها تعداد اليهود في أي بلد في التاريخ الإنساني.(4/104)
وبلغ عدد اليهود 850 ألفاً في رومانيا (من مجموع عدد السكان البالغ 18.053.000) و254.560 في الجمهوريات البلطيقية: ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا (من مجموع عدد السكان البالغ 5.106.000) . كما كان يوجد 357 ألف يهودي في تشيكوسلوفاكيا عام 1930، و445 ألف يهودي في المجر عام 1930، و504 آلاف يهودي في ألمانيا من مجموع عدد السكان البالغ عددهم 65.988.000. وكانت الولايات المتحدة تضم 4.975.000 يهودي، وبذلك أصبحت الولايات المتحدة مركزاً لأكبر جماعة يهودية في العالم، إذ أن يهود اليديشية في شرق أوربا كانوا مقسَّمين بين عدة دول من أهمها روسيا السوفيتية وبولندا ورومانيا. وكان يوجد 155.700 في كندا، و275 ألفاً في الأرجنتين. وكانت الأمريكتان تضمان 5.537.000. أما آسيا، فكانت تضم 1.047.000 بسبب تَزايُد حجم الجيب الاستيطاني الصهيوني الذي كان يضم 475.000. أما الباقون، فكانوا موزعين على النحو التالي: 90 ألفاً في العراق و26 ألفاً في سوريا ولبنان و50 ألفاً في اليمن والجزيرة العربية و50 ألفاً في إيران و24 ألفاً في الهند و10 آلاف في الصين وألفان في اليابان وكان اليهود الموجودون في بلاد مثل الصين من يهود اليديشية في الغالب. وقد بلغ عدد اليهود في أفريقيا 627.500حيث كانت أكبر جماعة منهم في المغرب إذ بلغت 162 ألفاً، تليها الجزائر التي كان بها 110 آلاف، وجنوب أفريقيا حيث كان بها 90 ألفاً، فمصر 70 ألفاً، ثم تونس وضمت 59 ألفاً، وأخيراً إثيوبيا التي ضمت 51 ألفاً. وبلغت الجماعة اليهودية في أستراليا 23.600. ويُلاحَظ أن حوالي 5.537.000 يهودي، أي نحو ثلث يهود العالم، يوجدون في دول استيطانية، هي: الولايات المتحدة، وكندا، وجنوب أفريقيا، وفلسطين، وأستراليا، ونيوزيلندا، وأمريكا اللاتينية. ويمكن أن نضيف إليهم كذلك المستوطنين اليهود في الجزائر، لأن اليهود الأصليين كانوا أقلية. ومن ثم يمكننا القول بأن الجماعات اليهودية في العالم(4/105)
أصبحت جزءاً من التجربة الاستيطانية الغربية (والأنجلو ساكسونية على وجه التحديد) . وقد أورد آرثر روبين الجدول السابق عن الأماكن التي استوطن فيها أعضاء الجماعات اليهودية وأعدادهم.
ومن الجدول السابق، يُلاحَظ أن الولايات المتحدة أصبحت تضم أكبر تَجمُّع يهودي في العالم. كما يُلاحَظ أنه برغم استمرار الأعداد في التزايد إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، فإن العوامل التي أدَّت إلى هذا التزايد قد اختفت تماماً، كما ظهرت عناصر لم يكن من شأنها تشجيع اليهود على الإنجاب، بل وأدَّت إلى تناقص أعدادهم، ومن أهم هذه الأسباب تَصاعُد معدلات العلمنة بين أعضاء الجماعات اليهودية. ففي بداية القرن التاسع عشر، كانت هذه الجماعات من أقل الجماعات علمنة، ولكن معدلات العلمنة تزايدت بالتدريج من خلال محاولات الحكومات الأوربية المختلفة دمجهم وإصلاحهم وتشجيعهم على الاندماج، بحيث كانت معدلات العلمنة بينهم مع نهاية القرن من أعلى المعدلات على الإطلاق. وقد كان 03% من السجناء السياسيين من اليهود، كما ازدادت نسبة الأطفال غير الشرعيين وأصبحت نسبة العاهرات اليهوديات والقوادين اليهود من أعلى النسب.
ويُلاحَظ أن هذه الفترة هي فترة الهجرة اليهودية الكبرى التي شملت 50% من يهود شرق أوربا، ومن المعروف أن الجماعات المهاجرة تحجم عادةًً عن الإنجاب بسبب تقلقل وضعها. والعناصر المهاجرة هي عادةً العناصر الشابة، بل ويُقال إن الهجرة اليهودية قضت تقريباً على اليهود في المرحلة العمرية 20 - 40 سنة وهي مرحلة الخصوبة التي تجعل أية جماعة قادرة على أن تُعيد إنتاج نفسها. ويُلاحَظ كذلك أنه بعد اندماج اليهود في مجتمعاتهم، بدأت قطاعات منهم تحقق حراكاً اجتماعياً وتَحسُّناً في مستوى المعيشة، ومن المعروف أن تَحسُّن مستوى المعيشة يؤدي إلى تَبنِّي سلوك حذر تجاه الإنجاب.(4/106)
وإلى جانب ذلك، فإن أغلبية يهود العالم بدأت تستقر في المدن الكبرى والعواصم. فقبل الحرب العالمية الثانية، كان ما يزيد على نصف يهود العالم، أي نحو 52% منهم، يعيشون في 42 مدينة في كل منها 50 ألف يهودي أو أكثر، وكان ما بين 35% و40% يتركزون في عشرين مدينة في كل منها ما يزيد على 100 ألف يهودي. وهذا يدل على أن معدل التركز في المدن كان آخذاً في التزايد، حيث كانت النسبة في بداية القرن 18% في المجموعة الأولى و13% في المجموعة الثانية. وفي عام 1933، كان يعيش مليون يهودي روسي، أي ثلث يهود روسيا، في مدن سوفيتية لا تضم سوى 5% من أعضاء الأغلبية، ويعيش بقية اليهود في مدن صغيرة. أما في الولايات المتحدة (عام 1927) ، فقد كان 84% من اليهود يعيشون في 18 مدينة كبيرة (وكانت نيويورك تضم نصف الجماعة اليهودية) . وفي الثلاثينيات، كان يعيش في كوبنهاجن نحو 93% من يهود الدنمارك، وكان نحو 92% من يهود النمسا في فيينا، ونحو 70% من يهود فرنسا في باريس، ونحو 65% من يهود إنجلترا في لندن، وهكذا. ومن المعروف أن التركز في المدن لا يشجع على الإنجاب، وأن المدن لم يمكنها في الماضي (في روما واليونان القديمة) أن تحافظ على العدد المناسب من السكان من خلال التزايد الطبيعي.(4/107)
وقد أسلفنا أن المنطقة التي تَركَّز فيها اليهود، إبَّان القرن التاسع عشر، كانت منطقة لم تَدُر فيها أية معارك كبرى أو حروب حتى الحرب العالمية الأولى. ولكن، مع الحرب العالمية الأولى، تغيَّر الموقف تماماً حينما تحوَّلت بولندا وجاليشيا وليتوانيا ورومانيا وسالونيكا إلى مسرح للعمليات العسكرية. ولم يتوقف الأمر مع نهاية الحرب، إذ أصبحت أوكرانيا مسرحاً لعمليات عسكرية عديدة التحمت فيها القوات البلشفية مع قوات الروس البيض (حيث انضم الأوكرانيون إلى الفريق المعادي للثورة) ، وتم الهجوم على أعضاء الجماعة اليهودية الذين كان يُنظَر إليهم باعتبارهم عملاء للبلاشفة، إذ أن هؤلاء كانوا قد وضعوهم تحت حمايتهم، كما كان ميراث يهود الأرندا جزءاً من تجربة الأوكرانيين التاريخية. وكان تجنيد اليهود في القوات المسلحة يتم بصورة كاملة، بعدما أصبح عتق اليهود حقيقة مستقرة، فبلغ مجموع عدد المحاربين اليهود في الجيش الروسي والنمساوي والألماني وفي قوات الحلفاء نحو نصف مليون يهودي، وهو عدد ضخم في واقع الأمر. وقد سقط من اليهود العديد من الضحايا، فقُتل نحو 12 ألف جندي ألماني يهودي. ولنا أن نتخيل نسبة القتلى بين المقاتلين اليهود في كل الأطراف، ولكن يجب أن نشير إلى أن هذا العنصر لا ينقص من عدد اليهود بصورة مباشرة فقط، أي من خلال الوفاة، فذلك يتم بصورة غير مباشرة أيضاً من خلال العزوف عن الإنجاب. ففي مناطق وفترات الحروب والثورات، بكل ما تسببه من حركة وعدم طمأنينة، يجد البشر أن من السخف بمكان إنجاب طفل ليعيش في هذه الدنيا.(4/108)
ومن الظواهر الأخرى التي أدَّت إلى تَناقُص أعداد اليهود الزيجات المُختلَطة. فبعد الحرب العالمية الأولى، كان نحو 50% من الزيجات اليهودية في ألمانيا (عام 1915) زيجات مُختلَطة زادت إلى 60% في عام 1932. وفي كوبنهاجن، وصلت نسبة الزيجات المُختلَطة إلى نحو 86% في الفترة بين عامي 1880 و1905. وفي أمستردام، وصلت النسبة إلى نحو 70% (1930) . ومن المعروف أن معدلات الاندماج المرتفعة تؤدي إلى تَزايُد الزواج المُختلَط. وفي نهاية القرن التاسع عشر، كانت عملية الاندماج في أوربا تأخذ شكل التنصُّر. وكانت نسبة التنصُّر تتفاوت من بلد إلى آخر، ووصلت إلى حدِّها الأقصى في ألمانيا حيث حقق اليهود أعلى معدلات الاندماج، وهو ما أدَّى إلى انصهارهم. ولكن الانصهار يأخذ شكلاً مغايراً تماماً في العصر الحديث، ففي الماضي كان على اليهودي الذي يود الهرب من هويته أن يعتنق المسيحية، أما في المجتمعات العلمانية فيستطيع اليهودي أن ينكر هويته اليهودية ويتخلى عنها دون أن يضطر إلى تَبنِّي هوية دينية أخرى. وربما حدث شيء من هذا القبيل بين أعداد المهاجرين الروس إلى الولايات المتحدة وغيرها من البلاد. ونحن نعرف أن كثيراً من اليهود الذين هاجروا إلى أمريكا اللاتينية بشهادات تعميد مزيفة أصدرها الفاتيكان لتسهيل عملية هربهم من الإرهاب النازي، قد آثروا الإبقاء على هويتهم المسيحية ولم يعيدوا تأكيد انتمائهم اليهودي حتى بعد زوال الخطر.(4/109)
لكل هذه الأسباب، تَناقص تعداد اليهود وتناقص معدل الإنجاب بينهم. وقد بدأ هذا الاتجاه في منتصف القرن التاسع عشر بين يهود غرب أوربا الذين كانوا يشكلون أقلية، ثم انتقل إلى وسطها وشرقها مع نهاية القرن، وتَزايُد معدل التناقص واستمر حتى الوقت الحالي حيث وصل إلى معدلات عالية للغاية. أما في الجيب البولندي، حيث المناطق التي تَركَّز فيها معظم يهود العالم وحكمت روسيا معظمها وحكمت النمسا جزءاً آخر منها وحكمت ألمانيا الجزء الثالث، وهو الجيب الذي كان مركزاً ليهود اليديشية وكان يسميه هتلر «البنية التحتية البيولوجية للشعب اليهودي» ، فقد تناقصت نسبة المواليد بشكل مذهل. ففي منتصف القرن التاسع عشر، كان أعضاء الجماعة في روسيا القيصرية يتمتعون بواحدة من أعلى نسب الخصوبة والتكاثر بين شعوب الإمبراطورية، ولكن مع عام 1926 انخفضت النسبة إلى أقل النسب على الإطلاق إذ بلغت 24.8 في الألف بعد أن كانت 35.9. وقد ظلت نسبة التكاثر عالية بين الروس إذ وصلت 43.65 في الألف بفارق قدره 19.575 في الألف بين شعوب الدولة السوفيتية وأعضاء الجماعة. ويُلاحَظ أنه رغم وجود جماعات يهودية أخرى في الاتحاد السوفيتي، من بينها اليهود الجورجيون ويهود القوقاز وغيرهم ممن لم يمروا بالظروف نفسها التي مرَّ بها يهود اليديشية، فإن هذه الجماعات كانت صغيرة وربما لا تتجاوز 5%، ومن ثم فإنها لم تؤثر بتاتاً في الصورة العامة. وفي بولندا، نجد الاتجاه نفسه. فقد انخفضت نسبة المواليد في وارسو من 28.6 في الألف عام 1900 إلى 12.3 في الألف عام 1925. وفي لودز، انخفضت نسبة المواليد بين اليهود خلال سبعة أعوام إلى 11.6 في الألف. وفي جاليشيا، كانت الإحصاءات مثيرة، فبعد أن كانت نسبة المواليد بينهم من أعلى النسب في أوربا مع بداية القرن الحالي إذ وصلت إلى 38.16 في الألف (ولذا كان يهود النمسا يسمونها «فاجينا جودايوروم» أي «فَرْج اليهود» ) ، انخفضت النسبة فيها إلى(4/110)
19.3 في الألف عام 1934، أي إلى نحو 50%. وكانت نسبة المواليد بين يهود المجر 19.33 في الألف في بداية القرن الحالي وانخفضت إلى 5.10 فقط، أي أنها انخفضت بنسبة 23.4، أي بنحو 66%. وكانت معدلات العلمنة بين يهود المجر من أعلى النسب في أوربا كلها، كما كانت نسبة عدد الأطفال غير الشرعيين في بودابست وكذلك نسبة الانتحار بين أعضاء الجماعة من أعلى النسب بين أعضاء الجماعات. وفي رومانيا، كانت نسبة المواليد بين اليهود عام 1900 نحو 32.6 في الألف، ولكنها انخفضت مع عام 1934 إلى 14.8في الألف. وبلغت نسبة المواليد 2 في الألف في لندن مع عام 1932.
وفيما يلي جدول بتغيُّر نسبة المواليد بين يهود بروسيا، نقلاً عن آرثر روبين، كمثل على تَناقُص نسبة اليهود.
السنة / النسبة في الالف
1832 / 35.5
1841 - 1866 / 34.7
1878 - 1882 / 30.7
1888- 1892 / 23.7
1898 - 1912 / 19.7
1913 / 15.0
1924 / 14.6
1926 / 12.0
1928 / 10.5
1929 / 9.1
ومعنى ذلك أن نسبة المواليد عام 1929 كانت أقل من ثلث نسبتهم منذ خمسين عاماً.
ويُلاحظ آرثر روبين أنه خلال خمسة وعشرين عاماً (بين عامي 1905 و1930) هبطت نسبة الزيادة من 18 إلى 8 في الألف، كما يُلاحظ أن التقدم الذي أحرزه اليهود خلال 150عاماً (من عام 1750 إلى عام 1905) فُقد خلال 25 عاماً!
وقد لاحظ يوريا إنجلمان في كتابه ظهور اليهود في العالم الغربي (1944) أن نسبة المواليد لا تُعوِّض نسبة الوفيات، وأن معدلات المواليد بين اليهود في شرق أوربا وجنوب شرق أوربا (دول البلقان وربما النمسا) وصلت إلى نقطة الخطر (قبيل العدوان النازي) . وقد حذر ثايلهابر في دراسته اختفاء اليهود الألمان (1908) مما سماه «الضعف السكاني» حيث بيَّن أنه، إذا لم يُوقَف هذا الاتجاه، فسيختفي يهود ألمانيا تماماً.(4/111)
وبالفعل، نجد أن الوفيات بين يهود بودابست عام 1931، حيث كان يعيش نصف يهود المجر، قد زادت عن المواليد بنحو 1507 ثم هبطت إلى 1469 عام 1932، واستمر هذا النمط حتى الحرب العالمية الثانية. وقد حدث الشيء نفسه في بروسيا حيث فاق عدد الوفيات عدد المواليد بمقدار 29.2 عام 1931، ثم زاد إلى 2399 عام 1932 وإلى 3480 عام 1935. وفي عام 1916، سجلت الجماعة اليهودية في برلين 494 مولوداً مقابل2483 حالة وفاة، أي أن الوفيات كانت خمسة أضعاف المواليد. وفي عام 1939، كانت المسألة مخيفة، فمن مجموع سكان برلين البالغ عددهم 90 ألفاً سُجل ستة مواليد فقط طيلة العام في مقابل 1944 حالة وفاة، أي مولود واحد مقابل كل 324 حالة وفاة. ولم يكن الأمر مختلفاً في فيينا حيث كان يعيش 92.9% من يهود النمسا، فقد ظل معدل المواليد في انخفاض مستمر لمدة عشرة أعوام. وفي عام 1936، سُجِّل في فيينا 673 مولوداً يهودياً مقابل 2061 حالة وفاة. ويقول يوريا إنجلمان تعليقاً على الإحصاءات السابقة: إذا لم توقَف العملية ذات الأبعاد الثلاثة [تناقص المواليد وتزايد الوفيات وتزايد معدلات الاندماج] فسوف يؤدي ذلك في النهاية إلى تَفسُّخ السكان اليهود الكامل، وأكبر دليل على أن هذا ليس مجرد افتراض وإنما هو تجربة السكان اليهود في فيينا وبودابست وبرلين وهامبورج وباريس ولندن وبادوا وتريسته ومدن أخرى.(4/112)
وأثناء فترة الحرب العالمية الثانية، وصلت هذه الاتجاهات إلى ذروتها، إذ زادت حركة أعضاء الجماعات اليهودي واضطُر كثير منهم إلى إخفاء انتمائه اليهودي، كما أن ظروف الحرب لم تشجع كثيراً على القيام بالأفعال الإنسانية العادية مثل الزواج والإنجاب. بالإضافة إلى أن عدداً كبيراً من اليهود لقوا حتفهم بسبب الجوع والمرض. ففي عام 1941، تُوفي نحو 10% من يهود وارسو بسبب الجوع والمرض، ثم زادت النسبة إلى 15 %. وقد تَفشَّت بعض الأوبئة بعد عام 1942 حسب تقرير البوند، وتُوفي الكثيرون بسبب عمليات الحرب. ويُقدَّر عدد الذين لقوا مصرعهم حتى عام 1941 بنحو 250 ألفاً. وهرب الألوف إلى الاتحاد السوفيتي وهلك بعضهم أثناء هروبهم. وكما جاء في الموسوعة اليهودية العالمية، فإن كثيرين ممن وصلوا لم يكترثوا كثيراً بإعلان هويتهم اليهودية.
والبيانات السابقة تجعلنا نعيد النظر في قضية الستة ملايين يهودي (ضحايا الإبادة النازية) إذ من الممكن أن تكون هناك نسبة كبيرة من أعضاء الجماعات اليهودية قد اختفت لا من خلال الإبادة وإنما من خلال التناقص الطبيعي. ونحن نذكر هذا لا من قبيل التقليل من حجم الجريمة النازية الأوربية ضد يهود أوربا وغيرهم من الجماعات الإثنية والدينية، وإنما من قبيل تقديم صورة دقيقة لأعداد اليهود في العالم، وحتى لا يحتكر أحد لنفسه لقب «الضحية الوحيدة» ثم يؤسس على هذا نظرية في الحقوق اليهودية المطلقة في بقعة من الشرق. فالجريمة النازية ضد الجماعات اليهودية والسلاف والغجر وغيرهم تُعَدُّ من أبشع الجرائم التي ارتكبتها الحضارة الغربية الحديثة ضد بعض الأقليات والجماعات البشرية التي تعيش في كنفها. وقد ارتكبت هذه الحضارة الكثير من البشاعات ضد الشعوب الأفريقية والآسيوية، ولكن الفضيحة اتضحت هذه المرة لأن ضحايا الجريمة كانوا من الجنس الأبيض.(4/113)
أما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد ظهرت الصورة السكانية التي لا تزال سائدة حتى الآن، حيث أصبحت الولايات المتحدة هي وطن اليهود بلا منازع، إذ بلغ عددهم 5000.000 عام 1948، و5.870.000 عام 1967 من مجموع يهود العالم البالغ عددهم 11.373.000 عام 1948، و13.837.500 عام 1967، أي أن نصف يهود العالم تقريباً موجود في الولايات المتحدة. ولكن عدد اليهود في البلاد الاستيطانية هو 9.583.000، فيوجد 6.925.000 في الأمريكتين و2.436.000 في إسرائيل و115 ألفاً في جنوب أفريقيا و5.500 في روديسيا و75 ألفاً في أستراليا ونيوزيلندا. ومعنى هذا أن أعضاء الجماعات اليهودية انتقلوا من أوربا، حيث كانوا متركزين حتى أواخر القرن التاسع عشر، إلى الدول الاستيطانية، خصوصاً الولايات المتحدة وإسرائيل، مع التسليم بأن الولايات المتحدة تحتل مركز الصدارة. وقد انكمش يهود اليديشية، الذين كانوا قد فَقَدوا شخصيتهم اليديشية (وأُطلق عليهم بسبب ذلك مصطلح «يهود الاتحاد السوفيتي» ) ، فلم يبق منهم في الاتحاد السوفيتي سوى مليونين في عام 1948، لكن عددهم زاد إلى 2.650.000 عام 1959. وهم، بذلك، يُكوِّنون أكثر من نصف يهود أوربا في ذلك الوقت. ولا توجد جماعات يهودية كبيرة في إنجلترا أو فرنسا. وقد أورد الكتاب السنوي الأمريكي اليهودي (1983) الإحصائية التالية لأكبر الجماعات اليهودية في العالم (لعام 1930) وبجوارها الإحصاءات الخاصة لعام 1983 وقد عدلناها حسب إحصاء 1989.
السنة / 1930 / 1989
المجموع العالمي / 15مليون / 12210700
الولايات المتحدة / 4228000 / 5515000
الاتحاد السوفيتي (سابقاً) / 2927000 / 1370000
بولندا / 2845000 / 4100
رومانيا / 900000 / 19000
ألمانيا / 564000 / 35000
المجر / 477000 / 58000
تشيكوسلوفاكيا / 354000 / 7900
بريطانيا / 300000 / 320000
النمسا / 250000 / 6300
فرنسا / 220000 / 530000
الأرجنتين / 200000 / 218000(4/114)
فلسطين / إسرائيل / 161000/ 3717000
كندا / 126000 / 310000
جنوب أفريقيا / 72000/ 114000
البرازيل / 30000 / 100000
أستراليا / 22000 / 85000
ويُلاحَظ أن الكتلة البشرية اليديشية في كلٍّ من الاتحاد السوفيتي وبولندا ورومانيا والنمسا والمجر قد صفِّيت تقريباً ولم يبق في عام 1983 سوى 1.630.000 في الاتحاد السوفيتي، ولكنهم على أية حال لم يعودوا يتحدثون اليديشية. وقد انخفض هذا العدد إلى1.370.000 في عام 1989، وازداد انخفاضاً بعد هجرة اليهود السوفييت الأخيرة وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي. ولأول مرة في التاريخ الحديث، أصبح عدد أعضاء الجماعات اليهودية في غرب أوربا يفوق عددهم في شرقها. ولا تزال الولايات المتحدة تتصدر القائمة منذ عام 1930 وإن كانت أهميتها ازدادت بشكل حاد بسبب تناقص أعداد الجماعات اليهودية في بقية أنحاء العالم. وشهدت هذه الفترة ظهور التجمع الصهيوني في فلسطين كنواة كبيرة بلغت نحو 750 ألفاً، أي 8% تقريباً من يهود العالم. وقد أخذت هذه الخلية في التضخم فأصبحت تضم 2.436.000 عام 1967 في حين كان الجسد الأكبر آخذاً في الانكماش.
أعداد الجماعات اليهودية في العالم: بعض الإشكاليات
(Worldwide Number of the Jewish Communities (Some Problematics
ثمة مشاكل عديدة تحيط بمحاولة تناول موضوع تعداد الجماعات اليهودية عبر التاريخ.
1 ـ يُلاحَظ أن معظم الأرقام المُستخدَمة (حتى عام 1800) تخمينية إلى حدٍّ كبير، وتقريبية حتى عام 1900 (وهذه مشكلة عامة بالنسبة لأي تعداد) .(4/115)
2 ـ ثمة تحيزات عقائدية عميقة تجعل كثيراً من الدارسين يفرضون عليها دلالات لا تحتملها. ومن أكبر الأمثلة على التحيز المذهبي في المراجع الصهيونية عدم تَعرُّضها لقضية يهود الخَزَر وهجرتهم إلى بولندا، إذ تدل بعض الدراسات على أن التفسير الوحيد المقبول للتزايد الفجائي لتعداد يهود بولندا ابتداءً من القرن الرابع عشر (حتى أصبحوا أكبر جماعة يهودية في العالم) هو هجرة بقايا يهود الخَزَر إلى شرق أوربا. فمناقشة مثل هذه القضية، أو حتى مجرد ذكرها، يفتح الباب على مصراعيه لقضية أكثر أهمية وهي مدى انتماء يهود أوربا للعرْق السامي وللحضارة السامية وحقيقة هويتهم العرْقية أو الإثنية وحقوقهم الأزلية المفترضة.
3 ـ من الأمثلة المهمة الأخرى، مسألة «الستة ملايين» يهودي الذين يُفترض أن النازيين قاموا بإبادتهم، إذ يتحول هذا الرقم إلى رقم سحري، وإلى أيقونة عقائدية ترمز إلى الشعب الشاهد الذي أصبح الشعب الشهيد. وإذا ناقش أحد مصداقية هذا الرقم، فإنه يُتهم فوراً بانتهاك الحرمات وإنكار الهولوكوست! ورغم أن رقم «الستة ملايين» حالة متطرفة من التحيز، إلا أنها الاستثناء الذي يثبت القاعدة.
4 ـ لعل من أهم المشاكل التي تقابل دارس تعداد أعضاء الجماعات اليهودية في العالم مفهوم «اليهودي» : هل اليهودي من يتبع تعاليم دينه أم أنه من يرى نفسه يهودياً أم هو من يراه الآخرون كذلك؟ وفي هذا العالم الذي تزايدت فيه معدلات العلمنة، يسود التعريف العلماني للهوية اليهودية (اليهودي هو من يرى نفسه كذلك) . ولا توجد مؤسسة دينية مركزية تقوم بعملية التعريف والفرز، فتتداخل الحدود ويصعب تحديد من هو اليهودي. ولذا، نجد أن بعضاً من غير اليهود قد يغيِّرون قناعاتهم فجأة ويقررون أنهم يهود، والعكس أيضاً ممكن (انظر: «ادعاء اليهودية» ) .
ولإيضاح المشكلة التي يجابهها دارسو تعداد الجماعات اليهودية، يمكن أن نشير إلى بعض الأمثلة:(4/116)
1 ـ الولايات المتحدة الأمريكية:
أ) يضم الكتاب السنوي الأمريكي اليهودي (1991) دراسة عن تعداد يهود العالم. وقد رأى كاتب المقال أن يتناول موضوعه من خلال ثلاثة تعريفات أو مستويات:
ü القطاع الأساسي من السكان اليهود (بالإنجليزية: كور جويش بوبيوليشن core Jewish population) ويضم كل يهودي يعلن أنه يهودي، بغض النظر عن كون مضمون يهوديته حقيقياً أو وهمياً، دينياً أو إثنياً، قوياً أو ضعيفاً. وعادةً ما توضع هذه المجموعة مقابل القطاع الهامشي من السكان اليهود (بالإنجليزية: بريفيرال جويش بوبيوليشان (peripheral Jewish population، وهي تضم القطاعين التاليين:
ü القطاع الموسع من السكان اليهود (بالإنجليزية: إكستندد جويش بوبيوليشن extended Jewish population) ويضم القطاع الأساسي إلى جانب اليهود الذين تخلوا عن دينهم (وتبنوا أو لم يتبنوا ديناً آخر) ولكنهم من أصل يهودي.
üü القطاع الممتد من السكان اليهود (بالإنجليزية: إنلارجد جويش بوبيوليشن enlarged Jewish population) وتضم إلى جانب القطاعين السابقين كل من يعيش في بيت يهودي (سواء أكان يهودياً أم غير يهودي) .
وبطبيعة الحال، تتزايد الأعداد وتتناقص حسب المعيار المُستخدَم. وفي عصر وصلت فيه نسبة الزواج المُختلَط إلى ما يزيد على 50%، فإن القطاع الثالث يضم عدداً كبيراً للغاية، مع أن تَضخُّم هذا القطاع هو في واقع الأمر دليل على تزايد اندماج اليهود واختفائهم. وقد بلغت الحيرة بأحد المراجع حداً جعله يستخدم اصطلاح «يهودي بشكل أو آخر» «يهودي بشكل ما» (بالإنجليزية: جويش إن سم ويي Jewish in some way) لحل مشكلة التعريف.(4/117)